الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

(*) الْفَرْقُ السَّادِسُ : أَنَّ مَا يُبْتَلَى بِهِ مِنْ الذُّنُوبِ وَإِنْ كَانَ خَلْقًا لِلَّهِ فَهُوَ عُقُوبَةٌ لَهُ عَلَى عَدَمِ فِعْلِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لَهُ وَفَطَرَهُ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ خَلَقَهُ لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ مَا خُلِقَ لَهُ وَمَا فُطِرَ عَلَيْهِ عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ ، بِأَنْ زَيَّنَ لَهُ الشَّيْطَانُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي . قَالَ تَعَالَى { اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا } - إلَى قَوْلِهِ - { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ } . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْإِخْلَاصَ يَمْنَعُ مِنْ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } فَكَانَ إلْهَامُهُ لِفُجُورِهِ عُقُوبَةً لَهُ وَعَدَمُ فِعْلِ الْحَسَنَاتِ لَيْسَ أَمْرًا مَوْجُودًا حَتَّى يُقَالَ : إنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ ، وَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ عَامَّةَ مَا يَذْكُرُ اللَّهُ فِي خَلْقِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي يَجْعَلُهُ جَزَاءً لِذَلِكَ الْعَمَلِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وَقَالَ : { وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى } { وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى } { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ يَذْكُرُ فِيهِ أَعْمَالًا عَاقَبَهُمْ بِهَا عَلَى فِعْلِ مَحْظُورٍ وَتَرْكِ مَأْمُورٍ ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ حَرَكَةٍ وَإِرَادَةٍ ؛ فَلَمَّا لَمْ يَتَحَرَّكُوا بِالْحَسَنَاتِ حُرِّكُوا

بِالسَّيِّئَاتِ عَدْلًا مِنْ اللَّهِ ، كَمَا قِيلَ : نَفْسُكَ إنْ لَمْ تَشْغَلْهَا بِالْحَقِّ شَغَلَتْكَ بِالْبَاطِلِ . وَهَذَا الْوَجْهُ إذَا حُقِّقَ يَقْطَعُ مَادَّةَ كَلَامِ طَائِفَتَيْ الْقَدَرِيَّةِ الْمُكَذِّبَةِ وَالْمُجْبِرَةِ . الَّذِينَ يَقُولُونَ : خَلَقَهَا لِذَلِكَ ، وَالتَّعْذِيبُ لَهُمْ ظُلْمٌ . يُقَالُ لَهُمْ : إنَّمَا أَوْقَعَهُمْ فِيهَا وَطَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ ، فَمَا ظَلَمَهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، يُقَالُ ظَلَمْتَهُ إذَا نَقَصْتَهُ حَقَّهُ ، قَالَ تَعَالَى : { كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا } . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا يَكُونُ جَزَاءً عَلَى عَمَلٍ مُتَقَدِّمٍ ، وَيَقُولُونَ : خَلَقَ طَاعَةَ الْمُطِيعِ ؛ لَكِنْ مَا خَلَقَ شَيْئًا مِنْ الذُّنُوبِ ابْتِدَاءً ؛ بَلْ جَزَاءً . فَيَقُولُونَ : أَوَّلُ مَا يَفْعَلُ الْعَبْدُ لَمْ يُحْدِثْهُ اللَّهُ ، وَمَا ذَكَرْنَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَالِقَ كُلِّ شَيْءٍ ، لَكِنَّ أَوَّلَهَا عُقُوبَةٌ عَلَى عَدَمِ فِعْلِهِ لِمَا خُلِقَ لَهُ ، وَالْعَدَمُ لَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ ، فَمَا أَحْدَثَهُ فَأَوَّلُهُ عُقُوبَةٌ عَلَى هَذَا الْعَدَمِ ، وَسَائِرُهَا قَدْ يَكُونُ عُقُوبَةً عَلَى مَا وُجِدَ ، وَقَدْ يَكُونُ عُقُوبَةً عَلَى اسْتِمْرَارِهِ عَلَى الْعَدَمِ ، فَمَا دَامَ لَا يُخْلِصُ لِلَّهِ لَا يَزَالُ مُشْرِكًا ، وَالشَّيْطَانُ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ . ثُمَّ تَخْصِيصُهُ سُبْحَانَهُ لِمَنْ هَدَاهُ بِأَنْ اسْتَعْمَلَهُ ابْتِدَاءً فِيمَا خُلِقَ لَهُ تَخْصِيصٌ بِفَضْلِهِ ، وَهَذَا مِنْهُ لَا يُوجِبُ الظُّلْمَ وَلَا يَمْنَعُ الْعَدْلَ ، وَلِهَذَا يَقُولُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ } وَكَذَلِكَ الْفَضْلُ هُوَ أَعْلَمُ بِهِ ، كَمَا خَصَّ بَعْضَ الْأَبْدَانِ

بِقُوًى لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا ، وَبِسَبَبِ عَدَمِ الْقُوَّةِ قَدْ تَحْصُلُ لَهُ أَمْرَاضٌ وُجُودِيَّةٌ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ حِكْمَتِهِ ، وَتَحْقِيقُ هَذَا يَدْفَعُ شُبُهَاتِ هَذَا الْبَابِ . وَمِمَّا ذُكِرَ فِيهِ الْعُقُوبَةُ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ قَوْله تَعَالَى { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } هَذَا مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِ : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ } فَذَكَرَ أَنَّ هَذَا التَّقْلِيبَ يَكُونُ لِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَهَذَا عَدَمُ الْإِيمَانِ ؛ لَكِنْ يُقَالُ : هَذَا بَعْدَ دُعَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ ، وَقَدْ كَذَّبُوا وَتَرَكُوا الْإِيمَانَ ، وَهَذِهِ أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ ؛ لَكِنَّ الْمُوجِبَ هُوَ عَدَمُ الْإِيمَانِ ، وَمَا ذُكِرَ شَرْطٌ فِي التَّعْذِيبِ ، كَإِرْسَالِ الرَّسُولِ ، فَإِنَّهُ قَدْ يَشْتَغِلُ عَنْ الْإِيمَانِ بِمَا جِنْسُهُ مُبَاحٌ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُقُوبَةَ إلَّا لِأَنَّهُ شَغَلَهُ عَنْ الْإِيمَانِ ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ضِدُّ الْإِيمَانِ هُوَ تَرْكُهُ ، وَهُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ لَا ضِدَّ لَهُ إلَّا ذَلِكَ .
الْفَرْقُ السَّابِعُ : أَنَّ السَّيِّئَاتِ الَّتِي هِيَ الْمَصَائِبُ لَيْسَ لَهَا سَبَبٌ إلَّا ذَنْبُهُ الَّذِي مِنْ نَفْسِهِ ، وَمَا يَصِيرُ مِنْ الْخَيْرِ لَا تَنْحَصِرُ أَسْبَابُهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ وَبِغَيْرِ عَمَلِهِ ، وَعَمَلُهُ مِنْ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَجْزِيهِ بِقَدْرِ الْعَمَلِ بَلْ يُضَاعِفُهُ فَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَى اللَّهِ وَلَا يَرْجِعُ إلَّا إلَيْهِ ، فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ الْمُطْلَقَ الْعَامَّ التَّامَّ ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ مِنْ الشُّكْرِ مَا يَكُونُ جَزَاءً عَلَى مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ ، كَشُكْرِ الْوَالِدَيْنِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ ؛ لَكِنْ لَا يَبْلُغُ مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ وَإِنْعَامِهِ أَنْ يَشْكُرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ أَوْ يُطَاعَ بِمَعْصِيَتِهِ ؛ فَإِنَّهُ هُوَ

الْمُنْعِمُ . قَالَ تَعَالَى : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } وَقَالَ : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } وَجَزَاؤُهُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالشُّكْرِ وَعَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْكُفْرِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى مِثْلِهِ ، فَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَاعَ مَخْلُوقٌ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا } الْآيَةَ . وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ إذَا عَرَفَ أَنَّ النِّعَمَ كُلَّهَا مِنْ اللَّهِ صَارَ تَوَكُّلُهُ وَرَجَاؤُهُ لَهُ سُبْحَانَهُ ، وَإِذَا عَلِمَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الشُّكْرِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ . . .(1) وَالشَّرُّ انْحَصَرَ سَبَبُهُ فِي النَّفْسِ ، فَعَلِمَ مِنْ أَيْنَ يَؤْتَى فَاسْتَغْفَرَ وَاسْتَعَانَ بِاَللَّهِ وَاسْتَعَاذَ بِهِ مِمَّا لَمْ يَعْمَلْ بَعْدُ ؛ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : لَا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلَّا رَبَّهُ وَلَا يَخَافَنَّ إلَّا ذَنْبَهُ ، وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَقُولُونَ : يُعَذِّبُ بِلَا ذَنْبٍ ، وَيَخَافُونَهُ وَلَوْ لَمْ يُذْنِبُوا ، فَإِذَا صَدَّقَ بِقَوْلِهِ : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } عَلِمَ بُطْلَانَ هَذَا الْقَوْلِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ : إنَّ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ بِذُنُوبِهِمْ : لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ أَحَدًا ؛ وَهَذَا مِنْ فَوَائِدِ تَخْصِيصِ الْخِطَابِ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ .

الْفَرْقُ الثَّامِنُ : أَنَّ السَّيِّئَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ النَّفْسِ ، وَالسَّيِّئَةُ خَبِيثَةٌ مَذْمُومَةٌ . وَوَصْفُهَا بِالْخُبْثِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ } . قَالَ جُمْهُورُ السَّلَفِ : الْكَلِمَاتُ الْخَبِيثَةُ لِلْخَبِيثِينَ ؛ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ الْخَبِيثَةُ لِلْخَبِيثِينَ ، وَقَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً } - إلَى قَوْلِهِ - { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } وَقَالَ : { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وَالْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ صِفَاتُ الْقَائِلِ الْفَاعِلِ ؛ فَإِذَا كَانَتْ النَّفْسُ مُتَّصِفَةً بِالسُّوءِ وَالْخُبْثِ لَمْ يَكُنْ مَحَلُّهَا إلَّا مَا يُنَاسِبُهَا ؛ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ يُعَاشِرُونَ النَّاسَ كَالسَّنَانِيرِ لَمْ يَصْلُحْ ؛ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الْكَذِبَ شَاهِدًا لَمْ يَصْلُحْ ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الْجَاهِلَ مُعَلِّمًا ؛ أَوْ الْأَحْمَقَ سَائِسًا ؛ فَالنَّفُوسُ الْخَبِيثَةُ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ فِي الْجَنَّةِ الطَّيِّبَةِ ، بَلْ إذَا كَانَ فِي النَّفْسِ خُبْثٌ طَهُرَتْ وَهُذِّبَتْ ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ { إنَّ الْمُؤْمِنِينَ إذَا نَجَوْا مِنْ النَّارِ وُقِفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ } الْحَدِيثَ . وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ السَّيِّئَةَ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَطْمَعْ فِي السَّعَادَةِ التَّامَّةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الشَّرِّ ؛ بَلْ عَلِمَ تَحْقِيقَ قَوْلِهِ : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } وَقَوْلِهِ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } . وَعَلِمَ أَنَّ الرَّبَّ جَارِيَةٌ أَفْعَالُهُ عَلَى قَانُونِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ؛ وَفِي الصَّحِيحِ { يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى } الْحَدِيثَ ، وَعَلِمَ فَسَادَ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ بِلَا حِكْمَةٍ ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ؛ وَهُمْ قَصَدُوا مُنَاقَضَةَ

الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْقَدَرِ وَالْوَعِيدِ ؛ فَلِهَذَا سَلَكَ مَسْلَكَ جَهْمٍ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَاتِّبَاعِ السَّلَفِ . وَكَذَلِكَ سَلَكُوا فِي " الْإِيمَانِ وَالْوَعِيدِ " مَسْلَكَ الْمُرْجِئَةِ الْغُلَاةِ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ ؛ وَجَهْمٌ اشْتَهَرَ عَنْهُ " نَوْعَانِ " مِنْ الْبِدْعَةِ : نَوْعٌ فِي ( الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ ) فَغَلَا فِي النَّفْيِ ؛ وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الْبَاطِنِيَّةُ وَالْفَلَاسِفَةُ وَنَحْوُهُمْ ؛ وَالْمُعْتَزِلَةُ فِي الصِّفَاتِ دُونَ الْأَسْمَاءِ . والْكُلَّابِيَة وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ ، والكَرَّامِيَة وَنَحْوُهُمْ وَافَقُوهُ عَلَى أَصْلِ ذَلِكَ ؛ وَهُوَ امْتِنَاعُ دَوَامِ مَا لَا يَتَنَاهَى وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ ؛ وَفَعَّالًا إذَا يَشَاءُ ؛ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا ، وَعَنْ هَذَا الْأَصْلِ نَفْيُ وُجُودِ مَا لَا يَتَنَاهَى فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَالَ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَوَافَقَهُ أَبُو الهذيل إمَامُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى هَذَا ؛ لَكِنْ قَالَ تَتَنَاهَى الْحَرَكَاتُ . فَالْمُعْتَزِلَةُ فِي الصِّفَاتِ مَخَانِيثُ الْجَهْمِيَّة ، وَأَمَّا الْكُلَّابِيَة فِي الصِّفَاتِ . . . (1) (*) ، وَكَذَلِكَ الْأَشْعَرِيَّةُ ؛ وَلَكِنَّهُمْ كَمَا قَالَ أَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ : الْأَشْعَرِيَّةُ الْإِنَاثُ هُمْ مَخَانِيثُ الْمُعْتَزِلَةِ ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : الْمُعْتَزِلَةُ مَخَانِيثُ الْفَلَاسِفَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ جَهْمًا سَبَقَهُمْ إلَى هَذَا الْأَصْلِ . أَوْ لِأَنَّهُمْ مَخَانِيثُهُمْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ، والشَّهْرَستَانِي يَذْكُرُ أَنَّهُمْ أَخَذُوا مَا أَخَذُوا عَنْ الْفَلَاسِفَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرَى مُنَاظَرَةَ أَصْحَابِهِ الْأَشْعَرِيَّةِ مَعَهُمْ بِخِلَافِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ ؛ فَإِنَّ مُنَاظَرَتَهُمْ إنَّمَا كَانَتْ مَعَ الْجَهْمِيَّة ، وَهُمْ الْمَشْهُورُونَ عِنْدَ

السَّلَفِ بِنَفْيِ الصِّفَاتِ ؛ وَبِهَذَا تَمَيَّزُوا عِنْدَ السَّلَفِ عَنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ . وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَامْتَازُوا بِالْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ لِمَا أَحْدَثَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ ؛ وَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَجْلِسُونَ مُعْتَزِلِينَ لِلْجَمَاعَةِ . فَيَقُولُ قتادة وَغَيْرُهُ : أُولَئِكَ الْمُعْتَزِلَةُ ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ . وَبِدْعَةُ الْقَدَرِيَّةِ حَدَثَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ ؛ وَلِهَذَا تَكَلَّمَ فِيهِمْ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا ؛ وَابْنُ عَبَّاسٍ مَاتَ قَبْلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ ؛ وَابْنُ عُمَرَ مَاتَ عَقِبَ مَوْتِهِ ، وَعَقِبَ ذَلِكَ تَوَلَّى الْحَجَّاجُ الْعِرَاقَ سَنَةَ بِضْعٍ وَسَبْعِينَ ؛ فَبَقِيَ النَّاسُ يَخُوضُونَ فِي الْقَدَرِ بِالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ ، وَأَكْثَرُهُ كَانَ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْبَصْرَةِ ، وَأَقَلُّهُ كَانَ بِالْحِجَازِ ؛ فَلَمَّا حَدَثَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَتَكَلَّمُوا بِالْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ . وَقَالُوا : بِإِنْفَاذِ الْوَعِيدِ وَخُلُودِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ ، وَإِنَّ النَّارَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ دَخَلَهَا ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ الْقَدَرَ ، فَإِنَّهُ بِهِ يَتِمُّ . وَلَمْ يَكُنْ النَّاسُ إذْ ذَاكَ أَحْدَثُوا شَيْئًا مِنْ نَفْيِ الصِّفَاتِ ، إلَى أَنْ ظَهَرَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ " وَهُوَ أَوَّلُهُمْ ، فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ ، وَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ ، إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا - تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا - ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ وَهَذَا كَانَ بِالْعِرَاقِ .

ثُمَّ ظَهَرَ جَهْمُ " مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ مِنْ تِرْمِذَ ، وَمِنْهَا ظَهَرَ رَأْيُ جَهْمٍ ، وَلِهَذَا كَانَ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ بِالْمَشْرِقِ أَكْثَرَ كَلَامًا فِي رَدِّ مَذْهَبِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ ، مِثْلُ إبْرَاهِيمَ بْنِ طهمان ، وَخَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ ، وَمِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ ، وَأَمْثَالُهُمْ ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي ذَمِّهِمْ مَالِكُ وَابْنُ الماجشون وَغَيْرُهُمَا ، وَكَذَلِكَ الأوزاعي ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ ، وَإِنَّمَا اشْتَهَرَتْ مَقَالَتُهُمْ مِنْ حِينِ مِحْنَةِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ، مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ فِي إمَارَةِ الْمَأْمُونِ قووا وَكَثُرُوا ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ بِخُرَاسَانَ مُدَّةً وَاجْتَمَعَ بِهِمْ ثُمَّ كَتَبَ بِالْمِحْنَةِ مِنْ طرسوس سَنَةَ ثَمَانِيَةَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ . وَفِيهَا مَاتَ ، وَرَدُّوا أَحْمَد إلَى الْحَبْسِ بِبَغْدَادَ إلَى سَنَةِ عِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ ، وَفِيهَا كَانَتْ مِحْنَتُهُ مَعَ الْمُعْتَصِمِ ، وَمُنَاظَرَتُهُ لَهُمْ ؛ فَلَمَّا رَدَّ عَلَيْهِمْ مَا احْتَجُّوا بِهِ ؛ وَذَكَرَ أَنَّ طَلَبَهُمْ مِنْ النَّاسِ أَنْ يُوَافِقُوهُمْ وَامْتِحَانَهُمْ إيَّاهُمْ جَهْلٌ وَظُلْمٌ ؛ وَأَرَادَ الْمُعْتَصِمُ إطْلَاقَهُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ مَنْ أَشَارَ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ ضَرْبُهُ لِئَلَّا تَنْكَسِرَ حُرْمَةُ الْخِلَافَةِ ؛ فَلَمَّا ضَرَبُوهُ قَامَتْ الشَّنَاعَةُ فِي الْعَامَّةِ ؛ وَخَافُوا فَأَطْلَقُوهُ ؛ وَكَانَ ابْنُ أَبِي دؤاد قَدْ جَمَعَ لَهُ نفاة الصِّفَاتِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ . وَعُلَمَاءَ السُّنَّةِ : كَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَالْبُخَارِيِّ يُسَمُّونَ هَؤُلَاءِ جَمِيعَهُمْ جهمية ؛ وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ يَظُنُّونَ أَنَّ خُصُومَهُ كَانُوا هُمْ الْمُعْتَزِلَةَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ الْمُعْتَزِلَةُ نَوْعٌ مِنْهُمْ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ جَهْمًا اشْتَهَرَ عَنْهُ بِدْعَتَانِ :
إحْدَاهُمَا : نَفْيُ الصِّفَاتِ ؛ وَالثَّانِيَةُ : الْغُلُوُّ فِي الْقَدَرِ وَالْإِرْجَاءِ . فَجَعَلَ

الْإِيمَانَ مُجَرَّدَ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ . وَجَعَلَ الْعِبَادَ لَا فِعْلَ لَهُمْ وَلَا قُدْرَةَ ؛ وَهَذَانِ مِمَّا غَلَتْ الْمُعْتَزِلَةُ فِي خِلَافِهِ فِيهِمَا ؛ وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ فَوَافَقَهُ عَلَى أَصْلِ قَوْلِهِ ، وَلَكِنْ قَدْ يُنَازِعُهُ مُنَازَعَاتٌ لَفْظِيَّةٌ . وَجَهْمٌ لَا يُثْبِتُ شَيْئًا مِنْ الصِّفَاتِ ؛ لَا الْإِرَادَةَ وَلَا غَيْرَهَا ، فَإِذَا قَالَ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الطَّاعَاتِ وَيُبْغِضُ الْمَعَاصِيَ ؛ فَمَعْنَاهُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ ؛ وَالْأَشْعَرِيُّ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ كَالْإِرَادَةِ فَاحْتَاجَ إلَى الْكَلَامِ فِيهَا هَلْ هِيَ الْمَحَبَّةُ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ : الْمَعَاصِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا كَمَا يُرِيدُهَا : وَذَكَرَ أَبُو الْمَعَالِي أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ قَبْلَهُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمَعَاصِيَ . وَشَاعَ هَذَا الْقَوْلُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ فَوَافَقُوا جَهْمًا فِي مَسَائِلِ الْأَفْعَالِ وَالْقَدَرِ ؛ وَخَالَفُوهُ فِي الصِّفَاتِ كَأَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ صَاحِبِ ذَمِّ الْكَلَامِ ، فَإِنَّهُ مِنْ الْمُبَالِغِينَ فِي ذَمِّ الْجَهْمِيَّة فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ ؛ وَلَهُ كِتَابٌ فِي تَكْفِيرِ الْجَهْمِيَّة ؛ وَيُبَالِغُ فِي ذَمِّ الْأَشْعَرِيَّةِ مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ أَقْرَبِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ إلَى السُّنَّةِ ؛ وَرُبَّمَا كَانَ يَلْعَنُهُمْ ؛ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ بِحَضْرَةِ نِظَامِ الْمَلِكِ : أَتَلْعَنُ الْأَشْعَرِيَّةَ ؟ فَقَالَ أَلْعَنُ مَنْ يَقُولُ لَيْسَ فِي السَّمَوَاتِ إلَهٌ ؛ وَلَا فِي الْمُصْحَفِ قُرْآنٌ ، وَلَا فِي الْقَبْرِ نَبِيٌّ ؛ وَقَامَ مِنْ عِنْدِهِ مُغْضَبًا . وَهُوَ مَعَ هَذَا فِي مَسْأَلَةِ إرَادَةِ الْكَائِنَاتِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ أَبْلَغُ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ ؛ لَا يُثْبِتُ سَبَبًا وَلَا حِكْمَةً ، بَلْ يَقُولُ إنَّ مُشَاهَدَةَ الْعَارِفِ الْحُكْمَ لَا يُبْقِ لَهُ اسْتِحْسَانَ حَسَنَةٍ وَلَا اسْتِقْبَاحَ سَيِّئَةٍ ؛ وَالْحُكْمُ عِنْدَهُ هُوَ الْمَشِيئَةُ ؛ لِأَنَّ الْعَارِفَ عِنْدَهُ مَنْ يَصِلُ إلَى مَقَامِ الْفَنَاءِ ، وَالْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ يَفْتَرِقَانِ فِي حَظِّ الْعَبْدِ

كَوْنِهِ يُنَعَّمُ بِهَذِهِ وَيُعَذَّبُ بِهَذِهِ ؛ وَالِالْتِفَاتُ إلَى هَذَا مِنْ حُظُوظِ النَّفْسِ ؛ وَمَقَامُ الْفَنَاءِ لَيْسَ فِيهِ إلَّا مُشَاهَدَةُ مُرَادِ الْحَقِّ . وَالْأَشْعَرِيُّ لَمَّا أَثْبَتَ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَخْلُوقِ كَانَ أَعْقَلَ مِنْهُمْ ؛ فَإِنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ الْعَارِفَ لَا يُفَرِّقُ ؛ وَغَلِطُوا فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَحَقِّ الرَّبِّ ؛ أَمَّا الْعَبْدُ فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَسْتَوِيَ عِنْدَهُ جَمِيعُ الْحَوَادِثِ ؛ وَهَذَا مُحَالٌ قَطْعًا ، فَعَزَلُوا الْفَرْقَ الرَّحْمَانِيَّ ؛ وَفَرَّقُوا بِالطَّبْعِيِّ الْهَوَائِيِّ الشَّيْطَانِيِّ ؛ وَمِنْ هُنَا وَقَعَ خَلْقٌ مِنْهُمْ فِي الْمَعَاصِي ؛ وَآخَرُونَ فِي الْفُسُوقِ ؛ وَآخَرُونَ فِي الْكُفْرِ حَتَّى جَوَّزُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ ؛ ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَنْتَقِلُ إلَى الْوِحْدَةِ وَيُصَرِّحُونَ بِعِبَادَةِ كُلِّ مَوْجُودٍ . وَالْمَقْصُودُ الْكَلَامُ عَلَى مَنْ نَفَى الْحُكْمَ وَالْأَسْبَابَ وَالْعَدْلَ فِي الْقَدَرِ مُوَافَقَةً لِجَهْمِ ؛ - وَهِيَ بِدْعَتُهُ الثَّانِيَةُ بِخِلَافِ الْإِرْجَاءِ فَإِنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى طَوَائِفَ غَيْرِهِ - فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ الرَّبَّ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَلِهَذَا تَجِدُ مَنْ اتَّبَعَهُمْ غَيْرَ مُعَظِّمٍ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ؛ بَلْ يَنْحَلُّ عَنْهُ أَوْ عَنْ بَعْضِهِ ، وَيَتَكَلَّفُ لِمَا يَعْتَقِدُهُ ، فَإِنَّهُمْ إذَا وَافَقُوا جَهْمًا وَالْأَشْعَرِيَّ فِي أَنَّ الْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ كَوْنُهُ مَأْمُورًا أَوْ مَحْظُورًا ؛ وَذَلِكَ فَرْقٌ يَعُودُ إلَى حَظِّ الْعَبْدِ ؛ وَهُمْ يَدَّعُونَ الْفَنَاءَ عَنْ الْحُظُوظِ ؛ فَتَارَةً يَقُولُونَ : فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إنَّهُ مِنْ مَقَامِ التَّلْبِيسِ ؛ وَتَارَةً يَقُولُونَ : يَفْعَلُ هَذَا لِأَجْلِ أَهْلِ الْمَارَسْتَانِ أَيْ الْعَامَّةِ - كَمَا يَقُولُهُ : الشَّيْخُ الْمَغْرِبِيُّ ؛ إلَى أَنْوَاعٍ أُخَرَ .

وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ إذَا عَظُمَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ غَايَتَهُ أَنْ يَقُولَ كَمَا نُقِلَ عَنْ الشاذلي : يَكُونُ الْجَمْعُ فِي قَلْبِكَ مَشْهُودًا ؛ وَالْفَرْقُ عَلَى لِسَانِكَ مَوْجُودًا ؛ كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِ وَكَلَامِ غَيْرِهِ أَقْوَالٌ وَأَدْعِيَةٌ ، وَأَحْزَابٌ تَسْتَلْزِمُ تَعْطِيلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِثْلَ دَعْوَى أَنَّ اللَّهَ يُعْطِيهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ أَعْظَمَ مِمَّا يُعْطِيهِ عَلَى الطَّاعَةِ ، وَنَحْوُ هَذَا مِمَّا يُوجِبُ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَجْعَلَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَوْ أَفْضَلَ ، وَيَدْعُونَ بِأَدْعِيَةِ فِيهَا اعْتِدَاءٌ كَمَا يُوجَدُ فِي حِزْبِ الشاذلي . وَآخَرُونَ مِنْ عَوَامِّهِمْ يُجَوِّزُونَ أَنْ يُكَرِّمَ اللَّهُ بِكَرَامَاتِ أَكْبَرِ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ يَكُونُ فَاجِرًا ؛ بَلْ كَافِرًا ، وَيَقُولُونَ : هَذِهِ مَوْهِبَةٌ وَعَطِيَّةٌ ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ تِلْكَ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ ، وَتَكُونُ مِنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ مِثْلُهَا لِلسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ ، قَالَ تَعَالَى : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } .

وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ } الْحَدِيثَ . وَالْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ جَاءَهُمْ كِتَابُ اللَّهِ الْقُرْآنُ عَدَلَ كَثِيرٌ مِمَّنْ أَضَلَّهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِمْ إلَى أَنْ نَبَذَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ، وَاتَّبَعَ مَا تَتْلُوهُ الشَّيَاطِينُ فَلَا يُعَظِّمُ مَنْ أَمَرَ الْقُرْآنُ بِمُوَالَاتِهِ ، وَلَا يُعَادِي مَنْ أَمَرَ الْقُرْآنُ بِمُعَادَاتِهِ ، بَلْ يُعَظِّمُ مَنْ رَآهُ يَأْتِي بِبَعْضِ الْخَوَارِقِ الَّتِي تَأْتِي بِمِثْلِهَا السَّحَرَةُ وَالْكُهَّانُ بِإِعَانَةِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ ، وَهِيَ تَحْصُلُ بِمَا تَتْلُوهُ الشَّيَاطِينُ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّ هَذَا مِنْ الشَّيَاطِينِ ، وَلَكِنْ يُعَظِّمُهُ لِهَوَاهُ وَيُفَضِّلُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ ، وَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ ، كَاَلَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } وَهَؤُلَاءِ ضَاهَوْا الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ مِنْ الشَّيَاطِينِ ، وَقَدْ يَقَعُ فِي هَذَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْعِلْمِ ، وَأَهْلِ الْعِبَادَةِ وَالتَّصَوُّفِ ، حَتَّى جَوَّزُوا عِبَادَةَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ لِمَا رَأَوْهُ فِيهَا مِنْ الْأَحْوَالِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي تُعِينُهُمْ عَلَيْهَا الشَّيَاطِينُ لِمَا يَحْصُلُ بِهَا بَعْضُ أَغْرَاضِهِمْ مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ ، فَلَمْ يُبَالُوا بِشِرْكِهِمْ بِاَللَّهِ وَبِكُفْرِهِمْ بِهِ وَبِكِتَابِهِ إذَا

نَالُوا ذَلِكَ ، وَلَمْ يُبَالُوا بِتَعْلِيمِ ذَلِكَ لِلنَّاسِ وَتَعْظِيمِهِمْ لَهُ لِرِئَاسَةِ أَوْ مَالٍ يَنَالُونَهُ ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا الْكُفْرَ وَالشِّرْكَ وَدَعَوْا إلَيْهِ ، بَلْ حَصَلَ عِنْدَهُمْ رَيْبٌ وَشَكٌّ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتِقَادُ أَنَّهُ خَاطَبَ الْجُمْهُورَ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ لِلْمَصْلَحَةِ ، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الْبَاطِنِيَّةِ ، وَدَخَلَ فِي رَأْيِ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ ، وَهَذَا مِمَّا ضَاهَوْا بِهِ فَارِسَ وَالرُّومَ . فَإِنَّ فَارِسَ كَانَتْ تُعَظِّمُ الْأَنْوَارَ ، وَتَسْجُدُ لِلشَّمْسِ وَلِلنَّارِ ، وَالرُّومَ كَانُوا قَبْلَ النَّصْرَانِيَّةِ مُشْرِكِينَ : يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ ، فَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ الَّذِينَ أَشْبَهُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ؛ [ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ ضَاهَوْا أَهْلَ الْكِتَابِ فِيمَا بُدِّلَ أَوْ نُسِخَ وَهَؤُلَاءِ ضَاهَوْا مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ . وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَالنَّفُوسُ مَفْطُورَةٌ عَلَى عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ مَوْجُودٍ فِيهَا بِالْخَالِقِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ ] (*) ، وَأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا خَلَقَ النَّاسُ ، كَمَا قَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ - لَمَّا قَالَ لَهُ : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } { قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } وَقَالَ : { فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى } { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }.

سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْخَيْرَ مِنْ اللَّهِ وَالشَّرَّ مِنْ الشَّيْطَانِ ؟ وَأَنَّ الشَّرَّ هُوَ بِيَدِ الْعَبْدِ ، إنْ شَاءَ فَعَلَهُ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْهُ ، فَإِذَا أُنْكِرَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } { فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } وَإِنَّ عَقِيدَةَ هَذَا ، أَنَّ الْخَيْرَ مِنْ اللَّهِ وَأَنَّ الشَّرَّ بِيَدِهِ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ الشَّرَّ فَعَلَهُ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : إنَّ لِي مَشِيئَةً فَإِذَا أَرَدْتُ أَنْ أَفْعَلَ الشَّرَّ فَعَلْتُهُ ، فَهَلْ لَهُ مَشِيئَةٌ فَعَّالَةٌ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَصْلُ هَذَا الْكَلَامِ لَهُ مُقَدِّمَتَانِ :
إحْدَاهُمَا : أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَيُحِبُّ الْحَسَنَاتِ وَيَرْضَاهَا ، وَيُكْرِمُ أَهْلَهَا ، وَيُثِيبُهُمْ وَيُوَالِيهِمْ ، وَيَرْضَى عَنْهُمْ ، وَيُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ، وَهُمْ جُنْدُ اللَّهِ الْمَنْصُورُونَ ، وَحِزْبُ اللَّهِ الْغَالِبُونَ ، وَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ الْمُتَّقُونَ ، وَحِزْبُهُ الْمُفْلِحُونَ ، وَعِبَادُهُ الصَّالِحُونَ أَهْلُ الْجَنَّةِ ، وَهُمْ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ ، وَهُمْ أَهْلُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ . وَأَنَّ اللَّهَ نَهَى عَنْ السَّيِّئَاتِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ ، وَهُوَ يُبْغِضُ ذَلِكَ وَيَمْقُتُ أَهْلَهُ ، وَيَلْعَنُهُمْ وَيَغْضَبُ عَلَيْهِمْ ، وَيُعَاقِبُهُمْ وَيُعَادِيهِمْ ، وَهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ ، وَهُمْ أَهْلُ النَّارِ

وَهُمْ الْأَشْقِيَاءُ . لَكِنَّهُمْ يَتَقَارَبُونَ فِي هَذَا مَا بَيْنَ كَافِرٍ وَفَاسِقٍ ، وَعَاصٍ لَيْسَ بِكَافِرِ وَلَا فَاسِقٍ .
وَ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقُهُ وَمَلِيكُهُ . لَا رَبَّ غَيْرُهُ ؛ وَلَا خَالِقَ سِوَاهُ ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ ؛ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ؛ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ ؛ وَلَا مَلْجَأَ مِنْهُ إلَّا إلَيْهِ ؛ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . فَجَمِيعُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ : مِنْ الْأَعْيَانِ وَصِفَاتِهَا ؛ وَحَرَكَاتِهَا ؛ فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ لَهُ ؛ مَقْدُورَةٌ لَهُ ؛ مُصَرَّفَةٌ بِمَشِيئَتِهِ ، لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ قُدْرَتِهِ وَمُلْكِهِ ؛ وَلَا يُشْرِكُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُهُ ؛ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ؛ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ؛ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، فَالْعَبْدُ فَقِيرٌ إلَى اللَّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ ؛ فَمَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ؛ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . فَإِذَا ثَبَتَتْ هَاتَانِ " الْمُقَدِّمَتَانِ " . فَنَقُولُ : إذَا أُلْهِمَ الْعَبْدُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ الْهِدَايَةَ وَيَسْتَعِينَهُ عَلَى طَاعَتِهِ ، أَعَانَهُ وَهَدَاهُ ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ سَعَادَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَإِذَا خُذِلَ الْعَبْدُ فَلَمْ يَعْبُدْ اللَّهَ ؛ وَلَمْ يَسْتَعِنْ بِهِ ، وَلَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ، وُكِلَ إلَى حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ . فَيُوَلِّيهِ الشَّيْطَانَ ، وَصُدَّ عَنْ السَّبِيلِ ، وَشَقِيَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكُلُّ مَا يَكُونُ فِي الْوُجُودِ هُوَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ ؛ لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ عَنْ الْقَدَرِ الْمَقْدُورِ ، وَلَا يَتَجَاوَزُ مَا خُطَّ لَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ عَلَى اللَّهِ

حُجَّةٌ ؛ بَلْ { فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } كُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ ، وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ . وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ عَلَى اللَّهِ ؛ فَالْإِيمَانُ بِهِ هُدًى ؛ وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى اللَّهِ ضَلَالٌ وَغَيٌّ ، بَلْ الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ صَبَّارًا شَكُورًا ؛ صَبُورًا عَلَى الْبَلَاءِ ، شَكُورًا عَلَى الرَّخَاءِ ، إذَا أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ عَلِمَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَشَكَرَهُ ، سَوَاءٌ كَانَتْ النِّعْمَةُ حَسَنَةً فَعَلَهَا ، أَوْ كَانَتْ خَيْرًا حَصَلَ بِسَبَبِ سَعْيِهَا ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَسَّرَ عَمَلَ الْحَسَنَاتِ ، وَهُوَ الَّذِي تَفَضَّلَ بِالثَّوَابِ عَلَيْهَا ، فَلَهُ الْحَمْدُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ . وَإِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ صَبَرَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمُصِيبَةُ قَدْ جَرَتْ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ ، فَاَللَّهُ هُوَ الَّذِي سَلَّطَ ذَلِكَ الشَّخْصَ ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ أَفْعَالَهُ ، وَكَانَتْ مَكْتُوبَةً عَلَى الْعَبْدِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } { لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } . قَالُوا : هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ . وَعَلَيْهِ إذَا أَذْنَبَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ ، وَلَا يَحْتَجَّ عَلَى اللَّهِ بِالْقَدَرِ ، وَلَا يَقُولَ : أَيُّ ذَنْبٍ لِي وَقَدْ قُدِّرَ عَلَيَّ هَذَا الذَّنْبُ ؛ بَلْ يَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الْمُذْنِبُ الْعَاصِي الْفَاعِلُ لِلذَّنْبِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ ، إذْ لَا يَكُونُ شَيْءٌ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ ؛ لكن الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي أَكَلَ الْحَرَامَ ، وَفَعَلَ الْفَاحِشَةَ ،

وَهُوَ الَّذِي ظَلَمَ نَفْسَهُ ؛ كَمَا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي صَلَّى وَصَامَ وَحَجَّ وَجَاهَدَ ، فَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ ؛ وَهُوَ الْمُتَحَرِّكُ بِهَذِهِ الْحَرَكَاتِ ، وَهُوَ الْكَاسِبُ بِهَذِهِ الْمُحْدَثَاتِ ، لَهُ مَا كَسَبَ وَعَلَيْهِ مَا اكْتَسَبَ ، وَاَللَّهُ خَالِقُ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَشْيَاءِ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ بِقُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَمَشِيئَتِهِ النَّافِذَةِ . قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } . فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْمَصَائِبِ ، وَأَنْ يَسْتَغْفِرَ مِنْ المعائب . وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ، وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ؛ وَلَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ؛ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ ، مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . فَمَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ؛ وَمُشِيئَةُ الْعَبْدِ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ مَوْجُودَةٌ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَهُ مَشِيئَةٌ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، وَلَهُ قُدْرَةٌ عَلَى هَذَا وَهَذَا . وَهُوَ الْعَامِلُ لِهَذَا وَهَذَا ، وَاَللَّهُ خَالِقُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ ؛ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ ؛ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ ؛ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ " الْمَشِيئَتَيْنِ " مَشِيئَةَ الرَّبِّ ؛ وَمَشِيئَةَ الْعَبْدِ ؛ وَبَيَّنَ أَنَّ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَةِ الرَّبِّ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا

هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } . وَبَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي ؛ فَيَتَنَازَعُونَ هَذَا يَقُولُ : قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَهَذَا يَقُولُ الْحَسَنَةُ مِنْ اللَّهِ ، وَالسَّيِّئَةُ مِنْ نَفْسِكَ ، وَكِلَاهُمَا أَخْطَأَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ ؛ فَإِنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ، النِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ . كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أَيْ امْتَحَنَّاهُمْ وَاخْتَبَرْنَاهُمْ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ . وَمَعْنَى الْآيَةِ فِي الْمُنَافِقِينَ : كَانُوا إذَا أَصَابَتْهُمْ حَسَنَةٌ مِثْلُ النَّصْرِ وَالرِّزْقِ وَالْعَافِيَةِ . قَالُوا : هَذَا مِنْ اللَّهِ ، وَإِذَا أَصَابَتْهُمْ سَيِّئَةٌ - مِثْلُ ضَرْبٍ وَمَرَضٍ وَخَوْفٍ مِنْ الْعَدُوِّ - قَالُوا : هَذَا مِنْ عِنْدِكَ يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ الَّذِي جِئْتَ بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي عَادَانَا لِأَجْلِهِ النَّاسُ ، وَابْتُلِينَا لِأَجْلِهِ بِهَذِهِ الْمَصَائِبِ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } أَنْتَ إنَّمَا أَمَرْتَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَيْتَهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَمَا أَصَابَكَ مِنْ نِعْمَةٍ : نَصْرٍ وَعَافِيَةٍ وَرِزْقٍ فَمِنْ اللَّهِ ، نِعْمَةً أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكَ ، وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ : فَقْرٍ وَذُلٍّ وَخَوْفٍ وَمَرَضٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَمِنْ نَفْسِكَ وَذُنُوبِكَ وَخَطَايَاكَ . كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ

أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ } . فَالْإِنْسَانُ إذَا أَصَابَتْهُ الْمَصَائِبُ بِذُنُوبِهِ وَخَطَايَاهُ كَانَ هُوَ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ ، فَإِذَا تَابَ وَاسْتَغْفَرَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا ، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ، وَالذُّنُوبُ مِثْلُ أَكْلِ السُّمِّ . فَهُوَ إذَا أَكَلَ السُّمَّ مَرِضَ أَوْ مَاتَ فَهُوَ الَّذِي يَمْرَضُ وَيَتَأَلَّمُ وَيَتَعَذَّبُ وَيَمُوتُ ، وَاَللَّهُ خَالِقُ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَإِنَّمَا مَرِضَ بِسَبَبِ أَكْلِهِ ، وَهُوَ الَّذِي ظَلَمَ نَفْسَهُ بِأَكْلِ السُّمِّ . فَإِنْ شَرِبَ التِّرْيَاقَ النَّافِعَ عَافَاهُ اللَّهُ ، فَالذُّنُوبُ كَأَكْلِ السُّمِّ ، وَالتِّرْيَاقُ النَّافِعُ كَالتَّوْبَةِ النَّافِعَةِ ، وَالْعَبْدُ فَقِيرٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ حَالٍ ، فَهُوَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ يُلْهِمُهُ التَّوْبَةَ ، فَإِذَا تَابَ تَابَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا سَأَلَهُ الْعَبْدُ وَدَعَاهُ اسْتَجَابَ دُعَاءَهُ . كَمَا قَالَ : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } . وَمَنْ قَالَ : لَا مَشِيئَةَ لَهُ فِي الْخَيْرِ وَلَا فِي الشَّرِّ فَقَدْ كَذَبَ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ يَشَاءُ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ أَوْ الشَّرِّ بِدُونِ مَشِيئَةِ اللَّهِ فَقَدْ كَذَبَ ؛ بَلْ لَهُ مَشِيئَةٌ لِكُلِّ مَا يَفْعَلُهُ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ ، وَكُلُّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِهَذَا وَهَذَا ، لِيَحْصُلَ الْإِيمَانُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ، وَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، وَأَنَّ مَا أَصَابَ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ .

وَمَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى الْمَعَاصِي فَحُجَّتُهُ دَاحِضَةٌ ، وَمَنْ اعْتَذَرَ بِهِ فَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ ، بَلْ هَؤُلَاءِ الضَّالُّونَ . كَمَا قَالَ فِيهِمْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ ، أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاكَ تَمَذْهَبْتَ بِهِ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إذَا ظَلَمَهُمْ ظَالِمٌ ، بَلْ لَوْ فَعَلَ الْإِنْسَانُ مَا يَكْرَهُونَهُ ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ يَعْذُرُوهُ بِالْقَدَرِ ، بَلْ يُقَابِلُوهُ بِالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَهُمْ فَهُوَ حُجَّةٌ لِهَؤُلَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لِهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لَهُمْ ؛ وَإِنَّمَا يَحْتَجُّ أَحَدُهُمْ بِالْقَدَرِ عِنْدَ هَوَاهُ وَمَعْصِيَةِ مَوْلَاهُ ، لَا عِنْدَ مَا يُؤْذِيهِ النَّاسُ وَيَظْلِمُونَهُ . وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَهُوَ بِالْعَكْسِ فِي ذَلِكَ إذَا آذَاهُ النَّاسُ نَظَرَ إلَى الْقَدَرِ ، فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ ، وَإِذَا أَسَاءَ هُوَ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } فَالْمُؤْمِنُ يَصْبِرُ عَلَى الْمَصَائِبِ وَيَسْتَغْفِرُ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْمَعَايِبِ ، وَالْمُنَافِقُ بِالْعَكْسِ لَا يَسْتَغْفِرُ مِنْ ذَنْبِهِ بَلْ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى مَا أَصَابَهُ ، فَلِهَذَا يَكُونُ شَقِيًّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؛ وَالْمُؤْمِنُ سَعِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

سُئِلَ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّة :
عَنْ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ؛ وَالْقَدَرِ الْكَوْنِيِّ ؛ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيِّ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ وَلَا خَالِقَ سِوَاهُ ؛ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ؛ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ؛ وَبِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ؛ وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ ؛ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ ؛ مَنْهِيٌّ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ ؛ وَمَعْصِيَةِ رَسُولِهِ ؛ فَإِنْ أَطَاعَ كَانَ ذَلِكَ نِعْمَةً مِنْ اللَّهِ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ ؛ وَكَانَ لَهُ الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ ، وَإِنْ عَصَى كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ ؛ وَكَانَ لِلَّهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ؛ وَلَا حُجَّةَ لِأَحَدِ عَلَى اللَّهِ ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ كَائِنٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؛ لَكِنَّهُ يُحِبُّ الطَّاعَةَ وَيَأْمُرُ بِهَا ؛ وَيُثِيبُ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَيُكْرِمُهُمْ ؛ وَيُبْغِضُ الْمَعْصِيَةَ وَيَنْهَى عَنْهَا ؛ وَيُعَاقِبُ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَيُهِينُهُمْ . وَمَا يُصِيبُ الْعَبْدَ مِنْ النِّعَمِ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ ؛ وَمَا يُصِيبُهُ مِنْ الشَّرِّ فَبِذُنُوبِهِ وَمَعَاصِيهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } أَيْ مَا أَصَابَكَ مِنْ خَصْبٍ وَنَصْرٍ وَهُدًى فَاَللَّهُ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكَ ؛ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ جَدْبٍ وَذُلٍّ وَشَرٍّ فَبِذُنُوبِكَ وَخَطَايَاكَ ؛ وَكُلُّ الْأَشْيَاءِ كَائِنَةٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ

فَلَا بُدَّ أَنْ يُؤْمِنَ الْعَبْدُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ ؛ وَأَنْ يُؤْمِنَ بِشَرْعِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ . فَمَنْ نَظَرَ إلَى الْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَأَعْرَضَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ كَانَ مُشَابِهًا لِلْمُشْرِكِينَ ؛ وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَكَذَّبَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ كَانَ مُشَابِهًا لِلْمَجُوسِيِّينَ ، وَمَنْ آمَنَ بِهَذَا وَهَذَا ، وَإِذَا أَحْسَنَ حَمِدَ اللَّهَ ؛ وَإِذَا أَسَاءَ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ ؛ وَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ فَهُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . فَإِنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا أَذْنَبَ تَابَ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ وَهَدَاهُ ، وَإِبْلِيسُ أَصَرَّ وَاسْتَكْبَرَ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ ؛ فَلَعَنَهُ وَأَقْصَاهُ ، فَمَنْ تَابَ كَانَ آدَمِيًّا ، وَمَنْ أَصَرَّ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ كَانَ إبليسيا ، فَالسُّعَدَاءُ يَتَّبِعُونَ أَبَاهُمْ آدَمَ ، وَالْأَشْقِيَاءُ يَتَّبِعُونَ عَدُوَّهُمْ إبْلِيسَ . فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ . وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُخْرَجُ فِي الصَّحِيحِ لَمَّا طَرَقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَاطِمَةَ - وَهُمَا نَائِمَانِ - فَقَالَ { أَلَا تُصَلِّيَانِ فَقَالَ عَلِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ إنْ شَاءَ أَنْ يُمْسِكَهَا وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُرْسِلَهَا ؛ فَوَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى فَخِذِهِ وَهُوَ يَقُولُ { وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا } } هَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي ذَمِّ مَنْ عَارَضَ الْأَمْرَ بِالْقَدَرِ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ : { إنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ } إلَى آخِرِهِ . اسْتِنَادٌ إلَى الْقَدَرِ فِي تَرْكِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ ، وَهِيَ فِي نَفْسِهَا كَلِمَةُ حَقٍّ ، لَكِنْ لَا تَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ الْأَمْرِ بَلْ مُعَارَضَةُ الْأَمْرِ فِيهَا مِنْ بَابِ الْجَدَلِ الْمَذْمُومِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا } وَهَؤُلَاءِ أَحَدُ أَقْسَامِ " الْقَدَرِيَّةِ " وَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِالْمُجَادَلَةِ الْبَاطِلَةِ (*) .

سُؤَالٌ عَنْ الْقَدَرِ
أَوْرَدَهُ أَحَدُ عُلَمَاءِ الذِّمِّيِّينَ فَقَالَ :
أَيَا عُلَمَاءَ الدِّينِ ذِمِّيُّ دِينِكُمْ * * * تَحَيَّرَ دُلُّوهُ بِأَوْضَحِ حُجَّةٍ
إذَا مَا قَضَى رَبِّي بِكُفْرِي بِزَعْمِكُمْ * * * وَلَمْ يَرْضَهُ مِنِّي فَمَا وَجْهُ حِيلَتِي
دَعَانِي وَسَدَّ الْبَابَ عَنِّي ، فَهَلْ إلَى * * * دُخُولِي سَبِيلٌ بَيِّنُوا لِي قَضِيَّتِي
قَضَى بِضَلَالِي ثُمَّ قَالَ ارْضَ بالقضا * * * فَمَا أَنَا رَاضٍ بِاَلَّذِي فِيهِ شِقْوَتِي
فَإِنْ كُنْتُ بِالْمَقْضِيِّ يَا قَوْمُ رَاضِيَا * * * فَرَبِّي لَا يَرْضَى بِشُؤْمِ بَلِيَّتِي
فَهَلْ لِي رِضَا مَا لَيْسَ يَرْضَاهُ سَيِّدِي * * * فَقَدْ حِرْتُ دُلُّونِي عَلَى كَشْفِ حِيرَتِي
إذَا شَاءَ رَبِّي الْكُفْرَ مِنِّي مَشِيئَةً * * * فَهَلْ أَنَا عَاصٍ فِي اتِّبَاعِ الْمَشِيئَةِ
وَهَلْ لِي اخْتِيَارٌ أَنْ أُخَالِفَ حُكْمَهُ * * * فَبِاَللَّهِ فَاشْفُوا بِالْبَرَاهِينِ عِلَّتِي
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة مُرْتَجِلًا :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .

سُؤَالُكَ يَا هَذَا سُؤَالُ مُعَانِدٍ * * * مُخَاصِمِ رَبِّ الْعَرْشِ بَارِي الْبَرِيَّةِ
فَهَذَا سُؤَالٌ خَاصَمَ الْمَلَأَ الْعُلَا * * * قَدِيمًا بِهِ إبْلِيسُ أَصْلُ الْبَلِيَّةِ
وَمَنْ يَكُ خَصْمًا لِلْمُهَيْمِنِ يَرْجِعَنْ * * * عَلَى أُمِّ رَأْسٍ هَاوِيًا فِي الْحَفِيرَةِ
وَيُدْعَى خُصُومُ اللَّهِ يَوْمَ مُعَادِهِمْ * * * إلَى النَّارِ طَرًّا مَعْشَرَ الْقَدَرِيَّةِ
سَوَاءٌ نَفَوْهُ ، أَوْ سَعَوْا لِيُخَاصِمُوا * * * بِهِ اللَّهَ أَوْ مَارَوْا بِهِ لِلشَّرِيعَةِ
وَأَصْلُ ضَلَالِ الْخَلْقِ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ * * * هُوَ الْخَوْضُ فِي فِعْلِ الْإِلَهِ بِعِلَّةِ
فإنهمو لَمْ يَفْهَمُوا حِكْمَةً لَهُ * * * فَصَارُوا عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ
فَإِنَّ جَمِيعَ الْكَوْنِ أَوْجَبَ فِعْلَهُ * * * مَشِيئَةُ رَبِّ الْخَلْقِ بَارِي الْخَلِيقَةِ
وَذَاتُ إلَهِ الْخَلْقِ وَاجِبَةٌ بِمَا * * * لَهَا مِنْ صِفَاتٍ وَاجِبَاتٍ قَدِيمَةِ
مَشِيئَتُهُ مَعَ عِلْمِهِ ثُمَّ قُدْرَةٌ * * * لَوَازِمُ ذَاتِ اللَّهِ قَاضِي الْقَضِيَّةِ
وَإِبْدَاعُهُ مَا شَاءَ مِنْ مُبْدِعَاتِهِ * * * بِهَا حِكْمَةٌ فِيهِ وَأَنْوَاعُ رَحْمَةِ
وَلَسْنَا إذَا قُلْنَا جَرَتْ بِمَشِيئَةِ * * * مِنْ الْمُنْكِرِي آيَاتِهِ الْمُسْتَقِيمَةِ
بَلْ الْحَقُّ أَنَّ الْحُكْمَ لِلَّهِ وَحْدَهُ * * * لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ الَّذِي فِي الشَّرِيعَةِ
هُوَ الْمَلِكُ الْمَحْمُودُ فِي كُلِّ حَالَةٍ * * * لَهُ الْمُلْكُ مِنْ غَيْرِ انْتِقَاصٍ بِشِرْكَةِ
فَمَا شَاءَ مَوْلَانَا الْإِلَهُ فَإِنَّهُ * * * يَكُونُ وَمَا لَا لَا يَكُونُ بِحِيلَةِ
وَقُدْرَتُهُ لَا نَقْصَ فِيهَا وَحُكْمُهُ * * * يَعُمُّ فَلَا تَخْصِيصَ فِي ذِي الْقَضِيَّةِ

أُرِيدَ بِذَا أَنَّ الْحَوَادِثَ كُلَّهَا * * * بِقُدْرَتِهِ كَانَتْ وَمَحْضِ الْمَشِيئَةِ
وَمَالِكُنَا فِي كُلِّ مَا قَدْ أَرَادَهُ * * * لَهُ الْحَمْدُ حَمْدًا يَعْتَلِي كُلَّ مَدْحَةِ
فَإِنَّ لَهُ فِي الْخَلْقِ رَحْمَتَهُ سَرَتْ * * * وَمَنْ حَكَمَ فَوْقَ الْعُقُولِ الْحَكِيمَةِ
أُمُورًا يَحَارُ الْعَقْلُ فِيهَا إذَا رَأَى * * * مِنْ الْحِكَمِ الْعُلْيَا وَكُلَّ عَجِيبَةِ
فَنُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ بِقُدْرَةِ * * * وَخَلْقٍ وَإِبْرَامٍ لِحُكْمِ الْمَشِيئَةِ
فَنُثْبِتُ هَذَا كُلَّهُ لِإِلَهِنَا * * * وَنُثْبِتُ مَا فِي ذَاكَ مِنْ كُلِّ حِكْمَةِ
وَهَذَا مَقَامٌ طَالَمَا عَجَزَ الْأُولَى * * * نَفَوْهُ وَكَرُّوا رَاجِعِينَ بِحِيرَةِ
وَتَحْقِيقُ مَا فِيهِ بِتَبْيِينِ غَوْرِهِ * * * وَتَحْرِيرِ حَقِّ الْحَقِّ فِي ذِي الْحَقِيقَةِ
هُوَ الْمَطْلَبُ الْأَقْصَى لِوُرَّادِ بَحْرِهِ * * * وَذَا عُسْرٍ فِي نَظْمِ هذي الْقَصِيدَةِ
لِحَاجَتِهِ إلَى بَيَانٍ مُحَقِّقٍ * * * لِأَوْصَافِ مَوْلَانَا الْإِلَهِ الْكَرِيمَةِ
وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَأَحْكَامِ دِينِهِ * * * وَأَفْعَالِهِ فِي كُلِّ هذي الْخَلِيقَةِ
وَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ قَدْ بَانَ ظَاهِرًا * * * وَإِلْهَامُهُ لِلْخَلْقِ أَفْضَلُ نِعْمَةِ
وقد قِيلَ فِي هَذَا وَخَطُّ كِتَابِهِ * * * بَيَانُ شِفَاءٍ لِلنُّفُوسِ السَّقِيمَةِ
فَقَوْلُكَ : لِمَ قَدْ شَاءَ ؟ مِثْلُ سُؤَالِ مَنْ * * * يَقُولُ : فَلِمَ قَدْ كَانَ فِي الْأَزَلِيَّةِ
وَذَاكَ سُؤَالٌ يُبْطِلُ الْعَقْلُ وَجْهَهُ * * * وَتَحْرِيمُهُ قَدْ جَاءَ فِي كُلِّ شِرْعَةِ
وَفِي الْكَوْنِ تَخْصِيصٌ كَثِيرٌ يَدُلُّ مَنْ * * * لَهُ نَوْعُ عَقْلٍ أَنَّهُ بِإِرَادَةِ

وَإِصْدَارُهُ عَنْ وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ * * * أَوْ الْقَوْلُ بِالتَّجْوِيزِ رَمْيَةُ حِيرَةِ
وَلَا رَيْبَ فِي تَعْلِيقِ كُلِّ مُسَبَّبٍ * * * بِمَا قَبْلَهُ مِنْ عِلَّةٍ موجبية
بَلْ الشَّأْنُ فِي الْأَسْبَابِ أَسْبَابُ مَا تَرَى * * * وَإِصْدَارُهَا عَنْ الْحُكْمِ مَحْضُ الْمَشِيئَةِ
وَقَوْلُكَ : لِمَ شَاءَ الْإِلَهُ ؟ هُوَ الَّذِي * * * أَزَلَّ عُقُولَ الْخَلْقِ فِي قَعْرِ حُفْرَةِ
فَإِنَّ الْمَجُوسَ الْقَائِلِينَ بِخَالِقِ * * * لِنَفْعِ وَرَبٍّ مُبْدِعٍ لِلْمَضَرَّةِ
سُؤَالُهُمْ عَنْ عِلَّةِ السِّرِّ أَوْقَعَتْ * * * أَوَائِلَهُمْ فِي شُبْهَةِ الثنوية
وَإِنَّ ملاحيد الْفَلَاسِفَةِ الْأُولَى * * * يَقُولُونَ بِالْفِعْلِ الْقَدِيمِ لِعِلَّةِ
بَغَوْا عِلَّةً لِلْكَوْنِ بَعْدَ انْعِدَامِهِ * * * فَلَمْ يَجِدُوا ذَاكُمْ فَضَلُّوا بِضَلَّةِ
وَإِنَّ مبادي الشَّرِّ فِي كُلِّ أُمَّةٍ * * * ذَوِي مِلَّةٍ مَيْمُونَةٍ نَبَوِيَّةِ
بخوضهمو فِي ذَاكُمْ صَارَ شِرْكُهُمْ * * * وَجَاءَ دُرُوسُ الْبَيِّنَاتِ بِفَتْرَةِ
وَيَكْفِيكَ نَقْضًا أَنَّ مَا قَدْ سَأَلْتَهُ * * * مِنْ الْعُذْرِ مَرْدُودٌ لَدَى كُلِّ فِطْرَةِ
فَأَنْتَ تَعِيبُ الطَّاعِنِينَ جَمِيعَهُمْ * * * عَلَيْكَ وَتَرْمِيهِمْ بِكُلِّ مَذَمَّةِ
وَتَنْحَلُ مَنْ وَالَاكَ صَفْوَ مَوَدَّةٍ * * * وَتُبْغِضُ مَنْ ناواك مِنْ كُلِّ فِرْقَةِ
وَحَالُهُمْ فِي كُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلَةٍ * * * كَحَالِكَ يَا هَذَا بِأَرْجَحِ حُجَّةِ
وَهَبْكَ كَفَفْتَ اللَّوْمَ عَنْ كُلِّ كَافِرٍ * * * وَكُلِّ غَوِيٍّ خَارِجٍ عَنْ مَحَبَّةِ
فَيَلْزَمُكَ الْإِعْرَاضُ عَنْ كُلِّ ظَالِمٍ * * * عَلَى النَّاسِ فِي نَفْسٍ وَمَالٍ وَحُرْمَةِ

وَلَا تَغْضَبَنْ يَوْمًا عَلَى سَافِكٍ دَمًا * * * وَلَا سَارِقٍ مَالًا لِصَاحِبِ فَاقَةِ
وَلَا شَاتِمٍ عِرْضًا مَصُونًا وَإِنْ عَلَا * * * وَلَا نَاكِحٍ فَرْجًا عَلَى وَجْهِ غِيَّةِ
وَلَا قَاطِعٍ لِلنَّاسِ نَهْجَ سَبِيلِهِمْ * * * وَلَا مُفْسِدٍ فِي الْأَرْضِ فِي كُلِّ وجهة
وَلَا شَاهِدٍ بِالزُّورِ إفْكًا وَفِرْيَةً * * * وَلَا قَاذِفٍ لِلْمُحْصَنَاتِ بِزَنْيَةِ
وَلَا مُهْلِكٍ لِلْحَرْثِ وَالنَّسْلِ عَامِدًا * * * وَلَا حَاكِمٍ لِلْعَالَمِينَ بِرِشْوَةِ
وَكُفَّ لِسَانَ اللَّوْمِ عَنْ كُلِّ مُفْسِدٍ * * * وَلَا تَأْخُذَنْ ذَا جرمة بِعُقُوبَةِ
وَسَهِّلْ سَبِيلَ الْكَاذِبِينَ تَعَمُّدًا * * * عَلَى رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ جَاءٍ بِفِرْيَةِ
وَإِنْ قَصَدُوا إضْلَالَ مَنْ يَسْتَجِيبُهُمْ * * * بِرَوْمِ فَسَادِ النَّوْعِ ثُمَّ الرِّيَاسَةِ
وَجَادِلْ عَنْ الْمَلْعُونِ فِرْعَوْنَ إذْ طَغَى * * * فَأُغْرِقَ فِي الْيَمِّ انْتِقَامًا بِغَضْبَةِ
وَكُلَّ كَفُورٍ مُشْرِكٍ بِإِلَهِهِ * * * وَآخَرَ طَاغٍ كَافِرٍ بِنُبُوَّةِ
كَعَادٍ ونمروذ وَقَوْمٍ لِصَالِحِ * * * وَقَوْمٍ لِنُوحِ ثُمَّ أَصْحَابِ أَيْكَةِ
وَخَاصِمْ لِمُوسَى ثُمَّ سَائِرِ مَنْ أَتَى * * * مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مُحْيِيًا لِلشَّرِيعَةِ
عَلَى كَوْنِهِمْ قَدْ جَاهَدُوا النَّاسَ إذْ بَغَوْا * * * وَنَالُوا مِنْ الْمَعَاصِي بَلِيغَ الْعُقُوبَةِ

وَإِلَّا فَكُلُّ الْخَلْقِ فِي كُلِّ لَفْظَةٍ * * * وَلَحْظَةِ عَيْنٍ أَوْ تَحَرُّكِ شَعْرَةِ
وَبَطْشَةِ كَفٍّ أَوْ تَخَطِّي قَدِيمَةٍ * * * وَكُلِّ حَرَاكٍ بَلْ وَكُلِّ سَكِينَةِ
همو تَحْتَ أَقْدَارِ الْإِلَهِ وَحُكْمِهِ * * * كَمَا أَنْتَ فِيمَا قَدْ أَتَيْتَ بِحُجَّةِ
وَهَبْكَ رَفَعْتَ اللَّوْمَ عَنْ كُلِّ فَاعِلٍ * * * فِعَالَ رَدًى طَرْدًا لهذي الْمَقِيسَةِ
فَهَلْ يُمْكِنُ رَفْعُ الْمَلَامِ جَمِيعِهِ * * * عَنْ النَّاسِ طَرًّا عِنْدَ كُلِّ قَبِيحَةِ ؟
وَتَرْكُ عُقُوبَاتِ الَّذِينَ قَدْ اعْتَدَوْا * * * وَتَرْكُ الْوَرَى الْإِنْصَافَ بَيْنَ الرَّعِيَّةِ
فَلَا تُضْمَنَنْ نَفْسٌ وَمَالٌ بِمِثْلِهِ * * * وَلَا يُعْقَبَنْ عَادٌ بِمِثْلِ الْجَرِيمَةِ
وَهَلْ فِي عُقُولِ النَّاسِ أَوْ فِي طِبَاعِهِمْ * * * قَبُولٌ لِقَوْلِ النَّذْلِ مَا وَجْهُ حِيلَتِي ؟
وَيَكْفِيكَ نَقْضًا مَا بِجِسْمِ ابْنِ آدَمَ * * * صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَكُلِّ بَهِيمَةِ
مِنْ الْأَلَمِ الْمَقْضِيِّ فِي غَيْرِ حِيلَةٍ * * * وَفِيمَا يَشَاءُ اللَّهُ أَكْمَلُ حِكْمَةِ
إذَا كَانَ فِي هَذَا لَهُ حِكْمَةٌ فَمَا * * * يُظَنُّ بِخَلْقِ الْفِعْلِ ثُمَّ الْعُقُوبَةِ ؟
وَكَيْفَ وَمِنْ هَذَا عَذَابٌ مُوَلَّدٌ * * * عَنْ الْفِعْلِ فِعْلِ الْعَبْدِ عِنْدَ الطَّبِيعَةِ ؟
كَآكِلِ سُمٍّ أَوْجَبَ الْمَوْتَ أَكْلُهُ * * * وَكُلٌّ بِتَقْدِيرِ لِرَبِّ الْبَرِيَّةِ

فَكُفْرُكَ يَا هَذَا كَسُمِّ أَكَلْتَهُ * * * وَتَعْذِيبُ نَارٍ مِثْلُ جَرْعَةِ غُصَّةِ
أَلَسْتَ تَرَى فِي هَذِهِ الدَّارِ مَنْ جَنَى * * * يُعَاقَبُ إمَّا بالقضا أَوْ بِشِرْعَةِ ؟
وَلَا عُذْرَ لِلْجَانِي بِتَقْدِيرِ خَالِقٍ * * * كَذَلِكَ فِي الْأُخْرَى بِلَا مَثْنَوِيَّةِ
وَتَقْدِيرُ رَبِّ الْخَلْقِ لِلذَّنْبِ مُوجِبٌ * * * لِتَقْدِيرِ عُقْبَى الذَّنْبِ إلَّا بِتَوْبَةِ
وَمَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَتَابِ لِرَفْعِهِ * * * عَوَاقِبَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ الْخَبِيثَةِ
كَخَيْرِ بِهِ تُمْحَى الذُّنُوبُ وَدَعْوَةٍ * * * تُجَابُ مِنْ الْجَانِي وَرَبِّ شَفَاعَةِ
وَقَوْلُ حَلِيفِ الشَّرِّ إنِّي مُقَدَّرٌ * * * عَلَيَّ كَقَوْلِ الذِّئْبِ هذي طَبِيعَتِي
وَتَقْدِيرُهُ لِلْفِعْلِ يَجْلِبُ نِقْمَةً * * * كَتَقْدِيرِهِ الْأَشْيَاءَ طَرًّا بِعِلَّةِ
فَهَلْ يَنْفَعَنْ عُذْرُ الْمَلُومِ بِأَنَّهُ * * * كَذَا طَبْعُهُ أَمْ هَلْ يُقَالُ لِعَثْرَةِ ؟
أَمْ الذَّمُّ وَالتَّعْذِيبُ أَوْكَدُ لِلَّذِي * * * طَبِيعَتُهُ فِعْلُ الشُّرُورِ الشَّنِيعَةِ ؟
فَإِنْ كُنْتَ تَرْجُو أَنْ تُجَابَ بِمَا عَسَى * * * يُنْجِيكَ مِنْ نَارِ الْإِلَهِ الْعَظِيمَةِ

فَدُونَكَ رَبُّ الْخَلْقِ فَاقْصِدْهُ ضَارِعًا * * * مُرِيدًا لِأَنْ يَهْدِيَكَ نَحْو الْحَقِيقَةِ
وَذَلِّلْ قِيَادَ النَّفْسِ لِلْحَقِّ وَاسْمَعَنْ * * * وَلَا تُعْرِضَنْ عَنْ فِكْرَةٍ مُسْتَقِيمَةِ
وَمَا بَانَ مِنْ حَقٍّ فَلَا تَتْرُكَنَّهُ * * * وَلَا تَعْصِ مَنْ يَدْعُو لِأَقْوَمِ شِرْعَةِ
وَدَعْ دِينَ ذَا الْعَادَاتِ لَا تَتْبَعَنَّهُ * * * وَعُجْ عَنْ سَبِيلِ الْأُمَّةِ الْغَضَبِيَّةِ
وَمَنْ ضَلَّ عَنْ حَقٍّ فَلَا تَقْفُوَنَّهُ * * * وَزِنْ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ بالمعدلية
هُنَالِكَ تَبْدُو طَالِعَاتٌ مِنْ الْهُدَى * * * تُبَشِّرُ مَنْ قَدْ جَاءَ بِالْحَنِيفِيَّةِ
بِمِلَّةِ إبْرَاهِيمَ ذَاكَ إمَامُنَا * * * وَدِينِ رَسُولِ اللَّهِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ
فَلَا يَقْبَلُ الرَّحْمَنُ دِينًا سِوَى الَّذِي * * * بِهِ جَاءَتْ الرسل الْكِرَامُ السَّجِيَّةِ
وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْحَاشِرُ الْخَاتَمُ الَّذِي * * * حَوَى كُلَّ خَيْرٍ فِي عُمُومِ الرِّسَالَةِ
وَأَخْبَرَ عَنْ رَبِّ الْعِبَادِ بِأَنَّ مَنْ * * * غَدَا عَنْهُ فِي الْأُخْرَى بِأَقْبَحِ خَيْبَةِ
فهذي دِلَالَاتُ الْعِبَادِ لِحَائِرِ * * * وَأَمَّا هُدَاهُ فَهُوَ فِعْلُ الرُّبُوبِيَّةِ
وَفَقْدُ الْهُدَى عِنْدَ الْوَرَى لَا يُفِيدُ مَنْ * * * غَدَا عَنْهُ بَلْ يَجْرِي بِلَا وَجْهِ حُجَّةِ

وَحُجَّةُ مُحْتَجٍّ بِتَقْدِيرِ رَبِّهِ * * * تَزِيدُ عَذَابًا كَاحْتِجَاجِ مَرِيضَةِ
وَأَمَّا رِضَانَا بِالْقَضَاءِ فَإِنَّمَا * * * أُمِرْنَا بِأَنْ نَرْضَى بِمِثْلِ الْمُصِيبَةِ
كَسَقَمِ وَفَقْرٍ ثُمَّ ذُلٍّ وَغُرْبَةِ * * * وَمَا كَانَ مِنْ مُؤْذٍ بِدُونِ جَرِيمَةِ
فَأَمَّا الْأَفَاعِيلُ الَّتِي كُرِهَتْ لَنَا * * * فَلَا تُرْتَضَى مَسْخُوطَةً لِمَشِيئَةِ
وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ لَا رِضًا * * * بِفِعْلِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ الْكَبِيرَةِ
وَقَالَ فَرِيقٌ نَرْتَضِي بِقَضَائِهِ * * * وَلَا نَرْتَضِي الْمَقْضِيَّ أَقْبَحَ خَصْلَةِ
وَقَالَ فَرِيقٌ نَرْتَضِي بِإِضَافَةِ * * * إلَيْهِ وَمَا فِينَا فَنُلْقِي بِسَخْطَةِ
كَمَا أَنَّهَا لِلرَّبِّ خَلْقٌ وَإِنَّهَا * * * لِمَخْلُوقِهِ لَيْسَتْ كَفِعْلِ الْغَرِيزَةِ
فَنَرْضَى مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ خَلْقُهُ * * * وَنَسْخَطُ مِنْ وَجْهِ اكْتِسَابِ الْخَطِيئَةِ
وَمَعْصِيَةُ الْعَبْدِ الْمُكَلَّفِ تَرْكُهُ * * * لِمَا أَمَرَ الْمَوْلَى وَإِنْ بِمَشِيئَةِ
فَإِنَّ إلَهَ الْخَلْقِ حَقٌّ مَقَالُهُ * * * بِأَنَّ الْعِبَادَ فِي جَحِيمٍ وَجَنَّةِ
كَمَا أَنَّهُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ هَكَذَا * * * بَلْ الْبُهْمُ فِي الْآلَامِ أَيْضًا وَنِعْمَةِ
وَحِكْمَتُهُ الْعُلْيَا اقْتَضَتْ مَا اقْتَضَتْ مِنْ * * * الْفُرُوقِ بِعِلْمِ ثُمَّ أَيْدٍ وَرَحْمَةِ
يَسُوقُ أُولِي التَّعْذِيبِ بِالسَّبَبِ الَّذِي * * * يُقَدِّرُهُ نَحْوَ الْعَذَابِ بِعِزَّةِ

وَيَهْدِي أُولِي التَّنْعِيمِ نَحْوَ نَعِيمِهِمْ * * * بِأَعْمَالِ صِدْقٍ فِي رَجَاءٍ وَخَشْيَةِ
وَأَمْرُ إلَهِ الْخَلْقِ بَيِّنُ مَا بِهِ * * * يَسُوقُ أُولِي التَّنْعِيمِ نَحْوَ السَّعَادَةِ
فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ أَثَّرَتْ * * * أَوَامِرُهُ فِيهِ بِتَيْسِيرِ صَنْعَةِ
وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ لَمْ يَنَلْ * * * بِأَمْرِ وَلَا نَهْيٍ بِتَقْدِيرِ شِقْوَةِ
وَلَا مَخْرَجٌ لِلْعَبْدِ عَمَّا بِهِ قُضِيَ * * * وَلَكِنَّهُ مُخْتَارُ حُسْنٍ وَسَوْأَةِ
فَلَيْسَ بِمَجْبُورِ عَدِيمِ الْإِرَادَةِ * * * وَلَكِنَّهُ شَاءَ بِخَلْقِ الْإِرَادَةِ
وَمِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ خَلْقُ مَشِيئَةٍ * * * بِهَا صَارَ مُخْتَارَ الْهُدَى بِالضَّلَالَةِ
فَقَوْلُكَ : هَلْ اخْتَارَ تَرْكًا لِحِكْمَةِ ؟ * * * كَقَوْلِكَ : هَلْ اخْتَارَ تَرْكَ الْمَشِيئَةِ ؟
وَأَخْتَارُ أَنْ لَا اخْتَارَ فِعْلَ ضَلَالَةٍ * * * وَلَوْ نِلْتُ هَذَا التَّرْكَ فُزْتُ بِتَوْبَةِ
وَذَا مُمْكِنٌ لَكِنَّهُ مُتَوَقِّفٌ * * * عَلَى مَا يَشَاءُ اللَّهُ مِنْ ذِي الْمَشِيئَةِ

فَدُونَك فَافْهَمْ مَا بِهِ قَدْ أَجَبْت مِنْ * * * مَعَانٍ إذَا انْحَلَّتْ بِفَهْمِ غَرِيزَةٍ
أَشَارَتْ إلَى أَصْلٍ يُشِيرُ إلَى الْهُدَى * * * وَلِلَّهِ رَبُّ الْخَلْقِ أَكْمَلُ مِدْحَةٍ
وَصَلَّى إلَهُ الْخَلْقِ جَلَّ جَلَالُهُ * * * عَلَى الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ :
قَدْ ذَكَرْت فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ " ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ " : " قَدَرِيَّةٌ مشركية " وَ " قَدَرِيَّةٌ مَجُوسِيَّةٌ " وَ " قَدَرِيَّةٌ إبليسية " . فَأَمَّا الْأَوَّلُونَ فَهُمْ الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ يُوَافِقُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ ، وَقَالُوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } إلَى آخِرِ الْكَلَامِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ . { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ } فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَفِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ { وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } . فَهَؤُلَاءِ يَئُولُ أَمْرُهُمْ إلَى تَعْطِيلِ الشَّرَائِعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالرُّبُوبِيَّةِ الْعَامَّةِ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُ مَا مِنْ دَابَّةٍ إلَّا رَبِّي آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ، وَهُوَ الَّذِي يَبْتَلِي بِهِ كَثِيرًا - إمَّا اعْتِقَادًا وَإِمَّا حَالًا - طَوَائِفُ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهُمْ إلَى الْإِبَاحَةِ لِلْمُحَرَّمَاتِ وَإِسْقَاطِ الْوَاجِبَاتِ وَرَفْعِ

الْعُقُوبَاتِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَسْتَتِبُّ لَهُمْ وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَهُ عِنْدَ مُوَافَقَةِ أَهْوَائِهِمْ كَفِعْلِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْعَرَبِ ثُمَّ إذَا خُولِفَ هَوَى أَحَدٍ مِنْهُمْ قَامَ فِي دَفْعِ ذَلِكَ مُتَعَدِّيًا لِلْحُدُودِ غَيْرَ وَاقِفٍ عِنْدَ حَدٍّ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ الْمُشْرِكُونَ أَيْضًا . إذْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ تَتَنَاقَضُ عِنْدَ تَعَارُضِ إرَادَاتِ الْبَشَرِ . فَهَذَا يُرِيدُ أَمْرًا وَالْآخَرُ يُرِيدُ ضِدَّهُ ، وَكُلٌّ مِنْ الْإِرَادَتَيْنِ مُقَدَّرَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ تَرْجِيحِ إحْدَاهُمَا أَوْ غَيْرِهِمَا أَوْ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ وَإِلَّا لَزِمَ الْفَسَادُ . وَقَدْ يَغْلُو أَصْحَابُ هَذَا الطَّرِيقِ حَتَّى يَجْعَلُوا عَيْنَ الْمَوْجُودَاتِ هِيَ اللَّهُ كَمَا قَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَيَتَمَسَّكُونَ بِمُوَافَقَةِ الْإِرَادَةِ الْقَدَرِيَّةِ فِي السَّيِّئَاتِ الْوَاقِعَةِ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ كَقَوْلِ الْحَرِيرِيِّ : أَنَا كَافِرٌ بِرَبِّ يُعْصَى ، وَقَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ لَمَّا دَعَاهُ مكاس فَقِيلَ لَهُ هُوَ مكاس فَقَالَ : إنْ كَانَ قَدْ عَصَى الْأَمْرَ فَقَدْ أَطَاعَ الْإِرَادَةَ وَقَوْلُ ابْنِ إسْرَائِيلَ : أَصْبَحْت مُنْفَعِلًا لِمَا يَخْتَارُهُ مِنِّي فَفِعْلِي كُلُّهُ طَاعَاتٌ وَقَدْ يُسَمُّونَ هَذَا حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حَقِيقَةُ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَالْحَقِيقَةُ الْمَوْجُودَةُ الْكَائِنَةُ أَوْ الْحَقِيقَةُ الْخَبَرِيَّةُ وَلَمَّا كَانَ فِي هَؤُلَاءِ شَوْبٌ مِنْ النَّصَارَى وَالنَّصَارَى فِيهِمْ شَوْبٌ مِنْ الشِّرْكِ تَابَعُوا الْمُشْرِكِينَ فِي مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ التَّمَسُّكِ بِالْقَدَرِ الْمُخَالِفِ لِلشَّرْعِ . هَذَا مَعَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ الَّذِي قَدَّرَ الْكَائِنَاتِ كَمَا أَنَّ هَؤُلَاءِ فِيهِمْ شَوْبٌ مِنْ ذَلِكَ

وَإِذَا اتَّسَعَ زَنَادِقَتُهُمْ الَّذِينَ هُمْ رُؤَسَاؤُهُمْ قَالُوا : مَا نَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ إذْ لَا مَوْجُودَ غَيْرَهُ . وَقَالَ رَئِيسٌ لَهُمْ إنَّمَا كَفَرَ النَّصَارَى لِأَنَّهُمْ خَصَّصُوا فَيُشَرِّعُونَ عِبَادَةَ كُلِّ مَوْجُودٍ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَيُقَرِّرُونَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَحْجَارِ ؛ لَكِنَّهُمْ يستقصرونهم حَيْثُ خَصَّصُوا الْعِبَادَةَ بِبَعْضِ الْمَظَاهِرِ وَالْأَعْيَانِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا حَاصِلٌ فِي جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَفَنِّنُونَ فِي الْآلِهَةِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا وَإِنْ اشْتَرَكُوا فِي الشِّرْكِ ؛ هَذَا يَعْبُدُ الشَّمْسَ ، وَهَذَا يَعْبُدُ الْقَمَرَ ، وَهَذَا يَعْبُدُ اللَّاتَ ، وَهَذَا يَعْبُدُ الْعُزَّى وَهَذَا يَعْبُدُ مَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ يَتَّخِذُ إلَهَهُ هَوَاهُ وَيَعْبُدُ مَا يَسْتَحْسِنُ ، وَكَذَلِكَ فِي عِبَادَةِ قُبُورِ الْبَشَرِ كُلٌّ يُعَلِّقُ عَلَى تِمْثَالِ مَنْ أَحْسَنَ بِهِ الظَّنَّ . وَ " الْقَدَرِيَّةُ الثَّانِيَةُ " الْمَجُوسِيَّةُ : الَّذِينَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ شُرَكَاءَ فِي خَلْقِهِ كَمَا جَعَلَ الْأَوَّلُونَ لِلَّهِ شُرَكَاءَ فِي عِبَادَتِهِ . فَيَقُولُونَ : خَالِقُ الْخَيْرِ ، غَيْرُ خَالِقِ الشَّرِّ ، وَيَقُولُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي مِلَّتِنَا : إنَّ الذُّنُوبَ الْوَاقِعَةَ لَيْسَتْ وَاقِعَةً بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَرُبَّمَا قَالُوا : وَلَا يَعْلَمُهَا أَيْضًا وَيَقُولُونَ : إنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِ الْحَيَوَانِ وَاقِعٌ بِغَيْرِ قُدْرَتِهِ وَلَا صُنْعِهِ فَيَجْحَدُونَ مَشِيئَتَهُ النَّافِذَةَ وَقُدْرَتَهُ الشَّامِلَةَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْقَدَرُ نِظَامُ التَّوْحِيدِ فَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَآمَنَ بِالْقَدَرِ تَمَّ تَوْحِيدُهُ وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ نَقَضَ تَكْذِيبُهُ تَوْحِيدَهُ . وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْعَدْلُ وَيَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ سَلْبَ الصِّفَاتِ ، وَيُسَمُّونَهُ التَّوْحِيدَ كَمَا يُسَمِّي الْأَوَّلُونَ التلحيد التَّوْحِيدَ فَيُلْحِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَهَذَا يَقَعُ كَثِيرًا إمَّا اعْتِقَادًا وَإِمَّا

حَالًا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ . كَمَا وَقَعَ اعْتِقَادُ ذَلِكَ فِي الْمُعْتَزِلَةِ ، وَالشِّيعَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَابْتُلِيَ بِبَعْضِ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْبَصْرِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ وَقَدْ يُبْتَلَى بِهِ حَالًا لَا اعْتِقَادًا بَعْضُ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ تَعْظِيمُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةٍ لِلْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ . وَلِمَا بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ التَّنَافِي تَجِدُ الْمُعْتَزِلَةَ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ الصُّوفِيَّةِ وَيَمِيلُونَ إلَى الْيَهُودِ وَيَنْفِرُونَ عَنْ النَّصَارَى وَيَجْعَلُونَ إثْبَاتَ الصِّفَاتِ هُوَ قَوْلُ النَّصَارَى بِالْأَقَانِيمِ وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ يَذُمُّونَ النَّصَارَى أَكْثَرَ كَمَا يَفْعَلُ الْجَاحِظُ وَغَيْرُهُ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلِينَ يَمِيلُونَ إلَى النَّصَارَى أَكْثَرَ . وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ فِي الْحُرُوفِ وَالْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ كَمَا كَانَ الْأَوَّلُونَ فِي الْأَصْوَاتِ وَالْعَمَلِ الْمُبْتَدَعِ كَمَا اقْتَسَمَ ذَلِكَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؛ وَالْيَهُودُ غَالِبُهُمْ قَدَرِيَّةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ؛ فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ شَرِيعَةٍ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ الْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ . وَلِهَذَا تَجِدُ أَرْبَابَ الْحُرُوفِ وَالْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ كَالْمُعْتَزِلَةِ يُوجِبُونَ طَرِيقَتَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ مَا سِوَاهَا وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ لَاحِقَةٌ مَنْ خَالَفَهَا حَتَّى إنَّهُمْ يَقُولُونَ : بِتَخْلِيدِ فُسَّاقِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَرَجَ عَنْهُمْ مِنْ فِرَقِ الْأُمَّةِ وَهَذَا التَّشْدِيدُ وَالْآصَارُ وَالْأَغْلَالُ شِبْهُ دِينِ الْيَهُودِ . وَتَجِدُ أَرْبَابَ الصَّوْتِ وَالْعَمَلِ الْمُبْتَدَعِ لَا يُوجِبُونَ وَلَا يُحَرِّمُونَ ؛ وَإِنَّمَا يَسْتَحِبُّونَ وَيَكْرَهُونَ فَيُعَظِّمُونَ طَرِيقَهُمْ وَيُفَضِّلُونَهُ وَيُرَغِّبُونَ فِيهِ حَتَّى يَرْفَعُوهُ

فَوْقَ قَدْرِهِ بِدَرَجَاتِ . فَطَرِيقُهُمْ رَغْبَةٌ بِلَا رَهْبَةٍ إلَّا قَلِيلًا كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ رَهْبَةٌ فِي الْغَالِبِ بِرَغْبَةِ يَسِيرَةٍ وَهَذَا يُشْبِهُ مَا عَلَيْهِ النَّصَارَى مِنْ الْغُلُوِّ فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَفْعَلُونَهَا مَعَ انْحِلَالِهِمْ مِنْ الْإِيجَابِ وَالِاسْتِحْبَابِ لَكِنَّهُمْ يَتَعَبَّدُونَ بِعِبَادَاتِ كَثِيرَةٍ وَيَبْقَوْنَ أَزْمَانًا كَثِيرَةً عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ . وَالْفَلَاسِفَةُ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ هَذَا الطَّرِيقُ كَمَا أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ .
وَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ : الْقَدَرِيَّةُ الإبليسية الَّذِينَ صَدَّقُوا بِأَنَّ اللَّهَ صَدَرَ عَنْهُ الْأَمْرَانِ . لَكِنَّ عِنْدَهُمْ هَذَا تَنَاقُضٌ وَهُمْ خُصَمَاءُ اللَّهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ . وَهَؤُلَاءِ كَثِيرٌ فِي أَهْلِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مِنْ سُفَهَاءِ الشُّعَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الزَّنَادِقَةِ كَقَوْلِ أَبِي الْعَلَاءِ المعري :
أَنَهَيْت عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ تَعَمُّدًا * * * وَزَعَمْت أَنَّ لَهَا مُعَادًا آتِيًا
مَا كَانَ أَغْنَاهَا عَنْ الْحَالَيْنِ (1)
وقول بَعْضِ السُّفَهَاءِ الزَّنَادِقَةِ : يَخْلُقُ نُجُومًا وَيَخْلُقُ بَيْنَهَا أَقْمَارًا . يَقُولُ يَا قَوْمُ غُضُّوا عَنْهُمْ الْأَبْصَارَ . تَرْمِي النسوان وَتَزْعَقُ مَعْشَرَ الْحُضَّارَ . اُطْفُوا الْحَرِيقَ وَبِيَدِك قَدْ رَمَيْت النَّارَ . وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ كُفْرَ صَاحِبِهِ وَقَتْلِهِ .

فَتَدَبَّرْ كَيْفَ كَانَتْ الْمِلَلُ الصَّحِيحَةُ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادَوْا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئُونَ لَيْسَ فِيهَا فِي الْأَصْلِ قَدَرِيَّةٌ ؛ وَإِنَّمَا حَدَثَتْ الْقَدَرِيَّةُ مِنْ الْمِلَّتَيْنِ الْبَاطِلَتَيْنِ : الْمَجُوسُ وَاَلَّذِينَ أَشْرَكُوا . لَكِنَّ النَّصَارَى وَمَنْ ضَارَعَهُمْ مَالُوا إلَى الصَّابِئَةِ وَالْيَهُودُ وَمَنْ ضَارَعَهُمْ (1)

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُفْتِي الْأَنَامِ بَقِيَّةُ السَّلَفِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ أَقْوَامٍ يَحْتَجُّونَ بِسَابِقِ الْقَدَرِ ، وَيَقُولُونَ : إنَّهُ قَدْ مَضَى الْأَمْرُ وَالشَّقِيُّ شَقِيٌّ ، وَالسَّعِيدُ سَعِيدٌ مُحْتَجِّينَ بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } قَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَالزِّنَا مَكْتُوبٌ عَلَيْنَا ، وَمَا لَنَا فِي الْأَفْعَالِ قُدْرَةٌ وَإِنَّمَا الْقُدْرَةُ لِلَّهِ وَنَحْنُ نَتَوَقَّى مَا كُتِبَ لَنَا وَأَنَّ آدَمَ مَا عَصَى وَأَنَّ مَنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ مُحْتَجِّينَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ . وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ } فَبَيِّنُوا لَنَا فَسَادَ قَوْلِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ بِالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ ؟ .
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ إذَا أَصَرُّوا عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ كَانُوا أَكْفَرَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ؛ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤْمِنُونَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَكِنْ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَآمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } { أُولَئِكَ هُمُ

الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } . فَإِذَا كَانَ مَنْ آمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ فَهُوَ كَافِرٌ حَقًّا فَكَيْفَ بِمَنْ كَفَرَ بِالْجَمِيعِ . وَلَمْ يُقِرَّ بِأَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ ؛ بَلْ تَرَكَ ذَلِكَ مُحْتَجًّا بِالْقَدَرِ فَهُوَ أَكْفَرُ مِمَّنْ آمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ . وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ يَظْهَرُ بُطْلَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ : ( أَحَدُهَا : أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ إمَّا أَنْ يَرَى الْقَدَر حُجَّةً لِلْعَبْدِ ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَرَاهُ حُجَّةً لِلْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لِلْعَبْدِ فَهُوَ حُجَّةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْقَدَرِ وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يُنْكِرَ عَلَى مَنْ يَظْلِمُهُ وَيَشْتُمُهُ وَيَأْخُذُ مَالَهُ وَيُفْسِدُ حَرِيمَهُ وَيَضْرِبُ عُنُقَهُ ، وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَهَؤُلَاءِ جَمِيعُهُمْ كَذَّابُونَ مُتَنَاقِضُونَ ؛ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَا يَزَالُ يَذُمُّ هَذَا وَيُبْغِضُ هَذَا وَيُخَالِفُ هَذَا حَتَّى إنَّ الَّذِي يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ يُبْغِضُونَهُ وَيُعَادُونَهُ وَيُنْكِرُونَ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لِمَنْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرَكَ الْوَاجِبَاتِ لَزِمَهُمْ أَنْ لَا يَذُمُّوا أَحَدًا وَلَا يُبْغِضُوا أَحَدًا وَلَا يَقُولُوا فِي أَحَدٍ : إنَّهُ ظَالِمٌ وَلَوْ فَعَلَ مَا فَعَلَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَحَدًا فِعْلُهُ وَلَوْ فَعَلَ النَّاسُ هَذَا لَهَلَكَ الْعَالَمُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُمْ فَاسِدٌ فِي الْعَقْلِ كَمَا أَنَّهُ كُفْرٌ فِي الشَّرْعِ وَأَنَّهُمْ كَذَّابُونَ مُفْتَرُونَ فِي قَوْلِهِمْ : إنَّ الْقَدَرَ حُجَّةٌ لِلْعَبْدِ . ( الْوَجْهُ الثَّانِي : إنَّ هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ إبْلِيسُ وَفِرْعَوْنُ وَقَوْمُ نُوحٍ

وَعَادٍ وَكُلُّ مَنْ أَهْلَكَهُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِ مَعْذُورًا وَهَذَا مِنْ الْكُفْرِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَرْبَابُ الْمِلَلِ . ( الْوَجْهُ الثَّالِثُ ) : أَنَّ هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ وَلَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَلَا أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } { وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ } { وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ } { وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } . وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ جَمِيعَهُمْ سَبَقَتْ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ السَّوَابِقُ وَكَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ وَهُمْ مَعَ هَذَا قَدْ انْقَسَمُوا إلَى سَعِيدٍ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَإِلَى شَقِيٍّ بِالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ لَيْسَ بِحُجَّةِ لِأَحَدِ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْقَدَرَ نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَحْتَجُّ بِهِ فَمَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ فَحُجَّتُهُ دَاحِضَةٌ وَمَنْ اعْتَذَرَ بِالْقَدَرِ فَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَلَوْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ مَقْبُولًا لَقُبِلَ مِنْ إبْلِيسَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُصَاةِ وَلَوْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لِلْعِبَادِ لَمْ يُعَذَّبْ أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ ، وَلَوْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَمْ تُقْطَعْ يَدُ

سَارِقٍ وَلَا قُتِلَ قَاتِلٌ وَلَا أُقِيمَ حَدٌّ عَلَى ذِي جَرِيمَةٍ وَلَا جُوهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا أُمِرَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا نُهِيَ عَنْ الْمُنْكَرِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّ النَّبِيَّ سُئِلَ عَنْ هَذَا فَإِنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ ، وَنَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ ؟ قَالَ : لَا ، اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ } . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت مَا يَعْمَلُ النَّاسُ فِيهِ وَيَكْدَحُونَ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَطُوِيَتْ بِهِ الصُّحُفُ ؟ أَمْ فِيمَا يَسْتَأْنِفُونَ مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ ؟ - أَوْ كَمَا قِيلَ - فَقَالَ : بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَطُوِيَتْ بِهِ الصُّحُفُ فَقِيلَ فَفِيمَ الْعَمَلُ ؟ فَقَالَ : اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ } .
الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنْ يُقَالَ : إنَّ اللَّهَ عَلِمَ الْأُمُورَ وَكَتَبَهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ كَتَبَ أَنَّ فُلَانًا يُؤْمِنُ وَيَعْمَلُ صَالِحًا فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَفُلَانًا يَعْصِي وَيَفْسُقُ فَيَدْخُلُ النَّارَ ؛ كَمَا عَلِمَ وَكَتَبَ أَنَّ فُلَانًا يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً وَيَطَؤُهَا فَيَأْتِيهِ وَلَدٌ وَأَنَّ فُلَانًا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فَيَشْبَعُ ، وَيُرْوَى وَأَنَّ فُلَانًا يَبْذُرُ الْبَذْرَ فَيَنْبُتُ الزَّرْعُ . فَمَنْ قَالَ : إنْ كُنْت مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَأَنَا أَدْخُلُهَا بِلَا عَمَلٍ صَالِحٍ كَانَ قَوْلُهُ قَوْلًا بَاطِلًا مُتَنَاقِضًا ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ فَلَوْ دَخَلَهَا بِلَا عَمَلٍ كَانَ هَذَا مُنَاقِضًا لِمَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ.

وَمِثَالُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُ : أَنَا لَا أَطَأُ امْرَأَةً فَإِنْ كَانَ قَدْ قَضَى اللَّهُ لِي بِوَلَدِ فَهُوَ يُولَدُ فَهَذَا جَاهِلٌ فَإِنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى بِالْوَلَدِ قَضَى أَنَّ أَبَاهُ يَطَأُ امْرَأَةً فَتَحْبَلُ فَتَلِدُ ، وَأَمَّا الْوَلَدُ بِلَا حَبَلٍ وَلَا وَطْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْهُ وَلَمْ يَكْتُبْهُ كَذَلِكَ الْجَنَّةُ إنَّمَا أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا إيمَانٍ كَانَ ظَنُّهُ بَاطِلًا وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَعْمَلَهَا أَوْ لَا يَعْمَلَهَا كَانَ كَافِرًا وَاَللَّهُ قَدْ حَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ فَهَذَا الِاعْتِقَادُ يُنَاقِضُ الْإِيمَانَ الَّذِي لَا يَدْخُلُ صَاحِبُهُ النَّارَ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } فَمَنْ سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ الْحُسْنَى : فَلَا بُدَّ أَنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ مِنْ اللَّهِ حُسْنَى وَلَكِنْ إذَا سَبَقَتْ لِلْعَبْدِ مِنْ اللَّهِ سَابِقَةٌ اسْتَعْمَلَهُ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَصِلُ بِهِ إلَى تِلْكَ السَّابِقَةِ كَمَنْ سَبَقَ لَهُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يُولَدَ لَهُ وَلَدٌ . فَلَا بُدَّ أَنْ يَطَأَ امْرَأَةً يُحْبِلَهَا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدَّرَ الْأَسْبَابَ وَالْمُسَبَّبَاتِ فَسَبَقَ مِنْهُ هَذَا وَهَذَا ؛ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ أَحَدًا سَبَقَ لَهُ مِنْ اللَّهِ حُسْنَى بِلَا سَبَبٍ فَقَدْ ضَلَّ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ مُيَسِّرُ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَهُوَ قَدْ قَدَّرَ فِيمَا مَضَى هَذَا وَهَذَا .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : مَا لَنَا فِي جَمِيعِ أَفْعَالِنَا قُدْرَةٌ فَقَدْ كَذَبَ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُسْتَطِيعِ الْقَادِرِ وَغَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ فَقَالَ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً } . وَاَللَّهُ قَدْ أَثْبَتَ لِلْعَبْدِ مَشِيئَةً وَفِعْلًا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ : { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَالِقُهُ وَخَالِقُ كُلِّ مَا فِيهِ مِنْ قُدْرَةٍ وَمَشِيئَةٍ وَعَمَلٍ فَإِنَّهُ لَا رَبَّ غَيْرَهُ وَلَا إلَهَ سِوَاهُ وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ.

فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : الزِّنَا وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَعَاصِي مَكْتُوبٌ عَلَيْنَا ؛ فَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ لَكِنَّ هَذَا لَا يَنْفَعُهُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ خَيْرَهَا وَشَرَّهَا وَكَتَبَ مَا يَصِيرُونَ إلَيْهِ مِنْ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ . وَجَعَلَ الْأَعْمَالَ سَبَبًا لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَكَتَبَ ذَلِكَ كَمَا كَتَبَ الْأَمْرَاضَ وَجَعَلَهَا سَبَبًا لِلْمَوْتِ وَكَمَا كَتَبَ أَكْلَ السُّمِّ وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِلْمَرَضِ وَالْمَوْتِ فَمَنْ أَكَلَ السُّمَّ فَإِنَّهُ يَمْرَضُ أَوْ يَمُوتُ . وَاَللَّهُ قَدَّرَ وَكَتَبَ هَذَا وَهَذَا ؛ كَذَلِكَ مَنْ فَعَلَ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ مَا كُتِبَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِمَا كَتَبَهُ اللَّهُ مِنْ الْجَزَاءِ لِمَنْ عَمِلَ ذَلِكَ . وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ بِالْقَدَرِ عَلَى الْمَعَاصِي مِنْ جِنْسِ حُجَّةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَنْهُمْ : { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ } { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } .

فَصْلٌ :
وَمَنْ قَالَ : إنَّ آدَمَ مَا عَصَى فَهُوَ مُكَذِّبٌ لِلْقُرْآنِ وَيُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } وَالْمَعْصِيَةُ : هِيَ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ فَمَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ فَقَدْ عَصَى وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِيمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَقَضَاهُ وَهَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ الْمَعْصِيَةَ هِيَ الْخُرُوجُ عَنْ قَدَرِ اللَّهِ وَهَذَا لَا يُمْكِنُ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يَخْرُجُ عَنْ قَدَرِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْمَعْصِيَةُ إلَّا هَذَا فَلَا يَكُونُ إبْلِيسُ وَفِرْعَوْنُ وَقَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَجَمِيعُ الْكُفَّارِ عُصَاةً أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي قَدَرِ اللَّهِ ثُمَّ قَائِلُ هَذَا يُضْرَبُ وَيُهَانُ وَإِذَا تَظَلَّمَ مِمَّنْ فَعَلَ هَذَا بِهِ قِيلَ لَهُ : هَذَا الَّذِي فَعَلَ هَذَا لَيْسَ بِعَاصٍ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي قَدَرِ اللَّهِ كَسَائِرِ الْخَلْقِ وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ مُتَنَاقِضٌ لَا يَثْبُتُ عَلَى حَالٍ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : مَنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ ؟ وَاحْتِجَاجُهُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ . فَيُقَالُ لَهُ : لَا رَيْبَ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فِيهِمَا وَعْدٌ وَوَعِيدٌ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَالْعَبْدُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَدِّقَ بِهَذَا وَبِهَذَا لَا يُؤْمِنُ بِبَعْضِ وَيَكْفُرُ بِبَعْضِ فَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ أَرَادُوا أَنْ يُصَدِّقُوا بِالْوَعْدِ وَيُكَذِّبُوا بِالْوَعِيدِ . " والحرورية وَالْمُعْتَزِلَةُ " : أَرَادُوا أَنْ يُصَدِّقُوا بِالْوَعِيدِ دُونَ الْوَعْدِ وَكِلَاهُمَا أَخْطَأَ ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الْإِيمَانُ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَكَمَا أَنَّ مَا تَوَعَّدَ اللَّهُ بِهِ الْعَبْدَ مِنْ الْعِقَابِ قَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ بِشُرُوطِ : بِأَنْ لَا يَتُوبَ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَبِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ حَسَنَاتٌ تَمْحُو ذُنُوبَهُ ؛ فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ

السَّيِّئَاتِ وَبِأَلَّا يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } . فَهَكَذَا الْوَعْدُ لَهُ تَفْسِيرٌ وَبَيَانٌ . فَمَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَكَذَّبَ الرَّسُولَ فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ إنْ جَحَدَ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ . فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ثُمَّ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ ؛ فَإِنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَمَاتَ مُرْتَدًّا كَانَ فِي النَّارِ فَالسَّيِّئَاتُ تُحْبِطُهَا التَّوْبَةُ وَالْحَسَنَاتُ تُحْبِطُهَا الرِّدَّةُ وَمَنْ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُهُ بَلْ مَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ وَيُحْسِنُ إلَيْهِ بِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ . وَمَنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ . فَالزَّانِي وَالسَّارِقُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ . فَإِنَّ النَّارَ يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَهَؤُلَاءِ الْمَسْئُولُ عَنْهُمْ يُسَمَّوْنَ : الْقَدَرِيَّةَ المباحية الْمُشْرِكِينَ . وَقَدْ جَاءَ فِي ذَمِّهِمْ مِنْ الْآثَارِ مَا يَضِيقُ عَنْهُ هَذَا الْمَكَانُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ قَوْمٍ قَدْ خُصُّوا بِالسَّعَادَةِ وَقَوْمٍ قَدْ خُصُّوا بِالشَّقَاوَةِ وَالسَّعِيدُ لَا يَشْقَى وَالشَّقِيُّ لَا يَسْعَدُ وَفِي الْأَعْمَالِ لَا تُرَادُ لِذَاتِهَا بَلْ لِجَلْبِ السَّعَادَةِ وَدَفْعِ الشَّقَاوَةِ وَقَدْ سَبَقَنَا وُجُودُ الْأَعْمَالِ فَلَا وَجْهَ لِإِتْعَابِ النَّفْسِ فِي عَمَلٍ وَلَا كَفِّهَا عَنْ مَلْذُوذٍ فَإِنَّ الْمَكْتُوبَ فِي الْقِدَمِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ بَيِّنُوا ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " قَدْ أَجَابَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْن قَالَ : { قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعُلِمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قِيلَ : فَفِيمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ ؟ قَالَ : كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ } وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ { قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَوْ لِمَا يُسِّرَ لَهُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ { عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدؤلي قَالَ : قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْن : أَرَأَيْت مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ سَابِقٍ أَوْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ ؟ فَقُلْت : بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ قَالَ : فَقَالَ : أَفَلَا يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا . قَالَ : فَفَزِعْت مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا . وَقُلْت :

كُلُّ شَيْءٍ خَلْقُ اللَّهِ وَمِلْكُ يَدِهِ فَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ . فَقَالَ : يَرْحَمُك اللَّهُ إنِّي لَمْ أُرِدْ بِمَا سَأَلْتُك إلَّا لِأُجَوِّدَ عَقْلَك إنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ مزينة أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ مِنْ قَدَرٍ سَابِقٍ أَوْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ ؟ فَقَالَ : لَا بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ . وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } } . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : { جَاءَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلِقْنَا الْآنَ فِيمَ الْعَمَلُ الْيَوْمُ ؟ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ ؟ أَمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ ؟ قَالَ : لَا ؛ بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ قَالَ : فَفِيمَ الْعَمَلُ ؟ قَالَ زُهَيْرٌ : ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو الزُّبَيْرِ بِشَيْءِ لَمْ أَفْهَمْهُ فَسَأَلْت : عَمَّا قَالَ ؟ فَقَالَ : اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ } وَفِي لَفْظٍ آخَرَ { فَقَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلٌّ عَامِلٌ مُيَسَّرٌ بِعَمَلِهِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { كُنَّا فِي جِنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ : مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلَّا وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ مَكَانَهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ إلَّا وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً فَقَالَ : رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ مَنْ كَانَ

مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَقَالَ : اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فسييسرون لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فسييسرون إلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ . ثُمَّ قَرَأَ { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى } { وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى } { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } { وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى } { وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى } { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } } وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ { أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ ؟ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ سَيَصِيرُ إلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ سَيَصِيرُ إلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ . وَقَالَ : أَمَّا عَمَلُ أَهْلِ السَّعَادَةِ } الْحَدِيثَ . وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ : مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ إلَّا وَقَدْ عُلِمَ مَنْزِلُهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَ نَعْمَلُ أو لَا نَتَّكِلُ ؟ قَالَ : لَا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ ثُمَّ قَرَأَ { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى } { وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى } إلَى قَوْلِهِ : { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } } . فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَغَيْرِهَا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَيْضًا مِنْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَقَدَّمَ عِلْمُهُ وَكِتَابُهُ وَقَضَاؤُهُ بِمَا سَيَصِيرُ إلَيْهِ الْعِبَادُ مِنْ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ كَمَا تَقَدَّمَ عِلْمُهُ وَكِتَابُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ - : إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي

بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُكْتَبُ : عَمَلُهُ ، وَأَجَلُهُ ، وَرِزْقُهُ ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَوَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَرَفَعَ الْحَدِيثَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهُ قَالَ الْمَلَكُ أَيْ رَبِّ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى ؟ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ؟ فَمَا الرِّزْقُ ؟ فَمَا الْأَجَلُ ؟ فَيُكْتَبُ ذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ } . وَهَذَا الْمَعْنَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أسيد الْغِفَارِيِّ أَيْضًا . وَالنُّصُوصُ وَالْآثَارُ فِي تَقَدُّمِ عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابَتِهِ وَقَضَائِهِ وَتَقْدِيرِهِ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ خَلْقِهَا وَأَنْوَاعِهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا . وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي وُجُودَ الْأَعْمَالِ الَّتِي بِهَا تَكُونُ السَّعَادَةُ وَالشَّقَاوَةُ وَأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَإِنَّهُ يُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَإِنَّهُ يُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ وَقَدْ نُهِيَ أَنْ يَتَّكِلَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْقَدَرِ السَّابِقِ ، وَيَدَعَ الْعَمَلَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ اتَّكَلَ

عَلَى الْقَدَرِ السَّابِقِ ، وَتَرَكَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ هُوَ مِنْ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَانَ تَرْكُهُمْ لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعَمَلِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقْدُورِ الَّذِي يسروا بِهِ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَإِنَّ أَهْلَ السَّعَادَةِ هُمْ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكُونَ الْمَحْظُورَ فَمَنْ تَرَكَ الْعَمَلَ الْوَاجِبَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ وَفَعَلَ الْمَحْظُورَ مُتَّكِلًا عَلَى الْقَدَرِ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ الْمُيَسَّرِينَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ . وَهَذَا الْجَوَابُ الَّذِي أَجَابَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَايَةِ السَّدَادِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا أَجَابَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ { أَنَّهُ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَرَأَيْت أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا ؟ وَرُقًى نسترقي بِهَا ؟ وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ : هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ } . وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - هُوَ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ يَكْتُبُهَا فَإِذَا كَانَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا تَكُونُ بِأَسْبَابِ مِنْ عَمَلٍ وَغَيْرِهِ وَقَضَى أَنَّهَا تَكُونُ كَذَلِكَ وَقَدَّرَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ تَكُونُ بِدُونِ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ أَسْبَابًا وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْحَوَادِثِ . مِثَالُ ذَلِكَ : إذَا عَلِمَ اللَّهُ وَكَتَبَ أَنَّهُ سَيُولَدُ لِهَذَيْنِ وَلَدٌ وَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ مُعَلَّقًا بِاجْتِمَاعِ الْأَبَوَيْنِ عَلَى النِّكَاحِ وَإِنْزَالِ الْمَاءِ الْمَهِينِ الَّذِي يَنْعَقِدُ مِنْهُ الْوَلَدُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْوَلَدِ بِدُونِ السَّبَبِ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ وُجُودُ الْوَلَدِ وَالْأَسْبَابُ وَإِنْ كَانَتْ " نَوْعَيْنِ " مُعْتَادَةٌ وَغَرِيبَةٌ .

فَالْمُعْتَادَةُ : كَوِلَادَةِ الْآدَمِيِّ مِنْ أَبَوَيْنِ وَالْغَرِيبَةُ : كَوِلَادَةِ الْإِنْسَانِ مِنْ أُمٍّ فَقَطْ كَمَا وُلِدَ عِيسَى أَوْ مِنْ أَبٍ فَقَطْ كَمَا وُلِدَتْ حَوَّاءُ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَبَوَيْنِ كَمَا خُلِقَ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ مِنْ طِينٍ . فَجَمِيعُ الْأَسْبَابِ قَدْ تَقَدَّمَ عِلْمُ اللَّهِ بِهَا وَكِتَابَتُهُ لَهَا وَتَقْدِيرُهُ إيَّاهَا وَقَضَاؤُهُ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ رَبْطُ ذَلِكَ بِالْمُسَبَّبَاتِ كَذَلِكَ أَيْضًا الْأَسْبَابُ الَّتِي بِهَا يُخْلَقُ النَّبَاتُ مِنْ إنْزَالِ الْمَطَرِ وَغَيْرِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ } وَقَالَ : { فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } . وَقَالَ : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَجَمِيعُ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ مَعْلُومٌ مَقْضِيٌّ مَكْتُوبٌ قَبْلَ تَكْوِينِهِ ؛ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا عُلِمَ وَكُتِبَ أَنَّهُ يَكْفِي ذَلِكَ فِي وُجُودِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى مَا بِهِ يَكُونُ مِنْ الْفَاعِلِ الَّذِي يَفْعَلُهُ ، وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ ؛ فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ ضَلَالًا مُبِينًا ؛ مِنْ وَجْهَيْنِ . ( أَحَدُهُمَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ جَعَلَ الْعِلْمَ جَهْلًا ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ يُطَابِقُ الْمَعْلُومَ ؛ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ الْمُكَوِّنَاتِ تَكُونُ بِمَا يَخْلُقُهُ مِنْ الْأَسْبَابِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْوَاقِعُ فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ يَعْلَمُ شَيْئًا بِدُونِ الْأَسْبَابِ ؛ فَقَدْ قَالَ عَلَى اللَّهِ الْبَاطِلَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ وُلِدَ بِلَا أَبَوَيْنِ وَأَنَّ هَذَا النَّبَاتَ نَبَتَ بِلَا مَاءٍ فَإِنَّ تَعَلُّقَ الْعِلْمِ بِالْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ سَوَاءٌ فَكَمَا أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ الْمَاضِي بِعِلْمِ اللَّهِ بِوُقُوعِهِ بِدُونِ الْأَسْبَابِ يَكُونُ مُبْطِلًا ؛ فَكَذَلِكَ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ : إنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ طِينٍ وَعَلِمَ

أَنَّهُ يَتَنَاسَلُ النَّاسُ مِنْ غَيْرِ تَنَاكُحٍ ؛ وَأَنَّهُ أَنْبَتَ الزُّرُوعَ مِنْ غَيْرِ مَاءٍ وَلَا تُرَابٍ فَهُوَ بَاطِلٌ ظَاهِرٌ بُطْلَانُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ وَكَذَلِكَ إخْبَارُهُ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ . وَكَذَلِكَ " الْأَعْمَالُ " هِيَ سَبَبٌ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ . فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ آدَمَ مِنْ الْجَنَّةِ بِلَا ذَنْبٍ وَأَنَّهُ قَدَّرَ ذَلِكَ أَوْ قَالَ : إنَّهُ غَفَرَ لِآدَمَ بِلَا تَوْبَةٍ وَإِنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ كَانَ هَذَا كَذِبًا وَبُهْتَانًا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } { فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } فَإِنَّهُ يَكُونُ صَادِقًا فِي ذَلِكَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلِمَ مَا يَكُونُ مِنْ آدَمَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ " قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ " فَإِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ أَهْلَكَ قَوْمَ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ وَلُوطٍ وَمَدْيَنَ وَغَيْرِهِمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنَّهُ نَجَّى الْأَنْبِيَاءَ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ بِإِيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ كَمَا قَالَ : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } وَقَالَ : { فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا } الْآيَةَ وَقَالَ : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ } وَقَالَ : { فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ } وَقَالَ : { فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ } وَقَالَ : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } { وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } وَقَالَ : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } وَقَالَ :

{ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَقَالَ : { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } وَقَالَ : { إلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ } { نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ } وَقَالَ : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . وَكَذَلِكَ خَبَرُهُ عَمَّا يَكُونُ مِنْ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ بِالْأَعْمَالِ كَقَوْلِهِ : { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } وقَوْله تَعَالَى { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } وَقَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } وَقَوْلِهِ : { إنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ } وَقَوْلِهِ : { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا } الْآيَاتِ . وَقَوْلِهِ : { هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } وَقَوْلِهِ : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } { قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } { وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ } { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ } { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ } { حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } وَأَمْثَالُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ جِدًّا . بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِيمَا يَذْكُرُهُ مِنْ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ وَشَقَاوَتِهَا : أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَالْمَنْهِيِّ عَنْهَا كَمَا يَذْكُرُ نَحْوَ ذَلِكَ فِيمَا يَقْضِيهِ مِنْ الْعُقُوبَاتِ وَالْمَثُوبَاتِ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا .

وَ الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الشَّيْءَ سَيَكُونُ وَالْخَبَرُ عَنْهُ بِذَلِكَ وَكِتَابَةُ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ اسْتِغْنَاءَ ذَلِكَ عَمَّا بِهِ يَكُونُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَا يَتِمُّ إلَّا بِهَا كَالْفَاعِلِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ ؛ فَإِنَّ اعْتِقَادَ هَذَا غَايَةٌ فِي الْجَهْلِ إذْ هَذَا الْعِلْمُ لَيْسَ مُوجِبًا بِنَفْسِهِ لِوُجُودِ الْمَعْلُومِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ بَلْ هُوَ مُطَابِقٌ لَهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لَا يُكْسِبُهُ صِفَةً وَلَا يَكْتَسِبُ مِنْهُ صِفَةً بِمَنْزِلَةِ عِلْمِنَا بِالْأُمُورِ الَّتِي قَبْلَنَا كَالْمَوْجُودَاتِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ وُجُودِنَا مِثْلَ عِلْمِنَا بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فَإِنَّ هَذَا الْعِلْمَ لَيْسَ مُؤَثِّرًا فِي وُجُودِ الْمَعْلُومِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ كَانَ مِنْ عُلُومِنَا مَا يَكُونُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي وُجُودِ الْمَعْلُومِ كَعِلْمِنَا بِمَا يَدْعُونَا إلَى الْفِعْلِ وَيُعَرِّفُنَا صِفَتَهُ وَقَدْرَهُ ؛ فَإِنَّ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ لَا تَصْدُرُ إلَّا مِمَّنْ لَهُ شُعُورٌ وَعِلْمٌ إذْ الْإِرَادَةُ مَشْرُوطَةٌ بِوُجُودِ الْعِلْمِ وَهَذَا التَّفْصِيلُ الْمَوْجُودُ فِي عِلْمِنَا بِحَيْثُ يَنْقَسِمُ إلَى عِلْمٍ فِعْلِيٍّ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْمَعْلُومِ وَعِلْمٍ انْفِعَالِيٍّ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي وُجُودِ الْمَعْلُومِ هُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ فِي الْعِلْمِ . فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : " الْعِلْمُ " صِفَةٌ انْفِعَالِيَّةٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْمَعْلُومِ ؛ كَمَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ هُوَ صِفَةٌ فِعْلِيَّةٌ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْمَعْلُومِ كَمَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ . وَالصَّوَابُ أَنَّهُ " نَوْعَانِ " - كَمَا بَيَّنَّاهُ - وَهَكَذَا عِلْمُ الرَّبِّ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فَإِنَّ عِلْمَهُ بِنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي وُجُودِ الْمَعْلُومِ وَأَمَّا عِلْمُهُ بِمَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي خَلَقَهَا بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ فَهُوَ مِمَّا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي وُجُودِ مَعْلُومَاتِهِ وَالْقَوْلُ فِي

الْكَلَامِ وَالْكِتَابِ كَالْقَوْلِ فِي الْعِلْمِ : فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - إذَا خَلَقَ الشَّيْءَ خَلَقَهُ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَلِذَلِكَ كَانَ الْخَلْقُ مُسْتَلْزِمًا لِلْعِلْمِ وَدَلِيلًا عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } . وَأَمَّا إذَا أَخْبَرَ بِمَا سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ فَعِلْمُهُ وَخَبَرُهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ هُوَ الْمُؤَثِّرَ فِي وُجُودِهِ لِعِلْمِهِ وَخَبَرِهِ بِهِ بَعْدَ وُجُودِهِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) : أَنَّ الْعِلْمَ وَالْخَبَرَ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ كَالْعِلْمِ وَالْخَبَرِ عَنْ الْمَاضِي . ( الثَّانِي ) : أَنَّ الْعِلْمَ الْمُؤَثِّرَ هُوَ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْإِرَادَةِ الْمُسْتَلْزَمَةِ لِلْخَلْقِ لَيْسَ هُوَ مَا يَسْتَلْزِمُ الْخَبَرَ وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الْعِلْمِ الْعَمَلِيِّ وَالْعِلْمِ الْخَبَرِيِّ . ( الثَّالِثُ ) أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْخَبَرَ بِمَا سَيَكُونُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي وُجُودِ الْمَعْلُومِ الْمُخْبَرِ بِهِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ فَلَا يَكُونُ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ مُوجِبًا لَهُ بِدُونِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْخَبَرَ وَالْكِتَابَ لَا يُوجِبُ الِاكْتِفَاءَ بِذَلِكَ عَنْ الْفَاعِلِ الْقَادِرِ الْمُرِيدِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يَعْلَمُ وَيُخْبِرُ بِمَا سَيَكُونُ مِنْ مَفْعُولَاتِ الرَّبِّ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيُقِيمُ الْقِيَامَةَ وَيُخْبِرُ بِذَلِكَ وَمَعَ ذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ وَالْخَبَرَ لَا يُوجِبُ وُقُوعَ الْمَعْلُومِ الْمُخْبَرِ بِهِ بِدُونِ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ أَسْبَابًا لَهُ . إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَقَوْلُ السَّائِلِ : السَّعِيدُ لَا يَشْقَى ، وَالشَّقِيُّ لَا يَسْعَدُ

كَلَامٌ صَحِيحٌ : أَيْ مَنْ قَدَّرَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ سَعِيدًا يَكُونُ سَعِيدًا لَكِنْ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي جَعَلَهُ يَسْعَدُ بِهَا وَالشَّقِيُّ لَا يَكُونُ شَقِيًّا إلَّا بِالْأَعْمَالِ الَّتِي جَعَلَهُ يَشْقَى بِهَا الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الِاتِّكَالُ عَلَى الْقَدَرِ وَتَرْكُ الْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَالْأَعْمَالُ لَا تُرَادُ لِذَاتِهَا بَلْ لِجَلْبِ السَّعَادَةِ وَدَفْعِ الشَّقَاوَةِ وَقَدْ سَبَقَنَا وُجُودُ الْأَعْمَالِ فَيُقَالُ لَهُ : السَّابِقُ نَفْسُ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ أَوْ تَقْدِيرُ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ عِلْمًا وَقَضَاءً وَكِتَابًا هَذَا مَوْضِعٌ يَشْتَبِهُ وَيَغْلَطُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ حَيْثُ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ ثُبُوتِ الشَّيْءِ فِي الْعِلْمِ وَالتَّقْدِيرِ وَبَيْنَ ثُبُوتِهِ فِي الْوُجُودِ وَالتَّحْقِيقِ . فَإِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْعِلْمُ بِهِ وَالْخَبَرُ عَنْهُ وَكِتَابَتُهُ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ . وَلِهَذَا يَغْلَطُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مَيْسَرَةُ قَالَ : { قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ متى كَنْت نَبِيًّا ؟ وَفِي رِوَايَةٍ - مَتَى كُتِبْت نَبِيًّا ؟ قَالَ : وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ } . فَيَظُنُّونَ أَنَّ ذَاتَه وَنُبُوَّتَهُ وُجِدَتْ حِينَئِذٍ وَهَذَا جَهْلٌ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا نَبَّأَهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ مِنْ عُمُرِهِ وَقَدْ قَالَ لَهُ : { بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } وَقَالَ : { وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ الْمَلَكَ قَالَ لَهُ : - حِينَ جَاءَهُ - اقْرَأْ فَقَالَ : لَسْت بِقَارِئِ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - } .

وَمَنْ قَالَ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ نَبِيًّا قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ نُبُوَّتَهُ فَأَظْهَرَهَا وَأَعْلَنَهَا بَعْدَ خَلْقِ جَسَدِ آدَمَ وَقَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ يَكْتُبُ رِزْقَ الْمَوْلُودِ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقَاوَتَهُ وَسَعَادَتَهُ بَعْدَ خَلْقِ جَسَدِهِ وَقَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ كَمَا فِي حَدِيثِ العرباض بْنِ سَارِيَةَ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ } وَفِي رِوَايَةٍ { إنِّي عَبْدُ اللَّهِ لَمَكْتُوبٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لمجندل فِي طِينَتِهِ وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِأَوَّلِ ذَلِكَ دَعْوَةُ أَبِي إبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى وَرُؤْيَا أُمِّي رَأَتْ حِينَ وَلَدَتْنِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ } . وَكَثِيرٌ مِنْ الْجُهَّالِ الْمُصَنِّفِينَ وَغَيْرِهِمْ يَرْوِيهِ { كُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ } { وَآدَمُ لَا مَاءَ وَلَا طِينَ } وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ وُجُودَهُ بِعَيْنِهِ وَآدَمُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ بَلْ الْمَاءُ بَعْضُ الطِّينِ لَا مُقَابِلُهُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ قَالَ : السَّابِقُ نَفْسُ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ فَقَدْ كَذَبَ ؛ فَإِنَّ السَّعَادَةَ إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّخْصِ الَّذِي هُوَ السَّعِيدُ وَكَذَلِكَ الشَّقَاوَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الشَّقِيِّ كَمَا أَنَّ الْعَمَلَ وَالرِّزْقَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْعَامِلِ وَلَا يَصِيرُ رِزْقًا إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْمُرْتَزِقِ ، وَإِنَّمَا السَّابِقُ هُوَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ وَتَقْدِيرُهُ لَا نَفْسُهُ وَعَيْنُهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْعَمَلُ - أَيْضًا - سَابِقٌ كَسَبْقِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَكِلَاهُمَا مَعْلُومٌ مُقَدَّرٌ وَهُمَا

مُتَأَخِّرَانِ فِي الْوُجُودِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلِمَ وَقَدَّرَ أَنَّ هَذَا يَعْمَلُ كَذَا فَيَسْعَدُ بِهِ وَهَذَا يَعْمَلُ كَذَا فَيَشْقَى بِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ الصَّالِحَ يَجْلِبُ السَّعَادَةَ كَمَا يَعْلَمُ سَائِرَ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا يَأْكُلُ السُّمَّ فَيَمُوتُ وَأَنَّ هَذَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ فَيَشْبَعُ وَيَشْرَبُ الشَّرَابَ فَيُرْوَى وَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِ السَّائِلِ : فَلَا وَجْهَ لِإِتْعَابِ النَّفْسِ فِي عَمَلٍ وَلَا لِكَفِّهَا عَنْ مَلْذُوذَاتٍ وَالْمَكْتُوبُ فِي الْقِدَمِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ . وَذَلِكَ أَنَّ الْمَكْتُوبَ فِي الْقِدَمِ هُوَ سَعَادَةُ السَّعِيدِ لِمَا يُسِّرَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَشَقَاوَةُ الشَّقِيِّ لِمَا يُسِّرَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ السَّيِّئِ لَيْسَ الْمَكْتُوبُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ . فَمَا أُمِرَ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ عَمَلٍ فِيهِ تَعَبٌ أَوْ امْتِنَاعٌ عَنْ شَهْوَةٍ هُوَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُنَالُ بِهَا السَّعَادَةُ . وَالْمُقَدَّرُ الْمَكْتُوبُ هُوَ السَّعَادَةُ وَالْعَمَلُ الَّذِي بِهِ يَنَالُ السَّعَادَةَ وَإِذَا تَرَكَ الْعَبْدُ مَا أُمِرَ بِهِ مُتَّكِلًا عَلَى الْكِتَابِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الْمَكْتُوبِ الْمَقْدُورِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ شَقِيًّا وَكَانَ قَوْلُهُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ : أَنَا لَا آكُلُ وَلَا أَشْرَبُ . فَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَضَى بِالشِّبَعِ وَالرِّيِّ حَصَلَ وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ أَوْ يَقُولُ لَا أُجَامِعُ امْرَأَتِي فَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَضَى لِي بِوَلَدِ فَإِنَّهُ يَكُونُ . وَكَذَلِكَ مَنْ غَلِطَ فَتَرَكَ الدُّعَاءَ أَوْ تَرَكَ الِاسْتِعَانَةَ وَالتَّوَكُّلَ ظَانًّا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَقَامَاتِ الْخَاصَّةِ نَاظِرًا إلَى الْقَدَرِ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ جَاهِلُونَ ضَالُّونَ ؛ وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ

بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجَزَنَّ ، وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ : قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ } . فَأَمَرَهُ بِالْحِرْصِ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ وَنَهَاهُ عَنْ الْعَجْزِ الَّذِي هُوَ الِاتِّكَالُ عَلَى الْقَدَرِ ثُمَّ أَمَرَهُ إذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ أَنْ لَا يَيْأَسَ عَلَى مَا فَاتَهُ بَلْ يَنْظُرَ إلَى الْقَدَرِ وَيُسَلِّمَ الْأَمْرَ لِلَّهِ فَإِنَّهُ هُنَا لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ : الْأُمُورُ " أَمْرَانِ " أَمْرٌ فِيهِ حِيلَةٌ وَأَمْرٌ لَا حِيلَةَ فِيهِ فَمَا فِيهِ حِيلَةٌ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ وَمَا لَا حِيلَةَ فِيهِ لَا يَجْزَعُ مِنْهُ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد { أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى عَلَى أَحَدِهِمَا فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَقَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْك بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَك أَمْرٌ فَقُلْ : حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِي ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُصَحِّفُهُ فَيَقُولُ الْفَاجِرُ وَإِنَّمَا هُوَ الْعَاجِزُ

فِي مُقَابَلَةِ الْكَيِّسِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرِ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيِّسِ } .
وَهُنَا سُؤَالٌ يَعْرِضُ لِكَثِيرِ مِنْ النَّاسِ وَهُوَ : أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَكْتُوبُ وَاقِعًا لَا مَحَالَةَ فَلَوْ لَمْ يَأْتِ الْعَبْدُ بِالْعَمَلِ هَلْ كَانَ الْمَكْتُوبُ يَتَغَيَّرُ ؟ وَهَذَا السُّؤَالُ يُقَالُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَقْتُولِ - يُقَالُ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ هَلْ كَانَ يَمُوتُ ؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَيُقَالُ هَذَا لَوْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا لَمَا كَانَ سَعِيدًا وَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلًا سَيِّئًا لَمَا كَانَ شَقِيًّا وَهَذَا كَمَا يُقَالُ : إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْعِلْمِ وَالْخَبَرِ بِمَا لَا يَكُونُ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ كَقَوْلِهِ : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } وَقَوْلِهِ : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ } وَقَوْلِهِ : { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلَّا خَبَالًا } وَقَوْلِهِ { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ يُقَالُ لِلْعَبْدِ فِي قَبْرِهِ حِينَ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى الْجَنَّةِ وَإِلَى النَّارِ . وَيُقَالُ : هَذَا مَنْزِلُك وَلَوْ عَمِلْت كَذَا وَكَذَا أَبْدَلَك اللَّهُ بِهِ مَنْزِلًا آخَرَ . وَكَذَلِكَ يُقَالُ هَذَا لَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ هَذَا لَمْ يَمُتْ بَلْ كَانَ يَعِيشُ إلَّا أَنْ يُقَدَّرَ لَهُ سَبَبٌ آخَرُ يَمُوتُ بِهِ وَاللَّازِمُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ خِلَافُ الْوَاقِعِ الْمَعْلُومِ وَالْمَقْدُورِ وَالتَّقْدِيرُ لِلْمُمْتَنِعِ قَدْ يَلْزَمُهُ حُكْمٌ مُمْتَنِعٌ وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ .

وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمَ بَدْرٍ فَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ بِمَصَارِعِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ : هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ ثُمَّ إنَّهُ دَخَلَ الْعَرِيشَ وَجَعَلَ يَجْتَهِدُ فِي الدُّعَاءِ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي } . وَذَلِكَ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِالنَّصْرِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَفْعَلَ السَّبَبَ الَّذِي بِهِ يُنْصَرُ وَهُوَ الِاسْتِغَاثَةُ بِاَللَّهِ . وَقَدْ غَلِطَ بَعْضُ النَّاسِ هُنَا وَظَنَّ أَنَّ الدُّعَاءَ الَّذِي عُلِمَ وُقُوعُ مَضْمُونِهِ كَالدُّعَاءِ الَّذِي فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَا يَشْرَعُ إلَّا عِبَادَةً مَحْضَةً وَهَذَا كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : إنَّ الدُّعَاءَ لَيْسَ هُوَ إلَّا عِبَادَةً مَحْضَةً ؛ لِأَنَّ الْمَقْدُورَ كَائِنٌ دَعَا أَوْ لَمْ يَدْعُ . فَيُقَالُ لَهُ : إذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ جَعَلَ الدُّعَاءَ سَبَبًا لِنَيْلِ الْمَطْلُوبِ الْمُقَدَّرِ فَكَيْفَ يَقَعُ بِدُونِ الدُّعَاءِ ؟ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِمْ : أَفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ ؟ وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ ، وَكَتَبَ أَنَّهُ يَخْلُقُ الْخَلْقَ وَيَرْزُقُهُمْ وَيُمِيتُهُمْ وَيُحْيِيهِمْ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ تَقَدُّمَ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ مُغْنٍ لِهَذِهِ الْكَائِنَاتِ عَنْ خَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَكَذَلِكَ عِلْمُ اللَّهِ بِمَا يَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَنَّهُمْ يَسْعَدُونَ بِهَا وَيَشْقُونَ كَمَا يَعْلَمُ - مَثَلًا - أَنَّ الرَّجُلَ يَمْرَضُ أَوْ يَمُوتُ بِأَكْلِهِ السُّمَّ أَوْ جَرْحِهِ نَفْسَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ .

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَجُمْهُورِ " الطَّوَائِفِ " مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا نَازَعَ فِي ذَلِكَ غُلَاةُ الْقَدَرِيَّةِ وَظَنُّوا أَنَّ تَقَدُّمَ الْعِلْمِ يَمْنَعُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَصَارُوا فَرِيقَيْنِ : ( فَرِيقٌ أَقَرُّوا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَأَنْكَرُوا أَنْ يَتَقَدَّمَ بِذَلِكَ قَضَاءٌ وَقَدَرٌ وَكِتَابٌ وَهَؤُلَاءِ نَبَغُوا فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَلَمَّا سَمِعَ الصَّحَابَةُ بِدَعَهُمْ تَبَرَّءُوا مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنْهُمْ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَوَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ وَغَيْرُهُمْ وَقَدْ نَصَّ " الْأَئِمَّةُ " كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد عَلَى كُفْرِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ عِلْمَ اللَّهِ الْقَدِيمِ . وَ ( الْفَرِيقُ الثَّانِي : مَنْ يُقِرُّ بِتَقَدُّمِ عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ لَكِنْ يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ يُغْنِي عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْعَمَلِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْعَمَلِ بَلْ مَنْ قُضِيَ لَهُ بِالسَّعَادَةِ دَخَلَ الْجَنَّةَ بِلَا عَمَلٍ أَصْلًا وَمَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالشَّقَاوَةِ شَقِيَ بِلَا عَمَلٍ فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا طَائِفَةً مَعْدُودَةً مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْمَقَالَاتِ وَإِنَّمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ جُهَّالِ النَّاسِ . وَهَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ أُولَئِكَ وَأَضَلُّ سَبِيلًا وَمَضْمُونُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ تَعْطِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَهَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِكَثِيرِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ سَأَلَ السَّائِلُ عَنْ مَقَالَتِهِمْ . وَأَمَّا " جُمْهُورُ الْقَدَرِيَّةِ " فَهُمْ يُقِرُّونَ بِالْعِلْمِ وَالْكِتَابِ الْمُتَقَدِّمِ لَكِنْ يُنْكِرُونَ

أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَإِرَادَةَ الْكَائِنَاتِ وَتُعَارِضُهُمْ الْقَدَرِيَّةُ الْمُجْبِرَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَيْسَ لِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ وَلَا إرَادَةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَلَا هُوَ فَاعِلٌ حَقِيقَةً وَكُلُّ هَؤُلَاءِ مُبْتَدِعَةٌ ضُلَّالٌ . وَشَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَجْعَلُ خَلْقَ الْأَفْعَالِ وَإِرَادَةَ اللَّهِ الْكَائِنَاتِ مَانِعَةً مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } فَهَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَضْمُونُ قَوْلِهِمْ : تَعْطِيلُ جَمِيعِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ كُلُّهُمْ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . ثُمَّ قَوْلُهُمْ مُتَنَاقِضٌ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْيَى مَعَهُ بَنُو آدَمَ لِاسْتِلْزَامِهِ فَسَادَ الْعِبَادِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعِبَادِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ كَانَ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَهْوَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ } فَإِذَا قِيلَ : إنَّهُ يُمَكِّنُ كُلَّ أَحَدٍ مِمَّا يَهْوَاهُ مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ ، وَفِعْلِ الْفَوَاحِشِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ غَايَةَ الْفَسَادِ وَلِهَذَا لَا تَعِيشُ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي آدَمَ إلَّا بِنَوْعِ مِنْ الشَّرِيعَةِ الَّتِي فِيهَا أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَلَوْ كَانَتْ بِوَضْعِ بَعْضِ الْمُلُوكِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ فَسَادٍ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ يُبَيِّنُ أَنَّ تَقَدُّمَ عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ لَا يَمْنَعُ تَوَقُّفَ ذَلِكَ عَلَى الْأَعْمَالِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي

جَعَلَ اللَّهُ بِهَا تِلْكَ الْأُمُورَ وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَامِلًا لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي بِهِ يُسْعِدُهُ اللَّهُ وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ مُرِيدًا لَهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ - وَإِنْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي تَسْمِيَةِ ذَلِكَ جَبْرًا - لَكِنْ هَلْ يَكُونُ الْعَبْدُ قَادِرًا عَلَى غَيْرِ الْفِعْلِ الَّذِي فَعَلَهُ (*) الَّذِي سَبَقَ بِهِ الْعِلْمُ وَالْكِتَابُ فَهَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ كَمَا تَنَازَعُوا فِي أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ هَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ أَوْ يَجِبُ أَنْ تَتَقَدَّمَهُ فَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ : إنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ يَقُولُ الْعَبْدُ لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُ مَا يَفْعَلُهُ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ بِهِ الْعِلْمُ وَالْكِتَابُ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَدْ تَتَقَدَّمُ الْفِعْلَ وَقَدْ تُوجَدُ دُونَ الْفِعْلِ فَإِنَّهُ يَقُولُ : إنَّهُ يَكُونُ مُسْتَطِيعًا لِمَا لَمْ يَفْعَلْهُ وَلِمَا عَلِمَ وَكَتَبَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ .
وَفَصْلُ الْخِطَابِ أَنَّ " الِاسْتِطَاعَةَ " جَاءَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى نَوْعَيْنِ : الِاسْتِطَاعَةُ الْمُشْتَرَطَةُ لِلْفِعْلِ وَهِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَقَوْلِهِ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } الْآيَةَ { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } وَقَوْلِهِ { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَان بْنِ الأزارقة : { صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا . فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } . فَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ فِي هَذِهِ النُّصُوصِ لَوْ كَانَتْ لَا تُوجَدُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ لَوَجَبَ أَلَّا يَجِبَ الْحَجُّ إلَّا عَلَى مَنْ حَجَّ وَلَا يَجِبُ صِيَامُ شَهْرَيْنِ إلَّا عَلَى مَنْ

صَامَ وَلَا الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ إلَّا عَلَى مَنْ قَامَ وَكَانَ الْمَعْنَى : عَلَى الَّذِينَ يَصُومُونَ الشَّهْرَ طَعَامُ مِسْكِينٍ وَالْآيَةُ إنَّمَا أُنْزِلَتْ لَمَّا كَانُوا مُخَيَّرِينَ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ . وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا الْفِعْلُ قَدْ يُقَالُ هِيَ المقترنة بِالْفِعْلِ الْمُوجِبَةُ لَهُ - وَهِيَ النَّوْعُ الثَّانِي - وَقَدْ ذَكَرُوا فِيهَا قَوْله تَعَالَى { الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } وقَوْله تَعَالَى { يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ } وَنَحْوَ ذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ } { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ } فَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الْمَنْفِيَّةَ هُنَا - سَوَاءٌ كَانَ نَفْيُهَا خَبَرًا أَوْ ابْتِدَاءً - لَيْسَتْ هِيَ الِاسْتِطَاعَةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّ تِلْكَ إذَا انْتَفَتْ انْتَفَى الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالْحَمْدُ وَالذَّمُّ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَأْمُورُونَ مَنْهِيُّونَ مَوْعُودُونَ مُتَوَعِّدُونَ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَنْفِيَّةَ هُنَا لَيْسَتْ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : الِاسْتِطَاعَةُ هُنَا كَالِاسْتِطَاعَةِ الْمَنْفِيَّةِ فِي قَوْلِ الْخَضِرِ لِمُوسَى { إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } فَإِنَّ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةَ الْمَنْفِيَّةَ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا مُجَرَّدَ الْمُقَارَنَةِ فِي الْفَاعِلِ وَالتَّارِكِ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمَذْمُومِينَ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ

وَلَا بَيْنَ الْخَضِرِ وَمُوسَى ؛ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ فَعَلَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَا تَكُونُ الْمُقَارَنَةُ مَوْجُودَةً قَبْلَ فِعْلِهِ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةَ إنَّمَا نُفِيَتْ عَنْ التَّارِكِ لَا عَنْ الْفَاعِلِ فَعُلِمَ أَنَّهَا مُضَادَّةٌ لِمَا يَقُومُ بِالْعَبْدِ مِنْ الْمَوَانِعِ الَّتِي تَصُدُّ قَلْبَهُ عَنْهُ إرَادَةُ الْفِعْلِ وَعَمَلُهُ وَبِكُلِّ حَالٍ فَهَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي حَقِّ مَنْ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ بَلْ وَقُضِيَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ . وَإِذَا عُرِفَ هَذَا التَّقْسِيمُ - أَنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرَ مَا فَعَلَ ، وَلَا يَسْتَطِيعُ خِلَافَ الْمَعْلُومِ الْمُقَدَّرِ ، وَإِطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّ اسْتِطَاعَةَ الْفَاعِلِ وَالتَّارِكِ سَوَاءٌ وَأَنَّ الْفَاعِلَ لَا يَخْتَصُّ عَنْ التَّارِكِ بِاسْتِطَاعَةِ خَاصَّةٍ عُرِفَ أَنَّ كِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ خَطَأٌ وَبِدْعَةٌ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَجُمْهُورُ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى مَا عَلِمَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَعَلَى مَا يَمْتَنِعُ صُدُورُهُ عَنْهُ لِعَدَمِ إرَادَتِهِ لَا لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ ؛ وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ والمتفلسفة الصَّابِئَةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ انْحِصَارَ الْمَقْدُورِ فِي الْمَوْجُودِ ، وَيَحْصُرُونَ قُدْرَتَهُ فِيمَا شَاءَهُ وَعَلِمَ وُجُودَهُ ؛ دُونَ مَا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ كَمَا رَجَّحَهُ النَّظَّامُ والأسواري وَكَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَزْعُمُ : أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَقْدُورِ غَيْرُ هَذَا الْعَالَمِ ، وَلَا فِي الْمَقْدُورِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُهْدَى بِهِ الضَّالُّ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ } { بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُسَوِّي بَنَانَهُ ، وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ

عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ : { أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعُوذُ بِوَجْهِك - { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } - قَالَ : أَعُوذُ بِوَجْهِك { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } . قَالَ : هَاتَانِ أَهْوَنُ } . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } . وَمَنْ حَكَى مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ قَادِرًا عَلَى غَيْرِ مَا فَعَلَ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْمَعْلُومِ فَإِنَّهُ - مُخْطِئٌ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ مِنْ نَفْيِ الْقُدْرَةِ مُطْلَقًا وَهُوَ مُصِيبٌ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ مِنْ نَفْيِ الْقُدْرَةِ الَّتِي اخْتَصَّ بِهَا الْفَاعِلُ دُونَ التَّارِكِ وَهَذَا مِنْ أُصُولِ نِزَاعِهِمْ فِي جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ . فَإِنَّ مَنْ يَقُولُ الِاسْتِطَاعَةُ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ فَالتَّارِكُ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُ بِحَالِ يَقُولُ : إنَّ كُلَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَقَدْ كَلَّفَهُ اللَّهُ مَا لَا يُطِيقُهُ كَمَا قَدْ يَقُولُونَ : إنَّ جَمِيعَ الْعِبَادِ كُلِّفُوا مَا لَا يُطِيقُونَ . وَمَنْ يَقُولُ : إنَّ اسْتِطَاعَةَ الْفِعْلِ هِيَ اسْتِطَاعَةُ التَّرْكِ يَقُولُ : إنَّ الْعِبَادَ لَمْ يُكَلَّفُوا إلَّا بِمَا هُمْ مُسْتَوُونَ فِي طَاقَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ ؛ لَا يَخْتَصُّ الْفَاعِلُ دُونَ التَّارِكِ بِاسْتِطَاعَةِ خَاصَّةٍ فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَبْدَ كُلِّفَ بِمَا لَا يُطِيقُهُ كَإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَى أَفْعَالِهِ

- إذْ سَلْبُ الْقُدْرَةِ فِي الْمَأْمُورِ نَظِيرُ إثْبَاتِ الْجَبْرِ فِي الْمَحْظُورِ - وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَبْدَ قَادِرٌ مُسْتَطِيعٌ عَلَى خِلَافِ مَعْلُومِ اللَّهِ وَمَقْدُورِهِ . وَسَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا يُنْكِرُونَ هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ كُلَّهَا لَا سِيَّمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ طَرَفَيْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى بَاطِلٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ حَقٌّ أَيْضًا ؛ بَلْ الْوَاجِبُ إطْلَاقُ الْعِبَارَاتِ الْحَسَنَةِ وَهِيَ الْمَأْثُورَةُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا النُّصُوصُ وَالتَّفْصِيلُ فِي الْعِبَارَاتِ الْمُجْمَلَةِ الْمُشْتَبِهَةِ وَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ أَبْوَابِ أُصُولِ الدِّينِ أَنْ يَجْعَلَ مَا يَثْبُتُ بِكَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ هِيَ النَّصُّ الْمُحْكَمُ ، وَتَجْعَلَ الْعِبَارَاتِ الْمُحْدَثَةَ الْمُتَقَابِلَةَ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ الْمُشْتَمِلَةَ فِي كُلٍّ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فِي حَقٍّ وَبَاطِلٍ مِنْ بَابِ الْمُجْمَلِ الْمُشْتَبَهِ الْمُحْتَاجِ إلَى تَفْصِيلِ الْمَمْنُوعِ مِنْ إطْلَاقِ طَرَفَيْهِ . وَقَدْ كَتَبْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَا قَالَهُ الأوزاعي وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ ؛ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ مِنْ كَرَاهَةِ إطْلَاقِ الْجَبْرِ وَمِنْ مَنْعِ إطْلَاقِ نَفْيِهِ أَيْضًا .
وَكَذَلِكَ أَيْضًا : الْقَوْلُ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ لَمْ تُطْلِقْ الْأَئِمَّةُ فِيهِ وَاحِدًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ : صَاحِبُ الْخَلَّالِ فِي " كِتَابِ الْقَدَرِ " الَّذِي فِي مُقَدِّمَةِ " كِتَابِ الْمُقْنِعِ " لَهُ لَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ فَنَتَّبِعَهُ ؛ وَالنَّاسُ فِيهِ قَدْ اخْتَلَفُوا فَقَالَ قَائِلُونَ : بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَنَفَاهُ

آخَرُونَ وَمَنَعُوا مِنْهُ . قَالَ : وَاَلَّذِي عِنْدَنَا فِيهِ أَنَّ الْقُرْآنَ شَهِدَ بِصِحَّةِ مَا إلَيْهِ قَصَدْنَاهُ . وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ؛ يَتَعَبَّدُ خَلْقَهُ بِمَا يُطِيقُونَ وَمَا لَا يُطِيقُونَ . ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْفَصْلِ : وَلَعَلَّ قَائِلًا أَنْ يُعَارِضَ قَوْلَنَا فَيَقُولُ : لَوْ جَازَ أَنْ يُكَلِّفَ اللَّهُ الْعَبْدَ مَا لَا يُطِيقُ جَازَ أَنْ يُكَلِّفَ الْأَعْمَى صَنْعَةَ الْأَلْوَانِ ، وَالْمُقْعَدَ الْمَشْيَ ؛ وَمَنْ لَا يَدُلُّهُ الْبَطْشُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَيُقَالُ لَهُ : قَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فِي قَوْله تَعَالَى { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ } هُوَ مَشْيُهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَسَقَطَ السُّؤَالُ فِي كُلِّ مَا سَأَلُوا عَنْهُ عَلَى جَوَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَشْيِ عَلَى الْوُجُوهِ . ثُمَّ قَالَ : وَقَدْ أَبَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَعْنِي الْأَشْعَرِيَّ - فِيمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : لَمَّا حَكَى كَلَامَ أَبِي الْحَسَنِ - يَعْنِي أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ - قَدْ فَصَلَ بَيْنَ مَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ لَا لِاسْتِحَالَتِهِ فَيَجُوزُ تَكْلِيفُهُ وَمَا يَسْتَحِيلُ لَا يَجُوزُ قَالَ : وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ الِاحْتِمَالُ فِيمَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ هَلْ يَصِحُّ تَكْلِيفُهُ أَمْ لَا ؟ قَالَ : وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّفْصِيلِ وَهُوَ أَنَّ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ لِاسْتِحَالَتِهِ كَالْأَمْرِ بِالْمُحَالِ وَكَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ ، وَجَعْلِ الْمُحْدَثِ قَدِيمًا وَالْقَدِيمِ مُحْدَثًا أَوْ كَانَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِلْعَجْزِ عَنْهُ كَالْمُقْعَدِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ وَالْأَخْرَسِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ فَهَذَا الْوَجْهُ لَا يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ . وَ ( الْوَجْهُ الثَّانِي : مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ لَا لِاسْتِحَالَتِهِ وَلَا لِلْعَجْزِ عَنْهُ لَكِنْ

لِتَرْكِهِ وَالِاشْتِغَالِ بِضِدِّهِ كَالْكَافِرِ كَلَّفَهُ الْإِيمَانَ فِي حَالِ كُفْرِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَاجِزٍ عَنْهُ وَلَا مُسْتَحِيلٍ مِنْهُ فَهُوَ كَاَلَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعِلْمِ لِاشْتِغَالِهِ بِالْمَعِيشَةِ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى قَوْلُ جُمْهُورِ النَّاسِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَذَكَرَ الْقَاضِي الْمَنْصُوصَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ - فِيمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَنْهُ - وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ عَبْدَ الْعَزِيزِ ذَكَرَ كَلَامَ أَبِي الْحَسَنِ فِي ذَلِكَ كَمَا يَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ كَلَامَ أَبِي الْحَسَنِ فِي ذَلِكَ وَكَمَا يَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ كَلَامَ مُوَافِقِيهِ وَأَصْحَابِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَد وَسَائِرِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِ . وَأَمَّا أَتْبَاعُ أَبِي الْحَسَنِ فَمِنْهُمْ مَنْ وَافَقَ نَفْسَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي كَأَبِي عَلِيٍّ ابْنِ شاذان وَأَتْبَاعِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ خَالَفَهُ كَأَبِي مُحَمَّدٍ اللَّبَّانِ وَالرَّازِي وَطَوَائِفَ قَالُوا : إنَّهُ يَجُوزُ تَكْلِيفُ الْمُمْتَنِعِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَالْمَعْجُوزِ عَنْهُ . وَ ( الْقَوْلُ الثَّالِثُ ) : الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَكْلِيفُ كُلِّ مَا يُمْكِنُ ، وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا فِي الْعَادَةِ كَالْمَشْيِ عَلَى الْوُجُوهِ وَنَقْطِ الْأَعْمَى الْمُصْحَفِ . وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ شَيْخُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي أُصُولِهِ : قَوْلِي " التَّفْرِيقُ وَالْإِطْلَاقُ " عَنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فَقَالَ :

فَصْلٌ :
لِأَنَّهُ مَا وُجِدَ فِي الْأَمْرِ وَلَوْ وُجِدَ بِالْفِكْرِ وَهَذَا مِثْلُ مَا لَمْ تَرِدْ الشَّرِيعَةُ بِهِ كَأَمْرِ الْأَطْفَالِ وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ ، وَالْأَعْمَى الْبَصَرَ ، وَالْفَقِيرِ النَّفَقَةَ . وَالزَّمِنِ أَنْ يَسِيرَ إلَى مَكَّةَ فَكُلُّ ذَلِكَ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَلَوْ جَاءَتْ بِهِ لَزِمَ الْإِيمَانُ بِهِ وَالتَّصْدِيقُ فَلَا يُقَيَّدُ الْكَلَامُ فِيهِ . قَالَ : وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى إطْلَاقِ الِاسْمِ مِنْ جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ مِنْ زَمِنٍ وَأَعْمَى وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ مَذْهَبُ جَهْمٍ وَبُرْغُوثٍ . وَ ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) سَلَامَةُ الْآلَةِ لَكِنَّ عَدَمَ الطَّاقَةِ لِعَدَمِ التَّوْفِيقِ وَالْقَبُولِ وَذَلِكَ يَجُوزُ وَجْهًا وَاحِدًا فِي مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ يَجُوزُ التَّكْلِيفُ لِمَنْ قَدَّرَ عِلْمَ اللَّهِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ وَأَبَى ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لإبليس { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وَقَوْلُهُ : { أَلَّا تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُكَ } الْآيَاتِ فَأَمْرٌ وَقَدْ سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْهُ فِعْلُهُ . فَكَانَ الْأَمْرُ مُتَوَجِّهًا إلَى مَا قَدْ سَبَقَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُطِيقُهُ . ( الْقَوْلُ الثَّانِي ) : مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ أَيْضًا ، وَزَعَمَ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي أَنَّهُ الَّذِي مَالَ إلَيْهِ أَكْثَرُ أَجْوِبَةِ أَبِي الْحَسَنِ وَأَنَّهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ

وَقَدْ تَوَقَّفَ أَبُو الْحَسَنِ عَنْ الْجَوَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمُوجَزِ وَكَانَ أَبُو الْمَعَالِي يَخْتَارُهُ أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ وَقَطَعَ أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ مُحَالٌ وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الْفَرَجِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي وَغَيْرِهِ وَهَذَا ( الثَّانِي ) هُوَ مَذْهَبُ أَبِي إسْحَاقَ الإسفراييني وَأَبِي بَكْرِ بْنِ فورك ، وَأَبِي الْقَاسِم الْأَشْعَرِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَادَّعَى أَبُو إسْحَاقَ الإسفراييني أَنَّهُ مَذْهَبُ شَيْخِهِ أَبِي الْحَسَنِ وَأَنَّهُ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ فَأَمَّا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فَقَدْ قَالَ بِجَوَازِهِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ وَأَكْثَرُ كَلَامِهِ عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ تَكْلِيفِ الْعَاجِزِ وَبَيْنَ تَكْلِيفِ الْقَادِرِ عَلَى التَّرْكِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَفِي الْمَسْأَلَةِ ( قَوْلٌ ثَالِثٌ ) : وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَكْلِيفُ كُلِّ مَا يُمْكِنُ وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا فِي الْعَادَةِ كَالْمَشْيِ عَلَى الْوَجْهِ وَنَقْطِ الْأَعْمَى الْمُصْحَفَ دُونَ الْمُمْتَنِعِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ . وَفَصْلُ الْخِطَابِ فِي " هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " أَنَّ النِّزَاعَ فِيهَا فِي أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : التَّكْلِيفُ الْوَاقِعُ الَّذِي اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُقُوعِهِ فِي الشَّرِيعَةِ وَهُوَ أَمْرُ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ بِمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِهِ وَتَقْوَاهُ هَلْ يُسَمَّى هَذَا أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ ؟ فَمَنْ قَالَ : بِأَنَّ الْقُدْرَةَ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ يَقُولُ : إنَّ الْعَاصِيَ كُلِّفَ مَا لَا يُطِيقُهُ وَيَقُولُ : إنَّ كُلَّ أَحَدٍ كُلِّفَ حِينَ كَانَ غَيْرَ مُطِيقٍ ؛ وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَقَدُّمَ الْعِلْمِ ، وَالْكِتَابَ بِالشَّيْءِ يَمْنَعُ

أَنْ يُقَدَّرَ عَلَى خِلَافِهِ قَالَ : إنْ كُلِّفَ خِلَافَ الْمَعْلُومِ فَقَدْ كُلِّفَ مَا لَا يُطِيقُهُ وَكَذَلِكَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْعَرْضَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ يَقُولُ : إنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ لَا تَبْقَى إلَى حِينِ الْفِعْلِ . وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ نِزَاعًا فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَنَهَى عَنْهَا هَلْ يَتَنَاوَلُهَا التَّكْلِيفُ ؟ وَإِنَّمَا هُوَ نِزَاعٌ فِي كَوْنِهَا غَيْرَ مَقْدُورَةٍ لِلْعَبْدِ التَّارِكِ لَهَا وَغَيْرَ مَقْدُورَةٍ قَبْلَ فِعْلِهَا وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْقُدْرَةَ نَوْعَانِ وَأَنَّ مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ فَإِطْلَاقُهُ مُخَالِفٌ لِمَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا - كَإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ - وَإِنْ كَانَ قَدْ أَطْلَقَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ فِي رَدِّهِمْ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ كَأَبِي الْحَسَنِ وَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ ؛ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى ، وَأَبِي الْمَعَالِي وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي وَغَيْرِهِمْ فَقَدْ مَنَعَ مِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ كَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي الْعَبَّاسِ القلانسي وَغَيْرِهِمَا ، وَنَقَلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَفْسِهِ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ جَمِيعِ الْأَئِمَّةِ . وَلِهَذَا امْتَنَعَ أَبُو إسْحَاقَ بْنُ شاقلا مِنْ إطْلَاقِ ذَلِكَ . وَحَكَى فِيهِ الْقَوْلَيْنِ : فَقَالَ - فِيمَا ذَكَرَهُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى - الِاسْتِطَاعَةُ مَعَ الْفِعْلِ أَوْ قَبْلَهُ ؟ حُجَّةُ مَنْ قَالَ : إنَّ الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ وَالْجِهَادَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ

وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ إنَّ الْفِعْلَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِذَا خَلَقَ فِيهِ فِعْلًا فَعَلَهُ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ إلَّا قُدْرَةٌ وَاحِدَةٌ يَقْدِرُ بِهَا عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ فِي حَالِ الْفِعْلِ عَنْ مَعُونَةٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى يَفْعَلُ بِهَا وَسَوَّى بَيْنَ نِعْمَتِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ فَهُوَ مُبْطِلٌ وَهُمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ حَادَ مِنْهُمْ فِي الْأَيَّامِ الْمَشْهُورَةِ حَيْثُ كَانَ قَوْلُهُمْ إنَّ الْعَبْدَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى حَالَ الْفِعْلِ بِالْبِرِّ عَمَّا وَجَدَ قَبْلَ الْفِعْلِ (1) وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى نِعْمَةٌ أَنْعَمَ بِهَا عَلَى مَنْ آمَنَ بِهِ وَأَطَاعَهُ أَكْبَرُ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِهِ وَعَصَاهُ فَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ قَطْعًا وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى تَضْلِيلِ صَاحِبِ هَذَا الْقَوْلِ . ثُمَّ النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ كَثِيرٌ مِنْهُ لَفْظِيٌّ وَمِنْهُ مَا هُوَ اعْتِبَارِيٌّ كَتَنَازُعِهِمْ فِي أَنَّ الْعَرَضَ هَلْ يَبْقَى أَمْ لَا يَبْقَى وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ بَقَاءَ الِاسْتِطَاعَةِ وَلَكِنَّ أَحْسَنَ الْأَلْفَاظِ وَالِاعْتِبَارَاتِ مَا يُطَابِقُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَاتِّفَاقَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَجْعَلَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هِيَ الْأَصْلَ الْمُعْتَمَدَ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَيَسُوغُ إطْلَاقُهُ وَيَجْعَلَ الْأَلْفَاظَ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا النَّاسُ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا مَوْقُوفَةً عَلَى الِاسْتِفْسَارِ وَالتَّفْصِيلِ وَيَمْنَعَ

مِنْ إطْلَاقِ نَفْيِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِطْلَاقِ إثْبَاتِ مَا نَفَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ .
وَ " الْأَصْلُ الثَّانِي " فِيمَا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْعَبْدِ وَتَنَازَعُوا فِي جَوَازِ تَكْلِيفِهِ . وَهُوَ " نَوْعَانِ " : مَا هُوَ مُمْتَنِعٌ عَادَةً كَالْمَشْيِ عَلَى الْوَجْهِ وَالطَّيَرَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمَا هُوَ مُمْتَنِعٌ فِي نَفْسِهِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ فَهَذَا فِي جَوَازِهِ عَقْلًا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ كَمَا تَقَدَّمَ . وَأَمَّا وُقُوعُهُ فِي الشَّرِيعَةِ وَجَوَازُهُ شَرْعًا فَقَدْ اتَّفَقَ حَمَلَةُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَيْسَ بِوَاقِعِ فِي الشَّرِيعَةِ وَقَدْ حَكَى انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزَّاغُونِي ، فَقَالَ :
فَصْلٌ :
تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) : تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ لِوُجُودِ ضِدِّهِ مِنْ الْعَجْزِ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُكَلَّفَ الْمُقْعَدُ الْقِيَامَ ، وَالْأَعْمَى الْخَطَّ وَنَقْطَ الْكِتَابِ ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا لَا يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ وَهُوَ مِمَّا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ عَدَمَ الطَّاقَةِ فِيهِ مُلْحَقَةٌ بِالْمُمْتَنِعِ وَالْمُسْتَحِيلِ وَذَلِكَ يُوجِبُ خُرُوجَهُ عَنْ الْمَقْدُورِ فَامْتُنِعَ تَكْلِيفُ مِثْلِهِ . وَ ( الثَّانِي ) : تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ لَا لِوُجُودِ ضِدِّهِ مِنْ الْعَجْزِ مِثْلَ أَنْ يُكَلَّفَ الْكَافِرُ الَّذِي سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِبُّ التَّكْلِيفَ كَفِرْعَوْنَ وَأَبِي جَهْلٍ

وَأَمْثَالِهِمْ فَهَذَا جَائِزٌ وَذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ غَيْرُ جَائِزٍ . قَالَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَالْأَصْلِ لِهَذِهِ . قُلْت : وَهَذَا الْإِجْمَاعُ هُوَ إجْمَاعُ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ قَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إلَى أَنَّ تَكْلِيفَ الْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ وَاقِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَهَذَا قَوْلُ الرَّازِي ، وَطَائِفَةٌ قَبْلَهُ وَزَعَمُوا أَنَّ تَكْلِيفَ أَبِي لَهَبٍ وَغَيْرِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ حَيْثُ كُلِّفَ أَنْ يُصَدِّقَ بِالْأَخْبَارِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّهُ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَأَنَّهُ يَصْلَى النَّارَ بَعْدَ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ إلَى الْإِيمَانِ فَقَدْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ : كَاَلَّذِي يُعَايِنُ الْمَلَائِكَةَ وَقْتَ الْمَوْتِ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا مُخَاطَبًا مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : تَكْلِيفُ الْعَاجِزِ وَاقِعٌ مُحَتَّمٌ بِقَوْلِهِ : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ } فَإِنَّهُ يُنَاقِضُ هَذَا الْإِجْمَاعَ ، وَمَضْمُونُ الْإِجْمَاعِ نَفْيُ وُقُوعِ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْخِطَابِ إنَّمَا هُوَ خِطَابُ تَعْجِيزٍ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ لَهُمْ لِتَرْكِهِمْ السُّجُودَ وَهُمْ سَالِمُونَ يُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِ الْعِبَادَةِ فِي حَالِ قُدْرَتِهِمْ بِأَنْ أُمِرُوا بِهَا حَالَ عَجْزِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْعُقُوبَةِ لَهُمْ وَخِطَابُ الْعُقُوبَةِ وَالْجَزَاءِ مِنْ جِنْسِ خِطَابِ التَّكْوِينِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ قُدْرَةُ الْمُخَاطَبِ إذْ لَيْسَ الْمَطْلُوبُ فِعْلَهُ وَإِذَا تَبَيَّنَتْ الْأَنْوَاعُ وَالْأَقْسَامُ زَالَ الِاشْتِبَاهُ وَالْإِبْهَامُ .

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ؛ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
فَصْلٌ :
فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى } لَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِ بِالْقَدَرِ .
وَبَيَانُ : أَنَّ ذَلِكَ فِي الْمَصَائِبِ لَا فِي الذُّنُوبِ وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى فَهَذَا فِي الصَّبْرِ لَا فِي التَّقْوَى وَقَالَ : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ

لِذَنْبِكَ } فَأَمَرَ بِالصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ المعائب . وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي آدَمَ اضْطَرَبُوا فِي " هَذَا الْمَقَامِ - مَقَامِ تَعَارُضِ الْأَمْرِ وَالْقَدَرِ - وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ . وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ : { احْتَجَّ آدَمَ وَمُوسَى : فَقَالَ مُوسَى : يَا آدَمَ ؟ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ الَّذِي خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ فَلِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمَ : أَنْتَ مُوسَى الَّذِي كَلَّمَك اللَّهُ تَكْلِيمًا وَكَتَبَ لَك التَّوْرَاةَ . فَبِكَمْ تَجِدُ فِيهَا مَكْتُوبًا : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ قَالَ : بِأَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى } . وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِإِسْنَادِ حَسَنٍ وَقَدْ ظَنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ آدَمَ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ عَلَى نَفْيِ الْمَلَامِ عَلَى الذَّنْبِ . ثُمَّ صَارُوا لِأَجْلِ هَذَا الظَّنِّ " ثَلَاثَةَ أَحْزَابٍ " :
فَرِيقٌ كَذَّبُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ : كَأَبِي عَلِيٍّ الجبائي وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ هَذَا خِلَافُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادَ الْحَدِيثِ وَيَجِبُ تَنْزِيهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ وَجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَجْعَلُوا الْقَدَرَ حُجَّةً لِمَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ .

وَ فَرِيقٌ تَأَوَّلُوهُ بِتَأْوِيلَاتِ مَعْلُومَةِ الْفَسَادِ : كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ إنَّمَا حَجَّهُ لِأَنَّهُ كَانَ أَبَاهُ وَالِابْنُ لَا يَلُومُ أَبَاهُ . وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ ؛ لِأَنَّ الذَّنْبَ كَانَ فِي شَرِيعَةٍ وَالْمَلَامَ فِي أُخْرَى . وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ : لِأَنَّ الْمَلَامَ كَانَ بَعْدَ التَّوْبَةِ . وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ : لِأَنَّ هَذَا تَخْتَلِفُ فِيهِ دَارُ الدُّنْيَا وَدَارُ الْآخِرَةِ .
وَ ( فَرِيقٌ ثَالِثٌ ) جَعَلُوهُ عُمْدَةً فِي سُقُوطِ الْمَلَامِ عَنْ الْمُخَالِفِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يُمْكِنْهُمْ طَرْدُ ذَلِكَ . فَلَا بُدَّ فِي نَفْسِ مَعَاشِهِمْ فِي الدُّنْيَا أَنْ يُلَامَ مَنْ فَعَلَ مَا يَضُرُّ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ ؛ لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ صَارَ يَحْتَجُّ بِهَذَا عِنْدَ أَهْوَائِهِ وَأَغْرَاضِهِ لَا عِنْدَ أَهْوَاءِ غَيْرِهِ كَمَا قِيلَ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ : أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ ، وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ ، أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْت بِهِ . فَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ إذَا أَذْنَبَ أَخَذَ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ وَلَوْ أَذْنَبَ غَيْرُهُ أَوْ ظَلَمَهُ لَمْ يَعْذُرْهُ وَهَؤُلَاءِ ظَالِمُونَ مُعْتَدُونَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هَذَا فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ وَفَنُوا عَمَّا سِوَى اللَّهِ فَيَرَوْنَ أَنْ لَا فَاعِلَ إلَّا اللَّهُ فَهَؤُلَاءِ لَا يَسْتَحْسِنُونَ حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُونَ سَيِّئَةً فَإِنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ لِمَخْلُوقِ فِعْلًا ؛ بَلْ لَا يَرَوْنَ فَاعِلًا إلَّا اللَّهُ بِخِلَافِ مَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ فِعْلًا فَإِنَّهُ يُذَمُّ وَيُعَاقَبُ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي الصُّوفِيَّةِ الْمُدَّعِينَ لِلْحَقِيقَةِ وَقَدْ يَجْعَلُونَ هَذَا نِهَايَةَ التَّحْقِيقِ وَغَايَةَ الْعِرْفَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .

قَالَ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِي : وَأَمَّا الْكَلَامُ فِيمَا جَرَى بَيْنَ آدَمَ وَمُوسَى مِنْ الْمُحَاجَّةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ فَإِنَّمَا سَاغَ لَهُمَا الْحِجَاجُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمَا نَبِيَّانِ جَلِيلَانِ خُصَّا بِعِلْمِ الْحَقَائِقِ وَأُذِنَ لَهُمَا فِي اسْتِكْشَافِ السَّرَائِرِ وَلَيْسَ سَبِيلُ الْخَلْقِ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالْوُقُوفِ عِنْدَمَا حَدَّ لَهُمْ وَالسُّكُوتُ عَمَّا طُوِيَ عَنْهُمْ سَبِيلُهَا وَلَيْسَ قَوْلُهُ : { فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى } إبْطَالَ حُكْمِ الطَّاعَةِ وَلَا إسْقَاطَ الْعَمَلِ الْوَاجِبِ وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ، وَتَقْدِيمُ رُتْبَةِ الْعِلَّةِ عَلَى السَّبَبِ فَقَدْ تَقَعُ الْحِكْمَةُ بِتَرْجِيحِ مَعْنَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَسَبِيلُ قَوْلِهِ : فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى هَذَا السَّبِيلُ ، وَقَدْ ظَهَرَ هَذَا فِي قَضِيَّةِ آدَمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } . إلَى أَنْ قَالَ : فَجَاءَ مِنْ هَذَا أَنَّ آدَمَ لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَ سُكْنَى الْجَنَّةِ إلَّا بِأَنْ لَا يَقْرَبَ الشَّجَرَةَ . لِسَابِقِ الْقَضَاءِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ فِي الْخُرُوجِ مِنْهَا وَبِهَذَا صَالَ عَلَى مُوسَى عِنْدَ الْمُحَاجَّةِ . وَبِهَذَا الْمَعْنَى قُضِيَ لَهُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ : فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى . قُلْت : وَلِهَذَا يَقُولُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - كَثِيرٌ مِنْ الرِّجَالِ إذَا وَصَلُوا إلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ أَمْسَكُوا وَأَنَا انْفَتَحَتْ لِي فِيهِ رَوْزَنَةٌ فَنَازَعْتُ أَقْدَارَ الْحَقِّ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ وَالرَّجُلُ مَنْ يَكُونُ مُنَازِعًا لِقَدَرِ لَا مُوَافِقًا لَهُ وَهُوَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُعَظِّمُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَيُوصِي بِاتِّبَاعِ ذَلِكَ وَيَنْهَى عَنْ الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ وَكَذَلِكَ شَيْخُهُ حَمَّادٌ الدباس وَذَلِكَ لِمَا رَأَوْهُ فِي

كَثِيرٍ مِنْ السَّالِكِينَ مِنْ الْوُقُوفِ عِنْدَ الْقَدَرِ الْمُعَارِضِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَيَدْفَعَ مَا قَدَرَ مِنْ الْمَعَاصِي بِمَا يَقْدِرُ مِنْ الطَّاعَةِ فَهُوَ مُنَازِعٌ لِلْمَقْدُورِ الْمَحْظُورِ بِالْمَقْدُورِ الْمَأْمُورِ لِلَّهِ تَعَالَى وَهَذَا هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنْ الرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - . وَمِمَّنْ يُشْبِهُ هَؤُلَاءِ كَثِيرٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ : كَقَوْلِ ابْنِ سِينَا بِأَنْ يَشْهَدَ سِرُّ الْقَدَرِ . وَالرَّازِي يُقَرِّرُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ جَبْرِيًّا مَحْضًا . وَفِي الْجُمْلَةِ فَهَذَا الْمَعْنَى دَائِرٌ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ الْخَاصَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ فَضْلًا عَنْ الْعَامَّةِ وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِدِينِ الْإِسْلَامِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : الْخَضِرُ إنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ الْمَلَامُ لِأَنَّهُ كَانَ مُشَاهِدًا لِحَقِيقَةِ الْقَدَرِ . وَمِنْ شُيُوخِ هَؤُلَاءِ مَنْ كَانَ يَقُولُ : لَوْ قَتَلْت سَبْعِينَ نَبِيًّا لَمَا كُنْت مُخْطِئًا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بِطَرْدِ قَوْلِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَيَقُولُ : كُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ وَفَعَلَهُ فَلَا مَلَامَ عَلَيْهِ فَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ خَالَفَ غَرَضَ غَيْرِهِ فَذَلِكَ يُنَازِعُهُ وَالْأَقْوَى مِنْهُمَا يُقْمِرُ الْآخَرَ فَأَيُّهُمَا أَعَانَهُ الْقَدَرُ فَهُوَ الْمُصِيبُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ غَالِبٌ وَإِلَّا فَمَا ثَمَّ خَطَأٌ .
وَمِنْ هَؤُلَاءِ " الِاتِّحَادِيَّةُ " الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْوُجُودُ وَاحِدٌ ثُمَّ يَقُولُونَ :

بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ ، وَالْأَفْضَلُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ رَبًّا لِلْمَفْضُولِ . وَيَقُولُونَ : إنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } . وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ مَلَاحِدَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الِاتِّحَادِيَّةِ : كالتلمساني . وَالْقَوْلُ بِالِاتِّحَادِ الْعَامِّ الْمُسَمَّى وَحْدَةَ الْوُجُودِ هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَرَبِيٍّ الطَّائِيِّ وَصَاحِبِهِ القونوي وَابْنِ سَبْعِينَ وَابْنِ الْفَارِضِ وَأَمْثَالِهِمْ ؛ لَكِنْ لَهُمْ فِي الْمُعَادِ وَالْجَزَاءِ نِزَاعٌ كَمَا أَنَّ لَهُمْ نِزَاعًا فِي أَنَّ الْوُجُودَ هَلْ هُوَ شَيْءٌ غَيْرُ الذَّوَاتِ أَمْ لَا وَهَؤُلَاءِ ضَلُّوا مِنْ وُجُوهٍ : مِنْهَا جِهَةُ عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْوُجُودِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ . وَأَمَّا شُهُودُ الْقَدَرِ فَيُقَالُ : لَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ ، وَالْقَدَرُ هُوَ قُدْرَةُ اللَّهِ - كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد - وَهُوَ الْمُقَدِّرُ لِكُلِّ مَا هُوَ كَائِنٌ ؛ لَكِنْ هَذَا لَا يَنْفِي حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ - وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَأَنَّ مِنْ الْأَفْعَالِ مَا يَنْفَعُ صَاحِبَهُ فَيَحْصُلُ لَهُ بِهِ نَعِيمٌ وَمِنْهَا مَا يَضُرُّ صَاحِبَهُ فَيَحْصُلُ لَهُ بِهِ عَذَابٌ - فَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ اشْتِرَاكَ الْجَمِيعِ مِنْ جِهَةِ الْمَشِيئَةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَابْتِدَاءِ الْأُمُورِ . لَكِنْ نُثْبِتُ فَرْقًا آخَرَ مِنْ جِهَةِ الْحِكْمَةِ وَالْأَوَامِرِ الْإِلَهِيَّةِ وَنِهَايَةِ الْأُمُورِ فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلتَّقْوَى ؛ لَا لِغَيْرِ الْمُتَّقِينَ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ : أَنَّ مِنْ الْأُمُورِ مَا هُوَ مُلَائِمٌ لِلْإِنْسَانِ نَافِعٌ لَهُ فَيَحْصُلُ لَهُ بِهِ اللَّذَّةُ . وَمِنْهَا مَا هُوَ مُضَادٌّ لَهُ ضَارٌّ لَهُ يَحْصُلُ بِهِ الْأَلَمُ فَرَجَعَ

الْفَرْقُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ اللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ . وَأَسْبَابُ هَذَا وَهَذَا . وَهَذَا الْفَرْقُ مَعْلُومٌ بِالْحِسِّ ، وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَوَّلِينَ والآخرين ؛ بَلْ هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْبَهَائِمِ . بَلْ هَذَا مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِذَا أَثْبَتْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ فَالْفَرْقُ يَرْجِعُ إلَى هَذَا . وَالْعُقَلَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كَوْنَ بَعْضِ الْأَفْعَالِ مُلَائِمًا لِلْإِنْسَانِ وَبَعْضَهَا مُنَافِيًا لَهُ إذَا قِيلَ : هَذَا حَسَنٌ وَهَذَا قَبِيحٌ . فهذا الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ .
وَتَنَازَعُوا فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ بِمَعْنَى كَوْنِ الْفِعْلِ سَبَبًا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ هَلْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَمْ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالشَّرْعِ . وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ النِّزَاعِ أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مُغَايِرٌ لِلْأَوَّلِ وَلَيْسَ هَذَا خَارِجًا عَنْهُ . فَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ حَسَنٌ إلَّا بِمَعْنَى الْمُلَائِمِ .
وَلَا قَبِيحٌ إلَّا بِمَعْنَى الْمُنَافِي ، وَالْمَدْحُ وَالثَّوَابُ مُلَائِمٌ وَالذَّمُّ وَالْعِقَابُ مُنَافٍ فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِي . يَبْقَى الْكَلَامُ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ لَا فِي جَمِيعِهِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِهِ مَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالشَّرْعِ وَلَكِنَّ النِّزَاعَ فِيمَا قَبَّحَهُ مَعْلُومٌ لِعُمُومِ الْخَلْقِ كَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَالنِّزَاعُ فِي أُمُورٍ :
مِنْهَا هَلْ لِلْفِعْلِ صِفَةٌ صَارَ بِهَا حَسَنًا وَقَبِيحًا وَأَنَّ الْحُسْنَ الْعَقْلِيَّ هُوَ كَوْنُهُ مُوَافِقًا لِمَصْلَحَةِ الْعَالِمِ وَالْقُبْحَ الْعَقْلِيَّ بِخِلَافِهِ . فَهَلْ فِي الشَّرْعِ زِيَادَةٌ عَلَى

ذَلِكَ ؟ وَفِي أَنَّ الْعِقَابَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هَلْ يُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَثْبَتَ قِسْمًا ثَالِثًا لِلْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَادَّعَى الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ : وَهُوَ كَوْنُ الْفِعْلِ صِفَةَ كَمَالٍ أَوْ صِفَةَ نَقْصٍ وَهَذَا الْقِسْمُ لَمْ يَذْكُرْهُ عَامَّةُ الْمُتَقَدِّمِينَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؛ وَلَكِنْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : كالرَّازِي وَأَخَذَهُ عَنْ الْفَلَاسِفَةِ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ لَا يُخَالِفُ الْأَوَّلَ فَإِنَّ الْكَمَالَ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ بِبَعْضِ الْأَفْعَالِ هُوَ يَعُودُ إلَى الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ وَهُوَ اللَّذَّةُ أَوْ الْأَلَمُ فَالنَّفْسُ تَلْتَذُّ بِمَا هُوَ كَمَالٌ لَهَا وَتَتَأَلَّمُ بِالنَّقْصِ فَيَعُودُ الْكَمَالُ وَالنَّقْصُ إلَى الْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِي وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَ ( الْمَقْصُودُ هُنَا ) : أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يَحْصُلُ لِصَاحِبِهَا بِهَا لَذَّةٌ وَبَيْنَ السَّيِّئَةِ الَّتِي يَحْصُلُ لَهُ بِهَا أَلَمٌ أَمْرٌ حِسِّيٌّ يَعْرِفُهُ جَمِيعُ الْحَيَوَانِ . فَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُدَّعِينَ لِلْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالِاصْطِلَامِ : أَنَّهُ يَبْقَى فِي عَيْنِ الْجَمْعِ بِحَيْثُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يُؤْلِمُ أَوْ مَا يَلَذُّ كَانَ هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ كَذِبُهُ فِيهِ إنْ كَانَ يَفْهَمُ مَا يَقُولُ وَإِلَّا كَانَ ضَالًّا يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي هَذَا . فَإِنَّ الْقَوْمَ قَدْ يَحْصُلُ لِأَحَدِهِمْ هَذَا الْمَشْهَدُ " مَشْهَدُ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ

الرُّبُوبِيَّةِ " فَلَا يَشْهَدُ فَرْقًا مَا دَامَ فِي هَذَا الْمَشْهَدِ . وَقَدْ يَغِيبُ عَنْهُ الْإِحْسَاسُ بِمَا يُوجِبُ الْفَرْقَ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ فَيَظُنُّ هَذَا الْفَنَاءَ مَقَامًا مَحْمُودًا وَيَجْعَلُهُ إمَّا غَايَةً . وَإِمَّا لَازِمًا لِلسَّالِكِينَ وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ عَدَمَ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يُنْعِمُ وَيُعَذِّبُ أَحْيَانًا هُوَ مِثْلُ عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ النَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ وَالْغَفْلَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِشَيْءِ عَنْ آخَرَ وَهُوَ لَا يُزِيلُ الْفَرْقَ الثَّابِتَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا يُزِيلُ الْإِحْسَاسَ بِهِ إذَا وَجَدَ سَبَبَهُ . وَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا بُدَّ أَنْ يَجُوعَ أَوْ يَعْطَشَ فَلَا يُسَوِّي بَيْنَ الْخُبْزِ وَالشَّرَابِ وَبَيْنَ الْمِلْحِ الْأُجَاجِ وَالْعَذْبِ الْفُرَاتِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا وَيَقُولَ : هَذَا طَيِّبٌ وَهَذَا لَيْسَ بِطَيِّبِ وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ كُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِالطَّيِّبِ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَنَهَى عَنْ الْخَبِيثِ . وَإِذَا عَرَفَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَرْقِ هُوَ أَنَّ مِنْ الْأُمُورِ مَا يَنْفَعُ وَيُوجِبُ اللَّذَّةَ وَالنَّعِيمَ وَمِنْهَا مَا يَضُرُّ وَيُوجِبُ الْأَلَمَ وَالْعَذَابَ فَبَعْضُ هَذِهِ الْأُمُورِ تُدْرَكُ بِالْحِسِّ وَبَعْضُهَا يُدْرِكُهُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ لِأُمُورِ الدُّنْيَا . فَيَعْرِفُونَ مَا يَجْلِبُ لَهُمْ مَنْفَعَةً فِي الدُّنْيَا وَمَا يَجْلِبُ لَهُمْ مَضَرَّةً وَهَذَا مِنْ الْعَقْلِ الَّذِي مُيِّزَ بِهِ الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ يُدْرِكُ مِنْ عَوَاقِبِ الْأَفْعَالِ مَا لَا يُدْرِكُهُ الْحِسُّ وَلَفْظُ الْعَقْلِ فِي الْقُرْآنِ يَتَضَمَّنُ مَا يَجْلِبُ بِهِ الْمَنْفَعَةَ وَمَا يَدْفَعُ بِهِ الْمَضَرَّةَ .

وَاَللَّهُ تَعَالَى بَعَثَ الرُّسُلَ بِتَكْمِيلِ الْفِطْرَةِ فَدَلُّوهُمْ عَلَى مَا يَنَالُونَ بِهِ النَّعِيمَ فِي الْآخِرَةِ وَيَنْجُونَ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ . فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ هُوَ كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَاللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ وَالنَّعِيمِ وَالْعَذَابِ وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ هَذَا الْفَرْقَ فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ أَزَالَ عَقْلَهُ هُوَ بِهِ مَعْذُورٌ وَإِلَّا كَانَ مُطَالِبًا بِمَا فَعَلَهُ مِنْ الشَّرِّ وَتَرَكَهُ مِنْ الْخَيْرِ .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي النَّاسِ مَنْ قَدْ يَزُولُ عَقْلُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَعَاطَى مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ : كَالْخَمْرِ وَكَسَمَاعِ الْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَةِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَقْوَى حَتَّى يَسْكَرَ أَصْحَابُهَا وَيَقْتَرِنَ بِهِمْ شَيَاطِينُ فَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي السَّمَاعِ الْمُسْكِرِ ، كَمَا يَقْتُلُ شُرَّابُ الْخَمْرِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إذَا سَكِرُوا وَهَذَا مِمَّا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأَحْوَالِ ؛ لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْمَقْتُولُ شَهِيدٌ . وَ " التَّحْقِيقُ : أَنَّ الْمَقْتُولَ يُشْبِهُ الْمَقْتُولَ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنَّهُمْ سَكِرُوا سُكْرًا غَيْرَ مَشْرُوعٍ ؛ لَكِنَّ غَالِبَهُمْ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا مِنْ أَحْوَالِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ فَيَبْقَى الْقَتِيلُ فِيهِمْ كَالْقَتِيلِ فِي الْفِتْنَةِ وَلَيْسَ هُوَ كَاَلَّذِي تَعَمَّدَ قَتْلَهُ وَلَا هُوَ كَالْمَقْتُولِ ظُلْمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ هَذَا الْفَنَاءُ يَزُولُ بِهِ التَّكْلِيفُ ؟ قِيلَ : إنْ حَصَلَ لِلْإِنْسَانِ سَبَبٌ يُعْذَرُ فِيهِ زَالَ بِهِ عَقْلُهُ الَّذِي يُمَيَّزُ بِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالسَّكْرَانِ سُكْرًا لَا يَأْثَمُ بِهِ كَمَنْ سَكِرَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ أَوْ أُوجِرَ الْخَمْرَ أَوْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَأَمَّا إنْ كَانَ السُّكْرُ لِسَبَبِ مُحَرَّمٍ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ .

وَاَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ عَنْ أَبِي يَزِيدَ وَغَيْرِهِ كَلِمَاتٍ مِنْ الِاتِّحَادِ الْخَاصِّ وَنَفْيِ الْفَرْقِ وَيَعْذُرُونَهُ فِي ذَلِكَ يَقُولُونَ : إنَّهُ غَابَ عَقْلُهُ حَتَّى قَالَ : أَنَا الْحَقُّ وَسُبْحَانِي وَمَا فِي الْجُبَّةِ إلَّا اللَّهُ . وَيَقُولُونَ : إنَّ الْحُبَّ إذَا قَوِيَ عَلَى صَاحِبِهِ وَكَانَ قَلْبُهُ ضَعِيفًا يَغِيبُ بِمَحْبُوبِهِ عَنْ حُبِّهِ وَبِمَوْجُودِهِ عَنْ وَجْدِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ حَتَّى يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ ويحكون أَنَّ شَخْصًا أَلْقَى بِنَفْسِهِ فِي الْمَاءِ فَأَلْقَى مَحَبَّةَ نَفْسِهِ خَلْفَهُ . فَقَالَ : أَنَا وَقَعْت فَلِمَ وَقَعْت أَنْتَ ؟ فَقَالَ : غِبْت بِك عَنِّي فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي . فَمِثْلُ هَذَا الْحَالِ الَّتِي يَزُولُ فِيهَا تَمْيِيزُهُ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ ، وَبَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ لَيْسَتْ عِلْمًا وَلَا حَقًّا بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ نَقْصُ عَقْلِهِ الَّذِي يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ، وَغَايَتُهُ أَنْ يُعْذَرَ . لَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَحْقِيقًا . وَطَائِفَةٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ الْمُدَّعِينَ لِلتَّحْقِيقِ يَجْعَلُونَ هَذَا تَحْقِيقًا وَتَوْحِيدًا كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ . وَابْنُ الْعَرِيفِ وَغَيْرُهُمَا ؛ كَمَا أَنَّ الِاتِّحَادَ الْعَامَّ جَعَلَهُ طَائِفَةٌ تَحْقِيقًا وَتَوْحِيدًا : كَابْنِ عَرَبِيٍّ الطَّائِيِّ . وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّ الْحَلَّاجَ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ ثُمَّ صَارُوا حِزْبَيْنِ : " حِزْبٌ " يَقُولُ : وَقَعَ فِي ذَلِكَ الْفَنَاءِ فَكَانَ مَعْذُورًا فِي الْبَاطِنِ ، وَلَكِنْ قَتْلُهُ وَاجِبٌ فِي الظَّاهِرِ . وَيَقُولُونَ : الْقَاتِلُ مُجَاهِدٌ وَالْمَقْتُولُ شَهِيدٌ . وَيَحْكُونَ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ أَنَّهُ قَالَ : عَثَرَ عَثْرَةً لَوْ كُنْت فِي زَمَنِهِ لَأَخَذْت بِيَدِهِ . وَيَجْعَلُونَ حَالَهُ مِنْ جِنْسِ حَالِ أَهْلِ الِاصْطِلَامِ وَالْفَنَاءِ.

وَ " حِزْبٌ ثَانٍ " : وَهُمْ الَّذِينَ يُصَوِّبُونَ حَالَ أَهْلِ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ . وَيَقُولُونَ : هُوَ الْغَايَةُ . يَقُولُونَ : بَلْ الْحَلَّاجُ كَانَ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ وَالتَّوْحِيدِ . ثُمَّ هَؤُلَاءِ فِي قَتْلِهِ فَرِيقَانِ : " فَرِيقٌ " يَقُولُ : قُتِلَ مَظْلُومًا وَمَا كَانَ يَجُوزُ قَتْلُهُ وَيُعَادُونَ الشَّرْعَ ، وَأَهْلَ الشَّرْعِ لِقَتْلِهِمْ الْحَلَّاجَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَادِي جِنْسَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلَ الْعِلْمِ . وَيَقُولُونَ : هُمْ قَتَلُوا الْحَلَّاجَ وَهَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَنَا شَرِيعَةٌ وَلَنَا حَقِيقَةٌ تُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ وَاَلَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِهَذَا الْكَلَامِ لَا يُمَيِّزُونَ مَا الْمُرَادُ بِلَفْظِ الشَّرِيعَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلَامِ سَائِرِ النَّاسِ وَلَا الْمُرَادُ بِلَفْظِ الْحَقِيقَةِ أَوْ الْحَقِّ أَوْ الذَّوْقِ أَوْ الْوَجْدِ أَوْ التَّوْحِيدِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلَامِ سَائِرِ النَّاسِ بَلْ فِيهِمْ مَنْ يَظُنُّ الشَّرْعَ عِبَارَةً عَمَّا يَحْكُمُ بِهِ الْقَاضِي . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْقَاضِي الْعَالِمِ الْعَادِلِ وَالْقَاضِي الْجَاهِلِ وَالْقَاضِي الظَّالِمِ بَلْ مَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ سَمَّاهُ شَرِيعَةً وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ تَكُونُ الْحَقِيقَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ خِلَافَ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ

شَيْئًا فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } . فَالْحَاكِمُ يَحْكُمُ بِمَا يَسْمَعُهُ مِنْ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ وَقَدْ يَكُونُ لِلْآخَرِ حُجَجٌ لَمْ يُبَيِّنْهَا وَأَمْثَالُ هَذَا . فَالشَّرِيعَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هِيَ الْأَمْرُ الْبَاطِنُ وَمَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي يُنَفَّذُ ظَاهِرًا ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْأُمُورِ قَدْ يَكُونُ بَاطِنُهَا بِخِلَافِ مَا يَظْهَرُ لِبَعْضِ النَّاسِ وَمِنْ هَذَا قِصَّةُ مُوسَى وَالْخَضِرِ : فَإِنَّهُ كَانَ الَّذِي فَعَلَهُ مَصْلَحَةً وَهُوَ شَرِيعَةٌ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهَا وَلَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِشَرْعِ اللَّهِ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَعْرِفْ مُوسَى الْبَاطِنَ كَانَ فِي الظَّاهِرِ عِنْدَهُ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ فَلَمَّا بَيَّنَ لَهُ الْخَضِرُ الْأُمُورَ وَافَقَهُ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ . وَهَذَا الْبَابُ يُقَالُ فِيهِ : قَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ مَا يَظْهَرُ وَهَذَا صَحِيحٌ . لَكِنَّ تَسْمِيَةَ الْبَاطِنِ حَقِيقَةٌ ، وَالظَّاهِرَ شَرِيعَةٌ أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ الْحَقِيقَةَ هِيَ الْأَمْرَ الْبَاطِنَ مُطْلَقًا ، وَالشَّرِيعَةَ الْأُمُورَ الظَّاهِرَةَ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ لَفْظَ " الْإِسْلَامِ " إذَا قُرِنَ بِالْإِيمَانِ أُرِيدَ بِهِ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ وَلَفْظُ " الْإِيمَانِ " يُرَادُ بِهِ الْإِيمَانُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا فَقِيلَ : شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ وَحَقَائِقُ الْإِيمَانِ كَانَ هَذَا كَلَامًا صَحِيحًا ؛ لَكِنْ مَتَى

أَفْرَدَ أَحَدُهُمَا تَنَاوُلَ الْآخَرِ فَكُلُّ شَرِيعَةٍ لَيْسَ لَهَا حَقِيقَةٌ بَاطِنَةٌ فَلَيْسَ صَاحِبُهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَكُلُّ حَقِيقَةٍ لَا تُوَافِقُ الشَّرِيعَةَ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَاحِبُهَا لَيْسَ بِمُسْلِمِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ . وَقَدْ يُرَادُ بِلَفْظِ الشَّرِيعَةِ مَا يَقُولُهُ فُقَهَاءُ الشَّرِيعَةِ بِاجْتِهَادِهِمْ وَبِالْحَقِيقَةِ مَا يَذُوقُهُ وَيَجِدُهُ الصُّوفِيَّةُ بِقُلُوبِهِمْ وَلَا رَيْبَ أَنَّ كُلًّا مِنْ هَؤُلَاءِ مُجْتَهِدُونَ : تَارَةً مُصِيبُونَ وَتَارَةً مُخْطِئُونَ وَلَيْسَ لِوَاحِدِ مِنْهُمَا تَعَمُّدُ مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إنْ اتَّفَقَ اجْتِهَادُ الطَّائِفَتَيْنِ وَإِلَّا فَلَيْسَ عَلَى وَاحِدَةٍ أَنْ تُقَلِّدَ الْأُخْرَى إلَّا أَنْ تَأْتِيَ بِحُجَّةِ شَرْعِيَّةٍ تُوجِبُ مُوَافَقَتَهَا . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُظْهِرُ أَنَّ الْحَلَّاجَ قُتِلَ بِاجْتِهَادِ فِقْهِيٍّ يُخَالِفُ الْحَقِيقَةَ الذَّوْقِيَّةَ الَّتِي عَلَيْهَا هَؤُلَاءِ وَهَذَا ظَنُّ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الَّذِي قُتِلَ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ ، وَقُتِلَ بِاتِّفَاقِ الطَّائِفَتَيْنِ مِثْلَ دَعْوَاهُ : أَنَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يُعَارِضَ الْقُرْآنَ بِخَيْرِ مِنْهُ ، وَدَعْوَاهُ أَنَّهُ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ أَنَّهُ يَبْنِي بَيْتًا يَطُوفُ بِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِشَيْءِ قَدْرَهُ وَذَلِكَ يُسْقِطُ الْحَجَّ عَنْهُ . إلَى أُمُورٍ أُخْرَى تُوجِبُ الْكُفْرَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ : عُلَمَاؤُهُمْ وَعِبَادُهُمْ وَفُقَهَاؤُهُمْ وَفُقَرَاؤُهُمْ وَصُوفِيَّتُهُمْ . وَ ( فَرِيقٌ يَقُولُونَ ) : قُتِلَ لِأَنَّهُ بَاحَ بِسِرِّ التَّوْحِيدِ وَالتَّحْقِيقِ : الَّذِي مَا

كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَبُوحَ بِهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْأَسْرَارِ الَّتِي لَا يَتَكَلَّمُ بِهَا إلَّا مَعَ خَوَاصِّ النَّاسِ وَهِيَ مِمَّا تُطْوَى وَلَا تُرْوَى وَيُنْشِدُونَ :
مَنْ بَاحَ بِالسِّرِّ كَانَ الْقَتْلُ شِيمَتَهُ * * * مِنْ الرِّجَالِ وَلَمْ يُؤْخَذْ لَهُ ثَأْرٌ
بَاحُوا بِالسِّرِّ تُبَاحُ دِمَاؤُهُمْ * * * وَكَذَا دِمَاءُ الْبَائِحِينَ تُبَاحُ (1)
وَحَقِيقَةُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ يُشْبِهُ قَوْلَ قَائِلٍ : أَنَّ مَا قَالَهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ حَقٌّ وَهُوَ مَوْجُودٌ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ ؛ لَكِنْ مَا يُمْكِنُ التَّصْرِيحُ بِهِ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ لَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ ، وَكَلَامُ صَاحِبِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ وَأَمْثَالِهِ يُشِيرُ إلَى هَذَا وَتَوْحِيدُهُ الَّذِي قَالَ فِيهِ :
مَا وَحَّدَ الْوَاحِدَ مِنْ وَاحِدٍ * * * إذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ
تَوْحِيدٍ مَنْ يُخْبِرُ عَنْ نَعْتِهِ * * * عَارِيَةٌ أَبْطَلَهَا الْوَاحِدُ
تَوْحِيدُهُ إيَّاهُ تَوْحِيدُهُ * * * وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لِأَحَدِ
فَإِنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْمُوَحِّدَ هُوَ الْمُوَحَّدُ ، وَأَنَّ النَّاطِقَ بِالتَّوْحِيدِ عَلَى لِسَانِ الْعَبْدِ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ لَا يُوَحِّدُهُ إلَّا نَفْسَهُ فَلَا يَكُونُ الْمُوَحَّدُ إلَّا الْمُوَحِّدُ وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ قَوْلِ فِرْعَوْنَ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } وَبَيْنَ قَوْلِ الْحَلَّاجِ : أَنَا الْحَقُّ وَسُبْحَانِي . فَإِنَّ فِرْعَوْنَ قَالَ ذَلِكَ : وَهُوَ يَشْهَدُ نَفْسَهُ فَقَالَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَأَمَّا أَهْلُ الْفَنَاءِ فَغَابُوا عَنْ نُفُوسِهِمْ وَكَانَ النَّاطِقُ عَلَى لِسَانِهِمْ غَيْرَهُمْ .

وَهَذَا مِمَّا وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَلِهَذَا رَدَّ الْجُنَيْد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى هَؤُلَاءِ لَمَّا سُئِلَ عَنْ التَّوْحِيدِ فَقَالَ : هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ فَبَيَّنَ الْجُنَيْد - سَيِّدُ الطَّائِفَةِ - أَنَّ التَّوْحِيدَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِأَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الرَّبِّ الْقَدِيمِ وَالْعَبْدِ الْمُحْدَثِ ؛ لَا كَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ هَذَا هُوَ هَذَا وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ الْخَاصِّ وَالْمُقَيَّدِ وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ فَأُولَئِكَ هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَوْ إنَّهُ وُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضُوعِ . وَ ( الْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الْحَلَّاجَ لَمْ يَكُنْ مُقَيَّدًا بِصِنْفِ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ بَلْ كَانَ قَدْ قَالَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي تُوجِبُ الْكُفْرَ وَالْقَتْلَ بِاتِّفَاقِ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مَا قَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَكَذَلِكَ أَنْكَرَهُ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ وَذَمُّوهُ : كالْجُنَيْد وَعُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ الْمَكِّيِّ وَأَبِي يَعْقُوبَ النهرجوري . وَمَنْ الْتَبَسَ عَلَيْهِ حَالُهُ مِنْهُمْ فَلَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ مَا قَالَهُ - إلَّا مَنْ كَانَ يَقُولُ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ مُطْلَقًا أَوْ مُعَيَّنًا - فَإِنَّهُ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا كَانَ قَوْلَ الْحَلَّاجِ وَيَنْصُرُ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ فِرْقَةُ ابْنِ سَبْعِينَ فِيهَا مِنْ رِجَالِ الظُّلْمِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْحَلَّاجُ - وَعِنْدَ جَمَاهِيرِ الْمَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْحَلَّاجَ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَشَايِخِ الصَّالِحِينَ ؛ بَلْ كَانَ زِنْدِيقًا وَزُهْدُهُ لِأَسْبَابِ مُتَعَدِّدَةٍ يَطُولُ وَصْفُهَا وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْفَنَاءِ فِي " تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ " ؛ بَلْ كَانَ قَدْ

تَعَلَّمَ السِّحْرَ وَكَانَ لَهُ شَيَاطِينُ تَخْدِمُهُ إلَى أُمُورٍ أُخْرَى مَبْسُوطَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَبِكُلِّ حَالِ آدَمَ لَمَّا أَكَلَ هُوَ وَحَوَّاءُ مِنْ الشَّجَرَةِ لَمْ يَكُنْ زَائِلَ الْعَقْلِ وَلَا فَانِيًا فِي شُهُودِ الْقَدَرِ الْعَامِّ وَلَا احْتَجَّ عَلَى مُوسَى بِذَلِكَ بَلْ قَالَ : لِمَ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ؟ فَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ لَا بِعَدَمِ تَمْيِيزِهِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ .
فَصْلٌ :
إذَا عُرِفَ هَذَا ، فَنَقُولُ : الصَّوَابُ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَمُوسَى أَنَّ مُوسَى لَمْ يَلُمْ آدَمَ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي أَصَابَتْهُ وَذُرِّيَّتَهُ بِمَا فَعَلَ لَا لِأَجْلِ أَنَّ تَارِكَ الْأَمْرِ مُذْنِبٌ عَاصٍ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ ؟ لَمْ يَقُلْ : لِمَاذَا خَالَفْت الْأَمْرَ وَلِمَاذَا عَصَيْت ؟ وَالنَّاسُ مَأْمُورُونَ عِنْدَ الْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُهُمْ بِأَفْعَالِ النَّاسِ أَوْ بِغَيْرِ أَفْعَالِهِمْ بِالتَّسْلِيمِ لِلْقَدَرِ وَشُهُودِ الرُّبُوبِيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَوْ غَيْرُهُ : هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { احْرِصْ عَلَى

مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَنَّ وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ : لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ : قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ } . فَأَمَرَهُ بِالْحِرْصِ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ وَهُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَيْسَ لِلْعِبَادِ أَنْفَعُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَمْرِهِ إذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ مُقَدَّرَةٌ أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَى الْقَدَرِ وَلَا يَتَحَسَّرَ بِتَقْدِيرِ لَا يُفِيدُ وَيَقُولَ : قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ وَلَا يَقُولَ : لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا فَيُقَدِّرُ مَا لَمْ يَقَعْ يَتَمَنَّى أَنْ لَوْ كَانَ وَقَعَ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُورِثُ حَسْرَةً وَحُزْنًا لَا يُفِيدُ وَالتَّسْلِيمُ لِلْقَدَرِ هُوَ الَّذِي يَنْفَعُهُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ : الْأَمْرُ أَمْرَانِ أَمْرٌ فِيهِ حِيلَةٌ فَلَا تَعْجِزُ عَنْهُ . وَأَمْرٌ لَا حِيلَةَ فِيهِ فَلَا تَجْزَعْ مِنْهُ . وَمَا زَالَ أَئِمَّةُ الْهُدَى مِنْ الشُّيُوخِ وَغَيْرِهِمْ يُوصُونَ الْإِنْسَانَ بِأَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ وَيَصْبِرَ عَلَى الْمَقْدُورِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمُصِيبَةُ بِسَبَبِ فِعْلِ آدَمِيٍّ . فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَنْفَقَ مَالَهُ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يُخْلِفْ لِوَلَدِهِ مَالًا أَوْ ظَلَمَ النَّاسَ بِظُلْمِ صَارُوا لِأَجْلِهِ يُبْغِضُونَ أَوْلَادَهُ وَيَحْرِمُونَهُمْ مَا يُعْطُونَهُ لِأَمْثَالِهِمْ لَكَانَ هَذَا مُصِيبَةً فِي حَقِّ الْأَوْلَادِ حَصَلَتْ بِسَبَبِ فِعْلِ الْأَبِ فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ لِأَبِيهِ : أَنْتَ فَعَلْت بِنَا هَذَا قِيلَ لِلِابْنِ هَذَا كَانَ مَقْدُورًا

عَلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ مَأْمُورُونَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يُصِيبُكُمْ وَالْأَبُ عَاصٍ لِلَّهِ فِيمَا فَعَلَهُ مِنْ الظُّلْمِ وَالتَّبْذِيرِ مَلُومٌ عَلَى ذَلِكَ لَا يَرْتَفِعُ عَنْهُ ذَمُّ اللَّهِ وَعِقَابُهُ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَبُ قَدْ تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَغَفَرَ لَهُ لَمْ يَجُزْ ذَمُّهُ وَلَا لَوْمُهُ بِحَالِ لَا مِنْ جِهَةِ حَقِّ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لِغَيْرِهِ بِفِعْلِهِ إذْ لَمْ يَكُنْ هُوَ ظَالِمًا لِأُولَئِكَ فَإِنَّ تِلْكَ كَانَتْ مُقَدَّرَةً عَلَيْهِمْ . وَهَذَا مِثَالُ " قِصَّةِ آدَمَ " : فَإِنَّ آدَمَ لَمْ يَظْلِمْ أَوْلَادَهُ بَلْ إنَّمَا وُلِدُوا بَعْدَ هُبُوطِهِ مِنْ الْجَنَّةِ وَإِنَّمَا هَبَطَ آدَمَ وَحَوَّاءُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا وَلَدٌ حَتَّى يُقَالَ : إنَّ ذَنْبَهُمَا تَعَدَّى إلَى وَلَدِهِمَا ثُمَّ بَعْدَ هُبُوطِهِمَا إلَى الْأَرْضِ جَاءَتْ الْأَوْلَادُ فَلَمْ يَكُنْ آدَمَ قَدْ ظَلَمَ أَوْلَادَهُ ظُلْمًا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ مَلَامَهُ وَكَوْنُهُمْ صَارُوا فِي الدُّنْيَا دُونَ الْجَنَّةِ أَمْرٌ كَانَ مُقَدَّرًا عَلَيْهِمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ لَوْمَ آدَمَ وَذَنَبُ آدَمَ كَانَ قَدْ تَابَ مِنْهُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } وَقَالَ : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } فَلَمْ يَبْقَ مُسْتَحِقًّا لِذَمِّ وَلَا عِقَابٍ . وَمُوسَى كَانَ أَعْلَمَ مِنْ أَنْ يَلُومَهُ لِحَقِّ اللَّهِ عَلَى ذَنَبٍ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ تَابَ مِنْهُ فَمُوسَى أَيْضًا قَدْ تَابَ مِنْ ذَنْبٍ عَمِلَهُ وَقَدْ قَالَ مُوسَى : { أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } . وَآدَمُ أَعْلَمُ مِنْ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى أَنَّ الْمُذْنِبَ لَا مَلَامَ عَلَيْهِ فَكَيْفَ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ إبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ بِسَبَبِ

ذَنْبِهِ ؛ وَهُوَ أَيْضًا كَانَ مُقَدَّرًا عَلَيْهِ وَآدَمُ قَدْ تَابَ مِنْ الذَّنْبِ وَاسْتَغْفَرَ فَلَوْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ نَافِعًا لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ لَاحْتَجَّ وَلَمْ يَتُبْ وَيَسْتَغْفِرْ . وَقَدْ رُوِيَ فِي الإسرائيليات أَنَّهُ احْتَجَّ بِهِ وَهَذَا مِمَّا لَا يُصَدَّقُ بِهِ لَوْ كَانَ مُحْتَمَلًا فَكَيْفَ إذَا خَالَفَ أُصُولَ الْإِسْلَامِ بَلْ أُصُولَ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ . نَعَمْ إنْ كَانَ ذَكَرَ الْقَدَرَ مَعَ التَّوْبَةِ فَهَذَا مُمْكِنٌ ؛ لَكِنْ لَيْسَ فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ آدَمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا وَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ فِي الدِّينِ بالإسرائيليات إلَّا مَا ثَبَتَ نَقْلُهُ بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : { إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ } . وَ ( أَيْضًا فَلَوْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ نَافِعًا لَهُ فَلِمَاذَا أُخْرِجَ مِنْ الْجَنَّةِ وَأُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ . فَإِنْ قِيلَ : وَهُوَ قَدْ تَابَ فَلِمَاذَا بَعْدَ التَّوْبَةِ أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ ؟ . قِيلَ : التَّوْبَةُ قَدْ يَكُونُ مِنْ تَمَامِهَا عَمَلٌ صَالِحٌ يَعْمَلُهُ فَيُبْتَلَى بَعْدَ التَّوْبَةِ لِيَنْظُرَ دَوَامَ طَاعَتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فِي التَّائِبِ مِنْ الرِّدَّةِ وَقَالَ فِي كَاتِمِ الْعِلْمِ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } وَقَالَ : { أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَالَ فِي الْقَذْفِ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا

فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَالَ : { إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } { وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إلَى اللَّهِ مَتَابًا } وَقَالَ : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } . { وَلَمَّا تَابَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَصَاحِبَاهُ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ بِهَجْرِهِمْ - حَتَّى نِسَائِهِمْ - ثَمَانِينَ لَيْلَةً } . { وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الغامدية لَمَّا رَجَمَهَا ؟ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ وَهَلْ وَجَدْتَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ } . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ تَوْبَتِهِ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ حَيْثُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى : { يَا قَوْمِ إنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } . وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ يَبْتَلِي الْعَبْدَ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ بِمَا يَحْصُلُ مَعَهُ شُكْرُهُ وَصَبْرُهُ أَمْ كُفْرُهُ وَجَزَعُهُ وَطَاعَتُهُ أَمْ مَعْصِيَتُهُ فَالتَّائِبُ أَحَقُّ بِالِابْتِلَاءِ فَآدَمُ أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ ابْتِلَاءً لَهُ وَوَفَّقَهُ اللَّهُ فِي هُبُوطِهِ لِطَاعَتِهِ فَكَانَ حَالُهُ بَعْدَ الْهُبُوطِ خَيْرًا مِنْ حَالِهِ قَبْلَ الْهُبُوطِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ نَافِعًا لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ مَلَامٌ أَلْبَتَّةَ ؛ وَلَا هُنَاكَ تَوْبَةٌ تَقْتَضِي أَنْ يُبْتَلَى صَاحِبُهَا بِبَلَاءِ . وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ بِعُقُوبَاتِ الْكُفَّارِ : مِثْلَ قَوْمِ

نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مَا يُعْرَفُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْوَقَائِعِ أَنْ لَا حُجَّةَ لِأَحَدِ فِي الْقَدَرِ ؛ وَأَيْضًا فَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُحَارِبِينَ مِنْ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْقِبْلَةِ وَقَتْلِ الْمُرْتَدِّ وَعُقُوبَةِ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَالشَّارِبِ مَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ .
فَصْلٌ :
فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ آدَمَ حَجَّ مُوسَى لَمَّا قَصَدَ مُوسَى أَنْ يَلُومَ مَنْ كَانَ سَبَبًا فِي مُصِيبَتِهِمْ وَبِهَذَا جَاءَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } . وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمَصَائِبُ السمائية وَالْمَصَائِبُ الَّتِي تَحْصُلُ بِأَفْعَالِ الْآدَمِيِّينَ قَالَ تَعَالَى : { وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا } . { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } وَقَالَ فِي سُورَةِ الطُّورِ بَعْدَ قَوْلِهِ : { فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ } { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } { قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ } - إلَى قَوْلِهِ - { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ } - إلَى قَوْلِهِ - { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ } { أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا

وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ ( ن ) : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ } { أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } . وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَاهُ : اصْبِرْ لِمَا يُحْكَمُ بِهِ عَلَيْك وَقِيلَ اصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ لِقَضَاءِ رَبِّك الَّذِي هُوَ آتٍ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، وَحُكْمُ اللَّهِ نَوْعَانِ : خَلْقٌ وَأَمْرٌ . ( فَالْأَوَّلُ ) : مَا يُقَدِّرُهُ مِنْ الْمَصَائِبِ . وَ ( الثَّانِي ) مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِالصَّبْرِ عَلَى هَذَا وَعَلَى هَذَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ لِمَا أُمِرَ بِهِ وَلِمَا نُهَى عَنْهُ فَيَفْعَلُ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكُ الْمَحْظُورَ وَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ لِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُ : هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَهَذَا يُتَوَجَّهُ إنْ كَانَ فِي الْآيَةِ النَّهْيُ عَنْ الْقِتَالِ فَيَكُونُ هَذَا النَّهْيُ مَنْسُوخًا لَيْسَ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ مَنْسُوخَةً كَيْفَ وَالْآيَةُ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ هُنَا لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ بَلْ الصَّبْرُ وَاجِبٌ لِحُكْمِ اللَّهِ مَا زَالَ وَاجِبًا وَإِذَا أُمِرَ بِالْجِهَادِ فَعَلَيْهِ " أَيْضًا " : أَنْ يَصْبِرَ لِحُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُبْتَلَى مِنْ قِتَالِهِمْ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ كَلَامِهِمْ كَمَا اُبْتُلِيَ بِهِ يَوْمَ أُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ وَعَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَنْ يَصْبِرَ وَيَفْعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْجِهَادِ .

وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " قَوْلُهُ : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } فَإِنَّ مَا فَعَلُوهُ مِنْ الْأَذَى هُوَ مِمَّا حُكِمَ بِهِ عَلَيْك قَدَرًا فَاصْبِرْ لِحُكْمِهِ وَإِنْ كَانُوا ظَالِمِينَ فِي ذَلِكَ وَهَذَا الصَّبْرُ أَعْظَمُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى مَا جَرَى وَفُعِلَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَقَوْلُهُ : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } وَقَالَ : { وَذَا النُّونِ إذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ } وَسَوَاءٌ كَانَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ أَوْ لِرَبِّهِ فَكَانَتْ مُغَاضَبَتُهُ مِنْ أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيْهِ وَبِصَبْرِهِ صَبَرَ لِحُكْمِ رَبِّهِ الَّذِي قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا تَأَذَّى مِنْ تَكْذِيبِ النَّاسِ لَهُ . وَقَالَتْ الرُّسُلُ لِقَوْمِهِمْ : { وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } وَقَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ لَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ : { سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } وَقَالَ : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } { الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } فَهَؤُلَاءِ ظُلِمُوا فَصَبَرُوا عَلَى ظُلْمِ الظَّالِمِ لَهُمْ وَسَبَبُ نُزُولِهَا الْمُهَاجِرُونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.

وَأَصْلُ " الْمُهَاجِرِ " مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَكُلُّ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ فَظَلَمَهُ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ حَتَّى أَخْرَجُوهُ - لَا هَجَرَ بَعْضَ أُمُورٍ فِي الدُّنْيَا - فَصَبَرَ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُبَوِّئُهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ، كَيُوسُفَ الصِّدِّيقِ فَإِنَّهُ هَجَرَ الْفَاحِشَةَ حَتَّى أَلْجَأَهُ ذَلِكَ هَجْرَ مَنْزِلِهِ . وَاللُّبْثَ فِي السِّجْنِ بَعْدَ مَا ظُلِمَ فَمَكَّنَهُ اللَّهُ حَتَّى تَبَوَّأَ مِنْ الْأَرْضِ حَيْثُ يَشَاءُ . وَقَالَ الَّذِينَ لَقُوا الْكُفَّارَ : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } وَقَالَ : { إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ } { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } وَقَالَ : { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } فَهَذَا كُلُّهُ صَبْرٌ عَلَى مَا قُدِّرَ مِنْ أَفْعَالِ الْخَلْقِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مَدَحَ فِي كِتَابِهِ الصَّبَّارَ الشَّكُورَ . قَالَ تَعَالَى : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ، فَالصَّبْرُ وَالشُّكْرُ عَلَى مَا يُقَدِّرُهُ الرَّبُّ عَلَى عَبْدِهِ مِنْ السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ : مِنْ النِّعَمِ وَالْمَصَائِبِ : مِنْ الْحَسَنَاتِ الَّتِي يَبْلُوهُ بِهَا وَالسَّيِّئَاتِ ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَلَقَّى الْمَصَائِبَ بِالصَّبْرِ وَالنِّعَمَ بِالشُّكْرِ وَمِنْ النِّعَمِ مَا يُيَسِّرُهُ لَهُ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ وَمِنْهَا مَا هِيَ خَارِجَةٌ عَنْ أَفْعَالِهِ فَيَشْهَدُ الْقَدَرَ عِنْدَ فِعْلِهِ لِلطَّاعَاتِ وَعِنْدَ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ فَيَشْكُرُهُ

وَيَشْهَدُهُ عِنْدَ الْمَصَائِبِ فَيَصْبِرُ وَأَمَّا عِنْدَ ذُنُوبِهِ فَيَكُونُ مُسْتَغْفِرًا تَائِبًا كَمَا قَالَ : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } . وَأَمَّا مَنْ عَكَسَ هَذَا فَشَهِدَ الْقَدَرَ عِنْدَ ذُنُوبِهِ وَشَهِدَ فِعْلَهُ عِنْدَ الْحَسَنَاتِ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُجْرِمِينَ وَمَنْ شَهِدَ فِعْلَهُ فِيهِمَا فَهُوَ قَدَرِيٌّ وَمَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ فِيهِمَا وَلَمْ يَعْتَرِفْ بِالذَّنْبِ وَيَسْتَغْفِرْهُ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ . وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ : أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي . كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ : { يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ } . وَكَانَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّبِعًا مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ خَادِمًا لَهُ وَلَا دَابَّةً وَلَا شَيْئًا قَطُّ ؛ إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَانْتَقَمَ لِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُ اللَّهِ فَإِذَا اُنْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ } . { وَقَالَ أَنَسٌ : خَدَمْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِشَيْءِ فَعَلْته : لِمَ فَعَلْته ؟ وَلَا لِشَيْءِ لَمْ أَفْعَلْهُ : لِمَ لَا فَعَلْته ؟ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِهِ إذَا عَتَبَنِي عَلَى شَيْءٍ يَقُولُ : دَعُوهُ دَعُوهُ فَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ } . وَفِي السُّنَنِ { عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَ بَعْضِ مَنْ آذَاهُ : فَقَالَ : دَعْنَا مِنْك فَقَدْ أُوذِيَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ } . فَكَانَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَى النَّاسِ لَهُ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَأَذَى بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ } . وَكَانَ يَذْكُرُ : أَنَّ هَذَا مُقَدَّرٌ .
وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْمَقْدُورِ وَلِذَلِكَ قَالَ : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } فَالتَّقْوَى فِعْلُ الْمَأْمُورِ وَتَرْكُ الْمَحْظُورِ وَالصَّبْرُ عَلَى أَذَاهُمْ ثُمَّ إنَّهُ حَيْثُ أَبَاحَ الْمُعَاقَبَةَ قَالَ : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } . فَأَخْبَرَ أَنَّ صَبْرَهُ بِاَللَّهِ فَاَللَّهُ هُوَ الَّذِي يُعِينُهُ عَلَيْهِ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْمَكَارِهِ بِتَرْكِ الِانْتِقَامِ مِنْ الظَّالِمِ ثَقِيلٌ عَلَى الْأَنْفُسِ لَكِنَّ صَبْرَهُ بِاَللَّهِ كَمَا أَمَرَهُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ فِي قَوْلِهِ : { وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } . لَكِنْ هُنَاكَ ذَكَرَهُ فِي الْجُمْلَةِ الطَّلَبِيَّةِ الْأَمْرِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ أَنْ يَصْبِرَ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ وَهُنَا ذَكَرَهُ فِي الْخَبَرِيَّةِ فَقَالَ : { وَمَا صَبْرُكَ إلَّا بِاللَّهِ } فَإِنَّ الصَّبْرَ وَسَائِرَ الْحَوَادِثِ لَا تَقَعُ إلَّا بِاَللَّهِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ وَقَدْ لَا يَكُونُ فَمَا لَا يَكُونُ بِاَللَّهِ لَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ لِلَّهِ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَدُومُ . وَلَا يُقَالُ : وَاصْبِرْ بِاَللَّهِ فَإِنَّ الصَّبْرَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاَللَّهِ لَكِنْ يُقَالُ : اسْتَعِينُوا بِاَللَّهِ وَاصْبِرُوا فَنَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلَى الصَّبْرِ .

وَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ مَأْمُورٌ بِشُهُودِ الْقَدَرِ وَتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ عِنْدَمَا يُنْعِمُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ فَيَشْهَدُ قَبْلَ فِعْلِهَا حَاجَتَهُ وَفَقْرَهُ إلَى إعَانَةِ اللَّهِ لَهُ وَتَحَقُّقِ قَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . وَيَدْعُو بِالْأَدْعِيَةِ الَّتِي فِيهَا طَلَبُ إعَانَةِ اللَّهِ لَهُ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ كَقَوْلِهِ : { أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك } وَقَوْلِهِ : { يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك وَيَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ اصْرِفْ قَلْبِي إلَى طَاعَتِك وَطَاعَةِ رَسُولِك } وَقَوْلِهِ : { رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } وَقَوْلِهِ : { رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } وَمِثْلِ قَوْلِهِ : { اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَاكْفِنِي شَرَّ نَفْسِي } . وَرَأْسُ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ وَأَفْضَلُهَا قَوْلُهُ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } . فَهَذَا الدُّعَاءُ أَفْضَلُ الْأَدْعِيَةِ وَأَوْجَبُهَا عَلَى الْخَلْقِ فَإِنَّهُ يَجْمَعُ صَلَاحَ الْعَبْدِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ " بِالتَّوْبَةِ " فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الدُّعَاءَ بِأَنْ يُلْهِمَ الْعَبْدَ التَّوْبَةَ وَكَذَلِكَ دُعَاءُ " الِاسْتِخَارَةِ " فَإِنَّهُ طَلَبُ تَعْلِيمِ الْعَبْدِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ وَتَيْسِيرِهِ لَهُ وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو بِهِ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ . وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ : { اللَّهُمَّ رَبِّ جبرائيل وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ

مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ الَّذِي فِيهِ : { اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِك مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعْصِيَتِك وَمِنْ طَاعَتِك مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَك وَمِنْ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا } وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ بِالْيَقِينِ وَالْعَافِيَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي قَلْبِي وَنِيَّتِي وَمِثْلُ قَوْلِ الْخَلِيلِ وَإِسْمَاعِيلَ : { وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } . وَهَذِهِ أَدْعِيَةٌ كَثِيرَةٌ تَتَضَمَّنُ افْتِقَارَ الْعَبْدِ إلَى اللَّهِ فِي أَنْ يُعْطِيَهُ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ فَهَذَا افْتِقَارٌ وَاسْتِعَانَةٌ بِاَللَّهِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَطْلُوبِ فَإِذَا حَصَلَ بِدُعَاءِ أَوْ بِغَيْرِ دُعَاءٍ شَهِدَ إنْعَامَ اللَّهِ فِيهِ وَكَانَ فِي مَقَامِ الشُّكْرِ وَالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ وَأَنَّ هَذَا حَصَلَ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ لَا بِحَوْلِ الْعَبْدِ وَقُوَّتِهِ . فَشُهُودُ الْقَدَرِ فِي الطَّاعَاتِ مِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ لِلْعَبْدِ وَغَيْبَتُهُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ أَضَرِّ الْأُمُورِ بِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدَرِيًّا مُنْكِرًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدَرِيَّ الِاعْتِقَادِ كَانَ قَدَرِيَّ الْحَالِ وَذَلِكَ يُورِثُ الْعَجَبَ وَالْكِبْرَ وَدَعْوَى الْقُوَّةِ وَالْمِنَّةِ بِعَمَلِهِ وَاعْتِقَادِ اسْتِحْقَاقِ الْجَزَاءِ عَلَى اللَّهِ بِهِ فَيَكُونُ مَنْ يَشْهَدُ الْعُبُودِيَّةَ مَعَ الذُّنُوبِ وَالِاعْتِرَافِ بِهَا - لَا مَعَ الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ - عَلَيْهَا خَيْرًا مِنْ هَذَا الَّذِي يَشْهَدُ الطَّاعَةَ مِنْهُ لَا مِنْ إحْسَانِ اللَّهِ إلَيْهِ وَيَكُونُ أُولَئِكَ الْمُذْنِبُونَ بِمَا مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ أَفْضَلَ مِنْ طَاعَةٍ بِدُونِ هَذَا الْإِيمَانِ .

وَأَمَّا مَنْ أَذْنَبَ وَشَهِدَ أَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ أَصْلًا لِكَوْنِ اللَّهِ هُوَ الْفَاعِلَ وَعِنْدَ الطَّاعَةِ يَشْهَدُ أَنَّهُ الْفَاعِلُ فَهَذَا شَرُّ الْخَلْقِ وَأَمَّا الَّذِي يَشْهَدُ نَفْسَهُ فَاعِلًا لِلْأَمْرَيْنِ وَاَلَّذِي يَشْهَدُ رَبَّهُ فَاعِلًا لِلْأَمْرَيْنِ وَلَا يَرَى لَهُ ذَنْبًا فَهَذَا أَسْوَأُ عَاقِبَةً مِنْ الْقَدَرِيِّ وَالْقَدَرِيُّ أَسْوَأُ بِدَايَةً مِنْهُ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .
وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ " أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ " مَنْ يَغْضَبُ لِرَبِّهِ لَا لِنَفْسِهِ وَعَكْسِهِ وَمَنْ يَغْضَبُ لَهُمَا وَمَنْ لَا يَغْضَبُ لَهُمَا كَمَا أَنَّهُمْ فِي شُهُودِ الْقَدَرِ " أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ " : مَنْ يَشْهَدُ الْحَسَنَةَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ وَالسَّيِّئَةَ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ . وَعَكْسُهُ وَمَنْ يَشْهَدُ الثِّنْتَيْنِ مِنْ فِعْلِ رَبِّهِ وَمَنْ يَشْهَدُ الثِّنْتَيْنِ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ . فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ فِي شُهُودِ الرُّبُوبِيَّةِ نَظِيرُ تِلْكَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ فِي شُهُودِ الْإِلَهِيَّةِ فَهَذَا تَقْسِيمُ الْعِبَادِ فِيمَا لِلَّهِ وَلَهُمْ وَذَاكَ تَقْسِيمُهُمْ فِيمَا هُوَ بِاَللَّهِ وَبِهِمْ وَالْقِسْمُ الْمَحْضُ أَنْ يَعْمَلَ لِلَّهِ بِاَللَّهِ فَلَا يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ وَلَا بِنَفْسِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : تَقْسِيمُهُمْ فِيمَا لِلَّهِ . فَأَعْلَاهُمْ حَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ : أَنْ يَصْبِرُوا عَلَى أَذَى النَّاسِ لَهُمْ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ وَيُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُعَاقِبُونَ وَيَغْضَبُونَ وَيَنْتَقِمُونَ لِلَّهِ لَا لِنُفُوسِهِمْ يُعَاقِبُونَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِعُقُوبَةِ ذَلِكَ الشَّخْصِ وَيَجِبُ الِانْتِقَامُ مِنْهُ كَمَا فِي جِهَادِ الْكُفَّارِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَأَدْنَاهُمْ عَكْسُ هَؤُلَاءِ يَغْضَبُونَ وَيَنْتَقِمُونَ وَيُعَاقِبُونَ لِنُفُوسِهِمْ لَا لِرَبِّهِمْ فَإِذَا أُوذِيَ أَحَدُهُمْ أَوْ خُولِفَ هَوَاهُ غَضِبَ وَانْتَقَمَ وَعَاقَبَ وَلَوْ اُنْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ أَوْ ضُيِّعَتْ حُقُوقُهُ لَمْ يَهُمَّهُ ذَلِكَ وَهَذَا حَالُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ .

وَبَيْنَ هَذَيْنِ وَهَذَيْنِ قِسْمَانِ " قِسْمٌ " يَغْضَبُونَ لِرَبِّهِمْ وَلِنُفُوسِهِمْ . وَ " قِسْمٌ " يَمِيلُونَ إلَى الْعَفْوِ فِي حَقِّ اللَّهِ وَحُقُوقِهِمْ فَمُوسَى فِي غَضَبِهِ عَلَى قَوْمِهِ لَمَّا عَبَدُوا الْعِجْلَ كَانَ غَضَبُهُ لِلَّهِ وَقَدْ مَثَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ بِإِبْرَاهِيمَ وَعِيسَى وَنُوحٍ وَمُوسَى فَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ يُلِينُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنْ اللَّبَنِ وَيُشَدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنْ الْحَجَرِ وَمَثَلُك يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ إبْرَاهِيمَ وَعِيسَى وَمَثَلُك يَا عُمَرُ كَمَثَلِ نُوحٍ وَمُوسَى } . وَأَمَّا عَفْوُ الْإِنْسَانِ عَنْ حُقُوقِهِ فَهَذَا أَفْضَلُ وَإِنْ كَانَ الِاقْتِصَاصُ جَائِزًا وَكَذَلِكَ غَضَبُهُ لِنَفْسِهِ تَرْكُهُ أَفْضَلُ وَإِنْ كَانَ الِاقْتِصَاصُ جَائِزًا وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ بَابِ الْمَصَائِبِ الْحَاصِلَةِ بِقَدَرِ اللَّهِ وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا مُذْنِبٌ يُعَاقَبُ فَلَيْسَ فِيهَا إلَّا الصَّبْرُ وَالتَّسْلِيمُ لِلْقَدَرِ . وَقِصَّةُ آدَمَ وَمُوسَى كانت مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ فَإِنَّ مُوسَى لَامَهُ لِأَجْلِ مَا أَصَابَهُ وَالذُّرِّيَّةَ وَآدَمُ كَانَ قَدْ تَابَ مِنْ الذَّنْبِ وَغُفِرَ لَهُ وَالْمُصِيبَةُ كَانَتْ مُقَدَّرَةً فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى . وَهَكَذَا قَدْ يُصِيبُ النَّاسُ مَصَائِبَ بِفِعْلِ أَقْوَامٍ مُذْنِبِينَ تَابُوا مِثْلَ كَافِرٍ يَقْتُلُ مُسْلِمًا ثُمَّ يُسْلِمُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَوْ يَكُونُ مُتَأَوِّلًا لِبِدْعَةِ ثُمَّ يَتُوبُ مِنْ الْبِدْعَةِ أَوْ يَكُونُ مُجْتَهِدًا أَوْ مُقَلِّدًا مُخْطِئًا فَهَؤُلَاءِ إذَا أَصَابَ الْعَبْدَ أَذًى بِفِعْلِهِمْ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمَصَائِبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي لَا يُطْلَبُ فِيهَا قِصَاصٌ مِنْ آدَمِيٍّ

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْقِتَالُ فِي " الْفِتْنَةِ " . قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ - وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ - فَأَجْمَعُوا أَنَّ كُلَّ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ فَرْجٍ أُصِيبَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ هَدَرٌ وَكَذَلِكَ " قِتَالُ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ " حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ بِقِتَالِهِمْ إذَا قَاتَلَهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ فَأَصَابُوا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ نُفُوسًا وَأَمْوَالًا لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد . وَكَذَلِكَ " الْمُرْتَدُّونَ " إذَا صَارَ لَهُمْ شَوْكَةٌ فَقَتَلُوا الْمُسْلِمِينَ وَأَصَابُوا مِنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ كَمَا اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ أَنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ مَا أَتْلَفُوهُ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُمْ بَاطِلًا كَمَا أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَوَاتِرَةَ عَنْهُ مَضَتْ بِأَنَّ الْكُفَّارَ إذَا قَتَلُوا بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ وَأَتْلَفُوا أَمْوَالَهُمْ ثُمَّ أَسْلَمُوا لَمْ يَضْمَنُوا مَا أَصَابُوهُ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَأَصْحَابُ تِلْكَ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ كَانُوا يُجَاهِدُونَ قَدْ اشْتَرَى اللَّهُ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ فَعِوَضُ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ عَلَى اللَّهِ لَا عَلَى أُولَئِكَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ . وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ فَهُوَ فِي الْأَعْرَاضِ أَوْلَى فَمَنْ كَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ : بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ . وَبَيَانِ الدَّيْنِ وَتَبْلِيغِ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَيْرِ ؛ وَبَيَانِ الْأَقْوَالِ الْمُخَالِفَةِ لِذَلِكَ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَوْ بِالْيَدِ كَقِتَالِ الْكُفَّارِ فَإِذَا

أُوذِيَ عَلَى جِهَادِهِ بِيَدِ غَيْرِهِ أَوْ لِسَانِهِ فَأَجْرُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ لَا يَطْلُبُ مِنْ هَذَا الظَّالِمِ عِوَضَ مَظْلِمَتِهِ بَلْ هَذَا الظَّالِمُ إنْ تَابَ وَقَبِلَ الْحَقَّ الَّذِي جُوهِدَ عَلَيْهِ فَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } . وَإِنْ لَمْ يَتُبْ بَلْ أَصَرَّ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْحَقُّ فِي ذُنُوبِهِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَإِنْ كَانَ " أَيْضًا " لِلْمُؤْمِنِينَ حَقٌّ تَبَعًا لِحَقِّ اللَّهِ وَهَذَا إذَا عُوقِبَ لِحَقِّ اللَّهِ وَلِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ لَا لِأَجْلِ الْقِصَاصِ فَقَطْ . وَالْكُفَّارُ إذَا اعْتَدَوْا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ أَنْ يُمَثِّلُوا بِهِمْ فَلِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُمَثِّلُوا بِهِمْ كَمَا مَثَّلُوا وَالصَّبْرُ أَفْضَلُ وَإِذَا مَثَّلُوا كَانَ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْجِهَادِ ، وَالدُّعَاءُ عَلَى جِنْسِ الظَّالِمِينَ الْكُفَّارِ مَشْرُوعٌ مَأْمُورٌ بِهِ وَشُرِعَ الْقُنُوتُ وَالدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالدُّعَاءُ عَلَى الْكَافِرِينَ . وَأَمَّا الدُّعَاءُ عَلَى مُعَيَّنِينَ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْعَنُ فُلَانًا وَفُلَانًا فَهَذَا قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } . كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فِيمَا كَتَبْته فِي قَلْعَةِ مِصْرَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعَيَّنَ لَا يَعْلَمُ إنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَهْلِكَ بَلْ قَدْ يَكُونُ مِمَّنْ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ ؛ بِخِلَافِ الْجِنْسِ فَإِنَّهُ إذَا دُعِيَ عَلَيْهِمْ بِمَا فِيهِ عِزُّ الدِّينِ وَذُلُّ عَدُوِّهِ وَقَمْعُهُمْ كَانَ هَذَا دُعَاءً بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَأَهْلَ الْإِيمَانِ وَعُلُوَّ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَذُلَّ الْكُفَّارِ فَهَذَا دُعَاءٌ بِمَا يُحِبُّ اللَّهُ وَأَمَّا الدُّعَاءُ عَلَى الْمُعَيَّنِ بِمَا لَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ

يَرْضَاهُ فَغَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ وَقَدْ كَانَ يَفْعَلُ ثُمَّ نَهَى عَنْهُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ يَتُوبُ عَلَيْهِ أَوْ يُعَذِّبُهُ . وَدُعَاءُ نُوحٍ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ بِالْهَلَاكِ كَانَ بَعْدَ أَنْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ مِنْ قَوْمِك إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ يَقُولُ : { إنِّي دَعَوْت عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ دَعْوَةً لَمْ أومر بِهَا } فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَنْهَ عَنْهَا فَلَمْ يُؤْمَرْ بِهَا فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَدْعُوَ إلَّا بِدُعَاءِ مَأْمُورٍ بِهِ وَاجِبٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ فَإِنَّ الدُّعَاءَ مِنْ الْعِبَادَاتِ فَلَا يُعْبَدُ اللَّهُ إلَّا بِمَأْمُورِ بِهِ وَاجِبٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ وَهَذَا لَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ لَكَانَ شَرْعًا لِنُوحِ ثُمَّ نَنْظُرُ فِي شَرْعِنَا هَلْ نَسَخَهُ أَمْ لَا ؟ . وَكَذَلِكَ دُعَاءُ مُوسَى بِقَوْلِهِ : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } إذَا كَانَ دُعَاءً مَأْمُورًا بِهِ بَقِيَ النَّظَرُ فِي مُوَافَقَةِ شَرْعِنَا لَهُ وَالْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ فِي شَرْعِنَا أَنَّ الدُّعَاءَ إنْ كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا فَهُوَ حَسَنٌ يُثَابُ عَلَيْهِ الدَّاعِي وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا كَالْعُدْوَانِ فِي الدِّمَاءِ فَهُوَ ذَنْبٌ وَمَعْصِيَةٌ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا فَهُوَ يُنْقِصُ مَرْتَبَةَ صَاحِبِهِ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا مُسْتَوِيَ الطَّرَفَيْنِ فَلَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ فَهَذَا هَذَا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ :
وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ : الَّذِينَ يَسْلُكُونَ إلَى اللَّهِ مَحْضَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالدُّنُوِّ وَالْقُرْبِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمُنَزَّلَيْنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الَّذِينَ يَنْتَهُونَ إلَى الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ يَقُولُونَ بِالْجَمْعِ وَالِاصْطِلَامِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَلَا يَصِلُونَ إلَى الْفَرْقِ الثَّانِي . وَيَقُولُونَ ؛ إنَّ صَاحِبَ الْفَنَاءِ لَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُ سَيِّئَةً وَيَجْعَلُونَ هَذَا غَايَةَ السُّلُوكِ . وَاَلَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا يَسْتَحْسِنُونَهُ ويستقبحونه وَيُحِبُّونَهُ وَيَكْرَهُونَهُ وَيَأْمُرُونَ بِهِ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ لَكِنْ بِإِرَادَتِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ وَهَوَاهُمْ ؛ لَا بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ لَمْ يُحَقِّقُوا شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَشَهَادَةَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنَّ تَحْقِيقَ الشَّهَادَةِ بِالتَّوْحِيدِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُحِبَّ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُبْغِضَ إلَّا لِلَّهِ ، وَلَا يُوَالِيَ إلَّا لِلَّهِ ، وَلَا يُعَادِيَ إلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يُحِبَّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ وَيَأْمُرَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ، وَيَنْهَى عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَّك لَا تَرْجُو إلَّا اللَّهَ وَلَا تَخَافُ إلَّا اللَّهَ وَلَا تَسْأَلُ إلَّا اللَّهَ وَهَذَا مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ وَهَذَا الْإِسْلَامُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ جَمِيعَ الْمُرْسَلِينَ .

وَالْفَنَاءُ فِي هَذَا هُوَ " الْفَنَاءُ " الْمَأْمُورُ بِهِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَهُوَ أَنْ يَفْنَى بِعِبَادَةِ اللَّهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ ؛ وَبِطَاعَتِهِ عَنْ طَاعَةِ مَا سِوَاهُ وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ عَنْ التَّوَكُّلِ عَلَى مَا سِوَاهُ وَبِرَجَائِهِ وَخَوْفِهِ عَنْ رَجَاءِ مَا سِوَاهُ وَخَوْفِهِ فَيَكُونُ مَعَ الْحَقِّ بِلَا خَلْقٍ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ : كُنْ مَعَ الْحَقِّ بِلَا خَلْقٍ وَمَعَ الْخَلْقِ بِلَا نَفْسٍ . وَتَحْقِيقُ الشَّهَادَةِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ طَاعَتُهُ طَاعَةَ اللَّهِ وَإِرْضَاؤُهُ إرْضَاءَ اللَّهِ . وَدِينُ اللَّهِ مَا أَمَرَ بِهِ فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ وَلِهَذَا طَالَبَ اللَّهُ الْمُدَّعِينَ لِمَحَبَّتِهِ بِمُتَابَعَتِهِ فَقَالَ : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } وَضَمِنَ لِمَنْ اتَّبَعَهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ بِقَوْلِهِ : { يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } . وَصَاحِبُ هَذِهِ الْمُتَابَعَةِ لَا يَبْقَى مُرِيدًا إلَّا مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا كَارِهًا إلَّا لِمَا كَرِهَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُحِبُّهُ الْحَقُّ كَمَا قَالَ : { وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي ؛ وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ . وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } .

فَهَذَا مَحْبُوبُ الْحَقِّ وَمَنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ فَهُوَ مَحْبُوبُ الْحَقِّ وَهُوَ الْمُتَقَرِّبُ إلَى اللَّهِ بِمَا دَعَا إلَيْهِ الرَّسُولُ مِنْ فَرْضٍ وَنَفْلٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ يُحِبُّ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُبْغِضُ مَعْصِيَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ الْفَرَائِضَ وَالنَّوَافِلَ كُلَّهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَيْسَ فِيهَا كُفْرٌ وَلَا فُسُوقٌ وَالرَّبُّ تَعَالَى أَحَبَّهُ لَمَّا قَامَ بِمَحْبُوبِ الْحَقِّ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَلَمَّا لَمْ يَزَلْ مُتَقَرِّبًا إلَى الْحَقِّ بِمَا يُحِبُّهُ مِنْ النَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَحَبَّهُ الْحَقُّ فَإِنَّهُ اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي مَحْبُوبِ الْحَقِّ . فَصَارَ الْحَقُّ يُحِبُّهُ الْمَحَبَّةَ التَّامَّةَ الَّتِي لَا يَصِلُ إلَيْهَا مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي التَّقَرُّبِ إلَى الْحَقِّ بِمَحْبُوبَاتِهِ حَتَّى صَارَ يَعْلَمُ بِالْحَقِّ وَيَعْمَلُ بِالْحَقِّ فَصَارَ بِهِ يَسْمَعُ وَبِهِ يُبْصِرُ وَبِهِ يَبْطِشُ وَبِهِ يَمْشِي . وَأَمَّا الَّذِي لَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُ سَيِّئَةً فَهَذَا لَمْ تَبْقَ عِنْدَهُ الْأُمُورُ " نَوْعَانِ " : مَحْبُوبٌ لِلْحَقِّ وَمَكْرُوهٌ ؛ بَلْ كُلُّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ عِنْدَهُ مَحْبُوبٌ لِلْحَقِّ كَمَا أَنَّهُ مُرَادٌ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَصْلُ قَوْلِهِمْ : هُوَ قَوْلُ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ فَهُمْ مِنْ غُلَاةِ الْجَهْمِيَّة الْجَبْرِيَّةِ فِي الْقَدَرِ وَإِنْ كَانُوا فِي الصِّفَاتِ يُكَفِّرُونَ الْجَهْمِيَّة نفاة الصِّفَاتِ كَحَالِ أَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ صَاحِبِ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " وَ " ذَمِّ الْكَلَامِ " و " الْفَارُوقِ " و " تَكْفِيرِ الْجَهْمِيَّة " وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ فِي بَابِ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ فِي غَايَةِ الْمُقَابَلَةِ للجهمية والْنُّفَاةِ وَفِي بَابِ الْأَفْعَالِ وَالْقَدَرِ قَوْلُهُ يُوَافِقُ الْجَهْمَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غُلَاةِ الْجَبْرِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَمِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ .

فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَقَرُّوا بِالْقَدَرِ مُوَافَقَةً لِلسَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ وَهُمْ مُصِيبُونَ فِي ذَلِكَ وَخَالَفُوا " الْقَدَرِيَّةَ " مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرَهُمْ فِي نَفْيِ الْقَدَرِ وَلَكِنْ سَلَكُوا فِي ذَلِكَ مَسْلَكَ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعِهِ فَزَعَمُوا : أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا لَمْ تَصْدُرْ إلَّا عَنْ إرَادَةِ تَخْصِيصِ أَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا سَبَبٍ . وَقَالُوا : الْإِرَادَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا سَوَاءٌ ؛ فَوَافَقُوا فِي ذَلِكَ الْقَدَرِيَّةَ ؛ فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ كِلَاهُمَا يَقُولُ : إنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُرَجِّحٍ ؛ وَكِلَاهُمَا يَقُولُ : لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا . ثُمَّ قَالَتْ " الْقَدَرِيَّةُ " وَقَدْ عُلِمَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ ؛ وَلَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ؛ وَيَكْرَهُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ . قَالُوا : فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ الْمَعَاصِي وَاقِعًا بِدُونِ مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ كَمَا هُوَ وَاقِعٌ عَلَى خِلَافِ أَمْرِهِ وَخِلَافِ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَقَالُوا : إنَّ مَحَبَّتَهُ وَرِضَاهُ لِأَعْمَالِ عِبَادِهِ هُوَ بِمَعْنَى أَمْرِهِ بِهَا ؛ فَكَذَلِكَ إرَادَتُهُ لَهَا بِمَعْنَى أَمْرِهِ بِهَا فَلَا يَكُونُ قَطُّ عِنْدَهُمْ مُرِيدًا لِغَيْرِ مَا أَمَرَهُ بِهِ ؛ وَأَخَذَ هَؤُلَاءِ يَتَأَوَّلُونَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ إرَادَتِهِ لِكُلِّ مَا يَحْدُثُ وَمِنْ خَلْقِهِ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ بِتَأْوِيلَاتِ مُحَرَّفَةٍ . وَقَالَتْ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ اتَّبَعَهَا مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ : قَدْ عُلِمَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ ؛ وَلَا يَكُونُ خَالِقًا إلَّا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ ؛ فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَكُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ فَهُوَ

بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهُوَ خَالِقُهُ ؛ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَغَيْرُهَا ؛ ثُمَّ قَالُوا : وَإِذَا كَانَ مُرِيدًا لِكُلِّ حَادِثٍ وَالْإِرَادَةُ هِيَ الْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا ؛ فَهُوَ مُحِبٌّ رَاضٍ لِكُلِّ حَادِثٍ ؛ وَقَالُوا : كُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ كُفْرٍ وَفُسُوقٍ وَعِصْيَانٍ فَإِنَّ اللَّهَ رَاضٍ بِهِ مُحِبٌّ لَهُ ؛ كَمَا هُوَ مُرِيدٌ لَهُ . فَقِيلَ لَهُمْ : فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } . فَقَالُوا : هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ : لَا يُرِيدُ الْفَسَادَ ؛ وَلَا يُرِيدُ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ؛ وَهَذَا يَصِحُّ عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِمَنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ الْكُفْرُ وَالْفَسَادُ ؛ وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرِيدُ وَلَا يُحِبُّ مَا لَمْ يَقَعْ عِنْدَهُمْ ؛ فَقَالُوا : مَعْنَاهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ؛ وَلَا يَرْضَاهُ لَهُمْ . وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ : أَنَّ اللَّهَ أَيْضًا لَا يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَلَا يَرْضَاهُ مِنْ الْكُفَّارِ . فَالْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا عِنْدَهُمْ كَالْإِرَادَةِ عِنْدَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا وَقَعَ دُونَ مَا لَمْ يَقَعْ ؛ سَوَاءٌ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ ؛ وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ سَعَادَةِ الْعِبَادِ أَوْ شَقَاوَتِهِمْ ؛ وَعِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَا وُجِدَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ ؛ وَلَا يُحِبُّ مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ ؛ كَمَا أَرَادَ هَذَا دُونَ هَذَا .
وَ الْوَجْهُ الثَّانِي : قَالُوا : لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ دِينًا ؛ وَلَا يَرْضَاهُ دِينًا ؛ وَحَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ دِينًا ؛ فَإِنَّهُ إذَا أَرَادَ وُقُوعَ الشَّيْءِ عَلَى صِفَةٍ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لَهُ عَلَى خِلَافِ تِلْكَ الصِّفَةِ ؛ وَهُوَ إذَا أَرَادَ وُقُوعَ شَيْءٍ مَعَ شَيْءٍ

لَمْ يُرِدْ وُقُوعَهُ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ زَيْدًا مِنْ عَمْرٍو لَمْ يُرِدْ أَنْ يَخْلُقَهُ مِنْ غَيْرِهِ ؛ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُنَزِّلَ مَطَرًا فَتَنْبُتُ الْأَرْضُ بِهِ ؛ فَإِنَّهُ أَرَادَ إنْزَالَهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ ؛ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَبَ الْبَحْرَ قَوْمٌ فَيَغْرَقُ بَعْضُهُمْ ؛ وَيَسْلَمُ بَعْضُهُمْ ؛ وَيَرْبَحُ بَعْضُهُمْ ؛ فَإِنَّمَا أَرَادَهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ ؛ فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ ؛ قَرَنَ بِالْإِيمَانِ نَعِيمَ أَصْحَابِهِ ؛ وَبِالْكُفْرِ عَذَابَ أَصْحَابِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ جَعْلُ شَيْءٍ لِشَيْءِ سَبَبًا وَلَا خَلْقُ شَيْءٍ لِحِكْمَةِ ؛ لَكِنْ جَعْلُ هَذَا مَعَ هَذَا . وَعِنْدَهُمْ جَعْلُ السَّعَادَةِ مَعَ الْإِيمَانِ لَا بِهِ كَمَا يَقُولُونَ : إنَّهُ خَلَقَ الشِّبَعَ عِنْدَ الْأَكْلِ لَا بِهِ ؛ فَالدِّينُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ هُوَ مَا قَرَنَ بِهِ سَعَادَةَ صَاحِبِهِ فِي الْآخِرَةِ وَالْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ عِنْدَهُمْ أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ كَمَا أَرَادَهُ ؛ لَكِنْ لَمْ يُحِبَّهُ مَعَ سَعَادَةِ صَاحِبِهِ ؛ فَلَمْ يُحِبَّهُ دِينًا كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ مَعَ سَعَادَةِ صَاحِبِهِ دِينًا . وَهَذَا الْمَشْهَدُ الَّذِي شَهِدَهُ أَهْلُ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ فَإِنَّهُمْ رَأَوْا الرَّبَّ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِإِرَادَتِهِ وَعَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مَا أَرَادَ . وَلَا سَبَبَ عِنْدَهُمْ لِشَيْءِ وَلَا حِكْمَةٍ ؛ بَلْ كُلُّ الْحَوَادِثِ تَحْدُثُ بِالْإِرَادَةِ .
ثُمَّ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ ونفاة الصِّفَاتِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ لَا يُثْبِتُونَ إرَادَةً قَائِمَةً بِذَاتِهِ بَلْ إمَّا أَنْ يَنْفُوهَا ؛ وَإِمَّا أَنْ يَجْعَلُوهَا بِمَعْنَى الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ ؛ وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا : أَحْدَثَ إرَادَةً لَا فِي مَحَلٍّ . وَأَمَّا مُثْبِتَةُ الصِّفَاتِ : كَابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا - مِمَّنْ يُثْبِتُ

الصِّفَاتِ ؛ وَلَا يُثْبِتُ إلَّا وَاحِدًا مُعَيَّنًا - فَلَا يُثْبِتُ إلَّا إرَادَةً وَاحِدَةً تَتَعَلَّقُ بِكُلِّ حَادِثٍ ؛ وَسَمْعًا وَاحِدًا مُعَيَّنًا مُتَعَلِّقًا بِكُلِّ مَسْمُوعٍ وَبَصَرًا وَاحِدًا مُعَيَّنًا مُتَعَلِّقًا بِكُلِّ مَرْئِيٍّ ؛ وَكَلَامًا وَاحِدًا بِالْعَيْنِ يَجْمَعُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ كَمَا قَدْ عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ . فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : جَمِيعُ الْحَادِثَاتِ صَادِرَةٌ عَنْ تِلْكَ الْإِرَادَةِ الْوَاحِدَةِ الْعَيْنُ الْمُفْرَدَةُ الَّتِي تُرَجِّحُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ لَا بِمُرَجَّحِ وَهِيَ الْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ إذَا شَهِدُوا هَذَا لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ فَرْقٌ بَيْنَ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ إلَّا مِنْ حَيْثُ مُوَافَقَتُهَا لِلْإِنْسَانِ وَمُخَالَفَةُ بَعْضِهَا لَهُ فَمَا وَافَقَ مُرَادَهُ وَمَحْبُوبَهُ كَانَ حَسَنًا عِنْدَهُ وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ كَانَ قَبِيحًا عِنْدَهُ فَلَا يَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَسَنَةٌ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَلَا سَيِّئَةٌ يَكْرَهُهَا إلَّا بِمَعْنَى أَنَّ الْحَسَنَةَ هِيَ مَا قُرِنَ بِهَا لَذَّةُ صَاحِبِهَا وَالسَّيِّئَةَ مَا قُرِنَ بِهَا أَلَمُ صَاحِبِهَا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ يَعُودُ إلَيْهِ وَلَا إلَى الْأَفْعَالِ أَصْلًا ؛ وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَا يُثْبِتُونَ حَسَنًا وَلَا قَبِيحًا لَا بِمَعْنَى الْمُلَائِمِ لِلطَّبْعِ وَالْمُنَافِي لَهُ وَالْحُسْنُ وَالْقُبْحُ الشَّرْعِيُّ هُوَ مَا دَلَّ صَاحِبَهُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ لِمَنْ فَعَلَهُ لَذَّةٌ أَوْ حُصُولُ أَلَمٍ لَهُ . وَلِهَذَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَيَنْهَى عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى عَنْ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَيَجُوزُ نَسْخُ كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ بِكُلِّ مَا نَهَى عَنْهُ . وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ فِي الْوُجُودِ خَيْرٌ وَلَا شَرٌّ وَلَا حَسَنٌ وَلَا قَبِيحٌ إلَّا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَمَا فِي الْوُجُودِ ضُرٌّ وَلَا نَفْعٌ وَالنَّفْعُ

وَالضُّرُّ أَمْرَانِ إضَافِيَّانِ فَرُبَّمَا نَفَعَ هَذَا مَا ضَرَّ هَذَا . كَمَا يُقَالُ : مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ . فَلَمَّا كَانَ هَذَا حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ الَّذِي يَعْتَقِدُونَهُ وَيَشْهَدُونَهُ صَارُوا حِزْبَيْنِ . حِزْبًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ أَقَرُّوا بِالْفَرْقِ الطَّبِيعِيِّ وَقَالُوا : مَا ثَمَّ فَوْقُ إلَّا الْفَرْقُ الطَّبِيعِيُّ لَيْسَ هُنَا فَرْقٌ يَرْجِعُ إلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ يُحِبُّ هَذَا وَيُبْغِضُ هَذَا . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَضْعُفُ عِنْدَهُ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ إمَّا لِقَوْلِهِ بِالْإِرْجَاءِ وَإِمَّا لِظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ لِمَصَالِحِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا إقَامَةً لِلْعَدْلِ كَمَا يَقُولُ : ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ فَلَا يَبْقَى عِنْدَهُ فَرْقٌ بَيْنَ فِعْلٍ وَفِعْلٍ إلَّا مَا يُحِبُّهُ هُوَ وَيُبْغِضُهُ فَمَا أَحَبَّهُ هُوَ كَانَ الْحَسَنَ الَّذِي يَنْبَغِي فِعْلُهُ وَمَا أَبْغَضَهُ كَانَ الْقَبِيحَ الَّذِي يَنْبَغِي تَرْكُهُ . وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ ؛ الَّذِينَ يَرَوْنَ رَأْيَ جَهْمٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَنَحْوِهِمَا فِي الْقَدَرِ تَجِدُهُمْ لَا يَنْتَهُونَ فِي الْمَحَبَّةِ وَالْبِغْضَةِ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ إلَّا إلَى مَحْضِ أَهْوَائِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَهُوَ الْفَرْقُ الطَّبِيعِيُّ . وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنًا بِالْوَعْدِ فَإِنَّهُ قَدْ يَفْعَلُ الْوَاجِبَاتِ وَيَتْرُكُ الْمُحَرَّمَاتِ لَكِنْ لِأَجْلِ مَا قُرِنَ بِهِمَا مِنْ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَنِكَاحٍ وَهَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَالتَّلَذُّذَ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ وَعِنْدَهُمْ إذَا قِيلَ : إنَّ

الْعِبَادَ يَتَلَذَّذُونَ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ عِنْدَ النَّظَرِ يَخْلُقُ لَهُمْ مِنْ اللَّذَّاتِ بِالْمَخْلُوقَاتِ مَا يَتَلَذَّذُونَ بِهِ لَا أَنَّ نَفْسَ النَّظَرِ إلَى اللَّهِ يُوجِبُ لَذَّةً وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ " . وَجَعْلُ هَذَا مِنْ أَسْرَارِ التَّوْحِيدِ هُوَ مِنْ إشْرَاكِ التَّوْحِيدِ الَّذِي يُسَمِّيهِ هَؤُلَاءِ الْنُّفَاةِ تَوْحِيدًا لَا مِنْ أَسْرَارِ التَّوْحِيدِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ بِهِ الْكُتُبَ ؛ فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِمَعْنَى فِي الْمَحْبُوبِ يُحِبُّهُ الْمُحِبُّ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ فِي الْمَوْجُودَاتِ شَيْءٌ يُحِبُّهُ الرَّبُّ إلَّا بِمَعْنَى يُرِيدُهُ وَهُوَ مُرِيدٌ لِكُلِّ الْحَوَادِثِ ؛ وَلَا فِي الرَّبِّ عِنْدَهُمْ مَعْنًى يُحِبُّهُ الْعَبْدُ وَإِنَّمَا يُحِبُّ الْعَبْدُ مَا يَشْتَهِيهِ وَإِنَّمَا يَشْتَهِي الْأُمُورَ الطَّبِيعِيَّةَ الْمُوَافِقَةَ لِطَبْعِهِ وَلَا يُوَافِقُ طَبْعَهُ عِنْدَهُمْ إلَّا اللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنِّكَاحِ .
وَ الْحِزْبُ الثَّانِي مِنْ الصُّوفِيَّةِ : الَّذِي كَانَ هَذَا الْمَشْهَدُ هُوَ مُنْتَهَى سُلُوكِهِمْ عَرَّفُوا الْفَرْقَ الطَّبِيعِيَّ ؛ وَهُمْ قَدْ سَلَكُوا عَلَى تَرْكِ هَذَا الْفَرْقِ الطَّبِيعِيِّ وَأَنَّهُمْ يَزْهَدُونَ فِي حُظُوظِ النَّفْسِ وَأَهْوَائِهَا ؛ لَا يُرِيدُونَ شَيْئًا لِأَنْفُسِهِمْ ؛ وَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ طَلَبَ شَيْئًا لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الْجَنَّةِ فَإِنَّمَا طَلَبَ هَوَاهُ وَحَظَّهُ ؛ وَهَذَا كُلُّهُ نَقْصٌ عِنْدَهُمْ يُنَافِي حَقِيقَةَ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ ؛ وَهُوَ بَقَاءٌ مَعَ النَّفْسِ وَحُظُوظِهَا . وَالْمَقَامَاتُ كُلُّهَا عِنْدَهُمْ - التَّوَكُّلُ وَالْمَحَبَّةُ ؛ وَغَيْرُ ذَلِكَ - إنَّمَا هِيَ مَنَازِلُ أَهْلِ الشَّرْعِ السَّائِرِينَ إلَى عَيْنِ الْحَقِيقَةِ ؛ فَإِذَا شَهِدُوا تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ عِلَلًا فِي الْحَقِيقَةِ ؛ إمَّا لِنَقْصِ الْمَعْرِفَةِ وَالشُّهُودِ وَإِمَّا لِأَنَّهُ ذَبَّ عَنْ

النَّفْسِ وَطَلَبَ حُظُوظَهَا ؛ فَإِنَّهُ مَنْ شَهِدَ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ فَالرَّبُّ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَيُرِيدُهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ إلَّا أَنَّ مِنْ الْأُمُورِ مَا مَعَهُ حَظٌّ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ لَذَّةٍ يُصِيبُهَا وَمِنْهَا مَا مَعَهُ أَلَمٌ لِبَعْضِ النَّاسِ فَمَنْ كَانَ هَذَا مَشْهَدُهُ فَإِنَّهُ قَطْعًا يَرَى أَنَّ كُلَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ لَمْ يُفَرِّقْ إلَّا لِنَقْصِ مَعْرِفَتِهِ ، وَشُهُودُهُ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمُرِيدٌ لِكُلِّ شَيْءٍ وَمُحِبٌّ - عَلَى قَوْلِهِمْ - لِكُلِّ شَيْءٍ وَإِنَّمَا لِفَرْقِ يَرْجِعُ إلَى حَظِّهِ وَهَوَاهُ فَيَكُونُ طَالِبًا لِحَظِّهِ ذَابًّا عَنْ نَفْسِهِ . وَهَذَا عِلَّةٌ وَعَيْبٌ عِنْدَهُمْ . فَصَارَ عِنْدَهُمْ كُلُّ مَنْ فَرَّقَ : إمَّا نَاقِصُ الْمَعْرِفَةِ وَالشَّهَادَةِ وَإِمَّا نَاقِصُ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ . وَكِلَاهُمَا عِلَّةٌ ؛ بِخِلَافِ صَاحِبِ الْفَنَاءِ فِي مَشْهَدِ الرُّبُوبِيَّةِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ بِإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ عِنْدَهُمْ لَا فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ فَلَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُ سَيِّئَةً كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ . وَلِهَذَا فِي الْكَلَامِ الْمَنْقُولِ عَنْ الذبيلي وَأَبِي يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا رَأَيْت أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَنَعَّمُونَ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ فَوَقَعَ فِي قَلْبِك فَرْقٌ . خَرَجْت عَنْ حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ أَوْ قَالَ : عَنْ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ التَّوَكُّلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يُعْدَمُ مِنْ الْحَيَوَانِ دَائِمًا بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ يَمِيلُ إلَى مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ لَكِنَّهُ فِي حَالِ الْفَنَاءِ قَدْ يَكُونُ مُسْتَغْرِقًا فِي ذَلِكَ الْمَشْهَدِ وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَمِيلَ إلَى أُمُورٍ يَحْتَاجُ إلَيْهَا فَيُرِيدُهَا وَأُمُورٍ تَضُرُّهُ فَيَكْرَهُهَا وَهَذَا فَرْقٌ طَبِيعِيٌّ لَا يَخْلُو مِنْهُ بَشَرٌ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131