الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

قِيَاسٌ أَقْبَحُ مِنْ الْبَوْلِ فِي الْمَسْجِدِ . وَزُفَرُ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْإِمْعَانِ فِي طَرْدِ قِيَاسِهِ إلَى الْأَصْلِ الثَّابِتِ فِي الَّذِي قَاسَ عَلَيْهِ وَمِنْ عِلَّةِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ " وَهُوَ جَوَابُ سُؤَالِ الْمُطَالَبَةِ " . فَمَنْ أَحْكَمَ هَذَا الْأَصْلَ اسْتَقَامَ قِيَاسُهُ . كَمَا أَنَّ زُفَرَ اعْتَقَدَ أَنَّ النِّكَاحَ إلَى أَجَلٍ يَبْطُلُ فِيهِ التَّوْقِيتُ وَيَصِحُّ النِّكَاحُ لَازِمًا . وَخَرَجَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ قَوْلًا فِي مَذْهَبِ أَحْمَد فَكَانَ مَضْمُونُ هَذَا الْقَوْلِ : أَنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ يَصِحُّ لَازِمًا غَيْرَ مُوَقَّتٍ وَهُوَ خِلَافُ الْمَنْصُوصِ وَخِلَافُ إجْمَاعِ السَّلَفِ . وَالْأُمَّةُ إذَا اخْتَلَفَتْ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إحْدَاثُ قَوْلٍ يُنَاقِضُ الْقَوْلَيْنِ وَيَتَضَمَّنُ إجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى الْخَطَأِ وَالْعُدُولِ عَنْ الصَّوَابِ ؛ وَلَيْسَ فِي السَّلَفِ مَنْ يَقُولُ فِي الْمُتْعَةِ إلَّا أَنَّهَا بَاطِلَةٌ أَوْ تَصِحُّ مُؤَجَّلَةً . فَالْقَوْلُ بِلُزُومِهَا مُطْلَقٌ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ : وَسَبَبُ هَذَا الْقَوْلِ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ فَاسِدٍ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ لَازِمًا مَعَ إبْطَالِ شَرْطِ التَّحْلِيلِ . وَأَمْثَالَ ذَلِكَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ } " فَدَلَّ النَّصُّ عَلَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِالشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْوَفَاءِ بِالشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ ؛ فَإِذَا كَانَتْ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فِي الْبَيْعِ لَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ بِدُونِهَا ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يَبْطُلَ الْعَقْدُ وَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ الْخِيَارُ لِمَنْ فَاتَ غَرَضُهُ بِالِاشْتِرَاطِ إذَا بَطَلَ الشَّرْطُ فَكَيْفَ بِالْمَشْرُوطِ فِي النِّكَاحِ : وَأَصْلُ " عُمْدَتِهِمْ " كَوْنُ النِّكَاحِ يَصِحُّ بِدُونِ تَقْدِيرِ الصَّدَاقِ كَمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَقَاسُوا الَّذِي يُشْرَطُ فِيهِ نَفْيُ الْمَهْرِ

عَلَى النِّكَاحِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ تَقْدِيرُ الصَّدَاقِ فِيهِ كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَد . ثُمَّ طَرَدَ أَبُو حَنِيفَةَ قِيَاسَهُ فَصَحَّحَ " نِكَاحَ الشِّغَارِ " بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجِبُ إشْغَارَهُ عَنْ الْمَهْرِ . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فَتَكَلَّفُوا الْفَرْقَ بَيْنَ الشِّغَارِ وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَشْرِيكًا فِي الْبُضْعِ أَوْ تَعْلِيقَ الْعَقْدِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ فُرُوقٌ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ . وَأَنَّ الصَّوَابَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد فِي عَامَّةِ أَجْوِبَتِهِ ؛ وَعَامَّةُ أَكْثَرِ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ : أَنَّ الْعِلَّةَ فِي إفْسَادِهِ بِشَرْطِ إشْغَارِ النِّكَاحِ عَنْ الْمَهْرِ وَأَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ بِلَازِمِ إذَا شُرِطَ فِيهِ نَفْيُ الْمَهْرِ أَوْ مَهْرٌ فَاسِدٌ فَإِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فِيهِ الْمَهْرَ ؛ فَلَمْ يَحِلَّ لِغَيْرِ الرَّسُولِ النِّكَاحُ بِلَا مَهْرٍ . فَمَنْ تَزَوَّجَ بِشَرْطِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ مَهْرٌ فَلَمْ . يَعْتَبِرْ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَبَاحَ الْعَقْدَ لِمَنْ يَبْتَغِي بِمَالِهِ مُحْصِنًا غَيْرَ مُسَافِحٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } فَمَنْ طَلَبَ النِّكَاحَ بِلَا مَهْرٍ فَلَمْ يَفْعَلْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَهْرٍ ؛ لَكِنْ لَمْ يُقَدِّرْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } فَهَذَا نِكَاحُ الْمَهْرِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ .

وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ ؛ فَإِنَّ الْبَيْعَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَهُوَ السِّعْرُ أَوْ الْإِجَارَةَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ : لَا يَصِحُّ . وَقَدْ سَلَّمَ لَهُمْ هَذَا الْأَصْلَ الَّذِي قَاسُوا عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فِي الْبَيْعِ . وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ : يَجِبُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي مَا جَرَتْ الْعَادَةُ فِيهِ وَمِثْلُ ذَلِكَ كَمَنْ دَخَلَ حَمَّامَ حمامي يَدْخُلُهَا النَّاسُ بالكرا أَوْ يَسْكُنُ فِي خَانٍ أَوْ حُجْرَةٍ عَادَتُهَا بِذَلِكَ أَوْ دَفَعَ طَعَامَهُ أَوْ خُبْزَهُ إلَى مَنْ يَطْبُخُ أَوْ يَخْبِزُ بِالْأُجْرَةِ أَوْ بِنَايَةً إلَى مَنْ يَعْمَلُ بِالْأُجْرَةِ أَوْ رَكِبَ دَابَّةَ مُكَارِي يُكَارِي بِالْأُجْرَةِ أَوْ سَفِينَةَ مَلَّاحٍ يُرْكِبُ بِالْأُجْرَةِ فَإِنَّ هَذِهِ إجَارَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَيَجِبُ فِيهَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ . فَهَذِهِ إجَارَةٌ عَنْ الْمِثْلِ وَكَذَلِكَ إذَا ابْتَاعَ طَعَامًا مِثْلَ مَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ أَوْ بِسِعْرِ مَا يَبِيعُونَ النَّاسَ أَوْ بِمَا اشْتَرَاهُ مِنْ بَلَدِهِ أَوْ بِرَقْمِهِ : فَهَذَا يَجُوزُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَمِثْلِهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضُوعِ ؛ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ لَا يُوجَدُ فِي كُتُبِهِمْ إلَّا الْقَوْلُ بِفَسَادِ هَذِهِ الْعُقُودِ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا كَانَ " مَسَائِلَ الْحَضَانَةِ " وَإِنَّ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْأُمَّ قُدِّمَتْ لِتَقَدُّمِ قَرَابَةِ الْأُمِّ لَمَّا كَانَ أَصْلُهُمْ ضَعِيفًا كَانَتْ الْفُرُوعُ اللَّازِمَةُ لِلْأَصْلِ الضَّعِيفِ ضَعِيفَةً وَفَسَادُ اللَّازِمِ يَسْتَلْزِمُ فَسَادَ الْمَلْزُومِ ؛ بَلْ الصَّوَابُ بِلَا رَيْبٍ أَنَّهَا

قُدِّمَتْ لِكَوْنِهَا امْرَأَةً فَتَكُونُ الْمَرْأَةُ أَحَقَّ بِحَضَانَةِ الصَّغِيرِ مِنْ الرَّجُلِ . فَتُقَدَّمُ الْأُمُّ عَلَى الْأَبِ وَالْجَدَّةُ عَلَى الْجَدِّ وَالْأُخْتُ عَلَى الْأَخِ وَالْخَالَةُ عَلَى الْخَالِ وَالْعَمَّةُ عَلَى الْعَمِّ . وَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَ امْرَأَةٌ بَعِيدَةٌ وَرَجُلٌ قَرِيبٌ فَهَذَا بَسْطُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ مَسْأَلَةِ الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ فَتَخْيِيرُ الصَّبِيِّ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ أَوْلَى مِنْ تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ لَهُ وَلِهَذَا كَانَ تَعْيِينُ الْأَبِ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد . . . (1) الْأُمُّ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ وَالتَّخْيِيرُ تَخْيِيرُ شَهْوَةٍ ؛ وَلِهَذَا قَالُوا : إذَا اخْتَارَ الْأَبُ مُدَّةً ثُمَّ اخْتَارَ الْأُمَّ فَلَهُ ذَلِكَ حَتَّى قَالُوا : مَتَى اخْتَارَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ اخْتَارَ الْآخَرَ نُقِلَ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَارَ أَبَدًا . وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِينَ بِالتَّخْيِيرِ : الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ . وَقَالُوا : إذَا اخْتَارَ الْأُمَّ كَانَ عِنْدَهَا لَيْلًا وَأَمَّا بِالنَّهَارِ فَيَكُونُ عِنْدَ الْأَبِ ؛ لِيُعَلِّمَهُ وَيُؤَدِّبَهُ . هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . كَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَهُوَ يَقُولُ يَكُونُ عِنْدَهَا بِلَا تَخْيِيرٍ وَالْأَبُ يَتَعَاهَدُهُ عِنْدَهَا وَأَدَبَهُ وَبَعْثَهُ لِلْمَكْتَبِ وَلَا يَبِيتُ إلَّا عِنْدَ الْأُمِّ . قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : إنْ اخْتَارَ الْأَبَ كَانَ عِنْدَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ زِيَارَةِ أُمِّهِ وَلَا تُمْنَعْ الْأُمُّ مِنْ تَمْرِيضِهِ إذَا اعْتَلَّ . فَأَمَّا " الْبِنْتُ " إذَا خُيِّرَتْ : فَكَانَتْ عِنْدَ الْأُمِّ تَارَةً وَعِنْدَ الْأَبِ تَارَةً . أَفْضَى ذَلِكَ إلَى كَثْرَةِ بُرُوزِهَا وَتَبَرُّجِهَا وَانْتِقَالِهَا مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ

وَلَا يَبْقَى الْأَبُ مُوَكَّلًا بِحِفْظِهَا وَلَا الْأُمُّ مُوَكَّلَةً بِحِفْظِهَا . وَقَدْ عُرِفَ بِالْعَادَةِ أَنَّ مَا يَتَنَاوَبُ النَّاسُ عَلَى حِفْظِهِ ضَاعَ وَمِنْ الْأَمْثَالِ السَّائِرَةِ " لَا يَصْلُحُ الْقِدْرُ بَيْنَ طَبَّاخَيْنِ " . " وَأَيْضًا " فَاخْتِيَارُ أَحَدِهِمَا يُضْعِفُ رَغْبَةَ الْآخَرِ فِي الْإِحْسَانِ وَالصِّيَانَةِ فَلَا يَبْقَى الْأَبُ تَامَّ الرَّغْبَةِ وَلَا الْأُمُّ تَامَّةَ الرَّغْبَةِ فِي حِفْظِهَا وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى كَمَا قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ : { رَبِّ إنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي } { وَإنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى } { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } فَهَذِهِ مَرْيَمُ احْتَاجَتْ إلَى مَنْ يَكْفُلُهَا وَيَحْضُنُهَا حَتَّى أَسْرَعُوا إلَى كَفَالَتِهَا فَكَيْفَ غَيْرُهَا مِنْ النِّسَاءِ وَهَذَا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ بِالتَّجْرِبَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْتَاجُ مِنْ الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الصَّبِيُّ وَكُلُّ مَا كَانَ أَسْتَرَ لَهَا وأصون كَانَ أَصْلَحَ لَهَا . وَلِهَذَا كَانَ لِبَاسُهَا الْمَشْرُوعُ لِبَاسًا يَسْتُرُهَا وَلُعِنَ مَنْ يَلْبَسُ لِبَاسَ الرِّجَالِ وَقَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ فِي عِصَابَتِهَا { : لَيَّةٌ لَا لَيَّتَيْنِ } " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . " { صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مِنْ أُمَّتِي لَمْ أَرَهُمَا بَعْدُ : نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ عَلَى رُءُوسِهِنَّ مِثْلُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَرِجَالٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا عِبَادَ اللَّهِ } .

و " أَيْضًا " يَأْمُرُونَ الْمَرْأَةَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ تَجْمَعَ وَلَا تُجَافِيَ بَيْنَ أَعْضَائِهَا وَتَتَرَبَّعَ وَلَا تَفْتَرِشَ وَفِي الْإِحْرَامِ لَا تَرْفَعَ صَوْتَهَا إلَّا بِقَدْرِ مَا تَسْمَعُ رَفِيقَتُهَا وَأَنْ لَا تَرْقَى فَوْقَ الصَّفَا والمروة . كُلُّ ذَلِكَ لِتَحْقِيقِ سَتْرِهَا وَصِيَانَتِهَا وَنُهِيَتْ أَنْ تُسَافِرَ إلَّا مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ ؛ لِحَاجَتِهَا فِي حِفْظِهَا إلَى الرِّجَالِ مَعَ كِبَرِهَا وَمَعْرِفَتِهَا . فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً مُمَيِّزَةً وَقَدْ بَلَغَتْ سِنَّ ثَوَرَانِ الشَّهْوَةِ فِيهَا وَهِيَ قَابِلَةٌ لِلِانْخِدَاعِ وَفِي الْحَدِيثِ { النِّسَاءُ لَحْمٌ عَلَى وظم إلَّا مَا ذُبَّ عَنْهُ . } فَهَذَا قِيَاسُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الصِّفَةِ الْمُمَيِّزَةِ مِنْ أَحْوَجِ النِّسَاءِ إلَى حِفْظِهَا وَصَوْنِهَا وَتَرَدُّدُهَا بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ مِمَّا يُخِلُّ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا هِيَ لَا يَجْتَمِعُ قَلْبُهَا عَلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ وَلَا يَجْتَمِعُ قَلْبُ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ عَلَى حِفْظِهَا . وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ تَمْكِينَهَا مِنْ اخْتِيَارِ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً يُخِلُّ بِكَمَالِ حِفْظِهَا وَهُوَ ذَرِيعَةٌ إلَى ظُهُورِهَا وَبُرُوزِهَا فَكَانَ الْأَصْلَحُ لَهَا أَنْ تُجْعَلَ عِنْدَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ مُطْلَقًا لَا تُمَكَّنُ مِنْ التَّخْيِيرِ كَمَا قَالَ ذَلِكَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ : مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمْ . وَلَيْسَ فِي تَخْيِيرِهَا نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ تَخْيِيرِهَا وَتَخْيِيرِ الِابْنِ ؛ لَا سِيَّمَا وَالذَّكَرُ مَحْبُوبٌ مَرْغُوبٌ وَالْبِنْتُ مَزْهُودٌ فِيهَا . فَأَحَدُ الْوَالِدَيْنِ قَدْ يَزْهَدُ فِيهَا مَعَ رَغْبَتِهَا فِيهِ فَكَيْفَ مَعَ زُهْدِهَا فِيهِ فَالْأَصْلَحُ لَهَا لُزُومُ أَحَدِهِمَا ؛ لَا التَّرَدُّدُ بَيْنَهُمَا . ثُمَّ هُنَاكَ يَحْصُلُ الِاجْتِهَادُ فِي تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا : فَمَنْ عَيَّنَ الْأُمَّ كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا بُدَّ أَنْ يُرَاعُوا مَعَ ذَلِكَ صِيَانَةَ الْأُمِّ لَهَا وَلِهَذَا قَالُوا مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَغَيْرُهُمَا : إذَا لَمْ تَكُنْ الْأُمُّ فِي مَوْضِعِ حِرْزٍ

وَتَحْصِينٍ أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَرْضِيَّةٍ : فَلِلْأَبِ أَخْذُهَا مِنْهَا . وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَاعَاهُ أَحْمَد فِي الرَّاوِيَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ أَصْحَابِهِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ حِفْظِهَا وَصِيَانَتِهَا وَأَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَنْتَزِعَهَا مِنْ الْأُمِّ إذَا لَمْ تَكُنْ حَافِظَةً لَهَا بِلَا رَيْبٍ فَالْأَبُ أَقْدَرُ عَلَى حِفْظِهَا وَصِيَانَتِهَا وَهِيَ مُمَيِّزَةٌ لَا تَحْتَاجُ فِي بَدَنِهَا إلَى أَحَدٍ وَالْأَبُ لَهُ مِنْ الْهَيْبَةِ وَالْحُرْمَةِ مَا لَيْسَ لِلْأُمِّ . وَأَحْمَد وَأَصْحَابُهُ إنَّمَا يُقَدِّمُونَ الْأَبَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ حِرْزٌ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْأَبَ عَاجِزٌ عَنْ حِفْظِهَا وَصِيَانَتِهَا أَوْ مُهْمِلٌ لِحِفْظِهَا وَصِيَانَتِهَا فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ الْأُمَّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ . فَكُلُّ مَنْ قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ إنَّمَا نُقَدِّمُهُ إذَا حَصَلَ بِهِ مَصْلَحَتُهَا أَوْ انْدَفَعَتْ بِهِ مَفْسَدَتُهَا . فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ فَسَادِ أَمْرِهَا مَعَ أَحَدِهِمَا فَالْآخَرُ أَوْلَى بِهَا بِلَا رَيْبٍ حَتَّى الصَّغِيرُ إذَا اخْتَارَ أَحَدَ أَبَوَيْهِ وَقَدَّمْنَاهُ إنَّمَا نُقَدِّمُهُ بِشَرْطِ حُصُولِ مَصْلَحَتِهِ وَزَوَالِ مَفْسَدَتِهِ . فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الْأَبَ دَيُّوثٌ لَا يَصُونُهُ وَالْأُمُّ تَصُونُهُ : لَمْ نَلْتَفِتْ إلَى اخْتِيَارِ الصَّبِيِّ فَإِنَّهُ ضَعِيفُ الْعَقْلِ قَدْ يَخْتَارُ أَحَدَهُمَا لِكَوْنِهِ يُوَافِقُ هَوَاهُ الْفَاسِدَ وَيَكُونُ الصَّبِيُّ قَصْدُهُ الْفُجُورُ وَمُعَاشَرَةُ الْفُجَّارِ وَتَرْكُ مَا يَنْفَعُهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْأَدَبِ وَالصِّنَاعَةِ فَيَخْتَارُ مِنْ أَبَوَيْهِ مَنْ يَحْصُلُ لَهُ مَعَهُ مَا يَهْوَاهُ وَالْآخَرُ قَدْ يَرُدُّهُ وَيُصْلِحُهُ وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَنْ يَفْسُدُ مَعَهُ حَالُهُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ } " فَمَتَى كَانَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ وَالْآخَرُ

لَا يَأْمُرُهُ كَانَ عِنْدَ الَّذِي يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ دُونَ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْآمِرَ لَهُ هُوَ الْمُطِيعُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي تَرْبِيَتِهِ وَالْآخَرُ عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ فَلَا نُقَدِّمُ مَنْ يَعْصِي اللَّهَ فِيهِ عَلَى مَنْ يُطِيعُ اللَّهَ فِيهِ ؛ بَلْ يَجِبُ إذَا كَانَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ يَفْعَلُ مَعَهُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَيَتْرُكُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْآخَرُ لَا يَفْعَلُ مَعَهُ الْوَاجِبَ أَوْ يَفْعَلُ مَعَهُ الْحَرَامَ : قُدِّمَ مَنْ يَفْعَلُ الْوَاجِبَ وَلَوْ اخْتَارَ الصَّبِيُّ غَيْرَهُ ؛ بَلْ ذَلِكَ الْعَاصِي لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ بِحَالِ ؛ بَلْ كُلُّ مَنْ لَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِبِ فِي وِلَايَتِهِ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ ؛ بَلْ إمَّا تُرْفَعُ يَدُهُ عَنْ الْوِلَايَةِ وَيُقَامُ مَنْ يَفْعَلُ الْوَاجِبَ وَإِمَّا أَنْ نَضُمَّ إلَيْهِ مَنْ يَقُومُ مَعَهُ بِالْوَاجِبِ . فَإِذَا كَانَ مَعَ حُصُولِهِ عِنْدَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ لَا تَحْصُلُ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي حَقِّهِ وَمَعَ حُصُولِهِ عِنْدَ الْآخَرِ تَحْصُلُ : قُدِّمَ الْأَوَّلُ قَطْعًا . وَلَيْسَ هَذَا الْحَقُّ مِنْ جِنْسِ الْمِيرَاثِ الَّذِي يَحْصُلُ بِالرَّحِمِ وَالنِّكَاحِ وَالْوِلَايَةِ إنْ كَانَ الْوَارِثُ حَاجِزًا أَوْ عَاجِزًا . بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ " الْوِلَايَةِ " وِلَايَةِ النِّكَاحِ وَالْمَالِ الَّتِي لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوَاجِبِ وَفِعْلُهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْأَبَ تَزَوَّجَ ضَرَّةً وَهِيَ تُتْرَكُ عِنْدَ ضَرَّةِ أُمِّهَا لَا تَعْمَلُ مَصْلَحَتَهَا بَلْ تُؤْذِيهَا أَوْ تُقَصِّرُ فِي مَصْلَحَتِهَا وَأُمُّهَا تَعْمَلُ مَصْلَحَتُهَا وَلَا تُؤْذِيهَا فَالْحَضَانَةُ هُنَا لِلْأُمِّ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ التَّخْيِيرَ مَشْرُوعٌ وَأَنَّهَا اخْتَارَتْ الْأُمَّ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الشَّارِعَ لَيْسَ لَهُ نَصٌّ عَامٌّ فِي تَقْدِيمِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ مُطْلَقًا وَلَا تَخْيِيرِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ مُطْلَقًا . وَالْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا مُطْلَقًا ؛ بَلْ مَعَ الْعُدْوَانِ وَالتَّفْرِيطِ لَا يُقَدَّمُ مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ عَلَى الْبَرِّ الْعَادِلِ الْمُحْسِنِ الْقَائِمِ بِالْوَاجِبِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ وَلَدٌ كَبِيرٌ فَسَافَرَ مَعَ كَرَائِمِ أَمْوَالِهِ فِي الْبَحْرِ الْمَالِحِ وَلَهُ آخَرُ مُرَاهِقٌ مِنْ أُمٍّ أُخْرَى مُطَلَّقَةٍ مِنْهُ وَلَهَا أَبٌ وَأُمٌّ ؛ وَالْوَلَدُ عِنْدَهُمْ مُقِيمٌ فَأَرَادَ وَالِدُهُ أَخْذَهُ وَتَسْفِيرَهُ صُحْبَةَ أَخِيهِ بِغَيْرِ رِضَا الْوَالِدَةِ وَغَيْرِ رِضَا الْوَلَدِ : فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
يُخَيَّرُ الْوَلَدُ بَيْنَ أَبَوَيْهِ ؛ فَإِنْ اخْتَارَ الْمُقَامَ عِنْدَ أُمِّهِ وَهِيَ غَيْرُ مُزَوَّجَةٍ كَانَ عِنْدَهَا وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ تَسْفِيرُهُ ؛ لَكِنْ يَكُونُ عِنْدَ أَبِيهِ نَهَارًا لِيُعَلِّمَهُ وَيُؤَدِّبَهُ وَعِنْدَ أُمِّهِ لَيْلًا . وَإِنْ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْأَبِ كَانَ عِنْدَهُ . وَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْأَبِ وَرَأَى مِنْ الْمَصْلَحَةِ لَهُ تَسْفِيرَهُ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى الْوَلَدِ فَلَهُ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ وَمَعَهَا بِنْتٌ وَتُوُفِّيَتْ الزَّوْجَةُ وَبَقِيَتْ الْبِنْتُ عِنْدَهُ رَبَّاهَا ؛ وَقَدْ تَعَرَّضَ بَعْضُ الْجُنْدِ لِأَخْذِهَا : فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ .
الْجَوَابُ :
لَيْسَ لِلْجُنْدِ عَلَيْهَا وِلَايَةٌ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْ يَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ بِالنَّسَبِ فَمَنْ كَانَ أَصْلَحَ لَهَا حَضَنَهَا وَزَوْجُ أُمِّهَا مَحْرَمٌ لَهَا . وَأَمَّا الْجُنْدُ فَلَيْسَ مَحْرَمًا لَهَا : فَإِذَا كَانَ يَحْضُنُهَا حَضَانَةً تُصْلِحُهَا لَمْ تُنْقَلْ مِنْ عِنْدِهِ لِأَجْنَبِيٍّ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا وَالْخَلْوَةُ بِهَا .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
إذَا كَانَ الِابْنُ فِي حَضَانَةِ أُمِّهِ فَأَنْفَقَتْ عَلَيْهِ تَنْوِي بِذَلِكَ الرُّجُوعَ عَلَى الْأَبِ فَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَى الْأَبِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ الَّذِي عَلَيْهِ قُدَمَاءُ أَصْحَابِهِ فَإِنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ مَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا رَجَعَ عَلَيْهِ وَإِنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ إذْنٍ : مِثْلَ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ أَوْ يُنْفِقَ عَلَى عَبْدِهِ أَوْ يَخْشَى أَنْ يَقْتُلَهُ الْعَدُوُّ ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فَأَمَرَ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ بِمُجَرَّدِ الْإِرْضَاعِ ؛ وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَقْدًا وَلَا إذْنًا . فَإِنْ تَبَرَّعَتْ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ . فَإِذَا شَرَطَ عَلَيْهَا أَنَّهَا إنْ سَافَرَتْ بِالْبِنْتِ لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ وَرَضِيَتْ بِذَلِكَ فَسَافَرَتْ بِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ ؛ وَلَوْ نَوَتْ الرُّجُوعَ ؛ لِأَنَّهَا ظَالِمَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ بِالسَّفَرِ بِهَا ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِ أَبِيهَا وَهُوَ لَمْ يَأْذَنْ لَهَا فِي السَّفَرِ إلَّا إذَا كَانَتْ مُتَبَرِّعَةً بِالنَّفَقَةِ ؛ فَمَتَى سَافَرَتْ وَطَلَبَتْ الرُّجُوعَ بِالنَّفَقَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْجِنَايَاتِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْقِصَاصِ
فَأَجَابَ :
الْقِصَاصُ ثَابِتٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ يُقْتَصُّ لِلْهَاشِمِيِّ الْمُسْلِمِ مِنْ الْحَبَشِيِّ الْمُسْلِمِ وَلِلْحَبَشِيِّ الْمُسْلِمِ مِنْ الْهَاشِمِيِّ الْمُسْلِمِ : فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . بِحَيْثُ يَجُوزُ الْقِصَاصُ فِي الْأَعْرَاضِ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْتَصَّ . فَإِذَا قَالَ لَهُ الْهَاشِمِيُّ : يَا كَلْبُ قَالَ لَهُ يَا كَلْبُ وَإِذَا قَالَ : لَعَنَك اللَّهُ . قَالَ لَهُ : لَعَنَك اللَّهُ . وَيَجُوزُ ذَلِكَ . وَهَذَا مِنْ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } { إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } . وَلَوْ كَذَبَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ سَبَّ أَبَا رَجُلٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسُبَّ أَبَاهُ سَوَاءٌ كَانَ هَاشِمِيًّا أَوْ غَيْرَ هَاشِمِيٍّ ؛ فَإِنَّ أَبَا السَّابِّ

لَمْ يَظْلِمْهُ ؛ وَإِنَّمَا ظَلَمَهُ السَّابُّ { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } . وَلَكِنْ إنْ سَبَّ مُسْلِمٌ أَبَا مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ . فَالْهَاشِمِيُّ إذَا سَبَّ أَبَا مُسْلِمٍ عُزِّرَ الْهَاشِمِيُّ عَلَى ذَلِكَ . وَمَنْ سَبَّ أَبَا هَاشِمِيٍّ عُزِّرَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ سَبًّا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ سَبَّ أَبَاهُ وَجَدَّهُ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّفْظَ لَيْسَ ظَاهِرًا فِي ذَلِكَ ؛ إذْ الْجَدُّ الْمُطْلَقُ : هُوَ أَبُو الْأَبِ . وَإِذَا سُمِّيَ الْعَبْدُ جَدًّا فَأَجْدَادُهُ كَثِيرَةٌ فَلَا يَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ ؛ وَسَبُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفْرٌ يُوجِبُ الْقَتْلَ فَلَا يَزُولُ الْإِيمَانُ الْمُتَعَيِّنُ بِالشَّكِّ وَلَا يُبَاحُ الدَّمُ الْمَعْصُومُ بِالشَّكِّ ؛ لَا سِيَّمَا وَالْغَالِبُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ هُوَ أَنْ لَا يَقْصِدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا لَفْظُهُ وَلَا حَالُهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَلَا يُقْبَلُ عَلَيْهِ قَوْلُ مَنْ ادَّعَى أَنَّهُ قَصَدَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا حُجَّةٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ حُكْمِ قَتْلِ الْمُتَعَمِّدِ وَمَا هُوَ : هَلْ إنْ قَتَلَهُ عَلَى مَالٍ ؟ أَوْ حِقْدٍ ؟ أَوْ عَلَى أَيِّ شَيٍّ يَكُونُ قَتْلُ الْمُتَعَمِّدِ ؟ وَقَالَ قَائِلٌ : إنْ كَانَ عَلَى مَالٍ فَمَا هُوَ هَذَا أَوْ عَلَى حِقْدٍ ؛ أَوْ عَلَى دَيْنٍ : فَمَا هُوَ مُتَعَمِّدٌ . فَقَالَ الْقَائِلُ : فَالْمُتَعَمِّدُ ؟ قَالَ : إذَا قَتَلَهُ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا إذَا قَتَلَهُ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ : مِثْلَ مَا يُقَاتِلُ النَّصْرَانِيُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى دِينِهِمْ : فَهَذَا كَافِرٌ شَرٌّ مِنْ الْكَافِرِ الْمُعَاهَدِ فَإِنَّ هَذَا كَافِرٌ مُحَارَبٌ بِمَنْزِلَةِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ وَهَؤُلَاءِ مُخَلَّدُونَ فِي جَهَنَّمَ كَتَخْلِيدِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ قَتْلًا مُحَرَّمًا ؛ لِعَدَاوَةِ أَوْ مَالٍ أَوْ خُصُومَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ ؛ وَلَا يُكَفَّرُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَإِنَّمَا يُكَفَّرُ بِمِثْلِ هَذَا الْخَوَارِجُ ؛ وَلَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ؛ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِتَخْلِيدِ فُسَّاقِ الْمِلَّةِ . وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } . وَجَوَابُهُمْ : عَلَى أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ لِقَتْلِهِ عَلَى إيمَانِهِ . وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَمْ يَحْمِلُوهَا عَلَى هَذَا ؛ بَلْ قَالُوا : هَذَا وَعِيدٌ مُطْلَقٌ قَدْ فَسَّرَهُ قَوْله تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَفِي ذَلِكَ حِكَايَةٌ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ كَانَ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالَ عَمْرٌو : يُؤْتَى بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لِي : يَا عَمْرَوًا مِنْ أَيْنَ قُلْت . إنِّي لَا أَغْفِرُ لِقَاتِلِ ؟ فَأَقُولُ : أَنْتَ يَا رَبُّ قُلْت : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا } . قَالَ : فَقُلْت لَهُ : فَإِنْ قَالَ لَك : فَإِنِّي قُلْت : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فَمِنْ أَيْنَ عَلِمْت أَنِّي لَا أَشَاءُ أَنْ أَغْفِرَ لِهَذَا ؟ فَسَكَتَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ الْقَاتِلِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً : هَلْ يَدْفَعُ الْكَفَّارَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } ؟ أَوْ يُطَالَبُ بِدِيَةِ الْقَتْلِ ؟
فَأَجَابَ :
" قَتْلُ الْخَطَأِ " لَا يَجِبُ فِيهِ إلَّا الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ وَلَا إثْمَ فِيهِ . وَأَمَّا الْقَاتِلُ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْإِثْمُ فَإِذَا عفى عَنْهُ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ أَوْ أَخَذُوا الدِّيَةَ : لَمْ يَسْقُطْ بِذَلِكَ حَقُّ الْمَقْتُولِ فِي الْآخِرَةِ . وَإِذَا قَتَلُوهُ فَفِيهِ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَالْأَظْهَرُ أَنْ لَا يَسْقُطَ ؛ لَكِنَّ الْقَاتِلَ إذَا كَثُرَتْ حَسَنَاتُهُ أُخِذَ مِنْهُ بَعْضُهَا مَا يَرْضَى بِهِ الْمَقْتُولُ أَوْ يُعَوِّضُهُ اللَّهُ مِنْ عِنْدِهِ إذَا تَابَ الْقَاتِلُ تَوْبَةً نَصُوحًا . وَقَاتِلُ الْخَطَأِ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ وَالدِّيَةُ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ وَالْمُعَاهَدِ كَمَا قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ ؛ وَلَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ مُتَقَدِّمٌ ؛ لَكِنَّ بَعْضَ مُتَأَخِّرِي الظَّاهِرِيَّةِ زَعَمَ أَنَّهُ الَّذِي لَا دِيَةَ لَهُ .

وَأَمَّا " الْقَاتِلُ عَمْدًا " فَفِيهِ الْقَوَدُ فَإِنْ اصْطَلَحُوا عَلَى الدِّيَةِ . جَازَ ذَلِكَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَكَانَتْ الدِّيَةُ مِنْ مَالِ الْقَاتِلِ ؛ بِخِلَافِ الْخَطَأِ فَإِنَّ دِيَتَهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ . وَأَمَّا " الْكَفَّارَةُ " فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : قَتْلُ الْعَمْدِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفَّرَ كَذَلِكَ قَالُوا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ . هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ كَمَا اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ الزِّنَى أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفَّرَ ؛ فَإِنَّمَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِوَطْءِ الْمُظَاهِرِ وَالْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : بَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الْعَمْدِ وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِثْمَ لَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ الْكَفَّارَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ جَمَاعَةٍ اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ رَجُلٍ وَلَهُ وَرَثَةٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ : فَهَلْ لِأَوْلَادِهِ الْكِبَارِ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ ؛ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا وَافَقَ وَلِيُّ الصِّغَارِ - الْحَاكِمُ أَوْ غَيْرُهُ - عَلَى الْقَتْلِ مَعَ الْكِبَارِ : فَهَلْ يُقْتَلُونَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِهِ وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى جَمِيعِهِمْ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَقْتُلُوا وَلَهُمْ أَنْ يَعْفُوا . فَإِذَا اتَّفَقَ الْكِبَارُ مِنْ الْوَرَثَةِ عَلَى

قَتْلِهِمْ فَلَهُمْ ذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَكَذَا إذَا وَافَقَ وَلِيُّ الصِّغَارِ الْحَاكِمُ أَوْ غَيْرُهُ عَلَى الْقَتْلِ مَعَ الْكِبَارِ فَيَقْتُلُونَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْإِنْسَانِ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا أَوْ خَطَأً وَأَخَذَ مِنْهُ الْقِصَاصَ فِي الدُّنْيَا أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ وَالسُّلْطَانُ : فَهَلْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْآخِرَةِ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا الْقَاتِلُ خَطَأً فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ قِصَاصٌ ؛ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ ؛ لَكِنَّ الْوَاجِبَ فِي ذَلِكَ الْكَفَّارَةُ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِ الْقَتِيلِ إلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا . وَأَمَّا " الْقَاتِلُ عَمْدًا " إذَا اُقْتُصَّ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا : فَهَلْ لِلْمَقْتُولِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فِي الْآخِرَةِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ فِيمَا أَظُنُّ مَنْ يَقُولُ : لَا حَقَّ لَهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ اُسْتُوْفِيَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ عَلَيْهِ حَقٌّ ؛ فَإِنَّ حَقَّهُ لَمْ يَسْقُطْ بِقَتْلِ الْوَرَثَةِ كَمَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ اللَّهِ بِذَلِكَ ؛ وَكَمَا لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَظْلُومِ الَّذِي غُصِبَ مَالُهُ وَأُعِيدَ إلَى وَرَثَتِهِ ؛ بَلْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الظَّالِمَ بِمَا حَرَمَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي حَيَاتِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا ؛ وَلِلْمَقْتُولِ بِنْتٌ عُمْرُهَا خَمْسُ سِنِينَ وَزَوْجَتُهُ حَامِلٌ مِنْهُ وَأَبْنَاءُ عَمٍّ : فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ قَبْلَ بُلُوغِ الْبِنْتِ وَوَضْعِ الْحَمْلِ ؛ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ أَنْ يَقْتَصُّوا مِنْهُ ؛ إلَّا عِنْدَ مَالِكٍ فَإِنَّ عِنْدَهُ لِلْعَصَبَةِ أَنْ يَقْتَصُّوا مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ . أَمَّا إنْ وَضَعَتْ بِنْتًا أَوْ بِنْتَيْنِ بِحَيْثُ يَكُونُ لِبَنِي الْعَمِّ نَصِيبٌ مِنْ التَّرِكَةِ : كَانَ لِلْعَصَبَةِ أَنْ يَقْتَصُّوا قَبْلَ بُلُوغِ الْبَنَاتِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ ؛ وَلَمْ يَجُزْ لَهُنَّ الْقِصَاصُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ . وَهَلْ لِوَلِيِّ الْبَنَاتِ كَالْحَاكِمِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُنَّ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَالصُّلْحِ عَلَى مَالِ ؟ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . " إحْدَاهُمَا " وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ جَوَازُ ذَلِكَ . و " الثَّانِيَةُ " لَا يَجُوزُ الْقِصَاصُ ؛ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ ؛ لَكِنْ إذَا كَانَتْ الْبَنَاتُ مَحَاوِيجُ هَلْ لِوَلِيِّهِنَّ الْمُصَالَحَةُ عَلَى مَالٍ لَهُنَّ ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَتَلَهُ جَمَاعَةٌ وَكَانَ اثْنَانِ حَاضِرَانِ قَتَلَهُ وَاتَّفَقَ الْجَمَاعَةُ عَلَى قَتْلِهِ وَقَاضِي النَّاحِيَةِ عَايَنَ الضَّرْبَ فِيهِ وَنُوَّابُ الْوِلَايَةِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ضَرَبَهُ حَتَّى مَاتَ وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّ لِأَوْلِيَاءِ الدَّمِ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ كُلَّهُمْ وَلَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا بَعْضَهُمْ . وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ عَيْنُ الْقَاتِلِ فَلِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ قَتَلَهُ وَيُحْكَمُ لَهُمْ بِالدَّمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ جَمَاعَةٍ اجْتَمَعُوا وَتَحَالَفُوا عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ وَقَدْ أَخَذُوا مَعَهُمْ جَمَاعَةً أُخْرَى مَا حَضَرُوا تَحْلِيفَهُمْ وَتَقَدَّمُوا إلَى الشَّخْصِ وَضَرَبُوهُ بِالسَّيْفِ وَالدَّبَابِيسِ ؛ وَرَمَوْهُ فِي الْبَحْرِ : فَهَلْ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمْ جَمِيعِهِمْ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ مَعْصُومٍ بِحَيْثُ أَنَّهُمْ جَمِيعُهُمْ بَاشَرُوا قَتْلَهُ وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَيْهِمْ جَمِيعِهِمْ ؛ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ بَاشَرَ وَبَعْضُهُمْ قَائِمٌ يَحْرُسُ

الْمُبَاشِرَ ؛ وَيُعَاوِنُهُ . فَفِيهَا قَوْلَانِ " أَحَدُهُمَا " لَا يَجِبُ الْقَوَدُ إلَّا عَلَى الْمُبَاشِرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؛ بِحَيْثُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي فِعْلِ كُلِّ شَخْصٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلزُّهُوقِ . و " الثَّانِي " يَجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ ؛ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ . وَإِنْ كَانَ قَتْلُهُ لِغَرَضِ خَاصٍّ : مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ أَوْ خُصُومَةٌ أَوْ يُكْرِهُونَهُ عَلَى فِعْلٍ لَا يُبِيحُ قَتْلَهُ : فَهُنَا الْقَوَدُ لِوَارِثِهِ : إنْ شَاءَ قَتَلَ وَإِنْ شَاءَ عَفَا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ . وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ فَلِمَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ فَالسُّلْطَانُ وَلَيُّهُ وَالْحَاكِمُ نَائِبُهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي لَا حَتَّى يَبْلُغَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ اتَّفَقَ عَلَى قَتْلِهِ أَوْلَادُهُ وَجِوَارُهُ وَرَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ : فَمَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِهِ جَازَ قَتْلُهُمْ جَمِيعُهُمْ وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ لِلْمُشَارِكِينَ فِي قَتْلِهِ ؛ بَلْ لِغَيْرِهِمْ مِنْ وَرَثَتِهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ كَانُوا هُمْ أَوْلِيَاءَهُ ؛ وَكَانُوا أَيْضًا الْوَارِثِينَ لِمَالِهِ ؛ فَإِنَّ الْقَاتِلَ لَا يَرِثُ الْمَقْتُولَ . وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ حَقٌّ لَا فِي دَمِهِ وَلَا فِي مَالِهِ ؛ بَلْ الْإِخْوَةُ لَهُمْ الْخِيَارُ : إنْ شَاءُوا قَتَلُوا جَمِيعَ الْمُشْتَرِكِينَ فِي قَتْلِهِ الْبَالِغِ مِنْهُمْ وَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا بَعْضَهُمْ . وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَأَمَّا الْمُبَاشِرُونَ لِقَتْلِهِ فَيَجُوزُ قَتْلُهُمْ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ .

وَأَمَّا الَّذِينَ أَعَانُوا بِمِثْلِ إدْخَالِ الرَّجُلِ إلَى الْبَيْتِ وَحِفْظِ الْأَبْوَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَفِي قَتْلِهِمْ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَيَجُوزُ قَتْلُهُمْ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ . وَالْمُمْسِكُ يُقْتَلُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَلَا مِيرَاثَ لَهُمَا . وَإِنْ كَانَ الصِّغَارُ مِنْ أَوْلَادِهِ أَعَانُوا أَيْضًا عَلَى قَتْلِهِ لَمْ يَكُنْ دَمُهُ إلَيْهِمْ وَلَا إلَى وَلِيِّهِمْ ؛ بَلْ إلَى الْإِخْوَةِ . وَأَمَّا مِيرَاثُهُمْ مِنْ مَالِهِ فَفِيهِ نِزَاعٌ . وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ مِنْ مَالِهِ وَالصِّغَارُ يُعَاقَبُونَ بِالتَّأْدِيبِ وَلَا يُقْتَلُونَ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ : الصِّغَارُ يَرِثُونَ مِنْ مَالِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ تَضَارَبَا وَتَخَانَقَا فَوَقَعَ أَحَدُهُمَا فَمَاتَ : فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إذَا خَنَقَهُ الْخَنْقَ الَّذِي يَمُوتُ بِهِ الْمَرْءُ غَالِبًا وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَلَوْ ادَّعَى أَنَّ هَذَا لَا يُقْتَلُ غَالِبًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ . فَأَمَّا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ غُشِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْخَنْقِ وَرَفَسَهُ الْآخَرُ بِرِجْلِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ فَمِهِ شَيْءٌ فَمَاتَ : فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ بِلَا رَيْبٍ فَإِنَّ هَذَا قَاتِلٌ نَفْسًا عَمْدًا ؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ؛ إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ يُكَافِئُهُ بِأَنْ يَكُونَ حُرًّا مُسْلِمًا فَيُسْلَمُ إلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ إنْ شَاءُوا أَنْ يَقْتُلُوهُ وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا عَنْهُ وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ تَخَاصَمَا وَتَقَابَضَا فَقَامَ وَاحِدٌ وَنَطَحَ الْآخَرَ فِي أَنْفِهِ فَجَرَى دَمُهُ فَقَامَ الَّذِي جَرَى دَمُهُ خَنَقَهُ وَرَفَسَهُ بِرِجْلِهِ فِي مَخَاصِيهِ فَوَقَعَ مَيِّتًا ؟
فَأَجَابَ :
يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْخَانِقِ الَّذِي رَفَسَ الْآخَرَ فِي أُنْثَيَيْهِ ؛ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ قَدْ يَقْتُلُ غَالِبًا ؛ فَإِنَّ مَوْتَهُ بِهَذَا الْفِعْلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ بِهِ مَا يَقْتُلُ غَالِبًا ؛ وَالْفِعْلُ الَّذِي يَقْتُلُ غَالِبًا يَجِبُ بِهِ الْقَوَدُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ : مِثْلَ مَا لَوْ ضَرَبَهُ فِي أُنْثَيَيْهِ حَتَّى مَاتَ فَيَجِبُ الْقَوَدُ وَلَوْ خَنَقَهُ حَتَّى مَاتَ وَجَبَ الْقَوَدُ فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَا ؟ وَوَلِيُّ الْمَقْتُولِ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ قَتَلَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ ؛ وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْقَاتِلِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ وَلَا لِبَيْتِ الْمَالِ ؛ وَإِنَّمَا الْحَقُّ فِي ذَلِكَ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ ضَرَبَ رَجُلًا ضَرْبَةً فَمَكَثَ زَمَانًا ثُمَّ مَاتَ وَالْمُدَّةُ الَّتِي مَكَثَ فِيهَا كَانَ ضَعِيفًا مِنْ الضَّرْبَةِ : مَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إذَا ضَرَبَهُ عُدْوَانًا فَهَذَا شِبْهُ عَمْدٍ فِيهِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ وَلَا قَوَدَ فِيهِ وَهَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ مَوْتُهُ مِنْ الضَّرْبَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ يَهُودِيٍّ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ : فَهَلْ يُقْتَلُ بِهِ ؟ أَوْ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَجُوزُ قَتْلُ الذِّمِّيِّ بِغَيْرِ حَقٍّ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرِ } " . وَلَكِنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ . فَقِيلَ : الدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ . وَقِيلَ : ثُلُثُ دِيَتِهِ . وَقِيلَ : يُفَرَّقُ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فَيَجِبُ فِي الْعَمْدِ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانِ بْنِ عَفَّانِ : أَنَّ مُسْلِمًا قَتَلَ ذِمِّيًّا فَغَلَّظَ عَلَيْهِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ كَمَالَ الدِّيَةِ . وَفِي الْخَطَأِ نِصْفَ الدِّيَةِ . فَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَنَّهُ جَعَلَ دِيَةَ الذِّمِّيِّ نِصْفَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ } . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ تَجِبُ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ أَيْضًا وَهُمَا عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ طَائِفَةٍ تُسَمَّى " الْعَشِيرَةَ قَيْسٌ وَيَمَنُ " يَكْثُرُ الْقَتْلُ بَيْنَهُمْ وَلَا يُبَالُونَ بِهِ وَإِذَا طُلِبَ مِنْهُمْ الْقَاتِلُ أَحْضَرُوا شَخْصًا غَيْرَ الْقَاتِلِ يَتَّفِقُونَ مَعَهُ عَلَى أَنْ يَعْتَرِفَ

بِالْقَتْلِ عِنْدَ وَلِيِّ الْأَمْرِ فَإِذَا اعْتَرَفَ جَهَّزُوا إلَى الْمُتَوَلِّي مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ قَرَابَةِ الْمَقْتُولِ وَيَقُولُ : أَنَا قَدْ أَبْرَيْت هَذَا الْقَاتِلَ مِمَّا أَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ وَإِقَامَةِ الْفِتَنِ فَإِذَا رَأَى وَلِيُّ الْأَمْرِ وَضْعَ دِيَةِ الْمَقْتُولِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ مِنْ الطَّوَائِفِ الَّذِينَ أَثْبَتَ أَسْمَاءَهُمْ فِي الدِّيوَانِ عَلَى جَمِيعِ الطَّوَائِفِ مِنْهُمْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ أَوْ رَأَى وَضْعَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ مَحَلَّةِ الْقَاتِلِ كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؟ أَوْ رَأَى تَعْزِيرَ هَؤُلَاءِ الْعَشِيرَ عِنْدَ إظْهَارِهِمْ الْفِتَنَ وَسَفْكَ الدِّمَاءِ وَالْفَسَادَ بِوَضْعِ مَالٍ عَلَيْهِمْ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ لِيَكُفَّ نُفُوسَهُمْ الْعَادِيَةَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ : فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ - أَيَّدَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا إذَا عُرِفَ الْقَاتِلُ فَلَا تُوضَعُ الدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ مَكَانِ الْمَقْتُولِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ لَا بِبَيِّنَةِ وَلَا إقْرَارٍ : فَفِي مِثْلِ هَذَا تَشْرَعُ الْقَسَامَةُ . فَإِذَا كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ حَلَفَ الْمُدَّعُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ : مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الْقَتِيلِ الَّذِي وُجِدَ بِخَيْبَرِ فَإِنْ لَمْ يَحْلِفُوا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ أَوَّلًا ؛ فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْيَمِينَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ هِيَ فِي جَنْبِ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ . فَأَمَّا إذَا عُرِفَ الْقَاتِلُ فَإِنْ كَانَ قَتْلُهُ لِأَخْذِ مَالٍ فَهُوَ مُحَارَبٌ يَقْتُلُهُ الْإِمَامُ حَدًّا وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ ؛ لَا أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ وَلَا غَيْرُهُمْ . وَإِنْ قَتَلَ لِأَمْرِ خَاصٍّ فَهَذَا أَمْرُهُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا عَنْهُ . وَلِلْإِمَامِ فِي مَذْهَبِ

مَالِكٍ أَنْ يَجْلِدَهُ مِائَةً وَيَحْبِسَهُ سَنَةً . فَهَذَا التَّعْزِيرُ يُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ . وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ قَدْ رَضَوْا بِقَتْلِ صَاحِبِهِمْ فَلَا أَرْغَمَ اللَّهُ إلَّا بِآنَافِهِمْ . وَإِذَا قِيلَ : تُوضَعُ الدِّيَةُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ عَلَى أَهْلِ الْمَكَانِ مَعَ الْقَسَامَةِ فِي الدِّيَةِ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ ؛ لَا لِبَيْتِ الْمَالِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّ دِيَةَ الْمَقْتُولِ لِبَيْتِ الْمَالِ . وَكَذَلِكَ لَا تُوضَعُ الدِّيَةُ بِدُونِ قَسَامَةٍ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَهَؤُلَاءِ الْمَعْرُوفُونَ بِالْفِتَنِ وَالْفَسَادِ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُمْسِكَ مِنْهُمْ مَنْ عُرِفَ بِذَلِكَ فَيَحْبِسَهُ ؛ وَلَهُ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى أَرْضٍ أُخْرَى لِيَكُفَّ بِذَلِكَ عِدْوَانَهُ ؛ وَلَهُ أَنْ يُعَزِّرَ أَيْضًا مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ الشَّرُّ لِيَكُفَّ بِهِ شَرَّهُ وَعُدْوَانَهُ . فَفِي الْعُقُوبَاتِ الْجَارِيَةِ عَلَى سُنَنِ الْعَدْلِ وَالشَّرْعِ مَا يَعْصِمُ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ وَيُغْنِي وُلَاةَ الْأُمُورِ عَنْ وَضْعِ جِبَايَاتٍ تُفْسِدُ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ . وَمَنْ اُتُّهِمَ بِقَتْلِ وَكَانَ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ فَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُعَاقِبَهُ تَعْزِيزًا عَلَى فُجُورِهِ وَتَعْزِيرًا لَهُ وَبِهَذَا وَأَمْثَالِهِ يَحْصُلُ مَقْصُودُ السِّيَاسَةِ الْعَادِلَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ قَالَ : أَنَا ضَارِبُهُ وَاَللَّهُ قَاتِلُهُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَاَللَّهُ قَاتِلُهُ . إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ قَابِضٌ رُوحَهُ أَوْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُمِيتُ كُلَّ أَحَدٍ وَهُوَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَهَذَا لَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ مُوجَبُ الْقَتْلِ بِذَلِكَ ؛ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ رَاكِبِ فَرَسٍ مَرَّ بِهِ دباب وَمَعَهُ دُبٌّ فَجَفَلَ الْفَرَسُ وَرَمَى رَاكِبَهُ ثُمَّ هَرَبَ وَرَمَى رَجُلًا فَمَاتَ ؟
فَأَجَابَ :
لَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الْفَرَسِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ؛ لَكِنْ الدباب عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ أُخِذَ لَهُ مَالٌ فَاتَّهَمَ بِهِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ التُّهَمِ ذَكَرَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فَضَرَبَهُ عَلَى تَقْرِيرِهِ فَأَقَرَّ ثُمَّ أَنْكَرَ . فَضَرَبَهُ حَتَّى مَاتَ : فَمَا عَلَيْهِ ؟ وَلَمْ يَضْرِبْهُ إلَّا لِأَجْلِ مَا أُخْبِرَ عَنْهُ بِذَلِكَ .
فَأَجَابَ :
عَلَيْهِ أَنْ يَعْتِقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً كَفَّارَةً وَتَجِبُ دِيَةُ هَذَا الْمَقْتُولِ ؛ إلَّا أَنْ يُصَالِحَ وَرَثَتَهُ عَلَى أَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ قَدْ فَعَلَ بِهِ فِعْلًا يَقْتُلُ غَالِبًا بِلَا حَقٍّ وَلَا شُبْهَةٍ لَوَجَبَ الْقَوَدُ وَلَوْ كَانَ بِحَقِّ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلٍ جُنْدِيٍّ وَلَهُ إقْطَاعٌ فِي بَلَدِ الرِّيعِ وَقَالَ فِي الْبَلَدِ قَتِيلٌ فَقَالُوا إنَّ الْفَلَّاحَ النَّصْرَانِيَّ الَّذِي هُوَ مِنْ الرِّيعِ هُوَ الْقَاتِلُ فَطَلَبَ الْقَاتِلَ إلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ فَلَمْ يُوجَدْ ؛ وَمَسَكُوا أَخَا النَّصْرَانِيِّ الْمُتَّهَمِ وَهُوَ فِي السِّجْنِ وَمَعَ ذَلِكَ يتطلبون الْجُنْدِيَّ بِإِحْضَارِ النَّصْرَانِيِّ وَلَمْ يَكُنْ ضَامِنًا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْجُنْدِيُّ لَا يَعْلَمُ حَالَ الْمُتَّهَمِ وَلَا هُوَ ضَامِنٌ لَهُ لَمْ تَجُزْ مُطَالَبَتُهُ لَكِنْ إذَا كَانَ مَطْلُوبًا بِحَقِّ وَهُوَ يَعْرِفُ مَكَانَهُ دَلَّ عَلَيْهِ فَإِنْ قَالَ : إنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَكَانَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ عَثَرَ عَلَى سَبْعَةِ أَنْفُسٍ فَحَصَلَ بَيْنَهُمْ خُصُومَةٌ ؛ فَقَامُوا بِأَجْمَعِهِمْ ضَرَبُوهُ بِحَضْرَةِ رَجُلَيْنِ لَا يَقْرَبَا لِهَؤُلَاءِ وَلَا لِهَؤُلَاءِ ؛ وَعَايَنَاهُ إلَى أَنْ مَاتَ مِنْ ضَرْبِهِمْ ؛ فَمَا يَلْزَمُ السَّبْعَةَ الَّذِينَ يُسَاعِدُونَ عَلَى قَتْلِهِ ؟

فَأَجَابَ : إذَا شَهِدَ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ شَاهِدَانِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَدَالَتُهُمَا : فَهَذَا لَوْثٌ إذَا حَلَفَ مَعَهُ الْمُدَّعُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا - أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ - عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ حُكِمَ لَهُمْ بِالدَّمِ ؛ وَإِنْ أَقْسَمُوا عَلَى أَكْثَرِ مِنْ وَاحِدٍ فَفِي الْقَوَدِ نِزَاعٌ . وَأَمَّا إنْ ادَّعَوْا أَنَّ الْقَتْلَ كَانَ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ مِثْلَ أَنْ يَضْرِبُوهُ بِعَصَا ضَرْبًا لَا يَقْتُلُ مِثْلَهُ غَالِبًا : فَهُنَا إذَا ادَّعَوْا عَلَى الْجَمَاعَةِ أَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي ذَلِكَ فَدَعْوَاهُمْ مَقْبُولَةٌ وَيَسْتَحِقُّونَ الدِّيَةَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّا إذَا قَالَ الْمَضْرُوبُ : مَا قَاتِلِي إلَّا فُلَانٌ : فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَا يُؤْخَذُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ بِلَا نِزَاعٍ ؛ وَلَكِنْ هَلْ يَكُونُ قَوْلُهُ لَوْثًا يَحْلِفُ مَعَهُ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّونَ دَمَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَذْكُورَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ : " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ لَيْسَ بِلَوْثِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ . و " الثَّانِي " أَنَّهُ لَوْثٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ شَرِبَا ؛ وَكَانَ مَعَهُمَا رَجُلٌ آخَرُ فَلَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَرْجِعُوا إلَى بُيُوتِهِمْ تَكَلَّمَا فَضَرَبَ وَاحِدٌ صَاحِبَهُ ضَرْبَةً بِالدَّبُّوسِ فَوَقَعَ عَنْ فَرَسِهِ فَوَقَفَ

عِنْدَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي مَعَهُمَا حَتَّى رَكِبَ فَرَسَهُ وَجَاءَ مَعَهُ إلَى مَنْزِلِهِ ؛ وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَهُ فَوَقَعَ عَنْ فَرَسِهِ ثَانِيَةً ثُمَّ إنَّهُ أَصْبَحَ مَيِّتًا ؛ فَسَأَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمَيِّتِ ذَلِكَ الرَّجُلَ خِفْيَةً ؛ وَلَمْ يُعْلِمْهُ بِمَوْتِهِ ؛ فَذَكَرَ لَهُ قَضِيَّتَهُمَا فَشَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِأَنَّ فُلَانًا ضَرَبَهُ وَلَمْ يَسْمَعْ الشُّهُودُ مِنْ الْمَيِّتِ ؛ وَأَنَّ الْمُتَّهَمَ لَمْ يُظْهِرْ نَفْسَهُ خَوْفَ الْعُقُوبَةِ ؛ لِكَيْ لَا يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ وَلِلْمَيِّتِ بِنْتٌ تَرْضَعُ وَإِخْوَةٌ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ الَّذِي شَرِبَ الْخَمْرَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ فَهَذَا إذَا قَتَلَ فَهُوَ قَاتِلٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ وَعُقُوبَةُ قَاتِلِ النَّفْسِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ قَدْ سَكِرَ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ؛ وَقَتَلَ : فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ وَيُسَلَّمُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ لِيَقْتُلُوهُ إنْ شَاءُوا ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد ؛ لَكِنَّ أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد يُوجِبُونَ عَلَيْهِ الْقَوَدَ ؛ كَمَا يُوجِبُونَهُ عَلَى الصَّاحِي فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِالْقَتْلِ إلَّا وَاحِدٌ لَمْ يُحْكَمْ بِهِ إلَّا أَنْ يَحْلِفَ مَعَ ذَلِكَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ خَمْسِينَ يَمِينًا ؛ وَهَذَا إذَا مَاتَ بِضَرْبِهِ وَكَانَ ضَرْبُهُ عُدْوَانًا مَحْضًا فَأَمَّا إنْ مَاتَ مَعَ ضَرْبِ الْآخَرِ : فَفِي الْقَوَدِ نِزَاعٌ وَكَذَلِكَ إنْ ضَرَبَهُ دَفْعًا لِعُدْوَانِهِ عَلَيْهِ أَوْ ضَرْبِهِ مِثْلَ مَا ضَرَبَهُ سَوَاءٌ مَاتَ بِسَبَبِ آخَرَ أَوْ غَيْرِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ وَاعَدَ آخَرَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِمَالِ مُعَيَّنٍ ثُمَّ قَتَلَهُ ؛ فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ ؟

فَأَجَابَ :
نَعَمْ ، إذَا قَتَلَهُ الْمَوْعُودُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَجَبَ الْقَوَدُ وَأَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ بِالْخِيَارِ : إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ وَإِنْ أَحَبُّوا عَفَوْا . وَأَمَّا الْوَاعِدُ فَيَجِبُ أَنْ يُعَاقَبَ عُقُوبَةً تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ هَذَا . وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْقَاتِلِ وَلَدَهُ عَمْدًا لِمَنْ دِيَتُهُ ؟
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا الْوَارِثُ كَالْأَبِ وَغَيْرِهِ إذَا قَتَلَ مُورِثَهُ عَمْدًا فَإِنَّهُ لَا يَرِثُ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ ؛ وَلَا دِيَتِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ تَكُونُ دِيَتُهُ كَسَائِرِ مَالِهِ يَحْرِمُهَا الْقَاتِلُ أَبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ وَيَرِثُهَا سَائِرُ الْوَرَثَةِ غَيْرِ الْقَاتِلِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَخَاصَمَ مَعَ شَخْصٍ فَرَاحَ إلَى بَيْتِهِ فَحَصَلَ لَهُ ضَعْفٌ فَلَمَّا قَارَبَ الْوَفَاةَ أَشْهَدَ كُلَّ نَفْسِهِ أَنَّ قَاتِلَهُ فُلَانٌ فَقِيلَ لَهُ . كَيْفَ قَتَلَك ؟ فَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا . فَهَلْ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ أَمْ لَا ؟ وَلَيْسَ بِهَذَا الْمَرِيضِ أَثَرُ قَتْلٍ وَلَا ضَرْبٍ أَصْلًا وَقَدْ شَهِدَ خَلْقٌ مِنْ الْعُدُولِ أَنَّهُ لَمْ يَضْرِبْهُ وَلَا فَعَلَ بِهِ شَيْئًا ؟

فَأَجَابَ :
أَمَّا بِمُجَرَّدِ هَذَا الْقَوْلِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْيَمِينُ بِنَفْيِ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ إمَّا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد . وَإِمَّا خَمْسُونَ يَمِينًا : كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَالْعُلَمَاءُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي الرَّجُلِ إذَا كَانَ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ - كَجُرْحِ أَوْ أَثَرِ ضَرْبٍ - فَقَالَ فُلَانٌ : ضَرَبَنِي عَمْدًا : هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ لَوْثًا ؟ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : لَيْسَ بِلَوْثِ ؛ وَقَالَ مَالِكٌ : هُوَ لَوْثٌ فَإِذَا حَلَفَ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ خَمْسِينَ يَمِينًا حُكِمَ بِهِ . وَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ . وَهَذِهِ الصُّورَةُ قِيلَ : لَمْ تَكُنْ خَطَأً فَكَيْفَ وَلَيْسَ بِهِ أَثَرُ قَتْلٍ ؛ وَقَدْ شَهِدَ النَّاسُ بِمَا شَهِدُوا بِهِ : فَهَذِهِ الصُّورَةُ لَيْسَ فِيهَا قَسَامَةٌ بِلَا رَيْبٍ عَلَى مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ اُتُّهِمَ بِقَتِيلِ ، فَهَلْ يُضْرَبُ لِيُقِرَّ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ وَهُوَ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ قَتَلَهُ جَازَ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ أَنْ يَحْلِفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّونَ دَمَهُ وَأَمَّا ضَرْبُهُ لِيُقِرَّ فَلَا يَجُوزُ إلَّا مَعَ الْقَرَائِنِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَتَلَهُ فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ جَوَّزَ تَقْرِيرَهُ بِالضَّرْبِ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَبَعْضُهُمْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ أَهْلِ قَرْيَتَيْنِ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ فِي الِاعْتِقَادِ وَخَاصَمَ رَجُلٌ آخَرَ فِي غَنَمٍ ضَاعَتْ لَهُ وَقَالَ : مَا يَكُونُ عِوَضُ هَذَا إلَّا رَقَبَتَك . ثُمَّ وُجِدَ هَذَا مَقْتُولًا وَأَثَرُ الدَّمِ أَقْرَبُ إلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي مِنْهَا الْمُتَّهَمُ وَذَكَرَ رَجُلٌ لَهُ قَتَلَهُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا حَلَفَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ خَمْسِينَ يَمِينًا أَنَّ ذَلِكَ الْمُخَاصِمَ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ حُكِمَ لَهُمْ بِدَمِهِ ؛ وَبَرَاءَةِ مَنْ سِوَاهُ فَإِنَّمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالْخُصُومَةِ وَالْوَعِيدِ بِالْقَتْلِ وَأَثَرِ الدَّمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَوْثٌ وَقَرِينَةٌ وَأَمَارَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُتَّهَمَ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ فَإِذَا حَلَفُوا مَعَ ذَلِكَ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ الشَّرْعِيَّةِ اسْتَحَقُّوا دَمَ الْمُتَّهَمِ وَسُلِّمَ إلَيْهِمْ بِرُمَّتِهِ كَمَا قَضَى بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَضِيَّةِ الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَرِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى أَهْلِ الْبُقْعَةِ جِنَايَةٌ ؛ لَا فِي الْعَادَةِ السُّلْطَانِيَّةِ وَلَا فِي حُكْمِ الشَّرِيعَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ شَخْصَيْنِ اُتُّهِمَا بِقَتِيلِ فَأُمْسِكَا وَعُوقِبَا الْعُقُوبَةَ الْمُؤْلِمَةَ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى رَفِيقِهِ وَلَمْ يُقِرَّ الْآخَرُ وَلَا اعْتَرَفَ بِشَيْءِ : فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَمْ لَا ؟

فَأَجَابَ :
إنْ شَهِدَ شَاهِدٌ مَقْبُولٌ عَلَى شَخْصٍ أَنَّهُ قَتَلَهُ كَانَ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ أَنْ يَحْلِفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّوا الدَّمَ . وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ الصِّدْقُ ؛ وَإِلَّا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا يُؤَاخَذُ بِلَا حُجَّةٍ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
مَنْ اُتُّهِمُوا بِقَتِيلِ فَضَرَبُوهُمْ وَاعْتَرَفَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِالْعُقُوبَةِ : فَهَلْ يَسْرِي عَلَى الْبَاقِي ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ أَقَرَّ وَاحِدٌ عَدْلٌ أَنَّهُ قَتَلَهُ كَانَ لَوْثًا فَلِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ أَنْ يَحْلِفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّوا بِهِ الدَّمَ . وَأَمَّا إذَا أَقَرَّ مُكْرَهًا وَلَمْ يَتَبَيَّنْ صِدْقَ إقْرَارِهِ : فَهُنَا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ وَلَا يُؤْخَذُ هُوَ بِهِ وَلَا غَيْرُهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ سُفَّارٍ جَاءَتْهُمْ حَرَامِيَّةٌ فَقَاتَلُوهُمْ فَقَتَلَ الْحَرَامِيَّةُ مِنْ السُّفَّارِ رَجُلًا ثُمَّ إنَّ ابْنَ عَمِّ الْمَقْتُولِ اتَّبَعَ الْحَرَامِيَّةَ هُوَ وَنَاسٌ مِنْ قَوْمِهِ فَلَحِقَهُمْ وَقَبَضَهُمْ وَسَأَلَ عَنْ الْقَاتِلِ فَعَيَّنَ الْحَرَامِيَّةُ شَخْصًا مِنْهُمْ وَقَالُوا : هَذَا قَتَلَ ابْنَ عَمِّك : فَقَتَلَهُ ؛ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ طَلَعَ الْقَاتِلُ أَخَا ذَلِكَ الشَّخْصِ الَّذِي عَيَّنَهُ الْحَرَامِيَّةُ ؟

فَأَجَابَ :
أَمَّا الْمُسَافِرُ الْمَقْتُولُ ظُلْمًا فَيَجِبُ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ مِنْ الْحَرَامِيَّةِ الْقَوَدُ بِشُرُوطِهِ وَأَمَّا الشَّخْصُ الثَّانِي الْمَقْتُولُ ظُلْمًا إذَا كَانَ مَعْصُومًا فَإِنْ كَانَ الدَّالُّ عَلَيْهِ مُتَعَمِّدًا الْكَذِبَ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إنْ كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ ؛ وَإِلَّا فَعَلَيْهِ . وَأَمَّا قَاتِلُهُ فَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ قَتْلَهُ ؛ بَلْ أَخْطَأَ فِيهِ ؛ فَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يُطَالِبُوا بِالدِّيَةِ لَهُ أَوْ لِعَاقِلَتِهِ ؛ لَكِنْ إذَا ضَمِنَ الدِّيَةَ رَجَعَ بِهَا عَلَى الدَّالِّ أَوْ عَاقِلَتِهِ ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُضَافُ إلَيْهِ الْقَتْلُ فِي مِثْلِ هَذَا ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ قَتْلُهُ إذَا تَعَمَّدَ الْكَذِبَ ؛ كَمَا يَجِبُ الْقَتْلُ عَلَى الشُّهُودِ إذَا رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا الْكَذِبَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَتَلَ قَتِيلًا ؛ وَلَهُ أَبٌ وَأُمٌّ وَقَدْ وَهَبَا لِلْقَاتِلِ دَمَ وَلَدِهِمَا وَكَتَبَا عَلَيْهِ حُجَّةً أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ بِلَادَهُمْ وَلَا يَسْكُنُ فِيهَا وَمَتَى سَكَنَ فِي الْبِلَادِ كَانَ دَمُ وَلَدِهِمَا عَلَى الْقَاتِلِ فَإِذَا سَكَنَ : فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ الْمُطَالَبَةُ بِالدَّمِ ؛ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا عَفَوْا عَنْهُ بِهَذَا الشَّرْطِ وَلَمْ يَفِ بِهَذَا الشَّرْطِ لَمْ يَكُنْ الْعَفْوُ لَازِمًا ؛ بَلْ لَهُمْ أَنْ يُطَالِبُوهُ بِالدِّيَةِ فِي قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَبِالدَّمِ فِي قَوْلٍ آخَرَ . وَسَوَاءٌ قِيلَ : هَذَا الشَّرْطُ صَحِيحٌ ؛ أَمْ فَاسِدٌ . وَسَوَاءٌ قِيلَ : يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِفَسَادِهِ أَوْ لَا يَفْسُدُ ؛ فَإِنَّ ذَيْنِك الْقَوْلَيْنِ مَبْنِيَّانِ عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ صَبِيٍّ دُونَ الْبُلُوغِ جَنَى جِنَايَةً يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا دِيَةٌ : مِثْلَ أَنْ يَكْسِرَ سِنًّا أَوْ يَفْقَأَ عَيْنًا وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ خَطَأً : فَهَلْ لِأَوْلِيَاءِ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذُوا دِيَةَ الْجِنَايَةِ مِنْ أَبِي الصَّبِيِّ وَحْدَهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا ؟ أَمْ يَطْلُبُوهَا مِنْ عَمِّ الصَّبِيِّ أَوْ ابْنِ عَمِّهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ خَطَأً فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِلَا رَيْبٍ ؛ كَالْبَالِغِ وَأَوْلَى . وَإِنْ فَعَلَ عَمْدًا فَعَمْدُهُ خَطَأٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ . وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ عَنْهُ وَعَنْ أَحْمَد أَنَّ عَمْدَهُ إذَا كَانَ غَيْرَ بَاغٍ فِي مَالِهِ . وَأَمَّا " الْعَاقِلَةُ " الَّتِي تَحْمِلُ : فَهُمْ عَصَبَتُهُ : كَالْعَمِّ وَبَنِيهِ وَالْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا أَبُو الرَّجُلِ وَابْنُهُ فَهُوَ مِنْ عَاقِلَتِهِ أَيْضًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : أَبُوهُ وَابْنُهُ لَيْسَا مِنْ الْعَاقِلَةِ .

وَاَلَّذِي " تَحَمَّلَهُ الْعَاقِلَةُ " بِالِاتِّفَاقِ مَا كَانَ فَوْقَ ثُلُثِ الدِّيَةِ : مِثْلَ قَلْعِ الْعَيْنِ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ . وَأَمَّا دُونَ الثُّلُثِ : كَدِيَةِ السِّنِّ : وَهُوَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ وَدِيَةِ الْأُصْبُعِ وَهِيَ عُشْرُ الدِّيَةِ : فَهَذَا لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد ؛ بَلْ هُوَ فِي مَالِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَحْمِلُ مَا دُونَ دِيَةِ السِّنِّ وَالْمُوضِحَةِ وَهُوَ الْمُقَدَّرُ كَأَرْشِ الشَّجَّةِ الَّتِي دُونَ الْمُوضِحَةِ . وَإِذَا وَجَبَ عَلَى الصَّبِيِّ شَيْءٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ حَمَلَهُ عَنْهُ أَبُوهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ : أَنَّهُ فِي ذِمَّتِهِ ؛ وَلَيْسَ عَلَى أَبِيهِ شَيْءٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَسْقِطِي مَا فِي بَطْنِك وَالْإِثْمُ عَلَيَّ . فَإِذَا فَعَلَتْ هَذَا وَسَمِعَتْ مِنْهُ : فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا مِنْ الْكَفَّارَةِ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِمَا كَفَّارَةُ عِتْقِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدَا فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَعَلَيْهِمَا غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ لِوَارِثِهِ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْهُ ؛ لَا لِلْأَبِ فَإِنَّ الْأَبَ هُوَ الْآمِرُ بِقَتْلِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ عَدْلٍ لَهُ جَارِيَةٌ اعْتَرَفَ بِوَطْئِهَا بِحَضْرَةِ عُدُولٍ وَأَنَّهَا حَبِلَتْ مِنْهُ وَأَنَّهُ سَأَلَ بَعْضَ النَّاسِ عَنْ أَشْيَاءَ تُسْقِطُ الْحَمْلَ وَأَنَّهُ ضَرَبَ الْجَارِيَةَ ضَرْبًا مُبَرِّحًا عَلَى فُؤَادِهَا فَأَسْقَطَتْ عَقِيبَ ذَلِكَ ؛ وَأَنَّ الْجَارِيَةَ قَالَتْ : إنَّهُ كَانَ يُلَطِّخُ ذَكَرَهُ بِالْقَطْرَانِ وَيَطَؤُهَا حَتَّى يُسْقِطَهَا وَأَنَّهُ أَسْقَاهَا السُّمَّ وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُسْقِطَةِ مُكْرَهَةً . فَمَا يَجِبُ عَلَى مَالِكِ الْجَارِيَةِ بِمَا ذُكِرَ ؟ وَهَلْ هَذَا مُسْقِطٌ لِعَدَالَتِهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إسْقَاطُ الْحَمْلِ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مِنْ الْوَأْدِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ } { بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } وَقَدْ قَالَ : { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الشَّخْصَ أَسْقَطَ الْحَمْلَ خَطَأً مِثْلَ أَنْ يَضْرِبَ الْمَرْأَةَ خَطَأً فَتَسْقُطُ : فَعَلَيْهِ غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ؛ بِنَصِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَتَكُونُ قِيمَةُ الْغُرَّةِ بِقَدْرِ عُشْرِ دِيَةِ الْأُمِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . كَذَلِكَ عَلَيْهِ " كَفَّارَةُ الْقَتْلِ " عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا } إلَى قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ

تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ } وَأَمَّا إذَا تَعَمَّدَ الْإِسْقَاطَ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ مِمَّا يَقْدَحُ فِي دِينِهِ وَعَدَالَتِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ حَامِلٍ تَعَمَّدَتْ إسْقَاطَ الْجَنِينِ إمَّا بِضَرْبِ وَإِمَّا بِشُرْبِ دَوَاءٍ : فَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا ؟
فَأَجَابَ :
يَجِبُ عَلَيْهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ غُرَّةٌ : عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ تَكُونُ هَذِهِ الْغُرَّةُ لِوَرَثَةِ الْجَنِينِ ؛ غَيْرَ أُمِّهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ كَانَتْ الْغُرَّةُ لِأَبِيهِ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُسْقِطَ عَنْ الْمَرْأَةِ فَلَهُ ذَلِكَ وَتَكُونُ قِيمَةُ الْغُرَّةِ عُشْرَ دِيَةٍ أَوْ خَمْسِينَ دِينَارًا . وَعَلَيْهَا أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ صَامَتْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ أَطْعَمَتْ سِتِّينَ مِسْكِينًا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ دَفَنَتْ ابْنَهَا بِالْحَيَاةِ حَتَّى مَاتَ فَإِنَّهَا كَانَتْ مَرِيضَةً ؛ وَهُوَ مَرِيضٌ فَضَجِرَتْ مِنْهُ : فَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا ؟

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا هُوَ الْوَأْدُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ : { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ } { بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك . قِيلَ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك } وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ حَرَّمَ قَتْلَ الْوَلَدِ مَعَ الْحَاجَةِ وَخَشْيَةِ الْفَقْرِ فَلَأَنْ يُحَرِّمَ قَتْلَهُ بِدُونِ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَهَذِهِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ يَجِبُ عَلَيْهَا الدِّيَةُ تَكُونُ لِوَرَثَتِهِ ؛ لَيْسَ لَهَا مِنْهَا شَيْءٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الرَّجُلِ يَلْطِمُ الرَّجُلَ أَوْ يَكْلِمُهُ أَوْ يَسُبُّهُ : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ ؟
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا " الْقِصَاصُ فِي اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَمَذْهَبُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ أَنَّ الْقِصَاصَ ثَابِتٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ الشالنجي . وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يَشْرَعُ فِي ذَلِكَ قِصَاصٌ ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِيهِ مُتَعَذِّرَةٌ فِي الْغَالِبِ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد .

وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ فَإِنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَضَتْ بِالْقِصَاصِ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ سُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ مُتَعَذِّرَةٌ . فَيُقَالُ : لَا بُدَّ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ مِنْ عُقُوبَةٍ : إمَّا قِصَاصٌ وَإِمَّا تَعْزِيرٌ . فَإِذَا جُوِّزَ أَنْ يُعَزَّزَ تَعْزِيرًا غَيْرَ مَضْبُوطِ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ فَلَأَنْ يُعَاقِبَ إلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الضَّبْطِ مِنْ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَالْعَدْلُ فِي الْقِصَاصِ مُعْتَبَرٌ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الضَّارِبَ إذَا ضُرِبَ ضَرْبَةً مِثْلَ ضَرْبَتِهِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا كَانَ هَذَا أَقْرَبَ إلَى الْعَدْلِ مِنْ أَنْ يُعَزَّرَ بِالضَّرْبِ بِالسَّوْطِ ؛ فَاَلَّذِي يَمْنَعُ الْقِصَاصَ فِي ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ الظُّلْمِ يُبِيحُ مَا هُوَ أَعْظَمُ ظُلْمًا مِمَّا فَرَّ مِنْهُ . فَعُلِمَ أَنَّمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ أَعْدَلُ وَأَمْثَلُ . وَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَسُبَّهُ كَمَا يَسُبُّهُ : مِثْلَ أَنْ يَلْعَنَهُ كَمَا يَلْعَنُهُ . أَوْ يَقُولُ : قَبَّحَك اللَّهُ . فَيَقُولُ : قَبَّحَك اللَّهُ . أَوْ : أَخْزَاك اللَّهُ . فَيَقُولُ لَهُ : أَخْزَاك اللَّهُ . أَوْ يَقُولُ : يَا كَلْبُ يَا خِنْزِيرُ فَيَقُولُ : يَا كَلْبُ يَا خِنْزِيرُ فَأَمَّا إذَا كَانَ مُحَرَّمَ الْجِنْسِ مِثْلَ تَكْفِيرِهِ أَوْ الْكَذِبِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَهُ وَلَا يَكْذِبَ عَلَيْهِ . وَإِذَا لَعَنَ أَبَاهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَلْعَنَ أَبَاهُ لِأَنَّ أَبَاهُ لَمْ يَظْلِمْهُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ ضَرَبَ غَيْرَهُ فَعَطَّلَ مَنْفَعَةَ أُصْبُعِهِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا تَعَطَّلَتْ مَنْفَعَةُ أُصْبُعِهِ بِالْجِنَايَةِ الَّتِي اعْتَدَى فِيهَا وَجَبَتْ دِيَةُ الْأُصْبُعِ وَهِيَ عُشْرُ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّه رُوحَهُ - :
عَنْ اثْنَيْنِ : أَحَدُهُمَا حُرٌّ وَالْآخَرُ عَبْدٌ : حَمَلُوا خَشَبَةً فَتَهَوَّرَتْ مِنْهُمْ الْخَشَبَةُ مِنْ غَيْرِ عَمْدٍ ؛ فَأَصَابَتْ رَجُلًا ؛ فَأَقَامَ يَوْمَيْنِ وَتُوُفِّيَ : فَمَا يَجِبُ عَلَى الْحُرِّ وَالْعَبْدِ ؟ وَمَاذَا يَجِبُ عَلَى مَالِكِ الْعَبْدِ إذَا تَغَيَّبَ الْعَبْدُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا حَصَلَ مِنْهُمَا تَفْرِيطٌ أَوْ عُدْوَانٌ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا . وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُفَرِّطَ بِوُقُوفِهِ حَيْثُ لَا يَصْلُحُ فَلَا ضَمَانَ . وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ تَفْرِيطٌ مِنْهُمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا . وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ السَّبَبِ فَلَا ضَمَانَ .

وَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ فَنَصِيبُ الْعَبْدِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ فَإِنْ شَاءَ سَيِّدُهُ أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي الْجِنَايَةِ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَفْتَدِيَهُ . وَإِذَا افْتَدَاهُ فَإِنَّهُ يَفْتَدِيهِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ وَقَدْرِ جِنَايَتِهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَفِي الْأُخْرَى وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ يَفْدِيهِ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ بَالِغًا مَا بَلَغَ . فَأَمَّا إنْ جَنَى الْعَبْدُ وَهَرَبَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ سَيِّدَهُ تَسْلِيمُهُ فَلَيْسَ عَلَى السَّيِّدِ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ ثَلَاثَةٍ حَمَلُوا عَمُودَ رُخَامٍ ثُمَّ أَنَّ مِنْهُمْ اثْنَيْنِ رَمَوْا الْعَمُودَ عَلَى الْآخَرِ كَسَرُوا رِجْلَهُ . فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ إذَا أَلْقَوْا عَلَيْهِ عَمُودَ الرُّخَامِ حَتَّى كَسَرُوا سَاقَهُ وَجَبَ ضَمَانُ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُوجِبُ بَعِيرَيْنِ مِنْ الْإِبِلِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد : وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ فِيهِ حُكُومَةً وَهُوَ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ لَا كَسْرَ بِهِ ثُمَّ يُقَوَّمَ مَكْسُورًا ؛ فَيُنْظَرُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ : فَيَجِبُ بِقِسْطِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلَيْنِ تَخَاصَمَا وَتَمَاسَكَا بِالْأَيْدِي وَلَمْ يَضْرِبْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَكَانَ أَحَدُهُمَا مَرِيضًا ثُمَّ تَفَارَقَا فِي عَافِيَةٍ ثُمَّ بَعْدَ أُسْبُوعٍ تُوُفِّيَ أَحَدُهُمَا وَهَرَبَ الْآخَرُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَمُسِكَ أَبُو الْهَارِبِ وَأَلْزَمُوهُ بِإِحْضَارِ وَلَدِهِ فَاعْتَقَدَ أَنَّ الْخَصْمَ لَمْ يَمُتْ ؛ وَالْتَزَمَ لِأَهْلِهِ أَنَّهُ مَهْمَا تَمَّ عَلَيْهِ كَانَ هُوَ الْقَائِمَ بِهِ ؛ فَلَمَّا مَاتَ اعْتَقَلُوا أَبَاهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فَرَاضَى أَبُوهُ أَهْلَ الْمَيِّتِ بِمَالِ وَأُبْرِئَ المتهوم وَكُلُّ أَهْلِهِ : فَهَلْ لِهَذَا الْمُلْتَزِمِ بِالْمَبْلَغِ أَنْ يَرْجِعَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ بَنِي عَمِّهِ بِشَيْءِ مِنْ الْمَبْلَغِ وَهَلْ يَبْرَأُ الْهَارِبُ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ ثَبَتَ أَنَّ الْهَارِبَ قَتَلَهُ خَطَأً بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَرِيضًا وَقَدْ ضَرَبَهُ الْآخَرُ ضَرْبًا شَدِيدًا يَزِيدُ فِي مَرَضِهِ وَكَانَ سَبَبًا فِي مَوْتِهِ : فَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ . فَعَلَى عَصَبَةِ بَنِي الْعَمِّ وَغَيْرِهَا أَنْ يَتَحَمَّلُوا هَذَا الْقَدْرَ الَّذِي رَضِيَ بِهِ أَهْلُ الْقَتِيلِ فَإِنَّهُ أَخَفُّ مِنْ الدِّيَةِ وَأَمَّا إنْ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ أَخَذَ الْأَبُ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِهِ : لَمْ يَلْزَمْهُمْ بِإِقْرَارِ الْأَبِ شَيْءٌ ؛ وَلَيْسَ لِأَهْلِ الدِّيَةِ الَّذِينَ صَالَحُوا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ أَنْ يُطَالِبُوا بِأَكْثَرَ مِنْهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلٍ رَأَى رَجُلًا قَتَلَ ثَلَاثَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَحِسَ السَّيْفَ بِفَمِهِ . وَأَنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَأَنَّ الَّذِي رَآهُ قَدْ وَجَدَهُ فِي مَكَانٍ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَسْكِهِ : فَهَلْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْقَاتِلَ الْمَذْكُورَ بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ وَإِذَا قَتَلَهُ هَلْ يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُطَالَبُ بِدَمِهِ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ قَاطِعَ طَرِيقٍ قَتَلَهُمْ لِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَجَبَ قَتْلُهُ وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ قَتَلَهُمْ لِغَرَضِ خَاصٍّ مِثْلِ خُصُومَةٍ بَيْنَهُمْ أَوْ عَدَاوَةٍ : فَأَمْرُهُ إلَى وَرَثَةِ الْقَتِيلِ : إنْ أَحَبُّوا قَتْلَهُ قَتَلُوهُ وَإِنْ أَحَبُّوا عَفَوْا عَنْهُ وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ . فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْوَرَثَةِ الْآخَرِينَ . وَأَمَّا إنْ كَانَ قَاطِعَ طَرِيقٍ : فَقِيلَ : بِإِذْنِ الْإِمَامِ ؛ فَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْإِمَامَ أَذِنَ فِي قَتْلِهِ بِدَلَائِلِ الْحَالِ جَازَ أَنْ يَقْتُلَهُ عَلَى ذَلِكَ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ وُلَاةَ الْأُمُورِ يَطْلُبُونَهُ لِيَقْتُلُوهُ وَأَنَّ قَتْلَهُ وَاجِبٌ فِي الشَّرْعِ : فَهَذَا يَعْرِفُ أَنَّهُمْ آذِنُونَ فِي قَتْلِهِ ؛ وَإِذَا وَجَبَ قَتْلُهُ كَانَ قَاتِلُهُ مَأْجُورًا فِي ذَلِكَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ قَبَضَ أَحَدُهُمَا عَلَى وَاحِدٍ وَالْآخَرُ ضَرَبَهُ فَشُلَّتْ يَدُهُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الِاثْنَيْنِ الْقَوَدُ إنْ وَجَبَ وَإِلَّا فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ وَجَدَ عِنْدَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا فَقَتَلَهَا ثُمَّ تَابَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَانَ لَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ فَلَمَّا كَبُرَ أَحَدُهُمَا أَرَادَ أَدَاءَ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَلَمْ يَجِدْ قُدْرَةً عَلَى الْعِتْقِ فَأَرَادَ أَنْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ : فَهَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْقَاتِلِ ؟ وَهَلْ يُجْزِئُ قِيَامُ الْوَلَدِ بِهَا ؟ وَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ امْرَأَةً فَحَاضَتْ فِي زَمَنِ الشَّهْرَيْنِ : هَلْ يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ ؟ وَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهَا أَنَّ الطُّهْرَ يَحْصُلُ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ : هَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا الْإِمْسَاكُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَ قَدْ وَجَدَهُمَا يَفْعَلَانِ الْفَاحِشَةَ وَقَتَلَهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَنْ وَطْئِهَا بِالْكَلَامِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي بَيْتِك فَفَقَأْت عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْك شَيْءٌ } و { نَظَرَ رَجُلٌ مَرَّةً فِي بَيْتِهِ فَجَعَلَ يَتْبَعُ عَيْنَهُ بِمِدْرَى لَوْ أَصَابَتْهُ لَقَلَعَتْ عَيْنَهُ } وَقَالَ : { إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ النَّظَرِ } وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالْكَلَامِ . وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

وَبِيَدِهِ سَيْفٌ مُتَلَطِّخٌ بِدَمِ قَدْ قَتَلَ امْرَأَتَهُ فَجَاءَ أَهْلَهَا يَشْكُونَ عَلَيْهِ فَقَالَ الرَّجُلُ : إنِّي قَدْ وَجَدْت لُكَاعًا قَدْ تفخذها فَضَرَبْت مَا هُنَالِكَ بِالسَّيْفِ فَأَخَذَ السَّيْفَ فَهَزَّهُ ثُمَّ أَعَادَهُ إلَيْهِ فَقَالَ : إنْ عَادَ فَعُدْ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ يَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنْهُ إذَا كَانَ الزَّانِي مُحْصَنًا سَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلُ هُوَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ أَوْ غَيْرُهُ كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ إنَّمَا مَأْخَذُهُ أَنَّهُ جَنَى عَلَى حُرْمَتِهِ فَهُوَ كَفَقْءِ عَيْنِ النَّاظِرِ وَكَاَلَّذِي انْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فَمِ الْعَاضِّ حَتَّى سَقَطَتْ ثَنَايَاهُ فَأَهْدَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ وَقَالَ : { يَدَعُ يَدَهُ فِي فِيك فَتَقْضِمُهَا كَمَا يَقْضِمُ الْفَحْلُ } وَهَذَا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ الْقَوْلُ بِهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ قَالَ : لِأَنَّ دَفْعَ الصَّائِلِ يَكُونُ بِالْأَسْهَلِ . وَالنَّصُّ يُقَدَّمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ . وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ فَقَدْ دَخَلَ اللِّصُّ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَأَصْلَتَ لَهُ السَّيْفَ قَالُوا : فَلَوْلَا أَنَّا نَهَيْنَاهُ عَنْهُ لَضَرَبَهُ وَقَدْ اسْتَدَلَّ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ بِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ وَأَخَذَ بِذَلِكَ . وَأَمَّا إنْ كَانَ الرَّجُلُ لَمْ يَفْعَلْ بَعْدُ فَاحِشَةً ؛ وَلَكِنْ وَصَلَ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَالْأَحْوَطُ لِهَذَا أَنْ يَتُوبَ مِنْ الْقَتْلِ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ وَفِي

وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ نِزَاعٌ فَإِذَا كَفَرَ فَقَدْ فَعَلَ الْأَحْوَطَ ؛ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ . وَأَمَّا قَتْلُ الْعَمْدِ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ : كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى . وَإِذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَمْ يُكَفِّرْ فَلْيُطْعِمْ عَنْهُ وَلَيُّهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَإِنَّهُ بَدَلُ الصِّيَامِ الَّذِي عَجَزَتْ عَنْهُ قُوَّتُهُ فَإِذَا أَطْعَمَ عَنْهُ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ فَهَذَا أَوْلَى . وَالْمَرْأَةُ إنْ صَامَتْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَمْ يَقْطَعْ الْحَيْضُ تَتَابُعَهَا بَلْ تَبْنِي بَعْدَ الطُّهْرِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلًا بِسَيْفِ شَلَّ يَدَهُ ثُمَّ إنَّهُ جَاءَهُ وَدَفَعَ إلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَفْدِنَةِ طِينٍ سَوَاءً ؛ مُصَالَحَةً ثُمَّ أَكَلَهَا اثْنَيْ عَشَرَ سَنَةً وَلَمْ يَكْتُبْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَبَدًا وَحَالُ الْمَضْرُوبِ ضَعِيفٌ : فَهَلْ يَلْزَمُ الضَّارِبَ الدِّيَةُ ؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : إنْ كَانَ صَالَحَهُ عَنْ شَلَلِ يَدِهِ عَلَى شَيْءٍ وَجَبَ مَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا أَنْ يَزِيدَهُ وَلَا لِهَذَا أَنْ يَنْقُصَهُ . وَأَمَّا إنْ كَانَ أَعْطَاهُ شَيْئًا بِلَا مُصَالَحَةٍ فَلَهُ أَنْ يَطْلُبَ تَمَامَ حَقِّهِ . وَشَلَلُ الْيَدِ فِيهِ دِيَةُ الْيَدِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلًا فَتَحَوَّلَ حَنَكُهُ وَوَقَعَتْ أَنْيَابُهُ وَخَيَّطُوا حَنَكَهُ بِالْإِبَرِ فَمَا يَجِبُ ؟
فَأَجَابَ :
يَجِبُ فِي الْأَسْنَانِ فِي كُلِّ سِنٍّ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ خَمْسُونَ دِينَارًا أَوْ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ أَوْ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ وَيَجِبُ فِي تَحْوِيلِ الْحَنَكِ الْأَرْشُ : يُقَوَّمُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ عَبْدٌ سَلِيمٌ ثُمَّ يُقَوَّمُ وَهُوَ عَبْدٌ مَعِيبٌ ثُمَّ يُنْظَرُ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ فَيَجِبُ بِنِسْبَتِهِ مِنْ الدِّيَةِ . وَإِذَا كَانَتْ الضَّرْبَةُ مِمَّا تَقْلَعُ الْأَسْنَانَ فِي الْعَادَةِ فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَهُوَ أَنْ يَقْلَعَ لَهُ مِثْلَ تِلْكَ الْأَسْنَانِ مِنْ الضَّارِبِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ مُسْلِمٍ قَتَلَ مُسْلِمًا مُتَعَمِّدًا بِغَيْرِ حَقٍّ ثُمَّ تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ : فَهَلْ تُرْجَى لَهُ التَّوْبَةُ وَيَنْجُو مِنْ النَّارِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ دِيَةٌ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
قَاتِلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ عَلَيْهِ " حَقَّانِ " : حَقٌّ لِلَّهِ بِكَوْنِهِ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ وَانْتَهَكَ حُرُمَاتِهِ . فَهَذَا الذَّنْبُ يَغْفِرُهُ اللَّهُ بِالتَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ كَمَا قَالَ

تَعَالَى : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } أَيْ لِمَنْ تَابَ . وَقَالَ : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } { يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا } { إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَجُلًا ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ : هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فَقَالَ : أَبَعْدَ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ تَكُونُ لَك تَوْبَةٌ فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ ؟ قَالَ : وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَك وَبَيْنَ التَّوْبَةِ وَلَكِنْ ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا فَإِنَّ فِيهَا قَوْمًا صَالِحِينَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فِي الطَّرِيقِ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ ؛ فَبَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَأَمَرَ أَنْ يُقَاسَ فَإِلَى أَيِّ الْقَرْيَتَيْنِ كَانَ أَقْرَبَ أُلْحِقَ بِهِ ؛ فَوَجَدُوهُ أَقْرَبَ إلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ } " وَالْحَقُّ الثَّانِي " حَقُّ الْآدَمِيِّينَ . فَعَلَى الْقَاتِلِ أَنْ يُعْطِيَ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ فَيُمَكِّنَهُمْ مِنْ الْقِصَاصِ ؛ أَوْ يُصَالِحَهُمْ بِمَالِ أَوْ يَطْلُبَ مِنْهُمْ الْعَفْوَ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْ حَقِّهِمْ وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ .

وَهَلْ يَبْقَى لِلْمَقْتُولِ عَلَيْهِ حَقٌّ يُطَالِبُهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ وَمَنْ قَالَ يَبْقَى لَهُ ؛ فَإِنَّهُ يَسْتَكْثِرُ الْقَاتِلُ مِنْ الْحَسَنَاتِ حَتَّى يُعْطِيَ الْمَقْتُولَ مِنْ حَسَنَاتِهِ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَيَبْقَى لَهُ مَا يَبْقَى فَإِذَا اسْتَكْثَرَ الْقَاتِلُ التَّائِبُ مِنْ الْحَسَنَاتِ رُجِيَتْ لَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ ؛ وَأَنْجَاهُ مِنْ النَّارِ وَلَا يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي قَتْلِ النَّفْسِ عَمْدًا . فَقَالَ أَحَدُهُمَا : إنَّ هَذَا ذَنْبٌ لَا يُغْفَرُ وَقَالَ الْآخَرُ : إذَا تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا حَقُّ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِاسْتِغْفَارِ الظَّالِمِ الْقَاتِلِ ؛ لَا فِي قَتْلِ النَّفْسِ ؛ وَلَا فِي سَائِرِ مَظَالِمِ الْعِبَادِ ؛ فَإِنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِ لَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِغْفَارِ ؛ لَكِنْ تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ وَغَيْرِهِ مِنْ الظُّلْمَةِ ؛ فَيَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ بِالتَّوْبَةِ الْحَقَّ الَّذِي لَهُ . وَأَمَّا حُقُوقُ الْمَظْلُومِينَ فَإِنَّ اللَّهَ يُوَفِّيهِمْ إيَّاهَا : إمَّا مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ وَإِمَّا مِنْ عِنْدِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ اتَّهَمُوهُ النَّصَارَى فِي قَتْلِ نَصَارَى وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ ؛ فَأَحْضَرُوهُ إلَى النَّائِبِ بالكرك ؛ وَأَلْزَمُوهُ أَنْ يُعَاقِبَهُ ؛ فَعُوقِبَ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يُقِرَّ بِشَيْءِ : فَمَا يَلْزَمُ النَّصَارَى الَّذِينَ الْتَزَمُوا بِدَمِهِ ؟
فَأَجَابَ :
يَجِبُ عَلَيْهِمْ ضَمَانُ الَّذِي الْتَزَمُوا دَمَهُ إنْ مَاتَ تَحْتَ الْعُقُوبَةِ بَلْ يُعَاقَبُونَ كَمَا عُوقِبَ أَيْضًا ؛ كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ : قَضَى نَحْوَ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

كِتَابُ الْحُدُودِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
خَاطَبَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ خِطَابًا مُطْلَقًا كَقَوْلِهِ : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا } وَقَوْلِهِ : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا } وَقَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } لَكِنْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْفِعْلِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ وَالْعَاجِزُونَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَهُوَ مِثْلُ الْجِهَادِ ؛ بَلْ هُوَ نَوْعٌ مِنْ الْجِهَادِ . فَقَوْلُهُ : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ } وَقَوْلُهُ : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَقَوْلُهُ : { إلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ } وَنَحْوَ ذَلِكَ هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ مِنْ الْقَادِرِينَ و " الْقُدْرَةُ " هِيَ السُّلْطَانُ ؛ فَلِهَذَا : وَجَبَ إقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى ذِي السُّلْطَانِ وَنُوَّابِهِ .
وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ إمَامٌ وَاحِدٌ وَالْبَاقُونَ نُوَّابُهُ فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ الْأُمَّةَ خَرَجَتْ عَنْ ذَلِكَ لِمَعْصِيَةِ مِنْ بَعْضِهَا وَعَجْزٍ مِنْ الْبَاقِينَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ

فَكَانَ لَهَا عِدَّةُ أَئِمَّةٍ : لَكَانَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ إمَامٍ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ وَيَسْتَوْفِيَ الْحُقُوقَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ إنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ يُنَفَّذُ مِنْ أَحْكَامِهِمْ مَا يُنَفَّذُ مِنْ أَحْكَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ شَارَكُوا الْإِمَارَةَ وَصَارُوا أَحْزَابًا لَوَجَبَ عَلَى كُلِّ حِزْبٍ فِعْلَ ذَلِكَ فِي أَهْلِ طَاعَتِهِمْ فَهَذَا عِنْدَ تَفَرُّقِ الْأُمَرَاءِ وَتَعَدُّدِهِمْ وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَتَفَرَّقُوا ؛ لَكِنْ طَاعَتُهُمْ لِلْأَمِيرِ الْكَبِيرِ لَيْسَتْ طَاعَةً تَامَّةً ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْضًا إذَا أُسْقِطَ عَنْهُ إلْزَامُهُمْ بِذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمْ الْقِيَامُ بِذَلِكَ ؛ بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقِيمُوا ذَلِكَ ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ فُرِضَ عَجْزُ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ عَنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ أَوْ إضَاعَتِهِ لِذَلِكَ : لَكَانَ ذَلِكَ الْفَرْضُ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : لَا يُقِيمُ الْحُدُودَ إلَّا السُّلْطَانُ وَنُوَّابُهُ . إذَا كَانُوا قَادِرِينَ فَاعِلِينَ بِالْعَدْلِ . كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ : الْأَمْرُ إلَى الْحَاكِمِ إنَّمَا هُوَ الْعَادِلُ الْقَادِرُ فَإِذَا كَانَ مُضَيِّعًا لِأَمْوَالِ الْيَتَامَى ؛ أَوْ عَاجِزًا عَنْهَا : لَمْ يَجِبْ تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ مَعَ إمْكَانِ حِفْظِهَا بِدُونِهِ وَكَذَلِكَ الْأَمِيرُ إذَا كَانَ مُضَيِّعًا لِلْحُدُودِ أَوْ عَاجِزًا عَنْهَا لَمْ يَجِبْ تَفْوِيضُهَا إلَيْهِ مَعَ إمْكَانِ إقَامَتِهَا بِدُونِهِ . وَالْأَصْلُ أَنَّ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ تُقَامُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ . فَمَتَى أَمْكَنَ إقَامَتُهَا مِنْ أَمِيرٍ لَمْ يُحْتَجْ إلَى اثْنَيْنِ وَمَتَى لَمْ يَقُمْ إلَّا بِعَدَدِ وَمِنْ غَيْرِ سُلْطَانٍ أُقِيمَتْ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي إقَامَتِهَا فَسَادٌ يَزِيدُ عَلَى إضَاعَتِهَا فَإِنَّهَا مِنْ " بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ " فَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ وُلَاةِ الْأَمْرِ أَوْ الرَّعِيَّةِ مَا يَزِيدُ عَلَى إضَاعَتِهَا لَمْ يُدْفَعْ فَسَادٌ بِأَفْسَدَ مِنْهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ حَدِّ الزِّنَا
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَمَّنْ زَنَى بِأُخْتِهِ : مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا مَنْ زَنَى بِأُخْتِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَجَبَ قَتْلُهُ وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ { الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ : مَرَّ بِي خَالِي أَبُو بُرْدَةَ وَمَعَهُ رَايَةٌ فَقُلْت : أَيْنَ تَذْهَبُ يَا خَالِي قَالَ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ ؛ فَأَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ وَأُخَمِّسَ مَالَهُ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ مُزَوَّجَةٍ بِزَوْجِ كَامِلٍ وَلَهَا أَوْلَادٌ فَتَعَلَّقَتْ بِشَخْصِ مِنْ الْأَطْرَافِ أَقَامَتْ مَعَهُ عَلَى الْفُجُورِ ؛ فَلَمَّا ظَهَرَ أَمْرُهَا سَعَتْ فِي مُفَارَقَةِ الزَّوْجِ : فَهَلْ بَقِيَ لَهَا حَقٌّ عَلَى أَوْلَادِهَا بَعْدَ هَذَا الْفِعْلِ ؟ وَهَلْ عَلَيْهِمْ إثْمٌ فِي قَطْعِهَا ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهَا قَتْلُهَا سِرًّا ؟ وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُهُ يَأْثَمُ ؟

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْوَاجِبُ عَلَى أَوْلَادِهَا وَعُصْبَتِهَا أَنْ يَمْنَعُوهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنْ لَمْ تَمْتَنِعْ إلَّا بِالْحَبْسِ حَبَسُوهَا ؛ وَإِنْ احْتَاجَتْ إلَى الْقَيْدِ قَيَّدُوهَا . وَمَا يَنْبَغِي لِلْوَلَدِ أَنْ يَضْرِبَ أُمَّهُ . وَأَمَّا بِرُّهَا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهَا بِرَّهَا وَلَا يَجُوزَ لَهُمْ مُقَاطَعَتُهَا بِحَيْثُ تَتَمَكَّنُ بِذَلِكَ مِنْ السُّوءِ ؛ بَلْ يَمْنَعُوهَا بِحَسَبِ قُدْرَتِهِمْ . وَإِنْ احْتَاجَتْ إلَى رِزْقٍ وَكِسْوَةٍ رَزَقُوهَا وَكَسَوْهَا وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهَا بِقَتْلِ وَلَا غَيْرِهِ وَعَلَيْهِمْ الْإِثْمُ فِي ذَلِكَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ بَلَدٍ فِيهَا جَوَارٍ سَائِبَاتٍ يَزْنُونَ مَعَ النَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ ؟
فَأَجَابَ :
عَلَى سَيِّدِ الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدَّ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا ؛ ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا ؛ ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا ؛ ثُمَّ إنْ زَنَتْ فِي الرَّابِعَةِ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بظفير } والظفير الْحَبْلُ . فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . وَكَانَ إصْرَارُهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ قَادِحًا فِي عَدَالَتِهِ . فَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ يُرْسِلُهَا لِتَبْغِيَ وَتُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ مَهْرِ الْبِغَاءِ أَوْ يَأْخُذَ هُوَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ : فَهَذَا مِمَّنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ وَهُوَ فَاسِقٌ خَبِيثٌ ؛ أَذِنَ فِي الْكَبِيرَةِ وَأَخَذَ مَهْرَ الْبَغِيِّ ؛ وَلَمْ يَنْهَهَا عَنْ الْفَاحِشَةِ . وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْدِلًا ؛ بَلْ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ

الْغَلِيظَةَ حَتَّى يَصُونَ إمَاءَهُ . وَأَقَلُّ الْعُقُوبَةِ أَنْ يُهْجَرَ فَلَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُ إذَا أَمْكَنَتْ الصَّلَاةُ خَلْفَ غَيْرِهِ وَلَا يُسْتَشْهَدُ وَلَا يُوَلَّى وِلَايَةً أَصْلًا . وَمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَكَانَ مُرْتَدًّا لَا تَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ . وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ عُرِّفَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ حَلَفَ لِوَلَدِهِ أَنَّهُ إنْ فَعَلَ مُنْكَرًا يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ فَأَقَرَّ لِوَالِدِهِ فَضَرَبَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَبَقِيَ تَغْرِيبُ عَامٍ : فَهَلْ يَجُوزُ فِي تَغْرِيبِ الْعَامِ كَفَّارَةٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَنَّهُ إذَا غَرَّبَهُ فِي الْحَبْسِ وَلَوْ فِي دَارِ الْأَبِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَيْدُ وَلَا جَعْلُهُ فِي مَكَانٍ مُظْلِمٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَا فَتَابَ قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ : فَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ بِالتَّوْبَةِ ؟

فَأَجَابَ : إنْ تَابَ مِنْ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ ؛ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ إلَى الْإِمَامِ : فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عَنْهُ كَمَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُحَارَبِينَ بِالْإِجْمَاعِ إذَا تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ أَذْنَبَ ذَنْبًا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدٌّ مِنْ الْحُدُودِ : مِثْلَ جَلْدٍ أَوْ حَصْبٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ وَأَقْلَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَنَوَى أَنْ لَا يَعُودَ : فَهَلْ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ ؟ أَوْ يَحْتَاجُ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَأْتِيَ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَيُعَرِّفَهُ بِذَنْبِهِ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ ؛ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ سَتْرُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَتَوْبَتُهُ أَفْضَلُ أَمْ لَا ؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : إذَا تَابَ تَوْبَةً صَحِيحَةً تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى أَنْ يُقِرَّ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَفِي الْحَدِيثِ : { مَنْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ } وَفِي الْأَثَرِ أَيْضًا : { مَنْ أَذْنَبَ سِرًّا فَلْيَتُبْ سِرًّا وَمَنْ أَذْنَبَ عَلَانِيَةً فَلْيَتُبْ عَلَانِيَةً } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } الْآيَةُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ إثْمِ الْمَعْصِيَةِ وَحَدِّ الزِّنَا : هَلْ تُزَادُ فِي الْأَيَّامِ الْمُبَارَكَةِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ ، الْمَعَاصِي فِي الْأَيَّامِ الْمُفَضَّلَةِ وَالْأَمْكِنَةِ الْمُفَضَّلَةِ تُغَلَّظُ وَعِقَابُهَا بِقَدْرِ فَضِيلَةِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ قَوَّادَةٍ تَجْمَعُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَقَدْ ضُرِبَتْ وَحُبِسَتْ ؛ ثُمَّ عَادَتْ تَفْعَلُ ذَلِكَ وَقَدْ لَحِقَ الْجِيرَانَ الضَّرَرُ بِهَا : فَهَلْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ نَقْلُهَا مِنْ بَيْنِهِمْ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ ، لِوَلِيِّ الْأَمْرِ كَصَاحِبِ الشُّرْطَةِ أَنْ يَصْرِفَ ضَرَرَهَا بِمَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً : إمَّا بِحَبْسِهَا وَإِمَّا بِنَقْلِهَا عَنْ الْحَرَائِرِ ؛ وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَرَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَأْمُرُ الْعُزَّابَ أَنْ لَا تَسْكُنَ بَيْنَ الْمُتَأَهِّلِينَ وَأَنْ لَا يَسْكُنَ الْمُتَأَهِّلُ بَيْنَ الْعُزَّابِ ؛ وَهَكَذَا فَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَفَوْا شَابًّا خَافُوا الْفِتْنَةَ بِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى الْبَصْرَةِ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ . { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَى الْمُخَنَّثِينَ و أَمَرَ بِنَفْيِهِمْ مِنْ الْبُيُوتِ خَشْيَةَ أَنْ يُفْسِدُوا النِّسَاءَ } . فَالْقَوَّادَةُ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَاَللَّهُ يُعَذِّبُهَا مَعَ أَصْحَابِهَا .
وَسُئِلَ :
عَنْ " الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ " بَعْدَ إدْرَاكِهِمَا مَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا ؟ وَمَا يُطَهِّرُهُمَا ؟ وَمَا يَنْوِيَانِ عِنْدَ الطَّهَارَةِ ؟

فَأَجَابَ :
أَمَّا الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ فَيَجِبُ قَتْلُهُمَا رَجْمًا بِالْحِجَارَةِ سَوَاءٌ كَانَا مُحْصَنَيْنِ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ ؛ لِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ } وَلِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِهِمَا . وَعَلَيْهِمَا الِاغْتِسَالُ مِنْ الْجَنَابَةِ وَتَرْتَفِعُ الْجَنَابَةُ مِنْ الِاغْتِسَالِ ؛ لَكِنْ لَا يَطْهُرَانِ مِنْ نَجَاسَةِ الذَّنْبِ إلَّا بِالتَّوْبَةِ وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ : { أَنَّهُمَا لَوْ اغْتَسَلَا بِالْمَاءِ يَنْوِيَانِ رَفْعَ الْجَنَابَةِ وَاسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ . . . } .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْلِهِ فِي " التَّهْذِيبِ " : مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوا الْمَفْعُولَ وَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ بِهَا : فَهَلْ يَجِبُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا فِيهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ ؛ وَهُوَ قَوْلُهُ : { مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوهَا } وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ؛ كَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .

بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ قَذَفَ رَجُلًا لِأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى حَرِيمِ النَّاسِ وَهُوَ كَذِبٌ عَلَيْهِ : فَمَا يَجِبُ عَلَى الْقَاذِفِ ؟ .
الْجَوَابُ :
إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى افْتِرَائِهِ عَلَى هَذَا الشَّخْصِ بِمَا يَزْجُرُهُ وَأَمْثَالَهُ إذَا طَلَبَ الْمَقْذُوفُ ذَلِكَ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَلَهُ مُطَلَّقَةٌ وَشَرَطَ إنْ رَدَّ مُطَلَّقَتَهُ كَانَ الصَّدَاقُ حَالًّا ثُمَّ إنَّهُ رَدَّ الْمُطَلَّقَةَ وَقَذَفَ هُوَ وَمُطَلَّقَتُهُ عِرْضَ الزَّوْجَةِ وَرَمَوْهَا بِالزِّنَا ؟ بِإِنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْ الزِّنَا وَطَلَّقَهَا بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا : فَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمَا ؟ وَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهَا ؟ وَهَلْ يَسْقُطُ الصَّدَاقُ أَمْ لَا ؟

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا مُطَلَّقَتُهُ فَتُحَدُّ عَلَى قَذْفِهَا ثَمَانِينَ جَلْدَةً إذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمَقْذُوفَةُ وَلَا تُقْبَلُ لَهَا شَهَادَةٌ أَبَدًا لِأَنَّهَا فَاسِقَةٌ . وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً إذَا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ وَلَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ أَبَدًا وَهُوَ فَاسِقٌ إذَا لَمْ يَتُبْ . وَهَلْ لَهُ إسْقَاطُ الْحَدِّ بِاللِّعَانِ ؟ فِيهِ لِلْفُقَهَاءِ " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ " فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قِيلَ : يُلَاعِنُ . وَقِيلَ : لَا يُلَاعِنُ . وَقِيلَ : إنْ كَانَ ثَمَّ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ لَاعَنَ ؛ وَإِلَّا فَلَا . وَصَدَاقُهَا بَاقٍ عَلَيْهِ لَا يَسْقُطُ بِاللِّعَانِ كَمَا سَنَّ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا كُلُّهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ إلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَوَازِ اللِّعَانِ فَفِيهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ " أَحَدُهَا " لَا يُلَاعِنُ ؛ بَلْ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَتَسْقُطُ شَهَادَتُهُ وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَد فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . و " الثَّانِي " يُلَاعِنُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ . و " الثَّالِثُ " إنْ كَانَ هُنَاكَ حَمْلٌ لَاعَنَ ؛ لِنَفْيِهِ ؛ وَإِلَّا فَلَا . وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلِ : أَنْتَ فَاسِقٌ شَارِبُ الْخَمْرِ وَمَنَعَهُ مِنْ أُجْرَةِ مِلْكِهِ الَّذِي يَمْلِكُ انْتِفَاعَهُ شَرْعًا ؟

فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا وَجَبَ عَلَى الْقَاذِفِ حَدُّ الْقَذْفِ إذَا طَلَبَهُ الْمَقْذُوفُ وَأَمَّا شَتْمُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ إذَا كَانَ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُعَزَّرَ عَلَى ذَلِكَ . وَأَمَّا ضَرْبُهُ وَحَبْسُهُ إذَا كَانَ ظَالِمًا ؛ فَإِنَّهُ يُفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ وَمَا عَطَّلَهُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ ضَمِنَهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ قَذَفَ رَجُلًا وَقَالَ لَهُ : أَنْتَ عِلْقٌ وَلَدُ زِنَا : فَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا قَذَفَهُ بِالزِّنَا أَوْ اللِّوَاطِ كَقَوْلِهِ : أَنْتَ عِلْقٌ وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ حُرًّا مُسْلِمًا لَمْ يُشْتَهَرْ عَنْهُ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ إذَا طَلَبَهُ الْمَقْذُوفُ وَهُوَ ثَمَانُونَ جَلْدَةً إنْ كَانَ الْقَاذِفُ حُرًّا ؛ وَأَرْبَعُونَ إنْ كَانَ رَقِيقًا . عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.

بَابُ حَدِّ الْمُسْكِرِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
أَمَّا " الْأَشْرِبَةُ الْمُسْكِرَةُ " فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلَّ خَمْرٍ حَرَامٌ وَمَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ . وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ اخْتِيَارُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ : مِثْلَ أَبِي اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيِّ وَغَيْرِهِ . وَهَذَا قَوْلُ الأوزاعي وَأَصْحَابِهِ وَاللَّيْثِ ابْنِ سَعْدٍ وَأَصْحَابِهِ وَإِسْحَاقِ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَصْحَابِهِ ودَاوُد بْنِ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِهِ وَابْنِ جَرِيرٍ الطبري وَأَصْحَابِهِ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ . وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ كَالنَّخْعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَشَرِيكٍ وَغَيْرِهِمْ إلَى أَنَّ مَا أَسْكَرَ مِنْ غَيْرِ الشَّجَرَتَيْنِ - النَّخْلِ وَالْعِنَبِ - كَنَبِيذِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ وَالْعَسَلِ وَلَبَنِ الْخَيْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَحْرُمُ

مِنْهُ الْقَدْرُ الَّذِي يُسْكِرُ . وَأَمَّا الْقَلِيلُ الَّذِي لَا يُسْكِرُ فَلَا يَحْرُمُ . وَأَمَّا عَصِيرُ الْعِنَبِ الَّذِي إذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ فَهُوَ خَمْرٌ يَحْرُمُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَصْحَابُ " الْقَوْلِ الثَّانِي " قَالُوا : لَا يُسَمَّى خَمْرًا إلَّا مَا كَانَ مِنْ الْعِنَبِ . وَقَالُوا : إنَّ نَبِيذَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إذَا كَانَ نَيْئًا مُسْكِرًا حَرُمَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ وَلَا يُسَمَّى خَمْرًا فَإِنْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخٍ حَلَّ . وَأَمَّا عَصِيرُ الْعِنَبِ إذَا طُبِخَ وَهُوَ مُسْكِرٌ لَمْ يَحِلَّ إلَّا أَنْ يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ وَيَبْقَى ثُلُثُهُ . فَأَمَّا بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ خَمْرًا فَلَا يَحِلُّ وَإِنْ طُبِخَ إذَا كَانَ مُسْكِرًا بِلَا نِزَاعٍ . و " الْقَوْلُ الْأَوَّلُ " الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ : { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } . وَاسْمُ " الْخَمْرِ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِالْقُرْآنِ كَانَ يَتَنَاوَلُ الْمُسْكِرَ مِنْ التَّمْرِ وَغَيْرِهِ وَلَا يَخْتَصُّ بِالْمُسْكِرِ مِنْ الْعِنَبِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنُّقُولِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ الْخَمْرَ لَمَّا حُرِّمَتْ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَكَانَ تَحْرِيمُهَا بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي السُّنَّةِ الثَّالِثَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ شَيْءٌ فَإِنَّ الْمَدِينَةَ لَيْسَ

فِيهَا شَجَرُ عِنَبٍ ؛ وَإِنَّمَا كَانَتْ خَمْرُهُمْ مِنْ التَّمْرِ . فَلَمَّا حَرَّمَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَرَاقُوهَا بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ وَكَسَرُوا أَوْعِيَتَهَا وَشَقُّوا ظُرُوفَهَا ؛ وَكَانُوا يُسَمُّونَهَا " خَمْرًا " . فَعُلِمَ أَنَّ اسْمَ " الْخَمْرِ " فِي كِتَابِ اللَّهِ عَامٌّ لَا يَخْتَصُّ بِعَصِيرِ الْعِنَبِ . فَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَإِنَّ بِالْمَدِينَةِ يَوْمئِذٍ لَخَمْسَةُ أَشْرِبَةٍ ؛ مَا مِنْهَا شَرَابُ الْعِنَبِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ يَوْمئِذٍ مِنْ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ . وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمِ : لَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي حَرَّمَ فِيهَا الْخَمْرَ ؛ وَمَا بِالْمَدِينَةِ شَرَابٌ إلَّا مِنْ تَمْرٍ وَبُسْرٍ . وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ : وَحُرِّمَتْ عَلَيْنَا حِينَ حُرِّمَتْ وَمَا نَجِدُ خَمْرَ الْأَعْنَابِ إلَّا قَلِيلًا ؛ وَعَامَّةُ خَمْرِنَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ . كُنْت أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ وأبي بْنَ كَعْبٍ مِنْ فريخ زَهْوٍ وَتَمْرٍ فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ : إنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ : يَا أَنَسُ قُمْ إلَى هَذِهِ الْجِرَارِ فَأَهْرِقْهَا فأهرقتها . وَقَدْ ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ الْخَمْرَ يَكُونُ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ ؛ كَمَا يَكُونُ مِنْ الْعِنَبِ } فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ : مِنْ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ ؛

وَالْعَسَلِ ؛ وَالْحِنْطَةِ ؛ وَالشَّعِيرِ ؛ وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ . وَرَوَى أَهْلُ السُّنَنِ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَابْنُ مَاجَه عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مِنْ الْحِنْطَةِ خَمْرًا وَمِنْ الشَّعِيرِ خَمْرًا وَمِنْ الزَّبِيبِ خَمْرًا ؛ وَمِنْ التَّمْرِ خَمْرًا وَمِنْ الْعَسَلِ خَمْرًا } زَادَ أَبُو دَاوُد : { وَأَنَا أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ } .
وَقَدْ اسْتَفَاضَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَهُوَ حَرَامٌ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِتْعِ وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ وَكَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ فَقَالَ : كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي شَرَابَيْنِ كُنَّا نَصْنَعُهُمَا بِالْيَمَنِ : الْبِتْعُ . وَهُوَ مِنْ الْعَسَلِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ ؟ قَالَ . فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ بِخَوَاتِيمِهِ فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ حُبْشَانَ . وَحُبْشَانُ مِنْ الْيَمَنِ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَرَابٍ يَشْرَبُونَهُ بِأَرَاضِيِهِمْ مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ : الْمِزْرُ فَقَالَ : أَمُسْكِرٌ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ؛ إنَّ عَلَى اللَّهِ عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ قَالُوا ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ ؟ قَالَ : عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ

حَرَامٌ } وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِي وَصَحَّحَهُ وَقَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ مِثْلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَمِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ . وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ . وَلَكِنَّ عُذْرَ مَنْ خَالَفَهَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْهُمْ وَسَمِعُوا أَنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ وَبَلَغَتْهُمْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ : فَظَنُّوا أَنَّ الَّذِي شَرِبُوهُ كَانَ مُسْكِرًا وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي تَنَازَعَ فِيهِ الصَّحَابَةُ هُوَ مَا نُبِذَ فِي الْأَوْعِيَةِ الصُّلْبَةِ ؛ فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَهُوَ الْقَرْعُ وَفِي الْحَنْتَمِ وَهُوَ مَا يُصْنَعُ مِنْ التُّرَابِ مِنْ الْفَخَّارِ وَنَهَى عَنْ النَّقِيرِ وَهُوَ الْخَشَبُ الَّذِي يُنْقَرُ وَنَهَى عَنْ الْمُزَفَّتِ وَهُوَ الظَّرْفُ الْمُزَفَّتُ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْتَبِذُوا فِي الظُّرُوفِ الْمُوكَاةِ } وَهُوَ أَنْ يُنْقَعَ التَّمْرُ أَوْ الزَّبِيبُ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَحْلُوَ فَيُشْرَبَ حُلْوًا قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ . فَهَذَا حَلَالٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَنَهَاهُمْ أَنْ يَنْتَبِذُوا هَذَا النَّبِيذَ الْحَلَالَ فِي تِلْكَ الْأَوْعِيَةِ ؛ لِأَنَّ الشِّدَّةَ تَدِبُّ فِي الشَّرَابِ شَيْئًا فَشَيْئًا فَيَشْرَبُهُ الْمُسْلِمُ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ قَدْ اشْتَدَّ فَيَكُونُ قَدْ شَرِبَ مُحَرَّمًا وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْتَبِذُوا فِي الظَّرْفِ الَّذِي يَرْبُطُونَ فَمَه لِأَنَّهُ إنْ اشْتَدَّ الشَّرَابُ انْشَقَّ الظَّرْفُ فَلَا يَشْرَبُونَ مُسْكِرًا . وَالنَّهْيُ عَنْ " نَبِيذِ الْأَوْعِيَةِ الْقَوِيَّةِ " فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ إبَاحَةُ ذَلِكَ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بريدة بْنِ الحصيب قَالَ : قَالَ

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ الْأَشْرِبَةِ إلَّا فِي ظُرُوفِ الْأُدْمِ فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ غَيْرَ أَنْ لَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا } وَفِي رِوَايَةٍ { نَهَيْتُكُمْ عَنْ الظُّرُوفِ وَإِنَّ ظَرْفًا لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } فَمِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ مَنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ النَّسْخُ فَأَخَذَ بِالْأَحَادِيثِ الْأُوَلِ . وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَقَدَ صِحَّةَ النَّسْخِ فَأَبَاحَ الِانْتِبَاذَ فِي كُلِّ وِعَاءٍ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَالنَّهْيُ عَنْ بَعْضِ الْأَوْعِيَةِ قَوْلُ مَالِكٍ . وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ . فَلَمَّا سَمِعَ طَائِفَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ أَنَّ مِنْ السَّلَفِ مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ شَرِبُوا الْمُسْكِرَ : فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ : كَالشَّافِعِيِّ وَالنَّخْعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَشَرِيكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَغَيْرِهِمْ : يَحِلُّ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ . وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُجْتَهِدُونَ قَاصِدُونَ لِلْحَقِّ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ . وَإِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } . وَأَمَّا سَائِرُ الْعُلَمَاءِ فَقَالُوا بِتِلْكَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ . وَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَعَلَيْهِ دَلَّ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } فَإِنَّ الْمَفْسَدَةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْخَمْرَ هِيَ أَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَتُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ . وَهَذَا أَمْرٌ تَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الْمُسْكِرَاتِ ؛ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مُسْكِرٍ وَمُسْكِرٍ

وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّمَ الْقَلِيلَ ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو إلَى الْكَثِيرِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ الْمُسْكِرَاتِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ " الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ " هَلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ؟ وَمَا هِيَ الْمَنَافِعُ ؟
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الْآيَةُ أَوَّلُ مَا نَزَلَتْ فِي الْخَمْرِ ؛ فَإِنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ ؛ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ فِيهَا " إثْمًا " وَهُوَ مَا يَحْصُلُ بِهَا مِنْ تَرْكِ الْمَأْمُورِ وَفِعْلِ الْمَحْظُورِ وَفِيهَا " مَنْفَعَةٌ " وَهُوَ مَا يَحْصُلُ مِنْ اللَّذَّةِ وَمَنْفَعَةِ الْبَدَنِ وَالتِّجَارَةُ فِيهَا فَكَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَشْرَبْهَا وَمِنْهُمْ مَنْ شَرِبَ ؛ ثُمَّ بَعْدَ هَذَا شَرِبَ قَوْمٌ الْخَمْرَ فَقَامُوا يُصَلُّونَ وَهُمْ سُكَارَى ؛ فَخَلَطُوا فِي الْقِرَاءَةِ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } فَنَهَاهُمْ عَنْ شُرْبِهَا قُرْبَ الصَّلَاةِ ؛ فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهَا . ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } . " فَحَرَّمَهَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ ؛ فَقَالُوا : انْتَهَيْنَا . انْتَهَيْنَا . وَمَضَى حِينَئِذٍ أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِرَاقَتِهَا ؛ فَكُسِرَتْ الدِّنَانُ وَالظُّرُوفُ ؛ وَلَعَنَ عَاصَرَهَا ؛ وَمُعْتَصِرَهَا ؛ وَشَارِبَهَا ؛ وَآكِلَ ثَمَنِهَا .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
هَلْ يَجُوزُ شُرْبُ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِنْ غَيْرِ خَمْرِ الْعِنَبِ . كالصرماء وَالْقُمَزِ وَالْمِزْرِ ؟ أَوْ لَا يَحْرُمُ إلَّا الْقَدَحُ الْأَخِيرُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي شَرَابَيْنِ كُنَّا نَصْنَعُهُمَا بِالْيَمَنِ الْبِتْعُ وَهُوَ الْعَسَلُ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ . و الْمِزْرُ وَهُوَ مِنْ الذُّرَةِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ قَالَ : وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } { وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِتْعِ وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ وَكَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ فَقَالَ : كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَمَنِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَرَابٍ يَشْرَبُونَهُ بِأَرْضِهِمْ مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ : الْمِزْرُ فَقَالَ : أَمُسْكِرٌ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ إنَّ عَلَى اللَّهِ عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ قَالُوا : يَا رَسُول اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ ؟ قَالَ : عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ ؛ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ } .

فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ أَشْرِبَةٍ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ كَالْمِزْرِ وَغَيْرِهِ فَأَجَابَهُمْ بِكَلِمَةِ جَامِعَةٍ وَقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ : { إنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أَرَادَ كُلَّ شَرَابٍ كَانَ جِنْسُهُ مُسْكِرًا حَرَامٌ سَوَاءٌ سَكِرَ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ كَمَا فِي خَمْرِ الْعِنَبِ . وَلَوْ أَرَادَ بِالْمُسْكِرِ الْقَدَحَ الْأَخِيرَ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ الشَّرَابُ كُلُّهُ حَرَامًا ؛ وَلَكَانَ بَيَّنَ لَهُمْ ؛ فَيَقُولُ اشْرَبُوا مِنْهُ وَلَا تَسْكَرُوا . وَلِأَنَّهُ { سَأَلَهُمْ عَنْ الْمِزْرِ أَمُسْكِرٌ هُوَ ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ . فَقَالَ . كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } . فَلَمَّا سَأَلَهُمْ " أَمُسْكِرٌ هُوَ ؟ " إنَّمَا أَرَادَ يُسْكِرُ كَثِيرُهُ كَمَا يُقَالُ . الْخُبْزُ يُشْبِعُ ؛ وَالْمَاءُ يَرْوِي وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الرَّيُّ وَالشِّبَعُ بِالْكَثِيرِ مِنْهُ لَا بِالْقَلِيلِ . كَذَلِكَ الْمُسْكِرُ إنَّمَا يَحْصُلُ السُّكْرُ بِالْكَثِيرِ مِنْهُ فَلَمَّا قَالُوا لَهُ : هُوَ مُسْكِرٌ . قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمُسْكِرِ كَمَا يُرَادُ بِالْمُشْبِعِ وَالْمُرْوِي وَنَحْوِهِمَا وَلَمْ يُرِدْ آخِرَ قَدَحٍ ؛ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ ؛ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } وَفِي لَفْظٍ : { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَمَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ لَا يَقُولُ : إنَّهُ خَمْرٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامًا . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ . قَالَ قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مِنْ الْحِنْطَةِ خَمْرًا وَمِنْ الشَّعِيرِ خَمْرًا وَمِنْ الزَّبِيبِ خَمْرًا وَمِنْ الْعَسَلِ خَمْرًا } وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ : مِنْ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ ؛ وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُبَيِّنُ أَنَّ الْخَمْرَ الَّتِي حَرَّمَهَا اسْمٌ لِكُلِّ مُسْكِرٍ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْعَسَلِ أَوْ التَّمْرِ أَوْ الْحِنْطَةِ أَوْ الشَّعِيرِ ؛ أَوْ لَبَنِ الْخَيْلِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . وَفِي السُّنَنِ عَنْ عَائِشَةَ ؛ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَمَا أَسْكَرَ الْفَرَقُ مِنْهُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَقَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ ؛ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَغَيْرِهِ وَصَحَّحَهُ الدارقطني وَغَيْرُهُ . وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ : مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ وَالْآثَارِ وَلَكِنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ سَمِعُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي النَّبِيذِ ؛ وَأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَشْرَبُونَ النَّبِيذَ : فَظَنُّوا أَنَّهُ السُّكْرُ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ النَّبِيذُ الَّذِي شَرِبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةُ هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْبِذُونَ التَّمْرَ أَوْ الزَّبِيبَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَحْلُوَ فَيَشْرَبُهُ أَوَّلَ يَوْمٍ وَثَانِيَ يَوْمٍ ؛ وَثَالِثَ يَوْمٍ ؛ وَلَا يَشْرَبُهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ ؛ لِئَلَّا تَكُونَ الشِّدَّةُ قَدْ بَدَتْ فِيهِ ؛ وَإِذَا اشْتَدَّ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يُشْرَبْ . وَقَدْ

رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا } وَرُوِيَ هَذَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ مَنْ شَرِبَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الصرماء وَغَيْرَ ذَلِكَ ؛ وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ وَاضِحٌ ؛ فَإِنَّ خَمْرَ الْعِنَبِ قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا ؛ وَلَا فَرْقَ فِي الْحِسِّ وَلَا الْعَقْلِ بَيْنَ خَمْرِ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْعَسَلِ ؛ فَإِنَّ هَذَا يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ ؛ وَهَذَا يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ ؛ وَهَذَا يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ؛ وَهَذَا يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَالِاعْتِبَارِ ؛ وَهَذَا هُوَ " الْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ " وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ ؛ فَلَا يُفَرِّقُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَ شَرَابٍ مُسْكِرٍ وَشَرَابٍ مُسْكِرٍ فَيُبِيحُ قَلِيلَ هَذَا وَلَا يُبِيحُ قَلِيلَ هَذَا ؛ بَلْ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا وَإِذَا كَانَ قَدْ حَرَّمَ الْقَلِيلَ مِنْ أَحَدِهِمَا حَرَّمَ الْقَلِيلَ مِنْهُمَا ؛ فَإِنَّ الْقَلِيلَ يَدْعُو إلَى الْكَثِيرِ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِاجْتِنَابِ الْخَمْرِ وَلِهَذَا يُؤْمَرُ بِإِرَاقَتِهَا ؛ وَيَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهَا وَحَكَمَ بِنَجَاسَتِهَا ؛ وَأَمَرَ بِجِلْدِ شَارِبِهَا ؛ كُلُّ ذَلِكَ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفَسَادِ ؛ فَكَيْفَ يُبِيحُ الْقَلِيلُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ نَبِيذِ التَّمْرِ ؛ وَالزَّبِيبِ وَالْمِزْرِ " وَالسَّوِيقَةِ " الَّتِي تُعْمَلُ مِنْ الْجَزَرِ وَاَلَّذِي يُعْمَلُ مِنْ الْعِنَبِ " يُسَمَّى " النَّصُوحَ " : هَلْ هُوَ حَلَالٌ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ شَيْءٍ مِنْ هَذَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ فَهُوَ خَمْرٌ فَهُوَ حَرَامٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى : { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَرَابٍ يُصْنَعُ مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ الْمِزْرُ وَشَرَابٍ يُصْنَعُ مِنْ الْعَسَلِ يُقَالُ لَهُ الْبِتْعُ وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَفِي لَفْظِ الصَّحِيحِ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ ؛ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } وَقَدْ صَحَّحَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفَّاظِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَصِيرَ الْعِنَبِ النَّيْءِ إذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزُّبْدِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ الَّتِي تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَتُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ . وَكُلُّ مَا كَانَتْ فِيهِ هَذِهِ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ فَهُوَ خَمْرٌ مِنْ أَيِّ مَادَّةٍ كَانَ : مِنْ الْحُبُوبِ ؛ وَالثِّمَارِ ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَسَوَاءٌ كَانَ نَيْئًا أَوْ مَطْبُوخًا ؛

لَكِنَّهُ إذَا طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ لَمْ يَبْقَ مُسْكِرًا ؛ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ أَفَاوِيهُ أَوْ نَوْعٌ آخَرُ . وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ { أَنَّ كُلَّ مَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ } وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمْ وَهَذَا الْمُسْكِرُ يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى شَارِبِهِ وَهُوَ نَجِسٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ . وَكَذَلِكَ " الْحَشِيشَةُ " الْمُسْكِرَةُ يَجِبُ فِيهَا الْحَدُّ ؛ وَهِيَ نَجِسَةٌ فِي أَصَحِّ الْوُجُوهِ ؛ وَقَدْ قِيلَ : إنَّهَا طَاهِرَةٌ . وَقِيلَ : يُفَرَّقُ بَيْنَ يَابِسِهَا وَمَائِعِهَا : وَالْأَوَّلُ الصَّحِيحُ لِأَنَّهَا تُسْكِرُ بِالِاسْتِحَالَةِ كَالْخَمْرِ النَّيْءِ ؛ بِخِلَافِ مَا لَا يُسْكِرُ بَلْ يُغَيِّبُ الْعَقْلَ كَالْبَنْجِ ؛ أَوْ يُسْكِرُ بَعْدَ الِاسْتِحَالَةِ كَجَوْزَةِ الطِّيبِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَجِسِ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْحَشِيشَةَ لَا تُسْكِرُ وَإِنَّمَا تُغَيِّبُ الْعَقْلَ بِلَا لَذَّةٍ فَلَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ أَمْرِهَا ؛ فَإِنَّهُ لَوْلَا مَا فِيهَا مِنْ اللَّذَّةِ لَمْ يَتَنَاوَلُوهَا وَلَا أَكَلُوهَا ؛ بِخِلَافِ الْبَنْجِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا لَذَّةَ فِيهِ . وَالشَّارِعُ فَرَّقَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ بَيْنَ مَا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ وَمَا لَا تَشْتَهِيهِ فَمَا لَا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ اُكْتُفِيَ فِيهِ بِالزَّاجِرِ الشَّرْعِيِّ ؛ فَجَعَلَ الْعُقُوبَةَ فِيهِ التَّعْزِيزُ . وَأَمَّا مَا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ فَجَعَلَ فِيهِ مَعَ الزَّاجِرِ الشَّرْعِيِّ زَاجِرًا طَبِيعِيًّا وَهُوَ الْحَدُّ . " وَالْحَشِيشَةُ " مِنْ هَذَا الْبَابِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ " النُّصُوحِ " هَلْ هُوَ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ ؟ وَهْم يَقُولُونَ : إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَعْمَلُهُ . " وَصُورَتُهُ " أَنْ يَأْخُذَ ثَلَاثِينَ رِطْلًا مِنْ مَاءِ عِنَبٍ وَيَغْلِي حَتَّى يَبْقَى ثُلُثُهُ ؛ فَهَلْ هَذِهِ صُورَتُهُ ؟ وَقَدْ نَقَلَ

مَنْ فَعَلَ بَعْضَ ذَلِكَ أَنَّهُ يُسْكِرُ ؛ وَهُوَ الْيَوْمَ جِهَارًا فِي الإسكندرية وَمِصْرَ ؛ وَنَقُولُ لَهُمْ : هُوَ حَرَامٌ ؛ فَيَقُولُونَ : كَانَ عَلَى زَمَنِ عُمَرَ ؛ وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَنَهَى عَنْهُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ أَنَّهُ حَرَّمَ كُلَّ مُسْكِرٍ وَجَعَلَهُ خَمْرًا كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } وَفِي لَفْظٍ { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَرَابِ الْعَسَلِ يُسَمَّى الْبِتْعَ وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ ؛ فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ - مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ : مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ ؛ وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ . وَهُوَ فِي السُّنَنِ مُسْنَدٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ : { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } وَقَدْ صَحَّحَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْحُفَّاظِ . وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ . فَمَذْهَبُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ ؛ وَمِصْرَ ؛ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ ؛ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ : أَنَّ كُلَّ مَا أَسْكَرَ

كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حِرَامٌ ؛ وَهُوَ خَمْرٌ عِنْدَهُمْ مِنْ أَيِّ مَادَّةٍ كَانَتْ : مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْعِنَبِ أَوْ التَّمْرِ ؛ أَوْ الْحِنْطَةِ أَوْ الشَّعِيرِ أَوْ لَبَنِ الْخَيْلِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَسَوَاءٌ كَانَ نَيْئًا أَوْ مَطْبُوخًا وَسَوَاءٌ ذَهَبَ ثُلُثَاهُ أَوْ ثُلُثُهُ ؛ أَوْ نِصْفُهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ . فَمَتَى كَانَ كَثِيرُهُ مُسْكِرًا حَرُمَ قَلِيلُهُ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَهُمْ . وَمَعَ هَذَا فَهُمْ يَقُولُونَ بِمَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ ؛ فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ وَأَرَادَ أَنْ يَطْبُخَ لِلْمُسْلِمِينَ شَرَابًا لَا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ طَبَخَ الْعَصِيرَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ وَصَارَ مِثْلَ الرُّبِّ فَأَدْخَلَ فِيهِ أُصْبُعَهُ فَوَجَدَهُ غَلِيظًا فَقَالَ : كَأَنَّهُ الطَّلَا . يَعْنِي الطَّلَا الَّذِي يُطْلَى بِهِ الْإِبِلُ فَسَمَّوْا ذَلِكَ " الطَّلَا " . فَهَذَا الَّذِي أَبَاحَهُ عُمَرُ لَمْ يَكُنْ يُسْكِرُ وَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ جَعْفَرٍ صَاحِبُ الْخَلَّالِ : أَنَّهُ مُبَاحٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْكِرُ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ إنَّهُ يُبَاحُ مَعَ كَوْنِهِ مُسْكِرًا وَلَكِنْ نَشَأَتْ " شُبْهَةٌ " مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا الْمَطْبُوخَ قَدْ يُسْكِرُ ؛ لِأَشْيَاءَ إمَّا لِأَنَّ طَبْخَهُ لَمْ يَكُنْ تَامًّا ؛ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا صِفَةَ طَبْخِهِ أَنَّهُ يَغْلِي عَلَيْهِ أَوَّلًا حَتَّى يَذْهَبَ وَسَخُهُ ثُمَّ يَغْلِي عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ فَإِذَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَالْوَسَخُ فِيهِ كَانَ الذَّاهِبُ مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْوَسَخَ يَكُونُ حِينَئِذٍ مِنْ غَيْرِ الذَّاهِبِ . وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ يُضَافُ إلَى الْمَطْبُوخِ مِنْ الْأَفَاوِيهِ وَغَيْرِهَا

مَا يُقَوِّيهِ وَيَشُدُّهُ حَتَّى يَصِيرَ مُسْكِرًا فَيَصِيرُ بِذَلِكَ مِنْ بَابِ الْخَلِيطَيْنِ وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ الْخَلِيطَيْنِ } لِتَقْوِيَةِ أَحَدِهِمَا صَاحِبَهُ كَمَا نَهَى عَنْ خَلِيطِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَعَنْ الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَلِلْعُلَمَاءِ نِزَاعٌ فِي " الْخَلِيطَيْنِ " إذَا لَمْ يُسْكِرْ كَمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي نَبِيذِ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي لَا يَشْتَدُّ مَا فِيهَا بِالْغَلَيَانِ وَكَمَا تَنَازَعُوا فِي الْعَصِيرِ وَالنَّبِيذِ بَعْدَ ثَلَاثٍ . وَأَمَّا إذَا صَارَ الْخَلِيطَانِ مِنْ الْمُسْكِرِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ . فَاَلَّذِي أَبَاحَهُ عُمَرُ مِنْ الْمَطْبُوخِ كَانَ صِرْفًا فَإِذَا خَلَطَهُ بِمَا قَوَّاهُ وَذَهَبَ ثُلُثَاهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَا أَبَاحَهُ عُمَرُ . وَرُبَّمَا يَكُونُ لِبَعْضِ الْبِلَادِ طَبِيعَةٌ يُسْكِرُ فِيهَا مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ فَيَحْرُمُ إذَا أَسْكَرَ ؛ فَإِنَّ مَنَاطَ التَّحْرِيمِ هُوَ السُّكْرُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَمَنْ قَالَ . إنَّ عُمَرَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَبَاحَ مُسْكِرًا فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِمْ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ قَالَ : إنَّ خَمْرَ الْعِنَبِ وَالْحَشِيشَةِ يَجُوزُ بَعْضُهُ إذَا لَمْ يُسْكِرْ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ : فَهَلْ هُوَ صَادِقٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ؟ أَمْ كَاذِبٌ فِي نَقْلِهِ ؟ وَمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ : هَلْ يَكْفُرُ أَمْ لَا ؟ وَذَكَرَ أَنَّ قَلِيلَ الْمَزْرِ يَجُوزُ شُرْبُهُ فَهَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ خَمْرِ الْعِنَبِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ ؟ أَمْ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ كَمَا ادَّعَاهُ هَذَا الرَّجُلُ ؟

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا الْخَمْرُ الَّتِي هِيَ عَصِيرُ الْعِنَبِ الَّذِي إذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ فَيَحْرُمُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ نَقَلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إبَاحَةَ قَلِيلِ ذَلِكَ فَقَدْ كَذَبَ ؛ بَلْ مَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَلَوْ اسْتَحَلَّ شُرْبَ الْخَمْرِ بِنَوْعِ شُبْهَةٍ وَقَعَتْ لِبَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهَا إنَّمَا تَحْرُمُ عَلَى الْعَامَّةِ ؛ لَا عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ؛ فَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ كَعُمَرِ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا عَلَى أَنَّ مُسْتَحِلَّ ذَلِكَ يُسْتَتَابُ فَإِنْ أَقَرَّ بِالتَّحْرِيمِ جُلِدَ وَإِنْ أَصَرَّ عَلَى اسْتِحْلَالِهَا قُتِلَ . بَلْ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُحَرِّمُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِنْ أَشْرِبَةٍ أُخَرَ : وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهَا خَمْرًا كَنَبِيذِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ النَّيْءِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عِنْدَهُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ إذَا كَانَ مُسْكِرًا وَكَذَلِكَ الْمَطْبُوخُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ الَّذِي لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عِنْدَهُ قَلِيلُهُ إذَا كَانَ كَثِيرُهُ يُسْكِرُ . فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الْأَرْبَعَةُ تَحْرُمُ عِنْدَهُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَإِنْ لَمْ يَسْكَرْ مِنْهَا . وَإِنَّمَا وَقَعَتْ " الشُّبْهَةُ " فِي سَائِرِ الْمُسْكِرِ كَالْمِزْرِ الَّذِي يُصْنَعُ مِنْ الْقَمْحِ وَنَحْوِهِ : فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ { أَهْلَ الْيَمَنِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عِنْدَنَا شَرَابًا يُقَالُ لَهُ الْبِتْعُ مِنْ الْعَسَلِ ؛ وَشَرَابًا مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ الْمِزْرُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ فَهُوَ حَرَامٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ

عَنْ عَائِشَةَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ } وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَفِي السُّنَنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } وَاسْتَفَاضَتْ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ . فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَابٌ يَشْرَبُونَهُ إلَّا مِنْ التَّمْرِ فَكَانَتْ تِلْكَ خَمْرَهُمْ وَجَاءَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ النَّبِيذَ } وَالْمُرَادُ بِهِ النَّبِيذُ الْحُلْوُ وَهُوَ أَنْ يُوضَعَ التَّمْرُ أَوْ الزَّبِيبُ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَحْلُوَ ثُمَّ يَشْرَبُهُ { وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَاهُمْ أَنْ يَنْتَبِذُوا فِي الْقَرْعِ وَالْخَشَبِ وَالْحَجَرِ وَالظَّرْفِ الْمُزَفَّتِ } لِأَنَّهُمْ إذَا انْتَبَذُوا فِيهَا دَبَّ السُّكْرُ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَيَشْرَبُ الرَّجُلُ مُسْكِرًا { وَنَهَاهُمْ عَنْ الْخَلِيطَيْنِ مِنْ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ جَمِيعًا } لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُقَوِّي الْآخَرَ ؛ { وَنَهَاهُمْ عَنْ شُرْبِ النَّبِيذِ بَعْدَ ثَلَاثٍ } لِأَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ فِيهِ السُّكْرُ وَالْإِنْسَانُ لَا يَدْرِي . كُلُّ ذَلِكَ مُبَالَغَةً مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَمَنْ اعْتَقَدَ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ النَّبِيذَ الَّذِي أَرْخَصَ فِيهِ يَكُونُ مُسْكِرًا - يَعْنِي مِنْ نَبِيذِ الْعَسَلِ وَالْقَمْحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَالَ : يُبَاحُ أَنْ يُتَنَاوَلَ مِنْهُ مَا لَمْ يُسْكِرْ - فَقَدْ أَخْطَأَ . وَأَمَّا جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ فَعَرَفُوا أَنَّ الَّذِي أَبَاحَهُ هُوَ الَّذِي لَا يُسْكِرُ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ فِي النَّصِّ وَالْقِيَاسِ . أَمَّا " النَّصُّ " فَالْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ فِيهِ . وَأَمَّا " الْقِيَاسُ " فَلِأَنَّ جَمِيعَ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي كَوْنِهَا تُسْكِرُ

وَالْمَفْسَدَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي هَذَا مَوْجُودَةٌ فِي هَذَا وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بَلْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مِنْ الْعَدْلِ وَالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ . فَتَبَيَّنَ . أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ حَرَامٌ وَالْحَشِيشَةُ الْمُسْكِرَةُ حَرَامٌ وَمَنْ اسْتَحَلَّ السُّكْرَ مِنْهَا فَقَدْ كَفَرَ ؛ بَلْ هِيَ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ نَجِسَةٌ كَالْخَمْرِ . فَالْخَمْرُ كَالْبَوْلِ وَالْحَشِيشَةُ كَالْعَذِرَةِ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ تَيْمِيَّة
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الْحَشِيشَةُ " الْمَلْعُونَةُ الْمُسْكِرَةُ : فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهَا مِنْ الْمُسْكِرَاتِ وَالْمُسْكِرُ مِنْهَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ بَلْ كُلُّ مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ أَكْلُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا : كَالْبَنْجِ فَإِنَّ الْمُسْكِرَ يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ وَغَيْرَ الْمُسْكِرِ يَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ . وَأَمَّا قَلِيلُ " الْحَشِيشَةِ الْمُسْكِرَةِ " فَحَرَامٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ كَسَائِرِ الْقَلِيلِ مِنْ الْمُسْكِرَاتِ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } يَتَنَاوَلُ مَا يُسْكِرُ . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْكِرُ مَأْكُولًا أَوْ مَشْرُوبًا ؛ أَوْ جَامِدًا أَوْ مَائِعًا . فَلَوْ اصْطَبَغَ كَالْخَمْرِ كَانَ حَرَامًا وَلَوْ أَمَاعَ

الْحَشِيشَةَ وَشَرِبَهَا كَانَ حَرَامًا . وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ فَإِذَا قَالَ كَلِمَةً جَامِعَةً كَانَتْ عَامَّةً فِي كُلِّ مَا يَدْخُلُ فِي لَفْظِهَا وَمَعْنَاهَا سَوَاءٌ كَانَتْ الْأَعْيَانُ مَوْجُودَةً فِي زَمَانِهِ أَوْ مَكَانِهِ أَوْ لَمْ تَكُنْ . فَلَمَّا قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } تَنَاوَلَ ذَلِكَ مَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ خَمْرِ التَّمْرِ وَغَيْرِهَا وَكَانَ يَتَنَاوَلُ مَا كَانَ بِأَرْضِ الْيَمَنِ مِنْ خَمْرِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ خَمْرِ لَبَنِ الْخَيْلِ الَّذِي يَتَّخِذُهُ التُّرْكُ وَنَحْوُهُمْ . فَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ الْمُسْكِرِ مِنْ لَبَنِ الْخَيْلِ وَالْمُسْكِرِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَوْجُودًا فِي زَمَنِهِ كَانَ يَعْرِفُهُ وَالْآخَرُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مَنْ يَتَّخِذُ خَمْرًا مِنْ لَبَنِ الْخَيْلِ . وَهَذِهِ " الْحَشِيشَةِ " فَإِنَّ أَوَّلَ مَا بَلَغَنَا أَنَّهَا ظَهَرَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَاخِرِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ وَأَوَائِلِ السَّابِعَةِ حَيْثُ ظَهَرَتْ دَوْلَةُ التتر ؛ وَكَانَ ظُهُورُهَا مَعَ ظُهُورِ سَيْفِ " جنكسخان " لَمَّا أَظْهَرَ النَّاسُ مَا نَهَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ مِنْ الذُّنُوبِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْعَدُوَّ وَكَانَتْ هَذِهِ الْحَشِيشَةُ الْمَلْعُونَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ وَهِيَ شَرٌّ مِنْ الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَالْمُسْكِرُ شَرٌّ مِنْهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَإِنَّهَا مَعَ أَنَّهَا تُسْكِرُ آكِلَهَا حَتَّى يَبْقَى مصطولا تُورِثُ التَّخْنِيثَ والديوثة وَتُفْسِدُ الْمِزَاجَ فَتَجْعَلُ الْكَبِيرَ كَالسَّفْتَجَةِ وَتُوجِبُ كَثْرَةَ الْأَكْلِ وَتُورِثُ الْجُنُونَ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ صَارَ مَجْنُونًا بِسَبَبِ أَكْلِهَا .

وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ . إنَّهَا تُغَيِّرُ الْعَقْلَ فَلَا تُسْكِرُ كَالْبَنْجِ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ تُورِثُ نَشْوَةً وَلَذَّةً وَطَرَبًا كَالْخَمْرِ وَهَذَا هُوَ الدَّاعِي إلَى تَنَاوُلِهَا وَقَلِيلُهَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهَا كَالشَّرَابِ الْمُسْكِرِ وَالْمُعْتَادُ لَهَا يَصْعُبُ عَلَيْهِ فِطَامُهُ عَنْهَا أَكْثَرَ مِنْ الْخَمْرِ ؛ فَضَرَرُهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ أَعْظَمُ مِنْ الْخَمْرِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إنَّهُ يَجِبُ فِيهَا الْحَدُّ كَمَا يَجِبُ فِي الْخَمْرِ . وَتَنَازَعُوا فِي " نَجَاسَتِهَا " عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَقِيلَ هِيَ نَجِسَةٌ . وَقِيلَ : لَيْسَتْ بِنَجِسَةِ . وَقِيلَ : رُطَبُهَا نَجِسٌ كَالْخَمْرِ وَيَابِسُهَا لَيْسَ بِنَجِسِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّجَاسَةَ تَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ كَمَا تَتَنَاوَلُ النَّجَاسَةُ جَامِدَ الْخَمْرِ وَمَائِعَهَا فَمَنْ سَكِرَ مِنْ شَرَابٍ مُسْكِرٍ أَوْ حَشِيشَةٍ مُسْكِرَةٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ قُرْبَانُ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَصْحُوَ وَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقُولُ وَلَا بُدَّ أَنْ يَغْسِلَ فَمَهُ وَيَدَيْهِ وَثِيَابَهُ فِي هَذَا وَهَذَا وَالصَّلَاةُ فَرْضُ عَيْنِيَّةٍ ؛ لَكِنْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ حَتَّى يَتُوبَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَادَ فَشَرِبَهَا لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَادَ فَشَرِبَهَا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ قِيلَ : وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ ؟ قَالَ : عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ أَوْ عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ } وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ هَذِهِ مَا فِيهَا آيَةٌ وَلَا حَدِيثٌ : فَهَذَا مِنْ جَهْلِهِ ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ فِيهِمَا كَلِمَاتٌ جَامِعَةٌ هِيَ قَوَاعِدُ عَامَّةٌ وَقَضَايَا كُلِّيَّةٌ ، تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا

دَخَلَ فِيهَا وَكُلُّ مَا دَخَلَ فِيهَا فَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ بِاسْمِهِ الْعَامِّ وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ ذِكْرُ كُلِّ شَيْءٍ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ وَقَالَ : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا } وَقَالَ : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ } وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } وَقَالَ : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } فَاسْمُ " النَّاسِ " و " الْعَالَمِينَ " يَدْخُلُ فِيهِ الْعَرَبُ وَغَيْرُ الْعَرَبِ مِنْ الْفُرْسِ وَالرُّومِ وَالْهِنْدِ وَالْبَرْبَرِ فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ مُحَمَّدًا مَا أُرْسِلَ إلَى التُّرْكِ وَالْهِنْدِ وَالْبَرْبَرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْهُمْ فِي الْقُرْآنِ كَانَ جَاهِلًا كَمَا لَوْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْهُ إلَى بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِيَّ أَسَدٍ وغطفان وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الْقَبَائِلَ بِأَسْمَائِهَا الْخَاصَّةِ ؛ وَكَمَا لَوْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْهُ إلَى أَبِي جَهْلٍ وعتبة وَشَيْبَةَ ؛ وَغَيْرِهِمْ مِنْ قُرَيْشٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ الْخَاصَّةِ فِي الْقُرْآنِ . وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ : { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } دَخَلَ فِي الْمَيْسِرِ الَّذِي لَمْ تَعْرِفْهُ الْعَرَبُ وَلَمْ يَعْرِفْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ الْمَيْسِرِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ وَغَيْرِهِ بِالْعِوَضِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ ( الْمَيْسِرُ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ ؛ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . و " النَّرْدُ " أَيْضًا مِنْ ( الْمَيْسِرِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ ؛ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ بِاسْمِ

خَاصٍّ ؛ بَلْ لَفْظُ الْمَيْسِرِ يَعُمُّهَا وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ النَّرْدَ وَالشِّطْرَنْجَ مُحَرَّمَانِ بِعِوَضِ وَغَيْرِ عِوَضٍ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } - إلَى قَوْلِهِ - { إذَا حَلَفْتُمْ } وَقَوْلُهُ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } تَنَاوَلَ أَيْمَانَ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي كَانُوا يَحْلِفُونَ بِهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّتِي صَارُوا يَحْلِفُونَ بِهَا بَعْدُ ؛ فَلَوْ حَلَفَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ وَالْهِنْدِيَّةِ وَالْبَرْبَرِيَّةِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِتِلْكَ اللُّغَةِ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ ؛ وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ مَعَ أَنَّ الْيَمِينَ بِهَذِهِ اللُّغَاتِ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ حَلَفَ بِالْمَخْلُوقَاتِ : كَالْحَلِفِ بِالْكَعْبَةِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْمَشَايِخِ وَالْمُلُوكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ هِيَ شِرْكٌ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } . وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا } يَعُمُّ كُلَّ مَا يُسَمَّى صَعِيدًا وَيَعُمُّ كُلَّ مَاءٍ : سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْمِيَاهِ الْمَوْجُودَةِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِمَّا حَدَثَ بَعْدَهُ . فَلَوْ اسْتَخْرَجَ قَوْمٌ عُيُونًا وَكَانَ فِيهَا مَاءٌ مُتَغَيِّرُ اللَّوْنِ وَالرِّيحَ وَالطَّعْمِ وَأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَجَبَ الِاغْتِسَالُ بِهِ بِلَا نِزَاعٍ نَعْرِفُهُ بَيْنَ

الْعُلَمَاءِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمِيَاهُ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } فَدَخَلَ فِيهِ كُلُّ مُشْرِكٍ مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِ الْعَرَبِ كَمُشْرِكِي التُّرْكِ وَالْهِنْدِ وَالْبَرْبَرِ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ قُتِلُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْكِتَابِ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ قُتِلُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا عَلَى زَمَانِهِ كَانُوا مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ وَالرُّومِ ؛ وَقَاتَلَ الْيَهُودَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ ؛ وَقَدْ دَخَلَ فِيهَا النَّصَارَى : مِنْ الْقِبْطِ ؛ وَالْحَبَشَةِ ؛ والجركس وَالْأَلِّ وَاللَّاصِّ ؛ وَالْكَرَجِ ؛ وَغَيْرِهِمْ . فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ نَظِيرَ عُمُومِ الْقُرْآنِ لِكُلِّ مَا دَخَلَ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ . وَلَوْ قُدِّرَ بِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ وَكَانَ فِي مَعْنَى مَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أُلْحِقَ بِهِ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسِ ؛ كَمَا دَخَلَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْفُرْسُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ وَدَخَلَتْ جَمِيعُ الْمُسْكِرَاتِ فِي مَعْنَى خَمْرِ الْعِنَبِ وَأَنَّهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ ؛ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ

وَ ( الْكِتَابُ ) الْقُرْآنُ ، وَ ( الْمِيزَانُ ) الْعَدْلُ . وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ هُوَ مِنْ الْعَدْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ ؛ بَلْ سَوَّى بَيْنَهُمَا فَاسْتَوَتْ السَّيِّئَاتُ فِي الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلتَّحْرِيمِ ؛ لَمْ يَخُصَّ أَحَدَهَا بِالتَّحْرِيمِ دُونَ الْآخَرِ ؛ بَلْ مِنْ الْعَدْلِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا وَلَوْ لَمْ يُسَوِّ بَيْنَهُمَا كَانَ تَنَاقُضًا وَحُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مُنَزَّهٌ عَنْ التَّنَاقُضِ . وَلَوْ أَنَّ الطَّبِيبَ حَمَى الْمَرِيضَ عَنْ شَيْءٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ وَأَبَاحَهُ لَهُ لَخَرَجَ عَنْ قَانُونِ الطِّبِّ . وَالشَّرْعُ طِبُّ الْقُلُوبِ وَالْأَنْبِيَاءُ أَطِبَّاءُ الْقُلُوبِ وَالْأَدْيَانِ وَلَا بُدَّ إذَا أَحَلَّ الشَّرْعُ شَيْئًا مِنْهُ أَنْ يُخَصَّ هَذَا بِمَا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ مَعْنَى خَاصٌّ بِمَا حَرَّمَهُ دُونَ مَا أَحَلَّهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ يَأْكُلُ الْحَشِيشَةَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْحَشِيشَةُ الصُّلْبَةُ حَرَامٌ سَوَاءٌ سَكِرَ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَسْكَرْ ؛ وَالسُّكْرُ مِنْهَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ وَزَعَمَ أَنَّهُ حَلَالٌ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ مُرْتَدًّا لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ؛ وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا إنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ قُرْبَةً وَقَالَ : هِيَ لُقَيْمَةُ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَتُحَرِّكُ الْعَزْمَ السَّاكِنَ إلَى أَشْرَفِ الْأَمَاكِنِ وَتَنْفَعُ فِي

الطَّرِيقِ : فَهُوَ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ فَإِنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ دِينِ النَّصَارَى الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ ؛ وَمِنْ جِنْسِ مَنْ يَعْتَقِدُ الْفَوَاحِشَ قُرْبَةً وَطَاعَةً ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَمَنْ كَانَ يَسْتَحِلُّ ذَلِكَ جَاهِلًا وَقَدْ سَمِعَ الْفُقَهَاءَ :
يَقُولُ حَرَّمُوهَا مِنْ غَيْرِ عَقْلٍ وَنَقْلٍ * * * وَحَرَامٌ تَحْرِيمُ غَيْرِ الْحَرَامِ
فَإِنَّهُ مَا يَعْرِفُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَالسُّكْرُ مِنْهَا حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ . وَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ وَلَمْ يُقِرَّ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا مُرْتَدًّا كَمَا تَقَدَّمَ . وَكُلُّ مَا يُغَيِّبُ الْعَقْلَ فَإِنَّهُ حَرَامٌ وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ بِهِ نَشْوَةٌ وَلَا طَرَبٌ فَإِنَّ تَغَيُّبَ الْعَقْلِ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا تَعَاطِي " الْبَنْجِ " الَّذِي لَمْ يُسْكِرْ وَلَمْ يُغَيِّبْ الْعَقْلَ . فَفِيهِ التَّعْزِيرُ . وَأَمَّا الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَعَلِمُوا أَنَّهَا مُسْكِرَةٌ ؛ وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُهَا الْفُجَّارُ ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ النَّشْوَةِ وَالطَّرَبِ فَهِيَ تُجَامِعُ الشَّرَابَ الْمُسْكِرَ فِي ذَلِكَ وَالْخَمْرُ تُوجِبُ الْحَرَكَةَ وَالْخُصُومَةَ وَهَذِهِ تُوجِبُ الْفُتُورَ وَالذِّلَّةَ وَفِيهَا مَعَ ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الْمِزَاجِ وَالْعَقْلِ ؛ وَفَتْحِ بَابِ الشَّهْوَةِ ؛ وَمَا تُوجِبُهُ مِنْ الدِّيَاثَةِ : مِمَّا هِيَ مِنْ شَرِّ الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ وَإِنَّمَا حَدَثَتْ فِي النَّاسِ بِحُدُوثِ التَّتَارِ .

وَعَلَى تَنَاوُلِ الْقَلِيلِ مِنْهَا وَالْكَثِيرِ حَدُّ الشُّرْبِ : ثَمَانُونَ سَوْطًا ؛ أَوْ أَرْبَعُونَ . إذَا كَانَ مُسْلِمًا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ الْمُسْكِرِ وَيُغَيِّبُ الْعَقْلَ . وَتَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَتِهَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ " أَحَدُهَا " أَنَّهَا لَيْسَتْ نَجِسَةً . " وَالثَّانِي " أَنَّ مَائِعَهَا نَجِسٌ ؛ وَأَنَّ جَامِدَهَا طَاهِرٌ . و " الثَّالِثُ " وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهَا نَجِسَةٌ كَالْخَمْرِ فَهَذِهِ تُشْبِهُ الْعَذِرَةَ ؛ وَذَلِكَ يُشْبِهُ الْبَوْلَ وَكِلَاهُمَا مِنْ الْخَبَائِثِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَنْ ظَهَرَ مِنْهُ أَكْلُ الْحَشِيشَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ شُرْبُ الْخَمْرِ ؛ وَشَرٌّ مِنْهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ؛ وَيُهْجَرُ وَيُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا يُعَاقَبُ هَذَا ؛ لِلْوَعِيدِ الْوَارِدِ فِي الْخَمْرِ ؛ مِثْلَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا ؛ وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا ؛ وَحَامِلَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا } وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ؛ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ؛ فَإِنْ عَادَ وَشَرِبَهَا لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ؛ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ؛ وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَهَا لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ؛ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ؛ وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَهَا فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ ؛ وَهِيَ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَسُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّا يَجِبُ عَلَى آكِلِ الْحَشِيشَةِ ؟ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ أَكْلَهَا جَائِزٌ حَلَالٌ مُبَاحٌ ؟
فَأَجَابَ :
أَكْلُ هَذِهِ الْحَشِيشَةِ الصُّلْبَةِ حَرَامٌ وَهِيَ مِنْ أَخْبَثِ الْخَبَائِثِ الْمُحَرَّمَةِ وَسَوَاءٌ أَكَلَ مِنْهَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا ؛ لَكِنَّ الْكَثِيرَ الْمُسْكِرَ مِنْهَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ كَافِرًا مُرْتَدًّا ؛ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُدْفَنُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . وَحُكْمُ الْمُرْتَدِّ شَرٌّ مِنْ حُكْمِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ سَوَاءٌ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ يَحِلُّ لِلْعَامَّةِ أَوْ لِلْخَاصَّةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا لُقْمَةُ الْفِكْرِ وَالذِّكْرِ وَأَنَّهَا تُحَرِّكُ الْعَزْمَ السَّاكِنَ إلَى أَشْرَفِ الْأَمَاكِنِ وَأَنَّهُمْ لِذَلِكَ يَسْتَعْمِلُونَهَا . وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ ظَنَّ أَنَّ الْخَمْرَ تُبَاحُ لِلْخَاصَّةِ مُتَأَوِّلًا قَوْله تَعَالَى { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا } فَلَمَّا رُفِعَ أَمْرُهُمْ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَتَشَاوَرَ الصَّحَابَةُ فِيهِمْ اتَّفَقَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ إنْ أَقَرُّوا بِالتَّحْرِيمِ جُلِدُوا وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى الِاسْتِحْلَالِ

قُتِلُوا . وَهَكَذَا حَشِيشَةُ الْعُشْبِ مَنْ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهَا وَتَنَاوَلَهَا فَإِنَّهُ يُجْلَدُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ سَوْطًا أَوْ أَرْبَعِينَ . هَذَا هُوَ الصَّوَابُ . وَقَدْ تَوَقَّفَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي الْجَلْدِ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهَا مُزِيلَةٌ لِلْعَقْلِ غَيْرُ مُسْكِرَةٍ كَالْبَنْجِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُغَطِّي الْعَقْلَ مِنْ غَيْرِ سُكْرٍ فَإِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ : إنْ كَانَ مُسْكِرًا فَفِيهِ جَلْدُ الْخَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا فَفِيهِ التَّعْزِيرُ بِمَا دُونَ ذَلِكَ . وَمَنْ اعْتَقَدَ حِلَّ ذَلِكَ كَفَرَ وَقُتِلَ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَشِيشَةَ مُسْكِرَةٌ كَالشَّرَابِ ؛ فَإِنَّ آكِلِيهَا يَنْشَوْنَ بِهَا وَيُكْثِرُونَ تَنَاوُلَهَا بِخِلَافِ الْبَنْجِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُنْشِي وَلَا يُشْتَهَى . وَقَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ أَنْ مَا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ كَالْخَمْرِ وَالزِّنَا فَفِيهِ الْحَدُّ وَمَا لَا تَشْتَهِيهِ كَالْمَيْتَةِ فَفِيهِ التَّعْزِيرُ . " وَالْحَشِيشَةُ " مِمَّا يَشْتَهِيهَا آكِلُوهَا وَيَمْتَنِعُونَ عَنْ تَرْكِهَا ؛ وَنُصُوصُ التَّحْرِيمِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى مَنْ يَتَنَاوَلُهَا كَمَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا ظَهَرَ فِي النَّاسِ أَكْلُهَا قَرِيبًا مِنْ نَحْوِ ظُهُورِ التَّتَارِ ؛ فَإِنَّهَا خَرَجَتْ وَخَرَجَ مَعَهَا سَيْفُ التَّتَارِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ الْعِنَبِ وَيُضِيفُ إلَيْهِ أَصْنَافًا مِنْ الْعِطْرِ ثُمَّ يَغْلِيهِ إلَى أَنْ يَنْقُصَ الثُّلُثَ وَيَشْرَبَ مِنْهُ لِأَجْلِ الدَّوَاءِ وَمَتَى أَكْثَرَ شُرْبَهُ أُسْكِرَ ؟

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَتَى كَانَ كَثِيرُهُ يُسْكِرُ فَهُوَ حَرَامٌ وَهُوَ خَمْرٌ وَيُحَدُّ صَاحِبُهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِتْعِ وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ وَكَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ فَقَالَ : كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ } وَفِي الصَّحِيحِ { عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَفْتِنَا فِي شَرَابٍ كُنَّا نَصْنَعُهُ فِي الْيَمَنِ الْبِتْعُ وَهُوَ مِنْ نَبِيذِ الْعَسَلِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ حُبْشَانِ الْيَمَنِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَرَابٍ يَصْنَعُونَهُ بِأَرْضِهِمْ يُقَالُ لَهُ الْمِزْرُ فَقَالَ : أَيُسْكِرُ ؟ قَالَ نَعَمْ . فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ؛ إنَّ عَلَى اللَّهِ عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ ؟ قَالَ : عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ ؛ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ } وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ : { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } وَقَدْ صَحَّحَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفَّاظِ . وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ . وَإِذَا طُبِخَ الْعَصِيرُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثُهُ أَوْ نِصْفُهُ وَهُوَ يُسْكِرُ فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ بَلْ هُوَ خَمْرٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَأَمَّا إنْ ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ

ثُلُثُهُ : فَهَذَا لَا يُسْكِرُ فِي الْعَادَةِ ؛ إلَّا إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ مَا يُقَوِّيهِ أَوْ لِسَبَبِ آخَرَ . فَمَتَى أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ " الطِّلَاءُ " الَّذِي أَبَاحَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا إنْ أَسْكَرَ بَعْدَ مَا طُبِخَ وَذَهَبَ ثُلُثَاهُ : فَهُوَ حَرَامٌ أَيْضًا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَمَا حُكْمُهُ فِي الْإِصْرَارِ عَلَى ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا " شَارِبُ الْخَمْرِ " فَيَجِبُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ أَنْ يُجْلَدَ الْحَدَّ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَحَدُّهُ أَرْبَعُونَ جَلْدَةً أَوْ ثَمَانُونَ جَلْدَةً . فَإِنْ جَلَدَهُ ثَمَانِينَ جَازَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فَفِي الْإِجْزَاءِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ يَجِبُ الثَّمَانُونَ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ أَنَّ الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةَ تَعْزِيرٌ يُرْجَعُ فِيهَا إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فَإِنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الشُّرْبِ أَوْ إصْرَارِ الشَّارِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعَلَ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُعَزِّرُ بِأَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ ؛ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَنْفِي الشَّارِبَ عَنْ بَلَدِهِ وَيُمَثِّلُ بِهِ بِحَلْقِ رَأْسِهِ .

وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إنْ شَرِبَهَا فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إنْ شَرِبَهَا فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إنْ شَرِبَهَا فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ : فَاقْتُلُوهُ } فَأَمَرَ بِقَتْلِ الشَّارِبِ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ . وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ لَا يُوجِبُونَ الْقَتْلَ ؛ بَلْ يَجْعَلُونَ هَذَا الْحَدِيثَ مَنْسُوخًا ؛ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ . وَطَائِفَةٌ يَقُولُونَ : إذَا لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ الشُّرْبِ إلَّا بِالْقَتْلِ جَازَ ذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي السُّنَنِ أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ قَالَ : { فَإِنْ لَمْ يَدَعُوا ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُمْ } . وَالْحَقُّ مَا تَقَدَّمَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُدْعَى حَمَّارًا وَهُوَ كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ ؛ فَكَانَ كُلَّمَا شَرِبَ جَلَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَعَنَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : لَعَنَهُ اللَّهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَا تَلْعَنْهُ ؛ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ جُلِدَ مَعَ كَثْرَةِ شُرْبِهِ . وَأَمَّا " تَارِكُ الصَّلَاةِ " فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَأَكْثَرُهُمْ - كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد - يَقُولُونَ : إنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَهَلْ يُقْتَلُ كَافِرًا مُرْتَدًّا أَوْ فَاسِقًا كَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَإِذَا لَمْ تُمْكِنْ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى مِثْلِ هَذَا فَإِنَّهُ يُعْمَلُ مَعَهُ الْمُمْكِنُ : فَيُهْجَرُ : وَيُوَبَّخُ حَتَّى يَفْعَلَ الْمَفْرُوضَ وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ وَلَا يَكُونُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } مَعَ أَنَّ إضَاعَتَهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا فَكَيْفَ بِتَارِكِهَا ؟

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ حُجْرَةٌ خَلْفَهَا فَلُوَّةٌ : فَهَلْ يَجُوزُ الشُّرْبُ مِنْ لَبَنِهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
يَجُوزُ الشُّرْبُ مِنْ لَبَنِهَا ؛ إذَا لَمْ يَصِرْ مُسْكِرًا .
وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّه رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اعْتَادَ أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلَّ لَيْلَةٍ قَبْلَ الْعَصْرِ شَيْئًا مِنْ الْمَعَاجِينِ مُدَّةَ سِنِينَ . فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : أَرَى فِيهِ أَشْيَاءَ مِنْ الْمَنَافِعِ : فَهَلْ يُبَاحُ ذَلِكَ لَهُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ ذَلِكَ يُغَيِّبُ الْعَقْلَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَكْلُهُ فَإِنَّ كُلَّ مَا يُغَيِّبُ الْعَقْلَ يَحْرُمُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنْ عَادَ فَاقْتُلُوهُ } هَلْ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلٌ ؟ وَمَنْ رَوَاهُ ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ ، لَهُ أَصْلٌ وَهُوَ مَرْوِيٌّ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَهُوَ ثَابِتٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ؛ لَكِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : هُوَ مَنْسُوخٌ . وَتَنَازَعُوا فِي نَاسِخِهِ ؟ عَلَى عِدَّةِ أَقَاوِيلَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ حُكْمُهُ بَاقٍ . وَقِيلَ : بَلْ الْوُجُوبُ مَنْسُوخٌ وَالْجَوَازُ بَاقٍ . وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَدَحَ فِيهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ هَشَّ الذُّرَةَ فَأَخَذَ يَغْلِي فِي قِدْرِهِ ثُمَّ يُنْزِلُهُ وَيَعْمَلُ عَلَيْهِ قَمْحًا وَيُخَلِّيهِ إلَى بُكْرَةٍ وَيُصَفِّيهِ : فَيَكُونُ مِمَّا لَا يُسْكِرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ثُمَّ يُخَلِّيهِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً بَعْدَ ذَلِكَ فَيَبْقَى يُسْكِرُ : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ أَمْ لَا ؟

فَأَجَابَ :
يَجُوزُ شُرْبُهُ مَا لَمْ يُسْكِرْ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ . فَأَمَّا إذَا أَسْكَرَ فَإِنَّهُ حَرَامٌ بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءٌ أَسْكَرَ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ أَوْ قَبْلَ الثَّلَاثَةِ وَمَتَى أَسْكَرَ حَرُمَ فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ " الْخَمْرِ " إذَا غَلَى عَلَى النَّارِ وَنَقَصَ الثُّلُثَ : هَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا صَارَ مُسْكِرًا فَإِنَّهُ حَرَامٌ تَجِبُ إرَاقَتُهُ وَلَا يَحِلُّ بِالطَّبْخِ . وَأَمَّا إذَا طُبِخَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُسْكِرًا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ وَلَمْ يُسْكِرْ فَإِنَّهُ حَلَالٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا إنْ طُبِخَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُسْكِرًا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُهُ أَوْ نِصْفُهُ فَإِنْ كَانَ مُسْكِرًا فَإِنَّهُ حَرَامٌ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ مَا لَمْ يُسْكِرْ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رِجَالٍ كُهُولٍ وَشُبَّانٍ وَهُمْ حُجَّاجٌ مُوَاظِبُونَ عَلَى أَدَاءِ مَا اُفْتُرِضَ عَلَيْهِمْ : مِنْ صَوْمٍ وَصَلَاةٍ وَعِبَادَةٍ . وَفِيهِمْ كَبِيرُ الْقَدْرِ مَعْرُوفُونَ بِالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ ؛ لَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ ظَوَاهِرِ السُّوءِ وَالْفُسُوقِ وَقَدْ اجْتَمَعَتْ عُقُولُهُمْ وَأَذْهَانُهُمْ وَرَأْيُهُمْ عَلَى أَكْلِ " الْغُبَيْرَاءِ " وَكَانَ قَوْلُهُمْ وَاعْتِقَادُهُمْ فِيهَا أَنَّهَا مَعْصِيَةٌ وَسَيِّئَةٌ ؛ غَيْرَ أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَقُولُونَ فِي اعْتِقَادِهِمْ بِدَلِيلِ كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّهَا حَرَامٌ ؛ غَيْرَ أَنَّ لَهُمْ وِرْدًا بِاللَّيْلِ وَتَعَبُّدَاتٍ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا إذَا حَصَلَتْ نَشْوَتُهَا بِرُءُوسِهِمْ تَأْمُرُهُمْ بِتِلْكَ الْعِبَادَةِ وَلَا تَأْمُرُهُمْ بِسُوءِ وَلَا فَاحِشَةٍ وَنَسَبُوا أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا ضَرَرٌ لِأَحَدِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ أَكَلَهَا حَدٌّ مِنْ الْحُدُودِ ؛ إلَّا أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِمُخَالَفَةِ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاَللَّهُ يَغْفِرُ مَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ . وَاجْتَمَعَ بِهِمْ رَجُلٌ صَادِقُ الْقَوْلِ وَذَكَرَ عَنْهُمْ ذَلِكَ وَوَافَقَهُمْ عَلَى أَكْلِهَا بِحُكْمِهِمْ عَلَيْهِ وَحَدِيثِهِمْ لَهُ وَاعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ : فَهَلْ يَجِبُ عَلَى آكِلِهَا حَدُّ شَارِبِ الْخَمْرِ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا .

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، نَعَمْ يَجِبُ عَلَى آكِلِهَا حَدُّ شَارِبِ الْخَمْرِ . وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ ضُلَّالٌ جُهَّالٌ عُصَاةٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَكَفَى بِرَجُلِ جَهْلًا أَنْ يَعْرِفَ بِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُحَرَّمٌ وَأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ثُمَّ يَقُولُ : إنَّهُ تَطِيبُ لَهُ الْعِبَادَةُ وَتَصْلُحُ لَهُ حَالُهُ وَيْحُ هَذَا الْقَائِلِ أَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ عَلَى الْخَلْقِ مَا يَنْفَعُهُمْ وَيُصْلِحُ لَهُمْ حَالَهُمْ نَعَمْ قَدْ يَكُونُ فِي الشَّيْءِ مَنْفَعَةٌ وَفِيهِ مَضَرَّةٌ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهِ فَيُحَرِّمُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْمَضَرَّةَ إذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ بَقِيَتْ الزِّيَادَةُ مَضَرَّةً مَحْضَةً وَصَارَ هَذَا الرَّجُلُ كَأَنَّهُ قَالَ لِرَجُلِ : خُذْ مِنِّي هَذَا الدِّرْهَمَ وَاعْطِنِي دِينَارًا فَجَهْلُهُ يَقُولُ لَهُ : هُوَ يُعْطِيك دِرْهَمًا فَخُذْهُ وَالْعَقْلُ يَقُولُ : إنَّمَا يَحْصُلُ الدِّرْهَمُ بِفَوَاتِ الدِّينَارِ وَهَذَا ضَرَرٌ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ ؛ بَلْ جَمِيعُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إنْ ثَبَتَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ مَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ضَرَرُهُ أَكْثَرَ . فَهَذِهِ " الْحَشِيشَةُ الْمَلْعُونَةُ " هِيَ وَآكِلُوهَا وَمُسْتَحِلُّوهَا الْمُوجِبَةُ لِسُخْطِ اللَّهِ وَسُخْطِ رَسُولِهِ وَسُخْطِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعَرِّضَةُ صَاحِبَهَا لِعُقُوبَةِ اللَّهِ ؛ إذَا كَانَتْ كَمَا يَقُولُهُ الضَّالُّونَ : مِنْ أَنَّهَا تَجْمَعُ الْهِمَّةَ : وَتَدْعُو إلَى الْعِبَادَةِ فَإِنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ضَرَرٍ فِي دِينِ الْمَرْءِ وَعَقْلِهِ وَخُلُقِهِ وَطَبْعِهِ أَضْعَافَ مَا فِيهَا مِنْ خَيْرٍ ؛ وَلَا خَيْرَ فِيهَا ؛ وَلَكِنْ هِيَ تُحَلِّلُ الرُّطُوبَاتِ ؛ فَتَتَصَاعَدُ الْأَبْخِرَةُ إلَى الدِّمَاغِ ؛ وَتُورِثُ خَيَالَاتٍ فَاسِدَةً فَيَهُونُ عَلَى الْمَرْءِ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ عِبَادَةٍ ؛ وَيَشْغَلُهُ بِتِلْكَ التَّخَيُّلَاتِ عَنْ إضْرَارِ النَّاسِ . وَهَذِهِ رِشْوَةُ الشَّيْطَانِ يَرْشُو بِهَا الْمُبْطِلِينَ لِيُطِيعُوهُ

فِيهَا ؛ بِمَنْزِلَةِ الْفِضَّةِ الْقَلِيلَةِ فِي الدِّرْهَمِ الْمَغْشُوشِ ؛ وَكُلُّ مَنْفَعَةٍ تَحْصُلُ بِهَذَا السَّبَبِ فَإِنَّهَا تَنْقَلِبُ مَضَرَّةً فِي الْمَآلِ ؛ وَلَا يُبَارَكُ لِصَاحِبِهَا فِيهَا ؛ وَإِنَّمَا هَذَا نَظِيرَ السَّكْرَانِ بِالْخَمْرِ ؛ فَإِنَّهَا تَطِيشُ عَقْلَهُ حَتَّى يَسْخُوَ بِمَالِهِ ؛ وَيَتَشَجَّعَ عَلَى أَقْرَانِهِ ؛ فَيَعْتَقِدُ الْغِرُّ أَنَّهَا أَوْرَثَتْهُ السَّخَاءَ وَالشَّجَاعَةَ وَهُوَ جَاهِلٌ ؛ وَإِنَّمَا أَوْرَثَتْهُ عَدَمَ الْعَقْلِ . وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا يَعْرِفُ قَدْرَ النَّفْسِ وَالْمَالِ فَيَجُودُ بِجَهْلِهِ ؛ لَا عَنْ عَقْلٍ فِيهِ . وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْحَشِيشَةُ الْمُسْكِرَةُ إذَا أَضْعَفَتْ الْعَقْلَ ؛ وَفَتَحَتْ بَابَ الْخَيَالِ : تَبْقَى الْعَادَةُ فِيهَا مِثْلَ الْعِبَادَاتِ فِي الدِّينِ الْبَاطِلِ دِينِ النَّصَارَى ؛ فَإِنَّ الرَّاهِبَ تَجِدُهُ يَجْتَهِدُ فِي أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ لَا يَفْعَلُهَا الْمُسْلِمُ الْحَنِيفُ ؛ فَإِنَّ دِينَهُ بَاطِلٌ وَالْبَاطِلُ خَفِيفٌ وَلِهَذَا تَجُودُ النُّفُوسُ فِي السَّمَاعِ الْمُحَرَّمِ وَالْعِشْرَةِ الْمُحَرَّمَةِ بِالْأَمْوَالِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ بِمَا لَا تَجُودُ بِهِ فِي الْحَقِّ ؛ وَمَا هَذَا بِاَلَّذِي يُبِيحُ تِلْكَ الْمَحَارِمِ أَوْ يَدْعُو الْمُؤْمِنُ إلَى فِعْلِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ لِأَنَّ الطَّبْعَ لَمَّا أَخَذَ نَصِيبَهُ مِنْ الْحَظِّ الْمُحَرَّمِ وَلَمْ يُبَالِ بِمَا بَذَلَهُ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ ؛ وَلَيْسَ فِي هَذَا مَنْفَعَةٌ فِي دِينِ الْمَرْءِ وَلَا دُنْيَاهُ ؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لَذَّةُ سَاعَةٍ بِمَنْزِلَةِ لَذَّةِ الزَّانِي حَالَ الْفِعْلِ وَلَذَّةُ شِفَاءِ الْغَضَبِ حَالَ الْقَتْلِ وَلَذَّةُ الْخَمْرِ حَالَ النَّشْوَةِ ثُمَّ إذَا صَحَا مِنْ ذَلِكَ وَجَدَ عَمَلَهُ بَاطِلًا وَذُنُوبَهُ مُحِيطَةً بِهِ وَقَدْ نَقَصَ عَلَيْهِ عَقْلُهُ وَدِينُهُ وَخُلُقُهُ . وَأَيْنَ هَؤُلَاءِ الضُّلَّالُ مِمَّا تُورِثُهُ هَذِهِ الْمَلْعُونَةُ مِنْ قِلَّةِ الْغَيْرَةِ ؛ وَزَوَالِ الْحَمِيَّةِ حَتَّى يَصِيرَ آكِلُهَا إمَّا دَيُّوثًا وَإِمَّا مَأْبُونًا ؛ وَإِمَّا كِلَاهُمَا . وَتُفْسِدُ الْأَمْزِجَةَ

حَتَّى جَعَلَتْ خَلْقًا كَثِيرًا مَجَانِينَ وَتَجْعَلُ الْكَبِدَ بِمَنْزِلَةِ السفتج وَمَنْ لَمْ يُجَنَّ مِنْهُمْ فَقَدْ أَعْطَتْهُ نَقْصَ الْعَقْلِ وَلَوْ صَحَا مِنْهَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي عَقْلِهِ خَبَلٌ ؛ ثُمَّ إنَّ كَثِيرَهَا يُسْكِرُ حَتَّى يَصُدَّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُوجِبُ قُوَّةَ نَفْسِ صَاحِبِهَا حَتَّى يُضَارِبَ وَيُشَاتِمَ فَكَفَى بِالرَّجُلِ شَرًّا أَنَّهَا تَصُدُّهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ إذَا سَكِرَ مِنْهَا وَقَلِيلُهَا وَإِنْ لَمْ يُسْكِرْ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَلِيلِ الْخَمْرِ . ثُمَّ إنَّهَا تُورِثُ مِنْ مَهَانَةِ آكِلِهَا وَدَنَاءَةِ نَفْسِهِ وَانْفِتَاحِ شَهْوَتِهِ : مَا لَا يُورِثُهُ الْخَمْرُ . فَفِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا لَيْسَ فِي الْخَمْرِ ؛ وَإِنْ كَانَ فِي الْخَمْرِ مَفْسَدَةٌ لَيْسَتْ فِيهَا وَهِيَ الْحِدَّةُ فَهِيَ بِالتَّحْرِيمِ أَوْلَى مِنْ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ آكِلِ الْحَشِيشَةِ عَلَى نَفْسِهِ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْخَمْرِ ؛ وَضَرَرَ شَارِبِ الْخَمْرِ عَلَى النَّاسِ أَشَدُّ ؛ إلَّا أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ لِكَثْرَةِ أَكْلِ الْحَشِيشَةِ صَارَ الضَّرَرُ الَّذِي مِنْهَا عَلَى النَّاسِ أَعْظَمَ مِنْ الْخَمْرِ ؛ وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْمَحَارِمَ لِأَنَّهَا تَضُرُّ أَصْحَابَهَا . وَإِلَّا فَلَوْ ضَرَّتْ النَّاسَ وَلَمْ تَضُرَّهُ لَمْ يُحَرِّمْهَا ؛ إذْ الْحَاسِدُ يَضُرُّهُ حَالُ الْمَحْسُودِ وَلَمْ يُحَرِّمْ اللَّهُ اكْتِسَابَ الْمَعَالِي لِدَفْعِ تَضَرُّرِ الْحَاسِدِ . هَذَا وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ ؛ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَهَذِهِ مُسْكِرَةٌ وَلَوْ لَمْ يَشْمَلْهَا لَفْظٌ بِعَيْنِهَا لَكَانَ فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِأَجْلِهَا ؛ مَعَ أَنَّ فِيهَا مَفَاسِدَ أُخَرَ غَيْرَ مَفَاسِدِ الْخَمْرِ تُوجِبُ تَحْرِيمَهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ التَّعْزِيرِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ :
عَنْ رَجُلٍ مِنْ أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ مَمَالِيكُ وَعِنْدَهُ غِلْمَانٌ : فَهَلْ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى أَحَدِهِمْ حَدًّا إذَا ارْتَكَبَهُ ؟ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِوَاجِبِ إذَا تَرَكُوهُ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَنَحْوِهَا ؟ وَمَا صِفَةُ السَّوْطِ الَّذِي يُعَاقِبُهُمْ بِهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ كُلَّهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ وَأَقَلُّ مَا يَفْعَلُ أَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا مِنْهُمْ يَشْتَرِطُ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَمَا يَشْتَرِطُ عَلَيْهِ مَا يَشْتَرِطُهُ مِنْ الْأَعْمَالِ وَمَتَى خَرَجَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ طَرَدَهُ . وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى عُقُوبَتِهِمْ بِحَيْثُ يُقِرُّهُ السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْعُرْفِ الَّذِي اعْتَادَ النَّاسُ وَغَيْرُهُ لَا يُعَاقِبُهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ تَحْتَ حِمَايَتِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَزِّرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إذَا لَمْ يُؤَدُّوا الْوَاجِبَاتِ وَيَتْرُكُوا الْمُحَرَّمَاتِ إلَّا بِالْعُقُوبَةِ وَهُوَ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ حِينَئِذٍ فَإِنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَيْهِ وَغَيْرُهُ

لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ؛ مُرَاعَاةً لَهُ . فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُقِيمَ هُوَ الْوَاجِبَ وَلَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ بِالْوَاجِبِ صَارَ الْجَمِيعُ مُسْتَحِقِّينَ الْعُقُوبَةَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِ مِنْهُ } وَقَالَ : { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } لاسيما إذَا كَانَ يَضْرِبُهُمْ لِمَا يَتْرُكُونَهُ مِنْ حُقُوقِهِ فَمِنْ الْقَبِيحِ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَى حُقُوقِهِ وَلَا يُعَاقِبَهُمْ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ . وَالتَّأْدِيبُ يَكُونُ بِسَوْطِ مُعْتَدِلٍ وَضَرْبٍ مُعْتَدِلٍ . وَلَا يَضْرِبُ الْوَجْهَ وَلَا الْمَقَاتِلَ .
وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّه رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلٍ يُسَفِّهُ عَلَى وَالِدَيْهِ : فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا شَتَمَ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَاعْتَدَى عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُعَاقَبَ عُقُوبَةً بَلِيغَةً تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ بَلْ وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { مِنْ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالُوا : وَكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ } فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَعَلَ مِنْ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ أَبَا غَيْرِهِ لِئَلَّا يَسُبَّ أَبَاهُ فَكَيْفَ إذَا سَبَّ هُوَ أَبَاهُ مُبَاشَرَةً : فَهَذَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي تَمْنَعُهُ عَنْ عُقُوقِ

الْوَالِدَيْنِ اللَّذَيْنِ قَرَنَ اللَّهُ حَقَّهُمَا بِحَقِّهِ حَيْثُ قَالَ : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا } فَكَيْفَ بِسَبِّهِمَا ؟ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَكَابِرِ مُقَدِّمِي الْعَسْكَرِ مَعْرُوفٌ بِالْخَيْرِ وَالدِّينِ وَكَذَبَ عَلَيْهِ بَعْضُ المكاسين حَتَّى ضَرَبَهُ وَعَلَّقَهُ وَطَافَ بِهِ عَلَى حِمَارٍ ؛ وَحَبَسَهُ بَعْدَ ذَلِكَ : هَلْ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ ضَرْبُ مَنْ ظَلَمَهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ وَظَلَمَهُ حَتَّى فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ تَجِبُ عُقُوبَتُهُ الَّتِي تَزْجُرُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ جُمْهُورُ السَّلَفِ يُثْبِتُونَ الْقِصَاصَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ؛ فَمَنْ ضَرَبَ غَيْرَهُ وَجَرَحَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ ؛ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : " أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي لَمْ أَبْعَثْ عُمَّالِي إلَيْكُمْ لِيَضْرِبُوا أَبْشَارَكُمْ وَلَا لِيَأْخُذُوا أَمْوَالَكُمْ وَلَكِنْ لِيُعَلِّمُوكُمْ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَيَقْسِمُوا بَيْنَكُمْ فَيْأَكُمْ فَلَا يَبْلُغُنِي أَنَّ أَحَدًا ضَرَبَهُ عَامِلُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ إلَّا أَقَدْته . فَرَاجَعَهُ عَمْرُو بْنُ العاص فِي ذَلِكَ فَقَالَ لَهُمْ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَادَ مِمَّنْ ظَلَمَهُ } .

وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَمَّنْ شَتَمَ رَجُلًا وَسَبَّهُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا اعْتَدَى عَلَيْهِ بِالشَّتْمِ وَالسَّبِّ فَلَهُ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْهِ ؛ فَيَشْتُمَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُحَرَّمًا لِعَيْنِهِ : كَالْكَذِبِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ مُحَرَّمًا لِعَيْنِهِ كَالْقَذْفِ بِغَيْرِ الزِّنَا فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ تَعْزِيرًا بَلِيغًا يَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ مِنْ السُّفَهَاءِ وَلَوْ عُزِّرَ عَلَى النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنْ الشَّتْمِ جَازَ ؛ وَهُوَ الَّذِي يَشْرَعُ إذَا تَكَرَّرَ سَفَهُهُ أَوْ عُدْوَانُهُ عَلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ شَتَمَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ : أَنْتَ مَلْعُونٌ وَلَدُ زِنًا ؟
فَأَجَابَ :
يَجِبُ تَعْزِيرُهُ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ إنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مَا يَقْصِدُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ قَصْدِهِمْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّ الْمَشْتُومَ فِعْلُهُ خَبِيثٌ كَفِعْلِ وَلَدِ الزِّنَا .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ سَامِرِيٍّ ضَرَبَ مُسْلِمًا وَشَتَمَهُ ؟
فَأَجَابَ :
تَجِبُ عُقُوبَتُهُ عُقُوبَةً بَلِيغَةً تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ " الِاسْتِمْنَاءِ "
فَأَجَابَ :
أَمَّا الِاسْتِمْنَاء فَالْأَصْلُ فِيهِ التَّحْرِيمُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَعَلَى فَاعِلِهِ التَّعْزِيرُ ؛ وَلَيْسَ مِثْلَ الزِّنَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ " الِاسْتِمْنَاءِ " هَلْ هُوَ حَرَامٌ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا الِاسْتِمْنَاء بِالْيَدِ فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَكَذَلِكَ يُعَزَّرُ مَنْ فَعَلَهُ . وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ هُوَ

مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يُبِيحُونَهُ لِخَوْفِ الْعَنَتِ وَلَا غَيْرِهِ وَنُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُمْ رَخَّصُوا فِيهِ لِلضَّرُورَةِ : مِثْلَ أَنْ يَخْشَى الزِّنَا فَلَا يُعْصَمُ مِنْهُ إلَّا بِهِ وَمِثْلَ أَنْ يَخَافَ إنْ لَمْ يَفْعَلْهُ أَنْ يَمْرَضَ وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَأَمَّا بِدُونِ الضَّرُورَةِ فَمَا عَلِمْت أَحَدًا رَخَّصَ فِيهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ يَهِيجُ عَلَيْهِ بَدَنُهُ فَيَسْتَمْنِي بِيَدِهِ ؛ وَبَعْضَ الْأَوْقَاتِ يُلْصِقُ وَرِكَيْهِ عَلَى ذَكَرِهِ ؛ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ إزَالَةَ هَذَا بِالصَّوْمِ ؛ لَكِنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا مَا نَزَلَ مِنْ الْمَاءِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ ؟ لَكِنْ عَلَيْهِ الْغُسْلُ إذَا أَنْزَلَ الْمَاءَ الدَّافِقَ . وَأَمَّا إنْزَالُهُ بِاخْتِيَارِهِ بِأَنْ يَسْتَمْنِيَ بِيَدِهِ : فَهَذَا حَرَامٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَهُوَ أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد ؛ بَلْ أَظْهَرُهُمَا . وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ ؛ لَكِنْ إنْ اُضْطُرَّ إلَيْهِ مِثْلَ أَنْ يَخَافَ الزِّنَا إنْ لَمْ يَسْتَمْنِ أَوْ يَخَافَ الْمَرَضَ : فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ ؛ وَقَدْ رَخَّصَ فِي هَذِهِ الْحَالِ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَنَهَى عَنْهُ آخَرُونَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ جَلَدَ ذَكَرَهُ بِيَدِهِ حَتَّى أَمْنَى : فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا جَلْدُ الذَّكَرِ بِالْيَدِ حَتَّى يُنْزِلَ فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مُطْلَقًا وَعِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ حَرَامٌ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ مِثْلَ أَنْ يَخَافَ الْعَنَتَ أَوْ يَخَافَ الْمَرَضَ أَوْ يَخَافَ الزِّنَا : فَالِاسْتِمْنَاءُ أَصْلَحَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ فَاتُّهِمَ وَضُرِبَ بِالْمَقَارِعِ ؛ وَخَسِرَ وَالِدُهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ وُجِدَتْ السَّرِقَةُ فَجَاءَ صَاحِبُ السَّرِقَةِ وَصَالَحَ المتهوم عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ : فَهَلْ يَصِحُّ مِنْهُ إبْرَاءٌ بِغَيْرِ رِضَى وَالِدِهِ إذَا كَانَ تَحْتَ الْحَجْر ؟ وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ فَمَا يَجِبُ فِي دِيَةِ الضَّرْبِ ؟ وَهَلْ لِوَالِدِهِ بَعْدَ إبْرَاءِ الصَّغِيرِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِضَرْبِ وَلَدِهِ أَمْ لَا ؟

فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ تَحْتَ حَجْرِ أَبِيهِ لَمْ يَصِحَّ صُلْحُهُ وَلَا إبْرَاؤُهُ . وَمَا غَرِمَهُ أَبُوهُ بِسَبَبِ هَذِهِ التُّهْمَةِ الْبَاطِلَةِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّمَهُ إيَّاهُ بِعُدْوَانِهِ سَوَاءٌ أَبْرَأَهُ الِابْنُ أَوْ لَمْ يُبْرِئْهُ فَالْمَضْرُوبُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَضْرِبَ مَنْ طَلَبَ ضَرْبَهُ مِنْ الْمُتَّهِمِينَ لَهُ مِثْلَ مَا ضَرَبَهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ بِالشَّرِّ قَبْلَ ذَلِكَ . هَكَذَا ذَكَرَهُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ رَوَاهُ { أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ لِقَوْمِ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَضْرِبَ رَجُلًا عَلَى تُهْمَةٍ : إنْ شِئْتُمْ ضَرَبْته لَكُمْ فَإِنْ ظَهَرَ مَا لَكُمْ عِنْدَهُ وَإِلَّا ضَرَبْتُكُمْ مِثْلَ مَا ضَرَبْته فَقَالُوا هَذَا حُكْمُك ؟ فَقَالَ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } . وَهَذَا فِي ضَرْبِ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالشَّرِّ وَأَمَّا ضَرْبُ مِنْ عُرِفَ بِالشَّرِّ فَذَاكَ مَقَامٌ آخَرُ وَقَدْ ثَبَتَ الْقِصَاصُ فِي الضَّرْبِ وَاللَّطْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . وَجَاءَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ ؛ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يَرَى الْقِصَاصَ فِي مِثْلِ هَذَا ؛ بَلْ يَرَى فِيهِ التَّعْزِيرَ فَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ وَلَكِنْ هَلْ لِلْأَبِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّ الْقِصَاصِ الَّذِي لِابْنِهِ ؟ أَمْ يَتْرُكَهُ حَتَّى يَبْلُغَ ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ الِابْنُ بَالِغًا فَلَهُ الْعُقُوبَاتُ الْبَدَنِيَّةُ وَاسْتِبْقَاؤُهَا .

بَابُ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ سُرِقَ بَيْتُهُ مِرَارًا ثُمَّ وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ مَمْلُوكٌ بَعْدَ أَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَأُخِذَ فَأَقَرَّ أَنَّهُ دَخَلَ الْبَيْتَ مُخْتَلِسًا مِرَارًا عَدِيدَةً وَلَمْ يُقِرَّ أَنَّهُ أَخَذَ شَيْئًا : فَهَلْ يَلْزَمُهُ مَا عُدِمَ لَهُمْ مِنْ الْبَيْتِ ؟ وَمَا الْحُكْمُ فِيهِ ؟
فَأَجَابَ :
هَذَا الْعَبْدُ يُعَاقَبُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ مِنْ دُخُولِ الْبَيْتِ ؛ وَيُعَاقَبُ أَيْضًا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ . فَإِذَا أَقَرَّ بِمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَ الْمَالَ : مِثْلَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَوْضِعِ الْمَالِ أَوْ عَلَى مَنْ أَعْطَاهُ إيَّاهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ : أُخِذَ الْمَالُ وَأُعْطِيَ لِصَاحِبِهِ إنْ كَانَ مَوْجُودًا وَغَرِمَهُ إنْ كَانَ تَالِفًا . وَيَنْبَغِي لِلْمُعَاقِبِ لَهُ أَنْ يَحْتَالَ عَلَيْهِ بِمَا يُقِرُّ بِهِ كَمَا يَفْعَلُ الْحُذَّاقُ مِنْ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ بِمَنْ يَظْهَرُ لَهُمْ فُجُورُهُ حَتَّى يَعْتَرِفَ وَأَقَلُّ مَا فِي ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمْ بِرَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي فَإِذَا حَلَفَ رَبُّ الْمَالِ حِينَئِذٍ حُكِمَ لِرَبِّ الْمَالِ إذَا حَلَفَ . وَأَمَّا الْحُكْمُ لِرَبِّ الْمَالِ بِيَمِينِهِ بِمَا ظَهَرَ مِنْ اللَّوْثِ وَالْأَمَارَاتِ

الَّتِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الْمُدَّعِي : فَهَذَا فِيهِ اجْتِهَادُهُ . وَأَمَّا فِي النُّفُوسِ فَالْحُكْمُ بِذَلِكَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ مَمْلُوكٌ ذَكَرَ أَنَّهُ سَرَقَ لَهُ قُمَاشًا وَذَكَرَ الْغُلَامُ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ ؟ عِنْدَ سَيِّدِهِ الْقَدِيمِ فِي مِنْدِيلٍ : فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ ؟ وَمَا يَلْزَمُ فِي ذَلِكَ
فَأَجَابَ :
لَا يُؤْخَذُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْغُلَامِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ كَانَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا وَالِيَ الْحَرْبِ أَوْ قَاضِيَ الْحُكْمِ ؛ بَلْ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمُتَّهَمِ بِسَرِقَةِ وَنَحْوِهَا أَنْ يُنْظَرَ فِي الْمُتَّهَمِ : فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْحَالِ . فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْبِرِّ لَمْ يَجُزْ مُطَالَبَتُهُ وَلَا عُقُوبَتُهُ . وَهَلْ يَحْلِفُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُعَزَّرُ مَنْ رَمَاهُ بِالتُّهْمَةِ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْحَالِ فَإِنَّهُ يُحْبَسَ حَتَّى يُكْشَفَ أَمْرُهُ . قِيلَ : يُحْبَسُ شَهْرًا . وَقِيلَ : اجْتِهَادُ وَلِيِّ الْأَمْرِ لِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ }

وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ الْمُنَاسِبِ لِلتُّهْمَةِ فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ : يَضْرِبُهُ الْوَالِي ؛ دُونَ الْقَاضِي . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَد . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ : لَا يُضْرَبُ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أَمَرَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ أَنْ يَمَسَّ بَعْضَ الْمُعَاهَدِينَ بِالْعَذَابِ لَمَّا كَتَمَ إخْبَارَهُ بِالْمَالِ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ : أَيْنَ كَنْزُ حيي بْنِ أَخْطَبَ ؟ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ . فَقَالَ : الْمَالُ كَثِيرٌ وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا وَقَالَ لِلزُّبَيْرِ : دُونَك هَذَا فَمَسَّهُ الزُّبَيْرُ بِشَيْءِ مِنْ الْعَذَابِ فَدَلَّهُمْ عَلَى الْمَالِ } . وَأَمَّا إذَا ادَّعَى أَنَّهُ اسْتَوْدَعَ الْمَالَ فَهَذَا أَخَفُّ فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْخَيْرِ لَمْ يَجُزْ إلْزَامُهُ بِالْمَالِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَاكِمُ وَالِيًا أَوْ قَاضِيًا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالتُّهَمِ فِي الْمَسْرُوقَاتِ فِي وِلَايَتِهِ ؛ فَإِنْ تَرَكَ الْفَحْصَ فِي ذَلِكَ ضَاعَتْ الْأَمْوَالُ وَطَمِعَتْ الْفُسَّاقُ . وَإِنْ وَكَّلَهُ إلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ تَحْتَ يَدِهِ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَظْلِمُ فِيهَا أَوْ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَا يَفِي بِالْمَقْصُودِ فِي ذَلِكَ ؟ وَإِنْ

أَقْدَمَ وَسَأَلَ أَوْ أَمْسَكَ المتهومين وَعَاقَبَهُمْ خَافَ اللَّهَ تَعَالَى فِي إقْدَامِهِ عَلَى أَمْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ ؟ وَهُوَ يَسْأَلُ ضَابِطًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَفِي أَمْرِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا التُّهَمُ فِي السَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَوِّضَهَا إلَى مَنْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَظْلِمُ فِيهَا مَعَ إمْكَانِ أَنْ يُقِيمَ فِيهَا مِنْ الْعُدُولِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ فِي التُّهَمِ " ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ " . " صِنْفٌ " مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ بِالدِّينِ وَالْوَرَعِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التُّهَمِ . فَهَذَا لَا يُحْبَسُ وَلَا يُضْرَبُ ؛ بَلْ وَلَا يُسْتَحْلَفُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ؛ بَلْ يُؤَدَّبُ مَنْ يَتَّهِمُهُ فِيمَا ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ . و " الثَّانِي " مَنْ يَكُونُ مَجْهُولَ الْحَالِ لَا يُعْرَفُ بِبِرِّ وَلَا فُجُورٍ . فَهَذَا يُحْبَسُ حَتَّى يُكْشَفَ عَنْ حَالِهِ . وَقَدْ قِيلَ : يُحْبَسُ شَهْرًا . وَقِيلَ : يُحْبَسُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِ وَلِيِّ الْأَمْرِ . وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ } وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ مُدَّعٍ فَإِنَّهُ يَحْضُرُ مَجْلِسَ وَلِيِّ الْأَمْرِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَعْوِيقُهُ عَنْ أَشْغَالِهِ فَكَذَلِكَ تَعْوِيقُ هَذَا إلَى أَنْ يُعْلَمَ أَمْرُهُ ثُمَّ إذَا سَأَلَ عَنْهُ وَوُجِدَ بَارًّا أُطْلِقَ . وَإِنْ وُجِدَ فَاجِرًا كَانَ مِنْ " الصِّنْفِ الثَّالِثِ " وَهُوَ الْفَاجِرُ الَّذِي قَدْ عُرِفَ مِنْهُ السَّرِقَةُ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ عُرِفَ بِأَسْبَابِ السَّرِقَةِ : مِثْلَ أَنْ يَكُونَ

مَعْرُوفًا بِالْقِمَارِ وَالْفَوَاحِشِ الَّتِي لَا تَتَأَتَّى إلَّا بِالْمَالِ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا لَوْثٌ فِي التُّهْمَةِ ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ مِثْلَ هَذَا يُمْتَحَنُ بِالضَّرْبِ يَضْرِبُهُ الْوَالِي وَالْقَاضِي - كَمَا قَالَ أَشْهَبُ صَاحِبُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ - حَتَّى يُقِرَّ بِالْمَالِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ . يَضْرِبُهُ الْوَالِي ؛ دُونَ الْقَاضِي كَمَا قَالَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِيَانِ الماوردي وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابَيْهِمَا فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا ذَكَرَهُ الطرسوسي وَغَيْرُهُ . ثُمَّ الْمُتَوَلِّي لَهُ أَنْ يَقْصِدَ بِضَرْبِهِ مَعَ تَقْرِيرِهِ عُقُوبَتَهُ عَلَى فُجُورِهِ الْمَعْرُوفِ فَيَكُونُ تَعْزِيرًا وَتَقْرِيرًا . وَلَيْسَ عَلَى الْمُتَوَلِّي أَنْ يُرْسِلَ جَمِيعَ المتهومين حَتَّى يَأْتِيَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ سَرَقَ ؛ " بَلْ قَدْ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ فِي قِصَّةٍ كَانَتْ تُهْمَةً فِي سَرِقَةٍ قَوْله تَعَالَى { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } { وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } { وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا } { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا } { هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا } إلَى آخِرِ الْآيَاتِ وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا يُقَالُ لَهُمْ بَنُو أبيرق سَرَقُوا

لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ طَعَامًا وَدِرْعَيْنِ فَجَاءَ صَاحِبُ الْمَالِ يَشْتَكِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ قَوْمٌ يُزَكُّونَ الْمُتَّهَمِينَ بِالْبَاطِلِ ؛ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَنَّ صِدْقَ الْمُزَكِّينَ فَلَامَ صَاحِبُ الْمَالِ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ " وَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِ الْمَالِ : أَقِمْ الْبَيِّنَةَ ؛ وَلَا حَلِّفْ الْمُتَّهَمِينَ ؛ لِأَنَّ أُولَئِكَ الْمُتَّهَمِينَ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِالشَّرِّ وَظَهَرَتْ الرِّيبَةُ عَلَيْهِمْ . وَهَكَذَا حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَسَامَةِ فِي الدِّمَاءِ إذَا كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الْمُدَّعِينَ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ الْحُدُودِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ ؛ لَيْسَتْ مِنْ الْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ فَلَوْلَا الْقَسَامَةُ فِي الدِّمَاءِ لَأَفْضَى إلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ فَيَقْتُلُ الرَّجُلُ عَدُوَّهُ خُفْيَةً وَلَا يُمْكِنُ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ ؛ وَالْيَمِينُ عَلَى الْقَاتِلِ وَالسَّارِقِ وَالْقَاطِعِ سَهْلَةٌ فَإِنَّ مَنْ يَسْتَحِلُّ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا يَكْتَرِثُ بِالْيَمِينِ . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ ؛ وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } هَذَا فِيمَا لَا يُمْكِنُ مِنْ الْمُدَّعِي حُجَّةٌ غَيْرَ الدَّعْوَى فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى بِهَا شَيْئًا وَلَكِنْ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ . فَأَمَّا إذَا أَقَامَ شَاهِدًا بِالْمَالِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَكَمَ فِي الْمَالِ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَإِذَا كَانَ فِي دَعْوَى الدَّمِ لَوْثٌ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُدَّعِينَ : { أَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ ؟ }

كَذَلِكَ أَمَرَ " قُطَّاعَ الطَّرِيقِ " وَأَمَرَ " اللُّصُوصَ " وَهُوَ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَأْمَنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فِي الْمَسَاكِنِ وَالطُّرُقَاتِ إلَّا بِمَا يَزْجُرُهُمْ فِي قَطْعِ هَؤُلَاءِ وَلَا يَزْجُرُهُمْ أَنْ يَحْلِفَ كُلٌّ مِنْهُمْ ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ لِأَخْذِ الْمَالِ يُقْتَلُ حَتْمًا وَقَتْلُهُ حَدٌّ لِلَّهِ ؛ وَلَيْسَ قَتْلُهُ مُفَوَّضًا إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ . قَالُوا ؛ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَقْتُلْهُ لِغَرَضِ خَاصٍّ مَعَهُ ؛ إنَّمَا قَتَلَهُ لِأَجْلِ الْمَالِ فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ هَذَا الْمَقْتُولِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَقَتْلُهُ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ . فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ " السَّارِقُ " لَيْسَ غَرَضُهُ فِي مَالٍ مُعَيَّنٍ وَإِنَّمَا غَرَضُهُ أَخْذُ مَالِ هَذَا وَمَالِ هَذَا كَذَلِكَ كَانَ قَطْعُهُ حَقًّا وَاجِبًا لِلَّهِ لَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ ؛ بَلْ رَبُّ الْمَالِ يَأْخُذُ مَالَهُ وَتُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ حَتَّى لَوْ قَالَ صَاحِبُ الْمَالِ : أَنَا أُعْطِيهِ مَالِي لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَطْعُ كَمَا { قَالَ صَفْوَانُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَهَبُهُ رِدَائِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَلَّا فَعَلْت قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ لَمْ يَزَلْ فِي سُخْطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ وَمَنْ قَالَ فِي مُسْلِمٍ مَا لَيْسَ فِيهِ حُبِسَ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ } { وَقَالَ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ إذَا بَلَغَتْ الْحُدُودُ السُّلْطَانَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفَّعَ } .

وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا مَنْ ظَهَرَ عِنْدَهُ مَالٌ يَجِبُ عَلَيْهِ إحْضَارُهُ كَالْمَدِينِ إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ غَيَّبَ مَالَهُ وَأَصَرَّ عَلَى الْحَبْسِ وَكَمَنَ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ وَلَمْ يَرُدَّهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا ظَهَرَ كَذِبُهُ . فَإِنَّهُ لَا يَحْلِفُ ؛ لَكِنْ يُضْرَبُ حَتَّى يُحْضِرَ الْمَالَ الَّذِي يَجِبُ إحْضَارُهُ أَوْ يُعَرِّفُ مَكَانَهُ كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَامَ خَيْبَرٍ فِي عَمِّ حيي بْنِ أَخْطَبَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنَّ لَهُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ؛ فَقَالَ لِهَذَا الرَّجُلِ : أَيْنَ كَنْزُ حيي بْنِ أَخْطَبَ ؟ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ فَقَالَ : الْمَالُ كَثِيرٌ وَالْعَهْدُ أَحْدَثُ مِنْ هَذَا ثُمَّ قَالَ : دُونَك هَذَا فَمَسَّهُ بِشَيْءِ مِنْ الْعَذَابِ فَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ فِي خَرِبَةٍ هُنَاكَ } فَهَذَا لَمَّا قَالَ أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ وَالْعَادَةُ تُكَذِّبُهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ بَلْ أَمَرَ بِعُقُوبَتِهِ حَتَّى دَلَّهُمْ عَلَى الْمَالِ ؛ فَكَذَلِكَ مَنْ أَخَذَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ وَادَّعَى ذَهَابَهَا دَعْوَى تُكَذِّبُهُ فِيهَا الْعَادَةُ كَانَ هَذَا حُكْمَهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ كَانَ لَهُ ذَهَبٌ مَخِيطٌ فِي ثَوْبِهِ فَأَعْطَاهُ لِلْغَسَّالِ نِسْيَانًا ؛ فَلَمَّا رَدَّهُ الْغَسَّالُ إلَيْهِ بَعْدَ غَسْلِهِ وَجَدَ مَكَانَ الذَّهَبِ مُفَتَّقًا وَلَمْ يَجِدْهُ : فَمَا الْحُكْمُ فِيهِ ؟
الْجَوَابُ :
إمَّا أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا يَبْرِيهِ وَإِمَّا أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ أَخَذَ الذَّهَبَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَضْمَنُهُ ؛ فَإِنْ كَانَ الْغَسَّالُ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ وَظَهَرَتْ الرِّيبَةُ بِظُهُورِ الْفَتْقِ جَازَ ضَرْبُهُ وَتَعْزِيرُهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ حَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ أَقْوَامٍ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَيَقْتُلُونَ مَنْ يُمَانَعُهُمْ عَنْ مَالِهِ وَيَفْجُرُونَ بِحَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ وَيُعَذِّبُونَ كُلَّ مَنْ يَمْسِكُونَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى حَتَّى يَدُلَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ؛ ثُمَّ الْإِمَامُ بَلَغَهُ خَبَرُهُمْ ؛ فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بَعْضَ النَّاسِ أَنْ يَرُوحَ إلَيْهِمْ وَيَمْنَعَهُمْ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ ؛ فَخَرَجُوا عَلَيْهِ وَقَالُوا الْمُسَيَّرِينَ إلَيْهِمْ ؛ وَامْتَنَعُوا مِنْ طَاعَةِ السُّلْطَانِ فَهَلْ يَحِلُّ قِتَالُهُمْ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ إذَا أَخَذَ السُّلْطَانُ مِنْ مَالِهِمْ شَيْئًا وَبَاعَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَحِلُّ لِأَحَدِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ يَحِلُّ قِتَالُ هَؤُلَاءِ بَلْ يَجِبُ ؛ وَإِذَا أَخَذَ السُّلْطَانُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِإِزَاءِ مَا أَخَذُوهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَعْرِفْ مُسْتَحِقَّهُ جَازَ الشِّرَاءُ مِنْهُ وَإِنْ كَانُوا أَخَذُوا شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَفِي أَخْذِ أَمْوَالِهِمْ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ . وَإِذَا قَلَّدَ السُّلْطَانُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ بِطَرِيقَةِ سَاغَ لَهُ ذَلِكَ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ؛ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَ النَّاسِ وَدِمَاءَهُمْ : مِثْلَ السَّارِقِ وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ : هَلْ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ ؟ أَوْ يُقَاتِلَهُمْ ؟ وَهَلْ إذَا قَتَلَ رَجُلٌ أُحُدًا مِنْهُمْ : فَهَلْ يَكُونُ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى النِّفَاقِ ؟ وَهَلْ عَلَيْهِ إثْمٌ فِي قَتْلِ مَنْ طَلَبَ قَتْلَهُ ؟
فَأَجَابَ :
أَجَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ مُقَاتَلَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } . " فَالْقُطَّاعُ " إذَا طَلَبُوا مَالَ الْمَعْصُومِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ شَيْئًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ يَدْفَعُهُمْ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعُوا إلَّا بِالْقِتَالِ فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ فَإِنْ قُتِلَ كَانَ شَهِيدًا وَإِنْ قَتَلَ وَاحِدًا مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ دَمُهُ هَدَرًا ؛ وَكَذَلِكَ إذَا طَلَبُوا دَمَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُمْ وَلَوْ بِالْقَتْلِ إجْمَاعًا ؛ لَكِنَّ الدَّفْعَ عَنْ الْمَالِ لَا يَجِبُ بَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ الْمَالَ وَلَا يُقَاتِلَهُمْ . وَأَمَّا الدَّفْعُ عَنْ النَّفْسِ فَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ تَاجِرٍ نَصَبَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ ؛ وَأَخَذُوا مَبْلَغًا فَحَمَلَهُمْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ ؛ وَعَاقَبَهُمْ حَتَّى أَقَرُّوا بِالْمَالِ وَهُمْ مَحْبُوسُونَ عَلَى الْمَالِ وَلَمْ يُعْطُوهُ شَيْئًا وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُعْطُونَهُ شَيْئًا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَؤُلَاءِ مَنْ كَانَ الْمَالُ بِيَدِهِ وَامْتَنَعَ مِنْ إعْطَائِهِ فَإِنَّهُ يُضْرَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْمَالَ الَّذِي بِيَدِهِ لِغَيْرِهِ . وَمَنْ كَانَ قَدْ غَيَّبَ الْمَالَ وَجَحَدَ مَوْضِعَهُ فَإِنَّهُ يُضْرَبُ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى مَوْضِعِهِ . وَمَنْ كَانَ مُتَّهَمًا لَا يَعْرِفُ هَلْ مَعَهُ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ أَمْ لَا ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ ضَرْبُهُ مُعَاقَبَةً لَهُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ الْكَذِبِ وَالظُّلْمِ . وَيُقَرَّرُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى الْمَالِ أَيْنَ هُوَ . وَيُطْلَبُ مِنْهُ إحْضَارُهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ - :
عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ اللُّصُوصِ أَخَذَ اثْنَانِ مِنْهُمْ جِمَالًا وَالثَّالِثُ قَتَلَ الْجِمَالَ : هَلْ تُقْتَلُ الثَّلَاثَةُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الثَّلَاثَةُ حَرَامِيَّةً اجْتَمَعُوا لِيَأْخُذُوا الْمَالَ بِالْمُحَارَبَةِ قُتِلَ الثَّلَاثَةُ وَإِنْ كَانَ الَّذِي بَاشَرَ الْقَتْلَ وَاحِدًا مِنْهُمْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
__________
آخِرُ المُجَلَّدِ الرَّابِعِ وَالثَّلَاثِينَ

الْجُزْءُ الْخَامِسُ وَالْثَّلَاثُونَ
كِتَابُ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ إِلَى نِهَايَةِ الْإِقْرَارِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .
بَابٌ الْخِلَافَةُ وَالْمُلْكُ وَقِتَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ؛ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
أَمَّا بَعْدُ : فَهَذِهِ " قَاعِدَةٌ مُخْتَصَرَةٌ فِي وُجُوبِ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ " فِي كُلِّ حَالٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَأَنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَوُلَاةِ

الْأُمُورِ وَمُنَاصَحَتِهِمْ : وَاجِبٌ ؛ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ كَمَا أَمَرَهُمْ أَنْ يُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمُوا بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ . وَأَمَرَهُمْ إذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ أَنْ يَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ . قَالَ الْعُلَمَاءُ : الرَّدُّ إلَى اللَّهِ هُوَ الرَّدُّ إلَى كِتَابِهِ وَالرَّدُّ إلَى الرَّسُولِ بَعْدَ مَوْتِهِ هُوَ الرَّدُّ إلَى سُنَّتِهِ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فَجَعَلَ اللَّهُ الْكِتَابَ الَّذِي أَنْزَلَهُ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَامَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ يَقُولُ : اللَّهُمَّ رَبَّ جبرائيل وميكائيل

وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ : اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك ؛ إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ تَمِيمٍ الداري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ قَالُوا : لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا ؛ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَأَنْ تناصحوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ } وَفِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأَ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ . ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ : إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ } . و " يَغَلُّ " بِالْفَتْحِ هُوَ الْمَشْهُورُ وَيُقَالُ : غَلَّى صَدْرَهُ فَغَلَّ إذَا كَانَ ذَا غِشٍّ وَضَغَنٍ وَحِقْدٍ أَيْ قَلْبُ الْمُسْلِمِ لَا يُغِلُّ عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَأَنْ تناصحوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ } فَإِنَّ اللَّهَ إذَا

كَانَ يَرْضَاهَا لَنَا لَمْ يَكُنْ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يُحِبُّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ يُغِلُّ عَلَيْهَا يُبْغِضُهَا وَيَكْرَهُهَا فَيَكُونُ فِي قَلْبِهِ عَلَيْهَا غِلٌّ ؛ بَلْ يُحِبُّهَا قَلْبُ الْمُؤْمِنِ وَيَرْضَاهَا . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { بَايَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ ؛ وَعَلَى أُثْرَةٍ عَلَيْنَا وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ وَعَلَى أَنْ نَقُولَ أَوْ نَقُومَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا ؛ لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ ؛ إلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةِ فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةِ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةٌ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْك بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي عُسْرِك وَيُسْرِك وَمَنْشَطِك وَمَكْرَهِك وَأُثْرَةٍ عَلَيْك } . وَمَعْنَى قَوْلِهِ { وَأُثْرَةٍ عَلَيْك } { وَأُثْرَةٍ عَلَيْنَا } أَيْ وَإِنْ اسْتَأْثَرَ : وُلَاةُ الْأُمُورِ عَلَيْك فَلَمْ يُنْصِفُوك وَلَمْ يُعْطُوك حَقَّك ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { أسيد بْنِ حضير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَلَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَلَّا تَسْتَعْمِلُنِي كَمَا اسْتَعْمَلْت فُلَانًا ؟ فَقَالَ : إنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ } . وَهَذَا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ { قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهَا تَكُونُ بَعْدِي أُثْرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا قَالُوا :

يَا رَسُول اللَّهِ كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ ؟ قَالَ ؟ تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ وَائِلِ بْنِ حجر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { سَأَلَ سَلَمَةُ بْنُ يَزِيدَ الجعفي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَنَا حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا : فَمَا تَأْمُرُنَا ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ؛ ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْرَضَ ؛ ثُمَّ سَأَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ فَحَدَّثَهُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ؛ فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } . فَذَلِكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ طَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَمُنَاصَحَتِهِمْ : هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِ ؛ وَإِنْ اسْتَأْثَرُوا عَلَيْهِ . وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ : فَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ ؛ وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ :
وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ طَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَمُنَاصَحَتِهِمْ وَاجِبٌ عَلَى الْإِنْسَانِ وَإِنْ لَمْ يُعَاهِدْهُمْ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ لَهُمْ الْأَيْمَانَ الْمُؤَكَّدَةَ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَحَجُّ الْبَيْتِ . وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ الطَّاعَةِ ؛ فَإِذَا حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ تَوْكِيدًا وَتَثْبِيتًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ طَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَمُنَاصَحَتِهِمْ . فَالْحَالِفُ عَلَى هَذِهِ

الْأُمُورِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ خِلَافَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ حَلَفَ بِاَللَّهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَيْمَانِ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ ؛ فَإِنَّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ طَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَمُنَاصَحَتِهِمْ وَاجِبٌ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ ؛ فَكَيْفَ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَمَا نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْ مَعْصِيَتِهِمْ وَغِشِّهِمْ مُحَرَّمٌ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى ذَلِكَ . وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَيُصَلِّيَنَّ الْخَمْسَ وَلَيَصُومَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ أَوْ لَيَقْضِيَنَّ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ وَيَشْهَدَنَّ بِالْحَقِّ : فَإِنَّ هَذَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الشِّرْكِ وَالْكَذِبِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَغِشِّ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَالْخُرُوجِ عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِمْ : هُوَ مُحَرَّمٌ ؛ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَلِهَذَا مَنْ كَانَ حَالِفًا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ طَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَمُنَاصَحَتِهِمْ أَوْ الصَّلَاةِ أَوْ الزَّكَاةِ أَوْ صَوْمِ رَمَضَانَ أَوْ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَالْعَدْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يُفْتِيَهُ بِمُخَالَفَةِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَالْحِنْثِ فِي يَمِينِهِ ؛ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ فِي ذَلِكَ . وَمَنْ أَفْتَى مِثْلَ هَؤُلَاءِ بِمُخَالَفَةِ مَا حَلَفُوا عَلَيْهِ وَالْحِنْثِ فِي أَيْمَانِهِمْ : فَهُوَ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مُفْتٍ بِغَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ ؛ بَلْ لَوْ أَفْتَى آحَادُ الْعَامَّةِ بِأَنْ يَفْعَلَ خِلَافَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ مِنْ الْوَفَاءِ فِي عَقْدِ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ مِنْ

الْعُقُودِ الَّتِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهَا فَإِذَا حَلَفَ كَانَ أَوْكَدَ فَمَنْ أَفْتَى مِثْلَ هَذَا بِجَوَازِ نَقْضِ هَذِهِ الْعُقُودِ . وَالْحِنْثِ فِي يَمِينِهِ : كَانَ مُفْتَرِيًا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مُفْتِيًا بِغَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي مُعَاقَدَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الْعُقُودِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا . وَهَذَا كَمَا أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : يَمِينُ الْمُكْرَهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَنْعَقِدُ سَوَاءٌ كَانَ بِاَللَّهِ أَوْ النَّذْرِ أَوْ الطَّلَاقِ أَوْ الْعِتَاقِ ؛ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . ثُمَّ إذَا أَكْرَهَ وَلِيُّ الْأَمْرِ النَّاسَ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَتِهِ وَمُنَاصَحَتِهِ وَحَلِفِهِمْ عَلَى ذَلِكَ : لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي تَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ ذَلِكَ وَيُرَخِّصَ لَهُمْ فِي الْحِنْثِ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ وَاجِبًا بِدُونِ الْيَمِينِ فَالْيَمِينُ تُقَوِّيهِ ؛ لَا تُضْعِفُهُ ؛ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ صَاحِبَهَا أُكْرِهَ عَلَيْهَا . وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ بِلُزُومِ الْمَحْلُوفِ مُطْلَقًا فِي بَعْضِ الْأَيْمَانِ ؛ لِأَجْلِ تَحْلِيفِ وُلَاةِ الْأُمُورِ أَحْيَانًا . قِيلَ لَهُ : وَهَذَا يُرَدُّ عَلَيْك فِيمَا تَعْتَقِدُهُ فِي يَمِينِ الْمُكْرَهِ ؛ فَإِنَّك تَقُولُ : لَا يَلْزَمُ وَإِنْ حَلَفَ بِهَا وُلَاةُ الْأُمُورِ . وَيُرَدُّ عَلَيْك فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ تُفْتِي بِهَا فِي الْحِيَلِ ؛ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ .

وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْفَضْلِ فَلَا يُرَخِّصُونَ لِأَحَدِ فِيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَغِشِّهِمْ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ : بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ كَمَا قَدْ عُرِفَ مِنْ عَادَاتِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالدِّينِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَمِنْ سِيرَةِ غَيْرِهِمْ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرِهِ } قَالَ : وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْغَدْرِ . يَعْنِي بِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا حَدَّثَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَمَّا قَامَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَخْرُجُونَ عَنْ طَاعَةِ وَلِيِّ أَمْرِهِمْ ؛ يَنْقُضُونَ بَيْعَتَهُ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ { نَافِعٍ قَالَ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ حِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَرَّةِ مَا كَانَ ؛ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ؛ فَقَالَ : اطْرَحُوا لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وِسَادَةً . فَقَالَ : إنِّي لَمْ آتِك لِأَجْلِسَ أَتَيْتُك لِأُحَدِّثَك حَدِيثًا ؛ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ خَلَعَ يَدًا لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ ؛ وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ يَخْرُجُ مِنْ السُّلْطَانِ شِبْرًا فَمَاتَ عَلَيْهِ إلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ ؛ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ؛ وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِيَّةٍ ؛ يَغْضَبُ لِعَصَبَيَّةِ ،

أَوْ يَدْعُو إلَى عَصَبَيَّةٍ ؛ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَيَّةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ } وَفِي لَفْظٍ { لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مِنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلَا يُوفِي لِذِي عَهْدِهَا ؛ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْت مِنْهُ } .
" فَالْأَوَّلُ " هُوَ الَّذِي يَخْرُجُ عَنْ طَاعَةِ وَلِيِّ الْأَمْرِ ؛ وَيُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ .
" وَالثَّانِي " هُوَ الَّذِي يُقَاتِلُ لِأَجْلِ الْعَصَبِيَّةِ ؛ وَالرِّيَاسَةِ ؛ لَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ : مِثْلِ قَيْسٍ وَيُمْنٍ .
" وَالثَّالِثُ " مِثْلُ الَّذِي يَقْطَعُ الطَّرِيقَ فَيَقْتُلُ مَنْ لَقِيَهُ مِنْ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ ؛ لِيَأْخُذَ مَالَهُ وكالحرورية الْمَارِقِينَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الَّذِي قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَاعَةِ وَلِيِّ الْأَمْرِ ؛ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ } وَعَنْ { أَبِي ذَرٍّ قَالَ : أَوْصَانِي خَلِيلِي أَنْ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ؛ وَلَوْ كَانَ حَبَشِيًّا مُجَدَّعَ

الْأَطْرَافِ } وَعَنْ الْبُخَارِيِّ : { وَلَوْ لِحَبَشِيٍّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ { أُمِّ الْحُصَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ يَقُولُ : وَلَوْ اسْتَعْمَلَ عَبْدًا يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا } وَفِي رِوَايَةٍ : { عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ عِنْدَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : لَا ؛ مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلَاةَ لَا ؛ مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلَاةَ أَلَا مَنْ وُلِّيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةٍ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ . الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ عَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ

فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ : إنِّي مُحَدِّثُك حَدِيثًا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ : { مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ إلَّا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ الْجَنَّةَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُ . وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ جَيْشًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا ؛ فَأَوْقَدَ نَارًا فَقَالَ : اُدْخُلُوهَا . فَأَرَادَ النَّاسُ أَنْ يَدْخُلُوهَا وَقَالَ الْآخَرُونَ . إنَّا فَرَرْنَا مِنْهَا فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِلَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا : لَوْ دَخَلْتُمُوهَا لَمْ تَزَالُوا فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَالَ لِلْآخَرِينَ قَوْلًا حَسَنًا ؛ وَقَالَ : لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ ؛ إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ } .

فَصْلٌ :
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ } { وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ } { رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } . فَطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ ؛ وَطَاعَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَاجِبَةٌ لِأَمْرِ اللَّهِ بِطَاعَتِهِمْ فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِطَاعَةِ وُلَاةِ الْأَمْرِ لِلَّهِ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ . وَمَنْ كَانَ لَا يُطِيعُهُمْ إلَّا لِمَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْوِلَايَةِ وَالْمَالِ فَإِنْ أَعْطَوْهُ أَطَاعَهُمْ ؛ وَإِنْ

مَنَعُوهُ عَصَاهُمْ : فَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ . وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ ؛ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ؛ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلَاةِ يَمْنَعُهُ مِنْ ابْنِ السَّبِيلِ ؛ وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ لَهُ بِاَللَّهِ لِآخِذِهَا بِكَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ وَهُوَ غَيْرُ ذَلِكَ وَرَجُلٌ بَايَعَ إمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إلَّا لِدُنْيَا ؛ فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَّى ؛ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ } .

وَقَالَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
قَاعِدَةٌ :
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً ؛ ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهُ مُلْكَهُ - أَوْ الْمُلْكَ - مَنْ يَشَاءُ } لَفْظُ أَبِي دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَارِثِ وَالْعَوَّامِ { تَكُونُ الْخِلَافَةُ ثَلَاثِينَ عَامًا ثُمَّ يَكُونُ الْمُلْكُ } { تَكُونُ الْخِلَافَةُ ثَلَاثِينَ سَنَةً ثُمَّ تَصِيرُ مُلْكًا } وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَعَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ وَالْعَوَّامِ بْنِ حوشب وَغَيْرِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جمهان عَنْ سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ : كَأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ فِي تَقْرِيرِ خِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْأَرْبَعَةِ وَثَبَتَهُ أَحْمَد ؛ وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَنْ تَوَقَّفَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ ؛ مِنْ

أَجْلِ افْتِرَاقِ النَّاسِ عَلَيْهِ ؛ حَتَّى قَالَ أَحْمَد : مَنْ لَمْ يُرَبِّعْ بِعَلِيِّ فِي الْخِلَافَةِ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ ؛ وَنَهَى عَنْ مُنَاكَحَتِهِ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَعُلَمَاءِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصَوُّفِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْعَامَّةِ . وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُمْ فِي ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِمْ : كَالرَّافِضَةِ الطَّاعِنِينَ فِي خِلَافَةِ الثَّلَاثَةِ أَوْ الْخَوَارِجِ الطَّاعِنِينَ فِي خِلَافَةِ الصِّهْرَيْنِ الْمُنَافِيَيْنِ : عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ أَوْ بَعْضِ النَّاصِبَةِ النَّافِينَ لِخِلَافَةِ عَلِيٍّ أَوْ بَعْضِ الْجُهَّالِ مِنْ الْمُتَسَنِّنَةِ الْوَاقِفِينَ فِي خِلَافَتِهِ وَوَفَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إحْدَى عَشْرَةَ مِنْ هِجْرَتِهِ وَإِلَى عَامِ ثَلَاثِينَ سَنَةَ كَانَ إصْلَاحُ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ السَّيِّدِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِنُزُولِهِ عَنْ الْأَمْرِ عَامَ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ فِي شَهْرِ جُمَادَى الْأُولَى وَسُمِّيَ " عَامَ الْجَمَاعَةِ " لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَى " مُعَاوِيَةَ " وَهُوَ أَوَّلُ الْمُلُوكِ . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ : { سَتَكُونُ خِلَافَةُ نُبُوَّةٍ وَرَحْمَةٍ ثُمَّ يَكُونُ مُلْكٌ وَرَحْمَةٌ ثُمَّ يَكُونُ مُلْكٌ وَجَبْرِيَّةٌ ثُمَّ يَكُونُ مُلْكٌ عَضُوضٌ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي السُّنَنِ وَهُوَ صَحِيحٌ : { إنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتُ الْأُمُورِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131