الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

مُسْلِمٍ : الْحُسَيْنِ أَوْ غَيْرِهِ - قَوْلًا زُورًا وَكَذِبًا مَرْدُودًا عَلَى قَائِلِهِ . فَهَذَا كَافٍ فِي الْمَنْعِ مِنْ أَنْ يُقَالَ : هَذَا " مَشْهَدُ الْحُسَيْنِ " .
فَصْلٌ :
ثُمَّ نَقُولُ : بَلْ نَحْنُ نَعْلَمُ وَنَجْزِمُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ رَأْسُ الْحُسَيْنِ وَلَا كَانَ ذَلِكَ الْمَشْهَدُ الْعَسْقَلَانِيُّ مَشْهَدًا لِلْحُسَيْنِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ : مِنْهَا : أَنَّهُ لَوْ كَانَ رَأْسُ الْحُسَيْنِ هُنَاكَ لَمْ يَتَأَخَّرْ كَشْفُهُ وَإِظْهَارُهُ إلَى مَا بَعْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ وَدَوْلَةُ بَنِي أُمَيَّةَ انْقَرَضَتْ قَبْلَ ظُهُورِ ذَلِكَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ وَبِضْعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةٍ . وَقَدْ جَاءَتْ خِلَافَةُ بَنِي الْعَبَّاسِ . وَظَهَرَ فِي أَثْنَائِهَا مِنْ الْمَشَاهِدِ بِالْعِرَاقِ وَغَيْرِ الْعِرَاقِ مَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْهَا كَذِبًا . وَكَانُوا عِنْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ بِكَرْبَلَاءَ قَدْ بَنَوْا هُنَاكَ مَشْهَدًا . وَكَانَ يَنْتَابُهُ أُمَرَاءُ عُظَمَاءُ حَتَّى أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ الْأَئِمَّةُ . وَحَتَّى إنَّ الْمُتَوَكِّلَ لَمَّا تَقَدَّمُوا لَهُ بِأَشْيَاءَ يُقَالُ : إنَّهُ بَالَغَ فِي إنْكَارِ ذَلِكَ وَزَادَ عَلَى الْوَاجِبِ . دَعْ خِلَافَةَ بَنِي الْعَبَّاسِ فِي أَوَائِلِهَا وَفِي حَالِ اسْتِقَامَتِهَا فَإِنَّهُمْ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُونُوا يُعَظِّمُونَ الْمَشَاهِدَ سَوَاءٌ مِنْهَا مَا كَانَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا كَمَا

حَدَثَ فِيمَا بَعْدُ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ كَانَ حِينَئِذٍ مَا يَزَالُ فِي قُوَّتِهِ وَعُنْفُوَانِهِ . وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ لَا فِي الْحِجَازِ وَلَا الْيَمَنِ وَلَا الشَّامِ وَلَا الْعِرَاقِ وَلَا مِصْرَ وَلَا خُرَاسَانَ وَلَا الْمَغْرِبِ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ أُحْدِثَ مَشْهَدٌ لَا عَلَى قَبْرِ نَبِيٍّ وَلَا صَاحِبٍ وَلَا أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَلَا صَالِحٍ أَصْلًا ؛ بَلْ عَامَّةُ هَذِهِ الْمَشَاهِدِ مُحْدَثَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ . وَكَانَ ظُهُورُهَا وَانْتِشَارُهَا حِينَ ضَعُفَتْ خِلَافَةُ بَنِي الْعَبَّاسِ وَتَفَرَّقَتْ الْأُمَّةُ وَكَثُرَ فِيهِمْ الزَّنَادِقَةُ الْمُلَبِّسُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَفَشَتْ فِيهِمْ كَلِمَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَذَلِكَ مِنْ دَوْلَةِ الْمُقْتَدِرِ فِي أَوَاخِرَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ . فَإِنَّهُ إذْ ذَاكَ ظَهَرَتْ الْقَرَامِطَةُ العبيدية القداحية بِأَرْضِ الْمَغْرِبِ . ثُمَّ جَاءُوا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى أَرْضِ مِصْرَ . وَيُقَالُ : إنَّهُ حَدَثَ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ : الْمُكُوسُ فِي الْإِسْلَامِ . وَقَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ ظَهَرَ بَنُو بويه . وَكَانَ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ زَنْدَقَةٌ وَبِدَعٌ قَوِيَّةٌ . وَفِي دَوْلَتِهِمْ قَوِيَ بَنُو عُبَيْدٍ الْقَدَّاحِ بِأَرْضِ مِصْرَ وَفِي دَوْلَتِهِمْ أُظْهِرَ الْمَشْهَدُ الْمَنْسُوبُ إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِنَاحِيَةِ النَّجَفِ وَإِلَّا فَقَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقُولُ : إنَّ قَبْرَ عَلِيٍّ هُنَاكَ وَإِنَّمَا دُفِنَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ بِالْكُوفَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرُوا أَنَّ بَعْضَهُمْ حَكَى عَنْ الرَّشِيدِ : أَنَّهُ جَاءَ إلَى بُقْعَةٍ هُنَاكَ وَجَعَلَ يَعْتَذِرُ إلَى الْمَدْفُونِ فِيهَا فَقَالُوا : إنَّهُ عَلِيٌّ وَأَنَّهُ اعْتَذَرَ إلَيْهِ مِمَّا فَعَلَ بِوَلَدِهِ فَقَالُوا : هَذَا قَبْرُ عَلِيٍّ وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ

إنَّهُ قَبْرُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مَبْسُوطِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَإِذَا كَانَ بَنُو بويه وَبَنُو عُبَيْدٍ - مَعَ مَا كَانَ فِي الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ الْغُلُوِّ فِي التَّشَيُّعِ . حَتَّى إنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ فِي دَوْلَتِهِمْ بِبَغْدَادَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنْ شِعَارِ الرَّافِضَةِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِثْلُهُ مِثْلُ تَعْلِيقِ الْمُسُوحِ عَلَى الْأَبْوَابِ وَإِخْرَاجِ النَّوَائِحِ بِالْأَسْوَاقِ وَكَانَ الْأَمْرُ يُفْضِي فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ إلَى قِتَالٍ تَعْجِزُ الْمُلُوكُ عَنْ دَفْعِهِ . وَبِسَبَبِ ذَلِكَ خَرَجَ الخرقي - صَاحِبُ الْمُخْتَصَرِ فِي الْفِقْهِ - مِنْ بَغْدَادُ لَمَّا ظَهَرَ بِهَا سَبُّ السَّلَفِ . وَبَلَغَ مِنْ أَمْرِ الْقَرَامِطَةِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَشْرِقِ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ أَنَّهُمْ أَخَذُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَبَقِيَ مَعَهُمْ مُدَّةٌ وَأَنَّهُمْ قَتَلُوا الْحُجَّاجَ وَأَلْقَوْهُمْ بِبِئْرِ زَمْزَمَ . فَإِذَا كَانَ مَعَ كُلِّ هَذَا لَمْ يَظْهَرْ حَتَّى مَشْهَدٌ لِلْحُسَيْنِ بِعَسْقَلَانَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رَأْسُهُ بِعَسْقَلَانَ لَكَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ أَعْلَمَ بِذَلِكَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَإِذَا كَانَ مَعَ تَوَفُّرِ الْهِمَمِ وَالدَّوَاعِي وَالتَّمَكُّنِ وَالْقُدْرَةِ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ بَاطِلٌ مَكْذُوبٌ مِثْلُ مِنْ يَدَّعِي أَنَّهُ شَرِيفٌ عَلَوِيٌّ . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ هَذَا أَحَدٌ مِنْ أَجْدَادِهِ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى ذَلِكَ لَوْ كَانَ صَحِيحًا فَإِنَّهُ بِهَذَا يُعْلَمُ كَذِبُ هَذَا الْمُدَّعِي وَبِمِثْلِ ذَلِكَ عَلِمْنَا كَذِبَ مَنْ يَدَّعِي النَّصَّ عَلَى خِلَافَةِ عَلِيٍّ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا أَخْبَارَ الْحُسَيْنِ وَمَقْتَلِهِ مِثْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَأَبِي الْقَاسِمِ البغوي وَغَيْرِهِمَا - لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ الرَّأْسَ حُمِلَ إلَى عَسْقَلَانَ وَلَا إلَى الْقَاهِرَةِ . وَقَدْ ذَكَرَ نَحْوَ ذَلِكَ أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ دِحْيَةَ فِي كِتَابِهِ الْمُلَقَّبِ بـ " الْعِلْمُ الْمَشْهُورُ فِي فَضَائِلِ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ " ذَكَرَ أَنَّ الَّذِينَ صَنَّفُوا فِي مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ أَجْمَعُوا أَنَّ الرَّأْسَ لَمْ يَغْتَرِبْ وَذَكَرَ هَذَا بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْمَشْهَدَ الَّذِي بِالْقَاهِرَةِ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ وَأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ وَبَسَطَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْمُؤَرِّخِينَ : أَنَّ الرَّأْسَ حُمِلَ إلَى الْمَدِينَة . وَدُفِنَ عِنْدَ أَخِيهِ الْحَسَنِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ : أَنْ الزُّبَيْرَ بْنَ بكار صَاحِبَ " كِتَابِ الْأَنْسَابِ " وَمُحَمَّدَ بْنَ سَعْدٍ كَاتِبَ الواقدي وَصَاحِبَ الطَّبَقَاتِ وَنَحْوَهُمَا مِنْ الْمَعْرُوفِينَ بِالْعِلْمِ وَالثِّقَةِ وَالِاطِّلَاعِ : أَعْلَمُ بِهَذَا الْبَابِ وَأَصْدَقُ فِيمَا يَنْقُلُونَهُ مِنْ الْجَاهِلِينَ وَالْكَذَّابِينَ وَمِنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّوَارِيخِ الَّذِينَ لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِمْ وَلَا صِدْقِهِمْ بَلْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ صَادِقًا وَلَكِنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِالْأَسَانِيدِ حَتَّى يُمَيِّزَ بَيْنَ الْمَقْبُولِ وَالْمَرْدُودِ أَوْ يَكُونُ سَيِّئَ الْحِفْظِ أَوْ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ أَوْ بِالتَّزَيُّدِ فِي الرِّوَايَةِ كَحَالِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَخْبَارِيِّينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ

لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مِثْلَ أَبِي مخنف لُوطِ بْنِ يَحْيَى وَأَمْثَالِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الواقدي نَفْسَهُ خَيْرٌ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ مِثْلِ هِشَامِ بْنِ الْكَلْبِيِّ وَأَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ وَأَمْثَالِهِمَا وَقَدْ عُلِمَ كَلَامُ النَّاسِ فِي الواقدي فَإِنَّ مَا يَذْكُرُهُ هُوَ وَأَمْثَالُهُ إنَّمَا يُعْتَضَدُ بِهِ وَيُسْتَأْنَسُ بِهِ وَأَمَّا الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِهِ فِي الْعِلْمِ فَهَذَا لَا يَصْلُحُ . فَإِذَا كَانَ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ يَذْكُرُونَ أَنَّ رَأْسَ الْحُسَيْنِ دُفِنَ بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُمْ أَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ عَادَ إلَى الْبَدَنِ فَدُفِنَ مَعَهُ بِكَرْبَلَاءَ وَإِمَّا أَنَّهُ دُفِنَ بِحَلَبِ أَوْ بِدِمَشْقَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بِعَسْقَلَانَ - عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ إذْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالصِّدْقِ : عَلَى الْبَاطِلِ وَأَهْلُ الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ : عَلَى الْحَقِّ فِي الْأُمُورِ النَّقْلِيَّةِ الَّتِي إنَّمَا تُؤْخَذُ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالصِّدْقِ لَا عَنْ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ الَّذِي ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ : " أَنَّ الرَّأْسَ حُمِلَ إلَى قُدَّامِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ وَجَعَلَ يَنْكُتُ بِالْقَضِيبِ عَلَى ثَنَايَاهُ بِحَضْرَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " وَفِي الْمُسْنَدِ : " أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِحَضْرَةِ أَبِي بَرْزَةَ الأسلمي " وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ رَوَى بِإِسْنَادِ مُنْقَطِعٍ " أَنَّ هَذَا النَّكْتَ كَانَ بِحَضْرَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ " وَهَذَا بَاطِلٌ . فَإِنَّ أَبَا بَرْزَةَ وَأَنَسَ

بْنُ مَالِكٍ كَانَا بِالْعِرَاقِ لَمْ يَكُونَا بِالشَّامِ وَيَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ كَانَ بِالشَّامِ لَمْ يَكُنْ بِالْعِرَاقِ حِينَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ فَمَنْ نَقَلَ أَنَّهُ نَكَتَ بِالْقَضِيبِ ثَنَايَاهُ بِحَضْرَةِ أَنَسٍ وَأَبِي بَرْزَةَ قُدَّامَ يَزِيدَ فَهُوَ كَاذِبٌ قَطْعًا كَذِبًا مَعْلُومًا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ . وَمَعْلُومٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ : أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ كَانَ هُوَ أَمِيرَ الْعِرَاقِ حِينَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ : أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ عُمَرَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مُقَدَّمًا عَلَى الطَّائِفَةِ الَّتِي قَاتَلَتْ الْحُسَيْنَ وَكَانَ عُمَرُ قَدْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَأَرْغَبَهُ ابْنُ زِيَادٍ وَأَرْهَبَهُ حَتَّى فَعَلَ مَا فَعَلَ . وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَسَانِيدِ الْمَقْبُولَةِ : أَنَّهُ لَمَّا كَتَبَ أَهْلُ الْعِرَاقِ إلَى الْحُسَيْنِ وَهُوَ بِالْحِجَازِ : أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا : إنَّهُ قَدْ أُمِيتَتْ السُّنَّةُ وَأُحْيِيَتْ الْبِدْعَةُ . وَأَنَّهُ وَأَنَّهُ حَتَّى يُقَالَ : إنَّهُمْ أَرْسَلُوا إلَيْهِ كُتُبًا مِلْءَ صُنْدُوقٍ وَأَكْثَرَ وَأَنَّهُ أَشَارَ عَلَيْهِ الْأَحِبَّاءُ الْأَلِبَّاءُ فَلَمْ يَقْبَلْ مَشُورَتَهُمْ فَإِنَّهُ كَمَا قِيلَ :
وَمَا كُلُّ ذِي لُبٍّ بِمُؤْتِيك نُصْحَهُ * * * وَمَا كُلُّ مُؤْتٍ نُصْحَهُ بِلَبِيبِ
فَقَدْ أَشَارَ عَلَيْهِ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا بِأَنْ لَا يَذْهَبَ إلَيْهِمْ . وَذَلِكَ كَانَ قَدْ رَآهُ أَخُوهُ الْحَسَنُ - وَاتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى أَنَّ هَذَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْعِرَاقِيِّينَ يَكْذِبُونَ

عَلَيْهِ وَيَخْذُلُونَهُ إذْ هُمْ أَسْرَعُ النَّاسِ إلَى فِتْنَةٍ وَأَعْجَزُهُمْ فِيهَا عَنْ ثَبَاتٍ وَأَنَّ أَبَاهُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ وَأَطْوَعَ فِي النَّاسِ وَكَانَ جُمْهُورُ النَّاسِ مَعَهُ . وَمَعَ هَذَا فَكَانَ فِيهِمْ مِنْ الْخِلَافِ عَلَيْهِ وَالْخِذْلَانِ لَهُ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ . حَتَّى صَارَ يَطْلُبُ السِّلْمَ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَدْعُو إلَى الْحَرْبِ . وَمَا مَاتَ إلَّا وَقَدْ كَرِهَهُمْ كَرَاهَةً اللَّهُ بِهَا عَلِيمٌ . وَدَعَا عَلَيْهِمْ وَبَرَمَ بِهِمْ . فَلَمَّا ذَهَبَ الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأُرْسِلَ ابْنُ عَمِّهِ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ إلَيْهِمْ وَاتَّبَعَهُ طَائِفَةٌ . ثُمَّ لَمَّا قَدِمَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ الْكُوفَةَ قَامُوا مَعَ ابْنِ زِيَادٍ وَقُتِلَ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ وَهَانِئُ بْنُ عُرْوَةَ وَغَيْرُهُمَا فَبَلَغَ الْحُسَيْنَ ذَلِكَ فَأَرَادَ الرُّجُوعَ فَوَافَتْهُ سَرِيَّةُ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَسْتَأْسِرَ لَهُمْ فَأَبَى وَطَلَبَ أَنْ يَرُدُّوهُ إلَى يَزِيدَ ابْنِ عَمِّهِ حَتَّى يَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ أَوْ يَرْجِعَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ أَوْ يَلْحَقَ بِبَعْضِ الثُّغُورِ فَامْتَنَعُوا مِنْ إجَابَتِهِ إلَى ذَلِكَ بَغْيًا وَظُلْمًا وَعُدْوَانًا . وَكَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ تَحْرِيضًا عَلَيْهِ شِمْرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ . وَلَحِقَ بِالْحُسَيْنِ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ . وَوَقَعَ الْقَتْلُ حَتَّى أَكْرَمَ اللَّهُ الْحُسَيْنَ وَمَنْ أَكْرَمَهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ بِالشَّهَادَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ . وَأَهَانَ بِالْبَغْيِ وَالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ مِنْ أَهَانَهُ بِمَا انْتَهَكَهُ مِنْ حُرْمَتِهِمْ وَاسْتَحَلَّهُ مِنْ دِمَائِهِمْ { وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْحُسَيْنِ وَكَرَامَتِهِ لَهُ لِيَنَالَ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ حَيْثُ لَمْ يُجْعَلُ لَهُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مِنْ الِابْتِلَاءِ

وَالِامْتِحَانِ مَا جُعِلَ لِسَائِرِ أَهْلِ بَيْتِهِ كَجَدِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِيهِ وَعَمِّهِ وَعَمِّ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّ بَنِي هَاشِمٍ أَفْضَلُ قُرَيْشٍ وَقُرَيْشًا أَفْضَلُ الْعَرَبِ وَالْعَرَبَ أَفْضَلُ بَنِي آدَمَ . كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إبْرَاهِيمَ بَنِي إسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى بَنِي هَاشِمٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ . } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ { قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي } وَفِي السُّنَنِ { أَنَّهُ شَكَا إلَيْهِ الْعَبَّاسُ : أَنَّ بَعْضَ قُرَيْشٍ يُحَقِّرُونَهُمْ فَقَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ لِلَّهِ وَلِقَرَابَتِي } . وَإِذَا كَانُوا أَفْضَلَ الْخَلْقِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ . وَكَانَ أَفْضَلُهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَا عَدْلَ لَهُ مِنْ الْبَشَرِ فَفَاضِلُهُمْ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ فَاضِلٍ مِنْ سَائِرِ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ بَلْ وَمِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ . ثُمَّ عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ وَجَعْفَرٌ وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ هُمْ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ . فَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ سَائِرِ الْقَبَائِلِ . وَلِهَذَا

{ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُبَارَزَةِ لَمَّا بَرَزَ عتبة بْنُ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عتبة . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُمْ يَا حَمْزَةُ . قُمْ يَا عُبَيْدَةُ . قُمْ يَا عَلِيُّ } . فَبَرَزَ إلَى الثَّلَاثَةِ ثَلَاثَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ فِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } الْآيَةُ . وَإِنْ كَانَ فِي الْآيَةِ عُمُومٌ . وَلَمَّا كَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ . كَانَا قَدْ وُلِدَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فِي عِزِّ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَنُلْهُمَا مِنْ الْأَذَى وَالْبَلَاءِ مَا نَالَ سَلَفُهُمَا الطَّيِّبُ فَأَكْرَمَهُمَا اللَّهُ بِمَا أَكْرَمَهُمَا بِهِ مِنْ الِابْتِلَاءِ لِيَرْفَعَ دَرَجَاتِهِمَا وَذَلِكَ مِنْ كَرَامَتِهِمَا عَلَيْهِ لَا مِنْ هَوَانِهِمَا عِنْدَهُ كَمَا أَكْرَمَ حَمْزَةَ وَعَلِيًّا وَجَعْفَرًا وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَغَيْرَهُمْ بِالشَّهَادَةِ وَفِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ : عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهَا الْحُسَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ فَيَذْكُرُ مُصِيبَتَهُ وَإِنْ قَدُمَتْ فَيُحْدِثُ لَهَا اسْتِرْجَاعًا إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلَ أَجْرِهِ يَوْمَ أُصِيبَ بِهَا } . فَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْحُسَيْنُ وَعَنْهُ بِنْتُهُ فَاطِمَةُ الَّتِي شَهِدَتْ مَصْرَعَهُ . وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ مُصِيبَتَهُ تُذْكَرُ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ . فَالْمَشْرُوعُ إذَا ذُكِرَتْ الْمُصِيبَةُ وَأَمْثَالُهَا أَنْ يُقَالَ : إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ

رَاجِعُونَ " اللَّهُمَّ آجِرْنَا فِي مُصِيبَتِنَا وَاخْلُفْ لَنَا خَيْرًا مِنْهَا " قَالَ تَعَالَى : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } { الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } . وَالْكَلَامُ فِي أَحْوَالِ الْمُلُوكِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ مُتَعَسِّرٌ أَوْ مُتَعَذِّرٌ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ نَعْلَمَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ : أَنَّهُمْ هُمْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ لَهُ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ يَدْخُلُونَ بِهَا فِي نُصُوصِ الْوَعْدِ أَوْ نُصُوصِ الْوَعِيدِ . وَتَنَاوُلُ نُصُوصِ الْوَعْدِ لِلشَّخْصِ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قِيلَ لَهُ : الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ لِيُقَالَ ؟ فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . وَكَذَلِكَ تَنَاوُلُ نُصُوصِ الْوَعِيدِ لِلشَّخْصِ مَشْرُوطٌ بِأَلَا يَكُونَ مُتَأَوِّلًا وَلَا مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا . فَإِنَّ اللَّهَ عَفَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ . وَكَثِيرٌ مِنْ تَأْوِيلَاتِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَمَا يَعْرِضُ لَهُمْ فِيهَا مِنْ الشُّبُهَاتِ مَعْرُوفَةٌ يَحْصُلُ بِهَا مِنْ الْهَوَى وَالشَّهَوَاتِ . فَيَأْتُونَ مَا يَأْتُونَهُ بِشُبْهَةِ وَشَهْوَةٍ . وَالسَّيِّئَاتُ الَّتِي يَرْتَكِبُهَا أَهْلُ الذُّنُوبِ تَزُولُ بِالتَّوْبَةِ . وَقَدْ تَزُولُ بِحَسَنَاتِ مَاحِيَةٍ وَمَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ . وَقَدْ تَزُولُ بِصَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ وَبِشَفَاعَةِ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ . فَلِهَذَا كَانَ أَهْل الْعِلْمِ يَخْتَارُونَ فِيمَنْ عُرِفَ بِالظُّلْمِ وَنَحْوِهِ مَعَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ لَهُ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ فِي الظَّاهِرِ - كَالْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ وَأَمْثَالِهِ - أَنَّهُمْ لَا يَلْعَنُونَ أَحَدًا مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ ؛ بَلْ يَقُولُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } فَيَلْعَنُونَ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَامًّا . كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَبَائِعَهَا وَمُشْتَرِيهَا وَسَاقِيَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَآكِلَ ثَمَنِهَا } وَلَا يَلْعَنُونَ الْمُعَيَّنَ . كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ : { أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُدْعَى حِمَارًا وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِدُهُ . فَأُتِيَ بِهِ مَرَّةً . فَلَعَنَهُ رَجُلٌ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنْهُ . فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } . وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّعْنَةَ مِنْ بَابِ الْوَعِيدِ وَالْوَعِيدُ الْعَامُّ لَا يُقْطَعُ بِهِ لِلشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ لِأَحَدِ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ : مِنْ تَوْبَةٍ أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ أَوْ مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ أَوْ شَفَاعَةٍ مَقْبُولَةٍ . وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَطَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَلْعَنُونَ الْمُعَيَّنَ كيزيد . وَطَائِفَةٌ بِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ بَلْ نُحِبُّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نُوَالِيَ عَلَيْهِ . إذْ لَيْسَ كَافِرًا . وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأُمَّةِ : أَنَّا لَا نَلْعَنُ مُعَيَّنًا مُطْلَقًا . وَلَا نُحِبُّ مُعَيَّنًا مُطْلَقًا

فَإِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ سَبَبُ هَذَا وَسَبَبُ هَذَا إذَا اجْتَمَعَ فِيهِ مِنْ حُبِّ الْأَمْرَيْنِ . إذْ كَانَ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّتِي فَارَقُوا بِهَا الْخَوَارِجَ : أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ تَجْتَمِعُ فِيهِ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ فَيُثَابُ عَلَى حَسَنَاتِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ . وَيُحْمَدُ عَلَى حَسَنَاتِهِ وَيُذَمُّ عَلَى سَيِّئَاتِهِ . وَأَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ مَرْضِيٌّ مَحْبُوبٌ وَمِنْ وَجْهٍ بَغِيضٌ مَسْخُوطٌ . فَلِهَذَا كَانَ لِأَهْلِ الْإِحْدَاثِ : هَذَا الْحُكْمُ . وَأَمَّا أَهْلُ التَّأْوِيلِ الْمَحْضِ الَّذِينَ يَسُوغُ تَأْوِيلُهُمْ : فَأُولَئِكَ مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ : خَطَؤُهُمْ مَغْفُورٌ لَهُمْ وَهُمْ مُثَابُونَ عَلَى مَا أَحْسَنُوا فِيهِ مِنْ حُسْنِ قَصْدِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ . وَإِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } . وَلِهَذَا كَانَ الْكَلَامُ فِي السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَمَنْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ كَعُثْمَانِ وَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَنَحْوِهِمْ : لَهُ هَذَا الْحُكْمُ . بَلْ وَمَنْ هُوَ دُونَ هَؤُلَاءِ الْأَكَابِرِ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ . وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :

{ لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } . فَنَقُولُ فِي هَؤُلَاءِ وَنَحْوِهِمْ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ : إمَّا أَنْ يَكُونَ عَمَلُ أَحَدِهِمْ سَعْيًا مَشْكُورًا أَوْ ذَنْبًا مَغْفُورًا أَوْ اجْتِهَادًا قَدْ عُفِيَ لِصَاحِبِهِ عَنْ الْخَطَأِ فِيهِ . فَلِهَذَا كَانَ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ الْعِلْمِ : أَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ الْكَلَامِ فِي هَؤُلَاءِ بِكَلَامِ يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِمْ وَدِيَانَتِهِمْ بَلْ يُعْلَمُ أَنَّهُمْ عُدُولٌ مَرْضِيُّونَ وَأَنَّ هَؤُلَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَا سِيَّمَا وَالْمَنْقُولُ عَنْهُمْ مِنْ الْعَظَائِمِ كَذِبٌ مُفْتَرًى مِثْلَمَا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ شِيعَةِ عُثْمَانَ يَتَّهِمُونَ عَلِيًّا بِأَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ عُثْمَانَ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ . وَكَانَ بَعْضُ مِنْ يُقَاتِلُهُ يَظُنُّ ذَلِكَ بِهِ . وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ شُبَهِهِمْ الَّتِي قَاتَلُوا عَلِيًّا بِهَا . وَهِيَ شُبْهَةٌ بَاطِلَةٌ وَكَانَ عَلِيٌّ يَحْلِفُ - وَهُوَ الصَّادِقُ الْبَارُّ - أَنِّي مَا قَتَلْت عُثْمَانَ وَلَا أَعَنْت عَلَى قَتْلِهِ . وَيَقُولُ : " اللَّهُمَّ شَتِّتْ قَتَلَةَ عُثْمَانَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالسَّهْلِ وَالْجَبَلِ وَكَانُوا يَجْعَلُونَ امْتِنَاعَهُ مِنْ تَسْلِيمِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ مِنْ شُبَهِهِمْ فِي ذَلِكَ . وَلَمْ يَكُنْ مُمَكَّنًا مِنْ أَنْ يَعْمَلَ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِكَوْنِ النَّاسِ مُخْتَلِفِينَ عَلَيْهِ وَعَسْكَرِهِ وَأُمَرَاءِ عَسْكَرِهِ غَيْرَ مُطِيعِينَ لَهُ فِي كُلِّ مَا كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِهِ . فَإِنَّ التَّفَرُّقَ وَالِاخْتِلَافَ يَقُومُ فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ وَتَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ مَا يَعْلَمُهُ مَنْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْعَارِفِينَ بِمَا جَاءَ مِنْ النُّصُوصِ فِي فَضْلِ الْجَمَاعَةِ وَالْإِسْلَامِ .

وَيَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ : قَدْ أَتَى أُمُورًا مُنْكَرَةً . مِنْهَا : وَقْعَةُ الْحَرَّةُ . وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عِيرٍ إلَى كَذَا . مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى ] مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ } وَقَالَ { مَنْ أَرَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءِ أَمَاعَهُ اللَّهُ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ } . وَلِهَذَا قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَد : أَتَكْتُبُ الْحَدِيثَ عَنْ يَزِيدَ ؟ فَقَالَ : لَا وَلَا كَرَامَةَ أَوَلَيْسَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِأَهْلِ الْحَرَّةِ مَا فَعَلَ وَقِيلَ لَهُ - أَيْ فِي مَا يَقُولُونَ - أَمَا تُحِبُّ يَزِيدَ ؟ فَقَالَ : وَهَلْ يُحِبُّ يَزِيدَ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ؟ فَقِيلَ : فَلِمَاذَا لَا تَلْعَنُهُ ؟ فَقَالَ : وَمَتَى رَأَيْت أَبَاك يَلْعَنُ أَحَدًا . وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ : أَنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُجَرَّدِ الذُّنُوبِ وَلَا بِمُجَرَّدِ التَّأْوِيلِ ؛ بَلْ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ إذَا كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ فَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

وَقَدْ رُوِيَتْ زِيَادَاتٌ : بَعْضُهَا صَحِيحٌ وَبَعْضُهَا ضَعِيفٌ وَبَعْضُهَا كَذِبٌ مَوْضُوعٌ . وَالْمُصَنِّفُونَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ : كالبغوي وَابْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَنَحْوِهِمَا : كَالْمُصَنِّفِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي سَائِرِ الْمَنْقُولَاتِ : هُمْ بِذَلِكَ أَعْلَمُ وَأَصْدَقُ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُمْ يُسْنِدُونَ مَا يَنْقُلُونَهُ عَنْ الثِّقَاتِ أَوْ يُرْسِلُونَهُ عَمَّنْ يَكُونُ مُرْسِلُهُ يُقَارِبُ الصِّحَّةَ بِخِلَافِ الْإِخْبَارِيِّينَ فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّا يُسْنِدُونَهُ عَنْ كَذَّابٍ أَوْ مَجْهُولٍ . وَأَمَّا مَا يُرْسِلُونَهُ فَظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ . وَهَؤُلَاءِ لَعَمْرِي مِمَّنْ يَنْقُلُ عَنْ غَيْرِهِ مُسْنَدًا أَوْ مُرْسَلًا . وَأَمَّا أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَنَحْوُهُمْ : فَيَعْتَمِدُونَ عَلَى نَقْلٍ لَا يُعْرَفُ لَهُ قَائِلٌ أَصْلًا لَا ثِقَةٌ وَلَا مُعْتَمَدٌ . وَأَهْوَنُ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ الْكَذِبُ الْمُخْتَلَقُ . وَأَعْلَمُ مَنْ فِيهِمْ لَا يَرْجِعُ فِيمَا يَنْقُلُهُ إلَى عُمْدَةٍ بَلْ إلَى سماعات عَنْ الْجَاهِلِينَ وَالْكَذَّابِينَ وَرِوَايَاتٍ عَنْ أَهْلِ الْإِفْكِ الْمُبِينِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي يَذْكُرُونَ فِيهَا حَمْلَ رَأْسِ الْحُسَيْنِ إلَى يَزِيدَ وَنَكْتَهُ إيَّاهَا بِالْقَضِيبِ كَذَبُوا فِيهَا وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ إلَى ابْنِ زِيَادٍ - وَهُوَ الثَّابِتُ بِالْقِصَّةِ - فَلَمْ يُنْقَلْ بِإِسْنَادِ مَعْرُوفٍ أَنَّ الرَّأْسَ حُمِلَ إلَى قُدَّامِ يَزِيدَ . وَلَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ إلَّا إسْنَادًا مُنْقَطِعًا ، قَدْ عَارَضَهُ مِنْ الرِّوَايَاتِ مَا هُوَ

أَثْبَتُ مِنْهُ وَأَظْهَرُ - نَقَلُوا فِيهَا أَنَّ يَزِيدَ لَمَّا بَلَغَهُ مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ أَظْهَرَ التَّأَلُّمَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ : لَعَنَ اللَّهُ أَهْلَ الْعِرَاقِ . لَقَدْ كُنْت أَرْضَى مِنْ طَاعَتِهِمْ بِدُونِ هَذَا . وَقَالَ فِي ابْنِ زِيَادٍ : أَمَا إنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُسَيْنِ رَحِمٌ لَمَا قَتَلَهُ . وَأَنَّهُ ظَهَرَ فِي دَارِهِ النَّوْحُ لِمَقْتَلِ الْحُسَيْنِ وَأَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَهْلُهُ وَتَلَاقَى النِّسَاءُ تَبَاكَيْنَ وَأَنَّهُ خَيَّرَ ابْنَهُ عَلِيًّا بَيْنَ الْمُقَامِ عِنْدَهُ وَالسَّفَرِ إلَى الْمَدِينَةِ فَاخْتَارَ السَّفَرَ إلَى الْمَدِينَةِ . فَجَهَّزَهُ إلَى الْمَدِينَةِ جَهَازًا حَسَنًا . فَهَذَا وَنَحْوَهُ مِمَّا نَقَلُوهُ بِالْأَسَانِيدِ الَّتِي هِيَ أَصَحُّ وَأَثْبَتُ مِنْ ذَلِكَ الْإِسْنَادِ الْمُنْقَطِعِ الْمَجْهُولِ تُبَيِّنُ أَنَّ يَزِيدُ لَمْ يُظْهِرْ الرِّضَا بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ وَأَنَّهُ أَظْهَرَ الْأَلَمَ لِقَتْلِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِسَرِيرَتِهِ . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِهِ ابْتِدَاءً لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مَا انْتَقَمَ مِنْ قَاتِلِيهِ وَلَا عَاقَبَهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوا ؛ إذْ كَانُوا قَتَلُوهُ لِحِفْظِ مُلْكِهِ الَّذِي كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ مِنْ الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ الْبَيْتِ . رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ نَقْلَ رَأْسِ الْحُسَيْنِ إلَى الشَّامِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي زَمَنِ يَزِيدَ . فَكَيْفَ بِنَقْلِهِ بَعْدَ زَمَنِ يَزِيدَ ؟ وَإِنَّمَا الثَّابِتُ : هُوَ نَقْلُهُ مِنْ كَرْبَلَاءَ إلَى أَمِيرِ الْعِرَاقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ بِالْكُوفَةِ . وَاَلَّذِي ذَكَرَ الْعُلَمَاءَ : أَنَّهُ دُفِنَ بِالْمَدِينَةِ .

وَأَمَّا مَا يَرْوِيهِ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ يُمَيِّزُ بِهِ مَا يَقُولُ وَلَا لَهُ إلْمَامٌ بِمَعْرِفَةِ الْمَنْقُولِ : مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ سُبُّوا وَأَنَّهُمْ حُمِلُوا عَلَى الْبَخَاتِيِّ وَأَنَّ الْبَخَاتِيَّ نَبَتَ لَهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ سَنَامَانِ : فَهَذَا مِنْ الْكَذِبِ الْوَاضِحِ الْفَاضِحِ لِمَنْ يَقُولُهُ . فَإِنَّ الْبَخَاتِيَّ قَدْ كَانَتْ مِنْ يَوْمِ خَلَقَهَا اللَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ ذَاتَ سَنَامَيْنِ كَمَا كَانَ غَيْرُهَا مِنْ أَجْنَاسِ الْحَيَوَانِ . وَالْبَخَاتِيِّ لَا تَسْتُرُ امْرَأَةً . وَلَا سَبَى أَهْلَ الْبَيْتِ أَحَدٌ وَلَا سُبِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ . بَلْ هَذَا كَمَا يَقُولُونَ : إنَّ الْحَجَّاجَ قَتَلَهُمْ . وَقَدْ عَلِمَ أَهْلُ النَّقْلِ كُلُّهُمْ أَنَّ الْحَجَّاجَ لَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ كَمَا عَهِدَ إلَيْهِ خَلِيفَتُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ وَأَنَّهُ لَمَّا تَزَوَّجَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَرَأَوْهُ لَيْسَ بِكُفْءِ لَهَا . وَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى فَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا . بَلْ بَنُو مَرْوَانَ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَمْ يَقْتُلُوا أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لَا آلِ عَلِيٍّ وَلَا آلِ الْعَبَّاسِ إلَّا زَيْدَ بْنَ عَلِيٍّ الْمَصْلُوبَ بِكُنَاسَةِ الْكُوفَةِ وَابْنَهُ يَحْيَى . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ حُمِلَ إلَى يَزِيدَ فَأَيُّ غَرَضٍ كَانَ لَهُمْ فِي دَفْنِهِ بِعَسْقَلَانَ وَكَانَتْ إذْ ذَاكَ ثَغْرًا يُقِيمُ بِهِ الْمُرَابِطُونَ ؟ فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ تَعْفِيَةَ خَبَرِهِ فَمِثْلُ عَسْقَلَانَ تُظْهِرُهُ لِكَثْرَةِ مَنْ يَنْتَابُهَا لِلرِّبَاطِ . وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ بَرَكَةَ الْبُقْعَةِ فَكَيْفَ يَقْصِدُ هَذَا مَنْ يُقَالُ : إنَّهُ عَدُوٌّ لَهُ مُسْتَحِلٌّ لِدَمِهِ سَاعٍ فِي قَتْلِهِ ؟

ثُمَّ مِنْ الْمَعْلُومِ : أَنَّ دَفْنَهُ قَرِيبًا عِنْدَ أُمِّهِ وَأَخِيهِ بِالْبَقِيعِ أَفْضَلُ لَهُ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّ دَفْنَهُ بِالْبَقِيعِ : هُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ عَادَةُ الْقَوْمِ . فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي الْفِتَنِ إذَا قَتَلُوا الرَّجُلَ - لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ - سَلَّمُوا رَأْسَهُ وَبَدَنَهُ إلَى أَهْلِهِ كَمَا فَعَلَ الْحَجَّاجُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ لَمَّا قَتَلَهُ وَصَلَبَهُ ثُمَّ سَلَّمَهُ إلَى أُمِّهِ . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ سَعْيَ الْحَجَّاجِ فِي قَتْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَأَنَّ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ الْحُرُوبِ : أَعْظَمُ بِكَثِيرِ مِمَّا كَانَ بَيْنَ الْحُسَيْنِ وَبَيْنَ خُصُومِهِ . فَإِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ ادَّعَى الْخِلَافَةَ بَعْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ وَبَايَعَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ . وَحَارَبَهُ يَزِيدُ حَتَّى مَاتَ وَجَيْشُهُ مُحَارِبُونَ لَهُ بَعْدَ وَقْعَةِ الْحَرَّةِ . ثُمَّ لَمَّا تَوَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ غَلَبَهُ عَلَى الْعِرَاقِ مَعَ الشَّامِ . ثُمَّ بَعَثَ إلَيْهِ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ فَحَاصَرَهُ الْحِصَارَ الْمَعْرُوفَ حَتَّى قُتِلَ ثُمَّ صَلَبَهُ ثُمَّ سَلَّمَهُ إلَى أُمِّهِ . وَقَدْ دُفِنَ بَدَنُ الْحُسَيْنِ بِمَكَانِ مَصْرَعِهِ بِكَرْبَلَاءَ وَلَمْ يُنْبَشْ وَلَمْ يُمَثَّلْ بِهِ . فَلَمْ يَكُونُوا يَمْتَنِعُونَ مِنْ تَسْلِيمِ رَأْسِهِ إلَى أَهْلِهِ كَمَا سَلَّمُوا بَدَنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ إلَى أَهْلِهِ وَإِذَا تَسَلَّمَ أَهْلُهُ رَأْسُهُ فَلَمْ يَكُونُوا لِيَدَّعُوا دَفْنَهُ عِنْدَهُمْ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ عِنْدَ عَمِّهِ وَأُمِّهِ وَأَخِيهِ وَقَرِيبًا مِنْ جَدِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْفِنُونَهُ بِالشَّامِ حَيْثُ لَا أَحَدَ إذْ ذَاكَ يَنْصُرُهُمْ عَلَى

خُصُومِهِمْ ؟ بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ كَانَ يُبْغِضُهُ وَيُبْغِضُ أَبَاهُ . هَذَا لَا يَفْعَلُهُ أَحَدٌ . وَالْقُبَّةُ الَّتِي عَلَى الْعَبَّاسِ بِالْبَقِيعِ يُقَالُ : إنَّ فِيهَا مَعَ الْعَبَّاسِ الْحَسَنَ وَعَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ . وَيُقَالُ : إنَّ فَاطِمَةَ تَحْتَ الْحَائِطِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ . وَأَنَّ رَأْسَ الْحُسَيْنِ هُنَاكَ أَيْضًا . الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ قَطُّ أَنَّ أَحَدًا لَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَا مِنْ الشِّيعَةِ كَانَ يَنْتَابُ نَاحِيَةَ عَسْقَلَانَ لِأَجْلِ رَأْسِ الْحُسَيْنِ . وَلَا يَزُورُونَهُ وَلَا يَأْتُونَهُ . كَمَا أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَنْتَابُونَ الْأَمَاكِنَ الَّتِي تُضَافُ إلَى الرَّأْسِ فِي هَذَا الْوَقْتِ ؛ كَمَوْضِعِ بِحَلَبِ . فَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْبِقَاعُ لَمْ يَكُنْ النَّاسُ يَنْتَابُونَهَا وَلَا يَقْصِدُونَهَا وَإِنَّمَا كَانُوا يَنْتَابُونَ كَرْبَلَاءَ . لِأَنَّ الْبَدَنَ هُنَاكَ : كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ النَّاسَ فِيمَا مَضَى لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ الرَّأْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْبِقَاعِ وَلَكِنَّ الَّذِي عَرَفُوهُ وَاعْتَقَدُوهُ : هُوَ وُجُودُ الْبَدَنِ بِكَرْبَلَاءَ حَتَّى كَانُوا يَنْتَابُونَهُ فِي زَمَنِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ حَتَّى إنَّ فِي مَسَائِلِهِ مَسَائِلَ فِيمَا يُفْعَلُ عِنْدَ قَبْرِهِ ذَكَرَهَا أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ فِي زِيَارَةِ الْمُشَاهِدِ . وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ مَوْضِعَ الرَّأْسِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْبِقَاعِ غَيْرَ الْمَدِينَةِ .

فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ بِهِ أَعْلَمَ . وَلَوْ اعْتَقَدُوا ذَلِكَ لَعَمِلُوا مَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِعَمَلِهِ وَلَأَظْهَرُوا ذَلِكَ وَتَكَلَّمُوا بِهِ كَمَا تَكَلَّمُوا فِي نَظَائِرِهِ . فَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ - بِقَوْلِ وَلَا فِعْلٍ - مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّأْسَ فِي هَذِهِ الْبِقَاعِ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . الْوَجْهُ السَّابِعُ : أَنْ يُقَالَ : مَا زَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَزَمَانٍ يَذْكُرُونَ فِي هَذَا الْمَشْهَدِ الْقَاهِرِيِّ الْمَنْسُوبِ إلَى الْحُسَيْنِ : أَنَّهُ كَذِبٌ وَمَيْنٌ كَمَا يَذْكُرُونَ ذَلِكَ فِي أَمْثَالِهِ مِنْ الْمَشَاهِدِ الْمَكْذُوبَةِ : مِثْلَ الْمَشَاهِدِ الْمَنْسُوبَةِ بِدِمَشْقَ إلَى أبي بْنِ كَعْبٍ وَأُوَيْسٍ القرني أَوْ هُودٍ أَوْ نُوحٍ أَوْ غَيْرِهِمَا وَالْمَشْهَدِ الْمَنْسُوبِ بِحَرَّانَ إلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ . وَبِالْجَزِيرَةِ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَنَحْوِهِمَا . وَبِالْعِرَاقِ إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَنَحْوِهِ وَكَذَلِكَ مَا يُضَافُ إلَى الْأَنْبِيَاءِ غَيْرَ قَبْرِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ . فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَاهِدِ مَكْذُوبًا مُخْتَلَقًا كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي كُلِّ وَقْتٍ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ وَالْكُتُبُ وَالْمُصَنَّفَاتُ الْمَعْرُوفَةُ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ مَمْلُوءَةٌ مِنْ مِثْلِ هَذَا . يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْ تَتَبُّعِهِ وَطَلَبِهِ .

وَمَا زَالَ النَّاسُ فِي مُصَنَّفَاتِهِمْ وَمُخَاطَبَاتِهِمْ يُعْلِمُونَ أَنَّ هَذَا الْمَشْهَدَ الْقَاهِرِيَّ مِنْ الْمَكْذُوبَاتِ الْمُخْتَلَقَاتِ . وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ فِي الْمُصَنَّفَاتِ حَتَّى مَنْ سَكَنَ هَذَا الْبَلَدَ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ . فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ دِحْيَةَ فِي كِتَابِهِ " الْعِلْمُ الْمَشْهُورُ " فِي هَذَا الْمَشْهَدِ فَصْلًا مَعَ مَا ذَكَرَهُ فِي مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ مِنْ أَخْبَارٍ ثَابِتَةٍ وَغَيْرِ ثَابِتَةٍ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ الْمَشْهَدَ كَذِبٌ بِالْإِجْمَاعِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ نُقِلَ مِنْ عَسْقَلَانَ فِي آخِرِ الدُّوَلِ العبيدية وَأَنَّهُ وُضِعَ لِأَغْرَاضِ فَاسِدَةٍ وَأَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَلِيلِ أَزَالَ اللَّهُ تِلْكَ الدَّوْلَةَ وَعَاقَبَهَا بِنَقِيضِ قَصْدِهَا . وَمَا زَالَ ذَلِكَ مَشْهُورًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ حَتَّى أَهْلِ مِصْرِنَا مِنْ سَاكِنِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ : الْقَاهِرَةِ وَمَا حَوْلَهَا . فَقَدْ حَدَّثَنِي طَائِفَةٌ مِنْ الثِّقَاتِ : عَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ القشيري الْمَعْرُوفِ بِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ وَطَائِفَةٌ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ الدِّمْيَاطِيُّ وَطَائِفَةٌ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ القسطلاني وَطَائِفَةٌ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ الْقُرْطُبِيِّ صَاحِبِ التَّفْسِيرِ وَشَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى . وَطَائِفَةٌ عَنْ الشَّيْخِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الديريني - كُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ حَدَّثَنِي عَنْهُ مَنْ لَا أَتَّهِمُهُ وَحَدَّثَنِي عَنْ بَعْضِهِمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ كُلٌّ يُحَدِّثُنِي عَمَّنْ حَدَّثَنِي مِنْ هَؤُلَاءِ : أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ أَمْرَ هَذَا الْمَشْهَدِ وَيَقُولُ :

إنَّهُ كَذِبٌ وَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ الْحُسَيْنُ وَلَا غَيْرُهُ . وَاَلَّذِينَ حَدَّثُونِي عَنْ ابْنِ القسطلاني ذَكَرُوا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ فِيهِ نَصْرَانِيًّا بَلْ الْقُرْطُبِيُّ وَالْقَسْطَلَانِيّ ذَكَرَا بُطْلَانَ أَمْرِ هَذَا الْمَشْهَدِ فِي مُصَنَّفَاتِهِمَا . وَبَيَّنَا فِيهَا أَنَّهُ كَذِبٌ . كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ دِحْيَةَ . وَابْنُ دِحْيَةَ هُوَ الَّذِي بَنَى لَهُ الْكَامِلُ دَارَ الْحَدِيثِ الكاملية . وَعَنْهُ أَخَذَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ وَنَحْوُهُ كَثِيرًا مِمَّا أَخَذُوهُ مِنْ ضَبْطِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ . وَلَيْسَ الِاعْتِمَادُ فِي هَذَا عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ بَلْ هُوَ الْإِجْمَاعُ مِنْ هَؤُلَاءِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الْبِلَادِ مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ أَعْلَمَ وَلَا أَدَقَّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَنَحْوِهِمْ . فَإِذَا كَانَ كُلُّ هَؤُلَاءِ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا كَذِبٌ وَمَيْنٌ : عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ بَرَّأَ مِنْهُ الْحُسَيْنَ . وَحَدَّثَنِي مَنْ حَدَّثَنِي مِنْ الثِّقَاتِ : أَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ كَانَ يُوصِي أَصْحَابَهُ بِأَلَّا يُظْهِرُوا ذَلِكَ عَنْهُ خَوْفًا مِنْ شَرِّ الْعَامَّةِ بِهَذِهِ الْبِلَادِ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ . إذْ كَانُوا فِي الْأَصْلِ دُعَاةً لِلْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيِّينَ . الَّذِينَ اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا مِائَتَيْ سَنَةٍ . فَزَرَعُوا فِيهِمْ مِنْ أَخْلَاقِ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الْجَهْلِ الْمُبْتَدِعِينَ وَأَهْلِ الْكَذِبِ الظَّالِمِينَ : مَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَنْقَلِعَ إلَّا بَعْدَ حِينٍ . فَإِنَّهُ قَدْ فَتَحَهَا - بِإِزَالَةِ مُلْكِ العبيديين - أَهْلُ الْإِيمَانِ

وَالسُّنَّةِ فِي الدَّوْلَةِ النُّورِيَّةِ وَالصَّلَاحِيَّةِ وَسَكَنَهَا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ مَنْ سَكَنَهَا وَظَهَرَتْ بِهَا كَلِمَةُ الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ نَوْعًا مِنْ الظُّهُورِ لَكِنْ كَانَ النِّفَاقُ وَالْبِدْعَةُ فِيهَا كَثِيرًا مَسْتُورًا وَفِي كُلِّ وَقْتٍ يُظْهِرُ اللَّهُ فِيهَا مِنْ الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ مَا لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا وَيَطْغَى فِيهَا مِنْ النِّفَاقِ وَالْجَهْلِ مَا كَانَ مَشْهُورًا . وَاَللَّهُ هُوَ الْمَسْئُولُ أَنْ يُظْهِرَ بِسَائِرِ الْبِلَادِ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْهُدَى وَالسَّدَادِ . وَيُعْظِمَ عَلَى عِبَادِهِ الْخَيْرَ بِظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ وَيُحَقِّقَ مَا وَعَدَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ عُلُوِّ كَلِمَتِهِ وَظُهُورِ أَهْلِ الْإِيمَانِ . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ قَدْ اعْتَقَدَ وَتَخَلَّقَ بِعَقَائِدَ وَبِأَخْلَاقِ هِيَ فِي الْأَصْلِ مِنْ أَخْلَاقِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ مِنْ الْعَارِفِينَ كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يُشَارِكُ النَّصَارَى فِي أَعْيَادِهِمْ . وَيُعَظِّمُ مَا يُعَظِّمُونَهُ مِنْ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَعْمَالِ . وَهُوَ قَدْ لَا يَقْصِدُ بِذَلِكَ تَعْظِيمَ الْكُفْرِ بَلْ وَلَا يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِمْ . فَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ انْتَهَى عَنْهُ وَتَابَ مِنْهُ . وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ تَخَلَّقَ بِشَيْءِ مِنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ أَنَّهَا مِنْ أَخْلَاقِ الْمُنَافِقِينَ وَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ كَانَ إلَى اللَّهِ مِنْ التَّائِبِينَ . وَاَللَّهُ يَتُوبُ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ الْمُذْنِبِينَ

مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . وَهَذَا كُلُّهُ كَلَامٌ فِي بُطْلَانِ دَعْوَى وُجُودِ رَأْسِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقَاهِرَةِ أَوْ عَسْقَلَانَ وَكَذِبِهِ . ثُمَّ نَقُولُ : سَوَاءٌ كَانَ صَحِيحًا أَوْ كَذِبًا . فَإِنَّ بِنَاءَ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ لَيْسَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالنُّصُوصِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ بَلْ لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَيْهَا أَوْ بِقَصْدِ الصَّلَاةِ عِنْدَهَا بَلْ أَئِمَّةُ الدِّينِ مُتَّفِقُونَ عَلَى النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَقْصِدَ الصَّلَاةَ عِنْدَ قَبْرِ أَحَدٍ لَا نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِ نَبِيٍّ وَكُلُّ مَنْ قَالَ : إنَّ قَصْدَ الصَّلَاةِ عِنْدَ قَبْرِ أَحَدٍ أَوْ عِنْدَ مَسْجِدٍ بُنِيَ عَلَى قَبْرٍ أَوْ مَشْهَدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ : أَمْرٌ مَشْرُوعٌ بِحَيْثُ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ وَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي لَا قَبْرَ فِيهِ : فَقَدْ مَرَقَ مِنْ الدِّينِ . وَخَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ . وَالْوَاجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ قَائِلُ هَذَا وَمُعْتَقِدُهُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . بَلْ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى الْقُبُورِ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ الصَّلَاةَ عِنْدَهَا . فَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ لَا اتِّفَاقًا وَلَا ابْتِغَاءً لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ وَالذَّرِيعَةِ إلَى الشِّرْكِ وَوُجُوبِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ

وَعَلَى غَيْرِهِ كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . مِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ بِالتَّحْرِيمِ . وَمِنْهُمْ مِنْ أَطْلَقَ الْكَرَاهَةَ . وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَهُمْ مَسْأَلَةَ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ الْعَامَّةِ . فَإِنَّ تِلْكَ مِنْهُمْ مَنْ يُعَلِّلُ النَّهْيَ عَنْهَا بِنَجَاسَةِ التُّرَابِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَلِّلُهُ بِالتَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ . وَأَمَّا الْمَسَاجِدُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْقُبُورِ فَقَدْ نَهَوْا عَنْهُ . مُعَلِّلِينَ بِخَوْفِ الْفِتْنَةِ بِتَعْظِيمِ الْمَخْلُوقِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ سَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا وَعِنْدَ وُجُودِهَا فِي كَبِدِ السَّمَاءِ وَقَالَ إنَّهُ حِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ } فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُشَابَهَةِ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْمُصَلِّي السُّجُودَ إلَّا لِلْوَاحِدِ الْمَعْبُودِ . فَكَيْفَ بِالصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي بُنِيَتْ لِتَعْظِيمِ الْقُبُورِ ؟ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ بَسَطْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ . وَإِنَّمَا كَانَ الْمَقْصُودُ : تَحْقِيقَ مَكَانِ رَأْسِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبَيَانَ أَنَّ الْأَمْكِنَةَ الْمَشْهُورَةَ عِنْدَ النَّاسِ بِمِصْرِ وَالشَّامِ : أَنَّهَا مَشْهَدُ الْحُسَيْنِ وَأَنَّ فِيهَا رَأْسَهُ . كَذِبٌ وَاخْتِلَاقٌ . وَإِفْكٌ وَبُهْتَانٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَكَتَبَهُ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا :
عَنْ الزِّيَارَةِ إلَى قَبْرِ الْحُسَيْنِ . وَإِلَى السَّيِّدَةِ نَفِيسَةَ وَالصَّلَاةِ عِنْدَ الضَّرِيحِ . وَإِذَا قَالَ : إنَّ السَّيِّدَةَ نَفِيسَةَ تُخَلِّصُ الْمَحْبُوسَ وَتُجِيرُ الْخَائِفَ وَبَابُ الْحَوَائِجِ إلَى اللَّهِ : هَذَا جَائِزٌ أَمْ لَا ؟ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْحُسَيْنُ فَلَمْ يُحْمَلْ رَأْسُهُ إلَى مِصْرَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ لَمْ يُحْمَلْ إلَى الشَّامِ وَمَنْ قَالَ إنَّ مَيِّتًا مِنْ الْمَوْتَى نَفِيسَةَ أَوْ غَيْرِهَا تُجِيرُ الْخَائِفَ وَتُخَلِّصُ الْمَحْبُوسَ وَهِيَ بَابُ الْحَوَائِجِ : فَهُوَ ضَالٌّ مُشْرِكٌ . فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ وَبَابُ الْحَوَائِجِ إلَى اللَّهِ هُوَ دُعَاؤُهُ بِصِدْقِ وَإِخْلَاصٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
وَأَمَّا " بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ " فَهَذِهِ تُوُفِّيَتْ بِالشَّامِ فَهَذِهِ قَبْرُهَا مُحْتَمَلٌ وَأَمَّا " قَبْرُ بِلَالٍ " فَمُمْكِنٌ ؛ فَإِنَّهُ دُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ بِدِمَشْقَ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ دُفِنَ هُنَاكَ . وَأَمَّا الْقَطْعُ بِتَعْيِينِ قَبْرِهِ فَفِيهِ نَظَرٌ ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ : إنَّ تِلْكَ الْقُبُورَ حُرِثَتْ . وَمِنْهَا الْقَبْرُ الْمُضَافُ إلَى " أُوَيْسٍ القرني " غَرْبِيِّ دِمَشْقَ ؛ فَإِنَّ أُوَيْسًا لَمْ يَجِئْ إلَى الشَّامِ وَإِنَّمَا ذَهَبَ إلَى الْعِرَاقِ . وَمِنْهَا الْقَبْرُ الْمُضَافُ إلَى " هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ " بِجَامِعِ دِمَشْقَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ فَإِنَّ هُودًا لَمْ يَجِئْ إلَى الشَّامِ ؛ بَلْ بُعِثَ بِالْيَمَنِ وَهَاجَرَ إلَى مَكَّةَ فَقِيلَ : إنَّهُ مَاتَ بِالْيَمَنِ . وَقِيلَ : إنَّهُ مَاتَ بِمَكَّةَ وَإِنَّمَا ذَلِكَ تِلْقَاءَ " قَبْرِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ " وَأَمَّا الَّذِي خَارِجُ بَابِ الصَّغِيرِ الَّذِي يُقَالُ : إنَّهُ قَبْرُ مُعَاوِيَةَ فَإِنَّمَا هُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الَّذِي تَوَلَّى الْخِلَافَةَ مُدَّةً قَصِيرَةً ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَعْهَدْ إلَى أَحَدٍ . وَكَانَ فِيهِ دِينٌ وَصَلَاحٌ .

وَمِنْهَا " قَبْرُ خَالِدٍ " بحمص يُقَالُ : إنَّهُ قَبْرٌ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَخُو مُعَاوِيَةَ هَذَا ؛ وَلَكِنْ لَمَّا اشْتَهَرَ أَنَّهُ خَالِدٌ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْعَامَّةِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ : ظَنُّوا أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ هَلْ هُوَ قَبْرُهُ أَوْ قَبْرُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ . وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " الِاسْتِيعَابِ " أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ تُوُفِّيَ بحمص . وَقِيلَ : بِالْمَدِينَةِ - سَنَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَوْصَى إلَى عُمَرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَمِنْهَا " قَبْرُ أَبِي مُسْلِمٍ الخولاني " الَّذِي بداريا اُخْتُلِفَ فِيهِ . وَمِنْهَا " قَبْرُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ " الَّذِي بِمِصْرِ فَإِنَّهُ كَذِبٌ قَطْعًا . فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ بِإِجْمَاعِ النَّاسِ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ . وَمِنْهَا " مَشْهَدُ الرَّأْسِ " الَّذِي بِالْقَاهِرَةِ فَإِنَّ الْمُصَنِّفِينَ فِي قَتْلِ الْحُسَيْنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الرَّأْسَ لَيْسَ بِمِصْرِ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ . وَأَصْلُهُ أَنَّهُ نُقِلَ مِنْ مَشْهَدٍ بِعَسْقَلَانَ وَذَاكَ الْمَشْهَدُ بُنِيَ قَبْلَ هَذَا بِنَحْوِ مِنْ سِتِّينَ سَنَةً فِي أَوَاخِرَ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ وَهَذَا بُنِيَ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ بَعْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ بِنَحْوِ مِنْ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ وَالْقَاهِرَةُ بُنِيَتْ بَعْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ بِنَحْوِ ثَلَاثِمِائَةِ عَامٍ : قَدْ بَيَّنَ كَذِبَ هَذَا الْمَشْهَدَ ابْنُ دِحْيَةَ فِي " الْعِلْمُ الْمَشْهُورُ " وَأَنَّ الرَّأْسَ دُفِنَ بِالْمَدِينَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بكار . وَاَلَّذِي صَحَّ مِنْ أَمْرِ حَمْلِ الرَّأْسِ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ أَنَّهُ حُمِلَ إلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ وَجَعَلَ

يَنْكُتُ بِالْقَضِيبِ عَلَى ثَنَايَاهُ وَقَدْ شَهِدَ ذَلِكَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَفِي رِوَايَةٍ : أَبِي بَرْزَةَ الأسلمي وَكِلَاهُمَا كَانَ بِالْعِرَاقِ وَقَدْ وَرَدَ بِإِسْنَادِ مُنْقَطِعٍ أَوْ مَجْهُولٍ : أَنَّهُ حُمِلَ إلَى يَزِيدَ . وَجَعَلَ يَنْكُتُ بِالْقَضِيبِ عَلَى ثَنَايَاهُ وَأَنَّ أَبَا بَرْزَةَ كَانَ حَاضِرًا وَأَنْكَرَ هَذَا . وَهَذَا كَذِبٌ ؛ فَإِنَّ أَبَا بَرْزَةَ لَمْ يَكُنْ بِالشَّامِ عِنْدَ يَزِيدَ وَإِنَّمَا كَانَ بِالْعِرَاقِ . وَأَمَّا " بَدَنُ الْحُسَيْنِ " فَبِكَرْبَلَاءَ بِالِاتِّفَاقِ . قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : وَقَدْ حَدَّثَنِي الثِّقَاتُ - طَائِفَةٌ عَنْ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ وَطَائِفَةٌ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ خَلَفٍ الدِّمْيَاطِيِّ وَطَائِفَةٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَد بْنِ القسطلاني وَطَائِفَةٌ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيِّ صَاحِبِ التَّفْسِيرِ : كُلُّ هَؤُلَاءِ حَدَّثَنِي عَنْهُ مَنْ لَا أَتَّهِمُهُ وَحَدَّثَنِي عَنْ بَعْضِهِمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ كُلٌّ حَدَّثَنِي عَمَّنْ حَدَّثَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ - أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ أَمْرَ هَذَا الْمَشْهَدِ وَيَقُولُ : إنَّهُ كَذِبٌ وَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ قَبْرُ الْحُسَيْنِ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ وَاَلَّذِينَ حَدَّثُونِي عَنْ ابْنِ القسطلاني ذَكَرُوا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنَّمَا فِيهِ نَصْرَانِيٌّ . وَمِنْهَا " قَبْرُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " الَّذِي بِبَاطِنِ النَّجَفِ ؛ فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عَلِيًّا دُفِنَ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ بِالْكُوفَةِ كَمَا دُفِنَ مُعَاوِيَةُ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ مِنْ الشَّامِ وَدُفِنَ عَمْرٌو بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْ الْخَوَارِجِ أَنْ يَنْبُشُوا قُبُورَهُمْ ؛ وَلَكِنْ قِيلَ إنَّ الَّذِي بِالنَّجَفِ قَبْرُ الْمُغِيرَةِ

بْنِ شُعْبَةَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَذْكُرُ أَنَّهُ قَبْرُ عَلِيٍّ وَلَا يَقْصِدُهُ أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ . وَمِنْهَا " قَبْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ " فِي الْجَزِيرَةِ وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَاتَ بِمَكَّةَ عَامَ قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ بِالْحِلِّ ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَدَفَنُوهُ بِأَعْلَى مَكَّةَ .
وَمِنْهَا " قَبْرُ جَابِرٍ " الَّذِي بِظَاهِرِ حَرَّانَ وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ جَابِرًا تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنْ الصَّحَابَةِ بِهَا . وَمِنْهَا قَبْرٌ يُنْسَبُ إلَى " أُمِّ كُلْثُومٍ " و " رُقَيَّةَ " بِالشَّامِ وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُمَا مَاتَتَا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ تَحْتَ عُثْمَانَ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ سَبَبُ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ ؛ لَعَلَّ شَخْصًا يُسَمَّى بَاسِمِ مَنْ ذُكِرَ تُوُفِّيَ وَدُفِنَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَذْكُورَةِ فَظَنَّ بَعْضُ الْجُهَّالِ أَنَّهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أُنَاسٍ سَاكِنِينَ بِالْقَاهِرَةِ ثُمَّ إنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أُضْحِيَّتَهُمْ فَيَذْبَحُونَهَا بِالْقَرَافَةِ .
فَأَجَابَ :
لَا يُشْرَعُ لِأَحَدِ أَنْ يَذْبَحَ الْأُضْحِيَّةَ وَلَا غَيْرَهَا عِنْدَ الْقُبُورِ بَلْ وَلَا يُشْرَعُ شَيْءٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْأَصْلِيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ عِنْدَ الْقُبُورِ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ التَّضْحِيَةَ عِنْدَ الْقُبُورِ مُسْتَحَبَّةٌ وَأَنَّهَا أَفْضَلُ : فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ قَدْ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْعَقْرِ عِنْدَ الْقَبْرِ } كَمَا كَانَ يَفْعَلُ بَعْضُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إذَا مَاتَ لَهُمْ كَبِيرٌ ذَبَحُوا عِنْدَ قَبْرِهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُتَّخَذَ الْقُبُورُ مَسَاجِدَ فَلَعَنَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ تَحْذِيرًا لِأُمَّتِهِ أَنْ تَتَشَبَّهَ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُعَظِّمُونَ الْقُبُورَ حَتَّى عَبَدُوهُمْ فَكَيْفَ يَتَّخِذُ الْقَبْرَ مَنْسَكًا يَقْصِدُ النُّسُكَ فِيهِ فَإِنَّ هَذَا أَيْضًا مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ . وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ - صَلَاةُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - { إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . } فَيَجِبُ الْإِخْلَاصُ وَالصَّلَاةُ وَالنُّسُكُ لِلَّهِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْعَبْدُ الذَّبْحَ

عِنْدَ الْقَبْرِ ؛ لَكِنَّ الشَّرِيعَةَ سَدَّتْ الذَّرِيعَةَ كَمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ غُرُوبِهَا ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي لِلَّهِ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ اتِّخَاذُ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ قَدْ نَهَى عَنْهُ وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي لَا يُصَلِّي إلَّا لِلَّهِ وَقَالَ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا } وَقَالَ : { مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمِ فَهُوَ مِنْهُمْ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ غَدَا إلَى " التكروري " يَتَفَرَّجُ فَغَرِقَ . هَلْ هُوَ عَاصٍ أَمْ شَهِيدٌ ؟ ؟ .
فَأَجَابَ :
إنَّ قَصْدَ الذَّهَابِ إلَى هَذَا الْقَبْرِ لِلصَّلَاةِ عِنْدَهُ وَالدُّعَاءِ بِهِ وَالتَّمَسُّحِ بِالْقَبْرِ وَتَقْبِيلِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ أَوْ أَنْ يُعْمَلَ بِشَيْءِ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْفَوَاحِشِ وَالْخَمْرِ وَالزَّمْرِ أَوْ التَّفَرُّجِ عَلَى هَؤُلَاءِ وَرُؤْيَةِ أَهْلِ الْمَعَاصِي مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ : فَهُمْ عُصَاةٌ لِلَّهِ فِي هَذَا السَّفَرِ وَأَمْرُهُمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيُرْجَى لَهُمْ بِالْغَرَقِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَقْوَامٌ صَالِحُونَ غَيَّبَهُمْ اللَّهُ عَنْ النَّاسِ لَا يَرَاهُمْ إلَّا مَنْ أَرَادُوا ؟ وَلَوْ كَانُوا بَيْنَ النَّاسِ فَهُمْ مَحْجُوبُونَ بِحَالِهِمْ ؟ وَهَلْ فِي جَبَلِ لُبْنَانَ أَرْبَعُونَ رَجُلًا غَائِبِينَ عَنْ أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ كُلَّمَا مَاتَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ أَخَذُوا مِنْ النَّاسِ وَاحِدًا غَيْرَهُ يَغِيبُ مَعَهُمْ كَمَا يَغِيبُونَ ؟ وَكُلُّ أُولَئِكَ تُطْوَى بِهِمْ الْأَرْضُ وَيَحُجُّونَ وَيُسَافِرُونَ مَا مَسِيرَتُهُ شَهْرًا أَوْ سَنَةً فِي سَاعَةٍ وَمِنْهُمْ قَوْمٌ يَطِيرُونَ كَالطُّيُورِ وَيَتَحَدَّثُونَ عَنْ الْمَغِيبَاتِ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ وَيَأْكُلُونَ الْعِظَامَ وَالطِّينَ وَيَجِدُونَهُ طَعَامًا وَحَلَاوَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا وُجُودُ أَقْوَامٍ يَحْتَجِبُونَ عَنْ النَّاسِ دَائِمًا فَهَذَا بَاطِلٌ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ مِنْ الْأَنْبِيَاء وَلَا الْأَوْلِيَاءِ وَلَا السَّحَرَةِ ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَحْتَجِبُ الرَّجُلُ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ : إمَّا كَرَامَةً لِوَلِيِّ وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ السِّحْرِ . فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ مِنْهَا مَا هُوَ حَالٌ رَحْمَانِيٌّ وَهُوَ كَرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ . وَمِنْهُ مَا هُوَ حَالٌ نَفْسَانِيٌّ أَوْ شَيْطَانِيٌّ كَمَا يَحْصُلُ لِبَعْضِ

الْكُفَّارِ أَنْ يُكَاشَفَ أَحْيَانًا وَكَمَا يَحْصُلُ لِبَعْضِ الْكُهَّانِ أَنْ تُخْبِرَهُ الشَّيَاطِينُ بِأَشْيَاءَ . وَأَحْوَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ هِيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ تَحْمِلُهُ الشَّيَاطِينُ فَتَطِيرُ بِهِ فِي الْهَوَاءِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْقُصُ فِي الْهَوَاءِ . وَمِنْهُمْ مِنْ يَلْبِسُهُ الشَّيْطَانُ فَلَا يُحِسُّ بِالضَّرْبِ وَلَا بِالنَّارِ إذَا أُلْقِيَ فِيهَا ؛ لَكِنَّهَا لَا تَكُونُ عَلَيْهِ بَرْدًا أَوْ سَلَامًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا لِأَهْلِ الْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَأَهْلِ الْإِشَارَاتِ - الَّتِي هِيَ فَسَادَاتٌ مِنْ اللَّاذَنِ وَالزَّعْفَرَانِ وَمَاءِ الْوَرْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - هُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ : فَجُمْهُورُهُمْ أَرْبَابُ مُحَالٍ بهتاني وَخَوَاصُّهُمْ لَهُمْ حَالٌ شَيْطَانِيٌّ ؛ وَلَيْسَ فِيهِمْ وَلِيٌّ لِلَّهِ بَلْ هُمْ مِنْ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ مِنْ جِنْسِ التتر . وَلَيْسَ فِي جَبَلِ لُبْنَانَ وَلَا غَيْرِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا يُقِيمُونَ هُنَاكَ وَلَا هُنَاكَ مِنْ يَغِيبُ عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ دَائِمًا وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي أَنَّ الْأَبْدَالَ أَرْبَعُونَ رَجُلًا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ . فَإِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ يَزِيدُونَ وَيَنْقُصُونَ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَبِحَسَبِ قِلَّةِ ذَلِكَ . كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ فَلَمَّا انْتَشَرَ الْإِسْلَامُ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا قَطْعُ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ فَهَذَا يَكُونُ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ وَيَكُونُ لِبَعْضِ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ ؛ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكَرَامَاتِ ؛ بَلْ الَّذِي

يَحُجُّ مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمُ مِمَّنْ يَحُجُّ فِي الْهَوَاءِ ؛ وَلِهَذَا اجْتَمَعَ الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ الجعبري بِبَعْضِ مَنْ كَانَ يَحُجُّ فِي الْهَوَاءِ فَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَحُجَّ مَعَهُمْ فَقَالَ : هَذَا الْحَجُّ لَا يَجْزِي عَنْكُمْ حَتَّى تَحُجُّوا كَمَا يَحُجُّ الْمُسْلِمُونَ . وَكَمَا حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ . فَوَافَقُوهُ عَلَى ذَلِكَ وَقَالُوا - بَعْدَ قَضَاءِ الْحَجِّ - مَا حَجَجْنَا حَجَّةً أَبْرَكَ مِنْ هَذِهِ الْحَجَّةِ : ذُقْنَا فِيهَا طَعْمَ عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ . وَهَذَا يَكُونُ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ ؛ لَيْسَ هَذَا لِلْإِنْسَانِ كُلَّمَا طَلَبَهُ .
وَكَذَلِكَ الْمُكَاشَفَاتُ تَقَعُ بَعْضَ الْأَحْيَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَحْيَانًا مِنْ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَحْوَالُهُمْ شَيْطَانِيَّةٌ قَدْ يَأْكُلُ أَحَدُهُمْ الْمَآكِلَ الْخَبِيثَةَ حَتَّى يَأْكُلَ الْعُذْرَةَ وَغَيْرَهَا مِنْ الْخَبَائِثِ بِالْحَالِ الشَّيْطَانِيِّ وَهُمْ مَذْمُومُونَ عَلَى هَذَا . فَإِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ . فَمَنْ أَكَلَ الْخَبَائِثَ كَانَتْ أَحْوَالُهُ شَيْطَانِيَّةً . فَإِنَّ الْأَحْوَالَ نَتَائِجُ الْأَعْمَالِ . فَالْأَكْلُ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يُورِثُ الْأَحْوَالَ الرَّحْمَانِيَّةَ : مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرَاتِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَأَكْلُ الْخَبَائِثِ وَعَمَلُ الْمُنْكَرَاتِ يُورِثُ الْأَحْوَالَ الشَّيْطَانِيَّةَ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَخُفَرَاءُ التتر هُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ .

وَإِذَا اجْتَمَعُوا مَعَ مَنْ لَهُ حَالٌ رَحْمَانِيٌّ بَطَلَتْ أَحْوَالُهُمْ وَهَرَبَتْ شَيَاطِينُهُمْ . وَإِنَّمَا يَظْهَرُونَ عِنْدَ الْكُفَّارِ وَالْجُهَّالِ كَمَا يَظْهَرُ أَهْلُ الْإِشَارَاتِ عِنْدَ التتر وَالْأَعْرَابِ وَالْفَلَّاحِينَ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْجُهَّالِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ . وَأَمَّا إذَا ظَهَرَ الْمُحَمَّدِيُّونَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ حَالَ هَؤُلَاءِ يَبْطُلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
مَا قَوْلُ أَئِمَّةِ الدِّينِ :
فِي تَعَبُّدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ ؟ وَكَيْفَ كَانَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي شَرِيعَتِنَا . فَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَ الرَّسُولَ فِيمَا أَمَرَنَا بِهِ وَنَقْتَدِيَ بِهِ بَعْدَ إرْسَالِهِ إلَيْنَا . وَأَمَّا مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مِثْلَ تَحَنُّثِهِ بِغَارِ حِرَاءَ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ : فَهَذَا لَيْسَ سُنَّةً مَسْنُونَةً لِلْأُمَّةِ ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ يَذْهَبُ إلَى غَارِ حِرَاءَ وَلَا يَتَحَرَّى مِثْلَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُشْرَعُ لَنَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَنْ نَقْصِدَ غِيرَانَ الْجِبَالِ وَلَا نَتَخَلَّى فِيهَا ؛ بَلْ يُسَنُّ لَنَا الْعُكُوفُ بِالْمَسَاجِدِ سُنَّةً مَسْنُونَةً لَنَا . وَأَمَّا قَصْدُ التَّخَلِّي فِي كُهُوفِ الْجِبَالِ وَغِيرَانِهَا وَالسَّفَرِ إلَى الْجَبَلِ

لِلْبَرَكَةِ : مِثْلَ جَبَلِ الطُّورِ وَجَبَلِ حِرَاءَ وَجَبَلِ يَثْرِبَ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ : فَهَذَا لَيْسَ بِمَشْرُوعِ لَنَا ؛ بَلْ قَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ يَحُجُّ وَيَتَصَدَّقُ وَيَحْمِلُ الْكُلَّ وَيَقْرِي الضَّيْفَ وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبَ الْحَقِّ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ الْمُشْرِكِينَ ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .

وَقَالَ :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَصْدُ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ فِي مَكَانٍ لَمْ يَقْصِدْ الْأَنْبِيَاءُ فِيهِ الصَّلَاةَ وَالْعِبَادَةَ بَلْ رُوِيَ أَنَّهُمْ مَرُّوا بِهِ وَنَزَلُوا فِيهِ أَوْ سَكَنُوهُ : فَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ لَمْ يَكُنْ ابْنُ عُمَرَ وَلَا غَيْرُهُ يَفْعَلُهُ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مُتَابَعَتُهُمْ لَا فِي عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا قَصْدٍ قَصَدُوهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْكِنَةَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحِلُّ فِيهَا : إمَّا فِي سَفَرِهِ وَإِمَّا فِي مُقَامِهِ : مِثْلَ طُرُقِهِ فِي حَجِّهِ وَغَزَوَاتِهِ وَمَنَازِلِهِ فِي أَسْفَارِهِ وَمِثْلَ بُيُوتِهِ الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا وَالْبُيُوتِ الَّتِي كَانَ يَأْتِي إلَيْهَا أَحْيَانًا مِنْ . . . (1) { فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . فَهَذِهِ نُصُوصُهُ الصَّرِيحَةُ تُوجِبُ تَحْرِيمَ اتِّخَاذِ قُبُورِهِمْ مَسَاجِدَ مَعَ أَنَّهُمْ مَدْفُونُونَ فِيهَا وَهُمْ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ وَيُسْتَحَبُّ إتْيَانُ قُبُورِهِمْ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَمَعَ هَذَا يَحْرُمُ إتْيَانُهَا لِلصَّلَاةِ عِنْدَهَا وَاِتِّخَاذُهَا مَسَاجِدَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا إنَّمَا نَهَى عَنْهُ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى الشِّرْكِ وَأَرَادَ أَنْ

تَكُونَ الْمَسَاجِدُ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى تُبْنَى لِأَجْلِ عِبَادَتِهِ فَقَطْ لَا يُشْرِكُهُ فِي ذَلِكَ مَخْلُوقٌ فَإِذَا بُنِيَ الْمَسْجِدُ لِأَجْلِ مَيِّتٍ كَانَ حَرَامًا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لِأَثَرِ آخَرَ فَإِنَّ الشِّرْكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ حَاصِلٌ . وَلِهَذَا كَانَتْ النَّصَارَى يَبْنُونَ الْكَنَائِسَ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ وَالرَّجُلِ الصَّالِحِ وَعَلَى أَثَرِهِ وَبِاسْمِهِ . وَهَذَا الَّذِي خَافَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَهُوَ الَّذِي قَصَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْعَ أُمَّتِهِ مِنْهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ . } وَلَوْ كَانَ هَذَا مُسْتَحَبًّا لَكَانَ يُسْتَحَبُّ لِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنْ يُصَلُّوا فِي جَمِيعِ حُجَرِ أَزْوَاجِهِ وَفِي كُلِّ مَكَانٍ نَزَلَ فِيهِ فِي غَزَوَاتِهِ أَوْ أَسْفَارِهِ . وَلَكَانَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْنُوا هُنَاكَ مَسَاجِدَ وَلَمْ يَفْعَلْ السَّلَفُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ . وَلَمْ يَشْرَعْ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ مَكَانًا يُقْصَدُ لِلصَّلَاةِ إلَّا الْمَسْجِدَ . وَلَا مَكَانًا يُقْصَدُ لِلْعِبَادَةِ إلَّا الْمَشَاعِرَ . فَمَشَاعِرُ الْحَجِّ كَعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى

تُقْصَدُ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّكْبِيرِ لَا الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْمَسَاجِدِ فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي تُقْصَدُ لِلصَّلَاةِ وَمَا ثَمَّ مَكَانٌ يُقْصَدُ بِعَيْنِهِ إلَّا الْمَسَاجِدُ وَالْمَشَاعِرُ وَفِيهَا الصَّلَاةُ وَالنُّسُكُ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ } وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْبِقَاعِ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ قَصْدُ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا لِلصَّلَاةِ وَلَا الدُّعَاءِ وَلَا الذِّكْرِ إذْ لَمْ يَأْتِ فِي شَرْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَصْدُهَا لِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَسْكَنًا لِنَبِيِّ أَوْ مَنْزِلًا أَوْ مَمَرًّا . فَإِنَّ الدِّينَ أَصْلُهُ مُتَابَعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُوَافَقَتُهُ بِفِعْلِ مَا أَمَرَنَا بِهِ وَشَرَعَهُ لَنَا وَسَنَّهُ لَنَا وَنَقْتَدِي بِهِ فِي أَفْعَالِهِ الَّتِي شَرَعَ لَنَا الِاقْتِدَاءَ بِهِ فِيهَا بِخِلَافِ مَا كَانَ مِنْ خَصَائِصِهِ . فَأَمَّا الْفِعْلُ الَّذِي لَمْ يَشْرَعْهُ هُوَ لَنَا وَلَا أَمَرَنَا بِهِ وَلَا فَعَلَهُ فِعْلًا سُنَّ لَنَا أَنَّ نَتَأَسَّى بِهِ فِيهِ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ فَاِتِّخَاذُ هَذَا قُرْبَةً مُخَالَفَةٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَا فَعَلَهُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التَّعَبُّدِ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَفْعَلَهُ مُبَاحًا كَمَا فَعَلَهُ مُبَاحًا ؛ وَلَكِنْ هَلْ يُشْرَعُ لَنَا أَنْ نَجْعَلَهُ عِبَادَةً وَقُرْبَةً ؟ فِيهِ قَوْلَانِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَأَكْثَرُ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّا لَا نَجْعَلُهُ عِبَادَةً وَقُرْبَةً بَلْ نَتَّبِعُهُ فِيهِ ؛ فَإِنْ فَعَلَهُ مُبَاحًا فَعَلْنَاهُ مُبَاحًا وَإِنْ فَعَلَهُ قُرْبَةً فَعَلْنَاهُ قُرْبَةً . وَمَنْ جَعَلَهُ عِبَادَةً رَأَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ التَّأَسِّي بِهِ وَالتَّشَبُّهِ بِهِ وَرَأَى أَنَّ فِي ذَلِكَ بَرَكَةً لِكَوْنِهِ مُخْتَصًّا بِهِ نَوْعَ اخْتِصَاصٍ .

وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
ثَبَتَ لِلشَّامِ وَأَهْلِهِ مَنَاقِبُ : بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ الْعُلَمَاءِ . وَهِيَ أَحَدُ مَا اعْتَمَدْته فِي تَحْضِيضِي الْمُسْلِمِينَ عَلَى غَزْوِ التَّتَارِ وَأَمْرِي لَهُمْ : بِلُزُومِ دِمَشْقَ وَنَهْيِي لَهُمْ عَنْ الْفِرَارِ إلَى مِصْرَ وَاسْتِدْعَائِي الْعَسْكَرَ الْمِصْرِيَّ إلَى الشَّامِ وَتَثْبِيتِ الشَّامِيِّ فِيهِ . وَقَدْ جَرَتْ فِي ذَلِكَ فُصُولٌ مُتَعَدِّدَةٌ . وَهَذِهِ الْمَنَاقِبُ أُمُورٌ : أَحَدُهَا : الْبَرَكَةُ فِيهِ . ثَبَتَ ذَلِكَ بِخَمْسِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى : قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى : { قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } - إلَى قَوْلِهِ - { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إذَا هُمْ يَنْكُثُونَ } { فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ } { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا } وَمَعْلُومٌ أَنَّ

بَنِي إسْرَائِيلَ إنَّمَا أُورِثُوا مَشَارِقَ أَرْضِ الشَّامِ وَمَغَارِبَهَا بَعْدَ أَنْ أُغْرِقَ فِرْعَوْنُ فِي الْيَمِّ . وقَوْله تَعَالَى { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } وَحَوْلَهُ أَرْضُ الشَّامِ وقَوْله تَعَالَى فِي قِصَّةِ إبْرَاهِيمَ : { وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ } { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ إبْرَاهِيمَ إنَّمَا نَجَّاهُ اللَّهُ وَلُوطًا إلَى أَرْضِ الشَّامِ مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ وَالْفُرَاتِ . وقَوْله تَعَالَى { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } وَإِنَّمَا كَانَتْ تَجْرِي إلَى أَرْضِ الشَّامِ الَّتِي فِيهَا مَمْلَكَةُ سُلَيْمَانَ . وقَوْله تَعَالَى فِي قِصَّةِ سَبَأٍ : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ } وَهُمَا كَانَا بَيْنَ الْيَمَنِ مَسَاكِنِ سَبَأٍ وَبَيْنَ مُنْتَهَى الشَّامِ مِنْ الْعِمَارَةِ الْقَدِيمَةِ كَمَا قَدْ ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ . فَهَذِهِ خَمْسُ نُصُوصٍ حَيْثُ ذَكَرَ اللَّهُ أَرْضَ الشَّامِ فِي هِجْرَةِ إبْرَاهِيمَ إلَيْهَا وَمَسْرَى الرَّسُولِ إلَيْهَا وَانْتِقَالِ بَنِي إسْرَائِيلَ إلَيْهَا وَمَمْلَكَةِ سُلَيْمَانَ بِهَا وَمَسِيرِ سَبَأٍ إلَيْهَا : وَصَفَهَا بِأَنَّهَا الْأَرْضُ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا . وَأَيْضًا فَفِيهَا الطُّورُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى . وَاَلَّذِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ فِي " سُورَةِ الطُّورِ " وَفِي { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ } { وَطُورِ سِينِينَ } وَفِيهَا

الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى وَفِيهَا مَبْعَثُ أَنْبِيَاءَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَإِلَيْهَا هِجْرَةُ إبْرَاهِيمَ وَإِلَيْهَا مَسْرَى نَبِيِّنَا وَمِنْهَا مِعْرَاجُهُ وَبِهَا مُلْكُهُ وَعَمُودُ دِينِهِ وَكِتَابِهِ وَطَائِفَةٌ مَنْصُورَةٌ مِنْ أُمَّتِهِ ؛ وَإِلَيْهَا الْمَحْشَرُ وَالْمَعَادُ كَمَا أَنَّ مِنْ مَكَّةَ الْمَبْدَأُ . فَمَكَّةُ أُمُّ الْقُرَى مِنْ تَحْتِهَا دُحِيَتْ الْأَرْضُ وَالشَّامُ إلَيْهَا يُحْشَرُ النَّاسُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { لِأَوَّلِ الْحَشْرِ } نَبَّهَ عَلَى الْحَشْرِ الثَّانِي فَمَكَّةُ مَبْدَأٌ وإيليا مَعَادٌ فِي الْخَلْقِ وَكَذَلِكَ فِي الْأَمْرِ فَإِنَّهُ أُسْرِيَ بِالرَّسُولِ مِنْ مَكَّةَ إلَى إيليا . وَمَبْعَثُهُ وَمَخْرَجُ دِينِهِ مِنْ مَكَّةَ وَكَمَالُ دِينِهِ وَظُهُورُهُ وَتَمَامُهُ حَتَّى مَمْلَكَةِ الْمَهْدِيِّ بِالشَّامِ فَمَكَّةُ هِيَ الْأَوَّلُ وَالشَّامُ هِيَ الْآخِرُ : فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ فِي الْكَلِمَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ بِهَا طَائِفَةً مَنْصُورَةً إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وَهِيَ الَّتِي ثَبَتَ فِيهَا الْحَدِيثُ فِي الصِّحَاحِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِ : { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ } وَفِيهِمَا عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ : " وَهُمْ فِي الشَّامِ " وَفِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ مَرْفُوعًا قَالَ : " وَهُمْ بِدِمَشْقَ " وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَزَالُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ } قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : أَهْلُ الْمَغْرِبِ هُمْ أَهْلُ الشَّامِ وَهُمْ كَمَا قَالَ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِي سَائِرِ الْحَدِيثِ بَيَانَ أَنَّهُمْ أَهْلُ الشَّامِ

الثَّانِي : أَنَّ لُغَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلَ مَدِينَتِهِ فِي " أَهْلِ الْمَغْرِبِ " هُمْ أَهْلُ الشَّامِ وَمَنْ يُغَرِّبُ عَنْهُمْ . كَمَا أَنَّ لُغَتَهُمْ فِي أَهْلِ الْمَشْرِقِ هُمْ أَهْلُ نَجْدٍ وَالْعِرَاقِ فَإِنَّ التَّغْرِيبَ وَالتَّشْرِيقَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ فَكُلُّ بَلَدٍ لَهُ غَرْبٌ قَدْ يَكُونُ شَرْقًا لِغَيْرِهِ وَلَهُ شَرْقٌ قَدْ يَكُونُ غَرْبًا لِغَيْرِهِ . فَالِاعْتِبَارُ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا كَانَ غَرْبًا وَشَرْقًا لَهُ حَيْثُ تَكَلَّمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَهِيَ الْمَدِينَةُ . وَمَنْ عَلِمَ حِسَابَ الْأَرْضِ كَطُولِهَا وَعَرْضِهَا عَلِمَ أَنَّ حَرَّانَ وَالرَّقَّةَ وسيمسياط عَلَى سَمْتِ مَكَّةَ وَأَنَّ الْفُرَاتَ وَمَا عَلَى جَانِبَيْهَا بَلْ أَكْثَرُهُ عَلَى سَمْتِ الْمَدِينَةِ بَيْنَهُمَا فِي الطُّولِ دَرَجَتَانِ . فَمَا كَانَ غَرْبِيِّ الْفُرَاتِ فَهُوَ غَرْبِيَّ الْمَدِينَةِ وَمَا كَانَ شَرْقِيَّهَا فَهُوَ شَرْقِيُّ الْمَدِينَةِ . فَأَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَ الْغَرْبِ لَا يَزَالُونَ ظَاهِرِينَ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّرْقِ فَقَدْ يَظْهَرُونَ تَارَةً وَيُغْلَبُونَ أُخْرَى . وَهَكَذَا هُوَ الْوَاقِعُ ؛ فَإِنَّ جَيْشَ الشَّامِ مَا زَالَ مَنْصُورًا وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ " الأوزاعي " إمَامَ أَهْلِ الْمَغْرِبِ وَيُسَمُّونَ " الثَّوْرِيّ " شَرْقِيًّا وَمِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا خِيرَةُ اللَّهِ مِنْ الْأَرْضِ أَوْ أَنَّ أَهْلَهَا خِيرَةُ اللَّهِ وَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ وَاسْتَدَلَّ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِينَ : حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خوالة الأزدي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { سَتُجَنِّدُونَ

أَجْنَادًا : جُنْدًا بِالشَّامِ وَجُنْدًا بِالْيَمَنِ وَجُنْدًا بِالْعِرَاقِ فَقَالَ الْخَوَالِي : يَا رَسُولَ اللَّهِ : اخْتَرْ لِي . قَالَ : عَلَيْك بِالشَّامِ ؛ فَإِنَّهَا خِيرَةُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ يَجْتَبِي إلَيْهَا خِيرَتُهُ مِنْ عِبَادِهِ . فَمَنْ أَبَى فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ وَلْيَتَّقِ مِنْ غَدْرِهِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ } وَكَانَ الْخَوَالِي يَقُولُ : وَمَنْ تَكَفَّلَ اللَّهُ بِهِ فَلَا ضعية عَلَيْهِ . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنَاقِبُ : أَنَّهَا خِيرَةٌ . وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ فَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ أَلْزَمُهُمْ مُهَاجَرَ إبْرَاهِيمَ وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا تَلْفِظُهُمْ أَرَضُوهُمْ تقذرهم نَفْسُ الرَّحْمَنِ تَحْشُرُهُمْ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُمَا بَاتُوا وَتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُمَا قَالُوا } فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ خَيْرَ أَهْلِ الْأَرْضِ أَلْزَمُهُمْ مُهَاجَرَ إبْرَاهِيمَ ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَأْتِي إلَيْهِ أَوْ يَذْهَبُ عَنْهُ وَمُهَاجَرُ إبْرَاهِيمَ هِيَ الشَّامُ . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بُشْرَى لِأَصْحَابِنَا الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ حَرَّانَ وَغَيْرِهَا إلَى مُهَاجَرَ إبْرَاهِيمَ وَاتَّبَعُوا مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ وَدِينَ نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا وَبَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْهِجْرَةَ الَّتِي لَهُمْ بَعْدَ هِجْرَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ إلَى حَيْثُ يَكُونُ الرَّسُولُ وَآثَارُهُ وَقَدْ جُعِلَ مُهَاجَرُ إبْرَاهِيمَ يَعْدِلُ لَنَا مُهَاجَرَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الْهِجْرَةَ إلَى مُهَاجَرِهِ انْقَطَعَتْ بِفَتْحِ مَكَّةَ . وَمِنْ ذَلِكَ أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ تَكَفَّلَ بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْخَوَالِي . وَمِنْ ذَلِكَ : { أَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَنِ بَاسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا عَلَى الشَّامِ } كَمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عَمُودَ الْكِتَابِ وَالْإِسْلَامِ بِالشَّامِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَأَيْت كَأَنَّ عَمُودَ الْكِتَابِ أُخِذَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي فَأَتْبَعْته بَصَرِي فَذُهِبَ بِهِ إلَى الشَّامِ } وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا عُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَعُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ } . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مُنَافِقِيهَا لَا يَغْلِبُوا أَمْرَ مُؤْمِنِيهَا كَمَا رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ فِي حَدِيثِ . وَبِهَذَا اسْتَدْلَلْت لِقَوْمِ مِنْ قُضَاةِ الْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ فِي فِتَنٍ قَامَ فِيهَا عَلَيْنَا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْفُجُورِ وَالْبِدَعِ الْمَوْصُوفِينَ بِخِصَالِ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا خَوَّفُونَا مِنْهُمْ فَأَخْبَرْتهمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَأَنَّ مُنَافِقِينَا لَا يَغْلِبُوا مُؤْمِنِينَا . وَقَدْ ظَهَرَ مِصْدَاقُ هَذِهِ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ فِي جِهَادِنَا لِلتَّتَارِ وَأَظْهَرَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ صِدْقَ مَا وَعَدْنَاهُمْ بِهِ وَبَرَكَةَ مَا أَمَرْنَاهُمْ بِهِ وَكَانَ ذَلِكَ فَتْحًا عَظِيمًا مَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ مِثْلَهُ مُنْذُ خَرَجَتْ مَمْلَكَةُ التَّتَارِ الَّتِي أَذَلَّتْ أَهْلَ الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُهْزَمُوا وَيُغْلَبُوا كَمَا غُلِبُوا

عَلَى " بَابِ دِمَشْقَ " فِي الْغَزْوَةِ الْكُبْرَى . الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْنَا فِيهَا مِنْ النِّعَمِ بِمَا لَا نُحْصِيهِ : خُصُوصًا وَعُمُومًا . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَاهُ وَكَمَا يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ وَعِزِّ جَلَالِهِ .
__________
آخِرُ الْمُجَلَّدِ السَابِعِ وَالعِشْرِينِ

الْجُزْءُ الْثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ
كِتَابُ الفِقْهِ
الْجُزْءُ الثَّامِنُ : الْجِهَادُ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ الْحَدِيثِ وَهُوَ : { حَرْسُ لَيْلَةٍ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِ رَجُلٍ فِي أَهْلِهِ أَلْفَ سَنَةٍ } وَعَنْ سُكْنَى مَكَّةَ وَالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ وَالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ عَلَى نِيَّةِ الْعِبَادَةِ وَالِانْقِطَاعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . وَالسُّكْنَى بِدِمْيَاطَ وَإِسْكَنْدَرِيَّة وَطَرَابُلُسَ عَلَى نِيَّةِ الرِّبَاطِ : أَيُّهُمْ أَفْضَلُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ الْمُقَامُ فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ كَالثُّغُورِ الشَّامِيَّةِ وَالْمِصْرِيَّةِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَمَا أَعْلَمُ فِي هَذَا نِزَاعًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّبُطَ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ وَالْمُجَاوَرَةُ غَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { سُئِلَ : أَيُّ

الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ : قَالَ : إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ . قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : ثُمَّ جِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ . قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ } . وَقَدْ رُوِيَ : " { غَزْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ حَجَّةً } " وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا مَاتَ مُجَاهِدًا وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ عُثْمَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ } " : وَهَذَا قَالَهُ عُثْمَانُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ تَبْلِيغًا لِلسُّنَّةِ . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : لَأَنْ أُرَابِطَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ . وَفَضَائِلُ الرِّبَاطِ وَالْحَرْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرَةٌ لَا تَسَعُهَا هَذِهِ الْوَرَقَةُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْئُولُ مِنْ السَّادَةِ الْعُلَمَاءِ الْقَادَةِ الْفُضَلَاءِ أَئِمَّةِ الدِّينِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - :
أَنْ يُخْبِرُونَا بِفَضَائِلِ الرَّمْيِ وَتَعْلِيمِهِ ؛ وَمَا وَرَدَ فِيمَنْ تَرَكَهُ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ ؛ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ الرَّمْيُ بِالْقَوْسِ أَوْ الطَّعْنُ بِالرُّمْحِ ؟ أَوْ الضَّرْبُ بِالسَّيْفِ ؟ وَهَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِلْمٌ يَخْتَصُّ بِهِ وَمَحَلٌّ يَلِيقُ بِهِ ؟ . وَإِذَا عَلَّمَ رَجُلٌ رَجُلًا الرَّمْيَ أَوْ الطَّعْنَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَحَدَ تَعْلِيمَهُ ؛ وَانْتَقَلَ إلَى غَيْرِهِ وَانْتَمَى إلَيْهِ : هَلْ يَأْثَمُ بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا قَالَ قَائِلٌ لِهَذَا الْمُنْتَقِلِ : أَنْتَ مَهْدُورٌ أَوْ تُقْتَلُ : أَثِمَ بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَإِنْ زَادَ فَقَالَ لَهُ : أَنْتَ لَقِيطٌ أَوْ وَلَدُ زِنَا : يُعَدُّ قَذْفًا وَيُحَدُّ بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ . وَهَلْ يَحِلُّ لِلْأُسْتَاذِ الثَّانِي أَنْ يَقْبَلَ هَذَا الْمُنْتَقِلَ وَيُعَزِّرَهُ عَلَى جَحْدِهِ لِمُعَلِّمِهِ ؟ وَإِذَا قَالَ الْمُنْتَقِلُ : أَنَا أَنْتَمِي إلَى فُلَانٍ تَعْلِيمًا وَتَخْرِيجًا وَإِلَى فُلَانٍ إفَادَةً وَتَفْهِيمًا : هَلْ يَسُوغُ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ لِلْمُبْتَدِئِ أَنْ

يَقُومَ فِي وَسَطِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْأُسْتَاذَيْنِ والمتعلمين وَيَقُولَ : يَا جَمَاعَةَ الْخَيْرِ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى وَأَسْأَلُكُمْ أَنْ تَسْأَلُوا فُلَانًا أَنْ يَقْبَلَنِي أَنْ أَكُونَ لَهُ أَخًا أَوْ رَفِيقًا أَوْ غُلَامًا أَوْ تِلْمِيذًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ؛ فَيَقُومَ أَحَدُ الْجَمَاعَةِ فَيَأْخُذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ وَيَشْتَرِطَ عَلَيْهِ مَا يُرِيدُهُ وَيَشُدَّ وَسَطَهُ بِمَنْدِيلِ أَوْ غَيْرِهِ : فَهَلْ يَسُوغُ هَذَا الْفِعْلُ أَمْ لَا ؟ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُحَامَاةِ وَالْعَصَبِيَّةِ لِأُسْتَاذِ ؛ بِحَيْثُ يَصِيرُ لِكُلِّ مِنْ الْأُسْتَاذَيْنِ إخْوَانٌ وَرُفَقَاءُ وَأَحْزَابٌ وَتَلَامِذَةٌ يَقُومُونَ مَعَهُ إذَا قَامَ بِحَقِّ أَوْ بَاطِلٍ وَيُعَادُونَ مَنْ عَادَاهُ وَيُوَالُونَ مَنْ وَالَاهُ . وَهَلْ إذَا اجْتَمَعُوا لِلرَّمْيِ عَلَى رَهْنٍ هَلْ يَحِلُّ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَقْدَحُ فِي عَدَالَةِ الْأُسْتَاذِ إذَا فَعَلَ التَّلَامِذَةُ مَا لَا يَحِلُّ فِي الدِّينِ وَيُقِرُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ ؟ وَهَلْ إذَا شَدَّ الْمُعَلِّمُ لِلتِّلْمِيذِ وَحَصَلَ بِذَلِكَ هِبَةٌ وَكَرَامَةٌ - وَجَمِيعُ ذَلِكَ فِي الْعُرْفِ يَرْجِعُ إلَى الْأُسْتَاذِ - يَحِلُّ لَهُ تَنَاوُلُهُ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ لِلْأُسْتَاذِ أَنْ يَقْبَلَ أُجْرَةً أَوْ هِبَةً أَوْ هَدِيَّةً ؟ فَإِنَّ الْمُعَلِّمَ تَلْحَقُهُ كُلْفَةٌ مِنْ آلَاتٍ وَغَيْرِهَا . أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ وَأَرْشِدُونَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْكُمْ أَجْمَعِينَ .
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الرَّمْيُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالطَّعْنُ فِي سَبِيلِ

اللَّهِ . وَالضَّرْبُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ : كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى : بِهِ وَرَسُولُهُ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الثَّلَاثَةَ فَقَالَ تَعَالَى : { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ : " { أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ } . وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : " { ارْمُوا وَارْكَبُوا وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا وَمَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ نَسِيَهُ فَلَيْسَ مِنَّا } . وَفِي رِوَايَةٍ : " { وَمَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ نَسِيَهُ فَهِيَ نِعْمَةٌ جَحَدَهَا } . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ . فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ } . وَقَالَ : " { سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرَضُونَ وَيَكْفِيكُمْ اللَّهُ فَلَا يَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ } . وَقَالَ مَكْحُولٌ : كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى الشَّامِ : أَنْ عَلِّمُوا

عَلِّمُوا أَوْلَادَكُمْ الرَّمْيَ وَالْفُرُوسِيَّةَ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { ارْمُوا بَنِي إسْمَاعِيلَ ؛ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا } . { وَمَرَّ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْمُوا بَنِي إسْمَاعِيلَ ؛ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا ارْمُوا وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ : مَا لَكُمْ لَا تَرْمُونَ ؟ قَالُوا : كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ ؟ فَقَالَ : ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ } . وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { نَثَلَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي نَفَضَ كِنَانَتَهُ يَوْمَ أُحُدٍ - وَقَالَ : ارْمِ فِدَاك أَبِي وَأُمِّي } وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : { مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ أَبَوَيْهِ لِأَحَدِ إلَّا لِسَعْدِ : قَالَ لَهُ : ارْمِ سَعْدُ فِدَاك أَبِي وَأُمِّي } . وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَصَوْتُ أَبِي طَلْحَةَ فِي الْجَيْشِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةٍ } وَكَانَ إذَا كَانَ فِي الْجَيْشِ جَثَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَنَثَرَ كِنَانَتَهُ فَقَالَ : نَفْسِي لِنَفْسِك الْفِدَاءُ وَوَجْهِي لِوَجْهِك الْوِقَاءُ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ السَّيْفُ وَالْقَوْسُ وَالرُّمْحُ . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :

{ مَنْ رَمَى بِسَهْمِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - بَلَغَ الْعَدُوَّ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ - كَانَتْ لَهُ عَدْلُ رَقَبَةٍ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ : صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ ؛ وَالرَّامِيَ بِهِ وَالْمُمِدَّ بِهِ } وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ هِيَ أَعْمَالُ الْجِهَادِ وَالْجِهَادُ أَفْضَلُ مَا تَطَوَّعَ بِهِ الْإِنْسَانُ وَتَطَوُّعُهُ أَفْضَلُ مِنْ تَطَوُّعِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } . وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : لَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ أَعْمُرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ . فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ إذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ سَأَلْته عَنْ ذَلِكَ . فَسَأَلَهُ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ } فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْجِهَادَ أَفْضَلُ مِنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالطَّوَافِ وَمِنْ

الْإِحْسَانِ إلَى الْحُجَّاجِ بِالسِّقَايَةِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : لَأَنْ أُرَابِطَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْد الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ . وَلِهَذَا كَانَ الرِّبَاطُ فِي الثُّغُورِ أَفْضَلَ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْعَمَلُ بِالرُّمْحِ وَالْقَوْسِ فِي الثُّغُورِ أَفْضَلَ مِنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ . وَأَمَّا فِي الْأَمْصَارِ الْبَعِيدَةِ مِنْ الْعَدُوِّ فَهُوَ نَظِيرُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ إلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ } . وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ كُلٌّ مِنْهَا لَهُ مَحَلٌّ يَلِيقُ بِهِ هُوَ أَفْضَلُ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ فَالسَّيْفُ عِنْدَ مُوَاصَلَةِ الْعَدُوِّ وَالطَّعْنُ عِنْدَ مُقَارَبَتِهِ وَالرَّمْيُ عِنْدَ بُعْدِهِ أَوْ عِنْدَ الْحَائِلِ كَالنَّهْرِ وَالْحِصْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَكُلَّمَا كَانَ أَنْكَى فِي الْعَدُوِّ وَأَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ فَهُوَ أَفْضَلُ . وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْعَدُوِّ وَبِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُجَاهِدِينَ فِي الْعَدُوِّ . وَمِنْهُ مَا يَكُونُ الرَّمْيُ فِيهِ أَنْفَعَ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ الطَّعْنُ فِيهِ أَنْفَعَ . وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُهُ الْمُقَاتِلُونَ .

فَصْلٌ :
وَتَعَلُّمُ هَذِهِ الصِّنَاعَاتِ هُوَ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِمَنْ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَمَنْ عَلَّمَ غَيْرَهُ ذَلِكَ كَانَ شَرِيكَهُ فِي كُلِّ جِهَادٍ يُجَاهِدُ بِهِ لَا يُنْقَصُ أَحَدُهُمَا مِنْ الْأَجْرِ شَيْئًا كَاَلَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمُ الْعِلْمَ . وَعَلَى الْمُتَعَلِّمِ أَنْ يُحْسِنَ نِيَّتَهُ فِي ذَلِكَ وَيَقْصِدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى الْمُعَلِّمِ أَنْ يَنْصَحَ لِلْمُتَعَلِّمِ وَيَجْتَهِدَ فِي تَعْلِيمِهِ وَعَلَى الْمُتَعَلِّمِ أَنْ يَعْرِفَ حُرْمَةَ أُسْتَاذِهِ وَيَشْكُرَ إحْسَانَهُ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ وَلَا يَجْحَدَ حَقَّهُ وَلَا يُنْكِرَ مَعْرُوفَهُ . وَعَلَى الْمُعَلِّمِينَ أَنْ يَكُونُوا مُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : " { الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يُسْلِمُهُ وَلَا يَظْلِمُهُ } . وَقَوْلِهِ : " { مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ } . وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ } . وَقَوْلِهِ : " { الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَحَاسَدُوا

وَلَا تَقَاطَعُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا } . وَهَذَا كُلُّهُ فِي الصَّحِيحِ . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ ؛ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ ؛ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ كُلَّ يَوْمِ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا ؛ إلَّا رَجُلًا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ ؛ فَيُقَالُ : أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ ؛ يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ } . وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْمُعَلِّمِينَ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَى الْآخَرِ وَلَا يُؤْذِيَهُ بِقَوْلِ وَلَا فِعْلٍ بِغَيْرِ حَقٍّ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُعَاقِبَ أَحَدًا عَلَى غَيْرِ ظُلْمٍ وَلَا تَعَدِّي حَدٍّ وَلَا تَضْيِيعِ حَقٍّ ؛ بَلْ لِأَجْلِ هَوَاهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الظُّلْمِ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : فِيمَا رَوَى

عَنْهُ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا } . وَإِذَا جَنَى شَخْصٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ بِغَيْرِ الْعُقُوبَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْمُتَعَلِّمِينَ وَالْأُسْتَاذَيْنِ أَنْ يُعَاقِبَهُ بِمَا يَشَاءُ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُعَاوِنَهُ وَلَا يُوَافِقَهُ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَأْمُرَ بِهَجْرِ شَخْصٍ فَيَهْجُرَهُ بِغَيْرِ ذَنْبٍ شَرْعِيٍّ أَوْ يَقُولَ : أَقْعَدْته أَوْ أَهْدَرْته أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ مَا يَفْعَلُهُ القساقسة وَالرُّهْبَانُ مَعَ النَّصَارَى والحزابون مَعَ الْيَهُودِ وَمِنْ جِنْسِ مَا يَفْعَلُهُ أَئِمَّةُ الضَّلَالَةِ وَالْغَوَايَةِ مَعَ أَتْبَاعِهِمْ . وَقَدْ قَالَ الصِّدِّيقُ الَّذِي هُوَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمَّتِهِ : أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت اللَّهَ فَإِنْ عَصَيْت اللَّهَ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ } . وَقَالَ : " { مَنْ أَمَرَكُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا تُطِيعُوهُ } . فَإِذَا كَانَ الْمُعَلِّمُ أَوْ الْأُسْتَاذُ قَدْ أَمَرَ بِهَجْرِ شَخْصٍ ؛ أَوْ بِإِهْدَارِهِ وَإِسْقَاطِهِ وَإِبْعَادِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : نُظِرَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ ذَنْبًا شَرْعِيًّا عُوقِبَ بِقَدْرِ ذَنْبِهِ بِلَا زِيَادَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا شَرْعِيًّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَاقَبَ بِشَيْءِ لِأَجْلِ غَرَضِ الْمُعَلِّمِ أَوْ غَيْرِهِ . وَلَيْسَ لِلْمُعَلِّمِينَ أَنْ يحزبوا النَّاسَ وَيَفْعَلُوا مَا يُلْقِي بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ

وَالْبَغْضَاءَ بَلْ يَكُونُونَ مِثْلَ الْإِخْوَةِ الْمُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } .
وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْهُمْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى أَحَدٍ عَهْدًا بِمُوَافَقَتِهِ عَلَى كُلِّ مَا يُرِيدُهُ ؛ وَمُوَالَاةِ مَنْ يُوَالِيهِ ؛ وَمُعَادَاةِ مَنْ يُعَادِيهِ بَلْ مَنْ فَعَلَ هَذَا كَانَ مَنْ جِنْسِ جنكيزخان وَأَمْثَالِهِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَنْ وَافَقَهُمْ صَدِيقًا مُوَالِيًا وَمَنْ خَالَفَهُمْ عَدُوًّا بَاغِيًا ؛ بَلْ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَتْبَاعِهِمْ عَهْدُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَنْ يُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ؛ وَيَفْعَلُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ؛ وَيُحَرِّمُوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ وَيَرْعَوْا حُقُوقَ الْمُعَلِّمِينَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . فَإِنْ كَانَ أُسْتَاذُ أَحَدٍ مَظْلُومًا نَصَرَهُ وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا لَمْ يُعَاوِنْهُ عَلَى الظُّلْمِ بَلْ يَمْنَعُهُ مِنْهُ ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ : تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ فَذَلِكَ نَصْرُك إيَّاهُ } . وَإِذَا وَقَعَ بَيْنَ مُعَلِّمٍ وَمُعَلِّمٍ أَوْ تِلْمِيذٍ وَتِلْمِيذٍ أَوْ مُعَلِّمٍ وَتِلْمِيذٍ خُصُومَةٌ وَمُشَاجَرَةٌ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِ أَنْ يُعِينَ أَحَدَهُمَا حَتَّى يَعْلَمَ الْحَقَّ فَلَا يُعَاوِنُهُ بِجَهْلِ وَلَا بِهَوَى بَلْ يَنْظُرُ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ أَعَانَ الْمُحِقَّ مِنْهُمَا عَلَى الْمُبْطِلِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُحِقُّ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ أَصْحَابِ غَيْرِهِ ؛ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُبْطِلُ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ أَصْحَابِ غَيْرِهِ فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ ؛ وَاتِّبَاعَ الْحَقِّ وَالْقِيَامَ بِالْقِسْطِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } يُقَالُ : لَوَى يَلْوِي لِسَانَهُ : فَيُخْبِرُ بِالْكَذِبِ . وَالْإِعْرَاضُ : أَنْ يَكْتُمَ الْحَقَّ ؛ فَإِنَّ السَّاكِتَ عَنْ الْحَقِّ شَيْطَانٌ أَخْرَسُ . وَمَنْ مَالَ مَعَ صَاحِبِهِ - سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ - فَقَدْ حَكَمَ بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ وَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْوَاجِبُ عَلَى جَمِيعِهِمْ أَنْ يَكُونُوا يَدًا وَاحِدَةً مَعَ الْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِلِ فَيَكُونَ الْمُعَظَّمُ عِنْدَهُمْ مَنْ عَظَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْمُقَدَّمُ عِنْدَهُمْ مَنْ قَدَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْمَحْبُوبُ عِنْدَهُمْ مَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْمُهَانُ عِنْدَهُمْ مَنْ أَهَانَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِحَسَبِ مَا يُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا بِحَسَبِ الْأَهْوَاءِ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ ؛ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إلَّا نَفْسَهُ . فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِمْ اعْتِمَادُهُ . وَحِينَئِذٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَفَرُّقِهِمْ وَتَشَيُّعِهِمْ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ قَدْ عَلَّمَهُ أُسْتَاذٌ عَرَفَ قَدْرَ إحْسَانِهِ إلَيْهِ وَشَكَرَهُ . وَلَا يَشُدُّ وَسَطَهُ لَا لِمُعَلِّمِهِ وَلَا لِغَيْرِ مُعَلِّمِهِ ؛ فَإِنَّ شَدَّ الْوَسَطِ لِشَخْصِ

مُعَيَّنٍ وَانْتِسَابَهُ إلَيْهِ - كَمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ - : مِنْ بِدَعِ الْجَاهِلِيَّةِ ؛ وَمِنْ جِنْسِ التَّحَالُفِ الَّذِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْعَلُونَهُ ؛ وَمِنْ جِنْسِ تَفَرُّقِ قَيْسٍ وَيُمَنِّ فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الشَّدِّ وَالِانْتِمَاءِ التَّعَاوُنَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَهَذَا قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ بِدُونِ هَذَا الشَّدِّ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ التَّعَاوُنَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فَهَذَا قَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . فَمَا قُصِدَ بِهَذَا مِنْ خَيْرٍ فَفِي أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ اسْتِغْنَاءٌ عَنْ أَمْرِ الْمُعَلِّمِينَ وَمَا قُصِدَ بِهَذَا مِنْ شَرٍّ فَقَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . فَلَيْسَ لِمُعَلِّمِ أَنْ يُحَالِفَ تَلَامِذَتَهُ عَلَى هَذَا وَلَا لِغَيْرِ الْمُعَلِّمِ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدًا مِنْ تَلَامِذَتِهِ لِيُنْسَبُوا إلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الْبِدْعِيِّ : لَا ابْتِدَاءً وَلَا إفَادَةً وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْحَدَ حَقَّ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ إفَادَةِ التَّعَلُّمِ مِنْ غَيْرِهِ وَلَيْسَ لِلثَّانِي أَنْ يَقُولَ : شُدَّ لِي وَانْتَسِبْ لِي دُونَ مُعَلِّمِك الْأَوَّلِ بَلْ إنْ تَعَلَّمَ مِنْ اثْنَيْنِ فَإِنَّهُ يُرَاعِي حَقَّ كُلٍّ مِنْهُمَا وَلَا يَتَعَصَّبُ لَا لِلْأَوَّلِ وَلَا لِلثَّانِي وَإِذَا كَانَ تَعْلِيمُ الْأَوَّلِ لَهُ أَكْثَرَ كَانَتْ رِعَايَتُهُ لِحَقِّهِ أَكْثَرَ . وَإِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مَعَ أَحَدٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ ؛ بَلْ يَكُونُ كُلُّ شَخْصٍ مَعَ كُلِّ شَخْصٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا يَكُونُونَ مَعَ أَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ يَتَعَاوَنُونَ عَلَى الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ

الْمُنْكَرِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ وَلَا يَتَعَاوَنُونَ لَا عَلَى ظُلْمٍ وَلَا عَصَبِيَّةٍ جَاهِلِيَّةٍ وَلَا اتِّبَاعِ الْهَوَى بِدُونِ هُدَى مِنْ اللَّهِ وَلَا تَفَرُّقٍ وَلَا اخْتِلَافٍ ؛ وَلَا شَدِّ وَسَطٍ لِشَخْصِ لِيُتَابِعَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يُحَالِفَهُ عَلَى غَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ . وَحِينَئِذٍ فَلَا يَنْتَقِلُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ إلَى أَحَدٍ ؛ وَلَا يَنْتَمِي أَحَدٌ : لَا لَقِيطًا وَلَا ثَقِيلًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إنَّمَا وَلَّدَهَا كَوْنُ الْأُسْتَاذِ يُرِيدُ أَنْ يُوَافِقَهُ تِلْمِيذُهُ عَلَى مَا يُرِيدُ فَيُوَالِيَ مَنْ يُوَالِيهِ وَيُعَادِيَ مَنْ يُعَادِيهِ مُطْلَقًا . وَهَذَا حَرَامٌ ؛ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ أَحَدًا ؛ وَلَا يُجِيبَ عَلَيْهِ أَحَدًا ؛ بَلْ تَجْمَعُهُمْ السُّنَّةُ وَتُفَرِّقُهُمْ الْبِدْعَةُ ؛ يَجْمَعُهُمْ فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَتُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ مَعْصِيَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ أَهْلَ طَاعَةِ اللَّهِ أَوْ أَهْلَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا تَكُونُ الْعِبَادَةُ إلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا الطَّاعَةُ الْمُطْلَقَةُ إلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا عَلَى عَادَتِهِمْ الْجَاهِلِيَّةِ - أَيْ مَنْ عَلَّمَهُ أُسْتَاذٌ كَانَ مُحَالِفًا لَهُ - كَانَ الْمُنْتَقِلُ عَنْ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي ظَالِمًا بَاغِيًا نَاقِضًا لِعَهْدِهِ غَيْرَ مَوْثُوقٍ بِعَقْدِهِ ؛ وَهَذَا أَيْضًا حَرَامٌ وَإِثْمُ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ إثْمِ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ مِثْلَ فِعْلِهِ ؛ بَلْ مِثْلُ هَذَا إذَا انْتَقَلَ إلَى غَيْرِ أُسْتَاذِهِ وَحَالَفَهُ كَانَ قَدْ فَعَلَ حَرَامًا ؛ فَيَكُونُ مِثْلَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لَا

بِعَهْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْفَى وَلَا بِعَهْدِ الْأَوَّلِ ؛ بَلْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَلَاعِبِ الَّذِي لَا عَهْدَ لَهُ وَلَا دِينَ لَهُ وَلَا وَفَاءَ . وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُحَالِفُ الرَّجُلُ قَبِيلَةً فَإِذَا وَجَدَ أَقْوَى مِنْهَا نَقَضَ عَهْدَ الْأُولَى وَحَالَفَ الثَّانِيَةَ - وَهُوَ شَبِيهٌ بِحَالِ هَؤُلَاءِ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } { وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } { وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } . وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَأْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَيَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَا يَدَعُوا بَيْنَهُمْ مَنْ يُظْهِرُ ظُلْمًا أَوْ فَاحِشَةً وَلَا يَدَعُوا صَبِيًّا أَمْرَدَ يَتَبَرَّجُ أَوْ يُظْهِرُ مَا يَفْتِنُ بِهِ النَّاسَ وَلَا أَنْ يُعَاشِرَ مَنْ يُتَّهَمُ بِعِشْرَتِهِ وَلَا يُكْرَمَ لِغَرَضِ فَاسِدٍ . وَمَنْ حَالَفَ شَخْصًا عَلَى أَنْ يُوَالِيَ مَنْ وَالَاهُ وَيُعَادِيَ مَنْ عَادَاهُ كَانَ مِنْ جِنْسِ التتر الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا مِنْ جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ

يَكُونَ مِثْلُ هَؤُلَاءِ مِنْ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ هَؤُلَاءِ مِنْ عَسْكَرِ الشَّيْطَانِ وَلَكِنْ يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ لِتِلْمِيذِهِ : عَلَيْك عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ أَنْ تَوَالِيَ مَنْ وَالَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَتُعَادِيَ مَنْ عَادَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَتُعَاوِنَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تُعَاوِنَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِذَا كَانَ الْحَقُّ مَعِي نَصَرْت الْحَقَّ وَإِنْ كُنْت عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ تَنْصُرْ الْبَاطِلَ . فَمَنْ الْتَزَمَ هَذَا كَانَ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شُجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . فَإِذَا كَانَ الْمُجَاهِدُ الَّذِي يُقَاتِلُ حَمِيَّةً لِلْمُسْلِمِينَ ؛ أَوْ يُقَاتِلُ رِيَاءً لِلنَّاسِ لِيَمْدَحُوهُ ؛ أَوْ يُقَاتِلُ لِمَا فِيهِ مِنْ الشَّجَاعَةِ : لَا يَكُونُ قِتَالُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يُقَاتِلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَكَيْفَ مَنْ يَكُونُ أَفْضَلُ تَعَلُّمِهِ صِنَاعَةَ الْقِتَالِ مَبْنِيًّا عَلَى أَسَاسٍ فَاسِدٍ لِيُعَاوِنَ شَخْصًا مَخْلُوقًا عَلَى شَخْصٍ مَخْلُوقٍ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الْجُهَلَاءِ والتتر الْخَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي تَزْجُرُهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ عَنْ مِثْلِ هَذَا التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ ؛ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ

وَيَكُونُونَ قَائِمِينَ بِالْقِسْطِ يُوَالُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُحِبُّونَ لِلَّهِ وَيُبْغِضُونَ لِلَّهِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ . وَلِلْمُعَلِّمِينَ أَنْ يَطْلُبُوا جُعْلًا مِمَّنْ يُعَلِّمُونَهُ هَذِهِ الصِّنَاعَةَ ؛ فَإِنَّ أَخْذَ الْجُعْلِ وَالْعِوَضِ عَلَى تَعْلِيمِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ جَائِزٌ وَالِاكْتِسَابَ بِذَلِكَ أَحْسَنُ الْمَكَاسِبِ وَلَوْ أَهْدَى الْمُعَلَّمُ لِأُسْتَاذِهِ لِأَجْلِ تَعْلِيمِهِ وَأَعْطَاهُ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ السَّبَقِ أَوْ غَيْرِ السَّبَقِ عِوَضًا عَنْ تَعْلِيمِهِ وَتَحْصِيلِهِ الْآلَاتِ وَاسْتِكْرَائِهِ الْحَانُوتَ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لِلْأُسْتَاذِ قَبُولُهُ وَبَذْلُ الْعِوَضِ فِي ذَلِكَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ حَتَّى إنَّ الشَّرِيعَةَ مَضَتْ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُبْذَلَ الْعِوَضُ لِلْمُسَابِقَيْنِ مِنْ غَيْرِهِمَا . فَإِذَا أَخْرَجَ وَلِيُّ الْأَمْرِ مَالًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِلْمُسَابِقَيْنِ بِالنُّشَّابِ وَالْخَيْلِ وَالْإِبِلِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَلَوْ تَبَرَّعَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ بِبَذْلِ الْجُعْلِ فِي ذَلِكَ كَانَ مَأْجُورًا عَلَى ذَلِكَ كَذَلِكَ مَا يُعْطِيهِ الرَّجُلُ لِمَنْ يُعَلِّمُهُ ذَلِكَ هُوَ مِمَّنْ يُثَابُ عَلَيْهِ وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ مَنْفَعَتُهَا عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَجُوزُ بَذْلُ الْعِوَضِ مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ جَائِزًا وَإِنْ أَخْرَجَا جَمِيعًا الْعِوَضَ وَكَانَ مَعَهُمَا آخَرُ مُحَلِّلًا يكافيها كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلٌ فَبَذَلَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ غَيْرِ إلْزَامٍ لَهُ أَطْعَمَ بِهِ الْجَمَاعَةَ أَوْ أَعْطَاهُ لِلْمُعَلِّمِ أَوْ أَعْطَاهُ لِرَفِيقِهِ : كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا .

وَأَصْلُ هَذَا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ عَوْنٌ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَقْصُودُهُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا . وَجِمَاعُ الدِّينِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى . وَالثَّانِي : أَنْ نَعْبُدَهُ بِمَا شَرَّعَ ؛ لَا نَعْبُدُهُ بِالْبِدَعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ . قِيلَ لَهُ : مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ؟ قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ ؛ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ : أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ . وَالصَّوَابُ : أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا ؛ وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا ؛ وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا . وَهَذَا هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَهُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ وَحْدَهُ . فَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لَهُ كَانَ مُسْتَكْبِرًا عَنْ عِبَادَتِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ

جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } وَمَنْ اسْتَسْلَمَ لِلَّهِ وَلِغَيْرِهِ كَانَ مُشْرِكًا ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } وَلِهَذَا كَانَ لِلَّهِ حَقٌّ لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ فَلَا يَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ وَلَا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ وَلَا يَتَّقِي إلَّا اللَّهَ وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَى اللَّهِ وَلَا يَدْعُو إلَّا اللَّهَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } " وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } فَالطَّاعَةُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَالْخَشْيَةُ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } . فَالرَّغْبَةُ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَالتَّحَسُّبُ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ . وَأَمَّا الْإِيتَاءُ فَلِلَّهِ وَالرَّسُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } . فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ فَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْمَشَايِخِ وَالْمُلُوكِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْمُعَلِّمِينَ وَسَائِرِ الْخَلْقِ خُرُوجٌ عَنْ ذَلِكَ بَلْ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ أَنْ يَدِينُوا بِدِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ ؛ وَيَدْخُلُوا بِهِ كُلُّهُمْ فِي دِينِ خَاتَمِ الرُّسُلِ وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ خَيْرِ الْخَلْقِ وَأَكْرَمِهِمْ عَلَى اللَّهِ مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا وَكُلُّ مَنْ أَمَرَ بِأَمْرِ كَائِنًا مَنْ كَانَ عُرِضَ عَلَى

الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ فَإِنْ وَافَقَ ذَلِكَ قُبِلَ وَإِلَّا رُدَّ ؛ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } أَيْ : فَهُوَ مَرْدُودٌ . فَإِذَا كَانَ الْمَشَايِخُ وَالْعُلَمَاءُ فِي أَحْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ : الْمَعْرُوفُ وَالْمُنْكَرُ وَالْهَدْيُ وَالضَّلَالُ وَالرَّشَادُ وَالْغَيُّ وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَرُدُّوا ذَلِكَ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَيَقْبَلُوا مَا قَبِلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَرُدُّوا مَا رَدَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ : فَكَيْفَ بِالْمُعَلِّمِينَ وَأَمْثَالِهِمْ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَهْدِيَنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا إلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ ؛ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
مِنْ شَرْطِ الْجُنْدِيِّ أَنْ يَكُونَ دَيِّنًا شُجَاعًا . ثُمَّ قَالَ : النَّاسُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَعْلَاهُمْ الدَّيِّنُ الشُّجَاعُ ؛ ثُمَّ الدَّيِّنُ بِلَا شَجَاعَةٍ ؛ ثُمَّ عَكْسُهُ ؛ ثُمَّ الْعَرِيُّ عَنْهُمَا .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ جُنْدِيٍّ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لَا يَخْدِمَ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ مَنْفَعَةٌ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ كَوْنُهُ مُقَدَّمًا فِي الْجِهَادِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَفْضَلُ مِنْ التَّطَوُّعِ بِالْعِبَادَةِ كَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَالْحَجِّ التَّطَوُّعِ وَالصِّيَامِ التَّطَوُّعِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ يَجُوزُ لِلْجُنْدِيِّ أَنْ يَلْبَسَ شَيْئًا مِنْ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْقِتَالِ ؛ أَوْ وَقْتِ يَصِلُ رُسُلُ الْعَدُوِّ إلَى الْمُسْلِمِينَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا لِبَاسُ الْحَرِيرِ عِنْدَ الْقِتَالِ لِلضَّرُورَةِ فَيَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَقُومَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِي دَفْعِ السِّلَاحِ وَالْوِقَايَةِ . وَأَمَّا لِبَاسُهُ لِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ : أَظْهَرُهُمَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فَإِنَّ جُنْدَ الشَّامِ كَتَبُوا إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : إنَّا إذَا لَقِينَا الْعَدُوَّ وَرَأَيْنَاهُمْ قَدْ كَفَّرُوا - أَيْ : غَطَّوْا أَسْلِحَتَهُمْ بِالْحَرِيرِ - وَجَدْنَا لِذَلِكَ رُعْبًا فِي قُلُوبِنَا . فَكَتَبَ إلَيْهِمْ عُمَرُ : وَأَنْتُمْ فَكَفِّرُوا أَسْلِحَتَكُمْ كَمَا يُكَفِّرُونَ أَسْلِحَتَهُمْ . وَلِأَنَّ لُبْسَ الْحَرِيرِ فِيهِ خُيَلَاءُ وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْخُيَلَاءَ حَالَ الْقِتَالِ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ مِنْ الْخُيَلَاءِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمِنْ الْخُيَلَاءِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ فَأَمَّا الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ عِنْدَ الْحَرْبِ . وَعِنْدَ الصَّدَقَةِ . وَأَمَّا الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ فَالْخُيَلَاءُ فِي الْبَغْيِ وَالْفَخْرِ } . { وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ اخْتَالَ أَبُو دجانة

الْأَنْصَارِيُّ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهَا لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ إلَّا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ } . وَأَمَّا يَسِيرُ الْحَرِيرِ مِثْلُ الْعَلَمِ الَّذِي عَرْضُهُ أَرْبَعَةُ أَصَابِعَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَجُوزُ مُطْلَقًا وَفِي الْعَلَمِ الذَّهَبِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ؛ وَالْأَظْهَرُ جَوَازُهُ أَيْضًا ؛ فَإِنَّ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّهُ نَهَى عَنْ الذَّهَبِ إلَّا مُقَطَّعًا } .
وَسُئِلَ :
عَنْ سَفَرِ صَاحِبِ الْعِيَالِ . . . ؟ إلَخْ
فَأَجَابَ :
أَمَّا سَفَرُ صَاحِبِ الْعِيَالِ فَإِنْ كَانَ السَّفَرُ يَضُرُّ بِعِيَالِهِ لَمْ يُسَافِرْ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ } وَسَوَاءٌ كَانَ تَضَرُّرُهُمْ لِقِلَّةِ النَّفَقَةِ أَوْ لِضَعْفِهِمْ وَسَفَرُ مِثْلِ هَذَا حَرَامٌ . وَإِنْ كَانُوا لَا يَتَضَرَّرُونَ بَلْ يَتَأَلَّمُونَ وَتَنْقُصُ أَحْوَالُهُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي السَّفَرِ فَائِدَةٌ جَسِيمَةٌ تَرْبُو عَلَى ثَوَابِ مُقَامِهِ عِنْدَهُمْ كَعَلَمٍ يَخَافُ فَوْتَهُ وَشَيْخٍ يَتَعَيَّنُ الِاجْتِمَاعُ بِهِ ؛ وَإِلَّا فَمُقَامُهُ عِنْدَهُمْ أَفْضَلُ وَهَذَا لَعَمْرِي إذَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ فِي السَّفَرِ كَانَ مَشْرُوعًا . وَأَمَّا إنْ كَانَ كَسَفَرِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ إنَّمَا يُسَافِرُ قَلَقًا وَتَزْجِيَةً لِلْوَقْتِ فَهَذَا مُقَامُهُ يَعْبُدُ اللَّهَ فِي بَيْتِهِ خَيْرٌ لَهُ بِكُلِّ حَالٍ وَيَحْتَاجُ صَاحِبُ هَذِهِ

الْحَالِ أَنْ يَسْتَشِيرَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ رَجُلًا عَالِمًا بِحَالِهِ وَبِمَا يُصْلِحُهُ مَأْمُونًا عَلَى ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ أَحْوَالَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ فِي مِثْلِ هَذَا اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي مِثْلُ : أَنْ يَقُولَ : السَّفَرُ يُكْرَهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ أَوْ الْخَمِيسِ أَوْ السَّبْتِ ؛ أَوْ يُكْرَهُ التَّفْصِيلُ أَوْ الْخِيَاطَةُ أَوْ الْغَزْلُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ ؛ أَوْ يُكْرَهُ الْجِمَاعُ فِي لَيْلَةٍ مِنْ اللَّيَالِي وَيُخَافُ عَلَى الْوَلَدِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ ؛ بَلْ الرَّجُلُ إذَا اسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى وَفَعَلَ شَيْئًا مُبَاحًا فَلْيَفْعَلْهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ تَيَسَّرَ . وَلَا يُكْرَهُ التَّفْصِيلُ وَلَا الْخِيَاطَةُ وَلَا الْغَزْلُ وَلَا نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ فِي يَوْمٍ مِنْ الْأَيَّامِ وَلَا يُكْرَهُ الْجِمَاعُ فِي لَيْلَةٍ مِنْ اللَّيَالِي وَلَا يَوْمٍ مِنْ الْأَيَّامِ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى عَنْ التَّطَيُّرِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِي قَالَ : " { قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ مِنَّا قَوْمًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ ؟ قَالَ : فَلَا تَأْتُوهُمْ . قُلْت : مِنَّا قَوْمٌ يَتَطَيَّرُونَ ؟ قَالَ : ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ مِنْ نَفْسِهِ فَلَا يَصُدَّنَّكُمْ } فَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَى عَنْ أَنْ تَصُدَّهُ الطِّيَرَةُ عَمَّا عَزَمَ عَلَيْهِ : فَكَيْفَ بِالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي ؟

وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ ؛ مِنْ غَيْرِ نَهْيٍ عَنْ سَائِرِ الْأَيَّامِ إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذَا كَانَتْ الْجُمُعَةُ تَفُوتُهُ بِالسَّفَرِ فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا الصِّنَاعَاتُ وَالْجِمَاعُ فَلَا يُكْرَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَيَّامِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
رِسَالَةٌ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - إلَى أَصْحَابِهِ وَهُوَ فِي حَبْسِ الإسكندرية قَالَ :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } . وَاَلَّذِي أُعَرِّفُ بِهِ الْجَمَاعَةَ أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ نِعْمَتَهُ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ ؛ فَإِنِّي - وَاَللَّهِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ - فِي نِعَمٍ مِنْ اللَّهِ مَا رَأَيْت مِثْلَهَا فِي عُمْرِي كُلِّهِ وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ أَبْوَابِ فَضْلِهِ وَنِعْمَتِهِ وَخَزَائِنِ جُودِهِ وَرَحْمَتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ بِالْبَالِ ؛ وَلَا يَدُورُ فِي الْخَيَالِ مَا يَصِلُ الطَّرْفُ إلَيْهَا يَسَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى صَارَتْ مَقَاعِدَ وَهَذَا يَعْرِفُ بَعْضَهَا بِالذَّوْقِ مَنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ وَحَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَمَا هُوَ مَطْلُوبُ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ .

فَإِنَّ اللَّذَّةَ وَالْفَرْحَةَ وَالسُّرُورَ وَطِيبَ الْوَقْتِ وَالنَّعِيمَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ : وَانْفِتَاحِ الْحَقَائِقِ الْإِيمَانِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ الْقُرْآنِيَّةِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ : لَقَدْ كُنْت فِي حَالٍ أَقُولُ فِيهَا : إنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ إنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ . وَقَالَ آخَرُ : لَتَمُرُّ عَلَى الْقَلْبِ أَوْقَاتٌ يَرْقُصُ فِيهَا طَرَبًا وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا نَعِيمٌ يُشْبِهُ نَعِيمَ الْآخِرَةِ إلَّا نَعِيمَ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ . وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " { أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ يَا بِلَالُ } وَلَا يَقُولُ : أَرِحْنَا مِنْهَا كَمَا يَقُولُهُ مَنْ تَثْقُلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } وَالْخُشُوعُ : الْخُضُوعُ لِلَّهِ تَعَالَى وَالسُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ إلَيْهِ بِالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ } ثُمَّ يَقُولُ : { وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ } وَلَمْ يَقُلْ : { حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ } كَمَا يَرْفَعُهُ بَعْضُ النَّاسِ بَلْ هَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَالنَّسَائِي أَنَّ الْمُحَبَّبَ إلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ . وَأَمَّا قُرَّةُ الْعَيْنِ تَحْصُلُ بِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ وَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ . وَالْقُلُوبُ فِيهَا وَسْوَاسُ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانُ يَأْمُرُ بِالشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ طِيبَ عَيْشِهَا فَمَنْ كَانَ مُحِبًّا لِغَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ مُعَذَّبٌ فِي الدُّنْيَا

وَالْآخِرَةِ ؛ إنْ نَالَ مُرَادَهُ عُذِّبَ بِهِ ؛ وَإِنْ لَمْ يَنَلْهُ فَهُوَ فِي الْعَذَابِ وَالْحَسْرَةِ وَالْحُزْنِ . وَلَيْسَ لِلْقُلُوبِ سُرُورٌ وَلَا لَذَّةٌ تَامَّةٌ إلَّا فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ بِمَا يُحِبُّهُ وَلَا تُمْكِنُ مَحَبَّتُهُ إلَّا بِالْإِعْرَاضِ عَنْ كُلِّ مَحْبُوبٍ سِوَاهُ وَهَذَا حَقِيقَةُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَهِيَ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَاةُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ : { قُولُوا : أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَدِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِلَّةِ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } . " وَالْحَنِيفُ " لِلسَّلَفِ فِيهِ ثَلَاثُ عِبَارَاتٍ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ : مُسْتَقِيمًا . وَقَالَ عَطَاءٌ : مُخْلِصًا . وَقَالَ آخَرُونَ : مُتَّبِعًا . فَهُوَ مُسْتَقِيمُ الْقَلْبِ إلَى اللَّهِ دُونَ مَا سِوَاهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : فَلَمْ يَلْتَفِتُوا عَنْهُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً . فَلَمْ يَلْتَفِتُوا بِقُلُوبِهِمْ إلَى مَا سِوَاهُ لَا بِالْحُبِّ وَلَا بِالْخَوْفِ وَلَا بِالرَّجَاءِ ؛ وَلَا بِالسُّؤَالِ ؛ وَلَا بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ ؛ بَلْ لَا يُحِبُّونَ إلَّا اللَّهَ وَلَا يُحِبُّونَ مَعَهُ أَنْدَادًا وَلَا يُحِبُّونَ إلَّا إيَّاهُ ؛ لَا لِطَلَبِ مَنْفَعَةٍ وَلَا لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ وَلَا يَخَافُونَ غَيْرَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ وَلَا يَسْأَلُونَ غَيْرَهُ وَلَا يَتَشَرَّفُونَ

بِقُلُوبِهِمْ إلَى غَيْرِهِ . وَلِهَذَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُتَشَرِّفٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَك } - فَالسَّائِلُ بِلِسَانِهِ وَالْمُتَشَرِّفُ بِقَلْبِهِ - مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ؛ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ ؛ وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ } مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ . فَالْغِنَى فِي الْقَلْبِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْمَالِ ؛ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ } . " وَالْعَفِيفُ " الَّذِي لَا يَسْأَلُ بِلِسَانِهِ لَا نَصْرًا وَلَا رِزْقًا قَالَ تَعَالَى : { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إنِ الْكَافِرُونَ إلَّا فِي غُرُورٍ } { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ . وَقَالَ تَعَالَى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } أَيْ : لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ ؛ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ . فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ حُسْنِ تَدْبِيرِهِ لِعَبْدِهِ وَتَيْسِيرِهِ لَهُ أَسْبَابَ الْخَيْرِ مِنْ الْهُدَى لِلْقُلُوبِ وَالزُّلْفَى لَدَيْهِ وَالتَّبْصِيرِ : يَدْفَعُ عَنْهُ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مَا لَا تَبْلُغُ الْعِبَادُ قَدْرَهُ . وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ . وَأَكْثَرُ النَّاسِ

لَا يَعْرِفُونَ حَقَائِقَ مَا جَاءَ بِهِ ؛ إنَّمَا عِنْدَهُمْ قِسْطٌ مِنْ ذَلِكَ . { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } وَالْجِهَادُ يُوجِبُ هِدَايَةَ السَّبِيلِ إلَيْهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } . فَكُلُّ مَنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ فَإِنَّ اللَّهَ حَسْبُهُ ؛ أَيْ كَافِيهِ وَهَادِيهِ وَنَاصِرُهُ ؛ أَيْ : كَافِيهِ كِفَايَتَهُ وَهِدَايَتَهُ وَنَاصِرُهُ وَرَازِقُهُ . فَالْإِنْسَانُ ظَالِمٌ جَاهِلٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ } إلَى قَوْلِهِ : { ظَلُومًا جَهُولًا } وَإِنَّمَا غَايَةُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ التَّوْبَةُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } وَتَوْبَةُ كُلِّ إنْسَانٍ بِحَسَبِهِ وَعَلَى قَدْرِ مَقَامِهِ وَحَالِهِ . وَلِهَذَا كَانَ الدِّينُ مَجْمُوعًا فِي التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ قَالَ تَعَالَى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ } فَفِعْلُ جَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ جَمِيعِ الْمَحْظُورَاتِ يَدْخُلُ فِي التَّوْحِيدِ فِي قَوْلِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ الطَّاعَاتِ لِلَّهِ وَيَتْرُكْ الْمَعَاصِيَ لِلَّهِ : لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ عَمَلَهُ قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } قَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ : التَّقْوَى : أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ

مِنْ اللَّهِ تَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ ؛ وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ تَخَافُ عَذَابَ اللَّهِ . وَلَا بُدَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ بِحَسَبِ حَالِهِ . وَالْعَبْدُ إذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالتَّوْحِيدِ فَشَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ - وَالْإِلَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ غَايَةَ الْحُبِّ وَالْعُبُودِيَّةِ بِالْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ يَفْنَى الْقَلْبُ بِحُبِّ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ حُبِّ مَا سِوَاهُ وَدُعَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَسُؤَالِهِ عَمَّا سِوَاهُ وَبِطَاعَتِهِ عَنْ طَاعَةِ مَا سِوَاهُ - حَلَّاهُ اللَّهُ بِالْأَمْنِ وَالسُّرُورِ وَالْحُبُورِ وَالرَّحْمَةِ لِلْخَلْقِ ؛ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؛ فَهُوَ يُجَاهِدُ وَيَرْحَمُ . لَهُ الصَّبْرُ وَالرَّحْمَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } وَكُلَّمَا قَوِيَ التَّوْحِيدُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ قَوِيَ إيمَانُهُ وَطُمَأْنِينَتُهُ وَتَوَكُّلُهُ وَيَقِينُهُ .
وَالْخَوْفُ الَّذِي يَحْصُلُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ هُوَ الشِّرْكُ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ } . وَكَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ فِي قِصَّةِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتُحَاجُّونَنِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي إلَى قَوْلِهِ : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيلَةِ

تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ } . فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ رِيَاسَةٌ لِمَخْلُوقِ فَفِيهِ مِنْ عُبُودِيَّتِهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ . فَلَمَّا خَوَّفُوا خَلِيلَهُ بِمَا يَعْبُدُونَهُ وَيُشْرِكُونَ بِهِ - الشِّرْكَ الْأَكْبَرَ كَالْعِبَادَةِ - قَالَ الْخَلِيلُ : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } يَقُولُ : إنْ تُطِيعُوا غَيْرَ اللَّهِ وَتَعْبُدُوا غَيْرَهُ وَتُكَلِّمُونِ فِي دِينِهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا : فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ؟ أَيْ تُشْرِكُونَ بِاَللَّهِ وَلَا تَخَافُونَهُ وَتُخَوِّفُونِي أَنَا بِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْأَمْنَ إلَى قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } أَيْ : هَؤُلَاءِ الْمُوَحِّدُونَ الْمُخْلِصُونَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد لِبَعْضِ النَّاسِ : لَوْ صَحَحْت لَمْ تَخَفْ أَحَدًا . وَلَكِنْ لِلشَّيْطَانِ وَسْوَاسٌ فِي قُلُوبِ النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } إلَى قَوْله تَعَالَى { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَخْرُصُونَ } أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عَدُوٍّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوَسْوِسَونَ الْقَوْلَ الْمُزَخْرَفَ وَنَهَى أَنْ يَطْلُبَ حُكْمًا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي

أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا } وَالْكِتَابُ : هُوَ الْحَاكِمُ بَيْنَ النَّاسِ شَرْعًا وَدِينًا وَيَنْصُرُ الْقَائِمَ نَصْرًا وَقَدَرًا . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا } إلَى قَوْلِهِ : { وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : " { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } وَ " الْمِيزَانُ " هُوَ : الْعَدْلُ وَمَا بِهِ يُعْرَفُ الْعَدْلُ وَأَنْزَلَ الْحَدِيدَ لِيَنْصُرَ الْكِتَابَ ؛ فَإِنْ قَامَ صَاحِبُهُ بِذَلِكَ كَانَ سَعِيدًا مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ نَصَرَ الْكِتَابَ بِأَمْرِ مِنْ عِنْدِهِ ؛ وَانْتَقَمَ مِمَّنْ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْكِتَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . { وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ : { إنَّ اللَّهَ مَعَنَا } } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } . وَكُلُّ مَنْ وَافَقَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرٍ خَالَفَ فِيهِ غَيْرَهُ فَهُوَ مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ذَلِكَ ؛ وَلَهُ نَصِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ : { لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا } فَإِنَّ الْمَعِيَّةَ الْإِلَهِيَّةَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِلنَّصْرِ هِيَ لِمَا جَاءَ بِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ وَهَذَا قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَقَدْ رَأَيْنَا مِنْ ذَلِكَ وَجَرَّبْنَا مَا يَطُولُ وَصْفُهُ . وَقَالَ تَعَالَى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }.

وَقَالَ تَعَالَى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } { إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } فَمَنْ شَنَأَ شَيْئًا مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهُ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبٌ ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ لَمَّا قِيلَ لَهُ : إنَّ بِالْمَسْجِدِ أَقْوَامًا يَجْلِسُونَ وَيَجْلِسُ النَّاسُ إلَيْهِمْ فَقَالَ : مَنْ جَلَسَ لِلنَّاسِ جَلَسَ النَّاسُ إلَيْهِ ؛ لَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَبْقَوْنَ وَيَبْقَى ذِكْرُهُمْ وَأَهْلَ الْبِدْعَةِ يَمُوتُونَ وَيَمُوتُ ذِكْرُهُمْ . وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْبِدْعَةِ شَنَئُوا بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبْتَرَهُمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ وَاَلَّذِينَ أَعْلَنُوا مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } فَإِنَّ مَا أَكَرَمَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَابِعِينَ نَصِيبٌ بِقَدْرِ إيمَانِهِمْ . فَمَا كَانَ مِنْ خَصَائِصِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ فَلَمْ يُشَارِكْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ وَمَا كَانَ مِنْ ثَوَابِ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَلِكُلِّ مُؤْمِنٍ نَصِيبٌ بِقَدْرِ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ ؛ وَبِالْيَدِ وَاللِّسَانِ ؛ وَهَذَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ لَكِنَّ الْجِهَادَ الْمَكِّيَّ بِالْعِلْمِ وَالْبَيَانِ ؛ وَالْجِهَادَ الْمَدَنِيَّ مَعَ الْمَكِّيِّ بِالْيَدِ وَالْحَدِيدِ قَالَ تَعَالَى : { فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا } وَ " سُورَةُ الْفُرْقَانِ " مَكِّيَّةٌ وَإِنَّمَا جَاهَدَهُمْ بِاللِّسَانِ وَالْبَيَانِ ؛ وَلَكِنْ يَكُفُّ عَنْ الْبَاطِلِ وَإِنَّمَا قَدْ بَيَّنَ فِي الْمَكِّيَّةِ . { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى

نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } . وَقَالَ تَعَالَى : { الم } { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : أَنَّهُ أَرْسَلَ رُسُلَهُ . وَالنَّاسُ رَجُلَانِ : رَجُلٌ يَقُولُ : أَنَا مُؤْمِنٌ بِهِ مُطِيعُهُ ؛ فَهَذَا لَا بُدَّ أَنْ يُمْتَحَنَ حَتَّى يُعْلَمَ صِدْقُهُ مِنْ كَذِبِهِ . وَرَجُلٌ مُقِيمٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ؛ فَهَذَا قَدْ عَمِلَ السَّيِّئَاتِ فَلَا يَظُنُّ أَنْ يَسْبِقُونَا بَلْ لَا بُدَّ أَنْ نَأْخُذَهُمْ . وَمَا لِأَحَدِ مِنْ خُرُوجٍ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ . قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ } إلَى قَوْلِهِ : { لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَ مَنْ يُجَادِلُ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ ؛ وَالْعِلْمُ : هُوَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ : السُّلْطَانُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } فَمَنْ تَكَلَّمَ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُتَكَلِّمًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَمَنْ تَوَلَّاهُ الشَّيْطَانُ فَإِنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلَى عَذَابِ السَّعِيرِ وَمَنْ انْقَادَ لِدِينِ اللَّهِ فَقَدَ عَبَدَ اللَّهَ بِالْيَقِينِ بَلْ إنْ أَصَابَهُ مَا يَهْوَاهُ اسْتَمَرَّ

وَإِنْ أَصَابَهُ مَا يُخَالِفُ هَوَاهُ رَجَعَ وَقَدْ عَبَدَ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ وَ " الْحَرْفُ " هُوَ : الْجَانِبُ كَحَرْفِ الرَّغِيفِ وَحَرْفِ الْجَبَلِ لَيْسَ مُسْتَقِرًّا بِثَبَاتِ { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ } فِي الدُّنْيَا { اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ } أَيْ : مِحْنَةٌ اُمْتُحِنَ بِهَا { انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } وَحَرْفُ الْجَبَلِ لَيْسَ مُسْتَقِرًّا بِالثَّبَاتِ مَعْنَاهُ : خَسِرَ الدُّنْيَا بِمَا اُمْتُحِنَ بِهِ وَخَسِرَ الْآخِرَةَ بِرُجُوعِهِ عَنْ الدِّينِ { يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ } الْآيَةَ . أَيْ : يَدْعُو الْمَخْلُوقِينَ ؛ يَخَافُهُمْ وَيَرْجُوهُمْ وَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لَهُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا بَلْ ضَرُّهُمْ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِمْ ؛ وَإِنْ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَسْلَمَ وَكَانَ مُشْرِكًا فَحُكْمُهَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ تَنَاوَلَهُ لَفْظُهَا وَمَعْنَاهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . فَكُلُّ مَنْ دَعَا غَيْرَ اللَّهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ وَالْعِيَانُ يُصَدِّقُ هَذَا ؛ فَإِنَّ الْمَخْلُوقِينَ إذَا اشْتَكَى إلَيْهِمْ الْإِنْسَانُ فَضَرَرُهُمْ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِمْ وَالْخَالِقَ - جَلَّ جَلَالُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ وَلَا إلَهَ غَيْرُهُ - إذَا اشْتَكَى إلَيْهِ الْمَخْلُوقُ وَأَنْزَلَ حَاجَتَهُ بِهِ وَاسْتَغْفَرَهُ مِنْ ذُنُوبِهِ : أَيَّدَهُ وَقَوَّاهُ وَهَدَاهُ وَسَدَّ فَاقَتَهُ وَأَغْنَاهُ وَقَرَّبَهُ وَأَقْنَاهُ وَحَبَّهُ وَاصْطَفَاهُ وَالْمَخْلُوقُ إذَا أَنْزَلَ الْعَبْدُ بِهِ حَاجَتَهُ اسْتَرْذَلَهُ وَازْدَرَاهُ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَإِنْ قَضَى لَهُ بِبَعْضِ مَطْلَبِهِ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ مِنْ بَعْضِ رعاياه يَسْتَعْبِدُهُ بِمَا يَهْوَاهُ قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ

وَاشْكُرُوا لَهُ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ كَتَبْت فِيهِ شَيْئًا كَثِيرًا وَعَرَفْته : عِلْمًا وَذَوْقًا وَتَجْرِبَةً .
فَصْلٌ :
وَفِي " الْجُمْلَةِ " مَا يُبَيِّنُ نِعَمَ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيَّ وَأَنَا فِي هَذَا الْمَكَانِ أَعْظَمُ قَدْرًا وَأَكْثَرُ عَدَدًا مَا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ وَأَكْثَرُ مَا يَنْقُصُ عَلَيَّ الْجَمَاعَةُ فَأَنَا أُحِبُّ لَهُمْ أَنْ يَنَالُوا مِنْ اللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ وَالنَّعِيمِ مَا تَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُهُمْ وَأَنْ يُفْتَحَ لَهُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ مَا يَصِلُونَ بِهِ إلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ وَأُعَرِّفُ أَكْثَرَ النَّاسِ قَدْرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالذَّوْقِ وَالْوَجْدِ لَكِنْ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلَّا لَهُ نَصِيبٌ مِنْ ذَلِكَ وَيَسْتَدِلُّ مِنْهُ بِالْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ وَإِنْ كَانَ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ الْكَبِيرَ وَأَنَا أَعْرِفُ أَحْوَالَ النَّاسِ وَالْأَجْنَاسِ وَاللَّذَّاتِ . وَأَيْنَ الدُّرُّ مِنْ الْبَعْرِ ؟ وَأَيْنَ الفالوذج مِنْ الدِّبْسِ ؟ وَأَيْنَ الْمَلَائِكَةُ مِنْ الْبَهِيمَةِ أَوْ الْبَهَائِمِ ؟ لَكِنْ أَعْرِفُ أَنَّ حِكْمَةَ

اللَّهِ وَحُسْنَ اخْتِيَارِهِ وَلُطْفَهُ وَرَحْمَتَهُ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَيُجَاهِدَ فِي سَبِيلِهِ - عِلْمًا وَعَمَلًا بِحَسَبِ طَاقَتِهِ لِيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ وَيَكُونَ مَقْصُودُهُ أَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَلَا يَكُونُ حُبُّهُ وَبُغْضُهُ وَمُعَادَاتُهُ وَمَدْحُهُ وَذَمُّهُ إلَّا لِلَّهِ - لَا لِشَخْصِ مُعَيَّنٍ . وَالْهَادِي الْمُطْلَقُ الَّذِي يَهْدِي إلَى كُلِّ خَيْرٍ - وَكُلُّ أَحَدٍ مُحْتَاجٌ إلَى هِدَايَتِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ - هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَفْضَلُ أُمَّتِهِ أَفْضَلُهُمْ مُتَابَعَةً لَهُ وَهَذَا يَكُونُ بِالْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ وَالْجِهَادِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } إلَى قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ :
أَوَّلُهَا : أَنْ يُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ .
وَثَانِيهَا : لَا يَرْتَابُ بَعْدَ ذَلِكَ : أَنْ يَكُونَ مُوقِنًا ثَابِتًا ؛ وَالْيَقِينُ يُخَالِفُ الرَّيْبَ وَالرَّيْبُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يَكُونُ شَكًّا لِنَقْصِ الْعِلْمِ . وَنَوْعٌ يَكُونُ اضْطِرَابًا فِي الْقَلْبِ . وَكِلَاهُمَا لِنَقْصِ الْحَالِ الْإِيمَانِيِّ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عِلْمِ الْقَلْبِ وَلَيْسَ كُلُّ مَكَانٍ يَكُونُ لَهُ عِلْمٌ يَعْلَمُهُ . وَعَمَلُ الْقَلْبِ أَوْ بَصِيرَتُهُ وَثَبَاتُهُ وَطُمَأْنِينَتُهُ وَسَكِينَتُهُ وَتَوَكُّلُهُ وَإِخْلَاصُهُ وَإِنَابَتُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ : يُقَالُ : رَابَنِي كَذَا وَكَذَا

يَرِيبُنِي أَيْ حَرَّكَ قَلْبِي وَمِنْهُ الْحَدِيثُ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَرَّ بِظَبْيٍ حَاقِفٍ فَقَالَ : لَا يَرِيبُهُ أَحَدٌ } أَيْ : لَا يُحَرِّكُهُ أَحَدٌ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك } فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَالْكَذِبَ رِيبَةٌ ؛ فَإِنَّ الصَّادِقَ مَنْ لَا يَقْلَقُ قَلْبُهُ وَالْكَاذِبَ يَقْلَقُ قَلْبُهُ وَلَيْسَ هُنَاكَ شَكٌّ بَلْ يَعْلَمُ أَنَّ الرَّيْبَ أَعَمُّ مِنْ الشَّكِّ . وَلِهَذَا فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ : " { اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِك مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعْصِيَتِك } الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ . وَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِي عَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : " { سَلُوا اللَّهَ الْيَقِينَ وَالْعَافِيَةَ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْطَ خَيْرٌ مِنْ الْيَقِينِ وَالْعَافِيَةِ فَاسْأَلُوهَا اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى } وَالْعَرَبُ تَقُولُ : مَاءٌ يَقِنٌ إذَا كَانَ سَاكِنًا لَا يَتَحَرَّكُ . فَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ مُطَمْئِنٌ لَا يَكُونُ فِيهِ رَيْبٌ . هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " { أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهْطًا وَلَمْ يُعْطِ رَجُلًا وَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُمْ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَك عَنْ فُلَانٍ ؟ فَوَاَللَّهِ إنِّي أَرَاهُ مُؤْمِنًا قَالَ : أَوْ مُسْلِمًا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ : إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ } . وَلِهَذَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ : الْإِسْلَامُ دَائِرَةٌ

كَبِيرَةٌ وَالْإِيمَانُ دَائِرَةٌ فِي وَسَطِهَا ؛ فَإِذَا زَنَى الْعَبْدُ خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ : كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . وَهَذَا أَظْهَرُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ : إنَّ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابَ الَّذِينَ قَالُوا : أَسْلَمْنَا وَنَحْوَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ الْمُتَقَدِّمُ فِي قُلُوبِهِمْ يُثَابُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } وَهْم لَيْسُوا بِكُفَّارِ وَلَا مُنَافِقِينَ : بَلْ لَمْ يَبْلُغُوا حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَكَمَالَهُ فَنُفِيَ عَنْهُمْ كَمَالُ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَإِنْ كَانُوا يَدْخُلُونَ فِي الْإِيمَانِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } وَقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ } وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ . وَالْمَقْصُودُ إخْبَارُ الْجَمَاعَةِ بِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْنَا فَوْقَ مَا كَانَتْ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ وَنَحْنُ بِحَمْدِ اللَّهِ فِي زِيَادَةٍ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ خِدْمَةُ الْجَمَاعَةِ بِاللِّقَاءِ فَأَنَا دَاعٍ لَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ؛ قِيَامًا بِبَعْضِ الْوَاجِبِ مِنْ حَقِّهِمْ ؛ وَتَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي مُعَامَلَتِهِ فِيهِمْ وَاَلَّذِي آمُرُ بِهِ كُلَّ شَخْصٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ وَيَعْمَلَ لِلَّهِ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَيَقْصِدَ بِذَلِكَ أَنْ

تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعَلْيَاءَ وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَيَكُونَ دُعَاؤُهُ وَغَيْرِهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ : { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ؛ وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ ؛ وَانْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّك وَعَدُوِّهِمْ ؛ وَاهْدِهِمْ سُبُلَ السَّلَامِ ؛ وَأَخْرِجْهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ ؛ وَجَنِّبْهُمْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ؛ وَبَارِكْ لَهُمْ فِي أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ مَا أَبْقَيْتهمْ . وَاجْعَلْهُمْ شَاكِرِينَ لِنِعَمِك مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْك ؛ قَابِلِيهَا وَأَتْمِمْهَا عَلَيْهِمْ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ . اللَّهُمَّ اُنْصُرْ كِتَابَك وَدِينَك وَعِبَادَك الْمُؤْمِنِينَ ؛ وَأَظْهِرْ الْهُدَى وَدِينَ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثْت بِهِ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ . اللَّهُمَّ عَذِّبْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِك وَيُبَدِّلُونَ دِينَك وَيُعَادُونَ الْمُؤْمِنِينَ . اللَّهُمَّ خَالِفْ كَلِمَتَهُمْ وَشَتِّتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ؛ وَاجْعَلْ تَدْمِيرَهُمْ فِي تَدْبِيرِهِمْ ؛ وَأَدِرْ عَلَيْهِمْ دَائِرَةَ السَّوْءِ . اللَّهُمَّ أَنْزِلْ بِهِمْ بَأْسَك الَّذِي لَا يُرَدُّ عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ . اللَّهُمَّ مُجْرِيَ السَّحَابِ وَمُنْزِلَ الْكِتَابِ وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ . رَبَّنَا أَعِنَّا وَلَا تُعِنْ عَلَيْنَا . وَانْصُرْنَا وَلَا تَنْصُرْ عَلَيْنَا وَامْكُرْ لَنَا وَلَا تَمْكُرْ عَلَيْنَا ؛ وَاهْدِنَا وَيَسِّرْ الْهُدَى لَنَا ؛ وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْنَا . رَبَّنَا اجْعَلْنَا لَك شَاكِرِينَ مُطَاوِعِينَ مُخْبِتِينَ ؛ أَوَّاهِينَ مُنِيبِينَ . رَبَّنَا تَقَبَّلْ تَوْبَتَنَا ؛ وَاغْسِلْ حَوْبَتَنَا وَثَبِّتْ حُجَّتَنَا ؛ وَاهْدِ قُلُوبَنَا ؛ وَسَدِّدْ أَلْسِنَتَنَا

وَاسْلُلْ سَخَائِمَ صُدُورِنَا } . وَهَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ إفْرَادٍ وَصَحَّحَهُ وَهُوَ مِنْ أَجْمَعِ الْأَدْعِيَةِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُ شَرْحٌ عَظِيمٌ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ نَاصِرِ السُّنَّةِ وَخَاذِلِ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْغِرَّةِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .

وَكَتَبَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ فِي السِّجْنِ : (*)
وَنَحْنُ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ - فِي نِعَمٍ عَظِيمَةٍ تَتَزَايَدُ كُلَّ يَوْمٍ وَيُجَدِّدُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ نِعَمِهِ نِعَمًا أُخْرَى ؛ وَخُرُوجُ الْكُتُبِ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ فَإِنِّي كُنْت حَرِيصًا عَلَى خُرُوجِ شَيْءٍ مِنْهَا لِتَقِفُوا عَلَيْهِ وَهُمْ كَرِهُوا خُرُوجَ " الإخنائية " فَاسْتَعْمَلَهُمْ اللَّهُ فِي إخْرَاجِ الْجَمِيعِ ؛ وَإِلْزَامِ الْمُنَازِعِينَ بِالْوُقُوفِ عَلَيْهِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ كَانَتْ خَفِيَّةً عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ . فَإِذَا ظَهَرَتْ فَمَنْ كَانَ قَصْدُهُ الْحَقَّ هَدَاهُ اللَّهُ ؛ وَمَنْ كَانَ قَصْدُهُ الْبَاطِلَ قَامَتْ عَلَيْهِ حُجَّةُ اللَّهِ ؛ وَاسْتَحَقَّ أَنْ يُذِلَّهُ اللَّهُ وَيُخْزِيَهُ وَمَا كَتَبْت شَيْئًا مِنْ هَذَا لِيُكْتَمَ عَنْ أَحَدٍ وَلَوْ كَانَ مُبْغِضًا . وَالْأَوْرَاقُ الَّتِي فِيهَا جَوَابَاتُكُمْ وَصَلَتْ وَأَنَا طَيِّبٌ وَعَيْنَايَ طَيِّبَتَانِ أَطْيَبَ مَا كَانَتَا . وَنَحْنُ فِي نِعَمٍ عَظِيمَةٍ لَا تُحْصَى وَلَا تُعَدُّ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ . ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا وَقَالَ : كُلُّ مَا يَقْضِيهِ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ الْخَيْرُ وَالرَّحْمَةُ

وَالْحِكْمَةُ ؛ إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إنَّهُ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَلَا يُدْخَلُ عَلَى أَحَدٍ ضَرَرٌ إلَّا مِنْ ذُنُوبِهِ { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } فَالْعَبْدُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ وَيَحْمَدَهُ دَائِمًا عَلَى كُلِّ حَالٍ . وَيَسْتَغْفِرَ مِنْ ذُنُوبِهِ . فَالشُّكْرُ يُوجِبُ الْمَزِيدَ مِنْ النِّعَمِ وَالِاسْتِغْفَارُ يَدْفَعُ النِّقَمَ . وَلَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ : إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ ؛ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ .
كِتَابُ الشَّيْخِ إلَى وَالِدَتِهِ يَقُولُ فِيهِ :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مِنْ أَحْمَد بْنِ تَيْمِيَّة إلَى الْوَالِدَةِ السَّعِيدَةِ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَيْهَا بِنِعَمِهِ وَأَسْبَغَ عَلَيْهَا جَزِيلَ كَرَمِهِ وَجَعَلَهَا مِنْ خِيَارِ إمَائِهِ وَخَدَمِهِ . سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ . وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ . فَإِنَّا نَحْمَدُ إلَيْكُمْ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهُوَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .

كِتَابِي إلَيْكُمْ عَنْ نِعَمٍ مِنْ اللَّهِ عَظِيمَةٍ وَمِنَنٍ كَرِيمَةٍ وَآلَاءٍ جَسِيمَةٍ نَشْكُرُ اللَّهَ عَلَيْهَا وَنَسْأَلُهُ الْمَزِيدَ مِنْ فَضْلِهِ . وَنِعَمُ اللَّهِ كُلَّمَا جَاءَتْ فِي نُمُوٍّ وَازْدِيَادٍ وَأَيَادِيهِ جَلَّتْ عَنْ التَّعْدَادِ . وَتَعْلَمُونَ أَنَّ مُقَامَنَا السَّاعَةَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ إنَّمَا هُوَ لِأُمُورِ ضَرُورِيَّةٍ مَتَى أَهْمَلْنَاهَا فَسَدَ عَلَيْنَا أَمْرُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا . وَلَسْنَا وَاَللَّهِ مُخْتَارِينَ لِلْبُعْدِ عَنْكُمْ وَلَوْ حَمَلَتْنَا الطُّيُورُ لَسِرْنَا إلَيْكُمْ وَلَكِنَّ الْغَائِبَ عُذْرُهُ مَعَهُ وَأَنْتُمْ لَوْ اطَّلَعْتُمْ عَلَى بَاطِنِ الْأُمُورِ فَإِنَّكُمْ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - مَا تَخْتَارُونَ السَّاعَةَ إلَّا ذَلِكَ وَلَمْ نَعْزِمْ عَلَى الْمُقَامِ وَالِاسْتِيطَانِ شَهْرًا وَاحِدًا بَلْ كُلَّ يَوْمٍ نَسْتَخِيرُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ وَادْعُوا لَنَا بِالْخِيَرَةِ فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَخِيرَ لَنَا وَلَكُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ مَا فِيهِ الْخِيَرَةُ فِي خَيْرٍ وَعَافِيَةٍ . وَمَعَ هَذَا فَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ وَالْهِدَايَةِ وَالْبَرَكَةِ مَا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِالْبَالِ وَلَا يَدُورُ فِي الْخَيَالِ وَنَحْنُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَهْمُومُونَ بِالسَّفَرِ مُسْتَخِيرُونَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . فَلَا يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَا نُؤْثِرُ عَلَى قُرْبِكُمْ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا قَطُّ . بَلْ وَلَا نُؤْثِرُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ مَا يَكُونُ قُرْبُكُمْ أَرْجَحَ مِنْهُ . وَلَكِنْ ثَمَّ أُمُورٌ كِبَارٌ نَخَافُ الضَّرَرَ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ مِنْ إهْمَالِهَا . وَالشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ . وَالْمَطْلُوبُ كَثْرَةُ الدُّعَاءِ بِالْخِيَرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَلَا نَعْلَمُ وَيَقْدِرُ

وَلَا نَقْدِرُ وَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ اللَّهَ وَرِضَاهُ بِمَا يَقْسِمُ اللَّهُ لَهُ وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ : تَرْكُ اسْتِخَارَتِهِ اللَّهَ وَسُخْطُهُ بِمَا يَقْسِمُ اللَّهُ لَهُ } وَالتَّاجِرُ يَكُونُ مُسَافِرًا فَيَخَافُ ضَيَاعَ بَعْضِ مَالِهِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُقِيمَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ وَمَا نَحْنُ فِيهِ أَمْرٌ يُجَلُّ عَنْ الْوَصْفِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ كَثِيرًا كَثِيرًا وَعَلَى سَائِرِ مَنْ فِي الْبَيْتِ مِنْ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ وَسَائِرِ الْجِيرَانِ وَالْأَهْلِ وَالْأَصْحَابِ وَاحِدًا وَاحِدًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
وَقَالَ الشَّيْخُ :
بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ اللَّهَ - وَلَهُ الْحَمْدُ - قَدْ أَنْعَمَ عَلَيَّ مِنْ نِعَمِهِ الْعَظِيمَةِ وَمِنَنِهِ الْجَسِيمَةِ وَآلَائِهِ الْكَرِيمَةِ مَا هُوَ مُسْتَوْجِبٌ لِعَظِيمِ الشُّكْرِ وَالثَّبَاتِ عَلَى الطَّاعَةِ وَاعْتِيَادِ حُسْنِ الصَّبْرِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ . وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِالصَّبْرِ فِي السَّرَّاءِ أَعْظَمَ مِنْ الصَّبْرِ فِي الضَّرَّاءِ قَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } { إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }

وَتَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَنَّ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مِنْ الْمِنَنِ الَّتِي فِيهَا مِنْ أَسْبَابِ نَصْرِ دِينِهِ . وَعُلُوِّ كَلِمَتِهِ وَنَصْرِ جُنْدِهِ وَعَزَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَقُوَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَذُلِّ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ . وَتَقْرِيرِ مَا قُرِّرَ عِنْدَكُمْ مِنْ السُّنَّةِ وَزِيَادَاتٍ عَلَى ذَلِكَ بِانْفِتَاحِ أَبْوَابٍ مِنْ الْهُدَى وَالنَّصْرِ وَالدَّلَائِلِ وَظُهُورِ الْحَقِّ لِأُمَمِ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَإِقْبَالِ الْخَلَائِقِ إلَى سَبِيلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمِنَنِ مَا لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ عَظِيمِ الشُّكْرِ وَمِنْ الصَّبْرِ وَإِنْ كَانَ صَبْرًا فِي سَرَّاءَ . وَتَعْلَمُونَ أَنَّ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِمَاعِ الدِّينِ : تَأْلِيفَ الْقُلُوبِ وَاجْتِمَاعَ الْكَلِمَةِ وَصَلَاحَ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } وَيَقُولُ : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } وَيَقُولُ : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الَّتِي تَأْمُرُ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف وَتَنْهَى عَنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ . وَأَهْلُ هَذَا الْأَصْلِ : هُمْ أَهْلُ الْجَمَاعَةِ كَمَا أَنَّ الْخَارِجِينَ عَنْهُ هُمْ أَهْلُ الْفُرْقَةِ . وَجِمَاعُ السُّنَّةِ : طَاعَةُ الرَّسُولِ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي

الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " { إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا : أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أُمُورَكُمْ } . وَفِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيث زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ - فَقِيهَيْ الصَّحَابَةِ - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأَ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ . ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ : إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ . وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ } . وَقَوْلُهُ " لَا يُغِلُّ " أَيْ لَا يَحْقِدُ عَلَيْهِنَّ . فَلَا يُبْغِضُ هَذِهِ الْخِصَالَ قَلْبُ الْمُسْلِمِ بَلْ يُحِبُّهُنَّ وَيَرْضَاهُنَّ . وَأَوَّلُ مَا أَبْدَأُ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ : مَا يَتَعَلَّقُ بِي فَتَعْلَمُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْكُمْ - أَنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ يُؤْذَى أَحَدٌ مِنْ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ - فَضْلًا عَنْ أَصْحَابِنَا - بِشَيْءِ أَصْلًا لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا وَلَا عِنْدِي عَتْبٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ . وَلَا لَوْمٌ أَصْلًا بَلْ لَهُمْ عِنْدِي مِنْ الْكَرَامَةِ وَالْإِجْلَالِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا كَانَ كَلٌّ بِحَسَبِهِ وَلَا يَخْلُو

الرَّجُلُ . إمَّا أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا مُصِيبًا أَوْ مُخْطِئًا أَوْ مُذْنِبًا . فَالْأَوَّلُ : مَأْجُورٌ مَشْكُورٌ . وَالثَّانِي مَعَ أَجْرِهِ عَلَى الِاجْتِهَادِ : فَمَعْفُوٌّ عَنْهُ مَغْفُورٌ لَهُ . وَالثَّالِثُ : فَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُ وَلِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ . فَنَطْوِي بِسَاطَ الْكَلَامِ الْمُخَالِفِ لِهَذَا الْأَصْلِ . كَقَوْلِ الْقَائِلِ : فُلَانٌ قَصَّرَ فُلَانٌ مَا عَمِلَ فُلَانٌ أُوذِيَ الشَّيْخُ بِسَبَبِهِ فُلَانٌ كَانَ سَبَبَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فُلَانٌ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي كَيْدِ فُلَانٍ . وَنَحْوَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي فِيهَا مَذَمَّةٌ لِبَعْضِ الْأَصْحَابِ وَالْإِخْوَانِ . فَإِنِّي لَا أُسَامِحُ مَنْ أَذَاهُمْ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . بَلْ مِثْلُ هَذَا يَعُودُ عَلَى قَائِلِهِ بِالْمَلَامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ حَسَنَةٍ وَمِمَّنْ يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ إنْ شَاءَ . وَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ . وَتَعْلَمُونَ أَيْضًا : أَنَّ مَا يَجْرِي مِنْ نَوْعِ تَغْلِيظٍ أَوْ تَخْشِينٍ عَلَى بَعْضِ الْأَصْحَابِ وَالْإِخْوَانِ : مَا كَانَ يَجْرِي بِدِمَشْقَ وَمِمَّا جَرَى الْآنَ بِمِصْرِ فَلَيْسَ ذَلِكَ غَضَاضَةً وَلَا نَقْصًا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ وَلَا حَصَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ تَغَيُّرٌ مِنَّا وَلَا بُغْضٌ . بَلْ هُوَ بَعْدَ مَا عُومِلَ بِهِ مِنْ التَّغْلِيظِ وَالتَّخْشِينِ أَرْفَعُ قَدْرًا وَأَنْبَهُ ذِكْرًا وَأَحَبُّ وَأَعْظَمُ وَإِنَّمَا هَذِهِ الْأُمُورُ هِيَ مِنْ مَصَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي يُصْلِحُ اللَّهُ بِهَا بَعْضَهُمْ بِبَعْضِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْيَدَيْنِ تَغْسِلُ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى . وَقَدْ لَا

يَنْقَلِعُ الْوَسَخُ إلَّا بِنَوْعِ مِنْ الْخُشُونَةِ ؛ لَكِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ مِنْ النَّظَافَةِ وَالنُّعُومَةِ مَا نَحْمَدُ مَعَهُ ذَلِكَ التَّخْشِينَ . وَتَعْلَمُونَ : أَنَّا جَمِيعًا مُتَعَاوِنُونَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاجِبٌ عَلَيْنَا نَصْرُ بَعْضِنَا بَعْضًا أَعْظَمَ مِمَّا كَانَ وَأَشَدَّ . فَمَنْ رَامَ أَنْ يُؤْذِيَ بَعْضَ الْأَصْحَابِ أَوْ الْإِخْوَانِ لِمَا قَدْ يَظُنُّهُ مِنْ نَوْعِ تَخْشِينٍ - عُومِلَ بِهِ بِدِمَشْقَ أَوْ بِمِصْرِ السَّاعَةَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - فَهُوَ الغالط . وَكَذَلِكَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَبْخَلُونَ عَمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنْ التَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ فَقَدْ ظَنَّ ظَنَّ سُوءٍ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا وَمَا غَابَ عَنَّا أَحَدٌ مِنْ الْجَمَاعَةِ أَوْ قَدِمَ إلَيْنَا السَّاعَةَ أَوْ قَبْلَ السَّاعَةِ إلَّا وَمَنْزِلَتُهُ عِنْدَنَا الْيَوْمَ أَعْظَمُ مِمَّا كَانَتْ وَأَجَلُّ وَأَرْفَعُ . وَتَعْلَمُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْكُمْ - : أَنَّ مَا دُونَ هَذِهِ الْقَصِيَّةِ مِنْ الْحَوَادِثِ يَقَعُ فِيهَا مِنْ اجْتِهَادِ الْآرَاءِ وَاخْتِلَافِ الْأَهْوَاءِ وَتَنَوُّعِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ - مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ - مَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعَرَّى عَنْهُ نَوْعُ الْإِنْسَانِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } بَلْ أَنَا أَقُولُ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ - تَنْبِيهًا بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى

وَبِالْأَقْصَى عَلَى الْأَدْنَى - فَأَقُولُ : تَعْلَمُونَ كَثْرَةَ مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مِنْ الْأَكَاذِيبِ الْمُفْتَرَاةِ وَالْأَغَالِيطِ الْمَظْنُونَةِ وَالْأَهْوَاءِ الْفَاسِدَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ يُجَلُّ عَنْ الْوَصْفِ . وَكُلُّ مَا قِيلَ : مِنْ كَذِبٍ وَزُورٍ فَهُوَ فِي حَقِّنَا خَيْرٌ وَنِعْمَةٌ . قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } . وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ مِنْ نُورِ الْحَقِّ وَبُرْهَانِهِ مَا رَدَّ بِهِ إفْكَ الْكَاذِبِ وَبُهْتَانَهُ . فَلَا أُحِبُّ أَنْ يُنْتَصَرَ مِنْ أَحَدٍ بِسَبَبِ كَذِبِهِ عَلَيَّ أَوْ ظُلْمِهِ وَعُدْوَانِهِ فَإِنِّي قَدْ أَحْلَلْت كُلَّ مُسْلِمٍ . وَأَنَا أُحِبُّ الْخَيْرَ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ وَأُرِيدُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ الْخَيْرِ مَا أُحِبُّهُ لِنَفْسِي . وَاَلَّذِينَ كَذَبُوا وَظَلَمُوا فَهُمْ فِي حِلٍّ مِنْ جِهَتِي . وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ فَإِنْ تَابُوا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَإِلَّا فَحُكْمُ اللَّهِ نَافِذٌ فِيهِمْ فَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ مَشْكُورًا عَلَى سُوءِ عَمَلِهِ لَكُنْت أَشْكُرُ كُلَّ مَنْ كَانَ سَبَبًا فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَنْ خَيْرِ الدُّنْيَا

وَالْآخِرَةِ ؛ لَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَشْكُورُ عَلَى حُسْنِ نِعَمِهِ وَآلَائِهِ وَأَيَادِيهِ الَّتِي لَا يُقْضَى لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءٌ إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ . وَأَهْلُ الْقَصْدِ الصَّالِحِ يُشْكَرُونَ عَلَى قَصْدِهِمْ وَأَهْلُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ يُشْكَرُونَ عَلَى عَمَلِهِمْ وَأَهْلُ السَّيِّئَاتِ نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ . وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ هَذَا مِنْ خُلُقِي . وَالْأَمْرُ أَزْيَدُ مِمَّا كَانَ وَأَوْكَدُ لَكِنَّ حُقُوقَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَحُقُوقَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ هُمْ فِيهَا تَحْتَ حُكْمِ اللَّهِ . وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الصِّدِّيقَ الْأَكْبَرَ فِي قَضِيَّةِ الْإِفْكِ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا الْقُرْآنَ حَلَفَ لَا يَصِلُ مِسْطَحَ بْنَ أُثَاثَةَ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي الْإِفْكِ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فَلَمَّا نَزَلَتْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : بَلَى وَاَللَّهِ إنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي . فَأَعَادَ إلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ . وَمَعَ مَا ذُكِرَ مِنْ الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ وَأَمْثَالِهِ وَأَضْعَافِهِ وَالْجِهَادِ عَلَى مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ

يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } { إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } . والسلام عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
وَكَتَبَ أَيْضًا : (*)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَنَحْنُ لِلَّهِ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ فِي نِعَمٍ مُتَزَايِدَةٍ مُتَوَافِرَةٍ وَجَمِيعُ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ فِيهِ نَصْرُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ الْعِظَامِ . { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } فَإِنَّ الشَّيْطَانَ اسْتَعْمَلَ حِزْبَهُ فِي إفْسَادِ دِينِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ . وَمِنْ سُنَّةِ اللَّهِ : أَنَّهُ إذَا أَرَادَ إظْهَارَ دِينِهِ أَقَامَ مَنْ يُعَارِضُهُ فَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ .

وَاَلَّذِي سَعَى فِيهِ حِزْبُ الشَّيْطَانِ لَمْ يَكُنْ مُخَالَفَةً لِشَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ بَلْ مُخَالَفَةً لِدِينِ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ : إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَالْمَسِيحِ وَمُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ . وَكَانُوا قَدْ سَعَوْا فِي أَنْ لَا يَظْهَرَ مِنْ جِهَةِ حِزْبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ خِطَابٌ وَلَا كِتَابٌ وَجَزِعُوا مِنْ ظُهُورِ الإخنائية فَاسْتَعْمَلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى . حَتَّى أَظْهَرُوا أَضْعَافَ ذَلِكَ وَأَعْظَمَ وَأَلْزَمَهُمْ بِتَفْتِيشِهِ وَمُطَالَعَتِهِ وَمَقْصُودُهُمْ إظْهَارُ عُيُوبِهِ وَمَا يَحْتَجُّونَ بِهِ فَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ إلَّا مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَظَهَرَ لَهُمْ جَهْلُهُمْ وَكَذِبُهُمْ وَعَجْزُهُمْ وَشَاعَ هَذَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يُظْهِرُوا عَلَيْنَا فِيهِ عَيْبًا فِي الشَّرْعِ وَالدِّينِ بَلْ غَايَةُ مَا عِنْدَهُمْ : أَنَّهُ خُولِفَ مَرْسُومُ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ وَالْمَخْلُوقُ كَائِنًا مَنْ كَانَ إذَا خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ لَمْ يَجِبْ بَلْ وَلَا يَجُوزُ طَاعَتُهُ فِي مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ يُظْهِرُ الْبِدَعَ كَلَامٌ يَظْهَرُ فَسَادُهُ لِكُلِّ مُسْتَبْصِرٍ وَيَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ فَإِنَّ الَّذِي يُظْهِرُ الْبِدْعَةَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِسُنَّةِ الرَّسُولِ أَوْ لِكَوْنِهِ لَهُ غَرَضٌ وَهَوَى يُخَالِفُ ذَلِكَ ؛ وَهُوَ أَوْلَى بِالْجَهْلِ بِسُنَّةِ الرَّسُولِ وَاتِّبَاعِ هَوَاهُمْ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } مِمَّنْ هُوَ أَعْلَمُ بِسُنَّةِ الرَّسُولِ مِنْهُمْ وَأَبْعَدُ عَنْ الْهَوَى وَالْغَرَضِ فِي مُخَالَفَتِهَا { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى

شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } { إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } . وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ كَبِيرَةٌ لَهَا شَأْنٌ عَظِيمٌ . وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ . ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ : وَكَانُوا يَطْلُبُونَ تَمَامَ الإخنائية فَعِنْدَهُمْ مَا يَطِمُهُمْ أَضْعَافَهَا وَأَقْوَى فِقْهًا مِنْهَا وَأَشَدَّ مُخَالَفَةً لِأَغْرَاضِهِمْ . فَإِنَّ الزملكانية قَدْ بُيِّنَ فِيهَا مِنْ نَحْوِ خَمْسِينَ وَجْهًا : أَنَّ مَا حُكِمَ بِهِ وَرُسِمَ بِهِ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا فَعَلُوهُ لَوْ كَانَ مِمَّنْ يَعْرِفُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَيَتَعَمَّدُ مُخَالَفَتَهُ لَكَانَ كُفْرًا وَرِدَّةً عَنْ الْإِسْلَامِ لَكِنَّهُمْ جُهَّالٌ دَخَلُوا فِي شَيْءٍ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَهُ وَلَا ظَنُّوا أَنَّهُ يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ السَّلْطَنَةَ تُخَالِفُ مُرَادَهُمْ وَالْأَمْرُ أَعْظَمُ مِمَّا ظَهَرَ لَكُمْ وَنَحْنُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى عَظِيمِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ . ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا وَقَالَ : بَلْ جِهَادُنَا فِي هَذَا مِثْلُ جِهَادِنَا يَوْمَ قازان وَالْجَبَلِيَّة وَالْجَهْمِيَّة والاتحادية وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ .

(*) وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَالِمِ شِهَابِ الدِّينِ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ مَجْدِ الدِّينِ أَبِي الْبَرَكَاتِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ ؛ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَتُوبُ إلَيْهِ ؛ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ؛ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ؛ أَرْسَلَهُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا فَهَدَى بِهِ مِنْ الضَّلَالَةِ . وَبَصَّرَ بِهِ مِنْ الْعَمَى وَأَرْشَدَ بِهِ مِنْ الْغَيِّ . وَفَتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا ؛ وَآذَانًا صُمًّا ؛ وَقُلُوبًا غُلْفًا حَيْثُ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ ؛ وَنَصَحَ الْأُمَّةَ ؛ وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ؛ وَعَبَدَ اللَّهَ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى

آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا ؛ وَجَزَاهُ عَنَّا أَفْضَلَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ . أَمَّا بَعْدُ :
فَهَذِهِ : " قَاعِدَةٌ فِي الْحِسْبَةِ " .
أَصْلُ ذَلِكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَ الْوِلَايَاتِ فِي الْإِسْلَامِ مَقْصُودُهَا أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ؛ وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِذَلِكَ وَبِهِ أَنْزَلَ الْكُتُبَ وَبِهِ أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَعَلَيْهِ جَاهَدَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } . وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَقُولُ لِقَوْمِهِ : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ } وَعِبَادَاتُهُ تَكُونُ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْخَيْرُ وَالْبِرُّ ؛ وَالتَّقْوَى وَالْحَسَنَاتُ ؛ وَالْقُرُبَاتُ وَالْبَاقِيَاتُ وَالصَّالِحَاتُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ ؛ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ بَيْنَهَا فُرُوقٌ لَطِيفَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا . وَهَذَا الَّذِي يُقَاتِلُ عَلَيْهِ الْخَلْقُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى

الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شُجَاعَةً ؛ وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً . وَيُقَاتِلُ رِيَاءً : فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } " . وَكُلُّ بَنِي آدَمَ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا بِالِاجْتِمَاعِ وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ فَالتَّعَاوُنُ وَالتَّنَاصُرُ عَلَى جَلْبِ مَنَافِعِهِمْ ؛ وَالتَّنَاصُرُ لِدَفْعِ مَضَارِّهِمْ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ : الْإِنْسَانُ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ . فَإِذَا اجْتَمَعُوا فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أُمُورٍ يَفْعَلُونَهَا يَجْتَلِبُونَ بِهَا الْمَصْلَحَةَ . وَأُمُورٍ يَجْتَنِبُونَهَا لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَفْسَدَةِ ؛ وَيَكُونُونَ مُطِيعِينَ لِلْآمِرِ بِتِلْكَ الْمَقَاصِدِ وَالنَّاهِي عَنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ فَجَمِيعُ بَنِي آدَمَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ طَاعَةِ آمِرٍ وَنَاهٍ . فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ دِينٍ فَإِنَّهُمْ يُطِيعُونَ مُلُوكَهُمْ فِيمَا يَرَوْنَ أَنَّهُ يَعُودُ بِمَصَالِحِ دُنْيَاهُمْ ؛ مُصِيبِينَ تَارَةً وَمُخْطِئِينَ أُخْرَى وَأَهْلُ الْأَدْيَانِ الْفَاسِدَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الْمُسْتَمْسِكِينَ بِهِ بَعْدَ التَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ : مُطِيعُونَ فِيمَا يَرَوْنَ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِمَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ . وَغَيْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْجَزَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَمُتَّفِقُونَ عَلَى الْجَزَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ ؛ وَلَكِنَّ الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَرْضِ . فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي

أَنَّ عَاقِبَةَ الظُّلْمِ وَخِيمَةٌ وَعَاقِبَةُ الْعَدْلِ كَرِيمَةٌ وَلِهَذَا يُرْوَى : " { اللَّهُ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً } " . وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ طَاعَةِ آمِرٍ وَنَاهٍ فَمَعْلُومٌ أَنَّ دُخُولَ الْمَرْءِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ خَيْرٌ لَهُ وَهُوَ الرَّسُولُ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الْمَكْتُوبُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ . وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . وَقَالَ : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } . وَقَالَ : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ لِلْجُمُعَةِ : " { إنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ ؛ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ؛ وَشَرَّ الْأُمُورِ

مُحْدَثَاتُهَا } " . وَكَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَةِ الْحَاجَةِ : " { مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إلَّا نَفْسَهُ وَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا } " . وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَفْضَلِ الْمَنَاهِجِ وَالشَّرَائِعِ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ أَفْضَلَ الْكُتُبِ فَأَرْسَلَهُ إلَى خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وَأَكْمَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الدِّينَ وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةَ وَحَرَّمَ الْجَنَّةَ إلَّا عَلَى مَنْ آمَنَ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا الْإِسْلَامَ الَّذِي جَاءَ بِهِ فَمَنْ ابْتَغَى غَيْرَهُ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ . وَأَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْحَدِيدَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ؛ فَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } . وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ بِتَوْلِيَةِ وُلَاةِ أُمُورٍ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ وُلَاةَ الْأُمُورِ أَنْ يَرُدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا ؛ وَإِذَا حَكَمُوا بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ } " . وَفِي سُنَنِهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { لَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةٍ يَكُونُونَ بِفَلَاةِ مِنْ الْأَرْضِ إلَّا أَمَّرُوا أَحَدَهُمْ } " . فَإِذَا كَانَ قَدْ أَوْجَبَ فِي أَقَلِّ الْجَمَاعَاتِ وَأَقْصَرِ الِاجْتِمَاعَاتِ أَنْ يُوَلَّى أَحَدُهُمْ : كَانَ هَذَا تَنْبِيهًا عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الْوِلَايَةُ - لِمَنْ يَتَّخِذُهَا دِينًا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ وَيَفْعَلُ فِيهَا الْوَاجِبَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ - مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ حَتَّى قَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ أَحَبَّ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ إمَامٌ عَادِلٌ وَأَبْغَضَ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ إمَامٌ جَائِرٌ } " .
فَصْلٌ :
وَإِذَا كَانَ جِمَاعُ الدِّينِ وَجَمِيعُ الْوِلَايَاتِ هُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ ؛ فَالْأَمْرُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ هُوَ النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهَذَا نَعْتُ النَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } . وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ قَادِرٍ وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَيَصِيرُ

فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْقَادِرِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ وَالْقُدْرَةُ هُوَ السُّلْطَانُ وَالْوِلَايَةُ فَذَوُو السُّلْطَانِ أَقْدَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ ؛ وَعَلَيْهِمْ مِنْ الْوُجُوبِ مَا لَيْسَ عَلَى غَيْرِهِمْ . فَإِنَّ مَنَاطَ الْوُجُوبِ هُوَ الْقُدْرَةُ ؛ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ قَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . وَجَمِيعُ الْوِلَايَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ إنَّمَا مَقْصُودُهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وِلَايَةُ الْحَرْبِ الْكُبْرَى : مِثْلُ نِيَابَةِ السَّلْطَنَةِ وَالصُّغْرَى مِثْلُ وِلَايَةِ الشُّرْطَةِ : وَوِلَايَةُ الْحُكْمِ ؛ أَوْ وِلَايَةُ الْمَالِ وَهِيَ وِلَايَةُ الدَّوَاوِينِ الْمَالِيَّةِ ؛ وَوِلَايَةُ الْحِسْبَةِ . لَكِنْ مِنْ الْمُتَوَلِّينَ مَنْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ الْمُؤْتَمَنِ ؛ وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ الصِّدْقُ ؛ مِثْلَ الشُّهُودِ عِنْدَ الْحَاكِمِ ؛ وَمِثْلَ صَاحِبِ الدِّيوَانِ الَّذِي وَظِيفَتُهُ أَنْ يَكْتُبَ الْمُسْتَخْرَجَ وَالْمَصْرُوفَ ؛ وَالنَّقِيبِ وَالْعَرِيفِ الَّذِي وَظِيفَتُهُ إخْبَارُ ذِي الْأَمْرِ بِالْأَحْوَالِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْأَمِينِ الْمُطَاعِ ؛ وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْعَدْلُ مِثْلَ الْأَمِيرِ وَالْحَاكِمِ وَالْمُحْتَسِبِ وَبِالصِّدْقِ فِي كُلِّ الْأَخْبَارِ وَالْعَدْلِ فِي الْإِنْشَاءِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ : تَصْلُحُ جَمِيعُ الْأَحْوَالِ وَهُمَا قَرِينَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذَكَرَ الظَّلَمَةَ : " { مَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى

ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْت مِنْهُ ؛ وَلَا يَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ : وَسَيَرِدُ عَلَى الْحَوْضِ } " . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبُ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا } " . وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } { تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } وَقَالَ : " { لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ } { نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } . فَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَلِيِّ أَمْرٍ أَنْ يَسْتَعِينَ بِأَهْلِ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ اسْتَعَانَ بِالْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ كَذِبٌ وَظُلْمٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ وَبِأَقْوَامِ لَا خَلَاقَ لَهُمْ وَالْوَاجِبُ إنَّمَا هُوَ فِعْلُ الْمَقْدُورِ . وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : مَنْ قَلَّدَ رَجُلًا عَلَى عِصَابَةٍ وَهُوَ يَجِدُ فِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ ؛ وَخَانَ رَسُولَهُ ؛ وَخَانَ الْمُؤْمِنِينَ } " . فَالْوَاجِبُ إنَّمَا هُوَ الْأَرْضَى مِنْ الْمَوْجُودِ وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ

كَامِلٌ فَيَفْعَلُ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ وَيَدْفَعُ شَرَّ الشَّرَّيْنِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ : أَشْكُو إلَيْك جَلَدَ الْفَاجِرِ وَعَجْزَ الثِّقَةِ . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَفْرَحُونَ بِانْتِصَارِ الرُّومِ وَالنَّصَارَى عَلَى الْمَجُوسِ وَكِلَاهُمَا كَافِرٌ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الصِّنْفَيْنِ أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ ؛ وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ " سُورَةَ الرُّومِ " لَمَّا اقْتَتَلَتْ الرُّومُ وَفَارِسُ ؛ وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ . وَكَذَلِكَ يُوسُفُ كَانَ نَائِبًا لِفِرْعَوْنَ مِصْرَ وَهُوَ وَقَوْمُهُ مُشْرِكُونَ وَفَعَلَ مِنْ الْعَدْلِ وَالْخَيْرِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَدَعَاهُمْ إلَى الْإِيمَانِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ .
فَصْلٌ :
عُمُومُ الْوِلَايَاتِ وَخُصُوصُهَا وَمَا يَسْتَفِيدُهُ الْمُتَوَلِّي بِالْوِلَايَةِ يَتَلَقَّى مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْأَحْوَالِ وَالْعُرْفِ وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ . فَقَدْ يَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ الْقُضَاةِ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ مَا يَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ الْحَرْبِ فِي مَكَانٍ وَزَمَانٍ آخَرَ ؛ وَبِالْعَكْسِ . وَكَذَلِكَ الْحِسْبَةُ وَوِلَايَةُ الْمَالِ . وَجَمِيعُ هَذِهِ الْوِلَايَاتِ هِيَ فِي الْأَصْلِ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَمَنَاصِبُ دِينِيَّةٌ فَأَيُّ مَنْ عَدَلَ فِي وِلَايَةٍ مِنْ هَذِهِ الْوِلَايَاتِ فَسَاسَهَا بِعِلْمِ وَعَدْلٍ وَأَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَهُوَ مِنْ الْأَبْرَارِ الصَّالِحِينَ وَأَيُّ مَنْ ظَلَمَ

وَعَمِلَ فِيهَا بِجَهْلِ فَهُوَ مِنْ الْفُجَّارِ الظَّالِمِينَ . إنَّمَا الضَّابِطُ قَوْله تَعَالَى { إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } { وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : فَوِلَايَةُ الْحَرْبِ فِي عُرْفِ هَذَا الزَّمَانِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ وَالْمِصْرِيَّةِ تَخْتَصُّ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ الَّتِي فِيهَا إتْلَافٌ مِثْلَ قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ وَعُقُوبَةِ الْمُحَارِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَقَدْ يَدْخُلُ فِيهَا مِنْ الْعُقُوبَاتِ مَا لَيْسَ فِيهِ إتْلَافٌ ؛ كَجَلْدِ السَّارِقِ . وَيَدْخُلُ فِيهَا الْحُكْمُ فِي الْمُخَاصَمَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ ؛ وَدَوَاعِي التُّهَمِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا كِتَابٌ وَشُهُودٌ . كَمَا تَخْتَصُّ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ بِمَا فِيهِ كِتَابٌ وَشُهُودٌ وَكَمَا تَخْتَصُّ بِإِثْبَاتِ الْحُقُوقِ وَالْحُكْمِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ؛ وَالنَّظَرِ فِي حَالِ نُظَّارِ الْوُقُوفِ وَأَوْصِيَاءِ الْيَتَامَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ . وَفِي بِلَادٍ أُخْرَى كَبِلَادِ الْمَغْرِبِ : لَيْسَ لِوَالِي الْحَرْبِ حُكْمٌ فِي شَيْءٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُنَفِّذٌ لِمَا يَأْمُرُ بِهِ مُتَوَلِّي الْقَضَاءِ ؛ وَهَذَا اتَّبَعَ السُّنَّةَ الْقَدِيمَةَ ؛ وَلِهَذَا أَسْبَابٌ مِنْ الْمَذَاهِبِ وَالْعَادَاتِ مَذْكُورَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَأَمَّا الْمُحْتَسِبُ فَلَهُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ مِمَّا لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ وَأَهْلُ الدِّيوَانِ وَنَحْوُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ وُلَاةِ الْأُمُورِ فَمَنْ أَدَّى فِيهِ الْوَاجِبَ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِيهِ فَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَ الْعَامَّةَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي مَوَاقِيتِهَا وَيُعَاقِبُ مَنْ لَمْ يُصَلِّ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ ؛ وَأَمَّا الْقَتْلُ فَإِلَى غَيْرِهِ وَيَتَعَهَّدُ الْأَئِمَّةَ وَالْمُؤَذِّنِينَ ؛

فَمَنْ فَرَّطَ مِنْهُمْ فِيمَا يَجِبُ مِنْ حُقُوقِ الْإِمَامَةِ أَوْ خَرَجَ عَنْ الْأَذَانِ الْمَشْرُوعِ أَلْزَمَهُ بِذَلِكَ وَاسْتَعَانَ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْهُ بِوَالِي الْحَرْبِ وَالْحُكْمِ وَكُلُّ مُطَاعٍ يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ . وَذَلِكَ أَنَّ " الصَّلَاةَ " هِيَ أَعْرَفُ الْمَعْرُوفِ مِنْ الْأَعْمَالِ وَهِيَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ وَأَعْظَمُ شَرَائِعِهِ وَهِيَ قَرِينَةُ الشَّهَادَتَيْنِ وَإِنَّمَا فَرَضَهَا اللَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَخَاطَبَ بِهَا الرَّسُولَ بِلَا وَاسِطَةٍ لَمْ يَبْعَثْ بِهَا رَسُولًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَهِيَ آخِرُ مَا وَصَّى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ وَهِيَ الْمَخْصُوصَةُ بِالذِّكْرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَخْصِيصًا بَعْدَ تَعْمِيمٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } وَقَوْلِهِ : { اتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ } . وَهِيَ الْمَقْرُونَةُ بِالصَّبْرِ وَبِالزَّكَاةِ وَبِالنُّسُكِ وَبِالْجِهَادِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ } وَقَوْلِهِ : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } وَقَوْلِهِ : { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا } وَقَوْلِهِ : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } .

وَأَمْرُهَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحَاطَ بِهِ فَاعْتِنَاءُ وُلَاةِ الْأَمْرِ بِهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ اعْتِنَائِهِمْ بِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَكْتُبُ إلَى عُمَّالِهِ : أَنَّ أَهَمَّ أَمْرِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ مَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ لِمَا سِوَاهَا أَشَدُّ إضَاعَةً . رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ . وَيَأْمُرُ الْمُحْتَسِبُ بِالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ وَبِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرَاتِ : مِنْ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ : وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ تَطْفِيفِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ وَالْغِشِّ فِي الصِّنَاعَاتِ ؛ والبياعات وَالدِّيَانَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ } { الَّذِينَ إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ } { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } وَقَالَ فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ : { أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ } { وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ } { وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا } وَقَالَ : { وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا } " وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا

فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا ؛ فَقَالَ : مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ ؟ - فَقَالَ : أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : - أَفَلَا جَعَلْته فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } وَفِي رِوَايَةٍ : { مَنْ غَشَّنِي فَلَيْسَ مِنِّي } " فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْغَاشَّ لَيْسَ بِدَاخِلِ فِي مُطْلَقِ اسْمِ أَهْلِ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ كَمَا قَالَ " { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ؛ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ؛ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فَسَلَبَهُ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ الَّتِي بِهَا يَسْتَحِقُّ حُصُولَ الثَّوَابِ وَالنَّجَاةِ مِنْ الْعِقَابِ ؛ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ الَّذِي يُفَارِقُ بِهِ الْكُفَّارَ وَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ النَّارِ . وَالْغِشُّ يَدْخُلُ فِي الْبُيُوعِ بِكِتْمَانِ الْعُيُوبِ وَتَدْلِيسِ السِّلَعِ ؛ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الْمَبِيعِ خَيْرًا مِنْ بَاطِنِهِ ؛ كَاَلَّذِي مَرَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ . وَيَدْخُلُ فِي الصِّنَاعَاتِ مِثْلَ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الْمَطْعُومَاتِ مِنْ الْخُبْزِ وَالطَّبْخِ وَالْعَدَسِ وَالشِّوَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَوْ يَصْنَعُونَ الْمَلْبُوسَاتِ كَالنَّسَّاجِينَ وَالْخَيَّاطِينَ وَنَحْوِهِمْ أَوْ يَصْنَعُونَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الصِّنَاعَاتِ فَيَجِبُ نَهْيُهُمْ عَنْ الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ وَالْكِتْمَانِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ " الْكِيمَاوِيَّةُ " الَّذِينَ يَغُشُّونَ النُّقُودَ وَالْجَوَاهِرَ وَالْعِطْرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ فَيَصْنَعُونَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ عَنْبَرًا أَوْ مِسْكًا أَوْ جَوَاهِرَ أَوْ زَعْفَرَانًا أَوْ مَاءَ وَرْدٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ؛ يُضَاهُونَ بِهِ خَلْقَ اللَّهِ : وَلَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ شَيْئًا

فَيَقْدِرُ الْعِبَادُ أَنْ يَخْلُقُوا كَخَلْقِهِ بَلْ { قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا حَكَى عَنْهُ رَسُولُهُ : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً فَلْيَخْلُقُوا بَعُوضَةً } وَلِهَذَا كَانَتْ الْمَصْنُوعَاتُ مِثْلَ الأطبخة وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ إلَّا بِتَوَسُّطِ النَّاسِ قَالَ تَعَالَى : { وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } . وَكَانَتْ الْمَخْلُوقَاتُ مِنْ الْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالدَّوَابِّ غَيْرَ مَقْدُورَةٍ لِبَنِي آدَمَ أَنْ يَصْنَعُوهَا ؛ لَكِنَّهُمْ يُشْبِهُونَ عَلَى سَبِيلِ الْغِشِّ . وَهَذَا حَقِيقَةُ الْكِيمْيَاءِ ؛ فَإِنَّهُ الْمُشَبَّهُ ؛ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ صَنَّفَ فِيهِ أَهْلُ الْخِبْرَةِ مَا لَا يَحْتَمِلُ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَيَدْخُلُ فِي الْمُنْكَرَاتِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ : مِثْلَ عُقُودِ الرِّبَا وَالْمَيْسِرِ ؛ وَمِثْلَ بَيْعِ الْغَرَرِ وَكَحَبَلِ الْحَبَلَةِ ؛ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ ؛ وَرِبَا النَّسِيئَةِ وَرِبَا الْفَضْلِ وَكَذَلِكَ النَّجْشُ وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي السِّلْعَةِ مَنْ لَا يُرِيدُ شِرَاءَهَا وَتَصْرِيَةُ الدَّابَّةِ اللَّبُونِ وَسَائِرُ أَنْوَاعِ التَّدْلِيسِ . وَكَذَلِكَ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ ثُنَائِيَّةً أَوْ ثُلَاثِيَّةً إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا جَمِيعُهَا أَخْذَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا إلَى أَجَلٍ . فَالثُّنَائِيَّةُ مَا يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ : مِثْلَ أَنْ يَجْمَعَ إلَى الْقَرْضِ بَيْعًا أَوْ إجَارَةً أَوْ مُسَاقَاةً أَوْ مُزَارَعَةً وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ

قَالَ : " { لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك } " قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَمِثْلَ أَنْ يَبِيعَهُ سِلْعَةً إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يُعِيدُهَا إلَيْهِ فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا } " . وَالثُّلَاثِيَّةُ مِثْلَ أَنْ يُدْخِلَ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلًا لِلرِّبَا يَشْتَرِي السِّلْعَةَ مِنْهُ آكِلُ الرِّبَا ثُمَّ يَبِيعُهَا الْمُعْطِي لِلرِّبَا إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يُعِيدُهَا إلَى صَاحِبِهَا بِنَقْصِ دَرَاهِمَ يَسْتَفِيدُهَا الْمُحَلِّلُ وَهَذِهِ الْمُعَامَلَاتُ مِنْهَا مَا هُوَ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مَثَلَ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا شَرْطٌ لِذَلِكَ ؛ أَوْ الَّتِي يُبَاعُ فِيهَا الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ الشَّرْعِيِّ أَوْ بِغَيْرِ الشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ أَوْ يَقْلِبُ فِيهَا الدَّيْنَ عَلَى الْمُعْسِرِ فَإِنَّ الْمُعْسِرَ يَجِبُ إنْظَارُهُ وَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِمُعَامَلَةِ وَلَا غَيْرِهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَمِنْهَا مَا قَدْ تَنَازَعَ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ؛ لَكِنَّ الثَّابِتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ كُلِّهِ . وَمِنْ الْمُنْكَرَاتِ تَلَقِّي السِّلَعِ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ إلَى السُّوقِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْرِيرِ الْبَائِعِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ السِّعْرُ فَيَشْتَرِي مِنْهُ الْمُشْتَرِي بِدُونِ الْقِيمَةِ ؛ وَلِذَلِكَ أَثْبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ الْخِيَارَ إذَا هَبَطَ إلَى السُّوقِ . وَثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهُ مَعَ الْغَبْنِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَأَمَّا ثُبُوتُهُ بِلَا غَبْنٍ فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَفِيهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا يُثْبِتُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِيَةُ لَا

يُثْبِتُ لِعَدَمِ الْغَبْنِ . وَثُبُوتُ الْخِيَارِ بِالْغَبْنِ لِلْمُسْتَرْسِلِ - وَهُوَ الَّذِي لَا يُمَاكِسُ - هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا فَلَيْسَ لِأَهْلِ السُّوقِ أَنْ يَبِيعُوا الْمُمَاكِسَ بِسِعْرِ ؛ وَيَبِيعُوا الْمُسْتَرْسِلَ الَّذِي لَا يُمَاكِسُ أَوْ مَنْ هُوَ جَاهِلٌ بِالسِّعْرِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ السِّعْرِ هَذَا مِمَّا يُنْكَرُ عَلَى الْبَاعَةِ . وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " { غَبْنُ الْمُسْتَرْسِلِ رِبًا } " وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَلَقِّي السِّلَعِ ؛ فَإِنَّ الْقَادِمَ جَاهِلٌ بِالسِّعْرِ ؛ وَلِذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لَبَادٍ وَقَالَ : { دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ } وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَوْلُهُ : " { لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لَبَادٍ } " ؟ قَالَ : لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارٌ وَهَذَا نَهْيٌ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الْمُشْتَرِينَ فَإِنَّ الْمُقِيمَ إذَا تَوَكَّلَ لِلْقَادِمِ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهَا وَالْقَادِمُ لَا يَعْرِفُ السِّعْرَ ضَرَّ ذَلِكَ الْمُشْتَرِيَ ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ } " .
وَمِثْلُ ذَلِكَ " الِاحْتِكَارِ " لِمَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { لَا يَحْتَكِرُ إلَّا خَاطِئٌ } " فَإِنَّ الْمُحْتَكِرَ هُوَ الَّذِي يَعْمَدُ إلَى شِرَاءِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ مِنْ الطَّعَامِ فَيَحْبِسُهُ عَنْهُمْ وَيُرِيدُ إغْلَاءَهُ عَلَيْهِمْ وَهُوَ ظَالِمٌ لِلْخَلْقِ الْمُشْتَرِينَ وَلِهَذَا كَانَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُكْرِهَ النَّاسَ عَلَى بَيْعِ مَا عِنْدَهُمْ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ عِنْدَ ضَرُورَةِ النَّاسِ إلَيْهِ مِثْلَ مَنْ عِنْدَهُ طَعَامٌ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَالنَّاسُ فِي

مَخْمَصَةٍ . فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ لِلنَّاسِ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : مَنْ اُضْطُرَّ إلَى طَعَامِ الْغَيْرِ أَخَذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ بِقِيمَةِ مِثْلِهِ وَلَوْ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ سِعْرِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ إلَّا سِعْرَهُ . وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ السِّعْرَ مِنْهُ مَا هُوَ ظُلْمٌ لَا يَجُوزُ وَمِنْهُ مَا هُوَ عَدْلٌ جَائِزٌ فَإِذَا تَضَمَّنَ ظُلْمَ النَّاسِ وَإِكْرَاهَهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ عَلَى الْبَيْعِ بِثَمَنِ لَا يَرْضَوْنَهُ ؛ أَوْ مَنَعَهُمْ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ لَهُمْ : فَهُوَ حَرَامٌ . وَإِذَا تَضَمَّنَ الْعَدْلَ بَيْنَ النَّاسِ مِثْلَ إكْرَاهِهِمْ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمُعَاوَضَةِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ ؛ وَمَنَعَهُمْ مِمَّا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَخْذِ زِيَادَةٍ عَلَى عِوَضِ الْمِثْلِ : فَهُوَ جَائِزٌ ؛ بَلْ وَاجِبٌ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَمِثْلُ مَا رَوَى أَنَسٌ { قَالَ : غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ سَعَّرْت ؟ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ هُوَ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ الْمُسَعِّرُ وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَا يَطْلُبُنِي أَحَدٌ بِمَظْلِمَةٍ ظَلَمْتهَا إيَّاهُ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ } " ؛ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَصَحَّحَهُ . فَإِذَا كَانَ النَّاسُ يَبِيعُونَ سِلَعَهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ مِنْهُمْ وَقَدْ ارْتَفَعَ السِّعْرُ إمَّا لِقِلَّةِ الشَّيْءِ وَإِمَّا لِكَثْرَةِ الْخَلْقِ : فَهَذَا إلَى اللَّهِ . فَإِلْزَامُ الْخَلْقِ أَنْ يَبِيعُوا بِقِيمَةِ بِعَيْنِهَا إكْرَاهٌ بِغَيْرِ حَقٍّ . وَأَمَّا الثَّانِي فَمِثْلُ أَنْ يَمْتَنِعَ أَرْبَابُ السِّلَعِ مِنْ بَيْعِهَا مَعَ ضَرُورَةِ النَّاسِ

إلَيْهَا إلَّا بِزِيَادَةِ عَلَى الْقِيمَةِ الْمَعْرُوفَةِ فَهُنَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ بَيْعُهَا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ وَلَا مَعْنَى لِلتَّسْعِيرِ إلَّا إلْزَامَهُمْ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ فَيَجِبُ أَنْ يَلْتَزِمُوا بِمَا أَلْزَمَهُمْ اللَّهُ بِهِ . وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ قَدْ الْتَزَمُوا أَلَّا يَبِيعَ الطَّعَامَ أَوْ غَيْرَهُ إلَّا أُنَاسٌ مَعْرُوفُونَ لَا تُبَاعُ تِلْكَ السِّلَعُ إلَّا لَهُمْ ؛ ثُمَّ يَبِيعُونَهَا هُمْ ؛ فَلَوْ بَاعَ غَيْرُهُمْ ذَلِكَ مُنِعَ إمَّا ظُلْمًا لِوَظِيفَةِ تُؤْخَذُ مِنْ الْبَائِعِ ؛ أَوْ غَيْرَ ظُلْمٍ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ فَهَهُنَا يَجِبُ التَّسْعِيرُ عَلَيْهِمْ بِحَيْثُ لَا يَبِيعُونَ إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ وَلَا يَشْتَرُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ بِلَا تَرَدُّدٍ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَدْ مَنَعَ غَيْرَهُمْ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ النَّوْعَ أَوْ يَشْتَرِيَهُ : فَلَوْ سُوِّغَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا بِمَا اخْتَارُوا أَوْ اشْتَرَوْا بِمَا اخْتَارُوا كَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا لِلْخَلْقِ مِنْ وَجْهَيْنِ : ظُلْمًا لِلْبَائِعِينَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بَيْعَ تِلْكَ الْأَمْوَالِ ؛ وَظُلْمًا لِلْمُشْتَرِينَ مِنْهُمْ . وَالْوَاجِبُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ جَمِيعِ الظُّلْمِ أَنْ يَدْفَعَ الْمُمْكِنَ مِنْهُ فَالتَّسْعِيرُ فِي مِثْلِ هَذَا وَاجِبٌ بِلَا نِزَاعٍ وَحَقِيقَتُهُ : إلْزَامُهُمْ أَلَّا يَبِيعُوا أَوْ لَا يَشْتَرُوا إلَّا بِثَمَنِ الْمِثْلِ . وَهَذَا وَاجِبٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ الشَّرِيعَةِ ؛ فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْبَيْعِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِحَقِّ : يَجُوزُ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ بِحَقِّ فِي مَوَاضِعَ مِثْلَ بَيْعِ الْمَالِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ وَالنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَالْإِكْرَاهِ عَلَى أَلَّا يَبِيعَ إلَّا بِثَمَنِ الْمِثْلِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِحَقِّ وَيَجُوزُ فِي مَوَاضِعَ ؛ مِثْلَ الْمُضْطَرِّ إلَى

طَعَامِ الْغَيْرِ وَمِثْلَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ الَّذِي فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ؛ فَإِنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ لَا بِأَكْثَرَ . وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . وَكَذَلِكَ السِّرَايَةُ فِي الْعِتْقِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ ؛ وَإِلَّا فَقَدَ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ } " . وَكَذَلِكَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ شِرَاءُ شَيْءٍ لِلْعِبَادَاتِ كَآلَةِ الْحَجِّ وَرَقَبَةِ الْعِتْقِ وَمَاءِ الطَّهَارَةِ ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ ؛ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ الشِّرَاءِ إلَّا بِمَا يَخْتَارُ . وَكَذَلِكَ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ كُسْوَةٍ لِمَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ إذَا وُجِدَ الطَّعَامُ أَوْ اللِّبَاسُ الَّذِي يَصْلُحُ لَهُ فِي الْعُرْفِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ : لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى مَا هُوَ دُونَهُ ؛ حَتَّى يَبْذُلَ لَهُ ذَلِكَ بِثَمَنِ يَخْتَارُهُ . وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . وَلِهَذَا مَنَعَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ القسام الَّذِينَ يَقْسِمُونَ الْعَقَارَ وَغَيْرَهُ بِالْأَجْرِ أَنْ يَشْتَرِكُوا وَالنَّاسُ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِمْ وَيَغْلُوَ عَلَيْهِمْ الْأَجْرَ ؛ فَمَنَعَ الْبَائِعِينَ الَّذِينَ تَوَاطَئُوا عَلَى أَلَّا يَبِيعُوا إلَّا بِثَمَنِ قَدَّرُوهُ أَوْلَى . وَكَذَلِكَ مَنَعَ الْمُشْتَرِينَ إذَا تَوَاطَئُوا عَلَى أَنْ يَشْتَرِكُوا فَإِنَّهُمْ إذَا اشْتَرَكُوا فِيمَا يَشْتَرِيهِ أَحَدُهُمْ حَتَّى يَهْضِمُوا سِلَعَ النَّاسِ أَوْلَى أَيْضًا

فَإِذَا كَانَتْ الطَّائِفَةُ الَّتِي تَشْتَرِي نَوْعًا مِنْ السِّلَعِ أَوْ تَبِيعُهَا قَدْ تَوَاطَأَتْ عَلَى أَنْ يَهْضِمُوا مَا يَشْتَرُونَهُ فَيَشْتَرُونَهُ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ الْمَعْرُوفِ ؛ وَيَزِيدُونَ مَا يَبِيعُونَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الْمَعْرُوفِ ؛ وَيُنَمُّوا مَا يَشْتَرُونَهُ : كَانَ هَذَا أَعْظَمَ عُدْوَانًا مِنْ تَلَقِّي السِّلَعِ وَمِنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي وَمِنْ النَّجْشِ وَيَكُونُونَ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى ظُلْمِ النَّاسِ حَتَّى يَضْطَرُّوا إلَى بَيْعِ سِلَعِهِمْ وَشِرَائِهَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَالنَّاسُ يَحْتَاجُونَ إلَى ذَلِكَ وَشِرَائِهِ وَمَا احْتَاجَ إلَى بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ عُمُومُ النَّاسِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا يُبَاعَ إلَّا بِثَمَنِ الْمِثْلِ : إذَا كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ عَامَّةً . وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْتَاجَ النَّاسُ إلَى صِنَاعَةِ نَاسٍ ؛ مِثْلَ حَاجَةِ النَّاسِ إلَى الْفِلَاحَةِ وَالنِّسَاجَةِ وَالْبِنَايَةِ : فَإِنَّ النَّاسَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ طَعَامٍ يَأْكُلُونَهُ وَثِيَابٍ يَلْبَسُونَهَا وَمَسَاكِنَ يَسْكُنُونَهَا فَإِذَا لَمْ يُجْلَبْ لَهُمْ مِنْ الثِّيَابِ مَا يَكْفِيهِمْ كَمَا كَانَ يُجْلَبُ إلَى الْحِجَازِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ الثِّيَابُ تُجْلَبُ إلَيْهِمْ مِنْ الْيَمَنِ وَمِصْرَ وَالشَّامِ وَأَهْلُهَا كُفَّارٌ وَكَانُوا يَلْبَسُونَ مَا نَسَجَهُ الْكُفَّارُ وَلَا يَغْسِلُونَهُ فَإِذَا لَمْ يُجْلَبْ إلَى نَاسِ الْبَلَدِ مَا يَكْفِيهِمْ احْتَاجُوا إلَى مَنْ يَنْسِجُ لَهُمْ الثِّيَابَ . وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ طَعَامٍ إمَّا مَجْلُوبٌ مِنْ غَيْرِ بَلَدِهِمْ وَإِمَّا مِنْ زَرْعِ بَلَدِهِمْ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ . وَكَذَلِكَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مَسَاكِنَ يَسْكُنُونَهَا ؛ فَيَحْتَاجُونَ إلَى الْبِنَاءِ ؛ فَلِهَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ :

كَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ ؛ وَأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرِهِمْ : أَنَّ هَذِهِ الصِّنَاعَاتِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ النَّاسِ إلَّا بِهَا ؛ كَمَا أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ؛ إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ فَيَكُونُ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ ؛ مِثْلَ أَنْ يَقْصِدَ الْعَدُوُّ بَلَدًا ؛ أَوْ مِثْلَ أَنْ يَسْتَنْفِرَ الْإِمَامُ أَحَدًا . وَطَلَبُ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إلَّا فِيمَا يَتَعَيَّنُ ؛ مِثْلَ طَلَبِ كُلِّ وَاحِدٍ عِلْمَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَمَا نَهَاهُ عَنْهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ كَمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ } " وَكُلُّ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا لَا بُدَّ أَنْ يُفَقِّهَهُ فِي الدِّينِ فَمَنْ لَمْ يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا وَالدِّينُ : مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ ؛ وَهُوَ مَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَالْعَمَلُ بِهِ وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُصَدِّقَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ وَيُطِيعَهُ فِيمَا أَمَرَ تَصْدِيقًا عَامًّا وَطَاعَةً عَامَّةً ثُمَّ إذَا ثَبَتَ عَنْهُ خَبَرٌ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَدِّقَ بِهِ مُفَصَّلًا وَإِذَا كَانَ مَأْمُورًا مِنْ جِهَةٍ بِأَمْرِ مُعَيَّنٍ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَهُ طَاعَةً مُفَصَّلَةً . وَكَذَلِكَ غَسْلُ الْمَوْتَى وَتَكْفِينُهُمْ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ وَدَفْنُهُمْ : فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ . وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ .

وَالْوِلَايَاتُ كُلُّهَا : الدِّينِيَّةُ - مِثْلَ إمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا دُونَهَا : مِنْ مُلْكٍ وَوِزَارَةٍ وَدِيوَانِيَّةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ كِتَابَةَ خِطَابٍ أَوْ كِتَابَةَ حِسَابٍ لِمُسْتَخْرَجِ أَوْ مَصْرُوفٍ فِي أَرْزَاقِ الْمُقَاتِلَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ وَمِثْلَ إمَارَةِ حَرْبٍ وَقَضَاءٍ وَحِسْبَةٍ وَفُرُوعُ هَذِهِ الْوِلَايَاتِ - إنَّمَا شُرِعَتْ لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ . وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَدِينَتِهِ النَّبَوِيَّةِ يَتَوَلَّى جَمِيعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِوُلَاةِ الْأُمُورِ وَيُوَلِّي فِي الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ عَنْهُ كَمَا وَلَّى عَلَى مَكَّةَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ وَعَلَى الطَّائِفِ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي العاص وَعَلَى قُرَى عرينة خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ العاص وَبَعَثَ عَلِيًّا وَمُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إلَى الْيَمَنِ . وَكَذَلِكَ كَانَ يُؤَمِّرُ عَلَى السَّرَايَا وَيَبْعَثُ عَلَى الْأَمْوَالِ الزكوية السُّعَاةَ فَيَأْخُذُونَهَا مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ وَيَدْفَعُونَهَا إلَى مُسْتَحَقِّيهَا الَّذِينَ سَمَّاهُمْ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فَيَرْجِعُ السَّاعِي إلَى الْمَدِينَةِ وَلَيْسَ مَعَهُ إلَّا السَّوْطُ لَا يَأْتِي إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءِ إذَا وَجَدَ لَهَا مَوْضِعًا يَضَعُهَا فِيهِ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَوْفِي الْحِسَابَ عَلَى الْعُمَّالِ ؛ يُحَاسِبُهُمْ عَلَى الْمُسْتَخْرَجِ وَالْمَصْرُوفِ ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي حميد الساعدي { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ الأزد يُقَالُ لَهُ : ابْنُ اللتبية عَلَى الصَّدَقَاتِ ؛ فَلَمَّا رَجَعَ حَاسَبَهُ فَقَالَ : هَذَا لَكُمْ

وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَالُ الرَّجُلِ نَسْتَعْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا وَلَّانَا اللَّهُ فَيَقُولُ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ ؟ أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لَا ؟ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا نَسْتَعْمِلُ رَجُلًا عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانَا اللَّهُ فَيَغُلُّ مِنْهُ شَيْئًا إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ : إنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ ؛ وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ ؛ وَإِنْ كَانَتْ شَاةً تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ وَقَالَ : - اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت ؟ - قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا } . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ الَّتِي هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ مَتَى لَمْ يَقُمْ بِهَا غَيْرُ الْإِنْسَانِ صَارَتْ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ غَيْرُهُ عَاجِزًا عَنْهَا فَإِذَا كَانَ النَّاسُ مُحْتَاجِينَ إلَى فِلَاحَةِ قَوْمٍ أَوْ نِسَاجَتِهِمْ أَوْ بِنَائِهِمْ صَارَ هَذَا الْعَمَلُ وَاجِبًا يُجْبِرُهُمْ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَلَيْهِ إذَا امْتَنَعُوا عَنْهُ بِعِوَضِ الْمِثْلِ وَلَا يُمَكِّنُهُمْ مِنْ مُطَالَبَةِ النَّاسِ بِزِيَادَةِ عَنْ عِوَضِ الْمِثْلِ وَلَا يُمَكِّنُ النَّاسَ مِنْ ظُلْمِهِمْ بِأَنْ يُعْطُوهُمْ دُونَ حَقِّهِمْ كَمَا إذَا احْتَاجَ الْجُنْدُ الْمُرْصِدُونَ لِلْجِهَادِ إلَى فِلَاحَةِ أَرْضِهِمْ أَلْزَمَ مَنْ صِنَاعَتُهُ الْفِلَاحَةُ بِأَنْ يَصْنَعَهَا لَهُمْ : فَإِنَّ الْجُنْدَ يُلْزَمُونَ بِأَنْ لَا يَظْلِمُوا الْفَلَّاحَ كَمَا أَلْزَمَ الْفَلَّاحَ أَنْ يُفْلِحَ لِلْجُنْدِ .
وَالْمُزَارَعَةُ جَائِزَةٌ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ ، الْعُلَمَاءِ وَهِيَ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى

عَهْدِ نَبِيِّهِمْ وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَعَلَيْهَا عَمَلُ آلِ أَبِي بَكْرٍ وَآلِ عُمَرَ وَآلِ عُثْمَانَ وَآلِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ بُيُوتِ الْمُهَاجِرِينَ وَهِيَ قَوْلُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَهِيَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ : كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ؛ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه ؛ ودَاوُد بْنِ عَلِيٍّ ؛ وَالْبُخَارِيِّ ؛ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة ؛ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ وَمَذْهَبِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ؛ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ؛ وَأَبِي يُوسُفَ ؛ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَالَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ الْمُعَامَلَةُ حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ عَنْ خَيْبَرَ وَكَانَ قَدْ شارطهم أَنْ يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَكَانَ الْبَذْرُ مِنْهُمْ لَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْبَذْرَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَامِلِ ؛ بَلْ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ قَالُوا : لَا يَكُونُ الْبَذْرُ إلَّا مِنْ الْعَامِلِ . وَاَلَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُخَابَرَةِ وَكِرَاءِ الْأَرْضِ قَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرِطُونَ لِرَبِّ الْأَرْضِ زَرْعَ بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ بَاطِلٌ بِالنَّصِّ وَإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ كَمَا لَوْ شَرَطَ فِي الْمُضَارَبَةِ لِرَبِّ الْمَالِ دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةً فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ مَبْنَاهَا عَلَى الْعَدْلِ وَهَذِهِ الْمُعَامَلَاتُ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارَكَاتِ ؛ وَالْمُشَارَكَةُ إنَّمَا تَكُونُ إذَا كَانَ لِكُلِّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ جُزْءٌ شَائِعٌ

كَالثُّلُثِ وَالنِّصْفِ فَإِذَا جُعِلَ لِأَحَدِهِمَا شَيْءٌ مُقَدَّرٌ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَدْلًا ؛ بَلْ كَانَ ظُلْمًا . وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْمُشَارَكَاتِ مِنْ بَابِ الْإِجَارَاتِ بِعِوَضِ مَجْهُولٍ ؛ فَقَالُوا : الْقِيَاسُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ حَرَّمَ الْمُسَاقَاةَ وَالزِّرَاعَةَ وَأَبَاحَ الْمُضَارَبَةَ اسْتِحْسَاناً لِلْحَاجَةِ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا يُمْكِنُ إجَارَتُهَا كَمَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ . وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَاحَ الْمُسَاقَاةَ إمَّا مُطْلَقًا كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالْقَدِيمِ لِلشَّافِعِيِّ . أَوْ عَلَى النَّخْلِ وَالْعِنَبِ كَالْجَدِيدِ لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يُمْكِنُ إجَارَتُهَا بِخِلَافِ الْأَرْضِ وَأَبَاحُوا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمُزَارَعَةِ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ ؛ فَأَبَاحُوا الْمُزَارَعَةَ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ أَغْلَبَ . أَوْ قَدَّرُوا ذَلِكَ بِالثُّلُثِ كَقَوْلِ مَالِكٍ . وَأَمَّا جُمْهُورُ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فَقَالُوا : هَذَا مِنْ بَابِ الْمُشَارَكَةِ لَا مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ الَّتِي يُقْصَدُ فِيهَا الْعَمَلُ ؛ فَإِنَّ مَقْصُودَ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يَحْصُلُ مِنْ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ ؛ وَهُمَا مُتَشَارِكَانِ : هَذَا بِبَدَنِهِ وَهَذَا بِمَالِهِ كَالْمُضَارَبَةِ . وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ : أَنَّ هَذِهِ الْمُشَارَكَاتِ إذَا فَسَدَتْ وَجَبَ نَصِيبُ الْمِثْلِ لَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ فَيَجِبُ مِنْ الرِّبْحِ أَوْ النَّمَاءِ إمَّا ثُلُثُهُ وَإِمَّا نِصْفُهُ ؛ كَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ؛ وَلَا يَجِبُ أُجْرَةٌ مُقَدَّرَةٌ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَسْتَغْرِقُ الْمَالَ وَأَضْعَافَهُ وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي الْفَاسِدِ

مِنْ الْعُقُودِ نَظِيرَ مَا يَجِبُ فِي الصَّحِيحِ وَالْوَاجِبُ فِي الصَّحِيحِ لَيْسَ هُوَ أُجْرَةً مُسَمَّاةً ؛ بَلْ جُزْءٌ شَائِعٌ مِنْ الرِّبْحِ مُسَمًّى فَيَجِبُ فِي الْفَاسِدَةِ نَظِيرُ ذَلِكَ وَالْمُزَارَعَةُ أَحَلُّ مِنْ الْمُؤَاجَرَةِ وَأَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ وَالْأُصُولِ ؛ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَالْمَغْرَمِ ؛ بِخِلَافِ الْمُؤَاجَرَةِ فَإِنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ تُسَلَّمُ لَهُ الْأُجْرَةُ وَالْمُسْتَأْجِرُ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ زَرْعٌ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ هَذَا ؛ وَجَوَازِ هَذَا . وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُمَا .
وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْأَرْضُ مُقْطَعَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ مُقْطَعَةً وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ - لَا أَهْلَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبِعَةِ وَلَا غَيْرَهُمْ - قَالَ : إنَّ إجَارَةَ الْإِقْطَاعِ لَا تَجُوزُ وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُؤَجِّرُونَ الْأَرْضَ الْمُقْطَعَةَ مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ إلَى زَمَنِنَا هَذَا ؛ لَكِنَّ بَعْضَ أَهْلِ زَمَانِنَا ابْتَدَعُوا هَذَا الْقَوْلَ ؛ قَالُوا : لِأَنَّ الْمُقْطَعَ لَا يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ ؛ فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَعِيرِ إذَا أَكْرَى الْأَرْضَ الْمُعَارَةَ وَهَذَا الْقِيَاسُ خَطَأٌ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَمْ تَكُنْ الْمَنْفَعَةُ حَقًّا لَهُ ؛ وَإِنَّمَا تَبَرَّعَ لَهُ الْمُعِيرُ بِهَا وَأَمَّا أَرَاضِي الْمُسْلِمِينَ فَمَنْفَعَتُهَا حَقٌّ لِلْمُسْلِمِينَ ؛ وَوَلِيُّ الْأَمْرِ قَاسِمٌ يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ حُقُوقَهُمْ لَيْسَ مُتَبَرِّعًا لَهُمْ كَالْمُعِيرِ وَالْمَقْطَعُ يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ بِحُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ كَمَا يَسْتَوْفِي الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مَنَافِعَ الْوَقْفِ وَأَوْلَى وَإِذَا جَازَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَجِّرَ الْوَقْفَ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَمُوتَ فَتَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِهِ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ : فَلَأَنْ يَجُوزُ لِلْمُقْطِعِ أَنْ يُؤَجِّرَ الْإِقْطَاعَ

وَإِنْ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . الثَّانِي : أَنَّ الْمُعِيرَ لَوْ أَذِنَ فِي الْإِجَارَةِ جَازَتْ الْإِجَارَةُ : مِثْلَ الْإِجَارَةِ فِي الْإِقْطَاعِ وَوَلِيُّ الْأَمْرِ يَأْذَنُ لِلْمُقْطَعِينَ فِي الْإِجَارَةِ وَإِنَّمَا أَقْطَعَهُمْ لِيَنْتَفِعُوا بِهَا : إمَّا بِالْمُزَارَعَةِ وَإِمَّا بِالْإِجَارَةِ وَمَنْ حَرَّمَ الِانْتِفَاعَ بِهَا بِالْمُؤَاجَرَةِ وَالْمُزَارَعَةِ فَقَدْ أَفْسَدَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ ؛ فَإِنَّ الْمَسَاكِنَ كَالْحَوَانِيتِ وَالدُّورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُقْطَعُ إلَّا بِالْإِجَارَةِ . وَأَمَّا الْمَزَارِعُ وَالْبَسَاتِينُ فَيَنْتَفِعُ بِهَا بِالْإِجَارَةِ وَبِالْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ وَالْمُرَابَعَةُ نَوْعٌ مِنْ الْمُزَارَعَةِ وَلَا تَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ إلَّا إذَا اسْتَكْرَى بِإِجَارَةِ مُقَدَّرَةٍ مَنْ يَعْمَلُ لَهُ فِيهَا وَهَذَا لَا يَكَادُ يَفْعَلُهُ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ . لِأَنَّهُ قَدْ يَخْسَرُ مَالَهُ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ ؛ بِخِلَافِ الْمُشَارَكَةِ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَالْمَغْرَمِ ؛ فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ . فَلِهَذَا تَخْتَارُهُ الْفِطَرُ السَّلِيمَةُ . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ إنْ أَجْبَرَ أَهْلَ الصِّنَاعَاتِ عَلَى مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ مِنْ صِنَاعَاتِهِمْ كَالْفِلَاحَةِ وَالْحِيَاكَةِ وَالْبِنَايَةِ فَإِنَّهُ يُقَدِّرُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ ؛ فَلَا يُمَكِّنُ الْمُسْتَعْمِلَ مِنْ نَقْصِ أُجْرَةِ الصَّانِعِ عَنْ ذَلِكَ وَلَا يُمَكِّنُ الصَّانِعَ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَيْثُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ ؛ وَهَذَا مِنْ التَّسْعِيرِ الْوَاجِبِ . وَكَذَلِكَ إذَا احْتَاجَ النَّاسُ إلَى مَنْ يَصْنَعُ لَهُمْ آلَاتِ الْجِهَادِ مِنْ سِلَاحٍ وَجِسْرٍ لِلْحَرْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيُسْتَعْمَلُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ لَا

يُمَكَّنُ الْمُسْتَعْمِلُونَ مِنْ ظُلْمِهِمْ وَلَا الْعُمَّالُ مِنْ مُطَالَبَتِهِمْ بِزِيَادَةِ عَلَى حَقِّهِمْ مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهِمْ فَهَذَا تَسْعِيرٌ فِي الْأَعْمَالِ . وَأَمَّا فِي الْأَمْوَالِ فَإِذَا احْتَاجَ النَّاسُ إلَى سِلَاحٍ لِلْجِهَادِ فَعَلَى أَهْلِ السِّلَاحِ أَنْ يَبِيعُوهُ بِعِوَضِ الْمِثْلِ وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ أَنْ يَحْبِسُوا السِّلَاحَ حَتَّى يَتَسَلَّطَ الْعَدُوُّ أَوْ يُبْذَلَ لَهُمْ مِنْ الْأَمْوَالِ مَا يَخْتَارُونَ وَالْإِمَامُ لَوْ عَيَّنَ أَهْلَ الْجِهَادِ لِلْجِهَادِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا } " أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي عُسْرِهِ وَيُسْرِهِ ؛ وَمَنْشَطِهِ وَمَكْرَهِهِ وَأَثَرَةً عَلَيْهِ } " . فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُجَاهِدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ : فَكَيْفَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْجِهَادِ بِعِوَضِ الْمِثْلِ ؟ وَالْعَاجِزُ عَنْ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ بِمَالِهِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } " أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . فَمَنْ عَجَزَ عَنْ الْجِهَادِ بِالْبَدَنِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْجِهَادُ بِالْمَالِ كَمَا أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ الْجِهَادِ بِالْمَالِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْجِهَادُ بِالْبَدَنِ . وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى الْمَعْضُوبِ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِهِ مَا يَحُجُّ بِهِ الْغَيْرُ عَنْهُ وَأَوْجَبَ الْحَجَّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ بِمَالِهِ فَقَوْلُهُ

ظَاهِرُ التَّنَاقُضِ . وَمِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ النَّاسُ مُحْتَاجِينَ إلَى مَنْ يَطْحَنُ لَهُمْ وَمَنْ يَخْبِزُ لَهُمْ لِعَجْزِهِمْ عَنْ الطَّحْنِ وَالْخَبْزِ فِي الْبُيُوتِ ؛ كَمَا كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مَنْ يَطْحَنُ وَيَخْبِزُ بِكِرَاءِ وَلَا مَنْ يَبِيعُ طَحِينًا وَلَا خُبْزًا بَلْ كَانُوا يَشْتَرُونَ الْحَبَّ وَيَطْحَنُونَهُ وَيَخْبِزُونَهُ فِي بُيُوتِهِمْ ؛ فَلَمْ يَكُونُوا يَحْتَاجُونَ إلَى التَّسْعِيرِ وَكَانَ مَنْ قَدِمَ بِالْحَبِّ بَاعَهُ فَيَشْتَرِيهِ النَّاسُ مِنْ الْجَالِبِينَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ } " وَقَالَ : " { لَا يَحْتَكِرُ إلَّا خَاطِئٌ } " رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَمَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ } " فَحَدِيثٌ ضَعِيفٌ بَلْ بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمَدِينَةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا طَحَّانٌ وَلَا خَبَّازٌ ؛ لِعَدَمِ حَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا فَتَحُوا الْبِلَادَ كَانَ الْفَلَّاحُونَ كُلُّهُمْ كُفَّارًا ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مُشْتَغِلِينَ بِالْجِهَادِ . وَلِهَذَا لَمَّا فَتَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ أَعْطَاهَا لِلْيَهُودِ يَعْمَلُونَهَا فِلَاحَةً ؛ لِعَجْزِ الصَّحَابَةِ عَنْ فِلَاحَتِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى سُكْنَاهَا وَكَانَ الَّذِينَ فَتَحُوهَا أَهْلَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَكَانُوا نَحْوَ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَانْضَمَّ إلَيْهِمْ أَهْلُ سَفِينَةِ جَعْفَرٍ فَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ أَرْضَ خَيْبَرَ فَلَوْ أَقَامَ

طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فِيهَا لِفِلَاحَتِهَا تَعَطَّلَتْ مَصَالِحُ الدِّينِ الَّتِي لَا يَقُومُ بِهَا غَيْرُهُمْ فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفُتِحَتْ الْبِلَادُ وَكَثُرَ الْمُسْلِمُونَ اسْتَغْنَوْا عَنْ الْيَهُودِ فَأَجْلَوْهُمْ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : " { نُقِرُّكُمْ فِيهَا مَا شِئْنَا - وَفِي رِوَايَةٍ - مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ } " وَأَمَرَ بِإِجْلَائِهِمْ مِنْهَا عِنْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " { أَخْرِجُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } " . وَلِهَذَا ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري - إلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُقَرُّونَ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ بِالْجِزْيَةِ إلَّا إذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُحْتَاجِينَ إلَيْهِمْ فَإِذَا اسْتَغْنَوْا عَنْهُمْ أَجْلَوْهُمْ كَأَهْلِ خَيْبَرَ . وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ النَّاسَ إذَا احْتَاجُوا إلَى الطَّحَّانِينَ وَالْخَبَّازِينَ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَحْتَاجُوا إلَى صِنَاعَتِهِمْ ؛ كَاَلَّذِينَ يَطْحَنُونَ وَيَخْبِزُونَ لِأَهْلِ الْبُيُوتِ فَهَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَ الْأُجْرَةَ وَلَيْسَ لَهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِمْ أَنْ يُطَالِبُوا إلَّا بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ كَغَيْرِهِمْ مِنْ الصُّنَّاعِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَحْتَاجُوا إلَى الصَّنْعَةِ وَالْبَيْعِ ؛ فَيَحْتَاجُوا إلَى مَنْ يَشْتَرِي الْحِنْطَةَ وَيَطْحَنُهَا ؛ وَإِلَى مَنْ يَخْبِزُهَا وَيَبِيعُهَا خُبْزًا . لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى

شِرَاءِ الْخُبْزِ مِنْ الْأَسْوَاقِ فَهَؤُلَاءِ لَوْ مُكِّنُوا أَنْ يَشْتَرُوا حِنْطَةَ النَّاسِ الْمَجْلُوبَةِ وَيَبِيعُوا الدَّقِيقَ وَالْخُبْزَ بِمَا شَاءُوا مَعَ حَاجَةِ النَّاسِ إلَى تِلْكَ الْحِنْطَةِ لَكَانَ ذَلِكَ ضَرَرًا عَظِيمًا ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ تُجَّارٌ تَجِبُ عَلَيْهِمْ زَكَاةُ التِّجَارَةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبِعَةِ وَجُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا يَقْصِدُ أَنْ يَبِيعَهُ بِرِبْحِ سَوَاءٌ عَمِلَ فِيهِ عَمَلًا أَوْ لَمْ يَعْمَلْ وَسَوَاءٌ اشْتَرَى طَعَامًا أَوْ ثِيَابًا أَوْ حَيَوَانًا وَسَوَاءٌ كَانَ مُسَافِرًا يَنْقُلُ ذَلِكَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ ؛ أَوْ كَانَ مُتَرَبِّصًا بِهِ يَحْبِسُهُ إلَى وَقْتِ النِّفَاقِ ؛ أَوْ كَانَ مُدِيرًا يَبِيعُ دَائِمًا وَيَشْتَرِي كَأَهْلِ الْحَوَانِيتِ فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ زَكَاةُ التُّجَّارِ وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَصْنَعُوا الدَّقِيقَ وَالْخُبْزَ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ أُلْزِمُوا كَمَا تَقَدَّمَ ؛ أَوْ دَخَلُوا طَوْعًا فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ مِنْ غَيْرِ إلْزَامٍ لِوَاحِدِ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ ؛ فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يُسَعَّرُ عَلَيْهِمْ الدَّقِيقُ وَالْحِنْطَةُ ؛ فَلَا يَبِيعُوا الْحِنْطَةَ وَالدَّقِيقَ إلَّا بِثَمَنِ الْمِثْلِ بِحَيْثُ يَرْبَحُونَ الرِّبْحَ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ بِهِمْ وَلَا بِالنَّاسِ .
وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّسْعِيرِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ :
إحْدَاهُمَا : إذَا كَانَ لِلنَّاسِ سِعْرٌ غَالِبٌ فَأَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَبِيعَ بِأَغْلَى مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ مِنْهُ فِي السُّوقِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ . وَهَلْ يَمْنَعُ النُّقْصَانَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لَهُمْ . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ أَحْمَد : كَأَبِي حَفْصٍ العكبري . وَالْقَاضِي

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131