الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

الْمَسْلَكُ الثَّانِي النَّظَرِيُّ : وَهُوَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : الْقِيَاسُ عَلَى الْبَوْلِ الْمُحَرَّمِ فَنَقُولُ : بَوْلٌ وَرَوْثٌ فَكَانَ نَجِسًا كَسَائِرِ الْأَبْوَالِ فَيَحْتَاجُ هَذَا الْقِيَاسُ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ هُوَ أَنَّهُ بَوْلٌ وَرَوْثٌ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ تَنْبِيهَاتُ النُّصُوصِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { اتَّقُوا الْبَوْلَ } وَقَوْلِهِ : { كَانَ بَنُو إسْرَائِيلَ إذَا أَصَابَ ثَوْبُ أَحَدِهِمْ الْبَوْلَ قَرَضَهُ بِالْمِقْرَاضِ } . وَالْمُنَاسَبَةُ أَيْضًا : فَإِنَّ الْبَوْلَ وَالرَّوْثَ مُسْتَخْبَثٌ مُسْتَقْذَرٌ تَعَافُهُ النُّفُوسُ عَلَى حَدٍّ يُوجِبُ الْمُبَايَنَةَ وَهَذَا يُنَاسِبُ التَّحْرِيمَ حَمْلًا لِلنَّاسِ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَحْوَالِ وَقَدْ شَهِدَ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ تَنَجُّسُ أَرْوَاثِ الْخَبَائِثِ .
الثَّانِي أَنْ نَقُولَ : إذَا فَحَصْنَا وَبَحَثْنَا عَنْ الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ النَّجَاسَاتِ والطهارات ؛ وَجَدْنَا مَا اسْتَحَالَ فِي أَبْدَانِ الْحَيَوَانِ عَنْ أَغْذِيَتِهَا فَمَا صَارَ جُزْءًا فَهُوَ طَيِّبُ الْغِذَاءِ وَمَا فُضِّلَ فَهُوَ خَبِيثُهُ وَلِهَذَا يُسَمَّى رَجِيعًا . كَأَنَّهُ أَخَذَ ثُمَّ رَجَعَ أَيْ رَدَّ . فَمَا كَانَ مِنْ الْخَبَائِثِ يَخْرُجُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَسْفَلِ : كَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ وَالْوَذْي وَالْوَدْيِ فَهُوَ نَجِسٌ . وَمَا خَرَجَ مِنْ الْجَانِبِ الْأَعْلَى : كَالدَّمْعِ وَالرِّيقِ وَالْبُصَاقِ وَالْمُخَاطِ وَنُخَامَةِ الرَّأْسِ فَهُوَ طَاهِرٌ . وَمَا تَرَدَّدَ كَبَلْغَمِ الْمَعِدَةِ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ .

وَهَذَا الْفَصْلُ بَيْنَ مَا خَرَجَ مِنْ أَعْلَى الْبَدَنِ وَأَسْفَلِهِ قَدْ جَاءَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ فِي هَذَا الْمَقَامِ الضَّيِّقِ . الَّذِي لَمْ يُفْقَهْ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى زَعَمَ زَاعِمُونَ أَنَّهُ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ وَابْتِلَاءٌ وَتَمْيِيزٌ بَيْنَ مَنْ يُطِيعُ وَبَيْنَ مَنْ يَعْصِي . وَعِنْدَنَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ بِمُفْرَدِهِ حَتَّى يُضَمَّ إلَيْهِ أَشْيَاءُ أُخَرُ فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا اسْتَحَالَ فِي مَعِدَةِ الْحَيَوَانِ كَالرَّوْثِ وَالْقَيْءِ وَمَا اسْتَحَالَ مِنْ مَعِدَتِهِ كَاللَّبَنِ . وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ : فَهَذِهِ الْأَبْوَالُ وَالْأَرْوَاثُ مِمَّا يَسْتَحِيلُ فِي بَدَنِ الْحَيَوَانِ وَيُنْصَعُ طَيِّبُهُ وَيَخْرُجُ خَبِيثُهُ مِنْ جِهَةِ دُبُرِهِ وَأَسْفَلِهِ وَيَكُونُ نَجِسًا . فَإِنْ فُرِّقَ بِطَيِّبِ لَحْمِ الْمَأْكُولِ وَخُبْثِ لَحْمِ الْمُحَرَّمِ فَيُقَالُ : طَيِّبُ الْحَيَوَانِ وَشَرَفُهُ وَكَرَمُهُ لَا يُوجِبُ طَهَارَةَ رَوْثِهِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا حَرَّمَ لَحْمَهُ كَرَامَةً لَهُ وَشَرَفًا وَمَعَ ذَلِكَ فَبَوْلُهُ أَخْبَثُ الْأَبْوَالِ . أَلَا تَرَى أَنَّكُمْ تَقُولُونَ : إنَّ مُفَارَقَةَ الْحَيَاةِ لَا تُنَجِّسُهُ وَأَنَّ مَا أُبِينَ مِنْهُ وَهُوَ حَيٌّ فَهُوَ طَاهِرٌ أَيْضًا كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ وَإِنْ لَمْ يُؤْكَلْ لَحْمُهُ فَلَوْ كَانَ إكْرَامُ الْحَيَوَانِ مُوجِبًا لِطَهَارَةِ رَوْثِهِ لَكَانَ الْإِنْسَانُ فِي ذَلِكَ الْقَدَحِ الْمُعَلَّى . وَهَذَا سِرُّ الْمَسْأَلَةِ وَلُبَابُهَا . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ فِي الدَّرَجَةِ السُّفْلَى مِنْ الِاسْتِخْبَاثِ وَالطَّبَقَةِ

النَّازِلَةِ مِنْ الِاسْتِقْذَارِ . كَمَا شَهِدَ بِهِ أَنْفُسُ النَّاسِ . وَتَجِدُهُ طَبَائِعُهُمْ وَأَخْلَاقُهُمْ حَتَّى لَا نَكَادَ نَجِدُ أَحَدًا يُنْزِلُهُ مَنْزِلَةَ دُرِّ الْحَيَوَانِ وَنَسْلِهِ وَلَيْسَ لَنَا إلَّا طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ وَإِذَا فَارَقَ الطهارات دَخَلَ فِي النَّجَاسَاتِ وَالْغَالِبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ النَّجَاسَاتِ . مِنْ مُبَاعَدَتِهِ وَمُجَانَبَتِهِ فَلَا يَكُونُ طَاهِرًا ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ إذَا تَجَاذَبَتْهَا الْأُصُولُ لَحِقَتْ بِأَكْثَرِهَا شَبَهًا وَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ اللَّبَنِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْبَوْلِ وَهُوَ بِهَذَا أَشْبَهُ . وَيُقَوِّي هَذَا أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى : { مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الدَّمَ نَجِسٌ فَكَذَلِكَ الْفَرْثُ لِتَظْهَرَ الْقُدْرَةُ وَالرَّحْمَةُ فِي إخْرَاجِ طَيِّبٍ مِنْ بَيْنِ خَبِيثَيْنِ . وَيُبَيِّنُ هَذَا جَمِيعَهُ أَنَّهُ يُوَافِقُ غَيْرَهُ مِنْ الْبَوْلِ فِي خَلْقِهِ وَلَوْنِهِ وَرِيحِهِ وَطَعْمِهِ فَكَيْفَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مَعَ هَذِهِ الْجَوَامِعِ الَّتِي تَكَادُ تَجْعَلُ حَقِيقَةَ أَحَدِهِمَا حَقِيقَةَ الْآخَرِ . فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ : قِيَاسُ التَّمْثِيلِ وَتَعْلِيقُ الْحَكَمِ بِالْمُشْتَرَكِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : قِيَاسُ التَّعْلِيلِ بِتَنْقِيحِ مَنَاطِ الْحُكْمِ وَضَبْطِ أَصْلٍ كُلِّيٍّ . وَالثَّالِثُ : التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جِنْسِ الطَّاهِرَاتِ فَلَا يَجُوزُ إدْخَالُهُ فِيهَا فَهَذِهِ أَنْوَاعُ الْقِيَاسِ . أَصْلٌ وَوَصْلٌ وَفَصْلٌ . فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ : هُوَ الْأَصْلُ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَخْبَاثِ .

وَالثَّانِي : هُوَ الْأَصْلُ وَالْقَاعِدَةُ وَالضَّابِطُ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ . وَالثَّالِثُ : الْفَصْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الطَّاهِرَاتِ وَهُوَ قِيَاسُ الْعَكْسِ فَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْحُجَجِ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ . أَمَّا الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ : فَضَعِيفٌ جِدًّا لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّامَ فِي الْبَوْلِ لِلتَّعْرِيفِ فَتُفِيدُ مَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْمُخَاطِبِينَ فَإِنْ كَانَ الْمَعْرُوفُ وَاحِدًا مَعْهُودًا فَهُوَ الْمُرَادُ وَمَا لَمْ يَكُنْ ثُمَّ عَهِدَ بِوَاحِدِ أَفَادَتْ الْجِنْسَ إمَّا جَمِيعُهُ عَلَى الْمُرْتَضَى أَوْ مُطْلَقُهُ عَلَى رَأْيِ بَعْضِ النَّاسِ وَرُبَّمَا كَانَتْ كَذَلِكَ . وَقَدْ نَصَّ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِاللِّسَانِ وَالنَّظَرِ فِي دَلَالَاتِ الْخِطَابِ أَنَّهُ لَا يُصَارُ إلَى تَعْرِيفِ الْجِنْسِ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ ثُمَّ شَيْءٌ مَعْهُودٌ فَأَمَّا إذَا كَانَ ثُمَّ شَيْءٌ مَعْهُودٌ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى { كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا } { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } صَارَ مَعْهُودًا بِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ وَقَوْلِهِ : { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ } هُوَ مُعَيَّنٌ لِأَنَّهُ مَعْهُودٌ بِتَقَدُّمِ مَعْرِفَتِهِ وَعِلْمِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لِتَعْرِيفِ جِنْسِ ذَلِكَ الِاسْمِ حَتَّى يَنْظُرَ فِيهِ هَلْ يُفِيدُ تَعْرِيفَ عُمُومِ الْجِنْسِ أَوْ مُطْلَقَ الْجِنْسِ فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّهُ مِنْ مَحَاسِنِ الْمَسَالِكِ . فَإِنَّ الْحَقَائِقَ ثَلَاثَةٌ : عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ وَمُطْلَقَةٌ . فَإِذَا قُلْت الْإِنْسَانَ قَدْ تُرِيدُ جَمِيعَ الْجِنْسِ وَقَدْ تُرِيدُ مُطْلَقَ

الْجِنْسِ وَقَدْ تُرِيدُ شَيْئًا بِعَيْنِهِ مِنْ الْجِنْسِ . فَأَمَّا الْجِنْسُ الْعَامُّ : فَوُجُودُهُ فِي الْقُلُوبِ وَالنُّفُوسِ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَتَصَوُّرًا . وَأَمَّا الْخَاصُّ مِنْ الْجِنْسِ : مِثْلُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو فَوُجُودُهُ هُوَ حَيْثُ حَلَّ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَفِي خَارِجِ الْأَذْهَانِ وَقَدْ يُتَصَوَّرُ هَكَذَا فِي الْقَلْبِ خَاصًّا مُتَمَيِّزًا . وَأَمَّا الْجِنْسُ الْمُطْلَقُ مِثْلَ الْإِنْسَانِ الْمُجَرَّدِ عَنْ عُمُومٍ وَخُصُوصٍ الَّذِي يُقَالُ لَهُ نَفْسُ الْحَقِيقَةِ وَمُطْلَقُ الْجِنْسِ فَهَذَا كَمَا لَا يَتَقَيَّدُ فِي نَفْسِهِ لَا يَتَقَيَّدُ بِمَحَلِّهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُدْرَكُ إلَّا بِالْقُلُوبِ فَتُجْعَلُ مَحَلًّا لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَرُبَّمَا جُعِلَ مَوْجُودًا فِي الْأَعْيَانِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ فِي كُلِّ إنْسَانٍ حَظًّا مِنْ مُطْلَقِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَالْمَوْجُودُ فِي الْعَيْنِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْ النَّوْعِ حَظُّهَا وَقِسْطُهَا . فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَقَوْلُهُ : فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَنْزِهُ مِنْ الْبَوْلِ بَيَانٌ لِلْبَوْلِ الْمَعْهُودِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُصِيبُهُ وَهُوَ بَوْلُ نَفْسِهِ . يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا سَبْعَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : مَا رُوِيَ { فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَبْرِئُ مِنْ الْبَوْلِ } وَالِاسْتِبْرَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ بَوْلِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ طَلَبُ بَرَاءَةِ الذَّكَرِ كَاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ مِنْ الْوَلَدِ .

الثَّانِي : أَنَّ اللَّامَ تُعَاقِبُ الْإِضَافَةَ فَقَوْلُهُ : { مِنْ الْبَوْلِ } كَقَوْلِهِ : مِنْ بَوْلِهِ وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ : { مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ } أَيْ أَبْوَابُهَا . الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وُجُوهٍ صَحِيحَةٍ { فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ } وَهَذَا يُفَسِّرُ تِلْكَ الرِّوَايَةَ . ثُمَّ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي اللَّفْظِ مُتَأَخِّرٌ : عَنْ مَنْصُورٍ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُحَدِّثَ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ وَالْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ عَدَمُ تَكَرُّرِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ رَوَوْهُ بِالْمَعْنَى وَلَمْ يَبِنْ أَيُّ اللَّفْظَيْنِ هُوَ الْأَصْلُ . ثُمَّ إنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ اللَّفْظَيْنِ مَعَ أَنَّ مَعْنَى أَحَدِهِمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَعْنَى الْآخَرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا فَالظَّاهِرُ الْمُوَافَقَةُ . يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الْحَدِيثَ فِي حِكَايَةِ حَالٍ لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرَيْنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ . الرَّابِعُ : أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ أَنَّ الْبَوْلَ كَانَ يُصِيبُهُ وَلَا يَسْتَتِرُ مِنْهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ بَوْلُ نَفْسِهِ . الْخَامِسُ : أَنَّ الْحَسَنَ قَالَ : الْبَوْلُ كُلُّهُ نَجِسٌ وَقَالَ أَيْضًا لَا بَأْسَ بِأَبْوَالِ الْغَنَمِ فَعُلِمَ أَنَّ الْبَوْلَ الْمُطْلَقَ عِنْدَهُ هُوَ بَوْلُ الْإِنْسَانِ .

السَّادِسُ : أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ لِلسَّامِعِ عِنْدَ تَجَرُّدِ قَلْبِهِ عَنْ الْوَسْوَاسِ وَالتَّمْرِيحِ فَإِنَّهُ لَا يَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ : فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ إلَّا بَوْلَ نَفْسِهِ . وَلَوْ قِيلَ : أَنَّهُ لَمْ يَخْطُرْ لِأَكْثَرِ النَّاسِ عَلَى بَالِهِمْ جَمِيعُ الْأَبْوَالِ : مِنْ بَوْلِ بَعِيرٍ . وَشَاةٍ وَثَوْرٍ لَكَانَ صِدْقًا . السَّابِعُ : أَنَّهُ يَكْفِي بِأَنْ يُقَالَ : إذَا احْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ بَوْلَ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْمَعْهُودُ وَأَنْ يُرِيدَ جَمِيعَ جِنْسِ الْبَوْلِ لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلِيلِ فَيَقِفُ الِاسْتِدْلَالُ . وَهَذَا لَعَمْرِي تَنْزِلُ وَإِلَّا فَاَلَّذِي قَدَّمْنَا أَصْلٌ مُسْتَقِرٌّ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْبَوْلِ الْمَعْهُودِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَوْلِ وَهُوَ بَوْلُ نَفْسِهِ الَّذِي يُصِيبُهُ غَالِبًا وَيَتَرَشْرَشُ عَلَى أَفْخَاذِهِ وَسُوقِهِ وَرُبَّمَا اسْتَهَانَ بِإِنْقَائِهِ وَلَمْ يَحْكُمْ الِاسْتِنْجَاءَ مِنْهُ فَأَمَّا بَوْلُ غَيْرِهِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ فَإِنَّ حُكْمَهُ وَإِنْ سَاوَى حُكْمَ بَوْلِ نَفْسِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ بَلْ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَقِيقَةِ وَالِاسْتِوَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ يُوجِبُ الِاسْتِوَاءَ فِي الْحُكْمِ . أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَكَادُ يُصِيبُهُ بَوْلُ غَيْرِهِ وَلَوْ أَصَابَهُ لَسَاءَهُ ذَلِكَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ مَوْجُودٍ غَالِبٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ : { اتَّقُوا الْبَوْلَ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ } فَكَيْفَ يَكُونُ عَامَّةُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ شَيْءٍ لَا يَكَادُ يُصِيبُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ وَهَذَا بَيِّنٌ لَا خَفَاءَ بِهِ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَامًّا فِي جَمِيع الْأَبْوَالِ فَسَوْفَ نَذْكُرُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْخَاصَّةِ عَلَى طَهَارَةِ هَذَا النَّوْعِ مَا يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ مِنْ هَذَا الِاسْمِ الْعَامِّ وَمَعْلُومٌ مِنْ الْأُصُولِ الْمُسْتَقِرَّةِ إذَا تَعَارَضَ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ فَالْعَمَلُ بِالْخَاصِّ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ بِهِ إبْطَالٌ لَهُ وَإِهْدَارٌ وَالْعَمَلُ بِهِ تَرْكٌ لِبَعْضِ مَعَانِي الْعَامِّ وَلَيْسَ اسْتِعْمَالُ الْعَامِّ وَإِرَادَةُ الْخَاصِّ بِبِدَعِ فِي الْكَلَامِ بَلْ هُوَ غَالِبٌ كَثِيرٌ . وَلَوْ سَلَّمْنَا التَّعَارُضَ عَلَى التَّسَاوِي مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّ فِي أَدِلَّتِنَا مِنْ الْوُجُوهِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّقْدِيمِ وَالتَّرْجِيحِ وُجُوهًا أُخْرَى مِنْ الْكَثْرَةِ وَالْعَمَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَمِنْ عَجِيبِ مَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ الْبَوْلِ } . وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ إصَابَةَ الْإِنْسَانِ بَوْلَ غَيْرِهِ قَلِيلٌ نَادِرٌ وَإِنَّمَا الْكَثِيرُ إصَابَتُهُ بَوْلُ نَفْسِهِ وَلَوْ كَانَ أَرَادَ أَنْ يُدْرِجَ بَوْلَهُ فِي الْجِنْسِ الَّذِي يَكْثُرُ وُقُوعُ الْعَذَابِ بِنَوْعِ مِنْهُ لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ النَّجَاسَاتِ . وَاعْتَمَدَ أَيْضًا عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ } يَعْنِي الْبَوْلَ وَالنَّجْوَ . وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا يُفِيدُ تَسْمِيَةَ كُلِّ بَوْلٍ وَنَجْوٍ أَخْبَثَ

وَالْأَخْبَثُ حَرَامٌ نَجِسٌ وَهَذَا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ . فَإِنَّ اللَّفْظَ لَيْسَ فِيهِ شُمُولٌ لِغَيْرِ مَا يُدَافِعُ أَصْلًا . وَقَوْلُهُ : " إنَّ الِاسْمَ يَشْمَلُ الْجِنْسَ كُلَّهُ . فَيُقَالُ لَهُ : وَمَا الْجِنْسُ الْعَامُّ ؟ أَكُلُّ بَوْلٍ وَنَجْوٍ ؟ أَمْ بَوْلِ الْإِنْسَانِ وَنَجْوِهِ ؟ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِي يُدَافِعُ كُلَّ شَخْصٍ مِنْ جِنْسِ الَّذِي يُدَافِعُ غَيْرُهُ فَأَمَّا مَا لَا يُدَافِعُ أَصْلًا فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ فَهَذِهِ عُمْدَةُ الْمُخَالِفِ . وَأَمَّا الْمَسْلَكُ النَّظَرِيُّ : فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ : مُجْمَلٍ وَمُفَصَّلٍ . أَمَّا الْمُفَصَّلُ فَالْجَوَابُ عَنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ بَوْلٌ وَرَوْثٌ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَنْبِيهِ النُّصُوصِ فَقَدْ سَلَفَ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا بَوْلُ الْإِنْسَانِ . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ فَنَقُولُ : التَّعْلِيلُ : إمَّا أَنْ يَكُونَ بِجِنْسِ اسْتِخْبَاثِ النَّفْسِ وَاسْتِقْذَارِهَا أَوْ بِقَدْرِ مَحْدُودٍ مِنْ الِاسْتِخْبَاثِ وَالِاسْتِقْذَارِ . فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ : وَجَبَ تَنْجِيسُ كُلِّ مُسْتَخْبَثٍ مُسْتَقْذَرٍ فَيَجِبُ نَجَاسَةُ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالنُّخَامَةِ ؛ بَلْ نَجَاسَةُ الْمَنِيِّ الَّذِي جَاءَ الْأَثَرُ بِإِمَاطَتِهِ مِنْ الثِّيَابِ ؛ بَلْ رُبَّمَا نَفَرَتْ النُّفُوسُ عَنْ بَعْضِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَشَدُّ مِنْ نُفُورِهَا عَنْ أَرْوَاثِ الْمَأْكُولِ مِنْ الْبَهَائِمِ مِثْلَ مَخْطَةِ الْمَجْذُومِ إذَا اخْتَلَطَتْ

بِالطَّعَامِ وَنُخَامَةُ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ إذَا وُضِعَتْ فِي الشَّرَابِ وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ مَدْعَاةً لِبَعْضِ الْأَنْفُسِ إلَى أَنْ يَذْرَعَهُ الْقَيْءُ . وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيلُ بِقَدْرِ مُوَقَّتٍ مِنْ الِاسْتِقْذَارِ فَهَذَا قَدْ يَكُونُ حَقًّا لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَدْرِ مِنْ الِاسْتِخْبَاثِ الْمُوجِبِ لِلتَّنْجِيسِ وَبَيْنَ مَا لَا يُوجِبُ وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ وَلَعَلَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ مِمَّا يَنْقُضُ بَيَانَ اسْتِقْذَارِهَا الْحَدُّ الْمُعْتَبَرُ . ثُمَّ إنَّ التَّقْدِيرَاتِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْأَحْكَامِ إنَّمَا تُعْلَمُ مِنْ جِهَةِ اسْتِقْذَارِهَا عَنْ الشَّرْعِ فِي الْأَمْرِ الْغَالِبِ فَنَقُولُ : مَتَى حُكِمَ بِنَجَاسَةِ نَوْعٍ عَلِمْنَا أَنَّهُ مِمَّا غَلُظَ اسْتِخْبَاثُهُ وَمَتَى لَمْ يُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ نَوْعٍ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَغْلُظْ اسْتِخْبَاثُهُ فَنَعُودُ مُسْتَدِلِّينَ بِالْحُكْمِ عَلَى الْمُعْتَبَرِ مِنْ الْعِلَّةِ فَمَتَى اسْتَرَبْنَا فِي الْحُكْمِ فَنَحْنُ فِي الْعِلَّةِ أَشَدُّ اسْتِرَابَةً فَبَطَلَ هَذَا . وَأَمَّا الشَّاهِدُ بِالِاعْتِبَارِ فَكَمَا أَنَّهُ شَهِدَ لِجِنْسِ الِاسْتِخْبَاثِ شَهِدَ لِلِاسْتِخْبَاثِ الشَّدِيدِ وَالِاسْتِقْذَارِ الْغَلِيظِ . وَثَانِيهِمَا أَنْ نَقُولَ : لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ؟ وَهَذِهِ عِلَّةٌ مُطَّرِدَةٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنَّا وَمِنْ الْمُخَالِفِينَ . فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالِانْعِكَاسُ إنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَقَدْ حَصَلَ الْغَرَضُ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فِي الْعِلَلِ فَنَقُولُ فِيهِ مَا قَالُوا فِي اطِّرَادِ الْعِلَّةِ وَأَوْلَى حَيْثُ خُولِفُوا فِيهِ

وَعَدَمُ الِانْعِكَاسِ أَيْسَرُ مِنْ عَدَمِ الِاطِّرَادِ . وَإِذَا افْتَرَقَ الصِّنْفَانِ فِي اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ وَاللَّبَنِ وَالشَّعْرِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ افْتِرَاقُهُمَا فِي الرَّوْثِ وَالْبَوْلِ وَهَذِهِ الْمُنَاسَبَةُ أَبْيَنُ ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ هُوَ بَعْضٌ مِنْ أَبِعَاضِ الْبَهِيمَةِ أَوْ مُتَوَلَّدٍ مِنْهَا فَيَلْحَقُ سَائِرَهَا قِيَاسًا لِبَعْضِ الشَّيْءِ عَلَى جُمْلَتِهِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مَنْقُوضٌ بِالْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ وَلَبَنُهُ طَاهِرٌ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَمْوَاهِهِ وَفَضَلَاتِهِ وَمَعَ هَذَا فَرَوْثُهُ وَبَوْلُهُ مِنْ أَخْبَثِ الْأَخْبَاثِ فَحَصَلَ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ الْبَوْلِ وَغَيْرِهِ . فَنَقُولُ : اعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ فَارَقَ غَيْرَهُ مِنْ الْحَيَوَانِ فِي هَذَا الْبَابِ طَرْدًا وَعَكْسًا فَقِيَاسُ الْبَهَائِمِ بَعْضُهَا بِبَعْضِ وَجَعْلُهَا فِي حَيِّزٍ يُبَايِنُ حَيِّزَ الْإِنْسَانِ وَجُعِلَ الْإِنْسَانُ فِي حَيِّزٍ هُوَ الْوَاجِبُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ عَلَى الْمُخْتَارِ وَهِيَ تَنْجُسُ بِالْمَوْتِ ثُمَّ بَوْلُهُ أَشَدُّ مِنْ بَوْلِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ تَحْرِيمَهُ مُفَارِقٌ لِتَحْرِيمِ غَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ لِكَرَمِ نَوْعِهِ وَحُرْمَتِهِ حَتَّى يُحَرِّمَ الْكَافِرُ وَغَيْرُهُ وَحَتَّى لَا يَحِلَّ أَنْ يُدْبَغُ جِلْدُهُ مَعَ أَنَّ بَوْلَهُ أَشَدُّ وَأَغْلَظُ فَهَذَا وَغَيْرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَوْلَ الْإِنْسَانِ فَارَقَ سَائِرَ فَضَلَاتِهِ أَشَدَّ مِنْ مُفَارَقَةِ بَوْلِ الْبَهَائِمِ فَضَلَاتُهَا إمَّا لِعُمُومِ

مُلَابَسَتِهِ حَتَّى لَا يَسْتَخِفَّ بِهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يُقَالُ فِي عَذِرَةِ الْإِنْسَانِ وَبَوْلِهِ مِنْ الْخَبَثِ وَالنَّتِنِ وَالْقَذِرِ مَا لَيْسَ فِي عَامَّةِ الْأَبْوَالِ وَالْأَرْوَاثِ . وَفِي الْجُمْلَةِ فَإِلْحَاقُ الْأَبْوَالِ بِاللُّحُومِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ أَحْسَنُ طَرْدًا مِنْ غَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي : فَنَقُولُ ذَلِكَ الْأَصْلُ فِي الْآدَمِيِّينَ مُسَلَّمٌ وَاَلَّذِي جَاءَ عَنْ السَّلَفِ إنَّمَا جَاءَ فِيهِمْ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ فِي أَبْدَانِهِمْ وَخُرُوجُهُ مِنْ الشِّقِّ الْأَعْلَى أَوْ الْأَسْفَلِ فَمِنْ أَيْنَ يُقَالُ كَذَلِكَ سَائِرُ الْحَيَوَانِ ؛ وَقَدْ مَضَتْ الْإِشَارَةُ إلَى الْفَرْقِ ثُمَّ مُخَالِفُوهُمْ يَمْنَعُونَهُمْ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ فِي الْبَهَائِمِ ؛ فَيَقُولُونَ : قَدْ ثَبَتَ أَنَّ مَا خَبُثَ لَحْمُهُ خَبُثَ لَبَنُهُ وَمَنِيُّهُ ؛ بِخِلَافِ الْآدَمِيِّ فَبَطَلَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي الِاسْتِحَالَةِ : بَلْ قَدْ يَقُولُونَ : إنَّ جَمِيعَ الْفَضَلَاتِ الرَّطْبَةِ مِنْ الْبَهَائِمِ حُكْمُهَا سَوَاءٌ فَمَا طَابَ لَحْمُهُ طَابَ لَبَنُهُ وَبَوْلُهُ وَرَوْثُهُ وَمَنِيُّهُ وَعَرَقُهُ وَرِيقُهُ وَدَمْعُهُ . وَمَا خَبُثَ لَحْمُهُ خَبُثَ لَبَنُهُ وَرِيقُهُ وَبَوْلُهُ وَرَوْثُهُ وَمَنِيُّهُ وَعَرَقُهُ وَدَمْعُهُ وَهَذَا قَوْلٌ يَقُولُهُ أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَقَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَاللَّبَنُ وَالْمَنِيُّ يَشْهَدُ لَهُمْ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ شَهَادَةً قَاطِعَةً وَبِاسْتِوَاءِ الْفَضَلَاتِ مِنْ الْحَيَوَانِ ضَرْبًا مِنْ الشَّهَادَةِ ؛ فَعَلَى هَذَا يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يَخْرُجُ مِنْ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ لِمَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ فَإِنَّهُ مُنْتَصِبُ الْقَامَةِ نَجَاسَتُهُ كُلُّهَا فِي أَعَالِيهِ . وَمَعِدَتُهُ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ اسْتِحَالَةِ

الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الشِّقِّ الْأَسْفَلِ . وَأَمَّا الثَّدْيُ وَنَحْوُهُ فَهُوَ فِي الشِّقِّ الْأَعْلَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَهِيمَةُ . فَإِنَّ ضَرْعَهَا فِي الْجَانِبِ الْمُؤَخَّرِ مِنْهَا وَفِيهِ اللَّبَنُ الطَّيِّبُ وَلَا مَطْمَعَ فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحَزْوَرَاتِ . وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ : فَمَدَارُهُ عَلَى الْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الطَّاهِرَاتِ فَإِنْ فُصِلَ بِنَوْعِ الِاسْتِقْذَارِ بَطَلَ بِجَمِيعِ الْمُسْتَقْذَرَاتِ الَّتِي رُبَّمَا كَانَتْ أَشَدَّ اسْتِقْذَارًا مِنْهُ وَإِنْ فُصِلَ بِقَدْرِ خَاصٍّ فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْقِيتِهِ وَقَدْ مَضَى تَقْرِيرُ هَذَا . وَأَمَّا الْجَوَابُ الْعَامُّ فَمِنْ أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ الْآثَارِ الْمَنْصُوصَةِ وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدُ الْوَضْعِ وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ مَا فَرَّقَتْ السَّنَة بَيْنَهُ فَقَدْ ضَاهَى قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا : { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } وَلِذَلِكَ طَهَّرَتْ السُّنَّةُ هَذَا وَنَجَّسَتْ هَذَا . الثَّانِي : أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ فِي بَابٍ لَمْ تَظْهَرْ أَسْبَابُهُ وَأَنْوَاطُهُ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ مَأْخَذُهُ وَمَا . . . (1) ، بَلْ النَّاسُ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ : إمَّا قَائِلٌ يَقُولُ هَذَا اسْتِعْبَادٌ مَحْضٌ وَابْتِلَاءٌ صَرْفٌ فَلَا قِيَاسَ وَلَا إلْحَاقَ وَلَا اجْتِمَاعَ وَلَا افْتِرَاقَ

وَإِمَّا قَائِلٌ يَقُولُ : دَقَّتْ عَلَيْنَا عِلَلُهُ وَأَسْبَابُهُ وَخَفِيَتْ عَلَيْنَا مَسَالِكُهُ وَمَذَاهِبُهُ وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ إلَيْنَا رَسُولًا يُزَكِّينَا وَيُعَلِّمُنَا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ بَعَثَهُ إلَيْنَا وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ شَيْئًا فَإِنَّمَا نَصْنَعُ مَا رَأَيْنَاهُ يَصْنَعُ وَالسُّنَّةُ لَا تُضْرَبُ لَهَا الْأَمْثَالُ وَلَا تُعَارَضُ بِآرَاءِ الرِّجَالِ وَالدِّينِ لَيْسَ بِالرَّأْيِ وَيَجِبُ أَنْ يُتَّهَمَ الرَّأْيُ عَلَى الدِّينِ وَالْقِيَاسُ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ مُمْتَنِعٌ بِاتِّفَاقِ أُولِي الْأَلْبَابِ . الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ : هَذَا كُلُّهُ مَدَارُهُ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَبَوْلِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُفْتَرِقَيْنِ فَإِنَّ رِيحَ الْمُحَرَّمِ خَبِيثَةٌ وَأَمَّا رِيحُ الْمُبَاحِ فَمِنْهُ مَا قَدْ يُسْتَطَابُ : مِثْلَ أَرْوَاثِ الظِّبَاءِ وَغَيْرِهَا . وَمَا لَمْ يَسْتَطِبْ مِنْهُ فَلَيْسَ رِيحُهُ كَرِيحِ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ خَلْقُهُ غَالِبًا فَإِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ الْمُبَاحِ وَهَذَا لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي حَقِيقَةِ الْمَسْأَلَةِ وَسَنَعُودُ إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي آخِرِهَا .
الدَّلِيلُ الثَّانِي : الْحَدِيثُ الْمُسْتَفِيضُ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ وَغَيْرُهُمْ حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّ نَاسًا مَنَّ عُكْلٍ أَوْ عُرَينة قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا فَأَمَرَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَقَاحِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ } . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . فَوَجْهُ الْحُجَّةِ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ فِي شُرْبِ الْأَبْوَالِ وَلَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَ أَفْوَاهَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ وَثِيَابَهُمْ وَآنِيَتَهُمْ فَإِذَا كَانَتْ

نَجِسَةً وَجَبَ تَطْهِيرُ أَفْوَاهِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ وَثِيَابِهِمْ لِلصَّلَاةِ وَتَطْهِيرُ آنِيَتِهِمْ فَيَجِبُ بَيَانُ ذَلِكَ لَهُمْ : لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ لَا يَجُوزُ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ إمَاطَةُ مَا أَصَابَهُمْ مِنْهُ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ نَجِسٍ وَمِنْ الْبَيِّنِ أَنْ لَوْ كَانَتْ أَبْوَالُ الْإِبِلِ كَأَبْوَالِ النَّاسِ لَأَوْشَكَ أَنْ يَشْتَدَّ تَغْلِيظُهُ فِي ذَلِكَ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا نَجِسَةٌ وَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وُجُوبَ التَّطْهِيرِ مِنْ النَّجَاسَاتِ فَقَدْ أَبْعَدَ غَايَةَ الْإِبْعَادِ وَأَتَى بِشَيْءِ قَدْ يُسْتَيْقَنُ بُطْلَانُهُ لِوُجُوهِ : ( أَحَدُهَا أَنَّ الشَّرِيعَةَ أَوَّلُ مَا شُرِعَتْ كَانَتْ أَخْفَى وَبَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ وَتَنَاقُلِ الْعِلْمِ وَإِفْشَائِهِ صَارَتْ أَبْدَى وَأَظْهَرَ وَإِذَا كُنَّا إلَى الْيَوْمِ لَمْ يَسْتَبِنْ لَنَا نَجَاسَتُهَا بَلْ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى طَهَارَتِهَا وَعَامَّةُ التَّابِعِينَ عَلَيْهِ بَلْ قَدْ قَالَ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ : إنَّ السَّلَفَ مَا كَانُوا يُنَجِّسُونَهَا وَلَا يَتَّقُونَهَا . وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ : وَعَلَيْهِ اعْتِمَادُ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ وَقَدْ ذُكِرَ طَهَارَةُ الْأَبْوَالِ عَنْ عَامَّةِ السَّلَفِ . ثُمَّ قَالَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : الْأَبْوَالُ كُلُّهَا نَجَسٌ . قَالَ : وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ قَبْلَ الشَّافِعِيِّ إنَّ أَبْوَالَ الْأَنْعَامِ وأبعارها نَجَسٌ . ( قُلْت وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بَوْلِ النَّاقَةِ فَقَالَ :

اغْسِلْ مَا أَصَابَك مِنْهُ . وَعَنْ الزُّهْرِيِّ فِيمَا يُصِيبُ الرَّاعِيَ مِنْ أَبْوَالِ الْإِبِلِ قَالَ : يُنْضَحُ . وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي بَوْلِ الشَّاةِ وَالْبَعِيرِ يُغْسَلُ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ نَجَاسَةُ ذَلِكَ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ فِيهِ فَلَعَلَّ الَّذِي أَرَادَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ اجْتِنَابِ قَلِيلِ الْبَوْلِ وَالرَّوْثِ وَكَثِيرِهِ . فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ أَمَرَ بِغَسْلِهِ كَمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْمَنِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى مَكَانٍ فِيهِ رَوْثُ الدَّوَابِّ وَالصَّحْرَاءُ أَمَامَهُ . وَقَالَ هَاهُنَا وَهَاهُنَا سَوَاءٌ . وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ لَا بَأْسَ بِبَوْلِ كُلِّ ذِي كِرْشٍ . وَلَسْت أَعْرِفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْقَوْلَ بِنَجَاسَتِهَا ؛ بَلْ الْقَوْلُ بِطَهَارَتِهَا ؛ إلَّا مَا ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ إنْ كَانَ أَرَادَ النَّجَاسَةَ فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ ذَلِكَ مَعْلُومًا لِأُولَئِكَ .
وَثَانِيهَا : أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا فَوُجُوبُ التَّطَهُّرِ مِنْ النَّجَاسَةِ لَيْسَ مِنْ الْأُمُورِ الْبَيِّنَةِ قَدْ أَنْكَرَهُ فِي الثِّيَابِ طَائِفَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ فَمِنْ أَيْنَ يَعْلَمُهُ أُولَئِكَ ؟ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مُسْتَفِيضًا بَيْنَ ظهراني الصَّحَابَةِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَعْلَمَهُ أُولَئِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ حَدِيثُو الْعَهْدِ بِالْجَاهِلِيَّةِ وَالْكُفْرِ فَقَدْ كَانُوا

يَجْهَلُونَ أَصْنَافَ الصَّلَوَاتِ وَأَعْدَادَهَا وَأَوْقَاتَهَا وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ الشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ فَجَهْلُهُمْ بِشَرْطِ خَفِيٍّ فِي أَمْرٍ خَفِيٍّ أَوْلَى وَأَحْرَى لَا سِيَّمَا وَالْقَوْمُ لَمْ يَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ أَدْنَى تَفَقُّهٍ وَلِذَلِكَ ارْتَدُّوا وَلَمْ يُخَالِطُوا أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ ؛ بَلْ حِينَ أَسْلَمُوا وَأَصَابَهُمْ الِاسْتِيخَامُ أَمَرَهُمْ بِالْبَدَاوَةِ فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مِنْ أَيْنَ لَهُمْ الْعِلْمُ بِهَذَا الْأَمْرِ الْخَفِيِّ .
وَرَابِعُهَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ فِي تَعْلِيمِهِ وَإِرْشَادِهِ وَاكِلًا لِلتَّعْلِيمِ إلَى غَيْرِهِ ؛ بَلْ يُبَيِّنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ لِمَنْ أَحْسَنَ الْمَعْرِفَةَ بِالسُّنَنِ الْمَاضِيَةِ .
وَخَامِسُهَا : أَنَّهُ لَيْسَ الْعِلْمُ بِنَجَاسَةِ هَذِهِ الْأَرْوَاثِ أَبْيَنَ مِنْ الْعِلْمِ بِنَجَاسَةِ بَوْلِ الْإِنْسَانِ الَّذِي قَدْ عَلِمَهُ الْعَذَارَى فِي حِجَالِهِنَّ وَخُدُورِهِنَّ ثُمَّ قَدْ حَذَّرَ مِنْهُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ . فَصَارَ الْأَعْرَابُ الْجُفَاةُ أَعْلَمَ بِالْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ فَهَذَا كَمَا تَرَى .
وَسَادِسُهَا : أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَبْوَالِ وَالْأَلْبَانِ وَأَخْرَجَهُمَا مَخْرَجًا وَاحِدًا وَالْقِرَانُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إنْ لَمْ يُوجِبْ اسْتِوَاءَهُمَا فَلَا بُدَّ أَنْ يُورِثَ شُبْهَةً فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْبَيَانُ وَاجِبًا لَكَانَتْ الْمُقَارَنَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّاهِرِ مُوجِبَةً لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا إنْ كَانَ التَّمْيِيزُ حَقًّا .

وَفِي الْحَدِيثِ دِلَالَةٌ أُخْرَى فِيهَا تَنَازُعٌ وَهُوَ أَنَّهُ أَبَاحَ لَهُمْ شُرْبَهَا وَلَوْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً نَجِسَةً لَمْ يُبِحْ لَهُمْ شُرْبَهَا وَلَسْت أَعْلَمُ مُخَالِفًا فِي جَوَازِ التَّدَاوِي بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ . كَمَا جَاءَتْ السُّنَّةُ ؛ لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِ مَنَاطِهِ فَقِيلَ : هُوَ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِلتَّدَاوِي وَغَيْرِ التَّدَاوِي . وَقِيلَ : بَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ وَإِنَّمَا أَبَاحَهَا لِلتَّدَاوِي . وَقِيلَ : هِيَ مَعَ ذَلِكَ نَجِسَةٌ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْوَجْهِ يَحْتَاجُ إلَى رُكْنٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمَاتِ النَّجِسَةِ مُحَرَّمٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى التَّحْرِيمِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } وَ : { كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ } وَ : { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ } عَامَّةٌ فِي حَالِ التَّدَاوِي وَغَيْرِ التَّدَاوِي فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَخَصَّ الْعُمُومَ ؛ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ أَبَاحَهَا لِلضَّرُورَةِ وَالْمُتَدَاوِي مُضْطَرٌّ فَتُبَاحُ لَهُ أَوْ أَنَّا نَقِيسُ إبَاحَتَهَا لِلْمَرِيضِ عَلَى إبَاحَتِهَا لِلْجَائِعِ بِجَامِعِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا . يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرَضَ يُسْقِطُ الْفَرَائِضَ مِنْ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَالِانْتِقَالِ مِنْ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ إلَى الطَّهَارَةِ بِالصَّعِيدِ فَكَذَلِكَ يُبِيحُ الْمَحَارِمَ ؛ لِأَنَّ الْفَرَائِضَ وَالْمَحَارِمَ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ . يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْحِلْيَةِ وَاللِّبَاسِ مِثْلُ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ

قَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِإِبَاحَةِ اتِّخَاذِ الْأَنْفِ مِنْ الذَّهَبِ وَرَبْطِ الْأَسْنَانِ بِهِ وَرَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي لِبَاسِ الْحَرِيرِ مِنْ حَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأُصُولُ الْكَثِيرَةُ عَلَى إبَاحَةِ الْمَحْظُورَاتِ حِينَ الِاحْتِيَاجِ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهَا . قُلْت : أَمَّا إبَاحَتُهَا لِلضَّرُورَةِ فَحَقٌّ ؛ وَلَيْسَ التَّدَاوِي بِضَرُورَةِ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَرْضَى أَوْ أَكْثَرُ الْمَرْضَى يَشْفُونَ بِلَا تَدَاوٍ لَا سِيَّمَا فِي أَهْلِ الْوَبَرِ وَالْقُرَى وَالسَّاكِنِينَ فِي نَوَاحِي الْأَرْضِ يَشْفِيهِمْ اللَّهُ بِمَا خَلَقَ فِيهِمْ مِنْ الْقُوَى الْمَطْبُوعَةِ فِي أَبْدَانِهِمْ الرَّافِعَةِ لِلْمَرَضِ وَفِيمَا يُيَسِّرُهُ لَهُمْ مِنْ نَوْعِ حَرَكَةٍ وَعَمَلٍ أَوْ دَعْوَةٍ مُسْتَجَابَةٍ أَوْ رُقْيَةٍ نَافِعَةٍ أَوْ قُوَّةٍ لِلْقَلْبِ وَحُسْنِ التَّوَكُّلِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْكَثِيرَةِ غَيْرِ الدَّوَاءِ وَأَمَّا الْأَكْلُ فَهُوَ ضَرُورِيٌّ وَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ أَبْدَانَ الْحَيَوَانِ تَقُومُ إلَّا بِالْغِذَاءِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ لَمَاتَ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ التَّدَاوِي لَيْسَ مِنْ الضَّرُورَةِ فِي شَيْءٍ . وَثَانِيهَا : أَنَّ الْأَكْلَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَاجِبٌ . قَالَ مَسْرُوقٌ : مَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكُلْ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ وَالتَّدَاوِي غَيْرُ وَاجِبٍ وَمَنْ نَازَعَ فِيهِ : خَصَمَتْهُ السُّنَّةُ فِي الْمَرْأَةِ السَّوْدَاءِ الَّتِي خَيَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَبَيْنَ الدُّعَاءِ

بِالْعَافِيَةِ . فَاخْتَارَتْ الْبَلَاءَ وَالْجَنَّةَ . وَلَوْ كَانَ رَفْعُ الْمَرَضِ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْيِيرِ مَوْضِعٌ كَدَفْعِ الْجُوعِ وَفِي دُعَائِهِ لِأَبِي بِالْحِمَى وَفِي اخْتِيَارِهِ الْحِمَى لِأَهْلِ قُبَاء وَفِي دُعَائِهِ بِفَنَاءِ أُمَّتِهِ بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ وَفِي نَهْيِهِ عَنْ الْفِرَارِ مِنْ الطَّاعُونِ . وَخَصَمَهُ حَالُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ الْمُبْتَلِينَ الصَّابِرِينَ عَلَى الْبَلَاءِ حِينَ لَمْ يَتَعَاطَوْا الْأَسْبَابَ الدَّافِعَةَ لَهُ : مِثْلَ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرِهِ . وَخَصَمَهُ حَالُ السَّلَفِ الصَّالِحِ ؛ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَالُوا لَهُ : أَلَا نَدْعُوَ لَك الطَّبِيبَ ؟ قَالَ : قَدْ رَآنِي قَالُوا : فَمَا قَالُ لَك ؟ قَالَ : إنِّي فَعَّالٌ لِمَا أُرِيدَ . وَمِثْلُ هَذَا وَنَحْوِهِ يُرْوَى عَنْ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْم الْمُخْبِتِ الْمُنِيبِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْكُوفِيِّينَ أَوْ كَأَفْضَلِهِمْ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ الْهَادِي الْمَهْدِيِّ وَخَلْقٍ كَثِيرٍ لَا يُحْصُونَ عَدَدًا . وَلَسْت أَعْلَمُ سَالِفًا أَوْجَبَ التداوي وَإِنَّمَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْمَعْرِفَةِ يُفَضِّلُ تَرْكَهُ تَفَضُّلًا وَاخْتِيَارًا ؛ لِمَا اخْتَارَ اللَّهُ وَرِضًى بِهِ وَتَسْلِيمًا لَهُ وَهَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يُوجِبُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّهُ وَيُرَجِّحُهُ . كَطَرِيقَةِ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ اسْتِمْسَاكًا لِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَجَعَلَهُ مِنْ سُنَّتِهِ فِي عِبَادِهِ .

وَثَالِثُهَا : أَنَّ الدَّوَاءَ لَا يُسْتَيْقَنُ بَلْ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرَاضِ لَا يَظُنُّ دَفْعَهُ لِلْمَرَضِ ؛ إذْ لَوْ اطَّرَدَ ذَلِكَ لَمْ يَمُتْ أَحَدٌ بِخِلَافِ دَفْعِ الطَّعَامِ لِلْمَسْغَبَةِ وَالْمُجَاعَةِ فَإِنَّهُ مُسْتَيْقَنٌ بِحُكْمِ سُنَّةِ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ وَخَلْقِهِ . وَرَابِعُهَا : أَنَّ الْمَرَضَ يَكُونُ لَهُ أَدْوِيَةٌ شَتَّى فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ بِالْمُحَرَّمِ انْتَقَلَ إلَى الْمُحَلَّلِ وَمُحَالٌ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فِي الْحَلَالِ شِفَاءٌ أَوْ دَوَاءٌ وَاَلَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ أَنْزَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً إلَّا الْمَوْتَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَدْوِيَةُ الْأَدْوَاءِ فِي الْقِسْمِ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ . وَإِلَى هَذَا الْإِشَارَةُ بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ : { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا } بِخِلَافِ الْمَسْغَبَةِ فَإِنَّهَا وَإِنْ انْدَفَعَتْ بِأَيِّ طَعَامٍ اتَّفَقَ إلَّا أَنَّ الْخَبِيثَ إنَّمَا يُبَاحُ عِنْدَ فَقْدِ غَيْرِهِ فَإِنْ صَوَّرْت مِثْلَ هَذَا فِي الدَّوَاءِ فَتِلْكَ صُورَةٌ نَادِرَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ أَنْدَرُ مِنْ الْجُوعِ بِكَثِيرِ وَتَعَيُّنُ الدَّوَاءِ الْمُعَيَّنِ وَعَدَمُ غَيْرِهِ نَادِرٌ فَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا . عَلَى أَنَّ فِي الْأَوْجُهِ السَّالِفَةِ غِنًى . وَخَامِسُهَا : وَفِيهِ فِقْهُ الْبَابِ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ خَلْقَهُ مُفْتَقِرِينَ إلَى الطَّعَامِ وَالْغِذَاءِ لَا تَنْدَفِعُ مَجَاعَتُهُمْ وَمَسْغَبَتُهُمْ إلَّا بِنَوْعِ الطَّعَامِ وَصِنْفِهِ فَقَدْ هَدَانَا وَعَلَّمَنَا النَّوْعَ الْكَاشِفَ لِلْمَسْغَبَةِ الْمُزِيلَ لِلْمَخْمَصَةِ . وَأَمَّا الْمَرَضُ فَإِنَّهُ يُزِيلُهُ بِأَنْوَاعِ كَثِيرَةٍ مِنْ الْأَسْبَابِ : ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ رُوحَانِيَّةٍ وَجُسْمَانِيَّةٍ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ الدَّوَاءُ مُزِيلًا . ثُمَّ الدَّوَاءُ بِنَوْعِهِ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِنَوْعِ مِنْ

أَنْوَاعِ الْأَجْسَامِ فِي إزَالَةِ الدَّاءِ الْمُعَيَّنِ . ثُمَّ ذَلِكَ النَّوْعُ الْمُعَيَّنُ يَخْفَى عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ بَلْ عَلَى عَامَّتِهِمْ دَرْكُهُ وَمَعْرِفَتُهُ الْخَاصَّةُ الْمُزَاوِلُونَ مِنْهُمْ هَذَا الْفَنَّ أُولُوا الْأَفْهَامِ وَالْعُقُولِ يَكُونُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ قَدْ أَفْنَى كَثِيرًا مِنْ عُمْرِهِ فِي مَعْرِفَتِهِ ذَلِكَ ثُمَّ يَخْفَى عَلَيْهِ نَوْعُ الْمَرَضِ وَحَقِيقَتُهُ وَيَخْفَى عَلَيْهِ دَوَاؤُهُ وَشِفَاؤُهُ فَفَارَقَتْ الْأَسْبَابُ الْمُزِيلَةُ لِلْمَرَضِ الْأَسْبَابَ الْمُزِيلَةَ لِلْمَخْمَصَةِ فِي هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْبَيِّنَةِ وَغَيْرِهَا فَكَذَلِكَ افْتَرَقَتْ أَحْكَامُهَا كَمَا ذَكَرْنَا . وَبِهَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ الْأَقْيِسَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ فِيهَا يَسْقُطُ وَيُبَاحُ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ مَا حَضَرَنِي الْآنَ . أَمَّا سُقُوطُ مَا يَسْقُطُ مِنْ الْقِيَامِ وَالصِّيَامِ وَالِاغْتِسَالِ ؛ فَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ مُسْتَيْقَنَةٌ بِخِلَافِ التَّدَاوِي . وَأَيْضًا فَإِنَّ تَرْكَ الْمَأْمُورِ بِهِ أَيْسَرُ مِنْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فَانْظُرْ كَيْفَ أَوْجَبَ الِاجْتِنَابَ عَنْ كُلِّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ وَفَرَّقَ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ بَيْنَ الْمُسْتَطَاعِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا يَكَادُ يَكُونُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا فِي الْمَسْأَلَةِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْوَاجِبَاتِ مِنْ الْقِيَامِ وَالْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ تَسْقُطُ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِاسْتِبَاحَةِ شَيْءٍ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ وَهَذَا بَيِّنٌ بِالتَّأَمُّلِ .

وَأَمَّا الْحِلْيَةُ : فَإِنَّمَا أُبِيحَ الذَّهَبُ لِلْأَنْفِ وَرَبْطِ الْأَسْنَانِ ؛ لِأَنَّهُ اضْطِرَارٌ وَهُوَ يَسُدُّ الْحَاجَةَ يَقِينًا كَالْأَكْلِ فِي الْمَخْمَصَةِ . وَأَمَّا لُبْسُ الْحَرِيرِ : لِلْحَكَّةِ وَالْجَرَبِ إنْ سَلِمَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَرِيرَ وَالذَّهَبَ لَيْسَا مُحَرَّمَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَإِنَّهُمَا قَدْ أُبِيحَا لِأَحَدِ صِنْفَيْ الْمُكَلَّفِينَ وَأُبِيحَ لِلصِّنْفِ الْآخَرِ بَعْضُهُمَا وَأُبِيحَ التِّجَارَةُ فِيهِمَا وَإِهْدَاؤُهُمَا لِلْمُشْرِكِينَ . فَعُلِمَ إنَّهُمَا أُبِيحَا لِمُطْلَقِ الْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ إلَى التَّدَاوِي أَقْوَى مِنْ الْحَاجَةِ إلَى تَزَيُّنِ النِّسَاءِ بِخِلَافِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ النَّجَاسَاتِ . وَأُبِيحَ أَيْضًا لِحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ بِذَلِكَ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ . ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَرِيرِ وَالطَّعَامِ : أَنَّ بَابَ الطَّعَامِ يُخَالِفُ بَابَ اللِّبَاسِ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الطَّعَامِ فِي الْأَبْدَانِ أَشَدُّ مِنْ تَأْثِيرِ اللِّبَاسِ عَلَى مَا قَدْ مَضَى . فَالْمُحَرَّمُ مِنْ الطَّعَامِ لَا يُبَاحُ إلَّا لِلضَّرُورَةِ الَّتِي هِيَ الْمَسْغَبَةُ وَالْمَخْمَصَةُ وَالْمُحَرَّمُ مِنْ اللِّبَاسِ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ وَلِلْحَاجَةِ أَيْضًا هَكَذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ وَلَا جَمْعَ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الضَّرُورَاتِ وَالْحَاجَاتِ مَعْلُومٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشَّرْعِيَّاتِ وَقَدْ حَصَلَ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ مَا يُعَارَضُ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ أَيُتَدَاوَى بِهَا ؟ فَقَالَ : إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ }

فَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ رَدًّا عَلَى مَنْ أَبَاحَهُ وَسَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ مِثْلُهَا قِيَاسًا خِلَافًا لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ قِيَاسَ الْمُحَرَّمِ مِنْ الطَّعَامِ أَشْبَهُ مِنْ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ ؛ بَلْ الْخَمْرُ قَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي بَعْضِ أَيَّامِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ أَبَاحَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ نَوْعِهَا الشُّرْبَ دُونَ الْإِسْكَارِ وَالْمَيْتَةُ وَالدَّمُ بِخِلَافِ ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : الْخَمْرُ قَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هِيَ دَوَاءٌ بِخِلَافِ غَيْرِهَا . وَأَيْضًا فَفِي إبَاحَةِ التَّدَاوِي بِهَا إجَازَةُ اصْطِنَاعِهَا وَاعْتِصَارِهَا وَذَلِكَ دَاعٍ إلَى شُرْبِهَا وَلِذَلِكَ اخْتَصَّتْ بِالْحَدِّ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْمَطَاعِمِ الْخَبِيثَةِ لِقُوَّةِ مَحَبَّةِ الْأَنْفُسِ لَهَا . فَأَقُولُ : أَمَّا قَوْلُك : لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هِيَ دَوَاءٌ . فَهُوَ حَقٌّ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِي حَرَامٍ } ثُمَّ مَاذَا تُرِيدُ بِهَذَا ؟ أَتُرِيدُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ فِيهَا قُوَّةً طَبِيعِيَّةً مِنْ السُّخُونَةِ وَغَيْرِهَا ؟ جَرَتْ الْعَادَةُ فِي الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ أَنَّهُ يَنْدَفِعُ بِهَا بَعْضُ الْأَدْوَاءِ الْبَارِدَةِ (1) . كَسَائِرِ الْقُوَى وَالطَّبَائِعِ الَّتِي أَوْدَعَهَا جَمِيعَ الْأَدْوِيَةِ مِنْ الْأَجْسَامِ . أَمْ تُرِيدُ شَيْئًا آخَرَ ؟ فَإِنْ

أَرَدْت الْأَوَّلَ فَهُوَ بَاطِلٌ بِالْقَضَايَا الْمُجَرَّبَةِ الَّتِي تَوَاطَأَتْ عَلَيْهَا الْأُمَمُ وَجَرَتْ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مَجْرَى الضَّرُورِيَّات بَلْ هُوَ رَدٌّ لِمَا يُشَاهَدُ وَيُعَايَنُ . بَلْ قَدْ قِيلَ : إنَّهُ رَدٌّ لِلْقُرْآنِ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى { قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } وَلَعَلَّ هَذَا فِي الْخَمْرِ أَظْهَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَقَالَاتِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ طِيبِ الْأَبْدَانِ . وَإِنْ أَرَدْت أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّهَا دَاءٌ لِلنُّفُوسِ وَالْقُلُوبِ وَالْعُقُولِ وَهِيَ أُمُّ الْخَبَائِثِ وَالنَّفْسُ وَالْقَلْبُ هُوَ الْمَلِكُ الْمَطْلُوبُ صَلَاحُهُ وَكَمَالُهُ وَإِنَّمَا الْبَدَنُ آلَةٌ لَهُ وَهُوَ تَابِعٌ لَهُ مُطِيعٌ لَهُ طَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ رَبَّهَا فَإِذَا صَلَحَ الْقَلْبُ صَلَحَ الْبَدَنُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ فَسَدَ الْبَدَنُ كُلُّهُ فَالْخَمْرُ هِيَ دَاءٌ وَمَرَضٌ لِلْقَلْبِ مُفْسِدٌ لَهُ مُضَعْضِعٌ لِأَفْضَلِ خَوَاصِّهِ الَّذِي هُوَ الْعَقْلُ وَالْعِلْمُ وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ فَسَدَ الْبَدَنُ كُلُّهُ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فَتَصِيرُ دَاءً لِلْبَدَنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِوَاسِطَةِ كَوْنِهَا دَاءً لِلْقَلْبِ . وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَمْوَالِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمَسْرُوقَةِ فَإِنَّهُ رُبَّمَا صَلَحَ عَلَيْهَا الْبَدَنُ وَنَبَتَ وَسَمِنَ لَكِنْ يَفْسُدُ عَلَيْهَا الْقَلْبُ فَيَفْسُدُ الْبَدَنُ بِفَسَادِهِ . وَأَمَّا الْمَصْلَحَةُ : الَّتِي فِيهَا فَإِنَّهَا مَنْفَعَةٌ لِلْبَدَنِ فَقَطْ وَنَفْعُهَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ فَهِيَ وَإِنْ أَصْلَحَتْ شَيْئًا يَسِيرًا فَهِيَ فِي جَنْبِ مَا تُفْسِدُهُ كَلَا إصْلَاحٍ . وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } فَهَذَا لَعَمْرِي شَأْنُ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّ فِيهَا مِنْ

الْقُوَّةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ ثُمَّ الْبَدَنِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا يُرْبِي عَلَى مَا فِيهَا مِنْ مَنْفَعَةٍ قَلِيلَةٍ تَكُونُ فِي الْبَدَنِ وَحْدَهُ فِي الدُّنْيَا خَاصَّةً . عَلَى أَنَّا وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ جِهَةَ الْمَفْسَدَةِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّا نَقْطَعُ أَنَّ فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا يُرْبِي عَلَى مَا نَظُنُّهُ مِنْ الْمَصَالِحِ . فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّ بِهِ يَظْهَرُ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ وَسِرُّهَا . وَأَمَّا إفْضَاؤُهُ إلَى اعْتِصَارِهَا : فَلَيْسَ بِشَيْءِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَخْذُهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ اعْتِصَارُهَا وَإِنَّمَا الْقَوْلُ إذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً أَنَّ هَذَا مُنْتَقِضٌ بِإِطْفَاءِ الْحَرْقِ بِهَا وَدَفْعِ الْغُصَّةِ إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا . وَأَمَّا اخْتِصَاصُهَا بِالْحَدِّ : فَإِنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ يُوجِبُ الْحَدَّ فِي الْمَيْتَةِ أَيْضًا وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ لَكِنَّ الْفَرْقَ أَنَّ فِي النُّفُوسِ دَاعِيًا طَبْعِيًّا وَبَاعِثًا إرَادِيًّا إلَى الْخَمْرِ فَنَصْبُ رَادِعٍ شَرْعِيٍّ وَزَاجِرٍ دُنْيَوِيٍّ أَيْضًا لِيَتَقَابَلَا وَيَكُونَ مَدْعَاةً إلَى قِلَّةِ شُرْبِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُهَا مِمَّا لَيْسَ فِي النُّفُوسِ إلَيْهِ كَثِيرُ مَيْلٍ وَلَا عَظِيمُ طَلَبٍ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : مَا رَوَى حَسَّانُ بْنُ مخارق قَالَ : { قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ اشْتَكَتْ بِنْتٌ لِي فَنَبَذْت لَهَا فِي كُوزٍ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَغْلِي فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ فَقُلْت : إنَّ بِنْتِي اشْتَكَتْ فَنَبَذْنَا لَهَا هَذَا فَقَالَ :

إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِي حَرَامٍ } رَوَاهُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ - وَفِي رِوَايَةٍ { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } وَصَحَّحَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ وَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ { أَنَّ رَجُلًا وُصِفَ لَهُ ضُفْدَعٌ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ وَقَالَ : إنَّ نَقْنَقَتَهَا تَسْبِيحٌ } فَهَذَا حَيَوَانٌ مُحَرَّمٌ وَلَمْ يُبَحْ لِلتَّدَاوِي وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ . وَلَعَلَّ تَحْرِيمَ الضُّفْدَعِ أَخَفُّ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَبَائِثِ غَيْرَهَا فَإِنَّهُ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيهَا أَنَّ نَقْنَقَتَهَا تَسْبِيحٌ فَمَا ظَنُّك بِالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَذَا كُلُّهُ بَيَّنَ لَك اسْتِخْفَافَهُ بِطَلَبِ الطِّبِّ وَاقْتِضَائِهِ وَإِجْرَائِهِ مَجْرَى الرِّفْقِ بِالْمَرِيضِ وَتَطْيِيبِ قَلْبِهِ وَلِهَذَا قَالَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ لِرَجُلِ : قَالَ لَهُ : أَنَا طَبِيبٌ قَالَ : { أَنْتَ رَفِيقٌ وَاَللَّهُ الطَّبِيبُ } . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : مَا رُوِيَ أَيْضًا فِي سُنَنِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ } وَهُوَ نَصٌّ جَامِعٌ مَانِعٌ وَهُوَ صُورَةُ الْفَتْوَى فِي الْمَسْأَلَةِ . الْوَجْهُ السَّادِسُ : الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ : { مَا أُبَالِي مَا أَتَيْت - أَوْ مَا رَكِبْت - إذَا شَرِبْت تِرْيَاقًا أَوْ تَعَلَّقْت تَمِيمَةً أَوْ قُلْت الشِّعْرَ مِنْ نَفْسِي } مَعَ

مَا رُوِيَ مِنْ كَرَاهَةِ مَنْ كَرِهَ التِّرْيَاقَ مِنْ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُقَابِلْ ذَلِكَ نَصٌّ عَامٌّ وَلَا خَاصٌّ يَبْلُغُ ذُرْوَةَ الْمَطْلَبِ وَسَنَامَ الْمَقْصِدِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَوْلَا أَنِّي كَتَبْت هَذَا مِنْ حِفْظِي لَاسْتَقْصَيْت الْقَوْلَ عَلَى وَجْهٍ يُحِيطُ بِمَا دَقَّ وَجَلَّ وَاَللَّهُ الْهَادِي إلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ .
الدَّلِيلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ رَابِعٌ : الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَغَيْرِهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ فَقَالَ : صَلُّوا فِيهَا فَإِنَّهَا بَرَكَةٌ } . { وَسُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ ؛ فَقَالَ : لَا تُصَلُّوا فِيهَا فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ الشَّيَاطِينِ } . وَوَجْهُ الْحُجَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَطْلَقَ الْإِذْنَ بِالصَّلَاةِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ حَائِلًا بَقِيَ مِنْ مُلَامَسَتِهَا وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ إلَى الْبَيَانِ . فَلَوْ احْتَاجَ لَبَيَّنَهُ وَقَدْ مَضَى تَقْرِيرُ هَذَا . وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ : تَرْكُ الاستفصال . فِي حِكَايَةِ الْحَالِ . مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ . يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ . فَإِنَّهُ تَرَكَ استفصال السَّائِلِ : أَهُنَاكَ حَائِلٌ يَحُولُ بَيْنَك وَبَيْن أبعارها ؟ مَعَ ظُهُورِ الِاحْتِمَالِ ؛ لَيْسَ مَعَ قِيَامِهِ فَقَطْ وَأَطْلَقَ الْإِذْنَ بَلْ هَذَا أَوْكَدُ مِنْ ذَلِكَ : لِأَنَّ الْحَاجَةَ هنا إلَى الْبَيَانِ أَمَسُّ وَأَوْكَدُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ نَجِسَةً كَأَرْوَاثِ الْآدَمِيِّينَ لَكَانَتْ

الصَّلَاةُ فِيهَا : إمَّا مُحَرَّمَةً كَالْحُشُوشِ وَالْكُنُفِ أَوْ مَكْرُوهَةً كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْأَخْبَاثِ وَالْأَنْجَاسِ . فَأَمَّا أَنْ يَسْتَحِبَّ الصَّلَاةَ فِيهَا وَيُسَمِّيَهَا بَرَكَةً وَيَكُونَ شَأْنُهَا شَأْنَ الْحُشُوشِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ . وَحَاشَا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ . وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى صَلَّى فِي مَبَارِكِ الْغَنَمِ وَأَشَارَ إلَى الْبَرِيَّةِ وَقَالَ : هَاهُنَا وَثَمَّ سَوَاءٌ . وَهُوَ الصَّاحِبُ الْفَقِيهُ الْعَالِمُ بِالتَّنْزِيلِ الْفَاهِمُ لِلتَّأْوِيلِ . سَوَّى بَيْنَ مَحَلِّ الأبعار وَبَيْنَ مَا خَلَا عَنْهَا فَكَيْفَ يُجَامِعُ هَذَا الْقَوْلَ بِنَجَاسَتِهَا . وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ فَلَيْسَتْ اخْتَصَّتْ بِهِ دُونَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالظِّبَاءِ وَالْخَيْلِ إذْ لَوْ كَانَ السَّبَبُ نَجَاسَةَ الْبَوْلِ لَكَانَ تَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ . وَهُوَ مُمْتَنِعٌ يَقِينًا .
الدَّلِيلُ الرَّابِعُ : وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ سَابِعٌ : مَا ثَبَتَ وَاسْتَفَاضَ مِنْ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَدْخَلَهَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } الَّذِي فَضَّلَهُ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ بِقَاعِ الْأَرْضِ وَبَرَّكَهَا حَتَّى طَافَ أُسْبُوعًا . وَكَذَلِكَ إذْنُهُ لِأُمِّ سَلَمَةَ أَنْ تَطُوفَ رَاكِبَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَ الدَّوَابِّ مِنْ الْعَقْلِ مَا تَمْتَنِعُ بِهِ مِنْ تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ الْمَأْمُورِ بِتَطْهِيرِهِ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . فَلَوْ كَانَتْ أَبْوَالُهَا نَجِسَةً لَكَانَ فِيهِ تَعْرِيضُ

الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِلتَّنْجِيسِ مَعَ أَنَّ الضَّرُورَةَ مَا دَعَتْ إلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ دَعَتْ إلَيْهِ وَلِهَذَا اسْتَنْكَرَ بَعْضُ مَنْ يَرَى تَنْجِيسَهَا إدْخَالُ الدَّوَابِّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَحَسْبُك بِقَوْلِهِ بُطْلَانًا رَدُّهُ فِي وَجْهِ السُّنَّةِ الَّتِي رِيبَ فِيهَا .
الدَّلِيلُ الْخَامِسُ وَهُوَ الثَّامِنُ : مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { فَأَمَّا مَا أُكِلَ لَحْمُهُ فَلَا بَأْسَ بِبَوْلِهِ } وَهَذَا تَرْجَمَةُ الْمَسْأَلَةِ ؛ إلَّا أَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَبُولًا وَرَدًّا . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى جَابِرٍ . فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا رَيْبَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ قَوْلُ صَاحِبٍ وَقَدْ جَاءَ مِثْلُهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ فَيَنْبَنِي عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ بَعْدَهُمْ وَأَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ . وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ انْتَشَرَ فِي سَائِرِهِمْ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ فَصَارَ إجْمَاعًا سكوتيا .
الدَّلِيلُ السَّادِسُ وَهُوَ التَّاسِعُ : الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ سَاجِدًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي معيط إلَى قَوْمٍ قَدْ نَحَرُوا جَزُورًا لَهُمْ فَجَاءَ بِفَرْثِهَا وَسَلَاهَا فَوَضَعَهُمَا عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَاجِدٌ وَلَمْ يَنْصَرِفْ حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ } فَهَذَا أَيْضًا بَيِّنٌ فِي أَنَّ

ذَلِكَ الْفَرْثَ وَالسَّلَى لَمْ يَقْطَعْ الصَّلَاةَ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ فِيمَا أَرَى إلَّا عَلَى أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ : إمَّا أَنْ يُقَالَ هُوَ مَنْسُوخٌ وَأَعْنِي بِالنَّسْخِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُرْتَفِعٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ ثَبَتَ لِأَنَّهُ بِخِطَابِ كَانَ بِمَكَّةَ . وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِيَقِينِ ؛ وَأَمَّا بِالظَّنِّ فَلَا يَثْبُتُ النَّسْخُ . وَأَيْضًا فَإِنَّا مَا عَلِمْنَا أَنَّ اجْتِنَابَ النَّجَاسَةِ كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ ثُمَّ صَارَ وَاجِبًا لَا سِيَّمَا مَنْ يَحْتَجُّ عَلَى اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } وَسُورَةُ الْمُدَّثِّرِ فِي أَوَّلِ الْمُنَزَّلِ فَيَكُونُ فَرْضُ التَّطْهِيرِ مِنْ النَّجَاسَاتِ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَوَّلِ الْفَرَائِضِ . فَهَذَا هَذَا . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ حَمْلِ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ وَعَامَّةُ مَنْ يُخَالِفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يَقُولُ بِهَذَا الْقَوْلِ فَيَلْزَمُهُمْ تَرْكُ الْحَدِيثِ . ثُمَّ هَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ لِخِلَافِهِ الْأَحَادِيثَ الصِّحَاحَ فِي دَمِ الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ . ثُمَّ إنِّي لَا أَعْلَمُهُمْ يَخْتَلِفُونَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَأَنَّ إعَادَةَ الصَّلَاةِ مِنْهُ أَوْلَى فَهَذَا هَذَا . لَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يُقَالَ : الْفَرْثُ وَالسَّلَى لَيْسَ بِنَجِسِ وَإِنَّمَا هُوَ طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ فَرْثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِكَثْرَةِ الْقَائِلِينَ بِهِ وَظُهُورِ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ . وَبِطُولِ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلِينَ يُوجِبُ تَعَيُّنَ هَذَا . ( فَإِنْ قِيلَ فَفِيهِ السَّلَى وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ دَمٌ . قُلْنَا : يَجُوزُ أَنْ

يَكُونَ دَمًا يَسِيرًا بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَسِيرٌ وَالدَّمُ الْيَسِيرُ مَعْفُوٌّ عَنْ حَمْلِهِ فِي الصَّلَاةِ . ( فَإِنْ قِيلَ فَالسَّلَى لَحْمٌ مِنْ ذَبِيحَةِ الْمُشْرِكِينَ وَذَلِكَ نَجِسٌ وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ . قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ حَرَّمَ حِينَئِذٍ ذَبَائِحَ الْمُشْرِكِينَ بَلْ الْمَظْنُونُ أَوْ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حُرِّمَتْ حِينَئِذٍ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنَجِّسُونَ ذَبَائِحَ قَوْمِهِمْ . وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِبُ إلَّا مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ . أَمَّا مَا ذَبَحَهُ قَوْمُهُ فِي دُورِهِمْ لَمْ يَكُنْ يَتَجَنَّبُهُ وَلَوْ كَانَ تَحْرِيمُ ذَبَائِحِ الْمُشْرِكِينَ قَدْ وَقَعَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفَرِ الْقَلِيلِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مَا لَا قَبِلَ لَهُمْ بِهِ فَإِنَّ عَامَّةَ أَهْلِ الْبَلَدِ مُشْرِكُونَ وَهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا وَيَشْرَبُوا إلَّا مِنْ طَعَامِهِمْ وَخُبْزِهِمْ . وَفِي أَوَانِيهِمْ لِقِلَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَفَقْرِهِمْ . ثُمَّ الْأَصْلُ عَدَمُ التَّحْرِيمِ حِينَئِذٍ فَمَنْ ادَّعَاهُ احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ .
الدَّلِيلُ السَّابِعُ وَهُوَ الْعَاشِرُ : مَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ الِاسْتِجْمَارِ بِالْعَظْمِ وَالْبَعْرِ وَقَالَ : إنَّهُ زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ } وَفِي لَفْظٍ قَالَ : { فَسَأَلُونِي الطَّعَامَ لَهُمْ وَلِدَوَابِّهِمْ فَقُلْت : لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَعُودُ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ } قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَلَا تَسْتَنْجُوا

بِهِمَا فَإِنَّهُمَا زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ } . فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُسْتَنْجَى بِالْعَظْمِ وَالْبَعْرِ } الَّذِي هُوَ زَادُ إخْوَانِنَا مِنْ الْجِنِّ وَعَلَفُ دَوَابِّهِمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا نُنَجِّسَهُ عَلَيْهِمْ وَلِهَذَا اسْتَنْبَطَ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِزَادِ الْإِنْسِ .
ثُمَّ إنَّهُ قَدْ اسْتَفَاضَ النَّهْيَ فِي ذَلِكَ وَالتَّغْلِيظَ حَتَّى قَالَ : { مَنْ تَقَلَّدَ وَتَرًا أَوْ اسْتَنْجَى بِعَظْمِ أَوْ رَجِيعٍ فَإِنَّ مُحَمَّدًا مِنْهُ بَرِيءٌ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْبَعْرُ فِي نَفْسِهِ نَجِسًا لَمْ يَكُنْ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ يُنَجِّسُهُ وَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ الْبَعْرِ الْمُسْتَنْجَى بِهِ وَالْبَعْرِ الَّذِي لَا يُسْتَنْجَى بِهِ وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ مَا فَرَّقَتْ السُّنَّةُ بَيْنَهُ . ثُمَّ إنَّ الْبَعْرَ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ عَلَفًا لِقَوْمِ مُؤْمِنِينَ فَإِنَّهَا تَصِيرُ بِذَلِكَ جَلَّالَةً وَلَوْ جَاز أَنْ تَصِيرَ جَلَّالَةً لَجَازَ أَنْ تُعْلَفَ رَجِيعَ الْإِنْسِ وَرَجِيعَ الدَّوَابِّ فَلَا فَرْقَ حِينَئِذٍ . وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الزَّادَ لَهُمْ مَا فَضَلَ عَنْ الْإِنْسِ وَلِدَوَابِّهِمْ مَا فَضَلَ عَنْ دَوَابِّ الْإِنْسِ مِنْ الْبَعْرِ شَرَطَ فِي طَعَامِهِمْ كُلَّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُشْرَطَ فِي عَلَفِ دَوَابِّهِمْ نَحْوُ ذَلِكَ وَهُوَ الطَّهَارَةُ . وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا أَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ

وَرَوْثَةٍ فَقَالَ : { إنَّهَا رِكْسٌ } إنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهَا رَوْثَةَ آدَمِيٍّ وَنَحْوِهِ عَلَى أَنَّهَا قَضِيَّةُ عَيْنٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ رَوْثَةَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثَةَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَلَا يَعُمُّ الصِّنْفَيْنِ وَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ بِأَنَّهَا مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مَعَ أَنَّ لَفْظَ الرِّكْسِ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ لِأَنَّ الرِّكْسَ هُوَ الْمَرْكُوسُ أَيْ الْمَرْدُودُ وَهُوَ مَعْنَى الرَّجِيعِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالرَّجِيعِ لَا يَجُوزُ بِحَالِ إمَّا لِنَجَاسَتِهِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ عَلَفُ دَوَابِّ إخْوَانِنَا مِنْ الْجِنِّ .
الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَهُوَ الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ فَلَيْسَتْ نَجِسَةً وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ تَكْثُرُ مُلَابَسَةُ النَّاسِ لَهَا وَمُبَاشَرَتُهُمْ لِكَثِيرِ مِنْهَا خُصُوصًا الْأُمَّةَ الَّتِي بُعِثَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ غَالِبُ أَمْوَالِهِمْ وَلَا يَزَالُونَ يُبَاشِرُونَهَا وَيُبَاشِرُونَ أَمَاكِنَهَا فِي مُقَامِهِمْ وَسَفَرِهِمْ مَعَ كَثْرَةِ الِاحْتِفَاءِ فِيهِمْ حَتَّى أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَأْمُرُ بِذَلِكَ : تَمَعْدَدُوا وَاخْشَوْشَنُوا وَامْشُوا حُفَاةً وَانْتَعِلُوا . وَمَحَالِبُ الْأَلْبَانِ كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ أَبْوَالِهَا وَلَيْسَ ابْتِلَاؤُهُمْ بِهَا بِأَقَلَّ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ فِي أَوَانِيهِمْ فَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً يَجِبُ غَسْلُ الثِّيَابِ وَالْأَبْدَانِ وَالْأَوَانِي مِنْهَا وَعَدَمُ مُخَالَطَتِهِ وَيُمْنَعُ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ ذَلِكَ وَيَجِبُ تَطْهِيرُ الْأَرْضِ مِمَّا فِيهِ ذَلِكَ إذَا صَلَّى فِيهَا وَالصَّلَاةُ فِيهَا تَكْثُرُ فِي أَسْفَارِهِمْ وَفِي مَرَاحِ أَغْنَامِهِمْ وَيَحْرُمُ شُرْبُ اللَّبَنِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ بَعْرُهَا

وَتُغْسَلُ الْيَدُ إذَا أَصَابَهَا الْبَوْلُ أَوْ رُطُوبَةُ الْبَعْرِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ النَّجَاسَةِ لَوَجَبَ أَنْ يُبَيِّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانًا تَحْصُلُ بِهِ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ وَلَوْ بَيَّنَ ذَلِكَ لَنُقِلَ جَمِيعُهُ أَوْ بَعْضُهُ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ وَعَادَةَ الْقَوْمِ تُوجِبُ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ نَجَاسَتَهَا . وَعَدَمُ ذِكْرِ نَجَاسَتِهَا دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَتِهَا مِنْ جِهَةِ تَقْرِيرِهِ لَهُمْ عَلَى مُبَاشَرَتِهَا وَعَدَمُ النَّهْيِ عَنْهُ وَالتَّقْرِيرِ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ . وَمِنْ وَجْهٍ أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَجِبُ بَيَانُهُ بِالْخِطَابِ وَلَا تُحَالُ الْأُمَّةُ فِيهِ عَلَى الرَّأْيِ لِأَنَّهُ مِنْ الْأُصُولِ لَا مِنْ الْفُرُوعِ . وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ مَا سَكَتَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ لَا سِيَّمَا إذَا وَصَلَ بِهَذَا الْوَجْهِ .
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَهُوَ الثَّانِيَ عَشَرَ : وَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَعَامَّةَ السَّلَفِ قَدْ اُبْتُلِيَ النَّاسُ فِي أَزْمَانِهِمْ بِأَضْعَافِ مَا اُبْتُلُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي كَثْرَةِ وُقُوعِ الْحَوَادِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . ثُمَّ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ أَحَدُ شَيْئَيْنِ : إمَّا الْقَوْلُ بِالطَّهَارَةِ أَوْ عَدَمُ الْحُكْمِ بِالنَّجَاسَةِ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَبِي مُوسَى وَأَنَسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَعَلَى رِجْلَيْهِ أَثَرُ السِّرْقِينِ . وَهَذَا قَدْ عَايَنَ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ بِالْعِرَاقِ وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ : إنَّ لِي غَنَمًا تَبْعَرُ فِي مَسْجِدِي وَهَذَا قَدْ عَايَنَ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ بِالْحِجَازِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ

النَّخَعِي فِيمَنْ يُصَلِّي وَقَدْ أَصَابَهُ السِّرْقِينُ قَالَ لَا بَأْسَ وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَصَابَتْ عِمَامَتَهُ بَوْلُ بَعِيرٍ فَقَالَا : جَمِيعًا لَا بَأْسَ . وَسَأَلَهُمَا جَعْفَرٌ الصَّادِقُ وَهُوَ أَشْبَهُ بِالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْغُسْلِ إمَّا ضَعِيفٌ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ وَالتَّنْظِيفِ فَإِنَّ نَافِعًا لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَيْهِ طَرِيقَةُ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ وَلَا يَكَادُ يُخَالِفُهُ وَالْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ . وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَلْفَاظٌ إنْ ثَبَتَتْ فَلَيْسَتْ صَرِيحَةً بِنَجَاسَةِ مَحَلِّ النِّزَاعِ مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ : الْبَوْلُ كُلُّهُ يُغْسَلُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَا بَأْسَ بِأَبْوَالِ الْغَنَمِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بَوْلَ الْإِنْسَانِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ قَالَ الْأَبْوَالُ كُلُّهَا أَنْجَاسٌ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ إنْ ثَبَتَ عَنْهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ الْقَوْلَ بِنَجَاسَتِهَا وَمِنْ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ عَلَى عَدَمِ النَّجَاسَةِ بَلْ مُقْتَضَاهُ أَنَّ التَّنْجِيسَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُحْدَثَةِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى إبْطَالِ الْحَوَادِثِ لَا سِيَّمَا مَقَالَةٌ مُحْدَثَةٌ مُخَالِفَةٌ لِمَا عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَعْيَانَ الْمَوْجُودَةَ فِي زَمَانِهِمْ وَمَكَانِهِمْ إذَا أَمْسَكُوا عَنْ تَحْرِيمِهَا وَتَنْجِيسِهَا مَعَ الْحَاجَةِ إلَى بَيَانِ ذَلِكَ كَانَ تَحْرِيمُهَا وَتَنْجِيسُهَا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَمْسِكُوا عَنْ بَيَانِ أَفْعَالٍ يُحْتَاجُ إلَى بَيَانِ وُجُوبِهَا لَوْ كَانَ

ثَابِتًا فَيَجِيءُ مَنْ بَعْدَهُمْ فَيُوجِبُهَا . وَمَتَى قَامَ الْمُقْتَضِي لِلتَّحْرِيمِ أَوْ الْوُجُوبِ وَلَمْ يَذْكُرُوا وُجُوبًا وَلَا تَحْرِيمًا كَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى عَدَمِ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ مُعْتَمَدَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَهِيَ أَصْلٌ عَظِيمٌ يَنْبَغِي لِلْفَقِيهِ أَنْ يَتَأَمَّلَهَا وَلَا يُغْفَلُ عَنْ غَوْرِهَا ؛ لَكِنْ لَا يُسَلَّمُ إلَّا بِعَدَمِ ظُهُورِ الْخِلَافِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ مُحَقَّقٌ بَطَلَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ .
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ وَهُوَ الثَّالِثَ عَشَرَ فِي الْحَقِيقَةِ : أَنَّا نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ الْحُبُوبَ مِنْ الشَّعِيرِ وَالْبَيْضَاءِ وَالذُّرَةِ وَنَحْوِهَا كَانَتْ تُزْرَعُ فِي مَزَارِعِ الْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَنَعْلَمُ أَنَّ الدَّوَابَّ إذَا دَاسَتْ فَلَا بُدَّ أَنْ تَرُوثَ وَتَبُولَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُنَجِّسُ الْحُبُوبَ لَحُرِّمَتْ مُطْلَقًا أَوْ لَوَجَبَ تَنْجِيسُهَا . وَقَدْ أَسْلَمَتْ الْحِجَازُ وَالْيَمَنُ وَنَجْدُ وَسَائِرُ جَزَائِرِ الْعَرَبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَبُعِثَ إلَيْهِمْ سُعَاتُهُ وَعُمَّالُهُ يَأْخُذُونَ عُشُورَ حُبُوبِهِمْ مِنْ الْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا وَكَانَتْ سَمْرَاءُ الشَّامِ تُجْلَبُ إلَى الْمَدِينَةِ فَيَأْكُلُ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ عَلَى عَهْدِهِ وَعَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ وَكَانَ يُعْطِي الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَائِهِ ثَمَانِينَ وَسْقَ شَعِيرٍ مِنْ غَلَّةِ خَيْبَرَ وَكُلُّ هَذِهِ

تُدَاسُ بِالدَّوَابِّ الَّتِي تَرُوثُ وَتَبُولُ عَلَيْهَا فَلَوْ كَانَتْ تَنْجُسُ بِذَلِكَ لَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى أَقَلِّ الْأَحْوَالِ تَطْهِيرُ الْحَبِّ وَغَسْلُهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَا فُعِلَ عَلَى عَهْدِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْكُمْ بِنَجَاسَتِهَا . وَلَا يُقَالُ : هُوَ لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّ ذَلِكَ الْحَبَّ الَّذِي أَكَلَهُ مِمَّا أَصَابَهُ الْبَوْلُ وَالْأَصْلُ الطَّهَارَةُ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : فَصَاحِبُ الْحَبِّ قَدْ تَيَقَّنَ نَجَاسَةَ بَعْضِ حَبِّهِ وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ اسْتِعْمَالُ الْجَمِيعِ ؛ بَلْ الْوَاجِبُ تَطْهِيرُ الْجَمِيعِ ؛ كَمَا إذَا عَلِمَ نَجَاسَةَ بَعْضِ الْبَدَنِ أَوْ الثَّوْبِ أَوْ الْأَرْضِ وَخَفِيَ عَلَيْهِ مَكَانُ النَّجَاسَةِ غَسَلَ مَا يَتَيَقَّنُ بِهِ غَسْلَهَا وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ . ثُمَّ اشْتِبَاهُ الطَّاهِرِ بِالنَّجِسِ نَوْعٌ مِنْ اشْتِبَاهِ الطَّعَامِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ فَكَيْفَ يُبَاحُ أَحَدُهُمَا مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ ؟ فَإِنَّ الْقَائِلَ : إمَّا أَنْ يَقُولَ يَحْرُمُ الْجَمِيعُ وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ بِالتَّحَرِّي فَأَمَّا الْأَكْلُ مِنْ أَحَدِهِمَا بِلَا تَحَرٍّ فَلَا أَعْرِفُ أَحَدًا جَوَّزَهُ وَإِنَّمَا يُسْتَمْسَكُ بِالْأَصْلِ مَعَ تَيَقُّنِ النَّجَاسَةِ وَلَا مَحِيصَ عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ إلَّا إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يُقَالَ : بِطَهَارَةِ هَذِهِ الْأَبْوَالِ وَالْأَرْوَاثِ أَوْ أَنْ يُقَالَ : عُفِيَ عَنْهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِلْحَاجَةِ . كَمَا يُعْفَى عَنْ رِيقِ الْكَلْبِ فِي بَدَنِ الصَّيْدِ عَلَى أَحَدِ

الْوَجْهَيْنِ وَكَمَا يَطْهُرُ مَحَلُّ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاضِعِ الْحَاجَاتِ . فَيُقَالُ : الْأَصْلُ فِيمَا اُسْتُحِلَّ جَرَيَانُهُ عَلَى وِفَاقِ الْأَصْلِ فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ اسْتِحْلَالَ هَذَا مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ ؛ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ فَقَدْ ادَّعَى مَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا بِحُجَّةِ قَوِيَّةٍ وَلَيْسَ مَعَهُ مِنْ الْحُجَّةِ مَا يُوجِبُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا مُخَالِفًا لِلْأَصْلِ . وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ قَامَ دَلِيلٌ يُوجِبُ الْحَظْرَ لَأَمْكَنَ أَنْ يُسْتَثْنَى هَذَا الْمَوْضِعُ فَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ الْعُمُومِ الضَّعِيفِ وَالْقِيَاسِ الضَّعِيفِ فَدِلَالَةُ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى الطَّهَارَةِ الْمُطْلَقَةِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ تِلْكَ عَلَى النَّجَاسَةِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ . عَلَى أَنَّ ثُبُوتَ طَهَارَتِهَا وَالْعَفْوِ عَنْهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَحَدُ مَوَارِدِ الْخِلَافِ فَيَبْقَى إلْحَاقُ الْبَاقِي بِهِ بِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَرْقِ . وَمِنْ جِنْسِ هَذَا :
الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ وَهُوَ الرَّابِعَ عَشَرَ : وَهُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ عَلَى دِيَاسِ الْحُبُوبِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا بِالْبَقْرِ وَنَحْوِهَا مَعَ الْقَطْعِ بِبَوْلِهَا وَرَوْثِهَا عَلَى الْحِنْطَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ مُنْكِرٌ وَلَمْ يَغْسِلْ الْحِنْطَةَ لِأَجْلِ هَذَا أَحَدٌ وَلَا احْتَرَزَ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا فِي الْبَيَادِرِ لِوُصُولِ الْبَوْلِ إلَيْهِ .

وَالْعِلْمُ بِهَذَا كُلِّهِ عِلْمٌ اضْطِرَارِيٌّ مَا أَعْلَمُ عَلَيْهِ سُؤَالًا وَلَا أَعْلَمُ لِمَنْ يُخَالِفُ هَذَا شُبْهَةً . وَهَذَا الْعَمَلُ إلَى زَمَانِنَا مُتَّصِلٌ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ لَكِنْ لَمْ نَحْتَجَّ بِإِجْمَاعِ الْأَعْصَارِ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا هَذَا الْخِلَافُ ؛ لِئَلَّا يَقُولُ الْمُخَالِفُ أَنَا أُخَالِفُ فِي هَذَا وَإِنَّمَا احْتَجَجْنَا بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَ ظُهُورِ الْخِلَافِ . وَهَذَا الْإِجْمَاعُ مِنْ جِنْسِ الْإِجْمَاعِ عَلَى كَوْنِهِمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ الْحِنْطَةَ وَيَلْبَسُونَ الثِّيَابَ وَيَسْكُنُونَ الْبِنَاءَ فَإِنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ تُزْرَعُ وَنَتَيَقَّنُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ ذَلِكَ الْحَبَّ وَيُقِرُّونَ عَلَى أَكْلِهِ وَنَتَيَقَّنُ أَنَّ الْحَبَّ لَا يُدَاسُ إلَّا بِالدَّوَابِّ وَنَتَيَقَّنُ أَنْ لَا بُدَّ أَنْ تَبُولَ عَلَى الْبَيْدَرِ الَّذِي يَبْقَى أَيَّامًا وَيَطُولُ دِيَاسُهَا لَهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا مُقَدِّمَاتٌ يَقِينِيَّةٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ وَهُوَ الْخَامِسَ عَشَرَ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } فَأَمَرَ بِتَطْهِيرِ بَيْتِهِ الَّذِي هُوَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَصَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَ بِتَنْظِيفِ الْمَسَاجِدِ وَقَالَ : { جُعِلَتْ لِي كُلُّ أَرْضٍ طَيِّبَةٍ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } وَقَالَ { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ } وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ الْحَمَامَ لَمْ يَزَلْ مُلَازِمًا لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِأَمْنِهِ وَعِبَادَةِ بَيْتِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ ذَرْقُهُ يَنْزِلُ فِي الْمَسْجِدِ وَفِي الْمَطَافِ وَالْمُصَلَّى . فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَتَنَجَّسَ الْمَسْجِدُ بِذَلِكَ وَلَوَجَبَ

تَطْهِيرُ الْمَسْجِدِ مِنْهُ : إمَّا بِإِبْعَادِ الْحَمَامِ أَوْ بِتَطْهِيرِ الْمَسْجِدِ أَوْ بِتَسْقِيفِ الْمَسْجِدِ وَلَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ فِي أَفْضَلِ الْمَسَاجِدِ وَأُمِّهَا وَسَيِّدِهَا لِنَجَاسَةِ أَرْضِهِ وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ يَقِينًا . وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ قَوْلَيْنِ : إمَّا طَهَارَتُهُ مُطْلَقًا أَوْ الْعَفْوُ عَنْهُ . كَمَا فِي الدَّلِيلِ قَبْلَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا رُجْحَانَ الْقَوْلِ بِالطَّهَارَةِ الْمُطْلَقَةِ .
الدَّلِيلُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ السَّادِسَ عَشَرَ . مَسْلَكُ التَّشْبِيهِ وَالتَّوْجِيهِ فَنَقُولُ وَاَللَّهُ الْهَادِي : اعْلَمْ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ إنَّمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لِافْتِرَاقِ حَقِيقَتِهِمَا وَقَدْ سَمَّى اللَّهَ هَذَا طَيِّبًا وَهَذَا خَبِيثًا . وَأَسْبَابُ التَّحْرِيمِ : إمَّا الْقُوَّةُ السبعية الَّتِي تَكُونُ فِي نَفَسِ الْبَهِيمَةِ فَأَكْلُهَا يُورِثُ نَبَاتِ أَبْدَانِنَا مِنْهَا فَتَصِيرُ أَخْلَاقُ النَّاسِ أَخْلَاقَ السِّبَاعِ أَوْ لِمَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ وَإِمَّا خُبْثُ مَطْعَمِهَا كَمَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ مِنْ الطَّيْرِ أَوْ لِأَنَّهَا فِي نَفْسِهَا مُسْتَخْبَثَةٌ كَالْحَشَرَاتِ فَقَدْ رَأَيْنَا طَيِّبَ الْمَطْعَمِ يُؤَثِّرُ فِي الْحِلِّ وَخُبْثِهِ يُؤَثِّرُ فِي الْحُرْمَةِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي لُحُومِ الْجَلَّالَةِ وَلَبَنِهَا وَبَيْضِهَا فَإِنَّهُ حُرِّمَ الطَّيِّبُ لِاغْتِذَائِهِ بِالْخَبِيثِ وَكَذَلِكَ النَّبَاتُ الْمَسْقِيُّ بِالْمَاءِ النَّجِسِ وَالْمُسَمَّدُ بِالسِّرْقِينِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ وَقَدْ رَأَيْنَا عَدَمَ الطَّعَامِ يُؤَثِّرُ فِي طَهَارَةِ الْبَوْلِ أَوْ خِفَّةِ نَجَاسَتِهِ مِثْلُ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْكُلْ

الطَّعَامَ . فَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَشْيَاءَ : مِنْهَا أَنَّ الْأَبْوَالَ قَدْ يُخَفَّفُ شَأْنُهَا بِحَسَبِ الْمَطْعَمِ كَالصَّبِيِّ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُبَاحَاتِ لَا تَكُونُ مَطَاعِمُهَا إلَّا طَيِّبَةً فَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ تَكُونَ أَبْوَالُهَا طَاهِرَةً لِذَلِكَ . وَمِنْهَا أَنَّ الْمَطْعَمَ إذَا خَبُثَ وَفَسَدَ حَرُمَ مَا نَبَتَ مِنْهُ مِنْ لَحْمٍ وَلَبَنٍ وَبَيْضٍ ؛ كَالْجَلَّالَةِ وَالزَّرْعِ الْمُسَمَّدِ وَكَالطَّيْرِ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ فَإِذَا كَانَ فَسَادُهُ يُؤَثِّرُ فِي تَنْجِيسِ مَا تُوجِبُهُ الطَّهَارَةُ وَالْحِلُّ فَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ طَيِّبُهُ وَحِلُّهُ يُؤَثِّرُ فِي تَطْهِيرِ مَا يَكُونُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ نَجِسًا مُحَرَّمًا فَإِنَّ الْأَرْوَاث وَالْأَبْوَالَ مُسْتَحِيلَةٌ مَخْلُوقَةٌ فِي بَاطِنِ الْبَهِيمَةِ كَغَيْرِهَا مِنْ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ . يُبَيِّنُ هَذَا مَا يُوجَدُ فِي هَذِهِ الْأَرْوَاثِ مِنْ مُخَالَفَتِهَا غَيْرَهَا مِنْ الْأَرْوَاثِ فِي الْخَلْقِ وَالرِّيحِ وَاللَّوْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ فَيَكُونُ فَرْقُ مَا بَيْنَهَا فَرْقُ مَا بَيْنَ اللَّبَنَيْنِ وَالْمُنْبِتَيْنِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ خِلَافُهَا لِلْإِنْسَانِ . يُؤَكِّدُ ذَلِكَ مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الزَّمَنِ الْمُتَقَدِّمِ وَإِلَى الْيَوْمِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ مَا زَالُوا يَدُوسُونَ الزُّرُوعَ الْمَأْكُولَةَ بِالْبَقَرِ وَيُصِيبُ الْحَبَّ مِنْ أَرْوَاثِ الْبَقَرِ وَأَبْوَالِهَا وَمَا سَمِعْنَا أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ

غَسَلَ حَبًّا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُنَجَّسًا أَوْ مُسْتَقْذَرًا لَأَوْشَكَ أَنْ يُنْهَوْا عَنْهَا وَأَنْ تَنْفِرَ عَنْهُ نُفُوسُهُمْ نُفُورَهَا عَنْ بَوْلِ الْإِنْسَانِ . وَلَوْ قِيلَ هَذَا إجْمَاعٌ عَمَلِيٌّ لَكَانَ حَقًّا وَكَذَلِكَ مَا زَالَ يَسْقُطُ فِي الْمَحَالِبِ مِنْ أبعار الْأَنْعَامِ وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَحْتَرِزُ مِنْ ذَلِكَ . وَلِذَلِكَ عَفَا عَنْ ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ يَقُولُ بِالتَّنْجِيسِ عَلَى أَنَّ ضَبْطَ قَانُونٍ كُلِّيٍّ فِي الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ مُطَّرِدٌ مُنْعَكِسٌ لَمْ يَتَيَسَّرْ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْوَاجِبِ عَلَيْنَا بَعْدَ عِلْمِنَا بِالْأَنْوَاعِ الطَّاهِرَةِ وَالْأَنْوَاعِ النَّجِسَةِ . فَهَذِهِ إشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إلَى مَسَالِكِ الرَّأْيِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَمَامُهُ مَا حَضَرَنِي كِتَابُهُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ { وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } .
الْفَصْلُ الثَّانِي :
فِي مَنِيِّ الْآدَمِيِّ وَفِيهِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ نَجِسٌ كَالْبَوْلِ فَيَجِبُ غَسْلُهُ رَطْبًا وَيَابِسًا مِنْ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِي وَالثَّوْرِيّ وَطَائِفَةٍ . وَثَانِيهَا : أَنَّهُ نَجِسٌ يُجْزِئُ فَرْكُ يَابِسِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ

وَإِسْحَاقَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ . ثُمَّ هُنَا أَوْجُهٌ قِيلَ : يُجْزِئُ فَرْكُ يَابِسِهِ وَمَسْحُ رَطْبِهِ مِنْ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ وَمَنِيُّ الرَّجُلِ يَتَأَتَّى فَرْكُهُ وَمَسْحُهُ بِخِلَافِ مَنِيِّ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ رَقِيقٌ كَالْمَذْيِ وَهَذَا مَنْصُوصُ أَحْمَدَ . وَقِيلَ يُجْزِئُ فَرْكُهُ فَقَطْ مِنْهُمَا لِذَهَابِهِ بِالْفَرْكِ وَبَقَاءِ أَثَرِهِ بِالْمَسْحِ . وَقِيلَ : بَلْ الْجَوَازُ مُخْتَصٌّ بِالْفَرْكِ مِنْ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ . وَثَالِثُهَا : أَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ كَالْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَهُوَ الَّذِي نَصَرْنَاهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوهٌ : أَحَدُهَا : مَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { كُنْت أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَذْهَبُ فَيُصَلِّي فِيهِ } - وَرُوِيَ فِي لَفْظِ الدارقطني - { كُنْت أَفْرُكُهُ إذَا كَانَ يَابِسًا وَأَغْسِلُهُ إذَا كَانَ رَطْبًا } . فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَيْسَ كَالْبَوْلِ يَكُونُ نَجِسًا نَجَاسَةً غَلِيظَةً . فَبَقِيَ أَنْ يُقَالَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا كَالدَّمِ أَوْ طَاهِرًا كَالْبُصَاقِ

لَكِنَّ الثَّانِيَ أَرْجَحُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ تَطْهِيرِ الثِّيَابِ مِنْ الْأَنْجَاسِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ حَمْلِ قَلِيلِهِ فِي الصَّلَاةِ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي كَثِيرِهِ ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَغْسِلُ الْمَنِيَّ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ وَأَنَا أَنْظُرُ إلَى أَثَرِ الْغُسْلِ فِيهِ } . فَهَذَا يُعَارِضُ حَدِيثَ الْفَرْكِ فِي مَنِيِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْغَسْلُ دَلِيلُ النَّجَاسَةِ فَإِنَّ الطَّاهِرَ لَا يَطْهُرُ . فَيُقَالُ : هَذَا لَا يُخَالِفُهُ ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ لِلرَّطْبِ وَالْفَرْكَ لِلْيَابِسِ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي رِوَايَةِ الدارقطني . أَوْ هَذَا أَحْيَانًا وَهَذَا أَحْيَانًا . وَأَمَّا الْغَسْلُ فَإِنَّ الثَّوْبَ قَدْ يُغْسَلُ مِنْ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالنُّخَامَةِ اسْتِقْذَارًا لَا تَنْجِيسًا ؛ وَلِهَذَا قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ . وَابْنُ عَبَّاسٍ : أَمِطْهُ عَنْك وَلَوْ بإذخرة فَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ . الدَّلِيلُ الثَّانِي : مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مَسْنَدِهِ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْلِتُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِهِ بِعِرْقِ الْإِذْخِرِ ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ وَيَحُتُّهُ مِنْ ثَوْبِهِ يَابِسًا ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ } . وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْمُسْتَقْذَرَاتِ لَا مِنْ أَحْكَامِ النَّجَاسَاتِ

فَإِنَّ عَامَّةَ الْقَائِلِينَ بِنَجَاسَتِهِ لَا يُجَوِّزُونَ مَسْحَ رَطْبِهِ . الدَّلِيلُ الثَّالِثُ : مَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ أَوَّلِينَا بِمَا رَوَاهُ إسْحَاقُ الْأَزْرَقُ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ فَقَالَ : إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَإِنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَمْسَحَهُ بِخِرْقَةِ أَوْ بإذخرة } . قَالَ الدارقطني : لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ إسْحَاقَ الْأَزْرَقِ عَنْ شَرِيكٍ . قَالُوا : وَهَذَا لَا يَقْدَحُ ؛ لِأَنَّ إسْحَاقَ بْنَ يُوسُفَ الْأَزْرَقَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ . وَرَوَى عَنْ سُفْيَانَ وَشَرِيكٍ وَغَيْرِهِمَا وَحَدَّثَ عَنْهُ أَحْمَدُ وَمِنْ فِي طَبَقَتِهِ وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ صَاحِبَا الصَّحِيحِ فَيُقْبَلُ رَفْعُهُ وَمَا يَنْفَرِدُ بِهِ . وَأَنَا أَقُولُ : أَمَّا هَذِهِ الْفُتْيَا فَهِيَ ثَابِتَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَبْلَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُمَا الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ فِي كُتُبِهِمْ . وَأَمَّا رَفْعُهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمُنْكَرٌ بَاطِلٌ لَا أَصْل لَهُ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ رَوَوْهُ عَنْ شَرِيكٍ مَوْقُوفًا . ثُمَّ شَرِيكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - لَيْسَا فِي الْحِفْظِ بِذَاكَ وَاَلَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ بِعَطَاءِ مَثَلُ ابْنِ جريج الَّذِي هُوَ أَثْبَتُ فِيهِ مِنْ الْقُطْبِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَكِّيِّينَ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ إلَّا مَوْقُوفًا وَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى وَهْمِ تِلْكَ الرُّوَاةِ .

فَإِنْ قُلْت : أَلَيْسَ مِنْ الْأُصُولِ الْمُسْتَقِرَّةِ أَنَّ زِيَادَةَ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ ؟ وَأَنَّ الْحُكْمَ لِمَنْ رَفَعَ لَا لِمَنْ وَقَفَ لِأَنَّهُ زَائِدٌ ؟ قُلْت : هَذَا عِنْدَنَا حَقٌّ مَعَ تَكَافُؤِ الْمُحَدِّثِينَ الْمُخْبِرِينَ وَتَعَادُلِهِمْ وَأَمَّا مَعَ زِيَادَةِ عَدَدِ مَنْ لَمْ يَزِدْ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ أَوَّلُونَا . وَفِيهِ نَظَرٌ . وَأَيْضًا فَإِنَّمَا ذَاكَ إذَا لَمْ تَتَصَادَمْ الرِّوَايَتَانِ وَتَتَعَارَضَا وَأَمَّا مَتَى تَعَارَضَتَا يَسْقُطُ رِوَايَةُ الْأَقَلِّ بِلَا رَيْبٍ وَهَاهُنَا الْمَرْوِيُّ لَيْسَ هُوَ مُقَابَلًا بِكَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَهَا ثُمَّ قَالَهَا صَاحِبُهُ تَارَةً . تَارَةً ذَاكِرًا وَتَارَةً آثِرًا وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةُ حَالٍ وَقَضِيَّةُ عَيْنٍ فِي رَجُلٍ اسْتَفْتَى عَلَى صُورَةٍ وَحُرُوفٍ مَأْثُورَةٍ فَالنَّاسُ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَرْفَعُهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَتْ الْقَضِيَّةُ إلَّا وَاحِدَةً إذْ لَوْ تَعَدَّدَتْ الْقَضِيَّةُ لَمَا أَهْمَلَ الثِّقَاتُ الأثبات ذَلِكَ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْ اهْتِمَامِهِمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَأَهْلُ نَقْدِ الْحَدِيثِ وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ أَقْعَدُ بِذَلِكَ وَلَيْسُوا يَشُكُّونَ فِي أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَهْمٌ . الدَّلِيلُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ فَيَجِبُ الْقَضَاءُ بِطَهَارَتِهِ حَتَّى يَجِيئَنَا مَا يُوجِبُ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ نَجِسٌ وَقَدْ بَحَثْنَا وَسَبَرْنَا فَلَمْ نَجِدْ لِذَلِكَ

أَصْلًا فَعُلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْ مُلَابَسَتِهِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَنِيَّ يُصِيبُ أَبْدَانَ النَّاسِ وَثِيَابَهُمْ وَفُرُشَهُمْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَلَغُ الْهِرُّ فِي آنِيَتِهِمْ فَهُوَ طَوَافُ الْفَضَلَاتِ بَلْ قَدْ يَتَمَكَّنُ الْإِنْسَانُ مِنْ الِاحْتِرَازِ مِنْ الْبُصَاقِ وَالْمُخَاطِ الْمُصِيبِ ثِيَابَهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ مَنِيِّ الِاحْتِلَامِ وَالْجِمَاعِ وَهَذِهِ الْمَشَقَّةُ الظَّاهِرَةُ تُوجِبُ طَهَارَتَهُ وَلَوْ كَانَ الْمُقْتَضِي لِلتَّنْجِيسِ قَائِمًا . أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّارِعَ خَفَّفَ فِي النَّجَاسَةِ الْمُعْتَادَةِ فَاجْتَزَأَ فِيهَا بِالْجَامِدِ مَعَ أَنَّ إيجَابَ الِاسْتِنْجَاءِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ أَهْوَنُ مِنْ إيجَابِ غَسْلِ الثِّيَابِ مِنْ الْمَنِيِّ لَا سِيَّمَا فِي الشِّتَاءِ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ . فَإِنْ قِيلَ : الَّذِي يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ وُجُوهٌ : أَحَدُهَا : مَا رُوِيَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنْ - النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْقَيْءِ } رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ . وَحَدِيثُ عَائِشَةَ قَدْ مَضَى فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْسِلُهُ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ خَارِجٌ يُوجِبُ طَهَارَتَيْ الْخَبَثِ وَالْحَدَثِ فَكَانَ نَجِسًا كَالْبَوْلِ وَالْحَيْضِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ إيجَابَ نَجَاسَةِ الطَّهَارَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ

نَجِسٌ فَإِنَّ إمَاطَتَهُ وَتَنْحِيَتَهُ أَخَفُّ مِنْ التَّطَيُّرِ مِنْهُ فَإِذَا وَجَبَ الْأَثْقَلُ فَالْأَخَفُّ أَوْلَى . لَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ الِاسْتِنْجَاءَ إمَاطَةٌ وَتَنْحِيَةٌ فَإِذَا وَجَبَ تَنْحِيَتُهُ فِي مَخْرَجِهِ فَفِي غَيْرِ مَخْرَجِهِ أَحَقُّ وَأَوْلَى . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمَذْيِ فَكَانَ نَجِسًا كَالْمَذْيِ وَذَاكَ لِأَنَّ الْمَذْيَ يَخْرُجُ عِنْدَ مُقَدِّمَاتِ الشَّهْوَةِ وَالْمَنِيُّ أَصْلُ الْمَذْيِ عِنْدَ اسْتِكْمَالِهَا وَهُوَ يَجْرِي فِي مَجْرَاهُ وَيَخْرُجُ مِنْ مَخْرَجِهِ فَإِذَا نُجِّسَ الْفَرْعُ فَلَأَنْ يُنَجَّسَ الْأَصْلُ أَوْلَى . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الذَّكَرِ أَوْ خَارِجٌ مِنْ الْقُبُلِ فَكَانَ نَجِسًا كَجَمِيعِ الْخَوَارِجِ : مِثْلُ الْبَوْلِ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي النَّجَاسَةِ مَنُوطٌ بِالْمَخْرَجِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَضَلَاتِ الْخَارِجَةَ مِنْ أَعَالِي الْبَدَنِ لَيْسَتْ نَجِسَةً وَفِي أَسَافِلِهِ تَكُونُ نَجِسَةً وَإِنْ جَمَعَهَا الِاسْتِحَالَةُ فِي الْبَدَنِ ؟ الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَنْ الدَّمِ ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ قَصَرَتْهُ الشَّهْوَةُ وَلِهَذَا يَخْرُجُ عِنْدَ الْإِكْثَارِ مِنْ الْجِمَاعِ أَحْمَرَ وَالدَّمُ نَجِسٌ وَالنَّجَاسَةُ لَا تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ عِنْدَكُمْ .

الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّهُ يَجْرِي فِي مَجْرَى الْبَوْلِ فَيَتَنَجَّسُ بِمُلَاقَاةِ الْبَوْلِ فَيَكُونُ كَاللَّبَنِ فِي الظَّرْفِ النَّجِسِ . فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهِ . فَنَقُولُ : الْجَوَابُ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ : أَمَّا حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ فَلَا أَصْلَ لَهُ . فِي إسْنَادِهِ ثَابِتُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ الدارقطني : ضَعِيفٌ جِدًّا وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : لَهُ مَنَاكِيرُ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ . وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَقَوْلُهُمْ : يُوجِبُ طَهَارَتَيْ الْخَبَثِ وَالْحَدَثِ أَمَّا الْخَبَثُ فَمَمْنُوعٌ ؛ بَلْ الِاسْتِنْجَاءُ مِنْهُ مُسْتَحَبٌّ كَمَا يُسْتَحَبُّ إمَاطَتُهُ مِنْ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَقَدْ قِيلَ : هُوَ وَاجِبٌ كَمَا قَدْ قِيلَ يَجِبُ غَسْلُ الْأُنْثَيَيْنِ مِنْ الْمَذْيِ وَكَمَا يَجِبُ غَسْلُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ إذَا خَرَجَ الْخَارِجُ مِنْ الْفَرْجِ فَهَذَا كُلُّهُ طَهَارَةٌ وَجَبَتْ لِخَارِجِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَقْصُودُ بِهَا إمَاطَتَهُ وَتَنْجِيسَهُ ؛ بَلْ سَبَبٌ آخَرُ كَمَا يُغْسَلُ مِنْهُ سَائِرُ الْبَدَنِ . فَالْحَاصِلُ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ لَيْسَ هُوَ النَّجَاسَةَ ؛ بَلْ سَبَبٌ آخَرُ . فَقَوْلُهُمْ : يُوجِبُ طَهَارَةَ الْخَبَثِ وَصْفٌ مَمْنُوعٌ فِي الْفَرْعِ فَلَيْسَ غَسْلُهُ عَنْ الْفَرْجِ لِلْخَبَثِ وَلَيْسَتْ الطهارات مُنْحَصِرَةً فِي ذَلِكَ : كَغَسْلِ الْيَدِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ وَغَسْلِ الْمَيِّتِ وَالْأَغْسَالُ الْمُسْتَحَبَّةُ وَغَسْلِ الْأُنْثَيَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ الطَّهَارَةُ إنْ قِيلَ : بِوُجُوبِهَا فَهِيَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّالِثِ فَيَبْطُلُ قِيَاسُهُ عَلَى الْبَوْلِ ؛ لِفَسَادِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ .

وَأَمَّا إيجَابُهُ طَهَارَةَ الْحَدَثِ فَهُوَ حَقٌّ ؛ لَكِنَّ طَهَارَةَ الْحَدَثِ لَيْسَتْ أَسْبَابُهَا مُنْحَصِرَةً فِي النَّجَاسَاتِ . فَإِنَّ الصُّغْرَى تَجِبُ مِنْ الرِّيحِ إجْمَاعًا وَتَجِبُ بِمُوجَبِ الْحُجَّةِ مِنْ مُلَامَسَةِ الشَّهْوَةِ وَمِنْ مَسِّ الْفَرْجِ وَمِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَمِنْ الرِّدَّةِ وَغَسْلِ الْمَيِّتِ وَقَدْ كَانَتْ تَجِبُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مِنْ كُلِّ مَا غَيَّرَتْهُ النَّارُ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَسْبَابُ غَيْرُ نَجِسَةٍ . وَأَمَّا الْكُبْرَى : فَتَجِبُ بِالْإِيلَاجِ إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَلَا نَجَاسَةَ وَتَجِبُ بِالْوِلَادَةِ الَّتِي لَا دَمَ مَعَهَا عَلَى رَأْيٍ مُخْتَارٍ وَالْوَلَدُ طَاهِرٌ . وَتَجِبُ بِالْمَوْتِ وَلَا يُقَالُ هُوَ نَجِسٌ . وَتَجِبُ بِالْإِسْلَامِ عِنْدَ طَائِفَةٍ . فَقَوْلُهُمْ : إنَّمَا أَوْجَبَ طَهَارَةَ الْحَدَثِ أَوْ أَوْجَبَ الِاغْتِسَالَ نَجِسٌ مُنْتَقِضٌ بِهَذِهِ الصُّوَرِ الْكَثِيرَةِ فَبَطَلَ طَرْدُهُ . فَإِنْ ضَمُّوا إلَى الْعِلَّةِ كَوْنَهُ خَارِجًا انْتَقَضَ بِالرِّيحِ وَالْوَلَدِ نَقْضًا قَادِحًا . ثُمَّ يُقَالُ : قَوْلُكُمْ خَارِجٌ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِرَازُ بِهِ . ثُمَّ إنَّ عَكْسَهُ أَيْضًا بَاطِلٌ وَالْوَصْفُ عَدِيمُ التَّأْثِيرِ فَإِنَّ مَا لَا يُوجِبُ طَهَارَةَ الْحَدَثِ مِنْهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ : نَجِسٌ كَالدَّمِ الَّذِي لَمْ يُسَلَّ وَالْيَسِيرِ مِنْ الْقَيْءِ . وَأَيْضًا فَسَيَأْتِي الْفَرْقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . فَهَذِهِ أَوْجُهٌ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : التَّطْهِيرُ مِنْهُ أَبْعَدُ مِنْ تَطْهِيرِهِ . فَجَمَعَ مَا بَيْنَ مُتَفَاوِتَيْنِ

مُتَبَايِنَيْنِ فَإِنَّ الطَّهَارَةَ مِنْهُ طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ وَتَطْهِيرُهُ إزَالَةُ خَبَثٍ وَهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْأَسْبَابُ وَالْأَحْكَامُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ تَجِبُ لَهَا النِّيَّةُ دُونَ تِلْكَ . وَهَذِهِ مِنْ بَابِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتِلْكَ مِنْ بَابِ اجْتِنَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَهَذِهِ مَخْصُوصَةٌ بِالْمَاءِ أَوْ التُّرَابِ وَقَدْ تُزَالُ تِلْكَ بِغَيْرِ الْمَاءِ فِي مَوَاضِعَ بِالِاتِّفَاقِ وَفِي مَوَاضِعَ عَلَى رَأْيٍ وَهَذِهِ يَتَعَدَّى حُكْمُهَا مَحَلَّ سَبَبِهَا إلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ وَتِلْكَ يَخْتَصُّ حُكْمُهَا بِمَحَلِّهَا . وَهَذِهِ تَجِبُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ السَّبَبِ أَوْ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ وَتِلْكَ تَجِبُ فِي مَحَلِّ السَّبَبِ فَقَطْ وَهَذِهِ حِسِّيَّةٌ وَتِلْكَ عَقْلِيَّةٌ وَهَذِهِ جَارِيَةٌ فِي أَكْثَرِ أُمُورِهَا عَلَى سُنَنِ مُقَايِسِ الْبَحَّاثِينَ وَتِلْكَ مُسْتَصْعَبَةٌ عَلَى سَبْرِ الْقِيَاسِ وَهَذِهِ وَاجِبَةٌ بِالِاتِّفَاقِ وَفِي وُجُوبِ الْأُخْرَى خِلَافٌ مَعْلُومٌ . وَهَذِهِ لَهَا بَدَلٌ وَفِي بَدَلِ تِلْكَ فِي الْبَدَنِ خَاصَّةً خِلَافٌ ظَاهِرٌ . وَبِالْجُمْلَةِ فَقِيَاسُ هَذِهِ الطَّهَارَةِ عَلَى تِلْكَ الطَّهَارَةِ كَقِيَاسِ الصَّلَاةِ عَلَى الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ وَتِلْكَ عِبَادَةٌ مَعَ اخْتِلَافِ الْحَقِيقَتَيْنِ . وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ إلْحَاقُهُ بِالْمَذْيِ فَقَدْ مُنِعَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ عَلَى قَوْلٍ بِطَهَارَةِ الْمَذْيِ وَالْأَكْثَرُونَ سَلَّمُوهُ وَفَرَّقُوا بِافْتِرَاقِ الْحَقِيقَتَيْنِ ؛ فَإِنَّ هَذَا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِنْسَانِ وَذَلِكَ بِخِلَافِهِ . أَلَا

تَرَى أَنَّ عَدَمَ الْإِمْنَاءِ عَيْبٌ يُبْنَى عَلَيْهِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ : مَنْشَؤُهَا عَلَى أَنَّهُ نَقْصٌ وَكَثْرَةُ الْإِمْذَاءِ رُبَّمَا كَانَتْ مَرَضًا وَهُوَ فَضْلَةٌ مَحْضَةٌ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ كَالْبَوْلِ وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي انْبِعَاثِهِمَا عَنْ شَهْوَةِ النِّكَاحِ فَلَيْسَ الْمُوجِبُ لِطَهَارَةِ الْمَنِيِّ أَنَّهُ عَنْ شَهْوَةِ الْبَاءَةِ فَقَطْ ؛ بَلْ شَيْءٌ آخَرُ . وَإِنْ أَجْرَيْنَاهُ مَجْرَاهُ فَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَأَمَّا كَوْنُهُ فَرْعًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجَنِينِ النَّاقِصِ : كَالْإِنْسَانِ إذَا أَسْقَطَتْهُ الْمَرْأَةُ قَبْلَ كَمَالِ خَلْقِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَبْدَأَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَلَا يُنَاطُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِنْسَانِ إلَّا مَا قَلَّ وَلَوْ كَانَ فَرْعًا ؛ فَإِنَّ النَّجَاسَةَ اسْتِخْبَاثٌ وَلَيْسَ اسْتِخْبَاثُ الْفَرْعِ بِالْمُوجِبِ خُبْثَ أَصْلِهِ : كَالْفُضُولِ الْخَارِجَةِ مِنْ الْإِنْسَانِ . وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ : فَقِيَاسُهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَارِجَاتِ بِجَامِعِ اشْتِرَاكِهِنَّ فِي الْمَخْرَجِ مَنْقُوضٌ بِالْفَمِ فَإِنَّهُ مَخْرَجُ النُّخَامَةِ وَالْبُصَاقِ الطَّاهِرَيْنِ وَالْقَيْءِ النَّجِسِ . وَكَذَلِكَ الدُّبُرُ مَخْرَجُ الرِّيحِ الطَّاهِرِ وَالْغَائِطِ النَّجِسِ . وَكَذَلِكَ الْأَنْفُ مَخْرَجُ الْمُخَاطِ الطَّاهِرِ وَالدَّمِ النَّجِسِ . وَإِنْ فَصَلُوا بَيْنَ مَا يَعْتَادُ النَّاسُ مِنْ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ وَبَيْنَ مَا يَعْرِضُ لَهُمْ لِأَسْبَابِ حَادِثَةٍ .

قُلْنَا : النُّخَامَةُ الْمُعْدِيَةُ - إذَا قِيلَ : بِنَجَاسَتِهَا - مُعْتَادَةٌ وَكَذَلِكَ الرِّيحُ . وَأَيْضًا فَإِنَّا نَقُولُ : لِمَ قُلْتُمْ إنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمَخْرَجِ ؟ وَلِمَ لَا يُقَالُ الِاعْتِبَارُ بِالْمَعْدِنِ والمستحال فَمَا خُلِقَ فِي أَعْلَى الْبَدَنِ فَطَاهِرٌ وَمَا خُلِقَ فِي أَسْفَلِهِ فَنَجِسٌ وَالْمَنِيُّ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنَ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ؛ بِخِلَافِ الْبَوْلِ وَالْوَدْيِ . وَهَذَا أَشَدُّ اطِّرَادًا ؛ لِأَنَّ الْقَيْءَ وَالنُّخَامَةَ الْمُنَجَّسَةَ خَارِجَانِ مِنْ الْفَمِ لَكِنْ لَمَّا اسْتَحَالَا فِي الْمَعِدَةِ كَانَا نَجِسَيْنِ . وَأَيْضًا فَسَوْفَ نُفَرِّقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَأَمَّا الْوَجْهُ الْخَامِسُ فَقَوْلُهُمْ : مُسْتَحِيلٌ عَنْ الدَّمِ وَالِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ : عَنْهُ عِدَّةُ أَجْوِبَةٍ مُسْتَنِيرَةٍ قَاطِعَةٍ . أَحَدُهَا : أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالْآدَمِيِّ وَبِمُضْغَتِهِ فَإِنَّهُمَا مُسْتَحِيلَانِ عَنْهُ وَبَعْدَهُ عَنْ الْعَلَقَةِ وَهِيَ دَمٌ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِنَجَاسَتِهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْبَهَائِمِ الْمَأْكُولَةِ . وَثَانِيهَا : أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّمَ قَبْلَ ظُهُورِهِ وَبُرُوزِهِ يَكُونُ نَجِسًا فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى تَنْجِيسِهِ وَلَا يُغْنِي الْقِيَاسُ عَلَيْهِ إذَا ظَهَرَ وَبَرَزَ بِاتِّفَاقِ الْحَقِيقَةِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لِلدَّلِيلِ عَلَى طَهَارَتِهِ وُجُوهٌ : أَحَدُهَا : أَنَّ النَّجِسَ هُوَ الْمُسْتَقْذَرُ الْمُسْتَخْبَثُ وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَثْبُتُ

لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ إلَّا بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا مَوَاضِعَ خَلْقِهَا فَوَصْفُهَا بِالنَّجَاسَةِ فِيهَا وَصْفٌ بِمَا لَا تَتَّصِفُ بِهِ . وَثَانِيهَا : أَنَّ خَاصَّةَ النَّجِسِ وُجُوبُ مُجَانَبَتِهِ فِي الصَّلَاةِ . وَهَذَا مَفْقُودٌ فِيهَا فِي الْبَدَنِ مِنْ الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا . أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ صَلَّى حَامِلًا وِعَاءً مَسْدُودًا قَدْ أُوعِيَ دَمًا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ فَلَئِنْ قُلْت : عُفِيَ عَنْهُ لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ . قُلْت : بَلْ جُعِلَ طَاهِرًا لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ . فَمَا الْمَانِعُ مِنْهُ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّلُ طَهَارَةَ الْهِرَّةِ بِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ حَيْثُ يَقُولُ : { إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ } ؟ . بَلْ أَقُولُ : قَدْ رَأَيْنَا جِنْسَ الْمَشَقَّةِ فِي الِاحْتِرَازِ مُؤَثِّرًا فِي جِنْسِ التَّخْفِيفِ . فَإِنْ كَانَ الِاحْتِرَازُ مِنْ جَمِيعِ الْجِنْسِ مشقا عُفِيَ عَنْ جَمِيعِهِ فَحُكِمَ بِالطَّهَارَةِ . وَإِنْ كَانَ مِنْ بَعْضِهِ عُفِيَ عَنْ الْقَدْرِ المشق وَهُنَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي دَاخِلِ الْأَبْدَانِ فَيُحْكَمُ لِنَوْعِهِ بِالطَّهَارَةِ كَالْهِرِّ وَمَا دُونَهَا وَهَذَا وَجْهٌ ثَالِثٌ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ الدِّمَاءَ الْمُسْتَخْبَثَةَ فِي الْأَبْدَانِ وَغَيْرِهَا هِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْحَيَوَانِ الَّتِي لَا تَقُومُ حَيَاتُهُ إلَّا بِهَا حَتَّى سُمِّيَتْ نَفْسًا فَالْحُكْمُ

بِأَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ أَحَدَ أَرْكَانِ عِبَادِهِ مِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ نَوْعًا نَجِسًا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ فَلَا تَثْبُتُ النَّجَاسَةُ إلَّا بِدَلِيلِ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الدِّمَاءِ الْمُسْتَخْبَثَةِ شَيْءٌ مِنْ أَدِلَّةِ النَّجَاسَةِ وَخَصَائِصِهَا . الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا الْأَعْيَانَ تَفْتَرِقُ حَالُهَا : بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ فِي مَوْضِعِ عَمَلِهَا وَمَنْفَعَتِهَا وَبَيْنَ مَا إذَا فَارَقَتْ ذَلِكَ . فَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ مَا دَامَ جَارِيًا فِي أَعْضَاءِ الْمُتَطَهِّرِ فَهُوَ طَهُورٌ فَإِذَا انْفَصَلَ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ . وَالْمَاءُ فِي الْمَحَلِّ النَّجِسِ مَا دَامَ عَلَيْهِ فَعَمَلُهُ بَاقٍ وَتَطْهِيرُهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا لِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ فَإِذَا فَارَقَ مَحَلَّ عَمَلِهِ فَهُوَ إمَّا نَجِسٌ أَوْ غَيْرُ مُطَهِّرٍ ؛ وَهَذَا مَعَ تَغَيُّرِ الْأَمْوَاهِ فِي مَوَارِدِ التَّطْهِيرِ تَارَةً بِالطَّاهِرَاتِ وَتَارَةً بِالنَّجَاسَاتِ فَإِذَا كَانَتْ الْمُخَالَطَةُ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ أَسْبَابِ التَّغْيِيرِ لَا تُؤَثِّرُ فِي مَحَلِّ عَمَلِنَا وَانْتِفَاعِنَا فَمَا ظَنُّك بِالْجِسْمِ الْمُفْرَدِ فِي مَحَلِّ عَمَلِهِ بِخَلْقِ اللَّهِ وَتَدْبِيرِهِ فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّهُ لُبَابُ الْفِقْهِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ عَنْ أَصْلِ الدَّلِيلِ : أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الدَّمَ نَجِسٌ فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَحَالَ وَتَبَدَّلَ . وَقَوْلُهُمْ : الِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ . قُلْنَا : مَنْ أَفْتَى بِهَذِهِ الْفَتْوَى الطَّوِيلَةِ الْعَرِيضَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْإِجْمَاعِ

فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا أَنَّ الْخَمْرَ إذَا بَدَأَ اللَّهُ بِإِفْسَادِهَا وَتَحْوِيلِهَا خَلًّا طَهُرَتْ وَكَذَلِكَ تَحْوِيلُ الدَّوَابِّ وَالشَّجَرِ بَلْ أَقُولُ : الِاسْتِقْرَاءُ دَلَّنَا أَنَّ كُلَّ مَا بَدَأَ اللَّهُ بِتَحْوِيلِهِ وَتَبْدِيلِهِ مِنْ جِنْسٍ إلَى جِنْسٍ مِثْلُ جَعْلِ الْخَمْرِ خَلًّا وَالدَّمِ مَنِيًّا وَالْعَلَقَةِ مُضْغَةً وَلَحْمِ الْجَلَّالَةِ الْخَبِيثِ طَيِّبًا وَكَذَلِكَ بَيْضُهَا وَلَبَنُهَا وَالزَّرْعُ الْمَسْقِيُّ بِالنَّجِسِ إذَا سُقِيَ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَزُولُ حُكْمُ التَّنْجِيسِ وَيَزُولُ حَقِيقَةُ النَّجِسِ وَاسْمُهُ التَّابِعُ لِلْحَقِيقَةِ وَهَذَا ضَرُورِيٌّ لَا يُمْكِنُ الْمُنَازَعَةُ فِيهِ ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحَوِّلُهَا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ وَيُبَدِّلُهَا خَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ وَلَا الْتِفَاتَ إلَى مَوَادِّهَا وَعَنَاصِرِهَا . وَأَمَّا مَا اسْتَحَالَ بِسَبَبِ كَسْبِ الْإِنْسَانِ كَإِحْرَاقِ الرَّوْثِ حَتَّى يَصِيرَ رَمَادًا وَوَضْعِ الْخِنْزِيرِ فِي الْمَلَّاحَةِ حَتَّى يَصِيرَ مِلْحًا فَفِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ . وَلِلْقَوْلِ بِالتَّطْهِيرِ اتِّجَاهٌ وَظُهُورُ وَمَسْأَلَتِنَا مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ . الدَّلِيلُ الْخَامِسُ : أَنَّ الْمَنِيَّ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الذَّكَرِ فِي خَلْقِهِ فَإِنَّهُ غَلِيظٌ وَتِلْكَ رَقِيقَةٌ . وَفِي لَوْنِهِ فَإِنَّهُ أَبْيَضُ شَدِيدُ الْبَيَاضِ . وَفِي رِيحِهِ فَإِنَّهُ طَيِّبٌ كَرَائِحَةِ الطَّلْعِ وَتِلْكَ خَبِيثَةٌ . ثُمَّ جَعَلَهُ اللَّهُ أَصْلًا لِجَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَالْإِنْسَانِ الْمُكَرَّمِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَصْلُهُ نَجِسًا وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَقَدْ نَاظَرَ بَعْضَ مَنْ يَقُولُ بِنَجَاسَتِهِ

لِرَجُلِ قَالَ لَهُ : مَا بَالُك وَبَالُ هَذَا ؟ قَالَ : أُرِيدَ أَنْ أَجْعَلَ أَصْلَهُ طَاهِرًا وَهُوَ يَأْبَى إلَّا أَنْ يَكُونَ نَجِسًا ثُمَّ لَيْسَ شَأْنُهُ شَأْنَ الْفُضُولِ بَلْ شَأْنَ مَا هُوَ غِذَاءٌ وَمَادَّةٌ فِي الْأَبْدَانِ إذْ هُوَ قِوَامُ النَّسْلِ فَهُوَ بِالْأُصُولِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْفَضْلِ . الدَّلِيلُ السَّادِسُ : وَفِيهِ أَجْوِبَةٌ : ( أَحَدُهَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجْرِي فِي مَجْرَى الْبَوْلِ فَقَدْ قِيلَ : إنَّ بَيْنَهُمَا جِلْدَةٌ رَقِيقَةٌ وَإِنَّ الْبَوْلَ إنَّمَا يَخْرُجُ رَشْحًا وَهَذَا مَشْهُورٌ . وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ اتِّصَالِهِمَا وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْلُومًا إلَّا فِي ثُقْبِ الذَّكَرِ وَهُوَ طَاهِرٌ أَوْ مَعْفُوٌّ عَنْ نَجَاسَتِهِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ جَرَى فِي مَجْرَاهُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَوْلَ قَبْلَ ظُهُورِهِ نَجِسٌ . كَمَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ فِي الدَّمِ وَهُوَ فِي الدَّمِ أَبْيَنُ مِنْهُ فِي الْبَوْلِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رُكْنٌ وَبَعْضُ وَهَذَا فَضْلٌ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُمَاسَّةَ فِي بَاطِنِ الْحَيَوَانِ مُوجِبَةٌ لِلتَّنْجِيسِ . كَمَا قَدْ قِيلَ فِي الِاسْتِحَالَةِ وَهُوَ فِي الْمُمَاسَّةِ أَبْيَنُ . يُؤَيِّدُ هَذَا قَوْله تَعَالَى { مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } وَلَوْ كَانَتْ الْمُمَاسَّةُ فِي الْبَاطِنِ لِلْفَرْثِ مَثَلًا مُوجِبَةً لِلنَّجَاسَةِ لَنُجِّسَ اللَّبَنُ .

فَإِنْ قِيلَ : فَلَعَلَّ بَيْنَهُمَا حَاجِزًا . قِيلَ : الْأَصْلُ عَدَمُهُ عَلَى أَنَّ ذِكْرَهُ هَذَا فِي مَعْرِضِ بَيَانِ ذِكْرِ الِاقْتِدَارِ بِإِخْرَاجِ طَيِّبٍ مِنْ بَيْنِ خَبِيثَيْنِ فِي الِاغْتِذَاءِ وَلَا يَتِمُّ إلَّا مَعَ عَدَمِ الْحَاجِزِ وَإِلَّا فَهُوَ مَعَ الْحَاجِزِ ظَاهِرٌ فِي كَمَالِ خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { خَالِصًا } وَالْخُلُوصُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ قِيَامِ الْمُوجِبِ لِلشُّرْبِ وَبِالْجُمْلَةِ فَخُرُوجُ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ وَقَدْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ مَنْ رَأَى إنْفَحَةَ الْمَيْتَةِ وَلَبَنَهَا طَاهِرًا لِأَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا وَإِنَّمَا حَدَثُ نَجَاسَةِ الْوِعَاءِ فَقَالَ : الْمُلَاقَاةُ فِي الْبَاطِنِ غَيْرُ ظَاهِرٍ . وَمَنْ نَجَّسَ هَذَا فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَنِيِّ بِأَنَّ الْمَنِيَّ يَنْفَصِلُ عَنْ النَّجِسِ فِي الْبَاطِنِ أَيْضًا بِخِلَافِ اللَّبَنِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ فَصْلُهُ مِنْ الْمَيْتَةِ إلَّا بَعْدَ إبْرَازِ الضَّرْعِ وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ فِي حَدِّ مَا يَلْحَقُهُ النَّجَاسَةُ . { وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى . وَهَذَا الَّذِي حَضَرَنِي فِي هَذَا الْوَقْتِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ .

وَسُئِلَ : (*)
عَنْ الْمَنِيِّ هَلْ هُوَ طَاهِرٌ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَ طَاهِرًا فَمَا حُكْمُ رُطُوبَةِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ إذَا خَالَطَهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا الْمَنِيُّ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ طَاهِرٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ نَجِسٌ يُجْزِئُ فَرْكُهُ ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَهَلْ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ كَالدَّمِ أَوْ لَا يُعْفَى عَنْهُ كَالْبَوْلِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَقِيلَ : إنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَحْتَلِمُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ الْمَنِيَّ يُصِيبُ بَدَنَ أَحَدِهِمْ وَثِيَابَهُ وَهَذَا مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ نَجِسًا لَكَانَ يَجِبُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرُهُمْ بِإِزَالَةِ ذَلِكَ مِنْ أَبْدَانِهِمْ وَثِيَابِهِمْ كَمَا أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِنْجَاءِ وَكَمَا أَمَرَ الْحَائِضَ بِأَنْ تَغْسِلَ دَمَ الْحَيْضِ مِنْ ثَوْبِهَا بَلْ إصَابَةُ النَّاسِ الْمَنِيَّ أَعْظَمُ بِكَثِيرِ مِنْ

إصَابَةِ دَمِ الْحَيْضِ لِثَوْبِ الْحُيَّضِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ بِغَسْلِ الْمَنِيِّ مِنْ بَدَنِهِ وَلَا ثَوْبِهِ فَعُلِمَ يَقِينًا أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ وَهَذَا قَاطِعٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ . وَأَمَّا كَوْنُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ تَغْسِلُهُ تَارَةً مِنْ ثَوْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفْرُكُهُ تَارَةً فَهَذَا لَا يَقْتَضِي تَنْجِيسَهُ ؛ فَإِنَّ الثَّوْبَ يُغْسَلُ مِنْ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْوَسَخِ وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ : كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا : إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ أَمِطْهُ عَنْك وَلَوْ بإذخرة . وَسَوَاءٌ كَانَ الرَّجُلُ مُسْتَنْجِيًا أَوْ مُسْتَجْمِرًا فَإِنَّ مَنِيَّهُ طَاهِرٌ . وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : إنَّ مَنِيَّ الْمُسْتَجْمِرِ نَجِسٌ لِمُلَاقَاتِهِ رَأْسَ الذَّكَرِ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانَ عَامَّتُهُمْ يَسْتَجْمِرُونَ وَلَمْ يَكُنْ يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ مِنْهُمْ إلَّا قَلِيلٌ جِدًّا بَلْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ الِاسْتِنْجَاءَ بَلْ أَنْكَرُوهُ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ أَحَدًا مِنْهُمْ بِغَسْلِ مَنِيِّهِ : بَلْ وَلَا فَرْكِهِ . وَالِاسْتِجْمَارُ بِالْأَحْجَارِ : هَلْ هُوَ مُطَهِّرٌ أَوْ مُخَفِّفٌ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ . فَإِنْ

قِيلَ إنَّهُ مُطَهِّرٌ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ مُخَفِّفٌ ؟ وَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ لِلْحَاجَةِ فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ فِي مَحَلِّهِ وَفِيمَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَالْمَنِيُّ يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَأُلْحِقَ بِالْمَخْرَجِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْمَنِيِّ مَا حُكْمُهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الصَّحِيحُ أَنَّ الْمَنِيَّ طَاهِرٌ . كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَأَمَّا كَوْنُ عَائِشَةَ تَغْسِلُهُ تَارَةً مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفْرُكُهُ تَارَةً فَهَذَا لَا يَقْتَضِي تَنْجِيسَهُ فَإِنَّ الثَّوْبَ يُغْسَلُ مِنْ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْوَسَخِ وَهَذَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَسَعْدِ بْن أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا : إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبُصَاقِ وَالْمُخَاطِ أَمِطْهُ عَنْك وَلَوْ بإذخرة . وَسَوَاءٌ كَانَ الرَّجُلُ مُسْتَنْجِيًا أَوْ مُسْتَجْمِرًا فَإِنَّ مَنِيَّهُ طَاهِرٌ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ مَنِيَّ الْمُسْتَجْمِرِ نَجِسٌ لِمُلَاقَاتِهِ رَأْسَ الذَّكَرِ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانَ عَامَّتُهُمْ يَسْتَجْمِرُونَ وَلَمْ يَكُنْ يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ مِنْهُمْ إلَّا الْقَلِيلُ جِدًّا بَلْ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ لَا يَعْرِفُ الِاسْتِنْجَاءَ بَلْ أَنْكَرُوهُ وَالْحَقُّ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَحَدًا مِنْهُمْ بِغَسْلِ الْمَنِيِّ وَلَا فَرْكِهِ . وَالِاسْتِجْمَارُ بِالْحِجَارَةِ . هَلْ هُوَ مُخَفِّفٌ أَوْ مُطَهِّرٌ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ فَإِنْ قِيلَ : هُوَ مُطَهِّرٌ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ قِيلَ هُوَ مُخَفِّفٌ فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ لِلْحَاجَةِ وَيُعْفَى عَنْهُ فِي مَحَلِّهِ وَفِيمَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَأُلْحِقَ بِالْمُخْرَجِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ وَقَعَ عَلَى ثِيَابِهِ مَاءُ طَاقَةٍ مَا يَدْرِي مَا هُوَ : فَهَلْ يَجِبُ غَسْلُهُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يَجِبُ غَسْلُهُ ، بَلْ وَلَا يُسْتَحَبُّ عَلَى الصَّحِيحِ وَكَذَلِكَ لَا يُسْتَحَبُّ السُّؤَالُ عَنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ فَقَدْ مَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَعَ رَفِيقٍ لَهُ فَقَطَرَ عَلَى رَفِيقِهِ مَاءٌ مِنْ مِيزَابٍ فَقَالَ صَاحِبُهُ : يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ مَاؤُك طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ لَا تُخْبِرْهُ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْفَخَّارِ فَإِنَّهُ يُشْوَى بِالنَّجَاسَةِ فَمَا حُكْمُهُ ؟ وَالْأَفْرَانُ الَّتِي تُسَخَّنُ بِالزِّبْلِ فَمَا حُكْمُهَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا السِّرْقِينُ النَّجِسُ وَنَحْوُهُ فِي الْوَقُودِ لِيُسَخِّنَ الْمَاءَ أَوْ الطَّعَامَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مُلَابَسَةَ النَّجَاسَةِ وَمُبَاشَرَتَهَا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ لِأَنَّ إتْلَافَ النَّجَاسَةِ لَا يَحْرُمُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَظِنَّةُ التَّلَوُّثِ بِهَا . وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ الِاسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ فَإِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَهُ بِالْإِتْلَافِ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ الْمَنْعُ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ التَّلَوُّثِ بِهِ وَلِكَرَاهَةِ دُخَّانِ النَّجَاسَةِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَبَائِثَ مِنْ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا } . ثُمَّ إنَّهُ حَرَّمَ لُبْسَهَا قَبْلَ الدِّبَاغِ . وَهَذَا وَجْهٌ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عكيم : { كُنْت رَخَّصْت لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابِ وَلَا عَصَبٍ } فَإِنَّ الرُّخْصَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ كَانَتْ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْجُلُودِ بِلَا دِبَاغٍ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ فَرَفَعَ النَّهْيَ عَمَّا أَرْخَصَ فَأَمَّا الِانْتِفَاعُ بِهَا بَعْدَ الدِّبَاغِ فَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ قَطُّ وَلِهَذَا كَانَ آخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد : أَنَّ الدِّبَاغَ مُطَهِّرٌ لِجُلُودِ الْمَيْتَةِ : لَكِنْ هَلْ يَقُومُ مَقَامَ الذَّكَاةِ أَوْ مَقَامَ الْحَيَاةِ فَيُطَهِّرُ جِلْدَ الْمَأْكُولِ أَوْ جِلْدَ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي الْحَيَاةِ دُونَ مَا سِوَى ذَلِكَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ . فَيَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ مَا تُطَهِّرُهُ الذَّكَاةُ لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ الْخَمْرِ فِي إطْفَاءِ الْحَرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ سَلَّمَهُ الْمُنَازِعُونَ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ بِمُجَانَبَةِ الْخَمْرِ أَعْظَمُ فَإِذَا جَازَ إتْلَافُ الْخَمْرِ بِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَإِتْلَافُ النَّجَاسَاتِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ أَوْلَى ؛ وَلِأَنَّهُمْ سَلَّمُوا جَوَازَ طَعَامِ الْمَيْتَةِ لِلْبُزَاةِ وَالصُّقُورِ فَاسْتِعْمَالُهَا فِي النَّارِ أَوْلَى . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : هَذَا مَظِنَّةُ مُلَابَسَتِهَا فَيُقَالُ : مُلَابَسَةُ النَّجَاسَةِ لِلْحَاجَةِ جَائِزٌ إذَا طَهَّرَ بَدَنَهُ وَثِيَابَهُ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا . كَمَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ مَعَ مُبَاشَرَةِ النَّجَاسَةِ وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : يُكْرَهُ ذَلِكَ .

بَلْ يُسْتَعْمَلُ الْحَجَرُ أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا . وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْمَاءِ أَفْضَلُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُبَاشَرَتُهَا . وَفِي اسْتِعْمَالِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا لَمْ يَقُلْ بِطَهَارَتِهَا فِي الْيَابِسَاتِ رِوَايَتَانِ : أَصَحُّهُمَا جَوَازُ ذَلِكَ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ يُكْرَهُ فَالْكَرَاهَةُ تَزُولُ بِالْحَاجَةِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : هَذَا يُفْضِي إلَى التَّلَوُّثِ بِدُخَّانِ النَّجَاسَةِ فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ النَّجَاسَةَ فِي الْمَلَّاحَةِ إذَا صَارَتْ مِلْحًا وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَلْ هِيَ نَجِسَةٌ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْخِنْزِيرِ الْمَشْوِيِّ فِي التَّنُّورِ هَلْ تُطَهِّرُ النَّارُ مَا لَصِقَ بِهِ أَمْ يَحْتَاجُ إلَى غَسْلِ مَا أَصَابَهُ مِنْهُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ :
أَحَدُهُمَا هِيَ نَجِسَةٌ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ أَحْمَد وَأَحَدُ قَوْلَيْ أَصْحَابِ مَالِكٍ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : لَا يَطْهُرُ مِنْ النَّجَاسَةِ بِالِاسْتِحَالَةِ إلَّا الْخَمْرَةُ الْمُنْتَقِلَةُ بِنَفْسِهَا وَالْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ إذَا قِيلَ إنَّ الدَّبْغَ إحَالَةٌ لَا إزَالَةٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهَا لَا تَبْقَى نَجِسَةً . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا نَصُّ التَّحْرِيمِ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى وَلَيْسَتْ فِي مَعْنَى النُّصُوصِ

بَلْ هِيَ أَعْيَانٌ طَيِّبَةٌ فَيَتَنَاوَلُهَا نَصُّ التَّحْلِيلِ وَهِيَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ الْخَمْرِ الْمُنْقَلِبَةِ بِنَفْسِهَا وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْفَرْقِ بِأَنَّ الْخَمْرَ نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَتَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ إنَّمَا نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ : كَالدَّمِ فَإِنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَنْ الْغِذَاءِ الطَّاهِرِ وَكَذَلِكَ الْبَوْلُ وَالْعَذِرَةُ حَتَّى الْحَيَوَانُ النَّجِسُ مُسْتَحِيلٌ عَنْ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الطَّاهِرَاتِ . وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّجَاسَةَ طَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَإِنَّ نَفْسَ النَّجِسِ لَمْ يَطْهُرْ لَكِنْ اسْتَحَالَ وَهَذَا الطَّاهِرُ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ النَّجِسَ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِيلًا مِنْهُ وَالْمَادَّةُ وَاحِدَةٌ كَمَا أَنَّ الْمَاءَ لَيْسَ هُوَ الزَّرْعَ وَالْهَوَاءَ وَالْحَبَّ وَتُرَابُ الْمَقْبَرَةِ لَيْسَ هُوَ الْمَيِّتَ وَالْإِنْسَانُ لَيْسَ هُوَ الْمَنِيَّ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ أَجْسَامَ الْعَالَمِ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ وَيُحِيلُ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ وَهِيَ تُبَدَّلُ مَعَ الْحَقَائِقِ لَيْسَ هَذَا هَذَا . فَكَيْفَ يَكُونُ الرَّمَادُ هُوَ الْعَظْمَ الْمَيِّتَ وَاللَّحْمَ وَالدَّمَ نَفْسَهُ . بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْعَظْمِ . وَأَمَّا كَوْنُهُ هُوَ هُوَ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَالْمَادَّةِ فَهَذَا لَا يَضُرُّ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ يَتْبَعُ الِاسْمَ وَالْمَعْنَى الَّذِي هُوَ الْخَبَثُ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ . وَعَلَى هَذَا فَدُخَانُ النَّارِ الْمُوقَدَةِ بِالنَّجَاسَةِ طَاهِرٌ وَبُخَارُ الْمَاءِ النَّجِسِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِي السَّقْفِ طَاهِرٌ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الْفَخَّارُ طَاهِرٌ إذْ لَيْسَ فِيهِ مِنْ النَّجَاسَةِ شَيْءٌ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ خَالَطَهُ مِنْ دُخَانِهَا خَرَجَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ طَاهِرٌ . وَأَمَّا نَفْسُ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ وَالنِّزَاعُ فِي الْمَاءِ الْمُسَخَّنِ بِالنَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ ؛ لَكِنْ هَلْ يُكْرَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ : هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . إحْدَاهُمَا : لَا يُكْرَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي يُكْرَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَلِلْكَرَاهَةِ مَأْخَذَانِ : أَحَدُهُمَا : خَشْيَةُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَصَلَ إلَى الْمَاءِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ فَيُكْرَهُ لِاحْتِمَالِ تَنَجُّسِهِ فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ بَيْنَ الْمَوْقِدِ وَبَيْنَ النَّارِ حَاجِزٌ حَصِينٌ لَمْ يُكْرَهْ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمَا . وَالثَّانِي : أَنَّ سَبَبَ الْكَرَاهَةِ كَوْنُ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ مَكْرُوهًا وَأَنَّ السُّخُونَةَ حَصَلَتْ بِفِعْلِ مَكْرُوهٍ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَمِثْلُ هَذَا

طَبْخُ الطَّعَامِ بِالْوَقُودِ النَّجِسِ فَإِنْ نَضِجَ الطَّعَامُ كَسُخُونَةِ الْمَاءِ وَالْكَرَاهَةِ فِي طَبْخِ الْفَخَّارِ بِالْوَقُودِ النَّجِسِ تُشْبِهُ تَسْخِينَ الْمَاءِ الَّذِي لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ حَاجِزٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ : هَلْ هُوَ نَجِسٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثُ ذَلِكَ فَإِنَّ أَكْثَرَ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَجِسِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَيُقَالُ : إنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَى تَنْجِيسِ ذَلِكَ . بَلْ الْقَوْلُ بِنَجَاسَةِ ذَلِكَ قَوْلٌ مُحْدَثٌ لَا سَلَفَ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ وَبَيَّنَّا فِيهِ بِضْعَةَ عَشَرَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَجِسِ . وَالْقَائِلُ بِتَنْجِيسِ ذَلِكَ لَيْسَ مَعَهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى نَجَاسَتِهِ أَصْلًا . فَإِنَّ غَايَةَ مَا اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَنَزَّهُوا مِنْ الْبَوْلِ } وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّامَ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ وَالْبَوْلُ الْمَعْهُودُ هُوَ بَوْلُ الْآدَمِيِّ وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ : { تَنَزَّهُوا مِنْ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَامَّةَ عَذَابِ

الْقَبْرِ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَوْلِ الْآدَمِيِّ نَفْسِهِ الَّذِي يُصِيبُهُ كَثِيرًا لَا مِنْ بَوْلِ الْبَهَائِمِ الَّذِي لَا يُصِيبُهُ إلَّا نَادِرًا . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أَمَرَ العرنيين الَّذِينَ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ أَنْ يَلْحَقُوا بِإِبِلِ الصَّدَقَةِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا } وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ مَعَ ذَلِكَ بِغَسْلِ مَا يُصِيبُ أَفْوَاهَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ . وَلَا بِغَسْلِ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي فِيهَا الْأَبْوَالُ مَعَ حَدَثَانِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ وَلَوْ كَانَ بَوْلُ الْأَنْعَامِ كَبَوْلِ الْإِنْسَانِ لَكَانَ بَيَانُ ذَلِكَ وَاجِبًا وَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا سِيَّمَا مَعَ أَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْأَلْبَانِ الَّتِي هِيَ حَلَالٌ طَاهِرَةٌ مَعَ أَنَّ التداوي بِالْخَبَائِثِ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . وَأَيْضًا : فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ } وَأَنَّهُ أَذِنَ فِي الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ حَائِلٍ وَلَوْ كَانَتْ أبعارها نَجِسَةً لَكَانَتْ مَرَابِضُهَا كَحُشُوشِ بَنِي آدَمَ وَكَانَ يَنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا مُطْلَقًا أَوْ لَا يُصَلِّي فِيهَا إلَّا مَعَ الْحَائِلِ الْمَانِعِ فَلَمَّا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِالرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ : كَانَ مَنْ سَوَّى بَيْن أَبْوَالِ الْآدَمِيِّينَ وَأَبْوَالِ الْغَنَمِ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ . وَأَيْضًا : فَقَدْ طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرِهِ

مَعَ إمْكَانِ أَنْ يَبُولَ الْبَعِيرُ وَأَيْضًا فَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يَدُوسُونَ حُبُوبَهُمْ بِالْبَقَرِ مَعَ كَثْرَةِ مَا يَقَعُ فِي الْحَبِّ مِنْ الْبَوْلِ وَأَخْبَاثِ الْبَقَرِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ فَلَا يَجُوزُ التَّنْجِيسُ إلَّا بِدَلِيلِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى النَّجَاسَةِ ؛ إذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ .
وَسُئِلَ :
عَنْ فَرَّانٍ يَحْمِي بِالزِّبْلِ وَيَخْبِزُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَ الزِّبْلُ طَاهِرًا مِثْلَ زِبْلِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْإِبِلِ وَزِبْلِ الْخَيْلِ ، فَهَذَا لَا يُنَجِّسُ الْخُبْزَ ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا كَزِبْلِ الْبِغَالِ وَالْحُمُرِ وَزِبْلِ سَائِرِ الْبَهَائِمِ فَعِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ : إنْ كَانَ يَابِسًا فَقَدْ يَبِسَ الْفُرْنُ مِنْهُ وَلَمْ يُنَجِّسْ الْخُبْزَ وَإِنْ عَلَقَ بَعْضُهُ بِالْخُبْزِ قُلِعَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ وَلَمْ يُنَجَّسْ الْبَاقِي . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ الْكَلْبِ هَلْ هُوَ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ ؟ وَمَا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْكَلْبُ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ نَجِسٌ كُلُّهُ حَتَّى شَعْرُهُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ طَاهِرٌ حَتَّى رِيقُهُ كَقَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ رِيقَهُ نَجِسٌ وَأَنَّ شَعْرَهُ طَاهِرٌ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ وَهَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ الْمَنْصُورَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد وَهَذَا أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ . فَإِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ أَوْ الْبَدَنَ رُطُوبَةُ شَعْرِهِ لَمْ يَنْجُسْ بِذَلِكَ وَإِذَا وَلَغَ فِي الْمَاءِ أُرِيقَ وَإِذَا وَلَغَ فِي اللَّبَنِ وَنَحْوِهِ : فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ يُؤْكَلُ ذَلِكَ الطَّعَامُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يُرَاقُ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . فَأَمَّا إنْ كَانَ اللَّبَنُ كَثِيرًا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ . وَلَهُ فِي الشُّعُورِ النَّابِتَةِ عَلَى مَحَلٍّ نَجِسٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ : إحْدَاهَا : أَنَّ جَمِيعَهَا طَاهِرٌ حَتَّى شَعْرُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ جَمِيعَهَا نَجِسٌ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ .

وَالثَّالِثَةُ : أَنَّ شَعْرَ الْمَيْتَةِ إنْ كَانَتْ طَاهِرَةً فِي الْحَيَاةِ كَانَ طَاهِرًا كَالشَّاةِ وَالْفَأْرَةِ وَشَعْرُ مَا هُوَ نَجِسٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ نَجِسٌ : كَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَهَذِهِ هِيَ الْمَنْصُوصَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ . وَالْقَوْلُ الرَّاجِحُ هُوَ طَهَارَةُ الشُّعُورِ كُلِّهَا : شَعْرُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَغَيْرُهُمَا بِخِلَافِ الرِّيقِ وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ شَعْرُ الْكَلْبِ رَطْبًا وَأَصَابَ ثَوْبَ الْإِنْسَانِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ : وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ فَلَا يَجُوزُ تَنْجِيسُ شَيْءٍ وَلَا تَحْرِيمُهُ إلَّا بِدَلِيلِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ مَرْفُوعًا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ مَوْقُوفًا أَنَّهُ قَالَ : { الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ } . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعًا أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ } . فَأَحَادِيثُهُ كُلُّهَا لَيْسَ فِيهَا إلَّا ذِكْرُ الْوُلُوغِ لَمْ يَذْكُرْ سَائِرَ الْأَجْزَاءِ فَتَنْجِيسُهَا إنَّمَا هُوَ بِالْقِيَاسِ .

فَإِذَا قِيلَ : إنَّ الْبَوْلَ أَعْظَمُ مِنْ الرِّيقِ كَانَ هَذَا مُتَوَجِّهًا . وَأَمَّا إلْحَاقُ الشَّعْرِ بِالرِّيقِ فَلَا يُمْكِنُ ؛ لِأَنَّ الرِّيقَ مُتَحَلِّلٌ مِنْ بَاطِنِ الْكَلْبِ بِخِلَافِ الشَّعْرِ فَإِنَّهُ نَابِتٌ عَلَى ظَهْرِهِ . وَالْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا . فَإِنَّ جُمْهُورَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ شَعْرَ الْمَيْتَةِ طَاهِرٌ بِخِلَافِ رِيقِهَا . وَالشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الزَّرْعَ النَّابِتَ فِي الْأَرْضِ النَّجِسَةِ طَاهِرٌ فَغَايَةُ شَعْرِ الْكَلْبِ أَنْ يَكُونَ نَابِتًا فِي مَنْبَتٍ نَجِسٍ كَالزَّرْعِ النَّابِتِ فِي الْأَرْضِ النَّجِسَةِ فَإِذَا كَانَ الزَّرْعُ طَاهِرًا فَالشَّعْرُ أَوْلَى بِالطَّهَارَةِ لِأَنَّ الزَّرْعَ فِيهِ رُطُوبَةٌ وَلِينٌ يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ النَّجَاسَةِ بِخِلَافِ الشَّعْرِ فَإِنَّ فِيهِ مِنْ الْيُبُوسَةِ وَالْجُمُودِ مَا يَمْنَعُ ظُهُورَ ذَلِكَ . فَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ : إنَّ الزَّرْعَ طَاهِرٌ فَالشَّعْرُ أَوْلَى وَمَنْ قَالَ إنَّ الزَّرْعَ نَجِسٌ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مَا ذُكِرَ فَإِنَّ الزَّرْعَ يَلْحَقُ بِالْجَلَّالَةِ الَّتِي تَأْكُلُ النَّجَاسَةَ وَهَذَا أَيْضًا حُجَّةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ الْجَلَّالَةَ الَّتِي تَأْكُلُ النَّجَاسَةَ قَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَبَنِهَا فَإِذَا حُبِسَتْ حَتَّى تَطِيبَ كَانَتْ حَلَالًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ ذَلِكَ يَظْهَرُ أَثَرُ النَّجَاسَةِ فِي لَبَنِهَا وَبَيْضِهَا وَعَرَقِهَا فَيَظْهَرُ نَتْنُ النَّجَاسَةِ وَخُبْثُهَا فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ عَادَتْ طَاهِرَةً فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةِ زَالَ بِزَوَالِهَا . وَالشَّعْرُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ النَّجَاسَةِ أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ لِتَنْجِيسِهِ مَعْنًى .

وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْكَلَامِ فِي شُعُورِ الْمَيْتَةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَكُلُّ حَيَوَانٍ قِيلَ بِنَجَاسَتِهِ فَالْكَلَامُ فِي شَعْرِهِ وَرِيشِهِ كَالْكَلَامِ فِي شَعْرِ الْكَلْبِ فَإِذَا قِيلَ : بِنَجَاسَةِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ إلَّا الْهِرَّةَ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ . كَمَا هُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ : عُلَمَاءِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي رِيشِ ذَلِكَ وَشَعْرِهِ فِيهِ هَذَا النِّزَاعُ : هَلْ هُوَ نَجِسٌ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد : إحْدَاهُمَا : أَنَّهُ طَاهِرٌ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ نَجِسٌ كَمَا هُوَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَد وَالْقَوْلُ بِطَهَارَةِ ذَلِكَ هُوَ الصَّوَابُ . كَمَا تَقَدَّمَ . وَأَيْضًا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي اقْتِنَاءِ كَلْبِ الصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ وَالْحَرْثِ وَلَا بُدَّ لِمَنْ اقْتَنَاهُ أَنْ يُصِيبَهُ رُطُوبَةُ شُعُورِهِ كَمَا يُصِيبُهُ رُطُوبَةُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ بِنَجَاسَةِ شُعُورِهَا

وَالْحَالُ هَذِهِ مِنْ الْحَرَجِ الْمَرْفُوعِ عَنْ الْأُمَّةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ لُعَابَ الْكَلْبِ إذَا أَصَابَ الصَّيْدَ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِغَسْلِ ذَلِكَ فَقَدْ عفى عَنْ لُعَابِ الْكَلْبِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ وَأَمَرَ بِغَسْلِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَاجَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ رَاعَى مَصْلَحَةَ الْخَلْقِ وَحَاجَتَهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ كَلْبٍ طَلَعَ مِنْ مَاءٍ فَانْتَفَضَ عَلَى شَيْءٍ فَهَلْ يَجِبُ تَسْبِيعُهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَجِبُ تَسْبِيعُهُ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا يَجِبُ تَسْبِيعُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ سُؤْرِ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ : هَلْ هُوَ طَاهِرٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا سُؤْرُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يُجَوِّزُونَ التَّوَضُّؤَ بِهِ . كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.

وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ . كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ . وَالثَّالِثَةُ أَنَّهُ نَجِسٌ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ بَاطِنِ حَيَوَانٍ نَجِسٍ فَيَكُونُ نَجِسًا كَلُعَابِ الْكَلْبِ : لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْهِرَّةِ : { إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ } فَعَلَّلَ طَهَارَةَ سُؤْرِهَا لِكَوْنِهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْنَا وَالطَّوَّافَاتِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحَاجَةَ مُقْتَضِيَةٌ لِلطَّهَارَةِ وَهَذَا مِنْ حُجَّةِ مَنْ يُبِيحُ سُؤْرَ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ . فَإِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ وَالْمَانِعُ يَقُولُ ذَلِكَ مِثْلُ سُؤْرِ الْكَلْبِ فَإِنَّهُ مَعَ إبَاحَةِ قِنْيَتِهِ لِمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَيْهِ نُهِيَ عَنْ سُؤْرِهِ . وَالْمُرَخِّصُ يَقُولُ : إنَّ الْكَلْبَ أَبَاحَهُ لِلْحَاجَةِ وَلِهَذَا حَرَّمَ ثَمَنَهُ ؛ بِخِلَافِ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ فَإِنَّ بَيْعَهُمَا جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَسْآرِ السِّبَاعِ وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ طِينِ جَبَلٍ بِزِبْلِ حِمَارٍ وَطُيِّنَ بِهِ سَطْحٌ فَوَقَعَ عَلَيْهِ قَطْرٌ فَتَعَلَّقَ بِهِ مَا حُكْمُهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَ يَسِيرًا عُفِيَ عَنْهُ . فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .

وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الزِّبْلُ قَدْ خُلِطَ بِالطِّينِ الَّذِي طُيِّنَ بِهِ السَّطْحُ فَقَدْ يَكُونُ قَدْ اسْتَحَالَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِلْ فَاَلَّذِي تَعَلَّقَ بِالْقَطْرِ شَيْءٌ يَسِيرٌ .
وَسُئِلَ :
عَمَّا إذَا بَالَ الْفَأْرُ فِي الْفِرَاشِ هَلْ يُصَلَّى فِيهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
غَسْلُهُ أَحْوَطُ وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد .
وَسُئِلَ :
عَنْ رِيشِ الْقُنْفُذِ هَلْ هُوَ نَجِسٌ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هُوَ طَاهِرٌ وَإِنْ وُجِدَ بَعْدَ مَوْتِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ .

بَابٌ الْحَيْضُ :
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَمَّا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْحَيْضُ لِلْجَارِيَةِ : الْبِكْرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ } هَلْ هُوَ صَحِيحٌ ؟ وَمَا تَأْوِيلُهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا نَقْلُ هَذَا الْخَبَرِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ بَلْ هُوَ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ . وَلَكِنْ هُوَ مَشْهُورٌ عَنْ أَبِي الْخُلْدِ عَنْ أَنَسٍ وَقَدْ تُكُلِّمَ فِي أَبِي الْخُلْدِ . وَأَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ : أَكْثَرُ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ كَمَا يَقُولُهُ : الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَيَقُولُونَ : أَقَلُّهُ يَوْمٌ كَمَا يَقُولُهُ : الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد . أَوْ لَا حَدَّ لَهُ كَمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ . فَهُمْ يَقُولُونَ : لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ فِي هَذَا شَيْءٌ وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعَادَةِ كَمَا قُلْنَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ جِمَاعِ الْحَائِضِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
وَطْءُ الْحَائِضِ لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ وَطِئَهَا وَكَانَتْ حَائِضًا فَفِي الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَفِي غُسْلِهَا مِنْ الْجَنَابَةِ دُونَ الْحَيْضِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَوَطْءُ النُّفَسَاءِ كَوَطْءِ الْحَائِضِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . لَكِنْ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ مِنْ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ وَسَوَاءٌ اسْتَمْتَعَ مِنْهَا بِفَمِهِ أَوْ بِيَدِهِ أَوْ بِرِجْلِهِ فَلَوْ وَطِئَهَا فِي بَطْنِهَا وَاسْتَمْنَى جَازَ . وَلَوْ اسْتَمْتَعَ بِفَخِذَيْهَا فَفِي جَوَازِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْمَرْأَةِ تَطْهُرُ مِنْ الْحَيْضِ وَلَمْ تَجِدْ مَاءً تَغْتَسِلُ بِهِ هَلْ لِزَوْجِهَا أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ غُسْلِهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْمَرْأَةُ الْحَائِضُ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا فَلَا يَطَؤُهَا زَوْجُهَا حَتَّى

تَغْتَسِلَ إذَا كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى الِاغْتِسَالِ وَإِلَّا تَيَمَّمَتْ . كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ . وَهَذَا مَعْنَى مَا يُرْوَى عَنْ الصَّحَابَةِ حَيْثُ رُوِيَ عَنْ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ - مِنْهُمْ الْخُلَفَاءُ - أَنَّهُمْ قَالُوا : فِي الْمُعْتَدَّةِ هُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ . وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } قَالَ مُجَاهِدٌ : حَتَّى يَطْهُرْنَ يَعْنِي يَنْقَطِعُ الدَّمُ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ اغْتَسَلْنَ بِالْمَاءِ وَهُوَ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ . وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ غَايَتَيْنِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ لِأَنَّ قَوْلَهُ : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } غَايَةُ التَّحْرِيمِ الْحَاصِلُ بِالْحَيْضِ وَهُوَ تَحْرِيمٌ لَا يَزُولُ بِالِاغْتِسَالِ وَلَا غَيْرِهِ فَهَذَا التَّحْرِيمُ يَزُولُ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ ثُمَّ يَبْقَى الْوَطْءُ بَعْدَ ذَلِكَ جَائِزًا بِشَرْطِ الِاغْتِسَالِ لَا يَبْقَى مُحَرَّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلِهَذَا قَالَ : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } فَنِكَاحُ الزَّوْجِ الثَّانِي غَايَةُ التَّحْرِيمِ الْحَاصِلِ بِالثَّلَاثِ فَإِذَا نَكَحَتْ الزَّوْجَ الثَّانِيَ زَالَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ ؛ لَكِنْ صَارَتْ فِي عِصْمَةِ الثَّانِي فَحُرِّمَتْ لِأَجْلِ حَقِّهِ ؛ لَا لِأَجْلِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ . فَإِذَا طَلَّقَهَا جَازَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا .

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } أَيْ غَسَلْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَيْسَ بِشَيْءِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ قَالَ : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } فَالتَّطَهُّرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ هُوَ الِاغْتِسَالُ وَأَمَّا قَوْلُهُ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } فَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُغْتَسِلُ وَالْمُتَوَضِّئُ وَالْمُسْتَنْجِي لَكِنَّ التَّطَهُّرَ الْمَقْرُونَ بِالْحَيْضِ كَالتَّطَهُّرِ الْمَقْرُونِ بِالْجَنَابَةِ . وَالْمُرَادُ بِهِ الِاغْتِسَالُ . وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : إذَا اغْتَسَلَتْ أَوْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ أَوْ انْقَطَعَ الدَّمُ لِعَشَرَةِ أَيَّامٍ حَلَّتْ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَحْكُومٌ بِطَهَارَتِهَا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ . وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُوَ الصَّوَابُ . كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ إتْيَانِ الْحَائِضِ قَبْلَ الْغُسْلِ ؟ وَمَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : فَإِنْ انْقَطَعَ الدَّمُ لِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَمْ يَجُزْ وَطْؤُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ ؟ وَإِنْ انْقَطَعَ دَمُهَا لِعَشَرَةِ أَيَّامٍ جَازَ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْغُسْلِ ؟ وَهَلْ الْأَئِمَّةُ مُوَافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ

وَطْؤُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيُجَوِّزُ وَطْأَهَا إذَا انْقَطَعَ لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ أَوْ مَرَّ عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ فَاغْتَسَلَتْ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْآثَارُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْحَدِيثَيْنِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ :
أَحَدُهُمَا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - { أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حبيش سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ : إنِّي أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ ؟ فَقَالَ : إنَّ ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَكِنْ دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْت تَحِيضِينَ فِيهَا ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي } - وَفِي رِوَايَةٍ - { وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْك الدَّمَ وَصَلِّي } . وَالْحَدِيثُ الثَّانِي عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - : { أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اُسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ } . فَهَلْ كَانَتْ تَغْتَسِلُ الْغُسْلَ الْكَامِلَ الْمَشْرُوعَ ؟ أَمْ كَانَتْ تَغْسِلُ الدَّمَ وَتَتَوَضَّأُ ؟ وَمَعَ هَذَا

فَهَلْ كَانَتْ نَاسِيَةً لِأَيَّامِ الْحَيْضِ ؟ أَمْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً ؟ وَهَلْ نَسَخَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ الْآخَرَ ؟ وَأَيُّهُمَا كَانَ النَّاسِخَ ؟ وَهَلْ إذَا اُبْتُلِيَتْ الْمَرْأَةُ بِمَا اُبْتُلِيَتْ بِهِ أُمُّ حَبِيبَةَ أَنْ تَغْتَسِلَ الْغُسْلَ الْكَامِلَ ؟ وَإِذَا أُمِرَتْ بِالْغُسْلِ فَيَكُونُ هَذَا مِنْ الْحَرَجِ الْعَظِيمِ ؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وَهَلْ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ نَاسِخًا لِلْآخَرِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا . فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ : فِيمَنْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ تَعْلَمُ قَدْرَهَا فَإِذَا اُسْتُحِيضَتْ قَعَدَتْ قَدْرَ الْعَادَةِ وَلِهَذَا قَالَ : { فَدَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْت تَحِيضِينَ فِيهَا } وَقَالَ : { إذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْك الدَّمَ وَصَلِّي } وَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَخَذَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ الْمُعْتَادَةِ . أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى عَادَتِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَد . لَكِنَّهُمْ مُتَنَازِعُونَ لَوْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً تَمَيُّزَ الدَّمِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْأَحْمَرِ : فَهَلْ تُقَدِّمُ التَّمْيِيزَ عَلَى الْعَادَةِ ؟ أَمْ الْعَادَةُ عَلَى التَّمْيِيزِ ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ التَّمْيِيزَ عَلَى الْعَادَةِ . وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَالثَّانِي : فِي أَنَّهَا تُقَدِّمُ الْعَادَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَذْهَبُ

أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ؛ بَلْ أَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَعْتَبِرْ التَّمْيِيزَ كَمَا أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَعْتَبِرْ الْعَادَةَ . لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَد يَعْتَبِرَانِ هَذَا وَهَذَا وَالنِّزَاعُ فِي التَّقْدِيمِ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي : فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَلَكِنْ أَمَرَهَا بِالْغُسْلِ مُطْلَقًا فَكَانَتْ هِيَ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَالْغُسْلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ مُسْتَحَبٌّ ؛ لَيْسَ بِوَاجِبِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ إذَا قَعَدَتْ أَيَّامًا مَعْلُومَةً هِيَ أَيَّامُ الْحَيْضِ ثُمَّ اغْتَسَلَتْ كَمَا تَغْتَسِلُ مَنْ انْقَطَعَ حَيْضُهَا ثُمَّ صَلَّتْ وَصَامَتْ فِي هَذِهِ الِاسْتِحَاضَةِ بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَأَمَّا مَالِكٌ فَعِنْدَهُ لَيْسَ عَلَيْهَا وُضُوءٌ وَلَا غُسْلٌ فَإِنَّ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَهُ لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ النَّادِرَاتِ وَقَدْ احْتَجَّ الْأَكْثَرُونَ بِمَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْمُسْتَحَاضَةَ أَنْ تَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ } . وَهَذِهِ الْمُسْتَحَاضَةُ الثَّانِيَةُ لَمْ تَكُنْ مُبْتَدَأَةً وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ ظَنَّهُ بَعْضُ النَّاسِ فَإِنَّهَا كَانَتْ عَجُوزًا كَبِيرَةً وَإِنَّمَا حَمَلُوا أَمْرَهَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ نَاسِيَةً لِعَادَتِهَا وَفِي السُّنَنِ : { أَنَّهَا أُمِرَتْ أَنْ تَحِيضَ سِتًّا أَوْ سَبْعًا } كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بِنْتِ سَهْلٍ وَبِهَذَا احْتَجَّ الْإِمَامُ

أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ الْمُتَمَيِّزَةَ تَجْلِسُ سِتًّا أَوْ سَبْعًا وَهُوَ غَالِبُ الْحَيْضِ . وَفِي الْمُسْتَحَاضَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثُ سُنَنٍ : سُنَّةٌ فِي الْعَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَسُنَّةٌ فِي الْمُمَيِّزَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ : { دَمُ الْحَيْضِ أَسْوَدُ يُعْرَفُ } وَسُنَّةٌ فِي غَالِبِ الْحَيْضِ وَهُوَ قَوْلُهُ : { تَحَيَّضِي سِتًّا أَوْ سَبْعًا ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ أَوْ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ وَيَطْهُرْنَ لِمِيقَاتِ حَيْضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ } . وَالْعُلَمَاءُ لَهُمْ فِي الِاسْتِحَاضَةِ نِزَاعٌ فَإِنَّ أَمْرَهَا مُشْكِلٌ لِاشْتِبَاهِ دَمِ الْحَيْضِ بِدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ فَاصِلٍ يَفْصِلُ هَذَا مِنْ هَذَا . وَالْعَلَامَاتُ الَّتِي قِيلَ بِهَا سِتَّةٌ : إمَّا الْعَادَةُ فَإِنَّ الْعَادَةَ أَقْوَى الْعَلَامَاتِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مُقَامُ الْحَيْضِ دُونَ غَيْرِهِ . وَإِمَّا التَّمْيِيزُ ؛ لِأَنَّهُ الدَّمُ الْأَسْوَدُ وَالثَّخِينُ الْمُنْتِنُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ حَيْضًا مِنْ الْأَحْمَرِ . وَإِمَّا اعْتِبَارُ غَالِبِ عَادَةِ النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ إلْحَاقُ الْفَرْدِ بِالْأَعَمِّ

الْأَغْلَبِ فَهَذِهِ الْعَلَامَاتُ الثَّلَاثُ تَدُلُّ عَلَيْهَا السُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يُجْلِسُهَا لَيْلَةً وَهُوَ أَقَلُّ الْحَيْضِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُجْلِسُهَا الْأَكْثَرَ ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ دَمِ الصِّحَّةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْحِقُهَا بِعَادَةِ نِسَائِهَا . وَهَلْ هَذَا حُكْمُ النَّاسِيَةِ . أَوْ حُكْمُ الْمُبْتَدَأَةِ وَالنَّاسِيَةِ جَمِيعًا فِيهِ نِزَاعٌ ؟ وَأَصْوَبُ الْأَقْوَالِ اعْتِبَارُ الْعَلَامَاتِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ وَإِلْغَاءُ مَا سِوَى ذَلِكَ . وَأَمَّا الْمُتَمَيِّزَةُ فَتَجْلِسُ غَالِبَ الْحَيْضِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا دَمًا مَحْكُومًا بِأَنَّهُ حَيْضٌ بَلْ أَمَرَهَا بِالِاحْتِيَاطِ مُطْلَقًا فَقَدْ كَلَّفَهَا أَمْرًا عَظِيمًا لَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِمِثْلِهِ وَفِيهِ تَبْغِيضُ عِبَادَةِ اللَّهِ إلَى أَهْلِ دِينِ اللَّهِ وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ الْحَرَجَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مِنْ أَضْعَفِ الْأَقْوَالِ جِدًّا . وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الدَّمَ بِاعْتِبَارِ حُكْمِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ خَمْسَةِ أَقْسَامٍ :
دَمٌ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ حَيْضٌ كَالدَّمِ الْمُعْتَادِ الَّذِي لَا اسْتِحَاضَةَ مَعَهُ .
وَدَمٌ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ كَدَمِ الصَّغِيرَةِ .
وَدَمٌ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ حَيْضٌ . وَهُوَ دَمُ الْمُعْتَادَةِ

وَالْمُمَيِّزَةِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ المستحاضات الَّذِي يُحْكَمُ بِأَنَّهُ حَيْضٌ . وَدَمٌ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ دَمُ فَسَادٍ . وَهُوَ الدَّمُ الَّذِي يُحْكَمُ بِأَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ مِنْ دِمَاءِ هَؤُلَاءِ . وَدَمٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ لَا يَتَرَجَّحُ فِيهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فَهَذَا يَقُولُ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا فَيُوجِبُونَ عَلَى مَنْ أَصَابَهَا أَنْ تَصُومَ وَتُصَلِّيَ ثُمَّ تَقْضِي الصَّوْمَ وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَاطِلٌ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } فَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ وَغَيْرِهَا مَا تَتَّقِيهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّ الشَّرِيعَةَ فِيهَا شَكٌّ مُسْتَمِرٌّ يَحْكُمُ بِهِ الرَّسُولُ وَأُمَّتُهُ نَعَمْ : قَدْ يَكُونُ شَكٌّ خَاصٌّ بِبَعْضِ النَّاسِ . كَاَلَّذِي يَشُكُّ هَلْ أَحْدَثَ أَمْ لَا ؟ كَالشُّبُهَاتِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَأَمَّا شَكٌّ وَشُبْهَةٌ تَكُونُ فِي نَفْسِ الشَّرِيعَةِ فَهَذَا بَاطِلٌ وَاَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ هَذَا دَم شَكٍّ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ حُكْمَ الشَّرْعِ ؛ لَا يَقُولُونَ : نَحْنُ شَكَكْنَا ؛ فَإِنَّ الشَّاكَّ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ فَلَا يَجْزِمُ وَهَؤُلَاءِ يَجْزِمُونَ بِوُجُوبِ الصِّيَامِ وَإِعَادَتِهِ لِشَكِّهِمْ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَيْسَ فِيهَا إيجَابُ الصَّلَاةِ مَرَّتَيْنِ وَلَا

الصِّيَامُ مَرَّتَيْنِ إلَّا بِتَفْرِيطِ مِنْ الْعَبْدِ . فَأَمَّا مَعَ عَدَمِ تَفْرِيطِهِ فَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ صَوْمَ شَهْرَيْنِ فِي السُّنَّةِ وَلَا صَلَاةَ ظُهْرَيْنِ فِي يَوْمٍ وَهَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ ضَعْفُ قَوْلِ مَنْ يُوجِبُ الصَّلَاةَ وَيُوجِبُ إعَادَتَهَا . فَإِنَّ هَذَا أَصْلٌ ضَعِيفٌ . كَمَا بُسِطَ الْقَوْلُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَيَدْخُلُ فِي هَذَا مَنْ يَأْمُرُ بِالصَّلَاةِ خَلْفَ الْفَاسِقِ وَإِعَادَتِهَا وَبِالصَّلَاةِ مَعَ الْأَعْذَارِ النَّادِرَةِ الَّتِي لَا تَتَّصِلُ وَإِعَادَتِهَا وَمَنْ يَأْمُرُ الْمُسْتَحَاضَةَ بِالصِّيَامِ مَرَّتَيْنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجَدُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . فَإِنَّ الصَّوَابَ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْعِبَادَةَ كَمَا أُمِرَ بِحَسَبِ وُسْعِهِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَلَمْ يُعْرَفْ قَطُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْعَبْدَ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاةَ مَرَّتَيْنِ لَكِنْ يَأْمُرُ بِالْإِعَادَةِ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ : { ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ } وَكَمَا أَمَرَ مَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ " فَأَمَّا الْمَعْذُورُ كَاَلَّذِي يَتَيَمَّمُ لِعَدَمِ الْمَاءِ أَوْ خَوْفَ الضَّرَرِ بِاسْتِعْمَالِهِ لِمَرَضِ أَوْ لِبَرْدٍ وكالاستحاضة وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ ؛ فَإِنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَؤُلَاءِ أَنْ يَفْعَلُوا مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ وَيَسْقُطُ عَنْهُمْ مَا يَعْجِزُونَ عَنْهُ بَلْ سُنَّتُهُ فِيمَنْ كَانَ لَمْ يَعْلَمْ الْوُجُوبَ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ

عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ مَشْرُوطٌ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ . وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرْ عُمَرَ وَعَمَّارًا بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ لَمَّا كَانَا جُنُبَيْنِ . فَعُمَرُ لَمْ يُصَلِّ وَعَمَّارُ تَمَرَّغَ كَمَا تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ ظَنًّا أَنَّ التُّرَابَ يَصِلُ إلَى حَيْثُ يَصِلُ الْمَاءُ وَكَذَلِكَ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنْ الصَّحَابَةِ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحِبَالُ السُّودُ مِنْ الْبِيضِ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ . وَكَذَلِكَ الَّذِينَ صَلَّوْا إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُمْ الْخَبَرُ النَّاسِخُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ وَكَانَ بَعْضُهُمْ بِالْحَبَشَةِ وَبَعْضُهُمْ بِمَكَّةَ وَبَعْضُهُمْ بِغَيْرِهَا بَلْ بَعْضُ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ صَلَّوْا بَعْضَ الصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ وَبَعْضَهَا إلَى الصَّخْرَةِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ وَنَظَائِرُهَا مُتَعَدِّدَةٌ . فَمَنْ اسْتَقْرَأَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ التَّكْلِيفَ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فَمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ أَحَدِهِمَا سَقَطَ عَنْهُ مَا يُعْجِزُهُ وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا . وَلِهَذَا عُذِرَ الْمُجْتَهِدُ الْمُخْطِئُ لِعَجْزِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُفَرِّطِ الْمُتَمَكِّنِ مِنْ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : { صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ كَبِيرَةٌ تَحْتَاجُ إلَى بَسْطٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ .

وَمَقْصُودُ السَّائِلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَحَاضَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ أَنْ تَصُومَ وَتَقْضِيَ الصَّوْمَ . كَمَا يَقُولُهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ امْرَأَةٍ نُفَسَاءَ لَمْ تَغْتَسِلْ : فَهَلْ يَجُوزُ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْغُسْلِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ وَطْءُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءَ حَتَّى يَغْتَسِلَا فَإِنْ عَدِمَتْ الْمَاءَ أَوْ خَافَتْ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهَا الْمَاءَ لِمَرَضِ أَوْ بَرْدٍ شَدِيدٍ تَتَيَمَّمَ وَتُوطَأُ بَعْدَ ذَلِكَ هَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ . كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } أَيْ يَنْقَطِعُ الدَّمُ { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } أَيْ اغْتَسَلْنَ بِالْمَاءِ . كَمَا قَالَ : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } وَقَدْ رُوِيَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ : كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِمْ حَيْثُ جَعَلُوا الزَّوْجَ أَحَقَّ بِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَمَذْهَبُهُ إنْ انْقَطَعَ الدَّمُ لِعَشَرَةِ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ وَمَرَّ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ أَوْ اغْتَسَلَتْ وَطِئَهَا وَإِلَّا فَلَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ نُفَسَاءَ : هَلْ يَجُوزُ لَهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي حَالِ النِّفَاسِ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ وَطْؤُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعِينَ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ إذَا قَضَتْ الْأَرْبَعِينَ وَلَمْ تَغْتَسِلْ فَهَلْ يَجُوزُ وَطْؤُهَا بِغَيْرِ غُسْلٍ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا وَطْؤُهَا قَبْلَ أَنْ يَنْقَطِعَ الدَّمُ فَحَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ بِدُونِ الْأَرْبَعِينَ فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُصَلِّيَ لَكِنْ يَنْبَغِي لِزَوْجِهَا أَنْ لَا يَقْرَبَهَا إلَى تَمَامِ الْأَرْبَعِينَ . وَأَمَّا قِرَاءَتُهَا الْقُرْآنَ فَإِنْ لَمْ تَخَفْ النِّسْيَانَ فَلَا تَقْرَؤُهُ وَأَمَّا إذَا خَافَتْ النِّسْيَانَ فَإِنَّهَا تَقْرَؤُهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ وَاغْتَسَلَتْ قَرَأَتْ الْقُرْآنَ وَصَلَّتْ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنْ تَعَذَّرَ اغْتِسَالُهَا لِعَدَمِ الْمَاءِ أَوْ لِخَوْفِ ضَرَرٍ لِمَرَضِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهَا تَتَيَمَّمُ وَتَفْعَلُ بِالتَّيَمُّمِ مَا تَفْعَلُ بِالِاغْتِسَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
__________
آخِرُ الْمُجَلَّدِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ

الْجُزْءُ الْثَّانِي وَالْعِشْرُونَ
كِتَابُ الفِقْهِ
الْجُزْءُ الثَّانِي : الصَّلَاةُ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : هَلْ كَانَتْ الصَّلَاةُ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأُمَمِ مِثْلَ مَا هِيَ عَلَيْنَا مِنْ الْوُجُوبِ وَالْأَوْقَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْهَيْئَاتِ . أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
كَانَتْ لَهُمْ صَلَاةٌ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ ، لَكِنْ لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِصَلَاتِنَا فِي الْأَوْقَاتِ وَالْهَيْئَاتِ ، وَغَيْرِهِمَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ يَفْسُقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : { كُلُّ صَلَاةٍ لَمْ تَنْهَ عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ صَاحِبُهَا مِنْ اللَّهِ إلَّا بُعْدًا } .
فَأَجَابَ :
هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِثَابِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ . وَبِكُلِّ

حَالٍ فَالصَّلَاةُ لَا تَزِيدُ صَاحِبَهَا بُعْدًا . بَلْ الَّذِي يُصَلِّي خَيْرٌ مِنْ الَّذِي لَا يُصَلِّي ، وَأَقْرَبُ إلَى اللَّهِ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا . لَكِنْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْت مِنْهَا . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ . وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا ، إلَّا ثُلُثُهَا ، إلَّا رُبْعُهَا ، حَتَّى قَالَ : إلَّا عُشْرُهَا } فَإِنَّ الصَّلَاةَ إذَا أَتَى بِهَا كَمَا أُمِرَ نَهَتْهُ عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ، وَإِذَا لَمْ تَنْهَهُ دَلَّ عَلَى تَضْيِيعِهِ لِحُقُوقِهَا ، وَإِنْ كَانَ مُطِيعًا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ } الْآيَةَ . وَإِضَاعَتُهَا التَّفْرِيطُ فِي وَاجِبَاتِهَا ، وَإِنْ كَانَ يُصَلِّيهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ قَوْله تَعَالَى { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } وَالرَّجُلُ إذَا شَرِبَ الْخَمْرَ وَصَلَّى وَهُوَ سَكْرَانُ ، هَلْ تَجُوزُ صَلَاتُهُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
صَلَاةُ السَّكْرَانِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ لَا تَجُوزُ بِاتِّفَاقِ ؛ بَلْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ ، وَقُرْبَانِ مَوَاضِعِ الصَّلَاةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي " قَاعِدَةٍ " مَا تُرِكَ مِنْ وَاجِبٍ وَفُعِلَ مِنْ مُحَرَّمٍ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالتَّوْبَةِ
قَاعِدَةُ مَا تَرَكَهُ الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ مِنْ وَاجِبٍ : كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَهُ ، سَوَاءٌ كَانَتْ الرِّسَالَةُ قَدْ بَلَغَتْهُ أَوْ لَمْ تَكُنْ بَلَغَتْهُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ كُفْرُهُ جُحُودًا ، أَوْ عِنَادًا ، أَوْ جَهْلًا .
وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ ؛ بِخِلَافِ مَا عَلَى الذِّمِّيِّ مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي أَوْجَبَتْ الذِّمَّةُ أَدَاءَهَا : كَقَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَرَدِّ الْأَمَانَاتِ ، والغصوب . فَإِنَّ هَذِهِ لَا تَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ . لَا لِالْتِزَامِهِ وُجُوبَهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ . وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ الْمَحْضُ فَلَمْ يَلْتَزِمْ وُجُوبَ شَيْءٍ لِلْمُسْلِمِينَ ، لَا مِنْ الْعِبَادَاتِ وَلَا مِنْ الْحُقُوقِ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ شَيْءٍ لَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ ، وَلَا مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ كَانَ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا لَوْ لَمْ يُسْلِمْ . فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ.

وَكَذَلِكَ مَا فَعَلَهُ الْكَافِرُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الَّتِي يَسْتَحِلُّهَا فِي دِينِهِ : كَالْعُقُودِ والقبوض الْفَاسِدَةِ ، كَعَقْدِ الرِّبَا ، وَالْمَيْسِرِ ، وَبَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ، وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ ، وَقَبْضِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِالْقَهْرِ ، وَالِاسْتِيلَاءِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمُحَرَّمَ يَسْقُطُ حُكْمُهُ بِالْإِسْلَامِ ، وَيَبْقَى فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يُحَرَّمْ ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَغْفِرُ لَهُ بِهِ تَحْرِيمَ ذَلِكَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ ، فَيَصِيرُ الْفِعْلُ فِي حَقِّهِ عَفْوًا بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَقَدَ عَقْدًا أَوْ قَبَضَ قَبْضًا غَيْرَ مُحَرَّمٍ ، فَيَجْرِي فِي حَقِّهِ مَجْرَى الصَّحِيحِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلِهَذَا مَا تَقَابَضُوا فِيهِ مِنْ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ أُقِرُّوا عَلَى مُلْكِهِ إذَا أَسْلَمُوا أَوْ تَحَاكَمُوا إلَيْنَا . وَكَذَلِكَ عُقُودُ النِّكَاحِ الَّتِي انْقَضَى سَبَبُ فَسَادِهَا قَبْلَ الْحُكْمِ ، وَالْإِسْلَامِ ؛ بِخِلَافِ مَا لَمْ يتقابضوه ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَقْبِضُوا قَبْضًا مُحَرَّمًا كَمَا كَانَ لَا يَعْقِدُونَ عَقْدًا مُحَرَّمًا ، وَهَذَا مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ . لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فَأَمَرَهُمْ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ فِي الذِّمَمِ مِنْ الرِّبَا ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ الْمَقْبُوضِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ } وَقَالَ : { وَأَيُّمَا قَسَمٍ قُسِمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلَى مَا قُسِمَ ، وَأَيُّمَا قَسَمٍ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ فَهُوَ عَلَى قَسَمِ الْإِسْلَامِ } وَأَقَرَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى مناكحهم الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْهَا كَانَ غَيْرَ مُبَاحٍ فِي الْإِسْلَامِ ،

وَهَذَا كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ . لَكِنْ ثَمَّ خِلَافٌ شَاذٌّ فِي بَعْضِ صوره .
وَأَمَّا مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَرْبِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَسْلَمُوا فَإِنَّهُ لَهُمْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّفَاقِ السَّلَفِ ، وَجَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ ، وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَد ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ . وَأَمَّا التَّحَاكُمُ إلَيْنَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ . فَإِنَّهَا تَكُونُ إذَا كَانُوا ذَوِي عَهْدٍ بِأَمَانِ أَوْ ذِمَّةٍ أَوْ صُلْحٍ فَنُقِرَّهُمْ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا ، فَهَذَا فِي الْحُقُوقِ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ بِاعْتِقَادِهِ فِي كُفْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُهَا مُحَرَّمًا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ .
وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ فَإِنَّهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى مَا فَعَلَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ مُحَرَّمٍ ، سَوَاءٌ كَانَ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ أَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ ، فَلَا يُعَاقَبُ عَلَى قَتْلِ نَفْسٍ ، وَلَا رِبًا ، وَلَا سَرِقَةٍ ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . سَوَاءٌ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ ، أَوْ بِأَهْلِ دِينِهِ ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ فَهُوَ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ، وَأَمَّا أَهْلُ دِينِهِ فَهُمْ مباحون فِي دِينِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ اعْتَقَدَ هُوَ الْحَظْرَ ، وَلِهَذَا نَقُولُ : إنَّ مَا سَبَاهُ وَغَنِمَهُ الْكَفَّارُ بَعْضُهُمْ مِنْ نُفُوسِ بَعْضٍ وَأَمْوَالِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ اعْتَقَدُوا التَّحْرِيمَ . فَمَتَى كَانَ مُبَاحًا فِي دِينِهِ أَوْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ زَالَتْ الْعُقُوبَةُ .

لَكِنْ إنْ كَانَ مُحَرَّمًا فِي الدِّينَيْنِ : مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ ، فَإِنْ كَانَ عَهْدُهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ ، فَهَذَا هُوَ الْمُسْتَأْمَنُ وَالذِّمِّيُّ وَالْمُصَالَحُ ، فَهَؤُلَاءِ يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ ، وَيُعَاقَبُونَ عَلَى مَا تَعَدَّوْا بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَيُعَاقَبُونَ عَلَى الزِّنَا ، وَفِي شُرْبِ الْخَمْرِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ ، وَأَمَّا إنْ كَانَ عَهْدُهُمْ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلِ قَضِيَّةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ (1) .
فَصْلٌ :
فَأَمَّا الْمُرْتَدُّ ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ فِي الرِّدَّةِ مِنْ صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ فِي الْمَشْهُورِ ، وَلَزِمَهُ مَا تَرَكَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ فِي الْمَشْهُورِ . وَقِيلَ : يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، وَقِيلَ : لَا يَجِبُ فِي الصُّورَتَيْنِ . وَيُحْكَى ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَد . وَأَمَّا مَا فَعَلَهُ مِنْ الْحُرُمَاتِ : فَإِنْ كَانَ فِي قَبْضَةِ الْمُسْلِمِينَ ضَمِنَ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ ، وَإِنْ كَانَ فِي طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ فَفِيهِ رِوَايَاتٌ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ : إذَا تَرَكَ الْوَاجِبَ قَبْلَ بُلُوغِ الْحُجَّةِ ، أَوْ مُتَأَوِّلًا ، مِثْلُ مَنْ تَرَكَ الْوُضُوءَ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ ، أَوْ مَسِّ الذَّكَرِ ، أَوْ صَلَّى فِي أَعْطَانِ

الْإِبِلِ ، أَوْ تَرَكَ الصَّلَاةَ جَهْلًا بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ : تَارَةً تَكُونُ رِوَايَةً مَنْصُوصَةً ، وَتَارَةً تَكُونُ وَجْهًا . وَأَصْلُهَا أَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ هَلْ يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ قَبْلَ بُلُوغِهِ ، عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي مُصَنَّفٍ مُفْرَدٍ . وَفِيهَا وَجْهٌ ثَالِثٌ اخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخِطَابِ النَّاسِخِ ، وَالْخِطَابِ الْمُبْتَدَأِ . فَلَا يَثْبُتُ النَّسْخُ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ النَّاسِخِ ؛ بِخِلَافِ الْخِطَابِ الْمُبْتَدَأِ . وَقَدْ قَرَّرُوهُ بِالدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا ، وَأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْخِطَابِ إلَّا بَعْدَ الْبَلَاغِ جُمْلَةً ، وَتَفْصِيلًا . وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَضَاءِ لِأَبِي ذَرٍّ لَمَّا مَكَثَ مُدَّةً لَا يُصَلِّي مَعَ الْجَنَابَةِ بِالتَّيَمُّمِ ، وَلَا أَمَرَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي قَضِيَّةِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، وَلَا أَمَرَ بِإِعَادَةِ الصَّوْمِ مَنْ أَكَلَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْعِقَالُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْأَسْوَدِ ، وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ . بَلْ إذَا عُفِيَ لِلْكَافِرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ عَمَّا تَرَكَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ لِعَدَمِ الِاعْتِقَادِ ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ فَرَضَهَا عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُعَذَّبٌ عَلَى تَرْكِهَا ، فَلَأَنْ يَعْفُوَ لِلْمُسْلِمِ عَمَّا تَرَكَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ لِعَدَمِ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُعَذِّبِهِ

عَلَى التَّرْكِ لِاجْتِهَادِهِ ، أَوْ تَقْلِيدِهِ ، أَوْ جَهْلِهِ الَّذِي يُعْذَرُ بِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَكَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ ، فَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا ، لَا سِيَّمَا تَوْبَةُ الْمَعْذُورِ الَّذِي بَلَغَهُ النَّصُّ ، أَوْ فَهِمَهُ بَعْدَ إنْ لَمْ يَكُنْ تَمَكَّنَ مِنْ سَمِعَهُ وَفَهِمَهُ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا إلَى الْغَايَةِ . وَكَذَلِكَ مَا فَعَلَهُ من الْعُقُودِ والقبوض الَّتِي لَمْ يَبْلُغْهُ تَحْرِيمَهَا لِجَهْلِ يُعْذَرُ بِهِ ، أَوْ تَأْوِيلٍ . فَعَلَى إحْدَى الْقَوْلَيْنِ حُكْمُهُ فِيهَا هَذَا الْحُكْمُ وَأَوْلَى . فَإِذَا عَامَلَ مُعَامَلَةً يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا بِتَأْوِيلِ : مِنْ رِبًا ، أَوْ مَيْسِرٍ ، أَوْ ثَمَنِ خَمْرٍ ، أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ وَتَابَ ، أَوْ تَحَاكَمَ إلَيْنَا ، أَوْ اسْتَفْتَانَا ، فَإِنَّهُ يُقَرُّ عَلَى مَا قَبَضَهُ بِهَذِهِ الْعُقُودِ ، وَيُقَرُّ عَلَى النِّكَاح الَّذِي مَضَى مُفْسِدُهُ ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَزَوَّجَ بِلَا وَلِيٍّ أَوْ بِلَا شُهُودٍ مُعْتَقِدًا جَوَازَ ذَلِكَ ، أَوْ نَكَحَ الْخَامِسَةَ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ ، أَوْ نِكَاحَ تَحْلِيلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ وَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ فَسَادَ النِّكَاحِ ، فَإِنَّهُ يُقَرُّ عَلَيْهِ . أَمَا إذَا كَانَ نَكَحَ بِاجْتِهَادٍ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْفَسَادُ بِاجْتِهَادِ فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ ، لَا فِي الْحُكْمِ وَلَا فِي الْفُتْيَا أَيْضًا ، فَهَذَا مَأْخَذٌ آخَرُ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا أَنَّهُ لَوْ تَيَقَّنَ التَّحْرِيمَ بِالنَّصِّ الْقَاطِعِ . كَتَيَقُّنِ

مَنْ كَانَ كَافِرًا صِحَّةَ الْإِسْلَامِ . فَإِنَّا نُقِرُّهُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ ، وَمِنْ الْمَقْبُوضِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُفْسِدُ قَائِمًا . كَمَا يُقَرُّ الْكُفَّارُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ عَلَى مُنَاكَحَتِهِمْ الَّتِي كَانَتْ مُحَرَّمَةً فِي الْإِسْلَامِ وَأَوْلَى . فَإِنَّ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ بَابٌ وَاحِدٌ . كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَافِرِ . وَهَذَا بَيِّنٌ ؛ فَإِنَّ الْعَفْوَ وَالْإِقْرَارَ لِلْمُسْلِمِ الْمُتَأَوِّلِ بَعْدَ الرُّجُوعِ عَنْ تَأْوِيلِهِ أَوْلَى مِنْ الْعَفْوِ وَالْإِقْرَارِ عَنْ الْكَافِرِ الْمُتَأَوِّلِ ، لَكِنْ فِي هَذَا خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ وَغَيْرِهِ . وَشُبْهَةُ الْخَالِفِ نَظَرُهُ إلَى أَنَّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَجَعَلَ الْمُسْلِمِينَ جِنْسًا وَاحِدًا ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُتَأَوِّلِ وَغَيْرِهِ . وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : مَا أَتْلَفَهُ أَهْلُ الْبَغْيِ الْمُتَأَوِّلُونَ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ ، هَلْ يَضْمَنُونَ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . إحْدَاهُمَا : يَضْمَنُونَهُ ، جَعَلَا لَهُمْ كَالْمُحَارِبِينَ ، وَكَقِتَالِ الْعَصَبِيَّةِ الَّذِي لَا تَأْوِيلَ فِيهِ ، وَهَذَا نَظِيرُ مَنْ يَجْعَلُ الْعُقُودَ والقبوض الْمُتَأَوَّلَ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَا تَأْوِيلَ فِيهِ . والثانية : لَا يَضْمَنُونَهُ ، وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَ السَّلَفُ كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ ، فَأَجْمَعُوا

أَنَّ كُلَّ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ فَرْجٍ أُصِيبَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ - وَفِي لَفْظٍ - { أَلْحِقُوهُمْ فِي ذَلِكَ بِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ } . وَلِهَذَا { لَمْ يُضَمِّنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ دَمَ الَّذِي قَتَلَهُ بَعْدَ مَا قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } لِأَنَّهُ قَتَلَهُ مُتَأَوِّلًا : أَيْ أَنَّهُمْ وَإِنْ اسْتَحَلُّوا الْمُحَرَّمَ ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانُوا جَاهِلِينَ مُتَأَوِّلِينَ ، كَانُوا بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي عَدَمِ الضَّمَانِ ، وَإِنْ فَارَقُوهُمْ فِي عَفْوِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ عُفِيَ لَهَا عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُغْفَرُ لَهُ الْكُفْرُ الَّذِي أَخْطَأَ فِيهِ .
فَصْلٌ :
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته فِيمَا تَرَكَهُ الْمُسْلِمُ مِنْ وَاجِبٍ ، أَوْ فَعَلَهُ مِنْ مُحَرَّمٍ بِتَأْوِيلِ اجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ ، وَاضِحٌ عِنْدِي ، وَحَالُهُ فِيهِ أَحْسَنُ مِنْ حَالِ الْكَافِرِ الْمُتَأَوِّلِ . وَهَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ أُقَاتِلَ الْبَاغِيَ الْمُتَأَوِّلَ ، وَأَجْلِدَ الشَّارِبَ الْمُتَأَوِّلَ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّ التَّأْوِيلَ لَا يَرْفَعُ عُقُوبَةَ الدُّنْيَا مُطْلَقًا ؛ إذْ الْغَرَضُ بِالْعُقُوبَةِ دَفْعُ فَسَادِ الِاعْتِدَاءِ ، كَمَا لَا يَرْفَعُ عُقُوبَةَ الْكَافِرِ : وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي قَضَاءِ مَا تَرَكَهُ مِنْ وَاجِبٍ ، وَفِي الْعُقُودِ والقبوض الَّتِي فَعَلَهَا بِتَأْوِيلِ ،

وَفِي ضَمَانِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي اسْتَحَلَّهَا بِتَأْوِيلِ ، كَمَا اسْتَحَلَّ أُسَامَةُ قَتْلَ الَّذِي قَتَلَهُ بَعْدَمَا قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَكَذَلِكَ لَا يُعَاقَبُ عَلَى مَا مَضَى إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ زَجْرٌ عَنْ الْمُسْتَقْبِلِ . وَأَمَّا الْعُقُوبَةُ لِلدَّفْعِ عَنْ الْمُسْتَقْبِلِ : كَقِتَالِ الْبَاغِي ، وَجَلْدِ الشَّارِبِ فَهَذِهِ مَقْصُودُهَا أَدَاءُ الْوَاجِبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَدَفْعُ الْمُحَرَّمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَهَذَا لَا كَلَامَ فِيهِ ، فَإِنَّهُ يُشْرَعُ فِي مِثْلِ هَذَا عُقُوبَةُ الْمُتَأَوِّلِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَاضِي مِنْ قَضَاءِ وَاجِبِهِ ، وَتَرْكِ الْحُقُوقِ الَّتِي حَصَلَتْ فِيهِ ، وَالْعُقُوبَةِ عَلَى مَا فَعَلَهُ ، فَهَذِهِ الْأُمُورُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ مِنْ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ ، وَالْعِبَادَاتِ هِيَ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ الْمُتَأَوِّلُ أَحْسَنَ حَالًا فِيهَا مِنْ الْكَافِرِ الْمُتَأَوِّلِ ، وَأَوْلَى . فَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا ، وَالْمُسْلِمُ الْمُتَأَوِّلُ مَعْذُورٌ ، وَمَعَهُ الْإِسْلَامُ الَّذِي تُغْفَرُ مَعَهُ الْخَطَايَا ، وَالتَّوْبَةُ الَّتِي تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا ، وَفِي إيجَابِ الْقَضَاءِ وَإِسْقَاطِ الْحُقُوقِ وَإِقَامَةِ الْعُقُوبَاتِ تَنْفِيرٌ عَنْ التَّوْبَةِ ، وَالرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ أَكْثَرُ مِنْ التَّنْفِيرِ بِذَلِكَ لِلْكَافِرِ ، فَإِنَّ إعْلَامَ الْإِسْلَامِ وَدَلَالَتَهُ أَعْظَمُ مِنْ إعْلَامِ هَذِهِ الْفُرُوعِ ، وَأَدِلَّتِهَا ، وَالدَّاعِي إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ سُلْطَانِ الْحُجَّةِ وَالْقُدْرَةِ قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ الدَّاعِي إلَى هَذِهِ الْفُرُوعِ .

وَهَذَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ عِنْدِي ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نِزَاعٌ ؛ فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْلَا مُضِيُّ السُّنَّةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ لَكَانَ مُقْتَضَى هَذَا الْقِيَاسِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ طَرْدَهُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ أَيْضًا ، وَقَدْ رَاعَى أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ ، فَلَمْ يَمْنَعُوا مِنْهُ إلَّا مَا لَهُ مَسَاغٌ فِي الْإِسْلَامِ ، وَالنِّزَاعُ لَا يَهْتِكُ حُرْمَةَ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ بَعْدَ ظُهُورِ حُجَّتِهِ .
فَصْلٌ :
وَلَكِنَّ النَّظَرَ فِي فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ ، أَوْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَ لَا بِاعْتِقَادِ وَلَا بِجَهْلِ يُعْذَرُ فِيهِ ، وَلَكِنْ جَهْلًا وَإِعْرَاضًا عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ ، مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ ، أَوْ أَنَّهُ سَمِعَ إيجَابَ هَذَا ، وَتَحْرِيمَ هَذَا ، وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ إعْرَاضًا . لَا كُفْرًا بِالرِّسَالَةِ ، فَهَذَانِ نَوْعَانِ يَقَعَانِ كَثِيرًا مَنْ تَرَكَ طَلَبَ الْعَامِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ ، حَتَّى تَرَكَ الْوَاجِبَ وَفَعَلَ الْمُحَرَّمَ ، غَيْرَ عَالِمٍ بِوُجُوبِهِ وَتَحْرِيمِهِ أَوْ بَلَغَهُ الْخِطَابُ فِي ذَلِكَ ، وَلَمْ يَلْتَزِمْ اتِّبَاعَهُ ، تَعَصُّبًا لِمَذْهَبِهِ . أَوْ اتِّبَاعًا لِهَوَاهُ ، فَإِنَّ هَذَا تَرَكَ الِاعْتِقَادَ الْوَاجِبَ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ . كَمَا تَرَكَ الْكَافِرُ الْإِسْلَامَ . فَإِنَّ الِاعْتِقَادَ هُوَ الْإِقْرَارُ بِالتَّصْدِيقِ ، وَالِالْتِزَامِ ، فَقَدْ يَتْرُكُ التَّصْدِيقَ

وَالِالْتِزَامَ جَمِيعًا لِعَدَمِ النَّظَرِ الْمُوجِبِ لِلتَّصْدِيقِ ، وَقَدْ يَكُونُ مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ لَكِنَّهُ غَيْرَ مُقِرٍّ وَلَا مُلْتَزِمٍ ، اتِّبَاعًا لِهَوَاهُ . فَهَلْ يَكُونُ حَالُ هَذَا إذَا تَابَ وَأَقَرَّ بِالْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ تَصْدِيقًا وَالْتِزَامًا ، بِمَنْزِلَةِ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ لِأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا ، كَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ ؟ فَهَذِهِ الصُّورَةُ أَبْعَدُ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا ، فَإِنَّ مَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَى التَّارِكِ الْمُتَأَوِّلِ ، وَفَسَخَ الْعَقْدَ وَالْقَبْضَ عَلَى الْمُتَأَوِّلِ الْمَعْذُورِ ، فَعَلَى هَذَا الْمُذْنِبِ بِتَرْكِ الِاعْتِقَادِ الْوَاجِبِ أَوْلَى . وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ وَجَزَمْنَا بِصِحَّتِهِ ، فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ . قَدْ يُقَالُ : هَذَا عَاصٍ ظَالِمٌ بِتَرْكِ التَّعَلُّمِ ، وَالِالْتِزَامِ ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْعَفْوِ عَنْ الْمُخْطِئِينَ فِي تَأْوِيلِهِ الْعَفْوُ عَنْ هَذَا . وَقَدْ يُقَالُ وَهُوَ أَظْهَرُ فِي الدَّلِيلِ وَالْقِيَاسِ : لَيْسَ هَذَا بِأَسْوَإِ حَالٍ مِنْ الْكَافِرِ الْمُعَانِدِ الَّذِي تَرَكَ الْقُرْآنَ كِبْرًا وَحَسَدًا وَهَوًى ، أَوْ سَمِعَهُ وَتَدَبَّرَهُ وَاسْتَيْقَنَتْ نَفْسُهُ أَنَّهُ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَلَكِنْ جَحَدَ ذَلِكَ ظُلْمًا وَعُلُوًّا : كَحَالِ فِرْعَوْنَ ، وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَالْمُشْرِكِينَ ، الَّذِينَ لَا يُكَذِّبُونَك ، وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ . وَالتَّوْبَةُ كَالْإِسْلَامِ ، فَإِنَّ الَّذِي قَالَ : { الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ } هُوَ الَّذِي قَالَ : { التَّوْبَةُ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا } وَذَلِكَ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ

مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ العاص رَوَاهُ أَحْمَد وَمُسْلِمٌ . فَإِذَا كَانَ الْعَفْوُ عَنْ الْكَافِرِ لِأَجْلِ مَا وَجَدَ مِنْ الْإِسْلَامِ الْمَاحِي ، وَالْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ، وَلِأَنَّ فِي عَدَمِ الْعَفْوِ تَنْفِيرٌ عَنْ الدُّخُولِ ، لِمَا يَلْزَمُ الدَّاخِلَ فِيهِ مِنْ الْآصَارِ ، وَالْأَغْلَالِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى لِسَانِ هَذَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي التَّوْبَةِ عَنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ ، فَإِنَّ الِاعْتِرَافَ بِالْحَقِّ وَالرُّجُوعَ إلَيْهِ حَسَنَةٌ يَمْحُو اللَّهُ بِهَا السَّيِّئَاتِ ، وَفِي عَدَمِ الْعَفْوِ تَنْفِيرٌ عَظِيمٌ عَنْ التَّوْبَةِ ، وَآصَارٌ ثَقِيلَةٌ وَأَغْلَالٌ عَظِيمَةٌ عَلَى التَّائِبِينَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ يُبَدِّلُ لِعَبْدِهِ التَّائِبِ بَدَلَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً } عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ : { يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } . فَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ الَّتِي تَابَ مِنْهَا صَارَتْ حَسَنَاتٍ ، لَمْ يَبْقَ فِي حَقِّهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ سَيِّئَةٌ أَصْلًا ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْقَبْضُ وَالْعَقْدُ مِنْ بَابِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ وَيَصِيرُ ذَلِكَ التَّرْكُ مِنْ بَابِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ ، فَلَا يُجْعَلُ تَارِكًا لِوَاجِبِ ، وَلَا فَاعِلًا لِمُحَرَّمِ ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ عَامِدًا : هَلْ يَقْضِيهِ ؟ .

فَقَالَ : الْأَكْثَرُونَ يَقْضِيهِ ، وَقَالَ : بَعْضُهُمْ لَا يَقْضِيهِ ، وَلَا يَصِحُّ فِعْلُهُ بَعْدَ وَقْتِهِ كَالْحَجِّ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : عَنْ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا . { فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ، وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً } . وَدَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ، وَاتِّفَاقُ السَّلَفِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ يُضَيِّعُ الصَّلَاةَ فَيُصَلِّيهَا بَعْدَ الْوَقْتِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ يَتْرُكُهَا . وَلَوْ كَانَتْ بَعْدَ الْوَقْتِ لَا تَصِحُّ بِحَالِ لَكَانَ الْجَمِيعُ سَوَاءً ؛ لَكِنَّ الْمُضَيَّعَ لِوَقْتِهَا كَانَ مُلْتَزِمًا لِوُجُوبِهَا ، وَإِنَّمَا ضَيَّعَ بَعْضَ حُقُوقِهَا وَهُوَ الْوَقْتُ ، وَأَتَى بِالْفِعْلِ فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ وُجُوبَهَا عَلَيْهِ جَهْلًا وَضَلَالًا ، أَوْ عَلِمَ الْإِيجَابَ وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ فَهَذَا إنْ كَانَ كَافِرًا فَهُوَ مُرْتَدٌّ ، وَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ لَكِنَّ هَذَا شَبِيهٌ بِكُفْرِ النِّفَاقِ . فَالْكَلَامُ فِي هَذَا مُتَّصِلٌ بِالْكَلَامِ فِيمَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ نِفَاقًا أَوْ رِيَاءً ، فَإِنَّ هَذَا يُجْزِئُهُ فِي الظَّاهِرِ ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ فِي الْبَاطِنِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } وَقَالَ : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ

الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ } { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } .
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْإِمَامِ إذَا أَخَذَ الزَّكَاةَ قَهْرًا : هَلْ تُجْزِئُهُ فِي الْبَاطِنِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، مَعَ أَنَّهَا لَا تُسْتَعَادُ مِنْهُ . أَحَدِهِمَا : لَا تُجْزِيهِ لِعَدَمِ النِّيَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ نِيَّةَ الْإِمَامِ تَقُومُ مَقَامَ نِيَّةِ الْمُمْتَنِعِ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ نَائِبُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَدَاءِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِمْ . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُهَا مِنْهُمْ بِإِعْطَائِهِمْ إيَّاهَا ، وَقَدْ صَرَّحَ الْقُرْآنُ بِنَفْيِ قَبُولِهَا ؛ لِأَنَّهُمْ يُنْفِقُونَ وَهُمْ كَارِهُونَ . فَعُلِمَ أَنَّهُ إنْ أَنْفَقَ مَعَ كَرَاهَةِ الْإِنْفَاقِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ ، كَمَنْ صَلَّى رِيَاءً . لَكِنْ لَوْ تَابَ الْمُنَافِقُ وَالْمُرَائِي : فَهَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ الْإِعَادَةُ ؟ أَوْ تَنْعَطِفُ تَوْبَتُهُ عَلَى مَا عَمِلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَيُثَابَ عَلَيْهِ ، أَوْ لَا يُعِيدُ وَلَا يُثَابُ . أَمَّا الْإِعَادَةُ فَلَا تَجِبُ عَلَى الْمُنَافِقِ قَطْعًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَابَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ جَمَاعَةٌ عَنْ النِّفَاقِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْإِعَادَةِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا نَقَمُوا إلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا

أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } . وَأَيْضًا : فَالْمُنَافِقُ كَافِرٌ فِي الْبَاطِنِ ، فَإِذَا آمَنَ فَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا قَدْ سَلَفَ ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ الْمُعْلِنِ إذَا أَسْلَمَ . وَأَمَّا ثَوَابُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَعَ التَّوْبَةِ : فَيُشْبِهُ الْكَافِرَ إذَا عَمِلَ صَالِحًا فِي كُفْرِهِ ، ثُمَّ أَسْلَمَ هَلْ يُثَابُ عَلَيْهِ ؟ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ . أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ : { أَسْلَمْت عَلَى مَا سَلَفَ لَك مِنْ خَيْرٍ } . وَأَمَّا الْمُرَائِي إذَا تَابَ مِنْ الرِّيَاءِ مَعَ كَوْنِهِ كَانَ يَعْتَقِدُ الْوُجُوبَ ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَتَكَلَّمُ فِيهَا ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ مَنْ لَمْ يَلْتَزِمْ أَدَاءَ الْوَاجِبِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا فِي الْبَاطِنِ ، فَفِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ تَنْفِيرٌ عَظِيمٌ عَنْ التَّوْبَةِ . فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَعِيشُ مُدَّةً طَوِيلَةً يُصَلِّي وَلَا يُزَكِّي ، وَقَدْ لَا يَصُومُ أَيْضًا ، وَلَا يُبَالِي مِنْ أَيْنَ كَسَبَ الْمَالَ : أَمِنْ حَلَالٍ ؟ أَمْ مِنْ حِرَامٍ ؟ وَلَا يَضْبِطُ حُدُودَ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَهُوَ فِي جَاهِلِيَّةٍ ، إلَّا أَنَّهُ مُنْتَسِبٌ إلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِذَا هَدَاهُ اللَّهُ وَتَابَ عَلَيْهِ . فَإِنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءَ جَمِيعِ مَا تَرَكَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ ، وَأَمَرَ بِرَدِّ جَمِيعِ مَا

اكْتَسَبَهُ مِنْ الْأَمْوَالِ ، وَالْخُرُوجِ عَمَّا يُحِبُّهُ مِنْ الْإِبْضَاعِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ صَارَتْ التَّوْبَةُ فِي حَقِّهِ عَذَابًا ، وَكَانَ الْكُفْرُ حِينَئِذٍ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْإِسْلَامِ ، الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ تَوْبَتَهُ مِنْ الْكُفْرِ رَحْمَةٌ ، وَتَوْبَتُهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ عَذَابٌ . وَأَعْرِفُ طَائِفَةً مِنْ الصَّالِحِينَ مَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ كَافِرًا لِيُسْلِمَ فَيُغْفَرَ لَهُ مَا قَدْ سَلَفَ ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ عِنْدَهُ مُتَعَذِّرَةٌ عَلَيْهِ ، أَوْ مُتَعَسِّرَةٌ عَلَى مَا قَدْ قِيلَ لَهُ وَاعْتَقَدَهُ مِنْ التَّوْبَةِ ، ثُمَّ هَذَا مُنَفِّرٌ لِأَكْثَرِ أَهْلِ الْفُسُوقِ عَنْ التَّوْبَةِ ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْمُؤَيِّسِ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ . وَوَضْعُ الْآصَارِ ثَقِيلَةٌ ، وَالْأَغْلَالُ عَظِيمَةٌ عَلَى التَّائِبِينَ الَّذِينَ هُمْ أَحَبَابُ اللَّهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ، وَيُحِبَّ الْمُتَطَهِّرِينَ . وَاَللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ الْوَاجِدِ لِمَالِهِ الَّذِي بِهِ قُوَامُهُ ، بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْهُ . فَيَنْبَغِي لِهَذَا الْمُقَامِ أَنْ يُحَرَّرَ ، فَإِنَّ كُفْرَ الْكَافِرِ لَمْ يُسْقِطْ عَنْهُ مَا تَرَكَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ ، وَمَا فَعَلَهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ ، لِكَوْنِ الْكَافِرِ كَانَ مَعْذُورًا ، بِمَنْزِلَةِ الْمُجْتَهِدِ فَإِنَّهُ لَا يُعْذَرُ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنَّمَا غُفِرَ لَهُ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ تَوْبَةٌ ، وَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا ، وَالتَّوْبَةُ تَوْبَةٌ مِنْ تَرْكِ تَصْدِيقٍ وَإِقْرَارٍ ، وَتَرْكِ عَمَلٍ وَفِعْلٍ فَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يُجْعَلَ حَالُ هَؤُلَاءِ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ كَحَالِ غَيْرِهِمْ .

فَصْلٌ :
فَالْأَحْوَالُ الْمَانِعَةُ مِنْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ لِلْوَاجِبِ وَالتَّرْكِ لِلْمُحَرَّمِ : الْكُفْرُ الظَّاهِرُ ، وَالْكُفْرُ الْبَاطِنُ ، وَالْكُفْرُ الْأَصْلِيُّ ، وَكُفْرُ الرِّدَّةِ ، وَالْجَهْلُ الَّذِي يُعْذَرُ بِهِ لِعَدَمِ بُلُوغِ الْخِطَابِ . أَوْ لِمُعَارِضَةِ تَأْوِيلٍ بِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ .
وَسُئِلَ :
عَنْ قَوْمٍ مُنْتَسِبِينَ إلَى الْمَشَايِخِ يتوبونهم عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَقَتْلِ النَّفْسِ ، وَالسَّرِقَةِ ، وَأَلْزَمُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِكَوْنِهِمْ يُصَلُّونَ صَلَاةَ عَادَةِ الْبَادِيَةِ ، فَهَلْ تَجِبُ إقَامَةُ حُدُودِ الصَّلَاةِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الصَّلَاةُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ } { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ

يَلْقَوْنَ غَيًّا } فَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الَّذِينَ يُصَلُّونَ إذَا سَهَوْا عَنْ الصَّلَاةِ ، وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَنْ وَقْتِهَا . الثَّانِي : أَنْ لَا يُكَمِّلَ وَاجِبَاتِهَا : مِنْ الطَّهَارَةِ ، وَالطُّمَأْنِينَةِ ، وَالْخُشُوعِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ - ثَلَاثَ مِرَارٍ - يَتَرَقَّبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } . فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْمُنَافِينَ التَّأْخِيرَ ، وَقِلَّةَ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } وَقَالَ : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } . وَأَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ

وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } فَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا وَإِضَاعَةُ حُقُوقِهَا ، قَالُوا : وَكَانُوا يُصَلُّونَ ، وَلَوْ تَرَكُوهَا لَكَانُوا كُفَّارًا ؛ فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ إلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ } وَقَالَ : { الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ } وَفِي الْحَدِيثِ : { إنَّ الْعَبْدَ إذَا كَمَّلَ الصَّلَاةَ صَعِدَتْ وَلَهَا بُرْهَانٌ كَبُرْهَانِ الشَّمْسِ . وَتَقُولُ حَفِظَك اللَّهُ كَمَا حَفِظْتنِي ، وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْهَا فَإِنَّهَا تُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ ، وَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا وَتَقُولُ ضَيَّعَك اللَّهُ كَمَا ضَيَّعْتنِي } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ إلَّا نِصْفُهَا ؛ إلَّا ثُلُثُهَا إلَّا رُبْعُهَا ، إلَّا خُمُسُهَا ؛ إلَّا سُدُسُهَا . حَتَّى قَالَ : إلَّا عُشْرُهَا } وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْت مِنْهَا . وَقَوْلُهُ : { وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } الَّذِي يُشْتَغَلُ بِهَا عَنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ - كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَوْعِ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّهَوَاتِ : كَالرَّقَصِ ، وَالْغِنَاءِ : وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : { أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : وَعَلَيْك السَّلَامُ ، ارْجِعْ

فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ فَصَلَّى ثُمَّ أَتَاهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : وَعَلَيْك السَّلَامُ ، ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ . . مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا . فَقَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهَا ، فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي فِي الصَّلَاةِ ، فَقَالَ : إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ ، ثُمَّ اقْرَأْ مِمَّا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ؟ ثُمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِك كُلِّهَا } . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ مَنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ } { وَنَهَى عَنْ نَقْرٍ كَنَقْرِ الْغُرَابِ } . وَرَأَى حُذَيْفَةُ رَجُلًا يُصَلِّي لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَقَالَ : لَوْ مُتّ مُتّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ : لَوْ مَاتَ هَذَا . رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَة فِي صَحِيحِهِ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ قَالَ : إنَّ الصِّبْيَانَ مَأْمُورُونَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ ، وَقَالَ آخَرُ : لَا نُسَلِّمُ ، فَقَالَ لَهُ : وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ } فَقَالَ : هَذَا مَا هُوَ أَمْرٌ مِنْ اللَّهِ ، وَلَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ تَنْقِيصٌ ، فَهَلْ يَجِبُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .

فَأَجَابَ : إنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِمْ فَالصَّوَابُ مَعَ الثَّانِي ، وَأَمَّا إنْ أَرَادَ أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ : أَيْ أَنَّ الرِّجَالَ يَأْمُرُونَهُمْ بِهَا لِأَمْرِ اللَّهِ إيَّاهُمْ بِالْأَمْرِ ، أَوْ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ فِي حَقِّ الصِّبْيَانِ ، فَالصَّوَابُ مَعَ الْمُتَكَلِّمِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : مَا هُوَ أَمْرٌ مِنْ اللَّهِ ، إذَا أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا مِنْ اللَّهِ لِلصِّبْيَانِ ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ لِمَنْ يَأْمُرُ الصِّبْيَانَ ، فَقَدْ أَصَابَ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ أَمْرًا مِنْ اللَّهِ لِأَحَدِ ، فَهَذَا خَطَأٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ ، وَيَسْتَغْفِرَ اللَّهَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ أَقْوَامٍ يُؤَخِّرُونَ صَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ ، لِأَشْغَالِ لَهُمْ مِنْ زَرْعٍ أَوْ حَرْثٍ أَوْ جَنَابَةٍ أَوْ خِدْمَةِ أُسْتَاذٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يُؤَخِّرَ صَلَاةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلَ ، وَلَا يُؤَخِّرَ صَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ لِشُغْلِ مِنْ الْأَشْغَالِ ، لَا لِحَصْدِ وَلَا لِحَرْثِ وَلَا لِصَنَاعَةٍ وَلَا لِجَنَابَةِ . وَلَا نَجَاسَةٍ وَلَا صَيْدٍ وَلَا لَهْوٍ وَلَا لَعِبٍ وَلَا لِخِدْمَةِ أُسْتَاذٍ ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ ؛ بَلْ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ

يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِالنَّهَارِ ، وَيُصَلِّيَ الْفَجْرَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَلَا يَتْرُكَ ذَلِكَ لِصَنَاعَةٍ مِنْ الصِّنَاعَاتِ ، وَلَا لِلَّهْوِ وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَشْغَالِ وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَمْنَعَ مَمْلُوكَهُ ، وَلَا لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْنَعَ الْأَجِيرَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا . وَمَنْ أَخَّرَهَا لِصَنَاعَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ خِدْمَةِ أُسْتَاذٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ وَجَبَتْ عُقُوبَتُهُ ، بَلْ يَجِبَ قَتْلُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَالْتَزَمَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ أُلْزِمَ بِذَلِكَ ، وَإِنْ قَالَ : لَا أُصَلِّي إلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لِاشْتِغَالِهِ بِالصِّنَاعَةِ وَالصَّيْدِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } وَفِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : " إنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ ، وَحَقًّا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ " . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَخَّرَ صَلَاةَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ لِاشْتِغَالِهِ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ ، ثُمَّ صَلَّاهَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } .

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ } فَلِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إنَّ ذَلِكَ التَّأْخِيرَ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، فَلَمْ يُجَوِّزُوا تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ حَالَ الْقِتَالِ ، بَلْ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ حَالَ الْقِتَالِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يُخَيَّرُ حَالَ الْقِتَالِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَبَيْنَ التَّأْخِيرِ ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يَشْتَغِلُ بِالْقِتَالِ وَيُصَلِّي بَعْدَ الْوَقْتِ ، وَأَمَّا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِغَيْرِ الْجِهَادِ كَصَنَاعَةٍ أَوْ زِرَاعَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يُجَوِّزُهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، بَلْ قَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ هُمْ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ وَقْتِهَا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُمْ الَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ . وَإِنْ صَلَّاهَا فِي الْوَقْتِ فَتَأْخِيرُهَا عَنْ الْوَقْتِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ صَلَاةِ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ وَتَأْخِيرَ صَلَاةِ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ بِمَنْزِلَةِ تَأْخِيرِ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ إلَى شَوَّالٍ . فَمَنْ قَالَ أُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِاللَّيْلِ ، فَهُوَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ أُفْطِرُ شَهْرَ رَمَضَانَ وَأَصُومُ شَوَّالٍ ، وَإِنَّمَا يُعْذَرُ بِالتَّأْخِيرِ النَّائِمُ وَالنَّاسِي . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ

أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ } . فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا لِجَنَابَةِ وَلَا حَدَثٍ وَلَا نَجَاسَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ ، بَلْ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ حَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا وَقَدْ عَدِمَ الْمَاءَ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى . وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي إذَا عَدِمَ الْمَاءَ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ لِمَرَضِ أَوْ لِبَرْدِ . وَكَذَلِكَ الْعُرْيَانُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ عُرْيَانَا ، وَلَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوَقْتِ فِي ثِيَابِهِ . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُزِيلَهَا فَيُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ حَالِهِ . وَهَكَذَا الْمَرِيضُ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ فِي الْوَقْتِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : { صَلِّ قَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } فَالْمَرِيضُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ قَاعِدًا أَوْ عَلَى جَنْبٍ ، إذَا كَانَ الْقِيَامُ يَزِيدُ فِي مَرَضِهِ ، وَلَا يُصَلِّي بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ قَائِمًا . وَهَذَا كُلُّهُ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا فَرْضٌ ، وَالْوَقْتُ أَوْكَدُ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ ، كَمَا أَنَّ صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَاجِبٌ فِي وَقْتِهِ ، لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْ وَقْتِهِ ، وَلَكِنْ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بمزدلفة ، بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ، وَبَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ

عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ لِلسَّفَرِ وَالْمَرَضِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ . وَأَمَّا تَأْخِيرُ صَلَاةِ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ ، وَتَأْخِيرُ صَلَاةِ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ . فَلَا يَجُوزُ لِمَرَضِ وَلَا لِسَفَرِ ، وَلَا لِشَغْلِ مِنْ الْأَشْغَالِ ، وَلَا لِصَنَاعَةٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . بَلْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنْ الْكَبَائِرِ . لَكِنَّ الْمُسَافِرَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا . بَلْ الرَّكْعَتَانِ تُجْزِئُ الْمُسَافِرَ فِي سَفَرِ الْقَصْرِ ، بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَمَنْ قَالَ إنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسَافِرٍ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ ، وَكِلَاهُمَا ضَلَالٌ ، مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ، يُسْتَتَابُ قَائِلُهُ ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَالْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا صَلَّى الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ ، وَالْفَجْرَ رَكْعَتَيْنِ ، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثًا ، وَأَفْطَرَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَقَضَاهُ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ . وَأَمَّا مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ شَهْرَ رَمَضَانَ ، أَوْ صَلَّى أَرْبَعًا ، فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ : مِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ ، فَالْمَرِيضُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّوْمَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْمُسَافِرُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصِّيَامَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .

وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا أَوْكَدُ مِنْ الصَّوْمِ فِي وَقْتِهِ ، قَالَ تَعَالَى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا ، وَلَوْ تَرَكُوهَا لَكَانُوا كُفَّارًا . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ، ثُمَّ اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَيْفَ بِك إذَا كَانَ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا ، وَيَنْسَؤُنِ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا ، قُلْت : فَمَاذَا تَأْمُرنِي ؟ قَالَ : صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ، فَإِنْ أَدْرَكْتهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَك نَافِلَةٌ } وَعَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ تَشْغَلُهُمْ أَشْيَاءُ عَنْ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا حَتَّى يَذْهَبَ وَقْتُهَا ، فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا } وَقَالَ رَجُلٌ أُصَلِّي مَعَهُمْ قَالَ : { نَعَمْ إنْ شِئْت ، وَاجْعَلُوهَا تَطَوُّعًا } رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَيْفَ بِكُمْ إذَا كَانَ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ لِغَيْرِ مِيقَاتِهَا ؟ قُلْت : فَمَا تَأْمُرنِي إنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ، وَاجْعَلْ صَلَاتَك مَعَهُمْ نَافِلَةً } . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ عُرْيَانَا مِثْلَ أَنْ تَنْكَسِرَ

بِهِمْ السَّفِينَةُ أَوْ تَسْلُبَهُ الْقُطَّاعُ ثِيَابَهُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ عُرْيَانَا ، وَالْمُسَافِرُ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ فِي الْوَقْتِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ، وَإِنْ كَانَ يَجِدُ الْمَاءَ بَعْدَ الْوَقْتِ ، وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ الْمُسَافِرُ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ تَيَمَّمَ وَصَلَّى ، وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ، وَغَيْرِهِمْ . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَرْدُ شَدِيدًا فَخَافَ إنْ اغْتَسَلَ أَنْ يَمْرَضَ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ ، وَلَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوَقْتِ بِاغْتِسَالِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ ، فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ بَشَرَتَك فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ } . وَكُلُّ مَا يُبَاحُ بِالْمَاءِ يُبَاحُ بِالتَّيَمُّمِ ، فَإِذَا تَيَمَّمَ لِصَلَاةِ فَرِيضَةٍ قَرَأَ الْقُرْآنَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا ، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا ، وَمَنْ امْتَنَعَ عَنْ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ؛ فَإِنَّ التَّيَمُّمَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثِ : جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا ، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا طَهُورًا ، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تُحَلَّ لِأَحَدِ قَبْلِي } وَفِي لَفْظٍ : { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ } . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ ؟ وَهَلْ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَوْ يَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ ؟ أَوْ يُصَلِّي مَا شَاءَ كَمَا يُصَلِّي بِالْمَاءِ

وَلَا يَنْقُضُهُ إلَّا مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَوْ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ؟ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ ، فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ بَشَرَتَك ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُزِيلُهَا بِهِ صَلَّى فِي الْوَقْتِ وَعَلَيْهِ النَّجَاسَةُ ، كَمَا صَلَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَجُرْحُهُ يَثْغَبُ دَمًا ، وَلَمْ يُؤَخِّرْ الصَّلَاةَ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ . وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا ثَوْبًا نَجِسًا فَقِيلَ : يُصَلِّي عُرْيَانَا ، وَقِيلَ : يُصَلِّي فِيهِ وَيُعِيدُ ، وَقِيلَ : يُصَلِّي فِيهِ وَلَا يُعِيدُ : ، وَهَذَا أَصَحُّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ الْعَبْدَ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ مَرَّتَيْنِ ، إلَّا إذَا لَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى ، مِثْلَ أَنْ يُصَلِّيَ بِلَا طُمَأْنِينَةٍ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ ، كَمَا { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صَلَّى وَلَمْ يَطْمَئِنَّ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ . وَقَالَ : ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ } . وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ الطَّهَارَةَ وَصَلَّى بِلَا وُضُوءٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ ، كَمَا { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَوَضَّأَ وَتَرَكَ لَمْعَةً فِي قَدَمِهِ لَمْ يُمِسَّهَا الْمَاءُ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ } .

فَأَمَّا مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَمَنْ كَانَ مُسْتَيْقِظًا فِي الْوَقْتِ وَالْمَاءُ بَعِيدٌ مِنْهُ لَا يُدْرِكُهُ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَرْدُ شَدِيدًا ، وَيَضُرُّهُ الْمَاءُ الْبَارِدُ ، وَلَا يُمْكِنُهُ الذَّهَابُ إلَى الْحَمَّامِ ، أَوْ تَسْخِينُ الْمَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ . وَالْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، فَإِذَا كَانَا جُنُبَيْنِ وَلَمْ يُمْكِنْهُمَا الِاغْتِسَالُ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ ، فَإِنَّهُمَا يُصَلِّيَانِ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ . وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا فِي الْوَقْتِ ، وَلَمْ يُمْكِنْهَا الِاغْتِسَالُ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ فِي الْوَقْتِ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الصَّلَاةَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِالْمَاءِ خَيْرٌ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ فَهُوَ ضَالٌّ جَاهِلٌ .
وَإِذَا اسْتَيْقَظَ آخِرَ وَقْتِ الْفَجْرِ فَإِذَا اغْتَسَلَ طَلَعَتْ الشَّمْسُ ، فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ هُنَا يَقُولُونَ : يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ . وَقَالَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ : بَلْ يَتَيَمَّمُ أَيْضًا هُنَا وَيُصَلِّي قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ

كَمَا تَقَدَّمَ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ خَيْرٌ مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَهُ بِالْغُسْلِ . وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ لِأَنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّ النَّائِمِ هُوَ مِنْ حِينِ يَسْتَيْقِظُ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا } . فَالْوَقْتُ فِي حَقِّ النَّائِمِ هُوَ مِنْ حِينِ يَسْتَيْقِظُ ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَقْتًا فِي حَقِّهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ الِاغْتِسَالُ وَالصَّلَاةُ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِهَا فَقَدْ صَلَّى الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا وَلَمْ يُفَوِّتْهَا ؛ بِخِلَافِ مَنْ اسْتَيْقَظَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَإِنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّهِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَوِّتَ الصَّلَاةَ . وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً وَذَكَرَهَا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ ، وَهَذَا هُوَ الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَيْقِظْ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، كَمَا اسْتَيْقَظَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَامُوا عَنْ الصَّلَاةِ عَامَ خَيْبَرَ ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالطَّهَارَةِ الْكَامِلَةِ وَإِنْ أَخَّرَهَا إلَى حِينِ الزَّوَالِ ، فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ كَانَ جُنُبًا فَإِنَّهُ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ وَيَغْتَسِلُ وَإِنْ أَخَّرَهَا إلَى قَرِيبِ الزَّوَالِ ، وَلَا يُصَلِّي هُنَا بِالتَّيَمُّمِ ، وَيُسْتَحَبُّ ، أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ الْمَكَانِ الَّذِي نَامَ فِيهِ ، كَمَا انْتَقَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ عَنْ الْمَكَانِ الَّذِي نَامُوا فِيهِ ، وَقَالَ : { هَذَا مَكَانٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ } . وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ . وَإِنْ صَلَّى فِيهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ .

فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يُسَمَّى قَضَاءً أَوْ أَدَاءً ؟ . قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ هُوَ فَرْقٌ اصْطِلَاحِيٌّ ؛ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى فِعْلَ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا قَضَاءً ، كَمَا قَالَ فِي الْجُمُعَةِ : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ } مَعَ أَنَّ هَذَيْنِ يَفْعَلَانِ فِي الْوَقْتِ . و " الْقَضَاءُ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ : هُوَ إكْمَالُ الشَّيْءِ وَإِتْمَامُهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } أَيْ أَكْمَلَهُنَّ وَأَتَمَّهُنَّ . فَمَنْ فَعَلَ الْعِبَادَةَ كَامِلَةً فَقَدْ قَضَاهَا ، وَإِنْ فَعَلَهَا فِي وَقْتِهَا . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا أَعْلَمُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَ بَقَاءَ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَنَوَاهَا أَدَاءً . ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ صَحَّتْ لِأَنَّهُ ، وَلَوْ اعْتَقَدَ خُرُوجَهُ فَنَوَاهَا قَضَاءً ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بَقَاءُ الْوَقْتِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ . وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ الْعِبَادَةَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ ، سَوَاءٌ نَوَاهَا أَدَاءً أَوْ قَضَاءً ، وَالْجُمُعَةُ تَصِحُّ سَوَاءٌ نَوَاهَا أَدَاءً أَوْ قَضَاءً إذْ أَرَادَ الْقَضَاءَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ ، وَالنَّائِمُ وَالنَّاسِي إذَا صَلَّيَا وَقْتَ الذِّكْرِ وَالِانْتِبَاهِ فَقَدْ صَلَّيَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَا بِالصَّلَاةِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَا قَدْ صَلَّيَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ الْمَشْرُوعِ لِغَيْرِهِمَا . فَمَنْ سَمَّى ذَلِكَ قَضَاءً بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى ، وَكَانَ فِي لُغَتِهِ أَنَّ الْقَضَاءَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ شَرْعًا

لِلْعُمُومِ ، فَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ قَطُّ شُغْلٌ يُسْقِطُ عَنْهُ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا ، بِحَيْثُ يُؤَخِّرُ صَلَاةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ وَصَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْوَقْتِ ؛ لَكِنْ يُصَلِّي بِحَسَبِ حَالِهِ ، فَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ فَرَائِضِهَا فَعَلَهُ ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ سَقَطَ عَنْهُ ، وَلَكِنْ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْعُذْرِ بَيْنَ صَلَاتَيْ النَّهَارِ وَبَيْنَ صَلَاتَيْ اللَّيْلِ ، عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ : فَيَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمُسَافِرِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، وَلَا يَجُوزُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَفِعْلُ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا أَوْلَى مِنْ الْجَمْعِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَرَجٌ ؛ بِخِلَافِ الْقَصْرِ فَإِنَّ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ أَرْبَعٍ ، عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ . فَلَوْ صَلَّى الْمُسَافِرُ أَرْبَعًا فَهَلْ تُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي جَمِيعِ أَسْفَارِهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، وَلَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا قَطُّ ، وَلَا أَبُو بَكْرٍ ، وَلَا عُمَرُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْعَمَلِ الَّذِي لِلَّهِ بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ ، وَالْعَمَلِ الَّذِي بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ .

فَأَجَابَ :
وَأَمَّا عَمَلُ النَّهَارِ الَّذِي لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ بِاللَّيْلِ ، وَعَمَلُ اللَّيْلِ الَّذِي لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ بِالنَّهَارِ : فَهُمَا صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، لَا يَحِلُّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُؤَخِّرَهُمَا إلَى اللَّيْلِ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ } . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ } . فَأَمَّا مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا } . وَأَمَّا مَنْ فَوَّتَهَا مُتَعَمِّدًا فَقَدْ أَتَى كَبِيرَةً مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا يَصِحُّ فِعْلُهَا قَضَاءً أَصْلًا ، وَمَعَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ لَا تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْوَاجِبِ ، وَلَا يَقْبَلُهَا اللَّهُ مِنْهُ بِحَيْثُ يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْعِقَابُ ، وَيَسْتَوْجِبُ الثَّوَابَ ؛ بَلْ يُخَفِّفُ عَنْهُ الْعَذَابَ بِمَا فَعَلَهُ مِنْ الْقَضَاءِ ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ إثْمُ التَّفْوِيتِ ، وَهُوَ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى مُسْقِطٍ آخَرَ ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَلَيْهِ حَقَّانِ : فَعَلَ أَحَدَهُمَا ، وَتَرَكَ الْآخَرَ . قَالَ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } وَتَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا مِنْ السَّهْوِ عَنْهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَقَالَ تَعَالَى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا

عَنْ وَقْتِهَا ، فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْوَيْلَ لِمَنْ أَضَاعَهَا وَإِنْ صَلَّاهَا ، وَمَنْ كَانَ لَهُ الْوَيْلُ لَمْ يَكُنْ قَدْ يُقْبَلُ عَمَلُهُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ ذُنُوبٌ أُخَرُ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ فِي نَفْسِ الْعَمَلِ لَمْ يُتَقَبَّلْ ذَلِكَ الْعَمَلُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : فِي وَصِيَّتِهِ لِعُمَرِ : وَاعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ ، وَحَقًّا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ ، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ النَّافِلَةَ حَتَّى تُؤَدِّيَ الْفَرِيضَةَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ تَارِكِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، هَلْ هُوَ مُسْلِمٌ فِي تِلْكَ الْحَالِ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا تَارِكُ الصَّلَاةِ فَهَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا فَهُوَ كَافِرٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لَكِنْ إذَا أَسْلَمَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ ، أَوْ وُجُوبَ بَعْضِ أَرْكَانِهَا : مِثْلَ أَنْ يُصَلِّيَ بِلَا وُضُوءٍ ، فَلَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ أَوْ يُصَلِّيَ مَعَ الْجَنَابَةِ فَلَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ، فَهَذَا لَيْسَ بِكَافِرِ ، إذَا لَمْ يَعْلَمْ . لَكِنْ إذَا عَلِمَ الْوُجُوبَ : هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا . قِيلَ : يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَقِيلَ : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ

الْقَضَاءُ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ . وَعَنْ أَحْمَد فِي هَذَا الْأَصْلِ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ فِيمَنْ صَلَّى فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِالنَّهْيِ ، ثُمَّ عَلِمَ ، هَلْ يُعِيدُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ ، وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِالنَّهْيِ ، ثُمَّ عَلِمَ . هَلْ يُعِيدُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ . وَقِيلَ : عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ : إذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ جَاهِلًا بِوُجُوبِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ دُونَ دَارِ الْحَرْبِ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالصَّائِمُ إذَا فَعَلَ مَا يَفْطُرُ بِهِ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ : فَهَلْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَكَذَلِكَ مَنْ فَعَلَ مَحْظُورًا فِي الْحَجِّ جَاهِلًا . وَأَصْلُ هَذَا : أَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ ؛ هَلْ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قِيلَ : يَثْبُتُ . وَقِيلَ : لَا يَثْبُتُ ، وَقِيلَ : يَثْبُتُ الْمُبْتَدَأُ دُونَ النَّاسِخِ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا يَثْبُتُ الْخِطَابُ إلَّا بَعْدَ الْبَلَاغِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } وَقَوْلِهِ : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } وَلِقَوْلِهِ : { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ مُتَعَدِّدٌ ، بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا حَتَّى يَبْلُغَهُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ . وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَآمَنَ بِذَلِكَ ، وَلَمْ يَعْلَمْ كَثِيرًا مِمَّا

جَاءَ بِهِ لَمْ يُعَذِّبْهُ اللَّهُ عَلَى مَا لَمْ يَبْلُغْهُ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُعَذِّبْهُ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ، فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبْهُ عَلَى بَعْضِ شَرَائِطِهِ إلَّا بَعْدَ الْبَلَاغِ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَهَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ . فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّ { طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ ظَنُّوا أَنَّ قَوْله تَعَالَى { الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ } هُوَ الْحَبْلَ الْأَبْيَضَ مِنْ الْحَبْلِ الْأَسْوَدِ ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَرْبِطُ فِي رِجْلِهِ حَبْلًا ، ثُمَّ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ هَذَا مِنْ هَذَا فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بَيَاضُ النَّهَارِ ، وَسَوَادُ اللَّيْلِ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ } . وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَمَّارُ أَجْنَبَا ، فَلَمْ يُصَلِّ عُمَرُ حَتَّى أَدْرَكَ الْمَاءَ ، وَظَنَّ عَمَّارٌ أَنَّ التُّرَابَ يَصِلُ إلَى حَيْثُ يَصِلُ الْمَاءُ فَتَمَرَّغَ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ وَلَمْ يَأْمُرْ وَاحِدًا مِنْهُمْ بِالْقَضَاءِ ، وَكَذَلِكَ أَبُو ذَرٍّ بَقِيَ مُدَّةً جُنُبًا لَمْ يُصَلِّ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ ، بَلْ أَمَرَهُ بِالتَّيَمُّمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ . وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَاضَةُ قَالَتْ : إنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً شَدِيدَةً تَمْنَعُنِي الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ ، فَأَمَرَهَا بِالصَّلَاةِ زَمَنَ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ ، وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالْقَضَاءِ . وَلَمَّا حُرِّمَ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ تَكَلَّمَ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ السُّلَمِي فِي

الصَّلَاةِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ ، فَقَالَ لَهُ : { إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ } وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ . وَلَمَّا زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ حِينَ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ ، كَانَ مَنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ : مِثْلُ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ ، وَبِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ . وَلَمَّا فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ ، وَلَمْ يَبْلُغْ الْخَبَرُ إلَى مَنْ كَانَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، حَتَّى فَاتَ ذَلِكَ الشَّهْرُ ، لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ الصِّيَامِ . { وَكَانَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ - لَمَّا ذَهَبُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ - قَدْ صَلَّى إلَى الْكَعْبَةِ مُعْتَقِدًا جَوَازَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ ، وَكَانُوا حِينَئِذٍ يَسْتَقْبِلُونَ الشَّامَ ، فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . أَمَرَهُ بِاسْتِقْبَالِ الشَّامِ } وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ مَا كَانَ صَلَّى . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ { سُئِلَ - وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ : عَنْ رَجُلٍ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ ، وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِالْخَلُوقِ ، فَلَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ قَالَ لَهُ : انْزِعْ عَنْك جُبَّتَك ، وَاغْسِلْ عَنْك أَثَرَ الْخَلُوقِ ، وَاصْنَعْ فِي

عُمْرَتِك مَا كُنْت صَانِعًا فِي حَجِّك } . وَهَذَا قَدْ فَعَلَ مَحْظُورًا فِي الْحَجِّ ، وَهُوَ لُبْسُ الْجُبَّةِ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ بِدَمِ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ لَلَزِمَهُ دَمٌ . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ { قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ : صَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - فَقَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا ، فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِينِي فِي الصَّلَاةِ ، فَعَلَّمَهُ الصَّلَاةَ الْمُجْزِيَةَ } وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ مَا صَلَّى قَبْلَ ذَلِكَ . مَعَ قَوْلِهِ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ تِلْكَ الصَّلَاةَ ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا بَاقٍ ، فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِهَا ، وَاَلَّتِي صَلَّاهَا لَمْ تَبْرَأْ بِهَا الذِّمَّةُ ، وَوَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقٍ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ بَلَغَ صَبِيٌّ أَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ ، أَوْ طَهُرَتْ حَائِضٌ ، أَوْ أَفَاقَ مَجْنُونٌ " وَالْوَقْتُ بَاقٍ لَزِمَتْهُمْ الصَّلَاةُ أَدَاءً لَا قَضَاءً . وَإِذَا كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِمْ . فَهَذَا الْمُسِيءُ الْجَاهِلُ إذَا عَلِمَ بِوُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الطُّمَأْنِينَةُ حِينَئِذٍ ، وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ فَلِهَذَا أَمَرَهُ بِالطُّمَأْنِينَةِ فِي صَلَاةِ تِلْكَ الْوَقْتِ ، دُونَ مَا قَبْلَهَا . وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ لِمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ أَنْ يُعِيدَ ، وَلِمَنْ تَرَكَ لَمْعَةً مِنْ قَدَمِهِ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ . وَقَوْلُهُ أَوَّلًا : { صَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ }

تَبَيَّنَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ لَمْ يَكُنْ صَلَاةً ، وَلَكِنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا بِوُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ ، فَلِهَذَا أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ ابْتِدَاءً ، ثُمَّ عَلَّمَهُ إيَّاهَا ، لَمَّا قَالَ : " وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا " . فَهَذِهِ نُصُوصُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَحْظُورَاتِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ مَعَ الْجَهْلِ فِيمَنْ تَرَكَ وَاجِبَاتِهَا مَعَ الْجَهْلِ ، وَأَمَّا أَمْرُهُ لِمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ أَنْ يُعِيدَ فَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْوَاجِبِ مَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ . فَثَبَتَ الْوُجُوبُ فِي حَقِّهِ حِينَ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَقَاءِ وَقْتِ الْوُجُوبِ ، لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ مَعَ مُضِيِّ الْوَقْتِ . وَأَمَّا أَمْرُهُ لِمَنْ تَرَكَ لَمْعَةً فِي رِجْلِهِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءَ بِالْإِعَادَةِ ، فَلِأَنَّهُ كَانَ نَاسِيًا ، فَلَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ ، كَمَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ ، وَكَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا ، فَإِنَّهَا قَضِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ بِمُشَخَّصِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ . أَعْنِي أَنَّهُ رَأَى فِي رِجْلِ رَجُلٍ لَمْعَةً لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ حَدِيثٌ جَيِّدٌ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ } وَنَحْوُهُ . فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَكْمِيلِ الْوُضُوءِ لَيْسَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ بِإِعَادَةِ شَيْءٍ وَمَنْ كَانَ أَيْضًا يَعْتَقِدُ أَنَّ الصَّلَاةَ تَسْقُطُ عَنْ الْعَارِفِينَ ، أَوْ عَنْ الْمَشَايِخِ الْوَاصِلِينَ ، أَوْ عَنْ بَعْضِ أَتْبَاعِهِمْ ، أَوْ أَنَّ الشَّيْخَ يُصَلِّي عَنْهُمْ ، أَوْ أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا

أَسْقَطَ عَنْهُمْ الصَّلَاةَ ، كَمَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْفَقْرِ وَالزُّهْدِ ، وَاتِّبَاعِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَالْمُعَرِّفَةِ ، فَهَؤُلَاءِ يُسْتَتَابُونَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ، فَإِنْ أَقَرُّوا بِالْوُجُوبِ ، وَإِلَّا قُوتِلُوا ، وَإِذَا أَصَرُّوا عَلَى جَحْدِ الْوُجُوبِ حَتَّى قُتِلُوا ، كَانُوا مِنْ الْمُرْتَدِّينَ ، وَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ وَصَلَّى لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا تَرَكَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إمَّا أَنْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ جَاهِلِينَ لِلْوُجُوبِ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ عَنْ الْإِسْلَامِ ، فَالْمُرْتَدُّ إذَا أَسْلَمَ لَا يَقْضِي مَا تَرَكَهُ حَالَ الرِّدَّةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، كَمَا لَا يَقْضِي الْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ مَا تَرَكَ حَالَ الْكُفْرِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، وَالْأُخْرَى يَقْضِي الْمُرْتَدُّ . كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ . فَإِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْحَارِثِ ابْنِ قَيْسٍ ، وَطَائِفَةٍ مَعَهُ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ } الْآيَةَ ، وَاَلَّتِي بَعْدَهَا . وَكَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ ، وَاَلَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ الْكُفَّارِ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَأَنْزَلَ فِيهِمْ : { ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } فَهَؤُلَاءِ عَادُوا إلَى الْإِسْلَامِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ عَامَ الْفَتْحِ ، وَبَايَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا

مِنْهُمْ بِإِعَادَةِ مَا تَرَكَ حَالَ الْكُفْرِ فِي الرِّدَّةِ ، كَمَا لَمْ يَكُنْ يَأْمُرْ سَائِرَ الْكُفَّارِ إذَا أَسْلَمُوا . وَقَدْ ارْتَدَّ فِي حَيَاتِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ اتَّبَعُوا الْأَسْوَدَ الْعَنْسِيَّ الَّذِي تَنَبَّأَ بِصَنْعَاءَ الْيَمَنِ ، ثُمَّ قَتَلَهُ اللَّهُ ، وَعَادَ أُولَئِكَ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِالْإِعَادَةِ . وَتَنَبَّأَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ ، وَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ ، قَاتَلَهُمْ الصِّدِّيقُ وَالصَّحَابَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى أَعَادُوا مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْقَضَاءِ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ مَوْتِهِ . وَكَانَ أَكْثَرُ الْبَوَادِي قَدْ ارْتَدُّوا ثُمَّ عَادُوا إلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِقَضَاءِ مَا تَرَكَ مِنْ الصَّلَاةِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } يَتَنَاوَلُ كُلَّ كَافِرٍ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ ، بَلْ جُهَّالًا بِالْوُجُوبِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَظْهَرَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يَسْتَأْنِفُونَ الصَّلَاةَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ . فَهَذَا حُكْمُ مَنْ تَرَكَهَا غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لِوُجُوبِهَا . وَأَمَّا مَنْ اعْتَقَدَ وُجُوبَهَا مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى تَرْكِ : فَقَدْ ذَكَرَ عَلَيْهِ الْمُفَرِّعُونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ فُرُوعًا :

أَحَدُهَا هَذَا ، فَقِيلَ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ : مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَإِذَا صَبَرَ حَتَّى يُقْتَلَ فَهَلْ يُقْتَلُ كَافِرًا مُرْتَدًّا ، أَوْ فَاسِقًا كَفُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورِينَ . حُكِيَا رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد ، وَهَذِهِ الْفُرُوعُ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ ، وَهِيَ فُرُوعٌ فَاسِدَةٌ ، فَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِالصَّلَاةِ فِي الْبَاطِنِ ، مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا ، يَمْتَنِعُ أَنْ يُصِرَّ عَلَى تَرْكِهَا حَتَّى يُقْتَلَ ، وَهُوَ لَا يُصَلِّي هَذَا لَا يُعْرَفُ مِنْ بَنِي آدَمَ وَعَادَتِهِمْ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ هَذَا قَطُّ فِي الْإِسْلَامِ ، وَلَا يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا ، وَيُقَالُ لَا إنْ لَمْ تُصَلِّ وَإِلَّا قَتَلْنَاك ، وَهُوَ يُصِرُّ عَلَى تَرْكِهَا ، مَعَ إقْرَارِهِ بِالْوُجُوبِ ، فَهَذَا لَمْ يَقَعْ قَطُّ في الْإِسْلَامِ . وَمَتَى امْتَنَعَ الرَّجُلُ مِنْ الصَّلَاةِ حَتَّى يُقْتَلَ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَاطِنِ مُقِرًّا بِوُجُوبِهَا ، وَلَا مُلْتَزِمًا بِفِعْلِهَا ، وَهَذَا كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، كَمَا اسْتَفَاضَتْ الْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ بِكُفْرِ هَذَا ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ . كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ إلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَقَوْلِهِ : { الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ } . وَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ : كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنْ الْأَعْمَالِ فِي تَرْكِهِ كُفْرٌ إلَّا الصَّلَاةَ ، فَمَنْ كَانَ مُصِرًّا عَلَى تَرْكِهَا حَتَّى يَمُوتَ لَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً قَطُّ ، فَهَذَا لَا يَكُونُ قَطُّ مُسْلِمًا مُقِرًّا بِوُجُوبِهَا ، فَإِنَّ اعْتِقَادَ

الْوُجُوبِ ، وَاعْتِقَادَ أَنَّ تَارِكَهَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ هَذَا دَاعٍ تَامٌّ إلَى فِعْلِهَا ، وَالدَّاعِي مَعَ الْقُدْرَةِ يُوجِبُ وُجُودَ الْمَقْدُورِ ، فَإِذَا كَانَ قَادِرًا وَلَمْ يَفْعَلْ قَطُّ عُلِمَ أَنَّ الدَّاعِيَ فِي حَقِّهِ لَمْ يُوجَدْ . وَالِاعْتِقَادُ التَّامُّ لِعِقَابِ التَّارِكِ بَاعِثٌ عَلَى الْفِعْلِ ، لَكِنَّ هَذَا قَدْ يُعَارِضُهُ أَحْيَانًا أُمُورٌ تُوجِبُ تَأْخِيرَهَا وَتَرْكَ بَعْضِ وَاجِبَاتِهَا ، وَتَفْوِيتِهَا أَحْيَانًا . فَأَمَّا مَنْ كَانَ مُصِرًّا عَلَى تَرْكِهَا لَا يُصَلِّي قَطُّ ، وَيَمُوتُ عَلَى هَذَا الْإِصْرَارِ وَالتَّرْكِ فَهَذَا لَا يَكُونُ مُسْلِمًا ؛ لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يُصَلُّونَ تَارَةً ، وَيَتْرُكُونَهَا تَارَةً ، فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا ، وَهَؤُلَاءِ تَحْتَ الْوَعِيدِ ، وَهُمْ الَّذِينَ جَاءَ فِيهِمْ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ حَدِيثُ عبادة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ كَانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ لَمْ يُحَافَظْ عَلَيْهِنَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ ، إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ . } فَالْمُحَافِظُ عَلَيْهَا الَّذِي يُصَلِّيهَا فِي مَوَاقِيتِهَا ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَاَلَّذِي يُؤَخِّرُهَا أَحْيَانًا عَنْ وَقْتِهَا ، أَوْ يَتْرُكُ وَاجِبَاتِهَا ، فَهَذَا تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ يَكُونُ لِهَذَا نَوَافِلُ يُكَمِّلُ بِهَا فَرَائِضَهُ ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ .

وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ فَيَمْتَنِعُ ، وَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ وَمَنْ اعْتَذَرَ بِقَوْلِهِ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } هَلْ يَكُونُ لَهُ عُذْرٌ فِي أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ ، أَمْ لَا ؟ وَمَاذَا يَجِبُ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ فِي حَقِّ مَنْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ إذَا تَرَكُوا الصَّلَاةَ ؟ وَهَلْ قِيَامُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ وَأَكْبَرِ أَبْوَابِ الْبِرِّ ؟.
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَنْ يَمْتَنِعُ عَنْ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الْغَلِيظَةَ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، بَلْ يَجِبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ : كَمَالِكِ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَد ، وَغَيْرِهِمْ أَنْ يُسْتَتَابَ ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . بَلْ تَارِكُ الصَّلَاةِ شَرٌّ مِنْ السَّارِقِ وَالزَّانِي ، وَشَارِبِ الْخَمْرِ ، وَآكِلِ الْحَشِيشَةِ . وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُطَاعٍ أَنْ يَأْمُرَ مَنْ يُطِيعُهُ بِالصَّلَاةِ ، حَتَّى الصِّغَارَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ } .

وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ صَغِيرٌ مَمْلُوكٌ أَوْ يَتِيمٌ أَوْ وَلَدٌ فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ الْكَبِيرُ إذَا لَمْ يَأْمُرْ الصَّغِيرَ ، وَيُعَزِّرُ الْكَبِيرَ عَلَى ذَلِكَ تَعْزِيرًا بَلِيغًا ؛ لِأَنَّهُ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَكَذَلِكَ مَنْ عِنْدَهُ مَمَالِيكُ كِبَارٌ ، أَوْ غِلْمَانُ الْخَيْلِ وَالْجِمَالِ وَالْبُزَاةِ ، أَوْ فَرَّاشُونَ أَوْ بَابِيَّةٌ يَغْسِلُونَ الْأَبْدَانَ وَالثِّيَابَ ، أَوْ خَدَمٌ ، أَوْ زَوْجَةٌ ، أَوْ سُرِّيَّةٌ ، أَوْ إمَاءٌ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ جَمِيعَ هَؤُلَاءِ بِالصَّلَاةِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ هَذَا أَنْ يَكُونَ مِنْ جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ ، بَلْ مِنْ جُنْدِ التَّتَارِ . فَإِنَّ التَّتَارَ يَتَكَلَّمُونَ بِالشَّهَادَتَيْنِ ، وَمَعَ هَذَا فَقِتَالُهُمْ وَاجِبٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ كُلُّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ عَنْ شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ ، أَوْ الْبَاطِنَةِ الْمَعْلُومَةِ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهَا ، فَلَوْ قَالُوا : نَشْهَدُ وَلَا نُصَلِّي قُوتِلُوا حَتَّى يُصَلُّوا ، وَلَوْ قَالُوا : نُصَلِّي وَلَا نُزَكِّي قُوتِلُوا حَتَّى يُزَكُّوا ، وَلَوْ قَالُوا : نُزَكِّي وَلَا نَصُومُ وَلَا نَحُجُّ ، قُوتِلُوا حَتَّى يَصُومُوا رَمَضَانَ . وَيَحُجُّوا الْبَيْتَ . وَلَوْ قَالُوا : نَفْعَلُ هَذَا لَكِنْ لَا نَدَعُ الرِّبَا ، وَلَا شُرْبَ الْخَمْرِ ، وَلَا الْفَوَاحِشَ ، وَلَا نُجَاهَدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَا نَضْرِبُ الْجِزْيَةَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، وَنَحْوُ ذَلِكَ . قُوتِلُوا حَتَّى يَفْعَلُوا ذَلِكَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ }. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131