الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ طَلَبَ أَنْ يُحْشَرَ مَعَ شَيْخٍ لَمْ يَعْلَمْ عَاقِبَتَهُ كَانَ ضَالًّا بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ فَيَطْلُبَ بِمَا يَعْلَمُ أَنْ يَحْشُرَهُ اللَّهُ مَعَ نَبِيِّهِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } . وَعَلَى هَذَا فَمَنْ أَحَبَّ شَيْخًا مُخَالِفًا لِلشَّرِيعَةِ كَانَ مَعَهُ فَإِذَا أُدْخِلَ الشَّيْخُ النَّارَ كَانَ مَعَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشُّيُوخَ الْمُخَالِفِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَهْلُ الضَّلَالِ وَالْجَهَالَةِ فَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ كَانَ مَصِيرُهُ مَصِيرَ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ فَمَحَبَّةُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الْإِيمَانِ وَأَعْظَمِ حَسَنَاتِ الْمُتَّقِينَ وَلَوْ أَحَبَّ الرَّجُلَ لِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَثَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَحَبَّةِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَةَ بَاطِنِهِ فَإِنَّ الْأَصْلَ هُوَ حُبُّ اللَّهِ وَحُبُّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ فَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ وَأَحَبَّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ . لَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَدَّعِي الْمَحَبَّةَ مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : ادَّعَى قَوْمٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ

يُحِبُّونَ اللَّهَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَمَحَبَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ تَقْتَضِي فِعْلَ مَحْبُوبَاتِهِ وَتَرْكَ مَكْرُوهَاتِهِ وَالنَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِي هَذَا تَفَاضُلًا عَظِيمًا فَمَنْ كَانَ أَعْظَمَ نَصِيبًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ أَعْظَمَ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأَمَّا مَنْ أَحَبَّ شَخْصًا لِهَوَاهُ مِثْلَ أَنْ يُحِبَّهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا مِنْهُ أَوْ لِحَاجَةِ يَقُومُ لَهُ بِهَا أَوْ لِمَالِ يتأكله بِهِ أَوْ بِعَصَبِيَّةٍ فِيهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَهَذِهِ لَيْسَتْ مَحَبَّةً لِلَّهِ بَلْ هَذِهِ مَحَبَّةٌ لِهَوَى النَّفْسِ وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ الَّتِي تُوقِعُ أَصْحَابَهَا فِي الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ . وَمَا أَكْثَرُ مَنْ يَدَّعِي حُبَّ مَشَايِخَ لِلَّهِ وَلَوْ كَانَ يُحِبُّهُمْ لِلَّهِ لَأَطَاعَ اللَّهَ الَّذِي أَحَبَّهُمْ لِأَجْلِهِ فَإِنَّ الْمَحْبُوبَ لِأَجْلِ غَيْرِهِ تَكُونُ مَحَبَّتُهُ تَابِعَةً لِمَحَبَّةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَكَيْفَ يُحِبُّ شَخْصًا لِلَّهِ مَنْ لَا يَكُونُ مُحِبًّا لِلَّهِ ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ مُحِبًّا لِلَّهِ مَنْ يَكُونُ مُعْرِضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَبِيلِ اللَّهِ ؟ وَمَا أَكْثَرُ مَنْ يُحِبُّ شُيُوخًا أَوْ مُلُوكًا وَغَيْرَهُمْ فَيَتَّخِذُهُمْ أَنْدَادًا يُحِبُّهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ وَالْمَحَبَّةِ مَعَ اللَّهِ ظَاهِرٌ فَأَهْلُ الشِّرْكِ يَتَّخِذُونَ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَأَهْلُ الْإِيمَانِ يُحِبُّونَ وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ أَصْلُ حُبِّهِمْ هُوَ حُبُّ اللَّهِ وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَحَبَّ مَنْ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ أَحَبَّ اللَّهَ فَمَحْبُوبُ الْمَحْبُوبِ مَحْبُوبٌ لِلَّهِ يُحِبُّ اللَّهَ فَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَحَبَّهُ اللَّهُ فَيُحِبُّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ .

وَأَمَّا أَهْلُ الشِّرْكِ فَيَتَّخِذُونَ أَنْدَادًا وَشُفَعَاءَ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } { أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ } { إنِّي إذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } { إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . وَاَللَّهُ تَعَالَى بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ } . فَالدِّينُ وَاحِدٌ وَإِنْ تَفَرَّقَتْ الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا

أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وَمِنْ حِينِ بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ إلَّا الدِّينَ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ فَإِنَّ دَعْوَتَهُ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَسْمَعُ بِي مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِي إلَّا دَخَلَ النَّارَ } . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } . فَعَلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمْ اتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ وَيَعْبُدُونَهُ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بِغَيْرِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } { إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ

أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَتَفَرَّقُونَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا : أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ } وَعِبَادَةُ اللَّهِ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَكَمَالُ الذُّلِّ لِلَّهِ فَاصِلُ الدِّينِ وَقَاعِدَتُهُ يَتَضَمَّنُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي تُحِبُّهُ الْقُلُوبَ وَتَخْشَاهُ وَلَا يَكُونُ لَهَا إلَهٌ سِوَاهُ و " الْإِلَهُ " مَا تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ بِالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ وَالْإِجْلَالِ وَالْإِعْظَامِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَرْسَلَ الرُّسُلَ بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَتَخْلُو الْقُلُوبُ عَنْ مَحَبَّةٍ مَا سِوَاهُ بِمَحَبَّتِهِ وَبِرَجَائِهِ وَعَنْ سُؤَالِ مَا سِوَاهُ بِسُؤَالِهِ وَعَنْ الْعَمَلِ لِمَا سِوَاهُ بِالْعَمَلِ لَهُ وَعَنْ الِاسْتِعَانَةِ بِمَا سِوَاهُ بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِ . وَلِهَذَا كَانَ وَسَطَ الْفَاتِحَةِ { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي فَإِذَا قَالَ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ . أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قَالَ : مَجَّدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ : هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ وَإِذَا قَالَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }

{ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } قَالَ : هَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ } فَوَسَطُ السُّورَةِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فَالدِّينُ أَنْ لَا يُعْبَدَ إلَّا اللَّهُ وَلَا يُسْتَعَانُ إلَّا إيَّاهُ . وَالْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَغَيْرُهُمْ عِبَادُ اللَّهِ . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا } { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } فَالْحُبُّ لِغَيْرِ اللَّهِ كَحُبِّ النَّصَارَى لِلْمَسِيحِ وَحُبِّ الْيَهُودِ لِمُوسَى وَحُبِّ الرَّافِضَةِ لِعَلِيِّ وَحُبِّ الْغُلَاةِ لِشُيُوخِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ مِثْلَ مَنْ يُوَالِي شَيْخًا أَوْ إمَامًا وَيُنَفِّرُ عَنْ نَظِيرِهِ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ أَوْ مُتَسَاوِيَانِ فِي الرُّتْبَةِ فَهَذَا مِنْ جِنْسِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بِبَعْضِ الرُّسُلِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ وَحَالُ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يُوَالُونَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ وَيُعَادُونَ بَعْضَهُمْ وَحَالُ أَهْلِ الْعَصَبِيَّةِ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى فِقْهٍ وَزُهْدٍ : الَّذِينَ يُوَالُونَ الشُّيُوخَ وَالْأَئِمَّةَ دُونَ الْبَعْضِ . وَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ مَنْ يُوَالِي جَمِيعَ أَهْلِ الْإِيمَانِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا - وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ - } وَقَالَ : { مَثَلُ

الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ } وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا تَقَاطَعُوا ؛ وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا } . وَمِمَّا يُبَيِّنُ الْحُبَّ لِلَّهِ وَالْحَبَّ لِغَيْرِ اللَّهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْلِصًا لِلَّهِ وَأَبُو طَالِبٍ عَمُّهُ كَانَ يُحِبُّهُ وَيَنْصُرُهُ لِهَوَاهُ لَا لِلَّهِ فَتَقَبَّلَ اللَّهُ عَمَلَ أَبِي بَكْرٍ وَأَنْزَلَ فِيهِ : { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى } { الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } { وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى } { إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } { وَلَسَوْفَ يَرْضَى } . وَأَمَّا أَبُو طَالِبٍ فَلَمْ يَتَقَبَّلْ مِنْهُ - فَأَبُو بَكْرٍ لَمْ يَطْلُبْ أَجْرَهُ وَجَزَاءَهُ مِنْ الْخَلْقِ : لَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا غَيْرِهِ ؛ بَلْ آمَنَ بِهِ وَأَحَبَّهُ وَكَلَأَهُ وَأَعَانَهُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ مُتَقَرِّبًا بِذَلِكَ إلَى اللَّهِ وَطَالِبًا الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ : يُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } . وَاَللَّهُ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ وَيُرْزَقُ وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ وَيَعِزُّ وَيُذِلُّ وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَالْأَسْبَابُ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْعِبَادُ مِنْهَا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَبَاحَهُ فَهَذَا يُسْلَكُ وَمِنْهَا مَا نَهَى عَنْهُ نَهْيًا خَالِصًا أَوْ كَانَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِهَا فَهَذَا لَا يُسْلَكُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى . { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ

مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } . بَيَّنَ سُبْحَانَهُ ضَلَالَ الَّذِينَ يَدَعُونَ الْمَخْلُوقَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ فَبَيَّنَ أَنَّ الْمَخْلُوقِينَ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ لَهُمْ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا عَوْنَ لَهُ وَلَا ظَهِيرَ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ يُشَبِّهُونَ الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ كَمَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ إذَا كَانَتْ لَك حَاجَةٌ : اسْتَوْحِ الشَّيْخَ فُلَانًا فَإِنَّك تَجِدُهُ أَوْ تَوَجَّهْ إلَى ضَرِيحِهِ خُطُوَاتٍ وَنَادِ : يَا شَيْخَ تُقْضَى حَاجَتُك وَهَذَا غَلَطٌ لَا يَحِلُّ فِعْلُهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ الدَّاعِينَ لِغَيْرِ اللَّهِ مَنْ يَرَى صُورَةَ الْمَدْعُوِّ أَحْيَانًا فَذَلِكَ شَيْطَانٌ يُمَثَّلُ لَهُ كَمَا وَقَعَ مِثْلُ هَذَا لِعَدَدِ كَثِيرٍ وَنَظِيرٌ هَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْجُهَّالِ مِنْ أَتْبَاعِ الشَّيْخِ عَدِيٍّ وَغَيْرِهِ : كُلُّ رِزْقٍ لَا يَجِيءُ عَلَى يَدِ الشَّيْخِ لَا أُرِيدُهُ . وَالْعَجَبُ مِنْ ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ يَسْتَوْحِي مَنْ هُوَ مَيِّتٌ وَيَسْتَغِيثُ بِهِ - وَلَا يَسْتَغِيثُ بِالْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ - فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ : إذَا كَانَتْ لَك حَاجَةٌ إلَى مَلِكٍ تَوَسَّلْت إلَيْهِ بِأَعْوَانِهِ فَهَكَذَا يَتَوَسَّلُ إلَيْهِ بِالشُّيُوخِ وَهَذَا كَلَامُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ فَإِنَّ الْمَلِكَ لَا يَعْلَمُ حَوَائِجَ رَعِيَّتِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا وَحْدَهُ وَلَا يُرِيدُ ذَلِكَ إلَّا لِغَرَضِ يَحْصُلُ

لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِكُلِّ شَيْءٍ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَالْأَسْبَابُ مِنْهُ وَإِلَيْهِ . وَمَا مِنْ سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ إلَّا دَائِرٌ مَوْقُوفٌ عَلَى أَسْبَابٍ أُخْرَى وَلَهُ مُعَارَضَاتٌ فَالنَّارُ لَا تُحْرِقُ إلَّا إذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا فَلَا تُحْرِقُ السمندل وَإِذَا شَاءَ اللَّهُ مَنَعَ أَثَرَهَا كَمَا فَعَلَ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمَّا مَشِيئَةُ الرَّبِّ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ وَلَا مَانِعَ لَهَا بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَرْحَمُ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا يُحْسِنُ إلَيْهِمْ وَيَرْحَمُهُمْ وَيَكْشِفُ ضُرَّهُمْ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُمْ وَافْتِقَارِهِمْ إلَيْهِ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } فَنَفَى الرَّبَّ هَذَا كُلَّهُ فَلَمْ يُبْقِ إلَّا الشَّفَاعَةَ فَقَالَ . { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } وَقَالَ : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } فَهُوَ الَّذِي يَأْذَنُ فِي الشَّفَاعَةِ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُهَا فَالْجَمِيعُ مِنْهُ وَحْدَهُ . وَكُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَعْظَمَ إخْلَاصًا لِلَّهِ كَانَتْ شَفَاعَةُ الرَّسُولِ أَقْرَبَ إلَيْهِ { قَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ : مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِك يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ } . وَأَمَّا الَّذِينَ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى فُلَانٍ لِيَشْفَعَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتَعَلَّقُونَ بِفُلَانِ فَهَؤُلَاءِ مِنْ جَنْسِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا شُفَعَاءَ مِنْ

دُونِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ } { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ } وَقَالَ : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْمَسِيحَ وَالْعُزَيْرَ وَالْمَلَائِكَةَ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ عِبَادُهُ كَمَا أَنَّ هَؤُلَاءِ عِبَادُهُ هَؤُلَاءِ يَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يَخَافُونَ عَذَابَ اللَّهِ فَالْمُشْرِكُونَ اتَّخَذُوا مَعَ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ؛ وَاِتَّخَذُوا شُفَعَاءَ يَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فَفِيهِمْ مَحَبَّةٌ لَهُمْ وَإِشْرَاكٌ بِهِمْ وَفِيهِمْ مِنْ جِنْسِ مَا فِي النَّصَارَى مِنْ حُبِّ الْمَسِيحِ وَإِشْرَاكٍ بِهِ . وَالْمُؤْمِنُونَ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ فَلَا يَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا يَجْعَلُونَ مَعَهُ شَيْئًا يُحِبُّونَهُ كَحُبِّهِ لَا أَنْبِيَاءَهُ وَلَا غَيْرَهُمْ بَلْ أَحَبُّوا مَا أَحَبَّهُ بِمَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ وَعَلِمُوا أَنَّ أَحَدًا لَا يَشْفَعُ لَهُمْ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَأَحَبُّوا عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحُبِّ اللَّهِ وَعَلِمُوا أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ الْمُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ فَأَطَاعُوهُ فِيمَا أَمَرَ وَصَدَّقُوهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَلَمْ يَرْجُوَا إلَّا اللَّهَ وَلَمْ يَخَافُوا إلَّا اللَّهَ وَلَمْ يَسْأَلُوا إلَّا اللَّهَ وَشَفَاعَتُهُ لِمَنْ

يَشْفَعُ لَهُ هُوَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَا يَنْفَعُ رَجَاؤُنَا لِلشَّفِيعِ وَلَا مَخَافَتُنَا لَهُ وَإِنَّمَا يَنْفَعُ تَوْحِيدُنَا وَإِخْلَاصُنَا لِلَّهِ وَتَوَكُّلُنَا عَلَيْهِ فَهُوَ الَّذِي يَأْذَنُ لِلشَّفِيعِ . فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَحَبَّةِ النَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ وَدِينِهِمْ وَيَتَّبِعَ أَهْلَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ وَيَخْرُجُ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الصُّلْبَانِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَدِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَالْقُرْآنُ يَدُورُ عَلَيْهِ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ " الْمَسْكَنَةِ " وَعَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ }
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَسَوَاءٌ صَحَّ لَفْظُهُ أَوْ لَمْ يَصِحَّ : فَالْمِسْكِينُ الْمَحْمُودُ هُوَ الْمُتَوَاضِعُ الْخَاشِعُ لِلَّهِ ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَسْكَنَةِ عَدَمَ الْمَالِ بَلْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ فَقِيرًا مِنْ الْمَالِ وَهُوَ جَبَّارٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : مَلِكٌ كَذَّابٌ وَفَقِيرٌ مُخْتَالٌ وَشَيْخٌ زَانٍ } وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ } فَالْمَسْكَنَةُ خُلُقٌ فِي النَّفْسِ وَهُوَ التَّوَاضُعُ وَالْخُشُوعُ وَاللِّينُ ضِدُّ الْكِبْرِ . كَمَا قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا } وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ :

مَسَاكِينُ أَهْلِ الْحُبِّ حَتَّى قُبُورُهُمْ * * * عَلَيْهَا تُرَابُ الذُّلِّ بَيْنَ الْمَقَابِرِ
أَيْ أَذِلَّاءُ فَالْحُبُّ يُعْطِي الذُّلَّ وَعِبَادَةُ اللَّهِ تَجْمَعُ كَمَالَ الْحُبِّ لَهُ وَكَمَالَ الذُّلِّ لَهُ فَمَنْ كَانَ مُحِبًّا شَيْئًا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِيلًا لَهُ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا وَمَنْ كَانَ ذَلِيلًا لَهُ وَهُوَ مُبْغِضٌ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا وَالْحُبُّ دَرَجَاتٌ : أَعْلَاهُ التتيم وَهُوَ التَّعَبُّدُ وَتَيَّمَ اللَّهَ عَبَدَ اللَّهَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } الْآيَاتِ . وَشَوَاهِدُ هَذَا الْأَصْلُ كَثِيرَةٌ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ :
جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْعِفَّةِ وَالْغِنَى فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ مِنْهَا قَوْلُهُ فِي حَدِيث أَبِي سَعِيدٍ الْمُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحَيْنِ : { مَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ } وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : { أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ : ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ وَرَجُلٌ غَنِيٌّ عَفِيفٌ مُتَصَدِّقٌ } وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْخَيْلِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ : { وَرَجُلٌ ارْتَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا . وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهَ فِي رِقَابِهَا وَظُهُورِهَا فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ } وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْهُ : { مَنْ طَلَبَ الْمَالَ اسْتِغْنَاءً عَنْ النَّاسِ وَاسْتِعْفَافًا عَنْ الْمَسْأَلَةِ لَقِيَ اللَّهَ وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ } . وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ : { مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُشْرِفٍ فَخُذْهُ } فَالسَّائِلُ بِلِسَانِهِ وَهُوَ ضِدُّ الْمُتَعَفِّفِ وَالْمُشْرِفُ بِقَلْبِهِ وَهُوَ ضِدُّ الْغِنَى . قَالَ فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ : { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ }

أَيْ عَنْ السُّؤَالِ لِلنَّاسِ . وَقَالَ : { لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَإِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ } فَغِنَى النَّفْسِ الَّذِي لَا يَسْتَشْرِفُ إلَى الْمَخْلُوقِ فَإِنَّ الْحُرَّ عَبْدٌ مَا طَمِعَ وَالْعَبْدُ حُرٌّ مَا قَنِعَ . وَقَدْ قِيلَ : أَطَعْت مَطَامِعِي فَاسْتَعْبَدَتْنِي . فَكَرِهَ أَنْ يَتَّبِعَ نَفْسَهُ مَا اسْتَشْرَفَتْ لَهُ لِئَلَّا يَبْقَى فِي الْقَلْبِ فَقْرٌ وَطَمَعٌ إلَى الْمَخْلُوقِ ؛ فَإِنَّهُ خِلَافَ التَّوَكُّلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَخِلَافَ غِنَى النَّفْسِ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ :
جَاءَ فِي حَدِيثٍ { إنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ الْكُفْرُ وَالْكِبْرُ } وَهَذَا صَحِيحٌ فَإِنَّ هَذَيْنِ الذَّنَبَيْنِ أَسَاسُ كُلِّ ذَنْبٍ فِي الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَإِنَّ إبْلِيسَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ أَوَّلًا وَهُوَ أَصْلُ ذَلِكَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إلَّا إبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } وَقَالَ : { إلَّا إبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ } فَجَعَلَ الْكِبْرَ يُضَادُّ الْإِيمَانَ . وَكَذَلِكَ الشِّرْكُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ مَاتَ وَهُوَ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ } قَالَ : وَأَنَا أَقُولُ : مَنْ مَاتَ وَهُوَ يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ .

ثُمَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْفَرِدُ لَهُ أَحَدُهُمَا وَالْمُؤْمِنُ الصَّالِحُ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْهُمَا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إمَّا أَنْ يَخْضَعَ لِلَّهِ وَحْدَهُ أَوْ يَخْضَعَ لِغَيْرِهِ مَعَ خُضُوعِهِ لَهُ أَوْ لَا يَخْضَعُ لَا لِلَّهِ وَلَا لِغَيْرِهِ فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُؤْمِنُ وَالثَّانِي هُوَ الْمُشْرِكُ وَالثَّالِثُ هُوَ الْمُتَكَبِّرُ الْكَافِرُ وَقَدْ لَا يَكُونُ كَافِرًا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَالنَّصَارَى آفَتُهُمْ الشِّرْكُ وَالْيَهُودُ آفَتُهُمْ الْكِبْرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ النَّصَارَى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وَقَالَ عَنْ الْيَهُودِ : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } وَلِهَذَا عُوقِبَتْ الْيَهُودُ بِضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى بِالضَّلَالِ وَالْبِدَعِ وَالْجَهَالَةِ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ :
وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالثَّلَاثِ الْمُهْلِكَاتِ وَالْمُنْجِيَاتِ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهُ عِنْدَ الْمُهْلِكَاتِ عَلَيْك بخويصة نَفْسِك . أَنَّهُ قَالَ : { شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ } فَجَعَلَ هَذَا مُطَاعًا وَهَذَا مُتَّبَعًا وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ الْهَوَى هَوَى النَّفْسِ وَهُوَ مَحَبَّتُهَا لِلشَّيْءِ وَشَهْوَتُهَا لَهُ سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ أَوْ الْمَفْعُولُ . فَصَاحِبُ الْهَوَى يَأْمُرُهُ هَوَاهُ وَيَدْعُوهُ فَيَتْبَعُهُ كَمَا تَتْبَعُ حَرَكَاتُ الْجَوَارِحِ إرَادَةَ الْقَلْبِ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا } وَقَالَ : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } وَهَذَا يَعُمُّ الْهَوَى فِي الدِّين كَالنَّصَارَى وَأَهْلِ الْبِدَعِ فِي الْمَقَالِ وَالْقَدَرِ . كَمَا كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَهُمْ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ : مِنْ الرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ وَهَذَا الْهَوَى مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالْفُقَهَاءِ إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ .

وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَدْخُلُ الْفُقَهَاءُ الْمُخْتَلِفُونَ فِي اسْمِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ . عَلَى وَجْهَيْنِ أَدْخَلَهُمْ فِي التَّقْسِيمِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَكَذَلِكَ قَبِلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الإسفراييني فِيمَا أَظُنُّ وَأَنْكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ . وَأَمَّا " الشُّحُّ الْمُطَاعُ " فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَفْسَدَتَهُ عَائِدَةٌ إلَى مَنْعِ الْخَيْرِ وَهَذَا فِي الْأَصْلِ لَيْسَ هُوَ مَحْبُوبًا وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْحِرْصُ عَلَى الْمَشْحُوحِ بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ النَّفْرَةِ وَالْبُغْضِ فَهُوَ يَأْمُرُ صَاحِبَهُ فَيُطِيعُهُ وَلَيْسَ كُلُّ مُطَاعٍ مُتَّبَعًا وَإِنْ كَانَ كُلُّ مُتَّبِعٍ مُطَاعًا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُطِيعُ الطَّبِيبَ وَالْأَمِيرَ وَغَيْرَهُمَا فِي أُمُورٍ خَاصَّةٍ وَلَيْسَ مُتَّبِعًا لَهُمْ أَمَّا التَّابِعُ لِغَيْرِهِ فَهُوَ مُطِيعٌ وَزِيَادَةٌ فَإِنَّهُ يَذْهَبُ مَعَهُ حَيْثُمَا ذَهَبَ . وَفَرْقٌ ثَانٍ أَنَّ الْمُتَّبِعَ الَّذِي يَطْلُبُ فِي نَفْسِهِ فَغَايَةُ الْمُتَّبَعِ إدْرَاكُهُ وَنَيْلُهُ وَهَذَا شَأْنُ الْهَوَى . وَأَمَّا الْمُطَاعُ فَغَايَةٌ لِغَيْرِهِ وَهَذَا شَأْنُ الشُّحِّ . وَتَحْقِيقُ مَعْنَى الشُّحِّ أَنَّهُ شِدَّةُ الْمَنْعِ الَّتِي تَقُومُ فِي النَّفْسِ . كَمَا يُقَالُ شَحِيحٌ بِدِينِهِ وَضَنِينٌ بِدِينِهِ فَهُوَ خُلُقٌ فِي النَّفْسِ وَالْبُخْلُ مِنْ فُرُوعِهِ . كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا وَأَمَرَهُمْ بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا } وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي طَوَافِهِ : رَبِّ قِنِي

شُحَّ نَفْسِي . فَقِيلَ لَهُ : مَا أَكْثَرُ مَا تَسْتَعِيذُ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ : إذَا وُقِيت شُحَّ نَفْسِي وُقِيت الظُّلْمَ وَالْبُخْلَ وَالْقَطِيعَةَ أَوْ كَمَا قَالَ ؛ وَلِهَذَا بَيَّنَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَنَّ الشُّحَّ وَالْحَسَدَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فِي قَوْلِهِ : { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَبْذُلُونَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْخَيْرِ مَعَ الْحَاجَةِ وَأَنَّهُمْ لَا يَكْرَهُونَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى إخْوَانِهِمْ وَضِدُّ الْأَوَّلِ الْبُخْلُ وَضِدُّ الثَّانِي الْحَسَدُ . وَلِهَذَا كَانَ الْبُخْلُ وَالْحَسَدُ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ الْحَاسِدَ يَكْرَهُ عَطَاءَ غَيْرِهِ وَالْبَاخِلُ لَا يُحِبُّ عَطَاءَ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فَإِنَّ الشُّحَّ أَصْلٌ لِلْبُخْلِ وَأَصْلٌ لِلْحَسَدِ وَهُوَ ضِيقُ النَّفْسِ وَعَدَمُ إرَادَتِهَا وَكَرَاهَتِهَا لِلْخَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ فَيَتَوَلَّدُ عَنْ ذَلِكَ امْتِنَاعُهُ مِنْ النَّفْعِ وَهُوَ الْبُخْلُ وَإِضْرَارُ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِ وَهُوَ الظُّلْمُ وَإِذَا كَانَ فِي الْأَقَارِبِ كَانَ قَطِيعَةً . وَلِهَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي رَوَاهُ . . . (1) النَّسَائِي مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَجْتَمِعُ فِي النَّارِ

مُسْلِمٌ قَتَلَ كَافِرًا ثُمَّ سَدَّدَ وَقَارَبَ وَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي جَوْفِ مُؤْمِنٍ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِيحُ جَهَنَّمَ وَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ الْإِيمَانُ وَالْحَسَدُ } وَرَوَاهُ النَّسَائِي أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَريرٍ عَنْ سُهَيْلِ عَنْ صَفْوَانِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ الْقَعْقَاعِ بْنِ اللَّجْلَاجِ (*) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ عَبْدٍ أَبَدًا وَلَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا } . . . (1) فَانْظُرْ كَيْفَ ذَكَرَ الشُّحَّ فِي الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ وَفِي الْأُخْرَى وَالْحَسَدَ وَاللَّفْظُ الْأَوَّلُ أَجْمَعَ وَكَيْفَ قَرَنَ فِي الْحَدِيثِ السَّمَاحَةَ وَالشَّجَاعَةَ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { شَرُّ مَا فِي الْمَرْءِ : شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ } فَمَدْحُ الشَّجَاعَةِ فِي سَبِيلِ اللَّه وَذَمُّ الشُّحِّ . وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ : { إنَّ مِنْ الْخُيَلَاءِ مَا يُحِبُّهَا اللَّهُ وَهُوَ اخْتِيَالُ الرَّجُلِ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْحَرْبِ وَعِنْدَ الصَّدَقَةِ } وَقُصِدَ مِنْ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فَحَصَرَ الْمُفْلِحِينَ فِيمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وَالشَّحِيحُ الَّذِي لَا يُحِبُّ فِعْلَ الْخَيْرِ وَاَلَّذِي يَضُرُّ نَفْسَهُ وَيَكْرَهُ النِّعْمَةَ عَلَى غَيْرِهِ .

وَسُئِلَ :
عَنْ أَحَادِيثَ : هَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ ؟ وَهَلْ رَوَاهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُعْتَبَرِينَ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ ؟ وَهِيَ قَوْلُهُ : { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ : أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ . ثُمَّ قَالَ لَهُ : أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ . ثُمَّ قَالَ : وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا خَلَقْت خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيَّ مِنْك : بِك آخُذُ وَبِك أُعْطِي ؛ وَبِك أُثِيبُ وَبِك أُعَاقِبُ } . وَقَوْلُهُ : { أُمِرْت أَنْ أُخَاطِبَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ } وَهَلْ هَذَا اللَّفْظُ هُوَ لَفْظٌ حَدِيثٌ ؟ أَوْ فِيهِ تَحْرِيفٌ ؟ أَوْ زِيَادَةٌ أَوْ نَقْصٌ ؟ وَقَوْلُهُ : { إنَّ اللَّهَ مَنَّ عَلَيَّ فِيمَا مَنْ عَلَيَّ : أَنْ أَعْطَيْتُك فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَهِيَ مِنْ كُنُوزِ عَرْشِي قَسَمْتهَا بَيْنِي وَبَيْنَك نِصْفَيْنِ } وَقَوْلُهُ : { النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ : الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ } .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَهُوَ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ لَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْإِسْلَامِ الْمُعْتَمَدَةِ وَإِنَّمَا يَرْوِيه مِثْلُ دَاوُد ابْنِ الْمُحَبِّرِ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْعَقْلِ وَيَذْكُرُهُ أَصْحَابُ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ فِي بَعْضِ

كُتُبِهِ وَابْنُ عَرَبِيٍّ وَابْنُ سَبْعِينَ وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ كَذِبٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيَّ وَأَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ . وَمَعَ هَذَا فَلَفْظُ الْحَدِيثِ : { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ : أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ وَقَالَ لَهُ أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ قَالَ مَا خَلَقْت خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيَّ مِنْك فَبِك آخُذُ . وَبِك أُعْطِي وَبِك الثَّوَابُ وَبِك الْعِقَابُ } وَفِي لَفْظٍ { لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ : كَذَلِكَ } وَمَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ قَالَ لِلْعَقْلِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ خَلْقِهِ ؛ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْعَقْلَ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ لَكِنْ الْمُتَفَلْسِفَةُ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَتْبَاعُ أَرِسْطُو هُمْ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ بَاطِنِيَّةِ الشِّيعَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ رَوَوْهُ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعُقُلَ بِالضَّمِّ لِيَكُونَ ذَلِكَ حُجَّةً لِمَذْهَبِهِمْ فِي أَنَّ أَوَّلَ الْمُبْدِعَاتِ هُوَ الْعَقْلُ الْأَوَّلُ وَهَذَا اللَّفْظُ لَمْ يَرْوِهِ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ بَلْ اللَّفْظُ الْمَرْوِيُّ مَعَ ضَعْفِهِ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ قَالَ : { مَا خَلَقْت خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيَّ مِنْك } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ خَلَقَ قَبْلَهُ غَيْرَهُ وَاَلَّذِي يُسَمِّيه الْفَلَاسِفَةُ الْعَقْلَ الْأَوَّلَ لَيْسَ قَبْلَهُ مَخْلُوقٌ عِنْدَهُمْ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ : { بِك آخُذُ وَبِك أُعْطِي وَبِك الثَّوَابُ وَبِك الْعِقَابُ } فَجَعَلَ بِهِ هَذِهِ الْأَعْرَاضَ الْأَرْبَعَةَ وَعِنْدَ أُولَئِكَ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْبَاطِنِيَّةِ :

أَنَّ جَمِيعَ الْعَالَمِ صَدَرَ عَنْ الْعَقْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا عِنْدَهُمْ وَإِنْ كَانَ مَرْبُوبًا لِلْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ عِنْدَهُمْ مُتَوَلِّدٌ عَنْ اللَّهِ لَازِمٌ لِذَاتِهِ وَلَيْسَ هَذَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ لَا الْمُسْلِمِينَ وَلَا الْيَهُودِ وَلَا النَّصَارَى إلَّا مَنْ أَلْحَدَ مِنْهُمْ وَلَا هُوَ قَوْلُ الْمَجُوسِ وَلَا جُمْهُورِ الصَّابِئِينَ وَلَا أَكْثَرِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا جُمْهُورِ الْفَلَاسِفَةِ بَلْ هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَقْلَ فِي لُغَةِ الْمُسْلِمِينَ عَرَضٌ مِنْ الْأَعْرَاضِ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ وَهُوَ غَرِيزَةٌ أَوْ عِلْمٌ أَوْ عَمَلٌ بِالْعِلْمِ ؛ لَيْسَ الْعَقْلُ فِي لُغَتِهِمْ جَوْهَرًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ الْمَخْلُوقَاتِ عَرَضًا قَائِمًا بِغَيْرِهِ فَإِنَّ الْعَرَضَ لَا يَقُومُ إلَّا بِمَحَلِّ فَيَمْتَنِعُ وُجُودُهُ قَبْلَ وُجُودِ شَيْءٍ مِنْ الْأَعْيَانِ وَأَمَّا أُولَئِكَ الْمُتَفَلْسِفَةُ : فَفِي اصْطِلَاحِهِمْ أَنَّهُ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ مَعْنَى الْعَقْلِ فِي لُغَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاطَبَ الْمُسْلِمِينَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ لَا بِلُغَةِ الْيُونَانِ فَعَلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ الْمُتَفَلْسِفَةُ لَمْ يَقْصِدْهُ الرَّسُولُ لَوْ كَانَ تَكَلَّمَ بِهَذَا اللَّفْظِ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ : { أُمِرْت أَنْ أُخَاطِبَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ } فَهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ فِي الرِّوَايَةِ وَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِمْ وَخِطَابُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِلنَّاسِ

عَامٌّ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ كَقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } { يَا عِبَادِيَ } { يَا بَنِي إسْرَائِيلَ } وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَاطِبُ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِهِ بِكَلَامِ وَاحِدٍ يَسْمَعُهُ كُلُّ أَحَدٍ ؛ لَكِنْ النَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِي فَهْمِ الْكَلَامِ بِحَسَبِ مَا يَخُصُّ اللَّهُ بِهِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ قُوَّةِ الْفَهْمِ وَحُسْنِ الْعَقِيدَةِ . وَلِهَذَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَعْلَمَهُمْ بِمُرَادِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ : إنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ قَالَ : فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ : نَفْدِيك بِأَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا فَجَعَلَ النَّاسُ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ : عَجَبًا لِهَذَا الشَّيْخِ ؛ بَكَى أَنْ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ : فَكَانَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَيَّرَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ } فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ عَبْدًا مُطْلَقًا لَمْ يُعَيِّنْهُ وَلَكِنْ أَبُو بَكْرٍ عَرَفَ عَيْنَهُ . وَمَا يَرْوِيه بَعْضُ النَّاسِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ يَتَحَدَّثَانِ وَكُنْت كَالزِّنْجِيِّ بَيْنَهُمَا } فَهَذَا كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ وَكَذَلِكَ مَا يُرْوَى أَنَّهُ أَجَابَ أَبَا بَكْرٍ بِجَوَابِ وَأَجَابَ عَائِشَةَ بِجَوَابِ فَهَذَا كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ .

سُئِلَ :
عَنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ : { مَنْ طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ أُسْبُوعًا إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا قَدْ سَلَفَ } وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَاتِ وَظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لَهُ لَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ } وَأَيْضًا : { لَوْ مَرَّ بِعَرَفَاتِ رَاعِي غَنَمٍ - وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ - غُفِرَ لَهُ } وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي وَمَنْ زَارَنِي فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي } هَلْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحِ أَمْ لَا ؟ وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { مَقَامُ إبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ حَدِيثٌ - لَا فِي الصَّحِيحِ وَلَا فِي السُّنَنِ وَفِيهَا مَا مَعْنَاهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّهُ لَوْ وَقَفَ الرَّجُلُ بِعَرَفَاتِ خَائِفًا مِنْ اللَّهِ أَنْ لَا يَغْفِرَ لَهُ ذُنُوبَهُ ؛ لِكَوْنِهَا كَبَائِرَ لَمْ يُقَلْ : إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرَ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ فَمَا دُونَ الشِّرْكِ إنْ شَاءَ اللَّهُ غَفَرَهُ لِصَاحِبِهِ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَغْفِرْهُ لَكِنْ إذَا تَابَ الْعَبْدُ مِنْ الذَّنْبِ غَفَرَهُ اللَّهُ لَهُ شِرْكًا كَانَ أَوْ غَيْرَ شِرْكٍ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى

أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } فَهَذَا فِي حَقِّ التَّائِبِ . وَأَيْضًا فَالْوَاقِفُ بِعَرَفَاتِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ أَوْكَدُ مِنْ الْحَجِّ بِمَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا . فَإِنَّ الْحَجَّ يَجِبُ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إلَّا حَجَّةً وَاحِدَةً وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَإِنَّهَا فَرْضٌ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ بَالِغٍ - إلَّا الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ - سَوَاءٌ كَانَ صَحِيحًا أَوْ مَرِيضًا آمِنًا أَوْ خَائِفًا غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ رَكْعَةً سَبْعَةَ عَشَرَ فَرِيضَةً وَالسُّنَنُ الرَّوَاتِبُ عَشْرُ رَكَعَاتٍ أَوْ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً وَقِيَامُ اللَّيْلِ أَحَدَ عَشَرَ رَكْعَةً أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَكَذَلِكَ حُقُوقُ الْعِبَادِ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْمَظَالِمِ وَغَيْرِهَا لَا تَسْقُطُ بِالْحَجِّ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى فِي سُقُوطِ الْمَظَالِمِ وَغَيْرِهَا بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ } فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ الْحَجِّ وَلَكِنَّ الْكَبَائِرَ تُكَفِّرُهَا التَّوْبَةُ مِنْهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ .

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي } كَذِبٌ فَإِنَّ جَفَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَامٌ وَزِيَارَةُ قَبْرِهِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ حَدِيثٌ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ بَلْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تُرْوَى - مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي فِي عَامٍ وَاحِدٍ ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ - وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ رَوَى الدارقطني وَغَيْرُهُ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ أَحَادِيثَ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ . وَقَدْ كَرِهَ الْإِمَامُ مَالِكٌ - وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِحُقُوقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالسُّنَّةِ الَّتِي عَلَيْهَا أَهْلُ مَدِينَتِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ - كَرِهَ أَنْ يُقَالَ : زُرْت قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ ثَابِتًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْرُوفًا عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَكْرَهْ مَالِكٌ ذَلِكَ . وَأَمَّا إذَا قَالَ سَلَّمْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَذَا لَا يُكْرَهُ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ } وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتِ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ قَالُوا وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْك وَقَدْ أَرَمْت قَالَ : إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى

الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ } .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } فَهَذَا مِنْ بَابِ الْبَيْتِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ } { الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ } فَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا خَارِجَ الْحَرَمِ فَإِذَا دَخَلُوا الْحَرَمَ أَوْ لَقِيَ الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ لَمْ يَهْجُهُ وَكَانَ هَذَا مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ فِيهِ كَمَا قَالَ : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } وَالْإِسْلَامُ زَادَ حُرْمَتَهُ . فَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَنْ أَصَابَ حَدًّا خَارِجَ الْحَرَمِ ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ . وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرًا وَأَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدِ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدِ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ قَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ } .

وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ مَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ كَانَ آمِنًا مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ مَعَ تَرْكِ الْفَرَائِضِ مِنْ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَمَعَ ارْتِكَابِ الْمَحَارِمِ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ دَخَلَ الْبَيْتَ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْفَاسِقِينَ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ : { مَنْ عَلَّمَك آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَكَأَنَّمَا مَلَكَ رِقَّك إنْ شَاءَ بَاعَك وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَك } فَهَلْ هَذَا فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ أَوْ هُوَ كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لَا فِي السِّتَّةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا ؛ بَلْ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ مَنْ عَلَّمَ غَيْرَهُ لَا يَصِيرُ بِهِ مَالِكًا إنْ شَاءَ بَاعَهُ وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَهُ وَمَنْ اعْتَقَدَ هَذَا فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَالْحُرُّ الْمُسْلِمُ لَا يُسْتَرَقُّ وَسَيِّدُ مُعَلِّمِ النَّاسِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَهُوَ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمَعَ هَذَا فَهُمْ أَحْرَارٌ لَمْ يَسْتَرِقَّهُمْ وَلَمْ يَسْتَعْبِدْهُمْ بَلْ كَانَ حُكْمُهُ فِي أُمَّتِهِ الْأَحْرَارِ خِلَافَ حُكْمِهِ فِيمَا مَلَكَتْهُ يَمِينُهُ وَلَوْ كَانَ الْمُؤْمِنَاتُ مِلْكًا لَهُ لَجَازَ أَنْ يَطَأَ كُلَّ مُؤْمِنَةٍ بِلَا عَقْدِ نِكَاحٍ وَلَكَانَ لِمَنْ عَلَّمَ امْرَأَةً آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ أَنْ يَطَأَهَا بِلَا نِكَاحٍ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ .

سُئِلَ :
عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ انْتَهَرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا وَأَمَّنَهُ يَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ } ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا قَوْلُهُ : { مَنْ انْتَهَرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا } وَقَوْلُهُ : { مَنْ وَقَّرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ أَعَانَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ } وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا الْكَلَامُ مَعْرُوفٌ عَنْ الْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ . وَالْبِدْعَةُ : مَا خَالَفَتْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَوْ إجْمَاعَ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ . كَأَقْوَالِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة وَكَاَلَّذِينَ يَتَعَبَّدُونَ بِالرَّقْصِ وَالْغِنَاءِ فِي الْمَسَاجِدِ وَاَلَّذِينَ يَتَعَبَّدُونَ بِحَلْقِ اللِّحَى وَأَكْلِ الْحَشِيشَةِ وَأَنْوَاعِ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي يَتَعَبَّدُ بِهَا طَوَائِفُ مِنْ الْمُخَالِفِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُئِلَ :
عَمَّنْ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ : لَوْ كُنْت فَعَلْت كَذَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْك شَيْءٌ مِنْ هَذَا . فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ آخَرُ سَمِعَهُ : هَذِهِ الْكَلِمَةُ قَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا وَهِيَ كَلِمَةٌ تُؤَدِّي قَائِلَهَا إلَى الْكُفْرِ فَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخَضَرِ : { يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى وَدِدْنَا لَوْ كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا } وَاسْتَدَلَّ الْآخَرُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ } - إلَى أَنْ قَالَ : - { فَإِنَّ كَلِمَةَ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ } فَهَلْ هَذَا نَاسِخٌ لِهَذَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، جَمِيعُ مَا قَالَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَقٌّ و " لَوْ " تُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا عَلَى وَجْهِ الْحُزْنِ عَلَى الْمَاضِي وَالْجَزَعِ مِنْ الْمَقْدُورِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا

كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ : لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ : قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ } أَيْ : تَفْتَحُ عَلَيْك الْحُزْنَ وَالْجَزَعَ وَذَلِكَ بِضُرِّ وَلَا يَنْفَعُ بَلْ اعْلَمْ أَنَّ مَا أَصَابَك لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَك وَمَا أَخْطَأَك لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَك كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } قَالُوا : هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ . ( وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ : " لَوْ " لِبَيَانِ عِلْمٍ نَافِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } وَلِبَيَانِ مَحَبَّةِ الْخَيْرِ وَإِرَادَتِهِ كَقَوْلِهِ : " لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانِ لَعَمِلْت مِثْلَ مَا يَعْمَلُ " وَنَحْوُهُ جَائِزٌ . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَدِدْت لَوْ أَنَّ مُوسَى صَبَرَ لِيَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا } هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ كَقَوْلِهِ : { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } فَإِنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ أَنْ يَقُصَّ اللَّهُ خَبَرَهُمَا فَذَكَرَهُمَا لِبَيَانِ مَحَبَّتِهِ لِلصَّبْرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ فَعَرَّفَهُ مَا يَكُونُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ جَزَعٌ وَلَا حُزْنٌ وَلَا تَرْكٌ لِمَا

يُحِبُّ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورِ . وَقَوْلُهُ : { وَدِدْت لَوْ أَنَّ مُوسَى صَبَرَ } قَالَ النُّحَاةُ : تَقْدِيرُ وَدِدْت أَنَّ مُوسَى صَبَرَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } تَقْدِيرُهُ وَدُّوا أَنْ تُدْهِنَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ هِيَ " لَوْ " شَرْطِيَّةٌ وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ وَالْمَعْنَى عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ : مَعْلُومٌ وَهُوَ مَحَبَّةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَإِرَادَتُهُ وَمَحَبَّةُ الْخَيْرِ وَإِرَادَتُهُ مَحْمُودٌ وَالْحُزْنُ وَالْجَزَعُ وَتَرْكُ الصَّبْرِ مَذْمُومٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ قِصَّةِ إبْلِيسَ وَإِخْبَارِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَسُؤَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ عَنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إلَى صُورَتِهِ عِيَانًا وَيَسْمَعُونَ كَلَامَهُ جَهْرًا فَهَلْ ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَمْ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ ؟ وَهَلْ جَاءَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ الصِّحَاحِ وَالْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَحِلُّ لِأَحَدِ أَنْ يَرْوِيَ ذَلِكَ ؟ وَمَاذَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يَرْوِي ذَلِكَ وَيُحَدِّثُهُ لِلنَّاسِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ صَحِيحٌ شَرْعِيٌّ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ هَذَا حَدِيثٌ مَكْذُوبٌ مُخْتَلَقٌ لَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الْمُعْتَمَدَةِ لَا الصِّحَاحِ وَلَا السُّنَنِ وَلَا الْمَسَانِيدِ . وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْهُ وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ صَحِيحٌ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ بِحَالِهِ فَإِنْ أَصَرَّ عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ فِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ قَدْ جُمِعَ مِنْ أَحَادِيثَ نَبَوِيَّةٍ فَاَلَّذِي كَذَبَهُ وَاخْتَلَقَهُ جَمَعَهُ مِنْ أَحَادِيثَ بَعْضُهَا كَذِبٌ وَبَعْضُهَا صِدْقٌ فَلِهَذَا يُوجَدُ فِيهِ كَلِمَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ صَحِيحَةٌ ؛ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَجِيءُ إبْلِيسَ عِيَانًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَضْرَةِ أَصْحَابِهِ وَسُؤَالُهُ لَهُ كَذِبًا مُخْتَلَقًا لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
إنَّ كِتَابَ " تَنَقُّلَاتِ الْأَنْوَارِ " الْمَنْسُوبُ إلَى " أَحْمَد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكْرِيِّ " مِنْ أَعْظَمِ الْكُتُبِ كَذِبًا وَافْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ افْتَرَى فِيهِ مِنْ الْأُمُورِ مِنْ جِنْسِ مَا افْتَرَاهُ الْمُفْتَرُونَ فِي سِيرَةِ دلهمة وَالْبَطَّالِ وَسِيرَةِ عَنْتَرَةَ وَحِكَايَاتِ الرَّشِيدِ وَوَزِيرِهِ جَعْفَرٍ الْبَرْمَكِيِّ ؛ وَحِكَايَاتِ الْعَيَّارِينَ : مِثْلَ الزِّئْبَقِ الْمِصْرِيِّ . وَأَحْمَد الدنق ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ . لَكِنْ هَؤُلَاءِ يَفْتَرُونَ الْكَذِبَ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ؛ وَصَاحِبُ الْكِتَابِ الَّذِي سَمَّاهُ " تَنَقُّلَاتِ الْأَنْوَارِ " يَفْتَرِي الْكَذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَصْحَابِهِ وَيَكْذِبُ عَلَيْهِ كَذِبًا لَا يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا كَذَبَ مِثْلَهُ فِي كِتَابٍ وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ مَا يَذْكُرُهُ صِدْقٌ قَلِيلٌ جِدًّا فَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا فِي سِيرَةِ عَنْتَرَةَ وَالْبَطَّالِ فَإِنَّ عَنْتَرَةَ كَانَ شَاعِرًا فَارِسًا مِنْ فُرْسَانِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَهُ شِعْرٌ مَعْرُوفٌ وَقَصِيدَتُهُ إحْدَى السَّبْعِ الْمُعَلَّقَاتِ لَكِنْ افْتَرَوْا عَلَيْهِ مِنْ الْكَذِبِ مَا لَا يُحْصِيه إلَّا اللَّهُ وَكُلُّ مَنْ جَاءَ زَادَ مَا فِيهَا مِنْ الْأَكَاذِيبِ .

وَكَذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَطَّالُ كَانَ مِنْ أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمَعْرُوفِينَ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ غَزَوْا القسطنطينية غَزْوَتَيْنِ : الْأُولَى فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ أَمَرَ فِيهَا ابْنَهُ يَزِيدَ وَغَزَا مَعَهُ أَبُو أَيُّوبٍ الْأَنْصَارِيُّ الَّذِي نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَارِهِ لَمَّا قَدِمَ مُهَاجِرًا إلَى الْمَدِينَةِ وَمَاتَ أَبُو أَيُّوبٍ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَدُفِنَ إلَى جَانِبِ القسطنطينية وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَوَّلُ جَيْشٍ يَغْزُو القسطنطينية مَغْفُورٌ لَهُ } . وَالْغَزْوَةُ الثَّانِيَةُ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَمَرَ ابْنَهُ مسلمة أَوْ خَلَّفَ الْوَلِيدَ ابْنَهُ وَأَرْسَلَ مَعَهُ جَيْشًا عَظِيمًا وَحَاصَرُوهَا وَأَقَامُوا عَلَيْهَا مُدَّةَ سِنِينَ ثُمَّ صَالَحُوهُمْ عَلَى أَنْ يَدْخُلُوهَا وَبَنَوْا فِيهَا مَسْجِدًا وَذَلِكَ الْمَسْجِدُ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ فَجَاءَ الْكَذَّابُونَ فَزَادُوا فِي سِيرَةِ الْبَطَّالِ وَعَبْدِ الْوَهَّابِ مِنْ الْأَكَاذِيبِ مَا لَا يُحْصِيه إلَّا اللَّهُ وَذَكَرَ دلهمة وَالْقَاضِيَ عَقِبَهُ وَأَشْيَاءَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا . وَالْبَكْرِيُّ صَاحِبُ " تَنَقُّلَاتِ الْأَنْوَارِ " سَلَكَ مَسْلَكَ هَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ الْكَذَّابِينَ لَكِنْ كَذِبُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَصْحَابِهِ أَفْضَلِ الْخَلْقِ بَعْدَ النَّبِيِّينَ أَكْثَرُ وَفِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَكَاذِيبِ الْمُفْتَرِيَاتِ وَغَرَائِبِ الْمَوْضُوعَاتِ : مَا يَجِلُّ عَنْ الْوَصْفِ مِثْلَ حَدِيثِ السَّبْعِ حُصُونٍ

وَهَضَّامِ بْنِ جِحَافٍ وَمِثْلَ حَدِيثِ الدَّهْرِ وَرَأْسِ الْغُولِ وكلندجة وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ أَمَاكِنَ لَا وُجُودَ لَهَا وَغَزَوَاتٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا وَأَسْمَاءٍ وَمُسَمَّيَاتٍ لَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَرِوَايَةِ أَحَادِيثَ تُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ وَتُخَالِفُ مَا تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِيهَا مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْمُضَافَةِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مَا بَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْهُ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ أَحَادِيثِ الزَّنَادِقَةِ الْنُصَيْرِيَّة وَأَشْبَاهِهِمْ الَّذِينَ يَخْتَلِقُونَ مَا فِيهِ غُلُوٌّ فِي عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ وَفِيهِ مِنْ الْقَدْحِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ وَالْإِفْسَادِ لَهُ مَا يُوجِبُ إبَاحَةَ دَمِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَأَقَلُّ مَا يُفْعَلُ بِمَنْ يَرْوِي مِثْلَ هَذَا أَنْ يُعَاقَبَ عُقُوبَةً تَرْدَعُهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ مَنْ يُكْرِيهَا لِمَنْ يَقْرَؤُهَا وَيُصَدِّقُ مَا فِيهَا وَمَنْ يَنْسَخُهَا أَيْضًا كَذَلِكَ . وَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ إظْهَارُ مَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَذِبِ هَذِهِ وَأَمْثَالِهَا فَكَمَا يَجِبُ بَيَانُ كَذِبِ مَا نُقِلَ عَنْهُ فِي الْأَحَادِيثِ كَأَحَادِيثِ الْبُخَارِيِّ : يَجِبُ بَيَانُ كَذِبِ مَا كَذَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ الَّتِي يَعْلَمُ أَنَّهَا كَذِبٌ كَمَا بَيَّنَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ حَالِ مَنْ كَانَ يَكْذِبُ عَلَيْهِ مِنْ الرُّوَاةِ

وَبَيَانِ مَا نُقِلَ عَنْهُ مِنْ الْكَذِبِ الَّذِي يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَذِبٌ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَوْضُوعَاتِ إنَّمَا يَعْلَمُ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ خَوَاصُّ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَحَادِيثِ وَأَمَّا مِثْلُ مَا فِي " تَنَقُّلَاتِ الْأَنْوَارِ " مِنْ الْأَحَادِيثِ فَهُوَ مِمَّا يَعْلَمُهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى عِلْمٍ بِأَحْوَالِ الرَّسُولِ وَمَغَازِيهِ أَنَّهُ كَذِبٌ . وَعَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ عُقُوبَةُ مَنْ يَرْوِي هَذِهِ أَوْ يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِنَوْعِ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعَانَةِ وَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُحْرِقَهَا فَقَدْ حَرَقَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُتُبًا هَذِهِ أَوْلَى بِالتَّحْرِيقِ مِنْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

مَا تَقُولُهُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ :
فِي أُنَاسٍ قَصَّاصِينَ ؟ يَنْقُلُونَ مَغَازِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - تَحْتَ الْقَلْعَةِ وَفِي الْجَوَامِعِ وَالْأَسْوَاقِ وَيَقُولُونَ : إنَّ النَّبِيَّ أَتَى إلَيْهِ مَلَكٌ يُقَالُ لَهُ : حَبِيبٌ فَقَالَ لَهُ : إنْ كُنْت رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّا نُرِيدُ أَنَّ الْقَمَرَ لَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ يَعُودُ وَيَنْزِلُ مِنْ طَوْقِك وَيَطْلُعُ مِنْ أَكْمَامِك فَأَرَاهُمْ ذَلِكَ فَآمَنُوا بِهِ جَمِيعُهُمْ وَقَالَ : كَانُوا الرَّبَّ . وَيَقُولُونَ : إنَّهُ أَتَى إلَيْهِ مَلِكٌ يُقَالُ لَهُ : بَشِيرُ بْنُ غَنَّامٍ عَمِلَ عَلَيْهِ حِيلَةً وَأَخَذَ مِنْهُ تِسْعَ أَنْفُسٍ عَلَّقَهُمْ عَلَى النَّخْلِ فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا فَخَلَّصَهُمْ وَكَانَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ خَالِدٌ . وَأَتَى إلَيْهِ مَلِكٌ وَهُوَ فِي مَكَّةَ يُقَالُ لَهُ : الْمَلِكُ الدِّحَاقُ وَكَانَتْ لَهُ بِنْتٌ اسْمُهَا حمانة فَكَسَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَوْجُ بِنْتِهِ لِبِلَالِ فَقَتَلَهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَحَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرْدَتَهُ فَأَحْيَاهُ اللَّهُ لَهُ .

وَأَنَّهُ بُعِثَ الْمِقْدَادُ إلَى مَلِكٍ يُقَالُ لَهُ : الْمَلِكُ الْخَطَّارُ فَالْتَقَى فِي طَرِيقِهِ مَلِكَةً يُقَالُ لَهَا : رَوْضَةَ فَتَزَوَّجَ بِهَا وَرَاحَ إلَى الْمَلِكِ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْهِ فَاقْتَتَلَ هُوَ وَإِيَّاهُ فَأَسَرَهُ وَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَاتَلَ فِي غُزَاةِ تَبُوكَ بولص بْنُ عَبْدِ الصَّلِيبِ وَأَنَّهُ قَاتَلَ فِي الْأَحْزَابِ وَكَانُوا أُلُوفًا وَانْكَسَرَتْ الْأَحْزَابُ قُدَّامَ عَلِيٍّ سَبْعَ عَشْرَةَ فِرْقَةً وَخَلْفَ كُلِّ وَاحِدَةٍ رَجُلٌ يَضْرِبُ بِالسَّيْفِ وَيَقُولُ : أَنَا عَلِيٌّ - وَلِيُّهُ - ضَرَبَ عَمْرَو بْنَ الْعَامِرِيِّ فَقَطَعَ فَخْذَهُ فَأَخَذَ عَمْرٌو فَخِذَهُ وَضَرَبَ بِهَا فِي الْمُسْلِمِينَ فَقَلَعَ شَجَرَةً وَقَتَلَ بِهَا جَمَاعَةً مِنْهُمْ وَالْمَلَائِكَةُ ضَجَّتْ عِنْدَ ذَلِكَ وَقَالُوا : لَا سَيْفَ إلَّا ذُو الْفَقَارِ وَلَا فَتَى إلَّا عَلِيٌّ . وَأَنَّ عَلِيًّا قَاتَلَ الْجِنَّ فِي الْبِئْرِ وَرَمَاهُ بِالْمَنْجَنِيقِ إلَى حِصْنِ الْغُرَابِ وَجَاءَتْ رَمْيَتُهُ نَاقِصَةً فَمَشَى فِي الْهَوَاءِ وَأَنَّهُ ضَرَبَ مَرْحَبًا الْيَهُودِيَّ وَكَانَ عَلَى رَأْسِهِ جُرْنٌ رُخَامٌ فَقُسِمَ لَهُ وَلِلْفَرَسِ نِصْفَيْنِ وَأَنَّهُ عَبَرَ الْعَسْكَرُ عَلَى زَنْدِهِ إلَى خَيْبَرَ وَهَدَّ الْحِصْنَ وَأَنَّ ذُو الْفَقَارِ أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ سَمَّاهُ مِنْ السَّمَاءِ وَقَالَ : عَلِيٌّ أَسْبَقُ مِنْ الْعَجَلِ وَأَنَّهُ بُعِثَ مَعَ كُلِّ نَبِيٍّ سِرًّا وَبُعِثَ مَعَ النَّبِيِّ جَهْرًا وَأَنَّهُ كَانَ عَصَا مُوسَى وَسَفِينَةَ نُوحٍ وَخَاتَمَ سُلَيْمَانَ وَأَنَّهُ شَرِبَ مِنْ سُرَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَاتَ فَوَزَنَ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ والآخرين . وَأَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زِيِّ أَعْرَابِيٍّ

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ : قَابِضٌ أَمْ زَائِرٌ ؟ فَقَالَ لَهُ : مَا زُرْت أَحَدًا مِنْ قَبْلِك حَتَّى أَزُورَك فَأَعْطَاهُ تُفَّاحَةً فَشَمَّهَا فَخَرَجَتْ رُوحُهُ فِيهَا وَأَنَّ فَاطِمَةَ بَكَتْ عَلَيْهِ حَتَّى أَقْلَقَتْ أَهْلَ الْمَدِينَةِ حَتَّى أَخْرَجُوهَا إلَى بُيُوتِ الْأَحْزَانِ وَيَنْقُلُونَ قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ جِنْسِ هَذَا السُّؤَالِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِآيَاتِ لَمْ تُسْمَعْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ تَحَزَّبُوا فِيهَا لَيْلَةً . وَكَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَدْ مَنَعَهُمْ مِنْ هَذَا النَّقْلِ وَأَنَّهُمْ لَا يَنْقُلُونَ إلَّا مَنْ كَتَبَ عَلَيْهَا سَمَّاعَاتِ الْمَشَايِخِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَاعْتَمَدُوا عَلَى كُتُبٍ فِيهَا مِنْ جِنْسِ مَا ذُكِرَ مِنْ تَصْنِيفِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ : الْبَكْرِيُّ فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ ؟ لِأَنَّهُمْ يَنْقُلُونَ مَا يُخَالِفُ مَا ثَبَتَ عَنْ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَيَنْقُلُونَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ مَا هُوَ تَنْقِيصٌ بِهِمْ وَهَلْ يُثَابُ مَنْ أَمَرَ بِمَنْعِهِمْ . وَيَنْقُلُونَ أَيْضًا : أَنَّ اللَّهَ قَبَضَ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ قَبْضَةً وَنَظَرَ إلَيْهَا فَعَرِقَتْ وَدَلَقَتْ فَخَلَقَ اللَّهُ مِنْ كُلِّ قَطْرَةٍ نَبِيًّا وَكَانَتْ الْقَبْضَةُ النَّبِيَّ وَبَقِيَ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ وَكَانَ نُورًا مَنْقُولًا مِنْ أَصْلَابِ الرِّجَالِ إلَى بُطُونِ النِّسَاءِ .
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قُدْوَةُ الْإِيمَانِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي فَقَالَ :

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذِهِ الْأَحَادِيثُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُفْتَرَاةِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ مِثْلِ " تَنَقُّلَاتِ الْأَنْوَارِ " لِلْبَكْرِيِّ وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ رَوَى الْأَكَاذِيبَ الْكَثِيرَةَ . أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّ الْقَمَرَ لَمْ يَدْخُلْ فِي طَوْقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَا ثِيَابِهِ وَلَا بَاشَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ انْشَقَّ فِرْقَتَيْنِ : فِرْقَةً دُونَ الْجَبَلِ وَفِرْقَةً فَوْقَ الْجَبَلِ . وَكَذَلِكَ حَبِيبُ أَبِي مَالِكٍ لَا وُجُودَ لَهُ وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ عَنْ بَشِيرِ بْنِ غَنَّامٍ أَيْضًا كَذِبٌ وَهَذَا الِاسْمُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ . وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ لَمْ يُؤْسَرْ أَصْلًا بَلْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَمَا زَالَ مَنْصُورًا فِي حُرُوبِهِ . وَكَذَلِكَ مَا ذُكِرَ عَنْ الْمُسَمَّى بِالْمَلِكِ الدِّحَاقِ كَذِبٌ وَهَذَا الِاسْمُ لَا وُجُودَ لَهُ فِيمَنْ حَارَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاشَ وَلَكِنْ الَّذِينَ عَاشُوا بَعْدَ الْمَوْتِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَانَ بَيْنَهُمْ طَائِفَةٌ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَمَّا مَنْ أَحْيَا اللَّهَ لَهُ دَابَّتَهُ بَعْدَ الْمَوْتَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَهَؤُلَاءِ بَعْضُهُمْ كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَكَذَلِكَ مَا ذُكِرَ عَنْ الْمَلِكِ الْمُسَمَّى بِالْخِطَارِ هُوَ مِنْ الْأَكَاذِيبِ وَلَا وُجُودَ لَهُ . وَأَمَّا غُزَاةُ تَبُوكَ فَلَمْ يَكُنْ بِهَا قِتَالٌ ؛ بَلْ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّامِ رُومِهِمْ وَعَرَبِهِمْ وَغَيْرِهِمْ وَلَمْ يَجْتَمِعْ الْمُسْلِمُونَ فِي غُزَاةٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِمَّا اجْتَمَعَ مَعَهُ عَامَ تَبُوكَ وَهِيَ آخِرُ الْمُغَازِي وَأَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا فَلَمْ تَقْدَمْ عَلَيْهِ النَّصَارَى . وَكَذَلِكَ الْأَحْزَابُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا اقْتِتَالٌ بَيْنَ الْجَيْشَيْنِ بَلْ كَانَ الْأَحْزَابُ مُحَاصِرِينَ لِلْمُسْلِمِينَ خَارِجَ الْخَنْدَقِ الَّذِي حَفَرَهُ الْمُسْلِمُونَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ دَاخِلَ الْخَنْدَقِ وَكَانَ فِيهَا مُنَاوَشَةٌ قَلِيلَةٌ بَيْنَ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَبَعْضِ الْكُفَّارِ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَارَزَةِ أَوْ مَا يُشْبِهُهَا وَقَتَلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ الْعَامِرِيَّ وَلَمْ تَنْكَسِرْ الْأَحْزَابُ بِقِتَالِ وَلَا قُتِلَ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَدَدٌ لَهُ قَدْرٌ بَلْ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الرِّيحَ - رِيحَ الصِّبَا - وَأَرْسَلَ الْمَلَائِكَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْأَحْزَابِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا } الْآيَاتِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ كَيْفِيَّةِ قَتْلِ عَمْرٍو فِي عَبْدِ وُدٍّ الْعَامِرِيِّ فَهُوَ كَذِبٌ وَكَذَلِكَ ضَرْبُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ وُدٍّ الشَّجَرَةَ بِفَخْذِهِ وَقَلْعِهَا كَذِبٌ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَجَرٌ وَإِنَّمَا النَّخِيلُ كَانَ بَعِيدًا مِنْ الْعَسْكَرِ . وَكَذَلِكَ مَا ذُكِرَ مِنْ مُنَادَاةِ الْمُنَادِي بِقَوْلِهِ : " لَا سَيْفَ إلَّا ذُو

الْفَقَارِ وَلَا فَتَى إلَّا عَلِيٌّ " كَذِبٌ مُفْتَرًى . وَكَذَلِكَ مَنْ نَقَلَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أَوْ غَيْرَهُ وَذُو الْفَقَارِ لَمْ يَكُنْ سَيْفًا لِعَلِيِّ وَلَكِنْ كَانَ سَيْفًا لِأَبِي جَهْلٍ غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ سَيْفًا مِنْ السُّيُوفِ الْمَعْدِنِيَّةِ وَلَمْ يَنْزِلْ مِنْ السَّمَاءِ سَيْفٌ وَلَمْ يَكُنْ سَيْفٌ يَطُولُ لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ . وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ قِتَالِ الْجِنِّ وَأَنَّ عَلِيًّا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْإِنْسِ قَاتَلَهُمْ فِي بِئْرِ ذَاتِ العلم أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْإِنْسِ فَهَذَا كُلُّهُ كَذِبٌ وَالْجِنُّ لَمْ تَكُنْ لِتُقَاتِلَ الصَّحَابَةَ أَصْلًا وَلَكِنَّ الْجِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُقَاتِلُونَ الْجِنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمَّا عَلِيٌّ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَهُمْ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يَثْبُتَ الْجِنُّ لِقِتَالِهِمْ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ : مَا رَآك الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا إلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّك } . وَمَا ذُكِرَ مِنْ رَمْيِ عَلِيٍّ فِي الْمَنْجَنِيقِ وَمُحَاصَرَةِ الْمُسَمَّى بِحِصْنِ الْغُرَابِ : كُلُّهُ كَذِبٌ مُفْتَرًى وَلَمْ يَرْمِ الْمُسْلِمُونَ قَطُّ أَحَدًا فِي مَنْجَنِيقٍ إلَى الْكُفَّارِ لَا عَلِيًّا وَلَا غَيْرَهُ بَلْ وَلَمْ يَنْصِبْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْجَنِيقًا إلَّا عَلَى الطَّائِفِ لَمَّا حَاصَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَقْعَةِ حنين وَهَزِيمَةِ هَوَازِنَ حَاصَرَ الطَّائِفَ وَنَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ وَأَقَامَ عَلَيْهَا شَهْرًا وَلَمْ تُفْتَحْ حَتَّى أَسْلَمَ أَهْلُ الطَّائِفِ بَعْدَ ذَلِكَ طَوْعًا وَلَمَّا كَانَ

الْمُسْلِمُونَ يُقَاتِلُونَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ وَأَصْحَابَهُ أَلْجَئُوهُمْ إلَى حَدِيقَتِهِمْ فَحَمَلَ النَّاسُ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ حَتَّى أَلْقَوْهُ إلَيْهِمْ دَاخِلَ السُّورِ فَفَتَحَ لَهُمْ الْبَابَ . وَأَمَّا قِصَّةُ مَرْحَبٍ فَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ : أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَلَ مَرْحَبًا وَرُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مسلمة قَتَلَ مَرْحَبًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ غَلَطٌ . وَأَمَّا كَوْنُ الْبَيْضَةِ الَّتِي عَلَى رَأْسِهِ كَانَتْ جُرْنَ رُخَامٍ فَكَذِبٌ وَكَذَلِكَ كَوْنُ الضَّرْبَةِ قَسَمَتْ الْفَارِسَ وَفَرَسَهُ وَنَزَلَتْ إلَى الْأَرْضِ ؛ فَهَذَا كُلُّهُ كَذِبٌ ؛ وَلَمْ يَنْقُلْ مِثْلَ هَذَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْمَغَازِي وَالسِّيَرِ وَإِنَّمَا يَنْقُلُهُ الْجُهَّالُ وَالْكَذَّابُونَ . وَأَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ عُبُورُ الْعَسْكَرِ عَلَى سَاعِدِ عَلِيٍّ وَمُرُورُ الْبَغْلَةِ وَدُعَاءُ عَلِيٍّ عَلَيْهَا بِقَطْعِ النَّسْلِ ؛ فَإِنَّ هَذَا وَأَمْثَالَهُ إنَّمَا يَرْوِيه مَنْ هُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِأَحْوَالِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ هُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِأَحْوَالِ الْوُجُودِ ؛ فَإِنَّ الْبَغْلَةَ مَا زَالَتْ عَقِيمًا ؛ وَعَسْكَرُ خَيْبَرَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ بَغْلَةٌ أَصْلًا وَلَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بَغْلَةٌ وَلَا فِي الْمَدِينَةِ بَغْلَةٌ وَلَا حَوْلَهَا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ بَغْلَةٌ إلَّا الْبَغْلَةَ الَّتِي أَهْدَاهَا الْمُقَوْقِسُ صَاحِبُ مِصْرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَهْدَاهَا لَهُ بَعْدَ خَيْبَرَ ؛ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَالَحَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ رَجَعَ مُنْصَرِفًا

فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ خَيْبَرَ ثُمَّ رَجَعَ وَأَرْسَلَ إلَى الْمُلُوكِ رُسُلَهُ فَأَرْسَلَ إلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَالْمُقَوْقِسَ وَمُلُوكِ الْعَرَبِ بِالشَّامِ وَالْيَمَنِ وَالْيَمَامَةِ وَالْمَشْرِقِ وَلَكِنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عَلِيًّا قَلَعَ بَابَ خَيْبَرَ . وَمَا ذُكِرَ مِنْ نُزُولِ ذُو الْفَقَارِ مِنْ السَّمَاءِ كَذِبٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ سَيْفًا مِنْ سُيُوفِ أَبِي جَهْلٍ غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْهُ فَأَمَّا عَلِيٌّ فَقَدْ سَمَّاهُ أَبُوهُ بِهَذَا الِاسْمِ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا بِالنُّبُوَّةِ وَقَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ لِأَحَدِ حُكْمَ الْإِسْلَامِ : لَا مِنْ الرِّجَالِ وَلَا مِنْ الصِّبْيَانِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ كَانَ عَصَى مُوسَى وَسَفِينَةُ نُوحٍ وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ وَهُوَ بِكَلَامِ الْمَجَانِينِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِكَلَامِ الْعُقَلَاءِ وَهَذَا لَا يَقْصِدُ أَحَدٌ مَدْحَ عَلِيٍّ بِهِ إلَّا لِفَرْطِ فِي الْجَهْلِ فَإِنَّ عَلِيًّا هُوَ وَمَنْ دُونَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَشْرَفُ قَدْرًا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْجَمَادَاتِ وَإِنْ كَانَتْ الْعَصَا آيَةً لِمُوسَى فَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ مُعْجِزَةً لِنَبِيِّ أَفْضَلَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ الْمُؤْمِنُونَ أَفْضَلُ مِنْ الطَّيْرِ الَّذِي كَانَ الْمَسِيحُ يُصَوِّرُهُ مِنْ الطِّينِ فَيَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَفْضَلُ مِنْ الْجَرَادِ وَالْقَمْلِ وَالضَّفَادِعِ وَالدَّمِ الَّذِي كَانَ آيَةً لِمُوسَى وَأَفْضَلُ مِنْ الْعَصَا وَالْحَيَّةَ وَأَفْضَلُ مِنْ نَاقَةِ صَالِحٍ . فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ بِهَذَا الْكَذِبِ وَالْجَهْلِ يَمْدَحُ عَلِيًّا كَانَ جَهْلُهُ مِنْ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ مِنْ جِنْسِ جَهْلِهِ بِأَنَّ هَذِهِ الْجَمَادَاتِ لَمْ تَكُنْ آدَمِيِّينَ قَطُّ .

وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : أَنَّهُ شَرِبَ مِنْ سُرَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَرَى عِلْمَ الْأَوَّلِينَ والآخرين فَهُوَ أَيْضًا مِنْ الْأَكَاذِيبِ فَإِنَّ الْعِلْمَ الَّذِي تَعَلَّمَ عَلِيٌّ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ مَوْتِهِ وَمَا رَزَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْفَهْمِ وَالسَّمَاعِ وَزِيَادَةِ الْعِلْمِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ شُرْبَ مَاءِ السُّرَّةِ وَلَا شُرْبَ أَحَدٍ عَلَى نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِ نَبِيٍّ فَحَصَلَ لَهُ بِذَلِكَ عِلْمٌ أَصْلًا وَلَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ لَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَلَا عُثْمَانُ وَلَا عَلِيٌّ وَلَا غَيْرُهُمْ يَعْلَمُ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ والآخرين . وَقَدْ ثَبَتَ لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ الْفَضَائِلِ الثَّابِتَةِ فِي الصِّحَاحِ مَا أَغْنَى اللَّهُ بِهَا عَنْ أَكَاذِيبِ الْمُفْتَرِينَ مِثْلَ قَوْلِهِ الَّذِي صَحَّ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ : { لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا } وَقَوْلِهِ : { لَا يَبْقَيْنَ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إلَّا سُدَّتْ إلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ آمَنَ النَّاسِ عَلَيْنَا فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ أَبُو بَكْرٍ } وَقَوْلِهِ : { أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي أَتَيْت إلَيْكُمْ فَقُلْت : إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ : كَذَبْت وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : صَدَقْت فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي ؟ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي ؟ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي } وَقَوْلِهِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ : { مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ } مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَمِثْلَ { قَوْلِهِ لِعَائِشَةَ : اُدْعِي لِي أَبَاك وَأَخَاك حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا لِأَبِي بَكْرٍ لَا يَخْتَلِفُ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي ثُمَّ قَالَ : يَأْبَى اللَّهُ

وَالْمُؤْمِنُونَ إلَّا أَبَا بَكْرٍ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَمِثْلَ قَوْلِهِ : { إنَّهُ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ ؛ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمُرُ } { وَقَوْلِهِ لِعُمَرِ : مَا رَآك الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا إلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرِ فَجِّك } وَقَوْلِهِ : { رَأَيْت كَأَنِّي أُتِيت بِإِنَاءِ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبْت ثُمَّ نَاوَلْت فَضْلِي عُمَرَ قَالُوا : فَمَا أَوَّلْته ؟ قَالَ : الْعِلْمُ } وَقَوْلِهِ : { رَأَيْت كَأَنَّ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قمص مِنْهَا مَا بَلَغَ الثَّدْيَ وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ دُونَ ذَلِكَ وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ قَالُوا : فَمَا أَوَّلْته ؟ قَالَ : الدِّينُ } وَقَوْلُهُ : { رَأَيْت كَأَنِّي عَلَى قَلِيبٍ أَنْتَزِعُ مِنْهَا فَأَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ فَاسْتَحَالَتْ غَرْبًا فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرِيَّهُ حَتَّى صَدَرَ النَّاسُ بِعَطَنِ } . وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِثْلَ { قَوْلِهِ عَنْ عُثْمَانَ : أَلَا أَسْتَحِي مِمَّنْ تَسْتَحْيِي مِنْهُ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ } وَقَوْلِهِ : { مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ وَلَهُ الْجَنَّةُ فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ } { وَقَوْلِهِ فِي عُثْمَانَ لَمَّا جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ : مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ الْيَوْمِ } { وَقَوْلِهِ يَوْمَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ لَمَّا بَايَعَ الْمُسْلِمِينَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ : هَذِهِ يَدِي عَنْ يَمِينِ عُثْمَانَ } وَكَانَ قَدْ بَعَثَهُ رَسُولًا إلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : كُنَّا نَقُولُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ؛ ثُمَّ عُثْمَانُ . وَأَمْثَالَ ذَلِكَ .

وَمِثْلَ قَوْلِهِ عَامَ خَيْبَرَ : { لَأُعْطِيَن الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ } وَكَانَ عَلِيٌّ غَائِبًا بِالْمَدِينَةِ لِأَنَّهُ كَانَ أَرْمَدَ فَلَحِقَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَصْبَحَ قَدِمَ عَلِيٌّ فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ { وَلَمَّا خَرَجَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِجَمِيعِ النَّاسِ وَلَمْ يَأْذَنْ فِي التَّخَلُّفِ إلَّا لِأَهْلِ الْعُذْرِ وَاسْتَخْلَفَ عَلِيًّا عَلَى الْمَدِينَةِ فَطَعَنَ فِيهِ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ فَلَحِقَهُ عَلِيٌّ وَهُوَ يَبْكِي وَقَالَ : أَتُخَلِّفُنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ؟ فَقَالَ : أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى ؟ غَيْرً أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَأَدَارَ كِسَاءَهُ عَلَى عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَحَسَنٍ وَحُسَيْنٍ فَقَالَ : اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا } { وَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُبَاهِلَ أَهْلَ نَجْرَانَ أَخَذَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا وَخَرَجَ لِيُبَاهِلَ بِهِمْ } { وَلَمَّا تَنَازَعَ عَلِيٌّ وَجَعْفَرٌ وَزَيْدٌ فِي حَضَانَةِ ابْنَةِ حَمْزَةَ قَضَى بِهَا لِخَالَتِهَا وَكَانَتْ تَحْتَ جَعْفَرٍ وَقَالَ لِجَعْفَرِ : أَشْبَهْت خَلْقِي وَخُلُقِي وَقَالَ لِعَلِيِّ : أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْك وَقَالَ لِزَيْدِ : أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا } . وَكَذَلِكَ قَالَ : { إنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إذَا أَرْمَلُوا فِي السَّفَرِ أَوْ قَلَّتْ نَفَقَةُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ مَعَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ قَسَمُوهُ بِالسَّوِيَّةِ هُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ } . وَقَالَ : { إنَّ لِكُلِّ أَمَةٍ أَمِينًا وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ ابْنِ الْجَرَّاحِ } .

وَقَالَ : { إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيِّينَ وَحَوَارِيِّي الزُّبَيْرُ } . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا فِي الصِّحَاحِ فِيهَا غَنِيَّةٌ عَنْ الْكَذِبِ . وَكَذَلِكَ مَا ذُكِرَ مِنْ إتْيَانِ مَلَك الْمَوْتِ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ وَإِعْطَاؤُهُ إيَّاهُ تُفَّاحَةً فَشَمَّهَا هُوَ أَيْضًا مِنْ الْكَذِبِ . بَلْ الْحَدِيثُ الطَّوِيلُ الَّذِي رُوِيَ فِي قِصَّةِ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ طَرَقَ الْبَابَ فَخَرَجَ إلَيْهِ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ وَأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا أَنَّهُ مَلَكُ الْمَوْتِ خَضَعُوا لَهُ ؛ هُوَ أَيْضًا مِنْ الْكَذِبِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ . مَعَ أَنَّهُ قَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِي مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ إدْرِيسَ عَنْ أَبِيهِ مِنْ حَدِيثِ وَهْبِ ابْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ الْمُنْعِمِ هَذَا مَعْرُوفٌ بِالْأَكَاذِيبِ . وَكَذَلِكَ مَا ذُكِرَ مِنْ بُكَاءِ فَاطِمَة عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقْلَقَتْ أَهْل الْمَدِينَة وَأَخْرَجُوهَا إلَى بُيُوتِ الْأَحْزَانِ هَذَا أَيْضًا مِنْ الْأَكَاذِيبِ الْمُفْتَرَاةِ وَمَا يَرْوِي مِثْل هَذَا إلَّا جَاهِل أَوْ مِنْ قَصْدِهِ أَنْ يَسُبَّ فَاطِمَةَ وَالصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَنْقُلُ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي نَزَّهَ اللَّهُ فَاطِمَةَ وَالصَّحَابَةَ عَنْهُ . وَكَذَلِكَ مَا ذُكِرَ مِنْ " أَنَّ اللَّهَ قَبَضَ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ قَبْضَةً وَنَظَرَ إلَيْهَا فَعَرِقَتْ وَدَلَقَتْ فَخَلَقَ مِنْ كُلِّ قَطْرَةٍ نَبِيًّا وَأَنَّ الْقَبْضَةَ كَانَتْ

هِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ بَقِيَ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ " فَهَذَا أَيْضًا كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ . بِحَدِيثِهِ . وَكَذَلِكَ مَا يُشْبِهُ هَذَا مِثْلُ أَحَادِيثَ يَذْكُرُهَا شيرويه الديلمي فِي كِتَابِهِ " الْفِرْدَوْسُ " وَيَذْكُرُهَا ابْنُ حَمَوَيْهِ فِي حَقَائِقِهِ مِثْلَ كِتَابِ " الْمَحْبُوبُ " وَنَحْوَ ذَلِكَ مِثْلَ مَا يَذْكُرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَوْكَبًا أَوْ أَنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ خُلِقَ مِنْهُ أَوْ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ أَبَوَاهُ أَوْ أَنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ بِهِ جِبْرِيلُ ؛ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ فَكُلُّ ذَلِكَ كَذِبٌ مُفْتَرًى بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْم بِسِيرَتِهِ . وَالْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ لَمْ يُخْلَقُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ خُلِقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَبَوَيْهِ وَنَفَخَ اللَّهُ فِيهِ الرُّوحَ وَلَا كَانَ كُلَّمَا يُعَلِّمُ اللَّهُ لِرُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ بِوَحْيِهِ يَأْخُذُونَهُ بِوَاسِطَةِ سِوَى جِبْرِيلَ بَلْ تَارَةً يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَحْيًا يُوحِيه إلَيْهِمْ وَتَارَةً يُكَلِّمُهُمْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ وَتَارَةً يَبْعَثُ مَلِكًا فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ . . وَمِنْ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ يَكُونُ عَلَى شَرِيعَةِ غَيْرِهِ كَمَا كَانَ أَنْبِيَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ . وَأَمَّا كَوْنُهُمْ كُلُّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْ وَاحِدٍ فَهَذَا يَقُولُهُ وَنَحْوَهُ أَهْلُ

الْإِلْحَادِ مِنْ أَهْلِ الْوَحْدَةِ وَالِاتِّحَادِ : كَابْنِ عَرَبِيٍّ صَاحِبِ " الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ " و " الْفُصُوصِ " وَأَمْثَالِهِمَا ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ مَذْهَبُهُ الَّذِي مَضْمُونُهُ أَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ وَأَنَّ الْوُجُودَ الْخَالِقَ هُوَ الْوُجُودُ الْمَخْلُوقُ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ الْأَعْيَانُ الثَّابِتَةُ فِي الْعَدَمِ . قَالَ : وَلَيْسَ هَذَا الْعِلْمُ إلَّا لِخَاتَمِ الرُّسُلِ وَخَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ وَمَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ الرَّسُولِ الْخَاتَمِ وَمَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ الْوَلِيِّ الْخَاتَمِ حَتَّى أَنَّ الرُّسُلَ لَا يَرَوْنَهُ إذَا رَأَوْهُ إلَّا مِنْ مِشْكَاةٍ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنَّ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ أَعْنِي نُبُوَّةَ التَّشْرِيعِ وَرِسَالَتِهِ يَنْقَطِعَانِ وَأَمَّا الْوِلَايَةُ فَلَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا فَالْمُرْسَلُونَ مِنْ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ لَا يَرَوْنَهُ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ . وَسَاقَ الْكَلَامَ إلَى أَنْ ذَكَرَ أَنَّ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ مَوْضِعُ لَبِنَةِ فِضَّةٍ وَأَنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ مَوْضِعُ لِبِنْتَيْنِ : لَبِنَةِ ذَهَبٍ وَلَبِنَةِ فِضَّةٍ فَهُوَ مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ الْفِضِّيَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُهُ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ لِأَنَّهُ يَرَى الْأَمْرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَرَاهُ هَكَذَا وَهُوَ مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ الذَّهَبِيَّةِ فِي الْبَاطِنِ ؛ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمُلْكَ الَّذِي يُوحِي بِهِ إلَى الرُّسُلِ . فَهَذَا الْكَلَامُ وَنَحْوُهُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الضَّلَالِ مِثْلَ دَعْوَاهُ أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ يَسْتَفِيدُونَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ مِنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ ؛ فَإِنَّ هَذَا كَذِبٌ .

وَمَنْ قَالَ : إنَّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرَهُمْ إنَّمَا اسْتَفَادُوا مَعْرِفَةَ اللَّهِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَذَّبَ بَلْ اللَّهُ أَوْحَى إلَيْهِمْ وَعَلَّمَهُمْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حِينَ خُلِقُوا وَالْمُتَقَدِّمُ لَا يَسْتَفِيدُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ . { وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ } وَفِي لَفْظٍ { كُتِبْت نَبِيًّا } كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي عِنْدَ اللَّه لَمَكْتُوبٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ } فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ جَسَدَ آدَمَ وَقَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ كَتَبَ وَأَظْهَرَ مَا سَيَكُونُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فَكَتَبَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ وَأَظْهَرَهَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُبْعَثُ إلَيْهِ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ : اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ ؛ وَعَمَلَهُ ؛ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ } فَقَدْ أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ يَخْلُقَ بَدَنَ الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَقَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ يُكْتَبُ رِزْقُهُ وَأَجَلُهُ وَعَمَلُهُ وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ ؟ فَهَكَذَا كُتِبَ خَبَرُ سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ وَآدَمُ مُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ قَبْل أَنْ يُنْفَخَ الرُّوحُ فِيهِ . وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ : { كُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ } فَهَذَا نَقْلٌ بَاطِلٌ نَقْلًا وَعَقْلًا ؛ فَإِنَّ آدَمَ لَيْسَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ ؛ بَلْ الطِّينُ مَاءٌ وَتُرَابٌ ؛ وَلَكِنْ كَانَ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ . فَهَذَا وَنَحْوُهُ فِيهِ

عِلْمُ اللَّهِ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا وَكِتَابَتِهِ إيَّاهَا وَإِخْبَارِهِ بِهَا وَذَلِكَ غَيْرُ وُجُودِ أَعْيَانِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تُوجَدُ أَعْيَانُهَا حَتَّى تُخْلَقَ وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ ثُبُوتِ الشَّيْءِ فِي الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ وَالْكِتَابِ وَبَيْنَ حَقِيقَتِهِ فِي الْخَارِجِ وَكَذَلِكَ بَيْنَ الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَيْنِيِّ : عَظُمَ جَهْلُهُ وَضَلَالُهُ . وَأَهْلُ الْعِلْمِ قَدْ أَعْظَمُوا النَّكْبَةَ عَلَى مَنْ يَقُولُ : الْمَعْدُومُ شَيْءٌ ثَابِتٌ فِي الْخَارِجِ وَإِنْ كَانَ لِهَؤُلَاءِ شُبْهَةٌ عَقْلِيَّةٌ لِكَوْنِهِمْ ظَنُّوا أَنَّ تَمَيُّزَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ يَقْتَضِي تَمْيِيزَهُ فِي الْخَارِجِ فَإِنَّهُمْ أَخْطَئُوا فِي ذَلِكَ وَالتَّحْقِيقُ الْفَرْقُ بَيْنَ الثُّبُوتِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَيْنِيِّ وَأَمَّا وُجُودُ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ خَلْقِهَا فَهَذَا أَعْظَمُ فِي الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ . وَأَمَّا دَعْوَاهُ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ كُلَّهُمْ حَتَّى الْأَنْبِيَاءُ يَسْتَفِيدُونَ مِنْ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ فَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ وَالشَّرْعِ ؛ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَخِيَارُ الْأَوْلِيَاءِ أَتْبَعُهُمْ لِلْأَنْبِيَاءِ كَمَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَفْضَلُ مَنْ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ . وَكَذَلِكَ دَعْوَاهُ أَنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ يَأْخُذُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ مِنْ حَيْثُ يَأْخُذُهُ النَّبِيُّ ؛ وَيَأْخُذُ الْعِلْمَ الْبَاطِنَ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمُلْكَ مَا يُوحِيه إلَى النَّبِيِّ ؛ فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ النُّبُوَّةَ فَيْضًا يَفِيضُ عَلَى عَقْلِ النَّبِيِّ وَيَقُولُونَ : إنَّ الْمُلْكَ

هُوَ مَا يَتَمَثَّلُ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ مِنْ الْأَشْكَالِ النُّورَانِيَّةِ فَيَقُولُونَ : إنَّ النَّبِيَّ يَأْخُذُ عَنْ تِلْكَ الصُّوَرِ الْخَيَالِيَّةِ وَهِيَ الْمُلْكُ عِنْدَهُمْ فَمَنْ أَخَذَ الْمَعَانِيَ الْعَقْلِيَّةَ عَنْ الْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ كَانَ أَعْظَمَ وَأَكْمَلَ مِمَّنْ يَأْخُذُ عَنْ الْأَمْثِلَةِ الْخَيَالِيَّةِ فَهَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا أَقْوَالَ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ الْمُلْحِدِينَ وَسَلَكُوا مَسْلَكَ الرِّيَاضَةِ فَأَخَذُوا يَتَكَلَّمُونَ بِتِلْكَ الْأُمُورِ الْإِلْحَادِيَّةِ الْفَلْسَفِيَّةِ وَيُخْرِجُونَهَا فِي قَالَبِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُخَاطَبَاتِ . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ " خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ " فَقَدْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ غَلَطًا مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا هُوَ كَذِبٌ وَفِرْيَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ مَعْلُومَةَ الْبُطْلَانِ بِالْعَقْلِ ؛ بَلْ مُتَخَيَّلَةٌ فِي الْعَقْلِ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَرْوِيَهَا وَيُحَدِّثَ بِهَا إلَّا عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ لِكَوْنِهَا كَذِبًا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ رَوَى عَنِّي حَدِيثًا وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ } . وَعَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ أَنْ يَمْنَعُوا مِنْ التَّحَدُّثِ بِهَا فِي كُلِّ مَكَانٍ وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ الَّتِي تَزْجُرُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ الْكَذِبِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ ؛ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ قِيلَ : أَرَأَيْت إنْ لَمْ يَجِدْ ؟ قَالَ : يَعْتَمِلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ قَالَ : أَرَأَيْت إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ؟ قَالَ : يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفِ قَالَ : قِيلَ لَهُ : أَرَأَيْت إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ؟ قَالَ : يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ الْخَيْرِ قَالَ : أَرَأَيْت ؟ إنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ : يُمْسِكُ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ قَالَ : قُلْت : أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا قَالَ : قُلْت : فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ قَالَ : تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرِقَ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ ضَعُفْت عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ ؟ قَالَ : تَكُفُّ شَرَّك عَنْ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْك عَلَى نَفْسِك } . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَوْجَبَ الصَّدَقَةَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَجَعَلَهَا خَمْسَ مَرَاتِبَ عَلَى الْبَدَلِ : الْأُولَى الصَّدَقَةُ بِمَالِهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ اكْتَسَبَ الْمَالَ

فَنَفَعَ وَتَصَدَّقَ . وَفِيهِ دَلِيلُ وُجُوبِ الْكَسْبِ ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَيُعِينُ الْمُحْتَاجَ بِبَدَنِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَيَكُفُّ عَنْ الشَّرِّ . فَالْأُولَيَانِ تَقَعُ بِمَالِ إمَّا بِمَوْجُودِ أَوْ بِمَكْسُوبِ وَالْأُخْرَيَانِ تَقَعُ بِبَدَنِ إمَّا بِيَدِ وَإِمَّا بِلِسَانِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنْ الضُّحَى } فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ جَعَلَ الصَّدَقَةَ الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعَ . وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَرَكْعَتَا الضُّحَى كَافِيَتَانِ . وَفِيهِ عَنْهُ { أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ قَالَ : أو لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصْدُقُونَ ؟ إنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً وَأَمْرٍ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةً وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةً وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةً قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ ؟ قَالَ :

أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ ؟ فَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ } . قُلْت : يُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : صَدَقَةٌ أَيْ : تَقُومُ مَقَامَ الصَّدَقَةِ الَّتِي لِلْأَغْنِيَاءِ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ الثَّانِي مُفَسِّرًا لِلْأَوَّلِ بِخِلَافِ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِلصَّدَقَةِ أَوْ تَكُونُ صَدَقَةُ نَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْمُتَقَدِّمِ تَكُفُّ شَرَّك عَنْ النَّاسِ .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أَحَادِيثَ يَرْوِيهَا الْقُصَّاصُ وَغَيْرُهُمْ بِالطُّرُقِ وَغَيْرِهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ .
فَأَجَابَ عَنْهَا :
مِنْهَا مَا يَرْوُونَ أَنَّهُ قَالَ : { أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي } .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْمَعْنَى صَحِيحٌ لَكِنْ لَا يُعْرَفُ لَهُ إسْنَادٌ ثَابِتٌ .
وَمِمَّا يَرْوُونَهُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْ كَانَ الْمُؤْمِنُ فِي ذُرْوَةِ جَبَلٍ قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُؤْذِيه أَوْ شَيْطَانًا يُؤْذِيه } .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ هَذَا مَعْرُوفًا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِمَّا يَرْوُونَهُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا دَمًا عَبِيطًا كَانَ قُوتُ الْمُؤْمِنِ مِنْهَا حَلَالًا } . فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُعْرَفُ عَنْهُ بِإِسْنَادِ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا بُدَّ أَنْ يُتِيحَ اللَّهُ لَهُ مِنْ الرِّزْقِ مَا يُغْنِيه وَيَمْتَنِعُ فِي الشَّرْعِ أَنْ يَحْرُمَ عَلَى الْمُؤْمِنِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ : فَإِنَّ اللَّهَ

لَمْ يُوجِبْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مَا لَا يَسْتَطِيعُونَهُ وَلَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مَا يَضْطَرُّونَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ مِنْهُمْ . قَالَهُ وَكَتَبَهُ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة .
وَمِمَّا يَرْوُونَهُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللَّهِ : { مَا وَسِعَنِي سَمَائِي وَلَا أَرْضِي وَلَكِنْ وَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ } . فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا مَذْكُورٌ فِي الإسرائيليات لَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ مَعْرُوفٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنَى " وَسِعَنِي قَلْبُهُ " الْإِيمَانُ بِي وَمَحَبَّتِي وَمَعْرِفَتِي وَلَا مَنْ قَالَ : إنَّ ذَاتَ اللَّهِ تَحِلُّ فِي قُلُوبِ النَّاسِ فَهَذَا مِنْ النَّصَارَى خَصُّوا ذَلِكَ بِالْمَسِيحِ وَحْدَهُ .
وَمِمَّا يَرْوُونَهُ عَنْهُ أَيْضًا : { الْقَلْبُ بَيْتُ الرَّبِّ } .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا كَلَامٌ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْقَلْبَ بَيْتُ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِمَّا يَرْوُونَهُ عَنْهُ أَيْضًا : { كُنْت كَنْزًا لَا أَعْرِفُ فَأَحْبَبْت أَنْ أَعْرِفَ فَخُلِقْت خَلْقًا فَعَرَفْتهمْ بِي فَعَرَفُونِي } . فَأَجَابَ : لَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ إسْنَادٌ صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ .
وَمِمَّا يَرْوُونَهُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا تَكَلَّمَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ كُنْت كَالزِّنْجِيِّ بَيْنَهُمَا } الَّذِي لَا يَفْهَمُ .

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا كَذِبٌ ظَاهِرٌ لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَلَمْ يَرْوِهِ إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُلْحِدٌ .
وَمِمَّا يَرْوُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا } .
فَأَجَابَ : هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بَلْ مَوْضُوعٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ لَكِنْ قَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ كَذِبٌ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ اللَّهَ يَعْتَذِرُ لِلْفُقَرَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَقُولُ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا زُوِيَتْ الدُّنْيَا عَنْكُمْ لِهَوَانِكُمْ عَلَيَّ لَكِنْ أَرَدْت أَنْ أَرْفَعَ قَدْرَكُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ انْطَلِقُوا إلَى الْمَوْقِفِ فَمَنْ أَحْسَنَ إلَيْكُمْ بِكِسْرَةِ أَوْ سَقَاكُمْ شَرْبَةً مِنْ الْمَاءِ أَوْ كَسَاكُمْ خِرْقَةً انْطَلِقُوا بِهِ إلَى الْجَنَّةِ } .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا الشَّأْنُ كَذِبٌ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالْإِجْمَاعِ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي الْهِجْرَةِ خَرَجَتْ بَنَاتُ النَّجَّارِ بِالدُّفُوفِ وَهُنَّ يَقُلْنَ : طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا * * * مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ إلَى آخِرِ الشِّعْرِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُزُّوا كَرَابِيلَكُمْ بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ } . فَأَجَابَ : أَمَّا ضَرْبُ النِّسْوَةِ الدُّفَّ فِي الزَّوَاجِ فَقَدْ كَانَ مَعْرُوفًا عَلَى عَهْدِ

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا قَوْلُهُ : { هُزُّوا كَرَابِيلَكُمْ بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ } فَهَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْ وُزِنَ إيمَانُ أَبِي بَكْرٍ بِإِيمَانِ النَّاسِ لَرَجَحَ إيمَانُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى ذَلِكَ } . فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَذَا جَاءَ مَعْنَاهُ فِي حَدِيثٍ مَعْرُوفٍ فِي السُّنَنِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وُزِنَ هَذِهِ الْأُمَّةَ فَرَجَحَ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اللَّهُمَّ إنَّك أَخْرَجَتْنِي مِنْ أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيَّ فَأَسْكِنِّي فِي أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيْك } .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا بَاطِلٌ بَلْ ثَبَتَ فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ لِمَكَّةَ : { وَاَللَّهِ إنَّك لَأَحَبُّ بِلَادِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ وَقَالَ إنَّك لَأَحَبُّ الْبِلَادِ إلَيَّ } فَأَخْبَرَ أَنَّهَا أَحَبُّ الْبِلَادِ إلَى اللَّهِ وَإِلَيْهِ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي إبْرَاهِيمَ فِي عَامٍ وَاحِدٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ } .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا حَدِيثٌ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فُقَرَاؤُكُمْ } .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ مَأْثُورًا لَكِنْ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ وَأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَوْضِعُ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ فَبِهِمْ تَحْصُلُ الْحَسَنَاتُ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ } .

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ : { كَبِّرْ كَبِّرْ } أَيْ : يَتَكَلَّمُ الْأَكْبَرُ وَثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ الْإِمَامَةِ أَنَّهُ قَالَ : { فَإِنْ اسْتَوَوْا - أَيْ فِي الْقِرَاءَةِ وَالسُّنَّةِ وَالْهِجْرَةِ - فَلْيَؤُمَّهُمْ . أَكْبَرُهُمْ سِنًّا } .
وَمِمَّا يَرْوُونَ أَيْضًا : { الشَّيْخُ فِي قَوْمِهِ كَالنَّبِيِّ فِي أُمَّتِهِ } .
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ لَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ أَيْضًا : { لَوْ وُزِنَ خَوْفُ الْمُؤْمِنِ وَرَجَاؤُهُ لَاعْتَدَلَا } .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا مَأْثُورٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ .
وَمِمَّا رَوَوْا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَعْرَابِيًّا صَلَّى وَنَقَرَ صَلَاتَهُ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : لَا تَنْقُرْ صَلَاتَك فَقَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ : لَوْ نَقَرَهَا أَبُوك مَا دَخَلَ النَّارَ .

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا كَذِبٌ وَرَوَوْهُ عَنْ عُمَرَ وَهُوَ كَذِبٌ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ .
فَأَجَابَ : هَذَا كَذِبٌ ؛ فَإِنَّ أَبَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَاتَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ وَكُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ لَا مَاءَ وَلَا طِينَ } . فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَذَا اللَّفْظُ كَذِبٌ بَاطِلٌ وَلَكِنَّ اللَّفْظَ الْمَأْثُورَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ { قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ متى كَنْت نَبِيًّا ؟ قَالَ : وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ } وَفِي السُّنَنِ عَنْ العرباض بْنِ سَارِيَةَ أَنَّهُ قَالَ : { إنِّي عِنْدَ اللَّهِ لَمَكْتُوبٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ } .
وَمِمَّا يَرْوُونَ أَيْضًا : { الْعَازِبُ فِرَاشُهُ مِنْ النَّارِ وَمِسْكِينٌ رَجُلٌ بِلَا امْرَأَةٍ وَمِسْكِينَةٌ امْرَأَةٌ بِلَا رَجُلٍ } . فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَذَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ أَجِدْهُ مَرْوِيًّا وَلَمْ يَثْبُتْ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ { أَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَنَى الْبَيْتَ صَلَّى فِي كُلِّ رُكْنٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ : يَا إبْرَاهِيمُ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا سَدُّ جَوْعَةٍ أَوْ سَتْرُ عَوْرَةٍ } . فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَذَا كَذِبٌ ظَاهِرٌ لَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا ذُكِرَ إبْرَاهِيمُ وَذُكِرْت أَنَا فَصَلُّوا عَلَيْهِ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ وَإِذَا ذُكِرْت أَنَا وَالْأَنْبِيَاءُ غَيْرَهُ فَصَّلُوا عَلَيَّ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيْهِمْ } .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا لَا يُعْرَفُ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْحَدِيثِ .

وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَكَلَ مَعَ مَغْفُورٍ لَهُ غُفِرَ لَهُ } .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا لَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يَرْوُونَهُ عَنْ سَالِمٍ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ صَحِيحًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَقَدْ يَأْكُلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ أَيْضًا : { مَنْ أَشْبَعَ جَوْعَةً أَوْ سَتَرَ عَوْرَةً ضَمِنْت لَهُ الْجَنَّةَ } . فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَذَا اللَّفْظُ لَا يُعْرَفُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ : { لَا تَكْرَهُوا الْفِتَنَ ؛ فَإِنَّ فِيهَا حَصَادَ الْمُنَافِقِينَ } .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا لَيْسَ مَعْرُوفًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ : { سَبُّ أَصْحَابِي ذَنْبٌ لَا يُغْفَرُ } .
فَأَجَابَ رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا كَذِبٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }
وَمِمَّا يَرْوُونَ : { مَنْ عَلَّمَ أَخَاهُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ مَلَكَ رِقَّهُ } . فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَذَا كَذِبٌ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْهُ : { آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ خَيْرٌ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ } .

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَلَا يُشَبَّهُ بِالْمَخْلُوقِينَ وَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ غَيْرُ مَأْثُورٍ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَا مِنْ الْعَرَبِ وَلَيْسَ الْعَرَبُ مِنِّي } .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْهُ أَيْضًا : { اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ } .
فَأَجَابَ :
هَذَا يُرْوَى لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ لَا يَثْبُتُ وَمَعْنَاهُ أَحْيِنِي خَاشِعًا مُتَوَاضِعًا لَكِنْ اللَّفْظُ لَمْ يَثْبُتْ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا سَمِعْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا فَاعْرِضُوهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنْ وَافَقَ فَارْوُوهُ وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ فَلَا } .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا مَرْوِيٌّ وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَا عَلَيَّ اتَّخِذْ لَك نَعْلَيْنِ مِنْ حَدِيدٍ وَأَفْنِهِمَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَلَوْ بِالصِّينِ } .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ هَذَا وَلَا هَذَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَاقُونِي بِنِيَّاتِكُمْ وَلَا تُلَاقُونِي بِأَعْمَالِكُمْ } . فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ هَذَا اللَّفْظُ مَعْرُوفًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَدَّمَ إبْرِيقًا لِمُتَوَضِّئِ فَكَأَنَّمَا قَدَّمَ جَوَادًا مُسَرَّجًا ملجوما يُقَاتِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
فَأَجَابَ :
هَذَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الْمَعْرُوفَةِ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَأْتِي عَلَى أُمَّتِي زَمَانٌ مَا يَسْلَمُ بِدِينِهِ إلَّا مَنْ يَفِرُّ مِنْ شَاهِقٍ إلَى شَاهِقٍ } . فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ مَعْرُوفًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ } .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا كَلَامُ بَعْضِ النَّاسِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { سَتَرُوا مِنْ أَصْحَابِي هُدْنَةً : الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي الْجَنَّةِ } .

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا اللَّفْظُ لَا يُعْرَفُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْهُ : { إذَا وَصَلْتُمْ إلَى مَا شَجَرَ بَيْنَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا وَإِذَا وَصَلْتُمْ إلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ فَأَمْسِكُوا } . فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَذَا مَأْثُورٌ بِإِسْنَادِ مُنْقَطِعٍ وَمَا لَهُ إسْنَادٌ ثَابِتٌ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا كَثُرَتْ الْفِتَنُ فَعَلَيْكُمْ بِأَطْرَافِ الْيَمَنِ } . فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَذَا اللَّفْظُ لَا يُعْرَفُ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ بَاتَ فِي حِرَاسَةِ كَلْبٍ بَاتَ فِي غَضَبِ الرَّبِّ } . فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَذَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أَمَرَ النِّسَاءَ بِالْغَنْجِ لِأَزْوَاجِهِنَّ عِنْدَ الْجِمَاعِ } . فَأَجَابَ : لَيْسَ هَذَا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِمَّا يَرْوُونَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَسَرَ قَلْبًا فَعَلَيْهِ جَبْرُهُ } .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا أَدَبٌ مِنْ الْآدَابِ وَهَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ مَعْرُوفًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْكَلَامِ يَكُونُ صَحِيحًا

لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مِنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَقْدَحْ إذْ هَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ بِمُطْلَقِ فِي كَسْرِ قُلُوبِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ إذْ بِهِ إقَامَةُ الْمِلَّةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَالتَّابِعِينَ .
__________
آخِرُ الْمُجَلَّدِ الثَامِنِ عَشْرَ

الْجُزْءُ الْتَاسِعِ عَشَرَ
كِتَابُ أُصُولِ الْفِقْهِ
الْجُزْءُ الْأَوَّلُ : الْإِتِبَاعُ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَبِإِزَائِهِ لِقَوْمٍ آخَرِينَ الْمَنَامَاتُ وَالْإِسْرَائِيلِيَاتُ وَالْحِكَايَاتُ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي لَا بَاطِلَ فِيهِ هُوَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ وَذَلِكَ فِي حَقِّنَا وَيُعْرَفُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا مَا لَمْ تَجِئْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ ؛ أَوْ جَاءَتْ بِهِ وَلَكِنْ لَيْسَ لَنَا طَرِيقٌ مُوَصِّلَةٌ إلَى الْعِلْمِ بِهِ فَفِيهِ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ فَلِهَذَا كَانَتْ الْحُجَّةُ الْوَاجِبَةُ الِاتِّبَاعَ : لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ هَذَا حَقٌّ لَا بَاطِلَ فِيهِ وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِحَالِ عَامُّ الْوُجُوبِ لَا يَجُوزُ تَرْكُ شَيْءٍ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأُصُولُ وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْخُرُوجُ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ . وَالثَّانِي : أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ . وَهَذِهِ الثَّانِيَةُ إيمَانِيَّةٌ ضِدُّهَا الْكُفْرُ أَوْ النِّفَاقُ وَقَدْ دَخَلَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ والمتفلسفة وَالْمُتَأَمِّرَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ إمَّا بِنَاءً عَلَى نَوْعِ تَقْصِيرٍ بِالرِّسَالَةِ وَإِمَّا بِنَاءً عَلَى نَوْعِ تَفَضُّلٍ عَلَيْهَا وَإِمَّا عَلَى عَيْنِ إعْرَاضٍ عَنْهَا وَإِمَّا عَلَى أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ إلَّا فِي شَيْءٍ يَتَغَيَّرُ كَالْفُرُوعِ مَثَلًا دُونَ الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ أَوْ السِّيَاسِيَّةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْقَادِحَةِ فِي الْإِيمَانِ بِالرِّسَالَةِ . أَمَّا الْأُولَى فَهِيَ مُقَدِّمَةٌ عِلْمِيَّةٌ مَبْنَاهَا عَلَى الْعِلْمِ بِالْإِسْنَادِ وَالْعِلْمِ بِالْمَتْنِ ؛ وَذَلِكَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَإِسْنَادًا وَمَتْنًا وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْثُورًا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ لَا . أَمَّا الْأَوَّلُ : فَيَدْخُلُ فِيهِ الإسرائيليات مِمَّا بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ وَأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَذَلِكَ قَدْ لَبِسَ حَقُّهُ بِبَاطِلِهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوهُ وَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوهُ } وَلَكِنْ يُسْمَعُ وَيُرْوَى إذَا عَلِمْنَا مُوَافَقَتَهُ لِمَا عَلِمْنَاهُ ؛ لِأَنَّهُ مُؤْنِسٌ مُؤَكَّدٌ

وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ حَقٌّ وَأَمَّا إثْبَاتُ حُكْمٍ بِمُجَرَّدِهِ فَلَا يَجُوزُ اتِّفَاقًا وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا إنَّمَا هُوَ شَرْعٌ لَنَا فِيمَا ثَبَتَ أَنَّهُ شَرْعٌ لَهُمْ ؛ دُونَ مَا رَوَوْهُ لَنَا وَهَذَا يَغْلَطُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَعَبِّدَةِ وَالْقُصَّاصِ وَبَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْكَلَامِ . وَأَمَّا الثَّانِي فَمَا يُرْوَى عَنْ الْأَوَائِلِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ وَمَا يُلْقَى فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ يَقَظَةً وَمَنَامًا وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَقْيِسَةُ الْأَصْلِيَّةُ أَوْ الْفَرْعِيَّةُ وَمَا قَالَهُ الْأَكَابِرُ مِنْ هَذِهِ الْمِلَّةِ عُلَمَائِهَا وَأُمَرَائِهَا فَهَذَا التَّقْلِيدُ وَالْقِيَاسُ وَالْإِلْهَامُ فِيهِ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ لَا يُرَدُّ كُلُّهُ وَلَا يُقْبَلُ كُلُّهُ وَأَضْعَفُهُ مَا كَانَ مَنْقُولًا عَمَّنْ لَيْسَ قَوْلُهُ حُجَّةً بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مِثْلَ الْمَأْثُورِ عَنْ الْأَوَائِلِ بِخِلَافِ الْمَأْثُورِ عَنْ بَعْضِ أُمَّتِنَا مِمَّا صَحَّ نَقْلُهُ فَإِنَّ هَذَا نَقْلُهُ صَحِيحٌ ؛ وَلَكِنَّ الْقَائِلَ قَدْ يُخْطِئُ وَقَدْ يُصِيبُ وَمِنْ التَّقْلِيدِ تَقْلِيدُ أَفْعَالِ بَعْضِ النَّاسِ وَهُوَ الْحِكَايَاتُ . ثُمَّ هَذِهِ الْأُمُورُ لَا تُرَدُّ رَدًّا مُطْلَقًا لِمَا فِيهَا مِنْ حَقٍّ مُوَافِقٍ وَلَا تُقْبَلُ قَبُولًا مُطْلَقًا لِمَا فِيهَا مِنْ الْبَاطِلِ بَلْ يُقْبَلُ مِنْهَا مَا وَافَقَ الْحَقَّ وَيُرَدُّ مِنْهَا مَا كَانَ بَاطِلًا . وَالْأَقْيِسَةُ الْعَقْلِيَّةُ الْأَصْلِيَّةُ وَالْفَرْعِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَلَيْسَتْ الْعَقْلِيَّاتُ كُلُّهَا صَحِيحَةً وَلَا كُلُّهَا فَاسِدَةً بَلْ فِيهَا حَقٌّ وَبَاطِلٌ

بَلْ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ حَقٌّ لَيْسَ فِيهِ بَاطِلٌ بِحَالِ فَمَا عُلِمَ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ أَنَّهُ حَقٌّ فَهُوَ حَقٌّ لَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا يَجْعَلُونَ الظَّنَّ يَقِينًا بِشُبْهَةِ وَشَهْوَةٍ وَهُمْ : { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } وَيَدُلُّك عَلَى ذَلِكَ كَثْرَةُ نِزَاعِهِمْ مَعَ ذَكَائِهِمْ فِي مَسَائِلَ وَدَلَائِلَ يَجْعَلُهَا أَحَدُهُمْ قَطْعِيَّةَ الصِّحَّةِ وَيَجْعَلُهَا الْآخَرُ قَطْعِيَّةَ الْفَسَادِ بَلْ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ يَقْطَعُ بِصِحَّتِهَا تَارَةً وَبِفَسَادِهَا أُخْرَى وَلَيْسَ فِي الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ شَيْءٌ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ { إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } فَغَايَةُ ذَلِكَ غَلَطٌ فِي اللِّسَانِ يَتَدَارَكُهُ اللَّهُ فَلَا يَدُومُ . وَجَمِيعُ مَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ لَا بَاطِلَ فِيهِ ؛ وَهُدًى لَا ضَلَالَ فِيهِ ؛ وَنُورٌ لَا ظُلْمَةَ فِيهِ . وَشِفَاءٌ وَنَجَاةٌ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ : الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْإِيمَانَ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَطَاعَتَهُ وَأَنْ يُحَلِّلُوا مَا حَلَّلَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُحَرِّمُوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَنْ يُوجِبُوا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُحِبُّوا مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَكْرَهُوا مَا كَرِهَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ كُلَّ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ اسْتَحَقَّ عِقَابَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَسْتَحِقُّهُ أَمْثَالُهُ مِنْ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ بُعِثَ إلَيْهِمْ الرَّسُولُ . وَهَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَسَائِرِ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ : أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَغَيْرِهِمْ - رَضِيَ

اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - لَمْ يُخَالِفْ أَحَدٌ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ فِي وُجُودِ الْجِنِّ وَلَا فِي أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ وَجُمْهُورُ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ عَلَى إثْبَاتِ الْجِنِّ أَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَهُمْ مُقِرُّونَ بِهِمْ كَإِقْرَارِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ وُجِدَ فِيهِمْ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَكَمَا يُوجَدُ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ كَمَا يُوجَدُ فِي طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ الغالطون وَالْمُعْتَزِلَةِ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ جُمْهُورُ الطَّائِفَةِ وَأَئِمَّتُهَا مُقِرِّينَ بِذَلِكَ . وَهَذَا لِأَنَّ وُجُودَ الْجِنِّ تَوَاتَرَتْ بِهِ أَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ تَوَاتُرًا مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ وَمَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عُقَلَاءُ فَاعِلُونَ بِالْإِرَادَةِ بَلْ مَأْمُورُونَ مَنْهِيُّونَ لَيْسُوا صِفَاتٍ وَأَعْرَاضًا قَائِمَةً بِالْإِنْسَانِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ فَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الْجِنِّ مُتَوَاتِرًا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ تَوَاتُرًا ظَاهِرًا تَعْرِفُهُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ لَمْ يُمْكِنْ طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ الطَّوَائِفِ الْمُؤْمِنِينَ بِالرُّسُلِ أَنْ تُنْكِرَهُمْ كَمَا لَمْ يُمْكِنْ لِطَائِفَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ الطَّوَائِفِ الْمُؤْمِنِينَ بِالرُّسُلِ إنْكَارُ الْمَلَائِكَةِ وَلَا إنْكَارُ مُعَادِ الْأَبْدَانِ وَلَا إنْكَارُ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا إنْكَارُ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ رَسُولًا مِنْ الْإِنْسِ إلَى خَلْقِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ تَوَاتُرًا تَعْرِفُهُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ كَمَا تَوَاتَرَ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مَجِيءُ مُوسَى إلَى فِرْعَوْنَ وَغَرَقُ فِرْعَوْنَ وَمَجِيءُ الْمَسِيحِ إلَى الْيَهُودِ وَعَدَاوَتُهُمْ لَهُ وَظُهُورُ مُحَمَّدٍ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَهِجْرَتُهُ إلَى الْمَدِينَةِ وَمَجِيئُهُ بِالْقُرْآنِ وَالشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ وَجِنْسِ الْآيَاتِ الْخَارِقَةِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ كَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ والمستقبلة الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا بَشَرٌ إلَّا بِإِعْلَامِ اللَّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُؤَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَمَّا تَوَاتَرَ عِنْدَهُمْ كَقَوْلِهِ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلَّا رِجَالًا نُوحِي إلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } فَإِنَّ مِنْ الْكُفَّارِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ رَسُولٌ بَشَرٌ فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ كَانُوا بَشَرًا وَأَمَرَ بِسُؤَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ . وَكَذَلِكَ سُؤَالُهُمْ عَنْ التَّوْحِيدِ وَغَيْرِهِ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَكَفَرَ بِهِ الْكَافِرُونَ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ } . وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِتَصْدِيقِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إلَّا نَبِيٌّ أَوْ مَنْ أَخْبَرَهُ نَبِيٌّ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَتَعَلَّمْ

مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ شَيْئًا . وَهَذَا غَيْرُ شَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَهُ نَفْسُهُ بِمَا يَجِدُونَهُ مِنْ نَعْتِهِ فِي كُتُبِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ } وقَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَوَاتَرَ عِنْدَ الْخَاصَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَأَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَتِهِ وَأَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ وَالصِّرَاطِ وَالْحَوْضِ فَهَذَا قَدْ يُنْكِرُهُ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ ؛ وَلِهَذَا أَنْكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ كالجبائي وَأَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِمَا دُخُولَ الْجِنِّ فِي بَدَنِ الْمَصْرُوعِ وَلَمْ يُنْكِرُوا وُجُودَ الْجِنِّ إذْ لَمْ يَكُنْ ظُهُورُ هَذَا فِي الْمَنْقُولِ عَنْ الرَّسُولِ كَظُهُورِ هَذَا وَإِنْ كَانُوا مُخْطِئِينَ فِي ذَلِكَ . وَلِهَذَا ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ فِي مَقَالَاتِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْجِنِّيَّ يَدْخُلُ فِي بَدَنِ الْمَصْرُوعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ : قُلْت لِأَبِي : إنَّ قَوْمًا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجِنِّيَّ لَا يَدْخُلُ فِي بَدَنِ الْإِنْسِيِّ . فَقَالَ : يَا بُنَيَّ يَكْذِبُونَ هُوَ ذَا يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِهِ . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ .

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ جَمِيعَ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ يُقِرُّونَ بِوُجُودِ الْجِنِّ وَكَذَلِكَ جُمْهُورُ الْكُفَّارِ كَعَامَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَكَذَلِكَ عَامَّةُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَوْلَادِ الهذيل وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَوْلَادِ حَامٍ وَكَذَلِكَ جُمْهُورُ الْكَنْعَانِيِّينَ واليونانيين وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَوْلَادِ يافث . فَجَمَاهِيرُ الطَّوَائِفِ تُقِرُّ بِوُجُودِ الْجِنِّ بَلْ يُقِرُّونَ بِمَا يَسْتَجْلِبُونَ بِهِ مُعَاوَنَةَ الْجِنِّ مِنْ الْعَزَائِمِ وَالطَّلَاسِمِ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ سَائِغًا عِنْدَ أَهْلِ الْإِيمَانِ أَوْ كَانَ شِرْكًا فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يَقْرَءُونَ مِنْ الْعَزَائِمِ وَالطَّلَاسِمِ وَالرُّقَى مَا فِيهِ عِبَادَةٌ لِلْجِنِّ وَتَعْظِيمٌ لَهُمْ وَعَامَّةُ مَا بِأَيْدِي النَّاسِ مِنْ الْعَزَائِمِ وَالطَّلَاسِمِ وَالرُّقَى الَّتِي لَا تُفْقَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ فِيهَا مَا هُوَ شِرْكٌ بِالْجِنِّ . وَلِهَذَا نَهَى عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الرُّقَى الَّتِي لَا يُفْقَهُ مَعْنَاهَا ؛ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الشِّرْكِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الرَّاقِي أَنَّهَا شِرْكٌ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ { عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأشجعي . قَالَ : كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرُّقَى فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنْ الْعَقْرَبِ وَإِنَّك نَهَيْت عَنْ الرُّقَى قَالَ : فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ فَقَالَ : مَا أَرَى بَأْسًا مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ }

وَقَدْ كَانَ لِلْعَرَبِ وَلِسَائِرِ الْأُمَمِ مِنْ ذَلِكَ أُمُورٌ يَطُولُ وَصْفُهَا وَأَخْبَارُ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ أَخْبَارَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَخْبَرُ بِجَاهِلِيَّةِ الْعَرَبِ مِنْهُمْ بِجَاهِلِيَّةِ سَائِرِ الْأُمَمِ إذْ كَانَ خَيْرُ الْقُرُونِ كَانُوا عَرَبًا وَكَانُوا قَدْ عَايَنُوا وَسَمِعُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَذَكَرُوا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ وَالْمَغَازِي وَالْفِقْهِ فَتَوَاتَرَتْ أَيَّامُ جَاهِلِيَّةِ الْعَرَبِ فِي الْمُسْلِمِينَ وَإِلَّا فَسَائِرُ الْأُمَمِ الْمُشْرِكِينَ هُمْ مِنْ جِنْسِ الْعَرَبِ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذَا وَبَعْضُهُمْ كَانَ أَشَدَّ كُفْرًا وَضَلَالًا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَبَعْضُهُمْ أَخَفَّ . وَالْآيَاتُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . إذْ كَانَتْ رِسَالَتُهُ عَامَّةً لِلثَّقَلَيْنِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَاتِ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الْعَرَبِ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْآيَاتِ مُخْتَصًّا بِالسَّبَبِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا : هَلْ يَخْتَصُّ بِنَوْعِ السَّبَبِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ ؟ وَأَمَّا بِعَيْنِ السَّبَبِ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ : أَنَّ آيَاتِ الطَّلَاقِ أَوْ الظِّهَارِ أَوْ اللِّعَانِ أَوْ حَدَّ السَّرِقَةِ وَالْمُحَارِبِينَ وَغَيْرَ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ . وَهَذَا الَّذِي يُسَمِّيهِ بَعْضُ النَّاسِ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ

الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ فِي مُعَيَّنٍ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ فَيُرِيدُ أَنْ يُنَقِّحَ مَنَاطَ الْحُكْمِ لِيَعْلَمَ النَّوْعَ الَّذِي حَكَمَ فِيهِ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا { أَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ الَّذِي وَاقَعَ امْرَأَتَهُ فِي رَمَضَانَ بِالْكَفَّارَةِ } وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ وَعَلِمَ أَنَّ كَوْنَهُ أَعْرَابِيًّا أَوْ عَرَبِيًّا أَوْ الْمَوْطُوءَةِ زَوْجَتَهُ لَا أَثَرَ لَهُ فَلَوْ وَطِئَ الْمُسْلِمُ الْعَجَمِيُّ سُرِّيَّتَهُ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ . وَلَكِنْ هَلْ الْمُؤَثِّرُ فِي الْكَفَّارَةِ كَوْنُهُ مُجَامِعًا فِي رَمَضَانَ أَوْ كَوْنُهُ مُفْطِرًا ؟ فَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَالثَّانِي مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ مَنْصُوصَةٌ عَنْ أَحْمَد فِي الْحِجَامَةِ فَغَيْرُهَا أَوْلَى ثُمَّ مَالِكٌ يَجْعَلُ الْمُؤَثِّرَ جِنْسَ الْمُفْطِرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَجْعَلُهَا الْمُفْطِرَ كَتَنَوُّعِ جِنْسِهِ فَلَا يُوجِبُهُ فِي ابْتِلَاعِ الْحَصَاةِ وَالنَّوَاةِ . وَتَنَازَعُوا هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ أَفْسَدَ صَوْمًا صَحِيحًا ؟ وَأَحْمَد لَا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ ؛ بَلْ كُلُّ إمْسَاكٍ وَجَبَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْجَبَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ كَمَا يُوجِبُ الْأَرْبَعَةُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ فَالصِّيَامُ الْفَاسِدُ عِنْدَهُ كَالْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ كِلَاهُمَا يَجِبُ إتْمَامُهُ وَالْمُضِيُّ فِيهِ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ لَا يُوجِبُونَهَا إلَّا فِي صَوْمٍ صَحِيحٍ وَالنِّزَاعُ فِيمَنْ أَكَلَ ثُمَّ جَامَعَ أَوْ لَمْ يَنْوِ الصَّوْمَ ثُمَّ جَامَعَ وَمَنْ جَامَعَ وَكَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ . وَمِثْلُ قَوْلِهِ لِمَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي جُبَّةٍ مُتَضَمِّخًا بِالْخَلُوقِ : { انْزِعْ

عَنْك الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ عَنْك أَثَرَ الصُّفْرَةِ } هَلْ أَمَرَهُ بِالْغَسْلِ لِكَوْنِ الْمُحْرِمِ لَا يَسْتَدِيمُ الطِّيبَ كَمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ ؟ أَوْ لِكَوْنِهِ نَهَى أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ اسْتِدَامَةِ الطِّيبِ كَقَوْلِ الثَّلَاثَةِ ؟ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَهَلْ هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ بِتَطْيِيبِ عَائِشَةَ لَهُ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ ؟ وَمِثْلَ { قَوْلِهِ لَمَّا سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ : أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ } هَلْ الْمُؤَثِّرُ عَدَمُ التَّغَيُّرِ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ بِكَوْنِهِ جَامِدًا أَوْ كَوْنُهَا فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى سَائِرِ الْمَائِعَاتِ ؟ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الشَّرَائِعِ وَلَا يُسَمَّى قِيَاسًا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ ونفاة الْقِيَاسِ ؛ لِاتِّفَاقِ النَّاسِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ وَهُوَ : أَنْ يُعَلِّقَ الشَّارِعُ الْحُكْمَ بِمَعْنًى كُلِّيٍّ فَيَنْظُرُ فِي ثُبُوتِهِ فِي بَعْضِ الْأَنْوَاعِ أَوْ بَعْضِ الْأَعْيَانِ كَأَمْرِهِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ وَكَأَمْرِهِ بِاسْتِشْهَادِ شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِنَا مِمَّنْ نَرْضَى مِنْ الشُّهَدَاءِ وَكَتَحْرِيمِهِ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ ؛ وَكَفَرْضِهِ تَحْلِيلَ الْيَمِينِ بِالْكَفَّارَةِ وَكَتَفْرِيقِهِ بَيْنَ الْفِدْيَةِ وَالطَّلَاقِ ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَيَبْقَى النَّظَرُ فِي بَعْضِ الْأَنْوَاعِ : هَلْ هِيَ خَمْرٌ وَيَمِينٌ وَمَيْسِرٌ وَفِدْيَةٌ أَوْ طَلَاقٌ ؟ وَفِي بَعْضِ الْأَعْيَانِ : هَلْ هِيَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ ؟ وَهَلْ هَذَا الْمُصَلِّي مُسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةِ ؟ وَهَذَا الشَّخْصُ عَدْلٌ مَرْضِيٌّ ؟ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِاجْتِهَادِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَلْ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ فِيمَا يَتْبَعُونَهُ مِنْ شَرَائِعِ دِينِهِمْ وَطَاعَةِ وُلَاةِ أُمُورِهِمْ وَمَصَالِحِ دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ .

وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى تَمْثِيلِ الشَّيْءِ بِنَظِيرِهِ وَإِدْرَاجِ الْجُزْئِيِّ تَحْتَ الْكُلِّيِّ وَذَاكَ يُسَمَّى قِيَاسَ التَّمْثِيلِ ؛ وَهَذَا يُسَمَّى قِيَاسَ الشُّمُولِ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ فَإِنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْأَفْرَادِ فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْمَنْطِقِيُّونَ الْحَدَّ الْأَوْسَطَ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْأُصُولِيُّونَ الْجَامِعَ ؛ وَالْمَنَاطَ ؛ وَالْعِلَّةَ ؛ وَالْأَمَارَةَ ؛ وَالدَّاعِي وَالْبَاعِثَ ؛ وَالْمُقْتَضِيَ ؛ وَالْمُوجِبَ ؛ وَالْمُشْتَرَكَ ؛ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ .
وَأَمَّا تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ وَهُوَ : الْقِيَاسُ الْمَحْضُ وَهُوَ : أَنْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمٍ فِي أُمُورٍ قَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَخْتَصُّ الْحُكْمُ بِهَا فَيَسْتَدِلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهَا مِثْلُهَا إمَّا لِانْتِفَاءِ الْفَارِقِ ؛ أَوْ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْوَصْفِ الَّذِي قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِهِ فِي الْأَصْلِ ؛ فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي تُقِرُّ بِهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَيُنْكِرُهُ نفاة الْقِيَاسِ . وَإِنَّمَا يَكْثُرُ الْغَلَطُ فِيهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْجَامِعِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي عَلَّقَ الشَّارِعُ الْحُكْمَ بِهِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى سُؤَالَ الْمُطَالَبَةِ وَهُوَ : مُطَالَبَةُ الْمُعْتَرِضِ لِلْمُسْتَدِلِّ بِأَنَّ الْوَصْفَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ ؛ أَوْ دَلِيلُ الْعِلَّةِ . فَأَكْثَرُ غَلَطِ الْقَائِسِينَ مِنْ ظَنِّهِمْ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ مَا لَيْسَ بِعِلَّةِ وَلِهَذَا كَثُرَتْ شَنَاعَاتُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ . فَأَمَّا إذَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى إلْغَاءِ الْفَارِقِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَرْقٌ يُفَرِّقُ الشَّارِعُ لِأَجْلِهِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ ؛ أَوْ قَامَ

الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْفُلَانِيَّ هُوَ الَّذِي لِأَجْلِهِ حَكَمَ الشَّارِعُ بِهَذَا الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي صُورَةٍ أُخْرَى ؛ فَهَذَا الْقِيَاسُ لَا يُنَازِعُ فِيهِ إلَّا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ دَعْوَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَامِلَةٌ لِلثَّقَلَيْنِ : الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِمْ فَلَا يُظَنُّ أَنَّهُ خَصَّ الْعَرَبَ بِحُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ أَصْلًا بَلْ إنَّمَا عَلَّقَ الْأَحْكَامَ بِاسْمِ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ ؛ وَمُؤْمِنٍ وَمُنَافِقٍ ؛ وَبَرٍّ وَفَاجِرٍ ؛ وَمُحْسِنٍ وَظَالِمٍ ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا الْحَدِيثِ تَخْصِيصُ الْعَرَبِ بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَلَكِنْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ظَنَّ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ كَمَا ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ أَنَّهُ خَصَّ الْعَرَبَ بِأَنْ لَا يُسْتَرَقُّوا وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُمْ يُسْتَرَقُّونَ كَمَا صَحَّتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ حَيْثُ اُسْتُرِقَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَفِيهِمْ جُوَيْرِيَّةُ بِنْتُ الْحَارِثِ ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا وَأَعْتَقَ بِسَبَبِهَا مَنْ اُسْتُرِقَّ مِنْ قَوْمِهَا . وَقَالَ فِي حَدِيثِ هَوَازِنَ : { اخْتَارُوا إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ : إمَّا السَّبْيَ ؛ وَإِمَّا الْمَالَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ

لَا شَرِيكَ لَهُ ؛ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ؛ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ { كَانَتْ سَبِيَّةٌ مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَ : أَعْتِقِيهَا فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ } وَعَامَّةُ مَنْ اسْتَرَقَّهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ كَانُوا عَرَبًا وَذِكْرُ هَذَا يَطُولُ . وَلَكِنْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا رَأَى كَثْرَةَ السَّبْيِ مِنْ الْعَجَمِ وَاسْتِغْنَاءَ النَّاسِ عَنْ اسْتِرْقَاقِ الْعَرَبِ رَأَى أَنْ يُعْتِقُوا الْعَرَبَ مِنْ بَابِ مَشُورَةِ الْإِمَامِ وَأَمْرِهِ بِالْمَصْلَحَةِ ؛ لَا مِنْ بَابِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي يَلْزَمُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ فَأَخَذَ مَنْ أَخَذَ بِمَا ظَنَّهُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ وَكَذَلِكَ ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مَعَ كَوْنِهَا تُؤْخَذُ مِنْ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ . وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُ أَخْذَهَا مِنْ كُلِّ مُشْرِكٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَأْخُذُهَا إلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْخُذْ الْجِزْيَةَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَأَخَذَهَا مِنْ الْمَجُوسِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ . فَمَنْ قَالَ : تُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ . قَالَ : إنَّ آيَةَ الْجِزْيَةِ لَمَّا نَزَلَتْ

أَسْلَمَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ عَامَ تَبُوكَ وَلَمْ يَبْقَ عَرَبِيٌّ مُشْرِكٌ مُحَارِبًا وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَغْزُوَ النَّصَارَى عَامَ تَبُوكَ بِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ - إلَّا مَنْ عَذَرَ اللَّهُ - وَيَدَعُ الْحِجَازَ وَفِيهِ مَنْ يُحَارِبُهُ وَيَبْعَثُ أَبَا بَكْرٍ عَامَ تِسْعٍ فَنَادَى فِي الْمَوْسِمِ أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عريان وَنَبَذَ الْعُهُودَ الْمُطْلَقَةَ وَأَبْقَى الْمُؤَقَّتَةَ مَا دَامَ أَهْلُهَا مُوفِينَ بِالْعَهْدِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ التَّوْبَةِ وَأَنْظَرَ الَّذِينَ نَبَذَ إلَيْهِمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَأَمَرَ عِنْدَ انْسِلَاخِهَا بِغَزْوِ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً قَالُوا : فَدَانَ الْمُشْرِكُونَ كُلُّهُمْ كَافَّةً بِالْإِسْلَامِ وَلَمْ يَرْضَ بَذْلَ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ مِنْ الدِّينِ بَعْدَ ظُهُورِ دِينِ الْإِسْلَامِ مَا يَصْبِرُونَ لِأَجْلِهِ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ؛ إذْ كَانَ عَامَّةُ الْعَرَبِ قَدْ أَسْلَمُوا فَلَمْ يَبْقَ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ عِزٌّ يَعْتَزُّونَ بِهِ فَدَانُوا بِالْإِسْلَامِ حَيْثُ أَظْهَرَهُ اللَّهُ فِي الْعَرَبِ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ وَالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ؛ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ } مُرَادُهُ قِتَالُ الْمُحَارِبِينَ الَّذِينَ أَذِنَ اللَّهُ فِي قِتَالِهِمْ لَمْ يُرِدْ قِتَالَ الْمُعَاهَدِينَ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ بِوَفَاءِ عَهْدِهِمْ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ نُزُولِ " بَرَاءَةٌ " يُعَاهِدُ مَنْ عَاهَدَهُ مِنْ الْكُفَّارِ

مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْطِيَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَةٌ وَأَمَرَهُ بِنَبْذِ الْعُهُودِ الْمُطْلَقَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُعَاهِدَهُمْ كَمَا كَانَ يُعَاهِدَهُمْ بَلْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُجَاهِدَ الْجَمِيعَ كَمَا قَالَ : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . وكان دِينُ أَهْلِ الْكِتَابِ خَيْرًا مِنْ دِينِ الْمُشْرِكِينَ وَمَعَ هَذَا فَأُمِرُوا بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ فَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَا تَجُوزُ مُعَاهَدَتُهُمْ كَمَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ بَرَاءَةٌ فَالْمُشْرِكُونَ أَوْلَى بِذَلِكَ أَنْ لَا تَجُوزَ مُعَاهَدَتُهُمْ بِدُونِ ذَلِكَ . قَالُوا : فَكَانَ فِي تَخْصِيصِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى تَرْكِ مُعَاهَدَةِ الْمُشْرِكِينَ بِدُونِ الصَّغَارِ وَالْجِزْيَةِ ؛ كَمَا كَانَ يُعَاهِدُهُمْ فِي مِثْلِ هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُعَاهَدَاتِ . قَالُوا : وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ بريدة قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ : اُغْزُوَا بِسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ اُغْزُوا وَلَا تَغْلُوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَإِذَا لَقِيت عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ

وَكُفَّ عَنْهُمْ اُدْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْأَلْهُمْ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ وَقَاتِلْهُمْ وَإِذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوك أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَك وَذِمَّةَ أَصْحَابِك فَإِنَّكُمْ أَنْ تَخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تَخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ وَإِذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك ؛ فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا } . قَالُوا : فَفِي الْحَدِيثِ أَمْرُهُ لِمَنْ أَرْسَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ الْكُفَّارَ إلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ إلَى الْهِجْرَةِ إلَى الْأَمْصَارِ وَإِلَّا فَإِلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَإِنْ لَمْ يُهَاجِرُوا كَانُوا كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ وَالْأَعْرَابُ عَامَّتُهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ دَعَا إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ مَنْ حَاصَرَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ . وَالْحُصُونُ كَانَتْ بِالْيَمَنِ كَثِيرَةٌ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْجِزْيَةِ وَأَهْلُ الْيَمَنِ كَانَ

فِيهِمْ مُشْرِكُونَ وَأَهْلُ كِتَابٍ وَأَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عَدَّ لَهُ معافريا وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْعَرَبِ آمَنُوا كَمَا آمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَدَّى الْجِزْيَةَ . وَقَدْ أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ وَكَانُوا مَجُوسًا وَأَسْلَمَتْ عَبْدُ الْقَيْسِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ طَوْعًا وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ وَلَا بِخَيْبَرِ ؛ بَلْ حَارَبَهُمْ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْجِزْيَةِ وَأَقَرَّ الْيَهُودُ بِخَيْبَرِ فَلَّاحِينَ بِلَا جِزْيَةٍ إلَى أَنْ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُهَادِنِينَ لَهُ وَكَانُوا فَلَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ فَأَقَرَّهُمْ لِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ ثُمَّ أَمَرَ بِإِجْلَائِهِمْ قَبْلَ مَوْتِهِ وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَقِيلَ : هَذَا الْحُكْمُ مَخْصُوصٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَقِيلَ : بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا اسْتَغْنَى الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ أَجْلَوْهُمْ مِنْ دِيَارِ الْإِسْلَامِ ؛ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ مُشْرِكٍ قَالَ : إنَّ آيَةَ الْجِزْيَةِ نَزَلَتْ وَالْمُشْرِكُونَ مَوْجُودُونَ فَلَمْ يَأْخُذْهَا مِنْهُمْ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمْ يَخُصَّ الْعَرَبَ بِحُكْمِ وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ خَصَّ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ الَّتِي هِيَ حَوْلَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَا خَصَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } .

وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ حَرَّمَ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مَا تَسْتَخْبِثُهُ الْعَرَبُ وَأَحَلَّ لَهُمْ مَا تَسْتَطِيبُهُ . فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ وَلَكِنْ الخرقي وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ وَافَقُوا الشَّافِعِيَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَأَمَّا أَحْمَد نَفْسُهُ فَعَامَّةُ نُصُوصِهِ مُوَافِقَةٌ لِقَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ أَنَّ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِاسْتِطَابَةِ الْعَرَبِ وَلَا بِاسْتِخْبَاثِهِمْ ؛ بَلْ كَانُوا يَسْتَطِيبُونَ أَشْيَاءَ حَرَّمَهَا اللَّهُ ؛ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ ؛ وَالْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ ؛ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ ؛ وَأَكِيلَةِ السَّبُعِ ؛ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَكَانُوا - بَلْ خِيَارُهُمْ - يَكْرَهُونَ أَشْيَاءَ لَمْ يُحَرِّمْهَا اللَّهُ حَتَّى لَحْمَ الضَّبِّ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُهُ وَقَالَ : { لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ } وَقَالَ مَعَ هَذَا : " إنَّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ " وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَتِهِ وَهُوَ يَنْظُرُ وَقَالَ فِيهِ : " لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ " . وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : الطَّيِّبَاتُ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ مَا كَانَ نَافِعًا لِآكِلِهِ فِي دِينِهِ وَالْخَبِيثُ مَا كَانَ ضَارًّا لَهُ فِي دِينِهِ . وَأَصْلُ الدِّينِ الْعَدْلُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ الرُّسُلَ بِإِقَامَتِهِ فَمَا أَوْرَثَ الْأَكْلَ بَغْيًا وَظُلْمًا حَرَّمَهُ كَمَا حَرَّمَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ . لِأَنَّهَا بَاغِيَةٌ عَادِيَةٌ وَالْغَاذِي شَبِيهٌ بِالْمُغْتَذِي فَإِذَا تَوَلَّدَ اللَّحْمُ مِنْهَا صَارَ فِي الْإِنْسَانِ خُلُقُ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ .

وَكَذَلِكَ الدَّمُ يَجْمَعُ قُوَى النَّفْسِ مِنْ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ فَإِذَا اغْتَذَى مِنْهُ زَادَتْ شَهْوَتُهُ وَغَضَبُهُ عَلَى الْمُعْتَدِلِ وَلِهَذَا لَمْ يَحْرُمْ مِنْهُ إلَّا الْمَسْفُوحُ بِخِلَافِ الْقَلِيلِ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ . وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ يُورِثُ عَامَّةَ الْأَخْلَاقِ الْخَبِيثَةِ ؛ إذْ كَانَ أَعْظَمُ الْحَيَوَانِ فِي أَكْلِ كُلِّ شَيْءٍ لَا يَعَافُ شَيْئًا وَاَللَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ شَيْئًا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَإِنَّمَا حَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } . وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَلَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ إلَّا الْخَبَائِثَ كَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ فَأَمَّا غَيْرُ الْمَسْفُوحِ كَاَلَّذِي يَكُونُ فِي الْعُرُوقِ فَلَمْ يُحَرِّمْهُ بَلْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَضَعُونَ اللَّحْمَ فِي الْقِدْرِ فَيَرَوْنَ آثَارَ الدَّمِ فِي الْقِدْرِ ؛ وَلِهَذَا عَفَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَنْ الدَّمِ الْيَسِيرِ فِي الْبَدَنِ وَالثِّيَابِ إذَا كَانَ غَيْرَ مَسْفُوحٍ وَإِذَا عُفِيَ عَنْهُ فِي الْأَكْلِ فَفِي اللِّبَاسِ وَالْحَمْلِ أَوْلَى أَنْ يُعْفَى عَنْهُ . وَكَذَلِكَ رِيقُ الْكَلْبِ يُعْفَى عَنْهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فِي الصَّيْدِ كَمَا هُوَ

مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِهِ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ وَجَبَ غَسْلُ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهِ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ . إذْ كَانَ الرِّيقُ فِي الْوُلُوغِ كَثِيرًا سَارِيًا فِي الْمَائِعِ لَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا يُصِيبُ الصَّيْدَ فَإِنَّهُ قَلِيلٌ نَاشِفٌ فِي جَامِدٍ يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ . وَكَذَلِكَ التَّقْدِيمُ فِي إمَامَةِ الصَّلَاةِ بِالنَّسَبِ لَا يَقُولُ بِهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا } فَقَدَّمَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَضِيلَةِ الْعِلْمِيَّةِ ثُمَّ بِالْفَضِيلَةِ الْعَمَلِيَّةِ وَقَدَّمَ الْعَالِمَ بِالْقُرْآنِ عَلَى الْعَالِمِ بِالسُّنَّةِ ثُمَّ الْأَسْبَقَ إلَى الدِّينِ بِاخْتِيَارِهِ ثُمَّ الْأَسْبَقَ إلَى الدِّينِ بِسِنِّهِ وَلَمْ يَذْكُرْ النَّسَبَ . وَبِهَذَا أَخَذَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ فَرَتَّبَ الْأَئِمَّةَ كَمَا رَتَّبَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرْ النَّسَبَ وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ لَمْ يُرَجِّحُوا بِالنَّسَبِ وَلَكِنْ رَجَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد ؛ كالخرقي وَابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمْ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ سَلْمَانَ

الْفَارِسِيِّ : إنَّ لَكُمْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَلَّا نَؤُمَّكُمْ فِي صَلَاتِكُمْ وَلَا نَنْكِحَ نِسَاءَكُمْ . وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ : إنَّمَا قَالَ سَلْمَانُ هَذَا تَقْدِيمًا مِنْهُ لِلْعَرَبِ عَلَى الْفُرْسِ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِمَنْ هُوَ أَشْرَفُ مِنْهُ : حَقُّك عَلَيَّ كَذَا وَلَيْسَ قَوْلُ سَلْمَانَ حُكْمًا شَرْعِيًّا يَلْزَمُ جَمِيعَ الْخَلْقِ اتِّبَاعُهُ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعُ أَحْكَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَكِنْ مَنْ تَأَسَّى مِنْ الْفُرْسِ بِسَلْمَانَ فَلَهُ بِهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ؛ فَإِنَّ سَلْمَانَ سَابِقُ الْفُرْسِ . وَكَذَلِكَ اعْتِبَارُ النَّسَبِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ لَيْسَ هُوَ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا يَقُولُ بِهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ وَلَكِنْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ذَكَرَتْ عَنْهُ رِوَايَتَانِ وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ اعْتِبَارَ النَّسَبِ مُوَافَقَةً لِلشَّافِعِيِّ وَالشَّافِعِيُّ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا عَلَّقَ الْأَحْكَامَ بِالصِّفَاتِ الْمُؤَثِّرَةِ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَفِيمَا يُبْغِضُ فَأَمَرَ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَدَعَا إلَيْهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَنَهَى عَمَّا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَحَسَمَ مَادَّتَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ لَمْ يَخُصَّ الْعَرَبَ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ إذْ كَانَتْ دَعْوَتُهُ لِجَمِيعِ الْبَرِيَّةِ ؛ لَكِنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ بَلْ نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ كَمَا ثَبَتَ

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ : أَقْرِئْ النَّاسَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ وَكَمَا قَالَ عُثْمَانُ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْمُصْحَفَ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ : إذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي شَيْءٍ فَاكْتُبُوهُ بِلُغَةِ هَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ وَهَذَا لِأَجْلِ التَّبْلِيغِ ؛ لِأَنَّهُ بَلَّغَ قَوْمَهُ أَوَّلًا ثُمَّ بِوَاسِطَتِهِمْ بَلَّغَ سَائِرَ الْأُمَمِ وَأَمَرَهُ اللَّهُ بِتَبْلِيغِ قَوْمِهِ أَوَّلًا ثُمَّ بِتَبْلِيغِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ إلَيْهِ كَمَا أَمَرَ بِجِهَادِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ . وَمَا ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ غَيْرَ الْعَرَبِ لَيْسُوا أَكْفَاءً لِلْعَرَبِ فِي النِّكَاحِ فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى الْكَفَاءَةَ إلَّا فِي الدِّينِ وَمَنْ رَآهَا فِي النَّسَبِ أَيْضًا فَإِنَّهُ يَحْتَجُّ بِقَوْلِ عُمَرَ : لَأَمْنَعَن ذَوَاتَ الْأَحْسَابِ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ مَقْصُودُهُ حُسْنُ الْأُلْفَةِ فَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَعْلَى مَنْصِبًا اشْتَغَلَتْ عَنْ الرَّجُلِ فَلَا يَتِمُّ بِهِ الْمَقْصُودُ . وَهَذِهِ حُجَّةُ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ حَقًّا لِلَّهِ . حَتَّى أَبْطَلَ النِّكَاحَ إذَا زُوِّجَتْ الْمَرْأَةُ بِمَنْ لَا يُكَافِئُهَا فِي الدِّينِ أَوْ الْمَنْصِبِ وَمَنْ جَعَلَهَا حَقًّا لِآدَمِيٍّ قَالَ : إنَّ فِي ذَلِكَ غَضَاضَةً عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَرْأَةِ وَعَلَيْهَا وَالْأَمْرُ إلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ . ثُمَّ هَؤُلَاءِ لَا يَخُصُّونَ الْكَفَاءَةَ بِالنَّسَبِ بَلْ يَقُولُونَ : هِيَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي تَتَفَاضَلُ بِهَا النُّفُوسُ كَالصِّنَاعَةِ وَالْيَسَارِ وَالْحُرِّيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذِهِ مَسَائِلُ اجْتِهَادِيَّةٌ تُرَدُّ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ؛ فَإِنْ جَاءَ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ

مَا يُوَافِقُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ فَمَا جَاءَ عَنْ اللَّهِ لَا يَخْتَلِفُ وَإِلَّا فَلَا يَكُونُ قَوْلُ أَحَدٍ حُجَّةً عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَلَيْسَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ بَلْ قَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عِيبَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ النَّاسُ رَجُلَانِ : مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ ؛ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ : . الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ ؛ وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ ؛ وَالنِّيَاحَةُ ؛ وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ . وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى بَنِي هَاشِمٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَأَنَا خَيْرُكُمْ نَفْسًا وَخَيْرُكُمْ نَسَبًا } . وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ جِنْسَ الْعَرَبِ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِمْ كَمَا أَنَّ جِنْسَ قُرَيْشٍ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِمْ وَجِنْسَ بَنِي هَاشِمٍ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِمْ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إذَا فَقِهُوا } . لَكِنَّ تَفْضِيلَ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ فَرْدٍ أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ فَرْدٍ فَإِنَّ فِي غَيْرِ الْعَرَبِ خَلْقًا كَثِيرًا خَيْرًا مِنْ أَكْثَرِ الْعَرَبِ

وَفِي غَيْرِ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ وَفِي غَيْرِ بَنِي هَاشِمٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِ قُرَيْشٍ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ أَكْثَرِ بَنِي هَاشِمٍ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ خَيْرَ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِينَ بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } وَفِي الْقُرُونِ الْمُتَأَخِّرَةِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَخُصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَرْنَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ كَذَلِكَ لَمْ يَخُصَّ الْعَرَبَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ بَلْ وَلَا خَصَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِحُكْمٍ دُونَ سَائِرِ أُمَّتِهِ وَلَكِنْ الصَّحَابَةُ لِمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ الْفَضْلِ أَخْبَرَ بِفَضْلِهِمْ وَكَذَلِكَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ لَمْ يَخُصَّهُمْ بِحُكْمِ وَلَكِنْ أَخْبَرَ بِمَا لَهُمْ مِنْ الْفَضْلِ لِمَا اخْتَصُّوا بِهِ مِنْ الْعَمَلِ وَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّسَبِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ أُرْسِلَ إلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ : الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَلَمْ يَخُصَّ الْعَرَبَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ بِأَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ وَلَكِنْ خَصَّ قُرَيْشًا بِأَنَّ الْإِمَامَةَ فِيهِمْ وَخَصَّ بَنِي هَاشِمٍ بِتَحْرِيمِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ جِنْسَ قُرَيْشٍ لَمَّا كَانُوا أَفْضَلَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامَةُ فِي أَفْضَلِ الْأَجْنَاسِ مَعَ الْإِمْكَانِ وَلَيْسَتْ الْإِمَامَةُ أَمْرًا شَامِلًا لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا يَتَوَلَّاهَا وَاحِدٌ مِنْ النَّاسِ . وَأَمَّا تَحْرِيمُ الصَّدَقَةِ فَحَرَّمَهَا عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ تَكْمِيلًا لِتَطْهِيرِهِمْ وَدَفْعًا لِلتُّهْمَةِ عَنْهُ كَمَا لَمْ يُوَرِّثْ فَلَا يَأْخُذُ وَرَثَتُهُ دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا ؛

بَلْ لَا يَكُونُ لَهُ وَلِمَنْ يَمُونُهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ إلَّا نَفَقَتُهُمْ وَسَائِرُ مَالِ اللَّهِ يُصْرَفُ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَذَوُو قُرْبَاهُ يُعْطَوْنَ بِمَعْرُوفٍ مِنْ مَالِ الْخُمُسِ وَالْفَيْءُ الَّذِي يُعْطَى مِنْهُ فِي سَائِرِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَخْتَصُّ بِأَصْنَافٍ مُعَيَّنَةٍ كَالصَّدَقَاتِ ثُمَّ مَا جَعَلَ لِذَوِي الْقُرْبَى قَدْ قِيلَ : إنَّهُ سَقَطَ بِمَوْتِهِ كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَقِيلَ : هُوَ لِقُرْبَى مَنْ يَلِي الْأَمْرَ بَعْدَهُ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ : { مَا أَطْعَمَ اللَّهُ نَبِيًّا طُعْمَةً إلَّا كَانَتْ لِمَنْ يَلِي الْأَمْرَ بَعْدَهُ } وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِ . وَقِيلَ : إنَّ هَذَا كَانَ مَأْخَذَ عُثْمَانَ فِي إعْطَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ وَقِيلَ : هُوَ لِذَوِي قُرْبَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِمًا . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : هُوَ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَقِيلَ : بَلْ الْخُمُسُ وَالْفَيْءُ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَلَا يُقْسَمُ عَلَى أَجْزَاءٍ مُقَدَّرَةٍ مُتَسَاوِيَةٍ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ . وَعَنْ أَحْمَد أَنَّهُ جَعَلَ خُمُسَ الزَّكَاةِ فَيْئًا وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَسِيرَةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَبَسْطُ هَذِهِ الْأُمُورِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ بَعْضَ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ أُمُورًا كَانَتْ فِي الْعَرَبِ فَحُكْمُ الْآيَاتِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ مَا تَقْتَضِيهِ الْآيَاتُ لَفْظًا

وَمَعْنًى فِي أَيِّ نَوْعٍ كَانَ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ إلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . وَجَمَاهِيرُ الْأُمَمِ يُقِرُّ بِالْجِنِّ وَلَهُمْ مَعَهُمْ وَقَائِعُ يَطُولُ وَصْفُهَا وَلَمْ يُنْكِرْ الْجِنَّ إلَّا شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ جُهَّالِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْأَطِبَّاءِ وَنَحْوِهِمْ وَأَمَّا أَكَابِرُ الْقَوْمِ فَالْمَأْثُورُ عَنْهُمْ : إمَّا الْإِقْرَارُ بِهَا . وَإِمَّا أَنْ لَا يُحْكَى عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ . وَمِنْ الْمَعْرُوفِ عَنْ بقراط أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ الْمِيَاهِ : إنَّهُ يَنْفَعُ مِنْ الصَّرْعِ لَسْت أَعْنِي الَّذِي يُعَالِجُهُ أَصْحَابُ الْهَيَاكِلِ وَإِنَّمَا أَعْنِي الصَّرْعَ الَّذِي يُعَالِجُهُ الْأَطِبَّاءُ . وَأَنَّهُ قَالَ : طِبُّنَا مَعَ طِبِّ أَهْلِ الْهَيَاكِلِ كَطِبِّ الْعَجَائِزِ مَعَ طِبِّنَا . وَلَيْسَ لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ حُجَّةٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا تَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ وَإِنَّمَا مَعَهُ عَدَمُ الْعِلْمِ ؛ إذْ كَانَتْ صِنَاعَتُهُ لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَالطَّبِيبِ الَّذِي يَنْظُرُ فِي الْبَدَنِ مِنْ جِهَةِ صِحَّتِهِ وَمَرَضِهِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمِزَاجِهِ وَلَيْسَ فِي هَذَا تَعَرُّضٌ لِمَا يَحْصُلُ مِنْ جِهَةِ النَّفْسِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْجِنِّ وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ مِنْ غَيْرِ طِبِّهِ أَنَّ لِلنَّفْسِ تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي الْبَدَنِ أَعْظَمُ مِنْ تَأْثِيرِ الْأَسْبَابِ الطِّبِّيَّةِ وَكَذَلِكَ لِلْجِنِّ تَأْثِيرٌ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ } وَفِي الدَّمِ الَّذِي هُوَ الْبُخَارُ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْأَطِبَّاءُ الرُّوحَ الْحَيَوَانِيَّ الْمُنْبَعِثُ مِنْ الْقَلْبِ السَّارِي فِي الْبَدَنِ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْبَدَنِ كَمَا

قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرْسِلَ إلَى الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْجِنَّ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ وَأَنَّهُمْ آمَنُوا بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا } إلَى قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا } إلَخْ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ الْإِنْسُ بِأَحْوَالِ الْجِنِّ وَأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ هَدْيِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا يَجِبُ مِنْ طَاعَةِ رُسُلِهِ وَمِنْ تَحْرِيمِ الشِّرْكِ بِالْجِنِّ وَغَيْرِهِمْ كَمَا قَالَ فِي السُّورَةِ : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } . كَانَ الرَّجُلُ مِنْ الْإِنْسِ يَنْزِلُ بِالْوَادِي - وَالْأَوْدِيَةُ مَظَانُّ الْجِنِّ ؛ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ بِالْأَوْدِيَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَكُونُونَ بِأَعَالِي الْأَرْضِ - فَكَانَ الْإِنْسِيُّ يَقُولُ : أَعُوذُ بِعَظِيمِ هَذَا الْوَادِي مِنْ سُفَهَائِهِ فَلَمَّا رَأَتْ الْجِنُّ أَنَّ الْإِنْسَ تَسْتَعِيذُ بِهَا زَادَ طُغْيَانُهُمْ وَغَيْرُهُمْ وَبِهَذَا يُجِيبُونَ الْمُعَزِّمَ وَالرَّاقِيَ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ مُلُوكِهِمْ فَإِنَّهُ يُقْسِمُ عَلَيْهِمْ بِأَسْمَاءِ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ

فَيَحْصُلُ لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ الرِّئَاسَةِ وَالشَّرَفِ عَلَى الْإِنْسِ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُمْ بَعْضَ سُؤْلِهِمْ لَا سِيَّمَا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْإِنْسَ أَشْرَفُ مِنْهُمْ وَأَعْظَمُ قَدْرًا فَإِذَا خَضَعَتْ الْإِنْسُ لَهُمْ وَاسْتَعَاذَتْ بِهِمْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَكَابِرِ النَّاسِ إذَا خَضَعَ لِأَصَاغِرِهِمْ لِيَقْضِيَ لَهُ حَاجَتَهُ . ثُمَّ الشَّيَاطِينُ مِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ الْكُفْرَ وَالشِّرْكَ وَمَعَاصِي الرَّبِّ . وَإِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ مِنْ الشَّيَاطِينِ يَشْتَهُونَ الشَّرَّ وَيَلْتَذُّونَ بِهِ وَيَطْلُبُونَهُ وَيَحْرِصُونَ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى خُبْثِ أَنْفُسِهِمْ وَإِنْ كَانَ مُوجِبًا لِعَذَابِهِمْ وَعَذَابِ مَنْ يُغْوُونَهُ كَمَا قَالَ إبْلِيسُ : { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إلَّا قَلِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } . وَالْإِنْسَانُ إذَا فَسَدَتْ نَفْسُهُ أَوْ مِزَاجُهُ يَشْتَهِي مَا يَضُرُّهُ وَيَلْتَذُّ بِهِ ؛ بَلْ يَعْشَقُ ذَلِكَ عِشْقًا يُفْسِدُ عَقْلَهُ وَدِينَهُ وَخُلُقَهُ وَبَدَنَهُ وَمَالَهُ وَالشَّيْطَانُ هُوَ نَفْسُهُ خَبِيثٌ فَإِذَا تَقَرَّبَ صَاحِبُ الْعَزَائِمِ وَالْأَقْسَامِ وَكُتُبِ الرُّوحَانِيَّاتِ السِّحْرِيَّةِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ إلَيْهِمْ بِمَا يُحِبُّونَهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ صَارَ ذَلِكَ كَالرِّشْوَةِ وَالْبِرْطِيلِ لَهُمْ فَيَقْضُونَ بَعْضَ أَغْرَاضِهِ كَمَنْ يُعْطِي غَيْرَهُ مَالًا

لِيَقْتُلَ لَهُ مَنْ يُرِيدُ قَتْلَهُ أَوْ يُعِينَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ أَوْ يَنَالَ مَعَهُ فَاحِشَةً . وَلِهَذَا كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ يَكْتُبُونَ فِيهَا كَلَامَ اللَّهِ بِالنَّجَاسَةِ - وَقَدْ يَقْلِبُونَ حُرُوفَ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إمَّا حُرُوفُ الْفَاتِحَةِ وَإِمَّا حُرُوفُ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَأَمَّا غَيْرُهُمَا - إمَّا دَمٌ وَإِمَّا غَيْرُهُ وَإِمَّا بِغَيْرِ نَجَاسَةٍ . أَوْ يَكْتُبُونَ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَرْضَاهُ الشَّيْطَانُ أَوْ يَتَكَلَّمُونَ بِذَلِكَ . فَإِذَا قَالُوا أَوْ كَتَبُوا مَا تَرْضَاهُ الشَّيَاطِينُ أَعَانَتْهُمْ عَلَى بَعْضِ أَغْرَاضِهِمْ إمَّا تَغْوِيرُ مَاءٍ مِنْ الْمِيَاهِ وَإِمَّا أَنْ يَحْمِلَ فِي الْهَوَاءِ إلَى بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَإِمَّا أَنْ يَأْتِيَهُ بِمَالٍ مِنْ أَمْوَالِ بَعْضِ النَّاسِ كَمَا تَسْرِقُهُ الشَّيَاطِينُ مِنْ أَمْوَالِ الْخَائِنِينَ وَمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَتَأْتِي بِهِ وَإِمَّا غَيْرُ ذَلِكَ . وَأَعْرِفُ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ وَمَنْ وَقَعَتْ لَهُ مِمَّنْ أَعْرِفُهُ مَا يَطُولُ حِكَايَتُهُ ؛ فَإِنَّهُمْ كَثِيرُونَ جِدًّا . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ إلَى الثَّقَلَيْنِ وَاسْتَمَعَ الْجِنُّ لِقِرَاءَتِهِ وَوَلَّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . ثُمَّ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ : أَنَّهُمْ جَاءُوهُ بَعْدَ هَذَا وَإِنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ وَبَايَعُوهُ وَسَأَلُوهُ الزَّادَ لَهُمْ وَلِدَوَابِّهِمْ فَقَالَ لَهُمْ : { لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ

ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَعُودُ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَلَكُمْ كُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ } وَهَذَا ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْعَظْمِ وَالرَّوْثِ } فِي أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ { عَنْ سَلْمَانَ قَالَ : قِيلَ لَهُ : قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ قَالَ : فَقَالَ : أَجَلْ لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ وَأَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ وَأَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ وَأَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ عَظْمٍ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَمَسَّحَ بِعَظْمٍ أَوْ بِبَعْرٍ } وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ خُزَيْمَة بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِ . وَقَدْ بَيَّنَ عِلَّةَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْت مَعَهُ فَقَرَأْت عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ قَالَ : فَانْطَلَقَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ وَسَأَلُوهُ الزَّادَ فَقَالَ : لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ

فِي أَيْدِيكُمْ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا زَادُ إخْوَانِكُمْ } . فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إدَاوَةً لِوُضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ يَتَّبِعُهُ بِهَا قَالَ : مَنْ هَذَا ؟ قُلْت : أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسَتَنْفُضُ بِهَا وَلَا تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلَا بِرَوْثَةٍ فَأَتَيْته بِأَحْجَارٍ أَحْمِلُهَا فِي طَرَفِ ثَوْبِي حَتَّى وَضَعْتهَا إلَى جَنْبِهِ ثُمَّ انْصَرَفْت حَتَّى إذَا فَرَغَ مَشَيْت فَقُلْت : مَا بَالُ الْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ ؟ قَالَ : هُمَا مِنْ طَعَامِ الْجِنِّ وَإِنَّهُ أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ نصيبين - وَنِعْمَ الْجِنُّ - فَسَأَلُونِي الزَّادَ فَدَعَوْت اللَّهَ لَهُمْ أَنْ لَا يَمُرُّوا بِعَظْمِ وَلَا رَوْثَةٍ إلَّا وَجَدُوا عَلَيْهَا طَعَامًا } . وَلَمَّا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِمَا يُفْسِدُ طَعَامَ الْجِنِّ وَطَعَامَ دَوَابِّهِمْ كَانَ هَذَا تَنْبِيهًا عَلَى النَّهْيِ عَمَّا يُفْسِدُ طَعَامَ الْإِنْسِ وَطَعَامَ دَوَابِّهِمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لَكِنَّ كَرَاهَةَ هَذَا وَالنُّفُورَ عَنْهُ ظَاهِرٌ فِي فِطَرِ النَّاسِ بِخِلَافِ الْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ نَجَاسَةُ طَعَامِ الْجِنِّ ؛ فَلِهَذَا جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُتَعَدِّدَةُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ . وَقَدْ ثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ خَاطَبَ الْجِنَّ وَخَاطَبُوهُ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ وَأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ الزَّادَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إنَّ النَّبِيَّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرَ الْجِنَّ وَلَا خَاطَبَهُمْ وَلَكِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ سَمِعُوا الْقُرْآنَ وَابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ عَلِمَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ مَا عَلِمَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ إتْيَانِ الْجِنِّ إلَيْهِ وَمُخَاطَبَتِهِ إيَّاهُمْ وَأَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لَمَّا حُرِسَتْ السَّمَاءُ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَمُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَبَعْدَ هَذَا أَتَوْهُ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ وَصَارَ كُلَّمَا قَالَ : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قَالُوا : وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ آلَائِك رَبَّنَا نُكَذِّبُ فَلَك الْحَمْدُ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ خِطَابِ الثَّقَلَيْنِ مَا يُبَيِّنُ هَذَا الْأَصْلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْجِنِّ أَنَّهُمْ قَالُوا : { وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا } أَيْ : مَذَاهِبَ شَتَّى : مُسْلِمُونَ وَكُفَّارٌ ؛ وَأَهْلُ سُنَّةٍ وَأَهْلُ بِدْعَةٍ وَقَالُوا : { وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا } { وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا } وَالْقَاسِطُ : الْجَائِرُ يُقَالُ : قَسَطَ إذَا جَارَ وَأَقْسَطَ إذَا عَدَلَ . وَكَافِرُهُمْ مُعَذَّبٌ فِي الْآخِرَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا مُؤْمِنُهُمْ فَجُمْهُورُ

الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ وَقَدْ رُوِيَ : " أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي رُبَضِ الْجَنَّةِ تَرَاهُمْ الْإِنْسُ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ " . وَهَذَا الْقَوْلُ مَأْثُورٌ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ . وَقِيلَ : إنَّ ثَوَابَهُمْ النَّجَاةُ مِنْ النَّارِ وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقَدْ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ } قَالُوا : فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَأَتِّي الطَّمْثِ مِنْهُمْ لِأَنَّ طَمْثَ الْحُورِ الْعِينِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ .
فَصْلٌ :
وَإِذَا كَانَ الْجِنُّ أَحْيَاءً عُقَلَاءَ مَأْمُورِينَ مَنْهِيِّينَ لَهُمْ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ وَقَدْ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيهِمْ مَا يَسْتَعْمِلُهُ فِي الْإِنْسِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ كَمَا شَرَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَكَمَا دَعَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُعَامِلُهُمْ إذَا اعْتَدَوْا بِمَا يُعَامِلُ بِهِ الْمُعْتَدُونَ فَيَدْفَعُ صَوْلَهُمْ بِمَا يَدْفَعُ صَوْلَ الْإِنْسِ .
وَصَرْعُهُمْ لِلْإِنْسِ قَدْ يَكُونُ عَنْ شَهْوَةٍ وَهَوًى وَعِشْقٍ كَمَا يَتَّفِقُ لِلْإِنْسِ مَعَ الْإِنْسِ وَقَدْ يَتَنَاكَحُ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَيُولَدُ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ وَهَذَا كَثِيرٌ مَعْرُوفٌ وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ ذَلِكَ وَتَكَلَّمُوا عَلَيْهِ وَكَرِهَ أَكْثَرُ

الْعُلَمَاءِ مُنَاكَحَةَ الْجِنِّ . وَقَدْ يَكُونُ وَهُوَ كَثِيرٌ أَوْ الْأَكْثَرُ عَنْ بُغْضٍ وَمُجَازَاةٍ مِثْلَ أَنْ يُؤْذِيَهُمْ بَعْضُ الْإِنْسِ أَوْ يَظُنُّوا أَنَّهُمْ يَتَعَمَّدُوا أَذَاهُمْ إمَّا بِبَوْلٍ عَلَى بَعْضِهِمْ وَإِمَّا بِصَبِّ مَاءٍ حَارٍّ وَإِمَّا بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْإِنْسِيُّ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ - وَفِي الْجِنِّ جَهْلٌ وَظُلْمٌ - فَيُعَاقِبُونَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ وَقَدْ يَكُونُ عَنْ عَبَثٍ مِنْهُمْ وَشَرٍّ بِمِثْلِ سُفَهَاءِ الْإِنْسِ . وَحِينَئِذٍ فَمَا كَانَ مِنْ الْبَابِ الْأَوَّلِ فَهُوَ مِنْ الْفَوَاحِشِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا حَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى الْإِنْسِ وَإِنْ كَانَ بِرِضَا الْآخَرِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ مَعَ كَرَاهَتِهِ فَإِنَّهُ فَاحِشَةٌ وَظُلْمٌ ؟ فَيُخَاطِبُ الْجِنَّ بِذَلِكَ وَيَعْرِفُونَ أَنَّ هَذَا فَاحِشَةٌ مُحَرَّمَةٌ أَوْ فَاحِشَةٌ وَعُدْوَانٌ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَيَعْلَمُوا أَنَّهُ يَحْكُمُ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ إلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . وَمَا كَانَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي فَإِنْ كَانَ الْإِنْسِيُّ لَمْ يَعْلَمْ فَيُخَاطَبُونَ بِأَنَّ هَذَا لَمْ يُعْلَمْ وَمَنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْأَذَى لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي دَارِهِ وَمِلْكِهِ عَرَفُوا بِأَنَّ الدَّارَ مِلْكُهُ فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِمَا يَجُوزُ وَأَنْتُمْ لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَمْكُثُوا فِي مِلْكِ الْإِنْسِ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ بَلْ لَكُمْ مَا لَيْسَ مِنْ مَسَاكِنِ الْإِنْسِ كَالْخَرَابِ وَالْفَلَوَاتِ ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُونَ كَثِيرًا فِي الْخَرَابِ

وَالْفَلَوَاتِ وَيُوجَدُونَ فِي مَوَاضِعِ النَّجَاسَاتِ كَالْحَمَّامَاتِ وَالْحُشُوشِ وَالْمَزَابِلِ والقمامين وَالْمَقَابِرِ . وَالشُّيُوخُ الَّذِينَ تَقْتَرِنُ بِهِمْ الشَّيَاطِينُ وَتَكُونُ أَحْوَالُهُمْ شَيْطَانِيَّةً لَا رَحْمَانِيَّةً يَأْوُونَ كَثِيرًا إلَى هَذِهِ الْأَمَاكِنِ الَّتِي هِيَ مَأْوَى الشَّيَاطِينِ . وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ بِالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا لِأَنَّهَا مَأْوَى الشَّيَاطِينِ وَالْفُقَهَاءُ مِنْهُمْ مَنْ عَلَّلَ النَّهْيَ بِكَوْنِهَا مَظِنَّةَ النَّجَاسَاتِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ تَعَبُّدٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْحَمَّامِ وَأَعْطَانِ الْإِبِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَنَّهَا مَأْوَى الشَّيَاطِينِ وَفِي الْمَقْبَرَةِ أَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى الشِّرْكِ مَعَ أَنَّ الْمَقَابِرَ تَكُونُ أَيْضًا مَأْوًى لِلشَّيَاطِينِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَهْلَ الضَّلَالِ وَالْبِدَعِ الَّذِينَ فِيهِمْ زُهْدٌ وَعِبَادَةٌ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَلَهُمْ أَحْيَانًا مُكَاشَفَاتٌ وَلَهُمْ تَأْثِيرَاتٌ يَأْوُونَ كَثِيرًا إلَى مَوَاضِعِ الشَّيَاطِينِ الَّتِي نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ بِهَا وَتُخَاطِبُهُمْ الشَّيَاطِينُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ كَمَا تُخَاطِبُ الْكُهَّانَ وَكَمَا كَانَتْ تَدْخُلُ فِي الْأَصْنَامِ وَتُكَلِّمُ عَابِدِي الْأَصْنَامِ وَتُعِينُهُمْ فِي بَعْضِ الْمَطَالِبِ كَمَا تُعِينُ السَّحَرَةَ وَكَمَا تُعِينُ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ وَعُبَّادَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ إذَا عَبَدُوهَا بِالْعِبَادَاتِ الَّتِي يَظُنُّونَ أَنَّهَا تُنَاسِبُهَا مِنْ تَسْبِيحٍ لَهَا وَلِبَاسٍ وَبَخُورٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَإِنَّهُ قَدْ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ شَيَاطِينُ يُسَمُّونَهَا رُوحَانِيَّةَ الْكَوَاكِبِ وَقَدْ تَقْضِي بَعْضَ حَوَائِجِهِمْ إمَّا قَتْلَ بَعْضِ أَعْدَائِهِمْ أَوْ

إمْرَاضَهُ وَإِمَّا جَلْبَ بَعْضِ مَنْ يَهْوُونَهُ وَإِمَّا إحْضَارَ بَعْضِ الْمَالِ وَلَكِنَّ الضَّرَرَ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُمْ بِذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ النَّفْعِ بَلْ قَدْ يَكُونُ أَضْعَافَ أَضْعَافِ النَّفْعِ . وَاَلَّذِينَ يَسْتَخْدِمُونَ الْجِنَّ بِهَذِهِ الْأُمُورِ يَزْعُمُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ يَسْتَخْدِمُ الْجِنَّ بِهَا فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا مَاتَ كَتَبَتْ الشَّيَاطِينُ كُتُبَ سِحْرٍ وَكُفْرٍ وَجَعَلَتْهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ وَقَالُوا : كَانَ سُلَيْمَانُ يَسْتَخْدِمُ الْجِنَّ بِهَذِهِ فَطَعَنَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي سُلَيْمَانَ بِهَذَا . وَآخَرُونَ قَالُوا : لَوْلَا أَنَّ هَذَا حَقٌّ جَائِزٌ لَمَا فَعَلَهُ سُلَيْمَانُ ؛ فَضَلَّ الْفَرِيقَانِ هَؤُلَاءِ بِقَدْحِهِمْ فِي سُلَيْمَانَ وَهَؤُلَاءِ بِاتِّبَاعِهِمْ السِّحْرَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ } إلَى قَوْله تَعَالَى { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ ؛ إذْ كَانَ النَّفْعُ هُوَ الْخَيْرَ الْخَالِصَ أَوْ الرَّاجِحَ وَالضَّرَرُ هُوَ الشَّرُّ الْخَالِصُ أَوْ الرَّاجِحُ وَشَرُّ هَذَا إمَّا خَالِصٌ وَإِمَّا رَاجِحٌ . وَالْمَقْصُودُ أَنْ الْجِنَّ إذَا اعْتَدَوْا عَلَى الْإِنْسِ أُخْبِرُوا بِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأُقِيمَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ وَأُمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنُهُوا عَنْ الْمُنْكَرِ كَمَا يُفْعَلُ

بِالْإِنْسِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ حَتَّى تُؤْذَنَ ثَلَاثًا كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ بِالْمَدِينَةِ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ قَدْ أَسْلَمُوا فَمَنْ رَأَى شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْعَوَامِرِ فَلْيُؤْذِنْهُ ثَلَاثًا فَإِنْ بَدَا لَهُ بَعْدُ فَلْيَقْتُلْهُ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا { عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الخدري فِي بَيْتِهِ قَالَ : فَوَجَدْته يُصَلِّي فَجَلَسْت أَنْتَظِرُهُ حَتَّى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ فَسَمِعْت تَحْرِيكًا فِي عَرَاجِينَ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ فَالْتَفَتّ فَإِذَا حَيَّةٌ فَوَثَبْت لِأَقْتُلَهَا فَأَشَارَ إلَيَّ أَنْ اجْلِسْ فَجَلَسْت فَلَمَّا انْصَرَفَ أَشَارَ إلَى بَيْتٍ فِي الدَّارِ فَقَالَ : أَتَرَى هَذَا الْبَيْتَ ؟ فَقُلْت : نَعَمْ فَقَالَ : كَانَ فِيهِ فَتًى مِنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسِ قَالَ : فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْخَنْدَقِ فَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْصَافِ النَّهَارِ وَيَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذْ عَلَيْك سِلَاحَك فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْك قُرَيْظَةَ فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلَاحَهُ ثُمَّ رَجَعَ فَإِذَا امْرَأَتُهُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ قَائِمَةٌ فَأَهْوَى إلَيْهَا بِالرُّمْحِ لِيَطْعَنَهَا بِهِ وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ فَقَالَتْ :

اُكْفُفْ عَلَيْك رُمْحَك وَادْخُلْ الْبَيْتَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا الَّذِي أَخْرَجَنِي فَدَخَلَ فَإِذَا بِحَيَّةٍ عَظِيمَةٍ مُنْطَوِيَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ فَأَهْوَى إلَيْهَا بِالرُّمْحِ فَانْتَظَمَهَا بِهِ ثُمَّ خَرَجَ فَرَكَّزَهُ فِي الدَّارِ فَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ فَمَا يُدْرَى أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا الْحَيَّةُ أَمْ الْفَتَى ؟ قَالَ : فَجِئْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَقُلْنَا : اُدْعُ اللَّهَ يُحْيِيهِ لَنَا قَالَ : اسْتَغْفِرُوا لِصَاحِبِكُمْ ثُمَّ قَالَ : إنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ } وَفِي لَفْظٍ آخَرَ لِمُسْلِمِ أَيْضًا : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ لِهَذِهِ الْبُيُوتِ عَوَامِرَ فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْهَا فَحَرِّجُوا عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنْ ذَهَبَ وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ } وَقَالَ لَهُمْ : { اذْهَبُوا فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ } . وَذَلِكَ أَنَّ قَتْلَ الْجِنِّ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ قَتْلُ الْإِنْسِ بِلَا حَقٍّ وَالظُّلْمُ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ حَالٍ ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا وَلَوْ كَانَ كَافِرًا بَلْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } .
وَالْجِنُّ يَتَصَوَّرُونَ فِي صُوَرِ الْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ فَيَتَصَوَّرُونَ فِي صُوَرِ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَغَيْرِهَا وَفِي صُوَرِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَفِي صُوَرِ الطَّيْرِ وَفِي صُوَرِ بَنِي آدَمَ كَمَا أَتَى الشَّيْطَانُ قُرَيْشًا فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ لَمَّا أَرَادُوا الْخُرُوجَ إلَى بَدْرٍ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ

أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } . وَكَمَا رُوِيَ أَنَّهُ تَصَوَّرَ فِي صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيٍّ لَمَّا اجْتَمَعُوا بِدَارِ النَّدْوَةِ هَلْ يَقْتُلُوا الرَّسُولَ أَوْ يَحْبِسُونَهُ أَوْ يُخْرِجُونَهُ ؟ كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } فَإِذَا كَانَ حَيَّاتُ الْبُيُوتِ قَدْ تَكُونُ جِنًّا فَتُؤْذَنُ ثَلَاثًا فَإِنْ ذَهَبَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ فَإِنَّهَا إنْ كَانَتْ حَيَّةً قُتِلَتْ وَإِنْ كَانَتْ جِنِّيَّةً فَقَدْ أَصَرَّتْ عَلَى الْعُدْوَانِ بِظُهُورِهَا لِلْإِنْسِ فِي صُورَةِ حَيَّةٍ تُفْزِعُهُمْ بِذَلِكَ وَالْعَادِي هُوَ الصَّائِلُ الَّذِي يَجُوزُ دَفْعُهُ بِمَا يَدْفَعُ ضَرَرَهُ وَلَوْ كَانَ قَتْلًا وَأَمَّا قَتْلُهُمْ بِدُونِ سَبَبٍ يُبِيحُ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ . وَأَهْلُ الْعَزَائِمِ وَالْأَقْسَامِ يُقْسِمُونَ عَلَى بَعْضِهِمْ لِيُعِينَهُمْ عَلَى بَعْضٍ تَارَةً يَبِرُّونَ قَسَمَهُ وَكَثِيرًا لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْجِنِّيُّ مُعَظَّمًا عِنْدَهُمْ وَلَيْسَ لِلْمُعَزِّمِ وَعَزِيمَتِهِ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا يَقْتَضِي إعَانَتَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إذْ كَانَ الْمُعَزِّمُ قَدْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُحَلِّفُ غَيْرَهُ وَيُقْسِمُ عَلَيْهِ بِمَنْ يُعَظِّمُهُ وَهَذَا تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُ فَمَنْ أَقْسَمَ عَلَى النَّاسِ لِيُؤْذُوا مَنْ هُوَ عَظِيمٌ عِنْدَهُمْ لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ ذَاكَ مَنِيعًا فَأَحْوَالُهُمْ شَبِيهَةٌ بِأَحْوَالِ

الْإِنْسِ لَكِنَّ الْإِنْسَ أَعْقَلُ وَأَصْدَقُ وَأَعْدَلُ وَأَوْفَى بِالْعَهْدِ ؛ وَالْجِنُّ أَجْهَلُ وَأَكْذَبُ وَأَظْلَمُ وَأَغْدَرُ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَرْبَابَ الْعَزَائِمِ مَعَ كَوْنِ عَزَائِمِهِمْ تَشْتَمِلُ عَلَى شِرْكٍ وَكُفْرٍ لَا تَجُوزُ الْعَزِيمَةُ وَالْقَسَمُ بِهِ فَهُمْ كَثِيرًا مَا يَعْجِزُونَ عَنْ دَفْعِ الْجِنِّيِّ وَكَثِيرًا مَا تَسْخَرُ مِنْهُمْ الْجِنُّ إذَا طَلَبُوا مِنْهُمْ قَتْلَ الْجِنِّيِّ الصَّارِعِ لِلْإِنْسِ أَوْ حَبْسَهُ فَيُخَيِّلُوا إلَيْهِمْ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ أَوْ حَبَسُوهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ تَخْيِيلًا وَكَذِبًا هَذَا إذَا كَانَ الَّذِي يَرَى مَا يُخَيِّلُونَهُ صَادِقًا فِي الرُّؤْيَةِ فَإِنَّ عَامَّةَ مَا يَعْرِفُونَهُ لِمَنْ يُرِيدُونَ تَعْرِيفَهُ إمَّا بِالْمُكَاشَفَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ عِبَادِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَمُبْتَدِعَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تُضِلُّهُمْ الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ وَأَمَّا مَا يُظْهِرُونَهُ لِأَهْلِ الْعَزَائِمِ وَالْأَقْسَامِ أَنَّهُمْ يُمَثِّلُونَ مَا يُرِيدُونَ تَعْرِيفَهُ فَإِذَا رَأَى الْمِثَالَ أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ يَعْرِفُ أَنَّهُ مِثَالٌ وَقَدْ يُوهِمُونَهُ أَنَّهُ نَفْسُ الْمَرْئِيِّ وَإِذَا أَرَادُوا سَمَاعَ كَلَامِ مَنْ يُنَادِيهِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ مِثْلَ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِبَعْضِ الْعِبَادِ الضَّالِّينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَأَهْلِ الْجَهْلِ مِنْ عِبَادِ الْمُسْلِمِينَ إذَا اسْتَغَاثَ بِهِ بَعْضُ مُحِبِّيهِ فَقَالَ : يَا سَيِّدِي فُلَانُ فَإِنَّ الْجِنِّيَّ يُخَاطِبُهُ بِمِثْلِ صَوْتِ ذَلِكَ الْإِنْسِيِّ فَإِذَا رَدَّ الشَّيْخُ عَلَيْهِ الْخِطَابَ أَجَابَ ذَلِكَ الْإِنْسِيُّ بِمِثْلِ ذَلِكَ الصَّوْتِ وَهَذَا وَقَعَ لِعَدَدٍ كَثِيرٍ أَعْرِفُ مِنْهُمْ طَائِفَةً .

فَصْلٌ :
وَكَثِيرًا مَا يَتَصَوَّرُ الشَّيْطَانُ بِصُورَةِ الْمَدْعُوِّ الْمُنَادَى الْمُسْتَغَاثِ بِهِ إذَا كَانَ مَيِّتًا . وَكَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ حَيًّا وَلَا يَشْعُرُ بِاَلَّذِي نَادَاهُ ؛ بَلْ يَتَصَوَّرُ الشَّيْطَانُ بِصُورَتِهِ فَيَظُنُّ الْمُشْرِكُ الضَّالُّ الْمُسْتَغِيثُ بِذَلِكَ الشَّخْصِ أَنَّ الشَّخْصَ نَفْسَهُ أَجَابَهُ وَإِنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ وَهَذَا يَقَعُ لِلْكُفَّارِ الْمُسْتَغِيثِينَ بِمَنْ يُحْسِنُونَ بِهِ الظَّنَّ مِنْ الْأَمْوَاتِ وَالْأَحْيَاءِ كَالنَّصَارَى الْمُسْتَغِيثِينَ بجرجس وَغَيْرِهِ مِنْ قَدَادِيسِهِمْ وَيَقَعُ لِأَهْلِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ الَّذِينَ يَسْتَغِيثُونَ بِالْمَوْتَى وَالْغَائِبِينَ يَتَصَوَّرُ لَهُمْ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الْمُسْتَغَاثِ بِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ . وَأَعْرِفُ عَدَدًا كَثِيرًا وَقَعَ لَهُمْ فِي عِدَّةِ أَشْخَاصٍ يَقُولُ لِي كُلٌّ مِنْ الْأَشْخَاصِ : أَنِّي لَمْ أَعْرِفْ أَنَّ هَذَا اسْتَغَاثَ بِي وَالْمُسْتَغِيثُ قَدْ رَأَى ذَلِكَ الَّذِي هُوَ عَلَى صُورَةِ هَذَا وَمَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ إلَّا هَذَا . وَذَكَرَ لِي غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُمْ اسْتَغَاثُوا بِي كُلٌّ يَذْكُرُ قِصَّةً غَيْرَ قِصَّةِ صَاحِبِهِ فَأَخْبَرْت كُلًّا مِنْهُمْ أَنِّي لَمْ أُجِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ وَلَا عَلِمْت بِاسْتِغَاثَتِهِ فَقِيلَ :

هَذَا يَكُونُ مَلَكًا فَقُلْت : الْمَلَكُ لَا يُغِيثُ الْمُشْرِكَ إنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ أَرَادَ أَنْ يُضِلَّهُ . وَكَذَلِكَ يَتَصَوَّرُ بِصُورَتِهِ وَيَقِفُ بِعَرَفَاتِ فَيَظُنُّ مَنْ يُحْسِنُ بِهِ الظَّنَّ أَنَّهُ وَقَفَ بِعَرَفَاتِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ حَمَلَهُ الشَّيْطَانُ إلَى عَرَفَاتٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْحَرَمِ فَيَتَجَاوَزُ الْمِيقَاتَ بِلَا إحْرَامٍ وَلَا تَلْبِيَةٍ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَلَا بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَفِيهِمْ مَنْ لَا يَعْبُرُ مَكَّةَ وَفِيهِمْ مَنْ يَقِفُ بِعَرَفَاتِ وَيَرْجِعُ وَلَا يَرْمِي الْجِمَارَ إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يُضِلُّهُمْ بِهَا الشَّيْطَانُ حَيْثُ فَعَلُوا مَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ إمَّا مُحَرَّمٌ وَإِمَّا مَكْرُوهٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ وَقَدْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَنَّ هَذَا مِنْ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ وَهُوَ مِنْ تَلْبِيسِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعْبَدُ إلَّا بِمَا هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ وَكُلُّ مَنْ عَبَدَ عِبَادَةً لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً وَظَنَّهَا وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً فَإِنَّمَا زَيَّنَ ذَلِكَ لَهُ الشَّيْطَانُ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ عَفَا عَنْهُ لِحُسْنِ قَصْدِهِ وَاجْتِهَادِهِ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُكْرِمُ اللَّهُ بِهِ أَوْلِيَاءَهُ الْمُتَّقِينَ إذْ لَيْسَ فِي فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ إكْرَامٌ بَلْ الْإِكْرَامُ حِفْظُهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْعُهُ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُنْقِصُهُ لَا يُزِيدُهُ وَإِنْ لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُخْفِضَهُ عَمَّا كَانَ وَيُخْفِضَ أَتْبَاعَهُ الَّذِينَ يَمْدَحُونَ هَذِهِ الْحَالَ وَيُعَظِّمُونَ صَاحِبَهَا فَإِنَّ مَدْحَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَتَعْظِيمَ صَاحِبِهَا هُوَ مِنْ الضَّلَالِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ فِي

الْبِدَعِ اجْتِهَادًا ازْدَادَ مِنْ اللَّهِ بُعْدًا لِأَنَّهَا تُخْرِجُهُ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ؛ سَبِيلِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ إلَى بَعْضِ سَبِيلِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ .
فَصْلٌ :
إذَا عُرِفَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ فَنَقُولُ : يَجُوزُ بَلْ يُسْتَحَبُّ وَقَدْ يَجِبُ أَنْ يُذَبَّ عَنْ الْمَظْلُومِ وَأَنْ يُنْصَرَ ؛ فَإِنَّ نَصْرَ الْمَظْلُومِ مَأْمُورٌ بِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ أَوْ الْمُقْسِمِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ . وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمَ أَوْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ ؛ وَعَنْ شُرْبٍ بِالْفِضَّةِ ؛ وَعَنْ الْمَيَاثِرِ وَعَنْ الْقِسِيِّ وَلُبْسِ الْحَرِيرِ ؛ وَالْإِسْتَبْرَقِ وَالدِّيبَاجِ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا ؟ قَالَ : تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ فَذَلِكَ نَصْرُك إيَّاهُ } وَأَيْضًا فَفِيهِ تَفْرِيجُ كُرْبَةِ هَذَا الْمَظْلُومِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي

هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الرُّقَى قَالَ : مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ } لَكِنْ يَنْصُرُ بِالْعَدْلِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِثْلَ الْأَدْعِيَةِ وَالْأَذْكَارِ الشَّرْعِيَّةِ وَمِثْلَ أَمْرِ الْجِنِّيِّ وَنَهْيِهِ كَمَا يُؤْمَرُ الْإِنْسِيُّ وَيُنْهَى وَيَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي حَقِّ الْإِنْسِيِّ مِثْلَ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى انْتِهَارِ الْجِنِّيِّ وَتَهْدِيدِهِ وَلَعْنِهِ وَسَبِّهِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : { قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ : أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك ثُمَّ قَالَ : أَلْعَنُك بِلَعْنَةِ اللَّهِ ثَلَاثًا وَبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ سَمِعْنَاك تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْك تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَرَأَيْنَاك بَسَطْت يَدَك قَالَ : إنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إبْلِيسَ جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي فَقُلْت : أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قُلْت : أَلْعَنُك بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَرَدْت أَخْذَهُ ووالله لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ } فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْهُ

وَلَعْنَتُهُ بِلَعْنَةِ اللَّهِ وَلَمْ يَسْتَأْخِرْ بِذَلِكَ فَمَدَّ يَدَهُ إلَيْهِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي فَشَدَّ عَلَيَّ لِيَقْطَعَ الصَّلَاةَ عَلَيَّ فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فذعته وَلَقَدْ هَمَمْت أَنْ أُوثِقَهُ إلَى سَارِيَةٍ حَتَّى تُصْبِحُوا فَتَنْظُرُوا إلَيْهِ فَذَكَرْت قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي } فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِئًا } فَهَذَا الْحَدِيثُ يُوَافِقُ الْأَوَّلَ وَيُفَسِّرُهُ وَقَوْلُهُ : " ذعته " أَيْ : خَنَقْته فَبَيَّنَ أَنَّ مَدَّ الْيَدِ كَانَ لِخَنْقِهِ وَهَذَا دَفْعٌ لِعُدْوَانِهِ بِالْفِعْلِ وَهُوَ الْخَنْقُ وَبِهِ انْدَفَعَ عُدْوَانُهُ فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِئًا . وَأَمَّا الزِّيَادَةُ وَهُوَ رَبْطُهُ إلَى السَّارِيَةِ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّصَرُّفِ الْمَلَكِيِّ الَّذِي تَرَكَهُ لِسُلَيْمَانَ فَإِنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَصَرَّفُ فِي الْجِنِّ كَتَصَرُّفِهِ فِي الْإِنْسِ تَصَرُّفَ عَبْدٍ رَسُولٍ يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ لَا يَتَصَرَّفُ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ وَهُوَ التَّصَرُّفُ الْمَلَكِيُّ ؛ فَإِنَّهُ كَانَ عَبْدًا رَسُولًا وَسُلَيْمَانُ نَبِيٌّ مَلِكٌ وَالْعَبْدُ الرَّسُولُ أَفْضَلُ مِنْ النَّبِيِّ الْمَلِكِ كَمَا أَنَّ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ أَفْضَلُ مِنْ عُمُومِ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَقَدْ رَوَى النَّسَائِي عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ { عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ فَخَنَقَهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى وَجَدْت بَرْدَ لِسَانِهِ عَلَى يَدِي وَلَوْلَا

دَعْوَةُ سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مُوثَقًا حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ } . وَرَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَفِيهِ : { فَأَهْوَيْت بِيَدِي فَمَا زِلْت أَخْنُقُهُ حَتَّى وَجَدْت بَرْدَ لُعَابِهِ بَيْنَ أُصْبُعَيْ هَاتَيْنِ : الْإِبْهَامِ وَاَلَّتِي تَلِيهَا } وَهَذَا فِعْلُهُ فِي الصَّلَاةِ وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ مِثْلِ هَذَا فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ كَدَفْعِ الْمَارِّ وَقَتْلِ الْأَسْوَدَيْنِ وَالصَّلَاةِ حَالَ الْمُسَايَفَةِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي شَيْطَانِ الْجِنِّ إذَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي هَلْ يَقْطَعُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد كَمَا ذَكَرَهُمَا ابْنُ حَامِدٍ وَغَيْرُهُ : أَحَدُهُمَا : يَقْطَعُ لِهَذَا الْحَدِيثِ ؛ وَلِقَوْلِهِ لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ مُرُورَ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ يَقْطَعُ لِلصَّلَاةِ : { الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ } فَعَلَّلَ بِأَنَّهُ شَيْطَانٌ . وَهُوَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ شَيْطَانُ الْكِلَابِ وَالْجِنُّ تَتَصَوَّرُ بِصُورَتِهِ كَثِيرًا وَكَذَلِكَ صُورَةُ الْقِطِّ الْأَسْوَدِ ؛ لِأَنَّ السَّوَادَ أَجْمَعُ لِلْقُوَى الشَّيْطَانِيَّةِ مِنْ غَيْرِهِ وَفِيهِ قُوَّةُ الْحَرَارَةِ . وَمِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى الْجِنِّ الذَّبَائِحُ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَذْبَحُ لِلْجِنِّ وَهُوَ مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَرُوِيَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَبَائِحِ الْجِنِّ وَإِذَا بَرِئَ الْمُصَابُ بِالدُّعَاءِ . وَالذِّكْرِ وَأَمْرِ الْجِنِّ وَنَهْيِهِمْ وَانْتِهَارِهِمْ

وَسَبِّهِمْ وَلَعْنِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ مَرَضَ طَائِفَةٍ مِنْ الْجِنِّ أَوْ مَوْتَهُمْ فَهُمْ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ إذَا كَانَ الرَّاقِي الدَّاعِي الْمُعَالِجُ لَمْ يَتَعَدَّ عَلَيْهِمْ كَمَا يَتَعَدَّى عَلَيْهِمْ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعَزَائِمِ فَيَأْمُرُونَ بِقَتْلِ مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ وَقَدْ يَحْبِسُونَ مَنْ لَا يَحْتَاجُ إلَى حَبْسِهِ ؛ وَلِهَذَا قَدْ تُقَاتِلُهُمْ الْجِنُّ عَلَى ذَلِكَ فَفِيهِمْ مَنْ تَقْتُلُهُ الْجِنُّ أَوْ تُمْرِضُهُ وَفِيهِمْ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ أَوْ دَوَابِّهِ . وَأَمَّا مَنْ سَلَكَ فِي دَفْعِ عَدَاوَتِهِمْ مَسْلَكَ الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَظْلِمْهُمْ بَلْ هُوَ مُطِيعٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي نَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَالتَّنْفِيسِ عَنْ الْمَكْرُوبِ بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شِرْكٌ بِالْخَلْقِ وَلَا ظُلْمٌ لِلْمَخْلُوقِ وَمِثْلُ هَذَا لَا تُؤْذِيهِ الْجِنُّ إمَّا لِمَعْرِفَتِهِمْ بِأَنَّهُ عَادِلٌ ؛ وَإِمَّا لِعَجْزِهِمْ عَنْهُ . وَإِنْ كَانَ الْجِنُّ مِنْ الْعَفَارِيتِ وَهُوَ ضَعِيفٌ فَقَدْ تُؤْذِيهِ فَيَنْبَغِي لِمِثْلِ هَذَا أَنْ يَحْتَرِزَ بِقِرَاءَةِ الْعَوْذِ مِثْلَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَالْمُعَوِّذَاتِ وَالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُقَوِّي الْإِيمَانَ وَيُجَنِّبُ الذُّنُوبَ الَّتِي بِهَا يُسَلَّطُونَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَنْصُرَ الْعَدُوَّ عَلَيْهِ بِذُنُوبِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ فَوْقَ قُدْرَتِهِ فَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا فَلَا يَتَعَرَّضُ مِنْ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ . وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَنْتَصِرُ بِهِ عَلَيْهِمْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ

الْبُخَارِيِّ حَدِيثُ { أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْته وَقُلْت لَأَرْفَعَنك إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ قَالَ : فَخَلَّيْت عَنْهُ فَأَصْبَحْت فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُك الْبَارِحَةَ ؟ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالًا فَرَحِمْته وَخَلَّيْت سَبِيلَهُ قَالَ : أَمَا أَنَّهُ قَدْ كَذَبَك وَسَيَعُودُ فَعَرَفْت أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَصَدْته فَجَاءَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْته فَقُلْت : لَأَرْفَعَنك إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ لَا أَعُودُ فَرَحِمْته فَخَلَّيْت سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْت فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُك ؟ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً وَعِيَالًا فَرَحِمْته فَخَلَّيْت سَبِيلَهُ قَالَ : أَمَا إنَّهُ قَدْ كَذَبَك وَسَيَعُودُ فَرَصَدْته الثَّالِثَةَ فَجَاءَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْته فَقُلْت : لَأَرْفَعَنك إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا آخِرُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ تَزْعُمُ أَنَّك لَا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ قَالَ : دَعْنِي أُعَلِّمُك كَلِمَاتٍ يَنْفَعُك اللَّهُ بِهَا قُلْت : مَا هُنَّ ؟ قَالَ : إذَا أَوَيْت إلَى فِرَاشِك فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ فَإِنَّك لَنْ يَزَالَ عَلَيْك مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُك شَيْطَانٌ حَتَّى

تُصْبِحَ فَخَلَّيْت سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْت فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فَعَلَ أَسِيرُك الْبَارِحَةَ ؟ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا فَخَلَّيْت سَبِيلَهُ قَالَ : مَا هِيَ ؟ قُلْت : قَالَ لِي : إذَا أَوَيْت إلَى فِرَاشِك فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وَقَالَ لِي : لَنْ يَزَالَ عَلَيْك مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُك شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الْخَيْرِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَا إنَّهُ قَدْ صَدَقَك وَهُوَ كَذُوبٌ تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ قُلْت : لَا . قَالَ : ذَاكَ شَيْطَانٌ } . وَمَعَ هَذَا فَقَدَ جَرَّبَ الْمُجَرِّبُونَ الَّذِينَ لَا يُحْصُونَ كَثْرَةً أَنَّ لَهَا مِنْ التَّأْثِيرِ فِي دَفْعِ الشَّيَاطِينِ وَإِبْطَالِ أَحْوَالِهِمْ مَا لَا يَنْضَبِطُ مِنْ كَثْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ فَإِنَّ لَهَا تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي دَفْعِ الشَّيْطَانِ عَنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَعَنْ الْمَصْرُوعِ وَعَنْ مَنْ تُعِينُهُ الشَّيَاطِينُ مِثْلَ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْغَضَبِ وَأَهْلِ الشَّهْوَةِ وَالطَّرَبِ وَأَرْبَابِ السَّمَاعِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ إذَا قُرِئَتْ عَلَيْهِمْ بِصِدْقٍ دَفَعَتْ الشَّيَاطِينَ وَبَطَلَتْ الْأُمُورُ الَّتِي يُخَيِّلُهَا الشَّيْطَانُ وَيَبْطُلُ مَا عِنْدَ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ مِنْ مُكَاشَفَةٍ شَيْطَانِيَّةٍ وَتَصَرُّفٍ شَيْطَانِيٍّ إذْ كَانَتْ الشَّيَاطِينُ يُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ بِأُمُورٍ يَظُنُّهَا الْجُهَّالُ مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ

الْمُتَّقِينَ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ تَلْبِيسَاتِ الشَّيَاطِينِ عَلَى أَوْلِيَائِهِمْ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ . وَالصَّائِلُ الْمُعْتَدِي يَسْتَحِقُّ دَفْعُهُ سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } فَإِذَا كَانَ الْمَظْلُومُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ مَالِ الْمَظْلُومِ وَلَوْ بِقَتْلِ الصَّائِلِ الْعَادِي فَكَيْفَ لَا يَدْفَعُ عَنْ عَقْلِهِ وَبَدَنِهِ وَحُرْمَتِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يُفْسِدُ عَقْلَهُ وَيُعَاقِبُهُ فِي بَدَنِهِ وَقَدْ يَفْعَلُ مَعَهُ فَاحِشَةَ إنْسِيٍّ بِإِنْسِيِّ وَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِالْقَتْلِ جَازَ قَتْلُهُ . وَأَمَّا إسْلَامُ صَاحِبِهِ وَالتَّخَلِّي عَنْهُ فَهُوَ مِثْلُ إسْلَامِ أَمْثَالِهِ مِنْ الْمَظْلُومِينَ وَهَذَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يُسْلِمُهُ وَلَا يَظْلِمُهُ } فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ ذَلِكَ أَوْ هُوَ مَشْغُولٌ بِمَا هُوَ أَوْجَبُ مِنْهُ أَوْ قَامَ بِهِ غَيْرُهُ لَمْ يَجِبْ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا وَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ وَلَا يَشْغَلُهُ عَمَّا هُوَ أَوْجَبُ مِنْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ . وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : هَلْ هَذَا مَشْرُوعٌ ؟ فَهَذَا مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ ؛ فَإِنَّهُ مَا زَالَ الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ

يَدْفَعُونَ الشَّيَاطِينَ عَنْ بَنِي آدَمَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ كَمَا كَانَ الْمَسِيحُ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَكَمَا كَانَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَقَدْ رَوَى أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ مَطَرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْنَقِ قَالَ : حَدَّثَتْنِي { أُمُّ أَبَانَ بِنْتُ الْوَازِعِ بْنِ زَارِعٍ فِي عَامِرٍ العبدي ؛ عَنْ أَبِيهَا أَنَّ جَدَّهَا الزَّارِعَ انْطَلَقَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقَ مَعَهُ بِابْنٍ لَهُ مَجْنُونٍ - أَوْ ابْنِ أُخْتٍ لَهُ - قَالَ جَدِّي : فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْت : إنَّ مَعِي ابْنًا لِي - أَوْ ابْنَ أُخْتٍ لِي - مَجْنُونٌ أَتَيْتُك بِهِ تَدْعُو اللَّهَ لَهُ . قَالَ : ائْتِنِي بِهِ قَالَ : فَانْطَلَقْت بِهِ إلَيْهِ وَهُوَ فِي الرِّكَابِ فَأَطْلَقْت عَنْهُ وَأَلْقَيْت عَنْهُ ثِيَابَ السَّفَرِ وَأَلْبَسْته ثَوْبَيْنِ حَسَنَيْنِ وَأَخَذْت بِيَدِهِ حَتَّى انْتَهَيْت بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اُدْنُهُ مِنِّي اجْعَلْ ظَهْرَهُ مِمَّا يَلِينِي قَالَ : بِمَجَامِعِ ثَوْبِهِ مِنْ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ فَجَعَلَ يَضْرِبُ ظَهْرَهُ حَتَّى رَأَيْت بَيَاضَ إبِطَيْهِ وَيَقُولُ : اُخْرُجْ عَدُوَّ اللَّهِ اُخْرُجْ عَدُوَّ اللَّهِ فَأَقْبَلَ يَنْظُرُ نَظَرَ الصَّحِيحِ لَيْسَ بِنَظَرِهِ الْأَوَّلِ ثُمَّ أَقْعَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَدَعَا لَهُ بِمَاءِ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَدَعَا لَهُ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْوَفْدِ أَحَدٌ بَعْدَ دَعْوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْضُلُ عَلَيْهِ } . وَقَالَ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ : ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ ؛ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ؛ { عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ قَالَ : لَقَدْ رَأَيْت مِنْ

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا مَا رَآهَا أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا يَرَاهَا أَحَدٌ بَعْدِي لَقَدْ خَرَجْت مَعَهُ فِي سَفَرٍ حَتَّى إذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ مَرَرْنَا بِامْرَأَةٍ جَالِسَةٍ مَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا صَبِيٌّ أَصَابَهُ بَلَاءٌ وَأَصَابَنَا مِنْهُ بَلَاءٌ يُؤْخَذُ فِي الْيَوْمِ مَا أَدْرِي كَمْ مَرَّةً قَالَ : نَاوِلِينِيهِ فَرَفَعْته إلَيْهِ فَجَعَلَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاسِطَةِ الرَّحْلِ ثُمَّ فَغَرَ فَاهُ فَنَفَثَ فِيهِ ثَلَاثًا وَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ اخْسَأْ عَدُوَّ اللَّهِ ثُمَّ نَاوَلَهَا إيَّاهُ فَقَالَ : أَلْقِينَا فِي الرَّجْعَةِ فِي هَذَا الْمَكَانِ فَأَخْبِرِينَا مَا فَعَلَ قَالَ : فَذَهَبْنَا وَرَجَعْنَا فَوَجَدْنَاهَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مَعَهَا شِيَاهٌ ثَلَاثٌ فَقَالَ : مَا فَعَلَ صَبِيُّك ؟ فَقَالَتْ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا حَسَسْنَا مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى السَّاعَةَ فَاجْتَرِرْ هَذِهِ الْغَنَمَ قَالَ : انْزِلْ خُذْ مِنْهَا وَاحِدَةً وَرُدَّ الْبَقِيَّةَ } . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ . ثَنَا وَكِيعٌ قَالَ : ثَنَا الْأَعْمَشُ ؛ عَنْ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو ؛ عَنْ يَعْلَى بْن مُرَّةَ ؛ عَنْ أَبِيهِ قَالَ وَكِيعٌ : مُرَّةُ يَعْنِي الثَّقَفِيَّ ؛ وَلَمْ يَقُلْ : مُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ : { أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا بِهِ لَمَمٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُخْرُجْ عَدُوَّ اللَّهِ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ : فَبَرَأَ قَالَ : فَأَهْدَتْ إلَيْهِ كَبْشَيْنِ وَشَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَشَيْئًا مِنْ سَمْنٍ قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذْ الْأَقِطَ وَالسَّمْنَ وَخُذْ أَحَدَ الْكَبْشَيْنِ وَرُدَّ عَلَيْهَا الْآخَرَ } .

ثنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ؛ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَفْصٍ { عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ الثَّقَفِيِّ قَالَ : ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ رَأَيْتهنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ قَالَ : ثُمَّ سِرْنَا فَمَرَرْنَا بِمَاءٍ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ بِابْنٍ لَهَا بِهِ جِنَّةٌ فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْخَرِهِ فَقَالَ : اُخْرُجْ إنِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ : ثُمَّ سِرْنَا فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ سَفَرِنَا مَرَرْنَا بِذَلِكَ الْمَاءِ فَأَتَتْهُ الْمَرْأَةُ بِجَزَرٍ وَلَبَنٍ فَأَمَرَهَا أَنْ تَرُدَّ الْجَزَرَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَشَرِبُوا مِنْ اللَّبَنِ فَسَأَلَهَا عَنْ الصَّبِيِّ فَقَالَتْ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا رَأَيْنَا مِنْهُ رَيْبًا بَعْدَك } . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ لِكَوْنِ مِثْلِهِ لَمْ يَقَعْ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ ؛ لِكَوْنِ الشَّيَاطِينِ لَمْ تَكُنْ تَقْدِرُ [ أَنْ ] (1) تَفْعَلَ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَفَعَلَتْ ذَلِكَ عِنْدَنَا فَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ نَصْرِ الْمَظْلُومِ وَالتَّنْفِيسِ عَنْ الْمَكْرُوبِ وَنَفْعِ الْمُسْلِمِ بِمَا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ الَّذِينَ رَقُوا بِالْفَاتِحَةِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَمَا أَدْرَاك أَنَّهَا رُقْيَةٌ } { وَأَذِنَ لَهُمْ فِي أَخْذِ الْجُعْلِ عَلَى شِفَاءِ اللَّدِيغِ بِالرُّقْيَةِ } وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلشَّيْطَانِ الَّذِي أَرَادَ قَطْعَ صَلَاتِهِ : أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك أَلْعَنُك بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } وَهَذَا كَدَفْعِ ظَالِمِي الْإِنْسِ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَرَوْا التَّرْكَ وَلَمْ يَكُونُوا يَرْمُونَ بِالْقِسِيِّ الْفَارِسِيَّةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي قِتَالٍ فَقَدَ

ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ وَأَخْبَرَ أَنَّ أُمَّتَهُ سَتُقَاتِلُهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ قِتَالَهُمْ النَّافِعَ إنَّمَا هُوَ بِالْقِسِيِّ الْفَارِسِيَّةِ وَلَوْ قُوتِلُوا بِالْقِسِيِّ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي تُشْبِهُ قَوْسَ الْقُطْنِ لَمْ تُغْنِ شَيْئًا ؛ بَلْ اسْتَطَالُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِقُوَّةِ رَمْيِهِمْ فَلَا بُدَّ مِنْ قِتَالِهِمْ بِمَا يَقْهَرُهُمْ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ : إنَّ الْعَدُوَّ إذَا رَأَيْنَاهُمْ قَدْ لَبِسُوا الْحَرِيرَ وَجَدْنَا فِي قُلُوبِنَا رَوْعَةً فَقَالَ : وَأَنْتُمْ فَالْبَسُوا كَمَا لَبِسُوا . وَقَدْ { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ بِالرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ } لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَشْرُوعًا قَبْلَ هَذَا فَفَعَلَ لِأَجْلِ الْجِهَادِ مَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا بِدُونِ ذَلِكَ . وَلِهَذَا قَدْ يَحْتَاجُ فِي إبْرَاءِ الْمَصْرُوعِ وَدَفْعِ الْجِنِّ عَنْهُ إلَى الضَّرْبِ فَيُضْرَبُ ضَرْبًا كَثِيرًا جِدًّا وَالضَّرْبُ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْجِنِّيِّ وَلَا يَحُسُّ بِهِ الْمَصْرُوعُ حَتَّى يَفِيقَ الْمَصْرُوعُ وَيُخْبِرَ أَنَّهُ لَمْ يَحُسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُؤَثِّرُ فِي بَدَنِهِ وَيَكُونُ قَدْ ضُرِبَ بِعَصَا قَوِيَّةٍ عَلَى رِجْلَيْهِ نَحْوَ ثَلَاثِمِائَةٍ أَوْ أَرْبَعِمِائَةِ ضَرْبَةً وَأَكْثَرَ وَأَقَلَّ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ عَلَى الْإِنْسِيِّ لَقَتَلَهُ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْجِنِّيِّ وَالْجِنِّيُّ يَصِيحُ وَيَصْرُخُ وَيُحَدِّثُ الْحَاضِرِينَ بِأُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَمَا قَدْ فَعَلْنَا نَحْنُ هَذَا وَجَرَّبْنَاهُ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً يَطُولُ وَصْفُهَا بِحَضْرَةِ خَلْقٍ كَثِيرِينَ .

وَأَمَّا الِاسْتِعَانَةُ عَلَيْهِمْ بِمَا يُقَالُ وَيُكْتَبُ مِمَّا لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ فَلَا يُشْرَعُ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ فِيهِ شِرْكٌ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ . وَعَامَّةُ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْعَزَائِمِ فِيهِ شِرْكٌ وَقَدْ يَقْرَءُونَ مَعَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ وَيُظْهِرُونَهُ وَيَكْتُمُونَ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ الشِّرْكِ وَفِي الِاسْتِشْفَاءِ بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مَا يُغْنِي عَنْ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ . وَالْمُسْلِمُونَ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمَاتِ كَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ فَلَا يَتَنَازَعُونَ فِي أَنَّ الْكُفْرَ وَالشِّرْكَ لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِ بِحَالِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ حَالٍ وَلَيْسَ هَذَا كَالتَّكَلُّمِ بِهِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ . فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ وَالتَّكَلُّمُ بِهِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ إذَا كَانَ بِقَلْبِ صَاحِبِهِ وَلَوْ تَكَلَّمَ بِهِ مَعَ طُمَأْنِينَةِ قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ لَمْ يُؤَثِّرْ . وَالشَّيْطَانُ إذَا عَرَفَ أَنَّ صَاحِبَهُ مُسْتَخِفٌّ بِالْعَزَائِمِ لَمْ يُسَاعِدْهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُكْرَهَ مُضْطَرٌّ إلَى التَّكَلُّمِ بِهِ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إبْرَاءِ الْمُصَابِ بِهِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ لَا يُؤَثِّرُ أَكْثَرَ مِمَّا يُؤَثِّرُ مَنْ يُعَالِجُ بِالْعَزَائِمِ فَلَا يُؤَثِّرُ بَلْ يَزِيدُهُ شَرًّا . وَالثَّانِي : أَنَّ فِي الْحَقِّ مَا يُغْنِي عَنْ الْبَاطِلِ .

وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : قَوْمٌ يُكَذِّبُونَ بِدُخُولِ الْجِنِّيِّ فِي الْإِنْسِ . وَقَوْمٌ يَدْفَعُونَ ذَلِكَ بِالْعَزَائِمِ الْمَذْمُومَةِ فَهَؤُلَاءِ يُكَذِّبُونَ بِالْمَوْجُودِ وَهَؤُلَاءِ يَعْصُونَ بَلْ يَكْفُرُونَ بِالْمَعْبُودِ . وَالْأُمَّةُ الْوَسَطُ تُصَدِّقُ بِالْحَقِّ الْمَوْجُودِ وَتُؤْمِنُ بِالْإِلَهِ الْوَاحِدِ الْمَعْبُودِ وَبِعِبَادَتِهِ وَدُعَائِهِ وَذِكْرِهِ وَأَسْمَائِهِ وَكَلَامِهِ فَتَدْفَعُ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . وَأَمَّا سُؤَالُ الْجِنِّ وَسُؤَالُ مَنْ يَسْأَلُهُمْ فَهَذَا إنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّصْدِيقِ لَهُمْ فِي كُلِّ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ وَالتَّعْظِيمِ لِلْمَسْئُولِ فَهُوَ حَرَامٌ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ { عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِي قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُمُورًا كُنَّا نَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ كُنَّا نَأْتِي الْكُهَّانَ قَالَ : فَلَا تَأْتُوا الْكُهَّانَ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ؛ عَنْ نَافِعٍ ؛ عَنْ صَفِيَّةَ ؛ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا } . وَأَمَّا إنْ كَانَ يَسْأَلُ الْمَسْئُولَ لِيَمْتَحِنَ حَالَهُ وَيَخْتَبِرَ بَاطِنَ أَمْرِهِ وَعِنْدَهُ مَا يُمَيِّزُ بِهِ صِدْقَهُ مِنْ كَذِبِهِ فَهَذَا جَائِزٌ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ ابْنَ صَيَّادٍ فَقَالَ : مَا يَأْتِيك ؟ فَقَالَ : يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ قَالَ : مَا تَرَى ؟ قَالَ : أَرَى عَرْشًا عَلَى الْمَاءِ قَالَ : فَإِنِّي قَدْ خَبَّأْت لَك خَبِيئًا قَالَ : الدَّخّ الدَّخّ قَالَ : اخْسَأْ فَلَنْ

تَعْدُو قَدْرَك فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ إخْوَانِ الْكُهَّانِ } . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ يَسْمَعُ مَا يَقُولُونَهُ وَيُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ الْجِنِّ كَمَا يَسْمَعُ الْمُسْلِمُونَ مَا يَقُولُ الْكُفَّارُ وَالْفُجَّارُ لِيَعْرِفُوا مَا عِنْدَهُمْ فَيَعْتَبِرُوا بِهِ وَكَمَا يُسْمَعُ خَبَرُ الْفَاسِقِ وَيُتَبَيَّنُ وَيُتَثَبَّتُ فَلَا يُجْزَمُ بِصِدْقِهِ وَلَا كَذِبِهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : { أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوهُ وَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوهُ وَقُولُوا : { آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إلَيْنَا وَأُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } } فَقَدْ جَازَ لِلْمُسْلِمِينَ سَمَاعُ مَا يَقُولُونَهُ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُ وَلَمْ يُكَذِّبُوهُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ أَبْطَأَ عَلَيْهِ خَبَرُ عُمَرَ وَكَانَ هُنَاكَ امْرَأَةٌ لَهَا قَرِينٌ مِنْ الْجِنِّ فَسَأَلَهُ عَنْهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَرَكَ عُمَرَ يَسِمُ إبِلَ الصَّدَقَةِ . وَفِي خَبَرٍ آخَرَ أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ جَيْشًا فَقَدِمَ شَخْصٌ إلَى الْمَدِينَةِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ انْتَصَرُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ وَشَاعَ الْخَبَرُ فَسَأَلَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ فَذَكَرَ لَهُ فَقَالَ : هَذَا أَبُو الْهَيْثَمِ بَرِيدُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْجِنِّ وَسَيَأْتِي بَرِيدُ الْإِنْسِ بَعْدَ ذَلِكَ فَجَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ بِعِدَّةِ أَيَّامٍ .

فَصْلٌ :
وَيَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ لِلْمُصَابِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَرْضَى شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَذِكْرُهُ بِالْمِدَادِ الْمُبَاحِ وَيُغْسَلُ وَيُسْقَى كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد : قَرَأْت عَلَى أَبِي ثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ ؛ ثَنَا سُفْيَانُ ؛ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ ؛ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ؛ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : إذَا عَسِرَ عَلَى الْمَرْأَةِ وِلَادَتُهَا فَلْيَكْتُبْ : بِسْمِ اللَّهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } . قَالَ أَبِي : ثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ بِإِسْنَادِهِ بِمَعْنَاهُ وَقَالَ : يُكْتَبُ فِي إنَاءٍ نَظِيفٍ فَيُسْقَى قَالَ أَبِي : وَزَادَ فِيهِ وَكِيعٌ فَتُسْقَى وَيُنْضَحُ مَا دُونَ سُرَّتِهَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : رَأَيْت أَبِي يَكْتُبُ لِلْمَرْأَةِ فِي جَامٍ أَوْ شَيْءٍ نَظِيفٍ . وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَد بْنِ حَمْدَانَ الحيري : أَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ النسوي ؛ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد بْنِ شبوية ؛ ثنَا عَلِيُّ بْنُ

الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ ؛ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ ؛ عَنْ سُفْيَانَ ؛ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ؛ عَنْ الْحَكَمِ ؛ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ؛ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : إذَا عَسِرَ عَلَى الْمَرْأَةِ وِلَادُهَا فَلْيَكْتُبْ : بِسْمِ اللَّهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ ؛ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ؛ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } . قَالَ عَلِيٌّ : يُكْتَبُ فِي كاغدة فَيُعَلَّقُ عَلَى عَضُدِ الْمَرْأَةِ قَالَ عَلِيٌّ : وَقَدْ جَرَّبْنَاهُ فَلَمْ نَرَ شَيْئًا أَعْجَبَ مِنْهُ فَإِذَا وَضَعَتْ تُحِلُّهُ سَرِيعًا ثُمَّ تَجْعَلُهُ فِي خِرْقَةٍ أَوْ تُحْرِقُهُ .
آخِرُ كَلَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي الِاكْتِفَاءِ بِالرِّسَالَةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اتِّبَاعِ مَا سِوَاهُ اتِّبَاعًا عَامًّا وَأَقَامَ اللَّهُ الْحُجَّةَ عَلَى خَلْقِهِ بِرُسُلِهِ فَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } إلَى قَوْلِهِ : { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } . فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ بَعْدَ الرُّسُلِ بِحَالِ وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُمْ حُجَّةٌ قَبْلَ الرُّسُلِ . ف " الْأَوَّلُ " يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ أَحْوَجَ الْخَلْقَ إلَى غَيْرِ الرُّسُلِ حَاجَةً عَامَّةً كَالْأَئِمَّةِ . و " الثَّانِي " يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ أَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الرُّسُلِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ .

وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } فَأَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ إذَا لَمْ يَتَنَازَعُوا وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ اتِّفَاقَهُمْ حُجَّةٌ وَأَمْرَهُمْ بِالرَّدِّ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَأَبْطَلَ الرَّدَّ إلَى إمَامٍ مُقَلِّدٍ أَوْ قِيَاسٍ عَقْلِيٍّ فَاضِلٍ . وَقَالَ تَعَالَى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } فَبَيَّنَ أَنَّهُ بِالْكِتَابِ يَحْكُمُ بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { كِتَابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } فَفَرَضَ اتِّبَاعَ مَا أَنْزَلَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَحَظَّرَ اتِّبَاعَ أَحَدٍ مِنْ دُونِهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } فَزَجَرَ مَنْ لَمْ يَكْتَفِ بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } الْآيَاتِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا } الْآيَاتِ . وَقَالَ تَعَالَى : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا } الْآيَتَيْنِ . فَدَلَّتْ هَذِهِ

الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ الرَّسُولُ فَخَالَفَهُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَإِنْ لَمْ يَأْتِهِ إمَامٌ وَلَا قِيَاسٌ . وَأَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ حَتَّى يَأْتِيَهُ الرَّسُولُ وَإِنْ أَتَاهُ إمَامٌ أَوْ قِيَاسٌ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ } { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الْآيَةَ . وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَبَيَّنَ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مُوجِبَةٌ لِلسَّعَادَةِ وَأَنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ مُوجِبَةٌ لِلشَّقَاوَةِ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَعَ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى طَاعَةِ إمَامٍ أَوْ قِيَاسٍ وَمَعَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يَنْفَعُ طَاعَةُ إمَامٍ أَوْ قِيَاسٍ . وَدَلِيلُ هَذَا الْأَصْلِ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ أَصْلُ الْإِسْلَامِ " شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَشَهَادَةُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ " وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ قَوْلًا وَاعْتِقَادًا ؛ وَإِنْ خَالَفَهُ بَعْضُهُمْ عَمَلًا وَحَالًا . فَلَيْسَ عَالِمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَشُكُّ فِي أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْخَلْقِ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنَّ مَا سِوَاهُ إنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُ حَيْثُ أَوْجَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ .

وَفِي الْحَقِيقَةِ فَالْوَاجِبُ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ ؛ لَكِنْ لَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِمَأْمُورِهِ وَبِخَبَرِهِ كُلِّهِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الرُّسُلِ وَالْمُبَلِّغُ عَنْهُ إمَّا مُبَلِّغٌ أَمْرَهُ وَكَلِمَاتِهِ فَتَجِبُ طَاعَتُهُ وَتَصْدِيقُهُ فِي جَمِيعِ مَا أَمَرَ وَأَخْبَرَ وَإِمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُطَاعُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ كَالْأُمَرَاءِ الَّذِينَ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِمْ مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ عَلَى الْمُسْتَفْتِي وَالْمَأْمُورِ فِيمَا أَوْجَبُوهُ عَلَيْهِ مُبَلِّغِينَ عَنْ اللَّهِ أَوْ مُجْتَهِدِينَ اجْتِهَادًا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيهِ عَلَى الْمُقَلِّدِ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَشَايِخُ الدِّينِ وَرُؤَسَاءِ الدُّنْيَا حَيْثُ أُمِرَ بِطَاعَتِهِمْ كَاتِّبَاعِ أَئِمَّةِ الصَّلَاةِ فِيهَا وَاتِّبَاعِ أَئِمَّةِ الْحَجِّ فِيهِ وَاتِّبَاعِ أُمَرَاءِ الْغَزْوِ فِيهِ وَاتِّبَاعِ الْحُكَّامِ فِي أَحْكَامِهِمْ وَاتِّبَاعِ الْمَشَايِخِ الْمُهْتَدِينَ فِي هَدْيِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْأَصْلِ أَنَّ مَنْ نُصِبَ إمَامًا فَأَوْجَبَ طَاعَتَهُ مُطْلَقًا اعْتِقَادًا أَوْ حَالًا فَقَدْ ضَلَّ فِي ذَلِكَ كَأَئِمَّةِ الضَّلَالِ الرَّافِضَةِ الْإِمَامِيَّةِ حَيْثُ جَعَلُوا فِي كُلِّ وَقْتٍ إمَامًا مَعْصُومًا تَجِبُ طَاعَتُهُ فَإِنَّهُ لَا مَعْصُومَ بَعْدَ الرَّسُولِ وَلَا تَجِبُ طَاعَةُ أَحَدٍ بَعْدَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَاَلَّذِينَ عَيَّنُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ خَلِيفَةً رَاشِدًا تَجِبُ طَاعَتُهُ كَطَاعَةِ الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ وَهُوَ عَلِيٌّ . وَمِنْهُمْ أَئِمَّةٌ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ يَجِبُ لَهُمْ مَا يَجِبُ لِنُظَرَائِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ كَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ . وَأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ ؛ وَجَعْفَرِ ابْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ . وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ .

وَكَذَلِكَ مَنْ دَعَا لِاتِّبَاعِ شَيْخٍ مِنْ مَشَايِخِ الدِّينِ فِي كُلِّ طَرِيقٍ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَلَا اسْتِثْنَاءٍ وَأَفْرَدَهُ عَنْ نُظَرَائِهِ كَالشَّيْخِ عَدِيٍّ ؛ وَالشَّيْخِ أَحْمَد ؛ وَالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ ؛ وَالشَّيْخِ حيوة ؛ وَنَحْوِهِمْ . وَكَذَلِكَ مَنْ دَعَا إلَى اتِّبَاعِ إمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ فِي كُلِّ مَا قَالَهُ وَأَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ مُطْلَقًا كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَكَذَلِكَ مَنْ أَمَرَ بِطَاعَةِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَلَا اسْتِثْنَاءٍ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَدَّعُونَ الْعِصْمَةَ لِمَتْبُوعِيهِمْ إلَّا غَالِيَةَ أَتْبَاعِ الْمَشَايِخِ كَالشَّيْخِ عَدِيٍّ وَسَعْدٍ الْمَدِينِيّ بْن حَمَوَيْهِ وَنَحْوِهِمَا ؛ فَإِنَّهُمْ يَدَّعُونَ فِيهِمْ نَحْوًا مِمَّا تَدَّعِيه الْغَالِيَةُ فِي أَئِمَّةِ بَنِي هَاشِمٍ مِنْ الْعِصْمَةِ ثُمَّ مِنْ التَّرْجِيحِ عَلَى النُّبُوَّةِ ثُمَّ مِنْ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ . وَأَمَّا كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَمَشَايِخِ الدِّينِ فَحَالُهُمْ وَهَوَاهُمْ يُضَاهِي حَالَ مَنْ يُوجِبُ اتِّبَاعَ مَتْبُوعِهِ لَكِنَّهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ وَلَا يَعْتَقِدُهُ عِلْمًا فَحَالُهُ يُخَالِفُ اعْتِقَادَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعُصَاةِ أَهْلِ الشَّهَوَاتِ وَهَؤُلَاءِ أَصْلَحُ مِمَّنْ يَرَى وُجُوبَ ذَلِكَ وَيَعْتَقِدُهُ . وَكَذَلِكَ أَتْبَاعُ الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ هُمْ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ : { إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } فَهُمْ مُطِيعُونَ حَالًا وَعَمَلًا وَانْقِيَادًا وَأَكْثَرُهُمْ مِنْ غَيْرِ عَقِيدَةٍ دِينِيَّةٍ وَفِيهِمْ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131