الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

مِنْ الْمَدِينَةِ . وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِمَسَافَةٍ مَحْدُودَةٍ ؛ فَإِنَّ الْمُسَافِرَ فِي الْمِصْرِ الْكَبِيرِ لَوْ سَافَرَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا وَالْمُسَافِرُ عَنْ الْقَرْيَةِ الصَّغِيرَةِ إذَا سَافَرَ مِثْلَ ذَلِكَ كَانَ مُسَافِرًا فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ بُقْعَةً يُسَافِرُ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ فَإِذَا كَانَ مَا بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ صَحْرَاءَ لَا مَسَاكِنَ فِيهَا يَحْمِلُ فِيهَا الزَّادَ وَالْمَزَادَ فَهُوَ مُسَافِرٌ وَإِنْ وَجَدَ الزَّادَ وَالْمَزَادَ بِالْمَكَانِ الَّذِي يَقْصِدُهُ . وَكَانَ عُثْمَانُ جَعَلَ حُكْمَ الْمَكَانِ الَّذِي يَقْصِدُهُ حُكْمَ طَرِيقِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْدَمَ فِيهِ الزَّادَ وَالْمَزَادَ وَخَالَفَهُ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَقَوْلُهُمْ أَرْجَحُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَرَ بِمَكَّةَ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ وَفِيهَا الزَّادُ وَالْمَزَادُ وَإِذَا كَانَتْ مِنًى قَرْيَةً فِيهَا زَادٌ وَمَزَادٌ فَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ صَحْرَاءُ يَكُونُ مُسَافِرًا مَنْ يَقْطَعُهَا كَمَا كَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا وَلَكِنَّ عُثْمَانَ قَدْ تَأَوَّلَ فِي قَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ أَنَّهُ كَانَ خَائِفًا لِأَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ وَالْكُفَّارُ كَثِيرُونَ وَكَانَ قَدْ بَلَغَهُ أَنَّ هَوَازِنَ جَمَعَتْ لَهُ وَعُثْمَانُ يُجَوِّزُ الْقَصْرَ لِمَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ عَدُوٍّ وَهَذَا كَمَا يُحْكَى عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالْمُتْعَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا خَائِفِينَ . وَخَالَفَهُ عَلِيٌّ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَقَوْلُهُمْ هُوَ الرَّاجِحُ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَانَ آمِنًا لَا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ وَقَدْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِفَسْخِ الْحَجِّ

إلَى الْعُمْرَةِ وَالْقَصْرِ . وَقَصْرُ الْعَدَدِ إنَّمَا هُوَ مُعَلَّقٌ بِالسَّفَرِ ؛ وَلَكِنْ إذَا اجْتَمَعَ الْخَوْفُ وَالسَّفَرُ أُبِيحَ قَصْرُ الْعَدَدِ وَقَصْرُ الرَّكَعَاتِ { وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَعُمَرُ بَعْدَهُ لَمَّا صَلَّيَا بِمَكَّةَ يَا أَهْلَ مَكَّةَ : أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ } بَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ لِصَلَاتِهِمْ رَكْعَتَيْنِ مُجَرَّدُ كَوْنِهِمْ سَفْرًا فَلِهَذَا الْحُكْمِ تَعَلَّقَ بِالسَّفَرِ وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِالْخَوْفِ . فَعُلِمَ أَنَّ قَصْرَ الْعَدَدِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ خَوْفٌ بِحَالِ . وَكَلَامُ الصَّحَابَةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا السَّفَرَ قَطْعَ مَسَافَةٍ مَحْدُودَةٍ أَوْ زَمَانٍ مَحْدُودٍ : يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ بَلْ كَانُوا يُجِيبُونَ بِحَسَبِ حَالِ السَّائِلِ فَمَنْ رَأَوْهُ مُسَافِرًا أَثْبَتُوا لَهُ حُكْمَ السَّفَرِ وَإِلَّا فَلَا .
وَلِهَذَا اخْتَلَفَ كَلَامُهُمْ فِي مِقْدَارِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ . فَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ الثَّوْرِيّ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : إذَا سَافَرْت يَوْمًا إلَى الْعِشَاءِ فَإِنْ زِدْت فَاقْصُرْ . وَرَوَاهُ الْحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ : ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ . عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ : لَا يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ فِي مَسِيرَةِ يَوْمٍ إلَى الْعَتَمَةِ إلَّا فِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ شبيل عَنْ أَبِي جَمْرَةَ الضبعي قَالَ : قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ : أَقْصُرُ إلَى الأيلة ؟ قَالَ تَذْهَبُ وَتَجِيءُ فِي يَوْمٍ ؟ قُلْت : نَعَمْ . قَالَ : لَا إلَّا يَوْمٌ تَامٌّ . فَهُنَا قَدْ نَهَى أَنْ يَقْصُرَ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ وَهَذِهِ مَسِيرَةُ بَرِيدٍ وَأَذِنَ فِي يَوْمٍ .

وَفِي الْأَوَّلِ نَهَاهُ أَنْ يَقْصُرَ إلَّا فِي أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ الْأَوَّلِ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَاهُ قَالَ : إذَا خَرَجْت مِنْ عِنْدِ أَهْلِك فَاقْصُرْ فَإِذَا أَتَيْت أَهْلَك فَأَتْمِمْ وَعَنْ الأوزاعي : لَا قَصْرَ إلَّا فِي يَوْمٍ تَامٍّ وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْغَازِ الجرشي عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبَى رَبَاحٍ قُلْت : لِابْنِ عَبَّاسٍ : أَقْصُرُ إلَى عَرَفَةَ ؟ قَالَ : لَا وَلَكِنْ إلَى الطَّائِفِ وعسفان فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا . وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَة عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ قُلْت : لِابْنِ عَبَّاسٍ أَقْصُرُ إلَى مِنًى أَوْ عَرَفَةَ ؟ قَالَ : لَا وَلَكِنْ إلَى الطَّائِفِ أَوْ جُدَّةَ أَوْ عسفان فَإِذَا وَرَدْت عَلَى مَاشِيَةٍ لَك أَوْ أَهْلٍ فَأَتِمَّ الصَّلَاةَ . وَهَذَا الْأَثَرُ قَدْ اعْتَمَدَهُ أَحْمَد وَالشَّافِعِيُّ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : مِنْ عسفان إلَى مَكَّةَ بِسَيْرِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ مِيلًا قَالَ : وَأَخْبَرَنَا الثقاة : أَنَّ مِنْ جُدَّةَ إلَى مَكَّةَ أَرْبَعِينَ مِيلًا . قُلْت : نَهْيُهُ عَنْ الْقَصْرِ إلَى مِنًى وَعَرَفَةَ قَدْ يَكُونُ لِمَنْ يَقْصِدُ ذَلِكَ لِحَاجَةٍ وَيَرْجِعُ مِنْ يَوْمِهِ إلَى مَكَّةَ حَتَّى يُوَافِقَ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا يَقْصُرُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي الْحَجِّ إذَا خَرَجُوا إلَى عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالسُّنَّةِ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ وَأَصْحَابُهُ الْمَكِّيُّونَ كَانُوا يَقْصُرُونَ فِي الْحَجِّ

إلَى عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ : كَطَاوُوسٍ وَغَيْرِهِ . وَابْنُ عُيَيْنَة نَفْسُهُ الَّذِي رَوَى هَذَا الْأَثَرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ يَقْصُرُ إلَى عَرَفَةَ فِي الْحَجِّ وَكَانَ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَطَاوُوسِ يَقُولُ أَحَدُهُمْ : أَتُرَى النَّاسَ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ صَلَّوْا فِي الْمَوْسِمِ خِلَافَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ وَهَذِهِ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَمَّا حَجُّوا مَعَهُ كَانُوا خَلْقًا كَثِيرًا وَقَدْ خَرَجُوا مَعَهُ إلَى مِنًى يُصَلُّونَ خَلْفَهُ وَإِنَّمَا صَلَّى بِمِنَى أَيَّامَ مِنًى قَصْرًا وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يُصَلُّونَ خَلْفَهُ : أَهْلُ مَكَّةَ وَسَائِرُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ وَلَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ لَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ . ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بَعْدَهُ كَانَا يُصَلِّيَانِ فِي الْمَوْسِمِ بِأَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ كَذَلِكَ وَلَا يَأْمُرَانِ أَحَدًا بِإِتْمَامِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَمَّا صَلَّى بِمَكَّةَ قَالَ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ . فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ لَا فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ ؛ فَإِنَّهُ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي فِي مَكَّةَ بَلْ كَانَ يُصَلِّي بِمَنْزِلِهِ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَفِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ تَدَبَّرَ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى بِأَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ وَأَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ مُسْلِمٌ قَطُّ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِإِتْمَامِ : عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْصُرُونَ خَلْفَهُ وَهَذَا مِنْ الْعِلْمِ الْعَامِّ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا غَيْرِهِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُعْلَمْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ أَمَرَ أَهْلَ مَكَّةَ أَنْ

يُتِمُّوا خَلْفَ الْإِمَامِ إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ إنَّمَا أَجَابَ بِهِ مَنْ سَأَلَهُ إذَا سَافَرَ إلَى مِنًى أَوْ عَرَفَةَ سَفَرًا لَا يَنْزِلُ فِيهِ بِمِنَى وَعَرَفَةَ ؛ بَلْ يَرْجِعُ مِنْ يَوْمِهِ فَهَذَا لَا يَقْصُرُ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ ذَهَبَ وَرَجَعَ مِنْ يَوْمِهِ لَا يَقْصُرُ وَإِنَّمَا يَقْصُرُ مَنْ سَافَرَ يَوْمًا وَلَمْ يَقُلْ : مَسِيرَةَ يَوْمٍ ؛ بَلْ اعْتَبَرَ أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ يَوْمًا وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْهُ جَوَازُ الْقَصْرِ إلَى عسفان . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهَا اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ مِيلًا وَغَيْرُهُ يَقُولُ : أَرْبَعَةُ بُرُدٍ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا . وَاَلَّذِينَ حَدُّوهَا ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ مِيلًا عُمْدَتُهُمْ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْهُمْ تُخَالِفُ ذَلِكَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا قَوْلُهُمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ بِبَعْضِ أَقْوَالِهِمَا دُونَ بَعْضٍ ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا وَإِمَّا أَنْ يُطْلَبَ دَلِيلٌ آخَرُ . فَكَيْفَ وَالْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنْوَاعٌ أُخَرُ وَلِهَذَا كَانَ الْمُحَدِّدُونَ بستة عَشَرَ فَرْسَخًا مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد إنَّمَا لَهُمْ طَرِيقَانِ : بَعْضُهُمْ يَقُولُ : لَمْ أَجِدْ أَحَدًا قَالَ بِأَقَلَّ مِنْ الْقَصْرِ فِيمَا دُونَ هَذَا فَيَكُونُ هَذَا إجْمَاعًا . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الشَّافِعِيِّ . وَهَذَا أَيْضًا مَنْقُولٌ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ . فَهَذَانِ الْإِمَامَانِ بَيَّنَا عُذْرَهُمَا أَنَّهُمَا لَمْ يَعْلَمَا مَنْ قَالَ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَغَيْرُهُمَا قَدْ عَلِمَ مَنْ قَالَ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ . وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولُوا : هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ فَصَارَ إجْمَاعًا . وَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّهُ نُقِلَ عَنْهُمَا

هَذَا وَغَيْرُهُ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ . وَثَمَّ طَرِيقَةٌ ثَالِثَةٌ سَلَكَهَا بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهِيَ أَنَّ هَذَا التَّحْدِيدَ مَأْثُورٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَة فِي " مُخْتَصَرِ الْمُخْتَصَرِ " عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إلَى عسفان } " وَهَذَا مَا يَعْلَمُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ هُوَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ . أَفَتَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا حَدَّ مَسَافَةَ الْقَصْرِ لِأَهْلِ مَكَّةَ دُونَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّتِي هِيَ دَارُ السُّنَّةِ وَالْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ وَدُونَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ ؟ وَكَيْفَ يَقُولُ هَذَا وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ صَلَّوْا خَلْفَهُ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَلَمْ يَحُدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ السَّفَرَ بِمَسَافَةٍ لَا بَرِيدٍ وَلَا غَيْرِ بَرِيدٍ وَلَا حَدَّهَا بِزَمَانِ . وَمَالِكٌ قَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ كَقَوْلِ اللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ . قَالَ : فَإِنْ كَانَتْ أَرْضٌ لَا أَمْيَالَ فِيهَا فَلَا يَقْصُرُونَ فِي أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِلثِّقَلِ . قَالَ : وَهَذَا أَحَبُّ مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ إلَيَّ . وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ لَا قَصْرَ إلَّا فِي خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا فَصَاعِدًا . وَرُوِيَ عَنْهُ لَا قَصْرَ إلَّا فِي اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا فَصَاعِدًا وَرُوِيَ عَنْهُ : لَا قَصْرَ إلَّا فِي أَرْبَعِينَ مِيلًا فَصَاعِدًا وَرَوَى عَنْهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ :

لَا قَصْرَ إلَّا فِي سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا قَصْدًا . ذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ فِي كِتَابِهِ " الْمَبْسُوطِ " وَرَأَى لِأَهْلِ مَكَّةَ خَاصَّةً أَنَّ يَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِي الْحَجِّ خَاصَّةً إلَى مِنًى فَمَا فَوْقَهَا وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ خَرَجَ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ كَالرِّعَاءِ وَغَيْرِهِمْ فَتَأَوَّلَ فَأَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا الْقَضَاءُ فَقَطْ وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا قَصْرَ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا بِالْهَاشِمِيِّ . وَالْآثَارُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنْوَاعٌ . فَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيّ سَمِعْت جبلة بْنَ سحيم يَقُولُ : سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ : لَوْ خَرَجْت مِيلًا لَقَصَرْت الصَّلَاةَ . وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ : إنِّي لَأُسَافِرُ السَّاعَةَ مِنْ النَّهَارِ فَأَقْصُرُ يَعْنِي الصَّلَاةَ . مُحَارِبٌ قَاضِي الْكُوفَةِ مِنْ خِيَارِ التَّابِعِينَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ وَمِسْعَرٌ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ . وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الشيباني عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ خليدة عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : تُقْصَرُ الصَّلَاةُ فِي مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ هُوَ طَائِيٌّ وَلَّاهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْقَضَاءَ بِالْكُوفَةِ مَشْهُورٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ . وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَصَرَ إلَى ذَاتِ النُّصُبِ

قَالَ وَكُنْت أُسَافِرُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ الْبَرِيدَ فَلَا يَقْصُرُ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : ذَاتُ النُّصُبِ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا فَهَذَا نَافِعٌ يُ خبر عَنْهُ أَنَّهُ قَصَرَ فِي سِتَّةِ فَرَاسِخَ وَأَنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ بَرِيدًا وَهُوَ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ فَلَا يَقْصُرُ . وَكَذَلِكَ رَوَى عَنْهُ مَا ذَكَرَهُ غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : خَرَجْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إلَى ذَاتِ النُّصُبِ وَهِيَ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا فَلَمَّا أَتَاهَا قَصَرَ الصَّلَاةَ وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي مَسِيرَةِ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ . وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَقْصُرُ فِي هَذَا وَفِي مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ الطَّائِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ الوالبي الأسدي قَالَ : سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ عَنْ تَقْصِيرِ الصَّلَاةِ ؟ قَالَ : حَاجٌّ أَوْ مُعْتَمِرٌ أَوْ غَازٍ ؟ فَقُلْت لَا ؛ وَلَكِنْ أَحَدُنَا يَكُونُ لَهُ الضَّيْعَةُ فِي السَّوَادِ فَقَالَ : تَعْرِفُ السُّوَيْدَاءَ ؟ فَقُلْت سَمِعْت بِهَا وَلَمْ أَرَهَا قَالَ فَإِنَّهَا ثَلَاثٌ وَلَيْلَتَانِ وَلَيْلَةٌ لِلْمُسْرِعِ : إذَا خَرَجْنَا إلَيْهَا قَصَرْنَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى السُّوَيْدَاءِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ مِيلًا أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ فَرْسَخًا . قُلْت : فَهَذَا مَعَ مَا تَقَدَّمَ يُبَيِّنُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ تَحْدِيدًا ؛

لَكِنْ بَيَّنَ بِهَذَا جَوَازَ الْقَصْرِ فِي مِثْلِ هَذَا لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ بَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ لَا يَقْصُرُونَ فِي السَّوَادِ فَأَجَابَهُ ابْنُ عُمَرَ بِجَوَازِ الْقَصْرِ . وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جريج : أَخْبَرَنِي نَافِعٌ : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ أَدْنَى مَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ إلَيْهِ مَالٌ لَهُ بِخَيْبَرِ وَهِيَ مَسِيرَةُ ثَلَاثِ قَوَاصِدَ لَمْ يَقْصُرْ فِيمَا دُونَهُ . وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ حميد كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِيمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ وَهِيَ بِقَدْرِ الْأَهْوَازِ مِنْ الْبَصْرَةِ لَا يَقْصُرُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ كَمَا بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَالْأَهْوَازِ وَهِيَ مِائَةُ مِيلٍ غَيْرَ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ . قَالَ : وَهَذَا مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ابْنِ عُمَرَ ثُمَّ عَلَى نَافِعٍ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ . قُلْت : هَذَا النَّفْيُ وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصُرْ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ غَلَطٌ قَطْعًا لَيْسَ هَذَا حِكَايَةً عَنْ قَوْلِهِ حَتَّى يُقَالَ إنَّهُ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ بَلْ نَفْيٌ لِقَصْرِهِ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ ( وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ بِالرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ وَغَيْرِهِ : أَنَّهُ قَصَرَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ فَهَذَا قَدْ يَكُونُ غَلَطًا . فَمَنْ رَوَى عَنْ أَيُّوبَ إنْ قَدَّرَ أَنَّ نَافِعًا رَوَى هَذَا فَيَكُونُ حِينَ حَدَّثَ بِهَذَا قَدْ نَسِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَصَرَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَصَرَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ ) (*) .

وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ : حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ سِيرِين قَالَ : خَرَجْت مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إلَى أَرْضِهِ وَهِيَ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةِ فَرَاسِخَ فَصَلَّى بِنَا الْعَصْرَ فِي سَفِينَةٍ وَهِيَ تَجْرِي بِنَا فِي دِجْلَةَ قَاعِدًا عَلَى بِسَاطٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ . وَهَذَا فِيهِ أَنَّهُ إنَّمَا خَرَجَ إلَى أَرْضِهِ الْمَذْكُورَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَفَرُهُ إلَى غَيْرِهَا حَتَّى يُقَالَ : كَانَتْ مِنْ طَرِيقِهِ فَقَصَرَ فِي خَمْسَةِ فَرَاسِخَ وَهِيَ بَرِيدٌ وَرُبُعٌ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ بَشَّارٍ كِلَاهُمَا عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ { يَحْيَى بْنِ يَزِيدَ الهنائي : سَأَلْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ ؟ فَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ - شُعْبَةُ شَكَّ - صَلَّى رَكْعَتَيْنِ } وَلَمْ يَرَ أَنَسٌ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ الْمَسَافَةِ الطَّوِيلَةِ هَذَا ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ سَأَلَهُ عَنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَهُوَ سُؤَالٌ عَمَّا يَقْصُرُ فِيهِ ؛ لَيْسَ سُؤَالًا عَنْ أَوَّلِ صَلَاةٍ يَقْصُرُهَا . ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ : إنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ لَا يَقْصُرُهَا إلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِي هَذَا جَوَابٌ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَنَسًا أَرَادَ أَنَّهُ مَنْ سَافَرَ هَذِهِ الْمَسَافَةَ قَصَرَ ثُمَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبَيِّنْ هَلْ كَانَ ذَلِكَ الْخُرُوجُ هُوَ السَّفَرَ أَوْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي قَطَعَهُ مِنْ السَّفَرِ فَإِنْ

كَانَ أَرَادَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَفَرَهُ فَهُوَ نَصٌّ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الَّذِي قَطَعَهُ مِنْ السَّفَرِ فَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَقْصُرُ إلَيْهِ إذَا كَانَ هُوَ السَّفَرَ : يَقُولُ إنَّهُ لَا يَقْصُرُ إلَّا فِي السَّفَرِ فَلَوْلَا أَنَّ قَطْعَ هَذِهِ الْمَسَافَةِ سَفَرٌ لَمَا قَصَرَ . وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : لَا يَقْصُرُ حَتَّى يَقْطَعَ مَسَافَةً تَكُونُ سَفَرًا لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ قَصْدِهِ الْمَسَافَةَ الَّتِي هِيَ سَفَرٌ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ ودَاوُد وَأَصْحَابِهِ وَابْنُ حَزْمٍ يَحُدُّ مَسَافَةَ الْقَصْرِ بِمِيلِ لَكِنَّ دَاوُد وَأَصْحَابَهُ يَقُولُونَ : لَا يَقْصُرُ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَزْوٍ وَابْنُ حَزْمٍ يَقُولُ : إنَّهُ يَقْصُرُ فِي كُلِّ سَفَرٍ وَابْنُ حَزْمٍ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ إلَّا فِي هَذِهِ الْمَسَافَةِ وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ : إنَّهُ يُفْطِرُ فِي كُلِّ سَفَرٍ بِخِلَافِ الْقَصْرِ لِأَنَّ الْقَصْرَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ فِيهِ نَصٌّ عَامٌّ عَنْ الشَّارِعِ وَإِنَّمَا فِيهِ فِعْلُهُ أَنَّهُ قَصَرَ فِي السَّفَرِ وَلَمْ يَجِدُوا أَحَدًا قَصَرَ فِيمَا دُونَ مِيلٍ وَوَجَدُوا الْمِيلَ مَنْقُولًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ . وَابْنُ حَزْمٍ يَقُولُ السَّفَرُ هُوَ الْبُرُوزُ عَنْ مَحَلَّةِ الْإِقَامَةِ ؛ لَكِنْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إلَى الْبَقِيعِ لِدَفْنِ الْمَوْتَى وَخَرَجَ إلَى الْفَضَاءِ لِلْغَائِطِ وَالنَّاسُ مَعَهُ فَلَمْ يَقْصُرُوا وَلَمْ يُفْطِرُوا . فَخَرَجَ هَذَا عَنْ أَنْ يَكُونَ سَفَرًا وَلَمْ يَجِدُوا أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ يُسَمَّى سَفَرًا ؛ فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ : لَوْ خَرَجْت مِيلًا لَقَصَرْت الصَّلَاةَ فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسَافَةَ

جَعَلَهَا سَفَرًا وَلَمْ نَجِدْ أَعْلَى مِنْهَا يُسَمَّى سَفَرًا جَعَلْنَا هَذَا هُوَ الْحَدَّ قَالَ وَمَا دُونَ الْمِيلِ مِنْ آخِرِ بُيُوتِ قَرْيَتِهِ لَهُ حُكْمُ الْحَضَرِ فَلَا يَقْصُرُ فِيهِ وَلَا يُفْطِرُ وَإِذَا بَلَغَ الْمِيلَ فَحِينَئِذٍ صَارَ لَهُ سَفَرٌ يَقْصُرُ فِيهِ الصَّلَاةَ وَيُفْطِرُ فِيهِ فَمِنْ حِينَئِذٍ يَقْصُرُ وَيُفْطِرُ وَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَ فَكَانَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ فَإِنَّهُ يُتِمُّ لَيْسَ فِي سَفَرٍ يَقْصُرُ فِيهِ . قُلْت : جَعَلَ هَؤُلَاءِ السَّفَرَ مَحْدُودًا فِي اللُّغَةِ . قَالُوا : وَأَقَلُّ مَا سَمِعْنَا أَنَّهُ يُسَمَّى سَفَرًا هُوَ الْمِيلُ وَأُولَئِكَ جَعَلُوهُ مَحْدُودًا بِالشَّرْعِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ ضَعِيفٌ . أَمَّا الشَّارِعُ فَلَمْ يَحُدَّهُ . وَكَذَلِكَ أَهْلُ اللُّغَةِ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُسَمَّى سَفَرًا وَمَا لَا يُسَمَّى سَفَرًا هُوَ مَسَافَةٌ مَحْدُودَةٌ بَلْ نَفْسُ تَحْدِيدِ السَّفَرِ بِالْمَسَافَةِ بَاطِلٌ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ ثُمَّ لَوْ كَانَ مَحْدُودًا بِمَسَافَةِ مِيلٍ فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الْمِيلَ يَكُونُ مِنْ حُدُودِ الْقَرْيَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ أَكْثَرَ مِنْ مِيلٍ مِنْ مَحَلِّهِ فِي الْحِجَازِ وَلَا يَقْصُرُ وَلَا يُفْطِرُ وَإِنْ أَرَادَ مِنْ الْمَكَانِ الْمُجْتَمَعَ الَّذِي يَشْمَلُهُ اسْمُ مَدِينَةٍ مِيلًا قِيلَ لَهُ : فَلَا حُجَّةَ لَك فِي خُرُوجِهِ إلَى الْمَقَابِرِ وَالْغَائِطِ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ لَمْ تَكُنْ خَارِجًا عَنْ آخِرِ حَدِّ الْمَدِينَةِ . فَفِي الْجُمْلَةِ كَانَ يَخْرُجُ إلَى الْعَوَالِي وَإِلَى أُحُدٍ كَمَا كَانَ يَخْرُجُ إلَى الْمَقَابِرِ وَالْغَائِطِ وَفِي ذَلِكَ مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ مِيلٍ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَخْرُجُونَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى أَكْثَرَ مِنْ مِيلٍ وَيَأْتُونَ إلَيْهَا أَبْعَدَ مِنْ مِيلٍ وَلَا يَقْصُرُونَ

كَخُرُوجِهِمْ إلَى قُبَاء وَالْعَوَالِي وَأُحُدٍ وَدُخُولِهِمْ لِلْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ . وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ مَسَاكِنِ الْمَدِينَةِ عَنْ مَسْجِدِهِ أَبْعَدَ مِنْ مِيلٍ فَإِنَّ حَرَمَ الْمَدِينَةِ بَرِيدٌ فِي بَرِيدٍ حَتَّى كَانَ الرَّجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِهِ لِبُعْدِ الْمَكَانِ يَتَنَاوَبَانِ الدُّخُولَ يَدْخُلُ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا كَمَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَصَاحِبُهُ الْأَنْصَارِيُّ يَدْخُلُ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ : لَوْ خَرَجْت مِيلًا قَصَرْت الصَّلَاةَ . هُوَ كَقَوْلِهِ : إنِّي لَأُسَافِرُ السَّاعَةَ مِنْ النَّهَارِ فَأَقْصُرُ وَهَذَا إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا يَقْطَعُهُ مِنْ الْمَسَافَةِ الَّتِي يَقْصِدُهَا فَيَكُونُ قَصْدُهُ إنِّي لَا أُؤَخِّرُ الْقَصْرَ إلَى أَنْ أَقْطَعَ مَسَافَةً طَوِيلَةً وَهَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ إلَّا مَنْ يَقُولُ إذَا سَافَرَ نَهَارًا لَمْ يَقْصُرْ إلَى اللَّيْلِ . وَقَدْ احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَؤُلَاءِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الحليفة رَكْعَتَيْنِ وَقَدْ يُحْمَلُ حَدِيثُ أَنَسٍ عَلَى هَذَا لَكِنَّ فِعْلَهُ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَوْ يَكُونُ مُرَادُ ابْنِ عُمَرَ مَنْ سَافَرَ قَصَرَ وَلَوْ كَانَ قَصْدُهُ هَذِهِ الْمَسَافَةَ إذَا كَانَ فِي صَحْرَاءَ بِحَيْثُ يَكُونُ مُسَافِرًا لَا يَكُونُ مُتَنَقِّلًا بَيْنَ الْمَسَاكِنِ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُسَافِرٍ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ هَذَا مُسَافِرٌ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ مُسَافِرٌ أَقَلَّ مِنْ الْمِيلِ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ فَهُوَ أَيْضًا مُسَافِرٌ فَالتَّحْدِيدُ بِالْمَسَافَةِ

لَا أَصْلَ لَهُ فِي شَرْعٍ وَلَا لُغَةٍ وَلَا عُرْفٍ وَلَا عَقْلٍ وَلَا يَعْرِفُ عُمُومُ النَّاسِ مِسَاحَةَ الْأَرْضِ فَلَا يُجْعَلُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ عُمُومُ الْمُسْلِمِينَ مُعَلَّقًا بِشَيْءٍ لَا يَعْرِفُونَهُ وَلَمْ يَمْسَحْ أَحَدٌ الْأَرْضَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا قَدَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَرْضَ لَا بِأَمْيَالِ وَلَا فَرَاسِخَ وَالرَّجُلُ قَدْ يَخْرُجُ مِنْ الْقَرْيَةِ إلَى صَحْرَاءَ لِحَطَبٍ يَأْتِي بِهِ فَيَغِيبُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فَيَكُونُ مُسَافِرًا وَإِنْ كَانَتْ الْمَسَافَةُ أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ بِخِلَافِ مَنْ يَذْهَبُ وَيَرْجِعُ مِنْ يَوْمِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُسَافِرًا ؛ فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَأْخُذُ الزَّادَ وَالْمَزَادَ بِخِلَافِ الثَّانِي . فَالْمَسَافَةُ الْقَرِيبَةُ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ تَكُونُ سَفَرًا وَالْمَسَافَةُ الْبَعِيدَةُ فِي الْمَدَّةِ الْقَلِيلَةِ لَا تَكُونُ سَفَرًا . فَالسَّفَرُ يَكُونُ بِالْعَمَلِ الَّذِي سُمِّيَ سَفَرًا لِأَجْلِهِ . وَالْعَمَلُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي زَمَانٍ فَإِذَا طَالَ الْعَمَلُ وَزَمَانُهُ فَاحْتَاجَ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُسَافِرُ مِنْ الزَّادِ وَالْمَزَادِ سُمِّيَ مُسَافِرًا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْمَسَافَةُ بَعِيدَةً وَإِذَا قَصَرَ الْعَمَلَ وَالزَّمَانَ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إلَى زَادٍ وَمَزَادٍ لَمْ يُسَمَّ سَفَرًا وَإِنْ بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ فَالْأَصْلُ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي يُسَمَّى سَفَرًا وَلَا يَكُونُ الْعَمَلُ إلَّا فِي زَمَانٍ فَيُعْتَبَرُ الْعَمَلُ الَّذِي هُوَ سَفَرٌ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا فِي مَكَانٍ يُسْفِرُ عَنْ الْأَمَاكِنِ وَهَذَا مِمَّا يَعْرِفُهُ النَّاسُ بِعَادَاتِهِمْ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ وَلَا اللُّغَةِ بَلْ مَا سَمَّوْهُ سَفَرًا فَهُوَ سَفَرٌ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الْإِقَامَةُ " فَهِيَ خِلَافُ السَّفَرِ فَالنَّاسُ رَجُلَانِ مُقِيمٌ وَمُسَافِرٌ . وَلِهَذَا كَانَتْ أَحْكَامُ النَّاسِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَحَدَ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ : إمَّا حُكْمُ مُقِيمٍ وَإِمَّا حُكْمُ مُسَافِرٍ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إقَامَتِكُمْ } فَجَعَلَ لِلنَّاسِ يَوْمَ ظَعْنٍ وَيَوْمَ إقَامَةٍ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الصَّوْمَ وَقَالَ : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فَمَنْ لَيْسَ مَرِيضًا وَلَا عَلَى سَفَرٍ فَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُقِيمُ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ } فَمَنْ لَمْ يُوضَعْ عَنْهُ الصَّوْمُ وَشَطْرُ الصَّلَاةِ فَهُوَ الْمُقِيمُ . وَقَدْ أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ بِمَكَّةَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ سِتَّةَ أَيَّامٍ بِمِنَى وَمُزْدَلِفَةَ وَعَرَفَةَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُسَافِرِينَ وَأَقَامَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَأَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ . وَمَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ أَنَّ مَا كَانَ يَفْعَلُ بِمَكَّةَ وَتَبُوكَ لَمْ يَكُنْ يَنْقَضِي فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَا أَرْبَعَةٍ حَتَّى يُقَالَ :

إنَّهُ كَانَ يَقُولُ الْيَوْمَ أُسَافِرُ غَدًا أُسَافِرُ . بَلْ فَتَحَ مَكَّةَ وَأَهْلُهَا وَمَا حَوْلَهَا كُفَّارٌ مُحَارِبُونَ لَهُ وَهِيَ أَعْظَمُ مَدِينَةٍ فَتَحَهَا وَبِفَتْحِهَا ذَلَّتْ الْأَعْدَاءُ وَأَسْلَمَتْ الْعَرَبُ . وَسَرَى السَّرَايَا إلَى النَّوَاحِي يَنْتَظِرُ قُدُومَهُمْ وَمِثْلُ هَذِهِ الْأُمُورِ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَنْقَضِي فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَقَامَ لِأُمُورٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَنْقَضِي فِي أَرْبَعَةٍ وَكَذَلِكَ فِي تَبُوكَ . وَأَيْضًا فَمَنْ جَعَلَ لِلْمُقَامِ حَدًّا مِنْ الْأَيَّامِ : إمَّا ثَلَاثَةً وَإِمَّا أَرْبَعَةً وَإِمَّا عَشَرَةً وَإِمَّا اثْنَيْ عَشَرَ وَإِمَّا خَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ قَالَ قَوْلًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَهِيَ تَقْدِيرَاتٌ مُتَقَابِلَةٌ . فَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ تَقْسِيمَ النَّاسِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إلَى مُسَافِرٍ وَإِلَى مُقِيمٍ مُسْتَوْطِنٍ وَهُوَ الَّذِي يَنْوِي الْمُقَامَ فِي الْمَكَانِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ وَتَجِبُ عَلَيْهِ وَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ إتْمَامُ الصَّلَاةِ بِلَا نِزَاعٍ فَإِنَّهُ الْمُقِيمُ الْمُقَابِلُ لِلْمُسَافِرِ وَالثَّالِثُ مُقِيمٌ غَيْرُ مُسْتَوْطِنٍ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ إتْمَامَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْجُمُعَةَ وَقَالُوا : لَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ وَقَالُوا : إنَّمَا تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِمُسْتَوْطِنِ . وَهَذَا التَّقْسِيمُ - وَهُوَ تَقْسِيمُ الْمُقِيمِ إلَى مُسْتَوْطِنٍ وَغَيْرِ مُسْتَوْطِنٍ - تَقْسِيمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَا تَنْعَقِدُ بِهِ ؛ بَلْ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ انْعَقَدَتْ بِهِ وَهَذَا إنَّمَا قَالُوهُ لَمَّا أَثْبَتُوا مُقِيمًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ وَالصِّيَامُ وَوَجَدُوهُ غَيْرَ مُسْتَوْطِنٍ فَلَمْ يُمْكِنْ

أَنْ يَقُولُوا تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ . فَإِنَّ الْجُمُعَةَ إنَّمَا تَنْعَقِدُ بِالْمُسْتَوْطِنِ ؛ لَكِنَّ إيجَابَ الْجُمُعَةِ عَلَى هَذَا وَإِيجَابَ الصِّيَامِ وَالْإِتْمَامِ عَلَى هَذَا هُوَ الَّذِي يُقَالُ إنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ فَإِنَّ هَذِهِ حَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَحَالُهُ بِتَبُوكَ ؛ بَلْ وَهَذِهِ حَالُ جَمِيعِ الْحَجِيجِ الَّذِينَ يَقْدُمُونَ مَكَّةَ لِيَقْضُوا مَنَاسِكَهُمْ ثُمَّ يَرْجِعُوا وَقَدْ يَقْدُمُ الرَّجُلُ بِمَكَّةَ رَابِعَ ذِي الْحِجَّةِ وَقَدْ يَقْدُمُ قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ وَقَدْ يَقْدُمُ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُمْ كُلُّهُمْ مُسَافِرُونَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ جُمُعَةٌ وَلَا إتْمَامٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ صُبْحَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لَكِنْ مِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَوْ قَدِمَ صُبْحَ ثَالِثَةٍ وَثَانِيَةٍ كَانَ يُتِمُّ وَيَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِالْإِتْمَامِ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . وَلَوْ كَانَ هَذَا حَدًّا فَاصِلًا بَيْنَ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ لَبَيَّنَهُ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ بِنِيَّةِ أَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ يُقِيمُهَا لَيْسَ هُوَ أَمْرًا مَعْلُومًا لَا بِشَرْعِ وَلَا لُغَةٍ وَلَا عُرْفٍ . وَقَدْ رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا وَالْقَصْرُ فِي هَذَا جَائِزٌ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ وَقَدْ سَمَّاهُ إقَامَةً وَرَخَّصَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَهَا فَلَوْ أَرَادَ الْمُهَاجِرُ أَنْ يُقِيمَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ النُّسُكِ لَمْ يَكُنْ

لَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ فَرْقٌ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ بَلْ الْمُهَاجِرُ مَمْنُوعٌ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ بَعْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ . فَعُلِمَ أَنَّ الثَّلَاثَ مِقْدَارٌ يُرَخَّصُ فِيهِ فِيمَا كَانَ مَحْظُورَ الْجِنْسِ . قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا عَلَى زَوْجٍ } وَقَالَ : { لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ } وَجَعَلَ مَا تُحَرَّمُ الْمَرْأَةُ بَعْدَهُ مِنْ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْأَصْلِ مَكْرُوهٌ فَأُبِيحَ مِنْهُ لِلْحَاجَةِ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ ثُمَّ الْمُهَاجِرُ لَوْ قَدِمَ مَكَّةَ قَبْلَ الْمَوْسِمِ بِشَهْرٍ أَقَامَ إلَى الْمَوْسِمِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يُبَحْ لَهُ إلَّا فِيمَا يَكُونُ سَفَرًا كَانَتْ إقَامَتُهُ إلَى الْمَوْسِمِ سَفَرًا فَتُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ . وَأَيْضًا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ قَدِمُوا صُبْحَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَلَوْ أَقَامُوا بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ النُّسُكِ ثَلَاثًا كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ وَلَوْ أَقَامُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ ذَلِكَ وَجَازَ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يُقِيمَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ أَقَامَ الْمُهَاجِرُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا بِمَكَّةَ وَلَمْ يَكُونُوا بِذَلِكَ مُقِيمِينَ إقَامَةً خَرَجُوا بِهَا عَنْ السَّفَرِ وَلَا كَانُوا مَمْنُوعِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُقِيمِينَ لِأَجْلِ تَمَامِ

الْجِهَادِ وَخَرَجُوا مِنْهَا إلَى غَزْوَةِ حنين ؛ وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ لَا يَقْدُمُ إلَّا لِلنُّسُكِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ . فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا التَّحْدِيدَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَصْرِ وَلَا بِتَحْدِيدِ السَّفَرِ . وَاَلَّذِينَ حَدُّوا ذَلِكَ بِأَرْبَعَةٍ مِنْهُمْ مَنْ احْتَجَّ بِإِقَامَةِ الْمُهَاجِرِ وَجَعَلَ يَوْمَ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ غَيْرَ مَحْسُوبٍ وَمِنْهُمْ مَنْ بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَنْ قَدِمَ الْمِصْرَ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا يُتِمُّ الصَّلَاةَ ؛ لَكِنْ ثَبَتَتْ الْأَرْبَعَةُ بِإِقَامَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ فَإِنَّهُ أَقَامَهَا وَقَصَرَ . وَقَالُوا فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَتَبُوكَ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَزَمَ عَلَى إقَامَةِ مُدَّةٍ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ عَامَ الْفَتْحِ غَزْوَ حنين وَهَذَا الدَّلِيلُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ قَدِمَ الْمِصْرَ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ السَّفَرِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ ؛ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْعُرْفِ فَإِنَّ التَّاجِرَ الَّذِي يَقْدُمُ لِيَشْتَرِيَ سِلْعَةً أَوْ يَبِيعَهَا وَيَذْهَبُ هُوَ مُسَافِرٌ عِنْدَ النَّاسِ وَقَدْ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ وَيَبِيعُهَا فِي عِدَّةِ أَيَّامٍ وَلَا يَحِدُّ النَّاسُ فِي ذَلِكَ حَدًّا . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : يَقْصُرُ إلَى خَمْسَةَ عَشَرَ قَالُوا : هَذَا غَايَةُ مَا قِيلَ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مُقِيمٌ بِالْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوهُ وَأَحْمَد أَمَرَ بِالْإِتْمَامِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ احْتِيَاطًا وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ إذَا نَوَى إقَامَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ هَلْ يُتِمُّ أَوْ يَقْصُرُ ؟ لِتَرَدُّدِ الِاجْتِهَادِ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الرَّابِعِ فَإِنْ كَانَ صَلَّى الْفَجْرَ بِمَبِيتِهِ وَهُوَ

ذُو طُوًى فَإِنَّمَا صَلَّى بِمَكَّةَ عِشْرِينَ صَلَاةً وَإِنْ كَانَ صَلَّى الصُّبْحَ بِمَكَّةَ فَقَدْ صَلَّى بِهَا إحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنَّمَا صَلَّى الصُّبْحَ يَوْمَئِذٍ بِذِي طُوًى وَدَخَلَ مَكَّةَ ضُحًى كَذَلِكَ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي أَحَادِيثَ . قَالَ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ إذَا عَزَمَ عَلَى أَنْ يُقِيمَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَتَمَّ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ لِصُبْحِ رَابِعَةٍ قَالَ : فَأَقَامَ الْيَوْمَ الرَّابِعَ وَالْخَامِسَ وَالسَّادِسَ وَالسَّابِعَ وَصَلَّى الْفَجْرَ بِالْأَبْطُحِ يَوْمَ الثَّامِنِ وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَى إقَامَتِهَا فَإِذَا أَجْمَعَ أَنْ يُقِيمَ كَمَا أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَرَ فَإِذَا أَجْمَعَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَتَمَّ . قَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لَهُ : فَلِمَ لَمْ يَقْصُرْ عَلَى مَا زَادَ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَ : لِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فَيَأْخُذُ بِالْأَحْوَطِ فَيُتِمُّ . قَالَ : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : يَقُولُ أَخْرُجُ الْيَوْمَ أَخْرُجُ غَدًا أَيَقْصُرُ ؟ فَقَالَ : هَذَا شَيْءٌ آخَرُ هَذَا لَمْ يَعْزِمْ . فَأَحْمَدُ لَمْ يَذْكُرْ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ الْإِتْمَامِ إنَّمَا أَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ وَهَذَا لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ مَنْ يُوجِبُ الْقَصْرَ وَيَجْعَلُهُ عَزِيمَةً فِي الزِّيَادَةِ . وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ : حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دكين حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ حَبِيبِ ابْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ قَالَ : أَقَمْنَا مَعَ سَعْدٍ بِعُمَانَ - أَوْ بِعَمَّانَ - شَهْرَيْنِ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَنُصَلِّي أَرْبَعًا فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ :

نَحْنُ أَعْلَمُ قَالَ الْأَثْرَمُ : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ي صلي رَكْعَتَيْنِ وَقَدْ حَالَ الثَّلْجُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّخُولِ . قَالَ بَعْضُهُمْ وَالثَّلْجُ الَّذِي يَتَّفِقُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَذُوبُ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَقَدْ أَجْمَعَ إقَامَةَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ قَالَ الْأَثْرَمُ : حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ حَفْصِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ : أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَقَامَ بِالشَّامِ سَنَتَيْنِ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ . قَالَ الْأَثْرَمُ : حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دكين حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ قَالَ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا أَقَامَ بِمَكَّةَ قَصَرَ الصَّلَاةَ إلَّا أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْإِمَامِ وَإِنْ أَقَامَ شَهْرَيْنِ إلَّا أَنْ يَجْمَعَ الْإِقَامَةَ . وَابْنُ عُمَرَ كَانَ يَقْدُمُ قَبْلَ الْمَوْسِمِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ حَتَّى إنَّهُ كَانَ أَحْيَانًا يُحْرِمُ بِالْحَجِّ مِنْ هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ كَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَمَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ الْمُقَامُ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ وَلِهَذَا أَوْصَى لَمَّا مَاتَ أَنْ يُدْفَنَ بِسَرِفٍ لِكَوْنِهَا مِنْ الْحِلِّ حَتَّى لَا يُدْفَنَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا وَقَالَ الْأَثْرَمُ : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ : مَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي بِمَكَّةَ إلَّا رَكْعَتَيْنِ إلَّا أَنْ يَرْفَعَ الْمُقَامَ ؛ وَلِهَذَا أَقَامَ مَرَّةً ثِنْتَيْ عَشْرَةَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ يُرِيدُ الْخُرُوجَ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْمَوْسِمِ رَكْعَتَيْنِ مَعَ أَنَّهُ نَوَى الْإِقَامَةَ إلَى الْمَوْسِمِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ كَثِيرَ الْحَجِّ وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَأْتِي مَكَّةَ قَبْلَ الْمَوْسِمِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ . قَالَ الْأَثْرَمُ : حَدَّثَنَا ابْنُ

الطَّبَّاعِ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُوسَى الْفَقِيرُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ ثوبان عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ ابْنِ محيريز : أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ وَأَبَا صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ وَعَقَبَةَ بْنَ عَامِرٍ شَتَّوْا بِأَرْضِ الرُّومِ فَصَامُوا رَمَضَانَ وَقَامُوهُ وَأَتَمُّوا الصَّلَاةَ قَالَ الْأَثْرَمُ : حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ : خَرَجَ مَسْرُوقٌ إلَى السِّلْسِلَةِ فَقَصَرَ الصَّلَاةَ فَأَقَامَ سِنِينَ يَقْصُرُ حَتَّى رَجَعَ وَهُوَ يَقْصُرُ . قِيلَ يَا أَبَا عَائِشَةَ : مَا يَحْمِلُك عَلَى هَذَا ؟ قَالَ : اتِّبَاعُ السُّنَّةِ.
فَصْلٌ :
وَاَلَّذِينَ لَمْ يَكْرَهُوا أَنْ يُصَلِّيَ الْمُسَافِرُ أَرْبَعًا ظَنُّوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ فَعَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَلَى عَهْدِهِ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ . وَظَنُّوا أَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعًا بِمَنْزِلِ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ وَقَدْ اسْتَفَاضَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَافِرُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْهُمْ الصَّائِمُ وَمِنْهُمْ الْمُفْطِرُ . وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّتِهِ وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ التَّرْبِيعِ فَحَسِبَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ صَحِيحًا وَبِذَلِكَ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد . قَالَ الشَّافِعِيُّ لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ : } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ بِلَا خَوْفٍ صَدَقَةٌ مِنْ اللَّهِ وَالصَّدَقَةُ

رُخْصَةٌ لَا حَتْمٌ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَقْصُرَ . وَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ فِي السَّفَرِ بِلَا خَوْفٍ إنْ شَاءَ الْمُسَافِرُ أَنَّ { عَائِشَةَ قَالَتْ : كُلُّ ذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَمَّ فِي السَّفَرِ وَقَصَرَ . } قُلْت وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الدارقطني وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَاصِمٍ : حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ عَائِشَةَ : " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ وَيُتِمُّ وَيُفْطِرُ وَيَصُومُ } قَالَ الدارقطني هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ . قَالَ البيهقي : وَلِهَذَا شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ دلهم بْنِ صَالِحٍ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ وَطَلْحَةَ بْنِ عُمَرَ وَكُلُّهُمْ ضَعِيفٌ . وَرَوَى حَدِيثَ دلهم مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى : حَدَّثَنَا دلهم بْنُ صَالِحٍ الْكِنْدِيُّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ : كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا خَرَجْنَا إلَى مَكَّةَ أَرْبَعًا حَتَّى نَرْجِعَ } . وَرَوَى حَدِيثَ الْمُغِيرَةِ وَهُوَ أَشْهَرُهَا عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ وَيُتِمُّ } وَرَوَى حَدِيثَ طَلْحَةَ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ : كُلُّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَتَمَّ وَقَصَرَ وَصَامَ فِي السَّفَرِ وَأَفْطَرَ } قَالَ البيهقي : وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ : كُوفِيٌّ ثِقَةٌ : أَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ : " أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تُصَلِّي فِي السَّفَرِ الْمَكْتُوبَةَ أَرْبَعًا " وَرَوَى ذَلِكَ بِإِسْنَادِهِ ثُمَّ قَالَ : وَهُوَ كَالْمُوَافِقِ لِرِوَايَةِ دلهم بْنِ صَالِحٍ وَإِنْ كَانَ

فِي رِوَايَةِ دَلْهم زِيَادَةُ سَنَدٍ . قُلْت : أَمَّا مَا رَوَاهُ الثِّقَةُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ " أَنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي أَرْبَعًا " فَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ عَائِشَةَ مَعْرُوفٌ عَنْهَا مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ وَإِذَا كَانَ إنَّمَا أَسْنَدَهُ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءُ والثقاة وَقَفُوهُ عَلَى عَائِشَةَ : دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ الْمُسْنِدِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَاهِدًا لِلْمُسْنَدِ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ انْفَرَدَ بِهِ الْمُغِيرَةُ بْنُ زِيَادٍ وَلَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ وَقَدْ قَالَ فِيهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : ضَعِيفٌ كُلُّ حَدِيثٍ أَسْنَدَهُ مُنْكَرٌ . قُلْت : فَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا وَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ أَبَاهُ سُئِلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَهُوَ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ قَدْ احْتَجُّوا بِهِ مُوَافَقَةً لِمَنْ احْتَجَّ بِهِ كَالشَّافِعِيِّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ مَكْذُوبٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : لَفْظُهُ : { كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ وَتُتِمُّ وَيُفْطِرُ وَتَصُومُ } بِمَعْنَى أَنَّهَا هِيَ الَّتِي كَانَتْ تُتِمُّ وَتَصُومُ . وَهَذَا أَشْبَهُ بِمَا رُوِيَ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ مَعَ أَنَّهُ كَذِبٌ عَلَيْهَا أَيْضًا . قَالَ البيهقي : وَلَهُ شَاهِدٌ قَوِيٌّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الدارقطني مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ : حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ زُهَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ : خَرَجْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي

رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصُمْت وَقَصَرَ وَأَتْمَمْت فَقُلْت يَا رَسُول اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي : أَفْطَرْت وَصُمْت وَقَصَرْت وَأَتْمَمْت قَالَ أَحْسَنْت يَا عَائِشَةُ . } وَرَوَاهُ البيهقي مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ الْحَكَمِ : ثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ زُهَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ لَمْ يَذْكُرْ أَبَاهُ قَالَ الدارقطني : الْأَوَّلُ مُتَّصِلٌ وَهُوَ إسْنَادٌ حَسَنٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ قَدْ أَدْرَكَ عَائِشَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهَا وَهُوَ مُرَاهِقٌ وَرَوَاهُ البيهقي مِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ : ثَنَا عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ زُهَيْرٍ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ { عَائِشَةَ : أَنَّهَا اعْتَمَرَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ حَتَّى إذَا قَدِمَتْ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي : قَصَرْت وَأَتْمَمْت . وَأَفْطَرْت وَصُمْت فَقَالَ أَحْسَنْت يَا عَائِشَةُ وَمَا عَابَ عَلَيَّ } . قَالَ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ : هَكَذَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ . وَمَنْ قَالَ عَنْ أَبِيهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَدْ أَخْطَأَ . قُلْت : أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ إمَامٌ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَكَانَ لَهُ عِنَايَةٌ بِالْأَحَادِيثِ الْفِقْهِيَّةِ وَمَا فِيهَا مِنْ اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى طَرِيقَة أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ الَّتِي لَا تَعَصُّبَ فِيهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِثْلَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِينَ ؛ وَلِهَذَا رَجَّحَ هَذِهِ الطَّرِيقَ وَكَذَلِكَ أَهْلُ

السُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا النَّسَائِي وَلَفْظُهُ عَنْ { عَائِشَةَ أَنَّهَا اعْتَمَرَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ حَتَّى إذَا قَدِمَتْ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي قَصَرْت وَأَتْمَمْت وَأَفْطَرْت وَصُمْت فَقَالَ أَحْسَنْت يَا عَائِشَةُ وَمَا عَابَ عَلَيَّ } وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ قَدْ يَقْصِدُ نَصْرَ قَوْلِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ فَيَنْطِقُ لَهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ مَا لَوْ خَلَا عَنْ ذَلِكَ الْقَصْدِ لَمْ يَتَكَلَّفْهُ وَلَحَكَمَ بِبُطْلَانِهَا . وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَيْسَ بِمُتَّصِلِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ إنَّمَا دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَهُوَ صَبِيٌّ وَلَمْ يَضْبِطْ مَا قَالَتْهُ وَقَالَ فِيهِ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ : هَذَا الْحَدِيثُ تَفَرَّدَ بِهِ الْعَلَاءُ بْنُ زُهَيْرٍ الأزدي لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ وَهُوَ مَجْهُولٌ وَهَذَا الْحَدِيثُ خَطَأٌ قَطْعًا ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ : إنَّهَا خَرَجَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ وَمَعْلُومٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي رَمَضَانَ قَطُّ وَلَا خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ فِي عُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ ؛ بَلْ وَلَا خَرَجَ إلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ قَطُّ إلَّا عَامَ الْفَتْحِ فَإِنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ مُسَافِرًا فِي رَمَضَانَ وَفَتَحَ مَكَّةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَفِي ذَلِكَ السَّفَرِ كَانَ أَصْحَابُهُ مِنْهُمْ الصَّائِمُ وَمِنْهُمْ الْمُفْطِرُ فَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي بِهِمْ إلَّا رَكْعَتَيْنِ وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا وَالْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ خَطَأٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَعَامَ فَتْحِ مَكَّةَ لَمْ يَعْتَمِرْ ؛ بَلْ ثَبَتَ بِالنُّقُولِ الْمُسْتَفِيضَةِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِهِ أَنَّهُ إنَّمَا اعْتَمَرَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَرْبَعَ عُمَرٍ . مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَالرَّابِعَةُ مَعَ حَجَّتِهِ : عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ فَحَلَّ بِالْحُدَيْبِيَةِ بِالْإِحْصَارِ وَلَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ وَكَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ ثُمَّ اعْتَمَرَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ وَكَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَيْضًا ثُمَّ لَمَّا قَسَّمَ غَنَائِمَ حنين بِالْجِعْرَانَةِ اعْتَمَرَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ وَكَانَتْ عُمْرَتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَيْضًا وَالرَّابِعَةُ مَعَ حَجَّتِهِ وَلَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ حَجِّهِ لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ حَجَّ مَعَهُ إلَّا عَائِشَةُ لَمَّا كَانَتْ قَدْ حَاضَتْ وَأَمَرَهَا أَنْ تُهِلَّ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَعْمَرَهَا مَعَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ التَّنْعِيمِ . وَلِهَذَا قِيلَ لَمَّا بُنِيَ هُنَاكَ مِنْ الْمَسَاجِدِ مَسَاجِدُ عَائِشَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا قَبْلَ الْفَتْحِ وَلَا بَعْدَهُ عُمْرَةً مِنْ مَكَّةَ إلَّا عَائِشَةُ . فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ : مِثْلُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إلَّا الَّتِي مَعَ حَجِّهِ : عُمْرَةٌ مِنْ الْحُدَيْبِيَة فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةٌ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةٌ مِنْ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ حَيْثُ قَسَّمَ غَنَائِمَ حنين وَعُمْرَةٌ مَعَ حَجَّتِهِ } . وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ . وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ { : اعْتَمَرَ أَرْبَعًا : عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَة فِي ذِي الْقَعْدَةِ حَيْثُ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ وَعُمْرَةٌ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي

ذِي الْقَعْدَةِ حَيْثُ صَالَحَهُمْ وَعُمْرَةُ حنين مِنْ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَّمَ غَنَائِمَ حنين وَعُمْرَةٌ مَعَ حَجَّتِهِ . } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : { اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ مَرَّتَيْنِ } . وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ . وَأَرَادَ بِذَلِكَ الْعُمْرَةَ الَّتِي أَتَمَّهَا وَهِيَ عُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ وَالْجِعْرَانَةِ وَأَمَّا الْحُدَيْبِيَةُ فَلَمْ يُمْكِنْ إتْمَامُهَا ؛ بَلْ كَانَ مُحْصَرًا لَمَّا صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ وَفِيهَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِصَارِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ { عَائِشَةَ لَمَّا قِيلَ لَهَا : إنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ فَقَالَتْ : يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا وَهُوَ مَعَهُ وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ } . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ : لَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ } وَكَذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَه . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْهَا قَالَتْ : { اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَتَيْنِ : عُمْرَةٌ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةٌ فِي شَوَّالٍ } . وَهَذَا إنْ كَانَ ثَابِتًا عَنْهَا فَلَعَلَّهُ ابْتِدَاءُ سَفَرِهِ كَانَ فِي شَوَّالٍ وَلَمْ تَقُلْ قَطُّ إنَّهُ اعْتَمَرَ فِي رَمَضَانَ فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ مَحْضٌ . وَإِذَا ثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ إلَّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يُسَافِرْ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ وَدَخَلَهَا إلَّا ثَلَاثَ

مَرَّاتٍ : عُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ ثُمَّ غَزْوَةُ الْفَتْحِ ثُمَّ حَجَّةُ الْوَدَاعِ وَهَذَا مِمَّا لَا يَتَنَازَعُ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالسِّيرَةِ وَأَحْوَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُسَافِرْ فِي رَمَضَانَ إلَى مَكَّةَ إلَّا غَزْوَةَ الْفَتْحِ - كَانَ كُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ أَنَّهَا اعْتَمَرَتْ مَعَهُ فِي رَمَضَانَ وَقَالَتْ أَتْمَمْت وَصُمْت فَقَالَ : " أَحْسَنْت " خَطَأٌ مَحْضٌ .
( فَعُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ بَاطِلٌ لَا يَجُوزُ لِمَنْ عُلِمَ حَالُهُ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ : { مَنْ رَوَى عَنِّي حَدِيثًا وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ } وَلَكِنْ مَنْ حَدَّثَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَا يَسْتَحِلُّونَ هَذَا فَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كَذِبٌ [ لَمْ يَأْثَمْ ] ) (*) . فَإِنْ قِيلَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ " فِي رَمَضَانَ " خَطَأٌ وَسَائِرُ الْحَدِيثِ يُمْكِنُ صِدْقُهُ . قِيلَ : بَلْ جَمِيعُ طُرُقِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّهَا قَالَتْ : قُلْت : أَفْطَرْت وَصُمْت وَقَصَرْت وَأَتْمَمْت فَقَالَ : " أَحْسَنْت يَا عَائِشَةُ " . وَهَذَا إنَّمَا يُقَالُ فِي الصَّوْمِ الْوَاجِبِ . وَأَمَّا السَّفَرُ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فَلَا يُذْكَرُ فِيهِ مِثْلُ هَذَا لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْفِطْرَ فِيهِ جَائِزٌ . وَأَيْضًا فَقَدْ رَوَى البيهقي وَغَيْرُهُ بِالْإِسْنَادِ الثَّابِتِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ { عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إلَّا الْمَغْرِبَ فَفُرِضَتْ ثَلَاثًا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سَافَرَ صَلَّى الصَّلَاةَ

الْأُولَى وَإِذَا أَقَامَ زَادَ مَعَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إلَّا الْمَغْرِبَ ؛ لِأَنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ وَالصُّبْحَ لِأَنَّهَا تُطَوَّلُ فِيهَا الْقِرَاءَةُ } . فَقَدْ أَخْبَرَتْ عَائِشَةُ أَنَّهُ كَانَ إذَا سَافَرَ صَلَّى الصَّلَاةَ الْأُولَى : رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ . فَلَوْ كَانَ تَارَةً يُصَلِّي أَرْبَعًا لَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ وَهَذَا يُنَاقِضُ تِلْكَ الرِّوَايَةَ الْمَكْذُوبَةَ عَلَى عَائِشَةَ . وَأَيْضًا فَعَائِشَةُ كَانَتْ حَدِيثَةَ السِّنِّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ وَعُمْرُهَا أَقَلُّ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً فَإِنَّهُ لَمَّا بَنَى بِهَا بِالْمَدِينَةِ كَانَ لَهَا تِسْعُ سِنِينَ وَإِنَّمَا أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرًا فَإِذَا كَانَ قَدْ بَنَى بِهَا فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ كَانَ عُمْرُهَا قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ بَنَى بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَكَانَ عُمْرُهَا حِينَئِذٍ أَقَلَّ . وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَتْ كَبِيرَةً فَهِيَ إنَّمَا تَتَعَلَّمُ الْإِسْلَامَ وَشَرَائِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَصُومَ وَتُصَلِّيَ مَعَهُ فِي السَّفَرِ خِلَافَ مَا يَفْعَلُهُ هُوَ وَسَائِرُ الْمُسْلِمِينَ وَسَائِرُ أَزْوَاجِهِ وَلَا تُخْبِرَهُ بِذَلِكَ حَتَّى تَصِلَ إلَى مَكَّةَ ؟ هَلْ يُظَنُّ مِثْلُ هَذَا بِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ ؟ وَمَا بَالُهَا فَعَلَتْ هَذَا فِي هَذِهِ السَّفْرَةِ دُونَ سَائِرِ أَسْفَارِهَا مَعَهُ ؟ وَكَيْفَ تَطِيبُ نَفْسُهَا بِخِلَافِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِ ؟ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهَا قَالَتْ { : فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَتَمَّهَا فِي الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْفَرِيضَةِ }

وَهَذَا مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَرِوَايَةِ أَصْحَابِهِ الثِّقَاتِ وَمِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كيسان عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ : يَرْوِيهِ مِثْلُ رَبِيعَةَ وَمِنْ رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَائِشَةَ . وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ صَحِيحٌ ثَابِتٌ عَنْ عَائِشَةَ . فَكَيْفَ تُقْدِمُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ تُصَلِّيَ فِي السَّفَرِ قَبْلَ أَنْ تَسْتَأْذِنَهُ وَهِيَ تَرَاهُ وَالْمُسْلِمِينَ مَعَهُ لَا يُصَلُّونَ إلَّا رَكْعَتَيْنِ وَأَيْضًا فَهِيَ لَمَّا أَتَمَّتْ الصَّلَاةَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَحْتَجَّ بِأَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَخْبَرُ النَّاسِ بِهَا عُرْوَةُ ابْنُ أُخْتِهَا بَلْ اعْتَذَرَتْ بِعُذْرٍ مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ كَمَا رَوَاهُ النَّيْسَابُورِيُّ وَالْبَيْهَقِي وَغَيْرُهُمَا بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ : ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا فَقُلْت لَهَا : لَوْ صَلَّيْت رَكْعَتَيْنِ فَقَالَتْ . يَا ابْنَ أُخْتِي إنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيَّ . وَأَيْضًا فَالْحَدِيثُ الثَّابِتُ عَنْ { صَالِحِ بْنِ كيسان أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ الصَّلَاةَ حِينَ فُرِضَتْ كَانَتْ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ وَأُتِمَّتْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا . قَالَ صَالِحٌ فَأَخْبَرَ بِهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ : إنَّ عُرْوَةَ أَخْبَرَنِي أَنَّ عَائِشَةَ تُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي السَّفَرِ قَالَ فَوَجَدْت عُرْوَةَ يَوْمًا عِنْدَهُ

فَقُلْت : كَيْفَ أَخْبَرْتنِي عَنْ عَائِشَةَ ؟ فَحَدَّثَ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ . فَقَالَ عُمَرُ : أَلَيْسَ حَدَّثْتنِي أَنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي أَرْبَعًا فِي السَّفَرِ ؟ قَالَ : بَلَى } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ " . قَالَ الزُّهْرِيُّ : قُلْت فَمَا شَأْنُ عَائِشَةَ كَانَتْ تُتِمُّ الصَّلَاةَ ؟ قَالَ : إنَّهَا تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ . فَهَذَا عُرْوَةُ يَرْوِي عَنْهَا أَنَّهَا اعْتَذَرَتْ عَنْ إتْمَامِهَا بِأَنَّهَا قَالَتْ لَا يَشُقُّ عَلَيَّ وَقَالَ : إنَّهَا تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إتْمَامَهَا كَانَ بِتَأْوِيلٍ مِنْ اجْتِهَادِهَا وَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَسَّنَ لَهَا الْإِتْمَامَ أَوْ كَانَ هُوَ قَدْ أَتَمَّ لَكَانَتْ قَدْ فَعَلَتْ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِمَّا يُتَأَوَّلُ بِالِاجْتِهَادِ . ثُمَّ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَقْوَى مَا اُعْتُمِدَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ بِالْإِتْمَامِ فِي السَّفَرِ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَبْطَلُ مِنْهُ وَهُوَ كَوْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُتِمُّ فِي السَّفَرِ وَيَقْصُرُ ؟ وَهَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ سُنَّتِهِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا أَصْحَابُهُ نَقْلًا عَنْهُ وَتَبْلِيغًا إلَى أُمَّتِهِ لَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ قَطُّ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ صَلَّى فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا ؛ بَلْ تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيهِ زَيْدٌ العمي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : " إنَّا

مَعَاشِرَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّا نُسَافِرُ : فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ وَمِنَّا الْمُتِمُّ وَمِنَّا الْمُقْصِرُ فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُتِمُّ عَلَى الْمُقْصِرِ " . هُوَ كَذِبٌ بِلَا رَيْبٍ وَزَيْدٌ العمي مِمَّنْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ مَتْرُوكٌ وَالثَّابِتُ عَنْ أَنَسٍ إنَّمَا هُوَ فِي الصَّوْمِ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ فِي السَّفَرِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ فُرَادَى ؛ بَلْ كَانُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَصُومُ وَقَدْ يُفْطِرُ فَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ الْكَذِبِ وَإِنْ كَانَ البيهقي رَوَى هَذَا فَهَذَا مِمَّا أُنْكِرَ عَلَيْهِ وَرَآهُ أَهْلُ الْعِلْمِ لَا يَسْتَوْفِي الْآثَارَ الَّتِي لِمُخَالِفِيهِ كَمَا يَسْتَوْفِي الْآثَارَ الَّتِي لَهُ وَأَنَّهُ يَحْتَجُّ بِآثَارٍ لَوْ احْتَجَّ بِهَا مُخَالِفُوهُ لَأَظْهَرَ ضَعْفَهَا وَقَدَحَ فِيهَا وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِي هَذَا - مَعَ عِلْمِهِ وَدِينِهِ - مَا أَوْقَعَ أَمْثَالَهُ مِمَّنْ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ آثَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَافِقَةً لِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ دُونَ آخَرَ . فَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ السَّبِيلَ دُحِضَتْ حُجَجُهُ وَظَهَرَ عَلَيْهِ نَوْعٌ مِنْ التَّعَصُّبِ بِغَيْرِ الْحَقِّ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ يَجْمَعُ الْآثَارَ وَيَتَأَوَّلُهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ بِتَأْوِيلَاتٍ يُبَيِّنُ فَسَادَهَا لِتُوَافِقَ الْقَوْلَ الَّذِي يَنْصُرُهُ كَمَا يَفْعَلُهُ صَاحِبُ شَرْحِ الْآثَارِ أَبُو جَعْفَرٍ مَعَ أَنَّهُ يَرْوِي مِنْ الْآثَارِ أَكْثَرَ مِمَّا يَرْوِي البيهقي ؛ لَكِنَّ البيهقي يُنَقِّي الْآثَارَ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ صَحِيحِهَا وَسَقِيمِهَا أَكْثَرَ مِنْ الطَّحَاوِي . وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْصُرُ وَيُتِمُّ

وَيُفْطِرُ وَيَصُومُ } قَدْ قِيلَ إنَّهُ مُصَحَّفٌ وَإِنَّمَا لَفْظُهُ " كَانَ يَقْصُرُ وَتُتِمُّ " هِيَ - بِالتَّاءِ - " وَيُفْطِرُ وَتَصُومُ " هِيَ لِيَكُونَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي إسْنَادُهُ أَمْثَلُ مِنْهُ . فَإِنَّهُ مَعْرُوفٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ لَكِنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ عَنْ عَائِشَةَ . وَأَمَّا نَقْلُ هَذَا الْآخَرِ عَنْ عَطَاءٍ فَغَلَطٌ عَلَى عَطَاءٍ قَطْعًا وَإِنَّمَا الثَّابِتُ عَنْ عَطَاءٍ " أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تُصَلِّي فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا " كَمَا رَوَاهُ غَيْرُهُ وَلَوْ كَانَ عِنْدَ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ سُنَّةٌ لَكَانَتْ تَحْتَجُّ بِهَا . وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا مِنْ فِعْلِهِ لَمْ تَكُنْ عَائِشَةُ أَعْلَمَ بِذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِهِ الرِّجَالِ الَّذِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ خَلْفَهُ دَائِمًا فِي السَّفَرِ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا تَكُونُ عَائِشَةُ أَعْلَمَ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ الرِّجَالِ كَقِيَامِهِ بِاللَّيْلِ وَاغْتِسَالِهِ مِنْ الْإِكْسَالِ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِعِلْمِهِ ؛ بَلْ أُمُورُ السَّفَرِ أَصْحَابُهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ فِيهَا مِنْ عَائِشَةَ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَخْرُجُ مَعَهُ فِي كُلِّ أَسْفَارِهِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّهنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ } فَإِنَّمَا كَانَ يُسَافِرُ بِهَا أَحْيَانًا وَكَانَتْ تَكُونُ مُخَدَّرَةً فِي خِدْرِهَا وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهَا فِي الصَّحِيحِ : أَنَّهَا لَمَّا سَأَلَهَا شريح بْنُ هَانِئٍ عَنْ " الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ " قَالَتْ : سَلْ عَلِيًّا ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . هَذَا وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَمْرٌ قَدْ يَفْعَلُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فِي مَنْزِلِهِ فِي الْحَضَرِ فَتَرَاهُ دُونَ الرِّجَالِ ؛ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّيهَا فِي الْحَضَرِ وَلَا فِي السَّفَرِ إلَّا إمَامًا بِأَصْحَابِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ غَيْبَةٍ لِحَاجَةِ كَمَا غَابَ يَوْمَ ذَهَبَ لِيُصْلِحَ بَيْنَ أَهْلِ قُبَاء وَكَمَا غَابَ فِي السَّفَرِ لِلطَّهَارَةِ فَقَدَّمُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَصَلَّى بِهِمْ الصُّبْحَ وَلَمَّا حَضَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَّنَ ذَلِكَ وَصَوَّبَهُ . وَإِذَا كَانَ الْإِتْمَامُ إنَّمَا كَانَ وَالرِّجَالُ يُصَلُّونَ خَلْفَهُ فَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُهُ الرِّجَالُ قَطْعًا وَهُوَ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِعَادَتِهِ فِي عَامَّةِ أَسْفَارِهِ ؛ فَلَوْ فَعَلَهُ أَحْيَانًا لَتَوَفَّرَتْ هِمَمُهُمْ وَدَوَاعِيهِمْ عَلَى نَقْلِهِ كَمَا نَقَلُوا عَنْهُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَمَّا فَعَلَهُ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ . وَكَمَا نَقَلُوا عَنْهُ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ أَحْيَانًا وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ كُلَّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا الْخَاصِّ مَعَ أَنَّ مُخَالَفَةَ سُنَّتِهِ أَظْهَرُ مِنْ مُخَالَفَةِ بَعْضِ الْوَقْتِ لِبَعْضِ فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَشْعُرُونَ بِمُرُورِ الْأَوْقَاتِ كَمَا يَشْعُرُونَ بِمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ اخْتِلَافِ الْعُذْرِ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ يُرَى بِالْعَيْنِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ وَاسْتِدْلَالٍ ؛ بِخِلَافِ خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ وَخُرُوجِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ . وَلِهَذَا ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ جَمْعَهُ إنَّمَا كَانَ فِي غَيْرِ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ بِأَنْ يُقَدِّمَ الثَّانِيَةَ وَيُؤَخِّرَ الْأُولَى إلَى آخِرِ وَقْتِهَا وَقَدْ

رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ كَذَلِكَ . فَهَذَا مِمَّا يَقَعُ فِيهِ شُبْهَةٌ ؛ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ أَرْبَعًا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ يَقَعُ فِيهِ شُبْهَةٌ وَلَا نِزَاعٌ بَلْ كَانَ يَنْقُلُهُ الْمُسْلِمُونَ وَمَنْ جَوَّزَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا - وَلَا يَنْقُلُهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا يُعْرَفُ قَطُّ إلَّا مِنْ رِوَايَةِ وَاحِدٍ مُضَعَّفٍ عَنْ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ وَالرِّوَايَاتُ الثَّابِتَةُ عَنْ عَائِشَةَ لَا تُوَافِقُهُ بَلْ تُخَالِفُهُ - فَإِنَّهُ لَوْ رُوِيَ لَهُ بِإِسْنَادٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْفَجْرَ مَرَّةً أَرْبَعًا لَصُدِّقَ ذَلِكَ . وَمِثْلُ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَدَّقَ بِكُلِّ الْأَخْبَارِ الَّتِي مِنْ هَذَا الْجِنْسِ الَّتِي يَنْفَرِدُ فِيهَا الْوَاحِدُ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ يُنْقَلُ وَيَسْتَفِيضُ . وَهَذَا فِي الضَّعْفِ مِثْلُ أَنْ يُنْقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى : " أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ " وَيُنْقَلُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَلَا يُنْقَلُ إلَّا مِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفٍ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ . وَذَلِكَ مِثْلُ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِى : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ { أَبِي نَضْرَةَ قَالَ : سَأَلَ سَائِلٌ عِمْرَانَ بْنَ الْحُصَيْنِ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ ؟ فَقَالَ : إنَّ هَذَا الْفَتَى يَسْأَلُنِي عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ فَاحْفَظُوهُنَّ عَنِّي مَا سَافَرْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفَرًا

قَطُّ إلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يَرْجِعَ وَشَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حنينا وَالطَّائِفَ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ حَجَجْت مَعَهُ وَاعْتَمَرْت فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ ثُمَّ حَجَجْت مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَاعْتَمَرْت فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ ثُمَّ حَجَجْت مَعَ عُمَرَ وَاعْتَمَرْت فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ : أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ ثُمَّ حَجَجْت مَعَ عُثْمَانَ وَاعْتَمَرْت فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ إنَّ عُثْمَانَ أَتَمَّ } . فَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ قَطُّ إلَّا رَكْعَتَيْنِ ؟ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ سَائِرُ الرِّوَايَاتِ ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ إنَّمَا نَقَلُوا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ : { يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ } فَهَذَا مِمَّا قَالَهُ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ لَمْ يَقُلْهُ فِي حَجَّتِهِ وَإِنَّمَا هَذَا غَلَطٌ وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ . وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ إبْرَاهِيمُ بْنُ حميد عَنْ حَمَّادٍ بِإِسْنَادِهِ رَوَاهُ البيهقي مِنْ طَرِيقِهِ . وَلَفْظُهُ : { مَا سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفَرًا إلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ؛ حَتَّى يَرْجِعَ وَيَقُولَ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ قُومُوا فَصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ وَغَزَا الطَّائِفَ وحنينا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَأَتَى الْجِعْرَانَةَ فَاعْتَمَرَ مِنْهَا وَحَجَجْت مَعَ أَبِي بَكْرٍ

وَاعْتَمَرْت فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَحَجَجْت مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ } فَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ إلَّا عَامَ الْفَتْحِ قَبْلَ غَزْوَةِ حنين وَالطَّائِفِ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ صَرِيحًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ { عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : عَرَفْت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدْت مَعَهُ الْفَتْحَ فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ لَيْلَةً يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يَقُولُ : يَا أَهْلَ الْبَلَدِ صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ } وَهَذَا إنَّمَا كَانَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ فِي نَفْسِ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ بِمِنَى . وَكَذَلِكَ الثَّابِتُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ صَلَّى بِأَهْلِ مَكَّةَ فِي الْحَجِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ عُمَرُ بَعْدَ مَا سَلَّمَ : أَتِمُّوا الصَّلَاةَ يَا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ . هَذَا وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ لَا مِمَّنْ نَقَلَ صَلَاتَهُ وَلَا مِمَّنْ نَقَلَ نُسُكَهُ وَحَجَّهُ مَعَ تَوَفُّرِ الْهِمَمِ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ مَعَ أَنَّ أَئِمَّةَ فُقَهَاءِ الْحَرَمَيْنِ كَانُوا يَقُولُونَ إنَّ الْمَكِّيِّينَ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى . أَفَيَكُونُ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافُ ذَلِكَ ؟ أَمْ كَانُوا جُهَّالًا بِمِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي يَشِيعُ وَلَا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ مِمَّنْ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { حَارِثَةَ بْنِ خُزَاعَةَ قَالَ : صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنَى أَكْثَرَ مَا كُنَّا وَآمَنَهُ رَكْعَتَيْنِ } حَارِثَةُ هَذَا

خزاعي وَخُزَاعَةُ مَنْزِلُهَا حَوْلَ مَكَّةَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بِمِنَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَقِيلَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَاسْتَرْجَعَ وَقَالَ : صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنَى رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْت مَعَ أَبِي بَكْرٍ بِمِنَى رَكْعَتَيْنِ ؛ وَصَلَّيْت مَعَ عُمَرَ بِمِنَى رَكْعَتَيْنِ : فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ } . وَإِتْمَامُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ قِيلَ إنَّهُ كَانَ لِأَنَّهُ تَأَهَّلَ بِمَكَّةَ فَصَارَ مُقِيمًا وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ { عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ : أَنَّ عُثْمَانَ صَلَّى بِمِنَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي تَأَهَّلْت بِمَكَّةَ مُنْذُ قَدِمْت وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ تَأَهَّلَ فِي بَلَدٍ فَلْيُصَلِّ صَلَاةَ مُقِيمٍ بِمَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيَقْصُرُ الرَّابِعَةَ } فَإِنَّهُ يَقْصُرُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَاكَ فَإِنَّ عُثْمَانَ كَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَكَانَ الْمُقَامُ بِمَكَّةَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا وَكَانَ عُثْمَانُ إذَا اعْتَمَرَ يَأْمُرُ بِرَاحِلَتِهِ فَتُهَيَّأُ لَهُ فَيَرْكَبُ عَلَيْهَا عَقِبَ الْعُمْرَةِ لِئَلَّا يُقِيمَ بِمَكَّةَ }

فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْطِنًا بِمَكَّةَ إلَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ جَعَلَ التَّأَهُّلَ إقَامَةً لَا اسْتِيطَانًا فَيُقَالُ : مَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ نَفْسُ التَّأَهُّلِ مَانِعًا مِنْ الْقَصْرِ وَهَذَا أَيْضًا بَعِيدٌ ؛ فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا يَقْصُرُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ بِمِنَى . وَأَيْضًا فَالْأُمَرَاءُ بَعْدَ عُثْمَانَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ كَانُوا يُتِمُّونَ اقْتِدَاءً بِهِ وَلَوْ كَانَ عُذْرُهُ مُخْتَصًّا بِهِ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ . وَقِيلَ إنَّهُ خَشِيَ أَنَّ الْأَعْرَابَ يَظُنُّونَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعٌ وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ الْأَعْرَابَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْهَلَ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ وَلَمْ يُتَمِّمْ الصَّلَاةَ . وَأَيْضًا فَهُمْ يَرَوْنَ صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُقَامِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ . وَأَيْضًا فَظَنُّهُمْ أَنَّ السُّنَّةَ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ أَرْبَعٌ خَطَأٌ مِنْهُمْ فَلَا يَسُوغُ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ لِيَحْصُلَ بِالْمُخَالَفَةِ مَا هُوَ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَعُرْوَةُ قَدْ قَالَ : إنَّ عَائِشَةَ تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ وَعَائِشَةُ أَخْبَرَتْ أَنَّ الْإِتْمَامَ لَا يَشُقُّ عَلَيْهَا .

أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ كَمَا رَآهُ مَنْ رَآهُ لِأَجْلِ شُقَّةِ السَّفَرِ وَرَأَوْا أَنَّ الدُّنْيَا لَمَّا اتَّسَعَتْ عَلَيْهِمْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مِنْ الْمَشَقَّةِ مَا كَانَ يَحْصُلُ عَلَى مَنْ كَانَ صَلَّى أَرْبَعًا كَمَا قَدْ جَاءَ عَنْ عُثْمَانَ مِنْ نَهْيِهِ عَنْ الْمُتْعَةِ الَّتِي هِيَ الْفَسْخُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِأَجْلِ حَاجَتِهِمْ إذْ ذَاكَ إلَى هَذِهِ الْمُتْعَةِ فَتِلْكَ الْحَاجَةُ قَدْ زَالَتْ .

بَابٌ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَبِهِ نَسْتَعِينُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .
مِنْ أَحْمَد بْنِ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّة إلَى مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ كِتَابُهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ وَغَيْرِهِمْ عَامَّةً وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ خَاصَّةً . سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ .
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنِّي أَحْمَدُ إلَيْكُمْ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهُوَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى خِيرَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ : مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَخَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .

أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ وَفْدًا قَدِمُوا مِنْ نَحْوِ أَرْضِكُمْ . فَأَخْبَرُونَا بِنَحْوِ مِمَّا كُنَّا نَسْمَعُ عَنْ أَهْلِ نَاحِيَتِكُمْ مِنْ الِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْتِزَامِ شَرِيعَةِ اللَّهِ الَّتِي شَرَعَهَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ وَمُجَانَبَةِ مَا عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَعْرَابِ مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ ؛ مِنْ سَفْكِ بَعْضِهِمْ دِمَاءَ بَعْضٍ وَنَهْبِ أَمْوَالِهِمْ وَقَطِيعَةِ الْأَرْحَامِ وَالِانْسِلَالِ عَنْ رِبْقَةِ الْإِسْلَامِ وَتَوْرِيثِ الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ وَإِسْبَالِ الثِّيَابِ وَالتَّعَزِّي بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ . وَهُوَ قَوْلُهُمْ : يَا لَبَنِي فُلَانٍ أَوْ يَا لَفُلَانٍ . وَالتَّعَصُّبِ لِلْقَبِيلَةِ بِالْبَاطِلِ وَتَرْكِ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ فِي النِّكَاحِ مِنْ الْعِدَّةِ وَنَحْوِهَا ثُمَّ مَا زَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ لِفَرِيقٍ مِنْهُمْ مِنْ الْأَهْوَاءِ الَّتِي بَايَنُوا بِهَا عَقَائِدَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَخَالَفُوا شَرِيعَةَ اللَّهِ لَهُمْ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ لِلْأَوَّلِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } . وَوَقَعُوا فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَقِيعَةِ الَّتِي لَا تَصْدُرُ مِمَّنْ وَقَرَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ . فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانَا وَإِيَّاكُمْ مِمَّا ابْتَلَى بِهِ كَثِيرًا مِنْ خَلْقِهِ وَفَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الْمَنَّانَ بَدِيعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْ يُتَمِّمَ عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ نِعْمَتَهُ وَيُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُمْ لِمَا يُحِبُّ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَيَجْعَلَنَا مِنْ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ لِلسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ .

وَلَيْسَ هَذَا بِبِدْعِ : فَإِنَّ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ مَا زَالُوا مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ إسْلَامٍ وَفَضْلٍ { قَدْ قَدِمَ وَفْدُهُمْ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِمْ الْأَشَجُّ - فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَك هَذَا الْحَيَّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ وَإِنَّا لَا نَصِلُ إلَيْك إلَّا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نَعْمَلُ بِهِ وَنَأْمُرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا : فَقَالَ : آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ : أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ ، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ } وَلَمْ يَكُنْ قَدْ فُرِضَ الْحَجُّ إذْ ذَاكَ { وَقَالَ لِلْأَشَجِّ : إنَّ فِيك لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ : الْحُلْمُ وَالْأَنَاةُ قَالَ : خُلُقَيْنِ تَخَلَّقْت بِهِمَا أَوْ خُلُقَيْنِ جُبِلْت عَلَيْهِمَا ؟ قَالَ خُلُقَيْنِ جُبِلْت عَلَيْهِمَا فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ } . ثُمَّ إنَّهُمْ أَقَامُوا الْجُمُعَةَ بِأَرْضِهِمْ فَأَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ جُمُعَةِ الْمَدِينَةِ جُمُعَةٌ بجواثى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ . ثُمَّ إنَّهُمْ ثَبَتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَارْتَدَّ مَنْ ارْتَدَّ مِنْ الْعَرَبِ وَقَاتَلَ بِهِمْ أَمِيرُهُمْ الْعَلَاءُ بْنُ

الْحَضْرَمِيُّ - الرَّجُلُ الصَّالِحُ - أَهْلَ الرِّدَّةِ وَلَهُمْ فِي السِّيرَةِ أَخْبَارٌ حِسَانٌ . فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُوَفِّقُ آخِرَهُمْ لِمَا وَفَّقَ لَهُ أَوَّلَهُمْ إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ . وَقَدْ حَدَّثَنَا بَعْضُ الْوَفْدِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بِبَعْضِ أَرْضِكُمْ ثُمَّ إنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَفْتَاهُمْ بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صِفَةِ الْمَكَانِ فَقَالَ هُنَالِكَ مَسْجِدٌ مَبْنِيٌّ بِمَدَرٍ وَحَوْلَهُ أَقْوَامٌ كَثِيرُونَ مُقِيمُونَ مُسْتَوْطِنُونَ لَا يَظْعَنُونَ عَنْ الْمَكَانِ : شِتَاءً وَلَا صَيْفًا إلَّا أَنْ يُخْرِجَهُمْ أَحَدٌ بِقَهْرٍ بَلْ هُمْ وَآبَاؤُهُمْ وَأَجْدَادُهُمْ مُسْتَوْطِنُونَ بِهَذَا الْمَكَانِ كَاسْتِيطَانِ سَائِرِ أَهْلِ الْقُرَى لَكِنَّ بُيُوتَهُمْ لَيْسَتْ مَبْنِيَّةً بِمَدَرٍ إنَّمَا هِيَ مَبْنِيَّةٌ بِجَرِيدِ النَّخْلِ وَنَحْوِهِ . فَاعْلَمُوا - رَحِمَكُمْ اللَّهُ - أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الصُّورَةِ تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَةُ فَإِنَّ كُلَّ قَوْمٍ كَانُوا مُسْتَوْطِنِينَ بِبِنَاءٍ مُتَقَارِبٍ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهُ شِتَاءً وَلَا صَيْفًا تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ إذْ كَانَ مَبْنِيًّا بِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ : مِنْ مَدَرٍ وَخَشَبٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ جَرِيدٍ أَوْ سَعَفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . فَإِنَّ أَجْزَاءَ الْبِنَاءِ وَمَادَّتَهُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي ذَلِكَ إنَّمَا الْأَصْلُ أَنْ يَكُونُوا مُسْتَوْطِنِينَ لَيْسُوا كَأَهْلِ الْخِيَامِ وَالْحُلَلِ الَّذِينَ يَنْتَجِعُونَ فِي الْغَالِبِ مَوَاقِعَ الْقَطْرِ وَيَتَنَقَّلُونَ فِي الْبِقَاعِ وَيَنْقُلُونَ بُيُوتَهُمْ مَعَهُمْ إذَا انْتَقَلُوا وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ .

وَبِقِصَّةِ أَرْضِكُمْ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَ : لَا تُقَامُ الْجُمُعَةُ فِي الْقُرَى بِالْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " أَنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ جُمُعَةِ الْمَدِينَةِ جُمُعَةٌ بِالْبَحْرَيْنِ بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا جواثى مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ " وَبِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ عَامِلَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْبَحْرَيْنِ فَكَتَبَ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي إقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِقُرَى الْبَحْرَيْنِ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ : أَقِيمُوا الْجُمُعَةَ حَيْثُ كُنْتُمْ . وَلَعَلَّ الَّذِينَ قَالُوا لَكُمْ : إنَّ الْجُمُعَةَ لَا تُقَامُ قَدْ تَقَلَّدُوا قَوْلَ مَنْ يَرَى الْجُمُعَةَ لَا تُقَامُ فِي الْقُرَى أَوْ اعْتَقَدُوا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ فِي الْكُتُبِ الْمُخْتَصَرَةِ " إنَّمَا تُقَامُ بِقَرْيَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِنَاءً مُتَّصِلًا أَوْ مُتَقَارِبًا بِحَيْثُ يَشْمَلُهُ اسْمٌ وَاحِدٌ فَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْبِنَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمَدَرِ مِنْ طِينٍ أَوْ كِلْسٍ أَوْ حِجَارَةٍ أَوْ لَبِنٍ وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ بَلْ قَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْبِنَاءَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أُولَئِكَ الْمُسْتَوْطِنِينَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ : قَصَبٍ أَوْ خَشَبٍ وَنَحْوِهِ . وَلِهَذَا فَالْعُلَمَاءُ الْأَئِمَّةُ إنَّمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْأَعْرَابِ أَهْلِ الْعَمْدِ وَبَيْنَ الْمُقِيمِينَ بِأَنَّ أُولَئِكَ يَتَنَقَّلُونَ وَلَا يَسْتَوْطِنُونَ بُقْعَةً بِخِلَافِ الْمُسْتَوْطِنِينَ وَقَدْ كَانَ قَوْمٌ مِنْ السَّلَفِ يَبْنُونَ لَهُمْ بُيُوتًا مِنْ قَصَبٍ { وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَقَفَ مَسْجِدَهُ بِجَرِيدِ النَّخْلِ حَتَّى كَانَ يَكُفُّ الْمَسْجِدَ

إذَا نَزَلَ الْمَطَرُ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ : لَوْ بَنَيْنَا لَك - يَعْنُونَ بِنَاءً مُشَيَّدًا - فَقَالَ : بَلْ عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى } " . وَقَدْ نَصَّ عَلَى مَسْأَلَتِكُمْ بِعَيْنِهَا - وَهِيَ الْبُيُوتُ الْمَصْنُوعَةُ مِنْ جَرِيدٍ أَوْ سَعَفٍ - غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَد كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْحَسَنِ الآمدي وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمْ . فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ كُلَّ بُيُوتٍ مَبْنِيَّةٍ مِنْ آجُرٍّ أَوْ طِينٍ أَوْ حِجَارَةٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ جَرِيدٍ أَوْ سَعَفٍ فَإِنَّهُ تُقَامُ عِنْدَهُمْ الْجُمُعَةُ وَكَذَلِكَ ذَكَرَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّين : كَصَاحِبِ " الْوَسِيطِ " فِيمَا أَظُنُّ وَمِنْ الْعِرَاقِيِّينَ أَيْضًا أَنَّ بُيُوتَ السَّعَفِ تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَةُ . وَخَالَفَ هَؤُلَاءِ الماوردي فِي الْحَاوِي فَذَكَرَ أَنَّ بُيُوتَ الْقَصَبِ وَالْجَرِيدِ لَا تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَةُ بَلْ تُقَامُ فِي بُيُوتِ الْخَشَبِ الْوَثِيقَةِ . وَهَذَا الْفَرْقُ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَالْقِيَاسُ وَلِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ وَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ . فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَسْأَلُهُ عَنْ الْجُمُعَةِ وَهُوَ بِالْبَحْرَيْنِ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ جَمِّعُوا حَيْثُمَا كُنْتُمْ . وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَد إلَى حَدِيثِ عُمَرَ هَذَا . وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَمُرُّ بِالْمِيَاهِ الَّتِي

بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَهْم يَجْمَعُونَ فِي تِلْكَ الْمَنَازِلِ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ . فَهَذَا عُمَرُ يَأْمُرُ أَهْلَ الْبَحْرِينِ بِالتَّجْمِيعِ حَيْثُ اسْتَوْطَنُوا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ بَعْضَ الْبُيُوتِ تَكُونُ مِنْ جَرِيدٍ وَلَمْ يَشْتَرِطْ بِنَاءً مَخْصُوصًا وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ أَقَرَّ أَهْلَ الْمَنَازِلِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ عَلَى التَّجْمِيعِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ مَدَرٍ وَإِنَّمَا هِيَ إمَّا مِنْ جَرِيدٍ أَوْ سَعَفٍ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : لَيْسَ عَلَى الْبَادِيَةِ جُمُعَةٌ لِأَنَّهُمْ يَنْتَقِلُونَ . فَعَلَّلَ سُقُوطَهَا بِالِانْتِقَالِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مُسْتَوْطِنًا لَا يَنْتَقِلُ بِاخْتِيَارِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ أَهْلِ الْخِيَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أُولَئِكَ فِي الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ لَا يَسْتَوْطِنُونَ مَكَانًا بِعَيْنِهِ وَإِنْ اسْتَوْطَنَ فِرَقٌ مِنْهُمْ مَكَانًا فَهُمْ فِي مَظِنَّةِ الِانْتِقَالِ عَنْهُ بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَوْطِنِينَ الَّذِينَ يحترثون ويزدرعون وَلَا يَنْتَقِلُونَ إلَّا كَمَا يَنْتَقِلُ أَهْلُ أَبْنِيَةِ الْمَدَرِ . إمَّا لِحَاجَةٍ تَعْرِضُ أَوْ لِيَدٍ غَالِبَةٍ تَنْقُلُهُمْ كَمَا تَفْعَلُهُ الْمُلُوكُ مَعَ الْفَلَّاحِينَ . الثَّانِي : أَنَّ بُيُوتَ أَهْلِ الْخِيَامِ يَنْقُلُونَهَا مَعَهُمْ إذَا انْتَقَلُوا فَصَارَتْ مِنْ الْمَنْقُولِ لَا مِنْ الْعَقَارِ بِخِلَافِ الْخَشَبِ وَالْقَصَبِ وَالْجَرِيدِ فَإِنَّ أَصْحَابَهَا لَا يَنْقُلُونَهَا لِيَبْنُوا بِهَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَنْتَقِلُونَ إلَيْهِ وَإِنَّمَا يَبْنُونَ

فِي كُلِّ مَكَانٍ بِمَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ مَعَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ اسْتِقْصَاءِ الْأَدِلَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ " إقَامَةُ الْجُمُعَةِ بِالْقُرَى " أَوَّلُ مَا ابْتَدَأَتْ مِنْ نَاحِيَتِكُمْ فَلَا تَقْطَعُوا هَذِهِ الشَّرِيعَةَ مِنْ أَرْضِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ لَكُمْ جَوَامِعَ الْخَيْرِ . ثُمَّ اعْلَمُوا - رَحِمَكُمْ اللَّهُ وَجَمَعَ لَنَا وَلَكُمْ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ - أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَكَانَ قَدْ بُعِثَ إلَى ذَوِي أَهْوَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَقُلُوبٍ مُتَشَتِّتَةٍ وَآرَاءٍ مُتَبَايِنَةٍ فَجَمَعَ بِهِ الشَّمْلَ وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَعَصَمَ بِهِ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ . ثُمَّ إنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ - وَهُوَ الْجَمَاعَةُ - عِمَادٌ لِدِينِهِ . فَقَالَ سُبْحَانَهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ

فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } { وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ . فَانْظُرُوا - رَحِمَكُمْ اللَّهُ كَيْفَ دَعَا اللَّهُ إلَى الْجَمَاعَةِ وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } فَبَرَّأَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا . كَمَا نَهَانَا عَنْ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ بِقَوْلِهِ : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } . وَقَدْ كَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُجَادَلَةِ مَا يُفْضِي إلَى الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ . فَخَرَجَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَتَجَادَلُونَ فِي الْقَدَرِ فَكَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ وَقَالَ { : أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ ؟ أَمْ إلَى هَذَا دُعِيتُمْ ؟ أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ } قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَمَا أَغْبِطُ نَفْسِي كَمَا غَبَطْتهَا أَلَّا أَكُونَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ وَغَيْرُهُ وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّنَنِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً

كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ هِيَ ؟ قَالَ : مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي } " وَفِي رِوَايَةٍ " هِيَ الْجَمَاعَةُ " وَفِي رِوَايَةٍ " { يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ } فَوَصَفَ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ بِأَنَّهُمْ الْمُسْتَمْسِكُونَ بِسُنَّتِهِ وَأَنَّهُمْ هُمْ الْجَمَاعَةُ . وَقَدْ كَانَ الْعُلَمَاءُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إذَا تَنَازَعُوا فِي الْأَمْرِ اتَّبَعُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } وَكَانُوا يَتَنَاظَرُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ مُنَاظَرَةَ مُشَاوَرَةٍ وَمُنَاصَحَةٍ وَرُبَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ مَعَ بَقَاءِ الْأُلْفَةِ وَالْعِصْمَةِ وَأُخُوَّةِ الدِّينِ . نَعَمْ مَنْ خَالَفَ الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَالسُّنَّةَ الْمُسْتَفِيضَةَ أَوْ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ خِلَافًا لَا يُعْذَرُ فِيهِ فَهَذَا يُعَامَلُ بِمَا يُعَامَلُ بِهِ أَهْلُ الْبِدَعِ . فَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَدْ خَالَفَتْ ابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ وَقَالَتْ : " مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْفِرْيَةَ " وَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يُبَدِّعُونَ الْمَانِعِينَ الَّذِينَ وَافَقُوا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَكَذَلِكَ أَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ الْأَمْوَاتُ يَسْمَعُونَ دُعَاءَ الْحَيِّ لَمَّا قِيلَ لَهَا : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {

مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ } " فَقَالَتْ : إنَّمَا قَالَ : إنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الْآنَ أَنَّ مَا قُلْت لَهُمْ حَقٌّ . وَمَعَ هَذَا فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَوْتَى يَسْمَعُونَ خَفْقَ النِّعَالِ كَمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } صَحَّ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ . وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ تَأَوَّلَتْ وَاَللَّهُ يَرْضَى عَنْهَا . وَكَذَلِكَ مُعَاوِيَةُ نُقِلَ عَنْهُ فِي أَمْرِ الْمِعْرَاجِ أَنَّهُ قَالَ : إنَّمَا كَانَ بِرُوحِهِ وَالنَّاسُ عَلَى خِلَافِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي " الْأَحْكَامِ " فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَنْضَبِطَ وَلَوْ كَانَ كُلَّمَا اخْتَلَفَ مُسْلِمَانِ فِي شَيْءٍ تَهَاجَرَا لَمْ يَبْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عِصْمَةٌ وَلَا أُخُوَّةٌ وَلَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَيِّدَا الْمُسْلِمِينَ يَتَنَازَعَانِ فِي أَشْيَاءَ لَا يَقْصِدَانِ إلَّا الْخَيْرَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ : { لَا يُصَلِّيَن أَحَدٌ الْعَصْرَ إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَتْهُمْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ قَوْمٌ : لَا نُصَلِّي إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَفَاتَتْهُمْ الْعَصْرُ . وَقَالَ قَوْمٌ : لَمْ يُرِدْ مِنَّا تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ فَصَلَّوْا فِي الطَّرِيقِ فَلَمْ يَعِبْ وَاحِدًا مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ } . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الْأَحْكَامِ فَمَا لَمْ

يَكُنْ مِنْ الْأُصُولِ الْمُهِمَّةِ فَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْأَحْكَامِ . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ . } نَعَمْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ هَجَرَ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمَّا تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَظَهَرَتْ مَعْصِيَتُهُمْ وَخِيفَ عَلَيْهِمْ النِّفَاقُ فَهَجَرَهُمْ وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِهَجْرِهِمْ حَتَّى أَمَرَهُمْ بِاعْتِزَالِ أَزْوَاجِهِمْ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ خَمْسِينَ لَيْلَةً إلَى أَنْ نَزَلَتْ تَوْبَتُهُمْ مِنْ السَّمَاءِ . وَكَذَلِكَ أَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُسْلِمِينَ بِهَجْرِ صبيغ بْنِ عَسَلٍ التَّمِيمِيِّ لَمَّا رَآهُ مِنْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْ الْكِتَابِ إلَى أَنْ مَضَى عَلَيْهِ حَوْلٌ وَتَبَيَّنَ صِدْقُهُ فِي التَّوْبَةِ فَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِمُرَاجَعَتِهِ . فَبِهَذَا وَنَحْوِهِ

رَأَى الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَهْجُرُوا مَنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ عَلَامَاتُ الزَّيْغِ مِنْ الْمُظْهِرِينَ لِلْبِدَعِ الدَّاعِينَ إلَيْهَا وَالْمُظْهِرِينَ لِلْكَبَائِرِ فَأَمَّا مَنْ كَانَ مُسْتَتِرًا بِمَعْصِيَةٍ أَوْ مُسِرًّا لِبِدْعَةٍ غَيْرِ مُكَفِّرَةٍ فَإِنَّ هَذَا لَا يُهْجَرُ وَإِنَّمَا يُهْجَرُ الدَّاعِي إلَى الْبِدْعَةِ ؛ إذْ الْهَجْرُ نَوْعٌ مِنْ الْعُقُوبَةِ وَإِنَّمَا يُعَاقَبُ مَنْ أَظْهَرَ الْمَعْصِيَةَ قَوْلًا أَوْ عَمَلًا . وَأَمَّا مَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا فَإِنَّا نَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُ وَنَكِلُ سَرِيرَتَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ غَايَتَهُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ لَمَّا جَاءُوا إلَيْهِ عَامَ تَبُوكَ يَحْلِفُونَ وَيَعْتَذِرُونَ . وَلِهَذَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَكْثَرُ مَنْ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ : كَمَالِكٍ وَغَيْرِهِ لَا يَقْبَلُونَ رِوَايَةَ الدَّاعِي إلَى بِدْعَةٍ وَلَا يُجَالِسُونَهُ بِخِلَافِ السَّاكِتِ وَقَدْ أَخْرَجَ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ عَنْ جَمَاعَاتٍ مِمَّنْ رُمِيَ بِبِدْعَةٍ مِنْ السَّاكِتِينَ وَلَمْ يَخْرُجُوا عَنْ الدُّعَاةِ إلَى الْبِدَعِ . وَاَلَّذِي أَوْجَبَ هَذَا الْكَلَامَ أَنَّ وَفْدَكُمْ حَدَّثُونَا بِأَشْيَاءَ مِنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ بَيْنَكُمْ حَتَّى ذَكَرُوا : أَنَّ الْأَمْرَ آلَ إلَى قَرِيبِ الْمُقَاتَلَةِ فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ . وَاَللَّهُ هُوَ الْمَسْئُولُ أَنْ يُؤَلِّفَ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَقُلُوبِكُمْ وَيُصْلِحَ ذَاتَ بَيْنِنَا وَيَهْدِيَنَا سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجَنَا

مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَيُجَنِّبَنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَيُبَارِكَ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا مَا أَبْقَانَا وَيَجْعَلَنَا شَاكِرِينَ لِنِعَمِهِ مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْهِ قَابِلِيهَا وَيُتَمِّمَهَا عَلَيْنَا . وَذَكَرُوا أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ فِي " مَسْأَلَةِ رُؤْيَةِ الْكُفَّارِ رَبَّهُمْ " وَمَا كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ الْأَمْرَ يَبْلُغُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى هَذَا الْحَدِّ فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ خَفِيفٌ ، ثُمَّ ذَكَرَ الْجَوَابَ . وَتَقَدَّمَ فِي " كِتَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
تَنَازَعَ النَّاسُ فِي " صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ " هَلْ تُشْتَرَطُ لَهُمَا الْإِقَامَةُ أَمْ تُفْعَلُ فِي السَّفَرِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : مِنْ شَرْطِهِمَا جَمِيعًا الْإِقَامَةُ فَلَا يُشْرَعَانِ فِي السَّفَرِ . هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَالثَّانِي : يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْجُمُعَةِ دُونَ الْعِيدِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْهُ . وَالثَّالِثُ : لَا يُشْتَرَطُ لَا فِي هَذَا وَلَا هَذَا كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ وَهَؤُلَاءِ عُمْدَتُهُمْ مُطْلَقُ الْأَمْرِ وَلِقَوْلِهِ { إذَا نُودِيَ } وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَزَعَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِالْمُقِيمِ . وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ قَالُوا : الْعِيدُ إمَّا نَفْلٌ وَإِمَّا فَرْضٌ عَلَى

الْكِفَايَةِ وَلَا يَسْقُطُ بِهِ فَرْضٌ آخَرُ كَمَا تَسْقُطُ الظُّهْرُ بِالْجُمُعَةِ وَالنَّوَافِلُ مَشْرُوعَةٌ لِلْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ كَصَلَاةِ الضُّحَى وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ وَكَذَلِكَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ كَصَلَاةِ الْجَنَائِزِ . وَالصَّوَابُ بِلَا رَيْبٍ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لِلْمُسَافِرِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَافِرُ أَسْفَارًا كَثِيرَةً . قَدْ اعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرٍ سِوَى عُمْرَةِ حَجَّتِهِ وَحَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَمَعَهُ أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ وَغَزَا أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ غَزَاةٍ وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ قَطُّ أَنَّهُ صَلَّى فِي السَّفَرِ لَا جُمُعَةً وَلَا عِيدًا بَلْ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي جَمِيعِ أَسْفَارِهِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ قَطُّ أَنَّهُ خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ مُسَافِرٌ قَبْلَ الصَّلَاةِ لَا وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى قَدَمَيْهِ وَلَا عَلَى رَاحِلَتِهِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ وَلَا عَلَى مِنْبَرٍ كَمَا كَانَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَدْ كَانَ أَحْيَانًا يَخْطُبُ بِهِمْ فِي السَّفَرِ خُطَبًا عَارِضَةً فَيَنْقُلُونَهَا كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (1) وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ قَطُّ أَحَدٌ أَنَّهُ خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي السَّفَرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ ؛ بَلْ وَلَا نَقَلَ عَنْهُ أَحَدٌ أَنَّهُ جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ غَيَّرَ الْعَادَةَ فَجَهَرَ وَخَطَبَ لَنَقَلُوا ذَلِكَ وَيَوْمَ عَرَفَةَ خَطَبَ بِهِمْ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ جَهَرَ وَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْخُطْبَةُ لِلْجُمُعَةِ ؛

فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلْجُمُعَةِ لَخَطَبَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ أَيَّامِ الْجُمَعِ وَإِنَّمَا كَانَتْ لِأَجْلِ النُّسُكِ . وَلِهَذَا كَانَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّهُ يَخْطُبُ بِعَرَفَةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ جُمُعَةٍ ؛ فَثَبَتَ بِهَذَا النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّهَا خُطْبَةٌ لِأَجْلِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ جُمُعَةٍ لَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يُصَلِّ الْعِيدَ بِمِنَى لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ فَقَدْ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَدَخَلَهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَأَدْرَكَ فِيهَا عِيدَ الْفِطْرِ وَلَمْ يُصَلِّ بِهَا يَوْمَ الْعِيدِ صَلَاةَ الْعِيدِ وَلَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ مُسْلِمٌ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ لَوْ كَانَ صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْعِيدِ بِمَكَّةَ مَعَ كَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ لَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَكَذَلِكَ بَدْرٌ كَانَتْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَدْرَكَهُ يَوْمَ الْعِيدِ فِي السَّفَرِ وَلَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ عِيدٍ فِي السَّفَرِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُصَلِّي صَلَاةَ الْعِيدِ بِالْمَدِينَةِ إلَّا مَعَهُ كَمَا لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ إلَّا مَعَهُ وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ مَسَاجِدُ كَثِيرَةٌ لِكُلِّ دَارٍ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ مَسْجِدٌ وَلَهُمْ إمَامٌ يُصَلِّي بِهِمْ وَالْأَئِمَّةُ يُصَلُّونَ بِهِمْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَلَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ بِهِمْ لَا جُمُعَةً وَلَا عِيدًا . فَعُلِمَ أَنَّ الْعِيدَ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ جِنْسِ الْجُمُعَةِ لَا مِنْ جِنْسِ التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ وَلَا مِنْ جِنْسِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَقَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ تَطَوُّعٌ : مَمْنُوعٌ

وَلَوْ سَلَّمَ قِيلَ لَهُ هَذِهِ مَخْصُوصَةٌ بِخَصَائِصَ لَا يَشْرَكُهَا فِيهَا غَيْرُهَا وَالسُّنَّةُ مَضَتْ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ بَعْدَهُ وَلَمْ يَكُونُوا فِي سَائِرِ التَّطَوُّعِ يَفْعَلُونَ هَذَا وَكَانَ يَخْرُجُ بِهِمْ إلَى الصَّحْرَاءِ وَيُكَبِّرُ فِيهَا وَيَخْطُبُ بَعْدَهَا وَهَذَا مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ يَوْمِ عِيدٍ شَرِيعَةٌ رَاتِبَةٌ وَالِاسْتِسْقَاءُ لَمْ يَخْتَصَّ بِالصَّلَاةِ ؛ بَلْ كَانَ مَرَّةً يَسْتَسْقِي بِالدُّعَاءِ فَقَطْ وَهُوَ فِي الْمَدِينَةِ وَمَرَّةً يَخْرُجُ إلَى الصَّحْرَاءِ وَيَسْتَسْقِي بِصَلَاةٍ وَبِغَيْرِ صَلَاةٍ حَتَّى إنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ فِي الِاسْتِسْقَاءِ صَلَاةً كَأَبِي حَنِيفَةَ فَلَمَّا كَانَ الِاسْتِسْقَاءُ يُشْرَعُ بِغَيْرِ صَلَاةٍ وَلَا خُطْبَةٍ وَلِآحَادِ النَّاسِ لَمْ يَلْحَقْ بِالْعِيدِ الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا بِصَلَاةِ وَخُطْبَةٍ وَهُوَ شَرِيعَةٌ رَاتِبَةٌ لَيْسَ مَشْرُوعًا لِأَمْرٍ عَارِضٍ كَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا اسْتَخْلَفَ لِلنَّاسِ مَنْ يُصَلِّي الْعِيدَ بِالضُّعَفَاءِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كَمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ صَلَّى أَرْبَعًا وَلَمْ يَكُنْ النَّاسُ يَعْرِفُونَ قَبْلَ عَلِيٍّ أَنْ يُصَلِّيَ أَحَدٌ الْعِيدَ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ فِي الصَّحْرَاءِ فَإِذَا كَانَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا صَلَاةُ عِيدٍ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وُحْدَانًا وَجَمَاعَةً . وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْرَعْهَا لِلنِّسَاءِ بَلْ أَمَرَهُنَّ أَنْ يَخْرُجْنَ يَوْمَ الْعِيدِ حَتَّى أَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْحُيَّضِ فَقَالُوا لَهُ : إنْ لَمْ

يَكُنْ لِلْمَرْأَةِ جِلْبَابٌ قَالَ { لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا } وَهَذَا تَوْكِيدٌ لِخُرُوجِهِنَّ يَوْمَ الْعِيدِ مَعَ أَنَّهُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ قَالَ { وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ } وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُنَّ أَنْ يُصَلِّينَ فِي الْبُيُوتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ فَيُصَلِّينَ ظُهْرًا فَلَوْ كَانَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ مَشْرُوعَةً لَهُنَّ فِي الْبُيُوتِ لَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ تَوْكِيدِ خُرُوجِهِنَّ . وَأَيْضًا لَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَفَعَلَهُ النِّسَاءُ عَلَى عَهْدِهِ كَمَا كُنَّ يُصَلِّينَ التَّطَوُّعَاتِ . فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ النِّسَاءِ صَلَّى الْعِيدَ عَلَى عَهْدِهِ فِي الْبَيْتِ وَلَا مِنْ الرِّجَالِ بَلْ كُنَّ يَخْرُجْنَ بِأَمْرِهِ إلَى الْمُصَلَّى عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَرْعِهِ . وَأَيْضًا فَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيلَ لَهُ : إنَّ بِالْمَدِينَةِ ضُعَفَاءَ لَا يُمْكِنُهُمْ الْخُرُوجُ مَعَك فَلَوْ اسْتَخْلَفْت مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ فَاسْتَخْلَفَ مَنْ صَلَّى بِهِمْ . فَلَوْ كَانَ الْوَاحِدُ يَفْعَلُهَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى الِاسْتِخْلَافِ الَّذِي لَمْ تَمْضِ بِهِ السُّنَّةُ وَدَلَّ مَا فَعَلَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَادِرِ عَلَى الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى وَالْعَاجِزِ عَنْهُ . فَالْقَادِرُ يَخْرُجُ وَالنِّسَاءُ قَادِرَاتٌ عَلَى الْخُرُوجِ فَيَخْرُجْنَ وَلَا يُصَلِّينَ وَحْدَهُنَّ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مِنْ الْمُسَافِرِينَ فِي الْبَلَدِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُصَلُّوا مَعَ الْإِمَامِ فَلَا يُصَلُّونَ وَحْدَهُمْ بِإِمَامِ بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُمْ إذَا لَمْ يُصَلُّوهَا صَلَّوْا وَحْدَهُمْ وَإِذَا كَانُوا فِي بُيُوتِهِمْ صَلَّوْا بِإِمَامٍ كَمَا يُصَلُّونَ فِي الصَّحْرَاءِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ

يَوْمَ الْعِيدِ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا وَعَادَتُهُ يُصَلِّي الْعِيدَ فَهَذَا لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ فَهَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِينَ اسْتَخْلَفَ عَلِيٌّ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ فَيُصَلُّونَ جَمَاعَةً وَفُرَادَى وَيُصَلُّونَ أَرْبَعًا كَمَا يُصَلُّونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِلَا تَكْبِيرٍ وَلَا جَهْرٍ بِالْقِرَاءَةِ وَلَا أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ لِأَنَّ الْعِيدَ لَيْسَ لَهُ أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ فَلَا يَكُونُ فِي الْمُبْدَلِ عَنْهُ بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ فِيهَا وَفِي الظُّهْرِ أَذَانًا وَإِقَامَةً وَالْجُمُعَةُ كُلُّ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَّى الظُّهْرَ ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ وَاجِبَةٌ فَلَا تَسْقُطُ إلَّا عَمَّنْ صَلَّى الْجُمُعَةَ فَلَا بُدَّ لِكُلِّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَنْ يُصَلِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إمَّا الْجُمُعَةَ وَإِمَّا الظُّهْرَ وَلِهَذَا كَانَ النِّسَاءُ وَالْمُسَافِرُونَ وَغَيْرُهُمْ إذَا لَمْ يُصَلُّوا الْجُمُعَةَ صَلَّوْا ظُهْرًا . وَأَمَّا يَوْمُ الْعِيدِ فَلَيْسَ فِيهِ صَلَاةٌ مَشْرُوعَةٌ غَيْرُ صَلَاةِ الْعِيدِ وَإِنَّمَا تُشْرَعُ مَعَ الْإِمَامِ فَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى صَلَاتِهَا مَعَ الْإِمَامِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْمُسَافِرِينَ فَعَلُوهَا مَعَهُ وَهُمْ مَشْرُوعٌ لَهُمْ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُمْ إنْ شَاءُوا صَلَّوْهَا مَعَ الْإِمَامِ وَإِنْ شَاءُوا صَلَّوْهَا ظُهْرًا ؛ بِخِلَافِ الْعِيدِ فَإِنَّهُمْ إذَا فَوَّتُوهُ فَوَّتُوهُ إلَى غَيْرِ بَدَلٍ فَكَانَ صَلَاةُ الْعِيدِ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرْأَةِ أَوْكَدَ مِنْ صَلَاةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَالْجُمُعَةُ لَهَا بَدَلٌ بِخِلَافِ الْعِيدِ . وَكُلٌّ مِنْ الْعِيدَيْنِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَامِ مَرَّةً وَالْجُمُعَةُ تَتَكَرَّرُ فِي الْعَامِ خَمْسِينَ جُمُعَةً وَأَكْثَرَ فَلَمْ يَكُنْ تَفْوِيتُ بَعْضِ الْجُمَعِ كَتَفْوِيتِ الْعِيدِ . وَمَنْ يَجْعَلُ الْعِيدَ وَاجِبًا عَلَى الْأَعْيَانِ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُوجِبَهُ عَلَى مَنْ

كَانَ فِي الْبَلَدِ مِنْ الْمُسَافِرِينَ وَالنِّسَاءِ كَمَا كَانَ فَإِنَّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَانُوا يَشْهَدُونَ الْعِيدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ عَلَى الْأَعْيَانِ أَقْوَى مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ تَطَوُّعٌ فَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا ؛ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَاوَمَ عَلَيْهِ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ وَلَمْ يُعْرَفْ قَطُّ دَارُ إسْلَامٍ يُتْرَكُ فِيهَا صَلَاةُ الْعِيدِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ . وقَوْله تَعَالَى { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرِ بِالتَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ أَمْرٌ بِالصَّلَاةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّكْبِيرِ الرَّاتِبِ وَالزَّائِدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى وَإِذَا لَمْ يُرَخِّصْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكِهِ لِلنِّسَاءِ فَكَيْفَ لِلرِّجَالِ . وَمَنْ قَالَ : هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ . قِيلَ لَهُ : هَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا تَحْصُلُ مَصْلَحَتُهُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ كَدَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَهْرِ الْعَدُوِّ وَلَيْسَ يَوْمُ الْعِيدِ مَصْلَحَةً مُعَيَّنَةً يَقُومُ بِهَا الْبَعْضُ بَلْ صَلَاةُ يَوْمِ الْعِيدِ شَرَعَ لَهَا الِاجْتِمَاعَ أَعْظَمَ مِنْ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ أَمَرَ النِّسَاءَ بِشُهُودِهَا وَلَمْ يُؤْمَرْنَ بِالْجُمُعَةِ بَلْ أَذِنَ لَهُنَّ فِيهَا وَقَالَ : { صَلَاتُكُنَّ فِي بُيُوتِكُنَّ خَيْرٌ لَكُنَّ } . ثُمَّ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ بِأَيِّ عَدَدٍ تَحْصُلُ ؟ فَمَهْمَا قَدَّرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ تَحَكُّمًا سَوَاءٌ قِيلَ بِوَاحِدِ أَوْ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ . وَإِذَا قِيلَ بِأَرْبَعِينَ فَهُوَ قِيَاسٌ عَلَى الْجُمُعَةِ وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ الْعِيدِ

إلَّا لِعَجْزِهِ عَنْهُ وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْ الْجُمُعَةِ لِسَفَرٍ أَوْ أُنُوثَةٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَكَذَلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَى مَنْ فِي الْمِصْرِ مِنْ الْمُسَافِرِينَ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ الْإِتْمَامُ كَمَا لَوْ صَلَّوْا خَلْفَ مَنْ يُتِمُّ فَإِنَّ عَلَيْهِمْ الْإِتْمَامَ تَبَعًا لِلْإِمَامِ كَذَلِكَ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ تَبَعًا لِلْمُقِيمِينَ كَمَا أَوْجَبَهَا عَلَى الْمُقِيمِ غَيْرِ الْمُسْتَوْطِنِ تَبَعًا مَنْ أَثْبَتَ نَوْعًا ثَالِثًا بَيْنَ الْمُقِيمِ الْمُسْتَوْطِنِ وَبَيْنَ الْمُسَافِرِ وَهُوَ الْمُقِيمُ غَيْرُ الْمُسْتَوْطِنِ فَقَالَ : تَجِبُ عَلَيْهِ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِ . وَقَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ إلَّا مُقِيمٌ وَمُسَافِرٌ . وَالْمُقِيمُ هُوَ الْمُسْتَوْطِنُ وَمَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ فَهُوَ مُسَافِرٌ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَهَؤُلَاءِ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ لِأَنَّ قَوْلَهُ { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ } وَنَحْوِهَا يَتَنَاوَلُهُمْ وَلَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي مِصْرِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَا يُصَلِّي الْجُمُعَةَ إلَّا مَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْهَا كَالْمَرِيضِ وَالْمَحْبُوسِ وَهَؤُلَاءِ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ؛ لَكِنْ الْمُسَافِرُونَ لَا يَعْقِدُونَ جُمُعَةً لَكِنْ إذَا عَقَدَهَا أَهْلُ الْمِصْرِ صَلَّوْا مَعَهُمْ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ إتْمَامِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْإِمَامِ الْمُقِيمِ . وَكَذَلِكَ وُجُوبُهَا عَلَى الْعَبْدِ قَوِيٌّ : إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا إذَا أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ وَالْمُسَافِرُ فِي الْمِصْرِ لَا يُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ وَإِنْ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فَكَذَلِكَ الْجُمُعَةُ وَأَمَّا إفْطَارُهُ : فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَكَانَ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ مُفْطِرِينَ وَمَا نُقِلَ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِابْتِدَاءِ

الصَّوْمِ فَالْفِطْرُ كَالْقَصْرِ ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ مَشْرُوعٌ لِلْمُسَافِرِ فِي الْإِقَامَاتِ الَّتِي تَتَخَلَّلُ السَّفَرَ كَالْقَصْرِ ؛ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَإِنَّهُ لَا يُشْرَعُ إلَّا فِي حَالِ السَّيْرِ وَلِأَنَّ اللَّهَ عَلَّقَ الْفِطْرَ وَالْقَصْرَ بِمُسَمَّى السَّفَرِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَلَيْسَ فِيهِ لَفْظُ إتْمَامٍ بَلْ فِيهِ الْفِعْلُ الَّذِي لَا عُمُومَ لَهُ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الَّذِي يُبَاحُ لِلْعُذْرِ مُطْلَقًا كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الرَّاحِلَةِ تُبَاحُ لِلْعُذْرِ فِي السَّفَرِ فِي الْفَرِيضَةِ مَعَ الْعُذْرِ الْمَانِعِ مِنْ النُّزُولِ وَالْمُتَطَوِّعُ مُحْتَاجٌ إلَى دَوَامِ التَّطَوُّعِ وَهَذَا لَا يُمْكِنُ مَعَ النُّزُولِ وَالسَّفَرِ وَإِذَا جَازَ التَّطَوُّعُ قَاعِدًا مَعَ إمْكَانِ الْقِيَامِ فَعَلَى الرَّاحِلَةِ لِلْمُسَافِرِ أجوز . وَكَانُوا فِي الْعِيدِ يَأْخُذُونَ مِنْ الصِّبْيَانِ مَنْ يَأْخُذُوهُ كَمَا شَهِدَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْعِيدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ احْتَلَمَ . وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ شُهُودِهَا مَعَ الْإِمَامِ فَهَذَا أَهْلٌ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ فَرَّقَتْ فِي الْمَأْمُورَاتِ كُلِّهَا بَيْنَ الْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ فَالْقَادِرُ عَلَيْهَا إذَا لَمْ يَأْتِ بِشُرُوطِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلُهَا وَالْعَاجِزُ إذَا عَجَزَ عَنْ بَعْضِ الشُّرُوطِ سَقَطَ عَنْهُ فَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الصَّلَاةِ إلَى الْقِبْلَةِ قَائِمًا بِطِهَارَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِدُونِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْعَاجِزِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِحَسَبِ حَالِهِ كَيْفَمَا أَمْكَنَهُ فَيُصَلِّي عريانا وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَبِالتَّيَمُّمِ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا ذَلِكَ فَهَكَذَا يَوْمُ الْعِيدِ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الْخُرُوجُ مَعَ الْإِمَامِ سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ وَجَوَّزَ لَهُ أَنْ

يَفْعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِيَحْصُلَ لَهُ مِنْ الْعِبَادَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَيُصَلِّي أَرْبَعًا وَتَكُونُ الرَّكْعَتَانِ بَدَلَ الْخُطْبَةِ الَّتِي لَمْ يُصَلِّ بِهَا كَمَا كَانَتْ الْخُطْبَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمَةً مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ وَالتَّكْبِيرُ إنَّمَا شُرِعَ فِي الصَّلَاةِ الثُّنَائِيَّةِ الَّتِي تَكُونُ مَعَهَا خُطْبَةٌ وَكَذَلِكَ الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ كَمَا أَنَّهُ فِي الْجُمُعَةِ يَجْهَرُ الْإِمَامُ فِي الثُّنَائِيَّةِ وَلَا يَجْهَرُ مَنْ يُصَلِّي الْأَرْبَعَ كَذَلِكَ يَوْمُ الْعِيدِ لَا يَجْهَرُ مَنْ يُصَلِّي الْأَرْبَعَ فَالْمَحْبُوسُ وَالْمَرِيضُ وَاَلَّذِي خَرَجَ لِيُصَلِّيَ فَفَاتَتْهُ الصَّلَاةُ مَعَ الْإِمَامِ يُصَلُّونَ يَوْمَ الْعِيدِ بِخِلَافِ مَنْ تَعَمَّدَ التَّرْكَ . فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَد فِيمَنْ فَاتَهُ الْعِيدُ هَلْ يُصَلِّي أَرْبَعًا أَوْ رَكْعَتَيْنِ أَوْ يُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا ؟ عَلَى ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ .

وَسُئِلَ :
عَنْ قَوْمٍ مُقِيمِينَ بِقَرْيَةِ وَهُمْ دُونَ أَرْبَعِينَ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ ؛ أَجُمُعَةٌ ؟ أَمْ ظُهْرٌ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا كَانَ فِي الْقَرْيَةِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ ظُهْرًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ : كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَد وَأَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : إذَا كَانُوا أَرْبَعِينَ صَلَّوْا جُمُعَةً .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ؛ هَلْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ أَوْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ هُوَ مَنْصُوصٌ فِي مَذْهَبٍ مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمْ ؟ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ } " . هَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ ؟ أَمْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ ؟ .
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْأَذَانِ شَيْئًا وَلَا نَقَلَ هَذَا عَنْهُ أَحَدٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يُؤَذَّنُ عَلَى عَهْدِهِ إلَّا إذَا قَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَيُؤَذِّنُ بِلَالٌ ثُمَّ يَخْطُبُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُطْبَتَيْنِ ثُمَّ يُقِيمُ بِلَالٌ فَيُصَلِّي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ فَمَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الْأَذَانِ لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَقَلَ عَنْهُ أَحَدٌ أَنَّهُ صَلَّى فِي بَيْتِهِ قَبْلَ الْخُرُوجِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَا وَقَّتَ بِقَوْلِهِ : صَلَاةٌ

مُقَدَّرَةٌ قَبْلَ الْجُمُعَةِ بَلْ أَلْفَاظُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا التَّرْغِيبُ فِي الصَّلَاةِ إذَا قَدِمَ الرَّجُلُ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ . كَقَوْلِهِ : " مَنْ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ وَصَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ " . وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا إذَا أَتَوْا الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يُصَلُّونَ مِنْ حِينِ يَدْخُلُونَ مَا تَيَسَّرَ فَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي عَشْرَ رَكَعَاتٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي ثَمَانِ رَكَعَاتٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ . وَلِهَذَا كَانَ جَمَاهِيرُ الْأَئِمَّةِ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ مُؤَقَّتَةٌ بِوَقْتِ مُقَدَّرَةٌ بِعَدَدِ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِعْلِهِ . وَهُوَ لَمْ يَسُنَّ فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَا بِقَوْلِهِ وَلَا فِعْلِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ قَبْلَهَا سُنَّةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا رَكْعَتَيْنِ كَمَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا أَرْبَعًا كَمَا نُقِلَ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد مَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَحْتَجُّ بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هِيَ

ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ وَتَكُونُ سُنَّةُ الظُّهْرِ سُنَّتَهَا وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ .
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْجُمُعَةَ مَخْصُوصَةٌ بِأَحْكَامٍ تُفَارِقُ بِهَا ظُهْرَ كُلِّ يَوْمٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ سُمِّيَتْ ظُهْرًا مَقْصُورَةً فَإِنَّ الْجُمُعَةَ يُشْتَرَطُ لَهَا الْوَقْتُ فَلَا تُقْضَى وَالظُّهْرُ تُقْضَى وَالْجُمُعَةُ يُشْتَرَطُ لَهَا الْعَدَدُ وَالِاسْتِيطَانُ وَإِذْنُ الْإِمَامِ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَالظُّهْرُ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُتَلَقَّى أَحْكَامُ الْجُمُعَةِ مِنْ أَحْكَامِ الظُّهْرِ مَعَ اخْتِصَاصِ الْجُمُعَةِ بِأَحْكَامٍ تُفَارِقُ بِهَا الظُّهْرَ فَإِنَّهُ إذَا كَانَتْ الْجُمُعَةُ تُشَارِكُ الظُّهْرَ فِي حُكْمٍ وَتُفَارِقُهَا فِي حُكْمٍ لَمْ يُمْكِنْ إلْحَاقُ مَوْرِدِ النِّزَاعِ بِأَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلِيلِ فَلَيْسَ جَعْلُ السُّنَّةِ مِنْ مَوَارِدِ الِاشْتِرَاكِ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِهَا مِنْ مَوَارِدِ الِافْتِرَاقِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ : هَبْ أَنَّهَا ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي فِي سَفَرِهِ سُنَّةَ الظُّهْرِ الْمَقْصُورَةِ لَا قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا وَإِنَّمَا كَانَ يُصَلِّيهَا إذَا أَتَمَّ الظُّهْرَ فَصَلَّى أَرْبَعًا فَإِذَا كَانَتْ سُنَّتُهُ الَّتِي فَعَلَهَا فِي الظُّهْرِ الْمَقْصُورَةِ خِلَافَ التَّامَّةِ كَانَ مَا ذَكَرُوهُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ وَكَانَ السَّبَبُ الْمُقْتَضِي لِحَذْفِ بَعْضِ الْفَرِيضَةِ أَوْلَى بِحَذْفِ السُّنَّةِ الرَّاتِبَةِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ : لَوْ كُنْت مُتَطَوِّعًا لَأَتْمَمْت الْفَرِيضَةَ . فَإِنَّهُ لَوْ اُسْتُحِبَّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا لَكَانَتْ صَلَاتُهُ لِلظُّهْرِ أَرْبَعًا أَوْلَى مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَرْضًا وَرَكْعَتَيْنِ سُنَّةً .

وَهَذَا لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَوَاتِرَةِ أَنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي فِي السَّفَرِ إلَّا رَكْعَتَيْنِ : الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْعِشَاءَ . وَكَذَلِكَ لَمَّا حَجَّ بِالنَّاسِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ لَمْ يُصَلِّ بِهِمْ بِمِنَى وَغَيْرِهَا إلَّا رَكْعَتَيْنِ . وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ لَمْ يُصَلِّ إلَّا رَكْعَتَيْنِ . وَكَذَلِكَ عُمَرُ بَعْدَهُ لَمْ يُصَلِّ إلَّا رَكْعَتَيْنِ . وَمَنْ نَقَلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ أَوْ الْعِشَاءَ فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا فَقَدْ أَخْطَأَ . وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ هُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ فِي الْأَصْلِ مَعَ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ التَّحْرِيفِ . فَإِنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ : أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْطَرْت وَصُمْت ؟ وَقَصَرْت وَأَتْمَمْت ؟ فَقَالَ : أَصَبْت يَا عَائِشَةُ } " فَهَذَا مَعَ ضَعْفِهِ وَقِيَامِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُفْطِرُ وَيَصُومُ وَيَقْصُرُ وَيُتِمُّ . فَظَنَّ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْحَدِيثَ فِيهِ أَنَّهَا رَوَتْ الْأَمْرَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ السُّنَّةَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَالْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَفْضَلُ إلَّا قَوْلًا مَرْجُوحًا لِلشَّافِعِيِّ . وَأَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ يَكْرَهُونَ التَّرْبِيعَ لِلْمُسَافِرِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَنَصِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : لَا يَجُوزُ التَّرْبِيعُ

كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ : كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَد . فَيُقَالُ : لَوْ كَانَ اللَّهُ يُحِبُّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ لَكَانَ يَسْتَحِبُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ أَرْبَعًا فَإِنَّ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ بِبَعْضِ الظُّهْرِ أَفْضَلُ مِنْ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ بِالتَّطَوُّعِ مَعَ الظُّهْرِ . وَلِهَذَا أَوْجَبَ عَلَى الْمُقِيمِ أَرْبَعًا فَلَوْ أَرَادَ الْمُقِيمُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَرْضًا وَرَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ وَيَنْهَاهُ عَنْ شَيْءٍ إلَّا وَاَلَّذِي أَمَرَهُ بِهِ خَيْرٌ مِنْ الَّذِي نَهَاهُ عَنْهُ فَعُلِمَ أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُصَلِّيَهَا رَكْعَتَيْنِ مَعَ رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا . فَلَمَّا كَانَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَسْتَحِبَّ لِلْمُسَافِرِ التَّرْبِيعَ بِخَيْرِ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهُ فَلَأَنْ لَا يَسْتَحِبَّ التَّرْبِيعَ بِالْأَمْرِ الْمَرْجُوحِ عِنْدَهُ أَوْلَى . فَثَبَتَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ الصَّحِيحِ أَنَّ فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَكْمَلُ الْأُمُورِ وَأَنَّ هَدْيَهُ خَيْرُ الْهَدْيِ وَأَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا اقْتَصَرَ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَرْضِ كَانَ أَفْضَلَ لَهُ مِنْ أَنْ يَقْرِنَ بِهِمَا رَكْعَتَيْ السُّنَّةِ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْجُمُعَةَ إذَا كَانَتْ ظُهْرًا مَقْصُورَةً لَمْ يَكُنْ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَقْرِنَ بِهَا سُنَّةَ ظُهْرِ الْمُقِيمِ بَلْ تُجْعَلُ كَظُهْرِ الْمُسَافِرِ الْمَقْصُورَةِ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ وَيُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ وَيُوتِرُ عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّهُ

لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ . وَهَذَا لِأَنَّ الْفَجْرَ لَمْ تُقْصَرْ فِي السَّفَرِ فَبَقِيَتْ سُنَّتُهَا عَلَى حَالِهَا بِخِلَافِ الْمَقْصُورَاتِ فِي السَّفَرِ وَالْوِتْرُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ كَسَائِرِ قِيَامِ اللَّيْلِ وَهُوَ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ وَسُنَّةُ الْفَجْرِ تَدْخُلُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ . فَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهِ فِي السَّفَرِ لِاسْتِقْلَالِهِ وَقِيَامِ الْمُقْتَضِي لَهُ . وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَلَوْ كَانَ الْأَذَانَانِ عَلَى عَهْدِهِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ . ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ : لِمَنْ شَاءَ } كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً . فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مَشْرُوعَةٌ قَبْلَ الْعَصْرِ وَقَبْلَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ وَقَبْلَ الْمَغْرِبِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسُنَّةٍ رَاتِبَةٍ . وَكَذَلِكَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَصْحَابَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ بَيْنَ أَذَانَيْ الْمَغْرِبِ وَهُوَ يَرَاهُمْ فَلَا يَنْهَاهُمْ وَلَا يَأْمُرُهُمْ وَلَا يَفْعَلُ هُوَ ذَلِكَ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِعْلٌ جَائِزٌ . وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى الصَّلَاةِ قَبْلَ الْجُمُعَةِ بِقَوْلِهِ : { بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ } " . وَعَارَضَهُ غَيْرُهُ فَقَالَ : الْأَذَانُ الَّذِي عَلَى الْمَنَابِرِ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ عُثْمَانَ أَمَرَ بِهِ لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِهِ وَلَمْ يَكُنْ يَبْلُغُهُمْ الْأَذَانُ حِينَ خُرُوجِهِ وَقُعُودِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ . وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ هَذَا الْأَذَانُ لَمَّا سَنَّهُ عُثْمَانُ

وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ صَارَ أَذَانًا شَرْعِيًّا وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ الصَّلَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَذَانِ الثَّانِي جَائِزَةً حَسَنَةً وَلَيْسَتْ سُنَّةً رَاتِبَةً كَالصَّلَاةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ . وَحِينَئِذٍ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ وَمَنْ تَرَكَ ذَلِكَ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ . وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَد يَدُلُّ عَلَيْهِ . وَحِينَئِذٍ فَقَدْ يَكُونُ تَرْكُهَا أَفْضَلَ إذَا كَانَ الْجُهَّالُ يَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ أَوْ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَتُتْرَكُ حَتَّى يَعْرِفَ النَّاسُ أَنَّهَا لَيْسَتْ سُنَّةً رَاتِبَةً . وَلَا وَاجِبَةً . لَا سِيَّمَا إذَا دَاوَمَ النَّاسُ عَلَيْهَا فَيَنْبَغِي تَرْكُهَا أَحْيَانًا حَتَّى لَا تُشْبِهَ الْفَرْضَ كَمَا اسْتَحَبَّ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُدَاوَمَ عَلَى قِرَاءَةِ السَّجْدَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهَا فَإِذَا كَانَ يَكْرَهُ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى ذَلِكَ فَتَرْكُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى مَا لَمْ يَسُنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى . وَإِنْ صَلَّاهَا الرَّجُلُ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ أَحْيَانًا ؛ لِأَنَّهَا تَطَوُّعٌ مُطْلَقٌ أَوْ صَلَاةٌ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ كَمَا يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ لَا لِأَنَّهَا سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ فَهَذَا جَائِزٌ . وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مَعَ قَوْمٍ يُصَلُّونَهَا فَإِنْ كَانَ مُطَاعًا إذَا تَرَكَهَا - وَبَيَّنَ لَهُمْ السُّنَّةَ - لَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِ بَلْ عَرَفُوا السُّنَّةَ فَتَرْكُهَا حَسَنٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطَاعًا وَرَأَى أَنَّ فِي صَلَاتِهَا تَأْلِيفًا لِقُلُوبِهِمْ إلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ أَوْ دَفْعًا لِلْخِصَامِ وَالشَّرِّ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ بَيَانِ الْحَقِّ لَهُمْ وَقَبُولِهِمْ لَهُ

وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا أَيْضًا حَسَنٌ . فَالْعَمَلُ الْوَاحِدُ يَكُونُ فِعْلُهُ مُسْتَحَبًّا تَارَةً وَتَرْكُهُ تَارَةً بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَجَّحُ مِنْ مَصْلَحَةِ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ بِحَسَبِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ . وَالْمُسْلِمُ قَدْ يَتْرُكُ الْمُسْتَحَبَّ إذَا كَانَ فِي فِعْلِهِ فَسَادٌ رَاجِحٌ عَلَى مَصْلَحَتِهِ كَمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَاءَ الْبَيْتِ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ وَقَالَ لِعَائِشَةَ : { لَوْلَا أَنَّ قَوْمَك حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ لَنَقَضْت الْكَعْبَةَ وَلَأَلْصَقْتهَا بِالْأَرْضِ وَلَجَعَلْت لَهَا بَابَيْنِ بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ } وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . فَتَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ لِلْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ وَهُوَ حِدْثَانُ عَهْدِ قُرَيْشٍ بِالْإِسْلَامِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّنْفِيرِ لَهُمْ فَكَانَتْ الْمَفْسَدَةُ رَاجِحَةً عَلَى الْمَصْلَحَةِ . وَلِذَلِكَ اسْتَحَبَّ الْأَئِمَّةُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ أَنْ يَدَعَ الْإِمَامُ مَا هُوَ عِنْدَهُ أَفْضَلُ إذَا كَانَ فِيهِ تَأْلِيفُ الْمَأْمُومِينَ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ فَصْلُ الْوِتْرِ أَفْضَلَ بِأَنْ يُسَلِّمَ فِي الشَّفْعِ ثُمَّ يُصَلِّيَ رَكْعَةَ الْوِتْرِ وَهُوَ يَؤُمُّ قَوْمًا لَا يَرَوْنَ إلَّا وَصْلَ الْوِتْرِ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَى الْأَفْضَلِ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ الْحَاصِلَةُ بِمُوَافَقَتِهِ لَهُمْ بِوَصْلِ الْوِتْرِ أَرْجَحَ مِنْ مَصْلَحَةِ فَصْلِهِ مَعَ كَرَاهَتِهِمْ لِلصَّلَاةِ خَلْفَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مِمَّنْ يَرَى الْمُخَافَتَةَ بِالْبَسْمَلَةِ أَفْضَلَ أَوْ الْجَهْرَ بِهَا وَكَانَ الْمَأْمُومُونَ عَلَى خِلَافِ رَأْيِهِ

فَفَعَلَ الْمَفْضُولَ عِنْدَهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُوَافَقَةِ وَالتَّأْلِيفِ الَّتِي هِيَ رَاجِحَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ كَانَ جَائِزًا حَسَنًا . وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ خِلَافَ الْأَفْضَلِ لِأَجْلِ بَيَانِ السُّنَّةِ وَتَعْلِيمِهَا لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْهَا كَانَ حَسَنًا مِثْلَ أَنْ يَجْهَرَ بِالِاسْتِفْتَاحِ أَوْ التَّعَوُّذِ أَوْ الْبَسْمَلَةِ لِيَعْرِفَ النَّاسُ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ حَسَنٌ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَهَرَ بِالِاسْتِفْتَاحِ فَكَانَ يُكَبِّرُ وَيَقُولُ : " سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك وَتَبَارَكَ اسْمُك وَتَعَالَى جَدُّك وَلَا إلَهَ غَيْرُك " . قَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ : صَلَّيْت خَلْفَ عُمَرَ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةً فَكَانَ يُكَبِّرُ ثُمَّ يَقُولُ ذَلِكَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَلِهَذَا شَاعَ هَذَا الِاسْتِفْتَاحُ حَتَّى عَمِلَ بِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ . وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَجْهَرَانِ بِالِاسْتِعَاذَةِ وَكَانَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ يَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ . وَهَذَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْجُمْهُورُ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ الْجَهْرَ بِهَا سُنَّةً رَاتِبَةً كَانَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ أَنَّ قِرَاءَتَهَا فِي الصَّلَاةِ سُنَّةٌ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَقَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ جَهْرًا وَذَكَرَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ أَنَّهَا سُنَّةٌ . وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى فِيهَا قِرَاءَةً بِحَالِ كَمَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْقِرَاءَةَ فِيهَا سُنَّةً كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا وَغَيْرِهِ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ الْقِرَاءَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ كَالصَّلَاةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ هِيَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ لَيْسَتْ وَاجِبَةً . وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ ؛ فَإِنَّ السَّلَفَ فَعَلُوا هَذَا وَهَذَا وَكَانَ كِلَا الْفِعْلَيْنِ مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِقِرَاءَةٍ وَغَيْرِ قِرَاءَةٍ كَمَا كَانُوا يُصَلُّونَ تَارَةً بِالْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ وَتَارَةً بِغَيْرِ جَهْرٍ بِهَا وَتَارَةً بِاسْتِفْتَاحٍ وَتَارَةً بِغَيْرِ اسْتِفْتَاحٍ وَتَارَةً بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ وَتَارَةً بِغَيْرِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَتَارَةً يُسَلِّمُونَ تَسْلِيمَتَيْنِ وَتَارَةً تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً وَتَارَةً يَقْرَءُونَ خَلْفَ الْإِمَامِ بِالسِّرِّ وَتَارَةً لَا يَقْرَءُونَ وَتَارَةً يُكَبِّرُونَ عَلَى الْجِنَازَةِ أَرْبَعًا وَتَارَةً خَمْسًا وَتَارَةً سَبْعًا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا وَفِيهِمْ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا . كُلُّ هَذَا ثَابِتٌ عَنْ الصَّحَابَةِ . كَمَا ثَبَتَ عَنْهُمْ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُرَجِّعُ فِي الْأَذَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُرَجِّعْ فِيهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُوتِرُ الْإِقَامَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَشْفَعُهَا وَكِلَاهُمَا ثَابِتٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فَهَذِهِ الْأُمُورُ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهَا أَرْجَحَ مِنْ الْآخَرِ فَمَنْ فَعَلَ الْمَرْجُوحَ فَقَدْ فَعَلَ جَائِزًا . وَقَدْ يَكُونُ فِعْلُ الْمَرْجُوحِ أَرْجَحَ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ كَمَا يَكُونُ تَرْكُ الرَّاجِحِ أَرْجَحَ أَحْيَانًا لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ . وَهَذَا وَاقِعٌ فِي عَامَّةِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ الْعَمَلَ الَّذِي هُوَ فِي جِنْسِهِ أَفْضَلُ قَدْ يَكُونُ فِي مَوَاطِنَ غَيْرِهِ أَفْضَلُ مِنْهُ كَمَا أَنَّ جِنْسَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْقِرَاءَةِ وَجِنْسَ الْقِرَاءَةِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الذِّكْرِ وَجِنْسَ الذِّكْرِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ . ثُمَّ الصَّلَاةُ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَالْقِرَاءَةُ وَالذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ وَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَالذِّكْرُ هُنَاكَ أَفْضَلُ مِنْهَا وَالدُّعَاءُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَقَدْ يَكُونُ الْعَمَلُ الْمَفْضُولُ أَفْضَلَ بِحَسَبِ حَالِ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ ؛ لِكَوْنِهِ عَاجِزًا عَنْ الْأَفْضَلِ أَوْ لِكَوْنِ مَحَبَّتِهِ وَرَغْبَتِهِ وَاهْتِمَامِهِ وَانْتِفَاعِهِ بِالْمَفْضُولِ أَكْثَرَ فَيَكُونُ أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ لِمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ مَزِيدِ عَمَلِهِ وَحُبِّهِ وَإِرَادَتِهِ وَانْتِفَاعِهِ كَمَا أَنَّ الْمَرِيضَ يَنْتَفِعُ بِالدَّوَاءِ الَّذِي يَشْتَهِيهِ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِمَا لَا يَشْتَهِيهِ وَإِنْ كَانَ جِنْسُ ذَلِكَ أَفْضَلَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ صَارَ الذِّكْرُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ خَيْرًا مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْقِرَاءَةُ لِبَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ خَيْرًا مِنْ الصَّلَاةِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ لِكَمَالِ انْتِفَاعِهِ بِهِ لَا لِأَنَّهُ فِي جِنْسِهِ أَفْضَلُ .

وَهَذَا الْبَابُ " بَابُ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ عَلَى بَعْضٍ " إنْ لَمْ يُعْرَفْ فِيهِ التَّفْضِيلُ وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الْأَحْوَالِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَعْمَالِ وَإِلَّا وَقَعَ فِيهَا اضْطِرَابٌ كَثِيرٌ . فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ إذَا اعْتَقَدَ اسْتِحْبَابَ فِعْلٍ وَرُجْحَانَهُ يُحَافِظُ عَلَيْهِ مَا لَا يُحَافِظُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ الْأَمْرُ إلَى الْهَوَى وَالتَّعَصُّبِ وَالْحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا تَجِدُهُ فِيمَنْ يَخْتَارُ بَعْضَ هَذِهِ الْأُمُورِ فَيَرَاهَا شِعَارًا لِمَذْهَبِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ إذَا رَأَى تَرْكَ ذَلِكَ هُوَ الْأَفْضَلَ يُحَافِظُ أَيْضًا عَلَى هَذَا التَّرْكِ أَعْظَمَ مِنْ مُحَافَظَتِهِ عَلَى تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ الْأَمْرُ إلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا تَجِدُهُ فِيمَنْ يَرَى التَّرْكَ شِعَارًا لِمَذْهَبِهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ وَهَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ . وَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَيُوَسِّعَ مَا وَسَّعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُؤَلِّفَ مَا أَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَرَسُولُهُ وَيُرَاعِيَ فِي ذَلِكَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْمَصَالِحِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَيَعْلَمَ أَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ بَعَثَهُ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي كُلِّ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ وَأَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِنْسَانِ مِنْ التَّفْصِيلِ مَا يَحْفَظُ بِهِ هَذَا الْإِجْمَالَ وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَعْتَقِدُ هَذَا مُجْمَلًا وَيَدَعُهُ عِنْدَ التَّفْصِيلِ : إمَّا جَهْلًا وَإِمَّا ظُلْمًا وَإِمَّا اتِّبَاعًا لِلْهَوَى . فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ

وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا السُّنَّةُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ } كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْفَجْرِ رَكْعَتَيْنِ : وَبَعْدَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ } . وَأَمَّا الظُّهْرُ فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { : أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَهَا رَكْعَتَيْنِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ : " { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا . } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } " . وَجَاءَ مُفَسَّرًا فِي السُّنَنِ : { أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ } . فَهَذِهِ هِيَ السُّنَنُ الرَّاتِبَةُ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ . مَدَارُهَا عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ : حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ حَبِيبَةَ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ بِاللَّيْلِ : إمَّا إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً وَإِمَّا ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً فَكَانَ مَجْمُوعُ صَلَاتِهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَرْضُهُ وَنَفْلُهُ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ رَكْعَةً .

وَالنَّاسُ فِي هَذِهِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : مِنْهُمْ مَنْ لَا يُوَقِّتُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا . كَقَوْلِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ لَا يَرَى سُنَّةً إلَّا الْوِتْرَ وَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ . وَكَانَ يَقُولُ إنَّمَا يُوَقِّتُ أَهْلُ الْعِرَاقِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّرُ فِي ذَلِكَ أَشْيَاءَ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ بَلْ بَاطِلَةٍ كَمَا يُوجَدُ فِي مَذَاهِبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَبَعْضِ مَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُوجَدُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْمُقَدَّرَةِ وَالْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ مَا يَعْلَمُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالسُّنَّةِ أَنَّهُ مَكْذُوبٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَنْ رَوَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا } أَوْ { أَنَّهُ قَضَى سُنَّةَ الْعَصْرِ } " أَوْ { أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ الظُّهْرِ سِتًّا } أَوْ " بَعْدَهَا أَرْبَعًا " أَوْ { أَنَّهُ كَانَ يُحَافِظُ عَلَى الضُّحَى } . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ فِي " الرَّقَائِقِ وَالْفَضَائِلِ " فِي الصَّلَوَاتِ الْأُسْبُوعِيَّةِ وَالْحَوْلِيَّةِ : كَصَلَاةِ يَوْمِ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ وَالْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ وَالسَّبْتِ الْمَذْكُورَةِ فِي كِتَابِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي حَامِدٍ وَعَبْدِ الْقَادِرِ وَغَيْرِهِمْ . وَكَصَلَاةِ " الْأَلْفِيَّةِ " الَّتِي فِي أَوَّلِ رَجَبٍ وَنِصْفِ شَعْبَانَ وَالصَّلَاةِ " الِاثْنَيْ عَشَرِيَّةَ " الَّتِي فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ وَالصَّلَاةِ الَّتِي فِي لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ

رَجَبٍ وَصَلَوَاتٍ أُخَرَ تُذْكَرُ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ وَصَلَاةِ لَيْلَتَيْ الْعِيدَيْنِ وَصَلَاةِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِحَدِيثِهِ أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَيْهِ وَلَكِنْ بَلَغَ ذَلِكَ أَقْوَامًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ فَظَنُّوهُ صَحِيحًا فَعَمِلُوا بِهِ وَهُمْ مَأْجُورُونَ عَلَى حُسْنِ قَصْدِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ لَا عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ . وَأَمَّا مَنْ تَبَيَّنَتْ لَهُ السُّنَّةُ فَظَنَّ أَنَّ غَيْرَهَا خَيْرٌ مِنْهَا فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ بَلْ كَافِرٌ . وَالْقَوْلُ الْوَسَطُ الْعَدْلُ هُوَ مَا وَافَقَ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ الثَّابِتَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعًا } . وَقَدْ رُوِيَ السِّتُّ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ جَمْعًا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا . وَالسُّنَّةُ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ فِي الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا . كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُوصَلَ صَلَاةٌ بِصَلَاةِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَهُمَا بِقِيَامٍ أَوْ كَلَامٍ } فَلَا يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ . يَصِلُ السَّلَامَ بِرَكْعَتَيْ السُّنَّةِ فَإِنَّ هَذَا رُكُوبٌ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَفِي هَذَا مِنْ الْحِكْمَةِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَغَيْرِ الْفَرْضِ كَمَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَغَيْرِ الْعِبَادَةِ . وَلِهَذَا اُسْتُحِبَّ تَعْجِيلُ الْفُطُورِ وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ وَالْأَكْلُ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَنُهِيَ عَنْ اسْتِقْبَالِ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَهَذَا كُلُّهُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الصِّيَامِ وَغَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا . وَهَكَذَا تَمْيِيزُ الْجُمُعَةِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ مِنْ غَيْرِهَا . وَأَيْضًا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ كَالرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ لَا يَنْوُونَ الْجُمُعَةَ بَلْ يَنْوُونَ الظُّهْرَ وَيُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ سَلَّمُوا وَمَا سَلَّمُوا فَيُصَلُّونَ ظُهْرًا وَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ السُّنَّةَ فَإِذَا حَصَلَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ كَانَ فِي هَذَا مَنْعٌ لِهَذِهِ الْبِدْعَةِ وَهَذَا لَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ خَرَجَ إلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ : فَهَلْ يَجْرِي إلَى أَنْ يَأْتِيَ الصَّلَاةَ أَوْ يَأْتِيَ هَوْنًا وَلَوْ فَاتَتْهُ ؟.
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا خَشِيَ فَوْتَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ يُسْرِعُ حَتَّى يُدْرِكَ مِنْهَا رَكْعَةً فَأَكْثَرَ وَأَمَّا إذَا كَانَ يُدْرِكُهَا مَعَ الْمَشْيِ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ فَهَذَا أَفْضَلُ بَلْ هُوَ السُّنَّةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالسَّجْدَةِ : هَلْ تَجِبُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَتْ قِرَاءَةُ { الم } { تَنْزِيلُ } الَّتِي فِيهَا السَّجْدَةُ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ ذَوَاتِ السُّجُودِ وَاجِبَةً فِي فَجْرِ الْجُمُعَةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَمَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ وَاجِبًا أَوْ ذَمَّ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَالٌّ مُخْطِئٌ يَجِبُ عَلَيْهِ

أَنْ يَتُوبَ مِنْ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ وَكَرَاهِيَتِهِ . فَعِنْدَ مَالِكٍ يُكْرَهُ أَنْ يُقْرَأَ بِالسَّجْدَةِ فِي الْجَهْرِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَجَدَ فِي الْعِشَاءِ بـ { إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ { الم } { تَنْزِيلُ } و { هَلْ أَتَى } } . وَعِنْدَ مَالِكٍ يُكْرَهُ أَنْ يَقْصِدَ سُورَةً بِعَيْنِهَا . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فَيَسْتَحِبُّونَ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِثْلَ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي الْجُمُعَةِ . وَالذَّارِيَاتُ وَاقْتَرَبَتْ فِي الْعِيدِ وَالَمْ تَنْزِيلُ وَهَلْ أَتَى فِي فَجْرِ الْجُمُعَةِ . لَكِنْ هُنَا مَسْأَلَتَانِ نَافِعَتَانِ : ( إحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْرَأَ بِسُورَةٍ فِيهَا سَجْدَةٌ أُخْرَى بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ فَلَيْسَ الِاسْتِحْبَابُ لِأَجْلِ السَّجْدَةِ بَلْ لِلسُّورَتَيْنِ وَالسَّجْدَةُ جَاءَتْ اتِّفَاقًا فَإِنَّ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِيهِمَا ذِكْرُ مَا يَكُونُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ الْخَلْقِ وَالْبَعْثِ . ( الثَّانِيَةُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا بِحَيْثُ يَتَوَهَّمُ الْجُهَّالُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَأَنَّ تَارِكَهَا مُسِيءٌ بَلْ يَنْبَغِي تَرْكُهَا أَحْيَانًا لِعَدَمِ وُجُوبِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَمَّنْ قَرَأَ " سُورَةِ السَّجْدَةِ " يَوْمَ الْجُمُعَةِ : هَلْ الْمَطْلُوبُ السَّجْدَةُ فَيُجْزِئُ بَعْضُ السُّورَةِ وَالسَّجْدَةُ فِي غَيْرِهَا ؟ أَمْ الْمَطْلُوبُ السُّورَةُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ الْمَقْصُودُ قِرَاءَةُ السُّورَتَيْنِ : { الم } { تَنْزِيلُ } و : { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ } لِمَا فِيهِمَا مِنْ ذِكْرِ خَلْقِ آدَمَ وَقِيَامِ السَّاعَةِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ السَّجْدَةَ فَلَوْ قَصَدَ الرَّجُلُ قِرَاءَةَ سُورَةِ سَجْدَةٍ أُخْرَى كُرِهَ ذَلِكَ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ السُّورَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا فَالسُّنَّةُ قِرَاءَتُهُمَا بِكَمَالِهِمَا . وَلَا يَنْبَغِي الْمُدَاوَمَةُ عَلَى ذَلِكَ لِئَلَّا يَظُنَّ الْجَاهِلُ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ بَلْ يَقْرَأُ أَحْيَانًا غَيْرَهُمَا مِنْ الْقُرْآنِ . وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد اللَّذَانِ يَسْتَحِبَّانِ قِرَاءَتَهُمَا . وَأَمَّا مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ فَعِنْدَهُمَا يُكْرَهُ قَصْدُ قِرَاءَتِهِمَا .

وَسُئِلَ :
عَمَّنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ قَامَ لِيَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ . فَهَلْ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
بَلْ يُخَافِتُ بِالْقِرَاءَةِ وَلَا يَجْهَرُ ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ إذَا قَامَ يَقْضِي فَإِنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا يَقْضِيهِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُنْفَرِدِ وَهُوَ فِيمَا يُدْرِكُهُ فِي حُكْمِ الْمُؤْتَمِّ ؛ وَلِهَذَا يَسْجُدُ الْمَسْبُوقُ إذَا سَهَا فِيمَا يَقْضِيهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَسْبُوقُ إنَّمَا يَجْهَرُ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ الْمُنْفَرِدُ فَمَنْ كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَذْهَبُهُ أَنْ يَجْهَرَ الْمُنْفَرِدُ فِي الْعِشَاءَيْنِ وَالْفَجْرِ فَإِنَّهُ يَجْهَرُ إذَا قَضَى الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَمَنْ كَانَ مَذْهَبُهُ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ لَا يَجْهَرُ فَإِنَّهُ لَا يَجْهَرُ الْمَسْبُوقُ عِنْدَهُ . وَالْجُمُعَةُ لَا يُصَلِّيهَا أَحَدٌ مُنْفَرِدًا فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَجْهَرَ فِيهَا الْمُنْفَرِدُ . وَالْمَسْبُوقُ كَالْمُنْفَرِدِ فَلَا يَجْهَرُ لَكِنَّهُ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ ضِمْنًا وَتَبَعًا وَلَا يُشْتَرَطُ فِي التَّابِعِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَتْبُوعِ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ لِمَا يَقْضِيهِ الْمَسْبُوقُ الْعَدَدُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . لَكِنْ مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ فَهُوَ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ كَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ ،

وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَإِنَّهُ مُدْرِكٌ وَإِنْ كَانَتْ بَقِيَّةُ الصَّلَاةِ فُعِلَتْ خَارِجَ الْوَقْتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي جَامِعِ الْقَلْعَةِ : هَلْ هِيَ جَائِزَةٌ مَعَ أَنَّ فِي الْبَلَدِ خُطْبَةً أُخْرَى مَعَ وُجُودِ سُورِهَا وَغَلْقِ أَبْوَابِهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا جُمُعَةً لِأَنَّهَا مَدِينَةٌ أُخْرَى . كَمِصْرِ وَالْقَاهِرَةِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ كَمَدِينَةٍ أُخْرَى فَإِقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي الْمَدِينَةِ الْكَبِيرَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ لِلْحَاجَةِ يَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا بُنِيَتْ بَغْدَادُ وَلَهَا جَانِبَانِ أَقَامُوا فِيهَا جُمُعَةً فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ وَجُمُعَةً فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ . وَجَوَّزَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) فِي مَدِينَتِهِ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَخْرُجُ بِالْمُسْلِمِينَ فَيُصَلِّي الْعِيدَ بِالصَّحْرَاءِ وَكَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ . فَلَمَّا تَوَلَّى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَصَارَ بِالْكُوفَةِ وَكَانَ الْخَلْقُ بِهَا كَثِيرًا قَالُوا : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ بِالْمَدِينَةِ شُيُوخًا وَضُعَفَاءَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ الْخُرُوجُ إلَى الصَّحْرَاءِ فَاسْتَخْلَفَ

عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِيدَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ خَارِجَ الصَّحْرَاءِ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا يُفْعَلُ قَبْلَ ذَلِكَ وَعَلِيٌّ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي } . فَمَنْ تَمَسَّكَ بِسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْحَاجَةُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ وَفِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ تَدْعُو إلَى أَكْثَرَ مِنْ جُمُعَةٍ إذْ لَيْسَ لِلنَّاسِ جَامِعٌ وَاحِدٌ يَسَعُهُمْ وَلَا يُمْكِنُهُمْ جُمُعَةٌ وَاحِدَةٌ إلَّا بِمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ . وَهُنَا وَجْهٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْقَلْعَةَ كَأَنَّهَا قَرْيَةٌ خَارِجَ الْمَدِينَةِ . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّ الْجُمُعَةَ تُقَامُ فِي الْقُرَى ؛ لِأَنَّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : " أَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ جُمُعَةِ الْمَدِينَةِ جُمُعَةٌ " بجواثى " قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ " وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ . وَكَذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى الْمُسْلِمِينَ يَأْمُرُهُمْ بِالْجُمُعَةِ حَيْثُ كَانُوا . وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَمُرُّ بِالْمِيَاهِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَهُمْ يُقِيمُونَ الْجُمُعَةَ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ . وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ . فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُخَالِفٌ لَجَازَ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّ كُلَّ قَرْيَةٍ مِصْرٌ جَامِعٌ كَمَا أَنَّ الْمِصْرَ الْجَامِعَ يُسَمَّى قَرْيَةً . وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ مَكَّةَ قَرْيَةً بَلْ سَمَّاهَا

" أُمَّ الْقُرَى " بَلْ وَمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ مَكَّةَ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ } وَسَمَّى مِصْرَ الْقَدِيمَةَ قَرْيَةً بِقَوْلِهِ : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا } . وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي الْعِيدِ إذَا وَافَقَ الْجُمُعَةَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : يَجِبُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِيدَ وَلَا يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ ؛ وَقَالَ الْآخَرُ : يُصَلِّيهَا . فَمَا الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا اجْتَمَعَ الْجُمُعَةُ وَالْعِيدُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ شَهِدَ الْعِيدَ . كَمَا تَجِبُ سَائِرُ الْجُمَعِ للعمومات الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْجُمُعَةِ . وَالثَّانِي : تَسْقُطُ عَنْ أَهْلِ الْبِرِّ مِثْلَ أَهْلِ الْعَوَالِي وَالشَّوَاذِّ ؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عفان أَرْخَصَ لَهُمْ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ الْعِيدَ .

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ مَنْ شَهِدَ الْعِيدَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْجُمُعَةُ لَكِنْ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ الْجُمُعَةَ لِيَشْهَدَهَا مَنْ شَاءَ شُهُودَهَا وَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْعِيدَ . وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ : كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ . وَلَا يُعْرَفُ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ . وَأَصْحَابُ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ لَمْ يَبْلُغْهُمْ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اجْتَمَعَ فِي يَوْمِهِ عِيدَانِ صَلَّى الْعِيدَ ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ وَفِي لَفْظٍ أَنَّهُ قَالَ : { أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ قَدْ أَصَبْتُمْ خَيْرًا فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَشْهَدَ الْجُمُعَةَ فَلْيَشْهَدْ فَإِنَّا مُجْمِعُونَ } . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا شَهِدَ الْعِيدَ حَصَلَ مَقْصُودُ الِاجْتِمَاعِ ثُمَّ إنَّهُ يُصَلِّي الظُّهْرَ إذَا لَمْ يَشْهَدْ الْجُمُعَةَ فَتَكُونُ الظُّهْرُ فِي وَقْتِهَا وَالْعِيدُ يُحَصِّلُ مَقْصُودَ الْجُمُعَةِ . وَفِي إيجَابِهَا عَلَى النَّاسِ تَضْيِيقٌ عَلَيْهِمْ وَتَكْدِيرٌ لِمَقْصُودِ عِيدِهِمْ وَمَا سُنَّ لَهُمْ مِنْ السُّرُورِ فِيهِ وَالِانْبِسَاطِ . فَإِذَا حُبِسُوا عَنْ ذَلِكَ عَادَ الْعِيدُ عَلَى مَقْصُودِهِ بِالْإِبْطَالِ وَلِأَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِيدٌ وَيَوْمَ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ عِيدٌ وَمِنْ شَأْنِ الشَّارِعِ إذَا اجْتَمَعَ عِبَادَتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَدْخَلَ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى . كَمَا يُدْخِلُ الْوُضُوءَ فِي الْغُسْلِ وَأَحَدَ الْغُسْلَيْنِ فِي الْآخَرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ : إذَا جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمَ الْعِيدِ وَصَلَّى الْعِيدَ إنْ اشْتَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ وَإِلَّا فَلَا . فَهَلْ هُوَ فِيمَا قَالَ مُصِيبٌ أَمْ مُخْطِئٌ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا . إذَا اجْتَمَعَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَيَوْمُ الْعِيدِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْفُقَهَاءِ :
أَحَدُهَا : أَنَّ الْجُمُعَةَ عَلَى مَنْ صَلَّى الْعِيدَ وَمَنْ لَمْ يُصَلِّهِ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْجُمُعَةَ سَقَطَتْ عَنْ السَّوَادِ الْخَارِجِ عَنْ الْمِصْرِ كَمَا يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى الْعِيدَ ثُمَّ أَذِنَ لِأَهْلِ الْقُرَى فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَاتَّبَعَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ مَنْ صَلَّى الْعِيدَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْجُمُعَةَ لَكِنْ يَنْبَغِي

لِلْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ الْجُمُعَةَ لِيَشْهَدَهَا مَنْ أَحَبَّ . كَمَا فِي السُّنَنِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي عَهْدِهِ عِيدَانِ فَصَلَّى الْعِيدَ ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ } . وَفِي لَفْظٍ أَنَّهُ صَلَّى الْعِيدَ وَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ : { أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ قَدْ أَصَبْتُمْ خَيْرًا فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَشْهَدَ الْجُمُعَةَ فَلْيَشْهَدْ فَإِنَّا مُجْمِعُونَ } وَهَذَا الْحَدِيث رُوِيَ فِي السُّنَنِ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَنَّهُ صَلَّى الْعِيدَ ثُمَّ خَيَّرَ النَّاسَ فِي شُهُودِ الْجُمُعَةِ . وَفِي السُّنَنِ حَدِيثٌ ثَالِثٌ فِي ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ عَلَى عَهْدِهِ عِيدَانِ فَجَمَعَهُمَا أَوَّلَ النَّهَارِ ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ إلَّا الْعَصْرَ . وَذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَذَكَرَ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ : قَدْ أَصَابَ السُّنَّةَ . وَهَذَا الْمَنْقُولُ هُوَ الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ . وَهُوَ قَوْلُ مَنْ بَلَغَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَاَلَّذِينَ خَالَفُوهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ السُّنَنِ وَالْآثَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ خُطْبَةٍ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ ، كِلَاهُمَا فَرْضٌ لِوَقْتِهَا فِي سَاعَةٍ مُشْكِلَةِ الْعَيْنِ ، وَاعْتِبَارُ الشَّرْطِ فِيهَا كَمَا فِي غَيْرِهَا مِنْ هَيْئَةِ الدِّينِ . كَالظُّهْرِ وَالسُّنَنِ وَالْوَقْتِ وَالْقِبْلَةِ أَيْضًا بِالتَّأْذِينِ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ تُنَزَّلُ عَلَى عِدَّةِ مَسَائِلَ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُتَنَازَعٌ فِيهِ : مِنْهَا إذَا اجْتَمَعَ عِيدٌ وَجُمُعَةٌ فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْعِيدَ فَرْضٌ يَقُولُ : إنَّ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ هِيَ خُطْبَةٌ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ كِلَاهُمَا فَرْضٌ بِخِلَافِ خُطْبَةِ الْعِيدِ . فَإِنَّهُ يَقُولُ لَيْسَتْ فَرْضًا . وَإِمَّا أَنْ تُنَزَّلَ عَلَى مَا إذَا اعْتَقَدَ جُمُعَتَانِ فِي مَوْضِعٍ لَا تَصِحُّ فِيهِ جُمُعَتَانِ فَإِنَّهُ تَصِحُّ الْأُولَى وَتَبْطُلُ الثَّانِيَةُ إذَا كَانَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ . فَإِنْ أُشْكِلَ عَيَّنَ السَّابِقَةَ بَطَلَتَا جَمِيعًا وَصَلَّوْا ظُهْرًا . فَالْخُطْبَةُ الَّتِي قَبْلَ الثَّانِيَةِ خُطْبَةٌ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ كِلَاهُمَا فَرْضٌ إذَا كَانَ الْإِمَامُ قَدْ أَذِنَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا

وَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تُقَامُ عِنْدَهُمْ وَكِلَاهُمَا يَعْتَقِدُ أَنَّ جُمُعَتَهُ فَرْضٌ . وَيُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ السَّائِلُ الْفَجْرَ وَالْجُمُعَةَ فَإِنَّ الْفَجْرَ فَرْضٌ فِي وَقْتِهَا وَالْجُمُعَةَ فَرْضٌ لِوَقْتِهَا وَبَيْنَهُمَا خُطْبَةٌ هِيَ خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ . وَمِنْهَا خُطَبُ الْحَجِّ : فَإِنَّ خُطْبَةَ عَرَفَةَ تَكُونُ بَيْنَ الصَّلَاةِ بِعَرَفَةَ وَبَيْنَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَكِلَاهُمَا فَرْضٌ وَالْخُطْبَةُ يَوْمَ النَّحْرِ : تَكُونُ بَيْنَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ فَكِلَاهُمَا فَرْضٌ .
وَسُئِلَ :
هَلْ قِرَاءَةُ الْكَهْفِ بَعْدَ عَصْرِ الْجُمُعَةِ جَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قِرَاءَةُ سُورَةِ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيهَا آثَارٌ ذَكَرَهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ لَكِنْ هِيَ مُطْلَقَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَا سَمِعْت أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بَعْدَ الْعَصْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ فَرْشِ السَّجَّادَةِ فِي الرَّوْضَةِ الشَّرِيفَةِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْرِشُ شَيْئًا وَيَخْتَصَّ بِهِ مَعَ غَيْبَتِهِ وَيَمْنَعَ بِهِ غَيْرَهُ . هَذَا غَصْبٌ لِتِلْكَ الْبُقْعَةِ وَمَنْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ . وَالسُّنَّةُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ وَأَمَّا مَنْ يَتَقَدَّمُ بِسَجَّادَةِ فَهُوَ ظَالِمٌ يُنْهَى عَنْهُ وَيَجِبُ رَفْعُ تِلْكَ السَّجَاجِيدِ وَيُمَكَّنُ النَّاسُ مِنْ مَكَانِهَا . هَذَا مَعَ أَنَّ أَصْلَ الْفَرْشِ بِدْعَةٌ لَا سِيَّمَا فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى الْأَرْضِ وَالْخُمْرَةُ الَّتِي كَانَ يُصَلِّي عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَغِيرَةٌ لَيْسَتْ بِقَدْرِ السَّجَّادَةِ . قُلْت فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ : أَنَّهُ

لَا يَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدٍ إلَّا عَلَى الْأَرْضِ وَلَمَّا قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ مِنْ الْعِرَاقِ وَفَرَشَ فِي الْمَسْجِدِ . أَمَرَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ بِحَبْسِهِ تَعْزِيرًا لَهُ حَتَّى رُوجِعَ فِي ذَلِكَ فَذَكَرَ أَنَّ فِعْلَ هَذَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَسْجِدِ بِدْعَةٌ يُؤَدَّبُ صَاحِبُهَا . وَعَلَى النَّاسِ الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَالْمَنْعُ مِنْهُ لَا سِيَّمَا وُلَاةُ الْأَمْرِ الَّذِينَ لَهُمْ هُنَالِكَ وِلَايَةٌ عَلَى الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ رَفْعُ هَذِهِ السَّجَاجِيدِ وَلَوْ عُوقِبَ أَصْحَابُهُ بِالصَّدَقَةِ بِهَا لَكَانَ هَذَا مِمَّا يُسَوَّغُ فِي الِاجْتِهَادِ انْتَهَى .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقْتَ دُخُولِ الْإِمَامِ الْمَسْجِدَ : " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَسَلِّمْ . وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ أَجْمَعِينَ " . وَفِي دُعَاءِ الْإِمَامِ بَعْدَ صُعُودِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَفِي قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ بَعْدَ الْأَذَانِ الثَّانِي : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا قُلْت لِصَاحِبِك وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْت } أَذَلِكَ مَسْنُونٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ أَوْ مَكْرُوهٌ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ؟ .

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ هَذَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْعُلَمَاءِ لَكِنْ تَبْلِيغُ الْحَدِيثِ فَعَلَهُ مَنْ فَعَلَهُ لِأَمْرِ النَّاسِ بِالْإِنْصَاتِ وَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْخُطْبَةِ . وَأَمَّا دُعَاءُ الْإِمَامِ بَعْدَ صُعُودِهِ وَرَفْعِ الْمُؤَذِّنِينَ أَصْوَاتَهُمْ بِالصَّلَاةِ فَهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْعُلَمَاءُ وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَفْعَلُهُ بِلَا أَصْلٍ شَرْعِيٍّ . وَأَمَّا رَفْعُ الْمُؤَذِّنِينَ أَصْوَاتَهُمْ وَقْتَ الْخُطْبَةِ بِالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا فَهَذَا مَكْرُوهٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ مُؤَذِّنٍ يَقُولُ عِنْدَ دُخُولِ الْخَطِيبِ إلَى الْجَامِعِ : " إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ " . فَقَالَ رَجُلٌ : هَذَا بِدْعَةٌ . فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
جَهْرُ الْمُؤَذِّنِ بِذَلِكَ كَجَهْرِهِ بِالصَّلَاةِ وَالتَّرَضِّي عِنْدَ رُقِيِّ الْخَطِيبِ الْمِنْبَرَ أَوْ جَهْرِهِ بِالدُّعَاءِ لِلْخَطِيبِ وَالْإِمَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ . وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ الْجَهْرُ بِنَحْوِ ذَلِكَ فِي الْخُطْبَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابٌ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
هَلْ يَتَعَيَّنُ قِرَاءَةٌ بِعَيْنِهَا فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ ؟ وَمَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَهْمَا قَرَأَ بِهِ جَازَ . كَمَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ فِي نَحْوِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ . لَكِنْ إذَا قَرَأَ بِقَافِ وَاقْتَرَبَتْ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ . مِمَّا جَاءَ فِي الْأَثَرِ كَانَ حَسَنًا . وَأَمَّا بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ : فَإِنَّهُ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ . هَكَذَا رَوَى نَحْوَ هَذَا الْعُلَمَاءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ . وَإِنْ قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ . اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي كَانَ حَسَنًا . وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا . وَنَحْوُ ذَلِكَ

وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مُؤَقَّتٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ صِفَةِ التَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ ، وَمَتَى وَقْتُهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي التَّكْبِيرِ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ : أَنْ يُكَبِّرَ مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَقِبَ كُلِّ صَلَاةٍ وَيَشْرَعُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ الْخُرُوجِ إلَى الْعِيدِ . وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَصِفَةُ التَّكْبِيرِ الْمَنْقُولِ عِنْدَ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ : قَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ } . وَإِنْ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا جَازَ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا فَقَطْ وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَأَمَّا التَّكْبِيرُ فِي الصَّلَاةِ فَيُكَبِّرُ الْمَأْمُومُ تَبَعًا لِلْإِمَامِ وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْأَئِمَّةِ يُكَبِّرُونَ سَبْعًا فِي الْأُولَى وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ .

وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَقُولَ بَيْنَ التَّكْبِيرَتَيْنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ . اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي . كَانَ حَسَنًا كَمَا جَاءَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
هَلْ التَّكْبِيرُ يَجِبُ فِي عِيدِ الْفِطْرِ أَكْثَرُ مِنْ عِيدِ الْأَضْحَى ؟ بَيِّنُوا لَنَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا التَّكْبِيرُ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي عِيدِ الْأَضْحَى بِالِاتِّفَاقِ . وَكَذَلِكَ هُوَ مَشْرُوعٌ فِي عِيدِ الْفِطْرِ : عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَذَكَرَ ذَلِكَ الطَّحَاوِي مَذْهَبًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ . وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمْ خِلَافُهُ لَكِنَّ التَّكْبِيرَ فِيهِ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَالتَّكْبِيرُ فِيهِ أَوْكَدُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ بِقَوْلِهِ : { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } . وَالتَّكْبِيرُ فِيهِ : أَوَّلُهُ مِنْ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَآخِرُهُ انْقِضَاءُ الْعِيدِ وَهُوَ فَرَاغُ الْإِمَامِ مِنْ الْخُطْبَةِ عَلَى الصَّحِيحِ . وَأَمَّا التَّكْبِيرُ فِي النَّحْرِ فَهُوَ أَوْكَدُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُشْرَعُ أَدْبَارَ الصَّلَوَاتِ

وَأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَأَنَّ عِيدَ النَّحْرِ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَكَانُ وَالزَّمَانُ وَعِيدَ النَّحْرِ أَفْضَلُ مِنْ عِيدِ الْفِطْرِ وَلِهَذَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ فِيهِ النَّحْرَ مَعَ الصَّلَاةِ . وَالْعِبَادَةُ فِي ذَاكَ الصَّدَقَةُ مَعَ الصَّلَاةِ . وَالنَّحْرُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْعِبَادَتَانِ الْبَدَنِيَّةُ وَالْمَالِيَّةُ فَالذَّبْحُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ وَالصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ وَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ فِي الْفِطْرِ تَابِعَةٌ لِلصَّوْمِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَهَا طهرة لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ وَلِهَذَا سُنَّ أَنْ تُخْرَجَ قَبْلَ الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } . وَأَمَّا النُّسُكُ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي الْيَوْمِ نَفْسِهِ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَلِهَذَا يُشْرَعُ بَعْدَ الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } { إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } . فَصَلَاةُ النَّاسِ فِي الْأَمْصَارِ بِمَنْزِلَةِ رَمْيِ الْحُجَّاجِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَذَبْحُهُمْ فِي الْأَمْصَارِ بِمَنْزِلَةِ ذَبْحِ الْحُجَّاجِ هَدْيَهُمْ . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ { أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِي السُّنَنِ وَقَدْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ { يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ مِنًى عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلَّهِ } وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَهْلَ الْأَمْصَارِ يُكَبِّرُونَ مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلِحَدِيثٍ آخَرَ رَوَاهُ الدارقطني عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلِأَنَّهُ إجْمَاعٌ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ :
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وَ " اللَّامُ " إمَّا مُتَعَلِّقَةٌ بِمَذْكُورِ : أَيْ { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ } . . . وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } . كَمَا قَالَ : { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } . أَوْ بِمَحْذُوفِ : أَيْ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ شَرَعَ ذَلِكَ . وَهَذَا أَشْهَرُ لِأَنَّهُ قَالَ : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فَيَجِبُ عَلَى الْأَوَّلِ أَنْ يُقَالَ وَيُرِيدُ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَفِيهِ وَهْنٌ . لَكِنْ يُحْتَجُّ لِلْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الْوُضُوءِ : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فَإِنَّ آيَةَ الصِّيَامِ وَآيَةَ الطَّهَارَةِ مُتَنَاسِبَتَانِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فَقَوْلُهُ : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } وَقَوْلِهِ :

{ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } كَقَوْلِهِ : { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ شَرْعًا : التَّكْبِيرَ عَلَى مَا هَدَانَا وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : كَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ هُوَ التَّكْبِيرُ تَكْبِيرُ الْعِيدِ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ مَخْصُوصَةٌ بِتَكْبِيرٍ زَائِدٍ وَلَعَلَّهُ يَدْخُلُ فِي التَّكْبِيرِ صَلَاةُ الْعِيدِ كَمَا سُمِّيَتْ الصَّلَاةُ تَسْبِيحًا وَقِيَامًا وَسُجُودًا وَقُرْآنًا وَكَمَا أُدْخِلَتْ صَلَاتَا الْجَمْعِ فِي ذِكْرِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } وَأُرِيدَ الْخُطْبَةُ وَالصَّلَاةُ بِقَوْلِهِ : { فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } وَيَكُونُ لِأَجْلِ أَنَّ الصَّلَاةَ لَمَّا سُمِّيَتْ تَكْبِيرًا خُصَّتْ بِتَكْبِيرٍ زَائِدٍ كَمَا أَنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ لَمَّا سُمِّيَتْ قُرْآنًا خُصَّتْ بِقُرْآنٍ زَائِدٍ وَجَعَلَ طُولَ الْقِرَاءَةِ فِيهَا عِوَضًا عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ فِي الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ . وَكَذَلِكَ " صَلَاةُ اللَّيْلِ " لَمَّا سُمِّيَتْ قِيَامًا بِقَوْلِهِ : { قُمِ اللَّيْلَ } خُصَّتْ بِطُولِ الْقِيَامِ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطِيلُ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ بِاللَّيْلِ مَا لَا يُطِيلُهُ بِالنَّهَارِ . وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إنَّ التَّطْوِيلَ بِاللَّيْلِ أَفْضَلُ وَإِنَّ تَكْثِيرَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِالنَّهَارِ

أَفْضَلُ . وَكَانَ التَّكْبِيرُ أَيْضًا مَشْرُوعًا فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ زِيَادَةً عَلَى الْخُطَبِ الجمعية وَكَانَ التَّكْبِيرُ أَيْضًا مَشْرُوعًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ حِينِ إهْلَالِ الْعِيدِ إلَى انْقِضَاءِ الْعِيدِ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ ؛ لَكِنْ هَلْ يَقْطَعُهُ الْمُؤْتَمُّ إذَا شَهِدَ الْمُصَلَّى لِكَوْنِهِ مَشْغُولًا بَعْدَ ذَلِكَ بِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ ؟ أَوْ يَقْطَعُهُ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ لِلِاشْتِغَالِ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ أَوْ لَا يَقْطَعُهُ إلَى انْقِضَاءِ الْخُطْبَةِ ؟ فِيهِ خِلَافٌ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إلَى آخِرِ الْعِيدِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْحَجِّ { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } فَقِيلَ : الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ . هِيَ أَيَّامُ الذَّبْحِ وَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ التَّسْمِيَةُ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ . وَقِيلَ : هِيَ أَيَّامُ الْعَشْرِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . ثُمَّ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ فِيهَا هُوَ ذِكْرُهُ فِي الْعَشْرِ بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَنَا وَقِيلَ هُوَ ذِكْرُهُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهَدْيِ وَأَظُنُّهُ مَأْثُورًا عَنْ الشَّافِعِيِّ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يَخْرُجَانِ إلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ فَيُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا غَدَاةَ عَرَفَةَ وَهُمْ ذَاهِبُونَ مِنْ مِنًى إلَى عَرَفَةَ يُكَبِّرُ مِنْهُمْ الْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَيُلَبِّي الْمُلَبِّي فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَفِي

أَمْثِلَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ . } وَعَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا يَكُونُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ كَقَوْلِهِ { عَلَى مَا هَدَاكُمْ } وَكَقَوْلِهِ : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } وَكَقَوْلِهِ : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ } - إلَى قَوْلِهِ - { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } . وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ } وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ( مَا مَوْصُولَةٌ لَا مَصْدَرِيَّةٌ بِمَعْنَى عَلَى الَّذِي رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } وَعَلَى قَوْلِنَا يَكُونُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهَا وَقْتَ الذَّبْحِ وَوَقْتَ السَّوْقِ بِالتَّلْبِيَةِ عِنْدَهَا وَبِالتَّكْبِيرِ . يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ مُجَرَّدَ التَّسْمِيَةِ لَمْ يَكُنْ لِلْأُضْحِيَّةِ بِذَلِكَ اخْتِصَاصٌ فَإِنَّ اسْمَهُ مَذْكُورٌ عِنْدَ كُلِّ ذَبْحٍ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأُضْحِيَّةِ وَغَيْرِهَا فَمَا وَجَبَ فِيهَا وَجَبَ فِي غَيْرِهَا وَمَا لَمْ يَجِبْ لَمْ يَجِبْ .

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } - إلَى قَوْلِهِ - { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ } فَجَعَلَ إتْيَانَهُمْ إلَى الْمَشَاعِرِ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ . وَلَوْ أَرَادَ الْأُضْحِيَّةَ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَشَاعِرِ بِهَذَا اخْتِصَاصٌ ؛ فَإِنَّ الْأُضْحِيَّةَ مَشْرُوعَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ إلَّا أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ يَرُدُّ عَلَى قَوْلِنَا : بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ فِي جَمِيعِ الْعَشْرِ فِي الْأَمْصَارِ . فَيُقَالُ : لِمَ خَصَّ ذَلِكَ بِالْإِتْيَانِ إلَى الْمَشَاعِرِ ؟ وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرَى ذِكْرَ اللَّهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهَدْيِ ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ يُسَاقُ إلَى مَكَّةَ لَكِنْ عِنْدَهُ يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدْيِ مَتَى وَصَلَ فَأَيُّ فَائِدَةٍ لِتَوْقِيتِهِ بِالْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ . وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الذَّبْحَ بِالْمَشَاعِرِ أَصْلٌ وَبَقِيَّةُ الْأَمْصَارِ تَبَعٌ لِمَكَّةَ وَلِهَذَا كَانَ عِيدُ النَّحْرِ الْعِيدَ الْأَكْبَرَ وَيَوْمُ النَّحْرِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهِ عِيدُ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ . الثَّانِي : أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ هُنَاكَ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ جَمِيعًا بِخِلَافِ غَيْرِ مَكَّةَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إلَّا الْأُضْحِيَّةُ . وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ فَإِنَّ الْهَدْيَ عِنْدَنَا مُؤَقَّتٌ فَإِذَا سَاقَ الْهَدْيَ لَمْ يَنْحَرْهُ إلَّا عِنْدَ الْإِحْلَالِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحِلَّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فِي حَجَّةِ

الْوَدَاعِ أَنْ يَحِلُّوا إلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَهُ وَهَذَا إذَا قَدِمَ بِهِ فِي الْعَشْرِ بِلَا نِزَاعٍ وَأَمَّا إذَا قَدِمَ بِهِ قَبْلَ الْعَشْرِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَدْ أَمَرَا بِذِكْرِهِ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ فَهَلَّا شُرِعَ التَّكْبِيرُ فِيهَا فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ كَمَا شُرِعَ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ ؟ . قِيلَ : إنَّمَا شُرِعَ التَّكْبِيرُ فِي لَيْلَةِ الْفِطْرِ إلَى حِينِ انْقِضَاءِ الْعِيدِ وَلَمْ يُشْرَعْ عَقِبَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ عَقِبَ الصَّلَاةِ أَوْكَدُ . فَاخْتُصَّ بِهِ الْعِيدُ الْكَبِيرُ وَأَيَّامُ الْعِيدِ خَمْسَةٌ هِيَ أَيَّامُ الِاجْتِمَاعِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ مِنًى عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَنَا وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهَا أَيَّامُ الذَّبْحِ . فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِيهَا التَّكْبِيرُ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَالتَّكْبِيرُ عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا جُعِلَ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ } فَالذِّكْرُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مُطْلَقٌ وَإِنْ كَانَتْ السُّنَّةُ قَدْ جَاءَتْ بِالتَّكْبِيرِ فِي عِيدِ النَّحْرِ فِي صَلَاتِهِ وَخُطْبَتِهِ وَدُبُرِ صَلَوَاتِهِ وَرَمْيِ جَمَرَاتِهِ وَالذِّكْرُ فِي آيَةِ الصِّيَامِ يَعْنِي بِالتَّكْبِيرِ عَلَى الْهِدَايَةِ فَهَذَا

ذِكْرٌ لِلَّهِ وَتَكْبِيرٌ لَهُ عَلَى الْهِدَايَةِ وَهُنَاكَ عَلَى الرِّزْقِ . وَقَدْ { ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى خَيْبَرَ قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ } وَكَانَ يُكَبِّرُ عَلَى الْأَشْرَافِ مِثْلَ التَّكْبِيرِ إذَا رَكِبَ دَابَّةً وَإِذَا عَلَا نَشْزًا مِنْ الْأَرْضِ وَإِذَا صَعِدَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . { وَقَالَ جَابِرٌ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا وَإِذَا هَبَطْنَا سَبَّحْنَا فَوُضِعَتْ الصَّلَاةُ عَلَى ذَلِكَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَجَاءَ التَّكْبِيرُ مُكَرَّرًا فِي الْأَذَانِ فِي أَوَّلِهِ وَفِي آخِرِهِ وَالْأَذَانُ هُوَ الذِّكْرُ الرَّفِيعُ وَفِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَهُوَ حَالُ الرَّفْعِ وَالْخَفْضِ وَالْقِيَامِ إلَيْهَا كَمَا قَالَ " تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ " وَرُوِيَ " أَنَّ التَّكْبِيرَ يُطْفِئُ الْحَرِيقَ " . فَالتَّكْبِيرُ شُرِعَ أَيْضًا لِدَفْعِ الْعَدُوِّ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالنَّارِ الَّتِي هِيَ عَدُوٌّ لَنَا وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ التَّكْبِيرَ مَشْرُوعٌ فِي الْمَوَاضِعِ الْكِبَارِ لِكَثْرَةِ الْجَمْعِ أَوْ لِعَظَمَةِ الْفِعْلِ أَوْ لِقُوَّةِ الْحَالِ . أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْكَبِيرَةِ : لِيُبَيِّنَ أَنَّ اللَّهَ أَكْبَرُ وَتَسْتَوْلِيَ كِبْرِيَاؤُهُ فِي الْقُلُوبِ عَلَى كِبْرِيَاءِ تِلْكَ الْأُمُورِ الْكِبَارِ فَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَيَكُونُ الْعِبَادُ لَهُ مُكَبِّرِينَ فَيَحْصُلُ لَهُمْ مَقْصُودَانِ . مَقْصُودُ الْعِبَادَةِ بِتَكْبِيرِ قُلُوبِهِمْ لِلَّهِ وَمَقْصُودُ الِاسْتِعَانَةِ بِانْقِيَادِ سَائِرِ الْمَطَالِبِ لِكِبْرِيَائِهِ وَلِهَذَا شُرِعَ التَّكْبِيرُ عَلَى الْهِدَايَةِ وَالرِّزْقِ وَالنَّصْرِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَ

أَكْبَرُ مَا يَطْلُبُهُ الْعَبْدُ وَهِيَ جِمَاعُ مَصَالِحِهِ . وَالْهَدْيُ أَعْظَمُ مِنْ الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ لِأَنَّ الرِّزْقَ وَالنَّصْرَ قَدْ لَا يُنْتَفَعُ بِهِمَا إلَّا فِي الدُّنْيَا وَأَمَّا الْهَدْيُ فَمَنْفَعَتُهُ فِي الْآخِرَةِ قَطْعًا وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالرِّزْقِ وَالنَّصْرِ فَخُصَّ بِصَرِيحِ التَّكْبِيرِ ؛ لِأَنَّهُ أَكْبَرُ نِعْمَةِ الْحَقِّ . وذانك دُونَهُ فَوُسِّعَ الْأَمْرُ فِيهِمَا بِعُمُومِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ . فَجِمَاعُ هَذَا أَنَّ التَّكْبِيرَ مَشْرُوعٌ عِنْدَ كُلِّ أَمْرٍ كَبِيرٍ مِنْ مَكَانٍ وَزَمَانٍ وَحَالٍ وَرِجَالٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ أَكْبَرُ لِتَسْتَوْلِيَ كِبْرِيَاؤُهُ فِي الْقُلُوبِ عَلَى كِبْرِيَاءِ مَا سِوَاهُ وَيَكُونَ لَهُ الشَّرَفُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ . { قَالَ تَعَالَى فِيمَا رَوَى عَنْهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَظَمَةُ إزَارِي وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذَّبْته } . وَلَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ذَكَرَ التَّكْبِيرَ وَالشُّكْرَ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } وَالشُّكْرُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَهُوَ الْحَمْدُ وَيَكُونُ بِالْعَمَلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا } فَقَرَنَ بِتَكْبِيرِ الْأَعْيَادِ الْحَمْدَ . فَقِيلَ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ طُلِبَ فِيهِ التَّكْبِيرُ وَالشُّكْرُ . وَلِهَذَا رُوِيَ فِي الْأَثَرِ أَنَّهُ يُقَالُ فِيهِ : { اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَانَا } لِيَجْمَعَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْحَمْدِ حَمْدَ الشُّكْرِ كَمَا جَمَعَ

بَيْنَ التَّحْمِيدِ تَحْمِيدِ الثَّنَاءِ وَالتَّكْبِيرِ فِي قَوْلِهِ : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } فَأَمَرَ بِتَحْمِيدِهِ وَتَكْبِيرِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلِمَاتِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ " سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ " وَهِيَ شَطْرَانِ : فَالتَّسْبِيحُ قَرِينُ التَّحْمِيدِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ { أَفْضَلُ الْكَلَامِ مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ } . وَفِي الْقُرْآنِ { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } . { فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ } هَكَذَا فِي الصِّحَاحِ عَنْ عَائِشَةَ فَجُعِلَ قَوْلُهُ : " سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك " تَأْوِيلَ { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ }

وَقَالَ : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَالْآثَارُ فِي اقْتِرَانِهِمَا كَثِيرَةٌ . وَأَمَّا التَّهْلِيلُ فَهُوَ قَرِينُ التَّكْبِيرِ كَمَا فِي كَلِمَاتِ الْأَذَانِ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ بَعْدَ دُعَاءِ الْعِبَادِ إلَى الصَّلَاةِ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّكْبِيرِ وَالتَّشَهُّدِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ . وَهُوَ ذِكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَفِي وَسَطِهِ دُعَاءُ الْخَلْقِ إلَى الصَّلَاةِ وَالْفَلَاحِ . فَالصَّلَاةُ هِيَ الْعَمَلُ . وَالْفَلَاحُ هُوَ ثَوَابُ الْعَمَلِ لَكِنْ جُعِلَ التَّكْبِيرُ شَفْعًا وَالتَّشَهُّدُ وِتْرًا فَمَعَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ شَهَادَةٌ ؛ وَجُعِلَ أَوَّلُهُ مُضَاعَفًا عَلَى آخِرِهِ فَفِي أَوَّلِ الْأَذَانِ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَيَتَشَهَّدُ مَرَّتَيْنِ وَالشَّهَادَتَانِ جَمِيعًا بِاسْمِ الشَّهَادَةِ وَفِي آخِرِهِ التَّكْبِيرُ مَرَّتَانِ فَقَطْ مَعَ التَّهْلِيلِ الَّذِي لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَلَا الشَّهَادَةِ الْأُخْرَى . وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْزِلَةِ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فَإِنَّ الْأُولَيَيْنِ فُضِّلَتَا بِقِرَاءَةِ السُّورَةِ وَبِالْجَهْرِ فِي الْقِرَاءَةِ فَحَصَلَ الْفَضْلُ فِي قَدْرِ الْقِرَاءَةِ وَوَصْفِهَا كَمَا أَنَّ الشَّطْرَ الْأَوَّلَ مِنْ الْأَذَانِ فُضِّلَ فِي قَدْرِ الذِّكْرِ وَفِي وَصْفِهِ لَكِنَّ الْوَصْفَ هُنَا كَوْنُ التَّوْحِيدِ قُرِنَ بِهِ لَفْظُ أَشْهَدُ وَلِهَذَا حُذِفَ فِي الْإِقَامَةِ عِنْدَ مَنْ يَخْتَارُ إيتَارَهَا وَهِيَ إقَامَةُ بِلَالٍ - مَا فَضَلَ بِهِ مِنْ الْقَدْرِ كَمَا يَخْفِضُ

مِنْ صَوْتِ الْإِقَامَةِ لِأَنَّ هَذَا الْمَزِيدَ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ فَأَشْبَهَ حَذْفَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ . وَأَمَّا الْكَلِمَاتُ الْأُصُولُ فَلَمْ يُحْذَفْ مِنْهَا شَيْءٌ . وَهَكَذَا سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَغَيْرِهِمَا تَطْوِيلُ أَوَّلِ الْعِبَادَةِ عَلَى آخِرِهَا ؛ لِأَسْبَابٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ . وَكَمَا جَمَعَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ فِي الْأَذَانِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي تَكْبِيرِ الْأَشْرَافِ فَكَانَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَإِذَا عَلَا شَرْفًا فِي غَزْوَةٍ أَوْ حَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا . وَيَقُولُ : { لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَأَعَزَّ جُنْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ } يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثًا . وَهَذَا فِي الصِّحَاحِ وَكَذَلِكَ عَلَى الدَّابَّةِ كَبَّرَ ثَلَاثًا وَهَلَّلَ ثَلَاثًا فَجَمَعَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ . وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِي فِيهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : يَا عَدِيُّ مَا يَفِرُّك ؟ أَيَفِرُّك أَنْ يُقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَهَلْ تَعْلَمُ مَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ يَا عَدِيُّ مَا يَفِرُّك أَيَفِرُّك أَنْ يُقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ ؟ فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ أَكْبَرُ مِنْ اللَّهِ } فَقَرَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ .

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ حَدِيثُ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ أَوْ قَالَ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالصَّلَاةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَك أَوْ عَلَيْك كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو : فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ مِلْئِهِ لِلْمِيزَانِ . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُوَطَّأِ حَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كريز أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . فَجَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيْنَ " أَفْضَلِ الدُّعَاءِ وَأَفْضَلِ الثَّنَاءِ فَإِنَّ الذِّكْرَ نَوْعَانِ : دُعَاءٌ وَثَنَاءٌ فَقَالَ : أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ . وَأَفْضَلُ مَا قُلْت هَذَا الْكَلَامَ " . وَلَمْ يَقُلْ أَفْضَلُ مَا قُلْت يَوْمَ عَرَفَةَ هَذَا الْكَلَامَ . وَإِنَّمَا هُوَ أَفْضَلُ مَا قُلْت مُطْلَقًا . وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا { أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } . وَأَيْضًا فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً : أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ } فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ أَعْلَى شُعَبِ

الْإِيمَانِ هِيَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ . وَأَيْضًا فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَا أبي : أَتَدْرِي أَيَّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليهنك الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ } فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهَا أَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَفِي ذَاكَ أَنَّهَا أَعْلَى شُعَبِ الْإِيمَانِ وَهَذَا غَايَةُ الْفَضْلِ فَإِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ مُجْتَمِعٌ فِي الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ فَإِذَا كَانَتْ أَعْظَمَ الْقُرْآنِ وَأَعْلَى الْإِيمَانِ ثَبَتَ لَهَا غَايَةُ الرُّجْحَانِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّوْحِيدَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَهُوَ الْكَلَامُ الْفَارِقُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَهُوَ ثَمَنُ الْجَنَّةِ وَلَا يَصِحُّ إسْلَامُ أَحَدٍ إلَّا بِهِ وَمَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَكُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ فَمَنْزِلَتُهُ مَنْزِلَةُ الْأَصْلِ وَمَنْزِلَةُ التَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ مَنْزِلَةُ الْفَرْعِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالْجَهْرِ وَعِنْدَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ مِثْلِ الْأَذَانِ الَّذِي تُرْفَعُ بِهِ الْأَصْوَاتُ وَعِنْدَ الصُّعُودِ عَلَى الْأَمَاكِنِ الْعَالِيَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ وَيَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَوَاتِ وَهُوَ الْمَشْرُوعُ فِي الْأَعْيَادِ .

{ وَقَالَ جَابِرٌ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا وَإِذَا هَبَطْنَا سَبَّحْنَا فَوُضِعَتْ الصَّلَاةُ عَلَى ذَلِكَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ . فَبَيَّنَ أَنَّ التَّكْبِيرَ مَشْرُوعٌ عِنْدَ الْعُلُوِّ مِنْ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَفْعَالِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ وَالتَّسْبِيحَ مَشْرُوعٌ عِنْدَ الِانْخِفَاضِ فِي الْأَمْكِنَةِ وَالْأَفْعَالِ كَمَا فِي السُّجُودِ وَالرُّكُوعِ . وَلِهَذَا كَانَتْ السُّنَّةُ فِي التَّسْبِيحِ الْإِخْفَاءَ حِينَ شُرِعَ فَلَمْ يُشْرَعْ مِنْ الْجَهْرِ بِهِ وَالْإِعْلَانَ مَا شُرِعَ مِنْ ذَلِكَ فِي التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي وَصْفِ الذِّكْرِ إنَّمَا هُوَ لِلزِّيَادَةِ فِي أَمْرِهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ : { أَفْضَلُ الْكَلَامِ مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ } فَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي الْكَلَامِ الَّذِي لَا يُسَنُّ فِيهِ الْجَهْرُ كَمَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَنَحْوِهِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مُطْلَقًا بِدَلِيلِ أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَقَالَ : { إنِّي نُهِيت أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقُمْنَ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ } . وَهُنَا أَصْلٌ يَنْبَغِي أَنْ نَعْرِفَهُ . وَهُوَ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا كَانَ أَفْضَلَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ فِي كُلِّ حَالٍ وَلَا لِكُلِّ أَحَدٍ بَلْ

الْمَفْضُولُ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ الْفَاضِلِ الْمُطْلَقِ كَمَا أَنَّ التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَمِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّشَهُّدِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءُ بَعْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ . وَهَذَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا أَوْ إسْلَامًا } ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَلَا يُؤَمَّن الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يُجْلَسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ } فَذَكَرَ الْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ فِي الْإِمَامَةِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَرْتَبَةِ ذَا السُّلْطَانِ مِثْلُ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ كَأَمِيرِ الْحَرْبِ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَكَأَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِهِمْ مُقَدَّمُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ أَفْضَلَ مِنْهُمْ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الذَّهَبَ أَفْضَلُ مِنْ الْحَدِيدِ وَالنَّوْرَةِ وَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ الْمَعَادِنُ مُقَدَّمَةً عَلَى الذَّهَبِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا دُونَهُ وَهَذَا ظَاهِرٌ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا : أَكْثَرُ النَّاسِ يَعْجِزُونَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَلَوْ أُمِرُوا بِهَا لَفَعَلُوهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ أَوْ يَنْتَفِعُونَ انْتِفَاعًا مَرْجُوحًا فَيَكُونُ فِي حَقِّ أَحَدِ هَؤُلَاءِ الْعَمَلُ الَّذِي يُنَاسِبُهُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ أَفْضَلُ لَهُ مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ . وَلِهَذَا يَكُونُ الذِّكْرُ لِكَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّ الذِّكْرَ يُورِثُهُ الْإِيمَانَ وَالْقُرْآنَ يُورِثُهُ الْعِلْمَ وَالْعِلْمُ بَعْدَ الْإِيمَانِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا

الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } وَالْقُرْآنُ يَحْتَاجُ إلَى فَهْمٍ وَتَدَبُّرٍ وَقَدْ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ ذَلِكَ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَغْلَطُونَ فَيَعْتَقِدُ أَحَدُهُمْ أَنَّ الذِّكْرَ أَفْضَلُ مُطْلَقًا ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . { وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَحْمِلَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي فِي صَلَاتِي . فَقَالَ : قُلْ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَّا إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ فِي الصَّلَاةِ بَدَلٌ عَنْ الْقِرَاءَةِ لَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْقِرَاءَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ وَبِمَنْزِلَةِ صِيَامِ الشَّهْرَيْنِ مَعَ الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ مَعَ الْهَدْيِ . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي التِّرْمِذِيِّ { مَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إلَى اللَّهِ بِأَفْضَلَ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ } يَعْنِي الْقُرْآنَ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَصَحَّحَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ قِيلَ : مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ } وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَدِّمُ أَهْلَ الْقُرْآنِ فِي الْمَوَاطِنِ كَمَا قَدَّمَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْقُبُورِ فَأَذِنَ لَهُمْ أَنْ يَدْفِنُوا الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ وَقَالَ : قَدِّمُوا إلَى الْقِبْلَةِ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا .

{ فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ لَمَّا سُئِلَ : أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ : فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ } هَذَا خَرَجَ عَلَى سُؤَالِ سَائِلٍ . فَرُبَّمَا عَلِمَ مِنْ حَالِ السَّائِلِ حَالًا مَخْصُوصَةً كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ : { أَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } إلَى آخِرِهِ . أَرَادَ بِذَلِكَ مِنْ الذِّكْرِ لَا مِنْ الْقِرَاءَةِ فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الذِّكْرِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الْقِرَاءَةِ كَمَا أَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ فِي وَقْتِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ تَجْدِيدِهِ أَوْ عِنْدَمَا يَقْتَضِي ذِكْرَهُمَا مِثْلَ عَقِبِ الْوُضُوءِ وَدُبُرِ الصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ . وَكَذَلِكَ فِي مُوَافَقَةِ الْمُؤَذِّنِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَقْرَأُ وَسَمِعَ الْمُؤَذِّنَ فَإِنَّ مُوَافَقَتَهُ فِي ذِكْرِ الْأَذَانِ أَفْضَلُ لَهُ حِينَئِذٍ مِنْ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يُسْتَحَبَّ لَهُ قَطْعُ الْقِرَاءَةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا وَقْتُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ يَفُوتُ بِفَوْتِهَا وَالْقِرَاءَةُ لَا تَفُوتُ . فَنَقُولُ : الْأَحْوَالُ ثَلَاثَةٌ : حَالٌ يُسْتَحَبُّ فِيهَا الْإِسْرَارُ وَيُكْرَهُ فِيهَا الْجَهْرُ ؛ لِأَنَّهَا حَالُ انْخِفَاضٍ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . فَهُنَا التَّسْبِيحُ أَفْضَلُ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَكَذَلِكَ فِي بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَأَمَّا مَا السُّنَّةُ فِيهِ الْجَهْرُ وَالْإِعْلَانُ كَالْإِشْرَافِ وَالْأَذَانِ فَالسُّنَّةُ فِيهِ التَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ وَأَمَّا مَا يُشْرَعُ فِيهِ الْأَمْرَانِ فَقَدْ يَكُونُ هَذَا .

فَصْلٌ :
وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ التَّحْمِيدَ قَرِينُ التَّسْبِيحِ وَأَنَّ التَّهْلِيلَ قَرِينُ التَّكْبِيرِ فَفِي تَكْبِيرِ الْأَعْيَادِ جَمْعٌ بَيْنَ الْقَرِينَيْنِ فَجُمِعَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَبَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ لِقَوْلِهِ : { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فَإِنَّ الْهِدَايَةَ اقْتَضَتْ التَّكْبِيرَ عَلَيْهَا . فَضُمَّ إلَيْهِ قَرِينُهُ وَهُوَ التَّهْلِيلُ . وَالنِّعْمَةُ اقْتَضَتْ الشُّكْرَ عَلَيْهَا فَضُمَّ إلَيْهِ أَيْضًا التَّحْمِيدُ وَهَذَا كَمَا أَنَّ رُكُوبَ الدَّابَّةِ لَمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ أَنَّهُ شَرَفٌ مِنْ الْأَشْرَافِ وَأَنَّهُ مَوْضِعُ نِعْمَةٍ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ عَلَيْهَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَإِنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ : { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } فَأَمَرَ بِذِكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَذِكْرِهَا بِحَمْدِهَا وَأَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ الَّذِي هُوَ قَرِينُ الْحَمْدِ { فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُتِيَ بِالدَّابَّةِ فَوَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ قَالَ : { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } ثُمَّ حَمِدَ ثَلَاثًا وَكَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ

سُبْحَانَك ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ثُمَّ ضَحِكَ وَقَالَ : ضَحِكْت مِنْ ضَحِكِ الرَّبِّ إذَا قَالَ الْعَبْدُ ذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ : عَلِمَ عَبْدِي أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي } . فَذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ذِكْرَ الْأَشْرَافِ وَهُوَ التَّكْبِيرُ مَعَ التَّهْلِيلِ وَخَتَمَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّهُ مَقْرُونٌ بِالتَّوْحِيدِ كَمَا قَدْ رَتَّبَ اقْتِرَانَ الِاسْتِغْفَارِ بِالتَّوْحِيدِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } وَقَوْلِهِ : { أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ } وَقَوْلِهِ : { فَاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } فَكَانَ ذِكْرُهُ عَلَى الدَّابَّةِ مُشْتَمِلًا عَلَى الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ . فَهَكَذَا ذِكْرُ الْأَعْيَادِ اجْتَمَعَ فِيهِ التَّعْظِيمُ وَالنِّعْمَةُ فَجَمَعَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْحَمْدِ . فَاَللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَانَا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . فَيُشَبِّهُهُ بِذِكْرِ الْأَشْرَافِ فِي تَثْلِيثِهِ وَضَمِّ التَّهْلِيلِ إلَيْهِ وَهَذَا اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا أَحْمَد وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمَا فَاخْتَارُوا فِيهِ مَا رَوَوْهُ عَنْ طَائِفَةٍ

مِنْ الصَّحَابَةِ وَرَوَاهُ الدارقطني مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَّا إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ } فَيُشَفِّعُونَهُ مَرَّتَيْنِ وَيَقْرِنُونَ بِهِ فِي إحْدَاهُمَا التَّهْلِيلَ وَفِي الْأُخْرَى الْحَمْدَ تَشْبِيهًا لَهُ بِذِكْرِ الْأَذَانِ . فَإِنَّ هَذَا بِهِ أَشْبَهُ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالصَّلَاةِ وَلِأَنَّهُ فِي الْأَعْيَادِ الَّتِي يُجْتَمَعُ فِيهَا اجْتِمَاعًا عَامًّا كَمَا أَنَّ الْأَذَانَ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فَشَابَهَ الْأَذَانَ فِي أَنَّهُ تَكْبِيرُ اجْتِمَاعٍ لَا تَكْبِيرُ مَكَانٍ وَأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالصَّلَاةِ لَا بِالشَّرَفِ فَشُرِعَ تَكْرِيرُهُ كَمَا شُرِعَ تَكْرِيرُ تَكْبِيرِ الْأَذَانِ وَهُوَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مَشْفُوعٌ وَكُلُّ الْمَأْثُورِ حَسَنٌ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُثَلِّثُهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَيُشَفِّعُهُ ثَانِيَ مَرَّةٍ وَطَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ تَعْمَلُ بِهَذَا . وَقَاعِدَتُنَا فِي هَذَا الْبَابِ أَصَحُّ الْقَوَاعِدِ أَنَّ جَمِيعَ صِفَاتِ الْعِبَادَاتِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ إذَا كَانَتْ مَأْثُورَةً أَثَرًا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ لَمْ يُكْرَهْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ يُشْرَعُ ذَلِكَ كُلُّهُ كَمَا قُلْنَا فِي أَنْوَاعِ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَفِي نَوْعَيْ الْأَذَانِ التَّرْجِيعِ وَتَرْكِهِ وَنَوْعَيْ الْإِقَامَةِ شَفْعِهَا وَإِفْرَادِهَا وَكَمَا قُلْنَا فِي أَنْوَاعِ التَّشَهُّدَاتِ وَأَنْوَاعِ الِاسْتِفْتَاحَاتِ وَأَنْوَاعِ الِاسْتِعَاذَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقِرَاءَاتِ وَأَنْوَاعِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ الزَّوَائِدِ وَأَنْوَاعِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسُجُودِ السَّهْوِ وَالْقُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ وَالتَّحْمِيدِ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ

وَحَذْفِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ لَكِنْ قَدْ يُسْتَحَبُّ بَعْضُ هَذِهِ الْمَأْثُورَاتِ وَيُفَضَّلُ عَلَى بَعْضٍ إذَا قَامَ دَلِيلٌ يُوجِبُ التَّفْضِيلَ وَلَا يُكْرَهُ الْآخَرُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْمُكَلَّفُ أَنْ يَجْمَعَ فِي الْعِبَادَةِ الْمُتَنَوِّعَةِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِتَشَهُّدَيْنِ مَعًا وَلَا بِقِرَاءَتَيْنِ مَعًا وَلَا بِصَلَاتَيْ خَوْفٍ مَعًا وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ كَانَ ذَلِكَ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مُحَرَّمٌ تَارَةً وَمَكْرُوهٌ أُخْرَى وَلَا تَنْظُرُ إلَى مَنْ قَدْ يَسْتَحِبُّ الْجَمْعَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ مِثْلُ مَا رَأَيْت بَعْضَهُمْ قَدْ لَفَّقَ أَلْفَاظَ الصَّلَوَاتِ عَلَى النَّبِيِّ الْمَأْثُورَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَحَبَّ فِعْلَ ذَلِكَ الدُّعَاءِ الْمُلَفَّقِ وَقَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ لَمَّا { قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي فَقَالَ : قُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَبِيرًا وَفِي رِوَايَةٍ كَثِيرًا وَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِك وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } . فَقَالَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ : كَثِيرًا كَبِيرًا وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي أَشْبَاهِ هَذَا : فَإِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ هَذَا أَوَّلًا لَيْسَ سُنَّةً بَلْ خِلَافُ الْمَسْنُونِ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ جَمِيعَهُ جَمِيعًا . وَإِنَّمَا كَانَ يَقُولُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً إنْ كَانَ الْأَمْرَانِ ثَابِتَيْنِ عَنْهُ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَيْسَ سُنَّةً بَلْ بِدْعَةٌ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا .

الثَّانِي أَنَّ جَمْعَ أَلْفَاظِ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ الْوَاحِدِ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ مِثْلُ جَمْعِ حُرُوفِ الْقُرَّاءِ كُلِّهِمْ لَا عَلَى سَبِيلِ الدَّرْسِ وَالْحِفْظِ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ التِّلَاوَةِ وَالتَّدَبُّرِ مَعَ تَنَوُّعِ الْمَعَانِي مِثْلَ أَنْ يَقْرَأَ فِي الصَّلَاةِ { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } ( بِمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ . { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } ( بَعِّدْ بَيْنِ أَسْفَارِنَا . { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ( عَمَّا يَعْمَلُونَ . { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ } ( آصَارَهُمْ . { وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } ( وَأَرْجُلِكُمْ . { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } ( حَتَّى يَطَّهَّرْنَ . { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا } ( إلَّا أَنْ يُخَافَا { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } ( أَوْ لَمَسْتُمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ قَبِيحَةٌ . الثَّالِثُ أَنَّ الْأَذْكَارَ الْمَشْرُوعَةَ أَيْضًا لَوْ لَفَّقَ الرَّجُلُ لَهُ تَشَهُّدًا مِنْ التَّشَهُّدَاتِ الْمَأْثُورَةِ فَجَمَعَ بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَ . . . (1) وَصَلَوَاتِهِ وَبَيْنَ زَاكِيَاتِ تَشَهُّدِ عُمَرَ وَمُبَارَكَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِحَيْثُ يَقُولُ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ وَالْمُبَارَكَاتُ وَالزَّاكِيَاتُ لَمْ يُشْرَعْ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يُسْتَحَبَّ فَغَيْرُهُ أَوْلَى بِعَدَمِ الِاسْتِحْبَابِ .

الرَّابِعُ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَفْعَلُهُ مَنْ ذَهَبَ إلَى كَثْرَةِ الْحُرُوفِ . وَالْأَلْفَاظِ وَقَدْ يَنْقُصُ الْمَعْنَى أَوْ يَتَغَيَّرُ بِذَلِكَ وَلَوْ تَدَبَّرَ الْقَوْلَ لَعَلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَأْثُورِ يُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا يُحَصِّلُهُ أَكْمَلَ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : ظُلْمًا كَثِيرًا فَمَتَى كَثُرَ فَهُوَ كَبِيرٌ فِي الْمَعْنَى وَمَتَى كَبُرَ فَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْمَعْنَى . وَإِذَا قَالَ : " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ " أَوْ قَالَ : " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ " فَأَزْوَاجُهُ وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ آلِهِ بِلَا شَكٍّ أَوْ هُمْ آلُهُ فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ : " عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ " لَمْ يَكُنْ قَدْ تَدَبَّرَ الْمَشْرُوعَ . فَالْحَاصِلُ أَنَّ أَحَدَ الذِّكْرَيْنِ إنْ وَافَقَ الْآخَرَ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى كَانَ كَالْقِرَاءَتَيْنِ اللَّتَيْنِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى مُتَنَوِّعًا كَانَ كَالْقِرَاءَتَيْنِ الْمُتَنَوِّعَتَيْ الْمَعْنَى وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا يُشْرَعُ . وَأَمَّا الْجَمْعُ فِي صَلَوَاتِ الْخَوْفِ أَوْ التَّشَهُّدَاتِ أَوْ الْإِقَامَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ بَيْنَ نَوْعَيْنِ فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْعِبَادَاتُ الْقَوْلِيَّةُ أَوْ الْفِعْلِيَّةُ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ كَمَا لَا بُدَّ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ إنَّمَا يَفْعَلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَفْضَلِ عِنْدَهُ أَوْ قَدْ لَا يَكُونُ

فِيهَا أَفْضَلَ . وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الطُّرُقِ إلَى مَكَّةَ فَكُلُّ أَهْلِ نَاحِيَةٍ يَحُجُّونَ مِنْ طَرِيقِهِمْ وَلَيْسَ اخْتِيَارُهُمْ لِطَرِيقِهِمْ ؛ لِأَنَّهَا أَفْضَلُ بِحَيْثُ يَكُونُ حَجُّهُمْ أَفْضَلَ مِنْ حَجِّ غَيْرِهِمْ بَلْ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ طَرِيقٍ يَسْلُكُونَهَا فَسَلَكُوا هَذِهِ إمَّا لِيُسْرِهَا عَلَيْهِمْ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ سَوَاءً . فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ اخْتِيَارِ بَعْضِ الْوُجُوهِ الْمَشْرُوعَةِ لِفَضْلِهِ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ مُخْتَارِهِ وَبَيْنَ كَوْنِ اخْتِيَارِ وَاحِدٍ مِنْهَا ضَرُورِيًّا . وَالْمُرَجَّحُ لَهُ عِنْدَهُ سُهُولَتُهُ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ . وَالسَّلَفُ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَقْرَأُ وَيُصَلِّي وَيَدْعُو وَيَذْكُرُ عَلَى وَجْهٍ مَشْرُوعٍ وَأَخَذَ ذَلِكَ الْوَجْهَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَأَهْلُ بُقْعَتِهِ وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْوُجُوهُ سَوَاءً وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا أَفْضَلَ فَجَاءَ فِي الْخَلَفِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ اخْتِيَارَهُ لِمَا اخْتَارَهُ لِفَضْلِهِ فَجَاءَ الْآخَرُ فَعَارَضَهُ فِي ذَلِكَ وَنَشَأَ مِنْ ذَلِكَ أَهْوَاءٌ مُرْدِيَةٌ مُضِلَّةٌ فَقَدْ يَكُونُ النَّوْعَانِ سَوَاءً عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَتَرَى كُلُّ طَائِفَةٍ طَرِيقَهَا أَفْضَلَ وَتُحِبُّ مَنْ يُوَافِقُهَا عَلَى ذَلِكَ وَتُعْرِضُ عَمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ الْآخَرَ فَيُفَضِّلُونَ مَا سَوَّى اللَّهُ بَيْنَهُ وَيُسَوُّونَ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَهَذَا بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي دَخَلَ عَلَى الْأُمَّةِ وَقَدْ نَهَى عَنْهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَيْنِ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ كَمَا قَرَّرْت مِثْلَ ذَلِكَ فِي " الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ " حَيْثُ قَالَ : { اقْرَؤُوا كَمَا عَلِمْتُمْ } .

فَالْوَاجِبُ أَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ لَا يُفَضَّلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ إلَّا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَا يُجْعَلُ نَفْسُ تَعْيِينٍ وَاحِدٍ مِنْهَا لِضَرُورَةِ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ مُوجِبًا لِرُجْحَانِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ إذَا أَوْجَبَ عَلَيَّ عِتْقَ رَقَبَةٍ أَوْ صَلَاةَ جَمَاعَةٍ كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ أَنْ أَعْتِقَ رَقَبَةً وَأُصَلِّيَ جَمَاعَةً وَلَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهَا بَلْ قَدْ لَا تَكُونُ أَفْضَلَ بِحَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ نَظَرٍ فِي الْفَضْلِ ثُمَّ إذَا فُرِضَ أَنَّ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ يُوجِبُ الرُّجْحَانَ لَمْ يُعَبْ عَلَى مَنْ فَعَلَ الْجَائِزَ وَلَا يُنْفَرْ عَنْهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَلَا يُزَادُ الْفَضْلُ عَلَى مِقْدَارِ مَا فَضَّلَتْهُ الشَّرِيعَةُ فَقَدْ يَكُونُ الرُّجْحَانُ يَسِيرًا . لَكِنْ هُنَا مَسْأَلَةٌ تَابِعَةٌ وَهُوَ أَنَّهُ مَعَ التَّسَاوِي أَوْ الْفَضْلِ أَيُّمَا أَفْضَلُ لِلْإِنْسَانِ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُدَاوِمُ عَلَى نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ مُخْتَارًا لَهُ أَوْ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ أَفْضَلُ وَيَرَى أَنَّ مُدَاوَمَتَهُ عَلَى ذَلِكَ النَّوْعِ أَفْضَلُ . وَأَمَّا أَكْثَرُهُمْ فَمُدَاوَمَتُهُ عَادَةٌ وَمُرَاعَاةٌ لِعَادَةِ أَصْحَابِهِ وَأَهْلِ طَرِيقَتِهِ لَا لِاعْتِقَادِ الْفَضْلِ . وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : التَّنَوُّعُ فِي ذَلِكَ مُتَابَعَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ فِي هَذَا اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَإِحْيَاءً لِسُنَّتِهِ وَجَمْعًا بَيْنَ قُلُوبِ الْأُمَّةِ وَأَخْذًا بِمَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَاصَّةِ - أَفْضَلُ مِنْ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى نَوْعٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوُجُوهِ :

أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا هُوَ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ وَالشَّرِيعَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَ قَدْ فَعَلَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً وَلَمْ يُدَاوِمْ عَلَى أَحَدِهِمَا كَانَ مُوَافَقَتُهُ فِي ذَلِكَ هُوَ التَّأَسِّي وَالِاتِّبَاعُ الْمَشْرُوعُ وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ . الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ اجْتِمَاعَ قُلُوبِ الْأُمَّةِ وَائْتِلَافَهَا وَزَوَالَ كَثْرَةِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ وَالْأَهْوَاءِ بَيْنَهَا وَهَذِهِ مَصْلَحَةٌ عَظِيمَةٌ وَدَفْعُ مَفْسَدَةٍ عَظِيمَةٍ نَدَبَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إلَى جَلْبِ هَذِهِ وَدَرْءِ هَذِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } . الثَّالِثُ : أَنَّ ذَلِكَ يُخْرِجُ الْجَائِزَ الْمَسْنُونَ عَنْ أَنْ يُشَبَّهَ بِالْوَاجِبِ فَإِنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الْمُسْتَحَبِّ أَوْ الْجَائِزِ مُشَبَّهَةٌ بِالْوَاجِبِ وَلِهَذَا أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْمُدَاوِمِينَ عَلَى بَعْضِ الْأَنْوَاعِ الْجَائِزَةِ أَوْ الْمُسْتَحَبَّةِ لَوْ انْتَقَلَ عَنْهُ لَنَفَرَ عَنْهُ قَلْبُهُ وَقَلْبُ غَيْرِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَنْفِرُ عَنْ تَرْكِ كَثِيرٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ ؛ لِأَجْلِ الْعَادَةِ الَّتِي جَعَلَتْ الْجَائِزَ كَالْوَاجِبِ . الرَّابِعُ : أَنَّ فِي ذَلِكَ تَحْصِيلَ مَصْلَحَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ فَإِنَّ كُلَّ نَوْعٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَاصَّةٍ وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا فَكَيْفَ إذَا كَانَ

مُسَاوِيًا وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْمَرْجُوحَ يَكُونُ رَاجِحًا فِي مَوَاضِعَ . الْخَامِسُ : أَنَّ فِي ذَلِكَ وَضْعًا لِكَثِيرٍ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي وَضَعَهَا الشَّيْطَانُ عَلَى الْأُمَّةِ بِلَا كِتَابٍ مِنْ اللَّهِ وَلَا أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ فَإِنَّ مُدَاوَمَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى أَمْرٍ جَائِزٍ مُرَجِّحًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ تَرْجِيحًا يُحِبُّ مَنْ يُوَافِقُهُ عَلَيْهِ وَلَا يُحِبُّ مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُ عَلَيْهِ بَلْ رُبَّمَا أَبْغَضَهُ بِحَيْثُ يُنْكِرُ عَلَيْهِ تَرْكَهُ لَهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَرْكِ حُقُوقٍ لَهُ وَعَلَيْهِ يُوجِبُ أَنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ إصْرًا عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُهُ تَرْكُهُ وَغَلَا فِي عُنُقِهِ يَمْنَعُهُ أَنْ يَفْعَلَ بَعْضَ مَا أُمِرَ بِهِ وَقَدْ يُوقِعُهُ فِي بَعْضِ مَا نُهِيَ عَنْهُ . وَهَذَا الْقَدْرُ الَّذِي قَدْ ذَكَرْته وَاقِعٌ كَثِيرًا فَإِنَّ مَبْدَأَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذَلِكَ يُورِثُ اعْتِقَادًا وَمَحَبَّةً غَيْرَ مَشْرُوعَيْنِ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِغَيْرِ حَقٍّ ثُمَّ يَخْرُجُ ذَلِكَ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ غَيْرِ الْمَشْرُوعَيْنِ مِنْ جِنْسِ أَخْلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ كَأَخْلَاقِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَخْلَاقِ . . . (1) .
ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ إلَى الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ فَيَبْذُلُ مَالَهُ عَلَى ذَلِكَ عَطِيَّةً وَدَفْعًا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ شَرْعِيٍّ وَيَمْنَعُ مَنْ أَمَرَ الشَّارِعُ

بِإِعْطَائِهِ إيجَابًا أَوْ اسْتِحْبَابًا ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ إلَى الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ كَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ أَرْضِ الْمَشْرِقِ وَمَبْدَأُ ذَلِكَ تَفْضِيلُ مَا لَمْ تُفَضِّلْهُ الشَّرِيعَةُ . وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ فَضْلَهُ سَبَبٌ لِاِتِّخَاذِهِ فَاضِلًا اعْتِقَادًا وَإِرَادَةً فَتَكُونُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى ذَلِكَ إمَّا مَنْهِيًّا عَنْهَا وَإِمَّا مفضولة وَالتَّنَوُّعُ فِي الْمَشْرُوعِ بِحَسَبِ مَا تَنَوَّعَ فِيهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ . السَّادِسُ : أَنَّ فِي الْمُدَاوَمَةِ عَلَى نَوْعٍ دُونَ غَيْرِهِ هِجْرَانًا لِبَعْضِ الْمَشْرُوعِ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِنِسْيَانِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ حَتَّى يَعْتَقِدَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ بِحَيْثُ يَصِيرُ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ الْعَامَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ وَفِي نُفُوسِ خَاصَّةِ هَذِهِ الْعَامَّةِ عَمَلُهُمْ مُخَالِفٌ عِلْمَهُمْ فَإِنَّ عُلَمَاءَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ الدِّينِ ثُمَّ يَتْرُكُونَ بَيَانَ ذَلِكَ إمَّا خَشْيَةً مِنْ الْخَلْقِ وَإِمَّا اشْتِرَاءً بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا مِنْ الرِّئَاسَةِ وَالْمَالِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ كَمَا قَدْ رَأَيْنَا مَنْ تَعَوَّدَ أَلَّا يَسْمَعَ إقَامَةً إلَّا مُوتَرَةً أَوْ مَشْفُوعَةً فَإِذَا سَمِعَ الْإِقَامَةَ الْأُخْرَى نَفَرَ عَنْهَا وَأَنْكَرَهَا وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ سَمِعَ أَذَانًا لَيْسَ أَذَانَ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ مَنْ اعْتَادَ الْقُنُوتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ . وَهِجْرَانُ بَعْضِ الْمَشْرُوعِ سَبَبٌ لِوُقُوعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْأُمَّةِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ }

فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ نِسْيَانَهُمْ حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ سَبَبٌ لِإِغْرَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمْ فَإِذَا اتَّبَعَ الرَّجُلُ جَمِيعَ الْمَشْرُوعِ الْمَسْنُونِ وَاسْتَعْمَلَ الْأَنْوَاعَ الْمَشْرُوعَةَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً كَانَ قَدْ حُفِظَتْ السُّنَّةُ عِلْمًا وَعَمَلًا وَزَالَتْ الْمَفْسَدَةُ الْمَخُوفَةُ مِنْ تَرْكِ ذَلِكَ . وَنُكْتَةُ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ وَإِنْ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى فِعْلِ نَوْعٍ لَكِنَّ حِفْظَ النَّوْعِ الْآخَرِ مِنْ الدِّينِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ جَائِزٌ مَشْرُوعٌ وَفِي الْعَمَلِ بِهِ تَارَةً حِفْظٌ لِلشَّرِيعَةِ وَتَرْكُ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِإِضَاعَتِهِ وَنِسْيَانِهِ . السَّابِعُ : أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْعَدْلُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَحَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَهُ مُحَرَّمًا بَيْنَ عِبَادِهِ وَمِنْ أَعْظَمِ الْعَدْلِ الْعَدْلُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ فَإِنَّ الْعَدْلَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا مِنْ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ كَالْقِصَاصِ وَالْمَوَارِيثِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا وَتَرْكُهُ ظُلْمٌ فَالْعَدْلُ فِي أَمْرِ الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْهُ وَهُوَ الْعَدْلُ بَيْنَ شَرَائِعِ الدِّينِ وَبَيْنَ أَهْلِهِ . فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ قَدْ سَوَّى بَيْنَ عَمَلَيْنِ أَوْ عَامِلَيْنِ : كَانَ تَفْضِيلُ أَحَدِهِمَا مِنْ الظُّلْمِ الْعَظِيمِ وَإِذَا فَضَّلَ بَيْنَهُمَا كَانَتْ التَّسْوِيَةُ كَذَلِكَ وَالتَّفْضِيلُ أَوْ التَّسْوِيَةُ بِالظَّنِّ وَهَوَى النُّفُوسِ مِنْ جِنْسِ دِينِ الْكُفَّارِ فَإِنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ يُفَضِّلُ أَحَدُهُمْ دِينَهُ إمَّا ظَنًّا وَإِمَّا هَوًى إمَّا اعْتِقَادًا وَإِمَّا اقْتِصَادًا وَهُوَ سَبَبُ التَّمَسُّكِ بِهِ وَذَمُّ غَيْرِهِ .

فَإِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ شَرَعَ تِلْكَ الْأَنْوَاعَ إمَّا بِقَوْلِهِ وَإِمَّا بِعَمَلِهِ وَكَثِيرٌ مِنْهَا لَمْ يُفَضِّلْ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ : كَانَتْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهَا مِنْ الْعَدْلِ وَالتَّفْضِيلُ مِنْ الظُّلْمِ وَكَثِيرٌ مِمَّا تَتَنَازَعُ الطَّوَائِفُ مِنْ الْأُمَّةِ فِي تَفَاضُلِ أَنْوَاعِهِ : لَا يَكُونُ بَيْنَهَا تَفَاضُلٌ بَلْ هِيَ مُتَسَاوِيَةٌ وَقَدْ يَكُونُ مَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدُهُمَا مُقَاوِمًا لِمَا يَخْتَصُّ بِهِ الْآخَرُ ثُمَّ تَجِدُ أَحَدَهُمْ يَسْأَلُ : أَيُّمَا أَفْضَلُ هَذَا أَوْ هَذَا ؟ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ فَاسِدَةٌ فَإِنَّ السُّؤَالَ عَنْ التَّعْيِينِ فَرْعُ ثُبُوتِ الْأَصْلِ فَمَنْ قَالَ إنَّ بَيْنَهُمَا تَفَاضُلًا حَتَّى نَطْلُبَ عَيْنَ الْفَاضِلِ . وَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ : هَذَانِ مُتَمَاثِلَانِ أَوْ مُتَفَاضِلَانِ وَإِنْ كَانَا مُتَفَاضِلَيْنِ : فَهَلْ التَّفَاضُلُ مُطْلَقًا أَوْ فِيهِ تَفْصِيلٌ بِحَيْثُ يَكُونُ هَذَا أَفْضَلَ فِي وَقْتٍ وَهَذَا أَفْضَلَ فِي وَقْتٍ ؟ ثُمَّ إذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ كَمَا تَرَى فَغَالِبُ الْأَجْوِبَةِ صَادِرَةٌ عَنْ هَوًى وَظُنُونٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ وَمِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ ذَلِكَ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى مَا لَمْ تُشْرَعْ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
هَلْ التَّهْنِئَةُ فِي الْعِيدِ وَمَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ : " عِيدُك مُبَارَكٌ " وَمَا أَشْبَهَهُ هَلْ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَمَا الَّذِي يُقَالُ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا التَّهْنِئَةُ يَوْمَ الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إذَا لَقِيَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ : تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَأَحَالَهُ اللَّهُ عَلَيْك وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا قَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَرَخَّصَ فِيهِ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . لَكِنْ قَالَ أَحْمَد : أَنَا لَا أَبْتَدِئُ أَحَدًا فَإِنْ ابْتَدَأَنِي أَحَدٌ أَجَبْته وَذَلِكَ لِأَنَّ جَوَابَ التَّحِيَّةِ وَاجِبٌ وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِالتَّهْنِئَةِ فَلَيْسَ سُنَّةً مَأْمُورًا بِهَا وَلَا هُوَ أَيْضًا مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ فَمَنْ فَعَلَهُ فَلَهُ قُدْوَةٌ وَمَنْ تَرَكَهُ فَلَهُ قُدْوَةٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ قَوْلِ أَهْلِ التَّقَاوِيمِ : فِي أَنَّ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ يَخْسِفُ الْقَمَرُ وَفِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ تَكْسِفُ الشَّمْسُ فَهَلْ يُصَدَّقُونَ فِي ذَلِكَ ؟ وَإِذَا خَسَفَا هَلْ يُصَلَّى لَهُمَا ؟ أَمْ يُسَبَّحُ ؟ وَإِذَا صَلَّى كَيْفَ صِفَةُ الصَّلَاةِ ؟ وَاذْكُر لَنَا أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْخُسُوفُ وَالْكُسُوفُ لَهُمَا أَوْقَاتٌ مُقَدَّرَةٌ كَمَا لِطُلُوعِ الْهِلَالِ وَقْتٌ مُقَدَّرٌ وَذَلِكَ مَا أَجْرَى اللَّهُ عَادَتَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَسَائِرِ مَا يَتْبَعُ جَرَيَانَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ . وَذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إلَّا بِالْحَقِّ } وَقَالَ تَعَالَى :

{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ } { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } { لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } . وَكَمَا أَنَّ الْعَادَةَ الَّتِي أَجْرَاهَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْهِلَالَ لَا يَسْتَهِلُّ إلَّا لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ مِنْ الشَّهْرِ أَوْ لَيْلَةَ إحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَنَّ الشَّهْرَ لَا يَكُونُ إلَّا ثَلَاثِينَ أَوْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ . فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ فَهُوَ غالط . فَكَذَلِكَ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ أَنَّ الشَّمْسَ لَا تَكْسِفُ إلَّا وَقْتَ الِاسْتِسْرَارِ وَأَنَّ الْقَمَرَ لَا يَخْسِفُ إلَّا وَقْتَ الْإِبْدَارِ وَوَقْتُ إبْدَارِهِ هِيَ اللَّيَالِي الْبِيضُ الَّتِي يُسْتَحَبُّ صِيَامُ أَيَّامِهَا : لَيْلَةُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ . فَالْقَمَرُ لَا يَخْسِفُ إلَّا فِي هَذِهِ اللَّيَالِي .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131