الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

كِتَابَتُهُ وَلَهُ دِينُهُ قَالَ : لَا أُكْرِمُهُمْ إذْ أَهَانَهُمْ اللَّهُ وَلَا أُعِزُّهُمْ إذْ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ وَلَا أُدْنِيهِمْ إذْ أَقْصَاهُمْ اللَّهُ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } قَالَ مُجَاهِدٍ : أَعْيَادُ الْمُشْرِكِينَ وَكَذَلِكَ قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى ( مَسْأَلَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ حُضُورِ أَعْيَادِ الْمُشْرِكِينَ وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ الأصبهاني بِإِسْنَادِهِ فِي شُرُوطِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } قَالَ : عِيدُ الْمُشْرِكِينَ وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ سِنَانٍ عَنْ الضَّحَّاكِ { وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } كَلَامَ الْمُشْرِكِينَ . وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ سلام عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ { وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } لَا يماكثون أَهْلَ الشِّرْكِ عَلَى شِرْكِهِمْ وَلَا يُخَالِطُونَهُمْ . وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَجَاءَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ الَّتِي أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَيْهَا بِمُخَالَفَتِهِمْ وَتَرْكِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ . . . (1) إيقَادُ النَّارِ وَالْفَرَحُ بِهَا مِنْ شِعَارِ الْمَجُوسِ عُبَّادِ النِّيرَانِ . وَالْمُسْلِمُ يَجْتَهِدُ فِي إحْيَاءِ السُّنَنِ . وَإِمَاتَةِ الْبِدَعِ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ } وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَقُولَ فِي صَلَاتِنَا { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَفْعَلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ : مِثْلَ طَعَامِ النَّصَارَى فِي النَّيْرُوزِ . وَيَفْعَلُ سَائِرَ الْمَوَاسِمِ مِثْلَ الْغِطَاسِ وَالْمِيلَادِ وَخَمِيسِ الْعَدَسِ وَسَبْتِ النُّورِ وَمَنْ يَبِيعُهُمْ شَيْئًا يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى أَعْيَادِهِمْ أَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَخْتَصُّ بِأَعْيَادِهِمْ لَا مِنْ طَعَامٍ وَلَا لِبَاسٍ وَلَا اغْتِسَالٍ وَلَا إيقَادِ نِيرَانٍ وَلَا تَبْطِيلِ عَادَةٍ مِنْ مَعِيشَةٍ أَوْ عِبَادَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . وَلَا يَحِلُّ فِعْلُ وَلِيمَةٍ وَلَا الْإِهْدَاءُ وَلَا الْبَيْعُ بِمَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى ذَلِكَ لِأَجْلِ ذَلِكَ . وَلَا تَمْكِينُ الصِّبْيَانِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ اللَّعِبِ الَّذِي فِي الْأَعْيَادِ وَلَا إظْهَارُ زِينَةٍ . وَبِالْجُمْلَةِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَخُصُّوا أَعْيَادَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ شَعَائِرِهِمْ بَلْ يَكُونُ يَوْمُ عِيدِهِمْ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ لَا يَخُصُّهُ الْمُسْلِمُونَ بِشَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِهِمْ .

وَأَمَّا إذَا أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ قَصْدًا فَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . وَأَمَّا تَخْصِيصُهُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَلَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . بَلْ قَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى كُفْرِ مَنْ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأُمُورَ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ . وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ : مَنْ ذَبَحَ نَطِيحَةً يَوْمَ عِيدِهِمْ فَكَأَنَّمَا ذَبَحَ خِنْزِيرًا . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العاص : مَنْ [ تَأَسَّى ] (*) بِبِلَادِ الْأَعَاجِمِ وَصَنَعَ نيروزهم وَمَهْرَجَانَهُمْ وَتَشَبَّهَ بِهِمْ حَتَّى يَمُوتَ وَهُوَ كَذَلِكَ حُشِرَ مَعَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ قَالَ : { نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْحَرَ إبِلًا ببوانة فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنِّي نَذَرْت أَنْ أَنْحَرَ إبِلًا ببوانة فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كَانَ فِيهَا مِنْ وَثَنٍ يُعْبَدُ مَنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ ؟ قَالَ : لَا قَالَ : فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْفِ بِنَذْرِك فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ } فَلَمْ يَأْذَنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَذَا الرَّجُلِ أَنْ يُوفِيَ بِنَذْرِهِ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَفَاءِ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا حَتَّى أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِ الْكُفَّارِ وَقَالَ : { لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي

مَعْصِيَةِ اللَّهِ } . فَإِذَا كَانَ الذَّبْحُ بِمَكَانٍ كَانَ فِيهِ عِيدُهُمْ مَعْصِيَةً . فَكَيْفَ بِمُشَارَكَتِهِمْ فِي نَفْسِ الْعِيدِ ؟ بَلْ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَالصَّحَابَةُ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يُظْهِرُوا أَعْيَادَهُمْ فِي دَارِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يَعْمَلُونَهَا سِرًّا فِي مَسَاكِنِهِمْ . فَكَيْفَ إذَا أَظْهَرَهَا الْمُسْلِمُونَ أَنْفُسُهُمْ ؟ حَتَّى قَالَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " لَا تَتَعَلَّمُوا رَطَانَةَ الْأَعَاجِمِ وَلَا تَدْخُلُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي كَنَائِسِهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ فَإِنَّ السُّخْطَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ " . وَإِذَا كَانَ الدَّاخِلُ لِفُرْجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مَنْهِيًّا عَنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ السُّخْطَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ . فَكَيْفَ بِمَنْ يَفْعَلُ مَا يَسْخَطُ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِمَّا هِيَ مِنْ شَعَائِرِ دِينِهِمْ ؟ وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } قَالُوا أَعْيَادُ الْكُفَّارِ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي شُهُودِهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ فَكَيْفَ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِهَا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ } وَفِي لَفْظٍ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا } وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ . فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي التَّشَبُّهِ بِهِمْ وَإِنْ كَانَ

مِنْ الْعَادَاتِ فَكَيْفَ التَّشَبُّهُ بِهِمْ فِيمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ ؟! .
وَقَدْ كَرِهَ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ - إمَّا كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ أَوْ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ - أَكْلَ مَا ذَبَحُوهُ لِأَعْيَادِهِمْ وَقَرَابِينِهِمْ إدْخَالًا لَهُ فِيمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَكَذَلِكَ نُهُوا عَنْ مُعَاوَنَتِهِمْ عَلَى أَعْيَادِهِمْ بِإِهْدَاءٍ أَوْ مُبَايَعَةٍ وَقَالُوا : إنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَبِيعُوا لِلنَّصَارَى شَيْئًا مِنْ مَصْلَحَةِ عِيدِهِمْ لَا لَحْمًا وَلَا دَمًا وَلَا ثَوْبًا وَلَا يُعَارُونَ دَابَّةً وَلَا يَعَاوَنُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دِينِهِمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِ شِرْكِهِمْ وَعَوْنِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَيَنْبَغِي لِلسَّلَاطِينِ أَنْ يَنْهَوْا الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ . لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } . ثُمَّ إنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى شُرْبِ الْخُمُورِ بِعَصْرِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ . فَكَيْفَ عَلَى مَا هُوَ مِنْ شَعَائِرِ الْكُفْرِ . وَإِذَا كَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُعِينَهُمْ هُوَ فَكَيْفَ إذَا كَانَ هُوَ الْفَاعِلَ لِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . قَالَهُ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة.
__________
آخِرُ الْمُجَلَّدِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ

الْجُزْءُ الْسَادِسُ وَالْعِشْرُونَ
كِتَابُ الفِقْهِ
الْجُزْءُ السَادِسُ : الْحَجُّ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ - :
عَنْ الْعُمْرَةِ هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ ؟ وَإِنْ كَانَ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
فَصْلٌ :
وَالْعُمْرَةُ فِي وُجُوبِهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمَا وُجُوبُهَا . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا تَجِبُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَهَذَا الْقَوْلُ أَرْجَحُ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَوْجَبَ الْحَجَّ بِقَوْلِهِ : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } لَمْ يُوجِبْ الْعُمْرَةَ وَإِنَّمَا أَوْجَبَ إتْمَامَهُمَا . فَأَوْجَبَ إتْمَامَهُمَا لِمَنْ شَرَعَ فِيهِمَا وَفِي الِابْتِدَاءِ إنَّمَا أَوْجَبَ الْحَجَّ . وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ لَيْسَ فِيهَا إلَّا إيجَابُ الْحَجِّ وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَيْسَ فِيهَا جِنْسُ غَيْرِ مَا فِي الْحَجِّ فَإِنَّهَا إحْرَامٌ وَإِحْلَالٌ وَطَوَافٌ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ

الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي الْحَجِّ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَفْعَالُ الْحَجِّ لَمْ يَفْرِضْ اللَّهُ مِنْهَا شَيْئًا مَرَّتَيْنِ فَلَمْ يَفْرِضْ وَقْتَيْنِ وَلَا طَوَافَيْنِ وَلَا سعيين وَلَا فَرَضَ الْحَجَّ مَرَّتَيْنِ . وَطَوَافُ الْوَدَاعِ لَيْسَ بِرُكْنِ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ وَلَكِنْ كُلُّ مَنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَدِّعَ . وَلِهَذَا مَنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ لَا يُوَدِّعُ عَلَى الصَّحِيحِ فَوُجُوبُهُ لِيَكُونَ آخِرُ عَهْدِ الْخَارِجِ بِالْبَيْتِ كَمَا وَجَبَ الدُّخُولُ بِالْإِحْرَامِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ لِسَبَبِ عَارِضٍ لَا كَوْنِ ذَلِكَ وَاجِبًا بِالْإِسْلَامِ كَوُجُوبِ الْحَجِّ . وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ الْمُقِيمِينَ بِمَكَّةَ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَمِرُونَ بِمَكَّةَ . لَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَلَى عَهْدِ خُلَفَائِهِ بَلْ لَمْ يَعْتَمِرْ أَحَدٌ عُمْرَةً بِمَكَّةَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عَائِشَةَ وَحْدَهَا لِسَبَبِ عَارِضٍ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ حَجَّ وَلَمْ يَعْتَمِرْ وَتَرَكَهَا إمَّا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا . فَهَلْ تَسْقُطُ

عَنْهُ بِالْحَجِّ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ ذَكَرَ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ خِلَافًا ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الْعُمْرَةُ فِي وُجُوبِهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِهِمَا وُجُوبُهَا وَلَكِنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ وُجُوبِهَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ : كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَأَنَّ مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَعْتَمِرْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ تَرَكَ الْعُمْرَةَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا فَرَضَ فِي كِتَابِهِ حَجَّ الْبَيْتِ بِقَوْلِهِ : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } . وَلَفْظُ الْحَجِّ فِي الْقُرْآنِ لَا يَتَنَاوَلُ الْعُمْرَةَ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ إذَا أَرَادَ الْعُمْرَةَ ذَكَرَهَا مَعَ الْحَجِّ كَقَوْلِهِ : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وَقَوْلِهِ : { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } فَلَمَّا أَمَرَ بِالْإِتْمَامِ أَمَرَ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ . وَآيَةُ آلِ عِمْرَانَ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ ، وَفِيهَا فَرْضُ الْحَجِّ . وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ كَانَ مُتَأَخِّرًا . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ فُرِضَ سَنَةَ سِتٍّ فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِآيَةِ الْإِتْمَامِ وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنَّ الْآيَةَ إنَّمَا أَمَرَ فِيهَا بِإِتْمَامِهِمَا لِمَنْ شَرَعَ فِيهِمَا لَمْ يَأْمُرْ فِيهَا بِابْتِدَاءِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ هَذِهِ

الْآيَةُ وَلَمْ يَكُنْ فُرِضَ عَلَيْهِ لَا حَجٌّ وَلَا عُمْرَةٌ ثُمَّ لَمَّا صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ . فَأَمَرَ فِيهَا بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَبَيَّنَ حُكْمَ الْمُحْصَرِ الَّذِي تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ يَلْزَمَانِ بِالْمَشْرُوعِ فَيَجِبُ إتْمَامُهُمَا . وَتَنَازَعُوا فِي الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعُمْرَةَ لَيْسَ فِيهَا جِنْسٌ مِنْ الْعَمَلِ غَيْرَ جِنْسِ الْحَجِّ فَإِنَّهَا إحْرَامٌ وَطَوَافٌ وَسَعْيٌ وَإِحْلَالٌ وَهَذَا كُلُّهُ مَوْجُودٌ فِي الْحَجِّ . وَالْحَجُّ إنَّمَا فَرَضَهُ اللَّهُ مَرَّةً وَاحِدَةً لَمْ يَفْرِضْهُ مَرَّتَيْنِ وَلَا فَرَضَ شَيْئًا مِنْ فَرَائِضِهِ مَرَّتَيْنِ لَمْ يَفْرِضْ فِيهِ وقوفين وَلَا طَوَافَيْنِ ؛ بَلْ الْفَرْضُ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَأَمَّا طَوَافُ الْوَدَاعِ فَلَيْسَ مِنْ الْحَجِّ وَإِنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ وَلِهَذَا لَا يَطُوفُ مَنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ وَلَيْسَ فَرْضًا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بَلْ يَسْقُطُ عَنْ الْحَائِضِ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ لَأَجْزَأَهُ دَمٌ وَلَمْ يَبْطُلْ الْحَجُّ بِتَرْكِهِ بِخِلَافِ طَوَافِ الْفَرْضِ وَالْوُقُوفِ . وَكَذَلِكَ السَّعْيُ لَا يَجِبُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَالرَّمْيُ يَوْمَ النَّحْرِ لَا يَجِبُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَرَمْيُ كُلِّ جَمْرَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ لَا يَجِبُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَكَذَلِكَ الْحَلْقُ وَالتَّقْصِيرُ لَا يَجِبُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً . فَإِذَا كَانَتْ الْعُمْرَةُ لَيْسَ فِيهَا عَمَلٌ غَيْرَ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَأَعْمَالُ الْحَجِّ إنَّمَا فَرَضَهَا اللَّهُ مَرَّةً لَا مَرَّتَيْنِ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضْ الْعُمْرَةَ .

وَالْحَدِيثُ الْمَأْثُورُ فِي { أَنَّ الْعُمْرَةَ هِيَ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ } قَدْ احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ مَنْ أَوْجَبَ الْعُمْرَةَ وَهُوَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دَالٌّ عَلَى حجين : أَكْبَرَ وَأَصْغَرَ . كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ : { يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ } وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَوْ أَوْجَبْنَاهَا لَأَوْجَبْنَا حجين : أَكْبَرَ وَأَصْغَرَ . وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَفْرِضْ حجين وَإِنَّمَا أَوْجَبَ حَجًّا وَاحِدًا وَالْحَجُّ الْمُطْلَقُ إنَّمَا هُوَ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ وَهُوَ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ وَجَعَلَ لَهُ وَقْتًا مَعْلُومًا لَا يَكُونُ فِي غَيْرِهِ كَمَا قَالَ { يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ } بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ فَإِنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِوَقْتِ بِعَيْنِهِ بَلْ تُفْعَلُ فِي سَائِرِ شُهُورِ الْعَامِ . وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ مَعَ الْحَجِّ كَالْوُضُوءِ مَعَ الْغُسْلِ وَالْمُغْتَسِلُ لِلْجَنَابَةِ يَكْفِيهِ الْغُسْلُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . فَكَذَلِكَ الْحَجُّ ؛ فَإِنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ : صُغْرَى وَكُبْرَى . فَإِذَا فَعَلَ الْكُبْرَى لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِعْلُ الصُّغْرَى وَلَكِنَّ فِعْلَ الصُّغْرَى أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ كَمَا أَنَّ الْوُضُوءَ مَعَ الْغُسْلِ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ . وَهَكَذَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ ؛ لَكِنَّهُ أَمَرَهُمْ بِأَمْرِ التَّمَتُّعِ وَقَالَ : { دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ امْرَأَةٍ حَجَّتْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَمَا اعْتَمَرَتْ وَفِي الْعَامِ الثَّانِي قَصَدَتْ أَنْ تَحُجَّ عَنْ بِنْتِهَا وَكَانَتْ بِالْأَوَّلِ أَحْرَمَتْ بِحَجِّ وَعُمْرَةٍ فَهَلْ عَلَيْهَا عُمْرَةٌ أُخْرَى ؟
فَأَجَابَ :
لَا عُمْرَةَ عَلَيْهَا لِمَا مَضَى وَأَمَّا إذَا اعْتَمَرَتْ فِي هَذَا الْعَامِ عَنْ نَفْسِهَا غَيْرَ الْعُمْرَةِ عَنْ بِنْتِهَا جَازَ ذَلِكَ .
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ :
مَاذَا يَقُولُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي رَجُلٍ * * * آتَاهُ ذُو الْعَرْشِ مَالًا حَجَّ وَاعْتَمَرَا
فَهَزَّهُ الشَّوْقُ نَحْوَ الْمُصْطَفَى طَرَبًا * * * أَتَرَوْنَ الْحَجَّ أَفْضَلَ أَمْ إيثَارَهُ الفقرا
أَمْ حَجَّةً عَنْ أَبِيهِ ذَاكَ أَفْضَلُ أَمْ * * * مَاذَا الَّذِي يَا سَادَتِي ظَهَرَا

فَأَفْتُوا مُحِبًّا لَكُمْ فديتكمو * * * وَذِكْرُكُمْ دَأَبَهُ إنْ غَابَ أَوْ حَضَرَا
فَأَجَابَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
نَقُولُ فِيهِ بِأَنَّ الْحَجَّ أَفْضَلُ مِنْ * * * فِعْلِ التَّصَدُّقِ وَالْإِعْطَاءِ للفقرا
وَالْحَجُّ عَنْ وَالِدَيْهِ فِيهِ بِرُّهُمَا * * * وَالْأُمُّ أَسْبَقُ فِي الْبِرِّ الَّذِي ذَكَرَا
لَكِنْ إذَا الْفَرْضُ خَصَّ الْأَبَ كَانَ إذًا * * * هُوَ الْمُقَدَّمَ فِيمَا يَمْنَعُ الضَّرَرَا
كَمَا إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى صِلَةٍ * * * وَأُمُّهُ قَدْ كَفَاهَا مَنْ بَرَا الْبَشَرَا
هَذَا جَوَابُك يَا هَذَا مُوَازَنَةً * * * وَلَيْسَ مُفْتِيك مَعْدُودًا مِنْ الشعرا .

وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ :
عَنْ امْرَأَةٍ تَمْلِكُ زِيَادَةً عَنْ نَحْوِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَنَوَتْ أَنْ تَهَبَ ثِيَابَهَا لِبِنْتِهَا فَهَلْ الْأَفْضَلُ أَنْ تُبْقِيَ قُمَاشَهَا لِبِنْتِهَا ؟ أَوْ تَحُجَّ بِهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ تَحُجُّ بِهَذَا الْمَالِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَنَحْوُهَا . وَتُزَوِّجُ الْبِنْتَ بِالْبَاقِي إنْ شَاءَتْ فَإِنَّ الْحَجَّ فَرِيضَةٌ مَفْرُوضَةٌ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ تَسْتَطِيعُ إلَيْهِ سَبِيلًا . وَمَنْ لَهَا هَذَا الْمَالُ تَسْتَطِيعُ السَّبِيلَ .
وَسُئِلَ :
عَنْ شَيْخٍ كَبِيرٍ وَقَدْ انْحَلَّتْ أَعْضَاؤُهُ . لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ وَلَا يَتَحَرَّكُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ الْفَرْضَ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْحَجُّ فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ الرُّكُوبَ عَلَى الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ يَسْتَنِيبُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ .

وَسُئِلَ :
هَلْ يَجُوزُ أَنْ تَحُجَّ الْمَرْأَةُ بِلَا مَحْرَمٍ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَتْ مِنْ الْقَوَاعِدِ اللَّاتِي لَمْ يَحِضْنَ وَقَدْ يَئِسَتْ مِنْ النِّكَاحِ وَلَا مَحْرَمَ لَهَا . فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنْ تَحُجَّ مَعَ مَنْ تَأْمَنُهُ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ :
فَصْلٌ :
يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَحُجَّ عَنْ امْرَأَةٍ أُخْرَى بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِنْتَهَا أَوْ غَيْرَ بِنْتِهَا وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ تَحُجَّ الْمَرْأَةُ عَنْ الرَّجُلِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَا { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْأَةَ الخثعمية أَنْ تَحُجَّ عَنْ أَبِيهَا لَمَّا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فَرِيضَةَ

اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ . فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَحُجَّ عَنْ أَبِيهَا } مَعَ أَنَّ إحْرَامَ الرَّجُلِ أَكْمَلُ مِنْ إحْرَامِهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ :
فَصْلٌ :
فِي الْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ أَوْ الْمَعْضُوبِ بِمَالِ يَأْخُذُهُ إمَّا نَفَقَةً فَإِنَّهُ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ أَوْ بِالْإِجَارَةِ أَوْ بِالْجَعَالَةِ عَلَى نِزَاعٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ الْمَحْجُوجُ بِهِ مُوصًى بِهِ لِمُعَيَّنِ أَوْ عَيْنًا مُطْلَقًا أَوْ مَبْذُولًا أَوْ مُخْرَجًا مِنْ صُلْبِ التَّرِكَةِ ؛ فَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ وَقَالَ هُوَ مِنْ أَطْيَبِ الْمَكَاسِبِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ صَالِحًا وَيَأْكُلُ طَيِّبًا . وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ قَالَ : لَا أَعْرِفُ فِي السَّلَفِ مَنْ كَانَ يَعْمَلُ هَذَا وَعَدَّهُ بِدْعَةً وَكَرِهَهُ . وَلَفْظُ نَصِّهِ مَكْتُوبٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَلَمْ يَكْرَهْ إلَّا الْإِجَارَةَ وَالْجَعَالَةَ . قُلْت : حَقِيقَةُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحَاجَّ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَحَدَ شَيْئَيْنِ : الْإِحْسَانَ إلَى الْمَحْجُوجِ عَنْهُ أَوْ نَفْسَ

الْحَجِّ لِنَفْسِهِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ عَنْ الْمَيِّتِ إنْ كَانَ فَرْضًا فَذِمَّتُهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ فَالْحَجُّ عَنْهُ إحْسَانٌ إلَيْهِ بِإِبْرَاءِ ذِمَّتِهِ بِمَنْزِلَةِ قَضَاءِ دَيْنِهِ . كَمَا { قال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للخثعمية : أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فقضيتيه أَكَانَ يُجْزِي عَنْهُ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ قَالَ : فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ } كَذَلِكَ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ لِرَحْمَتِهِ وَكَرَمِهِ أَحَقُّ بِأَنْ يَقْبَلَ قَضَاءَ الدَّيْنِ عَمَّنْ قُضِيَ عَنْهُ فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ الْحَاجِّ قَضَاءَ هَذَا الدَّيْنِ الْوَاجِبِ عَنْ هَذَا فَهَذَا مُحْسِنٌ إلَيْهِ وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فَيَكُونُ مُسْتَحَبًّا وَهَذَا غَالِبًا إنَّمَا يَكُونُ لِسَبَبِ يَبْعَثُهُ عَلَى الْإِحْسَانِ إلَيْهِ مِثْلَ رَحِمٍ بَيْنَهُمَا أَوْ مَوَدَّةٍ وَصَدَاقَةٍ أَوْ إحْسَانٍ لَهُ عَلَيْهِ يَجْزِيهِ بِهِ وَيَأْخُذُ مِنْ الْمَالِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى أَدَاءِ الْحَجِّ عَنْهُ ؛ وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنْ يَطْلُبَ مِقْدَارَ كِفَايَةِ حَجِّهِ وَلِهَذَا جَوَّزْنَا نَفَقَةَ الْحَجِّ بِلَا نِزَاعٍ . وَكَذَلِكَ لَوْ وَصَّى بِحَجَّةِ مُسْتَحَبَّةٍ وَأَحَبَّ إيصَالَ ثَوَابِهَا إلَيْهِ . وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي : إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُؤْثِرًا أَنْ يَحُجَّ مَحَبَّةً لِلْحَجِّ وَشَوْقًا إلَى الْمَشَاعِرِ وَهُوَ عَاجِزٌ فَيَسْتَعِينُ بِالْمَالِ الْمَحْجُوجِ بِهِ عَلَى الْحَجِّ وَهَذَا قَدْ يُعْطَى الْمَالَ لِيَحُجَّ بِهِ لَا عَنْ أَحَدٍ كَمَا يُعْطَى الْمُجَاهِدُ الْمَالَ لِيَغْزُوَ بِهِ فَلَا شُبْهَةَ فِيهِ فَيَكُونُ لِهَذَا أَجْرُ الْحَجِّ بِبَدَنِهِ وَلِهَذَا أَجْرُ الْحَجِّ بِمَالِهِ كَمَا فِي الْجِهَادِ فَإِنَّهُ مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَقَدْ يُعْطَى

الْمَالَ لِيَحُجَّ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ فَيَكُونُ مَقْصُودُ الْمُعْطَى الْحَجَّ عَنْ الْمُعْطَى عَنْهُ وَمَقْصُودُ الْحَاجِّ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِنَفْسِ الْحَجِّ لَا بِنَفْسِ الْإِحْسَانِ إلَى الْغَيْرِ . وَهَذَا يَتَوَجَّهُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَ : الْحَجُّ يَقَعُ عَنْ الْحَاجِّ وَلِلْمُعْطِي أَجْرُ الْإِنْفَاقِ كَالْجِهَادِ . وَعَلَى أَصْلِنَا فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ وَالصَّائِمَ وَالْمُتَصَدِّقَ عَنْ الْغَيْرِ وَالْحَاجَّ عَنْ الْغَيْرِ لَهُ قَصْدٌ صَالِحٌ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ وَقَصْدٌ صَالِحٌ فِي عَمَلِهِ عَنْ الْغَيْرِ . وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : { الْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ } فَجَعَلَ لِلْوَكِيلِ مِثْلَ الْمُوَكِّلِ فِي الصَّدَقَةِ وَهُوَ نَائِبٌ ؟ وَقَالَ : { إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ وَلِلزَّوْجِ أَجْرُهُ بِمَا اكْتَسَبَ وَلِلْخَادِمِ مِثْلُ ذَلِكَ } فَكَذَلِكَ النَّائِبُ فِي الْحَجِّ وَسَائِرُ مَا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ مِنْ الْأَعْمَالِ لَهُ أَجْرٌ . وَلِلْمُسْتَنِيبِ أَجْرٌ . وَهَذَا أَيْضًا إنَّمَا يَأْخُذُ مَا يُنْفِقُهُ فِي الْحَجِّ كَمَا لَا يَأْخُذُ إلَّا مَا يُنْفِقُهُ فِي الْغَزْوِ . فَهَاتَانِ صُورَتَانِ مُسْتَحَبَّتَانِ وَهُمَا الْجَائِزَتَانِ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ نَفَقَةَ الْحَجِّ وَيَرُدَّ الْفَضْلَ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ الِاكْتِسَابَ بِذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَسْتَفْضِلَ مَالًا فَهَذَا صُورَةُ الْإِجَارَةِ وَالْجَعَالَةِ وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا لَا يُسْتَحَبُّ وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمَعْمُولَ لِلدُّنْيَا لَيْسَ بِعَمَلِ صَالِحٍ فِي نَفْسِهِ إذَا لَمْ يُقْصَدْ

بِهِ إلَّا الْمَالُ فَيَكُونُ مِنْ نَوْعِ الْمُبَاحَاتِ . وَمَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ فَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ . وَنَحْنُ إذَا جَوَّزْنَا الْإِجَارَةَ وَالْجَعَالَةَ عَلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي يَخْتَصُّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهَا مِنْ أَهْلِ الْقُرَبِ لَمْ نَجْعَلْهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ إلَّا بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاحَاتِ لَا نَجْعَلُهَا مِنْ " بَابِ الْقُرَبِ " فَإِنَّ الْأَقْسَامَ ثَلَاثَةٌ : إمَّا أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى الْعَمَلِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ أَوْ يُثَابَ أَوْ لَا يُثَابُ وَلَا يُعَاقَبُ . وَكَذَلِكَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ : إمَّا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ وَإِمَّا مُبَاحٌ فَهَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . لَكِنْ قَدْ رَجَحَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى . . . (1) إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ الْمَالِ لِلنَّفَقَةِ مُدَّةَ الْحَجِّ وَلِلنَّفَقَةِ بَعْدَ رُجُوعِهِ أَوْ قَضَاءِ دَيْنِهِ فَيَقْصِدُ إقَامَةَ النَّفَقَةِ وَقَضَاءَ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فَهُنَا تَصِيرُ الْأَقْسَامُ ثَلَاثَةً : إمَّا أَنْ يَقْصِدَ الْحَجَّ وَالْإِحْسَانَ فَقَطْ أَوْ يَقْصِدَ النَّفَقَةَ الْمَشْرُوعَةَ لَهُ فَقَطْ أَوْ يَقْصِدَ كِلَيْهِمَا فَمَتَى قَصَدَ الْأَوَّلَ فَهُوَ حَسَنٌ وَإِنْ قَصَدَهُمَا مَعًا فَهُوَ حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُمَا مَقْصُودَانِ صَالِحَانِ وَأَمَّا إنْ لَمْ يَقْصِدْ إلَّا الْكَسْبَ لِنَفَقَتِهِ فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ . وَالْمَسْأَلَةُ مَشْرُوحَةٌ فِي مَوَاضِعَ .

وَسُئِلَ :
عَنْ امْرَأَةٍ حَجَّتْ وَقَصَدَتْ أَنْ تَحُجَّ عَنْ مَيِّتَةٍ بِأُجْرَةِ فَهَلْ لَهَا أَنْ تَحُجَّ ؟ .
فَأَجَابَ :
يَجُوزُ أَنْ تَحُجَّ عَنْ الْمَيِّتِ بِمَالِ يُؤْخَذُ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ بِالِاتِّفَاقِ . وَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : إحْدَاهُمَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . ثُمَّ هَذِهِ الْحَاجَّةُ عَنْ الْمَيِّتِ إنْ كَانَ قَصْدُهَا الْحَجَّ أَوْ نَفْعَ الْمَيِّتِ كَانَ لَهَا فِي ذَلِكَ أَجْرٌ وَثَوَابٌ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مَقْصُودُهَا إلَّا أَخْذَ الْأُجْرَةِ فَمَا لَهَا فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ حَجَّ عَنْ الْغَيْرِ لِيُوَفِّيَ دَيْنَهُ ؟ .

فَأَجَابَ : أَمَّا الْحَاجُّ عَنْ الْغَيْرِ لِأَنْ يُوَفِّيَ دَيْنَهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ . وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَفْضَلَ التَّرْكُ . فَإِنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ يَحُجُّ لِأَجْلِ أَنْ يَسْتَفْضِلَ شَيْئًا مِنْ النَّفَقَةِ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ السَّلَفِ حَتَّى قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : مَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَانَ يَحُجُّ عَنْ أَحَدٍ بِشَيْءِ . وَلَوْ كَانَ هَذَا عَمَلًا صَالِحًا لَكَانُوا إلَيْهِ مُبَادِرِينَ وَالِارْتِزَاقُ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الصَّالِحِينَ . أَعْنِي إذَا كَانَ إنَّمَا مَقْصُودُهُ بِالْعَمَلِ اكْتِسَابَ الْمَالِ وَهَذَا الْمَدِينُ يَأْخُذُ مِنْ الزَّكَاةِ مَا يُوَفِّي بِهِ دَيْنَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَقْصِدَ أَنْ يَحُجَّ لِيَأْخُذَ دَرَاهِمَ يُوَفِّي بِهَا دَيْنَهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ مَالًا يَحُجُّ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ إلَّا لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ : إمَّا رَجُلٌ يُحِبُّ الْحَجَّ وَرُؤْيَةَ الْمَشَاعِرِ وَهُوَ عَاجِزٌ . فَيَأْخُذُ مَا يَقْضِي بِهِ وَطَرَهُ الصَّالِحَ وَيُؤَدِّي بِهِ عَنْ أَخِيهِ فَرِيضَةَ الْحَجِّ . أَوْ رَجُلٌ يُحِبُّ أَنْ يُبَرِّئَ ذِمَّةَ الْمَيِّتِ عَنْ الْحَجِّ إمَّا لِصِلَةِ بَيْنَهُمَا أَوْ لِرَحْمَةِ عَامَّةٍ بِالْمُؤْمِنِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَأْخُذُ مَا يَأْخُذُ لِيُؤَدِّيَ بِهِ ذَلِكَ . وَجِمَاعُ هَذَا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ لِيَحُجَّ لَا أَنْ يَحُجَّ لِيَأْخُذَ وَهَذَا فِي جَمِيعِ الْأَرْزَاقِ الْمَأْخُوذَةِ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ فَمَنْ ارْتَزَقَ لِيَتَعَلَّمَ أَوْ لِيُعَلِّمَ أَوْ لِيُجَاهِدَ فَحَسَنٌ . كَمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَثَلُ الَّذِينَ يَغْزُونَ مِنْ أُمَّتِي . وَيَأْخُذُونَ أُجُورَهُمْ . مَثَلُ أُمِّ مُوسَى تُرْضِعُ ابْنَهَا وَتَأْخُذُ أَجْرَهَا } شَبَّهَهُمْ بِمَنْ يَفْعَلُ الْفِعْلَ

لِرَغْبَةِ فِيهِ كَرَغْبَةِ أُمِّ مُوسَى فِي الْإِرْضَاعِ بِخِلَافِ الظِّئْرِ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى الرِّضَاعِ إذَا كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً . وَأَمَّا مَنْ اشْتَغَلَ بِصُورَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لِأَنْ يَرْتَزِقَ فَهَذَا مِنْ أَعْمَالِ الدُّنْيَا . فَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يَكُونُ الدِّينُ مَقْصُودَهُ وَالدُّنْيَا وَسِيلَةٌ وَمَنْ تَكُونُ الدُّنْيَا مَقْصُودَهُ وَالدِّينُ وَسِيلَةٌ . وَالْأَشْبَهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ . كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِشَخْصِ غَائِبٍ بِبَغْدَادَ وَالْمَدْيُونُ مُقِيمٌ بِمِصْرِ وَهُوَ مُعْسِرٌ وَقَصَدَ شَخْصٌ أَنْ يَحُجَّ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ . فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحُجَّ وَعَلَيْهِ الدَّيْنُ ؟ .
فَأَجَابَ :
نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ الْمَدِينُ الْمُعْسِرُ إذَا حججه غَيْرُهُ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إضَاعَةٌ لِحَقِّ الدَّيْنِ إمَّا لِكَوْنِهِ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ وَإِمَّا لِكَوْنِ الْغَرِيمِ غَائِبًا لَا يُمْكِنُ تَوْفِيَتُهُ مِنْ الْكَسْبِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ :
عَنْ رَجُلٍ خَرَجَ حَاجًّا إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فِي الطَّرِيقِ فَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِذَلِكَ ثُمَّ إنْ كَانَ خَرَجَ إلَى الْحَجِّ حِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مَاتَ غَيْرَ عَاصٍ وَإِنْ فَرَّطَ بَعْدَ الْوُجُوبِ مَاتَ عَاصِيًا وَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ وَإِنْ كَانَ قَدْ خَلَّفَ مَالًا فَالنَّفَقَةُ مِنْ ذَلِكَ وَاجِبَةٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ : أَنَّهُ إذَا اسْتَطَاعَ الْحَجَّ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنْ حَجَّ عَقِبَ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ وَجَبَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَاتَ وَهُوَ غَيْرُ عَاصٍ وَلَهُ أَجْرُ نِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ . فَإِنْ كَانَ فَرَّطَ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَاتَ قَبْلَ أَدَاءِ الْحَجِّ مَاتَ عَاصِيًا آثِمًا وَلَهُ أَجْرُ مَا فَعَلَهُ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْفَرْضُ بِذَلِكَ بَلْ الْحَجُّ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ وَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْإِحْرَامِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَمَّا حَكَى أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي الْإِحْرَامِ ، هَلْ هُوَ رُكْنٌ ؟ أَمْ لَا ؟ ثُمَّ إنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّ الْإِحْرَامَ عِبَارَةٌ عَنْ نِيَّةِ الْحَجِّ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْخِلَافُ فِي النِّيَّةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ الْحَجِّ الشَّرْعِيِّ بِدُونِهَا ، أَبِنْ لَنَا عَنْ هَذَا مُثَابًا مُعَظَّمَ الْأَجْرِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الْجَوَابُ مِنْ طَرِيقَيْنِ : إجْمَالِيٍّ وَتَفْصِيلِيٍّ .
أَمَّا الْإِجْمَالِيُّ فَنَقُولُ : أَمَّا النِّيَّةُ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَصِحُّ إلَّا بِهَا إمَّا مِنْ الْحَاجِّ نَفْسِهِ وَإِمَّا مَنْ يَحُجُّ بِهِ كَمَا يَحُجُّ وَلِيُّ الصَّبِيِّ وَلَوْ عَمِلَ الرَّجُلُ أَعْمَالَ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَمْ يَصِحَّ الْحَجُّ كَمَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَسَوَاءٌ قِيلَ : إنَّ الْحَجَّ يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ أَوْ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِهَا وَبِشَيْءِ آخَرَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ : مِنْ تَلْبِيَةٍ أَوْ تَقْلِيدِ هَدْيٍ عَلَى الْخِلَافِ

الْمَشْهُورِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ . وَسَوَاءٌ قُلْنَا : إنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ أَمْ لَيْسَ بِرُكْنِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَقْبَلُ الْخِلَافَ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودَةَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْعِبَادَاتِ الْمَأْمُورَ بِهَا بِدُونِ النِّيَّةِ . وَأَمَّا انْعِقَادُ الْإِحْرَامِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ فَفِيهِ خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ وَغَيْرِهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَفَرْقٌ بَيْنَ النِّيَّةِ الْمُشْتَرَطَةِ لِلْحَجِّ وَالنِّيَّةِ الَّتِي يَنْعَقِدُ بِهَا الْإِحْرَامُ فَإِنَّ الرَّجُلَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْوِيَ الْحَجَّ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ وَيَقِفَ وَيَطُوفَ مُسْتَصْحِبًا لِهَذِهِ النِّيَّةِ ؛ ذِكْرًا وَحُكْمًا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْإِحْرَامَ وَلَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ .
وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ النِّيَّةَ الْمَعْهُودَةَ فِي الْعِبَادَاتِ تَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرَيْنِ : عَلَى قَصْدِ الْعِبَادَةِ وَقَصْدِ الْمَعْبُودِ . وَقَصْدُ الْمَعْبُودِ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } { وقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ } . فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيَّزَ بَيْنَ مَقْصُودٍ وَمَقْصُودٍ وَهَذَا

الْمَقْصُودُ فِي الْجُمْلَةِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي كُلِّ فِعْلٍ اخْتِيَارِيٍّ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ } فَإِنَّ كُلَّ بَشَرٍ بَلْ كُلَّ حَيَوَانٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ هِمَّةٍ وَهُوَ الْإِرَادَةُ وَمِنْ حَرْثٍ وَهُوَ الْعَمَلُ إذْ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَوَانِ أَنَّهُ يَتَحَرَّكُ بِإِرَادَتِهِ ثُمَّ ذَلِكَ الَّذِي يَقْصِدُهُ هُوَ غَايَتُهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْدُثُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَصْدِ قَصْدٌ آخَرُ وَإِنَّمَا تَطْمَئِنُّ النُّفُوسُ بِوُصُولِهَا إلَى مَقْصُودِهَا . وَأَمَّا قَصْدُ الْعِبَادَةِ فَقَصْدُ الْعَمَلِ الْخَاصِّ فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ بِعَمَلِهِ : فَقَدْ يُرِيدُهُ بِصَلَاةِ وَقَدْ يُرِيدُهُ بِحَجِّ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَصَدَ طَاعَتَهُ بِامْتِثَالِ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَقَدْ أَطَاعَهُ فِي هَذَا الْعَمَلِ . وَقَدْ يَقْصِدُ طَاعَتَهُ فِي هَذَا الْعَمَلِ فَهَذَا الْقَصْدُ الثَّانِي مِثْلُ قَصْدِ الصَّلَاةِ دُونَ الصَّوْمِ ثُمَّ صَلَاةِ الظُّهْرِ دُونَ صَلَاةِ الْعَصْرِ ثُمَّ الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ وَهَذِهِ النِّيَّةُ الَّتِي تُذْكَرُ غَالِبًا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ الْمُتَأَخِّرَةِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ النِّيَّتَيْنِ فَرْضٌ فِي الْجُمْلَةِ . أَمَّا الْأُولَى : فَبِهَا يَتَمَيَّزُ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ مِمَّنْ يَعْبُدُ الطَّاغُوتَ أَوْ يُشْرِكُ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ وَمَنْ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ مِمَّنْ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا وَهُوَ الدِّينُ الْخَالِصُ لِلَّهِ الَّذِي تَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الشَّرَائِعِ الَّذِي نُهِيَ الْأَنْبِيَاءُ عَنْ التَّفَرُّقِ فِيهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى

وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } . وَلِهَذَا كَانَ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدًا وَإِنْ كَانَتْ شَرَائِعُهُمْ مُتَنَوِّعَةً . قَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } . وَأَمَّا النِّيَّةُ الثَّانِيَةُ : فَبِهَا تَتَمَيَّزُ أَنْوَاعُ الْعِبَادَاتِ وَأَجْنَاسُ الشَّرَائِعِ فَيَتَمَيَّزُ الْمُصَلِّي مِنْ الْحَاجِّ وَالصَّائِمِ وَيَتَمَيَّزُ مَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَيَصُومُ قَضَاءَ رَمَضَانَ مِمَّنْ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَيَصُومُ شَيْئًا مِنْ شَوَّالٍ وَيَتَمَيَّزُ مَنْ يَتَصَدَّقُ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ مِمَّنْ يَتَصَدَّقُ مِنْ نَذْرٍ عَلَيْهِ أَوْ كَفَّارَةٍ . وَأَصْنَافُ الْعِبَادَاتِ مِمَّا تَتَنَوَّعُ فِيهِ الشَّرَائِعُ إذْ الدِّينُ لَا قِوَامَ لَهُ إلَّا الشَّرِيعَةُ إذْ أَعْمَالُ الْقُلُوبِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِأَعْمَالِ الْأَبْدَانِ كَمَا أَنَّ الرُّوحَ لَا قِوَامَ لَهَا إلَّا بِالْبَدَنِ . أَعْنِي مَا دَامَتْ فِي الدُّنْيَا . وَكَمَا أَنَّ مَعَانِيَ الْكَلَامِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْأَلْفَاظِ وَبِمَجْمُوعِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى يَصِيرُ الْكَلَامُ كَلَامًا وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ ، وَاللَّفْظُ

يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الْأُمَمِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ لُغَةُ بَعْضِ الْأُمَمِ أَبْلَغَ فِي إكْمَالِ الْمَعْنَى مِنْ بَعْضٍ ، وَبَعْضُ أَلْفَاظِ اللُّغَةِ أَبْلَغَ تَمَامًا لِلْمَعْنَى مِنْ بَعْضٍ . فَالدِّينُ الْعَامُّ يَتَعَلَّقُ بِقَصْدِ الْقَلْبِ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ عَمَلٍ بَدَنِيٍّ يَتِمُّ بِهِ الْقَصْدُ وَيَكْمُلُ فَتَنَوَّعَتْ الْأَعْمَالُ الْبَدَنِيَّةُ كَذَلِكَ وَتَنَوَّعَتْ لِمَا اقْتَضَتْهُ مَشِيئَةُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ لِعِبَادِهِ وَبِحِكْمَتِهِ فِي أَمْرِهِ وَإِنَّمَا وَجَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ النِّيَّتَيْنِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْنَا أَنْ نُقِيمَ دِينَهُ بِالشَّرِيعَةِ الَّتِي بَعَثَ بِهَا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ لَا يَقْبَلُ مِنَّا أَنْ نَعْبُدَهُ بِشَرِيعَةِ غَيْرِهَا . وَالْأَعْمَالُ الْمَشْرُوعَةُ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ مَخْصُوصَةٍ قَدْ يُعْتَبَرُ لَهَا أَوْقَاتٌ وَأَمْكِنَةٌ مَخْصُوصَةٌ وَصِفَاتٌ كُلَّمَا كَانَ فَرْضًا عَلَيْنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَأَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ عَلَى وَصْفٍ مُعَيَّنٍ كَانَ فَرْضًا عَلَيْنَا أَنْ نَقْصِدَهُ الْقَصْدَ الَّذِي نَكُونُ بِهِ عَابِدِينَ . وَالْقَصْدَ الَّذِي بِهِ نَكُونُ عَابِدِينَ بِنَفْسِ الْعَمَلِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ . ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ النِّيَّاتِ قَدْ تَحْصُلُ جُمْلَةً وَقَدْ تَحْصُلُ تَفْصِيلًا وَقَدْ تَحْصُلُ بِطَرِيقِ التَّلَازُمِ وَقَدْ تَتَنَوَّعُ النِّيَّاتُ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ بِحَيْثُ يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِأَدْنَاهَا لَكِنَّ الْفَضْلَ لِمَنْ أَتَى بِالْأَعْلَى . وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مَقْصُودًا بِالْقَصْدِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ثُمَّ قَدْ يَحْضُرُ الْإِنْسَانَ الْقَصْدُ الثَّانِي وَيُذْهَلُ عَنْ الْقَصْدِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ فِي

قَصْدِهِ الْعِبَادَةَ قَدْ يُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ أَوْ يُرِيدُ طَاعَتَهُ أَوْ عِبَادَتَهُ أَوْ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ أَوْ يُرِيدُ ثَوَابَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَشْعِرَ ثَوَابًا مُعَيَّنًا أَوْ يَرْجُوَ ثَوَابًا مُعَيَّنًا فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِيهِمَا أَوْ يَخَافُ عِقَابًا إمَّا مُجْمَلًا وَإِمَّا مُفَصَّلًا . وَتَفَاصِيلُ هَذِهِ النِّيَّاتِ بَابٌ وَاسِعٌ . وَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي نَوْعٍ مِنْ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ دُونَ نَوْعٍ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَقْيِيسِ ذَلِكَ نِيَّةَ نَوْعِ الْعَمَلِ فَإِنَّ مَنْ قَصَدَ الْحَجَّ قَدْ يَكُونُ قَدْ اسْتَشْعَرَ الْحَجَّ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَهُوَ أَنَّهُ قَصْدُ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ فَيَقْصِدُ مَا اسْتَشْعَرَهُ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَلَا قَصْدِ تَفْصِيلِ أَعْمَالِهِ مِنْ وُقُوفٍ وَطَوَافٍ وَتَرْكِ مَحْظُورَاتٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ بَلْ إنَّمَا تَصِيرُ تَفَاصِيلُ أَعْمَالِ الْحَجِّ مَقْصُودَةً إذَا اسْتَشْعَرَهَا وَقَدْ يَكُونُ عَالِمًا بِجِنْسِ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَأَنَّهَا وُقُوفٌ وَطَوَافٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ وُصِفَتْ لَهُ . وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عَيْنَ الْمَكَانِ وَصُورَةَ الطَّوَافِ فَيَنْوِي ذَلِكَ . وَقَدْ يَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ فَيَنْوِي مَا قَدْ عَلِمَهُ . وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ وَقُلْنَا لَهُ : قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْك الصَّلَاةُ فَإِنَّهُ يَلْتَزِمُهَا وَيَنْوِيهَا لِاسْتِشْعَارِهِ لَهَا جُمْلَةً وَلَمْ يَعْلَمْ صِفَتَهَا ؛ بَلْ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيمَانًا رَاسِخًا فَإِنَّ إيمَانَهُ مُتَضَمِّنٌ لِتَصْدِيقِهِ فِيمَا أَخْبَرَهُ وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ وَلَمْ يَقْصِدْ أَنْوَاعَ

الْأَخْبَارِ وَالْأَعْمَالِ ثُمَّ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالتَّفْصِيلِ : إمَّا أَنْ يُصَدِّقَ وَيُطِيعَ فَيَصِيرَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَوْ يُخَالِفَ ذَلِكَ فَيَصِيرَ إمَّا مُنَافِقًا وَإِمَّا عَاصِيًا فَاسِقًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ . وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْأَقْسَامَ ثَلَاثَةٌ : رَجُلٌ يَقْصِدُ عِبَادَةَ اللَّهِ وَطَاعَتَهُ وَلَمْ يَقْصِدْ الْعَمَلَ الْمُعَيَّنَ الْمَأْمُورَ بِهِ : كَرَجُلِ لَهُ أَمْوَالٌ يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى السَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ مُرِيدًا بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ لَا زَكَاةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ وَلَا وَضْعُهَا فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ دُونَ بَعْضٍ . فَهَذَا يُثَابُ عَلَى مَا يَعْمَلُهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ لَكِنْ بَقِيَ فِي عُهْدَةِ الْأَمْرِ بِالْوَاجِبَاتِ . وَرَجُلٌ قَدْ يَقْصِدُ الْعَمَلَ الْمُعَيَّنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ طَاعَةَ اللَّهِ وَعِبَادَتَهُ كَمَنْ يَدْفَعُ زَكَاةَ مَالِهِ إلَى السُّلْطَانِ ؛ لِئَلَّا يَضْرِبَ عُنُقَهُ أَوْ يَنْقُصَ حُرْمَتَهُ أَوْ يَأْخُذَ مَالَهُ أَوْ قَامَ يُصَلِّي خَوْفًا عَلَى دَمِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ عِرْضِهِ . وَهَذِهِ حَالُ الْمُنَافِقِينَ عُمُومًا وَالْمُرَائِينَ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ خُصُوصًا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ } وَقَالَ : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ } { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقْصِدَ فِعْلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ الْمُعَيَّنِ

لِلَّهِ سُبْحَانَهُ . وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ نَوْعِ الْعَمَلِ الْوَاجِبِ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الْجُمْلَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ الصَّلَاةَ أَوْ الْحَجَّ أَوْ الصِّيَامَ وَلَهُمْ فِي فُرُوعِ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَاخْتَلَفُوا فِي النِّيَّةِ الْأُولَى : وَهِيَ نِيَّةُ الْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى : مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : لَا تَجِبُ نِيَّةُ الْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودَةِ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِ الْمَقْصُودَةِ كَالطَّهَارَةِ وَالتَّيَمُّمِ " وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لَمْ يَعْتَبِرُوا نِيَّةَ الْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْسَ نِيَّةِ فِعْلِ الْعِبَادَةِ تَتَضَمَّنُ الْإِضَافَةَ كَمَا تَتَضَمَّنُ عَدَدَ الرَّكَعَاتِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ لَا تُشْرَعُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي الْحَضَرِ لَا تَكُونُ إلَّا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ نِيَّةُ الْإِضَافَةِ . وَأَيْضًا : النِّيَّةُ الْحُكْمِيَّةُ تَقُومُ مَقَامَ النِّيَّةِ الْمُسْتَحْضَرَةِ وَإِنْ كَانَتْ النِّيَّةُ الْمُسْتَحْضَرَةُ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ فَإِذَا نَوَى الْعَبْدُ صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَجْزَأَهُ اسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ حُكْمًا فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ الَّذِي دَخَلَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ قَدْ نَوَى نِيَّةً عَامَّةً : أَنَّ عِبَادَاتِهِ هِيَ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ مُنَافِقًا . فَإِذَا نَوَى عِبَادَةً مُعَيَّنَةً مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ كَانَ مُسْتَصْحِبًا لِحُكْمِ تِلْكَ

النِّيَّةِ الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ كَمَا أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ إذَا نَوَى الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ كَانَ مُسْتَصْحِبًا لِحُكْمِ نِيَّةِ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ ثُمَّ إنْ أَتَى بِمَا يَنْقُضُ عِلْمَ تِلْكَ أَفْسَدَهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ فَاسِخًا لَهَا كَمَا لَوْ فَسَخَ نِيَّةَ الصَّلَاةِ فِي أَثْنَائِهَا فَإِذَا قَامَ يُصَلِّي لِئَلَّا يُضْرَبَ أَوْ يُؤْخَذَ مَالُهُ أَوْ أَدَّى الزَّكَاةَ لِئَلَّا يُضْرَبَ : كَانَ قَدْ فَسَخَ تِلْكَ النِّيَّةَ الْإِيمَانِيَّةَ . فَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ فَاسِدَةٌ لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ وَقُلْنَا : إنَّ عِبَادَاتِ الْمُرَائِينَ الْوَاجِبَةَ بَاطِلَةٌ وَإِنَّ السُّلْطَانَ إذَا أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنْ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَائِهَا لَمْ يُجْزِهِ فِي الْبَاطِنِ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ غَالِبُ الْمُسْلِمِينَ يُولَدُ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ يَصِيرُونَ مُسْلِمِينَ إسْلَامًا حُكْمِيًّا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمْ إيمَانٌ بِالْفِعْلِ ثُمَّ إذَا بَلَغُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يُرْزَقُ الْإِيمَانَ الْفِعْلِيَّ فَيُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ الْمَحْضَةِ وَالْمُتَابَعَةِ لِأَقَارِبِهِ وَأَهْلِ بَلَدِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : مِثْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ السُّلْطَانَ يَأْخُذُ الْكُلَفَ وَلَمْ يَسْتَشْعِرْ وُجُوبَهَا عَلَيْهِ لَا جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا . فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ الْكُلَفِ الْمُبْتَدَعَةِ وَبَيْنَ الزَّكَاةِ الْمَشْرُوعَةِ أَوْ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كُلَّ سَنَةٍ إلَى عَرَفَاتٍ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اسْتِشْعَارِ أَنَّ هَذَا عِبَادَةٌ لِلَّهِ . لَا جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا أَوْ يُقَاتِلُ الْكُفَّارَ

لِأَنَّ قَوْمَهُ قَاتَلُوهُمْ فَقَاتَلَ تَبَعًا لِقَوْمِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَهَؤُلَاءِ لَا تَصِحُّ عِبَادَتُهُمْ بِلَا تَرَدُّدٍ بَلْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا تُسْقِطُ الْفَرْضَ فَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ نِيَّةَ الْإِضَافَةِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً : أَرَادَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ وَإِنَّمَا اكْتَفَى فِيهَا بِالنِّيَّةِ الْحُكْمِيَّةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ . فَفَرَّقَ بَيْنَ مَنْ لَمْ يُرِدْ اللَّهَ بِعَمَلِهِ لَا جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا وَبَيْنَ مَنْ أَرَادَهُ جُمْلَةً وَذُهِلَ عَنْ إرَادَتِهِ بِالْعَمَلِ الْمُعَيَّنِ تَفْصِيلًا . فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْأُمَّةِ لَا يَقُولُ : إنَّ الْأَوَّلَ عَابِدٌ لِلَّهِ وَلَا مُؤَدٍّ لِمَا أَمَرَ بِهِ أَصْلًا ؛ وَهَذَا ظَاهِرٌ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ اشْتَرَطَ هَذِهِ النِّيَّةَ عِنْدَ الْعَمَلِ الْمُعَيَّنِ فَقَالَ : النِّيَّةُ الْوَاجِبَةُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَدَاءَ فِعْلِ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ بِعَيْنِهَا وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ الْوَاجِبِ مِنْ غَيْرِ رِيَاءٍ وَلَا سُمْعَةٍ . وَلَفْظُ بَعْضِهِمْ : اتِّبَاعُ أَمْرِهِ وَإِخْلَاصُ الْعَمَلِ لَهُ . وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ كَلَامُ أَكْثَرِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى النِّيَّةِ الْوَاجِبَةِ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهِمَا بِقَوْلِهِ : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } قَالُوا : وَإِخْلَاصُ الدِّينِ هُوَ النِّيَّةُ . وَمَنْ اغْتَسَلَ لِلتَّبَرُّدِ أَوْ التَّنَظُّفِ لَمْ يُخْلِصْ الدِّينَ لِلَّهِ وَيَسْتَدِلُّونَ بِقَوْلِهِ : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } قَالُوا : وَمَنْ اغْتَسَلَ لِلتَّبَرُّدِ وَالتَّنَظُّفِ لَمْ يُرِدْ حَرْثَ الْآخِرَةِ

فَيَجِبُ أَنْ لَا يُخْلِصَ لَهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ تَدُلَّانِ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ أَبْلَغَ مِنْ دَلَالَتِهِمَا عَلَى وُجُوبِ نِيَّةِ الْعَمَلِ الْمُعَيَّنِ ؛ لَكِنْ مَنْ نَصَرَ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ قَدْ يَقُولُ : نِيَّةُ النَّوْعِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِنِيَّةِ الْجِنْسِ فَإِنَّ مَنْ نَوَى الْعَمَلَ الْمُعَيَّنَ فَقَدْ نَوَى الْعَمَلَ لِلَّهِ بِحُكْمِ إيمَانِهِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَمَنْ نَصَرَ الثَّانِيَ يَقُولُ : النِّيَّةُ الْوَاجِبَةُ لَا تَتَقَدَّمُ عَلَى الْعَمَلِ بِعِشْرِينَ سَنَةً بَلْ إنَّمَا تُقَدَّمُ عَلَيْهِ إمَّا بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ وَإِمَّا مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْوُجُوبِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ . وَأَيْضًا : فَالدَّلِيلُ الظَّاهِرُ وَالْقِيَاسُ يُوجِبُ وُجُودَ النِّيَّةِ الْمُحْضَرَةِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَةِ وَإِنَّمَا عُفِيَ عَنْ اسْتِصْحَابِهَا فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَلَا مَشَقَّةَ فِي نِيَّةِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ عِنْدَ فِعْلِ كُلِّ عِبَادَةٍ . وَأَيْضًا فَغَالِبُ النَّاسِ إسْلَامُهُمْ حُكْمِيٌّ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي قُلُوبِهِمْ فِي أَثْنَاءِ الْأَمْرِ إنْ دَخَلَ . فَإِنْ لَمْ تُوجَبْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ النِّيَّةُ لَمْ يَقْصِدُوهَا فَتَخْلُو قُلُوبُهُمْ مِنْهَا فَيَصِيرُونَ مُنَافِقِينَ إنَّمَا يَعْمَلُونَ الْأَعْمَالَ عَادَةً وَمُتَابَعَةً كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ - :
عَنْ " التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ " أَيُّهُمَا أَفْضَلُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا . مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ : وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ أَحْمَد أَنَّهُ إذَا قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ فَالتَّمَتُّعُ الْخَاصُّ أَفْضَلُ لَهُ وَهُوَ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِعُمْرَةِ فَيَحِلُّ مِنْهَا إذَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . ثُمَّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ . وَأَمَّا إذَا سَاقَ الْهَدْيَ : فَنَقَلَ المروذي عَنْهُ : أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ . فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ هَذَا رِوَايَةً ثَانِيَةً عَنْ أَحْمَد . وَجَعَلُوا فِيهَا إذَا سَاقَ الْهَدْيَ : هَلْ الْأَفْضَلُ التَّمَتُّعُ ؟ أَوْ الْقِرَانُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

حَجَّ مُتَمَتِّعًا فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَتَّعَ وَسَاقَ الْهَدْيَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّمَتُّعِ فَلَا يَبْقَى لِاخْتِيَارِ الْقِرَانِ وَجْهٌ . وَلَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَد الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ الْمُتَقَدِّمُونَ : أَنَّهُ حَجَّ قَارِنًا وَلَكِنْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّمَتُّعِ - مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ - أَنْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ وَيَجْعَلَهَا مُتْعَةً . وَقَالَ : { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ فَإِنَّ أَحْمَد لَمْ يَنُصَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ لَهُ . بَلْ إنَّمَا اخْتَارَ التَّمَتُّعَ لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ بِهِ . وَلِقَوْلِهِ : { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَمَرَ بِالتَّحَلُّلِ مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ وَإِنَّمَا اخْتَارَ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً وَلَا يَحِلُّ مَنْ لَمْ يَخْتَرْ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً مَعَ سَوْقِ الْهَدْيِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ أَحْمَد لَمْ يَقُلْ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ مُتَمَتِّعًا - التَّمَتُّعَ الْخَاصَّ - بَلْ نَصَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ قَارِنًا . وَقَالَ : لَا أَشُكُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا وَالتَّمَتُّعُ أَحَبُّ إلَيَّ ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَإِنَّهُ قَالَ : { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } . فَكَلَامُهُ إنَّمَا كَانَ فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ : أَنْ يَسُوقَ وَيَقْرِنَ أَوْ يَتَمَتَّعَ وَلَا يَسُوقَ ؟ . لِأَنَّهُ إذَا سَاقَ الْهَدْيَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ . فَهَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } هَلْ كَانَ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِعُمْرَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ أَمْ لَا : مُوَافَقَةً لِأَصْحَابِهِ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالتَّحَلُّلِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ . فَهَذَا مَوْرِدُ اجْتِهَادٍ . وَلَمْ يَخْتَلِفْ كَلَامُ أَحْمَد أَنَّ مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ وَقَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ لَهُ . وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ إذَا سَاقَ الْهَدْيَ وَقَدِمَ فِي الْعَشْرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّحَلُّلُ عِنْدَ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا حَتَّى يَنْحَرَ الْهَدْيَ يَوْمَ النَّحْرِ سَوَاءٌ كَانَ مُتَمَتِّعًا التَّمَتُّعَ الْخَاصَّ أَوْ قَارِنًا . وَحِينَئِذٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ عِنْدَ أَحْمَد إلَّا فِي شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَارِنَ يَكُونُ قَدْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ الطَّوَافِ سَوَاءٌ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ أَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ . بِأَنَّهُ فِي كِلَيْهِمَا قَارِنٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَأَمَّا الْمُتَمَتِّعُ التَّمَتُّعَ الْخَاصَّ : فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُ إحْرَامَهُ بِالْحَجِّ إلَى مَا بَعْدَ

قَضَاءِ الْعُمْرَةِ . وَمَعْلُومٌ حِينَئِذٍ أَنَّ تَقْدِيمَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهِ فَيَكُونُ الْقِرَانُ أَفْضَلَ لِمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ . الثَّانِي : أَنَّ الْقَارِنَ عِنْدَهُ لَا يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَالْمُفْرِدِ . وَأَمَّا الْمُتَمَتِّعُ فَقَدْ اخْتَارَ لَهُ أَنْ يَسْعَى سَعْيَيْنِ وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِيهِ سَعْيٌ وَاحِدٌ كَالْمُفْرِدِ وَالْقَارِنِ . وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ قَدْ تَمَيَّزَ بِسَعْيٍ زَائِدٍ مُسْتَحَبٍّ لَكِنْ هُوَ أَيْضًا يَسْتَحِبُّ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَطُوفَ أَوَّلًا بَعْدَ عَرَفَةَ طَوَافَ الْقُدُومِ فَيَكُونُ الْمُتَمَتِّعُ قَدْ طَافَ بَعْدَ عَرَفَةَ مَرَّتَيْنِ وَسَعَى سَعْيًا ثَانِيًا . وَأَمَّا الْقَارِنُ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ مَا يَعْمَلُهُ الْمُفْرِدُ لَكِنْ كُلُّ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَفِي مَذْهَبِهِ قَوْلٌ آخَرُ : أَنَّ السَّعْيَ الثَّانِيَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ . وَقَوْلٌ : إنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سعيين كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقَوْلٌ : إنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ طَوَافُ الْقُدُومِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ بَلْ وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ سَعْيٌ ثَانٍ . فَإِنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْعَوْا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَبِهَذَا يَظْهَرُ فَضْلُ الْقَارِنِ إذَا سَاقَ الْهَدْيَ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ الْغَيْرِ السَّائِقِ . وَأَمَّا إذَا حَصَلَ فِي عَمَلِ الْمُتَمَتِّعِ زِيَادَةُ سَعْيٍ وَاجِبٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ

أَوْ زِيَادَةُ طَوَافٍ مُسْتَحَبٍّ فَقَدْ يُقَالُ : إنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنْ هُوَ خِلَافُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وأيضا : فَلَوْ سَلِمَ اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ لَمْ يَسْلَمْ أَنْ كُلَّمَا زَادَ عَمَلًا كَانَ أَفْضَلَ بَلْ الْأَفْضَلُ قَدْ يَكُونُ هُوَ الْأَيْسَرَ كَمَا أَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ وَهُوَ أَيْسَرُ ، وَالْفِطْرُ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ وَهُوَ أَيْسَرُ وَكَذَلِكَ الْقَصْرُ أَفْضَلُ مِنْ التَّرْبِيعِ وَهُوَ أَيْسَرُ . وَقَدْ يُفَضَّلُ الْمُتَمَتِّعُ بِأَنَّ طَوَافَهُ الْأَوَّلَ يَكُونُ وَاجِبًا لِأَنَّهُ طَوَافُ عُمْرَةٍ وَالْقَارِنُ يَكُونُ طَوَافُهُ طَوَافَ قُدُومٍ وَهُوَ لَا يَجِبُ . وَالْوَاجِبُ أَفْضَلُ ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ . فَإِنَّ الْفَضْلَ بِحَسَبِ كَثْرَةِ مَصْلَحَةِ الْفِعْلِ ، وَالْوُجُوبُ سَبَبُ حُصُولِ مَفْسَدَةٍ فِي التَّرْكِ . وَلَمْ يَخْتَلِفْ كَلَامُ أَحْمَد أَنَّ مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ وَقَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ لَهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ جَمِيعَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ . وَمَذْهَبُ أَحْمَد أَيْضًا أَنَّهُ إذَا أَفْرَدَ الْحَجَّ بِسَفْرَةِ وَالْعُمْرَةَ بِسَفْرَةِ فَهَذَا الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ التَّمَتُّعِ . نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَذَكَرَهُ أَصْحَابُهُ : كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي تَعْلِيقِهِ وَغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ

مَذْهَبُ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ الْكُوفِيَّةَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ مَعَ أَنَّ الْقِرَانَ عِنْدَهُمْ أَفْضَلُ . لَكِنَّ الْقِرَانَ الَّذِي فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ هُوَ الْقِرَانَ الَّذِي يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ " فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَطُفْ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا وَلَمْ يَسْعَ إلَّا سَعْيًا وَاحِدًا . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ أَوَّلًا . وَيَسْعَى لِلْعُمْرَةِ ثُمَّ يَطُوفُ وَيَسْعَى لِلْحَجِّ وَإِذَا فَعَلَ مَحْظُورًا كَانَ عَلَيْهِ جَزَاءَانِ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَقَدْ حُكِيَ هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد وَأَنَّ الْقَارِنَ يَلْزَمُهُ طَوَافَانِ وسعيان كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ . لَكِنَّ مَذْهَبَهُ الْمَنْصُوصَ عَنْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ الْمَعْرُوفَ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي عَمَلِ الْقَارِنِ زِيَادَةٌ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرِدِ . بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ هَلْ يُجْزِيهِ السَّعْيُ الْأَوَّلُ الَّذِي مَعَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ أَوْ يَحْتَاجُ إلَى سَعْيٍ ثَانٍ عَقِيبَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ هُوَ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد قُلْت لِأَبِي : الْمُتَمَتِّعُ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . قَالَ :

إنْ طَافَ طَوَافَيْنِ فَهُوَ أَجْوَدُ وَإِنْ طَافَ طَوَافًا وَاحِدًا فَلَا بَأْسَ . قَالَ : وَإِنْ طَافَ طَوَافَيْنِ فَهُوَ أَعْجَبُ إلَيَّ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ جَابِرٍ وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ . وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ مَذْهَبُهُ فِي ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ . فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ . قَالَ : { لَمْ يَطُفْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا } طَوَافَهُ الْأَوَّلَ . وَهَذَا مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَمَتِّعِينَ . وَرَوَى أَحْمَد قَالَ : ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ : ثَنَا الأوزاعي عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : الْقَارِنُ وَالْمُتَمَتِّعُ وَالْمُفْرِدُ يُجْزِيهِ طَوَافٌ بِالْبَيْتِ وَسَعْيٌ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عن عَائِشَةَ قَالَتْ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فليهل بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا - إلَى أَنْ قَالَتْ - فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنَى لِحَجِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ

فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا بِالْبَيْتِ } . قُلْت : فَقَوْلُهَا طَوَافًا آخَرَ إنَّمَا أَرَادَتْ بِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كَذِكْرِهَا فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ وَلِأَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَعُلِمَ أَنَّهَا إنَّمَا نَفَتْ طَوَافًا مَعَهُ الطَّوَافُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لَا الطَّوَافُ الْمُجَرَّدُ بِالْبَيْتِ . وَاَلَّذِي نَفَتْهُ عَنْ الْقَارِنِ أَثْبَتَتْهُ لِلْمُتَمَتِّعِ الَّذِي أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَلَمْ يُدْخِلْ عَلَيْهَا الْحَجَّ . وَأَحْمَد فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ فَهِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ طَافُوا بِالْبَيْتِ فَقَطْ لِلْقُدُومِ فَاسْتَحَبَّ لِلْمُتَمَتِّعِ أَوَّلًا إذَا رَجَعَ مِنْ مِنَى أَنْ يَطُوفَ أَوَّلًا لِلْقُدُومِ ثُمَّ يَطُوفَ طَوَافَ الْفَرْضِ . وَمَنْ رَدَّ عَلَى أَحْمَد حُجَّتَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّوَافِ طَوَافُ الْفَرْضِ فَقَدْ غَلِطَ . لِأَنَّ طَوَافَ الْفَرْضِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُتَمَتِّعِ وَالْمُفْرِدِ وَالْقَارِنِ . وَعَائِشَةُ أَثْبَتَتْ لِلْمُتَمَتِّعِ مَا نَفَتْهُ عَنْ الْقَارِنِ . وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إنْ لَمْ تَكُنْ أَرَادَتْ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ ؛ لِأَنَّهَا هِيَ لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ؛ لِأَجْلِ حَيْضِهَا . وَهَذَا قَدْ عَارَضَهُ حَدِيثُ جَابِرٍ الصَّحِيحُ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً لَمْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا أَوَّلَ مَرَّةٍ } وَهَذَا

يُنَاقِضُ مَا فُهِمَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ ، فَإِنَّهُمْ إذَا لَمْ يَكُونُوا سَعَوْا بَعْدَ طَوَافِ الْفَرْضِ فَأَنْ لَا يَطُوفُوا قَبْلَهُ لِلْقُدُومِ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَفِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ . فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هِيَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ لَيْسَتْ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ فَلَا تُعَارِضُ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ . وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ حَدِيثِ عَائِشَةَ . وَفِيهِ أَيْضًا عِلَّةٌ . وَالشَّافِعِيِّ اخْتَارَ التَّمَتُّعَ تَارَةً وَاخْتَارَ الْإِفْرَادَ تَارَةً - وَمَنْ قَالَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ إحْرَامًا مُطْلَقًا فَقَدْ غَلِطَ وَاخْتَلَفَ كَلَامُهُ فِي إحْرَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ . وَمَالِكٍ يَخْتَارُ الْإِفْرَادَ لَكِنْ قَدْ قِيلَ يُسْتَحَبُّ مَعَ ذَلِكَ تَأْخِيرُ الْعُمْرَةِ إلَى الْمُحَرَّمِ فَأَمَّا الْعُمْرَةُ عَقِيبَ الْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الْيَوْمَ : فَهَذَا لَمْ يُعْرَفْ عَلَى عَهْدِ السَّلَفِ وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ إلَّا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ قَدِمَتْ مُتَمَتِّعَةً فَحَاضَتْ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَتَدَعَ الْعُمْرَةَ .

فَمَذْهَبُ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهَا صَارَتْ قَارِنَةً وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الْعُمْرَةِ . لَكِنَّ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ جَعَلَ الْقَضَاءَ وَاجِبًا عَلَيْهَا لِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ عِنْدَهُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَكَوْنِ عُمْرَةِ الْقَارِنِ وَالْعُمْرَةِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ لَا يُسْقِطُ وُجُوبَ الْعُمْرَةِ عِنْدَهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَهَكَذَا يَقُولُونَ فِي كُلِّ مُتَمَتِّعٍ ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الطَّوَافِ قَبْلَ التَّعْرِيفِ فَإِنَّهُمْ يَأْمُرُونَهُ بِإِدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ وَيَصِيرُ قَارِنًا كَالْمُفْرِدِ الَّذِي قَدِمَ وَقَدْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ فَإِنَّهُ يَقِفُ بِعَرَفَةَ أَوَّلًا وَلَا يَطُوفُ قَبْلَ التَّعْرِيفِ . وَهَكَذَا يَصْنَعُ حَاجُّ الْعِرَاقِ إذَا قَدِمُوا مُتَأَخِّرِينَ فَإِنَّهُمْ يُوَافُونَ عَرَفَةَ يَوْمَ التَّعْرِيفِ فَيُعَرِّفُونَ وَلَا يَطُوفُونَ قَبْلَ التَّعْرِيفِ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَفَضَتْ الْعُمْرَةَ وَأَهَلَّتْ بِالْحَجِّ فَصَارَتْ مُفْرِدَةً . وَعِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ الْعُمْرَةِ الَّتِي رَفَضَتْهَا وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ : فِي أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سعيين فَلَمْ يَكُنْ فِي الْقِرَانِ لَهَا فَائِدَةٌ . وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَبَنَوْهُ عَلَى أُصُولِهِمْ : فِي أَنَّ عَمَلَ الْقَارِنِ لَا يَزِيدُ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرِدِ وَقَالُوا : إنَّ { النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَعْمَرَ عَائِشَةَ

تَطْيِيبًا لِنَفْسِهَا ؛ لِأَنَّهَا قَالَتْ : يَذْهَبُ أَصْحَابِي بِحَجَّةِ وَعُمْرَةٍ وَأَذْهَبُ أَنَا بِحَجَّةِ . فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسَعُك طَوَافُك بِحَجِّك وَعُمْرَتِك . وَفِي رِوَايَةِ أَهْلِ السُّنَنِ طَوَافُك بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيك لِحَجِّك وَعُمْرَتِك } . فَلَمَّا أَلَحَّتْ أَعْمَرَهَا تَطْيِيبًا لِنَفْسِهَا وَأَحْمَد فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَغَيْرِهِ قَالَ : إنَّ عُمْرَةَ الْقَارِنِ وَالْعُمْرَةَ الْمَكِّيَّةَ لَا تُجْزِئُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ لَمَّا أَعْمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا كَانَتْ قَارِنَةً وَأَعْمَرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ . فَجَعَلَ هَذِهِ الْعُمْرَةَ وَاجِبَةً فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ . كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . لَكِنْ اخْتَلَفَا فِي تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ وَلَمْ يَعْتَمِرْ مِنْ مَكَّةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عَائِشَةُ خَاصَّةً . لِأَجْلِ هَذَا الْعُذْرِ . وَأَمَّا عُمَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا كَانَتْ وَهُوَ قَاصِدٌ إلَى مَكَّةَ فَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ ذِي الحليفة وَحَلَّ بِالْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا أُحْصِرَ وَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ الْبَيْتِ ، وَالْحُدَيْبِيَةُ غَرْبِيُّ جَبَلِ التَّنْعِيمِ حَيْثُ بَايَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَصَالَحَهُ الْمُشْرِكُونَ . وَجَبَلُ التَّنْعِيمِ هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي عِنْدَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُسَمَّى مَسَاجِدَ عَائِشَةَ عَنْ يَمِينِك وَأَنْتَ دَاخِلٌ إلَى مَكَّةَ وَتِلْكَ الْمَسَاجِدُ مَبْنِيَّةٌ فِي التَّنْعِيمِ

وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . . . (1)
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَمِرَ مِنْ التَّنْعِيمِ ، وَالتَّنْعِيمُ أَدْنَى الْحِلِّ إلَى مَكَّةَ فَهُوَ أَقْرَبُ الْحِلِّ إلَى مَكَّةَ وَالْمُعْتَمِرُ مِنْ مَكَّةَ يَخْرُجُ إلَى الْحِلِّ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ بِخِلَافِ الْحَاجِّ مِنْ مَكَّةَ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ إلَى عَرَفَةَ وَعَرَفَةُ مِنْ الْحِلِّ ثُمَّ اعْتَمَرَ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ مِنْ ذِي الحليفة ثُمَّ لَمَّا لَقِيَ هَوَازِنَ بِوَادِي حنين فَهَزَمَهُمْ ثُمَّ ذَهَبَ إلَى الطَّائِفِ فَحَاصَرَهُمْ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْجِعْرَانَةِ فَقَسَمَ غَنَائِمَ حنين بالجعرانة اعْتَمَرَ دَاخِلًا إلَى مَكَّةَ وحنين والجعرانة وَالطَّائِفِ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ شَرْقِيِّ عَرَفَاتٍ فَأَقْرَبُهَا إلَى عَرَفَةَ الْجِعْرَانَةُ ثُمَّ وَادِي حنين ثُمَّ الطَّائِفُ . وَلَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ هُوَ وَلَا أَصْحَابُهُ مِنْ مَكَّةَ فَيَعْتَمِرُونَ إلَّا مَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فَلِهَذَا نَصَّ أَحْمَد فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَيْسَ عَلَيْهِمْ عُمْرَةٌ وَرَوَى أَحْمَد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ عُمْرَةٌ إنَّمَا عُمْرَتُكُمْ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ فَمَنْ أَبَى إلَّا أَنْ يَعْتَمِرَ فَلْيَجْعَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ بَطْنَ وَادٍ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ الْمُقِيمِينَ بِمَكَّةَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَمِرُونَ مِنْ مَكَّةَ .

وَالْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد : فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ جَعَلَ هَذَا رِوَايَةً ثَالِثَةً . فَقَالَ : الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ : رِوَايَةٌ تَجِبُ وَرِوَايَةٌ لَا تَجِبُ وَرِوَايَةٌ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَكِّيِّ وَغَيْرِهِ وَهِيَ طَرِيقَةُ جَدِّنَا أَبِي الْبَرَكَاتِ وَغَيْرِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : أَهْلُ مَكَّةَ يُسْتَثْنَوْنَ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ عُمْرَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً . وَهِيَ طَرِيقَةُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ . وَهِيَ أَصَحُّ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ : مَنْ اسْتَحَبَّ لِمَنْ اعْتَمَرَ مِنْ مَكَّةَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ أَوْ الْجِعْرَانَةِ مُحْتَجًّا بِعُمْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهُوَ غَلَطٌ . فَإِنَّ الْحُدَيْبِيَةَ كَانَتْ مَوْضِعَ حِلِّهِ لَمَّا أُحْصِرَ لَمْ تَكُنْ مَوْضِعَ إحْرَامِهِ . وَأَمَّا الْجِعْرَانَةُ فَإِنَّهُ أَحْرَمَ مِنْهَا دَاخِلًا إلَى مَكَّةَ ؛ لِأَنَّهُ أَنْشَأَ الْعُمْرَةَ مِنْ هُنَاكَ . وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ الْعُمْرَةِ لَا مِنْ مَكَّةَ وَلَا غَيْرِهَا بَلْ يَجْعَلُ بَيْنَ الْعُمْرَتَيْنِ مُدَّةً وَلَوْ أَنَّهُ مِقْدَارُ مَا يَنْبُتُ فِيهِ شَعْرُهُ وَيُمْكِنُهُ الْحِلَاقُ وَهَذَا لِمَنْ يَخْرُجُ إلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ وَيَعْتَمِرُ . وَأَمَّا الْمُقِيمُ بِمَكَّةَ فَكَثْرَةُ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ الْعُمْرَةِ الْمَكِّيَّةِ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَ إذَا كَانُوا مُقِيمِينَ بِمَكَّةَ كَانُوا يَسْتَكْثِرُونَ مِنْ الطَّوَافِ وَلَا يَعْتَمِرُونَ عُمْرَةً مَكِّيَّةً فَالصَّحَابَةُ الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الْإِفْرَادَ

كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ إنَّمَا اسْتَحَبُّوا أَنْ يُسَافِرَ سَفَرًا آخَرَ لِلْعُمْرَةِ ؛ لِيَكُونَ لِلْحَجِّ سَفَرٌ عَلَى حِدَةٍ وَلِلْعُمْرَةِ سَفَرٌ عَلَى حِدَةٍ . وَأَحْمَد وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمَا اتَّبَعُوا الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ وَاسْتَحَبُّوا هَذَا الْإِفْرَادَ عَلَى التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَأَيُّ الْعُمْرَةِ عِنْدَك أَفْضَلُ ؟ قَالَ : أَفْضَلُ الْعُمْرَةِ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَمَا قَالَ عُمَرُ فَإِنَّ ذَلِكَ أَتَمُّ لِحَجِّكُمْ وَأَتَمُّ لِعُمْرَتِكُمْ أَنْ تَجْعَلُوهَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ . قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَأَنْتَ تَأْمُرُ بِالْمُتْعَةِ وَتَقُولُ الْعُمْرَةُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : إنَّمَا سُئِلْت عَنْ أَتَمِّ الْعُمْرَةِ فَقُلْت فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَقُلْت : الْمُتْعَةُ تُجْزِيهِ مِنْ عُمْرَتِهِ فَأَتَمُّ الْعُمْرَةِ أَنْ تَكُونَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ . وَقَالَ عَلِيٌّ : مِنْ تَمَامِ الْعُمْرَةِ أَنْ تَقْدَمَ مِنْ دويرة أَهْلِك وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة يُفَسِّرُهُ أَنْ يُنْشِئَ لَهَا سَفَرًا يَقْصِدُ لَهُ لَيْسَ أَنْ تُحْرِمَ مِنْ أَهْلِك حَتَّى تَقْدَمَ الْمِيقَاتَ . وَقَالَ عُمَرُ : فِي الْعُمْرَةِ مِنْ دويرة أَهْلِك . قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَيَجْعَلُ لِلْحَجِّ سَفَرًا عَلَى حِدَةٍ وَلِلْعُمْرَةِ سَفَرًا عَلَى حِدَةٍ قَالَ : نَعَمْ قُلْت لَهُ : فَإِنْ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى يَحُجَّ أَيَكُونُ هَذَا قَدْ

جَعَلَ لَهُ سَفَرًا عَلَى حِدَةٍ وَلِلْحَجِّ سَفَرًا عَلَى حِدَةٍ ؟ فَقَالَ : لَا . حَتَّى يَرْجِعَ ثُمَّ يَحُجَّ . فَهَذَا مَدٌّ لِلْعُمْرَةِ مِنْ أَهْلِهِ وَقَصْدٌ لِلْحَجِّ مِنْ أَهْلِهِ ، هَذَا مَعْنَاهُ . قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَإِنَّهُمْ يَحْكُونَ عَنْك أَنَّك تَقُولُ : الْمُتْعَةُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا فَقَالَ : أَمَّا أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ وَحْدَهُ فَلَيْسَ فِيهِ شَكٌّ ثُمَّ قَالَ : أَيُّمَا أَفْضَلُ : أَنْ يَجِيءَ بِعُمْرَةِ وَحَجٍّ ؟ أَوْ أَنْ يَجِيءَ بِحَجِّ وَحْدَهُ ، هِيَ أَفْضَلُ مِنْ إفْرَادِ الْحَجِّ . قُلْت لَهُ : وَأَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ لِأَنَّهُ جَاءَ بِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ نَعَمْ وَأَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ ثُمَّ قَالَ : نَحْوَ مَا قُلْت . وَقَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : التَّمَتُّعُ أَحَبُّ إلَيَّ هُوَ { آخر الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَصَنَعْت كَمَا صَنَعْتُمْ } وَقَوْلُهُ لِأَصْحَابِهِ : " حُلُّوا " وَمَا جَاءَ فِيهَا مِنْ الْحَدِيثِ . وَقَالَ أَيْضًا : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : أَنْتَ تَذْهَبُ إلَى الْمُتْعَةِ . فَقَالَ : هِيَ أَحَبُّ إلَيَّ وَأَفْضَلُ . وَذَاكَ أَنَّا نَذْهَبُ إلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ وَاجِبَةٌ . قَالَ تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } ثُمَّ قَالَ : هَذَا بَيِّنٌ .

وَكَانَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ يَرَيَانِهَا وَاجِبَةً وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ : وَاَللَّهِ إنَّهَا لَقَرِينَتُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَقَالَ جَمَاعَةٌ : الْحَجُّ الْأَصْغَرُ الْعُمْرَةُ فَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهَا اسْمُ الْحَجِّ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فَرِيضَةٌ فَإِذَا خَرَجَ مُتَمَتِّعًا فَقَدْ أَجْزَأَهُ مِنْ حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ ، جَاءَ بِعُمْرَةِ مُفْرَدَةٍ وَحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ . فَأَمَّا عُمْرَةُ الْمُحَرَّمِ فَلَيْسَ بِمَجْزِيِّ عَنْهُ عِنْدِي . وَلَيْسَتْ بِعُمْرَةِ تَامَّةٍ إنَّمَا هِيَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ . { وقال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ : إنَّمَا هِيَ عَلَى قَدْرِ نَصَبِك وَنَفَقَتِك } وَمَعْنَى عُمْرَةِ الْمُحَرَّمِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْرُجُونَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ مَكَّةَ لِيَعْتَمِرُوا مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ إلَى أَنْ يَعْتَمِرَ فَكَيْفَ مَنْ اعْتَمَرَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ مَكَّةَ عَقِيبَ الْحَجِّ وَهَذَا لَمْ يَكُنْ السَّلَفُ يَفْعَلُونَهُ . فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ الْمَكِّيَّةَ عَقِبَ الْحَجِّ مَعَ الْحَجِّ لَمْ يَفْعَلْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَّا عَائِشَةَ وَلَا كَانَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ يَفْعَلُونَهَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَفْضَلَ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ : الْإِفْرَادُ أَنْ يَحُجَّ وَيَعْتَمِرَ عَقِبَ ذَلِكَ مِنْ مَكَّةَ فَهَذَا غالط بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ أَنَّ مَنْ اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَرَجَعَ إلَى بَلَدِهِ ثُمَّ حَجَّ أَوْ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى يَحُجَّ

مِنْ عَامِهِ أَنَّهُ مُفْرِدٌ لِلْحَجِّ وَكَذَلِكَ لَوْ اعْتَمَرَ بَعْدَ الْحَجِّ فِي سَفْرَةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ مُفْرِدٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهَذَا الْإِفْرَادُ هُوَ الَّذِي اسْتَحَبَّهُ الصَّحَابَةُ وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ أَيْضًا عِنْدَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فَإِنَّ الِاعْتِمَارَ فِي رَمَضَانَ وَالْإِقَامَةَ إلَى أَنْ يَحُجَّ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَإِنْ كَانَ الرُّجُوعُ إلَى بَلَدِهِ ثُمَّ السَّفَرُ لِلْحَجِّ أَفْضَلَ مِنْهَا . وَالتَّمَتُّعُ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَإِنَّمَا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَغَيْرِهِمْ يَكْرَهُونَهُ . وَقَدْ قِيلَ : إنْ الَّذِينَ كَرِهُوا ذَلِكَ إنَّمَا كَرِهُوا فَسْخَ الْحَجِّ إلَى التَّمَتُّعِ فَإِنَّ النَّاسَ يَقْدَمُونَ مِنْ الْآفَاقِ فَيُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ فَمَنْ جَوَّزَ الْفَسْخَ جَوَّزَ لَهُمْ الْمُتْعَةَ وَمَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَنَعَهُمْ مِنْهُ . وَالْفَسْخُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ : قِيلَ هُوَ وَاجِبٌ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَتْبَاعِهِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَالشِّيعَةِ . وَقِيلَ : هُوَ مُحَرَّمٌ كَقَوْلِ مُعَاوِيَةَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمَا كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَقِيلَ : هُوَ جَائِزٌ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَالْأَمْرُ بِهِ مَعْرُوفٌ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ

وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَأْمُرَانِ بِالْمُتْعَةِ . قَالَ أَحْمَد : أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ قَالَ : سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ فَأَمَرَ بِهَا فَقِيلَ لَهُ : إنَّك تُخَالِفُ أَبَاك فَقَالَ : عُمَرُ لَمْ يَقُلْ الَّذِي تَقُولُونَ إنَّمَا قَالَ عُمَرُ : إفْرَادُ الْحَجِّ مِنْ الْعُمْرَةِ فَإِنَّهَا أَتَمُّ لِلْعُمْرَةِ أَوْ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَتِمُّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إلَّا أَنْ يُهْدَى . وَأَرَادَ أَنْ يُزَارَ الْبَيْتُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَجَعَلْتُمُوهَا أَنْتُمْ حَرَامًا وَعَاقَبْتُمْ النَّاسَ عَلَيْهَا وَقَدْ أَحَلَّهَا اللَّهُ وَعَمِلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِذَا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ : أَفَكِتَابَ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ تَتَّبِعُوا أَمْ عُمَرُ ؟ وَكَانَ ابْنِ عَبَّاسٍ يَأْمُرُ بِهَا فَيَقُولُونَ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمْ يَفْعَلَاهَا فَيَقُولُ يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ أَقُولُ لَكُمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُونَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ يُنَاظِرُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهَا فَقَالَ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْك فَقَالَ : لَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَا عرية سَلْ أُمَّك يَعْنِي أَنَّهَا تُخْبِرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْإِحْلَالِ وَكَانَتْ أَسْمَاءُ مِمَّنْ أَحَلَّتْ . وَهَذِهِ الْمُشَاجَرَةُ إنَّمَا وَقَعَتْ ؛ لِأَنَّ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ يُوجِبُ الْمُتْعَةَ

بَلْ كَانَ يُوجِبُ الْفَسْخَ وَكَانَ يَقُولُ : كُلُّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ فَقَدْ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ . وَيَحْتَجُّ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ بِالتَّحَلُّلِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } . وَإِيجَابُ الْمُتْعَةِ هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالظَّاهِرِيَّةِ : كَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشِّيعَةِ أَيْضًا لَكِنَّ الْجَمَاهِيرَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّمَتُّعُ وَالْإِفْرَادُ ؛ وَالْقِرَانُ لَكِنْ أَهْلُ مَكَّةَ وَبَنُو هَاشِمٍ وَعُلَمَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَسْتَحِبُّونَهَا . فَاسْتَحَبَّهَا عُلَمَاءُ سُنَّتِهِ وَأَهْلُ سُنَّتِهِ وَأَهْلُ بَلْدَتِهِ الَّتِي بِقُرْبِهَا الْمَنَاسِكُ وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ . وَأَبُو يُوسُفَ يَجْعَلُ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ سَوَاءً . وَإِنَّمَا جَوَّزَ الْجُمْهُورُ الثَّلَاثَةَ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةِ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةِ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةِ وَعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ } . وَأَمَّا أَمْرُهُ لِأَصْحَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَلِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَأَلَّا يَعْتَمِرُوا عُمْرَةً مَكِّيَّةً وَإِنْ سَافَرُوا سَفَرًا

آخَرَ لِلْعُمْرَةِ . وَمَنْ كَانَ هَذِهِ حَالَهُ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ فَالتَّمَتُّعُ كَانَ مُتَعَيِّنًا فِي حَقِّ الصَّحَابَةِ . إذَا أَرَادُوا أَنْ يَفْعَلُوا الْأَفْضَلَ لَهُمْ وَكَانَ أَوَّلًا قَدْ أُذِنَ لَهُمْ فِي الْفَسْخِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ لَا سِيَّمَا إذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ التَّمَتُّعُ عَلَى مَنْ لَمْ يُسَافِرْ سَفْرَةً أُخْرَى وَلَمْ يَعْتَمِرْ عَقِبَ الْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ ، وَعُمْرَةُ الْمُتَمَتِّعِ بِمَنْزِلَةِ التَّوَضُّؤِ لِلْمُغْتَسِلِ فَالْمُغْتَسِلُ لِلْجَنَابَةِ إذَا تَوَضَّأَ كَانَ وُضُوءُهُ بَعْضَ اغْتِسَالِهِ الْكَامِلِ كَذَلِكَ عُمْرَةُ الْمُتَمَتِّعِ عِنْدَ أَحْمَد بَعْضُ حَجَّةِ الْكَامِلِ وَلِهَذَا يَجُوزُ عِنْدَهُ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَصُومَ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } فَهُوَ مِنْ حِينِ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ دَخَلَ فِي الْحَجِّ كَمَا أَنَّ الْمُغْتَسِلَ مِنْ حِينِ تَوَضَّأَ دَخَلَ فِي الْغُسْلِ . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . يَدْخُلُ فِيهِ الْمُتَمَتِّعُ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ . وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَد يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَقُولُ : إنَّ حَجَّةَ الْمُتَمَتِّعِ حَجَّةٌ مَكِّيَّةٌ . قَالَ الْأَثْرَمُ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : كَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ زَعَمُوا يَقُولُ بِالْمُتْعَةِ فَقِيلَ لَهُ : يَكُونُ مَجِيئُهُ حِينَئِذٍ لِلْعُمْرَةِ . فَقَالَ : أَرَأَيْتُمْ لَوْ

أَنَّ رَجُلًا خَرَجَ يُرِيدُ صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي جَمَاعَةٍ فَتَطَوَّعَ قَبْلَهَا بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ . ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ أَزَادَهُ ذَلِكَ خَيْرًا أَمْ نَقَصَهُ ؟ ثُمَّ قَالَ أَحْمَد : مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : يَقُولُ مَجِيئُهُ حِينَئِذٍ لِلظُّهْرِ أَوْ لِلتَّطَوُّعِ : أَيْ إنَّمَا مَجِيئُهُ لِلظُّهْرِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : هَذَا قَوْلٌ مُحْدَثٌ يَعْنِي قَوْلَهُمْ حَجَّةٌ مَكِّيَّةٌ . قَالَ : وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَرَّةً أُخْرَى وَذَكَرَ قَوْلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : إنَّهُ قَوْلٌ مُحْدَثٌ يَعْنِي قَوْلَهُمْ حَجَّةٌ مَكِّيَّةٌ . قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ قَوْلٌ مُحْدَثٌ قَالَ إي وَاَللَّهِ قَوْلٌ مُحْدَثٌ ، كَلَامٌ بِغَيْظِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُحْدَثًا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ بِهِ وَيَأْمُرُ بِهِ أَصْحَابَهُ وَغَلَّظَ الْقَوْلَ فِيهِ . قَالَ : وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَرَّةً أُخْرَى . قِيلَ لَهُ : مَنْ قَالَ : حَجَّةٌ مَكِّيَّةٌ ؟ قَالَ : هَذَا قَوْلٌ مُحْدَثٌ قِيلَ لَهُ : عَمَّنْ يُرْوَى ؟ فَقَالَ : عَنْ الشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ .
فَصْلٌ :
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

أَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ - لَمَّا طَافُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ - أَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً ؟ إلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَبْقَى عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ . وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ لِأَحْمَدَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ : قَوَّيْت قُلُوبَ الرَّافِضَةِ لَمَّا أَفْتَيْت أَهْلَ خُرَاسَانَ بِالْمُتْعَةِ . فَقَالَ : يَا سَلَمَةُ كَانَ يَبْلُغُنِي عَنْك أَنَّك أَحْمَقُ وَكُنْت أُدَافِعُ عَنْك وَالْآنَ فَقَدْ تَبَيَّنَ لِي أَنَّك أَحْمَقُ ، عِنْدِي أَحَدَ عَشَرَ حَدِيثًا صَحِيحًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدَعُهَا لِقَوْلِك فَبَيَّنَ أَحْمَد أَنَّ الْأَحَادِيثَ مُتَوَاتِرَةٌ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّمَتُّعِ لِجَمِيعِ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ لَمْ يَسُوقُوا الْهَدْيَ حَتَّى مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْقُلُهُمْ مِنْ الْفَاضِلِ إلَى الْمَفْضُولِ بَلْ إنَّمَا يَأْمُرُهُمْ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ لَهُمْ . وَلِهَذَا كَانَ فَسْخُ الْحَجِّ إلَّا التَّمَتُّعَ مُسْتَحَبًّا عِنْدَ أَحْمَد وَلَمْ يَجْعَلْ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ الْفَسْخِ مُوجِبًا لِلِاحْتِيَاطِ بِتَرْكِ الْفَسْخِ فَإِنَّ الِاحْتِيَاطَ إنَّمَا يُشْرَعُ إذَا لَمْ تَتَبَيَّنْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا تَبَيَّنَتْ السُّنَّةُ فَاتِّبَاعُهَا أَوْلَى . وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَدْ قَالَ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَا سِيَّمَا وَآخَرُونَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ قَدْ أَوْجَبُوا الْفَسْخَ فَلَيْسَ الِاحْتِيَاطُ بِالْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ أُولَئِكَ بِأَوْلَى مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ هَؤُلَاءِ .

وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا الْفَسْخَ أَوْ الْمُتْعَةَ مُطْلَقًا قَالُوا : كَانَ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً . قَالُوا : لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ . وَيَقُولُونَ : إذَا بَرَأَ الدَّبَر وَعَفَا الْأَثَر وَانْسَلَخَ صَفَر فَقَدْ حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرَ . قَالُوا : فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِالْعُمْرَةِ ؛ لِيُبَيِّنَ جَوَازَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ . وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ عِنْدَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ اعْتَمَرَ قَبْلَ ذَلِكَ عُمَرَهُ الثَّلَاثَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَاعْتَمَرَ عُمْرَتَهُ الْأُولَى عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَاعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَاعْتَمَرَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ عَائِشَةَ قِيلَ لَهَا : إنَّ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ فَقَالَتْ : يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؛ مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَجَبٍ قَطُّ وَمَا اعْتَمَرَ إلَّا وَابْنُ عُمَرَ مَعَهُ } . وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى مَا قَالَتْ عَائِشَةَ بِأَنَّ عُمَرَهُ كُلَّهَا كَانَتْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَهُوَ أَوْسَطُ أَشْهُرِ الْحَجِّ . فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَعْلَمُوا جَوَازَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ حَتَّى أَمَرَهُمْ بِالْفَسْخِ وَقَدْ فَعَلَهَا قَبْلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عن عَائِشَةَ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ عِنْدَ الْمِيقَاتِ : مَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةِ وَحَجَّةٍ فَلْيَفْعَلْ } . فَبَيَّنَ لَهُمْ جَوَازَ

الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ عِنْدَ الْمِيقَاتِ وَعَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُ فَكَيْفَ لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ أَمَرَ مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ أَنْ يَتَحَلَّلَ وَأَمَرَ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ أَنْ يُتِمَّ عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَفَرَّقَ بَيْنَ مُحْرِمٍ وَمُحْرِمٍ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ هُوَ الْمَانِعُ مِنْ التَّحَلُّلِ ؛ لَا إِحْرَامُهُ الْأَوَّلُ . وَمَا ذَكَرَهُ يَشْتَرِكُ فِيهِ السَّائِقُ . . . (1) { أمرنا أَنْ نُفْضِيَ إلَى نِسَائِنَا فَنَأْتِيَ عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا الْمَنِيَّ قَالَ : فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا فَقَالَ : قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ ؟ وَأَصْدَقُكُمْ وَأَبَرُّكُمْ وَلَوْلَا هَدْيِي لَحَلَلْت كَمَا تَحِلُّونَ وَلَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمْ أَسُقْ الْهَدْيَ فَحُلُّوا . فَحَلَلْنَا وَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا . فَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنْ سِعَايَتِهِ فَقَالَ : بِمَ أَهْلَلْت ؟ قَالَ : بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا قَالَ : وَأَهْدَى عَلِيٌّ لَهُ هَدْيًا فَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ : لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ : بَلْ لِلْأَبَدِ } وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ : { وَإِنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَقَبَةِ وَهُوَ يَرْمِيهَا فَقَالَ جُعْشُمٌ : أَلَكُمْ هَذِهِ خَاصَّةً يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لَا بَلْ لِلْأَبَدِ } . فَبَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْعُمْرَةَ الَّتِي فَسَخَ مَنْ فَسَخَ مِنْهَا حَجَّهُ إلَيْهَا لِلْأَبَدِ

وَأَنَّ الْعُمْرَةَ دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ عُمْرَةَ التَّمَتُّعِ بَعْضُ الْحَجِّ وَلَمْ يُرِدْ السَّائِلُ بِقَوْلِهِ : عُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا . أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ أَنَّهُ يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِهَا فِي عَامِنَا هَذَا لِأَنَّ الْعُمْرَةَ إنْ كَانَتْ وَاجِبَةً فَلَا تَجِبُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بَلْ لِلْأَبَدِ فَإِنَّ الْأَبَدَ لَا يَكُونُ فِي حَقِّ طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ إنَّمَا يَكُونُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ " وَلَا قَالَ : { دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ : { دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ } أَرَادَ بِهِ جَوَازَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ؟ . قِيلَ : نَعَمْ : وَمِنْ ذَلِكَ عُمْرَةُ الْفَاسِخِ فَإِنَّهَا سَبَبُ هَذَا اللَّفْظِ وَسَبَبُ اللَّفْظِ الْعَامِّ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْهُ فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ : { دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ } يَتَنَاوَلُ عُمْرَةَ الْفَاسِخِ وَأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنْ يُقَالَ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى التَّمَتُّعِ مُوَافِقٌ لِقِيَاسِ الْأُصُولِ لَا مُخَالِفٌ لَهُ فَإِنَّ الْمُحْرِمَ إذَا الْتَزَمَ أَكْثَرَ مِمَا لَزِمَهُ جَازَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ جَازَ بِلَا نِزَاعٍ وَأَمَّا إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيُجَوِّزُهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَارِنًا وَالْقَارِنُ عِنْدَهُ يَلْزَمُهُ طَوَافَانِ وسعيان وَهَذَا قِيَاسُ الرِّوَايَةِ الْمَحْكِيَّةِ عَنْ أَحْمَد فِي الْقَارِنِ .

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا الْحَجُّ فَإِذَا صَارَ مُتَمَتِّعًا صَارَ مُلْتَزِمًا لِعُمْرَةِ وَحَجٍّ فَكَانَ مَا الْتَزَمَهُ بِالْفَسْخِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ فَجَازَ ذَلِكَ وَهُوَ أَفْضَلُ فَاسْتَحَبَّ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَشْكُلُ هَذَا عَلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ فَسَخَ حَجًّا إلَى عُمْرَةٍ مُجَرَّدَةٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْسَخَ الْحَجَّ إلَى الْعُمْرَةِ مُفْرَدَةً لَمْ يَجُزْ بِلَا نِزَاعٍ وَإِنَّمَا الْفَسْخُ جَائِزٌ لِمَنْ كَانَ نِيَّتُهُ أَنْ يَحُجَّ بَعْدَ الْعُمْرَةِ . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ دَخَلَ فِي الْحَجِّ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ } وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ مِنْ حِينَئِذٍ وَإِنَّمَا إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا { كان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اغْتَسَلَ لِلْجَنَابَةِ بَدَأَ بِالْوُضُوءِ وَكَمَا قَالَ لِلنِّسْوَةِ فِي غُسْلِ ابْنَتِهِ : ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا } فَكَانَ غَسْلُ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ توضية وَهُوَ بَعْضُ الْغُسْلِ . فَإِنْ قِيلَ : دَمُ الْمُتَمَتِّعِ دَمُ جبران ، وَنُسُكٌ لَا جُبْرَانَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ نُسُكٍ مَجْبُورٍ . قِيلَ : هَذَا لَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْ هَدْيِهِ فَإِنَّهُ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبِضْعَةِ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَأَكَلَ مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَ مِنْ مَرَقِهَا وَثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا التَّمَتُّعَ الْعَامَّ فَإِنَّ

الْقَارِنَ يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْمُتَمَتِّعِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ . فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْأَكْلِ مِنْ هَدْيِ الْمُتَمَتِّعِ ، وَدَمُ الْجُبْرَانِ لَيْسَ كَذَلِكَ . وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْعَمَ نِسَاءَهُ مِنْ الْهَدْيِ الَّذِي ذَبَحَهُ عَنْهُنَّ وَكُنَّ مُتَمَتِّعَاتٍ } وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَد . الثَّانِي : أَنَّ سَبَبَ الْجُبْرَانِ مَحْظُورٌ فِي الْأَصْلِ كَالْإِفْسَادِ بِالْوَطْءِ . وَكَفِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ أَوْ بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْسِدَ حَجَّهُ وَلَا أَنْ يَفْعَلَ الْمَحْظُورَ إلَّا لِعُذْرِ وَلَا يَتْرُكَ الْوَاجِبَ إلَّا لِعُذْرِ ، وَالتَّمَتُّعُ جَائِزٌ مُطْلَقًا فَلَوْ كَانَ دَمُهُ دَمَ جبران لَمْ يَجُزْ مُطْلَقًا فَعَلِمَ أَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ وَهَدْيٍ وَأَنَّهُ مِمَّا وَسَّعَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَبَاحَ لَهُمْ التَّحَلُّلَ فِي أَثْنَاءِ الْإِحْرَامِ وَالْهَدْيُ مَكَانَهُ لِمَا فِي اسْتِمْرَارِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمَشَقَّةِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ وَبِمَنْزِلَةِ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِلَابِسِ الْخُفِّ . فَإِنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ أَنْ يَخْلَعَ وَيَغْسِلَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَ لَابِسُ الْخُفِّ عَلَى طَهَارَةٍ مَسَحَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يَخْلَعُ وَيَغْسِلُ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ تَكُنْ رِجْلَاهُ فِي الْخُفَّيْنِ فَإِنَّهُ كَانَ يَغْسِلُ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : { خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ }

وَهَدْيُ مُحَمَّدٍ لِمَنْ كَانَ مَكْشُوفَ الرِّجْلَيْنِ أَنْ يَغْسِلَهُمَا لَا يَقْصِدُ أَنْ يَلْبَسَ لِيَمْسَحَ عَلَيْهِمَا وَلِمَنْ كَانَ لَابِسَ الْخُفَّيْنِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا لَا أَنْ يَخْلَعَهُمَا وَيَغْسِلَ . مَعَ أَنَّ مَسْحَ الْخُفَّيْنِ بَدَلٌ ؛ فَكَذَلِكَ الْهَدْيُ . وَإِنْ كَانَ بَدَلًا عَنْ تَرَفُّهِهِ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ فَهُوَ أَفْضَلُ لِمَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَقَدْ قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بِحَجِّ مُفْرَدٍ يَعْتَمِرُ عَقِبَهُ وَالْبَدَلُ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَالْجُمُعَةِ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ بَدَلًا عَنْ الظُّهْرِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ وَكَالْمُتَيَمِّمِ الْعَاجِزِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ؛ فَإِنَّ التَّيَمُّمَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَهُوَ بَدَلٌ . فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ وَاجِبًا فَكَوْنُهُ مُسْتَحَبًّا أَوْلَى بِالْجَوَازِ . وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُفْطِرَ وَيَقْضِيَ وَالْقَضَاءُ بَدَلٌ عَنْ الْأَدَاءِ وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ يُفْطِرُ وَيَقْضِي وَالْقَضَاءُ بَدَلٌ . وَتَخَلُّلُ الْإِحْلَالِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ بِمَنْزِلَةِ الْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ كَطَوَافِ الْفَرْضِ ، فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُفْعَلُ إلَّا بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ أَيَّامَ مِنَى مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ . وَإِذَا طَافَ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ رَمَى الْجِمَارَ أَيَّامَ مِنَى بَعْدَ الْحِلِّ التَّامِّ وَهُوَ السُّنَّةُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهْرُ رَمَضَانَ يَتَخَلَّلُ صِيَامَ أَيَّامِهِ

الْفِطْرُ بِاللَّيْلِ وَهُوَ الصَّوْمُ الْمَفْرُوضُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } . إلَى قَوْلِهِ : { شَهْرُ رَمَضَانَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } وَهَذَا الصَّوْمُ يَتَخَلَّلُهُ الْفِطْرُ كُلَّ لَيْلَةٍ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } . وَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ لِمَنْ حَجَّ حَجَّةَ تَمَتُّعٍ فِيهَا بِالْعُمْرَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَتَخَلَّلُ هَذَا الْإِحْرَامَ إحْلَالٌ . وَهُوَ مِنْ حِينِ إحْرَامِهِ بِالْحَجِّ قَدْ دَخَلَ فِي الْحَجِّ كَمَا أَنَّهُ بِصِيَامِ أَوَّلِ يَوْمٍ دَخَلَ فِي صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ . وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } وَالْقِيَامُ يَتَخَلَّلُهُ السَّلَامُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَكَذَلِكَ الْوِتْرُ بِثَلَاثِ مَفْصُولَةٍ .
فَصْلٌ :
فِي " صِفَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ " لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ إذَا طَافُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً وَهَذَا مِمَّا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ ،

وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ الْحَجِّ لَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَّا عَائِشَةَ فَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ النَّقْلُ وَلَا خَالَفَ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَلَكِنْ تَنَازَعُوا : هَلْ حَجَّ مُتَمَتِّعًا أَوْ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا ؟ أَوْ أَحْرَمَ مُطْلَقًا ؟ وَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِمْ فِيهِ الْأَحَادِيثُ وَهِيَ بِحَمْدِ اللَّهِ غَيْرُ مُخْتَلِفَةٍ عِنْدَ مَنْ فَهِمَ مُرَادَ الصَّحَابَةِ بِهَا . وَالْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامُ أَحْمَد أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ حَتَّى قَالَ : لَا أَشُكُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ : كَإِسْحَاقِ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِ . وَهُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو مُحَمَّدٍ ابْنُ حَزْمٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مُصَنَّفًا جَمَعَ فِيهِ الْآثَارَ وَقَرَّرَ ذَلِكَ . وَأَحْمَد إنَّمَا اخْتَارَ التَّمَتُّعَ ؛ لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ بِهِ لَا لِكَوْنِهِ كَانَ مُتَمَتِّعًا التَّمَتُّعَ الْخَاصَّ عِنْدَهُ وَلِهَذَا قَالَ فِي رِوَايَةِ المروذي : إنَّهُ إذَا سَاقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ أَفْضَلُ ؟ وَلَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ عِنْدَهُ وَسَاقَ الْهَدْيَ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَمَتِّعًا عِنْدَهُ لَكَانَ قَدْ فَعَلَهَا وَأَمَرَ بِهَا فَلَا وَجْهَ حِينَئِذٍ لِاخْتِيَارِ الْقِرَانِ لِمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ .

وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِ أَحْمَد أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا التَّمَتُّعَ الْخَاصَّ وَأَوَّلُ مَنْ ادَّعَى مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَمَتِّعًا التَّمَتُّعَ الْخَاصَّ فِيمَا عَلِمْنَاهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَذَكَرَ فِي تَعْلِيقِهِ الِاحْتِجَاجَ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ عَلَى فَضِيلَةِ التَّمَتُّعِ وَذَكَرَ أَنَّ الْأَوْلَى - وَهِيَ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِأَمْرِهِ لَا بِفِعْلِهِ " وَبِقَوْلِهِ : " لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت " - هِيَ طَرِيقَةُ الْأَصْحَابِ كَمَا كَانَ يَحْتَجُّ بِهَا إمَامُهُمْ أَحْمَد . ثُمَّ إنَّ الَّذِينَ نَصَرُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَمَتِّعًا مِنْ الْأَصْحَابِ عَلَى قَوْلَيْنِ .
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ مَعَ سَوْقِهِ الْهَدْيَ وَحَمَلَ هَؤُلَاءِ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى أَنَّ الْمُتْعَةَ كَانَتْ لَهُمْ خَاصَّةً عَلَى أَنَّهُمْ خُصُّوا بِالتَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ مَعَ سَوْقِ الْهَدْيِ دُونَ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي وَمَنْ اتَّبَعَهُ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ مُنْكَرٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمِمَّنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى الْقَاضِي الشَّيْخُ أَبُو الْبَرَكَاتِ وَغَيْرُهُ . وَقَالُوا : مَنْ تَأَمَّلَ الْأَحَادِيثَ الْمُسْتَفِيضَةَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحِلَّ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ سَاقَ الْهَدْيَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَتَّعَ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ لِكَوْنِهِ سَاقَ الْهَدْيَ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ

بَعْدَ أَنْ طَافَ وَسَعَى لِلْعُمْرَةِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ . وَهَؤُلَاءِ يُسَمُّونَ هَذَا مُتَمَتِّعًا وَقَدْ يُسَمُّونَهُ قَارِنًا لِكَوْنِهِ أَحْرَمَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ لَكِنَّ الْقِرَانَ الْمَعْرُوفَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ لِيَقَعَ الطَّوَافُ عَنْ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ : يَظْهَرُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ الطَّوَافِ . وَالثَّانِي : مِنْ السَّعْيِ عَقِبَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَإِنَّ الْقَارِنَ لَيْسَ عَلَيْهِ سَعْيٌ ثَانٍ كَمَا لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى الْمُفْرِدِ . وأَمَّا الْمُتَمَتِّعُ فَهَذَا السَّعْيُ وَاجِبٌ فِي حَقِّهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَفِيهِ عِنْدَ أَحْمَد رِوَايَتَانِ . وَأَمَّا الشَّافِعِيِّ فَاخْتَلَفَ كَلَامُهُ فِي حَجِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تَارَةً : إنَّهُ أَفْرَدَ . وَقَالَ تَارَةً : إنَّهُ تَمَتَّعَ . وَقَالَ تَارَةً : إنَّهُ أَحْرَمَ مُطْلَقًا . فَقَالَ فِي " مُخْتَصَرِ الْحَجِّ " : وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُفْرِدَ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ عِنْدَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ . وَقَالَ فِي " اخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } . قَالَ : وَمَنْ قَالَ إنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ عَلَى مَا يَعْرِفُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ - الَّذِينَ أَدْرَكَ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ

أَحَدًا لَا يَكُونُ مُقِيمًا عَلَى حَجٍّ إلَّا وَقَدْ ابْتَدَأَ إحْرَامَهُ بِحَجِّ قَالَ : وَأَحْسَبُ عُرْوَةَ حِينَ حَدَّثَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ بِحَجِّ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ : يَفْعَلُ فِي حَجِّهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى . فَقَدْ بَيَّنَ الشَّافِعِيِّ هُنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَمَتِّعًا وَأَنَّ مَنْ قَالَ أَفْرَدَ الْحَجَّ فَلِأَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّ مَنْ اسْتَمَرَّ عَلَى إحْرَامِهِ لَا يَكُونُ إلَّا حَاجًّا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اسْتَمَرَّ عَلَى إحْرَامِهِ ظُنَّ أَنَّهُ كَانَ حَاجًّا . وَقَالَ أَيْضًا فِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُخْرِجِهِ : لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الِاخْتِلَافِ أَبْيَنَ مِنْ هَذَا وَإِنْ كَانَ الْغَلَطُ فِيهِ قَبِيحًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُبَاحٌ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ ثُمَّ السُّنَّةَ ثُمَّ مَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَإِفْرَادَ الْحَجِّ وَالْقِرَانَ وَاسِعٌ كُلُّهُ . قَالَ : وَثَبَتَ أَنَّهُ خَرَجَ يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ فِيمَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَهَلَّ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً وَقَالَ : { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } . قَالَ : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَمِنْ أَيْنَ أَثْبَتَ حَدِيثَ عَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ وَطَاوُوسٍ دُونَ حَدِيثِ مَنْ قَالَ قَرَنَ .

قِيلَ : لِتَقَدُّمِ صُحْبَةِ جَابِرٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُسْنِ سِيَاقِهِ لِابْتِدَاءِ الْحَدِيثِ وَآخِرِهِ وَلِرِوَايَةِ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَضْلِ حِفْظِهَا عَنْهُ وَقُرْبِ ابْنِ عُمَرَ مِنْهُ . قَالَ : وَلِأَنَّ مَنْ وَصَفَ انْتِظَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَضَاءَ إذْ لَمْ يَحُجَّ مِنْ الْمَدِينَةِ بَعْدَ نُزُولِ فَرْضِ الْحَجِّ طَلَبَ الِاخْتِيَارَ فِيمَا وَسَّعَ اللَّهُ مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَحْفَظَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أُتِيَ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ فَانْتَظَرَ الْقَضَاءَ فَكَذَلِكَ حُفِظَ فِي الْحَجِّ يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ . قَالَ المزني : إنْ ثَبَتَ حَدِيثُ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَنَ حَتَّى يَكُونَ مُعَارِضًا لِلْأَحَادِيثِ سِوَاهُ فَأَصْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعُمْرَةَ فَرْضٌ وَأَدَاءُ الْفَرْضِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ أَفْضَلُ مِنْ أَدَاءِ فَرْضٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ مَنْ أَكْثَرَ عَمَلَهُ لِلَّهِ كَانَ أَكْثَرَ فِي ثَوَابِ اللَّهِ . قُلْت : وَالصَّوَابُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْأَحَادِيثَ مُتَّفِقَةٌ لَيْسَتْ مُخْتَلِفَةً إلَّا اخْتِلَافًا يَسِيرًا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ ثَبَتَ عَنْهُمْ أَنَّهُ تَمَتَّعَ وَالتَّمَتُّعُ عِنْدَهُمْ يَتَنَاوَلُ الْقِرَانَ وَاَلَّذِينَ رُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُ أَفْرَدَ رُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُ تَمَتَّعَ . أَمَّا الْأَوَّلُ : فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ : { اجْتَمَعَ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ فَكَانَ عُثْمَانُ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ أَوْ الْعُمْرَةِ فَقَالَ عَلِيٌّ : مَا

يُرِيدُ إلَّا أَمْرًا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْهُ فَقَالَ عُثْمَانُ : دَعْنَا مِنْك . فَقَالَ : إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدَعَك فَلَمَّا أَنْ رَأَى عَلِيٌّ ذَلِكَ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا } . هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ . وَلَمْ يَذْكُرْ الْبُخَارِيُّ دَعْنَا إلَى أَنْ أَدَعَك . وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَحْدَهُ مِنْ حَدِيثِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ : شَهِدْت عُثْمَانُ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ ذَلِكَ أَهَلَّ بِهِمَا : لَبَّيْكَ بِعُمْرَةِ وَحَجَّةٍ . قَالَ : مَا كُنْت لِأَدَعَ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا كَانَ مُتَمَتِّعًا عِنْدَهُمْ وَأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي فَعَلَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَوَافَقَهُ عُثْمَانُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ لَكِنْ كَانَ النِّزَاعُ : هَلْ ذَلِكَ أَفْضَلُ فِي حَقِّنَا ؛ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُشْرَعُ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْمُتْعَةِ فِي حَقِّنَا ؟ كَمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ : كَانَ عُثْمَانُ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ وَكَانَ عَلِيٌّ يَأْمُرُ بِهَا فَقَالَ عُثْمَانُ لِعَلِيِّ : كَلِمَةً فَقَالَ : لَقَدْ عَلِمْت أَنَّا تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَجَلْ وَلَكِنَّا كُنَّا خَائِفِينَ فَقَدْ اتَّفَقَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ تَمَتَّعُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا قَوْلُ عُثْمَانُ كُنَّا خَائِفِينَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا خَائِفِينَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ

وَكَانُوا قَدْ اعْتَمَرُوا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَكَانَ كُلُّ مَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ يُسَمَّى أَيْضًا مُتَمَتِّعًا ؛ لِأَنَّ النَّاهِينَ عَنْ الْمُتْعَةِ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مُطْلَقًا . وَشَاهِدُهُ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ نَهَى عَنْ الْمُتْعَةِ قَالَ فَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا كَافِرٌ بِالْعَرْشِ . يَعْنِي مُعَاوِيَةَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ مُسْلِمًا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَلْ وَفِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ عَامَ الْفَتْحِ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَكِنْ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ كَافِرٌ بِعَرْشِ مَكَّةَ . وَقَدْ سَمَّى سَعْدٌ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ مُتْعَةً . فَلَعَلَّ عُثْمَانُ أَرَادَ الْخَوْفَ عَامَ الْقَضِيَّةِ وَكَانُوا أَيْضًا خَائِفِينَ عَامَ الْفَتْحِ . وَأَمَّا عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَكَانُوا آمِنِينَ لَمْ يَكُنْ قَدْ بَقِيَ مُشْرِكٌ بَلْ نَفَى اللَّهُ الشِّرْكَ وَأَهْلَهُ . وَلِهَذَا قَالُوا : صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آمَنِ مَا كَانَ النَّاسُ رَكْعَتَيْنِ فَلَعَلَّهُ قَدْ اشْتَبَهَ حَالُهُمْ هَذَا الْعَامَ بِحَالِهِمْ هَذَا الْعَامَ . كَمَا اشْتَبَهَ عَلَى مَنْ رَوَى أَنَّهُ نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَإِنَّمَا كَانَ النَّهْيُ فِي غَزَاةِ الْفَتْحِ . وَكَمَا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ فِي حَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ وَإِنَّمَا كَانَ دُخُولُهُ الْكَعْبَةَ عَامَ الْفَتْحِ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ دَخَلَهَا فِي حَجَّةٍ وَلَا عُمْرَةٍ ؛ بَلْ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عن إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ : قُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ فِي عُمْرَتِهِ ؟ قَالَ : لَا } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عن مُطَرِّفِ بْنِ الشخير قَالَ : قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ : أُحَدِّثُك حَدِيثًا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَك بِهِ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ حَجَّتِهِ وَعُمْرَتِهِ ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يَنْزِلْ فِيهِ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهُ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَمَتَّعْنَا مَعَهُ } فَهَذَا عِمْرَانُ وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ أَخْبَرَ أَنَّهُ تَمَتَّعَ وَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { عن غُنَيْمِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ : سَأَلْت سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ الْمُتْعَةِ فِي الْحَجِّ فَقَالَ : فَعَلْنَاهَا وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ بِالْعَرْشِ . يَعْنِي بُيُوتَ مَكَّةَ - يَعْنِي مُعَاوِيَةَ } وَهَذَا إنَّمَا أَرَادَ بِهِ سَعْدٌ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ إذْ ذَاكَ . وَأَمَّا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ فَكَذَلِكَ فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ فَسَمَّى سَعْدٌ الِاعْتِمَارَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مُتْعَةً لِأَنَّ بَعْضَ الشَّامِيِّينَ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَصَارَ الصَّحَابَةُ يَرْوُونَ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ رَدًّا عَلَى مَنْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فَالْقَارِنُ عِنْدَهُمْ مُتَمَتِّعٌ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ وَدَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ { عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِوَادِي الْعَقِيقِ : يَقُولُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ : صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ : عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ } فَهَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ : عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَغَيْرُ الْخُلَفَاءِ كَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ يُرْوَى عَنْهُمْ بِأَصَحِّ الْأَسَانِيدِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ تَمَتُّعًا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ المزني { عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَحَدَّثْت بِذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ : لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ فَلَقِيت أَنَسًا فَحَدَّثْته فَقَالَ : مَا يَعُدُّونَا إلَّا صِبْيَانًا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا } . فَهَذَا أَنَسٌ يُخْبِرُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا وَمَا ذَكَرَهُ بَكْرٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ فَجَوَابُهُ أَنَّ الثِّقَاتِ - الَّذِينَ هُمْ أَثْبَتُ فِي ابْنِ عُمَرَ مِنْ بَكْرٍ مِثْلَ ابْنِهِ سَالِمٍ " رَوَوْا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { : تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ بَكْرٍ . وَغَلَطُ بِكْرٍ عَلَى ابْنِ عُمَرَ أَوْلَى مِنْ تَغْلِيطِ سَالِمٍ ابْنِهِ عَنْهُ وَتَغْلِيطِهِ هُوَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُشْبِهُ هَذَا أَنَّ ابْنُ عُمَرَ قَالَ لَهُ : أَفْرَدَ الْحَجَّ فَظَنَّ أَنَّهُ قَالَ : لَبَّى بِالْحَجِّ فَإِنَّ إفْرَادَ الْحَجِّ كَانُوا يُطْلِقُونَهُ وَيُرِيدُونَ بِهِ إفْرَادَ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَذَلِكَ

يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ قَرَنَ فَطَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سعيين وَمَنْ يَقُولُ : إنَّهُ أَحَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ . فَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ تَرُدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ . يُبَيِّنُ هَذَا : مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ نَافِعٍ { عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ : أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا } وَفِي رِوَايَةٍ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا . فَلَمْ يَذْكُرُوا عَنْ ابْنِ عُمَرَ إلَّا أَنَّهُ قَالَ : أَفْرَدَ الْحَجَّ لَا أَنَّهُ قَالَ : لَبَّى بِالْحَجِّ . وَفِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ { أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيِّ : قَدْ سُقْت الْهَدْيَ وَقَرَنْت } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : { تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الحليفة وَقَدْ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَكَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْيَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ : مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَتَحَلَّلْ ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَلْيُهْدِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ

إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ السَّبْعِ وَمَشَى أَرْبَعَةَ أَطْوَافٍ ثُمَّ رَجَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ فَصَلَّى عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَانْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ ثُمَّ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ النَّاسِ } . قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَحَدَّثَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَ حَدِيثِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ . فَهَذَا أَصَحُّ حَدِيثٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ . وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ أَعْلَمِ أَهْلِ زَمَانِهِ بِالسُّنَّةِ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَمِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ الرَّابِعَةَ مَعَ حَجَّتِهِ } وَلَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ قَرَنَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ وَقَالَ : هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَذَلِكَ أَخْبَرَتْ أَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ إنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا . وَأَمَّا الَّذِينَ نُقِلَ عَنْهُمْ : أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ فَهُمْ ثَلَاثَةٌ : عَائِشَةُ وَابْنُ

عُمَرَ وَجَابِرٌ . وَالثَّلَاثَةُ نُقِلَ عَنْهُمْ التَّمَتُّعُ . وَحَدِيثُ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِهِمَا أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ وَمَا صَحَّ عَنْهُمَا مِنْ ذَلِكَ فَمَعْنَاهُ إفْرَادُ أَعْمَالِ الْحَجِّ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عن حَفْصَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يَحْلِلْنَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَتْ حَفْصَةُ : فَمَا يَمْنَعُك أَنْ تَحِلَّ ؟ فَقَالَ : إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي وَقَلَّدْت هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ هَدْيِي وَفِي رِوَايَةٍ : مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِك ؟ فَقَالَ : إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي وَقَلَّدْت هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ الْهَدْيَ } فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُعْتَمِرًا وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْعُمْرَةِ حَاجًّا . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عن أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقِعْدَةِ إلَّا الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ . وَعُمْرَةً فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَعُمْرَةً مِنْ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عن مُجَاهِدٍ قَالَ : دَخَلْت أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسٌ إلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ . كَمْ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : أَرْبَعَ عُمَرٍ : إحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ فَقَالَ عُرْوَةُ أَلَا تَسْمَعِينَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إلَى

مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَتْ : وَمَا يَقُولُ ؟ قَالَ : يَقُولُ : اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عُمَرٍ إحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ فَقَالَتْ : يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؟ مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا وَهُوَ مَعَهُ وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ } فَعَائِشَةُ أَنْكَرَتْ كَوْنَهُ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ وَمَا أَنْكَرَتْ كَوْنَهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ . فَقَدْ اتَّفَقَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَنَسٍ . وَقَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ الْحَجِّ . وَثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَعَائِشَةَ نَقَلَا عَنْهُ أَنَّهُ اعْتَمَرَ مَعَ الْحَجِّ وَهَذَا هُوَ التَّمَتُّعُ الْعَامُّ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْقِرَانُ وَهُوَ الْمُوجِبُ لِلْهَدْيِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةَ الثَّابِتَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ تُوَافِقُ مَا فَعَلَهُ . سَائِرُ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا التَّمَتُّعَ الْعَامَّ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ أَحْرَمَ مُطْلَقًا فَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ مُرْسَلٍ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَارَضَ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ قَالَ : أَفْرَدَ الْحَجَّ فَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ اعْتَمَرَ بَعْدَ الْحَجِّ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الْمُتَفَقِّهَةِ فَهَذَا مُخْطِئٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ مَعَ حَجَّتِهِ بِعُمْرَةِ فَهَذَا قَدْ اعْتَقَدَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ غَلَطٌ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ .

وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ أَحْرَمَ إحْرَامًا مُطْلَقًا فَقَوْلُهُ غَلَطٌ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَمَنْ قَالَ إنَّهُ تَمَتَّعَ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ حَتَّى طَافَ وَسَعَى . فَقَوْلُهُ أَيْضًا غَلَطٌ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَمَنْ قَالَ إنَّهُ تَمَتَّعَ : بِمَعْنَى أَنَّهُ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ فَهُوَ أَيْضًا مُخْطِئٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ بِالْأَحَادِيثِ . وَمَنْ قَالَ إنَّهُ قَرَنَ بِمَعْنَى أَنَّهُ طَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سعيين فَقَدْ غَلِطَ أَيْضًا وَلَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَالْغَلَطُ فِي هَذَا الْبَابِ وَقَعَ مِمَّنْ دُونَ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَفْهَمُوا كَلَامَهُمْ وَأَمَّا الصَّحَابَةُ فَنُقُولُهُمْ مُتَّفِقَةٌ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَطُفْ طَوَافَيْنِ وَلَا سَعَى سعيين لَا هُوَ وَلَا أَصْحَابُهُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُرْوَةَ { عن عَائِشَةَ قَالَتْ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فليهل بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا . وَقَالَتْ فِيهِ : فَطَافَ الَّذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنَى لِحَجِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا } .

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُوسٍ { عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَهَلَّتْ بِعُمْرَةِ فَقَدِمَتْ وَلَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى حَاضَتْ فَنَسَكَتْ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا وَقَدْ أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّفَرِ : يَسَعُك طَوَافُك لِحَجِّك وَعُمْرَتِك فَأَبَتْ فَبَعَثَ بِهَا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ } . وَفِي مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ { عن عَائِشَةَ أَنَّهَا حَاضَتْ بِسَرِفِ فَطَهُرَتْ بِعَرَفَةَ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجْزِي عَنْك طَوَافُك بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنْ حَجِّك وَعُمْرَتِك } . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَطَاءٍ { عن عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا : طَوَافُك بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيك لِحَجِّك وَعُمْرَتِك } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَائِشَةَ ثُمَّ وَجَدَهَا تَبْكِي وَقَالَتْ قَدْ حِضْت وَقَدْ حَلَّ النَّاسُ وَلَمْ أَحْلِلْ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ فَقَالَ اغْتَسِلِي ثُمَّ أَهِلِّي بِالْحَجِّ فَفَعَلَتْ وَوَقَفَتْ الْمَوَاقِفَ كُلَّهَا حَتَّى إذَا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْكَعْبَةِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ قَالَ قَدْ حَلَلْت مِنْ حَجِّك وَعُمْرَتِك جَمِيعًا . قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ حِينَ حَجَجْت فَقَالَ : فَاذْهَبْ بِهَا يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَأَعْمِرْهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وَذَلِكَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ } . فَقَدْ أَخْبَرَتْ عَائِشَةُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الَّذِينَ قَرَنُوا لَمْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا الطَّوَافَ الْأَوَّلَ الَّذِي طَافَهُ

الْمُتَمَتِّعُونَ أَوَّلًا . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي قَضِيَّتِهَا أَنَّهَا { لما طَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَ لَهَا قَدْ حَلَلْت وَقَالَ لَهَا : يَسَعُك طَوَافُك لِحَجِّك وَعُمْرَتِك } وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الْعُمْرَةِ وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ يُجْزِيهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كَمَا يُجْزِي الْمُفْرِدَ لَا سِيَّمَا وَعَائِشَةُ لَمْ تَطُفْ إلَّا طَوَافَ قُدُومٍ بَلْ لَمْ تَطُفْ إلَّا بَعْدَ التَّعْرِيفِ وَسَعَتْ مَعَ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَالسَّعْيِ بَعْدَهُ يَكْفِي الْقَارِنَ فَلَأَنْ يَكْفِيَهُ طَوَافُ الْقُدُومِ مَعَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ مَعَ أَحَدِهِمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ نَقَلُوا حَجَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ نَقَلُوا أَنَّهُ لَمَّا طَافَ الصَّحَابَةُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ : أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّحَلُّلِ إلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ إلَّا يَوْمَ النَّحْرِ . وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ طَافَ وَسَعَى ثُمَّ طَافَ وَسَعَى وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عُلِمَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ وَعُمْدَةُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ أَثَرٌ يَرْوِيهِ الْكُوفِيُّونَ عَنْ عَلِيٌّ وَأَثَرٌ آخَرُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ رَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ عَنْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِلْقَارِنِ طَوَافًا وَاحِدًا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ خِلَافَ مَا يَحْفَظُ أَهْلُ

الْعِرَاقِ . وَمَا رَوَاهُ الْعِرَاقِيُّونَ مِنْهُ مَا هُوَ مُنْقَطِعٌ وَمِنْهُ مَا رِجَالُهُ مَجْهُولُونَ أَوْ مَجْرُوحُونَ . وَلِهَذَا طَعَنَ عُلَمَاءُ النَّقْلِ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : كُلُّ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ لَا تَصِحُّ مِنْهُ وَلَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَدْ نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ مَوْضُوعٌ بِلَا رَيْبٍ . وَأَيْضًا فَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ لَهُمْ : اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ أَوْجَبْت حَجًّا مَعَ عُمْرَتِي ثُمَّ انْطَلَقَ يُهِلُّ بِهِمَا جَمِيعًا حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَحْلِقْ وَلَا قَصَّرَ وَلَا أَحَلَّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فَحَلَقَ وَنَحَرَ وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . } وَأَيْضًا : فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِذَا دَخَلَتْ فِيهِ لَمْ تَحْتَجْ إلَى عَمَلٍ زَائِدٍ عَلَى عَمَلِهِ } . وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كهيل ؛ قَالَ : حَلَفَ لِي طاوس مَا طَافَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ وَعُمْرَتِهِ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا . وَقَدْ ثَبَتَ مِثْلُ هَذَا عَنْ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمْ وَهُمْ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِحَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُخَالِفُونَهَا .

فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُبَيِّنُ : أَنَّهُ لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا . فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ هُوَ الَّذِي قَالَهُ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ : كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا وَأَنَّهُ لَمْ يَطُفْ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . لَكِنَّهُ سَاقَ الْهَدْيَ فَمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَمَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ لَهُ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ حَجِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كَانَ مُفْرِدًا ؟ أَوْ قَارِنًا " أَوْ مُتَمَتِّعًا ؟ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ لِمَنْ يَحُجُّ فَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ الْقَوْلَ وَأَطَالُوا وَزَادُوا وَنَقَصُوا ، وَالْقَصْدُ كَشْفُ الْحَقِّ عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ ، وَقَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ إنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ أَتَى بِعُمْرَةِ مِنْ مَكَّةَ ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَوْهُ : { أَنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقُومُ كَذَا وَكَذَا حَجَّةٍ } . هَلْ هُوَ صَحِيحٌ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا حَجُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَسَاقَ الْهَدْيَ وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا حِينَ قَدِمَ . لَكِنَّهُ طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ مَعَ هَذَيْنِ الطَّوَافَيْنِ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ الصَّوَابُ الْمُحَقَّقُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَحَادِيثِ الَّذِينَ جَمَعُوا طُرُقَهَا وَعَرَفُوا مَقْصِدَهَا وَقَدْ جَمَعَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ كِتَابًا جَيِّدًا فِي هَذَا الْبَابِ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : لَا أَشُكُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ

قَارِنًا وَالتَّمَتُّعُ أَحَبُّ إلَيَّ لِأَنَّهُ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ . يُرِيدُ بِهِ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ طَافَ وَسَعَى وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّحَلُّلِ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } وَهَذَا إنَّمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا بِدُونِ سَوْقِ الْهَدْيِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ . وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ المروذي : إذَا سَاقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ أَفْضَلُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ حَجَّ قَارِنًا يَتَبَيَّنُ لِمَنْ تَدَبَّرَ الْأَحَادِيثَ وَفَهِمَ مَضْمُونَهَا . وَبَسْطُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لَكِنْ نَذْكُرُ نُكَتًا مُخْتَصَرَةً : مِنْهَا : أَنَّ الَّذِينَ نَقَلُوا لَفْظَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَفْظِ تَلْبِيَتِهِ وَلَفْظِهِ فِي خَبَرِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَفِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ : إنَّمَا ذَكَرُوا الْقِرَانَ : كَقَوْلِ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ سَمِعْته يَقُولُ : { لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجَّةً وَكَانَ تَحْتَ نَاقَتِهِ } وَكَحَدِيثِ عُمَرَ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ حَيْثُ قَالَ : { أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقَالَ : قُلْ : عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ } وَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ . . . (*) وَاَلَّذِينَ قَالُوا : تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ لَمْ تَزَلْ قُلُوبُهُمْ عَلَى غَيْرِ

الْقِرَانِ فَإِنَّ الْقِرَانَ كَانَ عِنْدَهُمْ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّ عُثْمَانُ كَانَ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ ؛ وَكَانَ عَلِيٌّ يَأْمُرُ بِهَا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا . وَلِهَذَا وَجَبَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ عَلَى الْقَارِنِ الْهَدْيُ بِقَوْلِهِ . { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } . وَذَلِكَ أَنَّ مَقْصُودَ حَقِيقَةِ التَّمَتُّعِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَحُجَّ مِنْ عَامِهِ فَيَتَرَفَّهَ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ ، قَدْ أَحَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ أَوْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ فَأَتَى بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ جَمِيعًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ سَفَرٍ بَيْنَهُمَا فَيَتَرَفَّهُ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ . فَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى التَّمَتُّعِ مَعَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَنْقُلُوا لَفْظَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وكذلك الَّذِينَ قَالُوا : أَفْرَدَ الْحَجَّ مَعَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ : تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَحَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ وَعَلَى مَنْ قَالَ : إنَّهُ طَافَ طَوَافَيْنِ . وَسَعَى سعيين فَإِنَّ أَصْحَابَهُ حَلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَسُوقُوا الْهَدْيَ فَبَقُوا مُحْرِمِينَ كَمَا يَبْقَى مُفْرِدًا بِحَجِّ وَلَمْ يَأْتُوا بِزِيَادَةِ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرِدِ . فَبَيَّنَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ إلَّا أَفْعَالَ الْحَجِّ لَمْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ وَلَا زَادَ عَلَيْهَا وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ اعْتَمَرَ أَرْبَعًا : إحْدَاهُنَّ عُمْرَةٌ مَعَ حَجَّتِهِ وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ

بَعْدَ الْحَجَّةِ لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ حَجَّ مَعَهُ حَجَّةَ الْوَدَاعِ إلَّا عَائِشَةَ خَاصَّةً فَإِنَّهُ أَعْمَرَهَا مَعَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِأَجْلِ حَيْضِهَا الَّذِي حَاضَتْهُ وَبُنِيَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مَسَاجِدُ فَسُمِّيَتْ " مَسَاجِدَ عَائِشَةَ " فَإِنَّهَا أَحْرَمَتْ بِالْعُمْرَةِ مِنْ هُنَاكَ فَإِنَّهُ أَدْنَى الْحِلِّ إلَى مَكَّةَ ؛ إذْ ذَاكَ الْجَانِبُ مِنْ الْحَرَمِ أَقْرَبُ جَوَانِبِهِ مِنْ مَكَّةَ . وَكَانَ قَدْ اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ وَلَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَهَا فَتَبَيَّنَ أَنَّ عُمْرَتَهُ كَانَتْ فِيهَا قَبْلَهَا فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا . يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ عَامَّةَ الَّذِينَ رُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ : كَعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ . رُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمَا وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ قَالَ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَأَنَّهُ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ كَمَا زَعَمَ ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد : كَالْقَاضِي وَغَيْرِهِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ دُونَ مَنْ تَمَتَّعَ وَسَاقَ الْهَدْيَ فَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ . وَكَذَلِكَ مَنْ يُظَنُّ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ وَاعْتَمَرَ عَقِبَ ذَلِكَ فَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْآثَارِ . وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ طَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سعيين كَمَا يَخْتَارُ ذَلِكَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَنَّهُ خِلَافُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي

تُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً . وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : إنَّهُ تَمَتَّعَ وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ ؛ لِأَجْلِ سَوْقِ الْهَدْيِ كَمَا يَخْتَارُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ فَالتَّمَتُّعُ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ : السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ لِلْحَجِّ كَمَا سَعَى أَوَّلًا لِلْعُمْرَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْعَ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ؟ لَكِنْ عَنْ أَحْمَد رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَا يَحْتَاجُ إلَى سَعْيٍ ثَانٍ بَلْ يَكْفِيهِ السَّعْيُ الْأَوَّلُ كَمَا يَكْفِي الْمُفْرِدَ وَكَمَا يَكْفِي الْقَارِنَ . وَسَبَبُ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد أَنَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ : " أَنَّهُمْ لَمْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا الطَّوَافَ الْأَوَّلَ " وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ : " أَنَّهُمْ طَافُوا بَعْدَ التَّعْرِيفِ " فَإِنَّهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَتَوَجَّهُ هَذَا الْإِلْزَامُ ؛ لَكِنْ لَا يَبْقَى بَيْنَ الْقَارِنِ وَبَيْنَ الْمُتَمَتِّعِ الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ - فَلَمْ يَحِلَّ لِأَجْلِهِ - فَرْقٌ إلَّا أَنَّ الْقَارِنَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْمُتَمَتِّعُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ إدْخَالُهُ الْحَجَّ عَلَيْهَا بَعْدَ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ كَإِدْخَالِهِ قَبْلَ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ سَعْيًا ثَانِيًا : لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ الَّذِي لَمْ يَحِلَّ فَرْقٌ أَصْلًا . وَعَلَى هَذَا فَإِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى أَفْضَلُ مِنْ أَنْ

يُحْرِمَ بِهِ بَعْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَقَدْ صَحَّ { عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِهِمَا جَمِيعًا وَقَالَ : لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا } وَمَنْ لَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ إلَّا بَعْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ لَا يَقُولُ هَذَا . وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَفْرَدَ الْحَجَّ وَلَمْ يَعْتَمِرْ مَعَ حَجَّتِهِ فَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ - الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّهُ اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ وَأَنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ : عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ وَعُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ وَعُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ وَالْعُمْرَةَ الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ - تَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ . وَكَذَلِكَ { قول حَفْصَةَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : مَا بَالُ النَّاسِ حَلُّوا . وَلَمْ تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِك ؟ فَقَالَ : إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي وَقَلَّدْت هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ } .
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : أَيُّمَا أَفْضَلُ ؟ .
فَالتَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّهُ إذَا أَفْرَدَ الْحَجَّ بِسَفْرَةِ وَالْعُمْرَةَ بِسَفْرَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ الْخَاصِّ بِسَفْرَةِ وَاحِدَةٍ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَأَبُو حَنِيفَةَ مَعَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ . وَهَذَا هُوَ الْإِفْرَادُ الَّذِي فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ . وَكَانَ عُمَرُ يَخْتَارُهُ لِلنَّاسِ وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ فِي قَوْلِهِ " . { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } قَالَا : إتْمَامُهُمَا أَنْ تُهِلَّ بِهِمَا مِنْ دويرة أَهْلِك . وَقَدْ { قال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ فِي عُمْرَتِهَا : أَجْرُك عَلَى قَدْرِ

نَصَبِك } . وَإِذَا رَجَعَ الْحَاجُّ إلَى دويرة أَهْلِهِ فَأَنْشَأَ مِنْهَا الْعُمْرَةَ أَوْ اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَقَامَ حَتَّى يَحُجَّ أَوْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِهِ وَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ حَجَّ فَهُنَا قَدْ أَتَى بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النسكين مِنْ دويرة أَهْلِهِ . وَهَذَا أَتَى بِهِمَا عَلَى الْكَمَالِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ . وَأَمَّا إذَا أَفْرَدَ الْحَجَّ وَاعْتَمَرَ عَقِبَ ذَلِكَ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ فَهَذَا الْإِفْرَادُ لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ بَلْ وَلَا غَيْرِهِمْ . كَيْفَ يَكُونُ هُوَ الْأَفْضَلُ مِمَّا فَعَلُوهُ مَعَهُ بِأَمْرِهِ ؟ بَلْ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ أَحَدًا اعْتَمَرَ مِنْ مَكَّةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عَائِشَةَ لَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَلَا قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا ؛ بَلْ هَذِهِ الْعُمْرَةُ لَا تُجْزِئُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَعِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهَا مُتْعَةٌ . وَتُكْرَهُ الْعُمْرَةُ فِي ذِي الْحَجَّةِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعَ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ إذَا حَجَّتْ صَبَرَتْ حَتَّى يَدْخُلَ الْمُحَرَّمُ ثُمَّ تُحْرِمُ مِنْ الْجُحْفَةِ فَلَمْ تَكُنْ تَعْتَمِرُ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ وَلَا فِي ذِي الْحِجَّةِ . وَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ النسكين بِسَفْرَةِ وَاحِدَةٍ وَقَدِمَ مَكَّةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ . فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ أَنْ يَحُجَّ وَيَعْتَمِرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْحِلِّ ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ وَلَمْ يَسُوقُوا الْهَدْيَ أَمَرَهُمْ جَمِيعَهُمْ أَنْ يَحُجُّوا هَكَذَا : أَمَرَهُمْ إذَا طَافُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يُحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا مُتْعَةً فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَمَرَهُمْ أَنْ يُحْرِمُوا بِالْحَجِّ وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ وَحَجُّوا مَعَهُ كَذَلِكَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ بَعْدَهُ وَلَا حَجَّةَ تَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ حَجَّةِ أَفْضَلِ الْأُمَّةِ " مَعَ أَفْضَلِ الْخَلْقِ بِأَمْرِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ حَجُّ مَنْ حَجَّ مُفْرِدًا وَاعْتَمَرَ عَقِبَ ذَلِكَ أَوْ قَارِنًا وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ أَفْضَلَ مِنْ حَجِّ هَؤُلَاءِ مَعَهُ بِأَمْرِهِ وَكَيْفَ يَنْقُلُهُمْ عَنْ الْأَفْضَلِ إلَى الْمَفْضُولِ وَأَمْرُهُ أَبْلَغُ مِنْ فِعْلِهِ . وَأَيْضًا ؛ فَإِنَّ مَنْ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ قَدْ نَوَى الْحَجَّ فَإِنَّهُ يَنْوِي التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ كَمَا يَنْوِي الْمُغْتَسِلُ إذَا بَدَأَ بِالتَّوَضُّؤِ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ الْوُضُوءَ الَّذِي هُوَ بَعْضُ الْغُسْلِ فَيَكُونُ تَحْرِيمَانِ وَتَحْلِيلَانِ كَمَا لِلْمُفْرِدِ تَحْلِيلَانِ وَتَحْرِيمَانِ فَيَكُونُ لَهُ هَدْيٌ كَمَا لِلْقَارِنِ هَدْيٌ وَالْهَدْيُ هَدْيُ نُسُكٍ لَا هَدْيُ جبران فَإِنَّ هَدْيَ الْجُبْرَانِ - الَّذِي يَكُونُ لِتَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ - لَا يَحِلُّ سَبَبُهُ إلَّا مَعَ الْعُذْرِ . فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ بِلَا عُذْرٍ أَوْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِهِ بِلَا عُذْرٍ وَيَأْتِي بِدَمِ . وَهَذَا لَهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِلَا عُذْرٍ وَيَأْتِيَ بِالْهَدْيِ فَعُلِمَ أَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ . وَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ أَنَّهُ يَأْكُلُ كَمَا أَكَلَ

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَدْيِهِ وَقَدْ كَانَ قَارِنًا وَكَمَا ذَبَحَ عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَةَ وَأَطْعَمَهُنَّ مِنْ ذَلِكَ وَكُنَّ مُتَمَتِّعَاتٍ . وَأَيْضًا فَلِمَنْ يَأْتِي بِالْعِبَادَتَيْنِ : إذَا كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا أَنْ يَبْدَأَ بِالصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى كَمَا يَتَوَضَّأُ الْمُغْتَسِلُ ثُمَّ يُتِمُّ غُسْلَهُ وَكَمَا أَمَرَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ فَإِذَا اعْتَمَرَ ثُمَّ أَتَى بِالْحَجِّ كَانَ مُوَافِقًا لِهَذَا ؛ بِخِلَافِ مَنْ حَجَّ فَإِنَّهُ أَتَى بِالْغَايَةِ . فَإِذَا اعْتَمَرَ عَقِبَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي عُمْرَتِهِ عَمَلٌ زَائِدٌ . وَإِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ جَازَ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ . وَأَمَّا إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ لَمْ يَجُزْ عَلَى الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ زِيَادَةَ شَيْءٍ وَإِنَّمَا جَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ : فِي أَنَّ عَمَلَ الْقَارِنِ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرِدِ . وَمَنْ سَافَرَ سَفْرَةً وَاحِدَةً وَاعْتَمَرَ فِيهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُسَافِرَ أُخْرَى لِلْحَجِّ فَتَمَتُّعُهُ أَيْضًا أَفْضَلُ لَهُ مِنْ الْحَجِّ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا قَدْ اعْتَمَرُوا قَبْلَ ذَلِكَ وَمَعَ هَذَا فَأَمَرَهُمْ بِالتَّمَتُّعِ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِفْرَادِ وَلِأَنَّ هَذَا يَجْمَعُ بَيْنَ عُمْرَتَيْنِ وَحَجَّةٍ وَهَدْيٍ وَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ .

وَكَذَلِكَ لَوْ تَمَتَّعَ ثُمَّ سَافَرَ مِنْ دويرة أَهْلِهِ لِلْمُتْعَةِ فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ سَفْرَةٍ بِعُمْرَةِ وَسَفْرَةٍ بِحَجَّةِ مُفْرَدَةٍ وَهَذَا الْمُفْرِدُ أَفْضَلُ مِنْ سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ يَتَمَتَّعُ فِيهَا . وَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ النسكين بِسَفْرَةِ وَاحِدَةٍ وَيَسُوقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَرَنَ وَسَاقَ الْهَدْيَ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ مَعَ سَوْقِ الْهَدْيِ يَكُونُ التَّمَتُّعُ أَفْضَلَ لَهُ . قِيلَ لَهُ : مَعَ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ إذَا أَحْرَمَ قَبْلَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ إحْرَامُهُ وَوَقَعَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ عَنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَإِذَا أَحْرَمَ بَعْدَهُمَا لَمْ يَكُنْ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَاقِعًا إلَّا عَنْ الْعُمْرَةِ . وَوُقُوعُ الْأَفْعَالِ عَنْ حَجٍّ مَعَ عُمْرَةٍ خَيْرٌ مِنْ وُقُوعِهَا عَنْ عُمْرَةٍ لَا يَتَحَلَّلُ فِيهَا إلَى أَنْ يَحُجَّ ؛ لَكِنَّهُ قَدْ يَقُولُ : إذَا تَأَخَّرَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ لَزِمَهُ سَعْيٌ ثَانٍ وَهَذَا زِيَادَةُ عَمَلٍ لَكِنْ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ كَمَا تَقَدَّمَ . وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ لَتَمَتَّعْت مَعَ سَوْقِ الْهَدْيِ بَلْ قَالَ : " لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً " فَجَعَلَ الْمَطْلُوبَ مُتْعَةً بِلَا سَوْقِ هَدْيٍ وَهَذَا

دَلِيلٌ ثَانٍ عَلَى أَنَّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ لَا يَتَمَتَّعُ بَلْ يَقْرِنُ . وَإِذَا كَانَ الْقِرَانُ وَالتَّمَتُّعُ مَعَ سَوْقِ الْهَدْيِ سَوَاءً ارْتَفَعَ النِّزَاعُ .
فَإِنْ قِيلَ : أَيُّمَا أَفْضَلُ أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ وَيَقْرِنَ أَوْ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِلَا سَوْقِ هَدْيٍ وَيَحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ ؟ . قِيلَ : هَذَا مَوْضِعُ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّهُ قَدْ تَعَارَضَ دَلِيلَانِ شَرْعِيَّانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَرَنَ وَسَاقَ الْهَدْيَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَلَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَخْتَارَ لِنَبِيِّهِ الْمَفْضُولَ دُونَ الْأَفْضَلِ فَإِنَّ خَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَالْثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْحَالُ هُوَ وَقْتَ إحْرَامِهِ لَكَانَ أَحْرَمَ بِعُمْرَةِ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ بِقَوْلِهِ : " لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت " فَاَلَّذِي اسْتَدْبَرَهُ هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ وَمَضَى فَصَارَ خَلْفَهُ . وَاَلَّذِي يَسْتَقْبِلُهُ هُوَ الَّذِي لَمْ يَفْعَلْهُ بَعْدُ بَلْ هُوَ أَمَامَهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِمَا اسْتَدْبَرَهُ مِنْ أَمْرِهِ - وَهُوَ الْإِحْرَامُ - لَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ دُونَ هَدْيٍ وَهُوَ لَا يَخْتَارُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ الْأَفْضَلِ إلَى الْمَفْضُولِ بَلْ إنَّمَا يَخْتَارُ الْأَفْضَلَ . وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ حِينَئِذٍ أَنَّ التَّمَتُّعَ بِلَا هَدْيٍ أَفْضَلُ لَهُ . وَلَكِنْ مَنْ نَصَرَ الْأَوَّلَ يُجِيبُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ هَذَا لِأَجْلِ أَنَّ

الَّذِي فَعَلَهُ مَفْضُولٌ بَلْ لِأَنَّ أَصْحَابَهُ شَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ مَعَ بَقَائِهِ مُحْرِمًا فَكَانَ يَخْتَارُ مُوَافَقَتَهُمْ لِيَفْعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ عَنْ انْشِرَاحٍ وَمُوَافَقَةٍ . وَقَدْ يَنْتَقِلُ عَنْ الْأَفْضَلِ إلَى الْمَفْضُولِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُوَافَقَةِ وَائْتِلَافِ الْقُلُوبِ كَمَا { قال لِعَائِشَةَ : لَوْلَا أَنَّ قَوْمَك حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَنَقَضْت الْكَعْبَةَ وَلَجَعَلْت لَهَا بَابَيْنِ } فَهُنَا تَرْكُ مَا هُوَ الْأَوْلَى ؛ لِأَجْلِ الْمُوَافَقَةِ وَالتَّأْلِيفِ الَّذِي هُوَ الْأَدْنَى مِنْ هَذَا الْأَوْلَى فَكَذَلِكَ اخْتَارَ الْمُتْعَةَ بِلَا هَدْيٍ . وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَكُونُ اللَّهُ قَدْ جَمَعَ لَهُ بَيْنَ أَنْ فَعَلَ الْأَفْضَلَ وَبَيْنَ أَنْ أَعْطَاهُ بِمَا يَرَاهُ مِنْ الْمُوَافَقَةِ لَهُمْ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَضْلِ فَاجْتَمَعَ لَهُ الْأَجْرَانِ وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِحَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَيِّنُ ذَلِكَ : أَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِ سَوْقِهِ وَقَدْ سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فَكَيْفَ يَكُونُ تَرْكُ ذَلِكَ أَفْضَلَ فِي نَفْسِهِ بِمُجَرَّدِ التَّحَلُّلِ وَالْإِحْرَامِ ثَانِيًا وَسَوْقُ الْهَدْيِ فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللَّهِ مَا لَيْسَ فِي تَكَرُّرِ التَّحَلُّلِ وَالتَّحْرِيمِ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إذَا سَاقَ الْهَدْيَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ جَمِيعِ مَنْ لَمْ يَسُقْ وَالْقَارِنُ الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ أَفْضَلُ مِنْهُمَا . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقَارِنَ وَالْمُتَمَتِّعَ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْهَدْيَ الَّذِي يَسُوقُهُ

مِنْ الْحِلِّ أَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا يَشْتَرِيهِ مِنْ الْحَرَمِ بَلْ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ لَا يَكُونُ هَدْيًا إلَّا بِمَا أُهْدِيَ مِنْ الْحِلِّ إلَى الْحَرَمِ . وَحِينَئِذٍ فَسَوْقُهُ مِنْ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ مِنْ سَوْقِهِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ فَكَيْفَ يُجْعَلُ الْهَدْيُ الَّذِي لَمْ يُسَقْ أَفْضَلَ مِمَّا سِيقَ فَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ مَعَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ أَفْضَلُ مِنْ تَمَتُّعٍ لَا سَوْقَ فِيهِ . وَأَمَّا سُؤَالُ السَّائِلِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ : هَلْ اعْتَمَرَ مِنْ مَكَّةَ ؟ فَلَمْ يَعْتَمِرْ أَحَدٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إلَّا عَائِشَةَ خَاصَّةً وَعَائِشَةُ نَفْسُهَا كَانَتْ إذَا حَجَّتْ تَمْكُثُ إلَى أَنْ يُهِلَّ الْمُحَرَّمُ ثُمَّ تَخْرُجُ إلَى الْجُحْفَةِ فَتُحْرِمُ مِنْهَا بِعُمْرَةِ .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً وَفِي لَفْظٍ : تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي } وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ : { الْحَجُّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ } فَبَيَّنَ لَهَا أَنَّ اعْتِمَارهَا فِي رَمَضَانَ تَقُومُ مَقَامَ الْحَجَّةِ الَّتِي تَخَلَّفَتْ عَنْهَا وَالْحَجَّةُ كَانَتْ مِنْ الْمَدِينَةِ وَالْعُمْرَةُ كَانَتْ مِنْ الْمَدِينَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ هُوَ شَهْرُ الصِّيَامِ وَهُوَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ . وَمَنْ حَجَّ مِنْ عَامِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ الْمُتَمَتِّعِ وَالْمُتَمَتِّعُ لَا بُدَّ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فَلَمَّا عَدَلَ عَنْ الْإِحْرَامِ

بِالْحَجِّ إلَى الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ تَرَفَّهَ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ فَصَارَ الْهَدْيُ قَائِمًا مَقَامَ هَذَا التَّرَفُّهِ . وَلِهَذَا ظَنَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ هَدْيَ الْمُتَمَتِّعِ هَدْيُ جبران وَمَنَعُوهُ مِنْ الْأَكْلِ مِنْهُ وَجَعَلُوا وُجُوبَ الْهَدْيِ فِي الْمُتَمَتِّعِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَرْجُوحٌ فَإِنَّ النُّسُكَ السَّالِمَ عَنْ جبران أَفْضَلُ مِنْ النُّسُكِ الْمَجْبُورِ . فَقَالَ لَهُمْ الْآخَرُونَ : دَمُ الْجُبْرَانِ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَفْعَلَ سَبَبَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَهُنَا يَجُوزُ التَّمَتُّعُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ هَذَا دَمَ جبران . نَعَمْ قَدْ يُقَالُ التَّمَتُّعُ رُخْصَةٌ وَالرُّخْصَةُ قَدْ تَكُونُ أَفْضَلَ كَمَا أَنَّ الْقَصْرَ أَفْضَلُ مِنْ التَّرْبِيعِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَاتِّفَاقِ السَّلَفِ وَكَذَلِكَ " الْفِطْرُ وَالْمَسْحُ " عَلَى أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الْفِطْرَ هُوَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِهِ وَفِي إجْزَاءِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّ الصَّائِمَ فِي السَّفَرِ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِهِ وَهُوَ أَفْضَلُ فَمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ } وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { أَنَّ حَمْزَةَ

بْنَ عَمْرٍو قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي رَجُلٌ أُكْثِرُ الصِّيَامَ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ ؟ فَقَالَ : إنْ أَفْطَرْت فَحَسَنٌ وَإِنْ صُمْت فَلَا بَأْسَ } فَحَسَّنَ الْفِطْرَ وَرَفَعَ الْبَأْسَ عَنْ الصَّوْمِ . وَهَكَذَا " الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ " فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا لَبِسَ الْخُفَّيْنِ عَلَى طَهَارَةٍ ثُمَّ أَحْدَثَ أَنَّهُ يَنْزِعُهُمَا وَيَغْسِلُ رِجْلَيْهِ بَلْ كَانَ يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا وَهَذَا مَوْرِدُ النِّزَاعِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ خُفَّانِ فَفَرْضُهُ الْغَسْلُ وَلَا يُشْرَعُ لَهُ أَنْ يَلْبَسَ الْخُفَّيْنِ لِأَجْلِ الْمَسْحِ بَلْ صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا لَبِسَهُمَا لِحَاجَتِهِ فَهَلْ الْأَفْضَلُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا أَوْ يَخْلَعَهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا عَلَى السَّوَاءِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمَسْحَ أَفْضَلُ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ . وَأَيْضًا فَاَلَّذِي يَحُجُّ مُتَمَتِّعًا فَعَلَ مَا يُشْرَعُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَمَتِّعِ فَفِي حَجِّهِ نِزَاعٌ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ التَّمَتُّعَ وَاجِبٌ وَأَنَّ كُلَّ مَنْ طَافَ وَسَعَى وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَإِنَّهُ يَحِلُّ مِنْ إحْرَامِهِ سَوَاءٌ قَصَدَ التَّحَلُّلَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ وَلَيْسَ لِأَحَدِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنْ يَحُجَّ إلَّا مُتَمَتِّعًا وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ . وَهُوَ مَذْهَبُ الشِّيعَةِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَإِذَا كَانَ التَّمَتُّعُ

مُخْتَلَفًا فِي وُجُوبِهِ مُتَّفَقًا عَلَى جَوَازِهِ وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَمْ يُتَّفَقْ عَلَى جَوَازِهِ كَانَ الْحَجُّ الَّذِي اُتُّفِقَ عَلَى جَوَازِهِ أَوْلَى . وَلَا يُعَارِضُ هَذَا أَنَّ بَعْضَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانَ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ ، وَكَانَ بَعْضُ الْوُلَاةِ يَضْرِبُ عَلَيْهَا فَعُلَمَاءُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ قَدْ قِيلَ : إنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُحَرِّمُونَ الْمُتْعَةَ بَلْ كَانُوا يَخْتَارُونَ أَنْ يَعْتَمِرَ النَّاسُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَيْ لَا يَزَالَ الْبَيْتُ مَعْمُورًا بِالْحُجَّاجِ وَالْعُمَّارِ . وَمَنْ قَدَّرَ أَنَّهُ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ فَهَذَا قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِكِتَابِ اللَّهِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ .
وَأَمَّا تَنَازُعُ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ فَسْخِ الْمُفْرِدِ وَالْقَارِنِ وَانْتِقَالِهِمَا إلَى التَّمَتُّعِ . فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : إنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَخْصُوصًا بِاَلَّذِينَ حَجُّوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ بَعْضُهُمْ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ جَوَازَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ . وَقَالَ آخَرُونَ : هَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ غَيْرَ مَرَّةٍ بَلْ عُمَرُهُ كَانَتْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ : عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ كَانَتْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَعُمْرَةُ الْقَضَاءِ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ كَانَتْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَعُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ كَانَتْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ أَمَا كَانَ فِي هَذَا مَا يُبَيِّنُ جَوَازَ الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أنهم لَمَّا كَانُوا بِذِي الحليفة . قَالَ : مَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةِ وَحَجَّةٍ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةِ

فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةِ فَلْيَفْعَلْ } فَقَدْ صَرَّحَ لَهُمْ بِجَوَازِ الثَّلَاثَةِ وَفِي هَذَا بَيَانٌ وَاضِحٌ لِجَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ . وَأَيْضًا : فَاَلَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ مُتَمَتِّعِينَ كَانَ فِي حَجِّهِمْ مَا يُبَيِّنُ الْجَوَازَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ جَمِيعَ مَنْ حَجَّ مَعَهُ بِالتَّحَلُّلِ مِنْ إحْرَامِهِ وَأَنْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ تَمَتُّعًا بِمُجَرَّدِ بَيَانِ جَوَازِ ذَلِكَ وَلَا يَنْقُلُهُمْ عَنْ الْأَفْضَلِ إلَى الْمَفْضُولِ فَعُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا نَقَلَهُمْ إلَى الْأَفْضَلِ وَقَدْ ثَبَتَ { عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : عُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ : بَلْ لِلْأَبَدِ دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . وَأَيْضًا : فَإِذَا كَانَ الْكُفَّارُ لَمْ يَكُونُوا يَتَمَتَّعُونَ وَلَا يَعْتَمِرُونَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَدَ مُخَالَفَةَ الْكُفَّارِ كَانَ هَذَا مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ كَمَا فَعَلَ فِي وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُعَجِّلُونَ الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَيُؤَخِّرُونَ الْإِفَاضَةَ مِنْ جَمْعٍ إلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ . فَخَالَفَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : { خَالَفَ هَدْيُنَا هَدْيَ الْمُشْرِكِينَ } فَأَخَّرَ الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَةَ إلَى أَنْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَعَجَّلَ الْإِفَاضَةَ مِنْ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَهَذَا هُوَ السُّنَّةُ لِلْمُسْلِمِينَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَهَكَذَا مَا فَعَلَهُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْفَسْخِ إنْ كَانَ قَصَدَ بِهِ مُخَالَفَةَ الْمُشْرِكِينَ فَهَذَا هُوَ السُّنَّةُ وَإِنْ فَعَلَهُ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ وَهُوَ سُنَّةٌ فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ الْفَسْخُ أَفْضَلَ ؛ اتِّبَاعًا لِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
وَأَمَّا الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ فَلَا يُقَبَّلُ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ وَأَمَّا سَائِرُ جَوَانِبِ الْبَيْتِ وَالرُّكْنَانِ الشَّامِيَّانِ وَمَقَامُ إبْرَاهِيمَ فَلَا تُقَبَّلُ وَلَا يُتَمَسَّحُ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فإذا لَمْ يَكُنْ التَّمَسُّحُ بِذَلِكَ وَتَقْبِيلُهُ مُسْتَحَبًّا فَأَوْلَى أَلَّا يُقَبَّلَ وَلَا يُتَمَسَّحَ بِمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ .
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ قَبْرِهِ أَنْ يُقَبِّلَ الْحُجْرَةَ وَلَا يَتَمَسَّحَ بِهَا لِئَلَّا يُضَاهِيَ بَيْتُ الْمَخْلُوقِ بَيْتَ الْخَالِقِ وَلِأَنَّهُ { قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ } وَقَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا } . وَقَالَ { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } فَإِذَا كَانَ هَذَا دِينَ الْمُسْلِمِينَ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ فَقَبْرُ غَيْرِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يُقَبَّلَ وَلَا يُسْتَلَمَ . وَقَدْ حَكَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا خِلَافًا مَرْجُوحًا وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ الْمُتَّبَعُونَ وَالسَّلَفُ الْمَاضُونَ فَمَا أَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ خِلَافًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ شِهَابِ الدِّينِ عَبْدِ الْحَلِيمِ ابْنِ الْإِمَامِ مَجْدِ الدِّينِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
أَمَّا بَعْدُ : فَقَدْ تَكَرَّرَ السُّؤَالُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ أَكْتُبَ فِي بَيَانِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ غَالِبُ الْحُجَّاجِ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ فَإِنِّي كُنْت قَدْ كَتَبْت مَنْسَكًا فِي أَوَائِلِ عُمْرِي فَذَكَرْت فِيهِ أَدْعِيَةً كَثِيرَةً وَقَلَّدْت فِي الْأَحْكَامِ مَنْ اتَّبَعْته قَبْلِي مِنْ الْعُلَمَاءِ وَكَتَبْت فِي هَذَا مَا تَبَيَّنَ لِي مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْتَصَرًا مُبَيَّنًا وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ .

فَصْلٌ :
أَوَّلُ مَا يَفْعَلُهُ قَاصِدُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إذَا أَرَادَ الدُّخُولَ فِيهِمَا : أَنْ يُحْرِمَ بِذَلِكَ وَقَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ قَاصِدُ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِمَا بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَخْرُجُ إلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَلَهُ أَجْرِ السَّعْيِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يُحْرِمَ بِهَا . وَعَلَيْهِ إذَا وَصَلَ إلَى الْمِيقَاتِ أَنْ يُحْرِمَ . وَالْمَوَاقِيتُ خَمْسَةٌ : ذُو الحليفة وَالْجَحْفَةُ وَقَرْنُ الْمَنَازِلِ ويلملم وَذَاتُ عِرْقٍ { ولما وَقَّتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَوَاقِيتَ قَالَ : هُنَّ لِأَهْلِهِنَّ وَلِمَنْ مَرَّ عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ لِمَنْ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَمَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ دُونَهُنَّ فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْ مَكَّةَ } . فَذُو الحليفة هِيَ أَبْعَدُ الْمَوَاقِيتِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ عَشْرُ مَرَاحِلَ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الطُّرُقِ فَإِنَّ مِنْهَا إلَى مَكَّةَ عِدَّةَ طُرُقٍ وَتُسَمَّى وَادِيَ الْعَقِيقِ وَمَسْجِدُهَا يُسَمَّى مَسْجِدَ الشَّجَرَةِ وَفِيهَا بِئْرٌ تُسَمِّيهَا جُهَّالُ الْعَامَّةِ " بِئْرَ عَلِيٍّ " لِظَنِّهِمْ أَنَّ عَلِيًّا قَاتَلَ الْجِنَّ بِهَا وَهُوَ كَذِبٌ . فَإِنَّ الْجِنَّ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَعَلِيٌّ أَرْفَعُ

قَدْرًا مِنْ أَنْ يَثْبُتَ الْجِنُّ لِقِتَالِهِ وَلَا فَضِيلَةَ لِهَذَا الْبِئْرِ وَلَا مَذَمَّةَ وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْمِيَ بِهَا حَجَرًا وَلَا غَيْرَهُ . وَأَمَّا الْجَحْفَةُ : فَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ نَحْوُ ثَلَاثِ مَرَاحِلَ وَهِيَ قَرْيَةٌ كَانَتْ قَدِيمَةً مَعْمُورَةً وَكَانَتْ تُسَمَّى مهيعة وَهِيَ الْيَوْمَ خَرَابٌ ؛ وَلِهَذَا صَارَ النَّاسُ يُحْرِمُونَ قِبَلَهَا مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي يُسَمَّى رَابِغًا وَهَذَا مِيقَاتٌ لِمَنْ حَجَّ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ : كَأَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَسَائِرِ الْمَغْرِبِ لَكِنْ إذَا اجْتَازُوا بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ - كَمَا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ - أَحْرَمُوا مِنْ مِيقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمُسْتَحَبُّ لَهُمْ بِالِاتِّفَاقِ . فَإِنْ أَخَّرُوا الْإِحْرَامَ إلَى الْجَحْفَةِ فَفِيهِ نِزَاعٌ . وَأَمَّا الْمَوَاقِيتُ الثَّلَاثَةُ فَبَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ نَحْوُ مَرْحَلَتَيْنِ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ إذَا أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ إلَّا بِإِحْرَامِ . وَإِنْ قَصَدَ مَكَّةَ لِلتِّجَارَةِ أَوْ الزِّيَارَةِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْرِمَ وَفِي الْوُجُوبِ نِزَاعٌ . وَمَنْ وَافَى الْمِيقَاتَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ : وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا : التَّمَتُّعُ وَالْإِفْرَادُ وَالْقِرَانُ إنْ شَاءَ أَهَلَّ بِعُمْرَةِ فَإِذَا حَلَّ مِنْهَا أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَهُوَ يَخُصُّ بِاسْمِ التَّمَتُّعِ وَإِنْ شَاءَ أَحْرَمَ بِهِمَا جَمِيعًا أَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ قَبْلَ الطَّوَافِ

وَهُوَ الْقِرَانُ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي اسْمِ التَّمَتُّعِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ وَإِنْ شَاءَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا وَهُوَ الْإِفْرَادُ .
فَصْلٌ :
فِي الْأَفْضَلِ مِنْ ذَلِكَ : فَالتَّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَتَنَوَّعُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْحَاجِّ فَإِنْ كَانَ يُسَافِرُ سَفْرَةً لِلْعُمْرَةِ ، وَلِلْحَجِّ سَفْرَةٌ أُخْرَى أَوْ يُسَافِرُ إلَى مَكَّةَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَعْتَمِرُ وَيُقِيمُ بِهَا حَتَّى يَحُجَّ فَهَذَا الْإِفْرَادُ لَهُ أَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَالْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ لَيْسَ مَسْنُونًا بَلْ مَكْرُوهٌ وَإِذَا فَعَلَهُ فَهَلْ يَصِيرُ مُحَرَّمًا بِعُمْرَةِ أَوْ بِحَجِّ فِيهِ نِزَاعٌ . وَأَمَّا إذَا فَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ غَالِبُ النَّاسِ وَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَقْدَمُ مَكَّةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ : وَهُنَّ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَهَذَا إنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ أَفْضَلُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ فَالتَّحَلُّلُ مِنْ إحْرَامِهِ بِعُمْرَةِ أَفْضَلُ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنُّقُولِ الْمُسْتَفِيضَةِ الَّتِي لَمْ يُخْتَلَفْ فِي صِحَّتِهَا أَهْلُ

الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ . هُوَ وَأَصْحَابُهُ أَمَرَهُمْ جَمِيعَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَبْقَى عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ يَوْمَ النَّحْرِ { وكان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ هُوَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَرَنَ هُوَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فَقَالَ لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا } - . وَلَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ الْحَجِّ أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عَائِشَةَ وَحْدَهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ قَدْ حَاضَتْ فَلَمْ يُمْكِنْهَا الطَّوَافُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَقْضِي الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ } فَأَمَرَهَا أَنْ تُهِلَّ بِالْحَجِّ وَتَدَعَ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُتَمَتِّعَةً ثُمَّ إنَّهَا طَلَبَتْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْمِرَهَا فَأَرْسَلَهَا مَعَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَاعْتَمَرَتْ مِنْ التَّنْعِيمِ وَالتَّنْعِيمُ هُوَ أَقْرَبُ الْحِلِّ إلَى مَكَّةَ وَبِهِ الْيَوْمَ الْمَسَاجِدُ الَّتِي تُسَمَّى " مَسَاجِدَ عَائِشَةَ " وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا بُنِيَتْ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَحْرَمَتْ مِنْهُ عَائِشَةُ ؟ وَلَيْسَ دُخُولُ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ وَلَا الصَّلَاةُ فِيهَا - لِمَنْ اجْتَازَ بِهَا مُحْرِمًا - لَا فَرْضًا وَلَا سُنَّةً بَلْ قَصْدُ ذَلِكَ وَاعْتِقَادُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ لَكِنْ مَنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ لِيَعْتَمِرَ فَإِنَّهُ إذَا دَخَلَ وَاحِدًا مِنْهَا وَصَلَّى فِيهِ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ

فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ . وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ أَحَدٌ يَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ لِيَعْتَمِرَ إلَّا لِعُذْرِ لَا فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِ رَمَضَانَ وَاَلَّذِينَ حَجُّوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ اعْتَمَرَ بَعْدَ الْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ إلَّا عَائِشَةَ كَمَا ذُكِرَ . وَلَا كَانَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَاَلَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الْإِفْرَادَ مِنْ الصَّحَابَةِ إنَّمَا اسْتَحَبُّوا أَنْ يَحُجَّ فِي سَفْرَةٍ وَيَعْتَمِرَ فِي أُخْرَى وَلَمْ يَسْتَحِبُّوا أَنَّ يَحُجَّ وَيَعْتَمِرَ عَقِبَ ذَلِكَ عُمْرَةً مَكِّيَّةً بَلْ هَذَا لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ قَطُّ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا نَادِرًا . وَقَدْ تَنَازَعَ السَّلَفُ فِي هَذَا : هَلْ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا عَلَيْهِ دَمٌ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ تُجْزِئُهُ هَذِهِ الْعُمْرَةُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
وَقَدْ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ أَرْبَعَ عُمَرٍ : عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ وَصَلَ إلَى الْحُدَيْبِيَةِ وَالْحُدَيْبِيَةُ وَرَاءَ الْجَبَلِ الَّذِي بِالتَّنْعِيمِ عِنْدَ مَسَاجِدِ عَائِشَةَ عَنْ يَمِينِك وَأَنْتَ دَاخِلٌ إلَى مَكَّةَ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ الْبَيْتِ فَصَالَحَهُمْ وَحَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ وَانْصَرَفَ . وَعُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ اعْتَمَرَ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ . وَعُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ قَاتَلَ الْمُشْرِكِينَ بحنين وحنين مِنْ

نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ مِنْ نَاحِيَةِ الطَّائِفِ ؛ وَأَمَّا بَدْرٌ فَهِيَ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَبَيْنَ مَكَّةَ وَبَيْنَ الْغَزْوَتَيْنِ سِتُّ سِنِينَ وَلَكِنْ قُرِنَتَا فِي الذِّكْرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ فِيهِمَا الْمَلَائِكَةَ لِنَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْقِتَالِ ثُمَّ ذَهَبَ فَحَاصَرَ الْمُشْرِكِينَ بِالطَّائِفِ ثُمَّ رَجَعَ وَقَسَّمَ غَنَائِمَ حنين بالجعرانة فَلَمَّا قَسَّمَ غَنَائِمَ حنين اعْتَمَرَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ دَاخِلًا إلَى مَكَّةَ لَا خَارِجًا مِنْهَا لِلْإِحْرَامِ . وَالْعُمْرَةُ الرَّابِعَةُ مَعَ حَجَّتِهِ فَإِنَّهُ قَرَنَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِسُنَّتِهِ وَبِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ تَمَتَّعَ تَمَتُّعًا حَلَّ فِيهِ بَلْ كَانُوا يُسَمُّونَ الْقِرَانَ تَمَتُّعًا وَلَا نُقِلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ لَمَّا قَرَنَ طَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سعيين .
وَعَامَّةُ الْمَنْقُولِ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي صِفَةِ حَجَّتِهِ لَيْسَتْ بِمُخْتَلِفَةِ . وَإِنَّمَا اشْتَبَهَتْ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مُرَادَهُمْ وَجَمِيعُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ : كَعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ . قَالُوا : إنَّهُ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ . فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادِ أَصَحَّ مِنْ إسْنَادِ الْإِفْرَادِ وَمُرَادُهُمْ بِالتَّمَتُّعِ الْقِرَانُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصِّحَاحِ أَيْضًا . فَإِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ فَإِنْ كَانَ قَارِنًا قَالَ : لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا . وَإِنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا قَالَ لَبَّيْكَ عُمْرَةً مُتَمَتِّعًا بِهَا إلَى الْحَجِّ . وَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا قَالَ : لَبَّيْكَ حَجَّةً

أَوْ قَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَوْجَبْت عُمْرَةً وَحَجًّا أَوْ أَوْجَبْت عُمْرَةً أَتَمَتَّعُ بِهَا إلَى الْحَجِّ أَوْ أَوْجَبْت حَجًّا أَوْ أُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ أُرِيدُهُمَا أَوْ أُرِيدُ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَهْمَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ لَيْسَ فِي ذَلِكَ عِبَارَةٌ مَخْصُوصَةٌ وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ كَمَا لَا يَجِبُ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ بَلْ مَتَى لَبَّى قَاصِدًا لِلْإِحْرَامِ انْعَقَدَ إحْرَامُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ قَبْلَ التَّلْبِيَةِ بِشَيْءِ . وَلَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِذَلِكَ ؟ كَمَا تَنَازَعُوا : هَلْ يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ ؟ وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُشَرِّعْ لِلْمُسْلِمِينَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا كَانَ يَتَكَلَّمُ قَبْلَ التَّكْبِيرِ بِشَيْءِ مِنْ أَلْفَاظِ النِّيَّةِ لَا هُوَ وَلَا أَصْحَابُهُ بَلْ { لَمَّا أَمَرَ ضباعة بِنْتَ الزُّبَيْرِ بِالِاشْتِرَاطِ قَالَتْ : فَكَيْفَ أَقُولُ ؟ قَالَ : قَوْلِي : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ وَمَحِلِّي مِنْ الْأَرْضِ حَيْثُ تَحْبِسُنِي رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُ النَّسَائِي : إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَكَيْفَ أَقُولُ ؟ قَالَ : قَوْلِي : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ : وَمَحِلِّي مِنْ الْأَرْضِ حَيْثُ تَحْبِسُنِي فَإِنَّ لَك عَلَى رَبِّك مَا اسْتَثْنَيْت } وَحَدِيثُ الِاشْتِرَاطِ فِي الصَّحِيحَيْنِ . لَكِنْ الْمَقْصُودُ بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ أَمَرَهَا بِالِاشْتِرَاطِ فِي التَّلْبِيَةِ وَلَمْ

يَأْمُرْهَا أَنْ تَقُولَ قَبْلَ التَّلْبِيَةِ شَيْئًا لَا اشْتِرَاطًا وَلَا غَيْرَهُ { وكان يَقُولُ فِي تَلْبِيَتِهِ لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا } وَكَانَ يَقُولُ لِلْوَاحِدِ مِنْ أَصْحَابِهِ : " بِمَ أَهْلَلْت ؟ " { وقال فِي الْمَوَاقِيتِ : مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ذُو الحليفة وَمُهَلُّ أَهْلِ الشَّامِ الْجَحْفَةُ وَمُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ يلملم وَمُهَلُّ أَهْلِ نَجْدٍ قَرْنُ الْمَنَازِلِ وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتُ عِرْقٍ وَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ } وَالْإِهْلَالُ هُوَ التَّلْبِيَةُ فَهَذَا هُوَ الَّذِي شَرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ التَّكَلُّمَ بِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا تُشْرَعُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ وَيُشْرَعُ التَّكْبِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ . وَلَوْ أَحْرَمَ إحْرَامًا مُطْلَقًا جَازَ فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْقَصْدِ لِلْحَجِّ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَلَا يُعْرَفُ هَذَا التَّفْصِيلُ جَازَ . وَلَوْ أَهَلَّ وَلَبَّى كَمَا يَفْعَلُ النَّاسُ قَاصِدًا لِلنُّسُكِ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا بِلَفْظِهِ وَلَا قَصَدَ بِقَلْبِهِ لَا تَمَتُّعًا وَلَا إفْرَادًا وَلَا قِرَانًا صَحَّ حَجُّهُ أَيْضًا وَفَعَلَ وَاحِدًا مِنْ الثَّلَاثَةِ : فَإِنْ فَعَلَ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ كَانَ حَسَنًا وَإِنْ اشْتَرَطَ عَلَى رَبِّهِ خَوْفًا مِنْ الْعَارِضِ فَقَالَ : وَإِنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتنِي كَانَ حَسَنًا . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ ابْنَةَ عَمِّهِ ضباعة بِنْتَ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْ تَشْتَرِطَ عَلَى رَبِّهَا لَمَّا كَانَتْ شَاكِيَةً فَخَافَ أَنْ يَصُدَّهَا الْمَرَضُ عَنْ الْبَيْتِ وَلَمْ

يَكُنْ يَأْمُرُ بِذَلِكَ كُلَّ مَنْ حَجَّ . وَكَذَلِكَ إنْ شَاءَ الْمُحْرِمُ أَنْ يَتَطَيَّبَ فِي بَدَنِهِ فَهُوَ حَسَنٌ وَلَا يُؤْمَرُ الْمُحْرِمُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ النَّاسَ وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ أَحَدًا بِعِبَارَةِ بِعَيْنِهَا وَإِنَّمَا يُقَالُ : أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ أَوْ يُقَالُ : لَبَّى بِالْحَجِّ لَبَّى بِالْعُمْرَةِ وَهُوَ تَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ : فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ } بِالرَّفْعِ فَالرَّفَثُ اسْمٌ لِلْجِمَاعِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَالْفُسُوقُ اسْمٌ لِلْمَعَاصِي كُلِّهَا وَالْجِدَالُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ هُوَ الْمِرَاءُ فِي أَمْرِ الْحَجِّ . فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْضَحَهُ وَبَيَّنَهُ وَقَطَعَ الْمِرَاءَ فِيهِ كَمَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَمَارَوْنَ فِي أَحْكَامِهِ وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى قَدْ يُفَسَّرُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا وَقَدْ فَسَّرُوهَا بِأَنْ لَا يُمَارِي الْحَاجُّ أَحَدًا وَالتَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْهَ الْمُحْرِمَ وَلَا غَيْرَهُ عَنْ الْجِدَالِ مُطْلَقًا ؛ بَلْ الْجِدَالُ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وَقَدْ يَكُونُ الْجِدَالُ مُحَرَّمًا فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ كَالْجِدَالِ بِغَيْرِ عِلْمٍ . وَكَالْجِدَالِ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ .

وَلَفْظُ ( الْفُسُوقِ ) يَتَنَاوَلُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَخْتَصُّ بِالسِّبَابِ وَإِنْ كَانَ سِبَابُ الْمُسْلِمِ فَسُوقًا فَالْفُسُوقُ يَعُمُّ هَذَا وَغَيْرَهُ . و ( الرَّفَثُ ) هُوَ الْجِمَاعُ وَلَيْسَ فِي الْمَحْظُورَاتِ مَا يُفْسِدُ الْحَجَّ إلَّا جِنْسُ الرَّفَثِ فَلِهَذَا مَيَّزَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفُسُوقِ . وَأَمَّا سَائِرُ الْمَحْظُورَاتِ : كَاللِّبَاسِ وَالطِّيبِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَأْثَمُ بِهَا فَلَا تُفْسِدُ الْحَجَّ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ . وَيَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ إلَّا بِمَا يَعْنِيهِ وَكَانَ شريح إذَا أَحْرَمَ كَأَنَّهُ الْحَيَّةُ الصَّمَّاءُ وَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُحْرِمًا بِمُجَرَّدِ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ قَصْدِ الْحَجِّ وَنِيَّتِهِ فَإِنَّ الْقَصْدَ مَا زَالَ فِي الْقَلْبِ مُنْذُ خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ . وَالتَّجَرُّدُ مِنْ اللِّبَاسِ وَاجِبٌ فِي الْإِحْرَامِ وَلَيْسَ شَرْطًا فِيهِ فَلَوْ أَحْرَمَ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ صَحَّ ذَلِكَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْزِعَ اللِّبَاسَ الْمَحْظُورَ .
فَصْلٌ :
يُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْرِمَ عَقِيبَ صَلَاةٍ : إمَّا فَرْضٍ وَإِمَّا تَطَوُّعٍ إنْ كَانَ

وَقْتَ تَطَوُّعٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَفِي الْآخَرِ إنْ كَانَ يُصَلِّي فَرْضًا أَحْرَمَ عَقِيبَهُ وَإِلَّا فَلَيْسَ لِلْإِحْرَامِ صَلَاةٌ تَخُصُّهُ وَهَذَا أَرْجَحُ . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ لِلْإِحْرَامِ وَلَوْ كَانَتْ نُفَسَاءَ أَوْ حَائِضًا وَإِنْ احْتَاجَ إلَى التَّنْظِيفِ : كَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعَلَ ذَلِكَ . وَهَذَا لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ وَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذِكْرٌ فِيمَا نَقَلَهُ الصَّحَابَةُ لَكِنَّهُ مَشْرُوعٌ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَهَكَذَا يُشْرَعُ لِمُصَلِّي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْرِمَ فِي ثَوْبَيْنِ نَظِيفَيْنِ فَإِنْ كَانَا أَبْيَضَيْنِ فَهُمَا أَفْضَلُ وَيَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ فِي جَمِيعِ أَجْنَاسِ الثِّيَابِ الْمُبَاحَةِ : مِنْ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالصُّوفِ . وَالسُّنَّةُ أَنْ يُحْرِمَ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ سَوَاءٌ كَانَا مَخِيطَيْنِ أَوْ غَيْرَ مَخِيطَيْنِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَلَوْ أَحْرَمَ فِي غَيْرِهِمَا جَازَ إذَا كَانَ مِمَّا يَجُوزُ لُبْسُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ فِي الْأَبْيَضِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَلْوَانِ الْجَائِزَةِ وَإِنْ كَانَ مُلَوَّنًا . وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ فِي نَعْلَيْنِ إنْ تَيَسَّرَ ، وَالنَّعْلُ هِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا : التاسومة فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ لَبِسَ خُفَّيْنِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَهُمَا دُونَ الْكَعْبَيْنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالْقَطْعِ أَوَّلًا ثُمَّ

رَخَّصَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عَرَفَاتٍ فِي لُبْسِ السَّرَاوِيلِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا وَرَخَّصَ فِي لُبْسِ الْخُفَّيْنِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ وَإِنَّمَا رَخَّصَ فِي الْمَقْطُوعِ أَوَّلًا ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْقَطْعِ كَالنَّعْلَيْنِ . وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ مَا دُونَ الْكَعْبَيْنِ : مِثْلَ الْخُفِّ الْمُكَعَّبِ وَالْجُمْجُمِ وَالْمَدَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ وَاجِدًا لِلنَّعْلَيْنِ أَوْ فَاقِدًا لَهُمَا وَإِذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ وَلَا مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا : مِثْلُ الْجُمْجُمِ وَالْمَدَاسِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَلَهُ أَنْ يَلْبَسَ الْخُفَّ وَلَا يَقْطَعَهُ وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَإِنَّهُ يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ وَلَا يَفْتُقُهُ هَذَا أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي الْبَدَلِ فِي عَرَفَاتٍ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ . وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ فَلَهُ أَنْ يَلْتَحِفَ بِالْقَبَاءِ وَالْجُبَّةِ وَالْقَمِيصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَتَغَطَّى بِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ عَرْضًا وَيَلْبَسُهُ مَقْلُوبًا يَجْعَلُ أَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ وَيَتَغَطَّى بِاللِّحَافِ وَغَيْرِهِ ؛ وَلَكِنْ لَا يُغَطِّي رَأْسَهُ إلَّا لِحَاجَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى الْمُحْرِمَ أَنْ يَلْبَسَ الْقَمِيصَ وَالْبُرْنُسَ وَالسَّرَاوِيلَ وَالْخُفَّ وَالْعِمَامَةَ وَنَهَاهُمْ أَنْ يُغَطُّوا رَأْسَ الْمُحْرِمِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَمَرَ مَنْ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ أَنْ يَنْزِعَهَا عَنْهُ فَمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فَهُوَ فِي مَعْنَى مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا كَانَ فِي مَعْنَى الْقَمِيصِ

فَهُوَ مِثْلُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَلْبَسَ الْقَمِيصَ لَا بِكُمِّ وَلَا بِغَيْرِ كُمٍّ وَسَوَاءٌ أَدْخَلَ فِيهِ يَدَيْهِ أَوْ لَمْ يَدْخُلْهُمَا وَسَوَاءٍ كَانَ سَلِيمًا أَوْ مَخْرُوقًا وَكَذَلِكَ لَا يَلْبَسُ الْجُبَّةَ وَلَا الْقَبَاءَ الَّذِي يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِيهِ وَكَذَلِكَ الدِّرْعُ الَّذِي يُسَمَّى : ( عِرْق جين وَأَمْثَالُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَأَمَّا إذَا طَرَحَ الْقَبَاءَ عَلَى كَتِفَيْهِ مِنْ غَيْرِ إدْخَالِ يَدَيْهِ فَفِيهِ نِزَاعٌ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ : لَا يَلْبَسُ . وَالْمَخِيطُ مَا كَانَ مِنْ اللِّبَاسِ عَلَى قَدْرِ الْعُضْوِ وَكَذَلِكَ لَا يَلْبَسُ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْخُفِّ : كَالْمُوقِ وَالْجَوْرَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَلَا يَلْبَسُ مَا كَانَ فِي مَعْنَى السَّرَاوِيلِ : كَالتَّبَّانِ وَنَحْوِهِ وَلَهُ أَنْ يَعْقِدَ مَا يَحْتَاجُ إلَى عَقْدِهِ كَالْإِزَارِ وَهِمْيَانِ النَّفَقَةِ وَالرِّدَاءِ لَا يَحْتَاجُ إلَى عَقْدِهِ فَلَا يَعْقِدُهُ فَإِنْ احْتَاجَ إلَى عَقْدِهِ فَفِيهِ نِزَاعٌ وَالْأَشْبَهُ جَوَازُهُ حِينَئِذٍ . وَهَلْ الْمَنْعُ مِنْ عَقْدِهِ مَنْعُ كَرَاهَةٍ أَوْ تَحْرِيمٍ فَفِيهِ نِزَاعٌ وَلَيْسَ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ دَلِيلٌ إلَّا مَا نُقِلَ عَنْ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ عَقْدَ الرِّدَاءِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمُتَّبِعُونَ لِابْنِ عُمَرَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ . وَأَمَّا الرَّأْسُ فَلَا يُغَطِّيهِ لَا بِمَخِيطِ وَلَا غَيْرِهِ فَلَا يُغَطِّيهِ بِعِمَامَةِ وَلَا قَلَنْسُوَةٍ وَلَا كُوفِيَّةٍ وَلَا ثَوْبٍ يَلْصَقُ بِهِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . وَلَهُ أَنْ

يَسْتَظِلَّ تَحْتَ السَّقْفِ وَالشَّجَرِ وَيَسْتَظِلَّ فِي الْخَيْمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِهِمْ وَأَمَّا الِاسْتِظْلَالُ بِالْمَحْمَلِ : فِي حَالِ السَّيْرِ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَالْأَفْضَلُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُضَحِّيَ لِمَنْ أَحْرَمَ لَهُ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَحُجُّونَ وَقَدْ رَأَى ابْنُ عُمَرَ رَجُلًا ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَقَالَ : أَيُّهَا الْهَرَمُ أَضْحِ لِمَنْ أَحْرَمْت لَهُ . وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَكْرَهُونَ الْقِبَابَ عَلَى الْمَحَامِلِ وَهِيَ الْمَحَامِلُ الَّتِي لَهَا رَأْسٌ وَأَمَّا الْمَحَامِلُ الْمَكْشُوفَةُ فَلَمْ يَكْرَهَا إلَّا بَعْضُ النُّسَّاكِ وَهَذَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ . وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا عَوْرَةٌ فَلِذَلِكَ جَازَ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ الثِّيَابَ الَّتِي تَسْتَتِرُ بِهَا وَتَسْتَظِلُّ بِالْمَحْمَلِ لَكِنْ نَهَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَنْتَقِبَ أَوْ تَلْبَسَ الْقُفَّازَيْنِ وَالْقُفَّازَانِ : غِلَافٌ يُصْنَعُ لِلْيَدِ كَمَا يَفْعَلُهُ حَمَلَةُ الْبُزَاةِ وَلَوْ غَطَّتْ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا بِشَيْءِ لَا يَمَسُّ الْوَجْهَ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ يَمَسُّهُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَيْضًا . وَلَا تُكَلَّفُ الْمَرْأَةُ أَنْ تُجَافِيَ سُتْرَتَهَا عَنْ الْوَجْهِ لَا بِعُودِ وَلَا بِيَدِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَّى بَيْنَ وَجْهِهَا وَيَدَيْهَا وَكِلَاهُمَا كَبَدَنِ الرَّجُلِ لَا كَرَأْسِهِ . وَأَزْوَاجُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ يُسْدِلْنَ عَلَى وُجُوهِهِنَّ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ الْمُجَافَاةِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا " وَإِنَّمَا هَذَا قَوْلُ بَعْضِ السَّلَفِ لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهَا أَنْ تَنْتَقِبَ أَوْ تَلْبَسَ الْقُفَّازَيْنِ .

كَمَا نَهَى الْمُحْرِمَ أَنْ يَلْبَسَ الْقَمِيصَ وَالْخُفَّ مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتُرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَالْبُرْقُعُ أَقْوَى مِنْ النِّقَابِ . فَلِهَذَا يُنْهَى عَنْهُ بِاتِّفَاقِهِمْ وَلِهَذَا كَانَتْ الْمُحْرِمَةُ لَا تَلْبَسُ مَا يُصْنَعُ لِسَتْرِ الْوَجْهِ كَالْبُرْقُعِ وَنَحْوِهِ . فَإِنَّهُ كَالنِّقَابِ . وَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَلْبَسَ شَيْئًا مِمَّا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ إلَّا لِحَاجَةِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلصَّائِمِ أَنْ يُفْطِرَ إلَّا لِحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ مِثْلُ الْبَرْدِ الَّذِي يُخَافُ أَنْ يُمْرِضَهُ إذَا لَمْ يُغَطِّ رَأْسَهُ أَوْ مِثْلَ مَرَضٍ نَزَلَ بِهِ يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ فَيَلْبَسُ قَدْرَ الْحَاجَةِ فَإِذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ نَزَعَ .
وَعَلَيْهِ أَنْ يَفْتَدِيَ : إمَّا بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَإِمَّا بِنُسُكِ شَاةٍ أَوْ بِإِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ مُدٍّ مِنْ بُرٍّ وَإِنْ أَطْعَمَهُ خُبْزًا جَازَ وَيَكُونُ رِطْلَيْنِ بِالْعِرَاقِيِّ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ رِطْلٍ بِالدِّمَشْقِيِّ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَأْدُومًا وَإِنْ أَطْعَمَهُ مِمَّا يُؤْكَلُ : كَالْبُقْسُمَاطِ وَالرُّقَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ جَازَ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمْحًا أَوْ شَعِيرًا وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ إذَا أَعْطَاهُ مِمَّا يَقْتَاتُ بِهِ مَعَ أُدْمِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يُعْطِيَهُ حَبًّا مُجَرَّدًا إذَا لَمْ يَكُنْ عَادَتُهُمْ أَنْ يَطْحَنُوا بِأَيْدِيهِمْ وَيَخْبِزُوا بِأَيْدِيهِمْ وَالْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ

أَوْ كِسْوَتُهُمْ } الْآيَةَ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ النَّاسُ أَهْلِيهِمْ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ هَلْ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ أَوْ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا فِي النَّفَقَةِ : نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالرَّاجِحُ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ فَيُطْعِمُ كُلُّ قَوْمٍ مِمَّا يُطْعِمُونَ أَهْلِيهِمْ وَلَمَّا كَانَ كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ وَنَحْوُهُ يَقْتَاتُونَ التَّمْرَ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطْعِمَ فِرْقًا مِنْ التَّمْرِ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ وَالْفِرْقُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا بِالْبَغْدَادِيِّ . وَهَذِهِ الْفِدْيَةُ يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَهَا إذَا احْتَاجَ إلَى فِعْلِ الْمَحْظُورِ قَبْلَهُ وَبُعْدَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَذْبَحَ النُّسُكَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى مَكَّةَ وَيَصُومَ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ مُتَتَابِعَةً إنْ شَاءَ وَمُتَفَرِّقَةً إنْ شَاءَ . فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ أَخَّرَ فِعْلَهَا وَإِلَّا عَجَّلَ فِعْلَهَا . وَإِذَا لَبِسَ ثُمَّ لَبِسَ مِرَارًا وَلَمْ يَكُنْ أَدَّى الْفِدْيَةَ أَجْزَأَتْهُ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .
فَصْلٌ :
فَإِذَا أَحْرَمَ لَبَّى بِتَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ لَا

شَرِيكَ لَك } وَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ : لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ أَوْ لَبَّيْكَ وسعديك وَنَحْوُ ذَلِكَ " جَازَ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَزِيدُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُهُمْ فَلَمْ يَنْهَهُمْ وَكَانَ هُوَ يُدَاوِمُ عَلَى تَلْبِيَتِهِ وَيُلَبِّي مِنْ حِينِ يُحْرِمُ سَوَاءٌ رَكِبَ دَابَّةً أَوْ لَمْ يَرْكَبْهَا وَإِنْ أَحْرَمَ بَعْدَ ذَلِكَ جَازَ . وَالتَّلْبِيَةُ هِيَ : إجَابَةُ دَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِخَلْقِهِ حِينَ دَعَاهُمْ إلَى حَجِّ بَيْتِهِ عَلَى لِسَانِ خَلِيلِهِ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُلَبِّي هُوَ الْمُسْتَسْلِمُ الْمُنْقَادُ لِغَيْرِهِ كَمَا يَنْقَادُ الَّذِي لَبَّبَ وَأَخَذَ بِلَبَّتِهِ . وَالْمَعْنَى : أَنَّا مُجِيبُوك لِدَعْوَتِك ؛ مُسْتَسْلِمُونَ لِحِكْمَتِك مُطِيعُونَ لِأَمْرِك مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لَا نَزَالُ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّلْبِيَةُ شِعَارُ الْحَجِّ فَأَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ فَالْعَجُّ : رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَالثَّجُّ إرَاقَةُ دِمَاءِ الْهَدْيِ . وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهَا لِلرَّجُلِ بِحَيْثُ لَا يُجْهِدُ نَفْسَهُ وَالْمَرْأَةُ تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِحَيْثُ تَسْمَعُ رَفِيقَتُهَا وَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْهَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ مِثْلَ أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَمِثْلَ مَا إذَا صَعِدَ نَشْزًا أَوْ هَبَطَ وَادِيًا أَوْ سَمِعَ مُلَبِّيًا أَوْ أَقْبَلَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ أَوْ الْتَقَتْ الرِّفَاقُ وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ مَنْ لَبَّى حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَمْسَى مَغْفُورًا لَهُ . وَإِنْ دَعَا عَقِيبَ التَّلْبِيَةِ ؛ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَسَأَلَ اللَّهَ رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنْ سَخَطِهِ وَالنَّارِ : فَحَسَنٌ .
فَصْلٌ :
وَمِمَّا يُنْهَى عَنْهُ الْمُحْرِمُ : أَنْ يَتَطَيَّبَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ فِي بَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ أَوْ يَتَعَمَّدَ شَمَّ الطِّيبِ وَأَمَّا الدُّهْنُ فِي رَأْسِهِ أَوْ بَدَنِهِ بِالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَنَحْوِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَتَرْكُهُ أَوْلَى . وَلَا يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ وَلَا يَقْطَعُ شَعْرَهُ . وَلَهُ أَنْ يَحُكَّ بَدَنَهُ إذَا حَكَّهُ وَيَحْتَجِمَ فِي رَأْسِهِ وَغَيْرِ رَأْسِهِ وَإِنْ احْتَاجَ أَنْ يَحْلِقَ شَعْرًا لِذَلِكَ جَازَ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ } وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا مَعَ حَلْقِ بَعْضِ الشَّعْرِ . وَكَذَلِكَ إذَا اغْتَسَلَ وَسَقَطَ شَيْءٌ مِنْ شَعْرِهِ بِذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ انْقَطَعَ بِالْغَسْلِ وَيَفْتَصِدُ إذَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْ الْجَنَابَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَكَذَلِكَ لِغَيْرِ الْجَنَابَةِ وَلَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ وَلَا يَخْطُبُ وَلَا يَصْطَادُ صَيْدًا بَرِّيًّا وَلَا يَتَمَلَّكُهُ بِشِرَاءِ وَلَا اتِّهَابٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يُعِينُ عَلَى صَيْدٍ وَلَا يَذْبَحُ صَيْدًا . فَأَمَّا صَيْدُ الْبَحْرِ كَالسَّمَكِ وَنَحْوِهِ فَلَهُ أَنْ يَصْطَادَهُ وَيَأْكُلَهُ . وَلَهُ أَنْ يَقْطَعَ الشَّجَرَ لَكِنْ نَفْسُ الْحَرَمِ لَا يَقْطَعُ شَيْئًا مِنْ

شَجَرِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْرِمٍ وَلَا مِنْ نَبَاتِهِ الْمُبَاحِ إلَّا الْإِذْخِرَ وَأَمَّا مَا غَرَسَ النَّاسُ أَوْ زَرَعُوهُ فَهُوَ لَهُمْ وَكَذَلِكَ مَا يَبِسَ مِنْ النَّبَاتِ يَجُوزُ أَخْذُهُ وَلَا يَصْطَادُ بِهِ صَيْدًا وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمَاءِ كَالسَّمَكِ عَلَى الصَّحِيحِ ؛ بَلْ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ : مِثْلَ أَنْ يُقِيمَهُ لِيَقْعُدَ مَكَانَهُ . وَكَذَلِكَ حَرَمُ مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا و " اللَّابَةُ " هِيَ الْحَرَّةُ وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا حِجَارَةٌ سُودٌ وَهُوَ بَرِيدٌ فِي بَرِيدٍ وَالْبَرِيدُ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ وَهُوَ مِنْ عَيْرٍ إلَى ثَوْرٍ وَعَيْرٌ هُوَ جَبَلٌ عِنْدَ الْمِيقَاتِ يُشْبِهُ الْعَيْرَ وَهُوَ الْحِمَارُ وَثَوْرٌ هُوَ جَبَلٌ مِنْ نَاحِيَةِ أُحُدٍ وَهُوَ غَيْرُ جَبَلِ ثَوْرٍ الَّذِي بِمَكَّةَ ؛ فَهَذَا الْحَرَمُ أَيْضًا لَا يُصَادُ صَيْدُهُ وَلَا يُقْطَعُ شَجَرُهُ إلَّا لِحَاجَةِ كَآلَةِ الرُّكُوبِ وَالْحَرْثِ وَيُؤْخَذُ مِنْ حَشِيشِهِ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْعَلَفِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي هَذَا لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ إذْ لَيْسَ حَوْلَهُمْ مَا يَسْتَغْنُونَ بِهِ عَنْهُ بِخِلَافِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ . وَإِذَا أُدْخِلَ عَلَيْهِ صَيْدٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ . وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا حَرَمٌ لَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَلَا غَيْرُهُ إلَّا هَذَانِ الْحَرَمَانِ وَلَا يُسَمَّى غَيْرُهُمَا حَرَمًا كَمَا يُسَمِّي الْجُهَّالُ . فَيَقُولُونَ : حَرَمُ الْمَقْدِسِ وَحَرَمُ الْخَلِيلِ . فَإِنَّ هَذَيْنِ وَغَيْرَهُمَا لَيْسَا بِحَرَمِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْحَرَمُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ حَرَمُ مَكَّةَ . وَأَمَّا الْمَدِينَةُ فَلَهَا حَرَمٌ أَيْضًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا اسْتَفَاضَتْ

بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَتَنَازَعْ الْمُسْلِمُونَ فِي حَرَمٍ ثَالِثٍ . إلَّا فِي " وَجٍّ " وَهُوَ وَادٍ بِالطَّائِفِ وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ حَرَمٌ وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَيْسَ بِحَرَمِ . وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُلَ مَا يُؤْذِي بِعَادَتِهِ النَّاسَ : كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْفَأْرَةِ وَالْغُرَابِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ مَا يُؤْذِيه مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ حَتَّى لَوْ صَالَ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَلَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِالْقِتَالِ قَاتَلَهُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ حُرْمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ . } وَإِذَا قَرَصَتْهُ الْبَرَاغِيثُ وَالْقَمْلُ فَلَهُ إلْقَاؤُهَا عَنْهُ وَلَهُ قَتْلُهَا . وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِلْقَاؤُهَا أَهْوَنُ مِنْ قَتْلِهَا وَكَذَلِكَ مَا يَتَعَرَّضُ لَهُ مِنْ الدَّوَابِّ فَيُنْهَى عَنْ قَتْلِهِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُحَرَّمًا كَالْأَسَدِ وَالْفَهْدِ فَإِذَا قَتَلَهُ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا التَّفَلِّي بِدُونِ التَّأَذِّي فَهُوَ مِنْ التَّرَفُّهِ فَلَا يَفْعَلُهُ وَلَوْ فَعَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ الْوَطْءُ وَمُقَدَّمَاتُهُ وَلَا يَطَأُ شَيْئًا سَوَاءٌ كَانَ امْرَأَةً وَلَا غَيْرَ امْرَأَةٍ وَلَا يَتَمَتَّعُ بِقُبْلَةِ وَلَا مَسٍّ بِيَدِ وَلَا نَظَرٍ بِشَهْوَةِ . فَإِنْ جَامَعَ فَسَدَ حَجُّهُ وَفِي الْإِنْزَالِ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ نِزَاعٌ وَلَا يُفْسِدُ

الْحَجَّ بِشَيْءِ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ إلَّا بِهَذَا الْجِنْسِ فَإِنْ قَبَّلَ بِشَهْوَةِ أَوْ أَمْذَى لِشَهْوَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ .
فَصْلٌ :
إذَا أَتَى مَكَّةَ جَازَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ وَالْمَسْجِدَ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ لَكِنْ الْأَفْضَلُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ وَجْهِ الْكَعْبَةِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ دَخَلَهَا مِنْ وَجْهِهَا مِنْ النَّاحِيَةِ الْعُلْيَا الَّتِي فِيهَا الْيَوْمَ بَابُ الْمَعْلَاةِ . وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَّةَ وَلَا لِلْمَدِينَةِ سُورٌ وَلَا أَبْوَابٌ مَبْنِيَّةٌ وَلَكِنْ دَخَلَهَا مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ الْمُشْرِفَةِ عَلَى الْمَقْبَرَةِ . وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ مِنْ الْبَابِ الْأَعْظَمِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ : بَابُ بَنِي شَيْبَةَ ثُمَّ ذَهَبَ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَإِنَّ هَذَا أَقْرَبُ الطُّرُقِ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ لِمَنْ دَخَلَ مِنْ بَابِ الْمَعْلَاةِ . وَلَمْ يَكُنْ قَدِيمًا بِمَكَّةَ بِنَاءٌ يَعْلُو عَلَى الْبَيْتِ وَلَا كَانَ فَوْقَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِنَاءٌ وَلَا كَانَ بِمِنَى وَلَا بِعَرَفَاتِ مَسْجِدٌ وَلَا عِنْدَ الْجَمَرَاتِ مَسَاجِدُ بَلْ كُلُّ هَذِهِ مُحْدَثَةٌ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمِنْهَا مَا أُحْدِثَ بَعْدَ الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ وَمِنْهَا مَا أُحْدِثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَ الْبَيْتُ يُرَى قَبْلَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ .

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا رَأَى الْبَيْتَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ : اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً وَبِرًّا وَزِدْ مِنْ شَرَفِهِ وَكَرَمِهِ مِمَّنْ حَجَّهُ أَوْ اعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا } فَمَنْ رَأَى الْبَيْتَ قَبْلَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ فَعَلَ ذَلِكَ وَقَدْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ مَنْ اسْتَحَبَّهُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ الدُّعَاء وَلَوْ كَانَ بَعْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ . لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعْد أَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ ابْتَدَأَ بِالطَّوَافِ وَلَمْ يُصَلِّ قَبْلَ ذَلِكَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ بَلْ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُوَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ لِدُخُولِ مَكَّةَ كَمَا يَبِيتُ بِذِي طُوًى وَهُوَ عِنْدَ الْآبَارِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا : آبَارُ الزَّاهِرِ . فَمَنْ تَيَسَّرَ لَهُ الْمَبِيتُ بِهَا وَالِاغْتِسَالُ وَدُخُولُ مَكَّةَ نَهَارًا وَإِلَّا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ . وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ بَدَأَ بِالطَّوَافِ فَيَبْتَدِئُ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ يَسْتَقْبِلُهُ اسْتِقْبَالًا وَيَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ إنْ أَمْكَنَ وَلَا يُؤْذِي أَحَدًا بِالْمُزَاحَمَةِ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ اسْتَلَمَهُ وَقَبَّلَ يَدَهُ وَإِلَّا أَشَارَ إلَيْهِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ لِلطَّوَافِ وَيَجْعَلُ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَذْهَبَ إلَى مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ وَلَا يَمْشِي عَرْضًا ثُمَّ يَنْتَقِلُ لِلطَّوَافِ بَلْ وَلَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ . وَيَقُولُ إذَا اسْتَلَمَهُ : بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَإِنْ شَاءَ قَالَ :

اللَّهُمَّ إيمَانًا بِك وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِك وَوَفَاءً بِعَهْدِك وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّك مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَيَجْعَلُ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ فَيَطُوفُ سَبْعًا وَلَا يَخْتَرِقُ الْحَجَرَ فِي طَوَافِهِ لِمَا كَانَ أَكْثَرُ الْحَجَرِ مِنْ الْبَيْتِ وَاَللَّهُ أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِهِ لَا بِالطَّوَافِ فِيهِ . وَلَا يَسْتَلِمُ مِنْ الْأَرْكَانِ إلَّا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ دُونَ الشَّامِيَّيْنِ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا اسْتَلَمَهُمَا خَاصَّةً لِأَنَّهُمَا عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ وَالْآخَرَانِ هُمَا فِي دَاخِلِ الْبَيْتِ . فَالرُّكْنُ الْأَسْوَدُ يُسْتَلَمُ وَيُقَبَّلُ وَالْيَمَانِيُّ يُسْتَلَمُ وَلَا يُقَبَّلُ وَالْآخَرَانِ لَا يُسْتَلَمَانِ وَلَا يُقَبَّلَانِ وَالِاسْتِلَامُ هُوَ مَسْحُهُ بِالْيَدِ . وَأَمَّا سَائِرُ جَوَانِبِ الْبَيْتِ وَمَقَامُ إبْرَاهِيمَ وَسَائِرُ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ الْمَسَاجِدِ وَحِيطَانِهَا وَمَقَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَحُجْرَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَغَارَةِ إبْرَاهِيمَ وَمَقَامِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَقَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَصَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَلَا تُسْتَلَمُ وَلَا تُقَبَّلُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَأَمَّا الطَّوَافُ بِذَلِكَ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ وَمَنْ اتَّخَذَهُ دِينًا يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَلَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى الشاذروان الَّذِي يُرْبَطُ فِيهِ أَسْتَارُ الْكَعْبَةِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَلَيْسَ الشاذروان مِنْ الْبَيْتِ بَلْ جُعِلَ عِمَادًا لِلْبَيْتِ . وَيُسْتَحَبُّ لَهُ فِي الطَّوَافِ الْأَوَّلِ أَنْ يَرْمُلَ مِنْ الْحِجْرِ إلَى الْحِجْرِ

فِي الْأَطْوَافِ الثَّلَاثَةِ وَالرَّمَلُ مِثْلُ الْهَرْوَلَةِ وَهُوَ مُسَارَعَةُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَى فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الرَّمَلُ لِلزَّحْمَةِ كَانَ خُرُوجُهُ إلَى حَاشِيَةِ الْمَطَافِ وَالرَّمَلُ أَفْضَلُ مِنْ قُرْبِهِ إلَى الْبَيْتِ بِدُونِ الرَّمَلِ . وَأَمَّا إذَا أَمْكَنَ الْقُرْبُ مِنْ الْبَيْتِ مَعَ إكْمَالِ السُّنَّةِ فَهُوَ أَوْلَى . وَيَجُوزُ أَنْ يَطُوفَ مِنْ وَرَاءِ قُبَّةِ زَمْزَمَ وَمَا وَرَاءَهَا مِنْ السَّقَائِفِ الْمُتَّصِلَةِ بِحِيطَانِ الْمَسْجِدِ . وَلَوْ صَلَّى الْمُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ يَطُوفُونَ أَمَامَهُ لَمْ يُكْرَهْ سَوَاءٌ مَرَّ أَمَامَهُ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ مَكَّةَ . وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَضْطَبِعَ فِي هَذَا الطَّوَافِ وَالِاضْطِبَاعُ : هُوَ أَنْ يُبْدِيَ ضَبْعَهُ الْأَيْمَنَ فَيَضَعَ وَسَطَ الرِّدَاءِ تَحْتَ إبِطِهِ الْأَيْمَنِ وَطَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ وَإِنْ تَرَكَ الرَّمَلَ وَالِاضْطِبَاعَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَيُسْتَحَبُّ لَهُ فِي الطَّوَافِ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى وَيَدْعُوَهُ بِمَا يُشْرَعُ وَإِنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ سِرًّا فَلَا بَأْسَ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ مَحْدُودٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بِأَمْرِهِ وَلَا بِقَوْلِهِ وَلَا بِتَعْلِيمِهِ بَلْ يَدْعُو فِيهِ بِسَائِرِ الْأَدْعِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ دُعَاءٍ مُعَيَّنٍ تَحْتَ الْمِيزَابِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلَا أَصْلَ لَهُ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتِمُ طَوَافَهُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ بِقَوْلِهِ : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ

حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } كَمَا كَانَ يَخْتِمُ سَائِرَ دُعَائِهِ بِذَلِكَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ ذِكْرٌ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ كَالصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرِ . وَلِهَذَا يُؤْمَرُ الطَّائِفُ أَنْ يَكُونَ مُتَطَهِّرًا الطَّهَارَتَيْنِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى وَيَكُونَ مَسْتُورَ الْعَوْرَةِ مُجْتَنِبَ النَّجَاسَةِ الَّتِي يَجْتَنِبُهَا الْمُصَلِّي وَالطَّائِفُ طَاهِرًا ؛ لَكِنْ فِي وُجُوبِ الطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالطَّهَارَةِ لِلطَّوَافِ وَلَا نَهَى الْمُحْدِثَ أَنْ يَطُوفَ وَلَكِنَّهُ طَافَ طَاهِرًا . لَكِنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى الْحَائِضَ عَنْ الطَّوَافِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } فَالصَّلَاةُ الَّتِي أَوْجَبَ لَهَا الطَّهَارَةَ مَا كَانَ يُفْتَتَحُ بِالتَّكْبِيرِ وَيُخْتَمُ بِالتَّسْلِيمِ كَالصَّلَاةِ الَّتِي فِيهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَأَمَّا الطَّوَافُ وَسُجُودُ التِّلَاوَةِ فَلَيْسَا مِنْ هَذَا . وَالِاعْتِكَافُ يُشْتَرَطُ لَهُ الْمَسْجِدُ وَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ بِالِاتِّفَاقِ وَالْمُعْتَكِفَةُ الْحَائِضُ تُنْهَى عَنْ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الْحَيْضِ وَإِنْ كَانَتْ تَلْبَثُ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ مُحْدِثَةٌ . قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي " مَنَاسِكِ الْحَجِّ " لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ : حَدَّثَنَا

سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عَنْ حَمَّادٍ وَمَنْصُورٍ قَالَ : سَأَلْتهمَا عَنْ الرَّجُلِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَوَضِّئٍ فَلَمْ يَرَيَا بِهِ بَأْسًا . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : سَأَلْت أَبِي عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَوَضِّئٍ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ . وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَد فِي اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ فِيهِ وَوُجُوبِهَا كَمَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ . لَكِنْ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطِ .
وَمَنْ طَافَ فِي جَوْرَبٍ وَنَحْوِهِ ؛ لِئَلَّا يَطَأَ نَجَاسَةً مِنْ ذَرْقِ الْحَمَامِ أَوْ غَطَّى يَدَيْهِ لِئَلَّا يَمَسَّ امْرَأَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ السُّنَّةَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ وَالتَّابِعِينَ مَا زَالُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَمَا زَالَ الْحَمَامُ بِمَكَّةَ ؛ لَكِنَّ الِاحْتِيَاطَ حَسَنٌ مَا لَمْ يُخَالِفْ السُّنَّةَ الْمَعْلُومَةَ فَإِذَا أَفْضَى إلَى ذَلِكَ كَانَ خَطَأً . وَاعْلَمْ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي يَتَضَمَّنُ مُخَالَفَةَ السُّنَّةِ خَطَأٌ كَمَنْ يَخْلَعُ نَعْلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ . أَوْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا نَجَاسَةٌ فَإِنَّ هَذَا خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ . فَإِنَّ { النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ وَقَالَ : إنْ الْيَهُودَ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ فَخَالِفُوهُمْ } وَقَالَ : { إذَا أَتَى الْمَسْجِدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَنْظُرْ فِي نَعْلَيْهِ . فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا أَذًى فَلْيُدَلِّكْهُمَا فِي التُّرَابِ فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ } .
وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي نَعْلَيْهِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَطُوفَ فِي نَعْلَيْهِ

وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الطَّوَافُ مَاشِيًا فَطَافَ رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا أَجْزَأَهُ بِالِاتِّفَاقِ وَكَذَلِكَ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ وَاجِبَاتِ الطَّوَافِ مِثْلَ مَنْ كَانَ بِهِ نَجَاسَةٌ لَا يُمْكِنُهُ إزَالَتُهَا كَالْمُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ فَإِنَّهُ يَطُوفُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ الطَّوَافُ إلَّا عريانا فَطَافَ بِاللَّيْلِ كَمَا لَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ الصَّلَاةُ إلَّا عريانا . وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْحَائِضُ إذَا لَمْ يُمْكِنْهَا طَوَافُ الْفَرْضِ إلَّا حَائِضًا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهَا التَّأَخُّرُ بِمَكَّةَ فَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُوجِبُونَ الطَّهَارَةَ عَلَى الطَّائِفِ : إذَا طَافَتْ الْحَائِضُ أَوْ الْجُنُبُ أَوْ الْمُحْدِثُ أَوْ حَامِلُ النَّجَاسَةِ مُطْلَقًا أَجْزَأَهُ الطَّوَافُ وَعَلَيْهِ دَمٌ : إمَّا شَاةٌ وَإِمَّا بَدَنَةٌ مَعَ الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ وَشَاةٌ مَعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ . وَمَنْعُ الْحَائِضِ مِنْ الطَّوَافِ قَدْ يُعَلَّلُ بِأَنَّهُ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ وَقَدْ يُعَلَّلُ بِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْمَسْجِدِ كَمَا تُمْنَعُ مِنْهُ بِالِاعْتِكَافِ وَكَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنِهِ : { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } فَأَمَرَهُ بِتَطْهِيرِهِ لِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ فَمُنِعَتْ الْحَائِضُ مِنْ دُخُولِهِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِلطَّوَافِ مَا يَجِبُ لِلصَّلَاةِ مِنْ تَحْرِيمٍ وَتَحْلِيلٍ وَقِرَاءَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يُبْطِلُهُ مَا يُبْطِلُهَا مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَلِهَذَا كَانَ مُقْتَضَى تَعْلِيلِ مَنْ مَنَعَ الْحَائِضَ لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ أَنَّهُ

لَا يَرَى الطَّهَارَةَ شَرْطًا بَلْ مُقْتَضَى قَوْلِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يَجُوزُ لَهَا دُخُولُ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَطْهِيرِهِ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَالْعَاكِفُ فِيهِ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ . بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ اُضْطُرَّتْ الْعَاكِفَةُ الْحَائِضُ إلَى لُبْثِهَا فِيهِ لِلْحَاجَةِ جَازَ ذَلِكَ . وَأَمَّا الرُّكَّعُ السُّجُودُ فَهُمْ الْمُصَلُّونَ وَالطَّهَارَةُ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْحَائِضُ لَا تُصَلِّي لَا قَضَاءً وَلَا أَدَاءً . يَبْقَى الطَّائِفُ : هَلْ يَلْحَقُ بِالْعَاكِفِ أَوْ بِالْمُصَلِّي أَوْ يَكُونُ قِسْمًا ثَالِثًا بَيْنَهُمَا : هَذَا مَحَلُّ اجْتِهَادٍ . وَقَوْلُهُ : { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ } لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ هُوَ ثَابِتٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَنَقَلَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : " إذَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَهُوَ جُنُبٌ عَلَيْهِ دَمٌ " وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الصَّلَاةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ لَهَا الطَّهَارَةُ . وَهَكَذَا قَوْلُهُ : { إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يُشَبِّكْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ } وَقَوْلُهُ : { إنَّ الْعَبْدَ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَتْ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ وَمَا دَامَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ وَمَا كَانَ يَعْمِدُ إلَى الصَّلَاةِ } وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَلَا يَجُوزُ لِحَائِضِ أَنْ تَطُوفَ إلَّا طَاهِرَةً إذَا أَمْكَنَهَا ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ

الْعُلَمَاءِ وَلَوْ قَدِمَتْ الْمَرْأَةُ حَائِضًا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ لَكِنْ تَقِفُ بِعَرَفَةَ وَتَفْعَلُ سَائِرَ الْمَنَاسِكِ كُلِّهَا مَعَ الْحَيْضِ إلَّا الطَّوَافَ فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ حَتَّى تَطْهُرَ إنْ أَمْكَنَهَا ذَلِكَ ثُمَّ تَطُوفُ وَإِنْ اُضْطُرَّتْ إلَى الطَّوَافِ فَطَافَتْ أَجَزْأَهَا ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . فَإِذَا قَضَى الطَّوَافَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِلطَّوَافِ وَإِنْ صَلَّاهُمَا عِنْدَ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ فَهُوَ أَحْسَنُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا بِسُورَتَيْ الْإِخْلَاصِ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ثُمَّ إذَا صَلَّاهُمَا اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ ثُمَّ يَخْرُجَ إلَى الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . وَلَوْ أَخَّرَ ذَلِكَ إلَى بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ جَازَ . فَإِنَّ الْحَجَّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أطوفة : طَوَافٌ عِنْدَ الدُّخُولِ وَهُوَ يُسَمَّى : طَوَافَ الْقُدُومِ وَالدُّخُولِ وَالْوُرُودِ . وَالطَّوَافُ الثَّانِي : هُوَ بَعْدَ التَّعْرِيفِ وَيُقَالُ لَهُ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَالزِّيَارَةِ وَهُوَ طَوَافُ الْفَرْضِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } . وَالطَّوَافُ الثَّالِثُ : هُوَ لِمَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ وَهُوَ طَوَافُ الْوَدَاعِ . وَإِذَا سَعَى عَقِيبَ وَاحِدٍ مِنْهَا أَجْزَأَهُ فَإِذَا خَرَجَ لِلسَّعْيِ خَرَجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْقَى عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَهُمَا فِي جَانِبِ

جَبَلَيْ مَكَّةَ فَيُكَبِّرُ وَيُهَلِّلُ وَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى وَالْيَوْمَ قَدْ بُنِيَ فَوْقَهُمَا دَكَّتَانِ فَمَنْ وَصَلَ إلَى أَسْفَلِ الْبِنَاءِ أَجْزَأَهُ السَّعْيُ وَإِنْ لَمْ يَصْعَدْ فَوْقَ الْبِنَاءِ . فَيَطُوفُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا يَبْتَدِئُ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي : مِنْ الْعَلَمِ إلَى الْعَلَمِ وَهُمَا مَعْلَمَانِ هُنَاكَ . وَإِنْ لَمْ يَسْعَ فِي بَطْنِ الْوَادِي بَلْ مَشَى عَلَى هَيْئَتِهِ جَمِيعُ مَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَجْزَأَهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَلَا صَلَاةَ عَقِيبَ الطَّوَافِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَإِنَّمَا الصَّلَاةُ عَقِيبَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّفَاقِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ . فَإِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ ؛ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ لَمَّا طَافُوا بِهِمَا أَنْ يَحِلُّوا إلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَهُ وَالْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ لَا يَحِلَّانِ إلَّا يَوْمَ النَّحْرِ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُقَصِّرَ مِنْ شَعْرِهِ لِيَدَعَ الْحِلَاقَ لِلْحَجِّ وَكَذَلِكَ أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِذَا أَحَلَّ حَلَّ لَهُ مَا حَرُمَ عَلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ .
فَصْلٌ :
فَإِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ : أَحْرَمَ وَأَهَلَّ بِالْحَجِّ فَيَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ عِنْدَ

الْمِيقَاتِ وَإِنْ شَاءَ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ وَإِنْ شَاءَ مِنْ خَارِجِ مَكَّةَ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ . وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَحْرَمُوا كَمَا أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبَطْحَاءِ وَالسُّنَّةُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ نَازِلٌ فِيهِ وَكَذَلِكَ الْمَكِّيُّ يُحْرِمُ مِنْ أَهْلِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ دُونَ مَكَّةَ فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْ مَكَّةَ } . وَالسُّنَّةُ أَنْ يَبِيتَ الْحَاجُّ بِمِنَى : فَيُصَلُّونَ بِهَا الظُّهْر وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا الْإِيقَادُ فَهُوَ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَإِنَّمَا الْإِيقَادُ بمزدلفة خَاصَّةً بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ عَرَفَةَ وَأَمَّا الْإِيقَادُ بِمِنَى أَوْ عَرَفَةَ فَبِدْعَةٌ أَيْضًا . وَيَسِيرُونَ مِنْهَا إلَى نَمِرَةَ عَلَى طَرِيقِ ضَبٍّ مِنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ و " نَمِرَةُ " كَانَتْ قَرْيَةً خَارِجَةً عَنْ عَرَفَاتٍ مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ فَيُقِيمُونَ بِهَا إلَى الزَّوَالِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَسِيرُونَ مِنْهَا إلَى بَطْنِ الْوَادِي وَهُوَ مَوْضِعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الظُّهْر وَالْعَصْرَ وَخَطَبَ وَهُوَ فِي حُدُودِ عَرَفَةَ بِبَطْنِ عرنة وَهُنَاكَ مَسْجِدٌ يُقَالُ لَهُ : مَسْجِدُ إبْرَاهِيمَ وَإِنَّمَا بُنِيَ فِي أَوَّلِ دَوْلَةِ

بَنِي الْعَبَّاسِ . فَيُصَلِّي هُنَاكَ الظُّهْر وَالْعَصْرَ قَصْرًا كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُصَلِّي خَلْفَهُ جَمِيعُ الْحَاجِّ : أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ قَصْرًا وَجَمْعًا يَخْطُبُ بِهِمْ الْإِمَامُ كَمَا خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعِيرِهِ ثُمَّ إذَا قَضَى الْخُطْبَةَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَأَقَامَ ثُمَّ يُصَلِّي كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ وَيُصَلِّي بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى قَصْرًا وَيَقْصُرُ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُ أَهْلِ مَكَّةَ . وَكَذَلِكَ يَجْمَعُونَ الصَّلَاةَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى كَمَا كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَفْعَلُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا خُلَفَاؤُهُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يُتِمُّوا الصَّلَاةَ وَلَا قَالُوا لَهُمْ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ وَمَنْ حَكَى ذَلِكَ عَنْهُمْ فَقَدْ أَخْطَأَ وَلَكِنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ بِمَكَّةَ . وَأَمَّا فِي حَجِّهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بِمَكَّةَ وَلَكِنْ كَانَ نَازِلًا خَارِجَ مَكَّةَ وَهُنَاكَ كَانَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ ثُمَّ لَمَّا خَرَجَ إلَى مِنَى وَعَرَفَةَ خَرَجَ مَعَهُ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ وَلَمَّا رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ رَجَعُوا مَعَهُ وَلَمَّا صَلَّى بِمِنَى أَيَّامَ مِنَى صَلَّوْا مَعَهُ وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ وَلَمْ يَحُدَّ النَّبِيُّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّفَرَ لَا بِمَسَافَةِ وَلَا بِزَمَانِ وَلَمْ يَكُنْ بِمِنَى أَحَدٌ سَاكِنًا فِي زَمَنِهِ وَلِهَذَا قَالَ : { مِنَى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ } وَلَكِنْ قِيلَ إنَّهَا سُكِنَتْ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانُ وَأَنَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَتَمَّ عُثْمَانُ الصَّلَاةَ لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ الْمُسَافِرَ مَنْ يَحْمِلُ الزَّادَ وَالْمَزَادَ . ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَذْهَبُ إلَى عَرَفَاتٍ . فَهَذِهِ السُّنَّةُ ؛ لَكِنْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لَا يَكَادُ يَذْهَبُ أَحَدٌ إلَى نَمِرَةَ . وَلَا إلَى مُصَلَّى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ يَدْخُلُونَ عَرَفَاتٍ بِطَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ وَيَدْخُلُونَهَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُهَا لَيْلًا وَيَبِيتُونَ بِهَا قَبْلَ التَّعْرِيفِ وَهَذَا الَّذِي يَفْعَلُهُ النَّاسُ كُلُّهُ يُجْزِي مَعَهُ الْحَجُّ لَكِنْ فِيهِ نَقْصٌ عَنْ السُّنَّةِ فَيَفْعَلُ مَا يُمْكِنُ مِنْ السُّنَّةِ مِثْلَ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَيُؤَذِّنُ أَذَانًا وَاحِدًا وَيُقِيمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَالْإِيقَادُ بِعَرَفَةَ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَكَذَلِكَ الْإِيقَادُ بِمِنَى بِدْعَةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِيقَادُ بمزدلفة خَاصَّةً فِي الرُّجُوعِ . وَيَقِفُونَ بِعَرَفَاتِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ يَخْرُجُونَ إنْ شَاءُوا بَيْنَ الْعَلَمَيْنِ وَإِنْ شَاءُوا مِنْ جَانِبَيْهِمَا . وَالْعَلَمَانِ الْأَوَّلَانِ حَدُّ عَرَفَةَ فَلَا يُجَاوِزُوهُمَا حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَالْمِيلَانِ بَعْدَ ذَلِكَ حَدُّ مُزْدَلِفَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَطْنُ عرنة . وَيَجْتَهِدُ فِي الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ هَذِهِ الْعَشِيَّةَ فَإِنَّهُ مَا رُئِيَ إبْلِيسُ فِي

يَوْمٍ هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ وَلَا أَدْحَضُ مِنْ عَشِيَّةِ عَرَفَةَ لِمَا يَرَى مِنْ تَنْزِيلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ إلَّا مَا رُئِيَ يَوْمَ بَدْرٍ فَإِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ . وَيَصِحُّ وُقُوفُ الْحَائِضِ وَغَيْرِ الْحَائِضِ . وَيَجُوزُ الْوُقُوفُ مَاشِيًا وَرَاكِبًا . وَأَمَّا الْأَفْضَلُ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ إذَا رَكِبَ رَآهُ النَّاسُ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِ أَوْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ تُرْكُ الرُّكُوبِ وَقَفَ رَاكِبًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ رَاكِبًا . وَهَكَذَا الْحَجُّ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ حَجُّهُ رَاكِبًا أَفْضَلَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ حَجُّهُ مَاشِيًا أَفْضَلَ وَلَمْ يُعَيِّنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَرَفَةَ دُعَاءً وَلَا ذِكْرًا بَلْ يَدْعُو الرَّجُلُ بِمَا شَاءَ مِنْ الْأَدْعِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَكَذَلِكَ يُكَبِّرُ وَيُهَلِّلُ وَيَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ . وَالِاغْتِسَالُ لِعَرَفَةَ قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ فِي الْحَجِّ إلَّا ثَلَاثَةُ أَغْسَالٍ : غُسْلُ الْإِحْرَامِ وَالْغُسْلُ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ وَالْغُسْلُ يَوْمَ عَرَفَةَ . وَمَا سِوَى ذَلِكَ كَالْغُسْلِ لِرَمْيِ الْجِمَارِ وَلِلطَّوَافِ وَالْمَبِيتِ بمزدلفة فَلَا أَصْلَ لَهُ لَا عَنْ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ وَلَا اسْتَحَبَّهُ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ : لَا مَالِكٍ وَلَا أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا أَحْمَد وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ . بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ سَبَبٌ يَقْتَضِي الِاسْتِحْبَابَ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ رَائِحَةٌ يُؤْذِي النَّاسَ بِهَا فَيَغْتَسِلُ لِإِزَالَتِهَا . وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَلَا يَقِفُ بِبَطْنِ عرنة وَأَمَّا صُعُودُ الْجَبَلِ الَّذِي هُنَاكَ فَلَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ وَيُسَمَّى جَبَلَ الرَّحْمَةِ وَيُقَالُ لَهُ إلَالٌ عَلَى وَزْنِ هِلَالٍ وَكَذَلِكَ الْقُبَّةُ الَّتِي فَوْقَهُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا : قُبَّةُ آدَمَ لَا يُسْتَحَبُّ دُخُولُهَا وَلَا الصَّلَاةُ فِيهَا . وَالطَّوَافُ بِهَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَكَذَلِكَ الْمَسَاجِدُ الَّتِي عِنْدَ الْجَمَرَاتِ لَا يُسْتَحَبُّ دُخُولُ شَيْءٍ مِنْهَا وَلَا الصَّلَاةُ فِيهَا . وَأَمَّا الطَّوَافُ بِهَا أَوْ بِالصَّخْرَةِ أَوْ بِحُجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا كَانَ غَيْرَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ .
فَصْلٌ :
فَإِذَا أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ ذَهَبَ إلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ عَلَى طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ وَهُوَ طَرِيقُ النَّاسِ الْيَوْمَ وَإِنَّمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : عَلَى طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ إلَى عَرَفَةَ طَرِيقٌ أُخْرَى تُسَمَّى طَرِيقَ ضَبٍّ وَمِنْهَا دَخَلَ النَّبِيُّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عَرَفَاتٍ وَخَرَجَ عَلَى طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ . وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَاسِكِ وَالْأَعْيَادِ يَذْهَبُ مِنْ طَرِيقٍ وَيَرْجِعُ مِنْ أُخْرَى فَدَخَلَ مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا وَخَرَجَ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى . وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ وَخَرَجَ بَعْدَ الْوَدَاعِ مِنْ بَابِ حَزْوَرَةَ الْيَوْمَ . وَدَخَلَ إلَى عَرَفَاتٍ مِنْ طَرِيقِ ضَبٍّ وَخَرَجَ مِنْ طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ وَأَتَى إلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ - يَوْمَ الْعِيدِ - مِنْ الطَّرِيقِ الْوُسْطَى الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا إلَى خَارِجِ مِنَى ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَى يَسَارِهِ إلَى الْجَمْرَةِ ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ إلَى مَوْضِعِهِ بِمِنَى الَّذِي نَحَرَ فِيهِ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ رَجَعَ مِنْ الطَّرِيقِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي يَسِيرُ مِنْهَا جُمْهُورُ النَّاسِ الْيَوْمَ . فَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ إلَى أَنْ يُصَلِّيَهَا مَعَ الْعِشَاءِ بمزدلفة وَلَا يُزَاحِمُ النَّاسَ بَلْ إنْ وَجَدَ خَلْوَةً أَسْرَعَ فَإِذَا وَصَلَ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ صَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ تَبْرِيكِ الْجِمَالِ إنْ أَمْكَنَ ثُمَّ إذَا بَرَّكُوهَا صَلَّوْا الْعِشَاءَ وَإِنْ أَخَّرَ الْعِشَاءَ لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ وَيَبِيتُ بمزدلفة وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا يُقَالُ لَهَا الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ وَهِيَ مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ إلَى بَطْنِ مُحَسِّرٍ . فَإِنَّ بَيْنَ كُلِّ مَشْعَرَيْنِ حَدًّا لَيْسَ مِنْهُمَا : فَإِنَّ بَيْنَ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ بَطْنُ عرنة وَبَيْنَ مُزْدَلِفَةَ وَمِنَى بَطْنُ مُحَسِّرٍ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْفَعُوا عَنْ بَطْنِ عرنة وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا

مَوْقِفٌ وَارْفَعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ وَمِنَى كُلُّهَا مَنْحَرٌ وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا طَرِيقٌ } . وَالسُّنَّةُ أَنْ يَبِيتَ بمزدلفة إلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَيُصَلِّيَ بِهَا الْفَجْرَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ يَقِفُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَام إلَى أَنْ يُسْفِرَ جِدًّا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَإِنْ كَانَ مِنْ الضَّعَفَةِ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّهُ يَتَعَجَّلُ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إلَى مِنَى إذَا غَابَ الْقَمَرُ وَلَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْقُوَّةِ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ مُزْدَلِفَةَ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَيُصَلُّوا بِهَا الْفَجْرَ وَيَقِفُوا بِهَا وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ لَكِنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ قُزَحَ أَفْضَلُ وَهُوَ جَبَلُ الميقدة وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ النَّاسُ الْيَوْمَ . وَقَدْ بُنِيَ عَلَيْهِ بِنَاءٌ وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَخُصُّهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِاسْمِ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ . فَإِذَا كَانَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَفَاضَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إلَى مِنَى فَإِذَا أَتَى مُحَسِّرًا أَسْرَعَ قَدْرَ رَمْيَةٍ بِحَجَرِ فَإِذَا أَتَى مِنَى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَيَرْفَعُ يَدَهُ فِي الرَّمْيِ وَهِيَ الْجَمْرَةُ الَّتِي هِيَ آخِرُ الْجَمَرَاتِ مِنْ نَاحِيَةِ مِنَى وَأَقْرَبُهُنَّ مِنْ مَكَّةَ وَهِيَ الْجَمْرَةُ الْكُبْرَى وَلَا يَرْمِي يَوْمَ النَّحْرِ غَيْرَهَا يَرْمِيهَا مُسْتَقْبِلًا لَهَا يَجْعَلُ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَمِنَى عَنْ يَمِينِهِ هَذَا هُوَ الَّذِي صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَبِّرَ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَإِنْ شَاءَ قَالَ مَعَ ذَلِكَ : اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَسَعْيًا مَشْكُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131