الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ ؛ فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ . وَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنَّ فِيهِمْ السَّقِيمَ وَالشَّيْخَ الْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ } . وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْصُرُهَا أَحْيَانًا عَمَّا كَانَ يَفْعَلُ غَالِبًا . كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ حريث رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { كَأَنِّي أَسْمَعُ صَوْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ { فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ } { الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } } . وَرَوَى أَنَّهُ { قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ بِسُورَةِ الزَّلْزَلَةِ } . وَكَانَ يُطَوِّلُ أَحْيَانًا حَتَّى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرَأُ { وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا } فَقَالَتْ : يَا بُنَيَّ لَقَدْ أَذْكَرْتنِي بِقِرَاءَتِك هَذِهِ السُّورَةَ إنَّهَا لَآخِرُ مَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { مُحَمَّدِ بْن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِالطُّورِ فِي الْمَغْرِبِ } . وَفِي الْبُخَارِيِّ وَالسُّنَنِ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ : قَالَ لِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ " مَا لَك تَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ وَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِطُولَى الطُّولَيَيْنِ ؟ قَالَ قُلْت : مَا طُولَى الطُّولَيَيْنِ ؟ قَالَ : الْأَعْرَافُ " .

فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مِنْ أَصَحِّ الْأَحَادِيثِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِيهَا أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ تَارَةً بِالْأَعْرَافِ وَتَارَةً بِالطُّورِ وَتَارَةً بِالْمُرْسَلَاتِ مَعَ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْمَغْرِبِ سُنَّتُهَا أَنْ يَكُونَ أَقْصَرَ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الْفَجْرِ . فَكَيْفَ تَكُونُ الْقِرَاءَةُ فِي الْفَجْرِ وَغَيْرِهَا ؟ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا رَوَى وَكِيعٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي قَالَ : كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يُطِيلُ الْقِيَامَ بِقَدْرِ الرُّكُوعِ فَكَانُوا يَعِيبُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِ " . قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ : الْعَيْبُ عَلَى مَنْ عَابَ عَمَلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَوَّلَ عَلَى مَنْ لَا حُجَّةَ فِيهِ . قُلْت : قَدْ تَقَدَّمَ فِعْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ وَمُوَافَقَتُهُ لِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَابُوا عَلَيْهِ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ الَّذِينَ فِي زَمَنِ الْحَجَّاجِ وَفِتْنَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا عُرِفَ أَنَّهُمْ مِنْ أَعْيَانِ التَّابِعِينَ . وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ أَدْرَكَ ابْنَ مَسْعُودٍ فَابْنُ بْنِ مَسْعُودٍ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْإِمَامَ الرَّاتِبَ فِي زَمَنِهِ بَلْ الْإِمَامُ الرَّاتِبُ كَانَ غَيْرَهُ وَابْنُ بْنِ مَسْعُودٍ أَقْرَبُ إلَى مُتَابَعَةِ أَبِيهِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَجْهُولِينَ . فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ إنَّمَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ لِمُخَالَفَتِهِ الْعَادَةَ

الَّتِي اعْتَادُوهَا وَإِنْ خَالَفَتْ السُّنَّةَ النَّبَوِيَّةَ . وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا الْإِنْكَارُ مِنْ الْفُقَهَاءِ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ أَجَلَّ فَقِيهٍ أَخَذَ عَنْهُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي هُوَ عَلْقَمَةُ وَتُوُفِّيَ قَبْلَ فِتْنَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ . فَإِنَّ عَلْقَمَةَ تُوُفِّيَ سَنَةَ إحْدَى - أَوْ اثْنَتَيْنِ - وَسِتِّينَ فِي أَوَائِلِ إمَارَةِ يَزِيدَ " وَفِتْنَةُ ابْنِ الْأَشْعَثِ كَانَتْ فِي إمَارَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ . وَكَذَلِكَ مَسْرُوقٌ . قِيلَ : إنَّهُ تُوُفِّيَ قَبْلَ السَّبْعِينَ أَيْضًا . وَقِيلَ فِيهِمَا كَمَا قِيلَ : فِي مَسْرُوقٍ وَنَحْوِهِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ أَكَابِرَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ لَمْ يَكُونُوا هُمْ الَّذِينَ أَنْكَرُوا ذَلِكَ مَعَ أَنَّ مِنْ النَّاسِ إذَا سَمِعَ هَذَا الْإِطْلَاقَ صَرَفَهُ إلَى إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي . وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ عَلْقَمَةَ يَظُنُّ أَنَّ إبْرَاهِيمَ وَأَمْثَالَهُ أَنْكَرُوا ذَلِكَ . وَهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ . وَهُمْ أَخَذُوا الْعِلْمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَنَحْوِهِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَا يَطْمَئِنُّ فِي صَلَاتِهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الطُّمَأْنِينَةُ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبَةٌ وَتَارِكُهَا مُسِيءٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ بَلْ جُمْهُورُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَأَبِي يُوسُفَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ لَا يُخَالِفُونَ فِي أَنَّ تَارِكَ ذَلِكَ مُسِيءٌ غَيْرُ مُحْسِنٍ بَلْ هُوَ آثِمٌ عَاصٍ تَارِكٌ لِلْوَاجِبِ . وَغَيْرُهُمْ يُوجِبُونَ الْإِعَادَةَ عَلَى مَنْ تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ . وَدَلِيلُ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ : { أَنَّ رَجُلًا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - فَقَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا . فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي فِي صَلَاتِي فَقَالَ : إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِك كُلِّهَا } فَهَذَا كَانَ رَجُلًا جَاهِلًا " وَمَعَ هَذَا فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ وَأَخْبَرَهُ . أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ فَقَدْ أَمَرَهُ . اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالْإِعَادَةِ . وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ رَجُلٍ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ } . يَعْنِي يُقِيمُ صُلْبَهُ : إذَا رَفَعَ مِنْ الرُّكُوعِ وَإِذَا رَفَعَ مِنْ السُّجُودِ . وَفِي الصَّحِيحِ : " أَنَّ حُذَيْفَةَ ابْنَ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَى رَجُلًا لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَقَالَ : مُنْذُ كَمْ تُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ ؟ قَالَ : مُنْذُ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ : أَمَا أَنَّك لَوْ مُتّ لَمُتّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَوَى هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ خُزَيْمَة فِي صَحِيحِهِ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ قَالَ لِمَنْ نَقَرَ فِي الصَّلَاةِ : { أَمَا إنَّك لَوْ مُتّ عَلَى هَذَا مُتّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } أَوْ نَحْوَ هَذَا . وَقَالَ : { مَثَلُ الَّذِي يُصَلِّي وَلَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ مَثَلُ الَّذِي يَأْكُلُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ فَمَا تُغْنِي عَنْهُ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ

شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } وَقَدْ كَتَبْنَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَا يَطُولُ ذِكْرُهُ هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ يَحْصُلُ لَهُ الْحُضُورُ فِي الصَّلَاةِ تَارَةً وَيَحْصُلُ لَهُ الْوَسْوَاسُ تَارَةً فَمَا الَّذِي يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى دَوَامِ الْحُضُورِ فِي الصَّلَاةِ ؟ وَهَلْ تَكُونُ تِلْكَ الْوَسَاوِسُ مُبْطِلَةً لِلصَّلَاةِ ؟ أَوْ مُنْقِصَةً لَهَا أَمْ لَا ؟ وَفِي قَوْلِ عُمَرَ : إنِّي لَأُجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ . هَلْ كَانَ ذَلِكَ يَشْغَلُهُ عَنْ حَالِهِ فِي جَمْعِيَّتِهِ أَوْ لَا ؟ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الْوَسْوَاسُ . لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ إذَا كَانَ قَلِيلًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بَلْ يَنْقُصُ الْأَجْرُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْت مِنْهَا . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا إلَّا ثُلُثُهَا إلَّا رُبْعُهَا إلَّا خُمْسُهَا إلَّا سُدْسُهَا إلَّا سُبْعُهَا إلَّا ثُمُنُهَا إلَّا تُسْعُهَا إلَّا عُشْرُهَا } .

وَيُقَالُ : إنَّ النَّوَافِلَ شُرِعَتْ لِجَبْرِ النَّقْصِ الْحَاصِلِ فِي الْفَرَائِضِ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ الصَّلَاةُ فَإِنْ أَكْمَلَهَا وَإِلَّا قِيلَ : اُنْظُرُوا هَلْ لَهُ مَنْ تَطَوُّعٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَتْ بِهِ الْفَرِيضَةُ ثُمَّ يُصْنَعُ بِسَائِرِ أَعْمَالِهِ } . وَهَذَا الْإِكْمَالُ يَتَنَاوَلُ مَا نَقَصَ مُطْلَقًا .
[ وَأَمَّا الْوَسْوَاسُ الَّذِي يَكُونُ غَالِبًا عَلَى الصَّلَاةِ فَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ - مِنْهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ - وَغَيْرُهُمَا : أَنَّهُ يُوجِبُ الْإِعَانَةَ أَيْضًا لِمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ فَإِذَا قُضِيَ التَّأْذِينَ أَقْبَلَ فَإِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ فَإِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ فَيَقُولُ : اُذْكُرْ كَذَا اُذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ } . وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الصَّلَاةُ مَعَ الْوَسْوَاسِ مُطْلَقًا } . وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ] . (*)
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْوَسْوَاسَ كُلَّمَا قَلَّ فِي الصَّلَاةِ كَانَ أَكْمَلَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُحَدِّثْ

فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِوَجْهِهِ وَقَلْبِهِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } . وَمَا زَالَ فِي الْمُصَلِّينَ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ كَمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ثَلَاثِ خِصَالٍ لَوْ كُنْت فِي سَائِرِ أَحْوَالِي أَكُونُ فِيهِنَّ : كُنْت أَنَا أَنَا ؛ إذَا كُنْت فِي الصَّلَاةِ لَا أُحَدِّثُ نَفْسِي بِغَيْرِ مَا أَنَا فِيهِ وَإِذَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا لَا يَقَعُ فِي قَلْبِي رَيْبٌ أَنَّهُ الْحَقُّ وَإِذَا كُنْت فِي جِنَازَةٍ لَمْ أُحَدِّثْ نَفْسِي بِغَيْرِ مَا تَقُولُ وَيُقَالُ لَهَا . وَكَانَ مسلمة بْنُ بَشَّارٍ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَانْهَدَمَ طَائِفَةٌ مِنْهُ وَقَامَ النَّاسُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَشْعُرْ . وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَسْجُدُ فَأَتَى الْمَنْجَنِيقُ فَأَخَذَ طَائِفَةً مِنْ ثَوْبِهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ . وَقَالُوا لِعَامِرِ بْنِ عَبْدِ الْقَيْسِ : أَتُحَدِّثُ نَفْسَك بِشَيْءِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ : أَوَشَيْءٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ أُحَدِّثُ بِهِ نَفْسِي ؟ قَالُوا : إنَّا لَنُحَدِّثُ أَنْفُسَنَا فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ : أَبِالْجِنَّةِ وَالْحُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؟ فَقَالُوا : لَا وَلَكِنْ بِأَهْلِينَا وَأَمْوَالِنَا فَقَالَ : لَأَنْ تَخْتَلِفَ الْأَسِنَّةُ فِيَّ أَحَبُّ إلَيَّ وَأَمْثَالُ هَذَا مُتَعَدِّدٌ . وَاَلَّذِي يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئَانِ : قُوَّةُ الْمُقْتَضِي وَضَعْفُ الشَّاغِلِ . أَمَّا الْأَوَّلُ : فَاجْتِهَادُ الْعَبْدِ فِي أَنْ يَعْقِلَ مَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ وَيَتَدَبَّرُ

الْقِرَاءَةَ وَالذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ وَيَسْتَحْضِرُ أَنَّهُ مُنَاجٍ لِلَّهِ تَعَالَى كَأَنَّهُ يَرَاهُ فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا كَانَ قَائِمًا فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ . وَالْإِحْسَانُ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك ثُمَّ كُلَّمَا ذَاقَ الْعَبْدُ حَلَاوَةَ الصَّلَاةِ كَانَ انْجِذَابُهُ إلَيْهَا أَوْكَدَ وَهَذَا يَكُونُ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ . وَالْأَسْبَابُ الْمُقَوِّيَةُ لِلْإِيمَانِ كَثِيرَةٌ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ : النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ } . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ قَالَ : { أَرِحْنَا يَا بِلَالُ بِالصَّلَاةِ } وَلَمْ يَقُلْ : أَرِحْنَا مِنْهَا . وَفِي أَثَرٍ آخَرَ { لَيْسَ بِمُسْتَكْمِلِ لِلْإِيمَانِ مَنْ لَمْ يَزَلْ مَهْمُومًا حَتَّى يَقُومَ إلَى الصَّلَاةِ } أَوْ كَلَامٌ يُقَارِبُ هَذَا . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ . فَإِنَّ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَخَشْيَتِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِأَخْبَارِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَبَايَنُ النَّاسُ فِيهِ وَيَتَفَاضَلُونَ تَفَاضُلًا عَظِيمًا وَيَقْوَى ذَلِكَ كُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تَدَبُّرًا لِلْقُرْآنِ . وَفَهْمًا وَمَعْرِفَةً بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَعَظْمَتِهِ وَتَفَقُّرِهِ إلَيْهِ فِي عِبَادَتِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِهِ بِحَيْثُ يَجِدُ اضْطِرَارَهُ إلَى أَنْ يَكُونَ تَعَالَى مَعْبُودَهُ وَمُسْتَغَاثَهُ أَعْظَمَ مِنْ اضْطِرَارِهِ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاحَ لَهُ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ مَعْبُودَهُ الَّذِي يَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَيَأْنَسُ بِهِ وَيَلْتَذُّ بِذِكْرِهِ وَيَسْتَرِيحُ بِهِ وَلَا حُصُولَ لِهَذَا إلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ وَمَتَى كَانَ

لِلْقَلْبِ إلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ فَسَدَ وَهَلَكَ هَلَاكًا لَا صَلَاحَ مَعَهُ وَمَتَى لَمْ يُعِنْهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُصْلِحْهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ وَلَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْهُ إلَّا إلَيْهِ . وَلِهَذَا يُرْوَى : أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ جَمَعَ عِلْمَهَا فِي الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ وَجَمَعَ الْكُتُبَ الْأَرْبَعَةَ فِي الْقُرْآنِ وَجَمَعَ عِلْمَ الْقُرْآنِ فِي الْمُفَصَّلِ وَجَمَعَ عِلْمَ الْمُفَصَّلِ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَجَمَعَ عِلْمَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَوْلُهُ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . وَبَسْطُ هَذَا طَوِيلٌ لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ . وَأَمَّا زَوَالُ الْعَارِضِ : فَهُوَ الِاجْتِهَادُ فِي دَفْعِ مَا يَشْغَلُ الْقَلْبَ مِنْ تَفَكُّرِ الْإِنْسَانِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ وَتَدَبُّرُ الْجَوَاذِبِ الَّتِي تَجْذِبُ الْقَلْبَ عَنْ مَقْصُودِ الصَّلَاةِ وَهَذَا فِي كُلِّ عَبْدٍ بِحَسَبِهِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْوَسْوَاسِ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ وَتَعْلِيقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبَاتِ الَّتِي يَنْصَرِفُ الْقَلْبُ إلَى طَلَبِهَا وَالْمَكْرُوهَاتِ الَّتِي يَنْصَرِفُ الْقَلْبُ إلَى دَفْعِهَا .

وَالْوَسَاوِسُ : إمَّا مِنْ قَبِيلِ الْحُبِّ مِنْ أَنْ يَخْطِرَ بِالْقَلْبِ مَا قَدْ كَانَ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الطَّلَبِ وَهُوَ أَنْ يَخْطِرَ فِي الْقَلْبِ مَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ . وَمِنْ الْوَسَاوِسِ مَا يَكُونُ مِنْ خَوَاطِرِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ فَيَتَأَلَّمُ لَهَا قَلْبُ الْمُؤْمِنِ تَأَلُّمًا شَدِيدًا كَمَا { قَالَ الصَّحَابَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا لَأَنْ يَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ فَقَالَ : أَوَجَدْتُمُوهُ قَالُوا : نَعَمْ قَالَ : ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ } . وَفِي لَفْظٍ . { إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا يَتَعَاظَمُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ } . قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : فَكَرَاهَةُ ذَلِكَ وَبُغْضُهُ وَفِرَارُ الْقَلْبِ مِنْهُ هُوَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَانَ غَايَةُ كَيْدِ الشَّيْطَانِ الْوَسْوَسَةَ فَإِنَّ شَيْطَانَ الْجِنِّ إذَا غَلَبَ وَسْوَسَ وَشَيْطَانَ الْإِنْسِ إذَا غَلَبَ كَذَبَ وَالْوَسْوَاسُ يَعْرِضُ لِكُلِّ مَنْ تَوَجَّهَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِذِكْرِ أَوْ غَيْرِهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَثْبُتَ وَيَصْبِرَ وَيُلَازِمَ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ وَلَا يَضْجَرُ فَإِنَّهُ بِمُلَازَمَةِ ذَلِكَ يَنْصَرِفُ عَنْهُ كَيْدُ الشَّيْطَانِ { إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } . وَكُلَّمَا أَرَادَ الْعَبْدُ تَوَجُّهًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَلْبِهِ جَاءَ مِنْ الْوَسْوَاسِ أُمُورٌ أُخْرَى فَإِنَّ الشَّيْطَانَ بِمَنْزِلَةِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ كُلَّمَا أَرَادَ الْعَبْدُ يَسِيرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَرَادَ قَطْعَ الطَّرِيقِ عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا قِيلَ لِبَعْضِ السَّلَفِ : إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ : لَا

نُوَسْوَسُ فَقَالَ صَدَقُوا وَمَا يَصْنَعُ الشَّيْطَانُ بِالْبَيْتِ الْخَرَابِ . وَتَفَاصِيلُ مَا يَعْرِضُ لِلسَّالِكِينَ طَوِيلٌ مَوْضِعُهُ .
وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ قَوْلِهِ : إنِّي لَأُجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ . فَذَاكَ لِأَنَّ عُمَرَ كَانَ مَأْمُورًا بِالْجِهَادِ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ أَمِيرُ الْجِهَادِ . فَصَارَ بِذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُصَلِّي الَّذِي يُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ حَالَ مُعَايَنَةِ الْعَدُوِّ إمَّا حَالَ الْقِتَالِ وَإِمَّا غَيْرَ حَالِ الْقِتَالِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ وَمَأْمُورٌ بِالْجِهَادِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَيْنِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ حَالَ الْجِهَادِ لَا تَكُونُ كَطُمَأْنِينَتِهِ حَالَ الْأَمْنِ فَإِذَا قَدَّرَ أَنَّهُ نَقَصَ مِنْ الصَّلَاةِ شَيْءٌ لِأَجْلِ الْجِهَادِ لَمْ يَقْدَحْ هَذَا فِي كَمَال إيمَانِ الْعَبْدِ وَطَاعَتِهِ وَلِهَذَا تُخَفَّفُ صَلَاةُ الْخَوْفِ عَنْ صَلَاةِ الْأَمْنِ . وَلَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صَلَاةَ الْخَوْفِ قَالَ : { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } فَالْإِقَامَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا حَالَ الطُّمَأْنِينَةِ لَا يُؤْمَرُ بِهَا حَالَ الْخَوْفِ . وَمَعَ هَذَا : فَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ فَإِذَا قَوِيَ إيمَانُ الْعَبْدِ كَانَ حَاضِرَ الْقَلْبِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ تَدَبُّرِهِ لِلْأُمُورِ بِهَا وَعُمَرُ قَدْ

ضَرَبَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ وَهُوَ الْمُحَدِّثُ الْمُلْهَمُ فَلَا يُنْكَرُ لِمَثَلِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعَ تَدْبِيرِهِ جَيْشَهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْحُضُورِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ لَكِنْ لَا رَيْبَ أَنَّ حُضُورَهُ مَعَ عَدَمِ ذَلِكَ يَكُونُ أَقْوَى وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَ أَمْنِهِ كَانَتْ أَكْمَلَ مِنْ صَلَاتِهِ حَالَ الْخَوْفِ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ عَفَا حَالَ الْخَوْفِ عَنْ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ فَكَيْفَ بِالْبَاطِنَةِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَتَفَكُّرُ الْمُصَلِّي فِي الصَّلَاةِ فِي أَمْرٍ يَجِبُ عَلَيْهِ قَدْ يُضَيِّقُ وَقْتَهُ لَيْسَ كَتَفَكُّرِهِ فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ أَوْ فِيمَا لَمْ يَضِقْ وَقْتُهُ وَقَدْ يَكُونُ عُمَرُ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّفَكُّرُ فِي تَدْبِيرِ الْجَيْشِ إلَّا فِي تِلْكَ الْحَالِ وَهُوَ إمَامُ الْأُمَّةِ وَالْوَارِدَاتُ عَلَيْهِ كَثِيرَةٌ . وَمِثْلُ هَذَا يَعْرِضُ لِكُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِ مَرْتَبَتِهِ وَالْإِنْسَانُ دَائِمًا يَذْكُرُ فِي الصَّلَاةِ مَا لَا يَذْكُرُهُ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنْ الشَّيْطَانِ كَمَا يَذْكُرُ أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ ذَكَرَ لَهُ رَجُلٌ أَنَّهُ دَفَنَ مَالًا وَقَدْ نَسِيَ مَوْضِعَهُ فَقَالَ : قُمْ فَصَلِّ فَقَامَ فَصَلَّى فَذَكَرَهُ فَقِيلَ لَهُ : مِنْ أَيْنَ عَلِمْت ذَلِكَ ؟ قَالَ : عَلِمْت أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَدَعُهُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يُذَكِّرَهُ بِمَا يَشْغَلُهُ وَلَا أَهَمَّ عِنْدَهُ مِنْ ذِكْرِ مَوْضِعِ الدَّفْنِ . لَكِنَّ الْعَبْدَ الْكَيِّسَ يَجْتَهِدُ فِي كَمَالِ الْحُضُورِ مَعَ كَمَالِ فِعْلِ بَقِيَّةِ الْمَأْمُورِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ .

وَسُئِلَ :
عَنْ وَسْوَاسِ الرَّجُلِ فِي صَلَاتِهِ وَمَا حَدُّ الْمُبْطِلِ لِلصَّلَاةِ ؟ وَمَا حَدُّ الْمَكْرُوهِ مِنْهُ ؟ وَهَلْ يُبَاحُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ ؟ وَهَلْ يُعَذَّبُ الرَّجُلُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ ؟ وَمَا حَدُّ الْإِخْلَاصِ فِي الصَّلَاةِ ؟ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ لِأَحَدِكُمْ مِنْ صَلَاتِهِ إلَّا مَا عَقَلَ مِنْهَا } ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْوَسْوَاسُ نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا : لَا يَمْنَعُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي فِي الصَّلَاةِ بَلْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْخَوَاطِرِ فَهَذَا لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ ؛ لَكِنْ مَنْ سَلِمَتْ صَلَاتُهُ مِنْهُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ لَمْ تَسْلَمْ مِنْهُ صَلَاتُهُ . الْأَوَّلُ شِبْهُ حَالِ الْمُقَرَّبِينَ وَالثَّانِي شِبْهُ حَالِ الْمُقْتَصِدِينَ .
وَأَمَّا الثَّانِي : فَهُوَ مَا مَنَعَ الْفَهْمَ وَشُهُودَ الْقَلْبِ بِحَيْثُ يَصِيرُ الرَّجُلُ غَافِلًا فَهَذَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ يَمْنَعُ الثَّوَابَ كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا إلَّا ثُلُثُهَا ؛

إلَّا رُبْعُهَا إلَّا خُمْسُهَا إلَّا سُدْسُهَا حَتَّى قَالَ : إلَّا عُشْرُهَا } فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ لَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إلَّا الْعُشْرُ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْت مِنْهَا وَلَكِنْ هَلْ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَيُوجِبُ الْإِعَادَةَ ؟ فِيهِ تَفْصِيلٌ . فَإِنَّهُ إنْ كَانَتْ الْغَفْلَةُ فِي الصَّلَاةِ أَقَلَّ مِنْ الْحُضُورِ وَالْغَالِبُ الْحُضُورُ لَمْ تَجِبْ الْإِعَادَةُ وَإِنْ كَانَ الثَّوَابُ نَاقِصًا فَإِنَّ النُّصُوصَ قَدْ تَوَاتَرَتْ بِأَنَّ السَّهْوَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَإِنَّمَا يُجْبَرُ بَعْضُهُ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَأَمَّا إنْ غَلَبْت الْغَفْلَةُ عَلَى الْحُضُورِ فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ صَحَّتْ فِي الظَّاهِرِ كَحَقْنِ الدَّمِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الصَّلَاةِ لَمْ يَحْصُلْ فَهُوَ شَبِيهُ صَلَاةِ الْمُرَائِي فَإِنَّهُ بِالِاتِّفَاقِ لَا يَبْرَأُ بِهَا فِي الْبَاطِنِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ حَامِدٍ وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمَا . وَالثَّانِي تَبْرَأُ الذِّمَّةُ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَإِنْ كَانَ لَا أَجْرَ لَهُ فِيهَا وَلَا ثَوَابَ بِمَنْزِلَةِ صَوْمِ الَّذِي لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ . وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ

بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ فَإِذَا قُضِيَ التَّأْذِينُ أَقْبَلَ فَإِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ يَقُولُ : اُذْكُرْ كَذَا اُذْكُرْ كَذَا مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ } فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يُذَكِّرُهُ بِأُمُورِ حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى وَأَمَرَهُ بِسَجْدَتَيْنِ لِلسَّهْوِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ . وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ وَأَعْدَلُ ؛ فَإِنَّ النُّصُوصَ وَالْآثَارَ إنَّمَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ مَشْرُوطٌ بِالْحُضُورِ لَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّا إذَا أَحْدَثَ الْمُصَلِّي قَبْلَ السَّلَامِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا أَحْدَثَ الْمُصَلِّي قَبْلَ السَّلَامِ بَطَلَتْ مَكْتُوبَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَكْتُوبَةٍ .

وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ ضَحِكَ فِي الصَّلَاةِ . فَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا التَّبَسُّمُ فَلَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَأَمَّا إذَا قَهْقَهَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَبْطُلُ وَلَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؛ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فِي أَقْوَى الْوَجْهَيْنِ لِكَوْنِهِ أَذْنَبَ ذَنْبًا وَلِلْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ يُنْتَقَضُ وَضَوْءُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ النَّحْنَحَةِ وَالسُّعَالِ وَالنَّفْخِ وَالْأَنِينِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ : فَهَلْ تَبْطُلُ بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ الَّذِي تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهِ مِنْ هَذَا أَوْ غَيْرِهِ ؟ وَفِي أَيِّ مَذْهَبٍ ؟ وأيش الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ } . وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَمِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ } قَالَ : زَيْدُ بْنُ أَرْقَم فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ . وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ : عَلَى أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ عَامِدًا وَهُوَ لَا يُرِيدُ إصْلَاحَ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهَا أَنَّ صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ وَالْعَامِدُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي صَلَاةٍ وَأَنَّ الْكَلَامَ مُحَرَّمٌ . ( قُلْت وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي النَّاسِي وَالْجَاهِلِ وَالْمُكْرَهِ وَالْمُتَكَلِّمِ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ .

إذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَاللَّفْظُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ .
أَحَدُهَا أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنًى بِالْوَضْعِ إمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا مَعَ لَفْظٍ غَيْرِهِ كَفِي وَعَنْ فَهَذَا الْكَلَامُ مِثْلُ : يَدٍ وَدَمٍ وَفَمٍ وَخَدٍّ . الثَّانِي أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنًى بِالطَّبْعِ كَالتَّأَوُّهِ وَالْأَنِينِ وَالْبُكَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
الثَّالِثُ أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى مَعْنًى لَا بِالطَّبْعِ وَلَا بِالْوَضْعِ كَالنَّحْنَحَةِ فَهَذَا الْقِسْمُ كَانَ أَحْمَد يَفْعَلُهُ فِي صَلَاتِهِ وَذَكَرَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ رِوَايَتَيْنِ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالنَّحْنَحَةِ . فَإِنْ قُلْنَا : تَبْطُلُ فَفَعَلَ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ فَوَجْهَانِ . فَصَارَتْ الْأَقْوَالُ فِيهَا ثَلَاثَةً :
أَحَدُهَا أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِحَالِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ ؛ بَلْ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ .
وَالثَّانِي تَبْطُلُ بِكُلِّ حَالٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ .
وَالثَّالِثُ إنْ فَعَلَهُ لِعُذْرِ لَمْ تَبْطُلْ وَإِلَّا بَطَلَتْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا وَقَالُوا : إنْ فَعَلَهُ لِتَحْسِينِ الصَّوْتِ وَإِصْلَاحِهِ

لَمْ تَبْطُلْ قَالُوا : لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ كَثِيرًا فَرَخَّصَ فِيهِ لِلْحَاجَةِ . وَمَنْ أَبْطَلَهَا قَالَ : إنَّهُ يَتَضَمَّنُ حَرْفَيْنِ وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ فَأَشْبَهَ الْقَهْقَهَةَ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ . وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا حَرَّمَ التَّكَلُّمَ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ : { إنَّهُ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَتَنَاوَلُ الْكَلَامَ . وَالنَّحْنَحَةَ لَا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ أَصْلًا فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ بِنَفْسِهَا وَلَا مَعَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَعْنًى وَلَا يُسَمَّى فَاعِلُهَا مُتَكَلِّمًا وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مُرَادُهُ بِقَرِينَةٍ فَصَارَتْ كَالْإِشَارَةِ .
وَأَمَّا الْقَهْقَهَةُ وَنَحْوُهَا فَفِيهَا جَوَابَانِ :
أَحَدُهُمَا أَنْ تَدُلَّ عَلَى مَعْنَى بِالطَّبْعِ .
وَالثَّانِي أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تِلْكَ أَبْطَلَتْ لِأَجْلِ كَوْنِهَا كَلَامًا . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْقَهْقَهَةَ تُبْطِلُ بِالْإِجْمَاعِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ . وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ فِيهَا نِزَاعٌ بَلْ قَدْ يُقَالُ : إنَّ الْقَهْقَهَةَ فِيهَا أَصْوَاتٌ عَالِيَةٌ تُنَافِي حَالَ الصَّلَاةِ وَتُنَافِي الْخُشُوعَ الْوَاجِبَ فِي الصَّلَاةِ فَهِيَ كَالصَّوْتِ الْعَالِي الْمُمْتَدِّ الَّذِي لَا حَرْفَ مَعَهُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ فِيهَا مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالصَّلَاةِ وَالتَّلَاعُبِ بِهَا مَا يُنَاقِضُ مَقْصُودَهَا فَأَبْطَلَتْ لِذَلِكَ

لَا لِكَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا . وَبُطْلَانُهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى كَوْنِهِ كَلَامًا وَلَيْسَ مُجَرَّدَ الصَّوْتِ كَلَامًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ { عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدْخَلَانِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَكُنْت إذَا دَخَلْت عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي يَتَنَحْنَحُ لِي } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِي بِمَعْنَاهُ . وَأَمَّا ( النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى طَبْعًا لَا وَضْعًا فَمِنْهُ النَّفْخُ وَفِيهِ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَد رِوَايَتَانِ أَيْضًا : ( إحْدَاهُمَا لَا تَبْطُلُ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي وَابْنِ سِيرِين وَغَيْرِهِمَا مِنْ السَّلَفِ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَإِسْحَاقَ . ( وَالثَّانِيَةُ أَنَّهَا تُبْطِلُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَعَلَى هَذَا فَالْمُبْطِلُ فِيهِ مَا أَبَانَ حَرْفَيْنِ . وَقَدْ قِيلَ عَنْ أَحْمَد : إنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْكَلَامِ وَإِنْ لَمْ يُبِنْ حَرْفَيْنِ . وَاحْتَجُّوا لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَفَخَ فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ تَكَلَّمَ } رَوَاهُ الْخَلَّالُ ؛ لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ لَا يَصِحُّ مَرْفُوعًا فَلَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ لَكِنْ حَكَى أَحْمَد هَذَا اللَّفْظَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ : النَّفْخُ فِي الصَّلَاةِ كَلَامٌ رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ تَضَمَّنَ حَرْفَيْنِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ جِنْسِ أَذْكَارِ

الصَّلَاةِ فَأَشْبَهَ الْقَهْقَهَةَ وَالْحُجَّةُ مَعَ الْقَوْلِ كَمَا فِي النَّحْنَحَةِ وَالنِّزَاعُ كَالنِّزَاعِ فَإِنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى كَلَامًا فِي اللُّغَةِ الَّتِي خَاطَبَنَا بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ عُمُومُ النَّهْيِ عَنْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ لَمْ يَحْنَثْ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَلَوْ حَلَفَ لَيَتَكَلَّمَنَّ لَمْ يَبَرَّ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَالْكَلَامُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ لَفْظٍ دَالٍّ عَلَى الْمَعْنَى دَلَالَةً وَضْعِيَّةً تُعْرَفُ بِالْعَقْلِ فَأَمَّا مُجَرَّدُ الْأَصْوَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَحْوَالِ الْمُصَوِّتِينَ فَهُوَ دَلَالَةٌ طَبْعِيَّةٌ حِسِّيَّةٌ فَهُوَ وَإِنْ شَارَكَ الْكَلَامَ الْمُطْلَقَ فِي الدَّلَالَةِ فَلَيْسَ كُلُّ مَا دَلَّ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ كَالْإِشَارَةِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ وَتَقُومُ مَقَامَ الْعِبَارَةِ بَلْ تَدُلُّ بِقَصْدِ الْمُشِيرِ وَهِيَ تُسَمَّى كَلَامًا وَمَعَ هَذَا لَا تَبْطُلُ فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا سَلَّمُوا عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِالْإِشَارَةِ } فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْ كُلِّ مَا يَدُلُّ وَيُفْهَمُ وَكَذَلِكَ إذَا قَصَدَ التَّنْبِيهَ بِالْقُرْآنِ وَالتَّسْبِيحَ جَازَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ . وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا كَانَ مَشْرُوعًا فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَبْطُلْ فَإِذَا كَانَ قَدْ قَصَدَ إفْهَامَ الْمُسْتَمِعِ وَمَعَ هَذَا لَمْ تَبْطُلْ فَكَيْفَ بِمَا دَلَّ بِالطَّبْعِ وَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ إفْهَامَ أَحَدٍ وَلَكِنَّ الْمُسْتَمِعَ يَعْلَمُ مِنْهُ حَالَهُ كَمَا يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ حَرَكَتِهِ وَمِنْ سُكُوتِهِ فَإِذَا رَآهُ يَرْتَعِشُ أَوْ يَضْطَرِبُ أَوْ يَدْمَعُ أَوْ يَبْتَسِمُ عَلِمَ حَالَهُ وَإِنَّمَا امْتَازَ هَذَا بِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الصَّوْتِ هَذَا لَوْ لَمْ يَرِدْ بِهِ سُنَّةٌ فَكَيْفَ وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ فَجَعَلَ يَنْفُخُ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : إنَّ النَّارَ أُدْنِيَتْ مِنِّي حَتَّى نَفَخْت حَرَّهَا عَنْ وَجْهِي } . وَفِي الْمُسْنَدِ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ كُسُوفِ الشَّمْسِ نَفَخَ فِي آخِرِ سُجُودِهِ فَقَالَ : أُفٍّ أُفٍّ أُفٍّ رَبِّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لَا تُعَذِّبَهُمْ وَأَنَا فِيهِمْ } ؟ وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ أَوْ فَعَلَهُ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ أَوْ مِنْ النَّارِ . قَالُوا : فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُ عِنْدَنَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد . كَالتَّأَوُّهِ وَالْأَنِينِ عِنْدَهُ وَالْجَوَابَانِ ضَعِيفَانِ : ( أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ كَانَتْ فِي آخِرِ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ مَاتَ ابْنُهُ إبْرَاهِيمَ وَإِبْرَاهِيمُ كَانَ مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ وَمَارِيَةُ أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ بَعْدَ أَنْ أَرْسَلَ إلَيْهِ الْمُغِيرَةَ وَذَلِكَ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فَإِنَّهُ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرْسَلَ رُسُلَهُ إلَى الْمُلُوكِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلَامَ حُرِّمَ قَبْلَ هَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَنْكَرَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ قِصَّةَ ذِي الْيَدَيْنِ كَانَتْ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ ؛ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ شَهِدَهَا فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِمِثْلِ هَذَا فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ بَلْ قَدْ قِيلَ : الشَّمْسُ كَسَفَتْ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَبْلَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَلِيلِ . وَأَمَّا كَوْنُهُ مِنْ الْخَشْيَةِ : فَفِيهِ أَنَّهُ نَفَخَ حَرَّهَا عَنْ وَجْهِهِ وَهَذَا نَفْخٌ لِدَفْعِ مَا يُؤْذِي مِنْ خَارِجٍ كَمَا يَنْفُخُ الْإِنْسَانُ فِي الْمِصْبَاحِ لِيُطْفِئَهُ

أَوْ يَنْفُخُ فِي التُّرَابِ . وَنَفْخُ الْخَشْيَةِ مِنْ نَوْعِ الْبُكَاءِ وَالْأَنِينِ وَلَيْسَ هَذَا ذَاكَ .
وَأَمَّا السُّعَالُ وَالْعُطَاسُ وَالتَّثَاؤُبُ وَالْبُكَاءُ الَّذِي يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَالتَّأَوُّهُ وَالْأَنِينُ فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ هِيَ كَالنَّفْخِ . فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى طَبْعًا وَهِيَ أَوْلَى بِأَنْ لَا تُبْطِلَ فَإِنَّ النَّفْخَ أَشْبَهُ بِالْكَلَامِ مِنْ هَذِهِ إذْ النَّفْخُ يُشْبِهُ التَّأْفِيفَ كَمَا قَالَ : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } لَكِنَّ الَّذِينَ ذَكَرُوا هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد كَأَبِي الْخَطَّابِ وَمُتَّبِعِيهِ ذَكَرُوا أَنَّهَا تُبْطِلُ إذَا أَبَانَ حَرْفَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرُوا خِلَافًا . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ نَصَّهُ فِي النَّحْنَحَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى عَنْهُ فِي النَّفْخِ فَصَارَ ذَلِكَ مُوهِمًا أَنَّ النِّزَاعَ فِي ذَلِكَ فَقَطْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَذِهِ تُبْطِلُ وَالنَّفْخُ لَا يُبْطِلُ . وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ فِي التَّأَوُّهِ وَالْأَنِينِ لَا يُبْطِلُ مُطْلَقًا عَلَى أَصْلِهِ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَمَالِكٌ مَعَ الِاخْتِلَافِ عَنْهُ فِي النَّحْنَحَةِ وَالنَّفْخِ قَالَ : الْأَنِينُ لَا يَقْطَعُ صَلَاةَ الْمَرِيضِ وَأَكْرَهُهُ لِلصَّحِيحِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَنِينَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مَكْرُوهٌ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَرَهُ مُبْطِلًا .

وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ : فَجَرَى عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي وَافَقَهُ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَد وَهُوَ أَنَّ مَا أَبَانَ حَرْفَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْأَصْوَاتِ كَانَ كَلَامًا مُبْطِلًا وَهُوَ أَشَدُّ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَبْعَدُهَا عَنْ الْحُجَّةِ فَإِنَّ الْإِبْطَالَ إنْ أَثْبَتُوهُ بِدُخُولِهَا فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ فِي لَفْظِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْ الْمَعْلُومِ الضَّرُورِيِّ أَنَّ هَذِهِ لَا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ بِالْقِيَاسِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ فَإِنَّ فِي الْكَلَامِ يَقْصِدُ الْمُتَكَلِّمُ مَعَانِيَ يُعَبِّرُ عَنْهَا بِلَفْظِهِ وَذَلِكَ يَشْغَلُ الْمُصَلِّي . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا } وَأَمَّا هَذِهِ الْأَصْوَاتُ فَهِيَ طَبِيعِيَّةٌ كَالتَّنَفُّسِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ زَادَ فِي التَّنَفُّسِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَإِنَّمَا تُفَارِقُ التَّنَفُّسَ بِأَنَّ فِيهَا صَوْتًا وَإِبْطَالُ الصَّلَاةِ بِمُجَرَّدِ الصَّوْتِ إثْبَاتُ حُكْمٍ بِلَا أَصْلٍ وَلَا نَظِيرٍ . وَأَيْضًا فَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ بِالنَّحْنَحَةِ وَالنَّفْخِ كَمَا تَقَدَّمَ وَأَيْضًا فَالصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ بِيَقِينِ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهَا بِالشَّكِّ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الْكَلَامِ هُوَ مَا يُدْعَى مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَلْ هَذَا إثْبَاتُ حُكْمٍ بِالشَّكِّ الَّذِي لَا دَلِيلَ مَعَهُ وَهَذَا النِّزَاعُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ لِغَيْرِ خَشْيَةِ اللَّهِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِخَشْيَةِ اللَّهِ فَمَذْهَبُ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَبْطُلُ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تَبْطُلُ ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فَإِنَّ هَذَا إذَا كَانَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ كَانَ مِنْ جِنْسِ ذِكْرِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ فَإِنَّهُ كَلَامٌ

يَقْتَضِي الرَّهْبَةَ مِنْ اللَّهِ وَالرَّغْبَةَ إلَيْهِ وَهَذَا خَوْفُ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ بِأَنَّهُ أَوَّاهٌ وَقَدْ فُسِّرَ بِاَلَّذِي يَتَأَوَّهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ . وَلَوْ صَرَّحَ بِمَعْنَى ذَلِكَ بِأَنْ اسْتَجَارَ مِنْ النَّارِ أَوْ سَأَلَ الْجَنَّةَ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِخِلَافِ الْأَنِينِ وَالتَّأَوُّهِ فِي الْمَرَضِ وَالْمُصِيبَةِ فَإِنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِمَعْنَاهُ كَانَ كَلَامًا مُبْطِلًا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ { عَائِشَةَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إذَا قَرَأَ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ قَالَ : مُرُوهُ فَلْيُصَلِّ إنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ } وَكَانَ عُمَرُ يُسْمَعُ نَشِيجُهُ مِنْ وَرَاءِ الصُّفُوفِ لَمَّا قَرَأَ : { إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ } وَالنَّشِيجُ : رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْبُكَاءِ كَمَا فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ . وَهَذَا مَحْفُوظٌ عَنْ عُمَرَ ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا وَهَذَا النِّزَاعُ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا . فَأَمَّا مَا يُغْلَبُ عَلَيْهِ الْمُصَلِّي مِنْ عُطَاسٍ وَبُكَاءٍ وَتَثَاؤُبٍ فَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إنَّهُ يُبْطِلُ وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا : كَالنَّاسِي وَكَلَامُ النَّاسِي فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُبْطِلُ .

وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ وَهَذَا أَظْهَرُ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ النَّاسِي لِأَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ مُعْتَادَةٌ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { التَّثَاؤُبُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ } . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ { حَدِيثُ الَّذِي عَطَسَ فِي الصَّلَاةِ وَشَمَّتَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ السُّلَمِي فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاوِيَةَ عَنْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ ؛ وَلَمْ يَقُلْ لِلْعَاطِسِ شَيْئًا } . وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْعُطَاسَ يُبْطِلُ تَكْلِيفٌ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا عَنْ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْوَاتَ الْحَلْقِيَّةَ الَّتِي لَا تَدُلُّ بِالْوَضْعِ فِيهَا نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَنَّ الْأَظْهَرَ فِيهَا جَمِيعًا أَنَّهَا لَا تُبْطِلُ فَإِنَّ الْأَصْوَاتَ مِنْ جِنْسِ الْحَرَكَاتِ وَكَمَا أَنَّ الْعَمَلَ الْيَسِيرَ لَا يُبْطِلُ فَالصَّوْتُ الْيَسِيرُ لَا يُبْطِلُ بِخِلَافِ صَوْتِ الْقَهْقَهَةِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ وَذَلِكَ يُنَافِي الصَّلَاةَ بَلْ الْقَهْقَهَةُ تُنَافِي مَقْصُودَ الصَّلَاةِ أَكْثَرَ ؛ وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ فِيهَا بِحَالِ بِخِلَافِ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ فَإِنَّهُ يُرَخَّصُ فِيهِ لِلضَرُورَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَمَّا إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ وَيَعُدُّ فِي الصَّلَاةِ بِسُبْحَةِ هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَذَا السُّؤَالِ أَنْ يَعُدَّ الْآيَاتِ أَوْ يَعُدَّ تَكْرَارَ السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } بِالسُّبْحَةِ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ وَإِنْ أُرِيدَ بِالسُّؤَالِ شَيْءٌ آخَرُ فَلْيُبَيِّنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
هَلْ لِلْإِنْسَانِ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَجْهَرَ بِالسَّلَامِ أَوْ لَا ؟ خَشْيَةَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ جَاهِلٌ بِالسَّلَامِ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَ الْمُصَلِّي يُحْسِنُ الرَّدَّ بِالْإِشَارَةِ فَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِالْإِشَارَةِ وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ الرَّدَّ بَلْ قَدْ يَتَكَلَّمُ فَلَا يَنْبَغِي إدْخَالُهُ فِيمَا يَقْطَعُ صَلَاتَهُ أَوْ يَتْرُكُ بِهِ الرَّدَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْ الْمَأْمُومِ : هَلْ هُوَ فِي النَّهْيِ كَغَيْرِهِ مِثْلَ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْمَنْهِيُّ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ بَيْنَ يَدَيْ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
__________
آخِرُ المُجَلَّدِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ

الْجُزْءُ الْثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ
كِتَابُ الفِقْهِ
الْجُزْءُ الثَالِثُ : مِنْ سُجُودِ السَّهْوِ إِلَى صَلاَةِ أَهْلِ الْأَعْذَارِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بَابُ سُجُودِ السَّهْوِ
قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
فَصْلٌ فِي سُجُودِ السَّهْوِ
وَالْمُهِمُّ مِنْهُ أُمُورٌ : مِنْهَا مَسَائِلُ الشَّكِّ وَمِنْهَا مَحَلُّهُ هَلْ هُوَ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ ؟ وَمِنْهَا وُجُوبُهُ فَنَقُولُ - وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ - :
أَمَّا الشَّكُّ فَفِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ وَهِيَ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - وَإِنَّمَا تَنَازَعَ النَّاسُ لِكَوْنِ بَعْضِهِمْ لَمْ يَفْهَمْ مُرَادَهُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي

هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ أَحَدَكُمْ إذَا قَامَ يُصَلِّي جَاءَهُ الشَّيْطَانُ : فَلَبَسَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ لَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ الْأَذَانَ فَإِذَا قُضِيَ الْأَذَانُ أَقْبَلَ فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ يَقُولُ : اُذْكُرْ كَذَا اُذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ } . وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ { فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ } وَفِي لَفْظٍ : { يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ } . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْأَمْرُ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ إذَا لَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى وَهُوَ يَقْتَضِي وُجُوبَ السُّجُودِ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَفِيهِ أَنَّهُ سَمَّاهُمَا سَجْدَتَيْ السَّهْوِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا لَا يُشْرَعَانِ إلَّا لِلسَّهْوِ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ . وَقَوْلِهِ : { فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ } مُطْلَقٌ لَمْ يُعَيِّنْ فِيهِ لَا قَبْلَ السَّلَامِ وَلَا بَعْدَهُ لَكِنْ أَمَرَ بِهِمَا قَبْلَ قِيَامِهِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا

فَلْيَطْرَحْ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعَتَا لَهُ صَلَاتِهِ وَإِنْ كَانَ صَلَّى تَمَامًا لِأَرْبَعِ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ } . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ إذَا شَكَّ فَلَمْ يَدْرِ فَلْيَطْرَحْ الشَّكَّ وَفِيهِ الْأَمْرُ بِسَجْدَتَيْنِ قَبْلَ السَّلَامِ . وَقَوْلُهُ : " إذَا شَكَّ " هُوَ مَوْضِعُ اخْتِلَافِ فَهْمِ النَّاسِ . مِنْهُمْ مَنْ فَهِمَ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَقْطَعْ فَهُوَ شَاكٍّ وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ رَاجِحًا عِنْدَهُ فَجَعَلُوا مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَإِنْ وَافَقَهُ الْمَأْمُومُونَ شَاكًّا وَأَمَرُوهُ أَنْ يَطْرَحَ مَا شَكَّ فِيهِ وَيَبْنِيَ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ وَقَالُوا الْأَصْلُ عَدَمُ مَا شَكَّ فِيهِ فَرَجَّحُوا اسْتِصْحَابَ الْحَالِ مُطْلَقًا وَإِنْ قَامَتْ الشَّوَاهِدُ وَالدَّلَائِلُ بِخِلَافِهِ وَلَمْ يَعْتَبِرُوا التَّحَرِّيَ بِحَالِ . وَمِنْهُمْ : مَنْ فَسَّرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ " فَلْيَتَحَرَّ " أَنَّهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ . وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ قَالُوا : إنْ كَانَ إمَامًا فَالْمُرَادُ بِهِ الشَّكُّ الْمُتَسَاوِي وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَالْمُرَادُ بِهِ مَا قَالَهُ أُولَئِكَ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ : بَلْ الْمُرَادُ بِالشَّكِّ مَا اسْتَوَى فِيهِ الطَّرَفَانِ أَوْ تَقَارَبَا وَأَمَّا إذَا تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ يُعْمَلُ بِالرَّاجِحِ وَهُوَ التَّحَرِّي وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ كَالْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ . وَالْأَوَّلُ : هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَاخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد .

وَالثَّانِي : قَوْلُ الخرقي وَأَبِي مُحَمَّدٍ وَقَالَ : إنَّهُ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد . وَالثَّالِثُ : قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فِيمَا إذَا تَكَرَّرَ السَّهْوُ قَالَ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ : بَيْنَ التَّحَرِّي وَالْيَقِينِ فَرْقٌ أَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَيَقُولُ : { إذَا لَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَوْ اثْنَتَيْنِ ؟ جَعَلَهُمَا اثْنَتَيْنِ } . قَالَ : فَهَذَا عَمِلَ عَلَى الْيَقِينِ فَبَنَى عَلَيْهِ وَاَلَّذِي يَتَحَرَّى يَكُونُ قَدْ صَلَّى ثَلَاثًا . فَيَدْخُلُ قَلْبَهُ شَكٌّ أَنَّهُ إنَّمَا صَلَّى اثْنَتَيْنِ إلَّا أَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي نَفْسِي أَنَّهُ قَدْ صَلَّى ثَلَاثًا وَقَدْ دَخَلَ قَلْبَهُ شَيْءٌ فَهَذَا يَتَحَرَّى أَصْوَبَ ذَلِكَ وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ قَالَ : فَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ . قُلْت : حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَد هُوَ نَظِيرُ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَهُوَ فِي السُّنَنِ وَقَدْ صَحَّحَهُمَا التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ . وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَزَادَ أَمْ نَقَصَ فَإِنْ كَانَ شَكَّ فِي الْوَاحِدَةِ وَالثِّنْتَيْنِ فَلْيَجْعَلْهُمَا وَاحِدَةً فَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَثِنْتَيْنِ صَلَّى أَوْ ثَلَاثًا فَلْيَجْعَلْهُمَا اثْنَتَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَجْعَلْهُمَا ثَلَاثًا حَتَّى يَكُونَ الشَّكُّ فِي الزِّيَادَةِ ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ يُسَلِّمُ } .

وَمِنْ أَصَحِّ أَحَادِيثِ الْبَابِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي التَّحَرِّي فَإِنَّهُ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ ؛ لَكِنْ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ شَاهِدٌ لَهُ فَهُمَا نَظِيرُ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ . عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ . إبْرَاهِيمُ زَادَ أَوْ نَقَصَ فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ قَالَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالُوا : صَلَّيْت كَذَا وَكَذَا قَالَ : فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ : إنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ أَنْبَأَتْكُمْ بِهِ وَلَكِنْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ . فَإِذَا نَسِيت فَذَكِّرُونِي وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ } . وَلِلْبُخَارِيِّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ { قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقُصِرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيت ؟ قَالَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالُوا : صَلَّيْت كَذَا وَكَذَا قَالَ : فَسَجَدَ بِهِمْ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ : هَاتَانِ السَّجْدَتَانِ لِمَنْ لَا يَدْرِي زَادَ فِي صَلَاتِهِ أَوْ نَقَصَ فَيَتَحَرَّى الصَّوَابَ فَيُتِمُّ عَلَيْهِ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ يُسَلِّمُ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ { فَلْيَنْظُرْ أَحْرَى ذَلِكَ إلَى الصَّوَابِ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { فَلْيَتَحَرَّ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ صَوَابٌ } وَفِي رِوَايَةٍ { فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَ ذَلِكَ إلَى الصَّوَابِ } .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : { صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِمَّا زَادَ أَوْ نَقَصَ . قَالَ إبْرَاهِيمُ : وَأَيْمُ اللَّهِ مَا ذَاكَ إلَّا مِنْ قِبَلِي فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ ؟ فَقَالَ : لَا فَقُلْنَا لَهُ الَّذِي صَنَعَ فَقَالَ : إذَا زَادَ أَوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَالَ : ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ } وَقَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْقَوْلِ عَلَى أَنَّ التَّحَرِّيَ هُوَ طَرْحُ الْمَشْكُوكِ فِيهِ وَالْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِوُجُوهِ : مِنْهَا : أَنَّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِمَا { إذَا كُنْت فِي صَلَاةٍ فَشَكَكْت فِي ثَلَاثٍ وَأَرْبَعٍ وَأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ تَشَهَّدْت ثُمَّ سَجَدْت وَأَنْتَ جَالِسٌ } . وَمِنْهَا : أَنَّ الْأَلْفَاظَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ يَتَحَرَّى مَا يَرَى أَنَّهُ الصَّوَابُ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الزَّائِدَ أَوْ النَّاقِصَ وَلَوْ كَانَ مَأْمُورًا مُطْلَقًا بِطَرْحِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَحَرٍّ لِلصَّوَابِ . وَمِنْهَا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ هُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ وَعَنْهُ أَخَذَ ذَلِكَ أَهْلُ الْكُوفَةِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ كَإِبْرَاهِيمَ وَأَتْبَاعِهِ . وَعَنْهُ أَخَذَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ . وَمِنْهَا : أَنَّهُ هُنَا أَمَرَ بِالسَّجْدَتَيْنِ بَعْدَ السَّلَامِ . وَفِي حَدِيثِ أَبِي

سَعِيدٍ أَمَرَ بِالسَّجْدَتَيْنِ قَبْلَ السَّلَامِ . وَمِنْهَا : أَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ { إنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعَتَا لَهُ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَ صَلَّى إتْمَامًا لِأَرْبَعِ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ } . فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَهُوَ شَاكٌّ هَلْ زَادَ أَوْ نَقَصَ ؟ هَلْ صَلَّى أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا وَتَبَيَّنَ مَصْلَحَةُ السَّجْدَتَيْنِ عَلَى تَقْدِيرِ النَّقِيضَيْنِ . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { فَيَتَحَرَّى الصَّوَابَ فَيُتِمُّ عَلَيْهِ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَفِي لَفْظٍ فَيُتِمُّ عَلَيْهِ ثُمَّ يُسَلِّمُ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ } فَجَعَلَ مَا فَعَلَهُ بَعْدَ التَّحَرِّي تَمَامًا لِصَلَاتِهِ وَجَعَلَهُ هُنَا مُتِمًّا لِصَلَاتِهِ لَيْسَ شَاكًّا فِيهَا ؛ لَكِنَّ لَفْظَ الشَّكِّ يُرَادُ بِهِ تَارَةً مَا لَيْسَ بِيَقِينِ وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ دَلَائِلُ وَشَوَاهِدُ عَلَيْهِ حَتَّى قَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ : { نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إبْرَاهِيمَ } أَنَّهُ جَعَلَ مَا دُونَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ الَّتِي طَلَبَهَا إبْرَاهِيمُ شَكًّا وَإِنْ كَانَ إبْرَاهِيمُ مُوقِنًا لَيْسَ عِنْدَهُ شَكٌّ يَقْدَحُ فِي يَقِينِهِ وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ لَهُ رَبُّهُ : { أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } . فَإِذَا كَانَ قَدْ سُمِّيَ مِثْلُ هَذَا شَكًّا فِي قَوْلِهِ : { نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إبْرَاهِيمَ } فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يَقِينَ عِنْدَهُ ؟ فَمَنْ عَمِلَ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ

فَقَدْ عَمِلَ بِعِلْمِ لَمْ يَعْمَلْ بِظَنِّ وَلَا شَكٍّ ؟ وَإِنْ كَانَ لَا يُوقِنُ أَنْ لَيْسَ هُنَاكَ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْ الدَّلِيلِ الَّذِي عَمِلَ بِهِ . وَاجْتِهَادُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَالْحَاكِمُ إذَا حَكَمَ بِشَهَادَةِ الْعَدْلَيْنِ حَكَمَ بِعِلْمِ . لَا بِظَنِّ وَجَهْلٍ وَكَذَلِكَ إذَا حَكَمَ بِإِقْرَارِ الْمُقِرِّ وَهُوَ شَهَادَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَعَ هَذَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَاطِنُ بِخِلَافِ مَا ظَهَرَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } . وَإِذَا كَانَ لَدَيْك مَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّكِّ لَمْ يُرِدْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ } بَلْ أَكْثَرُ الْخَلْقِ لَا يَجْزِمُونَ جَزْمًا يَقِينِيًّا لَا يَحْتَمِلُ الشَّكَّ بِعَدِّ لِكُلِّ صَلَاةٍ صَلَّاهَا وَلَكِنْ يَعْتَقِدُونَ عَدَدَ الصَّلَاةِ اعْتِقَادًا رَاجِحًا وَهَذَا لَيْسَ بِشَكِّ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ } إنَّمَا هُوَ حَالُ مَنْ لَيْسَ لَهُ اعْتِقَادٌ رَاجِحٌ وَظَنٌّ غَالِبٌ فَهَذَا إذَا تَحَرَّى وَارْتَأَى وَتَأَمَّلَ فَقَدْ يَظْهَرُ لَهُ رُجْحَانُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَلَا يَبْقَ شَاكًّا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ كَانَ شَاكًّا قَبْلَ التَّحَرِّي وَبَعْدَ التَّحَرِّي مَا بَقِيَ شَاكًّا مِثْلَ سَائِرِ مَوَاضِعِ التَّحَرِّي كَمَا إذَا شَكَّ فِي الْقِبْلَةِ فَتَحَرَّى حَتَّى تَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَحَدُ الْجِهَاتِ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَاكًّا . وَكَذَلِكَ الْعَالِمُ الْمُجْتَهِدُ وَالنَّاسِي إذَا ذَكَرَ وَغَيْرُ ذَلِكَ .

وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ : { إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ } خِطَابٌ لِمَنْ اسْتَمَرَّ الشَّكُّ فِي حَقِّهِ بِأَنْ لَا يَكُونَ قَادِرًا عَلَى التَّحَرِّي ؛ إذْ لَيْسَ عِنْدَهُ أَمَارَةٌ وَدَلَالَةٌ تُرَجِّحُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ ، أَوْ تَحَرَّى وَارْتَأَى : فَلَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدَهُ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ : لَيْسَ هُنَا دَلَالَةٌ تُبَيِّنُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ غَلِطَ فَقَدْ يَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِمُوَافَقَةِ الْمَأْمُومِينَ إذَا كَانَ إمَامًا وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِمُخْبِرِ يُخْبِرُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ فَيَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ اعْتِقَادٌ رَاجِحٌ . وَقَدْ يَتَذَكَّرُ مَا قَرَأَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ فَيَذْكُرُ أَنَّهُ قَرَأَ بِسُورَتَيْنِ فِي رَكْعَتَيْنِ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا رَكْعَةً وَقَدْ يَذْكُرُ أَنَّهُ تَشَهَّدَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ صَلَّى ثِنْتَيْنِ لَا وَاحِدَةً وَأَنَّهُ صَلَّى ثَلَاثًا لَا اثْنَتَيْنِ وَقَدْ يَذْكُرُ أَنَّهُ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ وَحْدَهَا فِي رَكْعَةٍ ثُمَّ فِي رَكْعَةٍ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا لَا ثَلَاثًا وَقَدْ يَذْكُرُ أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ رَكْعَتَيْنِ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا لَا ثَلَاثًا وَاثْنَتَيْنِ لَا وَاحِدَةً وَقَدْ يَذْكُرُ أَنَّهُ تَشَهَّدَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ وَالشَّكُّ بَعْدَهُ فِي رَكْعَةٍ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ صَلَّى ثَلَاثًا لَا اثْنَتَيْنِ . وَمِنْهَا : أَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ فِي بَعْضِ الرَّكَعَاتِ : إمَّا مِنْ دُعَاءٍ وَخُشُوعٍ وَإِمَّا مِنْ سُعَالٍ وَنَحْوِهِ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مَا يَعْرِفُ بِهِ تِلْكَ الرَّكْعَةَ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَلَّى قَبْلَهَا وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَيَزُولُ الشَّكُّ وَهَذَا بَابٌ لَا يَنْضَبِطُ فَإِنَّ النَّاسَ دَائِمًا يَشُكُّونَ فِي أُمُورٍ : هَلْ كَانَتْ أَمْ لَمْ تَكُنْ ؟ ثُمَّ يَتَذَكَّرُونَ وَيَسْتَدِلُّونَ بِأُمُورِ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ فَيَزُولُ

الشَّكُّ فَإِذَا تَحَرَّى الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ لِلصَّوَابِ أَزَالَ الشَّكَّ . وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا . ثُمَّ إذَا تَحَرَّى الصَّوَابَ وَرَأَى أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا كَانَ إذَا صَلَّى خَامِسَةً قَدْ صَلَّى فِي اعْتِقَادِهِ خَمْسَ رَكَعَاتٍ وَهُوَ لَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ بِخِلَافِ الشَّكِّ الْمُتَسَاوِي فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ الشَّكِّ فِي الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ وَالشَّكُّ فِي الزِّيَادَةِ أَوْلَى فَإِنَّ مَا زَادَهُ مَعَ الشَّكِّ مِثْلُ مَا زَادَهُ سَهْوًا وَذَلِكَ لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ . وَأَمَّا إذَا شَكَّ فِي النَّقْصِ فَهُوَ شَاكٌّ فِي فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ فَلَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ مِنْهُ . وَأَيْضًا فَالْأَقْوَالُ الْمُمْكِنَةُ فِي هَذَا الْبَابِ : إمَّا أَنْ يُقَالَ : يَطْرَحُ الشَّكَّ مُطْلَقًا وَلَا يَتَحَرَّى . أَوْ يُحْمَلُ التَّحَرِّي عَلَى طَرْحِ الشَّكِّ فَهَذَا مُخَالَفَةٌ صَرِيحَةٌ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَإِمَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ هَذَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَهَذَا فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ كِلَا الْحَدِيثَيْنِ خِطَابٌ لِلْمُصَلِّينَ لَمْ يُخَاطِبْ بِأَحَدِهِمَا الْأَئِمَّةَ وَبِالْآخَرِ الْمُنْفَرِدِينَ وَلَا فِي لَفْظِ وَاحِدٍ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَجَعْلُ هَذَا هُوَ مُرَادَ الرَّسُولِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نِسْبَةٌ لَهُ إلَى التَّدْلِيسِ وَالتَّلْبِيسِ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَإِنَّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ مَعَ تَسَاوِي الشَّكِّ مُتَنَاوِلٌ لِلْجَمِيعِ

بِالِاتِّفَاقِ فَإِخْرَاجُ الْأَئِمَّةِ مِنْهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ مُتَنَاوِلٌ لِمَا تَنَاوَلَهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنَّ كِلَاهُمَا خِطَابٌ لِلشَّاكِّ فَذَاكَ أَمْرٌ لَهُ بِالتَّحَرِّي . إذَا أَمْكَنَهُ فَيَزُولُ الشَّكُّ . وَالثَّانِي أَمْرٌ لَهُ إذَا لَمْ يَزَلْ الشَّكُّ مَاذَا يَصْنَعُ . وَهَذَا كَمَا يُقَالُ لِلْحَاكِمِ : اُحْكُمْ بِالْبَيِّنَةِ وَاحْكُمْ بِالشُّهُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مَعَ الْإِمْكَانِ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ رَجَعَ إلَى الِاسْتِصْحَابِ وَهُوَ الْبَرَاءَةُ . كَذَلِكَ الْمُصَلِّي الشَّاكُّ : يَعْمَلُ بِمَا يُبَيِّنُ لَهُ الصَّوَابَ فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ رَجَعَ إلَى الِاسْتِصْحَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ؛ . وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالتَّحَرِّي يَقْطَعُ وَسْوَاسَ الشَّيْطَانِ أَوْ يُقَلِّلُهُ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَتَحَرَّ فَلَا يَزَالُ الشَّيْطَانُ يُشَكِّكُهُ فِيمَا فَعَلَهُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ . وَقَدْ قَالُوا : إنَّهُ لَوْ شَكَّ بَعْدَ السَّلَامِ هَلْ تَرَكَ وَاجِبًا لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ سَلَّمَ بَعْدَ إتْمَامِهَا فَعُلِمَ أَنَّ الظَّاهِرَ يُقَدَّمُ عَلَى الِاسْتِصْحَابِ وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ أُمُورِ الشَّرْعِ . وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي عَدَدِ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَرَمْي الْجِمَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ : أَنَّ التَّمَسُّكَ بِمُجَرَّدِ اسْتِصْحَابِ حَالِ الْعَدَمِ أَضْعَفُ الْأَدِلَّةِ مُطْلَقًا وَأَدْنَى دَلِيلٍ يُرَجَّحُ عَلَيْهِ كَاسْتِصْحَابِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ

فِي نَفْيِ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ فَهَذَا بِاتِّفَاقِ النَّاسِ أَضْعَفُ الْأَدِلَّةِ وَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ إلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ : هَلْ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ مَا تَقْتَضِي الْإِيجَابَ أَوْ التَّحْرِيمَ ؟ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُجَوِّزُ التَّمَسُّكَ بِهِ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ بَلْ فِي دَفْعِ الْخَصْمِ وَمَنْعِهِ فَيَقُولُ : أَنَا لَا أُثْبِتُ الْإِيجَابَ وَلَا أَنْفِيهِ بَلْ أُطَالِبُ مَنْ يُثْبِتُهُ بِالدَّلِيلِ أَوْ أَمْنَعُهُ أَوْ أَدْفَعُهُ عَنْ إثْبَاتِ إيجَابٍ بِلَا دَلِيلٍ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَأَمَّا . أَهْلُ الظَّاهِرِ فَهُوَ عُمْدَتُهُمْ لَكِنْ بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا يَجُوزُ الْإِخْبَارُ بِانْتِفَاءِ الْأَشْيَاءِ وَعَدَمِ وُجُودِهَا : بِمُجَرَّدِ هَذَا الِاسْتِصْحَابِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِمَا يَقْتَضِي عَدَمَهَا وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ كَاذِبًا مُتَكَلِّمًا بِلَا عِلْمٍ وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا يُوجَدُ فِي الْعَالَمِ وَالْإِنْسَانُ لَا يَعْرِفُهُ فَعَدَمُ عِلْمِهِ لَيْسَ عِلْمًا بِالْعَدَمِ وَلَا مُجَرَّدُ كَوْنِ الْأَصْلِ عَدَمَ الْحَوَادِثِ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِانْتِفَاءِ شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا بِدَلِيلِ يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ ؛ لَكِنْ الِاسْتِصْحَابُ يُرَجَّحُ بِهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَمَا دَلَّ عَلَى الْإِثْبَاتِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ فَهُوَ رَاجِحٌ عَلَى مُجَرَّدِ اسْتِصْحَابِ النَّفْيِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي أُمِرَ الْمُصَلِّي أَنْ يَتَحَرَّاهُ فَإِنَّ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ رَاجِحٌ عَلَى اسْتِصْحَابِ عَدَمِ الصَّلَاةِ وَهَذَا حَقِيقَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ " وَهِيَ مَحَلُّ السُّجُودِ : هَلْ هُوَ قَبْلَ السَّلَامِ ؟ أَوْ بَعْدَهُ ؟ فَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ مَشْهُورَةٌ . قِيلَ : كُلُّهُ قَبْلَ السَّلَامِ وَقِيلَ : كُلُّهُ بَعْدَهُ وَقِيلَ : بِالْفَرْقِ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ . وَعَلَى هَذَا فَفِي الشَّكِّ نِزَاعٌ . وَقِيلَ : بِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَسْجُدَ قَبْلَ السَّلَامِ ؛ لَكِنْ مَا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِالسُّجُودِ فِيهِ بَعْدَ السَّلَامِ سَجَدَ بَعْدَهُ ؛ لِأَجْلِ النَّصِّ ؛ وَالْبَاقِي عَلَى الْأَصْلِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد . وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالثَّانِي قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّالِثُ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَاخْتُلِفَ عَنْهُ ، فَرُوِيَ عَنْهُ فِيمَا إذَا صَلَّى خَمْسًا هَلْ يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ بِأَنَّهُ كُلُّهُ قَبْلَ السَّلَامِ لَكِنْ لَمْ نَجِدْ بِهَذَا لَفْظًا عَنْهُ وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كُلُّهُ بَعْدَ السَّلَامِ وَهَذَا غَلَطٌ مَحْضٌ . وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُ يَقُولُونَ : لَمْ يَخْتَلِفْ كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَد أَنَّ بَعْضَهُ

قَبْلَ السَّلَامِ وَبَعْضَهُ بَعْدَهُ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ أَحْمَد فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ أَنْ يَسْجُدَ لَهُمَا بَعْدَ السَّلَامِ إذَا سَلَّمَ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ رَكْعَةٌ أَوْ أَكْثَرُ وَإِذَا شَكَّ وَتَحَرَّى . قَالَ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ : أَنَا أَقُولُ : كُلُّ سَهْوٍ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَجَدَ فِيهِ بَعْدَ السَّلَامِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ فِيهِ بَعْدَ السَّلَامِ وَسَائِرُ السُّجُودِ يَسْجُدُ فِيهِ قَبْلَ السَّلَامِ هُوَ أَصَحُّ فِي الْمَعْنَى . وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ شَأْنِ الصَّلَاةِ فَيَقْضِيهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ قَالَ : فَسَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ بَعْدَ السَّلَامِ وَفِي غَيْرِهَا قَبْلَ السَّلَامِ . قُلْت : اشْرَحْ الْمَوَاضِعَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي بَعْدَ السَّلَامِ . قَالَ : { سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فَسَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ } هَذَا حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ . { وَسَلَّمَ مِنْ ثَلَاثٍ فَسَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ } هَذَا حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ . وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي التَّحَرِّي سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : قَالَ الْقَاضِي : لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ أَحْمَد فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّهُ يَسْجُدُ لَهُمَا بَعْدَ السَّلَامِ قَالَ : وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي مَنْ سَهَا فَصَلَّى خَمْسًا هَلْ يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَمَا عَدَا هَذِهِ الْمَوَاضِعَ الثَّلَاثَةَ يَسْجُدُ لَهَا قَبْلَ السَّلَامِ رِوَايَةً وَاحِدَةً . وَبِهَذَا قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد وَأَبُو خيثمة . وَابْنُ الْمُنْذِرِ . قَالَ : وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ :

إحْدَاهُمَا : أَنَّ السُّجُودَ كُلَّهُ قَبْلَ السَّلَامِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ مَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ يَسْجُدُ لَهُ قَبْلَ السَّلَامِ لِحَدِيثِ ابْنِ بحينة وَمَا كَانَ مِنْ زِيَادَةٍ سَجَدَ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ لِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ حِينَ صَلَّى خَمْسًا وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَطَائِفَةٌ : كُلُّهُ بَعْدَ السَّلَامِ . قُلْت : أَحْمَد يَقُولُ فِي الشَّكِّ إذَا طَرَحَهُ وَبَنَى عَلَى الْيَقِينِ : أَنَّهُ يَسْجُدُ لَهُ قَبْلَ السَّلَامِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . فَعَلَى قَوْلِهِ الْمُوَافِقِ لِمَالِكِ مَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ وَشَكٍّ فَقَبْلَهُ وَمَا كَانَ مِنْ زِيَادَةٍ فَبَعْدَهُ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ لِلزِّيَادَةِ لَا لِلنَّقْصِ وَالزِّيَادَةُ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا كَلَامُ أَحْمَد هِيَ : مَا إذَا صَلَّى خَمْسًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيح أَنَّهُ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ لَكِنْ هُنَاكَ كَانَ قَدْ نَسِيَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسًا فَلَمَّا انْفَتَلَ شَوَّشَ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ : مَا شَأْنُكُمْ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ زِيدَ فِي الصَّلَاةِ قَالَ : لَا قَالُوا : فَإِنَّك قَدْ صَلَّيْت خَمْسًا فَانْفَتَلَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَالَ : إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ } وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَذْكُرُ كَمَا تَذْكُرُونَ وَأَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ

سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ ثُمَّ تَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ } . وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ } . فَهَذَا الْمَوْضِعُ اخْتَلَفَ فِيهِ كَلَامُ أَحْمَد : هَلْ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ كَمَا سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ أَمْ يَسْجُدُ قَبْلَهُ إذَا ذَكَرَ قَبْلَ السَّلَامِ ؟ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَذْكُرْ حَتَّى سَلَّمَ وَذَكَّرُوهُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ السُّجُودُ بَعْدَ السَّلَامِ مُخْتَصًّا بِمَوْرِدِ النَّصِّ كَمَا قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا . كَمَا لَا يَكُونُ السُّجُودُ قَبْلَ السَّلَامِ مُخْتَصًّا بِمَوْرِدِ النَّصِّ . كَمَا قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ : أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمَا ؛ بَلْ الصَّوَابُ أَنَّ السُّجُودَ بَعْضُهُ قَبْلَ السَّلَامِ وَبَعْضُهُ بَعْدَهُ كَمَا ثَبَتَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ . وَمَنْ قَالَ : كُلُّهُ قَبْلَ السَّلَامِ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ كَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ السُّجُودُ قَبْلَ السَّلَامِ فَقَدْ ادَّعَى النَّسْخَ وَهُوَ ضَعِيفٌ فَإِنَّ السُّجُودَ بَعْدَ السَّلَامِ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ فَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ

يَقُولُونَ : إنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخِ وَإِنَّمَا يَقُولُ : إنَّهُ مَنْسُوخٌ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِ الزُّهْرِيِّ إنَّ ذِي الْيَدَيْنِ مَاتَ قَبْلَ بَدْرٍ وَإِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً . فَقَوْلُ الزُّهْرِيِّ بِنَسْخِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا وَهُوَ ضَعِيفٌ فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ صَلَّى خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ وَإِنَّمَا أَسْلَمَ عَامَ خَيْبَرَ فَاَلَّذِينَ يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِ الزُّهْرِيِّ هُنَا قَدْ رَدُّوا قَوْلَهُ بِالنَّسْخِ هُنَاكَ وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِنَسْخِ حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ هُمْ يَأْمُرُونَ بِالسُّجُودِ بَعْدَ السَّلَامِ فَكُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ ادَّعَتْ نَسْخَ الْحَدِيثِ فِيمَا يُخَالِفُ قَوْلَهَا بِلَا حُجَّةٍ وَالْحَدِيثُ مُحْكَمٌ فِي أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ وَفِي أَنَّهُ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ لَيْسَ لِوَاحِدِ مِنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَارِضٌ يَنْسَخُهُ . وَأَيْضًا فَالنَّسْخُ إنَّمَا يَكُونُ بِمَا يُنَاقِضُ الْمَنْسُوخَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ وَلَمْ يَنْقُلْ مُسْلِمٌ أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فَبَطَلَ النَّسْخُ . وَإِذَا قِيلَ : إنَّهُ سَجَدَ بَعْدَ ذَلِكَ قَبْلَ السَّلَامِ فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ بحينة لَمَّا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ وَفِي حَدِيثِ الشَّكِّ فَلَا مُنَافَاةَ ؛ لَكِنَّ هَذَا الظَّانَّ ظَنَّ أَنَّهُ إذَا سَجَدَ فِي صُورَةٍ قَبْلَ السَّلَامِ كَانَ هَذَا نَسْخًا لِلسُّجُودِ بَعْدَهُ فِي صُورَةٍ أُخْرَى وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ أَنَّهُ سَجَدَ تَارَةً قَبْلَ

السَّلَامِ وَتَارَةً بَعْدَهُ وَلَوْ نُقِلَ ذَلِكَ لَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ فَدَعْوَى النَّسْخِ فِي هَذَا الْبَابِ بَاطِلٌ . وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَبْطُلَ بِأَمْرِهِ بِالسُّجُودِ بَعْدَ السَّلَامِ فِي صُورَةٍ وَفِعْلُهُ لَهُ مِمَّا لَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ وَمَنْ قَالَ : السُّجُودُ كُلُّهُ بَعْدَ السَّلَامِ وَاحْتَجَّ بِمَا فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ ثوبان : { لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ } فَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَيَّاشٍ عَنْ أَهْلِ الْحِجَازِ . وَذَلِكَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَبِحَدِيثِ ابْنِ جَعْفَرٍ { مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ } فَفِيهِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ الْأَثْرَمُ لَا يَثْبُتُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَعَ أَنَّ هَذَا قَدْ يَكُونُ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ { وَإِذَا شَكَّ فَيَتَحَرَّى } وَيَكُونُ هَذَا مُخْتَصَرًا مِنْ ذَاكَ . وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعَارِضُ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ ؛ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ فِي الشَّكِّ { أَنَّهُ أَمَرَ بِسَجْدَتَيْنِ قَبْلَ السَّلَامِ } وَحَدِيثَ ابْن بحينة الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ مَسَائِلِ السَّهْوِ لَمَّا تَرَكَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ وَسَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تُبَيِّنُ ضَعْفَ قَوْلِ كُلِّ مَنْ عَمَّمَ فَجَعَلَهُ كُلَّهُ قَبْلَهُ أَوْ جَعَلَهُ كُلَّهُ بَعْدَهُ . بَقِيَ التَّفْصِيلُ . فَيُقَالُ : الشَّارِعُ حَكِيمٌ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِلَا فَرْقٍ فَلَا يَجْعَلُ بَعْضَ السُّجُودِ بَعْدَهُ وَبَعْضَهُ قَبْلَهُ إلَّا لِفِرَقِ بَيْنَهُمَا

وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّهُ كُلُّهُ قَبْلَهُ لَكِنْ خُولِفَ الْقِيَاسُ فِي مَوَاضِعَ لِلنَّصِّ فَبَقِيَ فِيمَا عَدَاهُ عَلَى الْقِيَاسِ ؛ يَحْتَاجُ فِي هَذَا إلَى شَيْئَيْنِ إلَى أَنْ يُبَيِّنَ الدَّلِيلَ الْمُقْتَضِيَ لِكَوْنِهِ كُلِّهِ قَبْلَهُ ثُمَّ إلَى بَيَانِ أَنَّ صُورَةَ الِاسْتِثْنَاءِ اخْتَصَّتْ بِمَعْنَى يُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا . وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلسُّجُودِ قَبْلَ السَّلَامِ شَامِلًا لِلْجَمِيعِ امْتَنَعَ مِنْ الشَّارِعِ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ ذَلِكَ بَعْدَ السَّلَامِ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّقَ لِمَعْنَى فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مُخْتَصًّا بِصُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا اسْتَثْنَى وَبَيْنَ مَا اسْتَبْقَى كَانَ تَفْرِيقًا بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ حُجَّةٍ . وَإِذَا قَالَ : عَلِمْت أَنَّ الْمُوجِبَ لِلسُّجُودِ قَبْلَ السَّلَامِ عَامٌّ لَكِنْ لَمَّا اسْتَثْنَى النَّصَّ مَا اسْتَثْنَاهُ عَلِمْت وُجُودَ الْمَعْنَى الْمُعَارِضَ فِيهِ . فَيُقَالُ لَهُ : فَمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمُوجِبُ لِمَا قَبْلَ السَّلَامِ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمُوجِبُ لِمَا بَعْدَ السَّلَامِ فَإِنَّك لَا تَعْلَمُ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي أَوْجَبَ كَوْنَ تِلْكَ الصُّوَرِ بَعْدَ السَّلَامِ مُنْتَفِيًا عَنْ غَيْرِهَا وَمَعَ كَوْنِ نَوْعٍ مِنْ السُّجُودِ بَعْدَ السَّلَامِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ التَّامُّ لَهُ قَبْلَ السَّلَامِ عَامًّا فَمَا بَقِيَ مَعَك مَعْنًى عَامٌّ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْجَزْمِ بِأَنَّ الْمَشْكُوكَ قَبْلَ السَّلَامِ وَلَا بِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ مُخْتَصٌّ بِمَوْرِدِ النَّصِّ فَنَفْيُ التَّفْرِيقِ قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ يُوجِبُ الْفَرْقَ وَهُوَ قَوْلٌ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ فَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ الْمَحْضُ

الَّذِي لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ الْفَرْقُ بَيْنَ صُورَةِ الِاسْتِحْسَانِ وَغَيْرِهَا . وَحِينَئِذٍ فَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ الْفَرْقُ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ وَبَيْنَ الشَّكِّ مَعَ التَّحَرِّي وَالشَّكِّ مَعَ الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ . وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد وَقَوْلُ مَالِكٍ قَرِيبٌ مِنْهُ وَلَيْسَ مِثْلَهُ فَإِنَّ هَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ اسْتِعْمَالِ النُّصُوصِ كُلِّهَا : فِيهِ الْفَرْقُ الْمَعْقُولُ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي نَقْصٍ كَتَرْكِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ احْتَاجَتْ الصَّلَاةُ إلَى جَبْرٍ وَجَابِرُهَا يَكُونُ قَبْلَ السَّلَامِ لِتَتِمَّ بِهِ الصَّلَاةُ فَإِنَّ السَّلَامَ هُوَ تَحْلِيلٌ مِنْ الصَّلَاةِ . وَإِذَا كَانَ مِنْ زِيَادَةٍ كَرَكْعَةِ لَمْ يَجْمَعْ فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ زِيَادَتَيْنِ بَلْ يَكُونُ السُّجُودُ بَعْدَ السَّلَامِ ؛ لِأَنَّهُ إرْغَامٌ لِلشَّيْطَانِ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةٍ مُسْتَقِلَّةٍ جَبَرَ بِهَا نَقْصَ صَلَاتِهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ السَّجْدَتَيْنِ كَرَكْعَةِ . وَكَذَلِكَ إذَا شَكَّ وَتَحَرَّى فَإِنَّهُ أَتَمَّ صَلَاتَهُ وَإِنَّمَا السَّجْدَتَانِ لِتَرْغِيمِ الشَّيْطَانِ فَيَكُونُ بَعْدَ السَّلَامِ . وَمَالِكٌ لَا يَقُولُ بِالتَّحَرِّي وَلَا بِالسُّجُودِ بَعْدَ السَّلَامِ فِيهِ . وَكَذَلِكَ إذَا سَلَّمَ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ صَلَاتِهِ ثُمَّ أَكْمَلَهَا فَقَدْ أَتَمَّهَا وَالسَّلَامُ مِنْهَا زِيَادَةٌ وَالسُّجُودُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ السَّلَامِ ؛ لِأَنَّهُ إرْغَامٌ لِلشَّيْطَانِ .

وَأَمَّا إذَا شَكَّ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الرَّاجِحُ فَهُنَا إمَّا أَنْ يَكُونَ صَلَّى أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا فَالسَّجْدَتَانِ يَشْفَعَانِ لَهُ صَلَاتَهُ لِيَكُونَ كَأَنَّهُ قَدْ صَلَّى سِتًّا لَا خَمْسًا وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ السَّلَامِ وَمَالِكٌ هُنَا يَقُولُ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ . فَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرْنَاهُ هُوَ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِيهِ جَمِيعُ الْأَحَادِيثِ لَا يُتْرَكُ مِنْهَا حَدِيثٌ مَعَ اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ وَإِلْحَاقُ مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصِ بِمَا يُشْبِهُهُ مِنْ الْمَنْصُوصِ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَ السَّلَامِ سَهْوٌ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ فَيُقَالُ : إذَا زَادَ غَيْرَ السَّلَامِ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ كَرَكْعَةِ سَاهِيًا أَوْ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ سَاهِيًا فَهَذِهِ زِيَادَةٌ لَوْ تَعَمَّدَهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ كَالسَّلَامِ فَإِلْحَاقُهَا بِالسَّلَامِ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهَا بِمَا إذَا تَرَكَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ أَوْ شَكَّ وَبَنَى عَلَى الْيَقِينِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ السُّجُودَ مِنْ شَأْنِ الصَّلَاةِ فَيَقْضِيهِ قَبْلَ السَّلَامِ يُقَالُ لَهُ : لَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ قَبْلَ السَّلَامِ فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ بَعْضَهُ بَعْدَ السَّلَامِ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ جِنْسُهُ مِنْ شَأْنِ الصَّلَاةِ الَّذِي يَقْضِيهِ قَبْلَ السَّلَامِ . وَهَذَا مُعَارَضٌ بِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ : السُّجُودُ لَيْسَ مِنْ مُوجِبِ تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ إنَّمَا أَوْجَبَ الصَّلَاةَ السَّلِيمَةَ وَهَذِهِ الْأُمُورُ دَعَاوَى لَا يَقُومُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ ؛ بَلْ يُقَالُ التَّحْرِيمُ أَوْجَبَ

السُّجُودَ الَّذِي يُجْبَرُ بِهِ الصَّلَاةُ . وَيُقَالُ : مِنْ السُّجُودِ مَا يَكُونُ جَبْرُهُ لِلصَّلَاةِ إذَا كَانَ بَعْدَ السَّلَامِ ؛ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ فِيهَا زِيَادَتَانِ وَلِأَنَّهُ مَعَ تَمَامِ الصَّلَاةِ إرْغَامٌ لِلشَّيْطَانِ وَمُعَارَضَةٌ لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَإِنَّهُ قَصَدَ نَقْصَ صَلَاةِ الْعَبْدِ بِمَا أَدْخَلَ فِيهَا مِنْ الزِّيَادَةِ فَأَمَرَ الْعَبْدَ أَنْ يُرْغِمَهُ فَيَأْتِي بِسَجْدَتَيْنِ زَائِدَتَيْنِ بَعْدَ السَّلَامِ لِيَكُونَ زِيَادَةً فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَالسُّجُودِ لِلَّهِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ الَّذِي أَرَادَ الشَّيْطَانُ أَنْ يُنْقِصَهُ عَلَى الْعَبْدِ فَأَرَادَ الشَّيْطَانُ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ وَأَنْ يُرْغِمَ الشَّيْطَانَ وَعَفَا اللَّهُ لِلْإِنْسَانِ عَمَّا زَادَهُ فِي الصَّلَاةِ نِسْيَانًا : مِنْ سَلَامٍ وَرَكْعَةٍ زَائِدَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَأْثَمُ بِذَلِكَ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ تَقَرُّبُهُ نَاقِصًا لِنَقْصِهِ فِيمَا يَنْسَاهُ فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُكْمِلَ ذَلِكَ بِسَجْدَتَيْنِ زَائِدَتَيْنِ عَلَى الصَّلَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا وُجُوبُهُ : فَقَدْ أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ لِمُجَرَّدِ الشَّكِّ فَقَالَ : { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَلَبِسَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ } وَأَمَرَ بِهِ فِيمَا إذَا طَرَحَ الشَّكَّ

فَقَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ : { فَلْيَطْرَحْ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعَتَا لَهُ صَلَاتَهُ وَإِنْ كَانَ صَلَّى تَمَامًا لِأَرْبَعِ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ } وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ { ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ يُسَلِّمْ } وَأَمَرَ بِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثِ التَّحَرِّي قَالَ : { فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ } وَفِي لَفْظٍ { هَاتَانِ السَّجْدَتَانِ لِمَنْ لَا يَدْرِي أَزَادَ فِي صَلَاتَهُ أَمْ نَقَصَ فَيَتَحَرَّى الصَّوَابَ فَيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ لِابْنِ مَسْعُودٍ { فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ فَقَالَ : لَا فَقُلْنَا لَهُ الَّذِي صَنَعَ فَقَالَ : إذَا زَادَ أَوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَالَ : ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ } فَقَدْ أَمَرَ بِالسَّجْدَتَيْنِ إذَا زَادَ أَوْ إذَا نَقَصَ . وَمُرَادُهُ إذَا زَادَ مَا نَهَى عَنْهُ أَوْ نَقَصَ مَا أَمَرَ بِهِ . فَفِي هَذَا إيجَابُ السُّجُودِ لِكُلِّ مَا يَتْرُكُ مِمَّا أَمَرَ بِهِ إذَا تَرَكَهُ سَاهِيًا وَلَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ سَاهِيًا مُوجِبًا لِإِعَادَتِهِ بِنَفْسِهِ وَإِذَا زَادَ مَا نَهَى عَنْهُ سَاهِيًا . فَعَلَى هَذَا كُلُّ مَأْمُورٍ بِهِ فِي الصَّلَاةِ إذَا تَرَكَهُ سَاهِيًا فَأَمَّا أَنْ يُعِيدَهُ إذَا ذَكَرَهُ وَإِمَّا أَنْ يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا .

فَالصَّلَاةُ نَفْسُهَا إذَا نَسِيَهَا صَلَّاهَا إذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ إذَا نَسِيَ طَهَارَتَهَا كَمَا أَمَرَ الَّذِي تَرَكَ مَوْضِعَ لُمْعَةٍ مِنْ قَدَمِهِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ . وَكَذَلِكَ إذَا نَسِيَ رَكْعَةً . كَمَا فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِ مَا نَسِيَهُ إمَّا مَضْمُومًا إلَى مَا صَلَّى وَإِمَّا أَنْ يَبْتَدِئَ الصَّلَاةَ . فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ فِيهَا كُلُّهَا يَأْمُرُ السَّاهِيَ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَهُوَ لَمَّا سَهَا عَنْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ سَجَدَهُمَا بِالْمُسْلِمِينَ قَبْلَ السَّلَامِ وَلَمَّا سَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ رَكْعَتَيْنِ أَوْ مِنْ ثَلَاثٍ صَلَّى مَا بَقِيَ وَسَجَدَهُمَا بِالْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَلَمَّا أَذْكَرُوهُ أَنَّهُ صَلَّى خَمْسًا سَجَدَهُمَا بَعْدَ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ . وَهَذَا يَقْتَضِي مُدَاوَمَتَهُ عَلَيْهِمَا وَتَوْكِيدَهُمَا وَأَنَّهُ لَمْ يَدَعْهُمَا فِي السَّهْوِ الْمُقْتَضِي لَهَا قَطُّ وَهَذِهِ دَلَائِلُ بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى وُجُوبِهِمَا وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَلَيْسَ مَعَ مَنْ لَمْ يُوجِبْهُمَا حُجَّةٌ تُقَارِبُ ذَلِكَ . وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا لَمْ يُوجِبْهُمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ تَصِحُّ الصَّلَاةُ مَعَ تَرْكِهِ لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِهِمْ يَجْعَلُونَ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ مَا لَا يُبْطِلُ تَرْكُهُ الصَّلَاةَ لَكِنْ مَالِكٌ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا يَقُولُونَ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِعُمَدِهِ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَيَجِبُ بِتَرْكِهِ سَهْوًا سُجُودُ السَّهْوِ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : إذَا تَرَكَهُ عَمْدًا كَانَ مُسِيئًا

وَكَانَتْ صَلَاتُهُ نَاقِصَةً وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَأَمَّا مَا يَزِيدُهُ عَمْدًا فَكُلُّهُمْ يَقُولُ : إنَّ فِيهِ مَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ مَعَ عَمْدِهِ دُونَ سَهْوِهِ ؛ لَكِنْ هُوَ فِي حَالِ الْعَمْدِ مُبْطِلٌ فَلَا سُجُودَ وَفِي حَالِ السَّهْوِ يَقُولُونَ : قَدْ عُفِيَ عَنْهُ فَلَا يَجِبُ السُّجُودُ . وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَدِيثِ الشَّكِّ : { كَانَتْ الرَّكْعَةُ وَالسَّجْدَتَانِ نَافِلَةً } وَهَذَا لَفْظٌ لَيْسَ فِي الصَّحِيحِ وَلَفْظُ الصَّحِيحِ " { فَلْيَطْرَحْ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعَتَا لَهُ صَلَاتَهُ وَإِنْ كَانَ صَلَّى تَمَامًا لِأَرْبَعِ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ } فَقَدْ أَمَرَ فِيهِ بِالسُّجُودِ وَبَيَّنَ حِكْمَتَهُ سَوَاءٌ كَانَ صَلَّى خَمْسًا أَوْ أَرْبَعًا فَقَالَ : { فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعَتَا لَهُ صَلَاتَهُ } وهذا يَقْتَضِي أَنَّ التَّطَوُّعَ بِالْوِتْرِ لَا يَجُوزُ بَلْ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُوتِرَ صَلَاةَ النَّهَارِ بِالْمَغْرِبِ وَصَلَاةَ اللَّيْلِ بِالْوِتْرِ . وَهُنَا لَمَّا كَانَ مَعَ الشَّكِّ قَدْ صَلَّى خَمْسًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ جَعَلَ السَّجْدَتَيْنِ قَائِمَةً مَقَامَ رَكْعَةٍ فَشَفَعَتَا لَهُ صَلَاتَهُ . قَالَ : { وَإِنْ كَانَ صَلَّى تَمَامًا لِأَرْبَعِ فَلَمْ يَزِدْ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ } فَهَذَا اللَّفْظُ وَهُوَ قَوْلُهُ : { كَانَتْ الرَّكْعَةُ وَالسَّجْدَتَانِ نَافِلَةً لَهُ } لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَكَيْفَ وَلَفْظُهُ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ يَقْتَضِي وُجُوبُهُمَا وُجُوبَ الرَّكْعَةِ وَالسَّجْدَتَيْنِ . وَالرَّكْعَةُ قَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِهَا فَحَيْثُ قِيلَ : إنَّ الشَّاكَّ يَطْرَحُ الشَّكَّ وَيَبْنِي عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ : كَانَتْ الرَّكْعَةُ الْمَشْكُوكُ فِيهَا وَاجِبَةً . وَإِذَا كَانَتْ وَاجِبَةً بِالنَّصِّ وَالِاتِّفَاقِ وَاللَّفْظُ الْمَرْوِيُّ هُوَ فِيهَا وَفِي السُّجُودِ مَعَ أَنَّ السُّجُودَ أَيْضًا مَأْمُورٌ بِهِ كَمَا أُمِرَ بِالرَّكْعَةِ . عُلِمَ أَنَّ مَا ذُكِرَ لَا يُنَافِي وُجُوبَ السَّجْدَتَيْنِ كَمَا لَا يُنَافِي وُجُوبَ الرَّكْعَةِ وَإِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ قَدْ قَالَهُ الرَّسُولُ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ مَعَ الشَّكِّ فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُ تَامَّةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهَا شَيْءٌ يَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي عَمَلِهِ وَلَهُ فِيهِ أَجْرٌ كَمَا فِي النَّافِلَةِ وَهَذَا فِعْلُ كُلِّ مَنْ احْتَاطَ فَأَدَّى مَا يَشُكُّ فِي وُجُوبِهِ إنْ كَانَ وَاجِبًا وَإِلَّا كَانَتْ نَافِلَةً لَهُ فَهُوَ إنَّمَا جَعَلَهَا نَافِلَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى تَقْدِيرِ إتْمَامِ الْأَرْبَعِ وَلَكِنْ هُوَ لَمَّا شَكَّ حَصَلَ بِنَفْسِ شَكِّهِ نَقْصٌ فِي صَلَاتِهِ فَأَمَرَ بِهِمَا وَإِنْ كَانَ صَلَّى أَرْبَعًا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ . وَهَذَا كَمَا يَأْمُرُونَ مَنْ يَشُكُّ فِي غَيْرِ الْوَاجِبِ بِأَنْ يَفْعَلَ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ وَالْوَاجِبُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاحِدٌ وَالزِّيَادَةُ نَافِلَةٌ وَكَذَلِكَ يُؤْمَرُ مَنْ اشْتَبَهَتْ أُخْتُهُ مِنْ الرِّضَاعِ بِأَجْنَبِيَّةٍ بِاجْتِنَابِهِمَا وَالْمُحَرَّمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاحِدٌ فَذَلِكَ الْمَشْكُوكُ فِيهِ يُسَمَّى وَاجِبًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَلَيْهِ

أَنْ يَفْعَلَهُ وَيُسَمِّي نَافِلَةً عَلَى تَقْدِيرٍ أَيْ هُوَ مُثَابٌ عَلَيْهِ مَأْجُورٌ عَلَيْهِ لَيْسَ هُوَ عَمَلًا ضَائِعًا كَالنَّوَافِلِ . وَأَنَّهُ لَمْ يَكُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاجِبًا عَلَيْهِ لَكِنْ وَجَبَ لِأَجْلِ الشَّكِّ مَعَ أَنَّ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ يُجْبِرُ الْمُعَادَةَ مَعَ إمَامِ الْحَيِّ . وَيُسَمِّي نَافِلَةً لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ { صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ثُمَّ اجْعَلْ صَلَاتَك مَعَهُمْ نَافِلَةً وَلَا تَقُلْ : إنِّي قَدْ صَلَّيْت } فَهِيَ نَافِلَةٌ . أَيْ : زَائِدَةٌ عَلَى الْفَرَائِضِ الْخَمْسِ الْأَصْلِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً بِسَبِّ آخَرَ كَالْوَاجِبِ بِالنَّذْرِ . وَكَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ يُرِيدُونَ بِلَفْظِ النَّافِلَةِ مَا كَانَ زِيَادَةً فِي الْحَسَنَاتِ وَذَلِكَ لِمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ وَلِهَذَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ } إنَّ النَّافِلَةَ مُخْتَصَّةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ وَغَيْرُهُ لَهُ ذُنُوبٌ فَالصَّلَوَاتُ تَكُونُ سَبَبًا لِمَغْفِرَتِهَا وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ كَلَامٌ . لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . فَالْمَقْصُودُ أَنَّ لَفْظَ النَّافِلَةِ تُوُسِّعَ فِيهِ فَقَدْ يُسَمَّى بِهِ مَا أَمَرَ بِهِ وَقَدْ يَنْفِي عَنْ التَّطَوُّعِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ وُجُوبُ سُجُودِ السَّهْوِ . وَسَبَبُهُ إمَّا نَقْصٌ وَإِمَّا زِيَادَةٌ . كَمَا قَالَ فِي الصَّحِيحَيْنِ : { إذَا زَادَ أَوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ } . فَالنَّقْصُ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ بحينة : لَمَّا تَرَكَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ سَجَدَ وَالزِّيَادَةُ

كَمَا سَجَدَ لَمَّا صَلَّى خَمْسًا وَأَمَرَ بِهِ الشَّاكَّ الَّذِي لَا يَدْرِي أَزَادَ أَمْ نَقَصَ فَهَذِهِ أَسْبَابُهُ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَّا الزِّيَادَةُ وَإِمَّا النَّقْصُ وَإِمَّا الشَّكُّ . وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ فِي النَّقْصِ وَالشَّكِّ يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ وَفِي الزِّيَادَةِ بَعْدَهُ .
فَصْلٌ :
وَإِذَا كَانَ وَاجِبًا فَتَرَكَهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا تَرَكَ الَّذِي قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ فَفِيهِ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قِيلَ : إنْ تَرَكَ مَا قَبْلَ السَّلَامِ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ تَرَكَهُ سَهْوًا لَمْ تَبْطُلْ كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَمَا بَعْدَهُ لَا يَبْطُلُ بِحَالِ ؛ لِأَنَّهُ جبران بَعْدَ السَّلَامِ فَلَا يُبْطِلُهَا وَهَذَا اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَقِيلَ : إنْ تَرَكَ مَا قَبْلَ السَّلَامِ يَبْطُلُ مُطْلَقًا فَإِنْ تَرَكَهُ سَهْوًا فَذَكَرَ قَرِيبًا سَجَدَ وَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ أَعَادَ الصَّلَاةَ وَهُوَ مَنْقُولُ رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِمَا وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ وَاجِبًا فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَأْتِ بِهِ سَهْوًا لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَأْثَمُ كَالصَّلَاةِ نَفْسِهَا فَإِنَّهُ إذَا نَسِيَهَا صَلَّاهَا

إذَا ذَكَرَهَا فَهَكَذَا مَا يَنْسَاهُ مِنْ وَاجِبَاتِهَا لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهِ إذَا ذَكَرَ إمَّا بِأَنْ يَفْعَلَهُ مُضَافًا إلَى الصَّلَاةِ وَإِمَّا بِأَنْ يَبْتَدِئَ الصَّلَاةَ . فَلَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ مِنْ الصَّلَاةِ وَلَا مِنْ أَجْزَائِهَا الْوَاجِبَةِ إلَّا بِفِعْلِهَا . وَالْوَاجِبَاتُ الَّتِي قِيلَ إنَّهَا تَسْقُطُ بِالسَّهْوِ : كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ لَمْ يَقُلْ إنَّهَا تَسْقُطُ إلَى غَيْرِ بَدَلٍ بَلْ سَقَطَتْ إلَى بَدَلٍ وَهُوَ سُجُودُ السَّهْوِ بِخِلَافِ الْأَرْكَانِ الَّتِي لَا بَدَلَ لَهَا : كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ وَإِنَّهَا تَسْقُطُ إلَى غَيْرِ بَدَلٍ فَهَذَا مَا عَلِمْنَا أَحَدًا قَالَهُ وَإِنْ قَالَهُ قَائِلٌ فَهُوَ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ فَهَذَانِ قَوْلَانِ فِي الْوَاجِبِ قَبْلَ السَّلَامِ : إذَا تَرَكَهُ سَهْوًا . وَأَمَّا الْوَاجِبُ بَعْدَهُ فَالنِّزَاعُ فِيهِ قَرِيبٌ . فَمَالَ كَثِيرٌ مِمَّنْ قَالَ إنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ : إلَى أَنَّ تَرْكَ هَذَا لَا يُبْطِلُ ؛ لِأَنَّهُ جَبْرٌ لِلْعِبَادَةِ خَارِجٌ عَنْهَا فَلَمْ تَبْطُلْ كَجُبْرَانِ الْحَجِّ وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَد مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ إذَا تَرَكَ السُّجُودَ الْمَشْرُوعَ بَعْدَ السَّلَامِ وَقَدْ نَقَلَ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَد الْوَقْفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَنُقِلَ عَنْهُ فِيمَنْ نَسِيَ سُجُودَ السَّهْوِ فَقَالَ : إذَا كَانَ فِي سَهْوٍ خَفِيفٍ فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ . قُلْت : فَإِنْ كَانَ فِيمَا سَهَا فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : هاه وَلَمْ يَجِبْ قَالَ : فَبَلَغَنِي عَنْهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُعِيدَهُ وَ " مَسَائِلُ الْوَقْفِ " يُخَرِّجُهَا أَصْحَابُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ .

وَفِي الْجُمْلَةِ فَقِيلَ : يُعِيدُ إذَا تَرَكَهُ عَامِدًا وَقِيلَ : إذَا تَرَكَهُ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ هَذَا السُّجُودِ أَوْ مِنْ إعَادَةِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ قَدْ تُنُوزِعَ إلَى مَتَى يَسْجُدُ . فَقِيلَ : يَسْجُدُ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ مَا لَمْ يُطِلْ الْفَصْلَ وَقِيلَ : يَسْجُدُ وَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَقِيلَ : يَسْجُدُ وَإِنْ خَرَجَ وَتَعَدَّى . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ أَوْ مِنْ إعَادَةِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَمَامِ الصَّلَاةِ فَلَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْعَبْدِ إلَّا بِهِ وَإِذَا أَمَرَ بِهِ بَعْدَ السَّلَامِ مِنْ الصَّلَاةِ ؛ وَقِيلَ : إنْ فَعَلْته وَإِلَّا فَعَلَيْك إعَادَةُ الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا وَالْمُرَادُ تَكُونُ الصَّلَاةُ بَاطِلَةً : أَنَّهُ لَمْ تَبْرَأْ بِهَا الذِّمَّةُ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا قَبْلَ السَّلَامِ وَمَا بَعْدَهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَبَاحَ التَّسْلِيمَ مِنْهَا بِشَرْطِ أَنْ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ فَإِذَا لَمْ يَسْجُدْهُمَا لَمْ يَكُنْ قَدْ أَبَاحَ الْخُرُوجَ مِنْهَا فَيَكُونُ قَدْ سَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ سَلَامًا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ فَيُبْطِلُ صَلَاتَهُ . كَمَا تَقُولُ فِي فَاسِخِ الْحَجِّ إلَى التَّمَتُّعِ إنَّمَا أُبِيحَ لَهُ التَّحَلُّلُ إذَا قَصَدَ أَنْ يَتَمَتَّعَ فَيَحُجَّ مِنْ عَامِهِ فَأَمَّا إنْ قَصَدَ التَّحَلُّلَ مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَكَانَ بَاقِيًا عَلَى إحْرَامِهِ وَلَمْ يَصِحَّ تَحَلُّلُهُ لَكِنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِرَفْضِ الْمُحْرِمِ وَلَا بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ وَلَا بِإِفْسَادِهِ بَلْ هُوَ بَاقٍ فِيهِ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَبْطُلُ بِفِعْلِ مَا يُنَافِيهَا وَمَا حَرُمَ فِيهَا .

وَقِيَاسُهُمْ الصَّلَاةَ عَلَى الْحَجِّ بَاطِلٌ فَإِنَّ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يُجْبِرُهَا دَمٌ لَوْ تَعَمَّدَ تَرْكَهَا فِي الْحَجِّ لَمْ تَبْطُلْ بَلْ يُجْبِرُهَا وَالْجُبْرَانُ فِي ذِمَّتِهِ لَا يَسْقُطُ بِحَالِ وَالصَّلَاةُ إذَا تَرَكَ وَاجِبًا فِيهَا بَطَلَتْ وَإِذَا قِيلَ : إنَّهُ مَجْبُورٌ بِالسُّجُودِ فَيَقْتَضِي أَنَّ السُّجُودَ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ جُبْرَانُ الْحَجِّ أَمَّا سُقُوطُ الْوَاجِبِ وَبَدَلُهُ : فَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ فَقِيَاسُ الْحَجِّ أَنْ يُقَالَ : هَذَا السُّجُودُ بَعْدَ السَّلَامِ يَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ إلَى أَنْ يَفْعَلَهُ وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ ؛ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ يَسْقُطُ إلَى بَدَلٍ ؛ لَكِنَّ جُبْرَانَ الْحَجِّ وَهُوَ الدَّمُ يُفْعَلُ مُفْرَدًا بِلَا نِزَاعٍ وَأَمَّا هَذَا السُّجُودُ : فَهَلْ يُفْعَلُ مُفْرَدًا بَعْدَ طُولِ الْفَصْلِ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ . وَنَحْنُ قُلْنَا : لَا بُدَّ مِنْهُ أَوْ مِنْ إعَادَةِ الصَّلَاةِ فَإِذَا قِيلَ : إنَّهُ يُفْعَلُ وَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ كَالصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ فَهَذَا مُتَوَجِّهٌ قَوِيٌّ وَدُونَهُ أَنْ يُقَالَ : وَإِنْ تَرَكَهُ عَمْدًا يَفْعَلُهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَإِنْ أَثِمَ بِالتَّأْخِيرِ كَمَا لَوْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ الْمَنْسِيَّةَ بَعْدَ الذِّكْرِ عَمْدًا فَلْيُصَلِّهَا وَيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ مِنْ تَأْخِيرِهَا . وَكَذَلِكَ الْمُفَوَّتَةُ عَمْدًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِإِمْكَانِ إعَادَتِهَا يُصَلِّيهَا وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ تَأْخِيرِهَا . فَهَكَذَا السَّجْدَتَانِ يُصَلِّيهِمَا حَيْثُ ذَكَرَهُمَا وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ التَّأْخِيرِ فَهَذَا أَيْضًا قَوْلٌ مُتَوَجِّهٌ فَإِنَّ التَّحْدِيدَ بِطُولِ الْفَصْلِ وَبِغَيْرِهِ غَيْرُ مَضْبُوطٍ بِالشَّرْعِ . وَكَذَلِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ وَكَذَلِكَ

الْفَرْقُ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْحَدَثِ وَبَعْدَهُ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهُمَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
وَمَا شُرِعَ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ : فَهَلْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ ؟ أَوْ الِاسْتِحْبَابِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ إلَى أَنَّ النِّزَاعَ إنَّمَا هُوَ فِي الِاسْتِحْبَابِ وَأَنَّهُ لَوْ سَجَدَ لِلْجَمِيعِ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ : جَازَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ مَا شَرَعَهُ قَبْلَ السَّلَامِ يَجِبُ فِعْلُهُ قَبْلَهُ وَمَا شَرَعَهُ بَعْدَهُ لَا يُفْعَلُ إلَّا بَعْدَهُ وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ كَلَامُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ طَرْحِ الشَّكِّ قَالَ : { وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ } وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ يُسَلِّمْ } وَفِي حَدِيثِ التَّحَرِّي قَالَ : { فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيَبْنِ عَلَيْهِ ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ } وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ { فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ يُسَلِّمَ ثُمَّ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ } فَهَذَا أَمَرَ فِيهِ بِالسَّلَامِ ثُمَّ بِالسُّجُودِ . وَذَاكَ أَمَرَ فِيهِ بِالسُّجُودِ قَبْلَ السَّلَامِ وَكِلَاهُمَا أَمْرٌ مِنْهُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ .

وَلَمَّا ذَكَرَ مَا يَعُمُّ الْقِسْمَيْنِ قَالَ : { إذَا زَادَ أَوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ } وَقَالَ : { فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ } فَلَمَّا ذَكَرَ النَّقْصَ مُطْلَقًا وَالزِّيَادَةَ مُطْلَقًا وَالشَّكَّ أَمَرَ بِسَجْدَتَيْنِ مُطْلَقًا وَلَمْ يُقَيِّدْهُمَا بِمَا قَبْلَ السَّلَامِ وَلَمَّا أَمَرَ بِالتَّحَرِّي أَمَرَ بِالسَّجْدَتَيْنِ بَعْدَ السَّلَامِ . فَهَذِهِ أَوَامِرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ لَا تَعْدِلُ عَنْهَا . { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } وَلَكِنْ مَنْ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ مُطْلَقًا أَوْ بَعْدَ السَّلَامِ مُطْلَقًا مُتَأَوِّلًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدَ السُّنَّةِ اسْتَأْنَفَ الْعَمَلَ فِيمَا تَبَيَّنَ لَهُ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا لَمْ يَعْلَمْ وُجُوبَهُ فَإِذَا عَلِمَ وُجُوبَهُ فَعَلَهُ وَلَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ فِيمَا مَضَى : فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ فَعَلَ مَحْظُورًا فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَحْظُورٌ ثُمَّ عَلِمَ كَمَنْ كَانَ يُصَلِّي فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ أَوْ لَا يَتَوَضَّأُ الْوُضُوءَ الْوَاجِبَ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ وُجُوبَهُ كَالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَهَذَا بِخِلَافِ النَّاسِي فَإِنَّ الْعَالِمَ بِالْوُجُوبِ إذَا نَسِيَ صَلَّى مَتَى ذَكَرَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ الْوُجُوبَ فَإِذَا عَلِمَهُ صَلَّى صَلَاةَ الْوَقْتِ وَمَا بَعْدَهَا وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ

الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ : { ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ قَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا فَعَلِّمْنِي مَا يَجْزِينِي فِي صَلَاتِي فَعَلَّمَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَقَدْ أَمَرَهُ بِإِعَادَةِ صَلَاةِ الْوَقْتِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ مَا مَضَى مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ قَوْلِهِ : " لَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا " . وَكَذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْ عُمَرَ وَعَمَّارًا بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ وَعُمَرُ لَمَّا أَجْنَبَ لَمْ يُصَلِّ وَعَمَّارٌ تَمَرَّغَ كَمَا تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ وَلَمْ يَأْمُرْ أَبَا ذَرٍّ بِمَا تَرَكَهُ مِنْ الصَّلَاةِ وَهُوَ جُنُبٌ وَلَمْ يَأْمُرْ الْمُسْتَحَاضَةَ أَنْ تَقْضِيَ مَا تَرَكَتْ مَعَ قَوْلِهَا إنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً شَدِيدَةً مَنَعَتْنِي الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ . وَلَمْ يَأْمُرْ الَّذِينَ أَكَلُوا فِي رَمَضَانَ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحِبَالُ الْبِيضُ مِنْ السُّودِ بِالْإِعَادَةِ وَالصَّلَاةُ أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ كَانَتْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ لَمَّا هَاجَرَ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا وَكَانَ بِمَكَّةَ وَأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَالْبَوَادِي كَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَعْلَمُوا بِذَلِكَ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ وَكَانُوا يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ مَا صَلَّوْا . كَمَا لَمْ يَأْمُرْ الَّذِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى الْقِبْلَةِ الْمَنْسُوخَةِ بِالْإِعَادَةِ مُدَّةَ صَلَاتِهِمْ إلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُمْ النَّاسِخُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخِطَابِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخِطَابِ النَّاسِخِ . وَالرَّكْعَتَانِ الزَّائِدَتَانِ إيجَابُهُمَا مُبْتَدَأٌ وَإِيجَابُ الْكَعْبَةِ نَاسِخٌ . وَكَذَلِكَ التَّشَهُّدُ وَغَيْرُهُ إنَّمَا وَجَبَ فِي أَثْنَاءِ الْأَمْرِ وَكَثِيرٌ

مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَبْلُغْهُمْ الْوُجُوبُ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ . وَمِنْ الْمَنْسُوخِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ كَانُوا لَا يَغْتَسِلُونَ مِنْ الْإِقْحَاطِ ؛ بَلْ يَرَوْنَ الْمَاءَ مِنْ الْمَاءِ حَتَّى ثَبَتَ عِنْدَهُمْ النَّسْخُ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ النَّسْخُ وَكَانُوا يُصَلُّونَ بِدُونِ الطَّهَارَةِ الْوَاجِبَةِ شَرْعًا لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِوُجُوبِهَا وَيُصَلِّي أَحَدُهُمْ وَهُوَ جُنُبٌ .
فَصْلٌ :
إذَا نَسِيَ السُّجُودَ حَتَّى فَعَلَ مَا يُنَافِي الصَّلَاةَ مِنْ كَلَامِ وَغَيْرِهِ : فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ } فَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ خَمْسًا فَلَمَّا انْفَتَلَ تَوَشْوَشَ الْقَوْمُ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَقَالَ : مَا شَأْنُكُمْ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ زِيدَ فِي الصَّلَاةِ ؟ قَالَ لَا . قَالُوا : فَإِنَّك صَلَّيْت خَمْسًا فَانْفَتَلَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ } وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ تَكَلَّمَ بَعْدَ السَّلَامِ سَقَطَ عَنْهُ سُجُودُ السَّهْوِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ يُنَافِيهَا فَهُوَ كَالْحَدَثِ . وَعَنْ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ إذَا صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ

الْقِبْلَةِ لَمْ يَبْنِ وَلَمْ يَسْجُدْ . وَالصَّوَابُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ كَمَا نَطَقَتْ بِهِ السُّنَّةُ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ بَعْدَ انْصِرَافِهِ وَانْفِتَالِهِ وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهِمْ وَبَعْدَ تَحَدُّثِهِمْ وَبَعْدَ سُؤَالِهِ لَهُمْ وَإِجَابَتِهِمْ إيَّاهُ وَحَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ أَبْلَغُ فِي هَذَا فَإِنَّهُ { صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَامَ إلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ : أَقُصِرَتْ الصَّلَاةُ ؟ أَمْ نَسِيت ؟ وَأَجَابَهُ . ثُمَّ سَأَلَ الصَّحَابَةَ فَصَدَّقُوا ذَا الْيَدَيْنِ فَعَادَ إلَى مَكَانِهِ فَصَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ } وَقَدْ خَرَجَ السَّرْعَانُ مِنْ النَّاسِ يَقُولُونَ : قُصِرَتْ الصَّلَاةُ قُصِرَتْ الصَّلَاةُ . وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ : { أَنَّهُ سَلَّمَ فِي ثَلَاثٍ مِنْ الْعَصْرِ ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ وَقَامَ إلَيْهِ الْخِرْبَاقُ فَذَكَرَ لَهُ صَنِيعَهُ وَأَنَّهُ خَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى إلَى النَّاسِ فَقَالَ : أَصَدَقَ هَذَا ؟ قَالُوا : نَعَمْ } . وَهَذِهِ الْقِصَّةُ إمَّا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ الْأُولَى وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ هِيَ إيَّاهَا لَكِنْ اشْتَبَهَ عَلَى إحْدَى الرَّاوِيَيْنِ : هَلْ سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ أَوْ مِنْ ثَلَاثٍ وَذَكَرَ أَحَدُهُمَا قِيَامَهُ إلَى الْخَشَبَةِ الْمَعْرُوضَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَالْآخَرُ دُخُولَهُ مَنْزِلَهُ ثُمَّ مِنْ بَعْدِ هَذَا الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَخُرُوجِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ . وَالسَّرْعَانُ مِنْ النَّاسِ لَا رَيْبَ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِمَا يَعْمَلُونَ . فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا عَادُوا أَوْ بَعْضُهُمْ إلَى الْمَسْجِدِ فَأَتَمُّوا مَعَهُ الصَّلَاةَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ الْمَسْجِدِ وَقَوْلُهُمْ : قُصِرَتْ الصَّلَاةُ قُصِرَتْ الصَّلَاةُ .

وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا أَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ لَمَّا عَلِمُوا السُّنَّةَ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَقَدْ أَتَمُّوا بَعْدَ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ . وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّهُمْ أُمِرُوا بِاسْتِئْنَافِ الصَّلَاةِ : فَهَذَا لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ وَلَوْ أَمَرَ بِهِ لَنُقِلَ وَلَا ذَنْبَ لَهُمْ فِيمَا فَعَلُوا وَهُوَ فِي إحْدَى صَلَوَاتِ الْخَوْفِ يُصَلِّي بِطَائِفَةِ رَكْعَةً وَالْأُخْرَى بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ ثُمَّ يَمْضُونَ إلَى مَصَافِّ أَصْحَابِهِمْ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَيَعْمَلُونَ عَمَلًا وَيَسْتَدْبِرُونَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ يَأْتِي أُولَئِكَ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ يَمْضُونَ إلَى مَصَافِّ أَصْحَابِهِمْ ثُمَّ يُصَلِّي هَؤُلَاءِ لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً أُخْرَى وَهَؤُلَاءِ رَكْعَةً أُخْرَى وَفِي ذَلِكَ مَشَى كَثِيرٌ وَاسْتِدْبَارٌ لِلْقِبْلَةِ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ يَتَأَخَّرُ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى . وَالثَّانِيَةُ بِمَشْيِهَا إلَى مَصَافِّ أَصْحَابِهَا ثُمَّ يَجِيءُ أَصْحَابُهَا إلَى خَلْفِ الْإِمَامِ ثُمَّ بِصَلَاتِهِمْ خَلْفَ الْإِمَامِ ثُمَّ بِرُجُوعِهِمْ إلَى مَصَافِّ أُولَئِكَ ثُمَّ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ يُصَلُّونَ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وَهُمْ قِيَامٌ فِيهَا مَعَ هَذَا الْعَمَلِ وَالِانْتِظَارِ لَكِنْ لَا يُصَلُّونَ الرَّكْعَةَ إلَّا بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُوَالَاةَ بَيْنَ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ لَا تَجِبُ مَعَ الْعَدُوِّ وَمُوَالَاةُ السَّجْدَتَيْنِ مَعَ الصَّلَاةِ أَوْلَى ؛ بِخِلَافِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَ أَبْعَاضِ الرَّكْعَةِ : وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد . وَلِهَذَا إذَا نَسِيَ رُكْنًا كَالرُّكُوعِ مَثَلًا ؛ فَإِنْ ذَكَرَ فِي الْأُولَى مِثْلَ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَ أَنْ يَسْجُدَ السَّجْدَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِالرُّكُوعِ وَمَا بَعْدَهُ

وَيَلْغُو مَا فَعَلَهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ ؛ لِأَنَّ الْفَصْلَ يَسِيرٌ . وَهَذَا قَوْلُ الْجَمَاعَةِ وَإِنْ شَرَعَ فِي الثَّانِيَةِ . إمَّا فِي قِرَاءَتِهَا عِنْدَهُمْ وَإِمَّا فِي رُكُوعِهَا عَلَى قَوْلِ [ الْجَمَاعَةِ . وَإِنْ شَرَعَ فِي الثَّانِيَةِ إمَّا فِي قِرَاءَتِهَا عِنْدَهُمْ وَإِمَّا فِي رُكُوعِهَا عَلَى قَوْلِ ] (*) مَالِكٍ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَلْغُو مَا فَعَلَهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ إلَى أَنْ يَرْكَعَ فِي الثَّانِيَةِ فَيَقُومُ مَقَامَ رُكُوعِ الْأُولَى وَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ وَيُلَفِّقُ الرَّكْعَةَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ وَقَدْ رَجَّحَ أَحْمَد هَذَا عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ وَحُكِيَ رِوَايَةٌ عَنْهُ . وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهُمَا لَا يُلَفِّقَانِ بَلْ تَلْغُو تِلْكَ الرَّكْعَةُ الْمَنْسِيُّ رُكْنُهَا وَتَقُومُ هَذِهِ مَقَامَهُمَا فَيَكُونُ تَرْكُ الْمُوَالَاةِ مُبْطِلًا لِلرَّكْعَةِ عَلَى أَصْلِهِمَا لَا يَفْصِلُ بَيْنَ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا بِفَاصِلِ أَجْنَبِيٍّ عَنْهَا فَإِنَّ أَدْنَى الصَّلَاةِ رَكْعَةٌ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ } . وَالرَّكْعَةُ إنَّمَا تَكُونُ رَكْعَةً مَعَ الْمُوَالَاةِ أَمَّا إذَا رَكَعَ ثُمَّ فَعَلَ أَفْعَالًا أَجْنَبِيَّةً عَنْ الصَّلَاةِ ثُمَّ سَجَدَ : لَمْ تَكُنْ هَذِهِ رَكْعَةً مُؤَلَّفَةً مِنْ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ ؛ بَلْ يَكُونُ رُكُوعٌ مُفْرَدٌ وَسُجُودٌ مُفْرَدٌ وَهَذَا لَيْسَ بِصَلَاةِ وَالسُّجُودُ تَابِعٌ لِلرُّكُوعِ فَلَا تَكُونُ صَلَاةٌ إلَّا بِرُكُوعِ يَتْبَعُهُ سُجُودٌ وَسُجُودٌ يَتْبَعُهُ رُكُوعٌ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . لَكِنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ عُذْرُ الْخَوْفِ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عُذْرُ السَّهْوِ وَعَدَمُ الْعِلْمِ .

وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي السُّجُودِ وَالْبِنَاءِ بَعْدَ طُولِ الْفَصْلِ . فَقِيلَ : إذَا طَالَ الْفَصْلُ لَمْ يَسْجُدْ وَلَمْ يَبْنِ وَلَمْ يَحُدَّ هَؤُلَاءِ طُولَ الْفَصْلِ بِغَيْرِ قَوْلِهِمْ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : قَدْ تَقْصُرُ الْمُدَّةُ وَإِنْ خَرَجَ وَقَدْ تَطُولُ وَإِنْ قَعَدَ . وَقِيلَ : يَسْجُدُ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنْ خَرَجَ انْقَطَعَ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الخرقي وَغَيْرُهُ وَهُوَ مَنْصُوصٌ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ قَوْلُ الْحَكَمِ وَابْنِ شبرمة وَهَذَا حَدٌّ بِالْمَكَانِ لَا بِالزَّمَانِ لَكِنَّهُ حَدٌّ بِمَكَانِ الْعِبَادَةِ . وَقِيلَ : كُلٌّ مِنْهُمَا مَانِعٌ مِنْ السُّجُودِ : طُولَ الْفَصْلِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ . وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَسْجُدُ وَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ وَتَبَاعَدَ . وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ فَإِنَّ تَحْدِيدَ ذَلِكَ بِالْمَكَانِ أَوْ بِزَمَانِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الزَّمَانُ غَيْرَ مَضْبُوطٍ فَطُولُ الْفَصْلِ وَقِصَرُهُ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَعْرُوفٌ فِي عَادَاتِ النَّاسِ لِيَرْجِعَ إلَيْهِ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ وَلَمْ يُفَرِّقْ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ فِي السُّجُودِ وَالْبِنَاءِ بَيْنَ طُولِ الْفَصْلِ وَقِصَرِهِ وَلَا بَيْنَ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ وَالْمُكْثِ فِيهِ بَلْ قَدْ دَخَلَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَنْزِلِهِ

وَخَرَجَ السَّرْعَانُ مِنْ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَلَوْ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ شَرْعٌ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ السَّلَامَ لَمْ يَمْنَعْ بِنَاءَ سَائِرِ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا . فَكَذَلِكَ سَجْدَتَا السَّهْوِ يَسْجُدَانِ مَتَى مَا ذَكَرَهُمَا . وَإِنْ تَرْكَهُمَا عَمْدًا . فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : يَسْجُدُهُمَا أَيْضًا مَعَ إثْمِهِ بِالتَّأْخِيرِ كَمَا تُفْعَلُ جُبْرَانَاتُ الْحَجِّ وَهِيَ فِي ذِمَّتِهِ إلَى أَنْ يَفْعَلَهَا فَالْمُوَالَاةُ فِيهَا لَيْسَتْ شَرْطًا كَمَا يُشْتَرَطُ مَعَ الْقُدْرَةِ فِي الرَّكَعَاتِ فَلَوْ سَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي نَفْسِهَا عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ لَهَا تَحْلِيلٌ وَتَحْرِيمٌ ؛ بِخِلَافِ السَّجْدَتَيْنِ بَعْدَ السَّلَامِ فَإِنَّهُمَا يُفْعَلَانِ بَعْدَ تَحْلِيلِ الصَّلَاةِ كَمَا يُفْعَلُ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : الْمُوَالَاةُ شَرْطٌ فِيهَا مَعَ الْقُدْرَةِ وَإِنَّمَا تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ كَالنِّسْيَانِ وَالْعَجْزِ كَالْمُوَالَاةِ بَيْنَ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ وَعَلَى هَذَا فَمَتَى أَخَّرَهُمَا لِغَيْرِ عُذْرٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إذْ لَمْ يُشْرَعْ فَصْلُهُمَا عَنْ الصَّلَاةِ إلَّا بِالسَّلَامِ فَقَطْ وَأَمَرَ بِهِمَا عَقِبَ السَّلَامِ فَمَتَى تَكَلَّمَ عَمْدًا أَوْ قَامَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ عَالِمًا عَامِدًا بِلَا عُذْرٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ كَمَا تَبْطُلُ إذَا تَرَكَ السَّجْدَتَيْنِ قَبْلَ السَّلَامِ .

فَصْلٌ :
فَأَمَّا التَّكْبِيرُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ : فَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ ابْنِ بحينة { فَلَمَّا أَتَمَّ صَلَاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ وَسَجَدَهُمَا النَّاسُ مَعَهُ مَكَانَ مَا نَسِيَ مِنْ الْجُلُوسِ } هَذَا فِي السُّجُودِ قَبْلَ السَّلَامِ وَأَمَّا بَعْدَهُ فَحَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ ثُمَّ كَبَّرَ فَرَفَعَ ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ ثُمَّ كَبَّرَ فَرَفَعَ } وَالتَّكْبِيرُ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : فَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ : أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا تَشَهُّدٌ وَلَا تَسْلِيمٌ وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَهُ تَشْبِيهًا بِسُجُودِ التِّلَاوَةِ ؛ لِأَنَّهُ سُجُودٌ مُفْرَدٌ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَشَهُّدٌ وَلَا تَسْلِيمٌ كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ . وَقَالَ أَحْمَد : أَمَّا التَّسْلِيمُ فَلَا أَدْرِي مَا هُوَ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَسْلِيمَ فِيهِ وَمَنْ أَثْبَتَ التَّسْلِيمَ فِيهِ أَثْبَتَهُ قِيَاسًا وَهُوَ قِيَاسٌ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ

جَعَلَهُ صَلَاةً وَأَضْعَفُ مِنْهُ مَنْ أَثْبَتَ فِيهِ التَّشَهُّدَ قِيَاسًا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ فِيهِمَا تَشَهُّدًا يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ إذَا سَجَدَهُمَا بَعْدَ السَّلَامِ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ والنَّخَعِي وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ . وَالثَّالِثُ : فِيهِمَا تَسْلِيمٌ بِغَيْرِ تَشَهُّدٍ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِين قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : التَّسْلِيمُ فِيهِمَا ثَابِتٌ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَفِي ثُبُوتِ التَّشَهُّدِ نَظَرٌ وَعَنْ عَطَاءٍ إنْ شَاءَ تَشَهَّدَ وَسَلَّمَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَجِبَ التَّشَهُّدُ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَنَّهُ سَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَشَهُّدٍ وَهِيَ أَصَحُّ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ مُفْرَدٌ فَلَمْ يَجِبْ لَهُ تَشَهُّدٌ كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ . قُلْت : أَمَّا التَّسْلِيمُ فِيهِمَا فَهُوَ ثَابِتٌ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحَدِيثِ عِمْرَانَ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا تَقَدَّمَ { قَالَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إبْرَاهِيمُ : زَادَ أَوْ نَقَصَ فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ قَالَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالُوا : صَلَّيْت كَذَا وَكَذَا قَالَ : فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ } الْحَدِيثَ .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : { فَصَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ } وَكَذَلِكَ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِين لَمَّا رَوَى حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ . قَالَ : وَنُبِئْتُ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ : ثُمَّ سَلَّمَ وَابْنُ سِيرِين مَا كَانَ يَرْوِي إلَّا عَنْ ثِقَةٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَاتَيْنِ وَبَيْنَ سُجُودِ التِّلَاوَةِ : أَنَّ هَاتَيْنِ صَلَاةٌ وَأَنَّهُمَا سَجْدَتَانِ وَقَدْ أُقِيمَتَا مَقَامَ رَكْعَةٍ وَجُعِلَتَا جَابِرَتَيْنِ لِنَقْصِ الصَّلَاةِ فَجُعِلَ لَهُمَا تَحْلِيلٌ كَمَا لَهُمَا تَحْرِيمٌ . وَهَذِهِ هِيَ الصَّلَاةُ . كَمَا قَالَ : { مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } . وَأَمَّا " سُجُودُ التِّلَاوَةِ " فَهُوَ خُضُوعٌ لِلَّهِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ يَسْجُدُونَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عفان فِي الْحَائِضِ تَسْمَعُ السَّجْدَةَ قَالَ : تُومِئُ بِرَأْسِهَا وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ " قَالَ : وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ لَك سَجَدْت . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : مَنْ سَمِعَ السَّجْدَةَ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ يَسْجُدُ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ وَقَدْ سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ فَفَعَلَهُ الْكَافِرُ وَالْمُسْلِمُ وَسَجَدَ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ . وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ بِدَاخِلِ فِي مُسَمَّى الصَّلَاةِ . وَلَكِنْ سَجْدَتَا السُّجُودِ يُشْبِهَانِ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ فَإِنَّهَا قِيَامٌ مُجَرَّدٌ لَكِنْ هِيَ صَلَاةٌ فِيهَا تَحْرِيمٌ وَتَحْلِيلٌ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَتَطَهَّرُونَ لَهَا

وَرَخَّصَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي التَّيَمُّمِ لَهَا إذَا خَشِيَ الْفَوَاتَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهِيَ كَسَجْدَتَيْ السَّهْوِ يُشْتَرَطُ لَهَا اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ وَالِاصْطِفَافُ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالْمُؤْتَمِّ فِيهِ تَبَعٌ لِلْإِمَامِ لَا يُكَبِّرُ قَبْلَهُ وَلَا يُسَلِّمُ قَبْلَهُ كَمَا فِي الصَّلَاةِ ؛ بِخِلَافِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ فَإِنَّهُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْجُدُ وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ الْقَارِئُ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى { إنَّك إمَامُنَا فَلَوْ سَجَدْت لَسَجَدْنَا } مِنْ مَرَاسِيلِ عَطَاءٍ وَهُوَ مِنْ أَضْعَفِ الْمَرَاسِيلِ قَالَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا يَسْجُدُ إلَّا إذَا سَجَدَ لَمْ يَجْعَلْهُ مُؤْتَمًّا بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَمِعُونَ يَسْجُدُونَ جَمِيعًا صَفًّا كَمَا يَسْجُدُونَ خَلْفَ الْإِمَامِ لِلسَّهْوِ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ إمَامَهُ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَلِلْمَأْمُومِ أَنْ يَرْفَعَ قَبْلَ إمَامِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْتَمِّ بِهِ فِي صَلَاةٍ وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ مُؤْتَمٌّ بِهِ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ كَائْتِمَامِ الْمُؤَمِّنِ عَلَى الدُّعَاءِ بِالدَّاعِي وَائْتِمَامِ الْمُسْتَمِعِ بِالْقَارِئِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا التَّشَهُّدُ فِي سَجْدَتَيْ السَّهْوِ : فَاعْتَمَدَ مَنْ أَثْبَتَهُ عَلَى مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ

فَسَهَا فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ تَشَهَّدَ ثُمَّ سَلَّمَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ . قُلْت : كَوْنُهُ غَرِيبًا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا مُتَابِعَ لِمَنْ رَوَاهُ بَلْ قَدْ انْفَرَدَ بِهِ . وَهَذَا يُوهِي هَذَا الْحَدِيثَ فِي مِثْلِ هَذَا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ غَيْرَ مَرَّةٍ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا صَلَّى خَمْسًا وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ لَمَّا سَلَّمَ سَوَاءٌ كَانَتْ قَضِيَّتَيْنِ أَوْ قَضِيَّةً وَاحِدَةً وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ يُسَلِّمْ ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ } وَقَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الصَّحِيحِ { فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ } وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِهِ أَمْرٌ بِالتَّشَهُّدِ بَعْدَ السُّجُودِ وَلَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَلَقَّاةِ بِالْقَبُولِ : أَنَّهُ يَتَشَهَّدُ بَعْدَ السُّجُودِ بَلْ هَذَا التَّشَهُّدُ بَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ عَمَلٌ طَوِيلٌ بِقَدْرِ السَّجْدَتَيْنِ أَوْ أَطْوَلُ . وَمِثْلُ هَذَا مِمَّا يُحْفَظُ وَيُضْبَطُ وَتَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ فَلَوْ كَانَ قَدْ تَشَهَّدَ لَذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُ سَجَدَ وَكَانَ الدَّاعِي إلَى ذِكْرِ ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ الدَّاعِي إلَى ذِكْرِ السَّلَامِ . وَذِكْرِ التَّكْبِيرِ عِنْدَ الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ . فَإِنَّ هَذِهِ أَقْوَالٌ خَفِيفَةٌ وَالتَّشَهُّدُ عَمَلٌ طَوِيلٌ فَكَيْفَ يَنْقُلُونَ هَذَا وَلَا يَنْقُلُونَ هَذَا . وَهَذَا التَّشَهُّدُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ كَالتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَإِنَّهُ يَتَعَقَّبُهُ السَّلَامُ

فَتُسَنُّ مَعَهُ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدُّعَاءِ كَمَا إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَوْ رَكْعَةَ الْوِتْرِ وَتَشَهَّدَ ثُمَّ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ التَّشَهُّدِ فَانْفِرَادُ وَاحِدٍ بِمِثْلِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ الَّتِي تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا يُضْعِفُ أَمْرَهَا ثُمَّ هَذَا الْمُنْفَرِدُ بِهَا يَجِبُ أَنْ يَنْظُرَ لَوْ انْفَرَدَ بِحَدِيثِ هَلْ يَثْبُتُ أَنَّهُ شَرِيعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ ؟ . وَأَيْضًا : فَالتَّشَهُّدُ إنَّمَا شُرِعَ فِي صَلَاةٍ تَامَّةٍ ذَاتِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ لَمْ يُشْرَعْ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ مَعَ أَنَّهُ يَقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسَجْدَتَا السَّهْوِ لَا قِرَاءَةَ فِيهِمَا فَإِذَا لَمْ يَشْرَعْ فِي صَلَاةٍ فِيهَا قِرَاءَةٌ وَلَيْسَتْ بِرُكُوعِ وَسُجُودٍ فَكَذَلِكَ فِي صَلَاةٍ لَيْسَ فِيهَا قِيَامٌ وَلَا قِرَاءَةٌ وَلَا رُكُوعٌ . وَقَدْ يُقَالُ : إنَّهُ أَوْلَى وَأَنْفَعُ فَلَيْسَ هُوَ مَشْرُوعًا عَقِبَ سَجْدَتَيْ الصَّلْبِ بَلْ إنَّمَا يَتَشَهَّدُ بَعْدَ رَكْعَتَيْنِ لَا بَعْدَ كُلِّ سَجْدَتَيْنِ فَإِذَا لَمْ يَتَشَهَّدْ عَقِبَ سَجْدَتَيْ الصَّلْبِ وَقَدْ حَصَلَ بِهِمَا رَكْعَةٌ تَامَّةٌ فَأَنْ لَا يَتَشَهَّدَ عَقِبَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ أَوْلَى . وَذَلِكَ أَنَّ عَامَّةَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ أَنْ يَقُومَا مَقَامَ رَكْعَةٍ . كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى خَمْسًا شَفَعَتَا لَهُ صَلَاتَهُ وَإِنْ كَانَ صَلَّى لِتَمَامِ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ } فَجَعَلَهُمَا كَرَكْعَةِ لَا كَرَكْعَتَيْنِ . وَهِيَ رَكْعَةٌ مُتَّصِلَةٌ بِغَيْرِهَا لَيْسَتْ كَرَكْعَةِ الْوِتْرِ الْمُسْتَقِلَّةِ بِنَفْسِهَا . وَلِهَذَا وَجَبَتْ فِيهَا الْمُوَالَاةُ أَنْ يَسْجُدَهُمَا عَقِبَ السَّلَامِ

لَا يَتَعَمَّدُ تَأْخِيرَهُمَا فَهُوَ كَمَا لَوْ سَجَدَهُمَا قَبْلَ السَّلَامِ وَقَبْلَ السَّلَامِ لَا يُعِيدُ التَّشَهُّدَ بَعْدَهُمَا فَكَذَلِكَ لَا يُعِيدُ بَعْدَ السَّلَامِ . وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَخْتِمَ صَلَاتَهُ بِالسُّجُودِ لَا بِالتَّشَهُّدِ بِدَلِيلِ أَنَّ السُّجُودَ قَبْلَ السَّلَامِ لَمْ يُشْرَعْ قَبْلَ التَّشَهُّدِ بَلْ إنَّمَا شُرِعَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ فَعُلِمَ أَنَّهُ جَعَلَ خَاتِمًا لِلصَّلَاةِ لَيْسَ بَعْدَهُ إلَّا الْخُرُوجَ مِنْهَا وَلِأَنَّ إعَادَةَ التَّشَهُّدِ وَالدُّعَاءِ يَقْتَضِي تَكْرِيرَ ذَلِكَ مَعَ قُرْبِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَشْرُوعًا كَإِعَادَتِهِ إذَا سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْدَهُمَا تَشَهَّدَ لَمْ يَكُنْ الْمَشْرُوعُ سَجْدَتَيْنِ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَمَرَ بِسَجْدَتَيْنِ فَقَطْ لَا بِزِيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ وَسَمَّاهُمَا الْمُرْغِمَتَيْنِ لِلشَّيْطَانِ فَزِيَادَةُ التَّشَهُّدِ بَعْدَ السُّجُودِ كَزِيَادَةِ الْقِرَاءَةِ قَبْلَ السُّجُودِ وَزِيَادَةِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا افْتِتَاحَ لَهُمَا بَلْ يُكَبِّرُ لِلْخَفْضِ لَا يُكَبِّرُ وَهُوَ قَاعِدٌ فَعُلِمَ أَنَّهُمَا دَاخِلَتَانِ فِي تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ فَيَكُونَانِ جُزْءًا مِنْ الصَّلَاةِ كَمَا لَوْ سَجَدَهُمَا قَبْلَ السَّلَامِ فَلَا يَخْتَصَّانِ بِتَشَهُّدِ وَلَكِنْ يُسَلِّمُ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ الْأَوَّلَ سَقَطَ فَلَمْ يَكُنْ سَلَامًا مِنْهُمَا فَإِنَّ السَّلَامَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْخُرُوجِ . وَقَدْ نَفَى بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ السَّلَامَ مِنْهُمَا كَمَا أَنَّهُ لَا تَحْرِيمَ لَهُمَا ؛ لَكِنَّ الصَّوَابَ الْفَرْقُ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ صَلَّى بِجَمَاعَةِ رُبَاعِيَّةٍ فَسَهَا عَنْ التَّشَهُّدِ وَقَامَ فَسَبَّحَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقْعُدْ وَكَمَّلَ صَلَاتَهُ وَسَجَدَ وَسَلَّمَ فَقَالَ جَمَاعَةٌ : كَانَ يَنْبَغِي إقْعَادُهُ وَقَالَ آخَرُونَ : لَوْ قَعَدَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ فَأَيُّهُمَا عَلَى الصَّوَابِ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْإِمَامُ الَّذِي فَاتَهُ التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ حَتَّى قَامَ فَسَبَّحَ بِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ فَقَدْ أَحْسَنَ فِيمَا فَعَلَ هَكَذَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَنْ قَالَ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْعُدَ أَخْطَأَ بَلْ الَّذِي فَعَلَهُ هُوَ الْأَحْسَنُ . وَمَنْ قَالَ : لَوْ رَجَعَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ : أَحَدُهُمَا : لَوْ رَجَعَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ . وَالثَّانِي : إذَا رَجَعَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَد وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ إمَامٍ قَامَ إلَى خَامِسَةٍ فَسَبَّحَ بِهِ فَلَمْ يَلْتَفِتْ لِقَوْلِهِمْ وَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَسْهَ . فَهَلْ يَقُومُونَ مَعَهُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ قَامُوا مَعَهُ جَاهِلِينَ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُمْ ؛ لَكِنْ مَعَ الْعِلْمِ لا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُتَابِعُوهُ بَلْ يَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يُسَلِّمَ بِهِمْ أَوْ يُسَلِّمُوا قَبْلَهُ وَالِانْتِظَارُ أَحْسَنُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
أَيُّمَا طَلَبُ الْقُرْآنِ أَوْ الْعِلْمِ أَفْضَلُ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْعِلْمُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ عَيْنًا كَعِلْمِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى حِفْظِ مَا لَا يَجِبُ مِنْ الْقُرْآنِ فَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ الْأَوَّلِ وَاجِبٌ وَطَلَبَ الثَّانِي مُسْتَحَبٌّ وَالْوَاجِبُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُسْتَحَبِّ . وَأَمَّا طَلَبُ حِفْظِ الْقُرْآنِ : فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّا تُسَمِّيهِ النَّاسُ عِلْمًا : وَهُوَ إمَّا بَاطِلٌ أَوْ قَلِيلُ النَّفْعِ . وَهُوَ أَيْضًا مُقَدَّمٌ فِي التَّعَلُّمِ فِي حَقِّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَتَعَلَّمَ عِلْمَ الدِّينِ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فَإِنَّ الْمَشْرُوعَ فِي حَقِّ مِثْلِ هَذَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ أَنْ يَبْدَأَ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ أَصْلُ عُلُومِ الدِّينِ بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْأَعَاجِمِ وَغَيْرِهِمْ حَيْثُ يَشْتَغِلُ أَحَدُهُمْ بِشَيْءِ مِنْ فُضُولِ الْعِلْمِ مِنْ الْكَلَامِ أَوْ الْجِدَالِ

وَالْخِلَافِ أَوْ الْفُرُوعِ النَّادِرَةِ أَوْ التَّقْلِيدِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَوْ غَرَائِبِ الْحَدِيثِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا وَكَثِيرٍ مِنْ الرِّيَاضِيَّاتِ الَّتِي لَا تَقُومُ عَلَيْهَا حُجَّةٌ وَيَتْرُكُ حِفْظَ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ أَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَا بُدَّ فِي مِثْل هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ التَّفْصِيلِ . وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْقُرْآنِ هُوَ فَهْمُ مَعَانِيهِ وَالْعَمَلُ بِهِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ هِمَّةَ حَافِظِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ تَكْرَارِ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ : أَيُّهُمَا أَفْضَلُ وَأَكْثَرُ أَجْرًا .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامُ اللَّهِ لَا يُقَاسُ بِهِ كَلَامُ الْخَلْقِ فَإِنَّ فَضْلَ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ . وَأَمَّا الْأَفْضَلُ فِي حَقِّ الشَّخْصِ : فَهُوَ بِحَسَبِ حَاجَتِهِ وَمَنْفَعَتِهِ فَإِنْ كَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى تَعَلُّمِ غَيْرِهِ فَتَعَلُّمُهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَفْضَلُ مِنْ تَكْرَارِ التِّلَاوَةِ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ إلَى تَكْرَارِهَا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ حَفِظَ مِنْ الْقُرْآنِ مَا يَكْفِيهِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى عِلْمٍ آخَرَ .

وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَدْ حَفِظَ الْقُرْآنَ أَوْ بَعْضَهُ وَهُوَ لَا يَفْهَمُ مَعَانِيَهُ فَتَعَلُّمُهُ لِمَا يَفْهَمُهُ مِنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ تِلَاوَةِ مَا لَا يَفْهَمُ مَعَانِيَهُ . وَأَمَّا مَنْ تَعَبَّدَ بِتِلَاوَةِ الْفِقْهِ فَتَعَبُّدُهُ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ وَتَدَبُّرُهُ لِمَعَانِي الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مَنْ تَدَبُّرِهِ لِكَلَامِ لَا يَحْتَاجُ لِتَدَبُّرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ : أَيُّمَا أَفْضَلُ لَهُ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ مَعَ أَمْنِ النِّسْيَانِ ؟ أَوْ التَّسْبِيحُ وَمَا عَدَاهُ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ وَالْأَذْكَارِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ ؟ مَعَ عِلْمِهِ بِمَا وَرَدَ فِي " الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ " وَ " التَّهْلِيلِ " وَ " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ " وَ " سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ " " وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ " .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، جَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَحْوِهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ : فَالْأَصْلُ الْأَوَّلُ أَنَّ جِنْسَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْأَذْكَارِ كَمَا أَنَّ جِنْسَ الذِّكْرِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ }

وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ } " وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ فِي الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَقَالَ : إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي فِي صَلَاتِي . قَالَ : قُلْ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } وَلِهَذَا كَانَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبَةً فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ لَا تَعْدِلُ عَنْهَا إلَى الذِّكْرِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ . وَالْبَدَلُ دُونَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ . وَأَيْضًا : فَالْقِرَاءَةُ تُشْتَرَطُ لَهَا الطَّهَارَةُ الْكُبْرَى دُونَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَمَا لَمْ يُشْرَعْ إلَّا عَلَى الْحَالِ الْأَكْمَلِ فَهُوَ أَفْضَلُ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ لَمَّا اُشْتُرِطَ لَهَا الطَّهَارَتَانِ كَانَتْ أَفْضَلَ مِنْ مُجَرَّدِ الْقِرَاءَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ } وَلِهَذَا نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ تَطَوُّعِ الْبَدَنِ الصَّلَاةُ . وَأَيْضًا فَمَا يُكْتَبُ فِيهِ الْقُرْآنُ لَا يَمَسُّهُ إلَّا طَاهِرٌ . وَقَدْ حُكِيَ إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ أَفْضَلُ ؛ لَكِنَّ طَائِفَةً مِنْ الشُّيُوخِ رَجَّحُوا الذِّكْرَ . وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَرْجَحُ فِي حَقِّ الْمُنْتَهَى الْمُجْتَهِدِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ فِي كُتُبِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ أَرْجَحُ فِي حَقِّ الْمُبْتَدِئِ السَّالِكِ وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ .

وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ يُذْكَرُ فِي الْأَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ : أَنَّ الْعَمَلَ الْمَفْضُولَ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهِ مَا يُصَيِّرُهُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا مَا هُوَ مَشْرُوعٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ . وَالثَّانِي مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ . أَمَّا الْأَوَّلُ فَمِثْلُ أَنْ يَقْتَرِنَ إمَّا بِزَمَانِ أَوْ بِمَكَانِ أَوْ عَمَلٍ يَكُونُ أَفْضَلَ : مِثْلَ مَا بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَوْقَاتِ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ ؛ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ وَالذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ أَفْضَلُ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَكَذَلِكَ الْأَمْكِنَةُ الَّتِي نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا : كَالْحَمَّامِ وَأَعْطَانِ الْإِبِلِ وَالْمَقْبَرَةِ فَالذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ فِيهَا أَفْضَلُ وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ : الذِّكْرُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ وَالْمُحْدِثُ : الْقِرَاءَةُ وَالذِّكْرُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ فَإِذَا كُرِهَ الْأَفْضَلُ فِي حَالِ حُصُولِ مَفْسَدَةٍ كَانَ الْمَفْضُولُ . هُنَاكَ أَفْضَلَ ؛ بَلْ هُوَ الْمَشْرُوعُ . وَكَذَلِكَ حَالُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { نُهِيت أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ } . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَتَنَازَعُوا فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَذَلِكَ تَشْرِيفًا لِلْقُرْآنِ وَتَعْظِيمًا لَهُ أَنْ لَا يُقْرَأَ

فِي حَالِ الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ كَمَا كَرِهَ أَنْ يُقْرَأَ مَعَ الْجِنَازَةِ وَكَمَا كَرِهَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ قِرَاءَتَهُ فِي الْحَمَّامِ . وَمَا بَعْدَ التَّشَهُّدِ هُوَ حَالُ الدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْرِهِ . وَالدُّعَاءُ فِيهِ أَفْضَلُ ؛ بَلْ هُوَ الْمَشْرُوعُ دُونَ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَكَذَلِكَ الطَّوَافُ وَبِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَعِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ : الْمَشْرُوعُ هُنَاكَ هُوَ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الطَّوَافِ هَلْ تُكْرَهُ أَمْ لَا تُكْرَهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ . ( وَالنَّوْعُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَاجِزًا عَنْ الْعَمَلِ الْأَفْضَلِ ؛ إمَّا عَاجِزًا عَنْ أَصْلِهِ كَمَنْ لَا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَلَا يَسْتَطِيعُ حِفْظَهُ كَالْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَاجِزًا عَنْ فِعْلِهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى فِعْلِ الْمَفْضُولِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ . وَمِنْ هُنَا قَالَ مَنْ قَالَ : إنَّ الذِّكْرَ أَفْضَلُ مِنْ الْقُرْآنِ ؛ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يُخْبِرُ عَنْ حَالِهِ وَأَكْثَرُ السَّالِكِينَ بَلْ الْعَارِفِينَ مِنْهُمْ إنَّمَا يُخْبِرُ أَحَدُهُمْ عَمَّا ذَاقَهُ وَوَجَدَهُ لَا يَذْكُرُ أَمْرًا عَامًّا لِلْخَلْقِ ؛ إذْ الْمَعْرِفَةُ تَقْتَضِي أُمُورًا مُعَيَّنَةً جُزْئِيَّةً وَالْعِلْمُ يَتَنَاوَلُ أَمْرًا عَامًّا كُلِّيًّا فَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَجِدُ فِي الذِّكْرِ مِنْ اجْتِمَاعِ قَلْبِهِ وَقُوَّةِ إيمَانِهِ وَانْدِفَاعِ الْوَسْوَاسِ عَنْهُ وَمَزِيدِ السَّكِينَةِ وَالنُّورِ وَالْهُدَى : مَا لَا يَجِدُهُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ؛ بَلْ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَا يَفْهَمُهُ أَوْ لَا يَحْضُرُ قَلْبَهُ وَفَهْمَهُ وَيَلْعَبُ عَلَيْهِ الْوَسْوَاسُ

وَالْفِكْرُ كَمَا أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْتَمِعُ قَلْبُهُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَفَهْمِهِ وَتَدَبُّرِهِ مَا لَا يَجْتَمِعُ فِي الصَّلَاةِ ؛ بَلْ يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ أَفْضَلَ يُشْرَعُ لِكُلِّ أَحَدٍ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يُشْرَعُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا هُوَ أَفْضَلُ لَهُ . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ تَكُونُ الصَّدَقَةُ أَفْضَلَ لَهُ مِنْ الصِّيَامِ وَبِالْعَكْسِ وَإِنْ كَانَ جِنْسُ الصَّدَقَةِ أَفْضَلَ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ الْحَجُّ أَفْضَلَ لَهُ مِنْ الْجِهَادِ كَالنِّسَاءِ وَكَمَنْ يَعْجِزُ عَنْ الْجِهَادِ وَإِنْ كَانَ جِنْسُ الْجِهَادِ أَفْضَلَ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ } وَنَظَائِرُ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ . إذَا عُرِفَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ : عُرِفَ بِهِمَا جَوَابُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ . إذَا عُرِفَ هَذَا فَيُقَالُ : الْأَذْكَارُ الْمَشْرُوعَةُ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ مِثْلَ مَا يُقَالُ عِنْدَ جَوَابِ الْمُؤَذِّنِ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَكَذَلِكَ مَا سَنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُقَالُ عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَإِتْيَانِ الْمَضْجَعِ : هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ . وَأَمَّا إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ فَالْقِرَاءَةُ لَهُ أَفْضَلُ إنْ أَطَاقَهَا وَإِلَّا فَلْيَعْمَلْ مَا يُطِيقُ وَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنْهُمَا وَلِهَذَا نَقَلَهُمْ عِنْدَ نَسْخِ وُجُوبِ قِيَامِ اللَّيْلِ إلَى الْقِرَاءَةِ فَقَالَ : { إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } الْآيَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
أَيُّمَا أَفْضَلُ قَارِئُ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَعْمَلُ أَوْ الْعَابِدُ ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ الْعَابِدُ يَعْبُدُ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَقَدْ يَكُونُ شَرًّا مِنْ الْعَالِمِ الْفَاسِقِ وَقَدْ يَكُونُ الْعَالِمُ الْفَاسِقُ شَرًّا مِنْهُ . وَإِنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ بِعِلْمِ فَيُؤَدِّي الْوَاجِبَاتِ وَيَتْرُكُ الْمُحَرَّمَاتِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الْفَاسِقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْعَالِمِ الْفَاسِقِ حَسَنَاتٌ تَفْضُلُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ بِحَيْثُ يَفْضُلُ لَهُ مِنْهَا أَكْثَرُ مِنْ حَسَنَاتِ ذَلِكَ الْعَابِدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
أَيُّمَا أَفْضَلُ اسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ ؟ أَوْ صَلَاةُ النَّفْلِ ؟ وَهَلْ تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الصَّلَاةِ غَيْرَ الْفَرْضِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
مَنْ كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ تَطَوُّعًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْهَرَ جَهْرًا يَشْغَلُهُمْ بِهِ ؛ { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ

وَهُمْ يُصَلُّونَ مِنْ السَّحَرِ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ } . وَالْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ النَّافِلَةِ أَفْضَلُ فِي الْجُمْلَةِ ؛ لَكِنْ قَدْ تَكُونُ الْقِرَاءَةُ وَسَمَاعُهَا أَفْضَلَ لِبَعْضِ النَّاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
أَيُّمَا أَفْضَلُ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ الصَّلَاةُ أَمْ الْقِرَاءَةُ ؟ .
فَأَجَابَ :
بَلْ الصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ قَالَ : { اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إلَّا مُؤْمِنٌ } لَكِنْ مَنْ حَصَلَ لَهُ نَشَاطٌ وَتَدَبُّرٌ وَفَهْمٌ لِلْقِرَاءَةِ دُونَ الصَّلَاةِ فَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ مَا كَانَ أَنْفَعَ لَهُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ أَرَادَ تَحْصِيلَ الثَّوَابِ : هَلْ الْأَفْضَلُ لَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ ؟ أَوْ الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ ؟ .

فَأَجَابَ :
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَالذِّكْرُ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ الْمَفْضُولُ أَفْضَلَ مِنْ الْفَاضِلِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ . وَمَعَ هَذَا فَالْقِرَاءَةُ وَالذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ كَالْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ وَوَقْتِ الْخُطْبَةِ هِيَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالتَّشَهُّدُ الْأَخِيرُ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ . وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ النَّاسِ انْتِفَاعُهُ بِالْمَفْضُولِ أَكْثَرَ بِحَسَبِ حَالِهِ إمَّا لِاجْتِمَاعِ قَلْبِهِ عَلَيْهِ وَانْشِرَاحِ صَدْرِهِ لَهُ وَوُجُودِ قُوَّتِهِ لَهُ مِثْلُ مَنْ يَجِدُ ذَلِكَ فِي الذِّكْرِ أَحْيَانًا دُونَ الْقِرَاءَةِ فَيَكُونُ الْعَمَلُ الَّذِي أَتَى بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْكَامِلِ أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ عَلَى الْوَجْهِ النَّاقِصِ وَإِنْ كَانَ جِنْسُ هَذَا [ أَفْضَلَ ] (1) وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ عَاجِزًا عَنْ الْأَفْضَلِ فَيَكُونُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ أَفْضَلَ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
مَا يَقُولُ سَيِّدُنَا : فِيمَنْ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ السُّنَّةَ أَوْ التَّحِيَّةَ فَيَحْصُلُ لَهُمْ بِقِرَاءَتِهِ جَهْرًا أَذًى ، فَهَلْ يُكْرَهُ جَهْرُ هَذَا بِالْقِرَاءَةِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَجْهَرَ بِالْقِرَاءَةِ لَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ إذَا كَانَ غَيْرُهُ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ يُؤْذِيهِمْ بِجَهْرِهِ ؛ بَلْ قَدْ { خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يُصَلُّونَ فِي رَمَضَانَ وَيَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ . فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ كُلُّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ } . وَأَجَابَ : أَيْضًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَعَالَى وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَجْهَرَ بِالْقِرَاءَةِ بِحَيْثُ يُؤْذِي غَيْرَهُ كَالْمُصَلِّينَ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْقِيَامِ لِلْمُصْحَفِ وَتَقْبِيلِهِ ؟ وَهَلْ يُكْرَهُ أَيْضًا أَنْ يُفْتَحَ فِيهِ الْفَأْلُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْقِيَامُ لِلْمُصْحَفِ وَتَقْبِيلُهُ لَا نَعْلَمُ فِيهِ شَيْئًا مَأْثُورًا عَنْ السَّلَفِ وَقَدْ سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ تَقْبِيلِ الْمُصْحَفِ . فَقَالَ : مَا سَمِعْت فِيهِ شَيْئًا . وَلَكِنْ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ : أَنَّهُ كَانَ يَفْتَحُ الْمُصْحَفَ وَيَضَعُ وَجْهَهُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ : " كَلَامُ رَبِّي . كَلَامُ رَبِّي " وَلَكِنْ السَّلَفُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِمْ الْقِيَامُ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِمْ قِيَامُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ اللَّهُمَّ إلَّا لِمِثْلِ الْقَادِمِ مِنْ مَغِيبِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَلِهَذَا قَالَ أَنَسٌ : " لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا إذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ " وَالْأَفْضَلُ لِلنَّاسِ أَنْ يَتَّبِعُوا طَرِيقَ السَّلَفِ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَلَا

يَقُومُونَ إلَّا حَيْثُ كَانُوا يَقُومُونَ . فَأَمَّا إذَا اعْتَادَ النَّاسُ قِيَامَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ . فَقَدْ يُقَالُ : لَوْ تَرَكُوا الْقِيَامَ لِلْمُصْحَفِ مَعَ هَذِهِ الْعَادَةِ لَمْ يَكُونُوا مُحْسِنِينَ فِي ذَلِكَ وَلَا مَحْمُودِينَ بَلْ هُمْ إلَى الذَّمِّ أَقْرَبُ حَيْثُ يَقُومُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ وَلَا يَقُومُونَ لِلْمُصْحَفِ الَّذِي هُوَ أَحَقُّ بِالْقِيَامِ . حَيْثُ يَجِبُ مِنْ احْتِرَامِهِ وَتَعْظِيمِهِ مَا لَا يَجِبُ لِغَيْرِهِ . حَتَّى يُنْهَى أَنْ يَمَسَّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ وَالنَّاسُ يَمَسُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مَعَ الْحَدَثِ لَا سِيَّمَا وَفِي ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِ حُرُمَاتِ اللَّهِ وَشَعَائِرِهِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرَ مَنْ ذَكَرَ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْكِبَارِ قِيَامَ النَّاسِ لِلْمُصْحَفِ ذِكْرٌ مُقَرَّرٌ لَهُ غَيْرُ مُنْكَرٍ لَهُ . وَأَمَّا اسْتِفْتَاحُ الْفَأْلِ فِي الْمُصْحَفِ : فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ فِيهِ شَيْءٌ وَقَدْ تَنَازَعَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ . وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِيهِ نِزَاعًا : ذَكَرَ عَنْ ابْنِ بَطَّةَ أَنَّهُ فَعَلَهُ وَذَكَرَ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ كَرِهَهُ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ الْفَأْلُ الَّذِي يُحِبُّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ . وَالْفَأْلُ الَّذِي يُحِبُّهُ هُوَ أَنْ يَفْعَلَ أَمْرًا أَوْ يَعْزِمَ عَلَيْهِ مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ الْحَسَنَةَ الَّتِي تَسُرُّهُ : مِثْلَ أَنْ يَسْمَعَ يَا نَجِيحُ يَا مُفْلِحُ يَا سَعِيدُ يَا مَنْصُورُ وَنَحْوِ ذَلِكَ . كَمَا { لَقِيَ فِي سَفَرِ الْهِجْرَةِ

رَجُلًا فَقَالَ : مَا اسْمُك ؟ قَالَ : بريدة . قَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ برد أَمْرُنَا } وَأَمَّا الطِّيَرَةُ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ فَعَلَ أَمْرًا مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ أَوْ يَعْزِمُ عَلَيْهِ فَيَسْمَعُ كَلِمَةً مَكْرُوهَةً : مِثْلَ مَا يَتِمُّ أَوْ مَا يَفْلَحُ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَيَتَطَيَّرُ وَيَتْرُكُ الْأَمْرَ فَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ . كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ { مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِي قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنَّا قَوْمٌ يَتَطَيَّرُونَ قَالَ : ذَلِكَ شَيْءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَصُدَّنكُمْ } فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَصُدَّ الطِّيَرَةُ الْعَبْدَ عَمَّا أَرَادَ فَهُوَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِلْفَأْلِ وَكَرَاهَتِهِ لِلطِّيَرَةِ إنَّمَا يَسْلُكُ مَسْلَكَ الِاسْتِخَارَةِ لِلَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْعَمَلِ بِمَا شُرِعَ لَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ لَمْ يَجْعَلْ الْفَأْلَ آمِرًا لَهُ وَبَاعِثًا لَهُ عَلَى الْفِعْلِ وَلَا الطِّيَرَةَ نَاهِيَةً لَهُ عَنْ الْفِعْلِ وَإِنَّمَا يَأْتَمِرُ وَيَنْتَهِي عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ يَسْتَقْسِمُونَ بِالْأَزْلَامِ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الِاسْتِقْسَامَ بِالْأَزْلَامِ فِي آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ وَكَانُوا إذَا أَرَادُوا أَمْرًا مِنْ الْأُمُورِ أَحَالُوا بِهِ قَدَّاحًا مِثْلَ السِّهَامِ أَوْ الْحَصَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ عَلَّمُوا عَلَى هَذَا عَلَامَةَ الْخَيْرِ وَعَلَى هَذَا عَلَامَةَ الشَّرِّ وَآخَرُ غُفْلٌ . فَإِذَا خَرَجَ هَذَا فَعَلُوا وَإِذَا خَرَجَ هَذَا تَرَكُوا وَإِذَا خَرَجَ الْغُفْلُ أَعَادُوا الِاسْتِقْسَامَ . فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الَّتِي تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ : مِثْلَ الضَّرْبِ بِالْحَصَى وَالشَّعِيرِ وَاللَّوْحِ وَالْخَشَبِ وَالْوَرَقِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ حُرُوفُ أَبْجَد أَوْ أَبْيَاتٌ مِنْ

الشِّعْرِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَطْلُبُ بِهِ الْخِيَرَةَ فَمَا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ وَيَتْرُكُهُ يُنْهَى عَنْهَا لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ وَإِنَّمَا يُسَنُّ لَهُ اسْتِخَارَةُ الْخَالِقِ وَاسْتِشَارَةُ الْمَخْلُوقِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي تُبَيِّنُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَمَا يَكْرَهُهُ وَيَنْهَى عَنْهُ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ تَارَةً يُقْصَدُ بِهَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ : هَلْ هُوَ خَيْرٌ أَمْ شَرٌّ ؟ وَتَارَةً الِاسْتِدْلَالُ عَلَى مَا يَكُونُ فِيهِ نَفْعٌ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ . وَكُلًّا غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - (1) :
فَصْلٌ :
تَنَازَعَ النَّاسُ : أَيُّمَا أَفْضَلُ كَثْرَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ؟ أَوْ طُولُ الْقِيَامِ ؟ وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ أَحْمَد فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ : إحْدَاهُنَّ : أَنَّ كَثْرَةَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ وَهِيَ الَّتِي اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ . وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ . وَالثَّالِثَةُ : أَنَّ طُولَ الْقِيَامِ أَفْضَلُ وَهَذَا يُحْكَى عَنْ الشَّافِعِيِّ . فَنَقُولُ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا صُورَتَانِ : إحْدَاهُمَا : أَنْ يُطِيلَ الْقِيَامَ مَعَ تَخْفِيفِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . فَيُقَالُ :

أَيُّمَا أَفْضَلُ ؟ هَذَا أَمْ تَكْثِيرُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعَ تَخْفِيفِ الْقِيَامِ ؟ وَيَكُونُ هَذَا قَدْ عَدَلَ بَيْنَ الْقِيَامِ وَبَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَخَفَّفَ الْجَمِيعَ . وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُطِيلَ الْقِيَامَ فَيُطِيلَ مَعَهُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَيُقَالُ : أَيُّمَا أَفْضَلُ ؟ هَذَا أَمْ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ ؟ وَهَذَا قَدْ عَدَلَ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي النَّوْعَيْنِ لَكِنْ أَيُّمَا أَفْضَلُ تَطْوِيلُ الصَّلَاةِ قِيَامًا وَرُكُوعًا وَسُجُودًا أَمْ تَكْثِيرُ ذَلِكَ مَعَ تَخْفِيفِهَا ؟ فَهَذِهِ الصُّورَةُ ذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ فِيهَا ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَقْتَضِي أَنَّ النِّزَاعَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى أَيْضًا . وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ : أَنَّ الصُّورَةَ الْأُولَى تَقْلِيلُ الصَّلَاةِ مَعَ كَثْرَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَتَخْفِيفُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ مِنْ تَطْوِيلِ الْقِيَامِ وَحْدَهُ مَعَ تَخْفِيفِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَمَنْ فَضَّلَ تَطْوِيلَ الْقِيَامِ احْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ فَقَالَ : طُولُ الْقُنُوتِ } . وَظَنُّوا أَنَّ الْمُرَادَ بِطُولِ الْقُنُوتِ طُولَ الْقِيَامِ وَإِنْ كَانَ مَعَ تَخْفِيفِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ . فَإِنَّ الْقُنُوتَ هُوَ دَوَامُ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ وَيُقَالُ لِمَنْ أَطَالَ السُّجُودَ : إنَّهُ قَانِتٌ . قَالَ تَعَالَى : { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } فَجَعَلَهُ قَانِتًا فِي حَالِ السُّجُودِ كَمَا هُوَ قَانِتٌ فِي حَالِ الْقِيَامِ وَقَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الْقِيَامِ .

وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَالَ : { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا } وَلَمْ يَقُلْ قُنُوتًا فَالْقِيَامُ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْقِيَامِ لَا بِلَفْظِ الْقُنُوتِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } فَالْقَائِمُ قَدْ يَكُونُ قَانِتًا وَقَدْ لَا يَكُونُ وَكَذَلِكَ السَّاجِدُ . فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ أَنَّ طُولَ الْقُنُوتِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْقُنُوتَ فِي حَالِ السُّجُودِ وَحَالِ الْقِيَامِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَأَنَّ تَطْوِيلَ الصَّلَاةِ قِيَامًا وَرُكُوعًا وَسُجُودًا أَوْلَى مِنْ تَكْثِيرِهَا قِيَامًا وَرُكُوعًا وَسُجُودًا ؛ لِأَنَّ طُولَ الْقُنُوتِ يَحْصُلُ بِتَطْوِيلِهَا لَا بِتَكْثِيرِهَا وَأَمَّا تَفْضِيلُ طُولِ الْقِيَامِ مَعَ تَخْفِيفِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى تَكْثِيرِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَغَلَطٌ . فَإِنَّ جِنْسَ السُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْقِيَامِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ السُّجُودَ بِنَفْسِهِ عِبَادَةٌ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُفْعَلَ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالْقِيَامُ لَا يَكُونُ عِبَادَةً إلَّا بِالنِّيَّةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَقُومُ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُ وَلَا يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ . الثَّانِي : أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ السُّجُودِ وَكَذَلِكَ كُلُّ صَلَاةٍ فِيهَا رُكُوعٌ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ سُجُودٍ لَا يَسْقُطُ السُّجُودُ فِيهَا بِحَالِ مِنْ الْأَحْوَالِ فَهُوَ عِمَادُ الصَّلَاةِ وَأَمَّا الْقِيَامُ فَيَسْقُطُ فِي التَّطَوُّعِ دَائِمًا وَفِي الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ وَكَذَلِكَ يَسْقُطُ الْقِيَامُ فِي الْفَرْضِ عَنْ الْمَرِيضِ وَكَذَلِكَ الْمَأْمُومُ إذَا صَلَّى إمَامُهُ جَالِسًا . كَمَا

جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ . وَسَوَاءٌ قِيلَ : إنَّهُ عَامٌّ لِلْأُمَّةِ أَوْ مَخْصُوصٌ بِالرَّسُولِ فَقَدْ سَقَطَ الْقِيَامُ عَنْ الْمَأْمُومِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَالسُّجُودُ لَا يَسْقُطُ لَا عَنْ قَائِمٍ وَلَا قَاعِدٍ وَالْمَرِيضُ إذَا عَجَزَ عَنْ إيمَائِهِ أَتَى مِنْهُ بِقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَهُوَ الْإِيمَاءُ بِرَأْسِهِ وَهُوَ سُجُودُ مِثْلِهِ وَلَوْ عَجَزَ عَنْ الْإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُومِئُ بِطَرَفِهِ فَجَعَلُوا إيمَاءَهُ بِطَرَفِهِ هُوَ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ فَلَمْ يُسْقِطُوهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ تَسْقُطُ الصَّلَاةُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَلَا تَصِحُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ فِي الدَّلِيلِ ؛ لِأَنَّ الْإِيمَاءَ بِالْعَيْنِ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَلَا يَتَمَيَّزُ فِيهِ الرُّكُوعُ عَنْ السُّجُودِ وَلَا الْقِيَامُ عَنْ الْقُعُودِ بَلْ هُوَ مِنْ نَوْعِ الْعَبَثِ الَّذِي لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَأَمَّا الْإِيمَاءُ . بِالرَّأْسِ : فَهُوَ خَفْضُهُ وَهَذَا بَعْضُ مَا أُمِرَ بِهِ الْمُصَلِّي وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ : { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فائتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ مِنْ السُّجُودِ إلَّا

هَذَا الْإِيمَاءَ وَأَمَّا تَحْرِيكُ الْعَيْنِ فَلَيْسَ مِنْ السُّجُودِ فِي شَيْءٍ . وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الصَّلَاةِ مِنْ السُّجُودِ وَهَذَا يَقُولُ الْإِيمَاءُ بِطَرْفِهِ هُوَ سُجُودٌ وَهَذَا يَقُولُ لَيْسَ بِسُجُودِ فَلَا يُصَلِّي . فَلَوْ كَانَتْ الصَّلَاةُ تَصِحُّ مَعَ الْقُدْرَةِ بِلَا سُجُودٍ لَأَمْكَنَ أَنْ يُكَبِّرَ وَيَقْرَأَ وَيَتَشَهَّدَ وَيُسَلِّمَ فَيَأْتِي بِالْأَقْوَالِ دُونَ الْأَفْعَالِ وَمَا عَلِمْت أَحَدًا قَالَ إنَّ الصَّلَاةَ تَصِحُّ بِمُجَرَّدِ الْأَقْوَالِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ السُّجُودِ . وَأَمَّا الْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ فَيَسْقُطَانِ بِالْعَجْزِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ فَعُلِمَ أَنَّ السُّجُودَ هُوَ أَعْظَمُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْقِيَامَ إنَّمَا صَارَ عِبَادَةً بِالْقِرَاءَةِ أَوْ بِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرٍ وَدُعَاءٍ كَالْقِيَامِ فِي الْجِنَازَةِ فَأَمَّا الْقِيَامُ الْمُجَرَّدُ فَلَمْ يُشْرَعْ قَطُّ عِبَادَةً مَعَ إمْكَانِ الذِّكْرِ فِيهِ . بِخِلَافِ السُّجُودِ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ بِنَفْسِهِ عِبَادَةً حَتَّى خَارِجَ الصَّلَاةِ شَرَعَ سُجُودَ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَأَمَّا الْمَأْمُومُ إذَا لَمْ يَقْرَأْ فَإِنَّهُ يَسْتَمِعُ قِرَاءَةَ إمَامِهِ وَاسْتِمَاعُهُ عِبَادَةٌ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا لَا قِرَاءَةَ عَلَيْهِ أَوْ لَا تُسْتَحَبُّ لَهُ الْقِرَاءَةُ قَالُوا قِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ فَإِنَّهُ تَابِعٌ لِلْإِمَامِ .

فَإِنْ قِيلَ : إذَا عَجَزَ الْأُمِّيُّ عَنْ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ قِيلَ : هَذِهِ الصُّورَةُ نَادِرَةٌ أَوْ مُمْتَنِعَةٌ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَعْجِزُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالتَّكْبِيرِ وَمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ تَحْمِيدٍ وَتَهْلِيلٍ وَعَلَى الْقَوْلِ بِتَكْرَارِ ذَلِكَ ؛ هَلْ يَكُونُ بِقَدْرِ الْفَاتِحَةِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَ مَعَك قُرْآنٌ فَاقْرَأْ بِهِ وَإِلَّا فَاحْمَدْ اللَّهَ وَكَبِّرْهُ وهلله ثُمَّ ارْكَعْ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي . قَالَ أَحْمَد : إنَّهُ إذَا قَامَ إلَى الثَّانِيَةِ وَقَدْ نَسِيَ بَعْضَ أَرْكَانِ الْأُولَى إنْ ذَكَرَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْقِرَاءَةِ مَضَى وَصَارَتْ هَذِهِ بَدَلَ تِلْكَ . فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِيَامِ هُوَ الْقِرَاءَةُ ؛ وَلِهَذَا قَالُوا : مَا كَانَ عِبَادَةُ نَفْسِهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى رُكْنٍ قَوْلِيٍّ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَمَا لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً بِنَفْسِهِ احْتَاجَ إلَى رُكْنٍ قَوْلِيٍّ كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ . وَإِذَا كَانَ السُّجُودُ عِبَادَةً بِنَفْسِهِ عُلِمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِيَامِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنْ يُقَالَ الْقِيَامُ يَمْتَازُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ قَدْ نُهِيَ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ التَّسْبِيحِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تَمَيَّزَ الْقِيَامُ وَهُوَ حُجَّةُ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا فَقَالَ السُّجُودُ بِنَفْسِهِ أَفْضَلُ وَذِكْرُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ فَصَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَفْضَلَ مِنْ وَجْهٍ أَوْ تَعَادَلَا . لَكِنْ يُقَالُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ تَسْقُطُ فِي مَوَاضِعَ وَتَسْقُطُ عَنْ الْمَسْبُوقِ الْقِرَاءَةُ وَالْقِيَامُ أَيْضًا . كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ . وَفِي السُّنَنِ

{ مَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ } وَهَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَالنِّزَاعُ فِيهِ شَاذٌّ . وَأَيْضًا فَالْأُمِّيُّ تَصِحُّ صَلَاتُهُ بِلَا قِرَاءَةٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ كَمَا فِي السُّنَنِ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ فَعَلِّمْنِي مَا يَجْزِينِي مِنْهُ . فَقَالَ : قُلْ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ فَقَالَ : هَذَا لِلَّهِ فَمَا لِي ؟ قَالَ : تَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَارْزُقْنِي وَاهْدِنِي . } وَأَيْضًا فَلَوْ نَسِيَ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ قَدْ قِيلَ : تُجْزِئُهُ الصَّلَاةُ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ . وَقِيلَ : إذَا نَسِيَهَا فِي الْأُولَى قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ قِرَاءَةَ الرَّكْعَتَيْنِ وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أَحْمَد . وَأَمَّا السُّجُودُ فَلَا يَسْقُطُ بِحَالِ فَعُلِمَ أَنَّ السُّجُودَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ كَمَا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِيَامِ وَالْمَسْبُوقُ فِي الصَّلَاةِ يَبْنِي عَلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ كَمَا قَدْ بَنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي بَكْرٍ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّارَ تَأْكُلُ مِنْ ابْنِ آدَمَ كُلَّ شَيْءِ إلَّا مَوْضِعَ السُّجُودِ } فَتَأْكُلُ الْقَدَمَ وَإِنْ كَانَ مَوْضِعَ الْقِيَامِ .

الْوَجْهُ السَّادِسُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ } { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ : أَنَّهُ إذَا تَجَلَّى لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَجَدَ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ وَمَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً يَصِيرُ ظَهْرُهُ مِثْلَ الطَّبَقِ " . فَقَدْ أُمِرُوا بِالسُّجُودِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ . فَعُلِمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ . الْوَجْهُ السَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ : أَنَّ الرَّسُولَ إذَا طَلَبَ مِنْهُ النَّاسُ الشَّفَاعَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ : { فَأَذْهَبُ فَإِذَا رَأَيْت رَبِّي خَرَرْت لَهُ سَاجِدًا وَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيَّ لَا أُحْسِنُهَا الْآنَ } فَهُوَ إذَا رَآهُ سَجَدَ وَحَمِدَ وَحِينَئِذٍ يُقَالُ لَهُ : { أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهُ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ } . فَعُلِمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ . الْوَجْهُ الثَّامِنُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ } وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ فِي حَالِ السُّجُودِ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي فَضِيلَةِ السُّجُودِ عَلَى غَيْرِهِ . وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ :

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ } . الْوَجْهُ التَّاسِعُ : مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ { معدان بْنِ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ : لَقِيت ثوبان مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : أَخْبِرْنِي بِعَمَلِ يُدْخِلُنِي اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ أَوْ قَالَ : بِأَحَبِّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ فَسَكَتَ ثُمَّ سَأَلْته الثَّانِيَةَ فَقَالَ : سَأَلْت عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : عَلَيْك بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ فَإِنَّك لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إلَّا رَفَعَك اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْك بِهَا خَطِيئَةً } قَالَ معدان : ثُمَّ لَقِيت أَبَا الدَّرْدَاءِ فَسَأَلْته فَقَالَ لِي مِثْلَمَا قَالَ لِي ثوبان . فَإِنْ كَانَ سَأَلَهُ عَنْ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ السُّجُودَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ سَأَلَهُ عَمَّا يُدْخِلُهُ اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ فَقَدْ دَلَّهُ عَلَى السُّجُودِ دُونَ الْقِيَامِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرَى أَنَّ كَثْرَةَ السُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ تَطْوِيلِهِ لِقَوْلِهِ : { فَإِنَّك لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إلَّا رَفَعَك اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْك بِهَا خَطِيئَةً } وَلَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ سَجْدَةٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا ذَلِكَ لَكِنَّ السَّجْدَةَ أَنْوَاعٌ . فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى السَّجْدَتَيْنِ أَفْضَلَ مِنْ الْأُخْرَى كَانَ مَا يَرْفَعُ بِهِ مِنْ الدَّرَجَةِ أَعْظَمَ وَمَا يَحُطُّ بِهِ عَنْهُ مِنْ الْخَطَايَا أَعْظَمَ كَمَا أَنَّ السَّجْدَةَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا أَعْظَمَ خُشُوعًا وَحُضُورًا هِيَ أَفْضَلُ

مِنْ غَيْرِهَا فَكَذَلِكَ السَّجْدَةُ الطَّوِيلَةُ الَّتِي قَنَتَ فِيهَا لِرَبِّهِ هِيَ أَفْضَلُ مِنْ الْقَصِيرَةِ . الْوَجْهُ الْعَاشِرُ : مَا رَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ { رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : كُنْت أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآتِيهِ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي : سَلْ فَقُلْت : أَسْأَلُك مُرَافَقَتك فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ : أَوَغَيْرُ ذَلِكَ ؟ فَقُلْت : هُوَ ذَاكَ قَالَ : فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِك بِكَثْرَةِ السُّجُودِ } . فَهَذَا قَدْ سَأَلَ عَنْ مَرْتَبَةٍ عَلِيَّةٍ وَإِنَّمَا طَلَبَ مِنْهُ كَثْرَةَ السُّجُودِ . وَهَذَا أَدَلُّ عَلَى أَنَّ كَثْرَةِ السُّجُودِ أَفْضَلُ لَكِنْ يُقَالُ الْمُكْثِرُ مِنْ السُّجُودِ قَدْ يُكْثِرُ مِنْ سُجُودٍ طَوِيلٍ وَقَدْ يُكْثِرُ مِنْ سُجُودٍ قَصِيرٍ وَذَاكَ أَفْضَلُ . وَأَيْضًا فَالْإِكْثَارُ مِنْ السُّجُودِ لَا بُدَّ فَإِذَا صَلَّى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً طَوِيلَةً كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا صَلَّى الْمُصَلِّي فِي مِثْلِ زَمَانِهِنَّ عِشْرِينَ رَكْعَةً فَقَدْ أَكْثَرَ السُّجُودَ لَكِنَّ سُجُودَ ذَاكَ أَفْضَلُ وَأَتَمُّ وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ ذَاكَ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ : إنَّمَا كَانَ أَكْثَرَ مَعَ قِصَرِهَا فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّا هُوَ كَثِيرٌ أَيْضًا وَهُوَ أَتَمُّ وَأَطْوَلُ كَصَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّ مَوَاضِعَ السَّاجِدِ تُسَمَّى مَسَاجِدَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } وَلَا تُسَمَّى مَقَامَاتٍ إلَّا بَعْدَ فِعْلِ السُّجُودِ فِيهَا . فَعُلِمَ أَنَّ أَعْظَمَ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ هُوَ السُّجُودُ الَّذِي عَبَّرَ عَنْ مَوَاضِعِ السُّجُودِ بِأَنَّهَا مَوَاضِعُ فِعْلِهِ . الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } وَهَذَا وَإِنْ تَنَاوَلَ سُجُودَ التِّلَاوَةِ فَتَنَاوُلُهُ لِسُجُودِ الصَّلَاةِ أَعْظَمُ ؛ فَإِنَّ احْتِيَاجَ الْإِنْسَانِ إلَى هَذَا السُّجُودِ أَعْظَمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ جَعَلَ الْخُرُورَ إلَى السُّجُودِ مِمَّا لَا يَحْصُلُ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ وَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ وَهَذَا مِمَّا تَمَيَّزَ بِهِ وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ عَنْ أَنْبِيَائِهِ أَنَّهُمْ : { إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } وَقَالَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا } . وَالدُّعَاءُ فِي السُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ } وَمِثْلَ مَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ

ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ . فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ أَلَا وَإِنِّي نُهِيت أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءُ فِي السُّجُودِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ وَفِي غَيْرِ حَدِيثٍ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ بِاللَّيْلِ فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا } وَإِنْ كَانَ يَتَنَاوَلُ الدُّعَاءَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ فَالسُّجُودُ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا لِآخِرِ الصَّلَاةِ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهَا ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي السُّنَنِ : { أَفْضَلُ الدُّعَاءِ جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرِ وَدُبُرُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ } . فَهَذِهِ الْوُجُوهُ وَغَيْرُهَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ جِنْسَ السُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَلَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ الْقِيَامِ لَكَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ ؛ لَكِنْ هَذَا يَشُقُّ مَشَقَّةً عَظِيمَةً فَلِهَذَا خُفِّفَ السُّجُودُ عَنْ الْقِيَامِ مَعَ أَنَّ السُّنَّةَ تَطْوِيلُهُ إذَا طَوَّلَ الْقِيَامَ كَمَا كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فَرُوِيَ : { أَنَّهُ كَانَ يُخَفِّفُ الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ وَيُطِيلُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ } وَلَمَّا أَطَالَ الْقِيَامَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ أَطَالَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ . وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الصَّحِيحِ : { أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ بِالْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ

وَآلِ عِمْرَانَ قَالَ : رَكَعَ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ وَسَجَدَ نَحْوًا مِنْ رُكُوعِهِ } وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { كَانَ قِيَامُهُ فَرَكْعَتُهُ فَاعْتِدَالُهُ فَسَجْدَتُهُ فَجُلُوسُهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فَجِلْسَتُهُ مَا بَيْنَ السَّلَامِ وَالِانْصِرَافِ قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ } . وَفِي رِوَايَةٍ : { مَا خَلَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ } . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ : { أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ السَّجْدَةَ بِقَدْرِ مَا يَقْرَأُ الْإِنْسَانُ خَمْسِينَ آيَةً } " فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَطْوِيلَ الصَّلَاةِ قِيَامِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا أَفْضَلُ مِنْ تَكْثِيرِ ذَلِكَ مَعَ تَخْفِيفِهِ وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَمَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا قَالَ : إنَّ الْأَحَادِيثَ تَعَارَضَتْ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ : { أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ } يَتَنَاوَلُ التَّطْوِيلَ فِي الْقِيَامِ وَالسُّجُودِ وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَمَّارٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَأَقْصِرُوا الْخُطْبَةَ } " وَقَالَ : { مَنْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ فَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ } " . وَأَحَادِيثُ تَفْضِيلِ السُّجُودِ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا لَا تُنَافِي ذَلِكَ . وَمَعْلُومٌ : أَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا صَلَّى الْكُسُوفَ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَشْرَ رَكَعَاتٍ أَوْ عِشْرِينَ رَكْعَةً يُكْثِرُ فِيهَا قِيَامَهَا وَسُجُودَهَا فَلَمْ يَفْعَلْ ؛ بَلْ صَلَّى

رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَجَعَلَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِيَامَيْنِ وَرُكُوعَيْنِ وَعَلَى هَذَا فَكَثْرَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَطْوِيلُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَأَمَّا إذَا أَطَالَ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ إطَالَةِ الْقِيَامِ فَقَطْ وَأَفْضَلُ مِنْ تَكْثِيرِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ بِقَدْرِ ذَلِكَ . وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ : كَثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ أَوْ سُدُسِهِ أَوْ السَّاعَةِ . هَلْ هَذَا أَفْضَلُ مِنْ هَذَا أَوْ هَذَا أَفْضَلُ مِنْ هَذَا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { أُمِّ هَانِئٍ لَمَّا صَلَّى الثَّمَانِي رَكَعَاتٍ يَوْمَ الْفَتْحِ قَالَتْ : مَا رَأَيْته صَلَّى صَلَاةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ } " وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ { ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ لَا أَدْرِي أَقِيَامُهُ فِيهَا أَطْوَلُ أَمْ رُكُوعُهُ أَمْ سُجُودُهُ كُلُّ ذَلِكَ مُتَقَارِبٌ } " فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ طَوَّلَ الرُّكُوعَ ، وَالسُّجُودَ قَرِيبًا مِنْ الْقِيَامِ وَأَنَّ قَوْلَهَا : { لَمْ أَرَهُ صَلَّى صَلَاةً أَخَفّ مِنْهَا } إخْبَارٌ مِنْهَا عَمَّا رَأَتْهُ وَأُمُّ هَانِئٍ لَمْ تَكُنْ مُبَاشِرَةً لَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَلَعَلَّهَا أَرَادَتْ مَنْعَ كَثْرَةِ الرَّكَعَاتِ فَإِنَّهُ لَمْ يُصَلِّ ثَمَانِيًا جَمِيعًا أَخَفَّ مِنْهَا فَإِنَّ صَلَاتَهُ بِاللَّيْلِ كَانَتْ أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ بِالنَّهَارِ لَمْ يُصَلِّ ثَمَانِيًا مُتَّصِلَةً قَطُّ ؛ بَلْ إنَّمَا كَانَ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ وَالظُّهْرَ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ وَقَبْلَهَا أَرْبَعًا أَوْ رَكْعَتَيْنِ أَوْ لَعَلَّهُ خَفَّفَهَا لِضِيقِ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ صَلَّاهَا بِالنَّهَارِ وَهُوَ مُشْتَغِلٌ بِأُمُورِ فَتْحِ مَكَّةَ

كَمَا كَانَ يُخَفِّفُ الْمَكْتُوبَةَ فِي السَّفَرِ حَتَّى يَقْرَأَ فِي الْفَجْرِ بالمعوذتين . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَرَأَ فِي الْفَجْرِ بِالزَّلْزَلَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَهَذَا التَّخْفِيفُ لِعَارِضِ . وَقَدْ احْتَجَّ مَنْ فَضَّلَ التَّكْثِيرَ عَلَى التَّطْوِيلِ بِحَدِيثِ { ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : إنِّي لَأَعْرِفُ السُّوَرَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهِنَّ مِنْ الْمُفَصَّلِ كُلُّ سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُطِيلُ الْقِيَامَ وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلًا جَمَعَ بَيْنَ سُورَتَيْنِ مِنْ الْمُفَصَّلِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ كَانَ يُرَتِّلُ السُّورَةَ حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ مِنْهَا . وَأَيْضًا فَإِنَّ حُذَيْفَةَ رَوَى عَنْهُ : { أَنَّهُ قَامَ بِالْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَآلِ عِمْرَانِ فِي رَكْعَةٍ } وَابْنُ مَسْعُودٍ ذَكَرَ أَنَّهُ طَوَّلَ حَتَّى هَمَمْت بِأَمْرِ سُوءٍ : أَنْ أَجْلِسَ وَأَدَعَهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ بِسُورَتَيْنِ فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ أَحْيَانًا وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ كَانَ يُطِيلُ بَعْضَ الرَّكَعَاتِ أَطْوَلَ مِنْ بَعْضٍ كَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ وَغَيْرُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ . تَارَةً بِالْمَدْحِ وَتَارَةً بِالْأَمْرِ أَمْرَ إيجَابٍ ثُمَّ نَسَخَهُ بِأَمْرِ الِاسْتِحْبَابِ إذَا لَمْ تَدْخُلْ صَلَاةُ الْعِشَاءِ فِيهِ بَلْ أُرِيدَ الْقِيَامُ بَعْدَ النَّوْمِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرُهُ مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَقَدْ أَخَذَ بِنَصِيبِهِ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ . فَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْقِيَامِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عبيدة السلماني : أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ وَاجِبٌ لَمْ يُنْسَخْ وَلَوْ كَحَلْبِ شَاةٍ . وَهَذَا إذَا أُرِيدَ بِهِ مَا يَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الْوِتْرِ فَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ : أَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا قَالَ : { أَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ قَالَ أَعْرَابِيٌّ : مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : إنَّهَا لَيْسَتْ لَك وَلَا لِأَصْحَابِك } " فَقَدْ خَاطَبَ أَهْلَ الْقُرْآنِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ بِمَا لَمْ يُخَاطِبْ بِهِ غَيْرَهُمْ .

وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } فُسِّرَ بِقِرَاءَتِهِ بِاللَّيْلِ لِئَلَّا يَنْسَاهُ . وَقَالَ : { نَظَرْت فِي سَيِّئَاتِ أُمَّتِي ، فَوَجَدْت فِيهَا الرَّجُلَ يُؤْتِيهِ اللَّهُ آيَةً فَيَنَامُ عَنْهَا حَتَّى يَنْسَاهَا } " وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ ، فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ } " : أَيْ الصُّبْحَ مَعَ الْعِشَاءِ . فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَلَكِنْ فَاعِلُهُمَا كَمَنْ قَامَ اللَّيْلَ . قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } { آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } { كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } { وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } وَقَالَ : { الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ } وَهَذَا عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ : مَعْنَاهُ كَانُوا يَهْجَعُونَ قَلِيلًا فَ ( قَلِيلًا ) مَنْصُوبٌ بِ ( يَهْجَعُونَ ) وَ ( مَا ) مُؤَكِّدَةٌ . وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ : { بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ } وَقَوْلِهِ : { كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } هُوَ مُفَسَّرٌ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ بِقَوْلِهِ : { قُمِ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا } { نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا } { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } فَهَذَا الْمُسْتَثْنَى مِنْ الْأَمْرِ هُوَ الْقَلِيلُ الْمَذْكُورُ فِي تِلْكَ السُّوَرِ وَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَجْمُوعِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَإِنَّهُمْ إذَا هَجَعُوا ثُلُثَهُ أَوْ نِصْفَهُ أَوْ ثُلُثَاه فَهَذَا قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَمْ يهجعوه مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَسَوَاءٌ نَامُوا بِالنَّهَارِ أَوْ لَمْ يَنَامُوا .

وَقَدْ قِيلَ : لَمْ يَأْتِ عَلَيْهِمْ لَيْلَةٌ إلَّا قَامُوا فِيهَا . فَالْمُرَادُ هُجُوعُ جَمِيعِ اللَّيْلَةِ وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ هُجُوعَ اللَّيْلِ مُحَرَّمٌ فَإِنَّ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فَرْضٌ وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وَفِي حَدِيثِ { مُعَاذٍ الَّذِي قَالَ فِيهِ : يَا رَسُولَ اللَّهَ أَخْبِرْنِي بِعَمَلِ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنْ النَّارِ قَالَ : لَقَدْ سَأَلْت عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ ثُمَّ قَالَ : أَلَا أَدُلُّك عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ ثُمَّ تَلَا : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } حَتَّى بَلَغَ { يَعْمَلُونَ } . ثُمَّ قَالَ : لَا أُخْبِرُك بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ ؟ رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . ثُمَّ قَالَ : أَلَا أُخْبِرُك بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ ؟ قُلْت : بَلَى قَالَ : فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ فَقَالَ : اُكْفُفْ عَلَيْك هَذَا فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ فَقَالَ : ثَكِلَتْك أُمُّك يَا مُعَاذُ ؛ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ } " .

وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } وَقَالَ تَعَالَى { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ قَوْلِهِ : { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } وَقَالَ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ : { قُمِ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا } إلَى قَوْلِهِ { إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا } . وَإِذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ بَقِيَ الِاسْتِحْبَابُ قَالَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ : وَ " النَّاشِئَةُ " لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ نَوْمٍ يُقَالُ : نَشَأَ إذَا قَامَ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا } . وقَوْله تَعَالَى { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا } { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا } { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } { وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا } . فَإِنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ وَالْوِتْرَ وَقِيَامَ اللَّيْلِ . لِقَوْلِهِ : { وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا } . وقَوْله تَعَالَى { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } { فَسَبِّحْ

بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ } . مُطْلَقٌ لَمْ يَخُصَّهُ بِوَقْتِ آخَرَ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُصَلِّ وِتْرَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ : فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْوِتْرُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى تَرْكِهِ فَإِنَّهُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ . وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِهِ فَأَوْجَبَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَالْجُمْهُورُ لَا يُوجِبُونَهُ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؛ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ } وَالْوَاجِبُ لَا يُفْعَلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ ؛ لَكِنْ هُوَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ تَرْكُهُ . وَالْوِتْرُ أَوْكَدُ مِنْ سُنَّةِ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالْوِتْرُ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ تَطَوُّعَاتِ النَّهَارِ كَصَلَاةِ الضُّحَى ؛ بَلْ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ قِيَامُ اللَّيْلِ . وَأَوْكَدُ ذَلِكَ الْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَمَّا إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُسَافِرًا وَهُوَ يَقْصُرُ : هَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الْوِتْرَ أَمْ لَا ؟ .أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
نَعَمْ يُوتِرُ فِي السَّفَرِ فَقَدَ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ سَفَرًا وَحَضَرًا } وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ وَيُوتِرُ عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ "
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ نَامَ عَنْ صَلَاةِ الْوِتْرِ ؟ .
فَأَجَابَ :
يُصَلِّي مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَغَيْرُهُمَا . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرٍ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إذَا أَصْبَحَ أَوْ ذَكَرَ } " .

وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَد هَلْ يَقْضِي شَفْعَهُ مَعَهُ ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقْضِي شَفْعَهُ مَعَهُ . وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا . فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا } " وَهَذَا يَعُمُّ الْفَرْضَ وَقِيَامَ اللَّيْلِ وَالْوِتْرَ وَالسُّنَنَ الرَّاتِبَةَ . قَالَتْ عَائِشَةُ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا مَنَعَهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ صَلَّى مِنْ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً } " رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَرَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَقَرَأَهُ بَيْنَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ . كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ اللَّيْلِ } " رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَهَكَذَا السُّنَنُ الرَّاتِبَةُ . وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ لَمَّا نَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي السَّفَرِ صَلَّى سُنَّةَ الصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ } " { وَلَمَّا فَاتَتْهُ سُنَّةُ الظُّهْرِ الَّتِي بَعْدَهَا صَلَّاهَا بَعْدَ الْعَصْرِ } . وَقَالَتْ عَائِشَةُ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا لَمْ يُصَلِّ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ صَلَّاهُنَّ بَعْدَهَا } " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَلْيُصَلِّهِمَا بَعْدَ مَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ } " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَة .

وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ : إنَّ الْوِتْرَ لَا يُقْضَى وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد ؛ لَمَّا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ فَقَدْ ذَهَبَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالْوِتْرُ } قَالُوا : فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوِتْرِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَمَلِ اللَّيْلِ كَمَا أَنَّ وِتْرَ عَمَلِ النَّهَارِ الْمَغْرِبُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا فَاتَهُ عَمَلُ اللَّيْلِ صَلَّى مِنْ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَلَوْ كَانَ الْوِتْرُ فِيهِنَّ لَكَانَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً . وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْوِتْرَ يُقْضَى قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَإِنَّهُ إذَا صُلِّيَتْ لَمْ يَبْقَ فِي قَضَائِهِ الْفَائِدَةَ الَّتِي شُرِعَ لَهَا ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ إمَامٍ شَافِعِيٍّ يُصَلِّي بِجَمَاعَةِ : حَنَفِيَّةٍ وَشَافِعِيَّةٍ وَعِنْدَ الْوِتْرِ الْحَنَفِيَّةُ وَحْدَهُمْ .
فَأَجَابَ :
قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيت الصُّبْحَ فَصَلِّ وَاحِدَةً تُوتِرُ لَك مَا صَلَّيْت } " وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ مَفْصُولَةٍ عَمَّا قَبْلَهَا وَإِنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِخَمْسِ وَسَبْعٍ لَا يُسَلِّمُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ .

وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ جَائِزٌ وَأَنَّ الْوِتْرَ بِثَلَاثِ بِسَلَامِ وَاحِدٍ أَيْضًا كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ . وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ لَمْ تَبْلُغْ جَمِيعَ الْفُقَهَاءِ فَكَرِهَ بَعْضُهُمْ الْوِتْرَ بِثَلَاثِ مُتَّصِلَةٍ كَصَلَاةِ الْمَغْرِبِ كَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ . وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ الْوِتْرَ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ الْوِتْرَ بِخَمْسِ وَسَبْعٍ وَتِسْعٍ مُتَّصِلَةٍ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَمَالِكٌ . وَالصَّوَابُ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَأَوْتَرَ عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ يَتْبَعُهُ الْمَأْمُومُ فِي ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا صَلَاةُ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ : فَهَذِهِ رَوَى فِيهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْوِتْرِ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ } " . وَرُوِيَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ : " أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا أَوْتَرَ بِتِسْعِ " فَإِنَّهُ كَانَ يُوتِرُ

بِإِحْدَى عَشْرَةَ ثُمَّ كَانَ يُوتِرُ بِتِسْعِ وَيُصَلِّي بَعْدَ الْوِتْرِ رَكْعَتَيْنِ . وَهُوَ جَالِسٌ . وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ مَا سَمِعُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ ؛ وَلِهَذَا يُنْكِرُونَ هَذِهِ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُ سَمِعُوا هَذَا وَعَرَفُوا صِحَّتَهُ . وَرَخَّصَ أَحْمَد أَنْ تُصَلَّى هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ كَمَا فَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ لَكِنْ لَيْسَتْ وَاجِبَةً بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يُذَمُّ مَنْ تَرَكَهَا وَلَا تُسَمَّى " زَحَّافَةً " فَلَيْسَ لِأَحَدِ إلْزَامُ النَّاسِ بِهَا وَلَا الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ فَعَلَهَا . وَلَكِنَّ الَّذِي يُنْكِرُ مَا يَفْعَلُهُ طَائِفَةٌ مِنْ سَجْدَتَيْنِ مُجَرَّدَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ فَإِنَّ هَذَا يَفْعَلُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَنْسُوبَيْنِ إلَى الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَمُسْتَنَدُهُمْ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْوِتْرِ سَجْدَتَيْنِ } " رَوَاهُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ وَغَيْرُهُ . فَظَنُّوا أَنَّ الْمُرَادَ سَجْدَتَانِ مُجَرَّدَتَانِ وَغَلِطُوا . فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ . كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فَإِنَّ السَّجْدَةَ يُرَادُ بِهَا الرَّكْعَةُ كَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ : { حَفِظْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ } " الْحَدِيثَ . وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ رَكْعَتَانِ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَنْ أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْفَجْرَ } " أَرَادَ بِهِ رَكْعَةً . كَمَا جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ .

وَظَنَّ بَعْضٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا سَجْدَةٌ مُجَرَّدَةٌ وَهُوَ غَلَطٌ . فَإِنَّ تَعْلِيقَ الْإِدْرَاكِ بِسَجْدَةِ مُجَرَّدَةٍ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ . بَلْ لَهُمْ فِيمَا تُدْرَكُ بِهِ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَةُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَصَحُّهَا : أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ وَلَا الْجَمَاعَةِ إلَّا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجَمَاعَةِ بِتَكْبِيرَةٍ . وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الْجُمُعَةِ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ صَلَّى أَرْبَعًا . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ } " . وَعَلَى هَذَا إذَا أَدْرَكَ الْمُسَافِرُ خَلْفَ الْمُقِيمِ رَكْعَةً : فَهَلْ يُتِمُّ ، أَوْ يَقْصُرُ ؟ فِيهَا قَوْلَانِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ لَفْظَ " السَّجْدَةِ " الْمُرَادُ بِهِ الرَّكْعَةُ فَإِنَّ الصَّلَاةَ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِأَبْعَاضِهَا فَتُسَمَّى قِيَامًا وَقُعُودًا وَرُكُوعًا وَسُجُودًا وَتَسْبِيحًا وَقُرْآنًا . وَأَنْكَرَ مِنْ هَذَا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ سَجْدَةً مُفْرَدَةً فَإِنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ . وَالْعِبَادَاتُ مَبْنَاهَا عَلَى الشَّرْعِ وَالِاتِّبَاعِ لَا عَلَى الْهَوَى وَالِابْتِدَاعِ ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ : أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ وَأَنْ نَعْبُدَهُ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَعْبُدُهُ بِالْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا الصَّلَاةُ " الزَّحَّافَةُ " وَقَوْلُهُمْ : مَنْ لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهَا فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ : وَمُرَادُهُمْ الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْوِتْرِ جَالِسًا فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَإِنْ تَرْكَهَا طُولَ عُمُرِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهَا وَلَا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمُرِهِ لَا يَكُونُ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَلَا مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ وَلَا يُهْجَرُ وَلَا يُوسَمُ بِمِيسَمِ مَذْمُومٍ أَصْلًا ؛ بَلْ لَوْ تَرَكَ الرَّجُلُ مَا هُوَ أَثْبَتُ مِنْهَا كَتَطْوِيلِ قِيَامِ اللَّيْلِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطَوِّلُهُ وَكَقِيَامِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً . كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ خَارِجًا عَنْ السُّنَّةِ وَلَا مُبْتَدِعًا وَلَا مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ مَعَ اتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً طَوِيلَةً . كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يَدَعَ ذَلِكَ وَيُصَلِّيَ بَعْدَ الْوِتْرِ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ . فَإِنَّ الَّذِي ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً وَهُوَ جَالِسٌ ثُمَّ صَارَ يُصَلِّي تِسْعًا يَجْلِسُ عَقِيبَ الثَّامِنَةِ وَالتَّاسِعَةِ وَلَا يُسَلِّمُ إلَّا عَقِيبَ

التَّاسِعَةِ ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ ثُمَّ صَارَ يُوتِرُ بِسَبْعِ وَبِخَمْسِ فَإِذَا أَوْتَرَ بِخَمْسِ لَمْ يَجْلِسْ إلَّا عَقِيبَ الْخَامِسَةِ ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ } . وَإِذَا أَوْتَرَ بِسَبْعِ : فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْلِسُ إلَّا عَقِيبَ السَّابِعَةِ وَرُوِيَ : أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ عَقِيبَ السَّادِسَةِ وَالسَّابِعَةِ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ وَهُوَ جَالِسٌ . وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُدَاوِمُ عَلَيْهَا فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّ مَنْ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهَا فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ . وَالْعُلَمَاءُ مُتَنَازِعُونَ فِيهَا : هَلْ تُشْرَعُ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّهَا لَا تُشْرَعُ بِحَالِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا } " . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ تَأَوَّلَ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْوِتْرِ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لَكِنَّ الْأَحَادِيثَ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ بِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْوِتْرِ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ غَيْرَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ . وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ : أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ فَظَنَّ بَعْضُ الشُّيُوخِ أَنَّ الْمُرَادَ سَجْدَتَانِ مُجَرَّدَتَانِ فَكَانُوا يَسْجُدُونَ بَعْدَ الْوِتْرِ سَجْدَتَيْنِ مُجَرَّدَتَيْنِ وَهَذِهِ بِدْعَةٌ لَمْ يَسْتَحِبَّهَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ وَلَا فَعَلَهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ . وَإِنَّمَا غَرَّهُمْ لَفْظُ السَّجْدَتَيْنِ وَالْمُرَادُ بِالسَّجْدَتَيْنِ الرَّكْعَتَانِ كَمَا قَالَ { ابْنُ عُمَرَ : حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَهَا وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ

وَسَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ } " : أَيْ رَكْعَتَيْنِ . وَلَعَلَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ : هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ اللَّتَانِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْوِتْرِ جَالِسًا نِسْبَتُهَا إلَى وِتْرِ اللَّيْلِ : نِسْبَةُ رَكْعَتَيْ الْمَغْرِبِ إلَى وِتْرِ النَّهَارِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْمَغْرِبُ وِتْرُ النَّهَارِ . فَأَوْتِرُوا صَلَاةَ اللَّيْلِ } " رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ . فَإِذَا كَانَتْ الْمَغْرِبُ وِتْرَ النَّهَارِ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَخْرُجْ الْمَغْرِبُ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ وِتْرًا لِأَنَّ تِلْكَ الرَّكْعَتَيْنِ هُمَا تَكْمِيلُ الْفَرْضِ وَجَبْرٌ لِمَا يَحْصُلُ مِنْهُ مِنْ سَهْوٍ وَنَقْصٍ كَمَا جَاءَتْ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا إلَّا ثُلُثُهَا إلَّا رُبُعُهَا إلَّا خُمُسُهَا حَتَّى قَالَ إلَّا عُشْرُهَا } " فَشُرِعَتْ السُّنَنُ جَبْرًا لِنَقْصِ الْفَرَائِضِ . فَالرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ لَمَّا كَانَتَا جَبْرًا لِلْفَرْضِ لَمْ يُخْرِجْهَا عَنْ كَوْنِهَا وِتْرًا كَمَا لَوْ سَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ فَكَذَلِكَ وِتْرُ اللَّيْلِ جَبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهُ . وَلِهَذَا كَانَ يُجْبِرُهُ إذَا أَوْتَرَ بِتِسْعِ أَوْ سَبْعٍ أَوْ خَمْسٍ لِنَقْصِ عَدَدِهِ عَنْ إحْدَى عَشْرَةَ . فَهُنَا نَقْصُ الْعَدَدِ نَقْصٌ ظَاهِرٌ . وَإِنْ كَانَ يُصَلِّيهِمَا إذَا أَوْتَرَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ كَانَ هُنَاكَ جَبْرًا لِصِفَةِ

الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ يُصَلِّيهِمَا جَالِسًا ؛ لِأَنَّ وِتْرَ اللَّيْلِ دُونَ وِتْرِ النَّهَارِ فَيَنْقُصُ عَنْهُ فِي الصِّفَةِ وَهِيَ مَرْتَبَةٌ بَيْنَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَبَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ الْكَامِلَتَيْنِ فَيَكُونُ الْجَبْرُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ جَبْرٌ لِلسَّهْوِ سَجْدَتَانِ لَكِنَّ ذَاكَ نَقْصٌ فِي قَدْرِ الصَّلَاةِ ظَاهِرٌ فَهُوَ وَاجِبٌ مُتَّصِلٌ بِالصَّلَاةِ . وَأَمَّا الرَّكْعَتَانِ المستقلتان فَهُمَا جَبْرٌ لِمَعْنَاهَا الْبَاطِنِ فَلِهَذَا كَانَتْ صَلَاتُهُ تَامَّةً . كَمَا فِي السُّنَنِ : { إنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ الصَّلَاةُ فَإِنْ أَكْمَلَهَا وَإِلَّا قِيلَ : اُنْظُرُوا هَلْ لَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ } " ثُمَّ يُصْنَعُ بِسَائِرِ أَعْمَالِهِ كَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ قُنُوتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كَانَ فِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ ؟ أَوْ الصُّبْحِ ؟ وَمَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ الصَّحَابَةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْقُنُوتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ . فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ فِي النَّوَازِلِ . قَنَتَ مَرَّةً شَهْرًا يَدْعُو عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْكُفَّارِ قَتَلُوا طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ ثُمَّ تَرَكَهُ وَقَنَتَ مَرَّةً أُخْرَى يَدْعُو لِأَقْوَامِ مِنْ أَصْحَابِهِ كَانُوا مَأْسُورِينَ عِنْدَ أَقْوَامٍ يَمْنَعُونَهُمْ مِنْ الْهِجْرَةِ إلَيْهِ .

وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ كَانُوا يَقْنُتُونَ نَحْوَ هَذَا الْقُنُوتِ فَمَا كَانَ يُدَاوِمُ عَلَيْهِ وَمَا كَانَ يَدَعُهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : قِيلَ : إنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ سُنَّةٌ . وَقِيلَ : الْقُنُوتُ مَنْسُوخٌ . وَأَنَّهُ كُلُّهُ بِدْعَةٌ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُسَنُّ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ كَمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ . وَأَمَّا الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِلَازِمِ فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ لَمْ يَقْنُتْ وَمِنْهُمْ مَنْ قَنَتَ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَنَتَ السَّنَةَ كُلَّهَا . وَالْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّ الْأَوَّلَ كَمَالِكِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّ الثَّانِيَ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّ الثَّالِثَ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ أَحْمَد فِي رِوَايَةٍ وَالْجَمِيعُ جَائِزٌ . فَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَا لَوْمَ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْقُنُوتُ : فَالنَّاسُ فِيهِ طَرَفَانِ وَوَسَطٌ : مِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى الْقُنُوتَ إلَّا قَبْلَ الرُّكُوعِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَاهُ إلَّا بَعْدَهُ . وَأَمَّا فُقَهَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ فَيُجَوِّزُونَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ لِمَجِيءِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ بِهِمَا . وَإِنْ اخْتَارُوا الْقُنُوتَ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ وَأَقْيَسُ فَإِنَّ سَمَاعَ الدُّعَاءِ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِ الْعَبْدِ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَإِنَّهُ يُشْرَعُ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ دُعَائِهِ كَمَا بُنِيَتْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ عَلَى ذَلِكَ : أَوَّلُهَا ثَنَاءٌ وَآخِرُهَا دُعَاءٌ . وَأَيْضًا فَالنَّاسُ فِي شَرْعِهِ فِي الْفَجْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ فِي الْفَجْرِ . مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَنْسُوخٌ فَإِنَّهُ قَنَتَ ثُمَّ تَرَكَ . كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ .

وَمَنْ قَالَ : الْمَتْرُوكُ هُوَ الدُّعَاءُ عَلَى أُولَئِكَ الْكُفَّارِ فَلَمْ تَبْلُغْهُ أَلْفَاظُ الْحَدِيثِ أَوْ بَلَغَتْهُ فَلَمْ يَتَأَمَّلْهَا فَإِنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ : { سَأَلْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ الْقُنُوتِ : هَلْ كَانَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ ؟ فَقَالَ : قَبْلَ الرُّكُوعِ قَالَ : فَإِنَّ فُلَانًا أَخْبَرَنِي أَنَّك قُلْت بَعْدَ الرُّكُوعِ قَالَ : كَذَبَ إنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَرَاهُ بَعَثَ قَوْمًا يُقَالُ لَهُمْ الْقُرَّاءُ زُهَاءَ سَبْعِينَ رَجُلًا إلَى قَوْمٍ مُشْرِكِينَ دُونَ أُولَئِكَ وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ عَهْدٌ وَقَنَتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَيْهِمْ } وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد وَالْحَاكِمُ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ : { مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا } " جَاءَ لَفْظُهُ مُفَسَّرًا " أَنَّهُ : مَا زَالَ يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ " . وَالْمُرَادُ هُنَا بِالْقُنُوتِ طُولُ الْقِيَامِ لَا الدُّعَاءُ . كَذَلِكَ جَاءَ مُفَسَّرًا وَيُبَيِّنُهُ مَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين قَالَ : قُلْت لِأَنَسٍ : قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ قَالَ : نَعَمْ بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيرًا } " فَأَخْبَرَ أَنَّ قُنُوتَهُ كَانَ يَسِيرًا وَكَانَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْقُنُوتِ هُوَ إدَامَةُ الطَّاعَةِ سُمِّيَ كُلُّ تَطْوِيلٍ فِي قِيَامٍ أَوْ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ قُنُوتًا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا } وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ الْقُنُوتِ الرَّاتِبِ قَالَ : " مَا سَمِعْنَا وَلَا رَأْينَا " وَهَذَا قَوْلٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ الْقُنُوتُ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ حَيْثُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَنَتَ وَرُوِيَ عَنْهُ : { أَنَّهُ مَا زَالَ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا } . وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ اسْتَحَبَّهُ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ لَمَّا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَنَتَ فِيهِنَّ وَجَاءَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ وَالظُّهْرِ . لَكِنْ لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ أَنَّهُ قَنَتَ قُنُوتًا رَاتِبًا بِدُعَاءِ مَعْرُوفٍ . فَاسْتَحَبُّوا أَنْ يَدْعُوَ فِيهِ بِقُنُوتِ الْوِتْرِ الَّذِي عَلَّمَهُ . النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ : { اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْت } " إلَى آخِرِهِ . وَتَوَسَّطَ آخَرُونَ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَغَيْرُهُمْ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ فَقَالُوا : قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ لِلنَّوَازِلِ الَّتِي نَزَلَتْ بِهِ مِنْ الْعَدُوِّ فِي قَتْلِ أَصْحَابِهِ أَوْ حَبْسِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّهُ قَنَتَ مُسْتَنْصِرًا كَمَا اسْتَسْقَى حِينَ الْجَدْبِ فَاسْتِنْصَارُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَاسْتِرْزَاقِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إذْ بِالنَّصْرِ وَالرِّزْقِ قِوَامُ أَمْرِ النَّاسِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَهَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ ؟ بِدُعَائِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَاسْتِغْفَارِهِمْ } " وَكَمَا قَالَ فِي صِفَةِ الْأَبْدَالِ : { بِهِمْ تُرْزَقُونَ وَبِهِمْ تُنْصَرُونَ } " وَكَمَا ذَكَرَ اللَّهُ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمَا بِيَدِهِ . سُبْحَانَهُ . فِي قَوْلِهِ : { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إنِ الْكَافِرُونَ إلَّا فِي غُرُورٍ } { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } ثُمَّ تَرَكَ الْقُنُوتَ وَجَاءَ مُفَسَّرًا أَنَّهُ تَرَكَهُ لِزَوَالِ ذَلِكَ السَّبَبِ .

وَكَذَلِكَ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا أَبْطَأَ عَلَيْهِ خَبَرُ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ قَنَتَ وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَنَتَ لَمَّا حَارَبَ مَنْ حَارَبَ مِنْ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ . قَالُوا : وَلَيْسَ التَّرْكُ نَسْخًا فَإِنَّ النَّاسِخَ لَا بُدَّ أَنْ يُنَافِيَ الْمَنْسُوخَ وَإِذَا فَعَلَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرًا لِحَاجَةِ ثُمَّ تَرَكَهُ لِزَوَالِهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَسْخًا بَلْ لَوْ تَرَكَهُ تَرْكًا مُطْلَقًا لَكَانَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ لَا عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْفِعْلِ . قَالُوا : وَنَعْلَمُ مُطْلَقًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْنُتُ قُنُوتًا رَاتِبًا فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ قَطُّ أَنَّهُ دَعَا فِي قُنُوتِهِ فِي الْفَجْرِ وَنَحْوِهَا إلَّا لِقَوْمِ أَوْ عَلَى قَوْمٍ وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَطُّ أَنَّهُ قَنَتَ دَائِمًا بَعْدَ الرُّكُوعِ وَلَا أَنَّهُ قَنَتَ دَائِمًا يَدْعُو قَبْلَهُ وَأَنْكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْقُنُوتَ الرَّاتِبَ فَإِذَا عُلِمَ هَذَا عُلِمَ قَطْعًا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كَمَا يُعْلَمُ : " أَنَّ حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ " لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَذَانِ الرَّاتِبِ وَإِنَّمَا فَعَلَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لِعَارِضِ تَحْضِيضًا لِلنَّاسِ عَلَى الصَّلَاةِ فَهَذَا الْقَوْلُ أَوْسَطُ الْأَقْوَالِ وَهُوَ أَنَّ الْقُنُوتَ مَشْرُوعٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ ؛ لَكِنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلْحَاجَةِ النَّازِلَةِ لَا سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ . وَهَذَا أَصْلٌ آخَرُ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّات كَالْأَصْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي مَا يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّات الرَّاتِبَةِ

يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ الْعَارِضِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَا وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا كَمَا سَقَطَ بِالسَّفَرِ وَالْمَرَضِ وَالْخَوْفِ كَثِيرٌ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّات . وَكَذَلِكَ أَيْضًا قَدْ يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ لِلْأَسْبَابِ الْعَارِضَةِ مَا لَا يَكُونُ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا رَاتِبًا فَالْعِبَادَاتُ فِي ثُبُوتِهَا وَسُقُوطِهَا تَنْقَسِمُ إلَى رَاتِبَةٍ وَعَارِضَةٍ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ ثُبُوتُ الْوُجُوبِ أَوْ الِاسْتِحْبَابُ أَوْ سُقُوطُهُ . وَإِنَّمَا تَغْلَطُ الْأَذْهَانُ مِنْ حَيْثُ تَجْعَلُ الْعَارِضَ رَاتِبًا أَوْ تَجْعَلُ الرَّاتِبَ لَا يَتَغَيَّرُ بِحَالِ وَمَنْ اهْتَدَى لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمَشْرُوعَاتِ الرَّاتِبَةِ وَالْعَارِضَةِ انْحَلَّتْ عَنْهُ هَذِهِ الْمُشْكِلَاتُ كَثِيرًا .
وَسُئِلَ :
هَلْ قُنُوتُ الصُّبْحِ دَائِمًا سُنَّةٌ ؟ وَمَنْ يَقُولُ : إنَّهُ مِنْ أَبْعَاضِ الصَّلَاةِ الَّتِي تُجْبَرُ بِالسُّجُودِ وَمَا يُجْبَرُ إلَّا النَّاقِصُ . وَالْحَدِيثُ { مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا } فَهَلْ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ ؟ وَهَلْ هُوَ هَذَا الْقُنُوتُ ؟ وَمَا أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ؟ وَمَا حُجَّةُ كُلٍّ مِنْهُمْ ؟ وَإِنْ قَنَتَ لِنَازِلَةٍ : فَهَلْ يَتَعَيَّنُ قَوْلُهُ أَوْ يَدْعُو بِمَا شَاءَ ؟ .

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رعل وذكوان وَعُصَيَّةَ } ثُمَّ تَرَكَهُ . وَكَانَ ذَلِكَ لَمَّا قَتَلُوا الْقُرَّاءَ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَنَتَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةِ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَفَتْحِ خَيْبَرَ يَدْعُو للمستضعفين مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ . وَيَقُولُ فِي قُنُوتِهِ : { اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ والمستضعفين مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَك عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ } . { وَكَانَ يَقْنُتُ يَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ وَكَانَ قُنُوتُهُ فِي الْفَجْرِ } . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ قَنَتَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَفِي الظُّهْرِ } وَفِي السُّنَنِ { أَنَّهُ قَنَتَ فِي الْعَصْرِ } أَيْضًا . فَتَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْقُنُوتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ مَنْسُوخٌ فَلَا يُشْرَعُ بِحَالِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ ثُمَّ تَرَكَ وَالتَّرْكُ نَسْخٌ لِلْفِعْلِ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَقُومُ لِلْجِنَازَةِ ثُمَّ قَعَدَ . جَعَلَ الْقُعُودَ نَاسِخًا لِلْقِيَامِ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ .

وَالثَّانِي : أَنَّ الْقُنُوتَ مَشْرُوعٌ دَائِمًا وَأَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ سُنَّةٌ وَأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْفَجْرِ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : السُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الرُّكُوعِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ سِرًّا وَأَنْ لَا يَقْنُتَ بِسِوَى : { اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك } إلَى آخِرِهَا وَ { اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ } إلَى آخِرِهَا كَمَا يَقُولُهُ : مَالِكٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : السُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الرُّكُوعِ جَهْرًا . وَيُسْتَحَبُّ . أَنْ يَقْنُتَ بِدُعَاءِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُنُوتِهِ : { اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْت } إلَى آخِرِهِ . وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُجَوِّزُونَ الْقُنُوتَ قَبْلُ وَبَعْدُ . وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } وَيَقُولُونَ : الْوُسْطَى : هِيَ الْفَجْرُ وَالْقُنُوتُ فِيهَا . وَكِلْتَا الْمُقَدَّمَتَيْنِ ضَعِيفَةٌ : أَمَّا الْأُولَى : فَقَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ الْعَصْرُ } وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ مَنْ عَرَفَ الْأَحَادِيثَ الْمَأْثُورَةَ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ وَغَيْرُهُمْ . وَإِنْ كَانَ لِلصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ مَقَالَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ . فَإِنَّهُمْ تَكَلَّمُوا بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِمْ .

وَأَمَّا الثَّانِيَةُ : فَالْقُنُوتُ هُوَ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الطَّاعَةِ وَهَذَا يَكُونُ فِي الْقِيَامِ وَالسُّجُودِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ } وَلَوْ أُرِيدَ بِهِ إدَامَةُ الْقِيَامِ كَمَا قِيلَ : فِي قَوْلِهِ : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي } فَحُمِلَ ذَلِكَ عَلَى إطَالَتِهِ الْقِيَامَ لِلدُّعَاءِ دُونَ غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْقِيَامِ لَهُ قَانِتِينَ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ . وَقِيَامُ الدُّعَاءِ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ لَا يَجِبُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ وَلِأَنَّ الْقَائِمَ فِي حَالِ قِرَاءَتِهِ هُوَ قَانِتٌ لِلَّهِ أَيْضًا . وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ أُمِرُوا بِالسُّكُوتِ وَنُهُوا عَنْ الْكَلَامِ } . فَعُلِمَ أَنَّ السُّكُوتَ هُوَ مِنْ تَمَامِ الْقُنُوتِ الْمَأْمُورِ بِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْقِيَامِ ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ : { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } لَا يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ الْوُسْطَى . سَوَاءٌ كَانَتْ الْفَجْرَ أَوْ الْعَصْرَ ؛ بَلْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } فَيَكُونُ أَمْرًا بِالْقُنُوتِ مَعَ الْأَمْرِ بِالْمُحَافَظَةِ وَالْمُحَافَظَةُ تَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ فَالْقِيَامُ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا : بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِي عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا زَالَ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا } قَالُوا : وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { ثُمَّ تَرَكَهُ } أَرَادَ تَرْكَ الدُّعَاءِ عَلَى تِلْكَ

الْقَبَائِلِ لَمْ يَتْرُكْ نَفْسَ الْقُنُوتِ . وَهَذَا بِمُجَرَّدِهِ لَا يَثْبُتُ بِهِ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ وَتَصْحِيحُ الْحَاكِمِ دُونَ تَحْسِينِ التِّرْمِذِيِّ . وَكَثِيرًا مَا يُصَحِّحُ الْمَوْضُوعَاتِ فَإِنَّهُ مَعْرُوفٌ بِالتَّسَامُحِ فِي ذَلِكَ وَنَفْسُ هَذَا الْحَدِيثِ لَا يَخُصُّ الْقُنُوتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ فَقَالَ : { مَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الرُّكُوعِ إلَّا شَهْرًا } فَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ لَمْ يَقْنُتْ بَعْدَ الرُّكُوعِ إلَّا شَهْرًا فَبَطَلَ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ . وَالْقُنُوتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ قَدْ يُرَادُ بِهِ طُولُ الْقِيَامِ قَبْلَ الرُّكُوعِ سَوَاءٌ كَانَ هُنَاكَ دُعَاءٌ زَائِدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ . فَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ اللَّفْظُ دَالًّا عَلَى قُنُوتِ الدُّعَاءِ وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْقُنُوتُ الدَّائِمُ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ فِيهَا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الرَّاتِبِ وَالْعَارِضِ وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ لِسَبَبِ نَزَلَ بِهِ ثُمَّ تَرَكَهُ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ السَّبَبِ النَّازِلِ بِهِ فَيَكُونُ الْقُنُوتُ مَسْنُونًا عِنْدَ النَّوَازِلِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ فُقَهَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا حَارَبَ النَّصَارَى قَنَتَ عَلَيْهِمْ الْقُنُوتَ

الْمَشْهُورَ : اللَّهُمَّ عَذِّبْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ . إلَى آخِرِهِ . وَهُوَ الَّذِي جَعَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ سُنَّةً فِي قُنُوتِ رَمَضَانَ وَلَيْسَ هَذَا الْقُنُوتُ سُنَّةً رَاتِبَةً لَا فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ بَلْ عُمَرُ قَنَتَ لَمَّا نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ النَّازِلَةِ وَدَعَا فِي قُنُوتِهِ دُعَاءً يُنَاسِبُ تِلْكَ النَّازِلَةَ كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَنَتَ أَوَّلًا عَلَى قَبَائِلِ بَنِي سُلَيْمٍ الَّذِينَ قَتَلُوا الْقُرَّاءَ دَعَا عَلَيْهِمْ بِاَلَّذِي يُنَاسِبُ مَقْصُودَهُ ثُمَّ لَمَّا قَنَتَ يَدْعُو للمستضعفين مِنْ أَصْحَابِهِ دَعَا بِدُعَاءِ . يُنَاسِبُ مَقْصُودَهُ . فَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ تَدُلُّ عَلَى شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ دُعَاءَ الْقُنُوتِ مَشْرُوعٌ عِنْدَ السَّبَبِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ لَيْسَ بِسُنَّةِ دَائِمَةٍ فِي الصَّلَاةِ . الثَّانِي : أَنَّ الدُّعَاءَ فِيهِ لَيْسَ دُعَاءً رَاتِبًا بَلْ يَدْعُو فِي كُلِّ قُنُوتٍ بِاَلَّذِي يُنَاسِبُهُ كَمَا دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا وَثَانِيًا . وَكَمَا دَعَا عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا حَارَبَ مَنْ حَارَبَهُ فِي الْفِتْنَةِ فَقَنَتَ وَدَعَا بِدُعَاءِ يُنَاسِبُ مَقْصُودَهُ وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ دَائِمًا وَيَدْعُو بِدُعَاءِ رَاتِبٍ لَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَنْقُلُونَ هَذَا عَنْ نَبِيِّهِمْ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا وَهُمْ الَّذِينَ نَقَلُوا عَنْهُ فِي قُنُوتِهِ مَا لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِسُنَّةِ رَاتِبَةٍ كَدُعَائِهِ عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَهُ وَدُعَائِهِ للمستضعفين مِنْ

أَصْحَابِهِ وَنَقَلُوا قُنُوتَ عُمَرَ وَعَلِيٍّ عَلَى مَنْ كَانُوا يُحَارِبُونَهُمْ . فَكَيْفَ يَكُونُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ دَائِمًا فِي الْفَجْرِ أَوْ غَيْرِهَا وَيَدْعُو بِدُعَاءِ رَاتِبٍ وَلَمْ يُنْقَلْ هَذَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا فِي خَبَرٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ بَلْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِسُنَّتِهِ وَأَرْغَبُ النَّاسِ فِي اتِّبَاعِهَا كَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ أَنْكَرُوا حَتَّى قَالَ ابْنُ عُمَرَ : " مَا رَأَيْنَا وَلَا سَمِعْنَا " وَفِي رِوَايَةٍ " أَرَأَيْتُكُمْ قِيَامَكُمْ هَذَا : تَدْعُونَ . مَا رَأَيْنَا وَلَا سَمِعْنَا " أَفَيَقُولُ مُسْلِمٌ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْنُتُ دَائِمًا وَابْنُ عُمَرَ يَقُولُ : مَا رَأَيْنَا وَلَا سَمِعْنَا . وَكَذَلِكَ غَيْرُ ابْنِ عُمَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ عَدُّوا ذَلِكَ مِنْ الْأَحْدَاثِ الْمُبْتَدَعَةِ . وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلِمَ عِلْمًا يَقِينًا قَطْعِيًّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَقْنُتُ دَائِمًا فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ كَمَا يَعْلَمُ عِلْمًا يَقِينِيًّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُدَاوِمُ عَلَى الْقُنُوتِ فِي الظُّهْرِ وَالْعِشَاءِ وَالْمَغْرِبِ فَإِنَّ مَنْ جَعَلَ الْقُنُوتَ فِي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ سُنَّةً رَاتِبَةً يَحْتَجُّ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ حُجَّةِ الْجَاعِلِينَ لَهُ فِي الْفَجْرِ سُنَّةً رَاتِبَةً . وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَنَتَ فِي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ ؛ لَكِنْ الصَّحَابَةُ بَيَّنُوا الدُّعَاءَ الَّذِي كَانَ يَدْعُو بِهِ وَالسَّبَبَ الَّذِي قَنَتَ لَهُ وَأَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ عِنْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ نَقَلُوا ذَلِكَ فِي

قُنُوتِ الْفَجْرِ وَفِي قُنُوتِ الْعِشَاءِ أَيْضًا . وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ ذَلِكَ : أَنَّ الَّذِينَ جَعَلُوا مِنْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ أَنْ يَقْنُتَ دَائِمًا بِقُنُوتِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أَوْ بِسُورَتَيْ أبي لَيْسَ مَعَهُمْ إلَّا دُعَاءٌ عَارِضٌ وَالْقُنُوتُ فِيهَا إذَا كَانَ مَشْرُوعًا : كَانَ مَشْرُوعًا لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ ؛ بَلْ وَأَوْضَحُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ جَاعِلٌ قُنُوتَ الْحَسَنِ أَوْ سُورَتَيْ أبي سُنَّةً رَاتِبَةً فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لَكَانَ حَالُهُ شَبِيهًا بِحَالِ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ سُنَّةً رَاتِبَةً فِي الْفَجْرِ . إذْ هَؤُلَاءِ لَيْسَ مَعَهُمْ فِي الْفَجْرِ إلَّا قُنُوتٌ عَارِضٌ بِدُعَاءِ يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْعَارِضَ وَلَمْ يَنْقُلْ مُسْلِمٌ دُعَاءً فِي قُنُوتٍ غَيْرَ هَذَا كَمَا لَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ . وَإِنَّمَا وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي الْفَجْرِ ؛ لِأَنَّ الْقُنُوتَ فِيهَا كَانَ أَكْثَرَ وَهِيَ أَطْوَلُ . وَالْقُنُوتُ يَتْبَعُ الصَّلَاةَ وَبَلَغَهُمْ أَنَّهُ دَاوَمَ عَلَيْهِ فَظَنُّوا أَنَّ السُّنَّةَ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا مَعَهُمْ سُنَّةً بِدُعَائِهِ . فَسَنُّوا هَذِهِ الْأَدْعِيَةَ الْمَأْثُورَةَ فِي الْوِتْرِ . مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ سُنَّةً رَاتِبَةً فِي الْوِتْرِ . وَهَذَا النِّزَاعُ الَّذِي وَقَعَ فِي الْقُنُوتِ لَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ : فَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَبَبِ فَيَجْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ سُنَّةً وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ السُّنَّةِ الدَّائِمَةِ وَالْعَارِضَةِ . وَبَعْضُ النَّاسِ يَرَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ فِي أَغْلَبِ الْأَوْقَاتِ فَيَرَاهُ بِدْعَةً وَيَجْعَلُ فِعْلَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مَخْصُوصًا أَوْ مَنْسُوخًا إنْ كَانَ قَدْ بَلَغَهُ ذَلِكَ مِثْلُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فِي جَمَاعَةٍ . فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ صَلَّى بِاللَّيْلِ وَخَلْفَهُ ابْنُ

عَبَّاسٍ مَرَّةً وَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ مَرَّةً } . وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمَا . وَكَذَلِكَ { صَلَّى بعتبان بْنِ مَالِكٍ فِي بَيْتِهِ التَّطَوُّعَ جَمَاعَةً } { وَصَلَّى بِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأُمِّهِ وَالْيَتِيمِ فِي دَارِهِ } فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ هَذَا فِيمَا يَحْدُثُ مِنْ " صَلَاةِ الْأَلْفِيَّةِ " لَيْلَةَ نِصْفِ شَعْبَانَ وَالرَّغَائِبِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يُدَاوِمُونَ فِيهِ عَلَى الْجَمَاعَاتِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكْرَهُ التَّطَوُّعَ ؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ إنَّمَا سُنَّتْ فِي الْخَمْسِ كَمَا أَنَّ الْأَذَانَ إنَّمَا سُنَّ فِي الْخَمْسِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّوَابَ هُوَ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فَلَا يُكْرَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ فِي جَمَاعَةٍ . كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَا يَجْعَلُ ذَلِكَ سُنَّةً رَاتِبَةً كَمَنْ يُقِيمُ لِلْمَسْجِدِ إمَامًا رَاتِبًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ أَوْ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ كَمَا يُصَلِّي بِهِمْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ لِلْعِيدَيْنِ وَغَيْرَهُمَا أَذَانًا كَأَذَانِ الْخَمْسِ ؛ وَلِهَذَا أَنْكَرَ الصَّحَابَةُ عَلَى مَنْ فَعَلَ هَذَا مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ إذْ ذَاكَ . وَيُشْبِهُ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ تَنَازُعُ الْعُلَمَاءِ فِي مِقْدَارِ الْقِيَامِ فِي رَمَضَانَ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ أبي بْنَ كَعْبٍ كَانَ يَقُومُ بِالنَّاسِ عِشْرِينَ رَكْعَةً فِي قِيَامِ رَمَضَانَ وَيُوتِرُ بِثَلَاثِ . فَرَأَى كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ السُّنَّةُ ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُ بَيْن الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ . وَاسْتَحَبَّ آخَرُونَ : تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْقَدِيمِ .

وَقَالَ طَائِفَةٌ : قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً } وَاضْطَرَبَ قَوْمٌ فِي هَذَا الْأَصْلِ لَمَّا ظَنُّوهُ مِنْ مُعَارَضَةِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِمَا ثَبَتَ مِنْ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعَمَلِ الْمُسْلِمِينَ . وَالصَّوَابُ أَنَّ ذَلِكَ جَمِيعَهُ حَسَنٌ كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَّهُ لَا يتوقت فِي قِيَامِ رَمَضَانَ عَدَدٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوَقِّتْ فِيهَا عَدَدًا وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ تَكْثِيرُ الرَّكَعَاتِ وَتَقْلِيلُهَا بِحَسَبِ طُولِ الْقِيَامِ وَقِصَرِهِ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُطِيلُ الْقِيَامَ بِاللَّيْلِ حَتَّى إنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ { أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ بِالْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَآلِ عِمْرَانَ فَكَانَ طُولُ الْقِيَامِ يُغْنِي عَنْ تَكْثِيرِ الرَّكَعَاتِ } . وأبي بْنُ كَعْبٍ لَمَّا قَامَ بِهِمْ وَهُمْ جَمَاعَةٌ وَاحِدَةٌ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُطِيلَ بِهِمْ الْقِيَامَ فَكَثَّرَ الرَّكَعَاتِ لِيَكُونَ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْ طُولِ الْقِيَامِ وَجَعَلُوا ذَلِكَ ضِعْفَ عَدَدِ رَكَعَاتِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُومُ بِاللَّيْلِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ النَّاسُ بِالْمَدِينَةِ ضَعُفُوا عَنْ طُولِ الْقِيَامِ فَكَثَّرُوا الرَّكَعَاتِ حَتَّى بَلَغَتْ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ .

وَمِمَّا يُنَاسِبُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا فَرَضَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ بِمَكَّةَ : فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أُقِرَّتْ فِي السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : { لَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَجُعِلَتْ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ وَأَمَّا صَلَاةُ الْفَجْرِ فَأُقِرَّتْ رَكْعَتَيْنِ ؛ لِأَجْلِ تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ تَكْثِيرِ الرَّكَعَاتِ } .
وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : أَيُّمَا أَفْضَلُ : إطَالَةُ الْقِيَامِ ؟ أَمْ تَكْثِيرُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ؟ أَمْ هُمَا سَوَاءٌ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : وَهِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَد . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ { أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : طُولُ الْقُنُوتِ } . وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّك لَنْ تَسْجُدَ لِلَّهِ سَجْدَةً إلَّا رَفَعَك اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْك بِهَا خَطِيئَةً } . { وَقَالَ لِرَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ : أَعِنِّي عَلَى نَفْسِك بِكَثْرَةِ السُّجُودِ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ السُّجُودَ فِي نَفْسِهِ أَفْضَلُ مِنْ الْقِيَامِ وَلَكِنَّ ذِكْرَ الْقِيَامِ أَفْضَلُ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ تَكُونَ مُعْتَدِلَةً . فَإِذَا أَطَالَ الْقِيَامَ يُطِيلُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ كَمَا رَوَاهُ حُذَيْفَةُ وَغَيْرُهُ . وَهَكَذَا

كَانَتْ صَلَاتُهُ الْفَرِيضَةَ وَصَلَاةَ الْكُسُوفِ وَغَيْرَهُمَا : كَانَتْ صَلَاتُهُ مُعْتَدِلَةً فَإِنْ فَضَّلَ مُفَضِّلٌ إطَالَةَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعَ تَقْلِيلِ الرَّكَعَاتِ وَتَخْفِيفِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعَ تَكْثِيرِ الرَّكَعَاتِ : فَهَذَانِ مُتَقَارِبَانِ . وَقَدْ يَكُونُ هَذَا أَفْضَلَ فِي حَالٍ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا صَلَّى الضُّحَى يَوْمَ الْفَتْحِ صَلَّى ثَمَانِي رَكَعَاتٍ يُخَفِّفُهُنَّ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ . وَكَمَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ لَمَّا شَقَّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ إطَالَةُ الْقِيَامِ . وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْقُنُوتَ يَكُونُ عِنْدَ النَّوَازِلِ وَأَنَّ الدُّعَاءَ فِي الْقُنُوتِ لَيْسَ شَيْئًا مُعَيَّنًا وَلَا يَدْعُو بِمَا خَطَرَ لَهُ بَلْ يَدْعُو مِنْ الدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ بِمَا يُنَاسِبُ سَبَبَ الْقُنُوتِ كَمَا أَنَّهُ إذَا دَعَا فِي الِاسْتِسْقَاءِ دَعَا بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقْصُودَ فَكَذَلِكَ إذَا دَعَا فِي الِاسْتِنْصَارِ دَعَا بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقْصُودَ كَمَا لَوْ دَعَا خَارِجَ الصَّلَاةِ لِذَلِكَ السَّبَبِ ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقْصُودَ فَهَذَا هُوَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ مِنْ أَبْعَاضِ الصَّلَاةِ الَّتِي يُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ فَإِنَّهُ بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ يُسَنُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَنَحْوِهِ . وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ بِسُنَّةِ رَاتِبَةٍ وَلَا يَسْجُدُ لَهُ لَكِنْ مَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلًا فِي ذَلِكَ لَهُ تَأْوِيلُهُ كَسَائِرِ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ . وَلِهَذَا يَنْبَغِي لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَتْبَعَ إمَامَهُ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131