الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

امْسَحْ الْبَعْضَ وَكَرِّرْهُ بَلْ يَقُولُونَ : امْسَحْ الْجَمِيعَ وَكَرِّرْ الْمَسْحَ . وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْلَى مِنْ مَسْحِ بَعْضِهِ ثَلَاثًا بَلْ إذَا قِيلَ : إنَّ مَسْحَ الْبَعْضِ يُجْزِئُ وَأَخَذَ رَجُلٌ بِالرُّخْصَةِ كَيْفَ يُكَرِّرُ الْمَسْحَ . ثُمَّ الْمُسْلِمُونَ مُتَنَازِعُونَ فِي جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْبَعْضِ وَفِي اسْتِحْبَابِ تَكْرَارِ الْمَسْحِ : فَكَيْفَ يُعْدَلُ إلَى فِعْلٍ لَا يُجْزِئُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ وَلَا يُسْتَحَبُّ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ وَيُتْرَكُ فِعْلٌ يُجْزِئُ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ وَهُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
هَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى عُنُقِهِ فِي الْوُضُوءِ أَوْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؟.
فَأَجَابَ : لَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى عُنُقِهِ فِي الْوُضُوءِ بَلْ وَلَا رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ بَلْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي فِيهَا صِفَةُ وَضَوْءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَمْسَحُ عَلَى عُنُقِهِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَحِبَّ ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِمْ وَمَنْ اسْتَحَبَّهُ فَاعْتَمَدَ فِيهِ عَلَى أَثَرٍ يُرْوَى عَنْ

أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ حَدِيثٍ يَضْعُفُ نَقْلُهُ : { أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ حَتَّى بَلَغَ الْقَذَالَ } وَمِثْلَ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ عُمْدَةً وَلَا يُعَارِضُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ وَمَنْ تَرَكَ مَسْحَ الْعُنُقِ فَوُضُوءُهُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
غَسْلُ الْقَدَمَيْنِ فِي الْوُضُوءِ مَنْقُولٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا مَنْقُولٌ عَمَلُهُ بِذَلِكَ وَأَمْرُهُ بِهِ كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ ؛ كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ : { وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ } وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ : { وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ وَبُطُونِ الْأَقْدَامِ مِنْ النَّارِ } . فَمَنْ تَوَضَّأَ كَمَا تَتَوَضَّأُ الْمُبْتَدِعَةُ - فَلَمْ يَغْسِلْ بَاطِنَ قَدَمَيْهِ وَلَا عَقِبَهُ بَلْ مَسَحَ ظَهْرَهُمَا - فَالْوَيْلُ لِعَقِبِهِ وَبَاطِنِ قَدَمَيْهِ مِنْ النَّارِ . وَتَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَنُقِلَ عَنْهُ الْمَسْحُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي قَدَمَيْهِ نَعْلَانِ يَشُقُّ نَزْعُهُمَا . وَأَمَّا مَسْحُ الْقَدَمَيْنِ مَعَ ظُهُورِهِمَا جَمِيعًا فَلَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . أَمَّا مُخَالَفَتُهُ لِلسُّنَّةِ فَظَاهِرٌ

مُتَوَاتِرٌ . وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ لِلْقُرْآنِ فَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } فِيهِ قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ : النَّصْبُ وَالْخَفْضُ . فَمَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالْمَعْنَى : فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ . وَمَنْ قَرَأَ بِالْخَفْضِ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ وَامْسَحُوا أَرْجُلَكُمْ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ ؛ لِأَوْجُهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ قَالُوا : عَادَ الْأَمْرُ إلَى الْغَسْلِ . الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَطْفًا عَلَى الرُّءُوسِ لَكَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مَسْحَ الْأَرْجُلِ لَا الْمَسْحَ بِهَا وَاَللَّهُ إنَّمَا أَمَرَ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ بِالْمَسْحِ بِالْعُضْوِ لَا مَسْحِ الْعُضْوِ ؛ فَقَالَ تَعَالَى : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } وَقَالَ : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } وَلَمْ يَقْرَأْ الْقُرَّاءُ الْمَعْرُوفُونَ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ وَأَيْدِيَكُمْ بِالنَّصْبِ كَمَا قَرَءُوا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ فَلَوْ كَانَ عَطْفًا لَكَانَ الْمَوْضِعَانِ سَوَاءً ؛ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } وَقَوْلَهُ : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } يَقْتَضِي إلْصَاقَ الْمَمْسُوحِ ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ وَهَذَا يَقْتَضِي إيصَالَ الْمَاءِ وَالصَّعِيدِ إلَى أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ . وَإِذَا قِيلَ : امْسَحْ رَأْسَك وَرِجْلَك : لَمْ يَقْتَضِ إيصَالَ الْمَاءِ إلَى الْعُضْوِ . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْبَاءَ حَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى لَا زَائِدَةٌ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ :

مُعَاوِيَ إنَّنَا بَشَرٌ فَاسْجَحْ * * * فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا
فَإِنَّ الْبَاءَ هُنَا مُؤَكِّدَةٌ فَلَوْ حُذِفَتْ لَمْ يَخْتَلَّ الْمَعْنَى وَالْبَاءُ فِي آيَةِ الطَّهَارَةِ إذَا حُذِفَتْ اخْتَلَّ الْمَعْنَى فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَلَى مَحَلِّ الْمَجْرُورِ بِهَا بَلْ عَلَى لَفْظِ الْمَجْرُورِ بِهَا أَوْ مَا قَبْلَهُ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَطْفًا عَلَى الْمَحَلِّ لَقُرِئَ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَامْسَحُوا أَيْدِيَكُمْ : فَكَانَ فِي الْآيَةِ مَا يُبَيِّنُ فَسَادَ مَذْهَبِ الشَّارِحِ بِأَنَّهُ قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ مِنْهُ بِالنَّصْبِ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَيْنِ سَوَاءٌ فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى الْجَرِّ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ مَعَ إمْكَانِ الْعَطْفِ عَلَى الْمَحَلِّ لَوْ كَانَ صَوَابًا : عُلِمَ أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى اللَّفْظِ وَلَمْ يَكُنْ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ مَنْصُوبٌ مَعْطُوفٌ عَلَى اللَّفْظِ كَمَا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ . الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَالَ : { وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } وَلَمْ يَقُلْ : إلَى الْكِعَابِ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الْمَحَلِّ كَالْقَوْلِ الْآخَرِ ؛ وَأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ فِي كُلِّ رِجْلَيْنِ كَعْبَيْنِ ؛ وَفِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبٌ وَاحِدٌ : لَقِيلَ : إلَى الْكَعْبِ كَمَا قِيلَ : { إلَى الْمَرَافِقِ } لَمَّا كَانَ فِي كُلِّ يَدٍ مِرْفَقٌ وَحِينَئِذٍ فَالْكَعْبَانِ هُمَا الْعَظَمَات النَّاتِئَانِ فِي جَانِبَيْ السَّاقِ ؛ لَيْسَ هُوَ مَعْقِدَ الشِّرَاكِ مَجْمَعَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَرَى الْمَسْحَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إنَّمَا أَمَرَ بِطَهَارَةِ الرِّجْلَيْنِ إلَى الْكَعْبَيْنِ النَّاتِئَيْنِ ؛

وَالْمَاسِحُ يَمْسَحُ إلَى مَجْمَعِ الْقَدَمِ وَالسَّاقِ : عُلِمَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالْآيَتَيْنِ وَالتَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ : إمَّا وَاجِبٌ ؛ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ مُؤَكَّدُ الِاسْتِحْبَابِ فَإِذَا فَصَلَ مَمْسُوحٌ بَيْنَ مَغْسُولَيْنِ وَقُطِعَ النَّظِيرُ عَنْ النَّظِيرِ : دَلَّ ذَلِكَ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَشْرُوعِ فِي الْوُضُوءِ . الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ وَهِيَ قَدْ جَاءَتْ بِالْغَسْلِ . الْوَجْهُ السَّابِعُ : أَنَّ التَّيَمُّمَ جُعِلَ بَدَلًا عَنْ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ؛ فَحُذِفَ شَطْرُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَخُفِّفَ الشَّطْرُ الثَّانِي ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حُذِفَ مَا كَانَ مَمْسُوحًا وَمُسِحَ مَا كَانَ مَغْسُولًا . وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى - وَهِيَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ وَأَرْجُلِكُمْ بِالْخَفْضِ - فَهِيَ لَا تُخَالِفُ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ ؛ إذْ الْقِرَاءَتَانِ كَالْآيَتَيْنِ وَالسُّنَّةُ الثَّابِتَةُ لَا تُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ بَلْ تُوَافِقُهُ وَتُصَدِّقُهُ ؛ وَلَكِنْ تُفَسِّرُهُ وَتُبَيِّنُهُ لِمَنْ قَصُرَ فَهْمُهُ عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ فِيهِ دَلَالَاتٌ خَفِيَّةٌ تَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ وَفِيهِ مَوَاضِعُ ذُكِرَتْ مُجْمَلَةً تُفَسِّرُهَا السُّنَّةُ وَتُبَيِّنُهَا .

وَالْمَسْحُ اسْمُ جِنْسٍ يَدُلُّ عَلَى إلْصَاقِ الْمَمْسُوحِ بِهِ بِالْمَمْسُوحِ وَلَا يَدُلُّ لَفْظُهُ عَلَى جَرَيَانِهِ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ . قَالَ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَغَيْرُهُ : الْعَرَبُ تَقُولُ : تَمَسَّحْت لِلصَّلَاةِ . فَتُسَمِّي الْوُضُوءَ كُلَّهُ مَسْحًا وَلَكِنْ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ إذَا كَانَ الِاسْمُ عَامًّا تَحْتَهُ نَوْعَانِ : خَصُّوا أَحَدَ نَوْعَيْهِ بِاسْمِ خَاصٍّ . وَأَبْقَوْا الِاسْمَ الْعَامَّ لِلنَّوْعِ الْآخَرِ كَمَا فِي لَفْظِ الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ عَامٌ لِلْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ الدَّوَابِّ لَكِنْ لِلْإِنْسَانِ اسْم يَخُصُّهُ فَصَارُوا يُطْلِقُونَهُ عَلَى غَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْحَيَوَانِ ؛ وَلَفْظُ ذَوِي الْأَرْحَامِ يَتَنَاوَلُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ ؛ لَكِنْ لِلْوَارِثِ بِفَرْضِ أَوْ تَعْصِيبٍ اسْمٌ يَخُصُّهُ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْمُؤْمِنِ يَتَنَاوَلُ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ؛ وَمَنْ آمَنَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ : فَصَارَ لِهَذَا النَّوْعِ اسْمٌ يَخُصُّهُ وَهُوَ الْكَافِرُ وَأُبْقِيَ اسْمُ الْإِيمَانِ مُخْتَصًّا بِالْأَوَّلِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْبِشَارَةِ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ . ثُمَّ إنَّهُ مَعَ الْقَرِينَةِ تَارَةً وَمَعَ الْإِطْلَاقِ أُخْرَى يُسْتَعْمَلُ اللَّفْظُ الْعَامُّ فِي مَعْنَيَيْنِ : كَمَا إذَا أَوْصَى لِذَوِي رَحِمِهِ ؛ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ أَقَارِبَهُ مِنْ مِثْلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ . فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ الْوُضُوءِ : وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ يَقْتَضِي إيجَابَ مُسَمَّى الْمَسْحِ بَيْنَهُمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَسْحِ الْخَاصِّ الْخَالِي عَنْ الْإِسَالَةِ ؛ وَالْمَسْحِ الَّذِي مَعَهُ إسَالَةٌ : يُسَمَّى مَسْحًا ؛ فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ الْآيَةِ مَا يَمْنَعُ كَوْنَ الرِّجْلِ

يَكُونُ الْمَسْحُ بِهَا هُوَ الْمَسْحَ الَّذِي مَعَهُ إسَالَةٌ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { إلَى الْكَعْبَيْنِ } فَأَمَرَ بِمَسْحِهِمَا إلَى الْكَعْبَيْنِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَسْحَ الْخَاصَّ هُوَ إسَالَةُ الْمَاءِ مَعَ الْغَسْلِ فَهُمَا نَوْعَانِ : لِلْمَسْحِ الْعَامِّ الَّذِي هُوَ إيصَالُ الْمَاءِ وَمِنْ لُغَتِهِمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنْ يُكْتَفَى بِأَحَدِ اللَّفْظَيْنِ كَقَوْلِهِمْ :
عَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا
وَالْمَاءُ سُقِي لَا عُلِف وَقَوْلِهِ :
وَرَأَيْت زَوْجَك فِي الْوَغَى * * * مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا
وَالرُّمْحُ لَا يُتَقَلَّدُ . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ } { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ } إلَى قَوْلِهِ : وَحُورٍ عِينٍ فَكَذَلِكَ اكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الْغَسْلَ وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { إلَى الْكَعْبَيْنِ } وَالْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى مَعَ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ . وَمَنْ يَقُولُ : يُمْسَحَانِ بِلَا إسَالَةٍ : يَمْسَحُهُمَا إلَى الْكِعَابِ لَا إلَى الْكَعْبَيْنِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقِرَاءَتَيْنِ كَمَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَلَيْسَ مَعَهُ لَا ظَاهِرٌ وَلَا بَاطِنٌ وَلَا سُنَّةٌ مَعْرُوفَةٌ وَإِنَّمَا هُوَ غَلَطٌ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ وَجَهْلٌ بِمَعْنَاهُ وَبِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ . وَذِكْرُ الْمَسْحِ بِالرِّجْلِ مِمَّا يُشْعِرُ بِأَنَّ الرِّجْلَ يُمْسَحُ بِهَا بِخِلَافِ الْوَجْهِ وَالْيَدِ فَإِنَّهُ لَا يُمْسَحُ بِهِمَا بِحَالِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ اللَّذَيْنِ عَلَى الرِّجْلَيْنِ

مَا لَمْ يَجِئْ مِثْلُهُ فِي الْوَجْهِ وَالْيَدِ وَلَكِنْ دَلَّتْ السُّنَّةُ مَعَ دِلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْمَسْحِ بِالرِّجْلَيْنِ . وَمَنْ مَسَحَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَلِلْقُرْآنِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَعْمَلَ بِذَلِكَ مَعَ إمْكَانِ الْغَسْلِ وَالرِّجْلُ إذَا كَانَتْ ظَاهِرَةً وَجَبَ غَسْلُهَا وَإِذَا كَانَتْ فِي الْخُفِّ كَانَ حُكْمُهَا كَمَا بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ . كَمَا فِي آيَةِ الْفَرَائِضِ فَإِنَّ السُّنَّةَ بَيَّنَتْ حَالَ الْوَارِثِ إذَا كَانَ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ قَاتِلًا . وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
الْمُوَالَاةُ فِي الْوُضُوءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : الْوُجُوبُ مُطْلَقًا كَمَا يَذْكُرُهُ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَد ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ [ مَالِك ] (1) .
وَالثَّانِي : عَدَمُ الْوُجُوبِ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد وَالْقَوْلُ الْجَدِيدُ لِلشَّافِعِيِّ .
وَالثَّالِثُ : الْوُجُوبُ إلَّا إذَا تَرَكَهَا لِعُذْرِ مِثْلُ عَدَمِ تَمَامِ الْمَاءِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ [ أَحْمَد ] (2) .
قُلْت : هَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ هُوَ الْأَظْهَرُ وَالْأَشْبَهُ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ

وَبِأُصُولِ مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَدِلَّةَ الْوُجُوبِ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا الْمُفَرِّطَ لَا تَتَنَاوَلُ الْعَاجِزَ عَنْ الْمُوَالَاةِ فَالْحَدِيثُ الَّذِي هُوَ عُمْدَةُ الْمَسْأَلَةِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ خَالِدِ بْنِ معدان عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي وَفِي ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَةٌ قَدْرَ الدِّرْهَمِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ } . فَهَذِهِ قَضِيَّةُ عَيْنٍ وَالْمَأْمُورُ بِالْإِعَادَةِ مُفَرِّطٌ لِأَنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى غَسْلِ تِلْكَ اللَّمْعَةِ كَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى غَسْلِ غَيْرِهَا وَإِنَّمَا بِإِهْمَالِهَا وَعَدَمِ تَعَاهُدِهِ لِجَمِيعِ الْوُضُوءِ بَقِيَتْ اللُّمْعَةُ نَظِيرَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ فَنَادَاهُمْ بِأَعْلَى صَوْتِهِ : { وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ } . وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُمَرَ : { أَنَّ رَجُلًا تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفْرٍ عَلَى قَدَمِهِ فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَك فَرَجَعَ ثُمَّ صَلَّى } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ . فَالْقَدَمُ كَثِيرًا مَا يُفَرِّطُ الْمُتَوَضِّئُ بِتَرْكِ اسْتِيعَابِهَا حَتَّى قَدْ اعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ أَنَّهَا لَا تُغْسَلُ بَلْ فَرْضُهَا مَسْحُ ظَهْرِهَا عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الشِّيعَةِ وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَسْلِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ لَمْ يُوجِبُوا الْمُوَالَاةَ عُمْدَتُهُمْ فِي الْأَمْرِ حَدِيثٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : { أَنَّهُ تَوَضَّأَ [ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمَسَحَ رَأْسَهُ ثُمَّ دُعِيَ لِجَنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا ] (1) .

مُوَالَاةً لِفَقْدِ تَمَامِ الْمَاءِ } وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . وَاَلَّذِي لَمْ يُمْكِنْهُ الْمُوَالَاةُ - لِقِلَّةِ الْمَاءِ أَوْ انْصِبَابِهِ أَوْ اغْتِصَابِهِ مِنْهُ بَعْدَ تَحْصِيلِهِ أَوْ لِكَوْنِ الْمَنْبَعِ أَوْ الْمَكَانِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ هُوَ وَغَيْرُهُ - كَالْأُنْبُوبِ أَوْ الْبِئْرِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ الْمَاءُ إلَّا مُتَفَرِّقًا تَفَرُّقًا كَثِيرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ - : لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ إلَّا هَكَذَا بِأَنْ يَغْسِلَ مَا أَمْكَنَهُ بِالْمَاءِ الْحَاضِرِ . وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ غَسَلَ الْبَاقِيَ بِمَاءِ حَصَّلَهُ فَقَدْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ وَفَعَلَ مَا اسْتَطَاعَ مِمَّا أُمِرَ بِهِ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ عَجَزَ عَنْ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ لِعَدَمِ الْمَاءِ لَسَقَطَ عَنْهُ وَلَكَانَ فَرْضُهُ التَّيَمُّمَ وَلَوْ قَدَرَ عَلَى غَسْلِ بَعْضِهَا فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : قِيلَ : يَتَيَمَّمُ فَقَطْ لِئَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَ بَدَلٍ وَمُبْدَلٍ . وَقِيلَ : يَسْتَعْمِلُ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَيَتَيَمَّمُ لِلْبَاقِي . وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَقِيلَ : بَلْ يَسْتَعْمِلُ ذَلِكَ فِي الْغُسْلِ دُونَ الْوُضُوءِ كَمَا يُذْكَرُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ . وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ الْمُوَالَاةِ فِي الْوُضُوءِ دُونَ الْغُسْلِ .

قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ : فَيَنْتَفِعُ بِاسْتِعْمَالِ الْبَعْضِ فِي الْغُسْلِ دُونَ التَّيَمُّمِ . وَضَعَّفُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا عِنْدَهُمْ طَهَارَةٌ نَافِعَةٌ عِنْدَ الْعَجْزِ فِي الْوُضُوءِ كَمَا هِيَ نَافِعَةٌ فِي الْغُسْلِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ إعَادَةُ مَا غَسَلَهُ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا صَلَّاهُ بِالتَّيَمُّمِ وَكَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا غَسَلَ فِي الْغُسْلِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَصْحَابِ أَحْمَد مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ كَمَا أُمِرَ وَمَنْ كَانَ مُمْتَثِلًا الْأَمْرَ أَجْزَأَ مِنْهُ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ . يُوضِحُ هَذَا أَنَّهُ فِي حَالِ الْعَجْزِ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِغَسْلِ الْعُضْوِ الثَّانِي وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِتَحْصِيلِ الطَّهُورِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ غَسْلِهِ أَوْ بِتَأَخُّرِهِ إلَى الْقُدْرَةِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى غَسْلِ الْعُضْوِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمُسْتَطَاعُ مِنْ الْمَأْمُورِ فَعَلَيْهِ فِعْلُهُ كَمَا لَوْ قَدَرَ عَلَى غَسْلِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ أَوْ بَعْضِ الْعُضْوِ الْوَاحِدِ دُونَ بَعْضٍ فَإِنَّ عَلَيْهِ غَسْلَهُ كَالْمَقْطُوعِ يَدُهُ مِنْ بَعْضِ الذِّرَاعِ . وَطَرْدُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ لَوْ كَانَ بِبَعْضِ أَعْضَائِهِ مَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ مِنْ جُرْحٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَغَسَلَ الصَّحِيحَ ثُمَّ قُدِّرَ أَنَّ الْأَلَمَ زَالَ وَقَدْ نَشِفَ ذَلِكَ الْعُضْوُ : فَإِنَّهُ إذَا غَسَلَ الْبَاقِيَ فَقَدْ فَعَلَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ .

وَأَيْضًا فَالتَّرْتِيبُ وَاجِبٌ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ثُمَّ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَطَعَ لِعُذْرِ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ - كَالْحَيْضِ - فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ الْوَاجِبَ . وَمَذْهَبُ أَحْمَد فِي هَذَا أَوْسَعُ مِنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ : فَعِنْدَهُ إذَا قَطَعَ التَّتَابُعَ لِعُذْرِ شَرْعِيٍّ لَا يُمْكِنُ مَعَ إمْكَانِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ - مِثْلُ أَنْ يَتَخَلَّلَ الشَّهْرَيْنِ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ يَوْمِ الْفِطْرِ أَوْ يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ أَيَّامِ مِنًى أَوْ مَرَضٌ أَوْ نِفَاسٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ - فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ التَّتَابُعَ الْوَاجِبَ وَلَوْ أَفْطَرَ لِعُذْرِ مُبِيحٍ كَالسَّفَرِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ . فَالْوُضُوءُ أَوْلَى إذَا تَرَكَ التَّتَابُعَ فِيهِ لِعُذْرِ شَرْعِيٍّ وَإِنْ أَمْكَنَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ . وَأَيْضًا فَالْمُوَالَاةُ وَاجِبَةٌ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ قَالُوا : إنَّهُ لَوْ قَرَأَ بَعْضَهَا وَسَكَتَ سُكُوتًا طَوِيلًا لِغَيْرِ عُذْرٍ : كَانَ عَلَيْهِ إعَادَةُ قِرَاءَتِهَا . وَلَوْ كَانَ السُّكُوتُ لِأَجْلِ اسْتِمَاعِ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ أَوْ لَوْ فَصَلَ بِذِكْرِ مَشْرُوعٍ - كَالتَّأْمِينِ وَنَحْوِهِ - لَمْ تَبْطُلْ الْمُوَالَاةُ بَلْ يُتِمُّ قِرَاءَتَهَا وَلَا يَبْتَدِئُهَا وَمَسْأَلَةُ الْوُضُوءِ كَذَلِكَ سَوَاءٌ فَإِنَّهُ فَرَّقَ الْوُضُوءَ لِعُذْرِ شَرْعِيٍّ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُوَالَاةَ فِي الْكَلَامِ أَوْكَدُ مِنْ الْمُوَالَاةِ فِي الْأَفْعَالِ . وَأَيْضًا فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد فِي الْعُقُودِ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْمُوَالَاةَ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَاجِبَةٌ بِحَيْثُ لَوْ تَأَخَّرَ الْقَبُولُ عَنْ الْإِيجَابِ - حَتَّى

خَرَجَا مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ إلَى غَيْرِهِ أَوْ تَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا - فَلَا بُدَّ مِنْ إيجَابٍ ثَانٍ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى أَنَّهُ إذَا أُوجِبَ النِّكَاحُ لِغَائِبِ وَذَهَبَ إلَيْهِ الرَّسُولُ فَقَبِلَ فِي مَجْلِسِ الْبَلَاغِ : أَنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ فَظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ مِنْهُ ثَانٍ : بِأَنَّهُ يَصِحُّ تَرَاخِي الْقَبُولِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمَا وَطُولِ الْفَصْلِ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي مِثْلِ الْهِدَايَةِ وَالْمُقْنِعِ وَالْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهَا : أَنَّهُ يَصِحُّ فِي النِّكَاحِ وَلَوْ بَعْدَ الْمَجْلِسِ . وَذَلِكَ خَطَأٌ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْجَدُّ - فِيمَا أَظُنُّ - فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ ظَاهِرٌ وَيَذْهَبُ إلَى الْفَرْقِ : غَيْرُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ كَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِ . وَهَذَا التَّفْرِيقُ مِنْ أَحْسَنِ الْأَقْوَالِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي الْوُضُوءِ كَذَلِكَ لَكِنِّي لَمْ أَتَأَمَّلْ بَعْدُ نَصَّهُ فِي الْوُضُوءِ . فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يُحْكَى عَنْهُ رِوَايَتَانِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَيَكُونُ مَنْصُوصُهُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ وَيَكُونُ هُوَ الصَّوَابَ كَمَسْأَلَةِ إخْرَاجِ الْقِيَمِ وَمَسْأَلَةِ قَتْلِ الْمُوصِي . وَأَيْضًا فَالْمُوَالَاةُ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ أَوْكَدُ مِنْهُ فِي الْوُضُوءِ وَمَعَ هَذَا فَتَفْرِيقُ الطَّوَافِ لِمَكْتُوبَةٍ تُقَامُ أَوْ جِنَازَةٍ تُحْضَرُ ثُمَّ يَبْنِي عَلَى الطَّوَافِ وَلَا يَسْتَأْنِفُ : فَالْوُضُوءُ أَوْلَى بِذَلِكَ . وَعَلَى هَذَا فَلَوْ تَوَضَّأَ بَعْدَ

الْوُضُوءِ ثُمَّ عَرَضَ أَمْرٌ وَاجِبٌ يَمْنَعُهُ عَنْ الْإِتْمَامِ - كَإِنْقَاذِ غَرِيقٍ أَوْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفِ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلَهُ - ثُمَّ أَتَمَّ وُضُوءَهُ كَالطَّوَافِ وَأَوْلَى وَكَذَلِكَ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ عَرَضَ لَهُ مَرَضٌ مَنَعَهُ مِنْ إتْمَامِ الْوُضُوءِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ تُفَرِّقُ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِهَا بَيْنَ الْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ ؛ وَالْمُفَرِّطِ ؛ وَالْمُعْتَدِي ؛ وَمَنْ لَيْسَ بِمُفَرِّطٍ وَلَا مُعْتَدٍ . وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مُعْتَمِدٌ وَهُوَ الْوَسَطُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ وَبِهِ يَظْهَرُ الْعَدْلُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ .
وَقَدْ تَأَمَّلْت مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَبَايَنُ فِيهَا النِّزَاعُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا حَتَّى تَصِيرَ مُشَابِهَةً لِمَسَائِلِ الْأَهْوَاءِ ؛ وَمَا يَتَعَصَّبُ لَهُ الطَّوَائِفُ مِنْ الْأَقْوَالِ ؛ كَمَسَائِلِ الطَّرَائِقِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَبَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ وَغَيْرِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ : فَوَجَدْت كَثِيرًا مِنْهَا يَعُودُ الصَّوَابُ فِيهِ إلَى الْوَسَطِ ؛ كَمَسْأَلَةِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ وَمَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ ؛ وَإِخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ ؛ وَالصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ؛ وَالْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ ؛ وَمَسْأَلَةِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ وَتَبْيِيتِهَا ؛ وَبَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ وَاجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ وَمَسَائِلِ الشَّرِكَةِ : كَشَرِكَةِ الْأَبْدَانِ وَالْوُجُوهِ وَالْمُفَاوَضَةِ وَمَسْأَلَةِ صِفَةِ الْقَاضِي . وَكَذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي تُسَمَّى

مَسَائِلَ الْأُصُولِ : أَوْ أُصُولَ الدِّينِ ؛ أَوْ أُصُولَ الْكَلَامِ ؛ يَقَعُ فِيهَا اتِّبَاعُ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ . وَقَدْ قَرَّرْنَا أَيْضًا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ؛ وَبَيْنَ الْمُنَافِقِ الزِّنْدِيقِ الْمُؤْمِنِ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عُفِيَ لَهُمْ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ ثُمَّ غَالِبُ الْخِلَافِ الْمُتَبَايِنِ فِيهَا يَعُودُ الْحَقُّ فِيهِ إلَى الْقَوْلِ الْوَسَطِ فِي مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ ؛ وَمَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالْعَدْلِ ؛ وَمَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ ؛ وَمَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ . وَمَسَائِلِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ؛ وَمَسَائِلِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْخُرُوجِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَمَذَاهِبِهِمْ أَوْ مُوَافَقَتِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ ؛ فَأَمْرُهُمْ وَنَهْيُهُمْ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْ الْخُرُوجِ وَالْفِتَنِ . وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ . وَأَيْضًا فَعُمْدَةُ الْقِيَاسِ فِي مَسْأَلَةِ التَّرْتِيبِ وَالْمُوَالَاةِ إنَّمَا هُوَ قِيَاسُ ذَلِكَ عَلَى الصَّلَاةِ ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ يَجِبُ فِيهَا التَّرْتِيبُ ؛ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ السُّجُودِ عَلَى الرُّكُوعِ . وَتَجِبُ فِيهَا الْمُوَالَاةُ ؛ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ أَبْعَاضِهَا بِمَا يُنَافِيهَا ؛ وَالصَّلَاةُ مَعَ هَذَا عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ مُتَّصِلَةُ الْأَجْزَاءِ ؛ لَيْسَ بَيْنَ أَجْزَائِهَا فَصْلٌ أَصْلًا حَتَّى يُمْكِنَ فِي ذَلِكَ الْمُتَابَعَةُ أَوْ التَّفْرِيقُ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ إذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لِعُذْرِ كَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ لِضَرُورَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : { أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى بَعْدَ صَلَاةِ رَكْعَةٍ تَذْهَبُ وِجَاهَ الْعَدُوِّ ؛ فَإِذَا صَلَّتْ الثَّانِيَةَ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ ذَهَبَتْ أَيْضًا إلَى وِجَاهِ الْعَدُوِّ ثُمَّ رَجَعَتْ

الْأُولَى إلَى مَوْقِفِهَا فَأَتَمَّتْ الصَّلَاةَ ثُمَّ الثَّانِيَةَ } وَالصِّفَةُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَهِيَ جَائِزَةٌ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَهِيَ الصَّلَاةُ الْمُخْتَارَةُ فِي الْخَوْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ إذْ لَيْسَ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِصَلَاةِ الْأَمْنِ إلَّا فِي اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ وَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ ؛ وَهَذَانِ يَجُوزَانِ لِلْعُذْرِ كَمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ - كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ ؛ وَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ - يَقُولُ : إنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى إذَا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِكَلَامِ عَمْدٍ وَنَحْوِهِ وَهَذَا مَأْثُورٌ عَنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَفِيهِ حَدِيثَانِ مُرْسَلَانِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرْسَلُ إذَا عَمِلَ بِهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ يَحْتَجُّ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ . وَأَيْضًا فَإِذَا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ سَاهِيًا - كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ ؛ وَفَصَلَ بَيْنَ أَبْعَاضِ الصَّلَاةِ بِالْقِيَامِ إلَى الْخَشَبَةِ وَالِاتِّكَاءِ عَلَيْهَا ؛ وَتَشْبِيكِ أَصَابِعِهِ ؛ وَوَضْعِ خَدِّهِ عَلَيْهَا ؛ وَالْكَلَامِ مِنْهُ وَمِنْ الْمُنَبِّهِ لَهُ السَّائِلِ لَهُ الْمُخْبِرِ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ ؛ وَالْمُجِيبِينَ لَهُ الْمُوَافِقِينَ لِلْمُنَبِّهِ - ثُمَّ أَتَمَّ الصَّلَاةَ : لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّفْرِيقُ وَالْفَصْلُ مَانِعًا مِنْ الْإِتْمَامِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا لَأَبْطَلَ الصَّلَاةَ بِلَا نِزَاعٍ فَإِذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ إلَّا مُتَّصِلَةً لَا يَسْتَوِي تَفْرِيقُهَا فِي حَالِ الْعُذْرِ وَعَدَمِهِ : فَكَيْفَ يَسْتَوِي تَفْرِيقُ الْوُضُوءِ فِي حَالِ الْعُذْرِ وَعَدَمِهِ ؟ مَعَ أَنَّ الْوُضُوءَ

أَفْعَالٌ مُنْفَصِلَةٌ لَا يَجِبُ اتِّصَالُهَا بِالِاتِّفَاقِ وَلَيْسَ لِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ : إذَا عَمِلَ عَمَلًا كَثِيرًا لِعُذْرِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ ؛ وَالسَّاهِي إذَا سَلَّمَ فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَ حِينَئِذٍ الْحَدِيثَ أَوْ الْكَلَامَ الْمُبْطِلَ ؛ أَوْ الْعَمَلَ الْكَثِيرَ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَوْ اسْتِدْبَارَ الْقِبْلَةِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَوْ كَشَفَ الْعَوْرَةَ : بَطَلَتْ صَلَاتُهُ . وَلَوْ كَانَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِذَلِكَ فَلَا يَكُونُ هَذَا تَرْكًا لِلْمُوَالَاةِ الْوَاجِبَةِ لِأَنَّهُ يُقَالُ : بَلْ هَذَا مِنْ أَوْكَدِ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ وَالْفَصْلَ الطَّوِيلَ الْمَعْفُوَّ لَهُ عَنْهُ - مِثْلُ الذَّهَابِ إلَى الْعَدُوِّ ثُمَّ الرُّجُوعُ إلَى مَوْقِفِهِ وَمِثْلَ قِيَامِ الْمُسَلِّمِ سَهْوًا إلَى نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ وَاتِّكَائِهِ عَلَيْهِ - لَيْسَ هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ وَلَا الْمُسْتَحَبَّةِ وَلَا دَاخِلًا فِي ذَلِكَ كَمَا يَدْخُلُ مَا يَدْخُلُ فِي تَطْوِيلِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقُعُودِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَإِذَا أَطَالَهَا أَوْ أَدْخَلَ فِيهَا مَا لَا يُشْرَعُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ : لَمْ يَمْنَعْ أَنْ تَكُونَ هِيَ مِنْ الصَّلَاةِ . وَأَمَّا تِلْكَ فَلَيْسَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا أُمِرَ الْمُصَلِّي بِالْعَمَلِ الْكَثِيرِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لِأَجْلِ الْجِهَادِ وَغُفِرَ لَهُ عَنْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ السَّهْوِ لِأَنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ فَصَارَ الْفَصْلُ بَيْنَ أَبْعَاضِ الصَّلَاةِ الْمُتَابِعِ تَارَةً بِفِعْلِ يُوجِبُ تَغْيِيرَهَا وَتَارَةً بِفِعْلِ لَا جُنَاحَ عَلَى فَاعِلِهِ

لِكَوْنِهِ لَيْسَ مُكَلَّفًا بِتَرْكِهِ يُشْبِهُهُ الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّيَامِ الْمُتَتَابِعِ : تَارَةً بِصَوْمِ أَوْ فِطْرٍ وَاجِبٍ وَتَارَةً بِحَيْضِ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ مَرَضٍ يَعْجِزُ مَعَهُ عَنْ الصَّوْمِ . وَلِهَذَا طَرَدَ أَحْمَد ذَلِكَ ؛ وَلَوْ وَقَعَ هَذَا التَّفْرِيقُ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ بِالِاتِّفَاقِ فَالْوُضُوءُ أَوْلَى أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَ تَفْرِيقِهِ لِعُذْرِ وَلِغَيْرِ عُذْرٍ . وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ الصَّلَاةَ إلَّا بِمَا يُعْفَى عَنْهُ فِيهِ فَإِذَا أَتَى بِمَا يُنَافِيهَا - مِنْ كَلَامٍ عَمْدٍ أَوْ عَمَلٍ كَثِيرٍ ؛ أَوْ اسْتِدْبَارِ قِبْلَةٍ لِغَيْرِ عُذْرٍ - كَانَ قَدْ فَصَلَ بَيْنَ أَبْعَاضِهَا وَفَرَّقَ بَيْنَهَا بِمَا يُنَافِيهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ ؛ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ ؛ كَمَا لَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَسَلَّمَ عَمْدًا ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ بَلْ يَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ وَلَوْ سَلَّمَ سَهْوًا بَنَى عَلَى الْأَوَّلِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُ إنَّمَا هُوَ خَارِجٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَزَائِدٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ إلَّا قَطْعُ الصَّلَاةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْوِتْرِ بِثَلَاثِ مُتَّصِلَةٍ وَثَلَاثٍ يُفْصَلُ فِيهَا بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ : إلَّا بِمُجَرَّدِ الْفَصْلِ ؟ وَلِهَذَا يَقُولُونَ : يُفْصَلُ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ بِتَسْلِيمَةٍ ؛ أَوْ لَا يُفْصَلُ بِتَسْلِيمَةٍ . فَمِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَنْ لَا يُسَوِّغُ الْفَصْلَ كَالْمَغْرِبِ . وَيَجْعَلُ وَتْرَ اللَّيْلِ لَا يَكُونُ إلَّا كَوِتْرِ النَّهَارِ مُتَّصِلًا غَيْرَ مُنْفَصِلٍ . وَمِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ مَنْ لَا يُسَوِّغُ إلَّا الْفَصْلَ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَاةُ اللَّيْلِ

مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيت الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِرَكْعَةِ } . وَفُقَهَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَخْتَارُونَ الْفَصْلَ لِصِحَّةِ الْآثَارِ وَكَثْرَتِهَا بِهِ وَإِنْ جَوَّزُوا الْوَصْلَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُمْ لَا يَذْكُرُونَ بَيْنَ صُورَتَيْ الْوِتْرِ فَرْقًا : إلَّا كَوْنَ هَذَا مُتَّصِلًا وَهَذَا مُنْفَصِلًا . وَهَذَا هُوَ الْمُوَالَاةُ وَالتَّفْرِيقُ ؛ فَتُبَيِّنُ أَنَّ السَّلَامَ الْعَمْدَ إنَّمَا أَبْطَلَ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَنَحْوَهَا مِمَّا سُنَّتُهُ الِاتِّصَالُ : لِأَجْلِ تَفْرِيقِ بَعْضِ الصَّلَاةِ عَنْ بَعْضٍ وَهُوَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَهْوًا لَمْ تَبْطُلْ وَكُلُّ مَا يُنَافِي الصَّلَاةَ مِنْ فِعْلٍ أَوْ عَمَلٍ كَثِيرٍ ؛ أَوْ تَعَمُّدِ كَلَامٍ وَتَرْكِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهَا - مِنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ أَوْ سَتْرِ عَوْرَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَإِنَّهُ مَعَ مُنَافَاتِهِ بِفَرْقِ بَيْنَ أَبْعَاضِ الصَّلَاةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا كَمَا يَخْرُجُ بِالسَّلَامِ ؛ وَلِهَذَا ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ إلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا بِكُلِّ مَا يُنَافِيهَا كَمَا يَخْرُجُ بِالسَّلَامِ لَكِنَّ فُقَهَاءَ الْحَدِيثِ وَأَهْلَ الْحِجَازِ مَنَعُوا ذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا إلَّا بِالْمَشْرُوعِ ؛ وَلَا يَخْرُجُ إلَّا بِالْمَشْرُوعِ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ الْكَلَامَ فِي هَذَا أُمُورٌ : أَحَدُهَا : أَنَّ مَنْ يُجَوِّزُ الْوِتْرَ بِثَلَاثِ مَفْصُولَةٍ - كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد

وَغَيْرِهِمَا - يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ الَّتِي لَهَا اسْمٌ وَاحِدٌ يَفْصِلُ بَيْنَ أَبْعَاضِهَا بِالسَّلَامِ الْعَمْدِ كَالْوِتْرِ وَالضُّحَى وَقِيَامِ رَمَضَانَ وَالْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَاخْتِيَارُهُمْ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ أَنْ تَكُونَ مَثْنَى مَثْنَى : إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ أَحْمَد مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا الْفَصْلُ : كَالْوِتْرِ بِخَمْسِ أَوْ سَبْعٍ أَوْ تِسْعٍ فَإِنَّهُ يَخْتَارُ فِيهَا مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلُهُ وَيَقُولُونَ : أَدْنَى الْوِتْرِ ثَلَاثٌ مَفْصُولَةٌ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عَائِشَةَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ مِنْ اللَّيْلِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَفْصِلُ بَيْن كُلِّ رَكْعَتَيْنِ } فَسُمَّتْ الْجَمِيعُ وِتْرًا مَعَ الْفَصْلِ . وَقَدْ يُنَازِعُهُمْ فِي هَذَا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ إذْ الْمَسْنُونُ عِنْدَهُمْ فِي الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ الْوَصْلُ وَكَذَلِكَ فِي الْوِتْرِ بِثَلَاثِ وَكَذَلِكَ إذَا جَاءَ ذِكْرُ صَلَاةِ أَرْبَعٍ أَوْ ثَمَانٍ : يَجْعَلُونَهَا بِتَسْلِيمَةٍ . الثَّانِي : إذَا تَكَلَّمَ بَعْدَ سَلَامِهِ مِنْ الصَّلَاةِ سَهْوًا كَمَا فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ فَقَدْ عُلِمَ مَا فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ وَالْمُنَازِعُ يَقُولُ : هُوَ مَنْسُوخٌ كَمَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ الْكَلَامَ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ بَعْدَ السَّلَامِ سَهْوًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ . وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مُحْكَمٌ وَهُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد فِي

عَامَّةِ أَجْوِبَتِهِ فَإِنَّهُ أَخَذَ بِهِ وَتَفَقَّهَ فِيهِ وَلَمْ يَتْرُكْ الْأَخْذَ بِهِ وَلَا قَالَ هُوَ مَنْسُوخٌ . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمَشْهُورَ بِرِوَايَتِهِ الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّاهَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : وَذَكَرَ فِيهَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ الصَّلَاةَ وَهُوَ إنَّمَا سَلَّمَ وَرَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى خَلْفَهُ مِنْ عَامِ خَيْبَرَ وَالْقَضِيَّةُ كَانَتْ فِي مَسْجِدِهِ وَذَلِكَ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ خَيْبَرَ بِيَقِينِ وَهَذَا يَقِينٌ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْت عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْك فِي الصَّلَاةِ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا ؟ فَقَالَ : إنَّ فِي الصَّلَاةِ شَغْلًا } . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْكَلَامَ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ لَمَّا رَجَعُوا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا خِلَافٍ وَهُوَ الَّذِي أَجْهَزَ عَلَى أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ قَبْلَ بَدْرٍ سَوَاءٌ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَجَعَ مِنْ الْحَبَشَةِ إلَى مَكَّةَ ثُمَّ هَاجَرَ أَوْ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ إلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ هَذَا قَدْ تُنُوزِعَ فِيهِ : فَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ تَحْرِيمُ الْكَلَامِ بِمَكَّةَ وَهُوَ مُقَيَّدٌ كَمَا فِي

مُسْنَدِ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى النَّجَاشِيِّ وَنَحْنُ ثَمَانُونَ رَجُلًا وَمَعَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي دُخُولِهِمْ عَلَى النَّجَاشِيِّ وَفِي آخِرِهِ : فَجَاءَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَبَادَرَ فَشَهِدَ بَدْرًا . وَلِلنَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْمُشْتَبِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ يَقُولُهَا مَنْ يَقُولُهَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ : أَحَدُهَا - وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَطَائِفَةٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ - أَنَّ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْكَلَامِ وَظَنُّوا أَنَّ قَضِيَّتَهُ كَانَتْ قَبْلَ بَدْرٍ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْقَضِيَّةُ قَبْلَ ذَلِكَ قَالُوا : وَتَحْرِيمُ الْكَلَامِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ : إنْ كُنَّا لَنَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ بِحَاجَتِهِ حَتَّى نَزَلَتْ { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ } وَلَيْسَ لِلْبُخَارِيِّ : وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ : { كُنَّا نَتَكَلَّمُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ } . وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ مِنْ صِغَارِ الْأَنْصَارِ وَهُوَ صَاحِبُ الْإِذْنِ الَّذِي وَفَّى

اللَّهُ بِإِذْنِهِ لَمَّا بَلَّغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَ ابْنِ أبي مِنْ الْمُنَافِقِينَ ( { لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } وَكَذَّبَهُ مَنْ كَذَّبَهُ وَلَامَهُ مَنْ لَامَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ : { يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ } فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هَذَا الَّذِي وَفَّى اللَّهُ بِإِذْنِهِ } وَهُوَ لَمْ يُصَلِّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَذَكَرَ أَنَّ النَّسْخَ حَصَلَ بِآيَةِ الْمُحَافَظَةِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ بَلْ قَدْ يُقَالُ : إنَّهَا إنَّمَا نَزَلَتْ عَامَ الْخَنْدَقِ لَمَّا شَغَلَهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى قَالَ : { مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ } - كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ - فَقَالَ هَؤُلَاءِ : إذَا كَانَتْ قِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ قَبْلَ بَدْرٍ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ قَدْ حُرِّمَ أَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ إنَّمَا حُرِّمَ بَعْدَ ذَلِكَ بَلْ بَعْدَ عَامِ الْخَنْدَقِ الَّتِي هِيَ بَعْدَ بَدْرٍ بِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ : كَانَ مَنْسُوخًا . وَأَقْصَى مَا يُقَالُ : إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ النَّسْخِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ بَعْدَهُ فَلَا يَبْقَى فِيهِ حُجَّةٌ . وَنَجِدُ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ - مِمَّنْ يُخَالِفُ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ غَيْرِهِمْ - يَقُولُ : هَذَا مَنْسُوخٌ وَقَدْ اتَّخَذُوا هَذَا مَجْنَةً (1) ؛ كُلُّ حَدِيثٍ لَا يُوَافِقُ مَذْهَبَهُمْ يَقُولُونَ : هُوَ مَنْسُوخٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَلَا يُثْبِتُوا مَا الَّذِي نَسَخَهُ .

وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِالْعَمَلِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ - أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ - يَقُولُونَ : هَذَا مَنْسُوخٌ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ يَقُولُونَ : إنَّ وُجُودَ عِلْمِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِخِلَافِهِ دَلِيلُ نَسْخِهِ وَهَذَا كَثِيرٌ . وَمَا ذَكَرُوهُ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ هُوَ مِنْ أَبْلَغِ مَا قَرَّرُوهُ وَادَّعَوْا أَنَّ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ عَامَ الْخَنْدَقِ أَوْ نَحْوَهُ وَيَقُولُونَ فِي الْقُنُوتِ إنَّهُ مَنْسُوخٌ وَفِي دُعَائِهِ لِمُعَيَّنِ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ : إنَّهُ مَنْسُوخٌ وَإِنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ } حَتَّى يُبَالِغُوا فِيمَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ كَالتَّنْبِيهِ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ شَهْرًا إذَا قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ يَقُولُ فِي قُنُوتِهِ : اللَّهُمَّ نَجِّ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ اللَّهُمَّ نَجِّ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ اللَّهُمَّ نَجِّ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ نَجِّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ } قَالَ { أَبُو هُرَيْرَةَ : ثُمَّ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ بَعْدُ فَقُلْت : أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ قَالَ : فَقِيلَ : أَوَمَا تَرَاهُمْ قَدْ قَدِمُوا } ؟ وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنْ الْفِقْهِ فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يُصَلِّ خَلْفَ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بَعْدَ خَيْبَرَ وَخَيْبَرُ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَتْ الْهُدْنَةُ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ : عَلَى أَنْ لَا يَدَعَ أَحَدًا مِنْهُمْ يُهَاجِرُ إلَيْهِ وَلَا يَرُدُّ إلَيْهِ مَنْ ذَهَبَ مُرْتَدًّا مِنْهُ إلَيْهِمْ فَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ كَانُوا مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ الَّذِينَ قَهَرَهُمْ أَهْلُوهُمْ وَالْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ وَهُمْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ أَشْرَفُ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ وَبَنُو مَخْزُومٍ كَانُوا هُمْ الَّذِينَ يُنَادَوْنَ عَبْدَ مَنَافٍ وَالْمُحَاسَدَةُ الَّتِي بَيْنَهُمْ هِيَ إحْدَى مَا مَنَعَتْ أَشْرَافَهُمْ - كَالْوَلِيدِ وَأَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِمَا - مِنْ الْإِسْلَامِ فَلَمَّا قَدِمَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ مَنْ قَدِمَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَلَحِقُوا بِسَيْفِ الْبَحْرِ عَلَى السَّاحِلِ - كَأَبِي بَصِيرٍ وَأَبِي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو - فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُجِرْهُمْ بِالشَّرْطِ فَصَارُوا بِأَيْدِي أَنْفُسِهِمْ بِالسَّاحِلِ يَقْطَعُونَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى أَرْسَلَ أَهْلُ مَكَّةَ حِينَئِذٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي الْمُقَامِ عِنْدَهُ لِيَأْمَنُوا قَطْعَهُمْ فَقَدِمُوا حِينَئِذٍ أُولَئِكَ الْمُسْتَضْعَفُونَ فَتَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُنُوتَ . وَهَذَا الْقُنُوتُ بَعْدَ الْقُنُوتِ الَّذِي رَوَاهُ أَنَسٌ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رعل وذكوان وَعُصَيَّةَ ثُمَّ تَرَكَهُ } فَإِنَّ ذَلِكَ الْقُنُوتَ كَانَ فِي أَوَائِلِ الْأَمْرِ لَمَّا أَرْسَلَ الْقُرَّاءَ السَّبْعِينَ : أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ وَذَلِكَ مُتَقَدِّمٌ قَبْلَ الْخَنْدَقِ الَّتِي هِيَ قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا

ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ تَرْكَهُ لِلْقُنُوتِ لَمْ يَكُنْ تَرْكَ نَسْخٍ ؛ إذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَنَتَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا قَنَتَ لِسَبَبِ فَلَمَّا زَالَ السَّبَبُ تَرَكَ الْقُنُوتَ كَمَا بَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ لَمَّا قَدِمُوا . وَلَيْسَ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ ثُمَّ تَرَكَهُ } أَنَّهُ تَرَكَ الدُّعَاءَ فَقَطْ كَمَا يَظُنُّهُ مَنْ ظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُدَاوِمًا عَلَى الْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ بَعْدَ الرُّكُوعِ أَوْ قَبْلَهُ بَلْ ثَبَتَ فِي أَحَادِيثِ أَنَسٍ الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ : { أَنَّهُ لَمْ يَقْنُتْ بَعْدَ الرُّكُوعِ إلَّا شَهْرًا } وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَتْرُوكَ كَانَ الْقُنُوتَ . وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا أَنَّ مِنْ تَأَمَّلَ الْأَحَادِيثَ عَلِمَ عِلْمًا يَقِينًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَى الْقُنُوتِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ لَا الْفَجْرِ وَلَا غَيْرِهَا ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ؛ بَلْ أَنْكَرُوهُ . وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرْفًا وَاحِدًا مِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهِ فِي الْقُنُوتِ الرَّاتِبِ وَإِنَّمَا الْمَنْقُولُ عَنْهُ مَا يَدْعُو بِهِ فِي الْعَارِضِ : كَالدُّعَاءِ لِقَوْمِ وَعَلَى قَوْمٍ فَأَمَّا مَا يَدْعُو بِهِ مَنْ يَسْتَحِبُّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى قُنُوتِ الْفَجْرِ مِنْ قَوْلِ : { اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْت } فَهَذَا إنَّمَا فِي السُّنَنِ أَنَّهُ عَلَّمَهُ لِلْحَسَنِ يَدْعُو بِهِ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ .

ثُمَّ مِنْ الْعَجَبِ . أَنَّهُ لَا يَسْتَحِبُّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ فِي الْوِتْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ وَيُدَاوِمُ عَلَيْهِ فِي الْفَجْرِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَهُ فِي الْفَجْرِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالْيَقِينِ الضَّرُورِيِّ أَنَّ الْقُنُوتَ لَوْ كَانَ مِمَّا دَاوَمَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا يُهْمَلُ ؛ وَلَتَوَفَّرَتْ دَوَاعِي الصَّحَابَةِ ثُمَّ التَّابِعِينَ عَلَى نَقْلِهِ : فَإِنَّهُمْ لَمْ يُهْمِلُوا شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الصَّلَاةِ الَّتِي كَانَ يُدَاوِمُ عَلَيْهَا إلَّا نَقَلُوهُ ؛ بَلْ نَقَلُوا مَا لَمْ يَكُنْ يُدَاوِمُ عَلَيْهِ : كَالدُّعَاءِ فِي الْقُنُوتِ لِمُعَيَّنِ وَعَلَى مُعَيَّنٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَدَعْوَى هَذَا أَيْضًا هِيَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مِمَّا يَدَّعِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فِي النَّصِّ الْجَلِيِّ عَلَى مُعَيَّنٍ فِي الْإِمَامَةِ ؛ أَوْ مِنْ زِيَادَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُصَنِّفُونَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ بَيَانِ مَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْكَذِبِ وَمَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْكِتْمَانِ فَإِذَا تَكَلَّمُوا فِي الْأَخْبَارِ الصَّادِقَةِ الَّتِي يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ كَذِبًا مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ : تَكَلَّمُوا فِيمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَخْبَارِ لِلْعَادَةِ الْعَامَّةِ أَوْ الْخَاصَّةِ أَوْ لِلْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى حِفْظِ هَذَا الدِّينِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَأَمَّا الدُّعَاءُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ - كَمَا يَتَّخِذُهُ مَنْ يَتَّخِذُهُ سُنَّةً رَاتِبَةً فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ - فَهَذَا إنَّمَا هُوَ مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهِ لَمَّا كَانَ يُجَاهِدُ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالشَّامِ وَكَانَ يَدْعُو بِهِ فِي الْمَكْتُوبَةِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْنُتُ أَحْيَانًا يَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَلْعَنُ الْكَافِرِينَ وَيَذْكُرُ قَبَائِلَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحَارِبُونَهُ كمضر ؛ ورعل وذكوان ؛ وَعُصَيَّةَ وَعُمَرُ لَمَّا قَاتَلَ أَهْلَ الْكِتَابِ قَنَتَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَكْتُوبَةِ ؛ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَقْنُتَ عِنْدَ النَّازِلَةِ وَيَدْعُوَ فِيهَا بِمَا يُنَاسِبُ أُولَئِكَ الْقَوْمَ الْمُحَارِبِينَ . فَأَمَّا أَنْ يَتَّخِذَ قُنُوتَ عُمَرَ فِي الْمَكْتُوبَةِ سُنَّةً فِي الْوِتْرِ وَقُنُوتَ الْحَسَنِ فِي الْوِتْرِ سُنَّةً فِي الْمَكْتُوبَةِ رَاتِبَةً فَهُوَ كَمَا تَرَاهُ وَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ دَعَا لِأَقْوَامِ سَمَّاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ بَعْدَ خَيْبَرَ وَذَلِكَ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ اقْتَضَى مَا يُقَالُ فِي تَأَخُّرِ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ تَأَخَّرَ إلَى عَامِ الْخَنْدَقِ وَخَيْبَرُ بَعْدَ الْخَنْدَقِ بِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ ؛ فَإِنَّ خَيْبَرَ كَانَتْ بِالِاتِّفَاقِ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْحُدَيْبِيَةُ كَانَتْ بِالِاتِّفَاقِ سَنَةَ سِتٍّ ؛ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا إنَّمَا اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ فَلَمَّا صَالَحَهُمْ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ فَكَانَتْ غَزْوَةُ الْغَابَةِ غَزْوَةُ ذِي قَرَدَ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ لَمَّا جَعَلَ يَقُولُ : خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ وَالْيَوْمَ يَوْمُ الرُّضَّعِ لَمَّا أَغَارَتْ فَزَارَةُ عَلَى لِقَاحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ خَيْبَرُ عَقِبَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ سِتٍّ وَأَوَائِلِ سَبْعٍ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الْخَنْدَقُ فَقَبْلَ ذَلِكَ : إمَّا فِي أَوَائِلِ خَمْسٍ أَوْ أَوَاخِرِ أَرْبَعٍ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : عُرِضْت عَلَى النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي وَعُرِضْت عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي } . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى النَّسْخِ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ { سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ الْفَجْرِ يَقُولُ : اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا بَعْدَ مَا يَقُولُ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ؛ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } } فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ اللَّعْنَةِ لَهُمْ ؛ لِكَوْنِهِ لَيْسَ لَهُ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ لِجَوَازِ تَوْبَتِهِمْ وَهَذَا إذَا كَانَ نَهْيًا فَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ وَالْكَلَامِ إنَّمَا هُوَ فِي الدُّعَاءِ الْجَائِزِ خَارِجَ الصَّلَاةِ : كَالدُّعَاءِ لِمُعَيَّنِينَ مُسْتَضْعَفِينَ وَالدُّعَاءِ عَلَى مُعَيَّنِينَ مِنْ الْكُفَّارِ بِالنُّصْرَةِ عَلَيْهِمْ ؛ لَا بِاللَّعْنَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ - مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ - : إنَّ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ كَانَ بِمَكَّةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّسْخَ ثَبَتَ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ قَالَ : وَبَلَغَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ خَرَجُوا إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ إسْلَامُ أَهْلِ مَكَّةَ فَأَقْبَلُوا لَمَّا بَلَغَهُمْ مِنْ ذَلِكَ إسْلَامُ أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِي كَانَ بَاطِلًا فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا بِجِوَارِ أَوْ مُسْتَخْفِيًا فَكَانَ مَنْ قَدِمَ

مِنْهُمْ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ شَهِدَ مَعَهُ بَدْرًا وَأُحُدًا فَذَكَرَ مِنْهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ . وَهَؤُلَاءِ يُجِيبُونَ عَنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِجَوَابَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ نَهَى عَنْهُ مُتَقَدِّمًا ثُمَّ أَذِنَ فِيهِ ؛ ثُمَّ نَهَى عَنْهُ لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ . الثَّانِي : أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَمَنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَبْلُغْهُمْ نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ انْتَهَوْا . فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَضَعِيفٌ لِوُجُوهِ قَاطِعَةٍ : مِنْهَا : أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ صَحِيحٌ صَرِيحٌ وَقَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْحَبَشَةِ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا كَانَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبُوا إلَى الْحَبَشَةِ ؛ وَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ : { إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشَغْلًا } وَفِي رِوَايَةٍ : { إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَتَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ } .

الثَّانِي : أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَصْحَبْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُصَلِّ خَلْفَهُ إلَّا بَعْدَ عَامِ خَيْبَرَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَهُوَ أَشْهَرُ مَنْ رَوَى حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى تِلْكَ الصَّلَاةَ بِهِمْ ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ قَالَ { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ } فَعُلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ قَبْلَ عَامِ خَيْبَرَ بَلْ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ : فَكَيْفَ تَكُونُ قَبْلَ بَدْرٍ ؟ بَلْ خَيْبَرُ بَعْدَ الْخَنْدَقِ فَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْكَلَامَ لَمْ يُحَرَّمْ إلَّا عَامَ الْخَنْدَقِ لَكَانَ حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مَنْسُوخًا . الثَّالِثُ : أَنَّ مِنْ رُوَاةِ حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ قَالُوا : وَإِسْلَامُ عِمْرَانَ كَانَ بَعْدَ بَدْرٍ وَقَدْ رَوَى نَحْوًا مِنْهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ خَدِيج وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَهْرَيْنِ وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ كَمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ قَالُوا : وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ وَابْنُ عُمَرَ قَبْلَ بَدْرٍ كَانَ صَغِيرًا ؛ فَإِنَّهُ عَامَ أُحُدٍ كَانَ ابْنَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَلَا يَكَادُ ابْنُ عُمَرَ يَرْوِي مَا كَانَ حِينَئِذٍ مِمَّا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ كَمَا لَمْ يَرْوِ حَدِيثَ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوَهُ .

الرَّابِعُ : أَنَّ قَوْلَهُمْ : ذُو الْيَدَيْنِ قُتِلَ بِبَدْرٍ غَلَطٌ قَالُوا : فَإِنَّ الْمَقْتُولَ بِبَدْرِ هُوَ ذُو الشِّمَالَيْنِ هُوَ ابْنُ عَمْرٍو مِنْ نضلة بْنِ عبسان : حَلِيفٌ لِبَنِي زُهْرَةَ مِنْ خُزَاعَةَ قُتِلَ بِبَدْرِ وَأَمَّا ذُو الْيَدَيْنِ فَاسْمُهُ الْخِرْبَاقُ وَيُكَنَّى أَبَا الْعُرْيَانِ بَقِيَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى حَدِيثَهُ فِي السَّهْوِ كَمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ عَنْ نَصْرِ بْنِ مُعَدِّي بْنِ سُلَيْمَانَ ثِقَةٌ قَالَ : أَتَيْت مَطَرًا لِأَسْأَلَهُ عَنْ حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ فَأَتَيْته فَسَأَلْته ؛ فَإِذَا هُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يُنْفِذُ الْحَدِيثَ مِنْ الْكِبَرِ فَقَالَ ابْنُهُ شُعَيْبٌ : بَلَى يَا أَبَتِ حَدَّثْتنِي : أَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ لَقِيَك بِذِي خَشَبٍ فَحَدَّثَك { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ وَهِيَ الْعَصْرُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَقَالُوا : قَصُرَتْ الصَّلَاةُ - وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - فَقَالَ ذُو الْيَدَيْنِ : أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيت ؟ فَقَالَ : مَا قَصُرَتْ الصَّلَاةُ وَلَا نَسِيت ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ : مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ؟ فَقَالَا : صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَابَ النَّاسُ ؛ وَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ؛ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ } . وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْ معدي بْنِ سُلَيْمَانَ ؛ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ مَطَرٍ وَمَطَرٌ جَاءَ مَنْ يُصَدِّقُهُ بِمَقَالَتِهِ . وَهَذَا السِّيَاقُ مُوَافِقٌ لِسِيَاقِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ فِي : أَنَّ السَّلَامَ كَانَ مِنْ

رَكْعَتَيْنِ وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ أَنَّهُ مِنْ ثَلَاثٍ وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ رَافِعٍ ؛ وَفِيهِ الْجَزْمُ بِأَنَّهَا الْعَصْرُ كَمَا فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ وَغَيْرِهِ وَهَلْ كَانَتْ الْقِصَّةُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ مُحْكَمٌ : ثَبَتَ بِهِ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَالْفِعَالِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَهُنَا أَقْوَالٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : فَعَنْهُ أَنَّ كَلَامَ النَّاسِ وَالْمُخْطِئُ لَا يُبْطِلُ ؛ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَقْوَى الْأَقْوَالِ وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ { مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِي لَمَّا شَمَّتَ الْعَاطِسَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا سَمِعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ } وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ وَهَذَا كَانَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ . وَفِي الْجَاهِلِ لِأَصْحَابِ أَحْمَد طَرِيقَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَالنَّاسِي . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَإِنْ بَطَلَتْ صَلَاةُ النَّاسِي ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالنَّاسِخِ . وَهَذَا الْفَرْقُ ضَعِيفٌ هُنَا ؛ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِيمَنْ تَمَسَّكَ بِالْمَنْسُوخِ وَلَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ كَمَا كَانَ أَهْلُ قُبَاء وَأَمَّا هُنَا فَلَمْ يَكُنْ بَلَغَهُ الْمَنْسُوخُ

بِحَالِ فَالنَّهْيُ فِي حَقِّهِ حُكْمٌ مُبْتَدَأٌ لَكِنْ هَلْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ بُلُوغِ الْخِطَابِ ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِأَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَثْبُتُ مُطْلَقًا . وَالثَّانِي : لَا يَثْبُتُ مُطْلَقًا . وَالثَّالِثُ : الْفَرْقُ بَيْنَ الْحُكْمِ النَّاسِخِ وَالْحُكْمِ الْمُبْتَدَأِ . وَعَلَى هَذَا يُقَالُ : الْجَاهِلُ لَمْ يَبْلُغْهُ حُكْمُ الْخِطَابِ وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ : أَلَا تَرَى مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَإِنَّهُ يُعِيدُهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؟ وَكَذَلِكَ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ فُرُوضِهَا نِسْيَانًا ثُمَّ ذَكَرَ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ صَلَّى بِلَا وُضُوءٍ أَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ أَوْ الرُّكُوعَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعِيدُ . وَأَمَّا مَنْ نَسِيَ وَاجِبًا كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ فَإِنْ تَعَمَّدَ تَرْكَهُ فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ : أَشْهَرُهُمَا تَبْطُلُ . وَلَوْ نَسِيَهُ مُطْلَقًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ فَهُنَا قَدْ أَثَّرَ النِّسْيَانُ فِي سُقُوطِ الْوَاجِبِ مُطْلَقًا .
وَأَمَّا الْجَاهِلُ فَلَوْ صَلَّى غَيْرَ عَالِمٍ بِوُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ أَوْ صَلَّى فِي مَبَارِكِهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِالنَّهْيِ ثُمَّ بَلَغَهُ : فَفِي الْإِعَادَةِ رِوَايَتَانِ لَكِنَّ الْأَظْهَرَ فِي الْحُجَّةِ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .

وَمِمَّا يُقَرِّرُ هَذَا فِي كَلَامِ الْجَاهِلِ فِي الصَّلَاةِ أَحَادِيثُ : مِنْهَا : حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثُ التَّشَهُّدِ الْمُسْتَفِيضِ : { أَنَّهُ قَالَ كُنَّا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ : السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وميكائيل السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ . فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ . وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ } وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي قَالُوا ذَلِكَ فِيهَا مَعَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ حَرَامٌ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى لِلَّهِ بِالسَّلَامِ بَلْ هُوَ الْمَدْعُوُّ وَلَمَّا كَانُوا جُهَّالًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ . وَمِنْ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ الَّذِي قَالَ : اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا وَقَالَ : " لَقَدْ تَحَجَّرْت وَاسِعًا " يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ . وَهَذَا الدُّعَاءُ حَرَامٌ فَإِنَّهُ سُؤَالُ اللَّهِ أَنْ لَا يَرْحَمَ مِنْ خَلْقِهِ غَيْرَهُمَا . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ - لَمَّا صَلَّى بِهِمْ أَبُو مُوسَى - أَقَرَنْت الصَّلَاةَ بِالْبِرِّ وَالزَّكَاةِ ؟ فَقَالَ أَبُو مُوسَى : يَا حطان لَعَلَّك قُلْتهَا ؟ فَقُلْت : مَا قُلْتهَا وَلَقَدْ خَشِيت أَنْ تَبْكَعَنِي بِهَا وَلَمْ يَأْمُرْنِي أَبُو مُوسَى بِالْإِعَادَةِ . وَعَلَى هَذَا فَكَلَامُ الْعَامِدِ فِي مَصْلَحَتِهَا فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : إحْدَاهُمَا : يَجُوزُ . وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ . وَالثَّانِيَةُ : لَا يَجُوزُ . وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .

وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ : أَنَّ الْكَلَامَ يُبْطِلُ إلَّا إذَا كَانَ لِمَصْلَحَتِهَا سَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا . وَفِيهِ رِوَايَةٌ رَابِعَةٌ : إلَّا لِمَصْلَحَتِهَا سَهْوًا وَهُوَ اخْتِيَارُ جَدِّي . وَفِيهِ رِوَايَةٌ خَامِسَةٌ : تَبْطُلُ إلَّا صَلَاةَ إمَامٍ تَكَلَّمَ لِمَصْلَحَتِهَا ؛ سَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا . وَمَنْشَأُ التَّرَدُّدِ أَنَّهُ يُكَلِّمُ ذَا الْيَدَيْنِ ابْتِدَاءً ؛ وَتَكَلَّمَ جَوَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : بَلَى قَدْ نَسِيت : بَعْدَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تَقْصُرْ } وَتَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَبِقَوْلِهِ : { أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ؟ } وَتَكَلَّمَ الْمُخَاطَبُونَ بِتَصْدِيقِ ذِي الْيَدَيْنِ فَقِيلَ : إنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ ذُو الْيَدَيْنِ سُؤَالُهُ لَهُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ سَلَامِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ اتِّبَاعًا لَهُ ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَسِيَ بَلْ جُوِّزَ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ قَصُرَتْ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصَّحَابَةِ لَوْ عَلِمُوا أَنَّهُ نَسِيَ وَأَنَّ مُتَابَعَةَ النَّاسِي فِي السَّلَامِ لَا تَجُوزُ : لَسَبَّحُوا بِهِ ؛ لَكِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِجَمِيعِ الْأَمْرَيْنِ قَطْعًا بَلْ جَوَّزُوا أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا بَلْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ وُجُوبَ الْمُتَابَعَةِ لَهُ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ . فَقِيلَ لِهَؤُلَاءِ : فَالْمُصَلُّونَ أَجَابُوهُ بِتَصْدِيقِ ذِي الْيَدَيْنِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهَا

لَمْ تَقْصُرْ وَأَنَّهُ نَسِيَ فَظَنَّ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ جَوَابَهُ وَاجِبٌ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ لِحَدِيثِ أَبِي سَعْيدِ بْنِ الْمُعَلَّى وَظَنَّ آخَرُونَ أَنَّ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ فَجَوَّزُوا الْكَلَامَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ عَمْدًا وَظَنَّ آخَرُونَ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ سَهْوًا ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ الصَّلَاةِ ؛ وَأَنَّ مَنْ بَقِيَ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ لَا يَتَكَلَّمُ . ثُمَّ قَالَ آخَرُونَ : هَذَا الْكَلَامُ وَكَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذِي الْيَدَيْنِ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ سَهْوًا : فَإِنَّمَا كَانَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي صُلْبِ الصَّلَاةِ عَالِمًا أَنَّهُ فِي صَلَاتِهِ بِنَحْوِ هَذَا سَهْوًا وَعَمْدًا لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ : هَلْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ هَذَا ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَمَنْ لَمْ يُسَوِّ بَيْنَهُمَا قَالَ : هَذِهِ الْحَالُ لَمْ يَكُونُوا فِي صَلَاةٍ لِخُرُوجِهِمْ مِنْهَا سَهْوًا ؛ وَإِنْ كَانُوا فِي حُكْمِهَا كَمَا ذَكَرْنَا ؛ فَلِهَذَا شَاعَ هَذَا . وَمَنْ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا قَالَ : سَائِرُ مَحْظُورَاتِ الصَّلَاةِ هِيَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ كَمَا هِيَ فِي الصَّلَاةِ نَفْسِهَا ؛ فَإِنَّ التَّفْرِيقَ هُنَا إنَّمَا جَازَ لِعُذْرِ السَّهْوِ فَلَا يُفِيدُ فِعْلَ شَيْءٍ مِمَّا يُنَافِي الصَّلَاةَ ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا تَعَمَّدَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ : بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَبْطُلُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُصَلِّيَ صَلَّى الصَّلَاةَ وَتَرَكَ مَنَافِيَهَا ؛ فَإِذَا عُفِيَ عَنْهُ فِي أَحَدِهِمَا لِعُذْرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْفَى عَنْهُ فِي الْآخَرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ كَمَا لَوْ زَادَ الْفِعْلَ عَمْدًا فَإِنَّهُ بَعْدَ

الذِّكْرِ لَوْ أَطَالَ الْفَصْلَ عَمْدًا : لَمْ يَكُنْ لَهُ الْبِنَاءُ بَلْ يَبْتَدِئُ الصَّلَاةَ ؛ وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَ مَنَافِيَهَا سَهْوًا - مِنْ كَلَامٍ أَوْ عَمَلٍ كَثِيرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ - لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُفَرِّقَهَا عَمْدًا . فَتَبَيَّنَ بِهَذَا كُلِّهِ وُجُوبُ الْمُوَالَاةِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا فِي حَالِ الْعُذْرِ الْمُسَوِّغِ لِذَلِكَ فَالْوُضُوءُ أَوْلَى بِذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا تَقُولُونَ فِي الْغُسْلِ ؟ قِيلَ : الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ أَحْمَد : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا . وَعُمْدَةُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى عَلَى يَدِهِ لُمْعَةً لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَعَصَرَ عَلَيْهَا شَعْرَهُ } . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْتَسَلَ مِنْ جَنَابَةٍ فَرَأَى لُمْعَةٌ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَقَالَ : بِجُمَّتِهِ فَبَلَّهَا عَلَيْهَا } رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَلِيٍّ السروجي . وَقَدْ ضَعَّفَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ حَدِيثَهُ . وَرَوَى ابْنُ مَاجَه عَنْ عَلِيٍّ قَالَ { : جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنِّي اغْتَسَلْت مِنْ الْجَنَابَةِ فَصَلَّيْت الْفَجْرَ ثُمَّ أَصْبَحْت فَرَأَيْت مَوْضِعًا قَدْرَ الظُّفْرِ لَمْ يُصِبْهُ مَاءٌ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كُنْت مَسَحْت عَلَيْهِ بِيَدِك أَجْزَأَك } . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّجُلِ يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ فَيُخْطِئُ بَعْضَ جَسَدِهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

يَغْسِلُ ذَلِكَ الْمَكَانَ ثُمَّ يُصَلِّي } رَوَاهُ البيهقي مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الأشجعي قَالَ الْبُخَارِيُّ : فِيهِ نَظَرٌ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ : يُخْطِئُ كَثِيرًا . وَقَالَ الدارقطني : لَيْسَ بِالْقَوِيِّ . وَالْفَرْقُ الْمَعْنَوِيُّ : أَنَّ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ مُتَعَدِّدَةٌ يَجِبُ فِيهَا التَّرْتِيبُ عِنْدَهُمْ : فَوَجَبَتْ فِيهَا الْمُوَالَاةُ وَالْبَدَنُ فِي الْغُسْلِ كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ : لَا يَجِبُ فِيهِ تَرْتِيبٌ فَلَا يَجِبُ فِيهِ مُوَالَاةٌ أَيْضًا ؛ فَإِنَّ حُكْمَ الْوُضُوءِ يَتَعَدَّى مَحَلَّهُ ؛ فَإِنَّهُ يَغْسِلُ أَرْبَعَةَ أَعْضَاءٍ فَيُطَهِّرُ جَمِيعَ الْبَدَنِ وَأَمَّا الْجَنَابَةُ فَتُشْبِهُ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ : لَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ مَحَلَّهُ فَكُلَّمَا غَسَلَ شَيْئًا ارْتَفَعَ عَنْهُ الْجَنَابَةُ كَمَا تَرْتَفِعُ النَّجَاسَةُ عَنْ مَحَلِّ الْغُسْلِ فَإِذَا غَسَلَ بَعْضَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ لَمْ يَرْتَفِعْ شَيْءٌ مِنْ الْحَدَثِ لَا عَنْهُ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِهِ . وَقَدْ يُقَالُ : هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمُوَالَاةِ ؛ فَإِنَّ وُجُوبَ الْمُوَالَاةِ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ أَقْوَى مِنْ وُجُوبِهَا فِي الِاثْنَيْنِ ؛ بِخِلَافِ التَّرْتِيبِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا مُخْتَلِفَيْنِ ؛ إذْ الْمُتَمَاثِلَاتُ - كَالطَّوَّافَاتِ وَالسَّعَيَاتِ - لَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَرْتِيبٌ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ التَّرْتِيبُ عِنْدَ أَحْمَد وَمَالِكٍ فِي الرَّكَعَاتِ بَلْ مَنْ نَسِيَ رُكْنًا مِنْ رَكْعَةٍ فَلَمْ يَذْكُرْ حَتَّى قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ : قَامَتْ مَقَامَهَا وَغُسْلُ الْجَنَابَةِ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ : الِاتِّصَالُ فِيهَا أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الْوُضُوءِ وَهِيَ عِبَادَةٌ فِي نَفْسِهَا

تُعْتَبَرُ لَهَا النِّيَّةُ ؛ بِخِلَافِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ لَهَا النِّيَّةُ إلَّا فِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ : الْتَزَمُوهُ فِي الْخِلَافِ الْجَدَلِيِّ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَمَنْ تَبِعَهُ وَلَيْسَ بِشَيْءِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : الْمُوَالَاةُ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ . وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَصَرَ عَلَى اللُّمْعَةِ بَعْدَ جَفَافِهَا فِي الزَّمَنِ الْمُعْتَدِلِ وَأَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ : فَالْفَرْقُ أَنَّ تَارِكَ اللُّمْعَةِ فِي الرِّجْلِ مُفَرِّطٌ بِخِلَافِ الْمُغْتَسِلِ مِنْ الْجَنَابَةِ فَإِنَّهُ لَا يَرَى بَدَنَهُ كَمَا يَرَى رِجْلَيْهِ فَاللُّمْعَةُ إذَا كَانَتْ فِي ظَهْرِهِ أَوْ حَيْثُ لَا يَرَاهُ وَلَا يُمْكِنُهُ مَسُّهُ كَانَ مَعْذُورًا فِي تَرْكِهَا فَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ فِيهِ الْمُوَالَاةُ بِخِلَافِ مَا لَا يُعْذَرُ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَعَلَى هَذَا فَلَوْ قِيلَ بِسُقُوطِ التَّرْتِيبِ بِالْعُذْرِ لَتَوَجَّهَ . وَقَدْ يَخْرُجُ حَدِيثُ تَأْخِيرِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ عَنْ غَسْلِ الْوَجْهِ - وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الْمَنْصُوصَتَيْنِ - عَلَى هَذَا وَأَنَّ تَارِكَهُمَا لَمْ يَعْلَمْ وُجُوبَهُمَا فَكَانَ مَعْذُورًا بِالتَّرْكِ فَلَمْ يَجِبْ التَّرْتِيبُ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُعْذَرْ كَمُنَكِّسِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ وَلَكِنَّ نَظِيرَهُ حَدِيثُ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ : إذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الْوُضُوءَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَغَسَلَهُمَا فَقَطْ أَوْ مَنْ تَرَكَ غَسْلَ وَجْهِهِ أَوْ يَدَيْهِ لِجُرْحِ أَوْ مَرَضٍ وَغَسَلَ سَائِرَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ قَبْلَ انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ : فَهُنَا إذَا قِيلَ : يَغْسِلُ مَا تَرَكَ أَوَّلًا وَلَا يَضُرُّهُ تَرْكُ التَّرْتِيبِ : كَانَ مُتَوَجِّهًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَغْسِلُ أَطْرَافَهُ فَوْقَ الْخَمْسِ مَرَّاتٍ وَإِذَا أَتَى الْمَسْجِدَ يَبْسُطُ سَجَّادَتَهُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ ؟ إلَى آخِرِ السُّؤَالِ .
فَأَجَابَ :
مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْوَسْوَسَةِ فِي الطَّهَارَةِ مِثْلُ غَسْلِ الْعُضْوِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى حُصْرِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : هُوَ أَيْضًا بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا وَلَا طَاعَةً وَلَا قُرْبَةً . وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ امْتَنَعَ عُزِّرَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُعَزِّرُ النَّاسَ عَلَى الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ مَعَ أَنَّ جَمَاعَةً فَعَلُوهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَعَلَهُ وَدَاوَمَ عَلَيْهِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ } كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الصَّلَاةِ فَضَرَبَ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعِينَ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ لِكَوْنِهَا بِدْعَةً مَذْمُومَةً بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ : أَوْلَى وَأَحْرَى . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
أَيُّمَا أَفْضَلُ : الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْوُضُوءِ أَمْ تَرْكُ الْمُدَاوَمَةِ ؟ .
فَأَجَابَ : أَمَّا الْوُضُوءُ عِنْدَ كُلِّ حَدَثٍ فَفِيهِ حَدِيثُ بِلَالٍ الْمَعْرُوفُ عَنْ بريدة بْنِ حصيب قَالَ : { أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِلَالًا فَقَالَ : يَا بِلَالُ بِمَ سَبَقْتنِي إلَى الْجَنَّةِ ؟ مَا دَخَلْت الْجَنَّةَ قَطُّ إلَّا سَمِعْت خَشْخَشَتَك أَمَامِي دَخَلْت الْبَارِحَةَ الْجَنَّةَ فَسَمِعْت خَشْخَشَتَك أَمَامِي فَأَتَيْت عَلَى قَصْرٍ مُرَبَّعٍ مُشْرِفٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقُلْت : لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ ؟ فَقَالُوا : لِرَجُلِ عَرَبِيٍّ . فَقُلْت : أَنَا عَرَبِيٌّ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ ؟ فَقَالُوا : لِرَجُلِ مِنْ قُرَيْشٍ . قُلْت : أَنَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ ؟ فَقَالُوا : لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ بِلَالٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَذَّنْت قَطُّ إلَّا صَلَّيْت رَكْعَتَيْنِ وَمَا أَصَابَنِي حَدَثٌ قَطُّ إلَّا تَوَضَّأْت عِنْدَهَا فَرَأَيْت أَنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمَا } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَهَذَا يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ حَدَثٍ وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ مِنْ الْغَائِطِ فَأُتِيَ بِطَعَامِ فَقِيلَ لَهُ : أَلَا تَتَوَضَّأُ ؟ قَالَ : لَمْ أُصَلِّ فَأَتَوَضَّأَ } فَإِنَّ هَذَا يَنْفِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ وَيَنْفِي أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِالْوُضُوءِ لِأَجْلِ مُجَرَّدِ الْأَكْلِ وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا اسْتَحَبَّ الْوُضُوءَ لِلْأَكْلِ . وَهَلْ يُكْرَهُ أَوْ يُسْتَحَبُّ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . فَمَنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ احْتَجَّ بِحَدِيثِ { سَلْمَانَ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأْت فِي التَّوْرَاةِ إنَّ : مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ } . وَمِنْ كَرِهَهُ قَالَ : لِأَنَّ هَذَا خِلَافُ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَوَضَّئُونَ قَبْلَ الْأَكْلِ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْيَهُودِ فَيُكْرَهُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ . وَأَمَّا حَدِيثُ سَلْمَانَ فَقَدْ ضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ . وَقَدْ يُقَالُ : كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُوَافِقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءِ وَلِهَذَا كَانَ يُسْدِلُ شَعْرَهُ مُوَافَقَةً لَهُمْ ثُمَّ فَرَّقَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلِهَذَا صَامَ عَاشُورَاءَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ ثُمَّ إنَّهُ قَالَ قَبْلَ مَوْتِهِ : { لَئِنْ عِشْت إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ } يَعْنِي : مَعَ الْعَاشِرِ لِأَجْلِ مُخَالَفَةِ الْيَهُودِ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّكُمْ تَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ } وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُصَلِّينَ فَبِمَ يُعْرَفُ غَيْرُهُمْ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ التَّارِكِينَ وَالصِّبْيَانِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُعْرَفُ مَنْ كَانَ أَغَرَّ مُحَجَّلًا وَهُمْ الَّذِينَ يَتَوَضَّؤُونَ لِلصَّلَاةِ . وَأَمَّا الْأَطْفَالُ فَهُمْ تَبَعٌ لِلرَّجُلِ . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ قَطُّ وَلَمْ يُصَلِّ : فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .

بَابٌ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ :
أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ : هَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ الْخُفُّ غَيْرَ مُخَرَّقٍ حَتَّى لَا يَظْهَرَ شَيْءٌ مِنْ الْقَدَمِ ؟ وَهَلْ لِلتَّخْرِيقِ حَدٌّ ؟ وَمَا الْقَوْلُ الرَّاجِحُ بِالدَّلِيلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فَإِنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إلَى ذَلِكَ ؟ .
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِمْ : أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى مَا فِيهِ خَرْقٌ يَسِيرٌ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي حَدِّ ذَلِكَ وَاخْتَارَ هَذَا بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ إلَّا عَلَى مَا يَسْتُرُ جَمِيعَ مَحَلِّ الْغَسْلِ . قَالُوا : لِأَنَّهُ إذَا ظَهَرَ بَعْضُ الْقَدَمِ كَانَ فَرْضُ مَا ظَهَرَ الْغَسْلَ ؛ وَفَرْضُ مَا بَطَنَ الْمَسْحَ ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْغَسْلِ

وَالْمَسْحِ أَيْ : بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَغْسِلَ الْقَدَمَيْنِ وَإِمَّا أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ قِيَاسُ أَصْلِ أَحْمَد وَنُصُوصِهِ فِي الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ الْعَوْرَةِ وَعَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُطْلَقًا قَوْلًا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلًا كَقَوْلِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ : { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كُنَّا سَفَرًا - أَوْ مُسَافِرِينَ - أَنْ لَا نَنْزِعَ أَخِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ وَلَكِنْ لَا نَنْزِعُ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ ؛ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أُمَّتَهُ أَنْ لَا يَنْزِعُوا أَخِفَافَهُمْ فِي السَّفَرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالنَّوْمِ ؛ وَلَكِنْ يَنْزِعُوهَا مِنْ الْجَنَابَةِ . وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ لِأَصْحَابِهِ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى التَّسَاخِينِ وَالْعَصَائِبِ ؛ وَالتَّسَاخِينُ هِيَ الْخُفَّانِ فَإِنَّهَا تُسَخِّنُ الرِّجْلَ وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ ؛ وَتَلَقَّى أَصْحَابُهُ عَنْهُ ذَلِكَ فَأَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَنَقَلُوا أَيْضًا أَمْرَهُ مُطْلَقًا : كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ شريح بْنِ هَانِئٍ قَالَ : أَتَيْت عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ؟ فَقَالَتْ عَلَيْك بِابْنِ أَبِي طَالِبٍ فَاسْأَلْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ : { جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ

لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ } . أَيْ : جَعَلَ لَهُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَأَطْلَقَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخِفَافَ فِي الْعَادَةِ لَا يَخْلُو كَثِيرٌ مِنْهَا عَنْ فَتْقٍ أَوْ خَرْقٍ لَا سِيَّمَا مَعَ تَقَادُمِ عَهْدِهَا وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَقُرَّاءَ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُمْ تَجْدِيدُ ذَلِكَ . { وَلَمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَقَالَ : أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ } وَهَذَا كَمَا أَنَّ ثِيَابَهُمْ كَانَ يَكْثُرُ فِيهَا الْفَتْقُ وَالْخَرْقُ حَتَّى يَحْتَاجَ لِتَرْقِيعِ : فَكَذَلِكَ الْخِفَافُ . وَالْعَادَةُ فِي الْفَتْقِ الْيَسِيرِ فِي الثَّوْبِ وَالْخُفِّ أَنَّهُ لَا يُرَقَّعُ وَإِنَّمَا يُرَقَّعُ الْكَثِيرُ وَكَانَ أَحَدُهُمْ يُصَلِّي فِي الثَّوْبِ الضَّيِّقِ حَتَّى إنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَجَدُوا تَقَلَّصَ الثَّوْبُ فَظَهَرَ بَعْضُ الْعَوْرَةِ وَكَانَ النِّسَاءُ نُهِينَ عَنْ أَنْ يَرْفَعْنَ رُءُوسَهُنَّ حَتَّى يَرْفَعَ الرِّجَالُ رُءُوسَهُمْ لِئَلَّا يَرَيْنَ عَوْرَاتِ الرِّجَالِ مَنْ ضِيقِ الْأُزُرِ مَعَ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجِ الصَّلَاةِ ؛ بِخِلَافِ سَتْرِ الرِّجْلَيْنِ بِالْخُفِّ فَلَمَّا أَطْلَقَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْرَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخِفَافِ مَعَ عِلْمِهِ بِمَا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْعَادَةِ ؛ وَلَمْ يُشْتَرَطْ أَنْ تَكُونَ سَلِيمَةً مِنْ الْعُيُوبِ : وَجَبَ حَمْلُ أَمْرِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَيَّدَ كَلَامُهُ إلَّا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ . وَكَانَ مُقْتَضَى لَفْظِهِ أَنَّ كُلَّ خُفٍّ يَلْبَسُهُ النَّاسُ وَيَمْشُونَ فِيهِ : فَلَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَفْتُوقًا أَوْ مَخْرُوقًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ لِمِقْدَارِ ذَلِكَ فَإِنَّ التَّحْدِيدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يَحُدُّهُ بِالرُّبُعِ كَمَا يُحَدُّ مِثْلَ

ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ قَالُوا : لِأَنَّهُ يُقَالُ رَأَيْت الْإِنْسَانَ إذَا رَأَيْت أَحَدَ جَوَانِبِهِ الْأَرْبَعِ فَالرُّبُعُ يَقُومُ مَقَامَ الْجَمِيعِ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ يُنَازِعُونَ فِي هَذَا وَيَقُولُونَ : التَّحْدِيدُ بِالرُّبُعِ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ . وَأَيْضًا فَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ بَلَّغُوا سُنَّتَهُ وَعَمِلُوا بِهَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ تَقْيِيدُ الْخُفِّ بِشَيْءِ مِنْ الْقُيُودِ بَلْ أَطْلَقُوا الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِالْخِفَافِ وَأَحْوَالِهَا فَعُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ فَهِمُوا عَنْ نَبِيِّهِمْ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُطْلَقًا . وَأَيْضًا فَكَثِيرٌ مِنْ خِفَافِ النَّاسِ لَا يَخْلُو مِنْ فَتْقٍ أَوْ خَرْقٍ يَظْهَرُ مِنْهُ بَعْضُ الْقَدَمِ ؛ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهَا بَطَلَ مَقْصُودُ الرُّخْصَةِ لَا سِيَّمَا وَاَلَّذِينَ يَحْتَاجُونَ إلَى لُبْسِ ذَلِكَ هُمْ الْمُحْتَاجُونَ ؛ وَهُمْ أَحَقُّ بِالرُّخْصَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُحْتَاجِينَ ؛ فَإِنَّ سَبَبَ الرُّخْصَةِ هُوَ الْحَاجَةُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ : { أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ } بَيَّنَ أَنَّ فِيكُمْ مَنْ لَا يَجِدُ إلَّا ثَوْبًا وَاحِدًا فَلَوْ أَوْجَبَ الثَّوْبَيْنِ لَمَا أَمْكَنَ هَؤُلَاءِ أَدَاءُ الْوَاجِبِ . ثُمَّ إنَّهُ أَطْلَقَ الرُّخْصَةَ فَكَذَلِكَ هُنَا لَيْسَ كُلُّ إنْسَانٍ يَجِدُ خُفًّا سَلِيمًا فَلَوْ لَمْ يُرَخِّصْ إلَّا لِهَذَا لَزِمَ الْمَحَاوِيجَ خَلْعُ خِفَافِهِمْ وَكَانَ إلْزَامُ غَيْرِهِمْ بِالْخَلْعِ أَوْلَى . ثُمَّ إذَا كَانَ إلَى الْحَاجَةِ فَالرُّخْصَةُ عَامَّةٌ .وَكُلُّ مَنْ

لَبِسَ خُفًّا وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ فَلَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا وَسَوَاءٌ كَانَ الْخُفُّ سَلِيمًا أَوْ مَقْطُوعًا ؛ فَإِنَّهُ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يَجِبُ فِعْلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى - كَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ - حَتَّى تُشْتَرَطُ فِيهِ السَّلَامَةُ مِنْ الْعُيُوبِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْمُنَازِعِ : إنَّ فَرْضَ مَا ظَهَرَ الْغَسْلُ وَمَا بَطَنَ الْمَسْحُ . فَهَذَا خَطَأٌ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا بَطَنَ مِنْ الْقَدَمِ يُمْسَحُ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي يُلَاقِيهِ مِنْ الْخُفِّ بَلْ إذَا مَسَحَ ظَهْرَ الْقَدَمِ أَجْزَأَهُ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا يَسْتَحِبُّ مَسْحَ أَسْفَلِهِ وَهُوَ إنَّمَا يَمْسَحُ خُطَطًا بِالْأَصَابِعِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْسَحَ جَمِيعَ الْخُفِّ كَمَا عَلَيْهِ أَنْ يَمْسَحَ الْجَبِيرَةَ فَإِنَّ مَسْحَ الْجَبِيرَةِ يَقُومُ مَقَامَ غَسْلِ نَفْسِ الْعُضْوِ فَإِنَّهَا لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ نَزْعُهَا إلَّا بِضَرَرِ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْجِلْدِ وَشَعْرِ الرَّأْسِ وَظُفْرِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ بِخِلَافِ الْخُفِّ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ نَزْعُهُ وَغَسْلُ الْقَدَمِ وَلِهَذَا كَانَ مَسْحُ الْجَبِيرَةِ وَاجِبًا وَمَسْحُ الْخُفَّيْنِ جَائِزًا إنْ شَاءَ مَسَحَ وَإِنْ شَاءَ خَلَعَ . وَلِهَذَا فَارَقَ مَسْحُ الْجَبِيرَةِ الْخُفَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا وَاجِبٌ وَذَلِكَ جَائِزٌ . الثَّانِي : أَنَّ هَذَا يَجُوزُ فِي الطَّهَارَتَيْنِ : الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إلَّا ذَلِكَ وَمَسْحُ الْخُفَّيْنِ لَا يَكُونُ فِي الْكُبْرَى بَلْ عَلَيْهِ أَنْ

يَغْسِلَ الْقَدَمَيْنِ كَمَا عَلَيْهِ أَنْ يُوَصِّلَ الْمَاءَ إلَى جِلْدِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَفِي الْوُضُوءِ يُجْزِئُهُ الْمَسْحُ عَلَى ظَاهِرِ شَعْرِ الرَّأْسِ وَغَسْلُ ظَاهِرِ اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ : فَكَذَلِكَ الْخِفَافُ يُمْسَحُ عَلَيْهَا فِي الصُّغْرَى ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا احْتَاجَ إلَى لُبْسِهَا صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ مَا يَسْتُرُ الْبَشَرَةَ مِنْ الشَّعْرِ الَّذِي يُمْكِنُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى بَاطِنِهِ وَلَكِنْ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَالْغَسْلُ لَا يَتَكَرَّرُ . الثَّالِثُ : أَنَّ الْجَبِيرَةَ يُمْسَحَ عَلَيْهَا إلَى أَنْ يَحِلَّهَا ؛ لَيْسَ فِيهَا تَوْقِيتٌ ؛ فَإِنَّ مَسْحَهَا لِلضَّرُورَةِ . بِخِلَافِ الْخُفِّ فَإِنَّ مَسْحَهُ مُوَقَّتٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ؛ فَإِنَّ فِيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ لَوْ كَانَ فِي خَلْعِهِ بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ ضَرَرٌ - مِثْلُ : أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ بَرْدٌ شَدِيدٌ مَتَى خَلَعَ خُفَّيْهِ تَضَرَّرَ كَمَا يُوجَدُ فِي أَرْضِ الثُّلُوجِ وَغَيْرِهَا ؛ أَوْ كَانَ فِي رُفْقَةٍ مَتَى خَلَعَ وَغَسَلَ لَمْ يَنْتَظِرُوهُ فَيَنْقَطِعُ عَنْهُمْ فَلَا يَعْرِفُ الطَّرِيقَ ؛ أَوْ يَخَافُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ ؛ أَوْ كَانَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَاتَهُ وَاجِبٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ - فَهُنَا قِيلَ : إنَّهُ يَتَيَمَّمُ : وَقِيلَ : إنَّهُ يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا لِلضَّرُورَةِ . وَهَذَا أَقْوَى لِأَنَّ لُبْسَهُمَا هُنَا صَارَ كَلُبْسِ الْجَبِيرَةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَأَحَادِيثُ التَّوْقِيتِ فِيهَا الْأَمْرُ بِالْمَسْحِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ وَلَيْسَ فِيهَا النَّهْيُ عَنْ الزِّيَادَةِ إلَّا بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ ؛ فَإِذَا كَانَ يَخْلَعُ بَعْدَ الْوَقْتِ عِنْدَ إمْكَانِ ذَلِكَ عُمِلَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ .

وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ لَمَّا خَرَجَ مِنْ دِمَشْقَ إلَى الْمَدِينَةِ يُبَشِّرُ النَّاس بِفَتْحِ دِمَشْقَ وَمَسَحَ أُسْبُوعًا بِلَا خَلْعٍ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَصَبْت السُّنَّةَ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَلَيْسَ الْخُفُّ كَالْجَبِيرَةِ مُطْلَقًا ؛ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَوْعَبُ بِالْمَسْحِ بِحَالِ ؛ وَيُخْلَعُ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى ؛ وَلَا بُدَّ مِنْ لُبْسِهِ عَلَى طَهَارَةٍ . لَكِنَّ الْمَقْصُودَ : أَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ خَلْعُهُ فَالْمَسْحُ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ خَلْعُهُ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى فَقَدْ صَارَ كَالْجَبِيرَةِ يَمْسَحُ عَلَيْهِ كُلَّهُ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى رِجْلِهِ جَبِيرَةٌ يَسْتَوْعِبُهَا . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ فِيمَا يُغَطِّي مَوْضِعَ الْغَسْلِ ؛ وَذَاكَ مَسْحٌ بِالتُّرَابِ فِي عُضْوَيْنِ آخَرَيْنِ : فَكَانَ هَذَا الْبَدَلُ أَقْرَبَ إلَى الْأَصْلِ مِنْ التَّيَمُّمِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ جَرِيحًا وَأَمْكَنَهُ مَسْحُ جِرَاحِهِ بِالْمَاءِ دُونَ الْغَسْلِ : فَهَلْ يَمْسَحُ بِالْمَاءِ أَوْ يَتَيَمَّمُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَمَسْحُهُمَا بِالْمَاءِ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ مَسْحُ الْجَبِيرَةِ وَمَسْحُ الْخُفِّ وَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ فَلِأَنْ يَكُونَ مَسْحُ الْعُضْوِ بِالْمَاءِ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . الرَّابِعُ : أَنَّ الْجَبِيرَةَ يَسْتَوْعِبُهَا بِالْمَسْحِ كَمَا يَسْتَوْعِبُ الْجِلْدَ ؛ لِأَنَّ مَسْحَهَا كَغَسْلِهِ وَهَذَا أَقْوَى عَلَى قَوْلِ مَنْ يُوجِبُ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ .

الْخَامِسُ : أَنَّ الْجَبِيرَةَ يَمْسَحُ عَلَيْهَا وَإِنْ شَدَّهَا عَلَى حَدَثٍ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد ؛ وَهُوَ الصَّوَابُ . وَمَنْ قَالَ : لَا يَمْسَحُ عَلَيْهَا إلَّا إذَا لَبِسَهَا عَلَى طَهَارَةٍ لَيْسَ مَعَهُ إلَّا قِيَاسُهَا عَلَى الْخُفَّيْنِ وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ ؛ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَمَسْحُهَا كَمَسْحِ الْجِلْدَةِ وَمَسْحُ الشَّعْرِ ؛ لَيْسَ كَمَسْحِ الْخُفَّيْنِ وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَد مَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ عِنْدَهُ بِجِلْدَةِ الْإِنْسَانِ لَا بِالْخُفَّيْنِ وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يَجْعَلُهَا كَالْخُفَّيْنِ وَيَجْعَلُ الْبُرْءَ كَانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْمَسْحِ فَيَقُولُ بِبُطْلَانِ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ كَمَا قَالُوا فِي الْخُفِّ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ : أَنَّهَا إذَا سَقَطَتْ سُقُوطَ بُرْءٍ كَانَ بِمَنْزِلَةِ حَلْقِ شَعْرِ الرَّأْسِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَبِمَنْزِلَةِ كَشْطِ الْجِلْدِ لَا يُوجِبُ إعَادَةَ غُسْلِ الْجَنَابَةِ عَلَيْهَا إذَا كَانَ قَدْ مَسَحَ عَلَيْهَا مِنْ الْجَنَابَةِ وَكَذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ لَا يَجِبُ غَسْلُ الْمَحَلِّ وَلَا إعَادَةُ الْوُضُوءِ كَمَا قِيلَ : إنَّهُ يَجِبُ فِي خَلْعِ الْخُفِّ وَالطَّهَارَةِ وَجَبَتْ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِيَكُونَ إذَا أَحْدَثَ يَتَعَلَّقُ الْحَدَثُ بِالْخُفَّيْنِ ؛ فَيَكُونُ مَسْحُهُمَا كَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَعَلَّقَ الْحَدَثُ بِالْقَدَمِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ . ثُمَّ قِيلَ : إنَّ الْمَسْحَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ عَنْ الرِّجْلِ فَإِذَا خَلَعَهَا كَانَ كَأَنَّهُ لَا يَمْسَحُ عَلَيْهَا فَيَغْسِلُهَا عِنْدَ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ الْمُوَالَاةَ وَمَنْ يَشْتَرِطُ الْمُوَالَاةَ يُعِيدُ الْوُضُوءَ . وَقِيلَ : بَلْ حَدَثُهُ ارْتَفَعَ رَفْعًا مُؤَقَّتًا

إلَى حِينِ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَخَلْعِ الْخُفِّ لَكِنْ لَمَّا خَلَعَهُ انْقَضَتْ الطَّهَارَةُ فِيهِ وَالطَّهَارَةُ الصُّغْرَى لَا تَتَبَعَّضُ لَا فِي ثُبُوتِهَا وَلَا فِي زَوَالِهَا . فَإِنَّ حُكْمَهَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ مَحَلِّهَا فَإِنَّهَا غَسْلُ أَعْضَاءٍ أَرْبَعَةٍ وَالْبَدَنُ كُلُّهُ يَصِيرُ طَاهِرًا فَإِذَا غُسِلَ عُضْوٌ أَوْ عُضْوَانِ لَمْ يَرْتَفِعْ الْحَدَثُ حَتَّى يَغْسِلَ الْأَرْبَعَةَ وَإِذَا انْتَقَضَ الْوُضُوءُ فِي عُضْوٍ انْتَقَضَ فِي الْجَمِيعِ . وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ : إنَّهُ يُعِيدُ الْوُضُوءَ وَمِثْلُ هَذَا مُنْتَفٍ فِي الْجَبِيرَةِ فَإِنَّ الْجَبِيرَةَ يَمْسَحُ عَلَيْهَا فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى وَلَا يُجْزِئُ فِيهَا الْبَدَلُ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَيْهَا كَالْمَسْحِ عَلَى الْجِلْدِ وَالشَّعْرِ . وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا : إنَّهُ إذَا سَقَطَتْ لِبُرْءِ بَطَلَتْ الطَّهَارَةُ أَوْ غَسَلَ مَحَلَّهَا وَإِذَا سَقَطَتْ لِغَيْرِ بُرْءٍ : فَعَلَى وَجْهَيْنِ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوهَا مُؤَقَّتَةً بِالْبُرْءِ وَجَعَلُوا سُقُوطَهَا بِالْبُرْءِ كَانْقِطَاعِ مُدَّةِ الْمَسْحِ . وَأَمَّا إذَا سَقَطَتْ قَبْلَ الْبُرْءِ فَقِيلَ : هِيَ كَمَا لَوْ خَلَعَ الْخُفَّ قَبْلَ الْمُدَّةِ . وَقِيلَ : لَا تَبْطُلُ الطَّهَارَةُ هُنَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ غَسْلُهَا قَبْلَ الْبُرْءِ بِخِلَافِ الرِّجْلِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ غَسْلُهَا إذَا خُلِعَ الْخُفُّ فَلِهَذَا فَرَّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْخُفِّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ غَسْلُهَا بَقِيَتْ الطَّهَارَةُ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْبُرْءِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ غَسْلُ مَحَلِّهَا .

وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْبُرْءَ كَالْوَقْتِ فِي الْخُفَّيْنِ ضَعِيفٌ فَإِنَّ طَهَارَةَ الْجَبِيرَةِ لَا تَوْقِيتَ فِيهَا أَصْلًا حَتَّى يُقَالَ : إذَا انْقَضَى الْوَقْتُ بَطَلَتْ الطَّهَارَةُ . بِخِلَافِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَإِنَّهُ مُوَقَّتٌ وَنَزْعُهَا مُشَبَّهٌ بِخَلْعِ الْخُفِّ وَهُوَ أَيْضًا تَشْبِيهٌ فَاسِدٌ فَإِنَّهُ إنْ شُبِّهَ بِخَلْعِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ظَهَرَ الْفَرْقُ وَإِنَّمَا يُشْبِهُ هَذَا نَزْعَهَا قَبْلَ الْبُرْءِ وَفِيهِ الْوَجْهَانِ وَإِنْ شُبِّهَ بِخَلْعِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَوُجُودُ الْخَلْعِ كَعَدَمِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَمَرَهُ بِخَلْعِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ بِخِلَافِ الْجَبِيرَةِ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا وَقْتًا بَلْ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ مَا يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ مِنْ جِلْدٍ وَشَعْرٍ وَظُفْرٍ وَذَاكَ إذَا احْتَاجَ الرَّجُلُ إلَى إزَالَتِهِ أَزَالَهُ وَلَمْ تَبْطُلْ طَهَارَتُهُ . وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إلَى بُطْلَانِهَا وَأَنَّهُ يُطَهِّرُ مَوْضِعَهُ وَهَذَا مُشْبِهٌ قَوْلَ مَنْ قَالَ : مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْجَبِيرَةِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : خَلْعُ الْخُفِّ لَا يُبْطِلُ الطَّهَارَةَ . وَالْقَوْلُ الْوَسَطُ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَإِلْحَاقُ الْجَبِيرَةِ بِمَا يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ أَوْلَى كَالْوَسَخِ الَّذِي عَلَى يَدِهِ وَالْحِنَّاءِ وَالْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ وَاجِبٌ لَا يُمْكِنُهُ تَخْيِيرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَسْلِ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهَا إذَا شَدَّهَا وَهُوَ مُحْدِثٌ نُقِلَ إلَى التَّيَمُّمِ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ طَهَارَةَ الْمَسْحِ بِالْمَاءِ فِي مَحَلِّ الْغَسْلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ طِهَارَةِ الْمَسْحِ بِالتُّرَابِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْغَسْلِ الْوَاجِبِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ

أَوْلَى مِنْ التُّرَابِ وَمَا كَانَ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ مِمَّا يَكُونُ فِي غَيْرِهِ . فَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَعَلَى الْجَبِيرَةِ وَعَلَى نَفْسِ الْعُضْوِ : كُلُّ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ التَّيَمُّمِ حَيْثُ كَانَ وَلِأَنَّهُ إذَا شَدَّهَا عَلَى حَدَثِ مَسَحَ عَلَيْهَا فِي الْجَنَابَةِ فَفِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى أَوْلَى . وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ لَا يَمْسَحُ عَلَيْهَا مِنْ الْجَنَابَةِ حَتَّى يَشُدَّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ : كَانَ هَذَا قَوْلًا بِلَا أَصْلٍ يُقَاسُ عَلَيْهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا . وَإِنْ قِيلَ : بَلْ إذَا شَدَّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ مِنْ الْجَنَابَةِ مَسَحَ عَلَيْهَا بِخِلَافِ مَا إذَا شَدَّهَا وَهُوَ جُنُبٌ . قِيلَ : هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى شَدِّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ مِنْ الْجَنَابَةِ فَإِنَّهُ قَدْ يَجْنُبُ - وَالْمَاءُ يَضُرُّ جِرَاحَهُ وَيَضُرُّ الْعَظْمَ الْمَكْسُورَ وَيَضُرُّ الْفِصَادَ - فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ أَنْ يَشُدَّهُ بَعْدَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ يَمْسَحُ عَلَيْهَا . وَهَذِهِ مِنْ أَحْسَنِ الْمَسَائِلِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ مَسْحَ الْخُفِّ لَا يُسْتَوْعَبُ فِيهِ الْخُفُّ بَلْ يَجْزِي فِيهِ مَسْحُ بَعْضِهِ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا بَطَنَ مِنْ الْقَدَمِ مُسِحَ مَا يَلِيهِ مِنْ الْخُفِّ بَلْ إذَا مَسَحَ ظَهْرَ الْقَدَمِ كَانَ هَذَا الْمَسْحُ مُجْزِئًا عَنْ بَاطِنِ الْقَدَمِ وَعَنْ الْعَقِبِ .

وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ الْخَرْقُ فِي مَوْضِعٍ وَمَسَحَ مَوْضِعًا آخَرَ : كَانَ ذَلِكَ مَسْحًا مُجْزِئًا عَنْ غَسْلِ جَمِيعِ الْقَدَمِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْخَرْقُ فِي مُؤَخِّرِ الْخُفِّ وَأَسْفَلِهِ فَإِنَّ مَسْحَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَا يَجِبُ بَلْ وَلَا يُسْتَحَبُّ وَلَوْ كَانَ الْخَرْقُ فِي الْمُقَدِّمِ فَالْمَسْحُ خُطُوطٌ بَيْنَ الْأَصَابِعِ . فَإِنْ قِيلَ : مُرَادُنَا أَنَّ مَا بَطَنَ يَجْزِي عَنْهُ الْمَسْحُ وَمَا ظَهَرَ يَجِبُ غَسْلُهُ . قِيلَ هَذَا : دَعْوَى مَحَلِّ النِّزَاعِ فَلَا تَكُونُ حُجَّةً فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ الْخُفِّ الْمُخَرَّقِ فَرْضُهُ غَسْلُهُ فَهَذَا رَأْسُ الْمَسْأَلَةِ فَمَنْ احْتَجَّ بِهِ كَانَ مُثْبِتًا لِلشَّيْءِ بِنَفْسِهِ . وَإِنْ قَالُوا بِأَنَّ الْمَسْحَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى مَسْتُورٍ أَوْ مُغَطًّى وَنَحْوَ ذَلِكَ : كَانَتْ هَذِهِ كُلُّهَا عِبَارَاتٍ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ دَعْوَى رَأْسِ الْمَسْأَلَةِ بِلَا حُجَّةٍ أَصْلًا . وَالشَّارِعُ أَمَرَنَا بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُطْلَقًا وَلَمْ يُقَيِّدْهُ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي : أَنَّهُ لَا يُقَيَّدُ .
وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ قَدْ اشْتَرَطَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ شَرْطَيْنِ : هَذَا أَحَدُهُمَا : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سَاتِرًا لِمَحَلِّ الْفَرْضِ . وَقَدْ تَبَيَّنَ ضَعْفُ هَذَا الشَّرْطِ .

وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْخُفُّ يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ . وَقَدْ اشْتَرَطَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِشَدِّهِ بِشَيْءِ يَسِيرٍ أَوْ خَيْطٍ مُتَّصِلٍ بِهِ أَوْ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ : لَمْ يُمْسَحْ وَإِنْ ثَبَتَ بِنَفْسِهِ لَكِنَّهُ لَا يَسْتُرُ جَمِيعَ الْمَحَلِّ إلَّا بِالشَّدِّ - كالزربول الطَّوِيلِ الْمَشْقُوقِ : يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ لَكِنْ لَا يَسْتُرُ إلَى الْكَعْبَيْنِ إلَّا بِالشَّدِّ - فَفِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَمْسَحُ عَلَيْهِ . وَهَذَا الشَّرْطُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ أَحْمَد بَلْ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتَا بِأَنْفُسِهِمَا بَلْ بِنَعْلَيْنِ تَحْتَهُمَا وَأَنَّهُ يَمْسَحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ مَا لَمْ يَخْلَعْ النَّعْلَيْنِ . فَإِذَا كَانَ أَحْمَد لَا يَشْتَرِطُ فِي الْجَوْرَبَيْنِ أَنْ يَثْبُتَا بِأَنْفُسِهِمَا بَلْ إذَا ثَبَتَا بِالنَّعْلَيْنِ جَازِ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا : فَغَيْرُهُمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَهُنَا قَدْ ثَبَتَا بِالنَّعْلَيْنِ وَهُمَا مُنْفَصِلَانِ عَنْ الْجَوْرَبَيْنِ . فَإِذَا ثَبَتَ الْجَوْرَبَانِ بِشَدِّهِمَا بِخُيُوطِهِمَا كَانَ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا أَوْلَى بِالْجَوَازِ . وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْجَوْرَبَيْنِ : فالزربول الَّذِي لَا يَثْبُتُ إلَّا بِسَيْرِ يَشُدُّهُ بِهِ مُتَّصِلًا بِهِ أَوْ مُنْفَصِلًا عَنْهُ أَوْلَى بِالْمَسْحِ عَلَيْهِ مِنْ الْجَوْرَبَيْنِ . وَهَكَذَا مَا يُلْبَسُ عَلَى الرِّجْلِ مِنْ فَرْوٍ وَقُطْنٍ وَغَيْرِهِمَا : إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِشَدِّهِمَا بِخَيْطِ مُتَّصِلٍ أَوْ مُنْفَصِلٍ مَسَحَ عَلَيْهِمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . فَإِنْ قِيلَ : فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَى اللَّفَائِفِ وَهُوَ : أَنْ

يُلَفَّ عَلَى الرِّجْلِ لَفَائِفُ مِنْ الْبُرْدِ أَوْ خَوْفَ الْحِفَاءِ أَوْ مِنْ جِرَاحٍ بِهِمَا وَنَحْوَ ذَلِكَ . قِيلَ : فِي هَذَا وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا الْحَلْوَانِيّ . وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَمْسَحُ عَلَى اللَّفَائِفِ وَهِيَ بِالْمَسْحِ أَوْلَى مِنْ الْخُفِّ وَالْجَوْرَبِ فَإِنَّ تِلْكَ اللَّفَائِفَ إنَّمَا تُسْتَعْمَلُ لِلْحَاجَةِ فِي الْعَادَةِ وَفِي نَوْعِهَا ضَرَرٌ : إمَّا إصَابَةُ الْبَرْدِ وَإِمَّا التَّأَذِّي بِالْحِفَاءِ وَإِمَّا التَّأَذِّي بِالْجُرْحِ . فَإِذَا جَازَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْجَوْرَبَيْنِ فَعَلَى اللَّفَائِفِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَمَنْ ادَّعَى فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إجْمَاعًا فَلَيْسَ مَعَهُ إلَّا عَدَمُ الْعِلْمِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْقُلَ الْمَنْعَ عَنْ عَشَرَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ فَضْلًا عَنْ الْإِجْمَاعِ . وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ خَفِيٌّ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ حَتَّى إنَّ طَائِفَةً مِنْ الصَّحَابَةِ أَنْكَرُوهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْبَيْتِ أَنْكَرُوهُ مُطْلَقًا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ ؛ وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ جَوَازُهُ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ . وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَد كِتَابًا كَبِيرًا فِي " الْأَشْرِبَةِ " فِي تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا عَنْ الصَّحَابَةِ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : هَذَا صَحَّ فِيهِ الْخِلَافُ عَنْ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِ الْمُسْكِرِ . وَمَالِكٌ مَعَ سِعَةِ عِلْمِهِ وَعُلُوِّ

قَدْرِهِ قَالَ فِي " كِتَابِ السِّرِّ " : لَأَقُولَنَّ قَوْلًا لَمْ أَقُلْهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي عَلَانِيَةٍ . وَتَكَلَّمَ بِكَلَامِ مَضْمُونُهُ إنْكَارُهُ : إمَّا مُطْلَقًا ؛ وَإِمَّا فِي الْحَضَرِ . وَخَالَفَهُ أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : هَذَا ضَعْفٌ لَهُ حَيْثُ لَمْ يَقُلْهُ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَانِيَةً . وَاَلَّذِينَ جَوَّزُوهُ مَنَعَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مِنْ الْمَسْحِ عَلَى الجرموقين الْمَلْبُوسَيْنِ عَلَى الْخُفَّيْنِ . وَالثَّلَاثَةُ مَنَعُوا الْمَسْحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ : فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْبَابَ مِمَّا هَابَهُ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ حَيْثُ كَانَ الْغَسْلُ هُوَ الْفَرْضَ الظَّاهِرَ الْمَعْلُومَ ؛ فَصَارُوا يُجَوِّزُونَ الْمَسْحَ حَيْثُ يَظْهَرُ ظُهُورًا لَا حِيلَةَ فِيهِ وَلَا يَطْرُدُونَ فِيهِ قِيَاسًا صَحِيحًا وَلَا يَتَمَسَّكُونَ بِظَاهِرِ النَّصِّ الْمُبِيحِ وَإِلَّا فَمَنْ تَدَبَّرَ أَلْفَاظَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْطَى الْقِيَاسَ حَقَّهُ : عَلِمَ أَنَّ الرُّخْصَةَ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَاسِعَةٌ ؛ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَمِنْ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا .
وَقَدْ كَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمْسَحُ عَلَى خِمَارِهَا فَهَلْ تَفْعَلُ ذَلِكَ بِدُونِ إذْنِهِ وَكَانَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَمْسَحَانِ عَلَى الْقَلَانِسِ ؛ وَلِهَذَا جَوَّزَ أَحْمَد هَذَا وَهَذَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ؛ وَجَوَّزَ أَيْضًا الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ ؛ لَكِنْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ رَأَى أَنَّ الْعِمَامَةَ الَّتِي لَيْسَتْ مُحَنَّكَةً الْمُتَقَطِّعَةَ : كَانَ أَحْمَد يَكْرَهُ لُبْسَهَا . وَكَذَا مَالِكٌ يَكْرَهُ لُبْسَهَا أَيْضًا لِمَا جَاءَ

فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ ؛ وَشَرَطَ فِي الْمَسْحِ عَلَيْهَا أَنْ تَكُونَ مُحَنَّكَةً . وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي وَأَتْبَاعُهُ وَذَكَرُوا فِيهَا - إذَا كَانَ لَهَا ذُؤَابَةٌ - وَجْهَيْنِ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد : إذَا كَانَ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يُجَوِّزُ الْمَسْحَ عَلَى الْقَلَانِسِ الدَّنِيَّاتِ - وَهِيَ الْقَلَانِسُ الْكِبَارُ - فَلَأَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ عَلَى الْعِمَامَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . وَالسَّلَفُ كَانُوا يُحَنِّكُونَ عَمَائِمَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ وَيُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؛ فَإِنْ لَمْ يَرْبُطُوا الْعَمَائِمَ بِالتَّحْنِيكِ وَإِلَّا سَقَطَتْ وَلَمْ يُمْكِنْ مَعَهَا طَرْدُ الْخَيْلِ ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ أَحْمَد عَنْ أَهْلِ الشَّامِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَافِظُونَ عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَنِهِ هُمْ الْمُجَاهِدِينَ . وَذَكَرَ إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه بِإِسْنَادِهِ أَنَّ أَوْلَادَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَانُوا يَلْبَسُونَ الْعَمَائِمَ بِلَا تَحْنِيكٍ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْحِجَازِ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ لَا يُجَاهِدُونَ . وَرَخَّصَ إسْحَاقُ وَغَيْرُهُ فِي لُبْسِهَا بِلَا تَحْنِيكٍ وَالْجُنْدُ الْمُقَاتِلَةُ لَمَّا احْتَاجُوا إلَى رَبْطِ عَمَائِمِهِمْ صَارُوا يَرْبُطُونَهَا : إمَّا بِكَلَالِيبَ ؛ وَإِمَّا بِعِصَابَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهَذَا مَعْنَاهُ مَعْنَى التَّحْنِيكِ كَمَا أَنَّ مِنْ السَّلَفِ مَنْ كَانَ يَرْبُطُ وَسَطَهُ بِطَرَفِ عِمَامَتِهِ وَالْمَنَاطِقُ يَحْصُلُ بِهَا هَذَا الْمَقْصُودُ . وَفِي نَزْعِ الْعِمَامَةِ الْمَرْبُوطَةِ بِعِصَابَةِ وَكَلَالِيبَ مِنْ الْمَشَقَّةِ مَا فِي نَزْعِ الْمُحَنَّكَةِ . وَقَدْ ثَبَتَ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ

صَحِيحَةٍ لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْفَرْضُ سَقَطَ بِمَسْحِ مَا بَدَا مِنْ الرَّأْسِ ؛ وَالْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ مُسْتَحَبٌّ . وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ الْفَرْضُ سَقَطَ بِمَسْحِ الْعِمَامَةِ وَمَسْحِ مَا بَدَا مِنْ الرَّأْسِ ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ . وَهَلْ هُوَ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ ؛ أَوْ لَيْسَ بِوَاجِبِ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَد الْمَشْهُورُ عَنْهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ إنَّمَا كَانَ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ لِأَجْلِ الضَّرَرِ وَهُوَ مَا إذَا حَصَلَ بِكَشْفِ الرَّأْسِ ضَرَرٌ مِنْ بَرْدٍ وَمَرَضٍ ؛ فَيَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ كَمَا جَاءَ : أَنَّهُمْ كَانُوا فِي سَرِيَّةٍ فَشَكَوْا الْبَرْدَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى التَّسَاخِينِ وَالْعَصَائِبِ - وَالْعَصَائِبُ هِيَ الْعَمَائِمُ - وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبِلَادَ الْبَارِدَةَ يَحْتَاجُ فِيهَا مَنْ يَمْسَحُ التَّسَاخِينَ وَالْعَصَائِبَ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ فَأَهْلُ الشَّامِ وَالرُّومِ وَنَحْوِ هَذِهِ الْبِلَادِ أَحَقُّ بِالرُّخْصَةِ فِي هَذَا وَهَذَا مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْمَاشُونَ فِي الْأَرْضِ الْحَزِنَةِ وَالْوَعِرَةِ أَحَقُّ بِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ مِنْ الْمَاشِينَ فِي الْأَرْضِ السَّهْلَةِ وَخِفَافُ هَؤُلَاءِ فِي الْعَادَةِ لَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهَا الْحَجَرُ ؛ فَهُمْ بِرُخْصَةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخِفَافِ الْمُخَرَّقَةِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ .

ثُمَّ الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ يَقُولُ : إذَا ظَهَرَ بَعْضُ الْقَدَمِ لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ فَقَدْ يَظْهَرُ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنْ الْقَدَمِ كَمَوْضِعِ الْخَرَزِ - وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْخِفَافِ - فَإِنْ مَنَعُوا مِنْ الْمَسْحِ عَلَيْهَا ضَيَّقُوا تَضْيِيقًا يَظْهَرُ خِلَافُهُ لِلشَّرِيعَةِ بِلَا حُجَّةٍ مَعَهُمْ أَصْلًا . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا لَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ حَتَّى يَقُولُوا : فَرْضُهُ الْغَسْلُ وَإِنْ قَالُوا : هَذَا يُعْفَى عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ضَابِطٌ فِيمَا يَمْنَعُ وَفِيمَا لَا يُمْنَعُ . وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُمْ : إذَا ظَهَرَ بَعْضُ الْقَدَمِ إنْ أَرَادُوا ظُهُورَهُ لِلْبَصَرِ فَأَبْصَارُ النَّاسِ مَعَ اخْتِلَافِ إدْرَاكِهَا قَدْ يَظْهَرُ لَهَا مِنْ الْقَدَمِ مَا لَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ وَإِنْ أَرَادُوا مَا يَظْهَرُ وَيُمْكِنُ مَسُّهُ بِالْيَدِ فَقَدْ يُمْكِنُ غَسْلُهُ بِلَا مَسٍّ . وَإِنْ قَالُوا : مَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ فَالْإِمْكَانُ يَخْتَلِفُ قَدْ يُمْكِنُ مَعَ الْجُرْحِ وَلَا يُمْكِنُ بِدُونِهِ فَإِنَّ سَمَّ الْخِيَاطِ يُمْكِنُ غَسْلُهُ إذَا وَضَعَ الْقَدَمَ فِي مَغْمَزِهِ وَصَبَرَ عَلَيْهِ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَاءُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ لَا يَتَيَقَّنُ وُصُولَ الْمَاءِ عَلَيْهِ إلَّا بِخَضْخَضَةِ وَنَحْوِهَا وَلَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ كَمَا يَغْسِلُ الْقَدَمَ وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَد أَقْوَى ؛ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ إذَا لُبِسَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ وَإِنْ ظَهَرَ مِنْ جَوَانِبِ الرَّأْسِ مَا يَمْسَحُ عَلَيْهِ وَلَا يَجِبُ مَسْحُ ذَلِكَ . وَهَلْ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى النَّاصِيَةِ مَعَ ذَلِكَ ؟ فِيهِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ . فَلَمْ

يَشْتَرِطْ فِي الْمَمْسُوحِ أَنْ يَكُونَ سَاتِرًا لِجَمِيعِ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَأَوْجَبَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَالشَّافِعِيُّ أَيْضًا يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ كَمَا يَسْتَحِبُّهُ أَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : فَعُلِمَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي اللِّبَاسِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ سَوَاءٌ سَتَرَ جَمِيعَ مَحَلِّ الْفَرْضِ أَوْ لَمْ يَسْتُرْهُ . وَالْخِفَافُ قَدْ اُعْتِيدَ فِيهَا أَنْ تُلْبَسَ مَعَ الْفَتْقِ وَالْخَرْقِ وَظُهُورِ بَعْضِ الرِّجْلِ ؛ وَأَمَّا مَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ فَذَاكَ لَيْسَ بِخُفِّ أَصْلًا وَلِهَذَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ لُبْسُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّعْلَيْنِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَنُبَيِّنُ نَسْخَ الْأَمْرِ بِالْقَطْعِ ؛ وَأَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ بِهِ حِينَ لَمْ يُشْرَعْ الْبَدَلُ أَيْضًا .
فَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ دَلِيلِهِمْ - وَهُوَ قَوْلُهُمْ : يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ - مَمْنُوعٌ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؛ فَإِنَّ عِنْدَهُمَا يُجْمَعُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالْغَسْلِ فِيمَا إذَا أَمْكَنَ غَسْلُ بَعْضِ الْبَدَنِ دُونَ الْبَعْضِ ؛ لِكَوْنِ الْبَاقِي جَرِيحًا ؛ أَوْ كَوْنِ الْمَاءِ قَلِيلًا وَيُجْمَعُ بَيْنَ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ مَعَ الْعِمَامَةِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تَبُوكَ ؛ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ مَسْحَ الْخُفَّيْنِ كَمَا أَوْجَبَ غَسْلَ جَمِيعِ الْبَدَنِ : أَمْكَنَ أَنْ يَغْسِلَ مَا ظَهَرَ وَيَمْسَحَ مَا بَطَنَ ؛ كَمَا يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْجَبِيرَةِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا رَبَطَهَا عَلَى بَعْضِ مَكَانِ مَسْحِ الْجَبِيرَةِ وَغَسَلَ أَوْ مَسَحَ مَا بَيْنَهُمَا فَجَمَعَ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ سُقُوطَ غَسْلِ مَا ظَهَرَ

مِنْ الْقَدَمِ لَمْ يُمْكِنْ لِأَنَّهُ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ ؛ بَلْ لِأَنَّ مَسْحَ ظَهْرِ الْخُفِّ وَلَوْ خَطًّا بِالْأَصَابِعِ يُجْزِئُ عَنْ جَمِيعِ الْقَدَمِ فَلَا يَجِبُ غَسْلُ شَيْءٍ مِنْهُ لَا مَا ظَهَرَ وَلَا مَا بَطَنَ كَمَا أَمَرَ صَاحِبُ الشَّمْسِ لِأُمَّتِهِ إذْ أَمَرَهُمْ إذَا كَانُوا مُسَافِرِينَ أَنْ لَا يَنْزِعُوا خِفَافَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ لَا مِنْ غَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ وَلَا نَوْمٍ فَأَيُّ خُفٍّ كَانَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ دَخَلَ فِي مُطْلَقِ النَّصِّ ؟ . كَمَا أَنَّ { قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ ؟ فَقَالَ : لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ } هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ بِذَلِكَ لَمَّا كَانَ بِالْمَدِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ قَدْ شُرِعَتْ رُخْصَةُ الْبَدَلِ . فَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ لَا فِي لُبْسِ السَّرَاوِيلِ إذَا لَمْ يَجِدُوا الْإِزَارَ وَلَا فِي لُبْسِ الْخُفِّ مُطْلَقًا . ثُمَّ إنَّهُ فِي عَرَفَاتٍ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ : { السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ وَالْخِفَافُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ } هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَحَدِيثُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَرَوَاهُ جَابِرٌ وَحَدِيثُهُ فِي مُسْلِمٍ فَأَرْخَصَ لَهُمْ بِعَرَفَاتِ فِي الْبَدَلِ فَأَجَازَ لَهُمْ لُبْسَ السَّرَاوِيلِ إذَا لَمْ يَجِدُوا الْإِزَارَ بِلَا فَتْقٍ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فَمَنْ اشْتَرَطَ فَتْقَهُ خَالَفَ النَّصَّ . وَأَجَازَ لَهُمْ حِينَئِذٍ لُبْسَ الْخُفَّيْنِ

إذَا لَمْ يَجِدُوا النَّعْلَيْنِ بِلَا قَطْعٍ فَمَنْ اشْتَرَطَ الْقَطْعَ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ فَإِنَّ السَّرَاوِيلَ الْمَفْتُوقَ وَالْخُفَّ الْمَقْطُوعَ لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى السَّرَاوِيلِ وَالْخُفِّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ كَمَا أَنَّ الْقَمِيصَ إذَا فُتِقَ وَصَارَ قَطْعًا لَمْ يُسَمَّ سَرَاوِيلَ وَكَذَلِكَ الْبُرْنُسُ وَغَيْرُ ذَلِكَ . فَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْقَطْعِ أَوَّلًا لِأَنَّ رُخْصَةَ الْبَدَلِ لَمْ تَكُنْ شُرِعَتْ فَأَمَرَهُمْ بِالْقَطْعِ حِينَئِذٍ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ يَصِيرُ كَالنَّعْلَيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِخُفِّ . وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي إذْنِهِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ . وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُلْبَسُ تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ مِنْ مَدَاسٍ وَجُمْجُمٍ وَغَيْرِهِمَا كَالْخُفِّ الْمَقْطُوعِ تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ فَتَكُونُ إبَاحَتُهُ أَصْلِيَّةً كَمَا تُبَاحُ النَّعْلَانِ لَا أَنَّهُ أُبِيحَ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ وَإِنَّمَا الْمُبَاحُ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ هُوَ الْخُفُّ الْمُطْلَقُ وَالسَّرَاوِيلُ .
وَدَلَّتْ نُصُوصُهُ الْكَرِيمَةُ وَأَلْفَاظُهُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي هِيَ مَصَابِيحُ الْهُدَى عَلَى أُمُورٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَى مَعْرِفَتِهَا قَدْ تَنَازَعَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ : مِنْهَا : أَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لِلْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ يَلْبَسُ الْخُفَّ : إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا مَعَ الْقَطْعِ : كَانَ ذَلِكَ إذْنًا فِي كُلِّ مَا يُسَمَّى خُفًّا سَوَاءٌ كَانَ سَلِيمًا أَوْ مَعِيبًا . وَكَذَلِكَ لَمَّا أَذِنَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ كَانَ ذَلِكَ إذْنًا فِي كُلِّ خُفٍّ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ قِيَاسَ حُكْمٍ عَلَى حُكْمٍ حَتَّى يُقَالَ : ذَاكَ أَبَاحَ لَهُ لُبْسَهُ وَهَذَا أَبَاحَ الْمَسْحَ عَلَيْهِ بَلْ الْمَقْصُودُ أَنَّ لَفْظَ الْخُفِّ فِي كَلَامِهِ يَتَنَاوَلُ هَذَا بِالْإِجْمَاعِ . فَعُلِمَ أَنَّ لَفْظَ

الْخُفِّ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا فَمَنْ ادَّعَى فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّهُ أَرَادَ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْخِفَافِ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ . وَإِذَا كَانَ الْخُفُّ فِي لَفْظِهِ مُطْلَقًا - حَيْثُ أَبَاحَ لُبْسَهُ لِلْمُحْرِمِ وَكُلُّ خُفٍّ جَازَ لِلْمُحْرِمِ لُبْسُهُ وَإِنْ قَطَعَهُ - جَازَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَقْطَعْهُ . الثَّانِي : أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ وَلَا مَا يُشْبِهُ النَّعْلَيْنِ - مِنْ خُفٍّ مَقْطُوعٍ أَوْ جُمْجُمٍ أَوْ مَدَاسٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - فَإِنَّهُ يَلْبَسُ أَيَّ خُفٍّ شَاءَ وَلَا يَقْطَعُهُ . هَذَا أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ بِذَلِكَ فِي عَرَفَاتٍ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنْ لُبْسِ الْخُفِّ مُطْلَقًا وَبَعْدَ أَمْرِهِ مَنْ لَمْ يَجِدْ أَنْ يَقْطَعَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِعَرَفَاتِ بِقَطْعٍ ؛ مَعَ أَنَّ الَّذِينَ حَضَرُوا بِعَرَفَاتِ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا كَلَامَهُ بِالْمَدِينَةِ بَلْ حَضَرَ مِنْ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ وَالْبَوَادِي وَغَيْرِهَا خَلْقٌ عَظِيمٌ حَجُّوا مَعَهُ لَمْ يَشْهَدُوا جَوَابَهُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بَلْ أَكْثَرُ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ لَمْ يَشْهَدُوا ذَلِكَ الْجَوَابَ . وَذَلِكَ الْجَوَابُ لَمْ يَذْكُرْهُ ابْتِدَاءً لِتَعْلِيمِ جَمِيعِ النَّاسِ بَلْ { سَأَلَهُ سَائِلٌ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ : مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ ؟ فَقَالَ : لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ : إلَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ } وَابْنُ عُمَرَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ إلَّا هَذَا كَمَا أَنَّهُ فِي الْمَوَاقِيتِ لِمَ

يَسْمَعُ إلَّا ثَلَاثَ مَوَاقِيتَ قَوْلُهُ : { أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الحليفة وَأَهْلُ الشَّامِ الْجُحْفَةُ وَأَهْلُ نَجْدٍ قَرْنٌ } قَالَ ابْنُ عُمَرَ : وَذَكَرَ لِي - وَلَمْ أَسْمَعْ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ يلملم وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ لَهُ صَحِيحٌ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَابْنُ عَبَّاسٍ أَخْبَرَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ يلملم وَلِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الحليفة وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يلملم . وَقَالَ : هُنَّ لَهُنَّ وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ } فَكَانَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ الْعِلْمِ بِهَذِهِ السُّنَّةِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ . وَفِي حَدِيثِهِ ذِكْرُ أَرْبَعِ مَوَاقِيتَ وَذِكْرُ أَحْكَامِ النَّاسِ كُلِّهِمْ إذَا مَرُّوا عَلَيْهَا أَوْ أَحْرَمُوا مِنْ دُونِهَا . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُبَلِّغُ الدِّينَ بِحَسَبِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَدْ أَسْلَمُوا وَأَسْلَمَ أَهْلُ نَجْدٍ وَأَسْلَمَ مَنْ كَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّامِ وَقَّتَ الثَّلَاثَ وَأَهْلُ الْيَمَنِ إنَّمَا أَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَلِهَذَا لَمْ يَرَ أَكْثَرُهُمْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ كَانُوا مُخَضْرَمِينَ فَلَمَّا أَسْلَمُوا وَقَّتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : { أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ قُلُوبًا وَأَلْيَنُ أَفْئِدَةً الْإِيمَانُ يَمَانِيٌّ وَالْفِقْهُ يَمَانِيٌّ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ }

ثُمَّ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ { أَنَّهُ لَمَّا فُتِحَتْ أَطْرَافُ الْعِرَاقِ وَقَّتَ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ } كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ هَذَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ لَكِنْ قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ فِيهِ : أَحْسَبُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَطَعَ بِهِ غَيْرُهُ . وَرُوِيَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فَكَانَ مَا سَمِعَهُ هَؤُلَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا سَمِعَهُ غَيْرُهُمْ . وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ فِي تَرْخِيصِهِ فِي الْخُفِّ وَالسَّرَاوِيلِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ بِعَرَفَاتِ يَقُولُ : السَّرَاوِيلَاتُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ وَالْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ : { مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ } . فَهَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيِّنٌ فِيهِ فِي عَرَفَاتٍ - وَهُوَ أَعْظَمُ مَجْمَعٍ كَانَ لَهُ - أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ . وَلَمْ يَأْمُرْ بِقَطْعِ وَلَا فَتْقٍ وَأَكْثَرُ الْحَاضِرِينَ بِعَرَفَاتِ لَمْ يَشْهَدُوا خُطْبَتَهُ وَمَا سَمِعُوا أَمْرَهُ بِقَطْعِ الْخُفَّيْنِ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الشَّرْعَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ بِعَرَفَاتِ لَمْ يَكُنْ شُرِعَ بَعْدُ بِالْمَدِينَةِ وَأَنَّهُ بِالْمَدِينَةِ إنَّمَا أَرْخَصَ فِي لُبْسِ النَّعْلَيْنِ وَمَا يُشْبِهُهُمَا مِنْ الْمَقْطُوعِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ عَدِمَ مَا يُشَبِّهُ بِهِ الْخُفَّيْنِ يَلْبَسُ الْخُفَّ .

الثَّالِثُ : أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَلْبَسُ سَرَاوِيلَ بِلَا فَتْقٍ . وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . الرَّابِعُ : أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْطُوعَ كَالنَّعْلَيْنِ يَجُوزُ لُبْسُهُمَا مُطْلَقًا وَلُبْسُ مَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ جُمْجُمٍ وَمَدَاسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَبِهِ كَانَ يُفْتِي جَدِّي أَبُو الْبَرَكَاتِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ لَمَّا حَجَّ . وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ الْمَقْطُوعَ لُبْسُهُ أَصْلٌ لَا بَدَلَ لَهُ فَيَجُوزُ لُبْسُهُ مُطْلَقًا . وَهَذَا فَهْمٌ صَحِيحٌ مِنْهُ دُونَ فَهْمِ مَنْ فَهِمَ أَنَّهُ بَدَلٌ . وَالثَّلَاثَةُ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ فِي الْبَدَلِ وَهُوَ الْخُفُّ وَلُبْسِ السَّرَاوِيلَ فَمَنْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ إذَا عَدِمَ الْأَصْلَ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ . وَهَذَا فَهْمٌ صَحِيحٌ . وَأَحْمَد فَهِمَ مِنْ النَّصِّ الْمُتَأَخِّرِ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ الْبَدَلَانِ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِلْقَطْعِ الْمُتَقَدِّمِ . وَهَذَا فَهْمٌ صَحِيحٌ . وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا فَأَوْجَبَ الْفِدْيَةَ عَلَى كُلِّ مَنْ لَبِسَ خُفًّا أَوْ سَرَاوِيلَ إذَا لَمْ يَفْتُقْهُ وَإِنْ عَدِمَ كَمَا قَالَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ .

وَزَادَ أَنَّ الرُّخْصَةَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هِيَ لِلْحَاجَةِ وَالْمُحْرِمُ إذَا احْتَاجَ إلَى مَحْظُورٍ فَعَلَهُ وَافْتَدَى . وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَقَالُوا : مَنْ لَبِسَ الْبَدَلَ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ كَمَا أَبَاحَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتِ وَلَمْ يَأْمُرْ مَعَهُ بِفِدْيَةِ وَلَا فَتْقٍ قَالُوا : وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى لُبْسِ مَا يَسْتُرُونَ بِهِ عَوْرَاتِهِمْ وَمَا يَلْبَسُونَهُ فِي أَرْجُلِهِمْ فَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ عَامَّةٌ وَمَا احْتَاجَ إلَيْهِ الْعُمُومُ لَمْ يُحْظَرْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ فِيهِ فِدْيَةٌ بِخِلَافِ مَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ لِمَرَضِ أَوْ بَرْدٍ وَمِنْ ذَلِكَ حَاجَةٌ لِعَارِضِ ؛ وَلِهَذَا أَرْخَصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ فِي اللِّبَاسِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ وَنَهَى الْمُحْرِمَةَ عَنْ النِّقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا كَانَتْ مُحْتَاجَةً إلَى سَتْرِ بَدَنِهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا فِي سَتْرِهِ فِدْيَةٌ . وَكَذَلِكَ حَاجَةُ الرِّجَالِ إلَى السَّرَاوِيلِ وَالْخِفَافِ إذَا لَمْ يَجِدُوا الْإِزَارَ وَالنِّعَالَ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا لَمْ يَسْمَعْ إلَّا حَدِيثَ الْقَطْعِ أَخَذَ بِعُمُومِهِ فَكَانَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ بِقَطْعِ الْخِفَافِ حَتَّى أَخْبَرُوهُ بَعْدَ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ فِي لُبْسِ ذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ : { لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ } أَخَذَ بِعُمُومِهِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَكَانَ يَأْمُرُ الْحَائِضَ أَنْ لَا تَنْفِرَ حَتَّى تَطُوفَ . وَكَذَلِكَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى أَخْبَرُوهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلْحُيَّضِ أَنْ يَنْفِرْنَ بِلَا وَدَاعٍ . وَتَنَاظَرَ فِي ذَلِكَ زَيْدٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ لَمَّا سَمِعَا نَهْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ أَخْذًا بِالْعُمُومِ فَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَأْمُرُ النَّاسَ بِمَنْعِ نِسَائِهِمْ مِنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَنْهَى عَنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فَيَنْزِعُ خُيُوطَ الْحَرِيرِ مِنْ الثَّوْبِ . وَغَيْرُهُمَا سَمِعَ الرُّخْصَةَ لِلْحَاجَةِ وَهُوَ الْإِرْخَاصُ لِلنِّسَاءِ وَلِلرِّجَالِ فِي الْيَسِيرِ وَفِيمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ لِلتَّدَاوِي وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَاجَةٌ عَامَّةٌ .
وَهَكَذَا اجْتِهَادُ الْعُلَمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي النُّصُوصِ : يَسْمَعُ أَحَدُهُمْ النَّصَّ الْمُطْلَقَ فَيَأْخُذُ بِهِ وَلَا يَبْلُغُهُ مَا يَبْلُغُ مِثْلَهُ مِنْ تَقْيِيدِهِ وَتَخْصِيصِهِ وَاَللَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى النَّاسِ فِي الْإِحْرَامِ وَلَا غَيْرِهِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ حَاجَةً عَامَّةً وَلَا أَمْرَ مَعَ هَذِهِ الرُّخْصَةِ فِي الْحَاجَةِ الْعَامَّةِ أَنْ يُفْسِدَ الْإِنْسَانُ خُفَّهُ أَوْ سَرَاوِيلَهُ بِقَطْعِ أَوْ فَتْقٍ كَمَا أَفْتَى بِذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ سَمِعَ السُّنَّةَ الْمُتَأَخِّرَةَ وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْقَطْعِ أَوَّلًا لِيَصِيرَ الْمَقْطُوعُ كَالنَّعْلِ فَأَمَرَ بِالْقَطْعِ قَبْلَ أَنْ يُشْرَعَ الْبَدَلُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ يَجُوزُ لُبْسُهُ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا قَالَ : " لِمَنْ لَمْ يَجِدْ " لِأَنَّ الْقَطْعَ مَعَ وُجُودِ النَّعْلِ إفْسَادٌ لِلْخُفِّ وَإِفْسَادُ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ : مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا إذَا عَدِمَ الْخُفَّ فَلِهَذَا جُعِلَ بَدَلًا فِي هَذِهِ الْحَالِ لِأَجْلِ فَسَادِ الْمَالِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ

يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَكِنْ عَنْ شِمَالِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ } هَذِهِ رِوَايَةُ أَنَسٍ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ : مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ ؟ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسْتَقْبَلَ فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ ؟ فَإِذَا تَنَخَّعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ - قَالَ هَكَذَا - وَتَفَلَ فِي ثَوْبِهِ وَوَضَعَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ } فَأَمَرَ بِالْبُصَاقِ فِي الثَّوْبِ إذَا تَعَذَّرَ لَا لِأَنَّ الْبُصَاقَ فِي الثَّوْبِ بَدَلٌ شَرْعِيٌّ لَكِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يُلَوِّثُ الثَّوْبَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ . وَفِي الِاسْتِجْمَارِ أَمَرَ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَثَلَاثُ حَثَيَاتٍ مِنْ تُرَابٍ لِأَنَّ التُّرَابَ لَا يَتَمَكَّنُ بِهِ كَمَا يَتَمَكَّنُ بِالْحَجَرِ لَا لِأَنَّهُ بَدَلٌ شَرْعِيٌّ . وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فَدَلَّتْ نُصُوصُهُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَوْسِعَةُ شَرِيعَتِهِ الْحَنِيفِيَّةِ وَأَنَّهُ مَا جَعَلَ عَلَى أُمَّتِهِ مِنْ حَرَجٍ . وَكُلُّ قَوْلٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُهُ قَالَتْ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلَمْ تُجْمِعْ الْأُمَّةُ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - عَلَى رَدِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إذْ كَانُوا لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرُدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ وَإِذَا رَدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ تَبَيَّنَ كَمَالُ دِينِهِ وَتَصْدِيقُ بَعْضِهِ لِبَعْضِ . وَأَنَّ مَنْ أَفْتَى مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِخِلَافِ ذَلِكَ - مَعَ اجْتِهَادِهِ وَتَقْوَاهُ لِلَّهِ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ - فَهُوَ مَأْجُورٌ فِي ذَلِكَ لَا إثْمَ عَلَيْهِ وَإِنْ

كَانَ الَّذِي أَصَابَ الْحَقَّ فَيَعْرِفُهُ لَهُ أَجْرَانِ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ كَالْمُجْتَهِدِينَ فِي جِهَةِ الْكَعْبَةِ . وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ كَثِيرَ الْحَجِّ وَكَانَ يُفْتِي النَّاسَ فِي الْمَنَاسِكِ كَثِيرًا وَكَانَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ قَدْ احْتَاجَ إلَيْهِ النَّاسُ وَإِلَى عِلْمِهِ وَدِينِهِ ؛ إذْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَاتَ قَبْلَهُ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْتِي بِحَسَبِ مَا سَمِعَهُ وَفَهِمَهُ ؛ فَلِهَذَا يُوجَدُ فِي مَسَائِلِهِ أَقْوَالٌ فِيهَا ضِيقٌ لِوَرَعِهِ وَدِينِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ وَكَانَ قَدْ رَجَعَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهَا : كَمَا رَجَعَ عَنْ أَمْرِ النِّسَاءِ بِقَطْعِ الْخُفَّيْنِ وَعَنْ الْحَائِضِ أَمَرَ أَنْ لَا تَنْفِرَ حَتَّى تُوَدِّعَ وَغَيْرَ ذَلِكَ . وَكَانَ يَأْمُرُ الرِّجَالَ بِالْقَطْعِ إذْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْخَبَرُ النَّاسِخُ . وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَكَانَ يُبِيحُ لِلرِّجَالِ لُبْسَ الْخُفِّ بِلَا قَطْعٍ إذَا لَمْ يَجِدُوا النَّعْلَيْنِ لِمَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتِ . وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَنْهَى الْمُحْرِمَ مِنْ الطِّيبِ حَتَّى يَطُوفَ اتِّبَاعًا لِعُمَرِ . وَأَمَّا سَعْدُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ فَبَلَغَتْهُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ تَطَيَّبَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِحَلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَأَخَذُوا بِذَلِكَ . وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إذَا مَاتَ الْمُحْرِمُ يَرَى إحْرَامَهُ قَدْ انْقَطَعَ فَلَمَّا مَاتَ ابْنُهُ كَفَّنَهُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ

كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ . وَابْنُ عَبَّاسٍ عَلِمَ حَدِيثَ { الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْسِلُوهُ بِمَاءِ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا } فَأَخَذَ بِذَلِكَ وَقَالَ : الْإِحْرَامُ بَاقٍ يَجْتَنِبُ الْمُحْرِمُ إذَا مَاتَ مَا يَجْتَنِبُهُ غَيْرُهُ وَعَلَى ذَلِكَ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ وَغَيْرُهُمْ . وَكَذَلِكَ الشَّهِيدُ . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَغْسِيلِهِ ؟ فَقَالَ : غُسِّلَ عُمَرُ وَهُوَ شَهِيدٌ . وَالْأَكْثَرُونَ بَلَغَهُمْ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَقَوْلُهُ : { زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا : اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ } وَالْحَدِيثُ فِي الصِّحَاحِ فَأَخَذُوا بِذَلِكَ فِي شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَثَّ . وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ يَعْقِدُ الْإِزَارَ إذَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ . وَكَرِهَ ابْنُ عُمَرَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَعْقِدَ الرِّدَاءَ كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ إذَا عَقَدَ عُقْدَةً صَارَ يُشْبِهُ الْقَمِيصَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ يَدَانِ . وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ فَكَرِهُوهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ فَيُوجِبُونَ الْفِدْيَةَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ . وَأَمَّا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ فَلَا يُوجِبُونَ الْفِدْيَةَ وَهَذَا أَقْرَبُ . وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ كَرَاهَةَ عَقْدِ الرِّدَاءِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا يُلْتَحَفُ وَلَا يَثْبُتُ بِالْعَادَةِ إلَّا بِالْعَقْدِ أَوْ مَا يُشْبِهُهُ مِثْلُ الْخِلَالِ وَرَبْطِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى حَقْوِهِ

وَنَحْوَ ذَلِكَ وَأَهْلُ الْحِجَازِ أَرْضُهُمْ لَيْسَتْ بَارِدَةً فَكَانُوا يَعْتَادُونَ لُبْسَ الْأُزُرِ وَالْأَرْدِيَةِ وَلُبْسُ السَّرَاوِيلِ قَلِيلٌ فِيهِمْ حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَا يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ قَطُّ مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ عفان وَغَيْرُهُ بِخِلَافِ أَهْلِ الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى الْأُزُرِ وَالْأَرْدِيَةِ لَمْ يَكْفِهِمْ ذَلِكَ بَلْ يَحْتَاجُونَ إلَى الْقَمِيصِ وَالْخِفَافِ وَالْفِرَاءِ وَالسَّرَاوِيلَاتِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : يُسْتَحَبُّ مَعَ الرِّدَاءِ الْإِزَارُ لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْفَخِذَيْنِ . وَيُسْتَحَبُّ مَعَ الْقَمِيصِ السَّرَاوِيلُ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ وَمَعَ الْقَمِيصِ لَا يَظْهَرُ تَقَاطِيعُ الْخَلْقِ وَالْقَمِيصُ فَوْقَ السَّرَاوِيلِ يَسْتُرُ بِخِلَافِ الرِّدَاءِ فَوْقَ السَّرَاوِيلِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتُرُ تَقَاطِيعَ الْخَلْقِ . وَأَمَّا الرِّدَاءُ فَوْقَ السَّرَاوِيلِ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَسْتَحِبُّهُ تَشَبُّهًا بِهِمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَحِبُّهُ لِعَدَمِ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّ عَادَتَهُمْ الْمَعْرُوفَةَ لُبْسُهُ مَعَ الْإِزَارِ . وَمَنْ اعْتَادَ الرِّدَاءَ ثَبَّتَ عَلَى جَسَدِهِ بِعَطْفِ أَحَدِ طَرَفَيْهِ وَإِذَا حَجَّ مَنْ لَمْ يَتَعَوَّدْ لُبْسَهُ وَكَانَ رِدَاؤُهُ صَغِيرًا لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِعَقْدِهِ ؛ وَكَانَتْ حَاجَتُهُمْ إلَى عَقْدِهِ كَحَاجَةِ مَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ إلَى الْخُفَّيْنِ . فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى سَتْرِ الْبَدَنِ قَدْ تَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى سَتْرِ الْقَدَمَيْنِ ؛ وَالتَّحَفِّي فِي الْمَشْيِ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ . وَأَمَّا إظْهَارُ بَدَنِهِ لِلْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالرِّيحِ وَالشَّمْسِ فَهَذَا يَضُرُّ غَالِبَ النَّاسِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْمُصَلِّيَ بِسَتْرِ ذَلِكَ

فَقَالَ : { لَا يُصَلِّيَنَّ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ } وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ حَافِيًا : فَعُلِمَ أَنَّ سَتْرَ هَذَا إلَى اللَّهِ أَحَبُّ مِنْ سَتْرِ الْقَدَمَيْنِ بِالنَّعْلَيْنِ ؛ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ الْعَامَّةِ رُخِّصَ فِيهِ فِي الْبَدَنِ مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ فَلَأَنْ يُرَخَّصَ فِي هَذَا بِطْرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . فَإِنْ قِيلَ : فَيَنْبَغِي أَنْ يُرَخَّصَ فِي لُبْسِ الْقَمِيصِ وَالْجُبَّةِ وَنَحْوِهِمَا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الرِّدَاءَ . قِيلَ : الْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِأَنْ يَلْتَحِفَ بِذَلِكَ عَرْضًا مَعَ رَبْطِهِ وَعَقْدِ طَرَفَيْهِ فَيَكُونُ كَالرِّدَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الرَّبْطُ فَإِنَّ طَرَفَيْ الْقَمِيصِ وَالْجُبَّةِ وَنَحْوِهِمَا لَا يَثْبُتُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ . وَكَذَلِكَ الْأَرْدِيَةُ الصِّغَارُ . فَمَا وَجَدَهُ الْمُحْرِمُ مِنْ قَمِيصٍ وَمَا يُشْبِهُهُ كَالْجُبَّةِ ؛ وَمِنْ بُرْنُسٍ وَمَا يُشْبِهُهُ مِنْ ثِيَابٍ مُقَطَّعَةٍ : أَمْكَنَهُ أَنْ يَرْتَدِيَ بِهَا إذَا رَبَطَهَا ؛ فَيَجِبُ أَنْ يُرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَقْدُ فِي الْأَصْلِ مَحْظُورًا ؛ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَكْرُوهًا ؛ فَعِنْدَ الْحَاجَةِ تَزُولُ الْكَرَاهَةُ كَمَا رُخِّصَ لَهُ أَنْ يَلْبَسَ الْهِمْيَانَ لِحِفْظِ مَالِهِ وَيَعْقِدَ طَرَفَيْهِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِالْعَقْدِ ؛ وَهُوَ إلَى سَتْرِ مَنْكِبَيْهِ أَحْوَجُ : فَرُخِّصَ لَهُ عَقْدُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِلَا رَيْبٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْ فِيمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَمَا يُنْهَى عَنْهُ لَفْظًا عَامًّا يَتَنَاوَلُ عَقْدَ الرِّدَاءِ بَلْ سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ فَقَالَ : { لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ

وَلَا الْخِفَافَ إلَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ } الْحَدِيثَ . فَنَهَى عَنْ خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ الثِّيَابِ الَّتِي تُلْبَسُ عَلَى الْبَدَنِ وَهِيَ الْقَمِيصُ وَفِي مَعْنَاهُ الْجُبَّةُ وَأَشْبَاهُهَا ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ تَحْرِيمُ هَذِهِ الْخَمْسَةِ فَقَطْ ؛ بَلْ أَرَادَ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَجْنَاسَ وَنَبَّهَ عَلَى كُلِّ جِنْسٍ بِنَوْعِ مِنْهَا . وَذَكَرَ مَا احْتَاجَ الْمُخَاطَبُونَ إلَى مَعْرِفَتِهِ ؛ وَهُوَ مَا كَانُوا يَلْبَسُونَهُ غَالِبًا . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ : مَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ سُئِلَ قَبْلَ ذَلِكَ عَمَّنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ فَقَالَ : { انْزِعْ عَنْك الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ عَنْك أَثَرَ الْخَلُوقِ ؛ وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِك مَا كُنْت صَانِعًا فِي حَجِّك } . وَكَانَ هَذَا فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ : فَعُلِمَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْجُبَّةِ كَانَ مَشْرُوعًا قَبْلَ هَذَا وَلَمْ يَذْكُرْهَا بِلَفْظِهَا فِي الْحَدِيثِ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ : { وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ } وَفِي مُسْلِمٍ { وَوَجْهَهُ ؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا } فَنَهَاهُمْ عَنْ تَخْمِيرِ رَأْسِهِ لِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا كَمَا أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يُقَرِّبُوهُ طِيبًا ؛ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُحْرِمَ يُنْهَى عَنْ هَذَا وَهَذَا . وَإِنَّمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ الْعَمَائِمِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ وَعَمَّا يُشْبِهُهُ فِي تَخْمِيرِ الرَّأْسِ ؛ فَذَكَرَ مَا يُخَمِّرُ الرَّأْسَ وَمَا يُلْبَسُ عَلَى الْبَدَنِ كَالْقَمِيصِ وَالْجُبَّةِ ؛ وَمَا يُلْبَسُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا وَهُوَ الْبُرْنُسُ وَذَكَرَ مَا يُلْبَسُ فِي النِّصْفِ الْأَسْفَلِ مِنْ الْبَدَنِ

وَهُوَ السَّرَاوِيلُ وَالثِّيَابُ ؛ وَالتُّبَّانُ فِي مَعْنَاهُ . وَكَذَلِكَ مَا يُلْبَسُ فِي الرِّجْلَيْنِ وَهُوَ الْخُفُّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الجرموق وَالْجَوْرَبَ فِي مَعْنَاهُ فَهَذَا يُنْهَى عَنْهُ الْمُحْرِمُ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَسْحُ لِلْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ الَّذِي جَازَ لَا لُبْسُهُ فَإِنَّ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ الْمُحْرِمُ أُمِرَ بِالْمَسْحِ عَلَيْهِ .
وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِالِاسْتِجْمَارِ بِالْأَحْجَارِ لَمْ يَخْتَصَّ الْحَجَرَ إلَّا لِأَنَّهُ كَانَ الْمَوْجُودَ غَالِبًا ؛ لَا لِأَنَّ الِاسْتِجْمَارَ بِغَيْرِهِ لَا يَجُوزُ ؛ بَلْ الصَّوَابُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ فِي جَوَازِ الِاسْتِجْمَارِ بِغَيْرِهِ كَمَا هُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد لِنَهْيِهِ عَنْ الِاسْتِجْمَارِ بِالرَّوْثِ وَالرُّمَّةِ وَقَالَ : { إنَّهُمَا طَعَامُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ } فَلَمَّا نَهَى عَنْ هَذَيْنِ تَعْلِيلًا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ عُلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْحَجَرِ وَإِلَّا لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ بِصَاعِ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ ؛ هُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لِكَوْنِهِ كَانَ قُوتًا لِلنَّاسِ فَأَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ يُخْرِجُونَ مِنْ قُوتِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ كَاَلَّذِينَ يَقْتَاتُونَ الرُّزَّ أَوْ الذُّرَةَ ؛ يُخْرِجُونَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَلَيْسَ نَهْيُهُ عَنْ الِاسْتِجْمَارِ بِالرَّوْثِ وَالرُّمَّةِ إذْنًا فِي الِاسْتِجْمَارِ بِكُلِّ شَيْءٍ بَلْ الِاسْتِجْمَارُ بِطَعَامِ الْآدَمِيِّينَ وَعَلَفِ دَوَابِّهِمْ أَوْلَى بِالنَّهْيِ عَنْهُ مِنْ

طَعَامِ الْجِنِّ وَعَلَفِ دَوَابِّهِمْ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ أَنَّهُمْ لَا يَتَوَقَّوْنَ الِاسْتِجْمَارَ بِمَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ بِخِلَافِ طَعَامِ الْإِنْسِ وَعَلَفِ دَوَابِّهِمْ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ مَنْ يَفْعَلُهُ فِي الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ . وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأَصْنَافُ الْخَمْسَةُ نَهَى عَنْهَا وَقَدْ سُئِلَ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ وَظَاهِرُ لَفْظِهِ أَنَّهُ أَذِنَ فِيمَا سِوَاهَا ؛ لِأَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُ لَا عَمَّا لَا يَلْبَسُ ؛ فَلَوْ لَمْ يُفِدْ كَلَامُهُ الْإِذْنَ فِيمَا سِوَاهَا لَمْ يَكُنْ قَدْ أَجَابَ السَّائِلَ لَكِنْ كَانَ الْمَلْبُوسُ الْمُعْتَادُ عِنْدَهُمْ مِمَّا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ هَذِهِ الْخَمْسَةَ - وَالْقَوْمُ لَهُمْ عَقْلٌ وَفِقْهٌ - فَيَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ إذَا نَهَى عَنْ الْقَمِيصِ وَهُوَ طَاقٌ وَاحِدٌ فَلَأَنْ يَنْهَى عَنْ الْمُبَطَّنَةِ ؛ وَعَنْ الْجُبَّةِ الْمَحْشُوَّةِ ؛ وَعَنْ الْفَرْوَةِ الَّتِي هِيَ كَالْقَمِيصِ ؛ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ : بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ فِيهَا مَا فِي الْقَمِيصِ وَزِيَادَةٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ فِيهَا مَعَ نَهْيِهِ عَنْ الْقَمِيصِ . وَكَذَلِكَ التُّبَّانُ أَبْلَغُ مِنْ السَّرَاوِيلِ وَالْعِمَامَةِ تُلْبَسُ فِي الْعَادَةِ فَوْقَ غَيْرِهَا : إمَّا قَلَنْسُوَةٌ أَوْ كلثة أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَإِذَا نَهَى عَنْ الْعِمَامَةِ الَّتِي لَا تُبَاشِرُ الرَّأْسَ فَنَهْيُهُ عَنْ الْقَلَنْسُوَةِ والكلثة وَنَحْوِهَا مِمَّا يُبَاشِرُ الرَّأْسَ : أَوْلَى ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى تَخْمِيرِ الرَّأْسِ وَالْمُحْرِمُ أَشْعَثُ أَغْبَرُ . وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ - حَدِيثِ الْمُبَاهَاةِ - : { إنَّهُ

يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَيُبَاهِي الْمَلَائِكَةَ بِأَهْلِ الْمَوْقِفِ فَيَقُولُ : اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ ؟ } وَشَعَثُ الرَّأْسِ وَاغْبِرَارُهُ لَا يَكُونُ مَعَ تَخْمِيرِهِ ؛ فَإِنَّ الْمُخَمَّرَ لَا يُصِيبُهُ الْغُبَارُ وَلَا يُشَعَّثُ بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَغَيْرِهِمَا ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ يَحْصُلُ لَهُ نَوْعُ مُتْعَةٍ بِذَلِكَ يُؤْمَرُ بِالْحَلْقِ فَلَا يُقَصِّرُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْقُعُودِ فِي ظِلٍّ أَوْ سَقْفٍ أَوْ خَيْمَةٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ ثَوْبٍ يُظَلَّلُ بِهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الشَّعَثَ وَلَا الِاغْبِرَارَ وَلَيْسَ فِيهِ تَخْمِيرُ الرَّأْسِ . وَإِنَّمَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَنْ يَسْتَظِلُّ بِالْمَحْمَلِ ؛ لِأَنَّهُ مُلَازِمٌ لِلرَّاكِبِ كَمَا تُلَازِمُهُ الْعِمَامَةُ لَكِنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ فَمَنْ نَهَى عَنْهُ اعْتَبَرَ مُلَازَمَتَهُ لَهُ وَمَنْ رَخَّصَ فِيهِ اعْتَبَرَ انْفِصَالَهُ عَنْهُ . فَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ الَّذِي لَا يُلَازِمُ فَهَذَا يُبَاحُ بِالْإِجْمَاعِ . وَالْمُتَّصِلُ الْمُلَازِمُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ .
وَمَنْ لَمْ يَلْحَظْ الْمَعَانِيَ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا يَفْهَمُ تَنْبِيهَ الْخِطَابِ وَفَحْوَاهُ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ ؛ كَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ قَوْلَهُ : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } لَا يُفِيدُ النَّهْيَ عَنْ الضَّرْبِ . وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ دَاوُد ؛ وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَهَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ بَلْ وَكَذَلِكَ قِيَاسُ الْأَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ لَكِنْ عُرِفَ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْمَنْطُوقِ بِهَذَا فَإِنْكَارُهُ مِنْ بِدَعِ الظَّاهِرِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْهُمْ بِهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ فَمَا زَالَ السَّلَفُ يَحْتَجُّونَ بِمِثْلِ هَذَا وَهَذَا .

كَمَا أَنَّهُ إذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ - كَرَّرَهَا ثَلَاثًا - قَالُوا : مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } فَإِذَا كَانَ هَذَا بِمُجَرَّدِ الْخَوْفِ مِنْ بَوَائِقِهِ : فَكَيْفَ مَنْ فَعَلَ الْبَوَائِقَ مَعَ عَدَمِ أَمْنِ جَارِهِ مِنْهُ ؟ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ { أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يُطْعَمَ مَعَك قِيلَ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَارَ لَا يَعْرِفُ هَذَا فِي الْعَادَةِ : فَهَذَا أَوْلَى بِسَلْبِ الْإِيمَانِ مِمَّنْ لَا تُؤْمَنُ بَوَائِقُهُ وَلَمْ يَفْعَلْ مِثْلَ هَذَا . وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَا يُؤْمِنُونَ فَاَلَّذِينَ لَا يُحَكِّمُونَهُ وَيَرُدُّونَ حُكْمَهُ وَيَجِدُوا حَرَجًا مِمَّا قَضَى ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ غَيْرَهُ أَصَحُّ مِنْهُ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمِ سَدِيدٍ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ . وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } فَإِذَا كَانَ بِمُوَادَّةِ الْمُحَادِّ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فَأَنْ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إذَا حَادَّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . وَكَذَلِكَ إذَا نُهِيَ الرَّجُلُ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِالْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ لِأَنَّهُمَا طَعَامُ الْجِنِّ وَعَلَفُ دَوَابِّهِمْ : فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ نَهْيَهُ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِطَعَامِ الْإِنْسِ وَعَلَفِ دَوَابِّهِمْ أَوْلَى

وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ إذَا نُهِيَ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ مَعَ الْإِمْلَاقِ : فَنَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ مَعَ الْغِنَى وَالْيَسَارِ أَوْلَى وَأَحْرَى . فَالتَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ قَدْ يَكُونُ لِلْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَتِهِ ؛ وَقَدْ يَكُونُ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ . فَتَخْصِيصُ الْقَمِيصِ دُونَ الْجُبَاب ؛ وَالْعَمَائِمِ دُون الْقَلَانِسِ ؛ وَالسَّرَاوِيلَاتِ دُونَ التَّبَابِينِ : هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ لَا لِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ فَقَدْ أُذِنَ فِيهِ . وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ بِصَبِّ ذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ - مَعَ مَا فِيهِ مِنْ اخْتِلَاطِ الْمَاءِ بِالْبَوْلِ وَسَرَيَانِ ذَلِكَ لَكِنْ قَصَدَ بِهِ تَعْجِيلَ التَّطْهِيرِ - لَا لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَزُولُ بِغَيْرِ ذَلِكَ ؛ بَلْ الشَّمْسُ وَالرِّيحُ وَالِاسْتِحَالَةُ تُزِيلُ النَّجَاسَةَ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الْكِلَابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوءًا كَامِلًا ثُمَّ لَبِسَ الْخُفَّيْنِ جَازَ لَهُ الْمَسْحُ بِلَا نِزَاعٍ وَلَوْ غَسَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ وَأَدْخَلَهَا الْخُفَّ ثُمَّ فَعَلَ بِالْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ فَفِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : إحْدَاهُمَا : يَجُوزُ الْمَسْحُ . وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ .

وَالثَّانِيَةُ : لَا يَجُوزُ . وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . قَالَ هَؤُلَاءِ : لِأَنَّ الْوَاجِبَ ابْتِدَاءُ اللُّبْسِ عَلَى الطَّهَارَةِ ؛ فَلَوْ لَبِسَهُمَا وَتَوَضَّأَ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ فِيهِمَا : لَمْ يَجُزْ لَهُ الْمَسْحُ حَتَّى يَخْلَعَ مَا لَبِسَ قَبْلَ تَمَامِ طُهْرِهِمَا فَيَلْبَسُهُ بَعْدَهُ . وَكَذَلِكَ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ قَالُوا : يَخْلَعُ الرِّجْلَ الْأُولَى ثُمَّ يُدْخِلُهَا فِي الْخُفِّ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ : { إنِّي أَدْخَلْت الْقَدَمَيْنِ الْخُفَّيْنِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ } قَالُوا : وَهَذَا أَدْخَلَهُمَا وَلَيْسَتَا طَاهِرَتَيْنِ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ بِلَا شَكٍّ . وَإِذَا جَازَ الْمَسْحُ لِمَنْ تَوَضَّأَ خَارِجًا ثُمَّ لَبِسَهُمَا فَلِأَنْ يَجُوزَ لِمَنْ تَوَضَّأَ فِيهِمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ فَإِنَّ هَذَا فِعْلُ الطَّهَارَةِ فِيهِمَا وَاسْتَدَامَهَا فِيهِمَا وَذَلِكَ فِعْلُ الطَّهَارَةِ خَارِجًا عَنْهُمَا وَإِدْخَالُ هَذَا قَدَمَيْهِ الْخُفَّ مَعَ الْحَدَثِ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ لَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ . وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالطَّهَارَةِ الْمَوْجُودَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِفِعْلِ مُحَرَّمٍ كَمَسِّ الْمُصْحَفِ مَعَ الْحَدَثِ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنِّي أَدْخَلْتُهُمَا الْخُفَّ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ } حَقٌّ ؛ فَإِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا عِلَّةٌ لِجَوَازِ الْمَسْحِ فَكُلُّ مَنْ أَدْخَلَهُمَا طَاهِرَتَيْنِ فَلَهُ الْمَسْحُ . وَهُوَ لَمْ يَقُلْ : إنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَمْ يَمْسَحْ لَكِنَّ دِلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ وَالتَّعْلِيلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ حِكْمَةُ التَّخْصِيصِ : هَلْ بَعْضُ الْمَسْكُوتِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذِكْرَ إدْخَالِهِمَا طَاهِرَتَيْنِ هُوَ الْمُعْتَادُ ؛ وَلَيْسَ غَسْلُهُمَا فِي الْخُفَّيْنِ مُعْتَادًا ؛ وَإِلَّا فَإِذَا غَسَلَهُمَا

فِي الْخُفِّ فَهُوَ أَبْلَغُ ؛ وَإِلَّا فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي نَزْعِ الْخُفِّ ثُمَّ لُبْسِهِ مِنْ غَيْرِ إحْدَاثِ شَيْءٍ فِيهِ مَنْفَعَةٌ ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا عَبَثٌ مَحْضٌ يُنَزَّهُ الشَّارِعُ عَنْ الْأَمْرِ بِهِ ؟ وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ : أَدْخِلْ مَالِي وَأَهْلِي إلَى بَيْتِي - وَكَانَ فِي بَيْتِهِ بَعْضُ أَهْلِهِ وَمَالِهِ - هَلْ يُؤْمَرُ بِأَنْ يُخْرِجَهُ ثُمَّ يُدْخِلَهُ وَيُوسُفُ لَمَّا قَالَ لِأَهْلِهِ : { ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ } وَقَالَ مُوسَى : { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ كَانَ بِمِصْرِ بَعْضُهُمْ أَوْ كَانَ بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بَعْضٌ ؛ أَوْ كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ قَدْ دَخَلَ الْحَرَمَ قَبْلَ ذَلِكَ : هَلْ كَانَ هَؤُلَاءِ يُؤْمَرُونَ بِالْخُرُوجِ ثُمَّ الدُّخُولِ ؟ فَإِذَا قِيلَ : هَذَا لَمْ يَقَعْ . قِيلَ : وَكَذَلِكَ غَسْلُ الرَّجُلِ قَدَمَيْهِ فِي الْخُفِّ لَيْسَ وَاقِعًا فِي الْعَادَةِ فَلِهَذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ إذَا فَعَلَ يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاجٍ وَإِدْخَالٍ . فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ بَاب الْأَوْلَى .
وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا اسْتَجْمَرَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ أَوْ اسْتَجْمَرَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ كَالرَّوْثِ وَالرُّمَّةِ وَبِالْيَمِينِ : هَلْ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا اسْتَجْمَرَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فَعَلَيْهِ تَكْمِيلُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَأَمَّا إذَا اسْتَجْمَرَ بِالْعَظْمِ وَالْيَمِينِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا وَالْإِعَادَةُ لَا فَائِدَةَ فِيهَا وَلَكِنْ قَدْ يُؤْمَرُ بِتَنْظِيفِ

الْعَظْمِ مِمَّا لَوَّثَهُ بِهِ كَمَا لَوْ كَانَ عِنْدَهُ خَمْرٌ فَأُمِرَ بِإِتْلَافِهَا فَأَرَاقَهَا فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ إتْلَافِهَا لَكِنْ هُوَ آثِمٌ بِتَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ فَيُؤْمَرُ بِتَطْهِيرِهِ بِخِلَافِ الِاسْتِجْمَارِ بِتَمَامِ الثَّلَاثِ فَإِنَّ فِيهِ فِعْلَ تَمَامِ الْمَأْمُورِ وَتَحْصِيلَ الْمَقْصُودِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْخُفِّ إذَا كَانَ فِيهِ خَرْقٌ يَسِيرٌ : هَلْ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا الْخُفُّ إذَا كَانَ فِيهِ خَرْقٌ يَسِيرٌ فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ . فَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَجُوزُ ، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد قَالُوا : لِأَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ الْقَدَمِ فَرْضُهُ الْغَسْلُ وَمَا اسْتَتَرَ فَرْضُهُ الْمَسْحُ وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ فَإِنَّ الرُّخْصَةَ عَامَّةٌ وَلَفْظُ الْخُفِّ يَتَنَاوَلُ مَا فِيهِ مِنْ الْخَرْقُ وَمَا لَا خَرْقَ فِيهِ لَا سِيَّمَا وَالصَّحَابَةُ كَانَ فِيهِمْ فُقَرَاءُ كَثِيرُونَ وَكَانُوا يُسَافِرُونَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ خِفَافِهِمْ خُرُوقٌ وَالْمُسَافِرُونَ قَدْ يَتَخَرَّقُ خُفُّ أَحَدِهِمْ وَلَا

يُمْكِنُهُ إصْلَاحُهُ فِي السَّفَرِ فَإِنْ لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهِ لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الرُّخْصَةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ يَعْفُونَ عَنْ ظُهُورِ يَسِيرِ الْعَوْرَةِ وَعَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ الَّتِي يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا : فَالْخَرْقُ الْيَسِيرُ فِي الْخُفِّ كَذَلِكَ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ مَا ظَهَرَ فَرْضُهُ الْغَسْلُ : مَمْنُوعٌ فَإِنَّ الْمَاسِحَ عَلَى الْخُفِّ لَا يَسْتَوْعِبُهُ بِالْمَسْحِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ بَلْ يَمْسَحُ أَعْلَاهُ دُون أَسْفَلِهِ وَعَقِبَهُ وَذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ غَسْلِ الرِّجْلِ فَمَسْحُ بَعْضِ الْخُفِّ كَافٍ عَمَّا يُحَاذِي الْمَمْسُوحَ وَمَا لَا يُحَاذِيهِ فَإِذَا كَانَ الْخَرْقُ فِي الْعَقِبِ لَمْ يَجِبْ غَسْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَلَا مَسْحُهُ وَلَوْ كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ لَا يَجِبُ مَسْحُ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ ظَهْرِ الْقَدَمِ وَ ( بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مِمَّا جَاءَتْ السُّنَّةُ فِيهِ بِالرُّخْصَةِ حَتَّى جَاءَتْ بِالْمَسْحِ عَلَى الْجَوَارِبِ وَالْعَمَائِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاقَضَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ مِنْ التَّوْسِعَةِ بِالْحَرَجِ وَالتَّضْيِيقِ .
وَسُئِلَ :
هَلْ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبِ كَالْخُفِّ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَكُونُ الْخَرْقُ الَّذِي فِيهِ الطَّعْنُ مَانِعًا مِنْ الْمَسْحِ فَقَدْ يَصِفُ بَشَرَةَ شَيْءٍ مِنْ مَحَلِّ

الْفَرْضِ ؟ وَإِذَا كَانَ فِي الْخُفِّ خَرْقٌ بِقَدْرِ النِّصْفِ أَوْ أَكْثَرَ هَلْ يُعْفَى عَنْ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
نَعَمْ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ إذَا كَانَ يَمْشِي فِيهِمَا سَوَاءٌ كَانَتْ مُجَلَّدَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ . فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . فَفِي السُّنَنِ : أَنَّ النَّبِيَّ { مَسَحَ عَلَى جَوْرَبَيْهِ وَنَعْلَيْهِ } . وَهَذَا الْحَدِيثُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ إنَّمَا هُوَ كَوْنُ هَذَا مِنْ صُوفٍ وَهَذَا مِنْ جُلُودٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْفَرْقِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الشَّرِيعَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ جُلُودًا أَوْ قُطْنًا أَوْ كَتَّانًا أَوْ صُوفًا كَمَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ سَوَادِ اللِّبَاسِ فِي الْإِحْرَامِ وَبَيَاضِهِ وَمَحْظُورِهِ وَمُبَاحِهِ وَغَايَتُهُ أَنَّ الْجِلْدَ أَبْقَى مِنْ الصُّوفِ : فَهَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ كَمَا لَا تَأْثِيرَ لِكَوْنِ الْجِلْدِ قَوِيًّا بَلْ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى مَا يَبْقَى وَمَا لَا يَبْقَى . وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمَسْحِ عَلَى هَذَا كَالْحَاجَةِ إلَى الْمَسْحِ عَلَى هَذَا سَوَاءٌ وَمَعَ التَّسَاوِي فِي الْحِكْمَةِ وَالْحَاجَةِ يَكُونُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَهَذَا خِلَافُ الْعَدْلِ وَالِاعْتِبَارِ الصَّحِيحِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ كُتُبَهُ وَأَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَمَنْ فَرَّقَ بِكَوْنِ هَذَا يَنْفُذُ الْمَاءُ مِنْهُ وَهَذَا لَا يَنْفُذُ مِنْهُ : فَقَدْ ذَكَرَ فَرْقًا طَرْدِيًّا عَدِيمَ التَّأْثِيرِ .

وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : يَصِلُ الْمَاءُ إلَى الصُّوفِ أَكْثَرَ مِنْ الْجِلْدِ فَيَكُونُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ أَوْلَى لِلُصُوقِ الطَّهُورِ بِهِ أَكْثَرَ : كَانَ هَذَا الْوَصْفُ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ وَأَقْرَبَ إلَى الْأَوْصَافِ الْمُؤَثِّرَةِ وَذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ . وَخُرُوقُ الطَّعْنِ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْمَسْحِ وَلَوْ لَمْ تَسْتُرْ الْجَوَارِبُ إلَّا بِالشَّدِّ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهَا عَلَى الصَّحِيحِ وَكَذَلِكَ الزربول الطَّوِيلُ الَّذِي لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ وَلَا يَسْتُرُ إلَّا بِالشَّدِّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
لَمَّا ذَهَبْت عَلَى الْبَرِيدِ وَجَدَّ بِنَا السَّيْرُ وَقَدْ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمَسْحِ فَلَمْ يُمْكِنْ النَّزْعُ وَالْوُضُوءُ إلَّا بِانْقِطَاعِ عَنْ الرُّفْقَةِ أَوْ حَبْسِهِمْ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَرَّرُونَ بِالْوُقُوفِ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّي عَدَمُ التَّوْقِيتِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا قُلْنَا فِي الْجَبِيرَةِ وَنَزَّلْت حَدِيثَ عُمَرَ وَقَوْلَهُ : لعقبة بْنِ عَامِرٍ : { أَصَبْت السُّنَّةَ } عَلَيَّ هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الْآثَارِ ثُمَّ رَأَيْتُهُ مُصَرَّحًا بِهِ فِي مَغَازِي ابْنِ عَائِدٍ أَنَّهُ كَانَ قَدْ ذَهَبَ عَلَى الْبَرِيدِ كَمَا ذَهَبْت لَمَّا فُتِحَتْ دِمَشْقُ ذَهَبَ بَشِيرًا بِالْفَتْحِ مِنْ يَوْمِ الْجُمْعَةِ إلى يَوْمِ الْجُمْعَةِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : مُنْذُ كَمْ لَمْ تَنْزِعْ خُفَّيْك ؟ فَقَالَ : مُنْذُ يَوْمِ الْجُمْعَةِ قَالَ : أَصَبْت فَحَمِدْت اللَّهَ عَلَى الْمُوَافَقَةِ .

وَهَذَا أَظُنُّهُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَهُوَ : أَنَّهُ إذَا كَانَ يَتَضَرَّرُ بِنَزْعِ الْخُفِّ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْجَبِيرَةِ . وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ : أَنَّهُ إذَا خَافَ الضَّرَرَ بِالنَّزْعِ تَيَمَّمَ وَلَمْ يَمْسَحْ . وَهَذَا كَالرِّوَايَتَيْنِ لَنَا إذَا كَانَ جُرْحُهُ بَارِزًا يُمْكِنُهُ مَسْحُهُ بِالْمَاءِ دُونَ غَسْلِهِ فَهَلْ يَمْسَحُهُ أَوْ يَتَيَمَّمُ لَهُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَالصَّحِيحُ الْمَسْحُ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَسْحِ بِالْمَاءِ أَوْلَى مِنْ طَهَارَةِ الْمَسْحِ بِالتُّرَابِ ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ الْمَسْحُ عَلَى حَائِلِ الْعُضْوِ فَعَلَيْهِ أَوْلَى . وَذَلِكَ أَنَّ طَهَارَةَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ طَهَارَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ وَطَهَارَةُ الْجَبِيرَةِ طَهَارَةٌ اضْطِرَارِيَّةٌ فَمَاسِحُ الْخُفِّ لَمَّا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ وُقِّتَ لَهُ الْمَسْحُ وَمَاسِحُ الْجَبِيرَةِ لَمَّا كَانَ مُضْطَرًّا إلَى مَسْحِهَا لَمْ يُوَقَّتْ وَجَازَ فِي الْكُبْرَى فَالْخُفُّ الَّذِي يَتَضَرَّرُ بِنَزْعِهِ جَبِيرَةٌ . وَضَرَرُهُ يَكُونُ بِأَشْيَاءَ : إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي ثَلْجٍ وَبَرْدٍ عَظِيمٍ : إذَا نَزَعَهُ يَنَالُ رِجْلَيْهِ ضَرَرٌ أَوْ يَكُونُ الْمَاءُ بَارِدًا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ غَسْلُهُمَا فَإِنْ نَزَعَهُمَا تَيَمَّمَ فَمَسْحُهُمَا خَيْرٌ مِنْ التَّيَمُّمِ . أَوْ يَكُونُ خَائِفًا إذَا نَزَعَهُمَا وَتَوَضَّأَ : مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ أَوْ انْقِطَاعٍ عَنْ الرُّفْقَةِ فِي مَكَانٍ لَا يُمْكِنُهُ السَّيْرُ وَحْدَهُ ؛ فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ لَهُ تَرْكُ طَهَارَةِ الْمَاءِ إلَى التَّيَمُّمِ ؛ فَلَأَنْ يَجُوزَ تَرْكُ طَهَارَةِ الْغَسْلِ إلَى الْمَسْحِ أَوْلَى . وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ إذَا كَانَ عَادِمًا لِلْمَاءِ وَمَعَهُ قَلِيلٌ يَكْفِي لِطَهَارَةِ الْمَسْحِ لَا لِطِهَارَةِ الْغَسْلِ فَإِنْ نَزَعَهُمَا تَيَمَّمَ فَالْمَسْحُ عَلَيْهِمَا خَيْرٌ مِنْ التَّيَمُّمِ .

وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ { : يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ } مَنْطُوقُهُ إبَاحَةُ الْمَسْحِ هَذِهِ الْمُدَّةَ وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ بَلْ يَكْفِي أَنْ لَا يَكُونَ الْمَسْكُوتُ كَالْمَنْطُوقِ فَإِذَا خَالَفَهُ فِي صُورَةٍ حَصَلَتْ الْمُخَالَفَةُ فَإِذَا كَانَ فِيمَا سِوَى هَذِهِ الْمُدَّةِ لَا يُبَاحُ مُطْلَقًا بَلْ يُحْظَرُ تَارَةً وَيُبَاحُ أُخْرَى حَصَلَ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ وَهَذَا وَاضِحٌ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ نَافِعَةٌ جِدًّا . فَإِنَّهُ مَنْ بَاشَرَ الْأَسْفَارَ فِي الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا : رَأَى أَنَّهُ فِي أَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا يُمْكِنُ نَزْعُ الْخُفَّيْنِ وَالْوُضُوءُ إلَّا بِضَرَرِ يُبَاحُ التَّيَمُّمُ بِدُونِهِ وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِمَا لَوْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَالْعَدُوُّ بِإِزَائِهِ فَفَائِدَةُ النَّزْعِ الْوُضُوءُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فَحَيْثُ يَسْقُطُ الْوُضُوءُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ يَسْقُطُ النَّزْعُ وَقَدْ يَكُونُ الْوُضُوءُ وَاجِبًا لَوْ كَانَا بَارِزَتَيْنِ لَكِنْ مَعَ اسْتِتَارِهِمَا يَحْتَاجُ إلَى قَلْعِهِمَا وَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ ثُمَّ لُبْسُهُمَا ثَانِيًا إذَا لَمْ تَتِمَّ مَصْلَحَتُهُ إلَّا بِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَمَرَّ فَإِنَّ طَهَارَتَهُ بَاقِيَةٌ وَبِخِلَافِ مَا إذَا تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا : فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ لَا يَضُرُّهُ . فَفِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لَا يتوقت إذَا كَانَ الْوُضُوءُ سَاقِطًا فَيَنْتَقِلُ إلَى التَّيَمُّمِ فَإِنَّ الْمَسْحَ الْمُسْتَمِرَّ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ وَإِذَا كَانَ فِي النَّزْعِ وَاللُّبْسِ ضَرَرٌ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ : فَلَأَنْ يُبِيحُ الْمَسْحَ أَوْلَى . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
عَنْ قَلْعِ الْجَبِيرَةِ بَعْدَ الْوُضُوءِ هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ كَمَا أَنَّهُ لَا يُعِيدُ الْغُسْلَ . لِأَنَّ الْجَبِيرَةَ كَالْجُزْءِ مِنْ الْعُضْوِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْمَسْحِ فَوْقَ الْعِصَابَةِ ؟ .
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ خَافَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الْبَرْدِ وَنَحْوِهِ مَسَحَتْ عَلَى خِمَارِهَا ؛ فَإِنَّ أُمَّ سَلَمَةَ كَانَتْ تَمْسَحُ خِمَارَهَا وَيَنْبَغِي أَنْ تَمْسَحَ مَعَ هَذَا بَعْضَ شَعْرِهَا وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ بِهَا حَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ .

بَابٌ نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ
سُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ :
عَنْ رَجُلٍ يَخْرُجُ مِنْ ذَكَرِهِ قَيْحٌ لَا يَنْقَطِعُ : فَهَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ مَعَ خُرُوجِ ذَلِكَ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُبْطِلَ الصَّلَاةَ بَلْ يُصَلِّي بِحَسَبِ إمْكَانِهِ . فَإِنْ لَمْ تَنْقَطِعْ النَّجَاسَةُ قَدْرَ مَا يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي : صَلَّى بِحَسَبِ حَالِهِ بَعْدَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَإِنْ خَرَجَتْ النَّجَاسَةُ فِي الصَّلَاةِ لَكِنْ يَتَّخِذُ حِفَاظًا يَمْنَعُ مِنْ انْتِشَارِ النَّجَاسَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّا إذَا تَوَضَّأَ وَقَامَ يُصَلِّي وَأَحَسَّ بِالنُّقْطَةِ فِي صَلَاتِهِ : فَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَمْ لَا ؟ .

فَأَجَابَ : مُجَرَّدُ الْإِحْسَاسِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ؛ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَجِدْ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ ؟ فَقَالَ : لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا } . وَأَمَّا إذَا تَيَقَّنَ خُرُوجَ الْبَوْلِ إلَى ظَاهِرِ الذَّكَرِ فَقَدْ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ وَعَلَيْهِ الِاسْتِنْجَاءُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ فَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ إذَا فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ كُلَّمَا شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ يَحْدُثُ لَهُ رِيَاحٌ كَثِيرَةٌ ؛ حَتَّى فِي الصَّلَاةِ يَتَوَضَّأُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَوْ أَكْثَرَ ؛ إلَى حِينِ يَقْضِي الصَّلَاةَ يَزُولُ عَنْهُ الْعَارِضُ ؛ ثُمَّ لَا يَعُودُ إلَيْهِ إلَّا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا سَبَبُ ذَلِكَ ؟ : هَلْ هُوَ مِنْ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى الطَّهَارَةِ ؟ وَقَدْ يَشُقُّ عَلَيْهِ كَثْرَةُ الْوُضُوءِ وَمَا يَعْلَمُ هَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ صَاحِبِ الْأَعْذَارِ أَمْ لَا لِسَبَبِ أَنَّهُ لَا يُعَاوِدُهُ إلَّا فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ ؟ وَمَا تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِوُضُوءِ وَاحِدٍ ؟ .

فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
نَعَمْ ، حُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْأَعْذَارِ : مِثْلِ الِاسْتِحَاضَةِ وَسَلَسِ الْبَوْلِ ؛ وَالْمَذْيِ ؛ وَالْجُرْحِ الَّذِي لَا يَرْقَأُ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَمَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ حِفْظُ الطَّهَارَةِ مِقْدَارَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي وَلَا يَضُرُّهُ مَا خَرَجَ مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَنْتَقِضُ وَضَوْءُهُ بِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَأَكْثَرُ مَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ وَأَمْثَالُهُمَا مِثْلُ مَنْ بِهِ رِيحٌ يَخْرُجُ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ ؛ وَكُلُّ مَنْ بِهِ حَدَثٌ نَادِرٌ . فَمَذْهَبُ مَالِكٍ : أَنَّ ذَلِكَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِالْحَدَثِ الْمُعْتَادِ . وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ - كَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَالشَّافِعِيِّ ؛ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ - يَقُولُونَ : إنَّهُ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَوْ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفَّاظِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ أَظْهَرَ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ يَتَوَضَّئُونَ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَوْ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ .
وَأَمَّا مَا يَخْرُجُ فِي الصَّلَاةِ دَائِمًا فَهَذَا لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ كَانَتْ تُصَلِّي وَالدَّمُ يَقْطُرُ مِنْهَا ؛ فَيُوضَعُ لَهَا طَسْتٌ يَقْطُرُ فِيهِ الدَّمُ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَلَّى وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا . وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ يُصَلُّونَ فِي جِرَاحَاتِهِمْ .

وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي خُرُوجِ النَّجَاسَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ - كَالْجُرْحِ وَالْفِصَادِ وَالْحِجَامَةِ وَالرُّعَافِ وَالْقَيْءِ : فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ : لَا يَنْقُضُ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد : يَنْقُضُ . لَكِنَّ أَحْمَد يَقُولُ : إذَا كَانَ كَثِيرًا . وَتَنَازَعُوا فِي مَسِّ النِّسَاءِ وَمَسِّ الذَّكَرِ : هَلْ يَنْقُضُ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا يَنْقُضُ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : يَنْقُضُ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ : الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسِّ لِشَهْوَةِ وَغَيْرِهَا . وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ هَلْ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي مَسِّ الذَّكَرِ ؟ وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَحْمَد ؛ وَعَنْهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَرِوَايَتَانِ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ : هَلْ يَجِبُ أَمْ لَا ؟ وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ : فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ تَنْقُضُ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا تَنْقُضُ : فَهَلْ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِنْهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالْأَظْهَرُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ : أَنَّهَا لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ . وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِنْهَا . فَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْهَا صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَمَنْ تَوَضَّأَ مِنْهَا فَهُوَ أَفْضَلُ . وَأَدِلَّةُ ذَلِكَ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَكِنْ كُلُّهُمْ يَأْمُرُ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَلَكِنْ إنْ كَانَتْ مِنْ الدَّمِ أَكْثَرَ مِنْ رُبُعِ

الْمَحَلِّ فَهَذِهِ تَجِبُ إزَالَتُهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْأُمَّةِ وَمَعَ هَذَا إنْ كَانَ الْجُرْحُ لَا يَرْقَأُ مِثْلَ مَا أَصَابَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِاتِّفَاقِهِمْ ؛ سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ؛ أَوْ قِيلَ : لَا يَنْقُضُ سَوَاءٌ كَانَ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ النَّبِيُّ { : إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . وَكُلُّ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ سَقَطَ عَنْهُ ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا ؛ بَلْ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ لَكِنْ يَجُوزُ لَهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِعُذْرِ ؛ حَتَّى أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ وَأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا اسْتَحَبَّ النَّبِيُّ لِلْمُسْتَحَاضَةِ أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِغُسْلِ وَاحِدٍ فَهَذَا لِلْمَعْذُورِ سَوَاءٌ أَمْكَنَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِطَهَارَةِ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ : جَازَ لَهُ الْجَمْعُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ يَجْمَعُ الْمَرِيضُ بِطَهَارَةِ وَاحِدَةٍ إذَا كَانَتْ الطَّهَارَةُ لِكُلِّ صَلَاةٍ تَزِيدُ فِي مَرَضِهِ . وَلَا بُدَّ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ : إمَّا بِطَهَارَةِ إنْ أَمْكَنَهُ وَإِلَّا بِالتَّيَمُّمِ ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ إمَّا لِمَرَضِ وَإِمَّا لِشِدَّةِ الْبَرْدِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَإِنْ كَانَ جُنُبًا ؛ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ

الْعُلَمَاءِ . وَإِذَا تَيَمَّمَ فِي السَّفَرِ لِعَدَمِ الْمَاءِ لَمْ يُعِدْ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ إذَا صَلَّى قَاعِدًا أَوْ صَلَّى عَلَى جَنْبٍ لَمْ يُعِدْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ الْعُرْيَانُ : كَاَلَّذِي تَنْكَسِرُ بِهِ السَّفِينَةُ ؛ أَوْ يَأْخُذُ الْقُطَّاعُ ثِيَابَهُ : فَإِنَّهُ يُصَلِّي عريانا وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ : لَا يُعِيدُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ أَخْطَأَ مَعَ اجْتِهَادِهِ لَمْ يُعِدْ أَيْضًا عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ : كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَالْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُعِيدُ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّيَمُّمِ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ : هَلْ يُعِيدُ ؟ وَفِيمَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ : هَلْ يُعِيدُ ؟ وَفِي مَوَاضِعَ أُخَرَ . وَالصَّحِيحُ فِي جَمِيعِ هَذَا النَّوْعِ : أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ بَلْ يُصَلِّي كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ ؛ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ أَحَدًا أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ مَرَّتَيْنِ مُطْلَقًا بَلْ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ إذَا ذَكَرَ بِوُضُوءِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ : كَمَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ { قَالَ :

مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا جَعَلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَرَجٍ فِي دِينِهِمْ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ بِهِمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِهِمْ الْعُسْرَ . وَمَسْأَلَةُ هَذَا السَّائِلِ أَوْلَى بِالرُّخْصَةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ يُصَلِّي الْخَمْسَ لَا يَقْطَعُهَا وَلَمْ يَحْضُرْ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ ؛ وَذَكَرَ أَنَّ عَدَمَ حُضُورِهِ لَهَا أَنَّهُ يَجِدُ رِيحًا فِي جَوْفِهِ تَمْنَعُهُ عَنْ انْتِظَارِ الْجُمْعَةِ وَبَيْنَ مَنْزِلِهِ وَالْمَكَانِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الْجُمْعَةُ قَدْرُ مِيلَيْنِ أَوْ دُونَهُمَا : فَهَلْ الْعُذْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ كَافٍ فِي تَرْكِ الْجُمْعَةِ مَعَ قُرْبِ مَنْزِلِهِ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ الْجُمْعَةَ ؛ وَيَتَأَخَّرَ بِحَيْثُ يَحْضُرُ وَيُصَلِّي مَعَ بَقَاءِ وُضُوئِهِ . وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ الْحُضُورُ إلَّا مَعَ خُرُوجِ الرِّيحِ فَلْيَشْهَدْهَا وَإِنْ خَرَجَتْ مِنْهُ الرِّيحُ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَمَّنْ بِهِ قُرُوحٌ فِي بَعْضِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَيَخْرُجُ مِنْ تِلْكَ الْقُرُوحِ قَيْحٌ يَنْتَشِرُ عَلَى مَحَلِّ الْفَرْضِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْقُرُوحِ ؛ وَلَا يُمْكِنُ إزَالَةُ ذَلِكَ إلَّا إذَا أَزَالَهُ عَنْ الْقُرُوحِ أَيْضًا وَهُوَ يَجِدُ الْمَشَقَّةَ فِي إزَالَتِهَا ؛ وَالْأَطِبَّاءُ لَا يَرَوْنَ فِي إزَالَتِهَا مَضَرَّةً عَلَى صَاحِبِ هَذِهِ الْقُرُوحِ ؛ غَيْرَ أَنَّهُ هُوَ يَجِدُ الْأَلَمَ وَالْمَشَقَّةَ فِي إزَالَةِ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَكْرَارِ الْوُضُوءِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إزَالَةُ ذَلِكَ لِيَصِلَ الْمَاءُ إلَى مَا تَسَتَّرَ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ مَعَ غَلَبَةِ ظَنِّهِ بَعْدَ تِلْكَ الْقُرُوحِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَتْ إزَالَتُهُ تُوجِبُ زِيَادَةَ الْمَرَضِ أَوْ تَأَخُّرَ الْبُرْءِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إزَالَتُهُ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ هَذَا وَلَا هَذَا أَزَالَهُ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ جِنْسِ الْوَسَخِ الَّذِي عَلَى الْعَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُزِيلَ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَرَى أَنَّ الْقَيْءَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ { قَاءَ مَرَّةً وَتَوَضَّأَ } وَرَوَى حَدِيثًا آخَرَ : { أَنَّهُ قَاءَ مَرَّةً فَغَسَلَ فَمَهُ وَقَالَ : هَكَذَا الْوُضُوءُ مِنْ الْقَيْءِ } فَهَلْ يُعْمَلُ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَمْ الثَّانِي ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَمَا سَمِعْت بِهِ . وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ فِي السُّنَنِ لَكِنْ لَفْظُهُ : { أَنَّهُ قَاءَ فَأَفْطَرَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لثوبان فَقَالَ : صَدَقَ أَنَا صَبَبْت لَهُ وَضُوءَهُ } . وَلَفْظُ الْوُضُوءِ لَمْ يَجِئْ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ إلَّا وَالْمُرَادُ بِهِ الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ وَلَمْ يَرِدْ لَفْظُ الْوُضُوءِ بِمَعْنَى غَسْلِ الْيَدِ وَالْفَمِ إلَّا فِي لُغَةِ الْيَهُودِ فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ { أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ : إنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ فَقَالَ ؛ مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ عَنْ الرُّعَافِ :
هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ : إذَا تَوَضَّأَ مِنْهُ فَهُوَ أَفْضَلُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .
وَسُئِلَ :
هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ النَّوْمُ جَالِسًا أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ جَالِسًا مُحْتَبِيًا بِيَدَيْهِ فَنَعَسَ وَانْفَلَتَتْ حَبْوَتُهُ وَسَقَطْت يَدُهُ عَلَى الْأَرْضِ وَمَالَ لَكِنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ جَنْبُهُ إلَى الْأَرْضِ : هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا النَّوْمُ الْيَسِيرُ مِنْ الْمُتَمَكِّنِ بِمَقْعَدَتِهِ فَهَذَا لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّ النَّوْمَ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِحَدَثِ فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ مَظِنَّةُ الْحَدَثِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ : { الْعَيْنُ وِكَاءُ السه فَإِذَا نَامَتْ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ } وَفِي

رِوَايَةٍ : { فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ } . وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ : أَنَّ النَّبِيَّ { كَانَ يَنَامُ حَتَّى يَنْفُخَ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ } لِأَنَّهُ كَانَ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ فَكَانَ يَقْظَانَ . فَلَوْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ لَشَعَرَ بِهِ . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ النَّوْمَ لَيْسَ بِحَدَثِ فِي نَفْسِهِ ؛ إذْ لَوْ كَانَ حَدَثًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَرْقٌ بَيْنَ النَّبِيِّ وَغَيْرِهِ كَمَا فِي الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَحْدَاثِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : أَنَّ النَّبِيَّ { كَانَ يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ حَتَّى كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ يَخْفُقُونَ بِرُءُوسِهِمْ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ } . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ جِنْسَ النَّوْمِ لَيْسَ بِنَاقِضِ ؛ إذْ لَوْ كَانَ نَاقِضًا لَانْتَقَضَ بِهَذَا النَّوْمِ الَّذِي تَخْفُقُ فِيهِ رُءُوسُهُمْ . ثُمَّ بَعْدَ هَذَا لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : قِيلَ : يَنْقُضُ مَا سِوَى نَوْمِ الْقَاعِدِ مُطْلَقًا . كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ . وَقِيلَ : لَا يَنْقُضُ نَوْمُ الْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ وَيَنْقُضُ نَوْمُ الرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ ؛

لِأَنَّ الْقَائِمَ وَالْقَاعِدَ لَا يَنْفَرِجُ فِيهِمَا مَخْرَجُ الْحَدَثِ كَمَا يَنْفَرِجُ مِنْ الرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ . وَقِيلَ : لَا يَنْقُضُ نَوْمُ الْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ وَالرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ بِخِلَافِ الْمُضْطَجِعِ وَغَيْرِهِ . كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ . لَكِنَّ مَذْهَبَ أَحْمَد التَّقْيِيدُ بِالنَّوْمِ الْيَسِيرِ . وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ : حَدِيثٌ فِي السُّنَنِ : { لَيْسَ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا لَكِنْ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا } فَإِنَّهُ إذَا نَامَ مُضْطَجِعًا اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ فَيَخْرُجُ الْحَدَثُ بِخِلَافِ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ مُتَمَاسِكَةٌ غَيْرُ مُسْتَرْخِيَةٍ فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَبَبٌ يَقْتَضِي خُرُوجَ الْخَارِجِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَكُونُ يَسِيرًا فِي الْعَادَةِ ؛ إذْ لَوْ اسْتَثْقَلَ لَسَقَطَ . وَالْقَاعِدُ إذَا سَقَطَتْ يَدَاهُ إلَى الْأَرْضِ فِيهِ قَوْلَانِ . وَالْأَظْهَرُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ إذَا شَكَّ الْمُتَوَضِّئُ : هَلْ نَوْمُهُ مِمَّا يَنْقُضُ أَوْ لَيْسَ مِمَّا يَنْقُضُ ؟ فَإِنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ ثَابِتَةٌ بِيَقِينِ فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
هَلْ لَمْسُ كُلِّ ذَكَرٍ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْحَيَوَانِ ؟ وَهَلْ بَاطِنُ الْكَفِّ هُوَ مَا دُونَ بَاطِنِ الْأَصَابِعِ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَمْسُ فَرْجِ الْحَيَوَانِ غَيْرُ الْإِنْسَانِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَجْهَيْنِ . وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي مَسِّ فَرْجِ الْإِنْسَانِ خَاصَّةً . وَبَطْنُ الْكَفِّ يَتَنَاوَلُ الْبَاطِنَ كُلَّهُ بَطْنَ الرَّاحَةِ وَالْأَصَابِعِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا يَنْقُضُ بِحَالِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ وَقَعَتْ يَدُهُ بِبَاطِنِ كَفِّهِ وَأَصَابِعِهِ عَلَى ذَكَرِهِ : فَهَلْ يَنْتَقِضُ وُضُوؤُهُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ .

وَسُئِلَ :
عَمَّا إذَا قَبَّلَ زَوْجَتَهُ أَوْ ضَمَّهَا فَأَمْذَى : هَلْ يَلْزَمُهُ وُضُوءٌ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ : أَمَّا الْوُضُوءُ فَيَنْتَقِضُ بِذَلِكَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْوُضُوءُ لَكِنْ يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ لَمْسِ النِّسَاءِ هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا نَقْضُ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ النِّسَاءِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : طَرَفَانِ وَوَسَطٌ . أَضْعَفُهَا : أَنَّهُ يَنْقُضُ اللَّمْسُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِشَهْوَةِ إذَا كَانَ الْمَلْمُوسُ مَظِنَّةً لِلشَّهْوَةِ . وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى : أَوْ لَمَسْتُمْ .

الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ اللَّمْسَ لَا يَنْقُضُ بِحَالِ وَإِنْ كَانَ لِشَهْوَةِ . كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ يَذْكُرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد ؛ لَكِنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِهِ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ : أَنَّ اللَّمْسَ إنْ كَانَ لِشَهْوَةِ نَقَضَ وَإِلَّا فَلَا . وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ مُتَوَجِّهٌ إلَّا هَذَا الْقَوْلُ أَوْ الَّذِي قَبْلَهُ . فَأَمَّا تَعْلِيقُ النَّقْضِ بِمُجَرَّدِ اللَّمْسِ فَهَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ وَخِلَافُ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَخِلَافُ الْآثَارِ . وَلَيْسَ مَعَ قَائِلِهِ نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ . فَإِنْ كَانَ اللَّمْسُ فِي قَوْله تَعَالَى أَوْ لَمَسْتُمْ النِّسَاءَ إذَا أُرِيدَ بِهِ اللَّمْسُ بِالْيَدِ وَالْقُبْلَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ - كَمَا قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ - : فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ حَيْثُ ذُكِرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَا كَانَ لِشَهْوَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي آيَةِ الِاعْتِكَافِ : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَمُبَاشَرَةُ الْمُعْتَكِفِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمُبَاشَرَةِ لِشَهْوَةِ . وَكَذَلِكَ الْمُحْرِمُ - الَّذِي هُوَ أَشَدُّ - لَوْ بَاشَرَ الْمَرْأَةَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بِهِ دَمٌ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } وَقَوْلُهُ : { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } فَإِنَّهُ لَوْ مَسَّهَا مَسِيسًا خَالِيًا مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَجِبْ بِهِ عِدَّةٌ وَلَا يَسْتَقِرُّ بِهِ مَهْرٌ ؛ وَلَا تَنْتَشِرُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ : بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ بِخِلَافِ مَا لَوْ مَسَّ الْمَرْأَةَ لِشَهْوَةِ

وَلَمْ يَخْلُ بِهَا وَلَمْ يَطَأْهَا : فَفِي اسْتِقْرَارِ الْمَهْرِ بِذَلِكَ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ : أَوْ لَمَسْتُمْ النِّسَاءَ يَتَنَاوَلُ اللَّمْسَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِشَهْوَةِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ اللُّغَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ بَلْ وَعَنْ لُغَةِ النَّاسِ فِي عُرْفِهِمْ فَإِنَّهُ إذَا ذُكِرَ الْمَسُّ الَّذِي يُقْرَنُ فِيهِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عُلِمَ أَنَّهُ مَسُّ الشَّهْوَةِ كَمَا أَنَّهُ إذَا ذُكِرَ الْوَطْءُ الْمَقْرُونُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عُلِمَ أَنَّهُ الْوَطْءُ بِالْفَرْجِ لَا بِالْقَدَمِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ : إنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِلَمْسِ النِّسَاءِ مُطْلَقًا ؛ بَلْ بِصِنْفِ مِنْ النِّسَاءِ وَهُوَ مَا كَانَ مَظِنَّةَ الشَّهْوَةِ . فَأَمَّا مَسُّ مَنْ لَا يَكُونُ مَظِنَّةً - كَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالصَّغِيرَةِ - فَلَا يُنْقَضُ بِهَا . فَقَدْ تَرَكَ مَا ادَّعَاهُ مِنْ الظَّاهِرِ وَاشْتَرَطَ شَرْطًا لَا أَصْلَ لَهُ بِنَصِّ وَلَا قِيَاسٍ ؛ فَإِنَّ الْأُصُولَ الْمَنْصُوصَةَ تُفَرِّقُ بَيْنَ اللَّمْسِ لِشَهْوَةِ وَاللَّمْسِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَلْمُوسُ مَظِنَّةَ الشَّهْوَةِ أَوْ لَا يَكُونَ وَهَذَا هُوَ الْمَسُّ الْمُؤَثِّرُ فِي الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا ؛ كَالْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَلَا الْقِيَاسُ : لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ . وَأَمَّا مَنْ عَلَّقَ النَّقْضَ بِالشَّهْوَةِ فَالظَّاهِرُ الْمَعْرُوفُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ دَلِيلٌ

لَهُ ؛ وَقِيَاسُ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ دَلِيلٌ . وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّمْسَ نَاقِضًا بِحَالِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ اللَّمْسَ إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْجِمَاعُ ؛ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . وَفِي السُّنَنِ : أَنَّ النَّبِيَّ { قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ ؛ } لَكِنْ تُكُلِّمَ فِيهِ . وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَسَّ النَّاسِ نِسَاءَهُمْ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَمَسُّ امْرَأَتَهُ ؛ فَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لَكَانَ النَّبِيُّ بَيَّنَهُ لِأُمَّتِهِ ؛ وَلَكَانَ مَشْهُورًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِمُجَرَّدِ مُلَاقَاةِ يَدِهِ لِامْرَأَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ : فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ بَاطِلٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ مَسِّ النِّسَاءِ : هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْفُقَهَاءِ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ بِحَالِ . كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ شَهْوَةٌ نَقَضَ وَإِلَّا فَلَا . وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ . وَالثَّالِثُ : يَنْقُضُ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِشَهْوَةِ . وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . وَعَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ كَالْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ قَوْلُ مَالِكٍ . وَالصَّحِيحُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَحَدُ قَوْلَيْنِ ؛ إمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ عَدَمُ النَّقْضِ مُطْلَقًا ؛ وَإِمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ النَّقْضُ إذَا كَانَ بِشَهْوَةِ . وَأَمَّا وُجُوبُ الْوُضُوءِ مِنْ مُجَرَّدِ مَسِّ الْمَرْأَةِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَهُوَ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ وَلَا يُعْرَفُ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا رَوَى أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْ ذَلِكَ ؛ مَعَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ غَالِبٌ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ فِيهِ أَحَدٌ فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ يُنَاوِلُ امْرَأَتَهُ شَيْئًا وَتَأْخُذُهُ بِيَدِهَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ ابْتِلَاءُ النَّاسِ بِهِ فَلَوْ كَانَ الْوُضُوءُ مِنْ ذَلِكَ وَاجِبًا لَكَانَ النَّبِيُّ يَأْمُرُ بِذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَيَشِيعُ ذَلِكَ وَلَوْ فَعَلَ لَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُ وَلَوْ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ أَمَرَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ - مَعَ عُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ - عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ

وَأَيْضًا فَلَوْ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ لَكَانُوا يَنْقُلُونَهُ وَيَأْمُرُونَ بِهِ . وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ مُجَرَّدِ الْمَسِّ الْعَارِي عَنْ شَهْوَةٍ بَلْ تَنَازَعَ الصَّحَابَةُ فِي قَوْله تَعَالَى { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَطَائِفَةٌ يَقُولُونَ : الْجِمَاعُ وَيَقُولُونَ : اللَّهُ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يُكَنِّي بِمَا يَشَاءُ عَمَّا شَاءَ . وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ . وَقَدْ تَنَازَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَالْعَرَبُ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالْمَوَالِي هَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ أَوْ مَا دُونَهُ ؟ فَقَالَتْ الْعَرَبُ : هُوَ الْجِمَاعُ . وَقَالَتْ : الْمَوَالِي هُوَ مَا دُونَهُ . وَتَحَاكَمُوا إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَصَوَّبَ الْعَرَبَ وَخَطَّأَ الْمَوَالِيَ . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ : قُبْلَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَمَسُّهَا بِيَدِهِ مِنْ الْمُلَامَسَةِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ ؛ لِكَوْنِهِمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ التَّيَمُّمَ لِلْجُنُبِ ؛ فَيَتَأَوَّلَانِ الْآيَةَ عَلَى نَقْضِ الْوُضُوءِ . وَلَكِنْ قَدْ صُرِّحَ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْجُنُبَ يَتَيَمَّمُ . وَقَدْ نَاظَرَ أَبُو مُوسَى ابْنَ مَسْعُودٍ بِالْآيَةِ فَلَمْ يُجِبْهُ ابْنُ مَسْعُودٍ بِشَيْءِ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ : فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ عَدَمِ اسْتِحْضَارِهِ لِمُوجَبِ الْآيَةِ .

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّحَابَةَ الْأَكَابِرَ الَّذِينَ أَدْرَكُوا النَّبِيَّ لَوْ كَانُوا يَتَوَضَّؤُونَ مَنْ مَسِّ نِسَائِهِمْ مُطْلَقًا ؛ وَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ : لَكَانَ هَذَا مِمَّا يَعْلَمُهُ بَعْضُ الصِّغَارِ ؛ كَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَبَعْضُ التَّابِعِينَ فَإِذَا لَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ صَاحِبٌ وَلَا تَابِعٌ : كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ الْقَوْمُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَالْآيَةُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الْجِمَاعَ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ كَانَ أُرِيدَ بِهَا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْجِمَاعِ فَيُقَالُ : حَيْثُ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مَسَّ النِّسَاءِ وَمُبَاشَرَتَهُنَّ وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَلَا يُرِيدُ بِهِ إلَّا مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ وَاللَّذَّةِ وَأَمَّا اللَّمْسُ الْعَارِي عَنْ ذَلِكَ فَلَا يُعَلِّقُ اللَّهُ بِهِ حُكْمًا مِنْ الْأَحْكَامِ أَصْلًا وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } فَنَهَى الْعَاكِفَ عَنْ مُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ مَعَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَوْ مَسَّ امْرَأَتَهُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَحْرُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ { : أَنَّهُ كَانَ يُدْنِي رَأْسَهُ إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَتُرَجِّلُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ مَظِنَّةُ مَسِّهِ لَهَا وَمَسِّهَا لَهُ . وَأَيْضًا فَالْإِحْرَامُ أَشَدُّ مِنْ الِاعْتِكَافِ وَلَوْ مَسَّتْهُ الْمَرْأَةُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَأْثَمْ بِذَلِكَ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ دَمٌ . وَهَذَا الْوَجْهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ جِهَةِ ظَاهِرِ الْخِطَابِ ؛ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَالِاعْتِبَارِ ؛ فَإِنَّ خِطَابَ اللَّهِ تَعَالَى

فِي الْقُرْآنِ بِذِكْرِ اللَّمْسِ وَالْمَسِّ وَالْمُبَاشَرَةِ لِلنِّسَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : لَا يَتَنَاوَلُ مَا تَجَرَّدَ عَنْ شَهْوَةٍ أَصْلًا وَلَمْ يَتَنَازَعْ الْمُسْلِمُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ وَالنِّزَاعُ فِيهَا مُتَأَخِّرٌ ؛ فَيَكُونُ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ قَاضِيًا عَلَى مَا تَنَازَعَ فِيهِ مُتَأَخِّرُوهُمْ . وَأَمَّا طَرِيقُ الِاعْتِبَارِ فَإِنَّ اللَّمْسَ الْمُجَرَّدَ لَمْ يُعَلِّقْ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ وَلَا جَعَلَهُ مُوجِبًا لِأَمْرِ وَلَا مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي عِبَادَةٍ وَلَا اعْتِكَافٍ وَلَا إحْرَامٍ ؛ وَلَا صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ ؛ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَلَا جَعَلَهُ يَنْشُرُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ ؛ وَلَا يُثْبِتُ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ بَلْ هَذَا فِي الشَّرْعِ كَمَا لَوْ مَسَّ الْمَرْأَةَ مِنْ وَرَاءِ ثَوْبِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسِّ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ سَبَبًا لِإِيجَابِ شَيْءٍ وَلَا تَحْرِيمِ شَيْءٍ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ إيجَابُ الْوُضُوءِ بِهَذَا مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُسْتَقِرَّةِ مُخَالِفًا لِلْمَنْقُولِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَكَانَ قَوْلًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ ؛ بَلْ الْمَعْلُومُ مِنْ السُّنَّةِ مُخَالَفَتُهُ بَلْ هَذَا أَضْعَفُ مِمَّنْ جَعَلَ الْمَنِيَّ نَجِسًا فَإِنَّ الْقَوْلَ بِنَجَاسَةِ الْمَنِيِّ ضَعِيفٌ فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِغَسْلِ مَا يُصِيبُ بَدَنَهُ أَوْ ثِيَابَهُ مِنْ الْمَنِيِّ مَعَ كَثْرَةِ مَا كَانَ يُصِيبُ النَّاسَ مِنْ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ ؛ وَقَدْ أَمَرَ الْحَائِضَ أَنْ تَغْسِلَ مَا أَصَابَ ثَوْبَهَا مِنْ الدَّمِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِإِصَابَةِ الْمَنِيِّ لِلرِّجَالِ ؛ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ بَلْ كَانَ يَغْسِلُ وَيَمْسَحُ تَقَذُّرًا

كَمَا كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَارَةً تَغْسِلُهُ وَتَارَةً تَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِهِ . وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولَانِ : أَمِطْهُ عَنْك وَلَوْ بإذخرة فَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَكَانَتْ عَمْرَةُ تَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِهِ فَإِنْ كَانَ فِي اعْتِقَادِهِ نَجَاسَةُ الْمَنِيِّ فَهَذَا نِزَاعٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالسُّنَّةُ تَفْصِلُ بَيْنَهُمْ . فَإِذَا كَانَتْ نَجَاسَةُ الْمَنِيِّ ضَعِيفَةً فِي السُّنَّةِ لِكَوْنِ النَّبِيِّ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ لَكِنَّ هَذَا أَضْعَفُ لِكَوْنِ الصَّحَابَةِ لَمْ يَحْكِ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُجَرَّدَ اللَّمْسِ الْعَارِي عَنْ الشَّهْوَةِ نَاقِضًا وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي اللَّمْسِ الْمُعْتَادِ لِلشَّهْوَةِ كَالْقُبْلَةِ وَالْغَمْزِ بِالْيَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَإِيجَابُ الْوُضُوءِ مِنْ جِنْسِ اللَّمْسِ كَمَسِّ النِّسَاءِ وَمَسِّ الذَّكَرِ إنْ لَمْ يُعَلَّلْ بِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ تَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ وَإِلَّا كَانَ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ فَأَمَّا إذَا عُلِّلَ بِتَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ كَانَ مُنَاسِبًا لِلْأُصُولِ وَهُنَا لِلْفُقَهَاءِ طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ ذَلِكَ مَظِنَّةُ خُرُوجِ النَّاقِضِ فَأُقِيمَتْ الْمَظِنَّةُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ . وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ الْمَظِنَّةَ إنَّمَا تُقَامُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ إذَا كَانَتْ الْحِكْمَةُ خَفِيَّةً وَكَانَتْ الْمَظِنَّةُ تُفْضِي إلَيْهَا غَالِبًا ؛ وَكِلَاهُمَا مَعْدُومٌ ؛ فَإِنَّ الْخَارِجَ لَوْ خَرَجَ لَعَلِمَ بِهِ الرَّجُلُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ مَسَّ الذَّكَرِ لَا يُوجِبُ خُرُوجَ شَيْءٍ فِي الْعَادَةِ أَصْلًا ؛ فَإِنَّ الْمَنِيَّ إنَّمَا يَخْرُجُ بِالِاسْتِمْنَاءِ

وَذَلِكَ يُوجِبُ الْغُسْلَ وَالْمَذْيُ يَخْرُجُ عَقِيبَ تَفَكُّرٍ وَنَظَرٍ وَمَسِّ الْمَرْأَةِ لَا الذَّكَرِ ؛ فَإِذَا كَانُوا لَا يُوجِبُونَ الْوُضُوءَ بِالنَّظَرِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ إفْضَاءً إلَى خُرُوجِ الْمَنِيِّ : فَبِمَسِّ الذَّكَرِ أَوْلَى . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : اللَّمْسُ سَبَبُ تَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ كَمَا فِي مَسِّ الْمَرْأَةِ وَتَحْرِيكُ الشَّهْوَةِ يُتَوَضَّأُ مِنْهُ كَمَا يُتَوَضَّأُ مِنْ الْغَضَبِ وَأَكْلِ لَحْمِ الْإِبِلِ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَثَرِ الشَّيْطَانِ الَّذِي يُطْفَأُ بِالْوُضُوءِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ : إنَّمَا يَتَوَضَّأُ إذَا انْتَشَرَ انْتِشَارًا شَدِيدًا . وَكَذَلِكَ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ : يَتَوَضَّأُ إذَا انْتَشَرَ لَكِنَّ هَذَا الْوُضُوءَ مِنْ اللَّمْسِ : هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ ؛ فَإِنَّ مَسْأَلَةَ الذَّكَرِ لَهَا مَوْضِعٌ أُخَرُ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا مَسْأَلَةُ مَسِّ النِّسَاءِ . وَالْأَظْهَرُ أَيْضًا أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ وَهَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَبِهَذَا تَجْتَمِعُ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ بِحَمْلِ الْأَمْرِ بِهِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لَيْسَ فِيهِ نَسْخُ قَوْلِهِ : { وَهَلْ هُوَ إلَّا بَضْعَةٌ مِنْك ؟ } وَحَمْلُ الْأَمْرُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ أَوْلَى مِنْ النَّسْخِ . وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ مُسْتَحَبٌّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي

مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَبِذَلِكَ يُجْمَعُ بَيْنَ أَمْرِهِ وَبَيْنَ تَرْكِهِ . فَأَمَّا النَّسْخُ فَلَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ بَلْ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ . وَكَذَلِكَ خُرُوجُ النَّجَاسَاتِ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ غَيْرَ السَّبِيلَيْنِ كَالْوُضُوءِ مِنْ الْقَيْءِ وَالرُّعَافِ وَالْحِجَامَةِ وَالْفِصَادِ وَالْجِرَاحِ : مُسْتَحَبٌّ كَمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ وَالصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ تَوَضَّئُوا مِنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا الْوَاجِبُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ مِنْ الْقَهْقَهَةِ مُسْتَحَبٌّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَالْحَدِيثُ الْمَأْثُورُ فِي أَمْرِ الَّذِينَ قَهْقَهُوا بِالْوُضُوءِ : وَجْهُهُ أَنَّهُمْ أَذْنَبُوا بِالضَّحِكِ وَمُسْتَحَبٌّ لِكُلِّ مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَمَا جَاءَ فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إلَّا غَفَرَ لَهُ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الرَّجُلِ يَمَسُّ الْمَرْأَةَ : هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ تَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ الْمَسِّ فَحَسَنٌ وَإِنْ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : (*)
إذَا مَسَّ يَدَ الصَّبِيِّ الْأَمْرَدِ : فَهَلْ هُوَ مَنْ جِنْسِ النِّسَاءِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ ؟ وَمَا جَاءَ فِي تَحْرِيمِ النَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ الْحَسَنِ ؟ وَهَلْ هَذَا الَّذِي يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ لِلشَّرِيعَةِ : إنَّ النَّظَرَ إلَى وَجْهِ الصَّبِيِّ الْأَمْرَدِ عِبَادَةٌ وَإِذَا قَالَ لَهُمْ : أَحَدٌ هَذَا النَّظَرُ حَرَامٌ يَقُولُ : أَنَا إذَا نَظَرْت إلَى هَذَا أَقُولُ : سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَهُ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَمَسِّ النِّسَاءِ لِشَهْوَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ . وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ . وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ فَإِنَّ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ يُفْسِدُ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَفْسُدُ بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ : كَالصِّيَامِ وَالْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَيُوجِبُ الْغُسْلَ

كَمَا يُوجِبُهُ هَذَا فَتَكُونُ مُقَدِّمَاتُ هَذَا فِي بَاب الْعِبَادَاتِ كَمُقَدِّمَاتِ هَذَا . فَلَوْ مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَعَلَيْهِ دَمٌ كَمَا لَوْ مَسَّ أَجْنَبِيَّةً لِشَهْوَةِ . وَكَذَلِكَ إذَا مَسَّهُ لِشَهْوَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ مَسَّ الْمَرْأَةَ لِشَهْوَةِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ . وَاَلَّذِي لَمْ يَنْقُضْ الْوُضُوءَ بِمَسِّهِ يَقُولُ : إنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ مَحَلًّا لِذَلِكَ فَيُقَالُ لَهُ : لَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ لِذَلِكَ وَأَنَّ الْفَاحِشَةَ اللُّوطِيَّةَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ لَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي بَابِ الْوَطْءِ ؛ فَإِنْ وَطِئَ فِي الدُّبُرِ تَعَلَّقَ بِهِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَحْكَامِ وَإِنْ كَانَ الدُّبُرُ لَمْ يُخْلَقْ مَحَلًّا لِلْوَطْءِ مَعَ أَنَّ نُفْرَةَ الطِّبَاعِ عَنْ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ أَعْظَمُ مَنْ نُفْرَتِهَا عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَنَقْضُ الْوُضُوءِ بِالْمَسِّ يُرَاعَى فِيهِ حَقِيقَةُ الْحِكْمَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَسُّ لِشَهْوَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ : كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا كَمَا يُرَاعَى مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَحَيْثُ وُجِدَ اللَّمْسُ لِشَهْوَةِ تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ حَتَّى لَوْ مَسَّ أُمَّهُ وَأُخْتَه وَبِنْتَه لِشَهْوَةِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ : فَكَذَلِكَ الْأَمْرَدُ . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ فَيَعْتَبِرُ الْمَظِنَّةَ وَهُوَ : أَنَّ النِّسَاءَ مَظِنَّةُ الشَّهْوَةِ فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ سَوَاءٌ بِشَهْوَةِ أَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَلِهَذَا لَا يَنْقُضُ لَمْسُ الْمَحَارِمِ لَكِنْ لَوْ لَمَسَ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ لِشَهْوَةِ فَقَدْ وُجِدَتْ حَقِيقَةُ الْحِكْمَةِ ؛ وَكَذَلِكَ إذَا مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةِ .

وَالتَّلَذُّذُ بِمَسِّ الْأَمْرَدِ كَمُصَافَحَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يَحْرُمُ التَّلَذُّذُ بِمَسِّ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ وَالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ بَلْ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ التَّلَذُّذِ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ اللُّوطِيِّ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ الزِّنَا بِالْأَجْنَبِيَّةِ فَيَجِبُ قَتْلُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا أَوْ لَمْ يَكُنْ وَسَوَاءٌ كَانَ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا لِلْآخَرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ وَعَمِلَ بِهِ أَصْحَابُهُ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ وَقَتْلُهُ بِالرَّجْمِ كَمَا قَتَلَ اللَّهُ قَوْمَ لُوطٍ بِالرَّجْمِ وَبِذَلِكَ جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ فِي قَتْلِ الزَّانِي : أَنَّهُ يُرْجَمُ فَرَجَمَ النَّبِيُّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ والغامدية واليهوديين ؛ وَالْمَرْأَةَ الَّتِي أَرْسَلَ إلَيْهَا أنيسا وَقَالَ : { اذْهَبْ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا . وَالنَّظَرُ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ لِشَهْوَةِ كَالنَّظَرِ إلَى وَجْهِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِالشَّهْوَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ الشَّهْوَةُ شَهْوَةَ الْوَطْءِ أَوْ شَهْوَةَ التَّلَذُّذِ بِالنَّظَرِ فَلَوْ نَظَرَ إلَى أُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَابْنَتِهِ يَتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا كَمَا يَتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ : كَانَ مَعْلُومًا لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّ هَذَا حَرَامٌ فَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ النَّظَرَ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ عِبَادَةٌ كَقَوْلِهِ : إنَّ النَّظَرَ إلَى وُجُوهِ النِّسَاءِ أَوْ النَّظَرِ إلَى وُجُوهِ مَحَارِمِ الرَّجُلِ - كَبِنْتِ الرَّجُلِ

وَأُمِّهِ وَأُخْتِهِ - عِبَادَةٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ جَعَلَ هَذَا النَّظَرَ الْمُحَرَّمَ عِبَادَةً كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ الْفَوَاحِشَ عِبَادَةً قَالَ تَعَالَى { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي صُوَرِ النِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ مِنْ الِاعْتِبَارِ وَالدِّلَالَةِ عَلَى الْخَالِقِ مَنْ جِنْسِ مَا فِي صُورَةِ الْمُرْدِ : فَهَلْ يَقُولُ مُسْلِمٌ : إنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَنْظُرَ بِهَذَا الْوَجْهِ إلَى صُوَرِ نِسَاءِ الْعَالَمِ وَصُوَرِ مَحَارِمِهِ وَيَقُولُ : إنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ ؟ بَلْ مَنْ جَعَلَ مِثْلَ هَذَا النَّظَرَ عِبَادَةً فَإِنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ إعَانَةَ طَالِبِ الْفَوَاحِشِ عِبَادَةً ؛ أَوْ جَعَلَ تَنَاوُلَ يَسِيرِ الْخَمْرِ عِبَادَةً ؛ أَوْ جَعَلَ السُّكْرَ بِالْحَشِيشَةِ عِبَادَةً . فَمَنْ جَعَلَ الْمُعَاوَنَةَ عَلَى الْفَاحِشَةِ بِقِيَادَةِ أَوْ غَيْرِهَا عِبَادَةً أَوْ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يَعْلَمُ تَحْرِيمَهَا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ عِبَادَةً : فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَهُوَ مُضَاهٍ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَفَاحِشَةُ أُولَئِكَ إنَّمَا كَانَتْ طَوَافَهُمْ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَكَانُوا يَقُولُونَ : لَا نَطُوفُ فِي الثِّيَابِ الَّتِي عَصَيْنَا اللَّهَ فِيهَا فَهَؤُلَاءِ إنَّمَا كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً عَلَى وَجْهِ اجْتِنَابِ ثِيَابِ الْمَعْصِيَةِ وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُمْ مَا ذُكِرَ فَكَيْفَ بِمَنْ يَجْعَلُ جِنْسَ الْفَاحِشَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشَّهْوَةِ عِبَادَةً ؟

وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَ فِي كِتَابِهِ بِغَضِّ الْبَصَرِ وَهُوَ نَوْعَانِ : غَضُّ الْبَصَرِ عَنْ الْعَوْرَةِ وَغَضُّهَا عَنْ مَحَلِّ الشَّهْوَةِ . فَالْأَوَّلُ كَغَضِّ الرَّجُلِ بَصَرَهُ عَنْ عَوْرَةِ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ { : لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَلَا تَنْظُرُ الْمَرْأَةُ إلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ } وَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ { لمعاوية بْنِ حَيْدَةَ : احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجَتِك أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك قُلْت : فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا مَعَ قَوْمِهِ ؟ قَالَ : إنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا قُلْت : فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا ؟ قَالَ : فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحَيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ } . وَيَجُوزُ أَنْ يَكْشِفَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ كَمَا يَكْشِفُ عِنْدَ التَّخَلِّي وَكَذَلِكَ إذَا اغْتَسَلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ بِجَنْبِ مَا يَسْتُرُهُ فَلَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ عريانا كَمَا اغْتَسَلَ مُوسَى عريانا وَأَيُّوبُ وَكَمَا فِي اغْتِسَالِهِ يَوْمَ الْفَتْحِ وَاغْتِسَالِهِ فِي حَدِيث مَيْمُونَةَ . وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ النَّظَرِ : كَالنَّظَرِ إلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ مِنْ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ فَهَذَا أَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ كَمَا أَنَّ الْخَمْرَ أَشَدُّ مِنْ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَعَلَى صَاحِبِهَا الْحَدُّ . وَتِلْكَ الْمُحَرَّمَاتُ إذَا تَنَاوَلَهَا غَيْرُ مُسْتَحِلٍّ لَهَا كَانَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ لَا تَشْتَهِيهَا النُّفُوسُ كَمَا تَشْتَهِي الْخَمْرَ وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ لَا يُشْتَهَى كَمَا يُشْتَهَى النَّظَرُ إلَى

النِّسَاءِ وَنَحْوِهِنَّ ؛ وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى الْأَمْرَدِ بِشَهْوَةِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ لِشَهْوَةِ وَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ يُسَبَّحُ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَخْلُوقَاتِهِ كُلِّهَا وَلَيْسَ خَلْقُ الْأَمْرَدِ بِأَعْجَبَ فِي قُدْرَتِهِ مَنْ خَلْقِ ذِي اللِّحْيَةِ وَلَا خَلْقُ النِّسَاءِ بِأَعْجَبَ فِي قُدْرَتِهِ مَنْ خَلْقِ الرِّجَالِ ؛ بَلْ تَخْصِيصُ الْإِنْسَانِ التَّسْبِيحَ بِحَالِ نَظَرِهِ إلَى الْأَمْرَدِ دُونَ غَيْرِهِ : كَتَخْصِيصِهِ التَّسْبِيحَ بِنَظَرِهِ إلَى الْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ وَمَا ذَاكَ لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى عَظَمَةِ الْخَالِقِ عِنْدَهُ وَلَكِنْ لِأَنَّ الْجَمَالَ يُغَيِّرُ قَلْبَهُ وَعَقْلَهُ وَقَدْ يُذْهِلُهُ مَا رَآهُ فَيَكُونُ تَسْبِيحُهُ بِمَا يَحْصُلُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْهَوَى . كَمَا أَنَّ النِّسْوَةَ لَمَّا رَأَيْنَ يُوسُفَ { أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إنْ هَذَا إلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ } وَإِذَا كَانَ اللَّهُ لَا يَنْظُرُ إلَى الصُّوَرِ وَالْأَمْوَالِ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ : فَكَيْفَ يُفَضَّلُ الشَّخْصُ بِمَا لَمْ يُفَضِّلْهُ اللَّهُ بِهِ ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وَقَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ

هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ تُعْجِبُ النَّاظِرَ أَجْسَامُهُمْ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْبَهَاءِ وَالرِّوَاءِ وَالزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ - وَلَيْسُوا مِمَّنْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِشَهْوَةِ - قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا ذَكَرَ : فَكَيْفَ بِمَنْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِشَهْوَةِ ؟ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى ؛ وَهُنَا الِاعْتِبَارُ بِقَلْبِهِ وَعَمَلِهِ لَا بِصُورَتِهِ وَقَدْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الصُّورَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُصَوِّرِ فَهَذَا حَسَنٌ . وَقَدْ يُنْظَرُ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اسْتِحْسَانِ خَلْقِهِ كَمَا يُنْظَرُ إلَى الْجَبَلِ وَالْبَهَائِمِ وَكَمَا يُنْظَرُ إلَى الْأَشْجَارِ : فَهَذَا أَيْضًا إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ اسْتِحْسَانِ الدُّنْيَا وَالرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ فَهُوَ مَذْمُومٌ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } وَأَمَّا إنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُنْقِصُ الدِّينَ وَإِنَّمَا فِيهِ رَاحَةُ النَّفْسِ فَقَطْ - كَالنَّظَرِ إلَى الْأَزْهَارِ - فَهَذَا مِنْ الْبَاطِلِ الَّذِي يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الْحَقِّ . وَكُلُّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَتَى كَانَ مَعَهُ شَهْوَةٌ كَانَ حَرَامًا بِلَا رَيْبٍ سَوَاءٌ كَانَتْ شَهْوَةَ تَمَتُّعٍ بِنَظَرِ الشَّهْوَةِ أَوْ كَانَ نَظَرًا بِشَهْوَةِ الْوَطْءِ وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ عِنْدَ نَظَرِهِ الْأَشْجَارَ وَالْأَزْهَارَ وَمَا يَجِدُهُ عِنْدَ نَظَرِهِ النسوان والمردان ؛ فَلِهَذَا الْفَرْقَانِ افْتَرَقَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فَصَارَ النَّظَرُ إلَى الْمُرْدِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ :

أَحَدُهَا : مَا يُقْرَنُ بِهِ الشَّهْوَةُ فَهُوَ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ . وَالثَّانِي : مَا يُجْزَمُ أَنَّهُ لَا شَهْوَةَ مَعَهُ : كَنَظَرِ الرَّجُلِ الْوَرِعِ إلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ وَابْنَتِهِ الْحَسَنَةِ وَأُمِّهِ ؛ فَهَذَا لَا يُقْرَنُ بِهِ شَهْوَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مَنْ أَفْجَرِ النَّاسِ وَمَتَى اقْتَرَنَتْ بِهِ الشَّهْوَةُ حَرُمَ . وَعَلَى هَذَا مَنْ لَا يَمِيلُ قَلْبُهُ إلَى الْمُرْدِ - كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ ؛ وَكَالْأُمَمِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ هَذِهِ الْفَاحِشَةَ ؛ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ وَبَيْنَ نَظَرِهِ إلَى ابْنِهِ وَابْنِ جَارِهِ وَصَبِيٍّ أَجْنَبِيٍّ وَلَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ الشَّهْوَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَدْ ذَلِكَ وَهُوَ سَلِيمُ الْقَلْبِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَتْ الْإِمَاءُ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ يَمْشِينَ فِي الطُّرُقَاتِ وَهُنَّ مُتَكَشِّفَاتِ الرُّءُوسِ وَتَخْدِمُ الرِّجَالَ مَعَ سَلَامَةِ الْقُلُوبِ فَلَوْ أَرَادَ الرِّجُلُ أَنْ يَتْرُكَ الْإِمَاءَ التُّرْكِيَّاتِ الْحِسَانَ يَمْشِينَ بَيْنَ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ وَالْأَوْقَاتِ كَمَا كَانَ أُولَئِكَ الْإِمَاءُ يَمْشِينَ : كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ الْفَسَادِ . وَكَذَلِكَ الْمُرْدُ الْحِسَانُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَخْرُجُوا فِي الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ الَّتِي يُخَافُ فِيهَا الْفِتْنَةُ بِهِمْ إلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَلَا يُمَكَّنُ الْأَمْرَدُ الْحَسَنُ مِنْ التَّبَرُّجِ وَلَا مِنْ الْجُلُوسِ فِي الْحَمَّامِ بَيْنَ الْأَجَانِبِ وَلَا مِنْ رَقْصِهِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ فِتْنَةٌ لِلنَّاسِ وَالنَّظَرُ إلَيْهِ : كَذَلِكَ . وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ النَّظَرِ وَهُوَ :

النَّظَرُ إلَيْهِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَكِنْ مَعَ خَوْفِ ثَوَرَانِهَا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : أَصَحُّهُمَا - وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ . وَالثَّانِي : يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ثَوَرَانِهَا فَلَا يَحْرُمُ بِالشَّكِّ بَلْ قَدْ يُكْرَهُ . وَالْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ كَمَا أَنَّ الرَّاجِحَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّ النَّظَرَ إلَى وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَتْ الشَّهْوَةُ مُنْتَفِيَةً لَكِنْ لِأَنَّهُ يَخَافُ ثَوَرَانَهَا ؛ وَلِهَذَا حَرُمَتْ الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ سَبَبًا لِلْفِتْنَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ فَإِنَّ الذَّرِيعَةَ إلَى الْفَسَادِ يَجِبُ سَدُّهَا إذَا لَمْ يُعَارِضْهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّظَرُ الَّذِي يُفْضِي إلَى الْفِتْنَةِ مُحَرَّمًا إلَّا إذَا كَانَ لِمَصْلَحَةِ رَاجِحَةٍ مِثْلَ نَظَرِ الْخَاطِبِ وَالطَّبِيبِ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ لِلْحَاجَةِ لَكِنْ مَعَ عَدَمِ الشَّهْوَةِ . وَأَمَّا النَّظَرُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ إلَى مَحَلِّ الْفِتْنَةِ فَلَا يَجُوزُ . وَمَنْ كَرَّرَ النَّظَرَ إلَى الْأَمْرَدِ وَنَحْوِهِ أَوْ أَدَامَهُ وَقَالَ : إنِّي لَا أَنْظُرُ لِشَهْوَةِ : كَذَبَ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ دَاعٍ يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى النَّظَرِ لَمْ يَكُنْ النَّظَرُ إلَّا لِمَا يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ مِنْ اللَّذَّةِ بِذَلِكَ وَأَمَّا نَظْرَةُ الْفَجْأَةِ فَهِيَ عَفْوٌ إذَا صَرَفَ بَصَرَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ جَرِيرٍ قَالَ : سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ :

اصْرِفْ بَصَرَك } وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ { قَالَ لِعَلِيِّ : يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّمَا لَك الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الثَّانِيَةُ } . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمَسْنَدِ وَغَيْرِهِ : { النَّظَرُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ } وَفِيهِ : { مَنْ نَظَرَ إلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ ثُمَّ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْهَا أَوْرَثَ اللَّهُ قَلْبَهُ حَلَاوَةَ عِبَادَةٍ يَجِدُهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } - أَوْ كَمَا قَالَ - وَلِهَذَا يُقَالُ : إنَّ غَضَّ الْبَصَرِ عَنْ الصُّورَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْ النَّظَرِ إلَيْهَا - كَالْمَرْأَةِ وَالْأَمْرَدِ الْحَسَنِ - يُورِثُ ذَلِكَ ثَلَاثَ فَوَائِدَ جَلِيلَةَ الْقَدْرِ : إحْدَاهَا : حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ وَلَذَّتُهُ الَّتِي هِيَ أَحْلَى وَأَطْيَبُ مِمَا تَرَكَهُ لِلَّهِ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ وَالنَّفْسُ تُحِبُّ النَّظَرَ إلَى هَذِهِ الصُّوَرِ لَا سِيَّمَا نُفُوسُ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ وَالصَّفَا فَإِنَّهُ يَبْقَى فِيهَا رِقَّةٌ تُجْتَذَبُ بِسَبَبِهَا إلَى الصُّوَرِ حَتَّى تَبْقَى تَجْذِبُ أَحَدَهُمْ وَتَصْرَعُهُ كَمَا يَصْرَعُهُ السَّبُعُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ : مَا أَنَا عَلَى الشَّابِّ التَّائِبِ مِنْ سَبُعٍ يَجْلِسُ إلَيْهِ بِأَخْوَفَ عَلَيْهِ مِنْ حَدَثٍ جَمِيلٍ يَجْلِسُ إلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : اتَّقُوا النَّظَرَ إلَى أَوْلَادِ الْمُلُوكِ فَإِنَّ لَهُمْ فِتْنَةً كَفِتْنَةِ الْعَذَارَى . وَمَا زَالَ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ - كَشُيُوخِ الْهُدَى وَشُيُوخِ الطَّرِيقِ - يُوصُونَ بِتَرْكِ صُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ حَتَّى يُرْوَى عَنْ فَتْحٍ الموصلي أَنَّهُ قَالَ :

صَحِبْت ثَلَاثِينَ مِنْ الْأَبْدَالِ كُلُّهُمْ يُوصِينِي عِنْدَ فِرَاقِهِ بِتَرْكِ صُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَا سَقَطَ عَبْدٌ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ إلَّا بِصُحْبَةِ هَؤُلَاءِ الْأَنَّتَانِ . ثُمَّ النَّظَرُ يُؤَكِّدُ الْمَحَبَّةَ فَيَكُونُ عِلَاقَةً لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ ؛ ثُمَّ صَبَابَةً لِانْصِبَابِ الْقَلْبِ إلَيْهِ ؛ ثُمَّ غَرَامًا لِلُزُومِهِ لِلْقَلْبِ كَالْغَرِيمِ الْمُلَازِمِ لِغَرِيمِهِ ؛ ثُمَّ عِشْقًا إلَى أَنْ يَصِيرَ تتيما وَالْمُتَيَّمُ الْمُعَبَّدُ وَتَيَّمَ اللَّهُ عَبْدَ اللَّهِ فَيَبْقَى الْقَلْبُ عَبْدًا لِمَنْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ أَخًا بَلْ وَلَا خَادِمًا وَهَذَا إنَّمَا يُبْتَلَى بِهِ أَهْلُ الْأَعْرَاضِ عَنْ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ يُوسُفَ : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } فَامْرَأَةُ الْعَزِيزِ كَانَتْ مُشْرِكَةً فَوَقَعَتْ مَعَ تَزَوُّجِهَا فِيمَا وَقَعَتْ فِيهِ مِنْ السُّوءِ وَيُوسُفُ مَعَ عُزُوبَتِهِ وَمُرَاوَدَتِهَا لَهُ وَاسْتِعَانَتِهَا عَلَيْهِ بِالنِّسْوَةِ وَعُقُوبَتِهَا لَهُ بِالْحَبْسِ عَلَى الْعِفَّةِ : عَصَمَهُ اللَّهُ بِإِخْلَاصِهِ لِلَّهِ ؛ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ : { لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } قَالَ تَعَالَى : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } وَالْغَيُّ هُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى . وَهَذَا الْبَابُ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ اتِّبَاعِ الْهَوَى . وَمَنْ أَمَرَ بِعِشْقِ الصُّوَرِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ كَابْنِ سِينَا وَذَوِيهِ أَوْ مِنْ الْفُرْسِ كَمَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِهِمْ ؛ أَوْ مِنْ جُهَّالِ الْمُتَصَوِّفَةِ : فَإِنَّهُمْ أَهْلُ ضَلَالٍ وَغَيٍّ فَهُمْ مَعَ مُشَارَكَةِ الْيَهُودِ فِي الْغَيِّ وَالنَّصَارَى فِي الضَّلَالِ زَادُوا عَلَى الْأُمَّتَيْنِ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ

هَذَا وَإِنْ ظُنَّ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْعَاشِقِ كَتَطْلِيقِ نَفْسِهِ وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِ وَلِلْمَعْشُوقِ مِنْ الشِّفَاءِ فِي مَصَالِحِهِ وَتَعْلِيمِهِ وَتَأْدِيبِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : فَمَضَرَّةُ ذَلِكَ أَضْعَافُ مَنْفَعَتِهِ . وَأَيْنَ إثْمُ ذَلِكَ مِنْ مَنْفَعَتِهِ ؟ وَإِنَّمَا هَذَا كَمَا يُقَالُ : إنَّ فِي الزِّنَا مَنْفَعَةً لِكُلِّ مِنْهُمَا بِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ التَّلَذُّذِ وَالسُّرُورِ وَيَحْصُلُ لَهَا مِنْ الْجُعْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَمَا يُقَالُ : إنَّ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ مَنَافِعُ بَدَنِيَّةٌ وَنَفْسِيَّةٌ . وَقَدْ قَالَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ : { قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } وَهَذَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ دَعْ مَا قَالَهُ عِنْدَ التَّحْرِيمِ وَبَعْدَهُ . وَبَابُ التَّعَلُّقِ بِالصُّوَرِ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْفَوَاحِشِ وَبَاطِنُهُ مِنْ بَاطِنِ الْفَوَاحِشِ وَهُوَ مِنْ بَاطِنِ الْإِثْمِ قَالَ تَعَالَى : { وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } وَقَدْ قَالَ : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } . وَلَيْسَ بَيْنَ أَئِمَّةِ الدِّينِ نِزَاعٌ فِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُسْتَحَبِّ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ فَمَنْ جَعَلَهُ مَمْدُوحًا وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ؛ بَلْ وَعَمَّا عَلَيْهِ عُقَلَاءُ بَنِي آدَمَ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَهُوَ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } وَقَدْ قَالَ

تَعَالَى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } وَقَالَ تَعَالَى { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } . وَأَمَّا مَنْ نَظَرَ إلَى الْمُرْدِ ظَانًّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى الْجَمَالِ الْإِلَهِيِّ وَجَعَلَ هَذَا طَرِيقًا لَهُ إلَى اللَّهِ - كَمَا يَفْعَلُهُ طَوَائِفُ مِنْ الْمُدَّعِينَ لِلْمَعْرِفَةِ - فَقَوْلُهُ هَذَا أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ قَوْلِ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَمِنْ كُفْرِ قَوْمِ لُوطٍ فَهَؤُلَاءِ مِنْ شَرِّ الزَّنَادِقَةِ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ يَجِبُ قَتْلُهُمْ بِإِجْمَاعِ كُلِّ الْأُمَّةِ ؛ فَإِنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ قَالُوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى } وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ اللَّهَ مَوْجُودًا فِي نَفْسِ الْأَصْنَامِ وَحَالًّا فِيهَا ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ بِظُهُورِهِ وَتَجَلِّيهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَيْهِ وَآيَاتٌ لَهُمْ ؛ بَلْ يُرِيدُونَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ ظَهَرَ فِيهَا وَتَجَلَّى فِيهَا وَيُشَبِّهُونَ ذَلِكَ بِظُهُورِ الْمَاءِ فِي الزُّجَاجَةِ ؛ وَالزُّبْدِ فِي اللَّبَنِ ؛ وَالزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ وَالدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي حُلُولَ نَفْسِ ذَاتِهِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ أَوْ اتِّحَادَهُ بِهَا فِي جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ نَظِيرَ مَا قَالَتْهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ خَاصَّةً يَجْعَلُونَ الْمُرْدَ مَظَاهِرَ الْجَمَالِ فَيُقَرِّرُونَ هَذَا الشِّرْكَ الْأَعْظَمَ طَرِيقًا إلَى اسْتِحْلَالِ الْفَوَاحِشِ بَلْ إلَى اسْتِحْلَالِ كُلِّ مُحَرَّمٍ كَمَا قِيلَ لِأَفْضَلِ مُتَأَخِّرِيهِمْ - التِّلْمِسَانِيّ - : إذَا كَانَ قَوْلُكُمْ بِأَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ هُوَ الْحَقَّ . فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ أُمِّي وَأُخْتِي

وَابْنَتِي : تَكُونُ هَذِهِ حَلَالًا وَهَذِهِ حَرَامًا ؟ فَقَالَ الْجَمِيعُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ لَكِنْ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ قَالُوا : حَرَامٌ . فَقُلْنَا : حَرَامٌ عَلَيْكُمْ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْحُلُولِيَّةِ والاتحادية مَنْ يَخُصُّ الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ بِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ : إمَّا بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ كَالْمَسِيحِ ؛ أَوْ بِبَعْضِ الصَّحَابَةِ كَقَوْلِ الْغَالِيَةِ فِي عَلِيٍّ ؛ أَوْ بِبَعْضِ الشُّيُوخِ كَالْحَلَّاجِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ ؛ أَوْ بِبَعْضِ الْمُلُوكِ ؛ أَوْ بِبَعْضِ الصُّوَرِ كَصُوَرِ الْمُرْدِ وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ : أَنَا أَنْظُرُ إلَى صِفَاتِ خَالِقِي وَأَشْهَدُهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ . وَالْكُفْرُ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَوْ قَالَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامَ فِي نَبِيٍّ كَرِيمٍ لَكَانَ كَافِرًا : فَكَيْفَ إذَا قَالَهُ فِي صَبِيٍّ أَمْرَدَ ؟ فَقَبَّحَ اللَّهُ طَائِفَةً يَكُونُ مَعْبُودُهَا مِنْ جِنْسِ مَوْطُوئِهَا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } فَإِذَا كَانَ مَنْ اتَّخَذَ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلَّهِ كُفَّارًا : فَكَيْفَ بِمَنْ اتَّخَذَ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ أَرْبَابًا مَعَ قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ فِيهَا أَوْ مُتَّحِدٌ بِهَا ؟ فَوُجُودُهَا وَجُودُهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ ؟ . وَأَمَّا الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ فِي غَضِّ الْبَصَرِ فَهُوَ : أَنَّهُ يُورِثُ نُورَ الْقَلْبِ وَالْفِرَاسَةِ قَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ لُوطٍ : { لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ }

فَالتَّعَلُّقُ فِي الصُّوَرِ يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْلِ وَعَمَى الْبَصِيرَةِ وَسُكْرَ الْقَلْبِ بَلْ جُنُونَهُ كَمَا قِيلَ :
سكران : سُكْرُ هَوًى وَسُكْرُ مُدَامَةٍ * * * فَمَتَى إفَاقَةُ مَنْ بِهِ سكران ؟
وَقِيلَ :
قَالُوا جُنِنْت بِمَنْ تَهْوَى ؟ فَقُلْت لَهُمْ * * * الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِينِ
الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ * * * وَإِنَّمَا يُصْرَعُ الْمَجْنُونُ فِي الْحِينِ
وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ آيَةَ النُّورِ عَقِيب آيَاتِ غَضِّ الْبَصَرِ فَقَالَ : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَكَانَ شاه بْنُ شُجَاعٍ الكرماني لَا تُخْطِئُ لَهُ فِرَاسَةٌ وَكَانَ يَقُولُ : مَنْ عَمَّرَ ظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَبَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ ؛ وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ ؛ وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ ؛ وَذَكَرَ خَصْلَةً خَامِسَةً وَهِيَ أَكْلُ الْحَلَالِ : لَمْ تُخْطِئْ لَهُ فِرَاسَةٌ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَجْزِي الْعَبْدَ عَلَى عَمَلِهِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ فَغَضُّ بَصَرِهِ عَمَّا حَرُمَ يُعَوِّضُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِهِ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ ؛ فَيُطْلِقُ نُورَ بَصِيرَتِهِ وَيَفْتَحُ عَلَيْهِ

بَابَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْكُشُوفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَنَالُ بِبَصِيرَةِ الْقَلْبِ . وَالْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ : قُوَّةُ الْقَلْبِ وَثَبَاتُهُ وَشَجَاعَتُهُ فَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ سُلْطَانَ النُّصْرَةِ مَعَ سُلْطَانِ الْحُجَّةِ . وَفِي الْأَثَرِ : " الَّذِي يُخَالِفُ هَوَاهُ يَفْرُقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ " وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي الْمُتَّبِعِ لِهَوَاهُ مِنْ الذُّلِّ - ذُلِّ النَّفْسِ وَضَعْفِهَا وَمَهَانَتِهَا - مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِمَنْ عَصَاهُ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْعِزَّةَ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَالذِّلَّةَ لِمَنْ عَصَاهُ قَالَ تَعَالَى : { يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } . وَلِهَذَا كَانَ فِي كَلَامِ الشُّيُوخِ : النَّاسُ يَطْلُبُونَ الْعِزَّ مِنْ أَبْوَابِ الْمُلُوكِ وَلَا يَجِدُونَهُ إلَّا فِي طَاعَةِ اللَّهِ . وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ : وَإِنْ هَمْلَجَتْ بِهِمْ الْبَرَاذِينُ وَطَقْطَقْت بِهِمْ الْبِغَالُ فَإِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ فِي رِقَابِهِمْ يَأْبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ . وَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَقَدْ وَالَاهُ فِيمَا أَطَاعَهُ فِيهِ وَمَنْ عَصَاهُ فَفِيهِ قِسْطٌ مِنْ فِعْلِ مَنْ عَادَاهُ بِمَعَاصِيهِ . وَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ : { أَنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْت وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْت . } وَالصُّوفِيَّةُ الْمَشْهُورُونَ عِنْدَ الْأُمَّةِ الَّذِينَ لَهُمْ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَحِبُّونَ مِثْلَ هَذَا ؛ بَلْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَلَهُمْ فِي الْكَلَامِ فِي ذَمِّ صُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ وَفِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْحُلُولِ وَبَيَانِ مُبَايَنَةِ الْخَالِقِ لِلْمَخْلُوقِ ؛

مَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهِ وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَهُ مِنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ مِمَّنْ هُوَ عَاصٍ أَوْ فَاسِقٌ أَوْ كَافِرٌ ؛ فَتَظَاهَرَ بِدَعْوَى الْوِلَايَةِ لِلَّهِ وَتَحْقِيقِ الْإِيمَانِ وَالْعِرْفَانِ وَهُوَ مِنْ شَرِّ أَهْلِ الْعَدَاوَةِ لِلَّهِ وَأَهْلِ النِّفَاقِ وَالْبُهْتَانِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَجْمَعُ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَجْعَلُ لِأَعْدَائِهِ الصَّفْقَةَ الْخَاسِرَةَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الْإِبِلِ : هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَمْ لَا . وَهَلْ حَدِيثُهُ مَنْسُوخٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ ؟ قَالَ : إنْ شِئْت فَتَوَضَّأْ وَإِنْ شِئْت فَلَا تَتَوَضَّأْ . قَالَ : أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ ؟ . قَالَ : نَعَمْ تَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ . قَالَ : أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ ؟ . قَالَ : نَعَمْ قَالَ أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ ؟ قَالَ : لَا } . وَثَبَتَ ذَلِكَ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ . قَالَ أَحْمَد فِيهِ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ : حَدِيثُ الْبَرَاءِ وَحَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ . وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ . مِنْهَا : مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَلَا تَوَضَّؤُوا مِنْ

لُحُومِ الْغَنَمِ ؛ وَصَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ } . وَرُوِيَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ . وَهَذَا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ أَصَحُّ وَأَبْعَدُ عَنْ الْمُعَارِضِ مِنْ أَحَادِيثِ مَسِّ الذَّكَرِ وَأَحَادِيثِ الْقَهْقَهَةِ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِ جَابِرٍ : كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ لَحْمِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ إذْ كِلَاهُمَا فِي مَسِّ النَّارِ سَوَاءٌ فَلَمَّا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَأَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ هَذَا وَخَيَّرَ فِي الْوُضُوءِ مِنْ الْآخَرِ . عُلِمَ بُطْلَانُ هَذَا التَّعْلِيلِ . وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ مَسَّ النَّارِ فَنَسْخُ التَّوَضُّؤِ مِنْ ذَلِكَ لِأَمْرِ لَا يُوجِبُ نَسْخَ التَّوَضُّؤِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى بَلْ يُقَالُ : كَانَتْ لُحُومُ الْإِبِلِ أَوَّلًا يُتَوَضَّأُ مِنْهَا كَمَا يُتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ وَغَيْرِهَا . ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْأَمْرُ الْعَامُّ الْمُشْتَرَكُ . فَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ لَحْمُ الْإِبِلِ فَلَوْ كَانَ قَبْلَ النَّسْخِ لَمْ يَكُنْ مَنْسُوخًا فَكَيْفَ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ . يُؤَيِّدُ ذَلِكَ " الْوَجْهُ الثَّانِي " وَهُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ كَانَ بَعْدَ نَسْخِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ فَإِنَّهُ بَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ وَقَدْ أَمَرَ فِيهِ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ بَعْدَ النَّسْخِ .

الثَّالِثُ : أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْوُضُوءِ وَفِي الصَّلَاةِ فِي الْمَعَاطِنِ أَيْضًا وَهَذَا التَّفْرِيقُ ثَابِتٌ مُحْكَمٌ لَمْ يَأْتِ عَنْهُ نَصٌّ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ فَدَعْوَى النَّسْخِ بَاطِلٌ بَلْ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّلَاةِ يُوجِبُ الْعَمَلَ فِيهِ بِالْوُضُوءِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا .
الرَّابِعُ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْوُضُوءَ مِنْهُ نِيئًا وَمَطْبُوخًا وَذَلِكَ يَمْنَعُ كَوْنَهُ مَنْسُوخًا .
الْخَامِسُ أَنَّهُ لَوْ أَتَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصٌّ عَامٌّ بِقَوْلِهِ : لَا وُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ لَمْ يَجُزْ جَعْلُهُ نَاسِخًا لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ قَبْلَهُ وَإِذَا تَعَارَضَ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ وَلَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّهُ يَنْسَخُهُ بَلْ إمَّا أَنْ يُقَالَ الْخَاصُّ هُوَ الْمُقَدَّمُ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَإِمَّا أَنْ يُتَوَقَّفَ ؛ بَلْ لَوْ عُلِمَ أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ الْخَاصِّ لَكَانَ الْخَاصُّ مُقَدَّمًا . ( الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْخَاصَّ بَعْدَ الْعَامِّ فَإِنْ كَانَ نَسْخٌ كَانَ الْخَاصُّ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131