الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

وَالثَّانِي : رُؤْيَةُ الْمِثَالِ ؛ وَهِيَ الرُّؤْيَةُ فِي مَاءٍ وَمِرْآةٍ وَنَحْوِهِمَا . وَهِيَ رُؤْيَةٌ مُقَيَّدَةٌ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ لَوْ حَلَفَ لَا رَأَيْت زَيْدًا ؛ فَرَأَى صُورَتَهُ فِي مَاءٍ أَوْ مِرْآةٍ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ مُطْلَقِ الرُّؤْيَةِ وَهَذَا فِي الرُّؤْيَةِ . كَسَمَاعِ الصَّدَى فِي السَّمْعِ فَإِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَرَى مَا يَمُرُّ وَرَاءَهُ مِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ نَظَرَ فِي الْمِرْآةِ الَّتِي تُوَاجِهُهُ فَتَنْجَلِي لَهُ فِيهَا حَقَائِقُ مَا وَرَاءَهُ فَمِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَا قَدْ يَرَى بَيَانَ الْحَقِيقَةِ وَقَدْ تَتَمَثَّلُ لَهُ الْحَقِيقَةُ بِمِثَالِ يَحْتَاجُ إلَى تَحْقِيقٍ . كَمَا تَمَثَّلَ جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ وَهَكَذَا الْقَلْبُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبْصِرَ فَإِنَّ بَصَرَهُ هُوَ الْبَصَرُ وَعَمَاهُ هُوَ الْعَمَى . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } . فَتَارَةً يَرَى الشَّيْءَ نَفْسَهُ إذَا كُشِفَ لَهُ عَنْهُ وَتَارَةً يَرَاهُ مُتَمَثِّلًا فِي قَلْبِهِ الَّذِي هُوَ مِرْآتُهُ وَالْقَلْبُ هُوَ الرَّائِي أَيْضًا . وَهَذَا يَكُونُ يَقَظَةً وَيَكُونُ مَنَامًا كَالرَّجُلِ يَرَى الشَّيْءَ فِي الْمَنَامِ ثُمَّ يَكُونُ إيَّاهُ فِي الْيَقَظَةِ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ . وَلِلْقَلْبِ " حَالٌ ثَالِثَةٌ " كَمَا لِلْعَيْنِ نَظَرٌ فِي الْمَنَامِ : وَهِيَ الَّتِي تَقَعُ لِغَالِبِ الْخَلْقِ . أَنْ يَرَى الرُّؤْيَا مَثَلًا مَضْرُوبًا لِلْحَقِيقَةِ لَا يَضْبُطُ رُؤْيَةَ الْحَقِيقَةِ بِنَفْسِهَا وَلَا بِوَاسِطَةِ مِرْآةِ قَلْبِهِ . وَلَكِنْ يَرَى مَا لَهُ تَعْبِيرٌ فَيَعْتَبِرُ بِهِ وَ " عِبَارَةُ الرُّؤْيَا " هُوَ الْعُبُورُ مِنْ الشَّيْءِ إلَى مِثَالِهِ وَنَظِيرِهِ وَهُوَ

حَقِيقَةُ الْمُقَايَسَةِ وَالِاعْتِبَارِ ؛ فَإِنَّ إدْرَاكَ الشَّيْءِ بِالْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ الَّذِي أَلِفَهُ الْإِنْسَانُ وَاعْتَادَهُ أَيْسَرُ مِنْ إدْرَاكِ شَيْءٍ عَلَى الْبَدِيهَةِ مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ مَعْرُوفٍ . ثُمَّ الْمَرْئِيُّ فِي هَذَا الْوَجْهِ : فِي هَذِهِ الْحَالِ ؛ وَفِي الْحَالِ الَّتِي قَبْلَهَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ وَنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مَثَلًا لِلْحَقِيقَةِ وَوَاسِطَةً لَهَا . وَالْمَرْئِيُّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ : هُوَ عَيْنُ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ لَا مَرْئِيٌّ فِي الْقَلْبِ وَمِنْ الْعَامَّةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ مَنْ يَزْعُمُ : أَنَّ مَا يَسْمَعُهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ الْكَلَامِ وَيَرَوْنَهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إنَّمَا وُجُودُهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَذَلِكَ مَبْلَغُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ غَايَةُ مَا وَجَدُوهُ وَرَأَوْهُ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ فَظَنُّوا أَنْ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ غَايَةٌ . وَقَدْ يُعَارِضُهُمْ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ مَا يُسْمَعُ وَيُرَى لَا يَكُونُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ بَلْ جَمِيعُهُ مِنْ الْخَارِجِ . وَكِلَاهُمَا خَطَأٌ ؛ بَلْ مِنْهُ مَا يَكُونُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ : مِثْلُ مَا يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ فِي الْمَنَامِ إمَّا مِثَالًا لَا تَعْبِيرَ لَهُ أَوْ لَهُ تَعْبِيرٌ . وَمِنْهُ مَا يَكُونُ فِي الْخَارِجِ : مِثْلُ رُؤْيَةِ مَرْيَمَ لِلرَّسُولِ إذْ تَمَثَّلَ لَهَا

بَشَرًا سَوِيًّا وَرُؤْيَةِ الصَّحَابَةِ لِجِبْرِيلَ فِي صُورَةِ الْأَعْرَابِيِّ . فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ رُؤْيَةَ الْحَقَائِقِ بِالْعَيْنِ تُطَابِقُ لِرُؤْيَاهَا بِالْقَلْبِ كُلٌّ مِنْهُمَا " ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ " إدْرَاكُ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ بِعَيْنِهِ وَإِدْرَاكُهُ بِوَاسِطَةِ تَمَثُّلِهِ فِي مِرْآةٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ وَإِدْرَاكُهُ مُتَمَثِّلًا فِي غَيْرِ صُورَتِهِ إمَّا بَاطِنًا فِي الْقَلْبِ وَإِمَّا ظَاهِرًا فِي الْعَيْنِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . فَالْقِيَاسُ فِي الْحِسِّيَّاتِ كَالْقِيَاسِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَهَذَا الَّذِي كَتَبْته فِي الْمُكَاشَفَاتِ يَجِيءُ مِثْلُهُ فِي الْمُخَاطَبَاتِ فَإِنَّ الْبَصَرَ وَالسَّمْعَ يُظْهِرَانِ مَا يَتْلُوهُ .

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَمَّنْ يَقُولُ : إنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ إذَا أَقَامَ السَّمَاعَ يَحْضُرُهُ رِجَالُ الْغَيْبِ وَيَنْشَقُّ السَّقْفُ وَالْحِيطَانُ وَتَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ تَرْقُصُ مَعَهُمْ أَوْ عَلَيْهِمْ . وَفِيهِمْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْضُرُ مَعَهُمْ . فَمَاذَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ هَذَا الِاعْتِقَادَ ؟ وَمَا هِيَ صِفَةُ رِجَالِ الْغَيْبِ ؟ وَهَلْ يَكُونُ لِلتَّتَارِ خُفَرَاءُ وَلَهُمْ حَالٌ كَحَالِ خُفَرَاءَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَوْ الْأَنْبِيَاءَ تَحْضُرُ " سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ " مَحَبَّةً وَرَغْبَةً فِيهِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ ؛ بَلْ إنَّمَا تَحْضُرُهُ الشَّيَاطِينُ وَهِيَ الَّتِي تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ وَتَنْفُخُ فِيهِمْ . كَمَا رَوَى الطَّبَرَانِي وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ : يَا رَبِّ اجْعَلْ لِي بَيْتًا . قَالَ : بَيْتُك الْحَمَّامُ . قَالَ اجْعَلْ لِي قُرْآنًا . قَالَ : قُرْآنُك الشِّعْرُ . قَالَ : يَا رَبِّ اجْعَلْ لِي مُؤَذِّنًا . قَالَ : مُؤَذِّنُك الْمِزْمَارُ } " وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مُخَاطِبًا لِلشَّيْطَانِ : { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } وَقَدْ فَسَّرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ

السَّلَفِ بِصَوْتِ الْغِنَاءِ وَهُوَ شَامِلٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْأَصْوَاتِ الْمُسْتَفِزَّةِ لِأَصْحَابِهَا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا نَهَيْت عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ : صَوْتُ لَهْوٍ وَلَعِبٍ وَمَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ وَصَوْتُ لَطْمِ خُدُودٍ أَوْ شَقِّ جُيُوبٍ وَدُعَاءٍ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ } كَقَوْلِهِمْ : وَا لَهْفَاه وَا كَبِدَاهُ وَا نَصِيرَاهُ وَقَدْ كُوشِفَ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْمُكَاشَفَاتِ بِحُضُورِ الشَّيَاطِينِ فِي مَجَامِعِ السَّمَّاعَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ : ذَاتِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ وَكَيْفَ يَكُرُّ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَتَوَاجَدُوا الْوَجْدَ الشَّيْطَانِيَّ حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ صَارَ يَرْقُصُ فَوْقَ رُءُوسِ الْحَاضِرِينَ وَرَأَى بَعْضُ الْمَشَايِخِ الْمُكَاشِفِينَ أَنَّ شَيْطَانَهُ قَدْ احْتَمَلَهُ حَتَّى رَقَصَ بِهِ فَلَمَّا صَرَخَ بِشَيْطَانِهِ هَرَبَ وَسَقَطَ ذَلِكَ الرَّجُلُ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَهَا أَسْرَارٌ وَحَقَائِقُ لَا يَشْهَدُهَا ؛ إلَّا أَهْلُ الْبَصَائِرِ الْإِيمَانِيَّةِ وَالْمَشَاهِدِ الإيقانية ؛ وَلَكِنْ مَنْ اتَّبَعَ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَأَعْرَضَ عَنْ سَبِيلِ الْمُبْتَدِعَةِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْهُدَى وَخَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقَائِقَ الْأُمُورِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَلَكَ السَّبِيلَ إلَى مَكَّةَ خَلْفَ الدَّلِيلِ الْهَادِي فَإِنَّهُ يَصِلُ إلَى مَقْصُودِهِ وَيَجِدُ الزَّادَ وَالْمَاءَ فِي مَوْطِنِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ كَيْفَ يَحْصُلُ ذَلِكَ وَسَبَبُهُ . وَمَنْ سَلَكَ خَلْفَ غَيْرِ الدَّلِيلِ

الْهَادِي : كَانَ ضَالًّا عَنْ الطَّرِيقِ . فَإِمَّا أَنْ يَهْلَكَ وَإِمَّا أَنْ يَشْقَى مُدَّةً ثُمَّ يَعُودُ إلَى الطَّرِيقِ . وَ " الدَّلِيلُ الْهَادِي " هُوَ الرَّسُولُ الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى النَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا وَهَادِيًا إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ . وَآثَارُ الشَّيْطَانِ تَظْهَرُ فِي أَهْلِ السَّمَاعِ الْجَاهِلِيِّ : مِثْلِ الْإِزْبَادِ وَالْإِرْغَاءِ والصراخات الْمُنْكَرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُضَارِعُ أَهْلَ الصَّرْعِ الَّذِينَ يَصْرَعُهُمْ الشَّيْطَانُ وَلِذَلِكَ يَجِدُونَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ ثَوَرَانِ مُرَادِ الشَّيْطَانِ بِحَسَبِ الصَّوْتِ : إمَّا وَجْدٌ فِي الْهَوَى الْمَذْمُومِ وَإِمَّا غَضَبٌ وَعُدْوَانٌ عَلَى مَنْ هُوَ مَظْلُومٌ وَإِمَّا لَطْمٌ وَشَقُّ ثِيَابٍ وَصِيَاحٌ كَصِيَاحِ الْمَحْزُونِ الْمَحْرُومِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي تَعْتَرِي أَهْلَ الِاجْتِمَاعِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ إذَا سَكِرُوا بِهَا ؛ فَإِنَّ السُّكْرَ بِالْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَةِ قَدْ يَصِيرُ مِنْ جِنْسِ السُّكْرِ بِالْأَشْرِبَةِ الْمُطْرِبَةِ فَيَصُدُّهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَيَمْنَعُ قُلُوبَهُمْ حَلَاوَةَ الْقُرْآنِ وَفَهْمَ مَعَانِيهِ وَاتِّبَاعَهُ فَيَصِيرُونَ مُضَارِعِينَ لِلَّذِينَ يَشْتَرُونَ لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ . وَيُوقِعُ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ حَتَّى يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَحْوَالِهِ الْفَاسِدَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ . كَمَا يَقْتُلُ الْعَائِنُ مَنْ أَصَابَهُ بِعَيْنِهِ . وَلِهَذَا قَالَ مِنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّ هَؤُلَاءِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَوْدُ وَالدِّيَةُ

وَالْقِصَاصُ إذَا عُرِفَ أَنَّهُمْ قُتِلُوا بِالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ الْفَاسِدَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَهُمْ إنَّمَا يَغْتَبِطُونَ بِمَا يُنَفِّذُونَهُ مِنْ مُرَادَاتِهِمْ الْمُحَرَّمَةِ . كَمَا يَغْتَبِطُ الظَّلَمَةُ الْمُسَلَّطُونَ . وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ حَالُ خُفَرَاءِ الْكَافِرِينَ وَالْمُبْتَدِعِينَ وَالظَّالِمِينَ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَكُونُ لَهُمْ زُهْدٌ وَعِبَادَةٌ وَهِمَّةٌ كَمَا يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَكَمَا كَانَ لِلْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ . أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } " . وَقَدْ يَكُونُ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَحْوَالٌ بَاطِنَةٌ كَمَا يَكُونُ لَهُمْ مَلَكَةٌ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّ سُلْطَانَ الْبَاطِنِ مَعْنَاهُ السُّلْطَانُ الظَّاهِرُ وَلَا يَكُونُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ . وَمَا فَعَلُوهُ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى الظُّلْمِ فَهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ الذَّنْبِ وَبَابُ الْقُدْرَةِ وَالتَّمَكُّنِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَيْسَ مُسْتَلْزِمًا لِوِلَايَةِ اللَّه تَعَالَى بَلْ قَدْ يَكُونُ وَلِيُّ اللَّهِ مُتَمَكِّنًا ذَا سُلْطَانٍ وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَضْعَفًا إلَى أَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ وَقَدْ يَكُونُ مُسَلَّطًا إلَى أَنْ يَنْتَقِمَ اللَّهُ مِنْهُ فَخُفَرَاءُ التَّتَارِ فِي الْبَاطِنِ مِنْ جِنْسِ التَّتَارِ فِي الظَّاهِرِ . هَؤُلَاءِ فِي الْعِبَادِ بِمَنْزِلَةِ هَؤُلَاءِ فِي الْأَجْنَادِ .

وَأَمَّا الْغَلَبَةُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُدِيلُ الْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ تَارَةً كَمَا يُدِيلُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ . كَمَا كَانَ يَكُونُ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَدُوِّهِمْ لَكِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } . وَإِذَا كَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَكَانَ عَدُوُّهُمْ مُسْتَظْهِرًا عَلَيْهِمْ كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ ؛ إمَّا لِتَفْرِيطِهِمْ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَإِمَّا لِعُدْوَانِهِمْ بِتَعَدِّي الْحُدُودِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } { الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } .

وَسُئِلَ :
عَنْ النِّسَاءِ اللَّاتِي يَتَعَمَّمْنَ بِالْعَمَائِمِ الْكِبَارِ لَا يَرَيْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَشْمُمْنَ رَائِحَتَهَا . وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ } " .
فَأَجَابَ :
قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مِنْ أُمَّتِي لَمْ أَرَهُمَا بَعْدُ : نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ عَلَى رُءُوسِهِنَّ مِثْلُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا . وَرِجَالٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا عِبَادَ اللَّهِ } وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَيْسَ بِصَحِيحِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فَإِنَّهُ جَاهِلٌ ضَالٌّ عَنْ الشَّرْعِ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي تُرْدِعُهُ وَأَمْثَالَهُ مِنْ الْجُهَّالِ الَّذِينَ يَعْتَرِضُونَ عَلَى الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي " الْوَعِيدِ " كَثِيرَةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ : " { مَنْ قَتَلَ

نَفْسًا مُعَاهَدَةً بِغَيْرِ حَقِّهَا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَرِيحُهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا } " وَمِثْلُ قَوْلِهِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ : " { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ ذَرَّةٌ مِنْ كِبْرٍ . قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يَكُونُ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا أَفَمِنْ الْكِبْرِ ذَاكَ ؟ فَقَالَ : لَا الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ } . وَ " بَطَرُ الْحَقِّ " جَحْدُهُ وَ " غَمْطُ النَّاسِ " احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ . وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : شَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ وَفَقِيرٌ مُخْتَالٌ } " . وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ آيَاتِ الْوَعِيدِ مَا شَاءَ اللَّهُ كَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } وَكَمَا فِي قَوْلِهِ : { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } وَقَوْلُهُ فِي الْفَرَائِضِ : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } .

وَهَذَا أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ " الْوَعِيدَ " فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مَوْجُودٌ وَلَكِنَّ الْوَعِيدَ الْمَوْجُودَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ التَّائِبَ بِقَوْلِهِ : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } أَيْ لِمَنْ تَابَ . وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَالشِّرْكُ لَا يُغْفَرُ وَمَا دُونَ الشِّرْكِ إنْ شَاءَ اللَّهُ غَفَرَهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَ عَلَيْهِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا غَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكَهَا إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ } { وَلِهَذَا لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ قَدْ جَاءَتْ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا ؟ فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْت تَنْصَبُ ؟ أَلَسْت تَحْزَنُ ؟ أَلَسْت تُصِيبُك اللأوى ؟ فَذَلِكَ مِمَّا تُجْزَوْنَ بِهِ } فَالْمَصَائِبُ فِي الدُّنْيَا يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَا الْمُؤْمِنِ مَا بِهِ يُكَفَّرُ وَكَذَلِكَ الْحَسَنَاتُ الَّتِي يَفْعَلُهَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إلَى الْجُمْعَةِ وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ } فَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَظْلِمُ

عَبْدَهُ شَيْئًا كَمَا قَالَ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } . " فَالْوَعِيدُ " يَنْتَفِي عَنْهُ : إمَّا بِتَوْبَةِ وَإِمَّا بِحَسَنَاتِ يَفْعَلُهَا تُكَافِئُ سَيِّئَاتِهِ وَإِمَّا بِمَصَائِبَ يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهَا خَطَايَاهُ وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ وَكَمَا أَنَّ أَحَادِيثَ الْوَعِيدِ تُقَدَّمُ وَكَذَلِكَ أَحَادِيثُ الْوَعْدِ . فَقَدْ يَقُولُ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَيَجْحَدُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَهَذَا كَافِرٌ يَجِبُ قَتْلُهُ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الْمُسْتَوْجِبِينَ لِلنَّارِ . وَهَذِهِ " مَسْأَلَةُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ " مِنْ أَكْبَرِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ . وَقَدْ بَسَطْنَاهَا فِي مَوَاضِعَ ؛ وَلَكِنَّ كَتْبُنَا هُنَا مَا تَسَعُ الْوَرَقَةَ .

وَسُئِلَ :
عَنْ الذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ . هَلْ لَهَا حَدٌّ تُعْرَفُ بِهِ ؟ وَهَلْ قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهَا سَبْعٌ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ صَحِيحًا ؟ أَوْ قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهَا مَا اتَّفَقَتْ فِيهَا الشَّرَائِعُ - أَعْنِي عَلَى تَحْرِيمِهَا ؟ - أَوْ إنَّهَا مَا تَسُدُّ بَابَ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ ؟ أَوْ إنَّهَا مَا تُذْهِبُ الْأَمْوَالَ وَالْأَبْدَانَ ؟ أَوْ إنَّهَا إنَّمَا سُمِّيَتْ كَبَائِرَ بِالنِّسْبَةِ وَالْإِضَافَةِ إلَى مَا دُونَهَا ؟ أَوْ إنَّهَا لَا تُعْلَمُ أَصْلًا وَأُبْهِمَتْ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ ؟ أَوْ يَحْكِي بَعْضُهُمْ أَنَّهَا إلَى التِّسْعِينَ أَقْرَبَ أَوْ كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ كَبِيرَةٌ أَوْ أَنَّهَا مَا رُتِّبَ عَلَيْهَا حَدٌّ . أَوْ مَا تُوُعِّدَ عَلَيْهَا بِالنَّارِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمْثَلُ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ : أَنَّ الصَّغِيرَةَ مَا دُونُ الْحَدَّيْنِ : حَدُّ الدُّنْيَا وَحَدُّ الْآخِرَةِ . وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : مَا لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ : كُلُّ ذَنْبٍ خُتِمَ بِلَعْنَةِ أَوْ غَضَبٍ أَوْ نَارٍ فَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ . وَمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ : وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا وَلَا وَعِيدٌ فِي

الْآخِرَةِ أَيْ " وَعِيدٌ خَاصٌّ " كَالْوَعِيدِ بِالنَّارِ وَالْغَضَبِ وَاللَّعْنَةِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَعِيدَ الْخَاصَّ فِي الْآخِرَةِ . كَالْعُقُوبَةِ الْخَاصَّةِ فِي الدُّنْيَا . فَكَمَا أَنَّهُ يُفَرَّقُ فِي الْعُقُوبَاتِ الْمَشْرُوعَةِ لِلنَّاسِ بَيَّنَ الْعُقُوبَاتِ الْمُقَدَّرَةَ بِالْقَطْعِ وَالْقَتْلِ وَجَلْدِ مِائَةٍ أَوْ ثَمَانِينَ وَبَيَّنَ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُقَدَّرَةٍ : وَهِيَ " التَّعْزِيرُ " فَكَذَلِكَ يُفَرَّقُ فِي الْعُقُوبَاتِ الَّتِي يُعَزِّرُ اللَّهُ بِهَا الْعِبَادَ - فِي غَيْرِ أَمْرِ الْعِبَادِ بِهَا - بَيْنَ الْعُقُوبَاتِ الْمُقَدَّرَةِ : كَالْغَضَبِ وَاللَّعْنَةِ وَالنَّارِ . وَبَيْنَ الْعُقُوبَاتِ الْمُطْلَقَةِ . وَهَذَا " الضَّابِطُ " يَسْلَمُ مِنْ الْقَوَادِحِ الْوَارِدَةِ عَلَى غَيْرِهِ ؛ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ كُلَّ مَا ثَبَتَ فِي النَّصِّ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ : كَالشِّرْكِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالسِّحْرِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي فِيهَا عُقُوبَاتٌ مُقَدَّرَةٌ مَشْرُوعَةٌ وَكَالْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَأَكْلِ الرِّبَا وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الذُّنُوبَ وَأَمْثَالَهَا فِيهَا وَعِيدٌ خَاصٌّ كَمَا قَالَ فِي الْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } وَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } . وَقَالَ : { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ

أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } وَقَالَ : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . وَكَذَلِكَ كُلُّ ذَنْبٍ تُوُعِّدَ صَاحِبُهُ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَا يَشُمُّ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَقِيلَ فِيهِ : مَنْ فَعَلَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَأَنَّ صَاحِبَهُ آثِمٌ . فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ الْكَبَائِرِ . كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ } " وَقَوْلُهُ : " { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ } وَقَوْلُهُ : { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } " . وَقَوْلُهُ : { مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا } " . وَقَوْلُهُ : " { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } " . وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ وَكَوْنَهُ لَيْسَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَقُولُهُ الْمُرْجِئَةُ : إنَّهُ لَيْسَ مِنْ خِيَارِنَا ؛ فَإِنَّهُ لَوْ تَرَكَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مِنْ خِيَارِهِمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَقُولُهُ الْخَوَارِجُ : إنَّهُ صَارَ كَافِرًا . وَلَا مَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ : مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ بَلْ

هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا . فَهَذِهِ كُلُّهَا أَقْوَالٌ بَاطِلَةٌ قَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَلَكِنْ الْمُؤْمِنُ الْمُطْلَقُ فِي بَابِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ بِلَا عِقَابٍ هُوَ الْمُؤَدِّي لِلْفَرَائِضِ الْمُجْتَنِبِ الْمَحَارِمَ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَمَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْكَبَائِرَ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ هُوَ مُتَعَرِّضٌ لِلْعُقُوبَةِ عَلَى تِلْكَ الْكَبِيرَةِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : أَرَادَ بِهِ نَفْيَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ أَوْ نَفْيَ كَمَالِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا نَفْيَ الْكَمَالِ الْمُسْتَحَبِّ فَإِنَّ تَرْكَ الْكَمَالِ الْمُسْتَحَبِّ لَا يُوجِبُ الذَّمَّ وَالْوَعِيدَ وَالْفُقَهَاءَ يَقُولُونَ : الْغُسْلُ يَنْقَسِمُ إلَى : كَامِلٍ وَمُجْزِئٍ . ثُمَّ مَنْ عَدَلَ عَنْ الْغُسْلِ الْكَامِلِ إلَى الْمُجْزِئِ لَمْ يَكُنْ مَذْمُومًا . فَمَنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ " نَفْيُ كَمَالِ الْإِيمَانِ " أَنَّهُ نَفْيُ الْكَمَالِ الْمُسْتَحَبِّ فَقَدْ غَلِطَ . وَهُوَ يُشْبِهُ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ وَلَكِنْ يَقْتَضِي نَفْيَ الْكَمَالِ الْوَاجِبِ . وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي سَائِرِ مَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ : مِثْلُ قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا } - إلَى قَوْلِهِ - { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وَمِثْلُ الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ : " { لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ } " وَمِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ

الْقُرْآنِ } " وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . فَإِنَّهُ لَا يَنْفِي مُسَمَّى الِاسْمِ إلَّا لِانْتِفَاءِ بَعْضِ مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ ؛ لَا لِانْتِفَاءِ بَعْضِ مُسْتَحَبَّاتِهِ فَيُفِيدُ هَذَا الْكَلَامُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ الَّذِي لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ بَعْضُ الْإِيمَانِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَتَبَعَّضُ وَيَتَفَاضَلُ . كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { يَخْرُجُ مَنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } " . وَ ( الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ وَالْجَنَّةِ أَوْ كَوْنَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ كَبِيرَةٍ . أَمَّا الصَّغَائِرُ فَلَا تَنْفِي هَذَا الِاسْمَ وَالْحُكْمَ عَنْ صَاحِبِهَا بِمُجَرَّدِهَا . فَيُعْرَفُ أَنَّ هَذَا النَّفْيَ لَا يَكُونُ لِتَرْكِ مُسْتَحَبٍّ وَلَا لِفِعْلِ صَغِيرَةٍ بَلْ لِفِعْلِ كَبِيرَةٍ . وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّ هَذَا الضَّابِطَ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ تِلْكَ الضَّوَابِطِ الْمَذْكُورَةِ لِوُجُوهِ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ بِخِلَافِ تِلْكَ الضَّوَابِطِ ؛ فَإِنَّهَا لَا تُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ وَإِنَّمَا قَالَهَا بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكَلَامِ أَوْ التَّصَوُّفِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : إنَّهَا إلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى السَّبْعِ فَهَذَا لَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَاهُ . وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَاحِدًا وَاحِدًا .

الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ قَالَ : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا } فَقَدْ وَعَدَ مُجْتَنِبَ الْكَبَائِرِ بِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَاسْتِحْقَاقِ الْوَعْدِ الْكَرِيمِ . وَكُلُّ مَنْ وُعِدَ بِغَضَبِ اللَّهِ أَوْ لَعْنَتِهِ أَوْ نَارٍ أَوْ حِرْمَانِ جَنَّةٍ أَوْ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ هَذَا الْوَعْدِ فَلَا يَكُونُ مِنْ مُجْتَنِبِي الْكَبَائِرِ . وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَحَقَّ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَمْ تَكُنْ سَيِّئَاتُهُ مُكَفَّرَةً عَنْهُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَيْهِ وَالْمُسْتَحِقُّ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَهُ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا الضَّابِطَ مَرْجِعُهُ إلَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي الذُّنُوبِ ؛ فَهُوَ حَدٌّ يُتَلَقَّى مِنْ خِطَابِ الشَّارِعِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ لَيْسَ مُتَلَقًّى مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ بَلْ هُوَ قَوْلُ رَأْيِ الْقَائِلِ وَذَوْقِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَالرَّأْيُ وَالذَّوْقُ بِدُونِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَا يَجُوزُ .
الرَّابِعُ : أَنَّ هَذَا الضَّابِطَ يُمْكِنُ الْفَرْقُ بِهِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ وَأَمَّا تِلْكَ الْأُمُورُ فَلَا يُمْكِنُ الْفَرْقُ بِهَا بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا اتَّفَقَتْ فِيهِ الشَّرَائِعُ وَاخْتَلَفَتْ لَا يُعْلَمُ إنْ لَمْ يُمْكِنْ وُجُودُ عَالَمٍ بِتِلْكَ الشَّرَائِعِ عَلَى وَجْهِهَا وَهَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا .

وَكَذَلِكَ " مَا يَسُدُّ بَابَ الْمَعْرِفَةِ " هُوَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ فَقَدْ يَسُدُّ بَابَ الْمَعْرِفَةِ عَنْ زَيْدٍ مَا لَا يَسُدُّ عَنْ عَمْرٍو وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مَحْدُودٌ .
الْخَامِسُ : أَنَّ تِلْكَ الْأَقْوَالَ فَاسِدَةٌ . فَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهَا مَا اتَّفَقَتْ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ دُونَ مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ . يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْحَبَّةُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ وَمِنْ السَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْكِذْبَةِ الْوَاحِدَةِ وَبَعْضِ الْإِسَاءَاتِ الْخَفِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ . وَأَنْ يَكُونَ الْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ لَيْسَ مِنْ الْكَبَائِرِ ؛ إذْ الْجِهَادُ لَمْ يَجِبْ فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ وَكَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّزَوُّجُ بِالْمُحَرَّمَاتِ بِالرَّضَاعَةِ وَالصَّهْرِ وَغَيْرِهِمَا لَيْسَ مِنْ الْكَبَائِرِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَمْ تَتَّفِقْ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ . وَكَذَلِكَ إمْسَاكُ الْمَرْأَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَوَطْئِهَا بَعْدَ ذَلِكَ . مَعَ اعْتِقَادِ التَّحْرِيمِ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : إنَّهَا مَا تَسُدُّ بَابَ الْمَعْرِفَةِ أَوْ ذَهَابَ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ ؛ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَلِيلُ مِنْ الْغَضَبِ وَالْخِيَانَةِ كَبِيرَةً . وَأَنْ يَكُونَ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْكَبَائِرِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا سُمِّيَتْ كَبَائِرَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا دُونَهَا وَأَنَّ مَا عَصَى اللَّهَ

بِهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَنْ لَا تَكُونَ الذُّنُوبُ فِي نَفْسِهَا تَنْقَسِمُ إلَى كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ . وَهَذَا خِلَافُ الْقُرْآنِ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلَّا اللَّمَمَ } وَقَالَ : { وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } وَقَالَ : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } وَقَالَ : { مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إلَّا أَحْصَاهَا } وَقَالَ : { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ } وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ . وَمَنْ قَالَ : هِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا مُبْهَمَةٌ أَوْ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ . فَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهَا . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ مَا تَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ قَدْ يُقَالُ : إنَّ فِيهِ تَقْصِيرًا إذْ الْوَعِيدُ قَدْ يَكُونُ بِالنَّارِ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهَا وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ كُلَّ وَعِيدٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَلْزِمَ الْوَعِيدَ بِالنَّارِ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا كُلُّ ذَنْبٍ فِيهِ وَعِيدٌ فَهَذَا يَنْدَرِجُ فِيمَا ذَكَرَهُ السَّلَفُ ؛ فَإِنَّ كُلَّ ذَنْبٍ فِيهِ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا فَفِيهِ وَعِيدٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ فَإِنَّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةَ وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَقَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فِيهَا وَعِيدٌ . كَمَنْ قَالَ : إنَّ الْكَبِيرَةَ مَا فِيهَا وَعِيدٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
عَنْ : شُرْبِ الْخَمْرِ وَفِعْلِ الْفَاحِشَةِ أَيُّهُمَا أَعْظَمُ إثْمًا عِنْدَ اللَّهِ ؟ أَمْ هُمَا مُسْتَوِيَانِ ؟ وَمَا هِيَ الْكَبَائِرُ الَّتِي قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا } ؟ فَمَا هِيَ هَذِهِ الْكَبَائِرُ وَمَا هِيَ السَّيِّئَاتُ ؟
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، " الْكَبَائِرُ " هِيَ مَا فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ : كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ الَّتِي فِيهَا حُدُودٌ فِي الدُّنْيَا . وَكَالذُّنُوبِ الَّتِي فِيهَا حُدُودٌ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْوَعِيدُ الْخَاصُّ . مِثْلُ الذَّنْبِ الَّذِي فِيهِ غَضَبُ اللَّهِ وَلَعْنَتُهُ أَوْ جَهَنَّمُ ؛ وَمَنْعُ الْجَنَّةِ كَالسِّحْرِ وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَالْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ . قَالَ تَعَالَى : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ

يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلَّا اللَّمَمَ إنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إلَّا أَحْصَاهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ } . وَ ( أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ثُمَّ قَتْلُ النَّفْسِ ثُمَّ الزِّنَا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ } الْآيَةَ . وَالزِّنَا أَعْظَمُ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ إذَا اسْتَوَيَا فِي الْقَدْرِ . مِثْلُ مَنْ يَزْنِي مَرَّةً وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ مَرَّةً فَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ رَجُلًا زَنَى مَرَّةً وَآخَرَ مُدْمِنٌ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ فَهَذَا قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ ذَاكَ . كَمَا أَنَّهُ لَوْ زَنَى مَرَّةً وَتَابَ كَانَ خَيْرًا مِنْ الْمُصِرِّ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ . وَكَذَلِكَ شَارِبُ الْخَمْرِ إذَا دَعَا غَيْرَهُ فَيَكُونُ عَلَيْهِ إثْمُ شُرْبِهِ وَعَلَيْهِ قِسْطٌ مِنْ إثْمِ الَّذِينَ دَعَاهُمْ إلَى الشُّرْبِ . وَكَذَلِكَ إذَا اقْتَرَنَ بِالشُّرْبِ سَمَاعُ الْمَزَامِيرِ وَالشُّرْبِ عَلَى بَعْضِ الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا يتغلظ فِيهِ الشُّرْبُ . وَالذَّنْبُ يتغلظ بِتَكْرَارِهِ وَبِالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ وَبِمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتٍ أُخَرَ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الزَّانِيَ زَنَى وَهُوَ خَائِفٌ مِنْ اللَّهِ وَجُلّ مِنْ عَذَابِهِ وَالشَّارِبَ يَشْرَبُ لَاهِيًا غَافِلًا لَا يُرَاقِبُ اللَّهَ . كَانَ ذَنْبُهُ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . فَقَدْ يَقْتَرِنُ بِالذُّنُوبِ مَا يُخَفِّفُهَا وَقَدْ يَقْتَرِنُ بِهَا

مَا يُغَلِّظُهَا . كَمَا أَنَّ الْحَسَنَاتِ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهَا مَا يُعَظِّمُهَا وَقَدْ يَقْتَرِنُ بِهَا مَا يُصَغِّرُهَا . فَكَمَا أَنَّ الْحَسَنَاتِ أَجْنَاسٌ مُتَفَاضِلَةٌ وَقَدْ يَكُونُ الْمَفْضُولُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ أَفْضَلَ مِمَّا جِنْسُهُ فَاضِلٌ . فَكَذَلِكَ السَّيِّئَاتُ . فَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَالذِّكْرُ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ ؛ مَعَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ وَالذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ أَفْضَلُ مِنْ تَحَرِّي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِيهِ وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ النَّاسِ انْتِفَاعُهُ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ أَعْظَمَ مِنْ انْتِفَاعِهِ بِالْقِرَاءَةِ فَيَكُونُ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ . فَهَكَذَا السَّيِّئَاتُ . وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ أَعْظَمَ مِنْ الزِّنَا وَالزِّنَا أَعْظَمُ مِنْ الشُّرْبِ . فَقَدْ يَقْتَرِنُ بِالشُّرْبِ مِنْ الْمُغَلَّظَاتِ مَا يَصِيرُ بِهِ أَغْلَظَ مِنْ بَعْضِ ضَرَرِ الزِّنَا . وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ تَتَفَاضَلُ بِالْأَجْنَاسِ تَارَةً وَتَتَفَاضَلُ بِأَحْوَالِ أُخْرَى تَعْرِضُ لَهَا : تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ هَذَا . وَالْعَبْدُ قَدْ يَأْتِي بِالْحَسَنَةِ بِنِيَّةِ وَصِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ تَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ أَضْعَافِهَا . كَمَا فِي حَدِيثِ صَاحِبِ الْبِطَاقَةِ الَّذِي رَجَحَتْ بِطَاقَتُهُ الَّتِي فِيهَا : " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " بِالسِّجِلَّاتِ الَّتِي فِيهَا ذُنُوبُهُ . وَكَمَا فِي حَدِيثِ الْبَغِيِّ الَّتِي سَقَتْ كَلْبًا بِمُوقِهَا فَغَفَرَ اللَّهُ لَهَا . وَكَذَلِكَ فِي السَّيِّئَاتِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مُدْمِنٍ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ مُوَاظِبٌ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَيُصَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كُلَّ يَوْمٍ . وَيَقُولُ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ ؛ فَهَلْ يَكْفُرُ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ وَالِاسْتِغْفَارِ ؟
فَأَجَابَ :
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُهُ . بَلْ يُثِيبُهُ عَلَيْهِ . وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ الْيَسِيرِ فَيَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ وَيُرْجَى لَهُ مِنْ اللَّهِ التَّوْبَةُ . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَتُبْ فَهَذَا أَمْرُهُ إلَى اللَّهِ . هُوَ أَعْلَمُ بِمِقْدَارِ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ . لَا يُشْهَدُ لَهُ بِجَنَّةِ وَلَا نَارٍ بِخِلَافِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ مَنْ فَعَلَ كَبِيرَةً أُحْبِطَتْ جَمِيعُ حَسَنَاتِهِ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا الْإِحْبَاطِ . بَلْ أَهْلُ الْكَبَائِرِ مَعَهُمْ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ وَأَمْرُهُمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } أَيْ مَنْ اتَّقَاهُ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ ؛ بِأَنْ يَكُونَ عَمَلًا صَالِحًا خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا . وَأَهْلُ الْوَعِيدِ يَقُولُونَ : لَا يُتَقَبَّلُ الْعَمَلُ إلَّا مِمَّنْ اتَّقَاهُ بِتَرْكِ جَمِيعِ الْكَبَائِرِ . وَهَذَا خِلَافُ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي { قِصَّةِ حِمَارٍ الَّذِي كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَكَمَا فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ وَإِخْرَاجِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ النَّارِ . حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ . فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } الْآيَةَ . وَمَعَ هَذَا فَقَدْ صَحَّ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . وَقَالَ : " { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا حَرَّمَهَا فِي الْآخِرَةِ } وَقَالَ : " { لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَبَائِعَهَا وَمُشْتَرِيَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا } .

وَقَالَ أَيْضًا شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَكُلُّ مَنْ تَابَ مِنْ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } { وَأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ } { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } . فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ : أَيْ لِمَنْ تَابَ . وَقَدْ قَالَ فِي الْأُخْرَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَالشِّرْكُ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ وَمَا دُونَ الشِّرْكِ أَمْرُهُ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَاقَبَ عَلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ . وَمِنْ الشِّرْكِ أَنْ يَدْعُوَ الْعَبْدُ غَيْرَ اللَّهِ كَمَنْ يَسْتَغِيثُ فِي الْمَخَاوِفِ

وَالْأَمْرَاضِ والفاقات بِالْأَمْوَاتِ وَالْغَائِبِينَ . فَيَقُولُ : يَا سَيِّدِي الشَّيْخُ فُلَانٌ لِشَيْخِ مَيِّتٍ أَوْ غَائِبٍ فَيَسْتَغِيثُ بِهِ وَيَسْتَوْصِيه وَيَطْلُبُ مِنْهُ مَا يَطْلُبُ مِنْ اللَّهِ مِنْ النَّصْرِ وَالْعَافِيَةِ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ قَدْ يَتَمَثَّلُ لِأَحَدِهِمْ صُورَةُ الشَّيْخِ الَّذِي اسْتَغَاثَ بِهِ . فَيَظُنُّ أَنَّهُ الشَّيْخُ أَوْ مَلَكٌ جَاءَ عَلَى صُورَتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ تَمَثَّلَ لَهُ لِيُضِلَّهُ وَيُغْوِيَهُ لَمَّا دَعَا غَيْرَ اللَّهِ ؛ كَمَا كَانَ نَصِيبُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ تُخَاطِبُهُمْ الشَّيَاطِينُ وَتَتَرَاءَى لَهُمْ وَتُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ وَإِنْ كَانَ فِيمَا يُخْبَرُونَ بِهِ مِنْ الْكَذِبِ مَا يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ شَيَاطِينُ . قَالَ تَعَالَى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } { تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } وَهَؤُلَاءِ كَثِيرُونَ فِي الْمُشْرِكِينَ : مِنْ الْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَالْحَبَشَةِ . وَفِي الْمُتَشَبِّهِينَ بِهِمْ مِنْ الضُّلَّالِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ . كَأَهْلِ الْإِشَارَاتِ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ إشَارَاتِ الدَّمِ وَالزَّعْفَرَانِ وَاللَّاذَنِ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ التُّرَابَ أَوْ غَيْرَهُ . فَيَجْعَلُونَهُ كَذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ وَيَأْكُلُ الْحَيَّاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَصْرُخُ فِي بَعْضِ النَّاسِ فَيَمْرَضُ أَوْ يَمُوتُ . وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ تَعْرِضُ لَهُمْ عِنْدَ فِعْلِ مَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّيْطَانُ . مِثْلُ السَّمَاعُ الْبِدْعِيِّ . سَمَاعِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ

يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ قُرْبَةً وَدِينًا تَتَحَرَّكُ بِهِ قُلُوبُهُمْ وَيَحْصُلُ لَهُمْ عِنْدَهُ مِنْ الْوَجِلِ وَالصِّيَاحِ مَا تَنْزِلُ مَعَهُ الشَّيَاطِينُ كَمَا يَدْخُلُ الشَّيْطَانُ فِي بَدَنِ الْمَصْرُوعِ ؛ وَلِهَذَا يَزِيدُ أَحَدُهُمْ كَأَزْبَادِ الْمَصْرُوعِ وَيَصِيحُ كَصِيَاحِهِ . وَذَلِكَ صِيَاحُ الشَّيَاطِينِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ ؛ وَلِهَذَا لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا جَرَى مِنْهُ حَتَّى يُفِيقَ وَيَتَكَلَّمَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ أَحَدِهِمْ بِكَلَامِ لَا يَعْرِفُهُ الْإِنْسَانُ وَيَدْخُلُ أَحَدُهُمْ النَّارَ وَقَدْ لَبِسَهُ الشَّيْطَانُ وَيَحْصُلُ ذَلِكَ لِقَوْمِ مِنْ النَّصَارَى بِالْمَغْرِبِ وَغَيْرِهِمْ . تَلْبِسُهُمْ الشَّيَاطِينُ فَيَحْصُلُ لَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ . فَهَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعُونَ الْمُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَحْوَالُهُمْ لَيْسَتْ مِنْ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ ؛ فَإِنَّ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ إنَّمَا تَكُونُ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ ؛ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } وَهُمْ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ الَّتِي فَرَضَهَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ بِالنَّوَافِلِ الَّتِي نَدَبَهُمْ إلَيْهَا . كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ؛ فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ

يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } " . وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ - كَأَبِي يَزِيدَ البسطامي وَغَيْرِهِ - : لَوْ رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَنْظُرُوا وُقُوفَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَوْ رَأَيْتُمْ صَاحِبَ بِدْعَةٍ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ . فَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ هُمْ الْمُتَّبِعُونَ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } وَطَرِيقُهُمْ طَرِيقُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ الْمُرْسَلِينَ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِ اللَّهِ الْمُفْلِحِينَ . وَأَمَّا أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ وَالْفُجُورِ فَأَحْوَالُهُمْ مِنْ جِنْسِ أَحْوَالِ " مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ " وَ " الْأَسْوَدِ العنسي " الَّذِينَ ادَّعَيَا النُّبُوَّةَ فِي آخِرِ أَيَّامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ لِكُلِّ مِنْهُمَا شَيَاطِينُ تُخْبِرُهُ وَتُعِينُهُ . وَكَانَ " العنسي " قَدْ اسْتَوْلَى عَلَى أَرْضِ الْيَمَنِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَتَلَهُ اللَّهُ عَلَى أَيْدِي عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ قَدْ طَلَبَ مِنْ أَبِي مُسْلِمٍ الخولاني أَنْ يُتَابِعَهُ فَامْتَنَعَ فَأَلْقَاهُ فِي النَّارِ فَجَعَلَهَا اللَّهُ

عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا جَرَى لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مَعَ صَلَاتِهِ وَذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ لِلَّهِ مَعَ سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ . وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ لَا تَصِيرُ النَّارُ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا . بَلْ قَدْ يَطْفُونَهَا كَمَا يطفيها النَّاسُ وَذَلِكَ فِي حَالِ اخْتِلَاطِ عُقُولِهِمْ وَهَيْجِ شَيَاطِينِهِمْ وَارْتِفَاعِ أَصْوَاتِهِمْ هَذَا إنْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ حَالٌ شَيْطَانِيٌّ . وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ ؛ بَلْ يَدْخُلُ فِي نَوْعٍ مِنْ الْمَكْرِ وَالْمُحَالِ فَيَتَّخِذُ حَجَرَ الطَّلَقِ أَوْ دُهْنَ الضَّفَادِعِ وَأَنْوَاعًا مِنْ الْأَدْوِيَةِ . كَمَا يَصْنَعُونَ مِنْ جِنْسِ مَا تَصْنَعُهُ الْمُشَعْبِذُونَ إخْفَاءَ اللَّاذَنِ وَالسُّكَّرِ فِي يَدِ أَحَدِهِمْ فَإِنَّهُمْ نَوْعَانِ : خَاصَّتُهُمْ أَهْلُ حَالٍ شَيْطَانِيٍّ وَعَامَّتُهُمْ أَهْلُ مُحَالٍ بهتاني . وَهَؤُلَاءِ لَا يُعْطَى أَحَدُهُمْ مِنْ الزَّكَاةِ حَتَّى يَتُوبَ وَيَلْتَزِمَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ مِنْ مُسْتَحِقِّي الزَّكَاةِ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ } . فَأَمَّا مَنْ كَانَ غَنِيًّا لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ فَلَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مَعَ غِنَاهُ مِنْ شُيُوخِ الضَّلَالِ مِثْلِ شُيُوخِ الْمُضِلِّينَ الْأَغْنِيَاءِ

الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَوْا مِنْ الزَّكَاةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَؤُلَاءِ إذَا قَالُوا لِلْإِنْسَانِ : تُعْطِينَا وَإِلَّا فَإِنِّي أَنَالُك فِي نَفْسِك فَإِنَّهُ قَدْ تُعِينُهُمْ شَيَاطِينُ عَلَى إضْرَارِ بَعْضِ النَّاسِ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ لَكِنْ هَذَا يَكُونُ لِمَنْ هُوَ خَارِجٌ عَنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلِ أَهْلِ الْفُجُورِ وَالْبِدَعِ الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهَؤُلَاءِ قَدْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ هَؤُلَاءِ بِذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ . وَأَمَّا الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَغَيْرِهَا وَيُخْلِصُونَ دِينَهُمْ لِلَّهِ فَلَا يَدْعُونَ إلَّا اللَّهَ وَلَا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ وَلَا يُنْذِرُونَ إلَّا لِلَّهِ وَيُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ فَهَؤُلَاءِ جُنْدُ اللَّهِ الْغَالِبُونَ وَحِزْبُ اللَّهِ الْمُفْلِحُونَ فَإِنَّهُ يُؤَيِّدُهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ . وَهَؤُلَاءِ يَهْزِمُونَ شَيَاطِينَ أُولَئِكَ الضَّالِّينَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ مَعَ شُهُودِ هَؤُلَاءِ وَاسْتِغَاثَتِهِمْ بِاَللَّهِ أَنْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ بَلْ تَهْرُبُ مِنْهُمْ تِلْكَ الشَّيَاطِينُ . وَهَؤُلَاءِ مُعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ . يَقُولُونَ : أَحْوَالُنَا مَا تَنْفُذُ قُدَّامَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِنَّمَا تَنْفُذُ قُدَّامَ مَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ مِنْ الْأَعْرَابِ وَالتُّرْكِ وَالْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ . فَهَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ الَّذِينَ يَجِبُ نَهْيُهُمْ وَاسْتِتَابَتُهُمْ وَمَنْعُهُمْ مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَالشِّرْكِ وَالْبِدَعِ وَالْفُجُورِ وَأَمْرِهِمْ بِمَا

أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَخَافَهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } { إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } .

وَقَالَ أَيْضًا شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ يَا كَرِيمُ .
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا . مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
فَصْلٌ :
فِي أَنَّ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ يَكُونُ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ . وَ " الْأَوَّلُ " يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ . قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ }

وَقَالَ : { أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } . وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . فَنَقُولُ : التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ يَكُونُ مِنْ تَرْكِ مَأْمُورٍ وَمِنْ فِعْلِ مَحْظُورٍ ؛ فَإِنَّ كِلَاهُمَا مِنْ السَّيِّئَاتِ وَالْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ . وَتَرْكُ " الْإِيمَانِ " وَ " التَّوْحِيدُ " وَ " الْفَرَائِضُ " الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ مِنْ الذُّنُوبِ بِلَا رَيْبٍ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ . بَلْ هِيَ أَعْظَمُ الصِّنْفَيْنِ . كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِيمَا كَتَبْنَاهُ مِنْ " الْقَوَاعِدِ " قَبْلَ ذَهَابِي إلَى مِصْرَ . فَإِنَّ جِنْسَ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ إذْ قَدْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ تَرْكُ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَمَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ لَمْ يُخَلَّدْ فِي النَّارِ وَلَوْ فَعَلَ مَا فَعَلَ . وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ كَانَ مُخَلَّدًا وَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ مِنْ جِهَةِ الْأَفْعَالِ قَلِيلَةً : كَالزُّهَّادِ وَالْعُبَّادِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَعُبَّادِ مُشْرِكِي الْهِنْدِ وَعُبَّادِ النَّصَارَى ؛ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَقْتُلُونَ وَلَا يَزْنُونَ وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ ؛ لَكِنَّ نَفْسَ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ الْوَاجِبِ تَرَكُوهُ . وَلَكِنْ يُقَالُ : تَرْكُ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ الْوَاجِبِ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الِاشْتِغَالِ بِضِدِّهِ وَضِدُّهُ إذَا كَانَ كُفْرًا فَهُمْ يُعَاقَبُونَ عَلَى الْكُفْرِ وَهُوَ

مِنْ بَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ ضِدُّهُ مِنْ جِنْسِ الْمُبَاحَاتِ كَالِاشْتِغَالِ بِأَهْوَاءِ النَّفْسِ وَلَذَّاتِهَا مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالرِّئَاسَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَنْ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ . فَالْعُقُوبَةُ هُنَا لِأَجْلِ تَرْكِ الْإِيمَانِ ؛ لَا لِأَجْلِ تَرْكِ هَذَا الْجِنْسِ . وَقَدْ يُقَالُ : كُلُّ مَنْ تَرَكَ الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ فَلَا يَتْرُكُهُ إلَّا إلَى كُفْرٍ وَشِرْكٍ ؛ فَإِنَّ النَّفْسَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ إلَهٍ تَعْبُدُهُ فَمَنْ لَمْ يَعْبُدْ الرَّحْمَنَ عَبَدَ الشَّيْطَانَ . فَيُقَالُ : عِبَادَةُ الشَّيْطَانِ جِنْسٌ عَامٌّ وَهَذَا إذَا أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِمَا هُوَ مَانِعٌ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ يُقَالُ : عَبَدَهُ . كَمَا أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَقَدْ عَبَدَهُ وَلَكِنْ عِبَادَةٌ دُونَ عِبَادَةٍ . وَالنَّاسُ " نَوْعَانِ " طُلَّابُ دِينٍ وَطُلَّابُ دُنْيَا . فَهُوَ يَأْمُرُ طُلَّابَ الدِّينِ بِالشِّرْكِ وَالْبِدْعَةِ كَعُبَّادِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَيَأْمُرُ طُلَّابَ الدُّنْيَا بِالشَّهَوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ . وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ شَهَوَاتِ الْغَيِّ فِي بُطُونِكُمْ وَفُرُوجِكُمْ وَمُضِلَّاتِ الْفِتَنِ } وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَمَّا ذَكَرَ الْحَدِيثَ " لِكُلِّ عَامِلٍ شِرَّةٌ وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ فَإِنَّ صَاحِبَهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ وَإِنْ أُشِيرَ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فَلَا تَعُدُّوهُ . فَقَالُوا : أَنْتَ إذَا مَرَرْت فِي السُّوقِ أَشَارَ إلَيْك

النَّاسُ . فَقَالَ : إنَّهُ لَمْ يَعْنِ هَذَا وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُبْتَدِعَ فِي دِينِهِ وَالْفَاجِرَ فِي دُنْيَاهُ . وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى " النَّوْعَيْنِ " فِي مَوَاضِعَ . كَمَا ذَكَرْنَا فِي " اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ " الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . فَإِنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ وَفِعْلَ الْمُحَرَّمِ مُتَلَازِمَانِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ فَعَلَ مَا نُهِيَ عَنْهُ يُقَالُ : إنَّهُ عَصَى الْأَمْرَ . وَلَوْ قَالَ لَهَا : إنْ عَصَيْت أَمْرِي فَأَنْتِ طَالِقٌ . فَنَهَاهَا فَعَصَتْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا أَنَّهَا تُطَلَّقُ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يُعَلِّلُ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ عَاصِيًا وَيَجْعَلُونَ هَذَا فِي الْأَصْلِ نَوْعَيْنِ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كُلَّ نَهْيٍ فَفِيهِ طَلَبٌ وَاسْتِدْعَاءٌ لِمَا يَقْصِدُهُ النَّاهِي . فَهُوَ أَمْرٌ فَالْأَمْرُ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا . وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَضِرِ لِمُوسَى : { إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا } { قَالَ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } . وَقَالَ لَهُ : { فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } . فَقَوْلُهُ :

{ فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } ؟ قَدْ تَنَاوَلَهُ قَوْلُهُ : { وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } . وَمِنْهُ قَوْلُ مُوسَى لِأَخِيهِ : { مَا مَنَعَكَ إذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا } { أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } وَمُوسَى قَالَ لَهُ : { اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } نَهْيٌ . وَهُوَ لَامَهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَّبِعْهُ وَقَالَ : أَفَعَصَيْت أَمْرِي ؟ وَعُبَّادُ الْعِجْلِ كَانُوا مُفْسِدِينَ . وَقَدْ جَعَلَ هَذَا كُلَّهُ أَمْرًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } فَهُمْ لَا يَعْصُونَهُ إذَا نَهَاهُمْ وَقَوْلُهُ عَنْ الرَّسُولِ : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فَمَنْ رَكِبَ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَهُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } وَإِنَّمَا كَانَ فِعْلًا مَنْهِيًّا عَنْهُ . وَقَوْلُهُ : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } هُوَ يَتَنَاوَلُ مَا نُهِيَ عَنْهُ أَقْوَى مِمَّا يَتَنَاوَلُ مَا أُمِرَ بِهِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ . وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } " . وَقَوْلُهُ : { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ } فَالْمَعْصِيَةُ مُخَالِفَةُ الْأَمْرِ وَمُخَالِفُ النَّهْيِ عَاصٍ ؛ فَإِنَّهُ مُخَالِفُ الْأَمْرِ وَفَاعِلُ الْمَحْظُورِ قَدْ يَكُونُ أَظْهَرَ مَعْصِيَةً مِنْ تَارِكِ الْمَأْمُورِ .

وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ . كُلُّ مَنْ أُمِرَ بِشَيْءِ فَقَدْ نُهِيَ عَنْ فِعْلِ ضِدِّهِ وَمَنْ نُهِيَ عَنْ فِعْلٍ فَقَدْ أُمِرَ بِفِعْلِ ضِدِّهِ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ ؛ وَلَكِنْ لَفْظُ " الْأَمْرِ " يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ وَاللَّفْظُ الْعَامُّ قَدْ يَخُصُّ أَحَدَ نَوْعَيْهِ بِاسْمِ وَيَبْقَى الِاسْمُ الْعَامُّ لِلنَّوْعِ الْآخَرِ فَلَفْظُ الْأَمْرِ عَامٌّ لَكِنْ خَصُّوا أَحَدَ النَّوْعَيْنِ بِلَفْظِ النَّهْيِ فَإِذَا قُرِنَ النَّهْيُ بِالْأَمْرِ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ لَا الْعُمُومُ .
فَصْلٌ :
وَ " الْمَقْصُودُ " أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ وَالتَّوْبَةَ يَكُونَانِ مِنْ كِلَا النَّوْعَيْنِ وَ " أَيْضًا " فَالِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ مِمَّا فَعَلَهُ وَتَرَكَهُ فِي حَالِ الْجَهْلِ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ هَذَا قَبِيحٌ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَقَبْلَ أَنْ يُرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولٌ وَقَبْلَ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } . وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ : إنَّ هَذَا فِي الْوَاجِبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ غَيْرِ الْعَقْلِيَّةِ . كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ : مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ : مِثْلُ أَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ : لَا يُعَذِّبُ اللَّهُ أَحَدًا إلَّا بَعْدَ رَسُولٍ .

وَفِيهِمَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ إلَّا بِذَنْبِ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ " الْمُجَبِّرَةُ " أَتْبَاعُ جَهْمٍ : أَنَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُ بِلَا ذَنْبٍ وَقَدْ تَبِعَهُ طَائِفَةٌ تُنْسَبُ إلَى السُّنَّةِ : كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِ وَقَالُوا : إنَّ اللَّهَ يَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَ الْأَطْفَالَ فِي الْآخِرَةِ عَذَابًا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ فَعَلُوهُ وَهَؤُلَاءِ يَحْتَجُّونَ بِالْآيَةِ عَلَى إبْطَالِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ عَذَابَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ وَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ أَيْضًا حَيْثُ يُجَوِّزُونَ الْعَذَابَ بِلَا ذَنْبٍ فَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ . وَلَهَا نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } . وقَوْله تَعَالَى { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } . وَقَوْلُهُ : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } { قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } . وَمَا فَعَلُوهُ قَبْلَ مَجِيءِ الرُّسُلِ كَانَ سَيِّئًا وَقَبِيحًا وَشَرًّا ؛ لَكِنْ لَا تَقُومُ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ إلَّا بِالرَّسُولِ . هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَقِيلَ : إنَّهُ لَا يَكُونُ قَبِيحًا إلَّا بِالنَّهْيِ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ لَا يُثْبِتُ حَسَنًا وَلَا قَبِيحًا إلَّا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . كَقَوْلِ جَهْمٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ . وَأَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَغَيْرِهِمْ وَالْجُمْهُورِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى أَنَّ مَا كَانُوا فِيهِ قَبْلَ

مَجِيءِ الرَّسُولِ مِنْ الشِّرْكِ وَالْجَاهِلِيَّةِ شَيْئًا قَبِيحًا وَكَانَ شَرًّا . لَكِنْ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ إلَّا بَعْدَ مَجِيءِ الرَّسُولِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ لِلنَّاسِ فِي الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَالْفَوَاحِشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ " : قِيلَ : إنَّ قُبْحَهُمَا مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ وَأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ لَمْ يَأْتِهِمْ الرَّسُولُ كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَحَكَوْهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ . وَ " قِيلَ " : لَا قُبْحَ وَلَا حُسْنَ وَلَا شَرَّ فِيهِمَا قَبْلَ الْخِطَابِ وَإِنَّمَا الْقَبِيحُ مَا قِيلَ فِيهِ لَا تَفْعَلْ ؛ وَالْحَسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ افْعَلْ أَوْ مَا أُذِنَ فِي فِعْلِهِ . كَمَا تَقُولُهُ الْأَشْعَرِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الطَّوَائِفِ الثَّلَاثَةِ . وَقِيلَ إنَّ ذَلِكَ سَيْءٌ وَشَرٌّ وَقَبِيحٌ قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ ؛ لَكِنَّ الْعُقُوبَةَ إنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِمَجِيءِ الرَّسُولِ . وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ السَّلَفِ وَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . فَإِنَّ فِيهِمَا بَيَانُ أَنَّ مَا عَلَيْهِ الْكُفَّارُ هُوَ شَرٌّ وَقَبِيحٌ وَسَيْءٌ قَبْلَ الرُّسُلِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ إلَّا بِالرَّسُولِ . وَفِي الصحيح { أن حُذَيْفَةَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ . قَالَ : نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا } " .

فَصْلٌ :
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قُبْحِ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ الرَّسُولُ . كَقَوْلِهِ لِمُوسَى : { اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى } { فَقُلْ هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تَزَكَّى } { وَأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } . وَقَالَ : { إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ } { وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ } . فَهَذَا خَبَرٌ عَنْ حَالِهِ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ مُوسَى وَحِينَ كَانَ صَغِيرًا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ بِرِسَالَةِ أَنَّهُ كَانَ طَاغِيًا مُفْسِدًا . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى } { إذْ أَوْحَيْنَا إلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى } { أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ } . وَهُوَ فِرْعَوْنُ فَهُوَ إذْ ذَاكَ عَدُوٌّ لِلَّهِ وَلَمْ يَكُنْ جَاءَتْهُ الرِّسَالَةُ بَعْدُ .

فَصْلٌ :
وَ " أَيْضًا " أَمَرَ اللَّهُ النَّاسَ أَنْ يَتُوبُوا وَيَسْتَغْفِرُوا مِمَّا فَعَلُوهُ فَلَوْ كَانَ كَالْمُبَاحِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ وَالْمَعْفُوِّ عَنْهُ وَكَفِعْلِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ مَا أُمِرَ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ السَّيِّئَاتِ الْقَبِيحَةِ لَكِنْ اللَّهُ لَا يُعَاقِبُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } { أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } . وقَوْله تَعَالَى { قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ } { الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } وَقَالَ : { إنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } { قَالَ يَا قَوْمِ إنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ } { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ } . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ ذُنُوبًا قَبْلَ إنْذَارِهِ إيَّاهُمْ . وَقَالَ عَنْ هُودٍ : { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ

مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ إنْ أَنْتُمْ إلَّا مُفْتَرُونَ } { يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إنْ أَجْرِيَ إلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ } { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ } فَأَخْبَرَ فِي أَوَّلِ خِطَابِهِ أَنَّهُمْ مُفْتَرُونَ . بِأَكْثَرَ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ كَمَا قَالَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ } . وَكَذَلِكَ قَالَ صَالِحٌ : { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ } . وَكَذَلِكَ قَالَ لُوطٌ لِقَوْمِهِ : { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ } . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ فَاحِشَةٌ عِنْدَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَنْهَاهُمْ . بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : مَا كَانَتْ فَاحِشَةً وَلَا قَبِيحَةً وَلَا سَيِّئَةً حَتَّى نَهَاهُمْ عَنْهَا ؛ وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ : { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } . وَهَذَا خِطَابٌ لِمَنْ يَعْرِفُونَ قُبْحَ مَا يَفْعَلُونَ وَلَكِنْ أَنْذَرَهُمْ بِالْعَذَابِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ شُعَيْبٍ : { أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } . بَيَّنَ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ

كَانَ بَخْسًا لَهُمْ أَشْيَاءَهُمْ وَأَنَّهُمْ كَانُوا عَاثِينَ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قَبْلَ أَنْ يَنْهَاهُمْ ؛ بِخِلَافِ قَوْلِ " الْمُجَبِّرَةِ " أَنَّ ظُلْمَهُمْ مَا كَانَ سَيِّئَةً إلَّا لِمَا نَهَاهُمْ وَأَنَّهُ قَبْلَ النَّهْيِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَفْعَالِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . كَمَا يَقُولُونَ فِي سَائِرِ مَا نَهَتْ عَنْهُ الرُّسُلُ مِنْ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ . وَهَكَذَا إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ قَالَ : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا } { إذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا } فَهَذَا تَوْبِيخٌ عَلَى فِعْلِهِ قَبْلَ النَّهْيِ وَقَالَ أَيْضًا : { وَإِبْرَاهِيمَ إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { إنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إفْكًا } . فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ إفْكًا قَبْلَ النَّهْيِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْخَلِيلِ لِقَوْمِهِ أَيْضًا : { مَاذَا تَعْبُدُونَ } { أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ } { فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } - إلَى قَوْلِهِ - { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } . فَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ قُبْحَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ النَّهْيِ وَقَبْلَ إنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ وَلِهَذَا اسْتَفْهَمَ اسْتِفْهَامَ مُنْكِرٍ فَقَالَ : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } أَيْ وَخَلَقَ مَا تَنْحِتُونَ . فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَعْبُدُوا مَا تَصْنَعُونَهُ بِأَيْدِيكُمْ ؟ وَتَدَعُونَ رَبَّ الْعَالَمِينَ .

فَلَوْلَا أَنَّ حُسْنَ التَّوْحِيدِ وَعِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَقُبْحَ الشِّرْكِ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ لَمْ يُخَاطِبْهُمْ بِهَذَا إذْ كَانُوا لَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا يُذَمُّونَ عَلَيْهِ بَلْ كَانَ فِعْلُهُمْ كَأَكْلِهِمْ وَشُرْبِهِمْ وَإِنَّمَا كَانَ قَبِيحًا بِالنَّهْيِ وَمَعْنَى قُبْحِهِ كَوْنُهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لَا لِمَعْنَى فِيهِ ؛ كَمَا تَقُولُهُ الْمُجَبِّرَةُ . وَ " أَيْضًا " فَفِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ يُبَيِّنُ لَهُمْ قُبْحَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَيَضْرِبُ لَهُمْ الْأَمْثَالَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } . وَقَوْلُهُ : { أَفَلَا تَتَّقُونَ } وَقَوْلُهُ : { فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ اعْتِرَافَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ يُوجِبُ انْتِهَاءَهُمْ عَنْ عِبَادَتِهَا وَأَنَّ عِبَادَتَهَا مِنْ الْقَبَائِحِ الْمَذْمُومَةِ ؛ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَظُنُّونَ أَنَّ الشِّرْكَ هُوَ اعْتِقَادُ أَنْ ثَمَّ خَالِقٌ آخَرُ وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ بَلْ الشِّرْكُ عِبَادَةُ غَيْرِ اللَّهِ وَإِنْ اعْتَرَفَ الْمُشْرِكُ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ . وَقَوْلُهُ : إنَّهُ كُلُّهُ لِلَّهِ ، كَذِبٌ مُفْتَرًى (1) وَإِنْ قَالَ : إنَّهُ مَخْلُوقٌ . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . كَقَوْلِهِ : { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا

شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } { أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } وَهَذَا فِي جُمْلَةٍ بَعْدَ جُمْلَةٍ يَقُولُ : { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } إنْكَارًا عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ وَيَتَّخِذُوهُ إلَهًا مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّ هَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ إلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ وَإِنَّمَا فَعَلَهُ هُوَ وَحْدَهُ . وَقَوْلُهُ { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ أَيُّ إلَهٍ مَعَ اللَّهِ مَوْجُودٌ وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً وَيَشْهَدُونَ بِذَلِكَ ؛ لَكِنْ مَا كَانُوا يَقُولُونَ : إنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ . وَالتَّقْرِيرُ إنَّمَا يَكُونُ لِمَا يُقِرُّونَ بِهِ وَهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا . لَا يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَهٌ . قَالَ تَعَالَى : { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } . وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . وَقَالَ : { إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } . وَقَالَ : { ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } .

فَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَالَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ إنَّ كُلَّ عَاصٍ فَهُوَ جَاهِلٌ . كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِمَنْ يَكُونُ عَلِمَ التَّحْرِيمَ أَيْضًا . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ عَامِلًا سُوءًا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَسْمَعْ الْخِطَابَ الْمُبِينَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَأَنَّهُ يَتُوبُ مِنْ ذَلِكَ فَيَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ وَيَرْحَمُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ الْخِطَابِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ .
وَإِذَا كَانَتْ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ تَكُونُ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَتَكُونُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ عُلِمَ أَنَّهُ ذَنْبٌ تَبَيَّنَ كَثْرَةُ مَا يَدْخُلُ فِي التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ إذَا ذُكِرَتْ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ يَسْتَشْعِرُ قَبَائِحَ قَدْ فَعَلَهَا فَعَلِمَ بِالْعِلْمِ الْعَامِّ أَنَّهَا قَبِيحَةٌ : كَالْفَاحِشَةِ وَالظُّلْمِ الظَّاهِرِ . فَأَمَّا مَا قَدْ يُتَّخَذُ دِينًا فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ ذَنْبٌ إلَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ بَاطِلٌ . كَدِينِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الْمُبَدَّلِ فَإِنَّهُ مِمَّا تَجِبُ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ وَأَهْلُهُ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى . وَكَذَلِكَ الْبِدَعُ كُلُّهَا . وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ - مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ - : الْبِدْعَةُ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ يُتَابُ مِنْهَا وَالْبِدْعَةُ لَا يُتَابُ مِنْهَا . وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ حَجَرَ التَّوْبَةَ عَلَى كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتُوبُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ يَحْسَبُ أَنَّهُ عَلَى هُدًى وَلَوْ تَابَ لَتَابَ عَلَيْهِ كَمَا يَتُوبُ عَلَى الْكَافِرِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا يُقْبَلُ

تَوْبَةُ مُبْتَدِعٍ مُطْلَقًا فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا مُنْكَرًا . وَمَنْ قَالَ : مَا أَذِنَ اللَّهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ فِي تَوْبَةٍ . فَمَعْنَاهُ مَا دَامَ مُبْتَدِعًا يَرَاهَا حَسَنَةً لَا يَتُوبُ مِنْهَا فَأَمَّا إذَا أَرَاهُ اللَّهُ أَنَّهَا قَبِيحَةٌ فَإِنَّهُ يَتُوبُ مِنْهَا كَمَا يَرَى الْكَافِرُ أَنَّهُ عَلَى ضَلَالٍ ؛ وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ كَانَ عَلَى بِدْعَةٍ تَبَيَّنَ لَهُ ضَلَالُهَا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْهَا . وَهَؤُلَاءِ لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ . وَ " الْخَوَارِجُ " لَمَّا أُرْسِلَ إلَيْهِمْ ابْنُ عَبَّاسٍ فَنَاظَرَهُمْ رَجَعَ مِنْهُمْ نِصْفُهُمْ أَوْ نَحْوُهُ وَتَابُوا وَتَابَ مِنْهُمْ آخَرُونَ عَلَى يَدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِ مِنْهُمْ مَنْ سَمِعَ الْعِلْمَ فَتَابَ وَهَذَا كَثِيرٌ فَهَذَا الْقِسْمُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ فَاعِلُوهُ قُبْحَهُ قِسْمٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَهُوَ فِي غَيْرِهِمْ عَامٌّ وَكَذَلِكَ مَا يَتْرُكُ الْإِنْسَانُ مِنْ وَاجِبَاتٍ لَا يَعْلَمُ وُجُوبَهَا كَثِيرَةً جِدًّا ثُمَّ إذَا عَلِمَ مَا كَانَ قَدْ تَرَكَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ وَمَا كَانَ مَأْمُورًا بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ وَالِاسْتِغْفَارِ مِمَّا كَانَ سَيِّئَةً وَالتَّائِبُ يَتُوبُ مِمَّا تَرَكَهُ وَضَيَّعَهُ وَفَرَّطَ فِيهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَتُوبُ مِمَّا فَعَلَهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ هَذَا وَتَرَكَ هَذَا قَبْلَ الرِّسَالَةِ فَبِالرِّسَالَةِ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِ هَذَا وَفِعْلِ هَذَا . وَإِلَّا فَكَوْنُهُ كَانَ فَاعِلًا لِلسَّيِّئَاتِ الْمَذْمُومَةِ وَتَارِكًا لِلْحَسَنَاتِ الَّتِي يُذَمُّ تَارِكُهَا كَانَ تَائِبًا قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ . وَذَكَرْنَا " الْقَوْلَيْنِ " قَوْلَ مَنْ نَفَى الذَّمَّ وَالْعِقَابَ وَقَوْلَ مَنْ أَثْبَتَ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ .

فَإِنْ قِيلَ : إذَا لَمْ يَكُنْ مُعَاقَبًا عَلَيْهَا فَلَا مَعْنَى لِقُبْحِهَا . قِيلَ بَلْ فِيهِ مَعْنَيَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْعِقَابِ لَكِنْ هُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الشَّرْطِ وَهُوَ الْحُجَّةُ قَالَ تَعَالَى : { وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا } فَلَوْلَا إنْقَاذُهُ لَسَقَطُوا وَمَنْ كَانَ وَاقِفًا عَلَى شَفِيرٍ فَهَلَكَ فَهَلَاكُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى سُقُوطِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَانَ وَبَعُدَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ بَعُدَ عَنْ الْهَلَاكِ . فَأَصْحَابُهَا كَانُوا قَرِيبِينَ إلَى الْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ .
الثَّانِي : أَنَّهُمْ مَذْمُومُونَ مَنْقُوصُونَ مَعِيبُونَ . فَدَرَجَتُهُمْ مُنْخَفِضَةٌ بِذَلِكَ وَلَا بُدَّ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ لَمْ يُعَذَّبُوا لَا يَسْتَحِقُّونَ مَا يَسْتَحِقُّهُ السَّلِيمُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ كَرَامَتِهِ أَيْضًا وَثَوَابِهِ . فَهَذِهِ عُقُوبَةٌ بِحِرْمَانِ خَيْرٍ وَهِيَ أَحَدُ نَوْعَيْ . الْعُقُوبَةِ . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ حَاصِلًا لِكُلِّ مَنْ تَرَكَ مُسْتَحَبًّا فَإِنَّهُ يَفُوتُهُ خَيْرُهُ فَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يَفُوتُهُ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ وَبَيْنَ مَا يَنْقُصُ مَا عِنْدَهُ . وَهَذَا كَلَامٌ عَامٌّ فِيمَا لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ مِنْ الذُّنُوبِ . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُرْسَلْ إلَيْهِ رَسُولٌ فِي الدُّنْيَا : فَقَدْ رُوِيَتْ آثَارٌ أَنَّهُمْ يُرْسَلُ إلَيْهِمْ رَسُولٌ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ .

وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي " الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ " هَلْ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . قِيلَ : لَا يَتَحَقَّقُ ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُعَاقَبْ كَانَ كَالْمُبَاحِ وَقِيلَ : يَتَحَقَّقُ ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُذَمَّ وَإِنْ لَمْ يُعَاقَبْ . وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ أَنَّ الْعِقَابَ " نَوْعَانِ " نَوْعٌ بِالْآلَامِ ، فَهَذَا قَدْ يَسْقُطُ بِكَثْرَةِ الْحَسَنَاتِ وَنَوْعٌ بِنَقْصِ الدَّرَجَةِ وَحِرْمَانِ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ . فَهَذَا يَحْصُلُ إذَا لَمْ يَحْصُلْ الْأَوَّلُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يُكَفِّرُ سَيِّئَاتِ الْمُسِيءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا } فَيُكَفِّرُهَا تَارَةً بِالْمَصَائِبِ فَتَبْقَى دَرَجَةُ صَاحِبِهَا كَمَا كَانَتْ وَقَدْ تَصِيرُ دَرَجَتُهُ أَعْلَى وَيُكَفِّرُهَا بِالطَّاعَاتِ وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِتِلْكَ السَّيِّئَاتِ أَعْلَى دَرَجَةً . فَيُحْرَمُ صَاحِبُ السَّيِّئَاتِ مَا يَسْقُطُ بِإِزَائِهَا مِنْ طَاعَتِهِ وَهَذَا مِمَّا يَتُوبُ مِنْهُ مَنْ أَرَادَ أَلَّا يَخْسَرَ وَمَنْ فَرَّطَ فِي مُسْتَحَبَّاتٍ فَإِنَّهُ يَتُوبُ أَيْضًا ؛ لِيَحْصُلَ لَهُ مُوجِبُهَا . فَالتَّوْبَةُ تَتَنَاوَلُ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ . وَتَوْبَةُ الْإِنْسَانِ مِنْ حَسَنَاتِهِ عَلَى أَوْجُهٍ :
أَحَدُهُمَا أَنْ يَتُوبَ وَيَسْتَغْفِرَ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِيهَا . وَ الثَّانِي أَنْ يَتُوبَ مِمَّا كَانَ يَظُنُّهُ حَسَنَاتٍ وَلَمْ يَكُنْ كَحَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ . وَالثَّالِثُ يَتُوبُ مِنْ إعْجَابِهِ وَرُؤْيَتِهِ أَنَّهُ فَعَلَهَا وَأَنَّهَا حَصَلَتْ

بِقُوَّتِهِ وَيَنْسَى فَضْلَ اللَّهِ وَإِحْسَانَهُ وَأَنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ بِهَا وَهَذِهِ تَوْبَةٌ مِنْ فِعْلٍ مَذْمُومٍ وَتَرْكِ مَأْمُورٍ . وَلِهَذَا قِيلَ : تَخْلِيصُ الْأَعْمَالِ مِمَّا يُفْسِدُهَا أَشَدُّ عَلَى الْعَامِلِينَ مِنْ طُولِ الِاجْتِهَادِ . وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ احْتِيَاجَ النَّاسِ إلَى التَّوْبَةِ دَائِمًا . وَلِهَذَا قِيلَ : هِيَ مَقَامٌ يَسْتَصْحِبُهُ الْعَبْدُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَى آخِرِ عُمُرِهِ وَلَا بُدَّ مِنْهُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ ؛ فَجَمِيعُ الْخَلْقِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتُوبُوا وَأَنْ يَسْتَدِيمُوا التَّوْبَةَ . قَالَ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } . فَغَايَةُ كُلِّ مُؤْمِنٍ التَّوْبَةُ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِأَفْضَلِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَفْضَلِ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } . وَمِنْ أَوَاخِرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلُهُ : { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك . اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ } " . وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ

أَنْ يَقُولَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك . قَالَتْ : فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَرَاك تُكْثِرُ مِنْ قَوْلِك : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك . فَقَالَ : أَخْبَرَنِي رَبِّي أَنِّي سَأَرَى عَلَامَةً فِي أُمَّتِي . فَإِذَا رَأَيْتهَا أَكْثَرْت مِنْ قَوْلِ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك فَقَدْ رَأَيْتهَا : { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } فَتْحُ مَكَّةَ { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } } . وَأَمْرُهُ سُبْحَانَهُ لَهُ بِالتَّسْبِيحِ بِحَمْدِهِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ فِي غَيْرِهَا أَوْ لَا يُؤْمَرُ بِهِ غَيْرُهُ . بَلْ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا سَبَبٌ لِمَا أُمِرَ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ . كَمَا يُؤْمَرُ الْإِنْسَانُ بِالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ عَلَى نِعَمِهِ وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا وَكَمَا يُؤْمَرُ بِالتَّوْبَةِ مِنْ ذَنْبٍ وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِالتَّوْبَةِ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لَكِنْ هُوَ أَمْرٌ أَنْ يُخْتَمَ عَمَلُهُ بِهَذَا فَغَيْرُهُ أَحْوَجُ إلَى هَذَا مِنْهُ وَقَدْ يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّوْبَةِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ مُطْلَقًا كَمَا ثَبَتَ فِي الصحيح { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَغْفِرُ عَقِبَ الصَّلَاةِ ثَلَاثًا } . قَالَ تَعَالَى : { وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ } . قَامُوا اللَّيْلَ ثُمَّ جَلَسُوا وَقْتَ السَّحَرِ يَسْتَغْفِرُونَ . وَقَدْ خَتَمَ اللَّهُ " سُورَةَ الْمُزَّمِّلِ " وَفِيهَا قِيَامُ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ : { وَاسْتَغْفِرُوا

اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } كَمَا خَتَمَ بِذَلِكَ " سُورَةَ الْمُدَّثِّرِ " بِقَوْلِهِ : { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَهْلُ التَّقْوَى وَلَمْ يَقُلْ سُبْحَانَهُ أَهْلٌ لِلتَّقْوَى . بَلْ قَالَ : { أَهْلُ التَّقْوَى } فَهُوَ وَحْدَهُ أَهْلٌ أَنْ يُتَّقَى فَيُعْبَدُ دُونَ مَا سِوَاهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ أَنْ يُتَّقَى كَمَا قَالَ : { وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ } وَقَالَ : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } وَهُوَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ } وَفِي غَيْرِ حَدِيثٍ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ } " فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } فَالْمُؤْمِنُونَ يَسْتَغْفِرُونَ مِمَّا كَانُوا تَارِكِيهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَأْتِهِمْ بِهِ رَسُولٌ بَعْدُ كَمَا تَقَدَّمَ وَالرَّسُولُ يَسْتَغْفِرُ مِنْ تَرْكِ مَا كَانَ تَارِكَهُ كَمَا قَالَ فِيهِ : { مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عِقَابٌ وَالْمُؤْمِنُ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ ضَيَّعَ حَقَّ قَرَابَتِهِ أَوْ غَيْرِهِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْ ذَلِكَ وَتَابَ وَكَذَلِكَ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ بَعْضَ مَا يَفْعَلُهُ هُوَ مَذْمُومٌ .

فَصْلٌ :
وَ " أَيْضًا " فَمِمَّا يَسْتَغْفِرُ وَيُتَابُ مِنْهُ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَوْ قَالَهَا أَوْ فَعَلَهَا عُذِّبَ . قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } فَهُوَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَرْجِعُ عَمَّا فِي نَفْسِهِ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ وَلَمْ يَعْمَلْ : كَاَلَّذِي هَمَّ بِالسَّيِّئَةِ وَلَمْ يَعْمَلْهَا وَإِنْ تَرَكَهَا لِلَّهِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ . وَهَذَا مِمَّا يُسْتَغْفَرُ مِنْهُ وَيَتُوبُ ؛ فَإِنَّ الِاسْتِغْفَارَ وَالتَّوْبَةَ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ سَبَبًا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَحْصُلْ الْعِقَابُ وَلَا الذَّمُّ . فَإِنَّهُ يُفْضِي إلَيْهِ فَيَتُوبُ مِنْ ذَلِكَ : أَيْ يَرْجِعُ عَنْهُ حَتَّى لَا يُفْضِيَ إلَى شَرٍّ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهُ . أَيْ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ فَلَا يُشْقِيه بِهِ ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ فَقَدْ يَنْقُصُ بِهِ . فَاَلَّذِي يَهُمُّ بِالسَّيِّئَاتِ وَإِنْ كَانَ لَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ ؛ لَكِنَّهُ اشْتَغَلَ بِهَا عَمَّا كَانَ يَنْفَعُهُ فَيَنْقُصُ بِهَا عَمَّنْ لَمْ يَفْعَلْهَا وَاشْتَغَلَ بِمَا يَنْفَعُهُ عَنْهَا . وَقَدْ بَسَطْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ : أَنَّ فِعْلَ الْإِنْسَانِ وَقَوْلَهُ - إمَّا لَهُ وَإِمَّا عَلَيْهِ - لَا يَخْلُو مِنْ هَذَا أَوْ هَذَا . فَهُوَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ مِمَّا

عَلَيْهِ . وَقَدْ يَظُنُّ ظُنُونَ سُوءٍ بَاطِلَةٍ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ فِيهَا اسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَتَابَ . وَظُلْمُهُ لِنَفْسِهِ يَكُونُ بِتَرْكِ وَاجِبٍ كَمَا يَكُونُ بِفِعْلِ مُحَرَّمٍ . فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَقَدْ قِيلَ : فِي قَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } قِيلَ : الْفَاحِشَةُ الزِّنَا وَقِيلَ : كُلُّ كَبِيرَةٍ وَظُلْمُ النَّفْسِ الْمَذْكُورِ مَعَهَا . قِيلَ : هُوَ فَاحِشَةٌ أَيْضًا . وَقِيلَ : هِيَ الصَّغَائِرُ . وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ قَالَ : الْفَاحِشَةُ هِيَ الْكَبِيرَةُ فَيَكُونُ الْكَلَامُ قَدْ تَنَاوَلَ الْكَبِيرَةَ وَالصَّغِيرَةَ وَمَنْ قَالَ : الْفَاحِشَةُ الزِّنَا يَقُولُ : ظُلْمُ النَّفْسِ يَدْخُلُ فِيهِ سَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ وَقِيلَ : الْفَاحِشَةُ الزِّنَا وَظُلْمُ النَّفْسِ مَا دُونَهُ مِنْ اللَّمْسِ وَالْقُبْلَةِ وَالْمُعَانَقَةِ وَقِيلَ : هَذَا هُوَ الْفَاحِشَةُ وَظُلْمُ النَّفْسِ الْمَعَاصِي وَقِيلَ الْفَاحِشَةُ فِعْلٌ وَظُلْمُ النَّفْسِ قَوْلٌ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ " ظُلْمَ النَّفْسِ " جِنْسٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ ذَنْبٍ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي فَقَالَ : قُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِك وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي اسْتِفْتَاحِهِ : اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُك ظَلَمْت نَفْسِي وَاعْتَرَفْت بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ؛ فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ فَإِنَّهُ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا فَإِنَّهُ لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ } " . وَقَدْ قَالَ أَبُو الْبِشْرِ وَزَوْجَتُهُ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . وَقَالَ مُوسَى : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } وَقَالَ ذُو النُّونِ " يُونُسُ " : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } . وَقَالَتْ بلقيس : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) وَقَدْ قَالَ عَنْ أَهْلِ الْقُرَى الْمُعَذَّبِينَ : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } فَقَدْ قِيلَ : إنَّ الذُّنُوبَ هِيَ الصَّغَائِرُ وَالْإِسْرَافُ هُوَ الْكَبَائِرُ . وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّ " الذُّنُوبَ " اسْمُ جِنْسٍ وَ " الْإِسْرَافَ " تَعَدِّي الْحَدِّ وَمُجَاوَزَةُ الْقَصْدِ كَمَا فِي لَفْظِ الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فَالذُّنُوبُ كَالْإِثْمِ

وَالْإِسْرَافُ كَالْعُدْوَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ } وَمُجَاوَزَةُ قَدْرِ الْحَاجَةِ فَالذُّنُوبُ مِثْلُ اتِّبَاعِ الْهَوَى بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ . فَهَذَا كُلُّهُ ذَنْبٌ كَاَلَّذِي يَرْضَى لِنَفْسِهِ وَيَغْضَبُ لِنَفْسِهِ فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ وَ " الْإِسْرَافُ " كَاَلَّذِي يَغْضَبُ لِلَّهِ فَيُعَاقَبُ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ . وَالْآيَةُ فِي سِيَاقِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ . وَقَدْ أَخْبَرَ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ بِقَوْلِهِ : { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } وَقَدْ قِيلَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يُقْتَلْ فِي مَعْرَكَةٍ فَقَدْ قُتِلَ أَنْبِيَاءُ كَثِيرُونَ { فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } الْآيَةَ . فَجَمَعُوا بَيْنَ الصَّبْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَهَذَا هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْمَصَائِبِ الصَّبْرُ عَلَيْهَا وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَهَا . وَالْقِتَالُ كَثِيرًا مَا يُقَاتِلُ الْإِنْسَانُ فِيهِ لِغَيْرِ اللَّهِ كَاَلَّذِي يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً . فَهَذَا كُلُّهُ ذُنُوبٌ وَاَلَّذِي يُقَاتِلُ لِلَّهِ قَدْ يُسْرِفُ فَيَقْتُلُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ وَيُعَاقِبُ الْكُفَّارَ بِأَشَدِّ مِمَّا أُمِرَ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا

يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } وَقَالَ : { وَالَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } . وَقَالَ : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا } فَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ . هَذَا آخِرُ مَا كَتَبْته هُنَا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الِاسْتِغْفَارُ يُخْرِجُ الْعَبْدَ مِنْ الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ ، إلَى الْفِعْلِ الْمَحْبُوبِ مِنْ الْعَمَلِ النَّاقِصِ إلَى الْعَمَلِ التَّامِّ وَيَرْفَعُ الْعَبْدَ مِنْ الْمَقَامِ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى مِنْهُ وَالْأَكْمَلِ ؛ فَإِنَّ الْعَابِدَ لِلَّهِ وَالْعَارِفَ بِاَللَّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ بَلْ فِي كُلِّ سَاعَةٍ بَلْ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ يَزْدَادُ عِلْمًا بِاَللَّهِ . وَبَصِيرَةً فِي دِينِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ بِحَيْثُ يَجِدُ ذَلِكَ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَنَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ وَقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَيَرَى تَقْصِيرَهُ فِي حُضُورِ قَلْبِهِ فِي الْمَقَامَاتِ الْعَالِيَةِ وَإِعْطَائِهَا حَقَّهَا فَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِغْفَارِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ؛ بَلْ هُوَ مُضْطَرٌّ إلَيْهِ دَائِمًا فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَحْوَالِ فِي الغوائب وَالْمَشَاهِدِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصَالِحِ وَجَلْبِ الْخَيْرَاتِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّاتِ وَطَلَبِ الزِّيَادَةِ فِي الْقُوَّةِ فِي الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ الْيَقِينِيَّةِ الْإِيمَانِيَّةِ . وَقَدْ ثَبَتَتْ : دَائِرَةُ الِاسْتِغْفَارِ بَيْنَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَاقْتِرَانِهَا بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ وَمِنْ آخِرِهِمْ إلَى

أَوَّلِهِمْ وَمِنْ الْأَعْلَى إلَى الْأَدْنَى . وَشُمُولِ دَائِرَةِ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ وَهُمْ فِيهَا دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَلِكُلِّ عَامِلٍ مَقَامٌ مَعْلُومٌ . فَشَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ بِصِدْقِ وَيَقِينٍ تُذْهِبُ الشِّرْكَ كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ خَطَأَهُ وَعَمْدَهُ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ ؛ سِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ وَتَأْتِي عَلَى جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَخَفَايَاهُ وَدَقَائِقِهِ . وَالِاسْتِغْفَارُ يَمْحُو مَا بَقِيَ مِنْ عَثَرَاتِهِ وَيَمْحُو الذَّنْبَ الَّذِي هُوَ مِنْ شُعَبِ الشِّرْكِ فَإِنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا مِنْ شُعَبِ الشِّرْكِ . فَالتَّوْحِيدُ يُذْهِبُ أَصْلَ الشِّرْكِ وَالِاسْتِغْفَارُ يَمْحُو فُرُوعَهُ فَأَبْلَغُ الثَّنَاءِ قَوْلُ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَبْلَغُ الدُّعَاءِ قَوْلُ : أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ . فَأَمَرَهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ لِنَفْسِهِ وَلِإِخْوَانِهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . وَقَالَ : إيَّاكَ وَالنَّظَرَ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ فِيهَا أَنَّهُ كُلَّمَا قَوِيَ نُورُ الْحَقِّ وَبُرْهَانُهُ فِي الْقُلُوبِ خَفِيَ عَنْ الْمَعْرِفَةِ كَمَا يَبْهَرُ ضَوْءُ الشَّمْسِ عُيُونَ الْخَفَافِيشِ بِالنَّهَارِ . فَاحْذَرْ مِثْلَ هَؤُلَاءِ وَعَلَيْك بِصُحْبَةِ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ الْمُؤَيَّدِينَ بِنُورِ الْهُدَى وَبَرَاهِينِ الْإِيمَانِ أَصْحَابِ الْبَصَائِرِ فِي الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ الْفَارِقِينَ بَيْنَ الْوَارِدَاتِ الرَّحْمَانِيَّةِ والشيطانية الْعَالِمِينَ الْعَامِلِينَ { أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .

وَقَالَ : التَّوْبَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ وَالْحَسَنَاتُ كُلُّهَا مَشْرُوطٌ فِيهَا الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ وَمُوَافَقَةُ أَمْرِهِ بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ أَكْبَرِ الْحَسَنَاتِ وَبَابُهُ وَاسِعٌ . فَمَنْ أَحَسَّ بِتَقْصِيرِ فِي قَوْلِهِ أَوْ عَمَلِهِ أَوْ حَالِهِ أَوْ رِزْقِهِ أَوْ تَقَلُّبِ قَلْبٍ : فَعَلَيْهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فَفِيهِمَا الشِّفَاءُ إذَا كَانَا بِصِدْقِ وَإِخْلَاصٍ . وَكَذَلِكَ إذَا وَجَدَ الْعَبْدُ تَقْصِيرًا فِي حُقُوقِ الْقَرَابَةِ وَالْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ وَالْجِيرَانِ وَالْإِخْوَانِ . فَعَلَيْهِ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ وَالِاسْتِغْفَارِ . { قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ لِي لِسَانًا ذَرِبًا عَلَى أَهْلِي . فَقَالَ لَهُ : أَيْنَ أَنْتَ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ ؟ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً } " .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْلِهِ : { مَا أَصَرَّ مَنْ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةَ سَبْعِينَ مَرَّةً } " . هَلْ الْمُرَادُ ذِكْرُ الِاسْتِغْفَارِ بِاللَّفْظِ ؟ أَوْ أَنَّهُ إذَا اسْتَغْفَرَ يَنْوِي بِالْقَلْبِ أَنْ لَا يَعُودَ إلَى الذَّنْبِ ؟ وَهَلْ إذَا تَابَ مِنْ الذَّنْبِ وَعَزَمَ بِالْقَلْبِ أَنْ لَا يَعُودَ إلَيْهِ وَأَقَامَ مُدَّةً ثُمَّ وَقَعَ فِيهِ أَفَيَكُونُ ذَلِكَ الذَّنْبُ الْقَدِيمُ يُضَافُ إلَى الثَّانِي ؟ أَوْ يَكُونُ مَغْفُورًا بِالتَّوْبَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ؟ وَهَلْ التَّائِبُ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَلُبْسِ الْحَرِيرِ يَشْرَبُهُ فِي الْآخِرَةِ ؟ وَيَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الْآخِرَةِ ؟ وَالتَّوْبَةُ النَّصُوحُ مَا شَرْطُهَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ الْمُرَادُ الِاسْتِغْفَارُ بِالْقَلْبِ مَعَ اللِّسَانِ فَإِنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { لَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ } " فَإِذَا أَصَرَّ عَلَى الصَّغِيرَةِ صَارَتْ كَبِيرَةً وَإِذَا تَابَ مِنْهَا غُفِرَتْ . قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } الْآيَةَ .

وَإِذَا تَابَ تَوْبَةً صَحِيحَةً غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ فَإِنْ عَادَ إلَى الذَّنْبِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ أَيْضًا . وَإِذَا تَابَ قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ أَيْضًا . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّائِبِ مِنْ الْكُفْرِ . إذَا ارْتَدَّ بَعْدَ إسْلَامِهِ ثُمَّ تَابَ بَعْدَ الرِّدَّةِ وَأَسْلَمَ . هَلْ يَعُودُ عَمَلُهُ الْأَوَّلُ ؟ عَلَى " قَوْلَيْنِ " مَبْنَاهُمَا أَنَّ الرِّدَّةَ هَلْ تُحْبِطُ الْعَمَلَ مُطْلَقًا أَوْ تُحْبِطُهُ بِشَرْطِ الْمَوْتِ عَلَيْهَا . فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ أَنَّهَا تُحْبِطُهُ مُطْلَقًا . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُحْبِطُهُ بِشَرْطِ الْمَوْتِ عَلَيْهَا . وَالرِّدَّةُ ضِدُّ التَّوْبَةِ وَلَيْسَ مِنْ السَّيِّئَاتِ مَا يَمْحُو جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ إلَّا الرِّدَّةُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا } قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { تَوْبَةً نَصُوحًا } أَنْ يَتُوبَ ثُمَّ لَا يَعُودُ فَهَذِهِ التَّوْبَةُ الْوَاجِبَةُ التَّامَّةُ . وَمَنْ تَابَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَلُبْسِ الْحَرِيرِ فَإِنَّهُ يَلْبَسُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا } " وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ كَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَد : إلَى أَنَّهُ لَا يَشْرَبُهَا مُطْلَقًا وَقَدْ أَخْطَئُوا الصَّوَابَ . الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ .

وَسُئِلَ :
عَنْ الْيَهُودِيِّ أَوْ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَ ، هَلْ يَبْقَى عَلَيْهِ ذَنْبٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا أَسْلَمَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا غُفِرَ لَهُ الْكُفْرُ الَّذِي تَابَ مِنْهُ بِالْإِسْلَامِ بِلَا نِزَاعٍ وَأَمَّا الذُّنُوبُ الَّتِي لَمْ يَتُبْ مِنْهَا مِثْلُ : أَنْ يَكُنْ مُصِرًّا عَلَى ذَنْبٍ أَوْ ظُلْمٍ أَوْ فَاحِشَةٍ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا بِالْإِسْلَامِ . فَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّهُ يُغْفَرُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ . وَالصَّحِيحُ : أَنَّهُ إنَّمَا يُغْفَرُ لَهُ مَا تَابَ مِنْهُ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصحيح عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قِيلَ : { أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؟ فَقَالَ : مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ . وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخَرِ } وَ " حُسْنُ الْإِسْلَامِ " أَنْ يَلْتَزِمَ فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ . وَهَذَا مَعْنَى التَّوْبَةِ الْعَامَّةِ فَمَنْ أَسْلَمَ هَذَا الْإِسْلَامَ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ كُلُّهَا . وَهَكَذَا كَانَ إسْلَامُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ

الصَّحِيحِ لِعَمْرِو بْنِ العاص : { أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ } " فَإِنَّ اللَّامَ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ وَالْإِسْلَامُ الْمَعْهُودُ بَيْنَهُمْ كَانَ الْإِسْلَامَ الْحَسَنَ . وَقَوْلُهُ : " { وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخَرِ } " أَيْ : إذَا أَصَرَّ عَلَى مَا كَانَ يَعْمَلُهُ مِنْ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ بِالْأَوَّلِ وَالْآخَرِ . وَهَذَا مُوجَبُ النُّصُوصِ وَالْعَدْلِ فَإِنَّ مَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبٍ غُفِرَ لَهُ ذَلِكَ الذَّنْبُ وَلَمْ يَجِبْ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ غَيْرُهُ . وَالْمُسْلِمُ تَائِبٌ مِنْ الْكُفْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } وَقَوْلُهُ : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } أَيْ إذَا انْتَهَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ غُفِرَ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ . فَالِانْتِهَاءُ عَنْ الذَّنْبِ هُوَ التَّوْبَةُ مِنْهُ . مَنْ انْتَهَى عَنْ ذَنْبٍ غُفِرَ لَهُ مَا سَلَفَ مِنْهُ . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ ذَنْبٍ فَلَا يَجِبُ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ مَا سَلَفَ لِانْتِهَائِهِ عَنْ ذَنْبٍ آخَرَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
__________
آخِرُ الْمُجَلَّدِ الْحَادِي عَشْرَ

الْجُزْءُ الْثَّانِي عَشَرَ
كِتَابُ الْقُرْآنِ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ .
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ؛ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .

قَاعِدَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ اللَّهِ
فَإِنَّ الْأُمَّةَ اضْطَرَبَتْ فِي هَذَا اضْطِرَابًا عَظِيمًا وَتَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا بِالظُّنُونِ وَالْأَهْوَاءِ بَعْدَ مُضِيِّ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ لَمَّا حَدَثَتْ فِيهِمْ الْجَهْمِيَّة الْمُشْتَقَّةُ مِنْ الصَّابِئَةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } وَالِاخْتِلَافُ " نَوْعَانِ " : اخْتِلَافٌ فِي تَنْزِيلِهِ وَاخْتِلَافٌ فِي تَأْوِيلِهِ . وَالْمُخْتَلِفُونَ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ اللَّهُ هُمْ الْمُخْتَلِفُونَ فِي الْحَقِّ بِأَنْ يُنْكِرَ هَؤُلَاءِ الْحَقَّ الَّذِي مَعَ هَؤُلَاءِ أَوْ بِالْعَكْسِ . فَإِنَّ الْوَاجِبَ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الْحَقِّ الْمُنَزَّلِ . فَأَمَّا مَنْ آمَنَ بِذَلِكَ وَكَفَرَ بِهِ غَيْرُهُ فَهَذَا اخْتِلَافٌ يُذَمُّ فِيهِ أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } إلَى قَوْلِهِ :

{ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ } وَالِاخْتِلَافُ فِي تَنْزِيلِهِ أَعْظَمُ وَهُوَ الَّذِي قَصَدْنَا هُنَا فَنَقُولُ : " الِاخْتِلَافُ فِي تَنْزِيلِهِ " هُوَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ وَالْكَافِرُونَ كَفَرُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فَالْمُؤْمِنُونَ بِجِنْسِ الْكِتَابِ وَالرُّسُلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ وَالْكَافِرُونَ بِجِنْسِ الْكِتَابِ وَالرُّسُلِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ يَكْفُرُونَ بِذَلِكَ . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ إلَى النَّاسِ لِتُبَلِّغَهُمْ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إلَيْهِمْ فَمَنْ آمَنَ بِالرُّسُلِ آمَنَ بِمَا بَلَّغُوهُ عَنْ اللَّهِ وَمَنْ كَذَّبَ بِالرُّسُلِ كَذَّبَ بِذَلِكَ . فَالْإِيمَانُ بِكَلَامِ اللَّهِ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ بِرِسَالَةِ اللَّهِ إلَى عِبَادِهِ وَالْكُفْرُ بِذَلِكَ هُوَ الْكُفْرُ بِهَذَا فَتَدَبَّرْ هَذَا الْأَصْلَ فَإِنَّهُ فُرْقَانُ هَذَا الِاشْتِبَاهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ يَكْفُرُ بِالرُّسُلِ : تَارَةً يَكْفُرُ بِأَنَّ اللَّهَ لَهُ كَلَامٌ أَنْزَلَهُ عَلَى بَشَرٍ كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَكْفُرُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ : مِثْلُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ } الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ وَهُودٍ : { أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ } وَقَالَ { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } إلَى آخِرِ الْكَلَامِ ،

فَإِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَقْرِيرَ قَوَاعِدَ وَقَالَ عَنْ الْوَحِيدِ : { إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } . وَلِهَذَا كَانَ أَصْلُ " الْإِيمَانِ " الْإِيمَانَ بِمَا أَنْزَلَهُ . قَالَ تَعَالَى : { الم } { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } وَفِي وَسَطِ السُّورَةِ : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ } الْآيَةَ . وَفِي آخِرِهَا : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } الْآيَتَيْنِ . وَفِي السُّورَةِ الَّتِي تَلِيهَا : { الم } { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ } { مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ } . وَذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ الْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ وَكَذَلِكَ فِي آخِرِهَا : { رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } إلَى قَوْلِهِ : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ } الْآيَةَ . وَلِهَذَا عَظُمَ تَقْرِيرُ هَذَا الْأَصْلِ فِي الْقُرْآنِ . فَتَارَةً يَفْتَتِحُ بِهِ السُّورَةَ إمَّا إخْبَارًا كَقَوْلِهِ : { ذَلِكَ الْكِتَابُ } وَقَوْلِهِ . { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } وَقَوْلِهِ : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } الْآيَةَ . وَكَذَلِكَ الْ " طس " وَاَلْ " حم " . فَعَامَّةُ الْ " الم " وَاَلْ " الر " وَاَلْ " طس " وَاَلْ " حم " كَذَلِكَ .

وَإِمَّا ثَنَاءً بِإِنْزَالِهِ كَقَوْلِهِ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا } { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } الْآيَةَ . وَأَمَّا فِي أَثْنَاءِ السُّورِ فَكَثِيرٌ جِدًّا وَثَنَّى قِصَّةَ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ ؛ لِأَنَّهُمَا فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَإِنَّ فِرْعَوْنَ فِي غَايَةِ الْكُفْرِ وَالْبَاطِلِ حَيْثُ كَفَرَ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَبِالرِّسَالَةِ وَمُوسَى فِي غَايَةِ الْحَقِّ وَالْإِيمَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَاسِطَةً مِنْ خَلْقِهِ فَهُوَ مُثْبِتٌ لِكَمَالِ الرِّسَالَةِ وَكَمَالِ التَّكَلُّمِ وَمُثْبِتٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ بِمَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ النُّعُوتِ وَهَذَا بِخِلَافِ أَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ الْكُفَّارِ فَإِنَّ الْكُفَّارَ أَكْثَرُهُمْ لَا يَجْحَدُونَ وُجُودَ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ أَيْضًا لِلرُّسُلِ مِنْ التَّكْلِيمِ مَا لِمُوسَى ؛ فَصَارَتْ قِصَّةُ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ أَعْظَمَ الْقِصَصِ وَأَعْظَمُهَا اعْتِبَارًا لِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَلِأَهْلِ الْكُفْرِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُصُّ عَلَى أُمَّتِهِ عَامَّةَ لَيْلِهِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَكَانَ يَتَأَسَّى بِمُوسَى فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَلَمَّا بُشِّرَ بِقَتْلِ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ هَذَا فِرْعَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَكَانَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مِنْ الصَّابِئَةِ الْمُشْرِكِينَ الْكُفَّارِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ يَعْبُدُ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى مُسْتَيْقِنًا لَهُ لَكِنَّهُ كَانَ جَاحِدًا مَثْبُورًا كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى :

{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } إلَى قَوْلِهِ : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ } الْآيَةَ . وَالْكُفَّارُ بِالرُّسُلِ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَشُعَيْبٍ وَقَوْمِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْهِنْدِ وَالرُّومِ وَالْبَرْبَرِ وَالتُّرْكِ وَالْيُونَانِ والكشدانيين وَسَائِرِ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُسْتَأْخِرِين يَتَّبِعُونَ ظُنُونَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ وَيُعْرِضُونَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ الَّذِي آتَاهُمْ مِنْ عِنْدِهِ كَمَا قَالَ لَهُمْ لَمَّا أُهْبِطَ آدَمَ مِنْ الْجَنَّةِ { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } الْآيَةَ . وَفِي أُخْرَى { إمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } . ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهَ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ سُلْطَانٍ { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ } يَزْعُمُونَ أَنَّ لَهُمْ الْعَقْلَ وَالرَّأْيَ وَالْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ وَالْأَمْثَالَ الْمَضْرُوبَةَ وَيُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ الْحُكَمَاءَ وَالْفَلَاسِفَةَ وَيَدَّعُونَ الْجَدَلَ وَالْكَلَامَ وَالْقُوَّةَ وَالسُّلْطَانَ وَالْمَالَ وَيَصِفُونَ أَتْبَاعَ الْمُرْسَلِينَ بِأَنَّهُمْ سُفَهَاءُ وَأَرَاذِلُ وَضُلَّالٌ وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :

{ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } وَقَالَ : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ } إلَى قَوْلِهِ { وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ نُوحٍ : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } وَقَالُوا : { وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } وَقَالَ : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا } وَقَالَ : { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ } بَلْ هُمْ يَصِفُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِالْجُنُونِ وَالسَّفَهِ وَالضَّلَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا قَالُوا عَنْ نُوحٍ : { مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ } وَقَالُوا : { إنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } وَلِهُودِ : { إنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ } .
فَصْلٌ :
وَ " الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ " يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا عَامًّا مُؤْتَلِفًا لَا تَفْرِيقَ فِيهِ وَلَا تَبْعِيضَ وَلَا اخْتِلَافَ ؛ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَبِجَمِيعِ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ . فَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ الرُّسُلِ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ أَوْ آمَنَ بِبَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ فَهُوَ كَافِرٌ وَهَذَا حَالُ مَنْ بَدَّلَ وَكَفَرَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ؛ فَإِنَّ

هَؤُلَاءِ فِي أَصْلِهِمْ قَدْ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَعْمَلُونَ صَالِحًا ؛ فَأُولَئِكَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَنَحْوُهُ فِي الْمَائِدَةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ فَآمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْيَهُودِ : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } الْآيَاتِ وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } { أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } الْآيَتَيْنِ وَقَالَ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } وَقَالَ : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } . وَذَمَّ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فِي الْكُتُبِ وَهُمْ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ دُونِ بَعْضٍ فَيَكُونُ مَعَ هَؤُلَاءِ بَعْضٌ وَمَعَ هَؤُلَاءِ بَعْضٌ كَقَوْلِهِ :

{ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } وَقَوْلِهِ : { وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } وَقَوْلِهِ : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ }
فَصْلٌ :
التَّفْرِيقُ وَالتَّبْعِيضُ قَدْ يَكُونُ فِي الْقَدْرِ تَارَةً وَقَدْ يَكُونُ فِي الْوَصْفِ : إمَّا فِي الْكَمِّ وَإِمَّا فِي الْكَيْفِ كَمَا قَدْ يَكُونُ فِي التَّنْزِيلِ تَارَةً وَفِي التَّأْوِيلِ أُخْرَى ؛ فَإِنَّ الْمَوْجُودَ لَهُ حَقِيقَةٌ مَوْصُوفَةٌ وَلَهُ مِقْدَارٌ مَحْدُودٌ فَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رُسُلِهِ قَدْ يَقَعُ التَّفْرِيقُ وَالتَّبْعِيضُ فِي قَدْرِهِ وَقَدْ يَقَعُ فِي وَصْفِهِ . فَالْأَوَّلُ مِثْلُ قَوْلِ الْيَهُودِ : نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى دُونَ مَا أُنْزِلَ عَلَى عِيسَى وَمُحَمَّدٍ . وَهَكَذَا النَّصَارَى فِي إيمَانِهِمْ بِالْمَسِيحِ دُونَ مُحَمَّدٍ . فَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ دُونَ بَعْضٍ فَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِجَمِيعِ الْمُنَزَّلِ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ يُؤْمِنُ

بِبَعْضِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ بَعْضٍ ؛ فَإِنَّ الْبِدَعَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْكُفْرِ . وَأَمَّا " الْوَصْفُ " فَمِثْلُ اخْتِلَافِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ : هَؤُلَاءِ قَالُوا إنَّهُ عَبْدٌ مَخْلُوقٌ ؛ لَكِنْ جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ وَقَدَحُوا فِي نَسَبِهِ وَهَؤُلَاءِ أَقَرُّوا بِنُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ ؛ وَلَكِنْ قَالُوا هُوَ اللَّهُ فَاخْتَلَفَ الطَّائِفَتَانِ فِي وَصْفِهِ وَصَفَتْهُ كُلُّ طَائِفَةٍ بِحَقِّ وَبَاطِلٍ . وَمِثْلُ " الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ " الَّذِينَ يَصِفُونَ إنْزَالَ اللَّهِ عَلَى رُسُلِهِ بِوَصْفِ بَعْضُهُ حَقٌّ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ ؛ مِثْلُ أَنْ يَقُولُوا : إنَّ الرُّسُلَ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى مَا أَتَوْا بِهِ كَلَامَ اللَّهِ ؛ لَكِنَّهُ إنَّمَا أُنْزِلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ الْعَقْلُ الْفَعَّالُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا لَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهَكَذَا مَا يَنْزِلُ عَلَى قُلُوبِ غَيْرِهِمْ هُوَ أَيْضًا كَذَلِكَ وَلَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ سُمِّيَ كَلَامَ اللَّهِ مَجَازًا . فَهَؤُلَاءِ أَيْضًا مُبَعِّضِينَ مُفَرِّقِينَ ؛ حَيْثُ صَدَّقُوا بِبَعْضِ صِفَاتِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَبَعْضِ صِفَاتِ رُسُلِهِ دُونَ بَعْضٍ وَرُبَّمَا كَانَ مَا كَفَرُوا بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ أَكْثَرَ مِمَّا آمَنُوا بِهِ كَمَا أَنَّ مَا كَفَرَ بِهِ الْيَهُودُ مِنْ الْكِتَابِ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِمَّا آمَنُوا بِهِ ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ مِنْ وَجْهٍ وَإِنْ كَانَ الْيَهُود أَكْفَرَ مِنْهُمْ مَنْ وَجْهٍ آخَرَ .

فَإِنَّ مَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَهُوَ كَافِرٌ مِنْ الْجِهَتَيْنِ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لَا يُوجِبُ اتِّبَاعَ خَاتَمِ الرُّسُلِ بَلْ يُجَوِّزُ التَّدَيُّنَ بِالْيَهُودِيَّةِ والنصرانية فَهُوَ أَيْضًا كَافِرٌ مِنْ الْجِهَتَيْنِ فَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمْ أَكْفَرَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْكَافِرِينَ بِمُحَمَّدِ وَالْقُرْآنِ وَقَدْ يَكُونُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَكْفَرَ مِمَّنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِأَكْثَرِ صِفَاتِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّهُمْ فِي الْأَصْلِ أَكْفَرُ مِنْ جِنْس الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَإِنَّ أُولَئِكَ مُقِرُّونَ فِي الْأَصْلِ بِكَمَالِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مُقِرِّينَ بِكَمَالِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ . كَمَا أَنَّ مَنْ كَانَ قَدِيمًا مُؤْمِنًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى صَالِحًا فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنًا صَالِحًا وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ مُؤْمِنًا بِبَعْضِ صِفَاتِ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ اللَّهِ وَتَنْزِيلِهِ عَلَى رُسُلِهِ وَصِفَاتِ رُسُلِهِ دُونَ بَعْضٍ فَنِسْبَتُهُ إلَى هَؤُلَاءِ كَنِسْبَةِ مَنْ آمَنَ بِبَعْضِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ بَعْضٍ إلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَمِنْ هُنَا تَتَبَيَّنُ الضَّلَالَاتُ الْمُبْتَدَعَةُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ حَيْثُ هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولَ دُونَ بَعْضٍ وَإِمَّا بِبَعْضِ صِفَاتِ التَّكْلِيم وَالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ دُونَ بَعْضٍ وَكِلَاهُمَا إمَّا فِي التَّنْزِيلِ وَإِمَّا فِي التَّأْوِيلِ .

فَصْلٌ :
وَالسَّبَبُ الَّذِي أَوْقَعَ هَؤُلَاءِ فِي الْكُفْرِ بِبَعْضِ مَا أَنْزَلَهُ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا أَوْقَعَ الْأَوَّلِينَ فِي الْكُفْرِ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ وَجَدَ شُبَهَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الصَّابِئِينَ فِي الْكُفْرِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ مِنْ جِنْسِ شُبَهِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوسِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ الصَّابِئِينَ فِي الْكُفْرِ بِجِنْسِ الْكِتَابِ وَبِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رُسُلِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَعْتَرِضُونَ عَلَى آيَاتِهِ وَعَلَى الْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ وَعَلَى الشَّرِيعَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا وَعَلَى سِيرَتِهِ بِنَحْوِ مِمَّا اُعْتُرِضَ بِهِ عَلَى سَائِرِ الرُّسُلِ : مِثْلِ مُوسَى وَعِيسَى كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَمِيعِهِمْ : { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ } { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } إلَى قَوْلِهِ : { كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ } { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا } وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ } { الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } .

هَذَا مَعَ أَنَّ السُّلْطَانَ الَّذِي أَيَّدَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُجَجِ الْمُعْجِزَاتِ وَأَنْوَاعِ القدر الْبَاهِرَاتِ أَعْظَمُ مِمَّا أَيَّدَ بِهِ غَيْرَهُ وَنُبُوَّتُهُ هِيَ الَّتِي طَبَّقَ نُورُهَا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا وَبِهِ ثَبَتَتْ نُبُوَّاتُ مَنْ تَقَدَّمَهُ وَتَبَيَّنَ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ وَإِلَّا فَلَوْلَا رِسَالَتُهُ لَكَانَ النَّاسُ فِي ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَأَمْرٍ مَرِيجٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ : الْكِتَابِيُّونَ مِنْهُمْ وَالْأُمِّيُّونَ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ مَا يُقَالُ لَهُ إلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ : أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِاسْتِشْهَادِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى مَثَلِ مَا جَاءَ بِهِ . وَهَذَا مِنْ بَعْضِ حِكْمَةِ إقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ } وَقَوْلِهِ : { كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } وَقَوْلِهِ : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلِكَ إلَّا رِجَالًا نُوحِي إلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } { بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلَّا رِجَالًا نُوحِي إلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ } الْآيَةَ . وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ } . وَجِمَاعُ شُبَهِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ : أَنَّهُمْ قَاسُوا الرَّسُولَ عَلَى مَنْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَكَفَرُوا بِفَضْلِ اللَّهِ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ رُسُلَهُ فَأُتُوا

مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ . وَلَا بُدَّ فِي الْقِيَاسِ مِنْ قَدْرٍ مُشْتَرِكٍ بَيْنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ : مِثْلُ جِنْسِ الْوَحْي وَالتَّنْزِيلِ ؛ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ يَنْزِلُونَ عَلَى أَوْلِيَائِهِمْ وَيُوحُونَ إلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } { تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } { يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : فِي الْ " طس " وَقَدْ افْتَتَحَ كُلًّا مِنْهُنَّ بِقِصَّةِ مُوسَى وَتَكْلِيمِ اللَّهِ إيَّاهُ وَإِرْسَالِهِ إلَى فِرْعَوْنَ فَإِنَّهَا أَعْظَمُ الْقِصَصِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَقَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى قِصَصِ الْمُرْسَلِينَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَهِيَ " سَبْعٌ " : قِصَّةُ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ ثُمَّ قَالَ عَنْ الْقُرْآنِ : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } إلَى قَوْلِهِ : { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ } فَذَكَرَ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ تَنَزَّلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ مِنْ الْكُهَّانِ والمتنبئين وَنَحْوِهِمْ وَبَيْنَ الشُّعَرَاءِ ؛ لِأَنَّ الْكَاهِنَ قَدْ يُخْبِرُ بِغَيْبِ بِكَلَامِ مَسْجُوعٍ وَالشَّاعِرُ أَيْضًا يَأْتِي بِكَلَامِ مَنْظُومٍ يُحَرِّكُ بِهِ النُّفُوسَ فَإِنَّ قَرِينَ الشَّيْطَانِ مَادَّتُهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَيُعِينُ الشَّيْطَانُ بِكَذِبِهِ وَفُجُورِهِ . وَالشَّاعِرُ مَادَّتُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَرُبَّمَا أَعَانَهُ الشَّيْطَانُ . فَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ إنَّمَا تَنَزَّلُ عَلَى مَنْ يُنَاسِبُهَا وَهُوَ : الْكَاذِبُ فِي قَوْلِهِ الْفَاجِرُ فِي عَمَلِهِ ؛ بِخِلَافِ الصَّادِقِ الْبَرِّ وَأَنَّ الشُّعَرَاءَ إنَّمَا يُحَرِّكُونَ

النُّفُوسَ إلَى أَهْوَائِهَا فَيَتْبَعُهُمْ الْغَاوُونَ وَهُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْأَهْوَاءَ وَشَهَوَاتِ الْغَيِّ فَنَفَى كُلًّا مِنْهُمَا بِانْتِفَاءِ لَازِمِهِ وَبَيَّنَ مَا يَجْتَمِعُ فِيهِ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ .
فَصْلٌ :
إذَا تَبَيَّنَ هَذَا الْأَصْلُ ظَهَرَ بِهِ اشْتِقَاقُ الْبِدَعِ مِنْ الْكُفْرِ فَنَقُولُ : كَمَا أَنَّ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى كَانُوا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ لَمْ يُبَدِّلُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا كَفَرُوا بِشَيْءِ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ وَكَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى صَارُوا كُفَّارًا مِنْ جِهَةِ تَبْدِيلِهِمْ لِمَا أَنْزَلَ اللَّه وَمِنْ جِهَةِ كُفْرِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ فَكَذَلِكَ الصَّابِئَةُ صَارُوا كُفَّارًا مِنْ جِهَةِ تَبْدِيلِهِمْ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَمِنْ جِهَةِ كُفْرِهِمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَإِنْ كَانُوا مُنَافِقِينَ كَمَا قَدْ يُنَافِقُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُسْتَأْخِرُونَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ . وَذَلِكَ أَنَّ مُتَأَخِّرِي الصَّابِئِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا أَنَّ لِلَّهِ كَلَامًا أَوْ يَتَكَلَّمُ وَيَقُولُ أَوْ أَنَّهُ يُنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ كَلَامًا وَذِكْرًا عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ أَوْ أَنَّهُ يُكَلِّمُ أَحَدًا مِنْ الْبَشَرِ ؛ بَلْ عِنْدَهُمْ لَا يُوصَفُ اللَّهُ بِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ لَا يَقُولُونَ : إنَّ لَهُ عِلْمًا وَلَا مَحَبَّةً وَلَا رَحْمَةً وَيُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ

اللَّهُ اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا أَوْ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَإِنَّمَا يُوصَفُ عِنْدَهُمْ بِالسَّلْبِ وَالنَّفْيِ مِثْلِ قَوْلِهِمْ لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا جَوْهَرٍ وَلَا عَرَضٍ وَلَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ أَوْ بِإِضَافَةِ مِثْلِ كَوْنِهِ مَبْدَأً لِلْعَالَمِ أَوْ الْعِلَّةَ الْأُولَى ، أَوْ بِصِفَةِ مُرَكَّبَةٍ مِنْ السَّلْبِ وَالْإِضَافَةِ ؛ مِثْل كَوْنِهِ عَاقِلًا وَمَعْقُولًا وَعَقْلًا . وَعِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَخُصُّ مُوسَى بِالتَّكْلِيمِ دُونَ غَيْرِهِ وَلَا يَخُصُّ مُحَمَّدًا بِإِرْسَالِ دُونَ غَيْرِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَ لَهُ عِلْمًا مُفَصَّلًا لِلْمَعْلُومَاتِ فَضْلًا عَنْ إرَادَةٍ تَفْصِيلِيَّةٍ ؛ بَلْ يُثْبِتُونَ - إذَا أَثْبَتُوا - لَهُ عِلْمًا جُمَلِيًّا كُلِّيًّا وَغَايَةً جُمَلِيَّةً كُلِّيَّةً وَمَنْ أَثْبَتَ النُّبُوَّةَ مِنْهُمْ قَالَ : إنَّهَا فَيْضٌ تَفِيضُ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ مِنْ جِنْسِ مَا يَفِيضُ عَلَى سَائِرِ النُّفُوسِ ؛ لَكِنَّ اسْتِعْدَادَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ بِحَيْثُ يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ وَيَسْمَعُ مَا لَا يَسْمَعُ غَيْرُهُ وَيُبْصِرُ مَا لَا يُبْصِرُ غَيْرُهُ وَتَقْدِرُ نَفْسُهُ عَلَى مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ نَفْسُ غَيْرِهِ . وَالْكَلَامُ الَّذِي تَقُولُهُ الْأَنْبِيَاءُ هُوَ كَلَامُهُمْ وَقَوْلُهُمْ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَنْ الْقُرْآنِ { إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } فَإِنَّ " الْوَحِيدَ " الَّذِي هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ كَانَ مِنْ جِنْسِهِمْ ؛ كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ صَابِئُونَ أَيْضًا فَإِنَّ الصَّابِئِينَ كَأَهْلِ الْكِتَابِ تَارَةً يَجْعَلُهُمْ اللَّهُ قِسْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَتَارَةً يَجْعَلُهُمْ اللَّهُ قَسِيمًا لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ }

{ إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } . وَكَذَلِكَ لَمَّا ذَكَرَ الْمِلَلَ السِّتَّ فِي الْحَجِّ فَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا } الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } الْآيَةَ وَهَذَا بَعْدَ قَوْلِهِ : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } . وَقَالَ : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } فَإِذَا كَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَدْ يَكُونُونَ مُشْرِكِينَ فَالصَّابِئُونَ أَوْلَى وَذَلِكَ بَعْدَ تَبْدِيلِهِمْ فَحَيْثُ وُصِفُوا بِالشِّرْكِ فَبَعْدَ التَّبْدِيلِ وَحَيْثُ جُعِلُوا غَيْرَ مُشْرِكِينَ فَلِأَنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ الصَّحِيحِ لَيْسَ فِيهِ شِرْكٌ فَالشِّرْكُ مُبْتَدَعٌ عِنْدَهُمْ ؛ فَيَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لِهَذِهِ الْمَعَانِي . وَكَانَ الْوَحِيدُ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ وَالتَّدْبِيرِ مِنْ الْعَرَبِ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنْ حُكَمَائِهِمْ وَفَلَاسِفَتِهِمْ . وَلِهَذَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِثْلِ حَالِ الْمُتَفَلْسِفَةِ فِي قَوْلِهِ : { إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } { ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } { ثُمَّ نَظَرَ } { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } { ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ } { فَقَالَ إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ } { إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } .

ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ فِيمَا تَقُولُهُ الْأَنْبِيَاءُ حَيَارَى مُتَهَوِّكُونَ ؛ فَإِنَّهُ بَهَرَهُمْ نُورُ النُّبُوَّةِ وَلَمْ تَقَعْ عَلَى أُصُولِهِمْ الْفَاسِدَةِ فَصَارُوا عَلَى " أَنْحَاءَ " : مِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِكَثِيرِ مِمَّا تَقُولُهُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ ؛ بَلْ يُعْرِضُ عَنْهُ أَوْ يَشُكُّ فِيهِ أَوْ يُكَذِّبُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَجُوزُ الْكَذِبُ لِمَصْلَحَةِ رَاجِحَةٍ وَالْأَنْبِيَاءُ فَعَلُوا ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَجُوزُ هَذَا لِصَالِحِ الْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ وَأَمْثَلُهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ هَذِهِ تَخَيُّلَاتٌ وَأَمْثِلَةٌ مَضْرُوبَةٌ لِتَقْرِيبِ الْحَقَائِقِ إلَى قُلُوبِ الْعَامَّةِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْفَارَابِيِّ وَابْنِ سِينَا ؛ لَكِنْ ابْنُ سِينَا أَقْرَبُ إلَى الْإِيمَانِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا . فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَهَرَتْهُ بَرَاهِينُهَا وَأَنْوَارُهَا وَرَأَى مَا فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ - حَتَّى قَالَ ابْنُ سِينَا : اتَّفَقَ فَلَاسِفَةُ الْعَالَمِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَطْرُقْ الْعَالَمَ نَامُوسٌ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا النَّامُوسِ - فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَأَوَّلَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى عَادَةِ إخْوَانِهِ فِي تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَيُحَرِّفُونَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ ؛ تَحْرِيفًا يَصِيرُونَ بِهِ كُفَّارًا بِبَعْضِ تَأْوِيلِ الْكِتَابِ فِي بَعْضِ صِفَاتِ تَنْزِيلِهِ . فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الرُّسُلَ سَمَّتْ هَذَا الْكَلَامَ كَلَامَ اللَّهِ وَأَخْبَرَتْ أَنَّهُ نَزَلَتْ بِهِ مَلَائِكَةُ اللَّهِ مِثْلُ الرُّوحِ الْأَمِينِ جِبْرِيلُ أَطْلَقَتْ هَذِهِ

الْعِبَارَةَ فِي الظَّاهِرِ وَكَفَرَتْ بِمَعْنَاهَا فِي الْبَاطِنِ وَرَدُّوهَا إلَى أَصْلِهِمْ أَصْلِ الصَّابِئِينَ وَصَارُوا مُنَافِقِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ وَفِي غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ . فَيَقُولُونَ : هَذَا الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَهَذَا الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ فَاضَ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَرُبَّمَا قَالُوا إنَّ الْعَقْلَ هُوَ جِبْرِيلُ الَّذِي لَيْسَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينِ أَيْ بَخِيلٍ ؛ لِأَنَّهُ فَيَّاضٌ . وَيَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى مِنْ سَمَاءِ عَقْلِهِ وَإِنَّ أَهْلَ الرِّيَاضَةِ وَالصَّفَا يَصِلُونَ إلَى أَنْ يَسْمَعُوا مَا سَمِعَهُ مُوسَى كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى . وَقَدْ ضَلَّ بِكَلَامِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشْهُورِينَ مِثْلُ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَعْضِ كُتُبِهِ وَصَنَّفُوا " رَسَائِلَ إخْوَانِ الصَّفَا " وَغَيْرِهَا وَجَمَعُوا فِيهَا عَلَى زَعْمِهِمْ بَيْنَ مَقَالَاتِ الصَّابِئَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّتِي هِيَ الْفَلْسَفَةُ الْمُبْتَدَعَةُ وَبَيْنَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ فَأَتَوْا بِمَا زَعَمُوا أَنَّهُ مَعْقُولٌ وَلَا دَلِيلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُ وَرُبَّمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ مَنْقُولٌ . وَفِيهِ مِنْ الْكَذِبِ وَالتَّحْرِيفِ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَإِنَّمَا يُضِلُّونَ بِهِ كَثِيرًا بِمَا فِيهِ مِنْ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالرِّيَاضِيَّةِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِأَمْرِ النُّبُوَّاتِ وَالرِّسَالَةِ لَا بِنَفْيٍ وَلَا بِإِثْبَاتِ وَلَكِنْ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا : كَالصِّنَاعَاتِ مِنْ الْحِرَاثَةِ وَالْحِيَاكَةِ وَالْبِنَايَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .

فَإِذَا عُرِفَ أَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ المشركية الصَّابِئَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ قَوْلُ الْبَشَرِ كَغَيْرِهِ لَكِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَأَنَّهُ فَاضَ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَحَلِّ الْأَعْلَى كَمَا تَفِيضُ سَائِرُ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ عَلَى نُفُوسِ أَهْلِهَا فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَثُرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ وَهُمْ مُنَافِقُونَ وَزَنَادِقَةٌ وَإِنْ ادَّعَوْا كَمَالَ الْمَعَارِفِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ والمتفقهين حَتَّى يَقُولَ أَحَدُهُمْ - كالتلمساني - كَلَامُنَا يُوصِلُ إلَى اللَّهِ وَالْقُرْآنُ يُوصِلُ إلَى الْجَنَّةِ . وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ - كَابْنِ عَرَبِيٍّ - إنَّ الْوَلِيَّ يَأْخُذُ مِنْ حَيْثُ مَا يَأْخُذُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحِي إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَيَقُولُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إنَّ الْقُرْآنَ لِلْعَامَّةِ وَكَلَامُنَا لِلْخَاصَّةِ . فَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ وَضَرَبُوا لَهُ الْأَمْثَالَ ؛ مِثْلُ مَا فَعَلَ الْمُشْرِكُونَ قَبْلَهُمْ كَمَا فَعَلُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُفَضِّلُ الْوَلِيَّ الْكَامِلَ وَالْفَيْلَسُوفَ الْكَامِلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَضِّلُ بَعْضَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى زَعْمِهِ أَوْ بَعْضَ الْفَلَاسِفَةِ : - مِثْلَ نَفْسِهِ أَوْ شَيْخِهِ أَوْ مَتْبُوعِهِ - عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرُبَّمَا قَالُوا هُوَ أَفْضَلُ مَنْ وَجْهٍ وَالنَّبِيُّ أَفْضَلُ مِنْ وَجْهٍ فَلَهُمْ مِنْ الْإِلْحَادِ وَالِافْتِرَاءِ فِي رُسُلِ اللَّهِ نَظِيرُ مَا لَهُمْ مِنْ الْإِلْحَادِ وَالِافْتِرَاءِ فِي رِسَالَاتِ اللَّهِ فَيَقِيسُونَ الْكَلَامَ الَّذِي بَلَّغَتْهُ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ بِكَلَامِهِمْ وَيَقِيسُونَ رُسُلَ اللَّهِ بِأَنْفُسِهِمْ . وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حَالَ هَؤُلَاءِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَمَا قَدَرُوا

اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } إلَى أَنْ قَالَ : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } فَذَكَرَ اللَّهُ إنْزَالَ الْكِتَابَيْنِ الذين لَمْ يَنْزِلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كِتَابٌ أَهْدَى مِنْهُمَا - التَّوْرَاةُ وَالْقُرْآنُ - كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ : { قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وَكَذَلِكَ الْجِنُّ لَمَّا اسْتَمَعَتْ الْقُرْآنَ { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ } وَلِهَذَا قَالَ النَّجَاشِيُّ لَمَّا سَمِعَ الْقُرْآنَ : إنَّ هَذَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ . ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْكَذَّابِ وَالْمُتَنَبِّئِ . فَقَالَ : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } فَجَمَعَ فِي هَذَا بَيْنَ مَنْ أَضَافَ مَا يَفْتَرِيهِ إلَى اللَّهِ وَبَيْنَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ وَلَا يُعَيِّنُ مَنْ أَوْحَاهُ فَإِنَّ الَّذِي يَدَّعِي الْوَحْيَ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ . وَيَدْخُلُ فِي " الْقِسْمِ الثَّانِي " مَنْ يُرِي عَيْنَيْهِ فِي الْمَنَامِ مَا لَا تَرَيَا

وَمَنْ يَقُولُ : أُلْقِيَ فِي قَلْبِي وَأُلْهِمْت وَنَحْوَ ذَلِكَ إذَا كَانَ كَاذِبًا . وَيَدْخُلُ فِي " الْقِسْمِ الْأَوَّلِ " مَنْ يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ لِي أَوْ أَمَرَنِي اللَّهُ أَوْ وَافَقَنِي أَوْ قَالَ لِي وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ بِخَيَالَاتِ أَوْ إلْهَامَاتٍ يَجِدُهَا فِي نَفْسِهِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بَلْ قَدْ يَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ الشَّيْطَانِ مِثْلُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَنَحْوِهِ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } فَهَذِهِ حَالُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْبَشَرَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ كَلَامُ الْبَشَرِ بِفَضِيلَةِ وَقُوَّةٍ مِنْ صَاحِبِهِ فَإِذَا اجْتَهَدَ الْمَرْءُ أَمْكَنَ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ . وَهَذَا يَعُمُّ مَنْ قَالَ إنَّهُ يُمْكِنُ مُعَارَضَةُ الْقُرْآنِ كَابْنِ أَبِي سَرْحٍ فِي حَالِ رِدَّتِهِ وَطَائِفَةٍ مُتَفَرِّقِينَ مِنْ النَّاسِ وَيَعُمُّ الْمُتَفَلْسِفَةَ الصَّابِئَةَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ ؛ مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّ رِسَالَةَ الْأَنْبِيَاءِ كَلَامٌ فَاضَ عَلَيْهِمْ قَدْ يَفِيضُ عَلَى غَيْرِهِمْ مِثْلُهُ فَيَكُونُ قَدْ أَنْزَلَ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي دَعْوَى الرُّسُلِ ؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَدْ يَقُولُهُ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ شَيْئًا ؛ وَقَدْ يَقُولُهُ مُعْتَقِدًا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ شَيْئًا .
فَصْلٌ :
وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إنْكَارَ التَّكْلِيمِ وَالْمُخَالَّةِ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ " فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ وَأَمَرَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ - كَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ -

بِقَتْلِهِ ؛ فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ أَمِيرُ الْعِرَاقِ بواسط . فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا تَعَالَى اللَّه عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا . ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ . وَأَخَذَ ذَلِكَ عَنْهُ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ ثُمَّ نَافَقَ الْمُسْلِمِينَ فَأَقَرَّ بِلَفْظِ الْكَلَامِ وَقَالَ : كَلَامُهُ يُخْلَقُ فِي مَحَلٍّ كَالْهَوَاءِ وَوَرَقِ الشَّجَرِ . وَدَخَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْجَدَلِ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ إلَى بَعْضِ مَقَالَةِ الصَّائِبَةِ وَالْمُشْرِكِينَ مُتَابَعَةً لِلْجَعْدِ وَالْجَهْمِ . وَكَانَ مَبْدَأُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّابِئَةَ فِي " الْخَلْقِ " عَلَى قَوْلَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّ السَّمَوَاتِ مَخْلُوقَةٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ كَمَا أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ الرُّسُلُ وَكُتُبُ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ ابْتَدَعَ فَقَالَ : بَلْ هِيَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَمْ تَزَلْ مَوْجُودَةً بِوُجُودِ الْأَوَّلِ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ يُنْكِرُ الصَّانِعَ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَهُمْ مَقَالَاتٌ كَثِيرَةُ الِاضْطِرَابِ فِي الْخَلْقِ وَالْبَعْثِ وَالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجْمَعُهُمْ وَالظُّنُونُ لَا تَجْمَعُ النَّاسَ فِي مِثْل هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي تَعْجِزُ الْآرَاءُ عَنْ إدْرَاكِ حَقَائِقِهَا إلَّا بِوَحْيٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى . وَهُمْ إنَّمَا يُنَاظِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْقِيَاسِ الْمَأْخُوذِ مُقَدِّمَاتُهُ مِنْ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ السُّفْلِيَّةِ وَقُوَى الطَّبَائِعِ الْمَوْجُودَةِ فِي التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ

وَالْحَيَوَانِ وَالْمَعْدِنِ وَالنَّبَاتِ وَيُرِيدُونَ بِهَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ السُّفْلِيَّةِ أَنْ يَنَالُوا مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَعِلْمَ مَا فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَأَوَّلَ الْأَمْرِ وَآخِرَهُ ؛ وَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ اعْتَرَفَ بِهِ أَسَاطِينُهُمْ بِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَأَنَّهُمْ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَى إدْرَاكِ الْيَقِينِ وَأَنَّهُمْ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ . فَلَمَّا كَانَ هَذَا حَالَ هَذِهِ الصَّابِئَةِ الْمُبْتَدِعَةِ الضَّالَّةِ وَمَنْ أَضَلُّوهُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَكَانَ قَدْ اتَّصَلَ كَلَامُهُمْ بِبَعْضِ مَنْ لَمْ يُهْدَ بِهُدَى اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ مَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْجَدَلِ صَارُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَأْخُذُوا مَأْخَذَهُمْ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { لَتَأْخُذُنَّ مَأْخَذَ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَارِسٌ وَالرُّومُ قَالَ : وَمَنْ النَّاسُ إلَّا فَارِسٌ وَالرُّومُ } فَاحْتَجُّوا عَلَى حُدُوثِ الْعَالِمِ بِنَحْوِ مِنْ مَسَالِكِ هَذِهِ الصَّابِئَةِ وَهُوَ الْكَلَامُ فِي الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ بِأَنْ تَثْبُتَ الْأَعْرَاضُ ثُمَّ يَثْبُتَ لُزُومُهَا لِلْأَجْسَامِ ثُمَّ حُدُوثُهَا ثُمَّ يُقَالُ : مَا لَا يَسْبِقُ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ وَاعْتَمَدَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْجَدَلِ عَلَى هَذَا فِي إثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْأَعْرَاضَ - الَّتِي هِيَ الصِّفَاتُ - تَدُلُّ عِنْدَهُمْ عَلَى حُدُوثِ الْمَوْصُوفِ الْحَامِلِ لِلْأَعْرَاضِ الْتَزَمُوا نَفْيَهَا عَنْ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا مُسْتَلْزِمٌ حُدُوثَهُ . وَبُطْلَانَ دَلِيلِ حُدُوثِ الْعَالَمِ - الَّذِي اعْتَقَدُوا أَنْ لَا دَلِيلَ سِوَاهُ بَلْ رُبَّمَا اعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إيمَانُ أَحَدٍ إلَّا بِهِ - مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ .

وَهَؤُلَاءِ يُخَالِفُونَ " الصَّابِئَةَ الْفَلَاسِفَةَ " الَّذِينَ يَقُولُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَبِأَنَّ النُّبُوَّةَ كَمَالٌ تَفِيضُ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَكْثَرُ حَقًّا وَأَتْبَعُ لِلْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ لِمَا تَنَوَّرَتْ بِهِ قُلُوبُهُمْ مِنْ نُورِ الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ ضَلُّوا فِي كَثِيرٍ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ ؛ لَكِنْ هُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكَ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى وَافَقُوا فِيهَا أَهْلَ السُّنَّةِ فَوَافَقُوا أُولَئِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ كَمَا وَافَقُوهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا صِفَةً مِنْ الصِّفَاتِ وَرَأَوْا أَنَّ إثْبَاتَهُ مُتَكَلِّمًا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَالْجِسْمُ حَادِثٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الصِّفَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى حُدُوثِ الْمَوْصُوفِ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ أَدَلُّ عَلَى حُدُوثِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ غَيْرِهِ ؛ بَلْ اللَّهُ يَفْتَقِرُ مِنْ الْخَارِجِ إلَى مَا لَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ غَيْرُهُ ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ مِنْ التَّرْتِيبِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ وَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الرُّسُلَ اتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ صَارُوا تَارَةً يَقُولُونَ مُتَكَلِّمٌ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً وَهَذَا قَوْلُهُمْ الْأَوَّلُ لَمَّا كَانُوا فِي بِدْعَتِهِمْ عَلَى الْفِطْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْمُعَانَدَةِ وَالْجُحُودِ . ثُمَّ إنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ هَذَا شَنِيعًا فَقَالُوا بَلْ هُوَ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً وَرُبَّمَا حَكَى بَعْضُ مُتَكَلِّمِيهِمْ الْإِجْمَاعَ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ كَذَلِكَ بَلْ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ وَأَصْلُهُ عِنْدَ مَنْ عَرَفَهُ وَابْتَدَعَهُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِمُتَكَلِّمِ وَقَالُوا الْمُتَكَلِّمُ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ وَلَوْ فِي مَحَلٍّ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ فَفَسَّرُوا الْمُتَكَلِّمَ فِي اللُّغَةِ

بِمَعْنَى لَا يُعْرَفُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا غَيْرِهِمْ ؛ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا ؛ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الصَّابِئَةِ الَّذِينَ يُوَافِقُونَ الرُّسُلَ فِي حُدُوثِ الْعَالِمِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ كُفْرًا بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَلَيْسَ هُوَ فِي الْكُفْرِ مِثْلَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ رَسُولًا مُعَيَّنًا وَأَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي خَلَقَهُ وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ . وَنَشَأَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ فُرُوعُ الصَّابِئَةِ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ الْخِلَافُ فَكَفَرَ هَؤُلَاءِ بِبَعْضِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ بِالْكَلَامِ وَالتَّكْلِيمِ وَاخْتَلَفُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَآمَنُوا بِبَعْضِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ . وَاتَّبَعَ الْمُؤْمِنُونَ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ وَلَمْ يُحَرِّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ كَمَا فَعَلَ الْأَوَّلُونَ ؛ بَلْ رَدُّوا تَحْرِيفَ أُولَئِكَ بِبَصَائِرِ الْإِيمَانِ الَّذِي عَلِمُوا بِهِ مُرَادَ الرُّسُلِ مِنْ إخْبَارِهِمْ بِرِسَالَةِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ وَاتَّبَعُوا هَذَا الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَإِجْمَاعَ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَعَلِمُوا أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ أَخْبَثُ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حَتَّى كَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ - إمَامُ الْمُسْلِمِينَ - يَقُولُ : إنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّة .

وَكَانَ قَدْ كَثُرَ ظُهُورُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ فُرُوعُ الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ مُبَدِّلَةِ الصَّابِئِينَ ثُمَّ مُبَدِّلَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ وَأَوَائِلِ الثَّالِثَةِ فِي إمَارَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُلَقَّبِ " بِالْمَأْمُونِ " بِسَبَبِ تَعْرِيبِ كُتُبِ الرُّومِ الْمُشْرِكِينَ الصَّابِئِينَ ؛ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ النَّصَارَى وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنْ فَارِسَ وَالْهِنْدِ وَظَهَرَتْ عُلُومُ الصَّابِئِينَ الْمُنَجِّمِينَ وَنَحْوِهِمْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعَ فِي الْإِسْلَامِ هُمْ مِنْ فُرُوعِ الصَّابِئِينَ كَمَا يُقَالُ : الْمُعْتَزِلَةُ مَخَانِيثُ الْفَلَاسِفَةِ . فَظَهَرَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ وَفِي أَهْلِ السَّيْفِ وَالْإِمَارَةِ وَصَارَ فِي أَهْلِهَا مِنْ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْفُقَهَاءِ مَا امْتَحَنُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ وَلَمْ يُبَدِّلُوا وَلَمْ يَبْتَدِعُوا وَذَلِكَ لِقُصُورِ وَتَفْرِيطٍ مِنْ أَكْثَرِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَاتِّبَاعِهِ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِيهِمْ لَمْ يَتَمَكَّنْ أُولَئِكَ الْمُبْتَدِعَةُ لِمَا يُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ مِنْ التَّمَكُّنِ مِنْهُمْ .
فَصْلٌ :
فَجَاءَ قَوْمٌ مِنْ مُتَكَلِّمِي الصفاتية الَّذِينَ نَصَرُوا أَنَّ اللَّهَ لَهُ عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَبَصَرٌ وَحَيَاةٌ بِالْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُطَابِقَةِ لِلنُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالْجَوَاهِرِ فَجَعَلُوهَا أَعْرَاضًا وَبَيْنَ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالرَّبِّ فَلَمْ يُسَمُّوهَا أَعْرَاضًا ؛ لِأَنَّ الْعَرَضَ مَا لَا يَدُومُ وَلَا يَبْقَى أَوْ مَا يَقُومُ بِمُتَحَيِّزِ أَوْ

جِسْمٍ فَصِفَاتُ الرَّبِّ لَازِمَةٌ دَائِمَةٌ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْأَعْرَاضِ الْقَائِمَةِ بِالْأَجْسَامِ . وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكَلَامِ الْقِيَاسِيِّ مِنْ الصفاتية فَارَقُوا أُولَئِكَ الْمُبْتَدِعَةَ الْمُعَطِّلَةَ الصَّابِئَةَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِمْ وَأَثْبَتُوا الصِّفَاتِ الَّتِي قَدْ يُسْتَدَلُّ بِالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ عَلَيْهَا كَالصِّفَاتِ السَّبْعِ وَهِيَ : الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ . وَلَهُمْ نِزَاعٌ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ هَلْ هُوَ مِنْ الصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةِ أَوْ الصِّفَاتِ النَّبَوِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَلَهُمْ اخْتِلَافٌ فِي الْبَقَاءِ وَالْقِدَمِ وَفِي الْإِدْرَاكِ الَّذِي هُوَ إدْرَاكُ الْمَشْمُومَاتِ وَالْمَذُوقَاتِ وَالْمَلْمُوسَاتِ وَلَهُمْ أَيْضًا اخْتِلَافٌ فِي الصِّفَاتِ السَّمْعِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ فَأَكْثَرُ مُتَقَدِّمِيهِمْ أَوْ كُلُّهُمْ يُثْبِتُهَا وَكَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ لَا يُثْبِتُهَا وَأَمَّا مَا لَا يَرِدُ إلَّا فِي الْحَدِيثِ فَأَكْثَرُهُمْ لَا يُثْبِتُهَا . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَصْرِفُ النُّصُوصَ عَنْ دَلَالَتِهَا لِأَجْلِ مَا عَارَضَهَا مِنْ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ عِنْدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَوِّضُ مَعْنَاهَا - وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا تَفْصِيلَ مَقَالَاتِ النَّاسِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِسَائِرِ الصِّفَاتِ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْقَوْلُ فِي " رِسَالَةِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ " الَّذِي بَلَّغَتْهُ رُسُلُهُ فَكَانَ هَؤُلَاءِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْوِرَاثَةِ النَّبَوِيَّةِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بِمَا سَلَكُوهُ مِنْ الطُّرُقِ الصَّابِئَةِ فِي أَمْرِ الْخَالِقِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ ؛ فَصَارَ فِي مَذْهَبِهِمْ فِي الرِّسَالَةِ تَرْكِيبٌ مِنْ الْوِرَاثَتَيْنِ لَبَّسُوا حَقَّ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِبَاطِلِ وَرَثَةِ أَتْبَاعِ الصَّابِئَةِ كَمَا كَانَ فِي مَذْهَبِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمَحْضِ الْمُبْتَدَعِ : كَالْمُعْتَزِلَةِ تَرْكِيبٌ وَلَيْسَ بَيْنَ الْأَثَارَةِ النَّبَوِيَّةِ وَبَيْنَ الْأَثَارَةِ الصَّابِئَةِ ؛

لَكِنْ أُولَئِكَ أَشَدُّ اتِّبَاعًا لِلْأَثَارَةِ النَّبَوِيَّةِ وَأَقْرَبُ إلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَة وَنَحْوِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . وَلِهَذَا وَافَقَهُمْ فِي بَعْضِ مَا ابْتَدَعُوهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ ؛ لِوُجُوهِ : " أَحَدُهَا " كَثْرَةُ الْحَقِّ الَّذِي يَقُولُونَهُ وَظُهُورُ الْأَثَارَةِ النَّبَوِيَّةِ عِنْدَهُمْ . " الثَّانِي " لَبْسُهُمْ ذَلِكَ بِمَقَايِيسَ عَقْلِيَّةٍ بَعْضُهَا مَوْرُوثٌ عَنْ الصَّابِئَةِ وَبَعْضُهَا مِمَّا اُبْتُدِعَ فِي الْإِسْلَامِ وَاسْتِيلَاءُ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الشُّبُهَاتِ عَلَيْهِمْ وَظَنُّهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ التَّمَسُّكُ بِالْأَثَارَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . " الثَّالِثُ " ضَعْفُ الْأَثَارَةِ النَّبَوِيَّةِ الدَّافِعَةِ لِهَذِهِ الشُّبُهَاتِ وَالْمُوَضِّحَةِ لِسَبِيلِ الْهُدَى عِنْدَهُمْ . " الرَّابِعُ " الْعَجْزُ وَالتَّفْرِيطُ الْوَاقِعُ فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ : تَارَةً يَرْوُونَ مَا لَا يَعْلَمُونَ صِحَّتَهُ وَتَارَةً يَكُونُونَ كَالْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَيُعْرِضُونَ عَنْ بَيَانِ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى حَقَائِقِ الْأُمُورِ .

فَلَمَّا كَانَ هَذَا " مِنْهَاجَهُمْ " وَقَالُوا : إنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَلِمَا رَأَوْا أَنَّهُ مُسْتَقِيمٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قَرَّرُوهُ فِي الصِّفَاتِ وَرَأَوْا أَنَّ التَّوْفِيقَ بَيْنَ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا أَنْ يَجْعَلُوا الْقُرْآنَ مَعْنًى قَائِمًا بِنَفْسِ اللَّهِ تَعَالَى - كَسَائِرِ الصِّفَاتِ كَمَا جَعَلَهُ الْأَوَّلُونَ مِنْ بَابِ الْمَصْنُوعَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ لَا قَدِيمًا كَسَائِرِ الصِّفَاتِ - وَرَأَوْا أَنَّهُ لَيْسَ إلَّا مَخْلُوقًا أَوْ قَدِيمًا فَإِنَّ إثْبَاتَ قَسَمٍ ثَالِثٍ قَائِمٍ بِاَللَّهِ يَقْتَضِي حُلُولَ الْحَوَادِثِ بِذَاتِهِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى حُدُوثِ الْمَوْصُوفِ وَمُبْطِلٌ لِدَلَالَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ . ثُمَّ رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَانِيَ كَثِيرَةً ؛ بَلْ إمَّا مَعْنًى وَاحِدًا عِنْدَ طَائِفَةٍ أَوْ مَعَانِيَ أَرْبَعَةً عِنْدَ طَائِفَةٍ وَالْتَزَمُوا عَلَى هَذَا أَنَّ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ هِيَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ وَأَنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ لَيْسَتْ مِنْ حَقِيقَةِ الْكَلَامِ ؛ بَلْ دَالَّةٌ عَلَيْهِ فَتُسَمَّى بِاسْمِهِ ؛ إمَّا مَجَازًا عِنْدَ طَائِفَةٍ أَوْ حَقِيقَةً بِطْرِيقِ الِاشْتِرَاكِ عِنْدَ طَائِفَةٍ وَإِمَّا مَجَازًا فِي كَلَامِ اللَّهِ حَقِيقَةً فِي غَيْرِهِ عِنْدَ طَائِفَةٍ . وَخَالَفَهُمْ الْأَوَّلُونَ وَبَعْضُ مَنْ يَتَسَنَّنُ أَيْضًا وَقَالُوا : لَا حَقِيقَةَ لِلْكَلَامِ إلَّا الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مَعْنًى إلَّا الْعِلْمُ وَنَوْعُهُ أَوْ الْإِرَادَةُ وَنَوْعُهَا فَصَارَ النِّزَاعُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ .

وَأُورِدَ عَلَى هَؤُلَاءِ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ صِفَاتٌ لِلْكَلَامِ إضَافِيَّةٌ لَيْسَتْ أَنْوَاعًا لَهُ وَأَقْسَامًا وَأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنَى وَاحِدٌ : إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ قُرْآنٌ وَبِالْعِبْرِيَّةِ فَهُوَ تَوْرَاةٌ وبالسريانية فَهُوَ إنْجِيلٌ . وَقَالَ لَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ هَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُونَ إنَّهُ خَلَقَ الْكَلَامَ فِي الْهَوَاءِ فَصَارَ مُتَكَلِّمًا بِهِ وَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ أَحْدَثَ الْكَلَامَ وَلَوْ فِي ذَاتٍ غَيْرِ ذَاتِهِ ؛ وَقَالَ لَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ : إنَّ هَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ . وَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ : إنَّ الْكَلَامَ اسْمٌ لِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ الْمُتَكَلِّمَ اسْمٌ لِلرُّوحِ وَالْجِسْمِ جَمِيعًا وَأَنَّهُ إذَا أُطْلِقَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَبِقَرِينَةِ وَأَنَّ مَعَانِيَ الْكَلَامِ مُتَنَوِّعَةٌ لَيْسَتْ مُنْحَصِرَةً فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ كَتَنَوُّعِ أَلْفَاظِهِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَعَانِي أَقْرَبَ إلَى الِاتِّحَادِ وَالِاجْتِمَاعِ وَالْأَلْفَاظُ أَقْرَبُ إلَى التَّعَدُّدِ وَالتَّفَرُّقِ . وَالْتَزَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقًا وَفَرَّقُوا بَيْنَ كِتَابِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ . فَقَالُوا كِتَابُ اللَّهِ هُوَ الْحُرُوفُ وَهُوَ مَخْلُوقٌ وَكَلَامُ اللَّهِ هُوَ مَعْنَاهَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَهَؤُلَاءِ وَالْأَوَّلُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ الَّذِي قَالَ الْأَوَّلُونَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ أَيْنَ خُلِقَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ ؟ هَلْ خُلِقَتْ فِي الْهَوَاءِ ؟ أَوْ فِي نَفْسِ جبرائيل ؟ أَوْ أَنَّ جبرائيل هُوَ الَّذِي أَحْدَثَهَا أَوْ مُحَمَّدٌ ؟

وَأَمَّا جُمْهُورُ الْأُمَّةِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ فَعَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَمَا جَاءَ عَنْهُمْ مِنْ الْكُتُبِ وَالْأَثَارَةِ مِنْ الْعِلْمِ وَهُمْ الْمُتَّبِعُونَ لِلرِّسَالَةِ اتِّبَاعًا مَحْضًا لَمْ يَشُوبُوهُ بِمَا يُخَالِفُهُ مِنْ مَقَالَةِ الصَّابِئِينَ وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ لَا يَجْعَلُونَ بَعْضَهُ كَلَامَ اللَّهِ وَبَعْضَهُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ وَالْقُرْآنُ هُوَ الْقُرْآنُ - الَّذِي يَعْلَمُ الْمُسْلِمُونَ إنَّهُ الْقُرْآنُ - حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ هُوَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا . وَلِهَذَا كَانَ الْفُقَهَاءُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ : الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ - إذَا لَمْ يَخْرُجُوا عَنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ وَالْفُقَهَاءِ - إذَا تَكَلَّمُوا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ذَكَرُوا ذَلِكَ وَخَالَفُوا مَنْ قَالَ إنَّ الْأَمْرَ هُوَ الْمَعْنَى الْمُجَرَّدُ وَيَعْلَمُ أَهْلُ الْأَثَارَةِ النَّبَوِيَّةِ - أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ - أَنَّ قَوْله تَعَالَى { الم } { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ } وَنَحْوَ ذَلِكَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامَ غَيْرِهِ وَكَلَامُ اللَّهِ هُوَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ لَا مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ تَجَادَلَا فِي " الْأَحْرُفِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى آدَمَ " فَقَالَ أَحَدُهُمَا إنَّهَا قَدِيمَةٌ لَيْسَ لَهَا مُبْتَدَأٌ وَشَكْلُهَا وَنَقْطُهَا مُحْدَثٌ . فَقَالَ الْآخَرُ لَيْسَتْ بِكَلَامِ اللَّهِ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ بِشَكْلِهَا وَنَقْطِهَا وَالْقَدِيمُ هُوَ اللَّهُ وَكَلَامُهُ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُ كَتَبَ بِهَا . وَسَأَلَا أَيُّهُمَا أَصْوَبُ قَوْلًا وَأَصَحُّ اعْتِقَادًا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ مَعْرِفَةُ " كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى " . وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ الَّذِي يُوَافِقُ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الصَّرِيحَةَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ فَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ لَيْسَ ذَلِكَ

مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَكَلَامُهُ قَائِمٌ بِذَاتِهِ لَيْسَ مَخْلُوقًا بَائِنًا عَنْهُ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ بَائِنٌ عَنْهُ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ الْقُرْآنَ أَوْ التَّوْرَاةَ أَوْ الْإِنْجِيلَ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا وَهُوَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا قَالُوا إنَّ نَفْسَ نِدَائِهِ لِمُوسَى أَوْ نَفْسَ الْكَلِمَةِ الْمُعَيَّنَةِ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ بَلْ قَالُوا لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَكَلَامُهُ قَدِيمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ . وَكَلِمَاتُ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَبِالتَّوْرَاةِ الْعِبْرِيَّةِ . فَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ كَلَامُ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } إلَى قَوْلِهِ : { لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } فَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يُبَدِّلُ مِنْهُ آيَةً مَكَانَ آيَةٍ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ وَهُوَ جِبْرِيلُ - وَهُوَ الرُّوحُ الْأَمِينُ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ - مِنْ اللَّهِ بِالْحَقِّ وَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ الْكُفَّارِ مَنْ قَالَ : { إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ يُعَلِّمُهُ رَجُلٌ بِمَكَّةَ أَعْجَمِيٌّ فَقَالَ تَعَالَى : { لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ } أَيْ الَّذِي يُضِيفُونَ إلَيْهِ هَذَا التَّعْلِيمَ أَعْجَمِيٌّ { وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } .

فَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ نَزَّلَهَا رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ اللَّهِ بِالْحَقِّ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } وَالْكِتَابُ الَّذِي أُنْزِلَ مُفَصَّلًا هُوَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ أَتَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ بِالْحَقِّ وَالْعِلْمُ لَا يَكُونُ إلَّا حَقًّا فَقَالَ : يَعْلَمُونَ وَلَمْ يَقُلْ يَقُولُونَ فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَكُونُ إلَّا حَقًّا بِخِلَافِ الْقَوْلِ . وَذِكْر عِلْمِهِمْ ذِكْرٌ مُسْتَشْهَدٌ بِهِ . وَقَدْ فَرَّقَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ إيحَائِهِ إلَى غَيْرِ مُوسَى وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ } إلَى قَوْلِهِ : { حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } فَرَّقَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى وَبَيْنَ إيحَائِهِ لِغَيْرِهِ وَوَكَّدَ تَكْلِيمَهُ لِمُوسَى بِالْمَصْدَرِ وَقَالَ تَعَالَى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } إلَى قَوْلِهِ : { بِرُوحُ الْقُدُسِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا } إلَى آخِرِ السُّورَةِ . فَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ : إمَّا وَحْيًا وَإِمَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَإِمَّا أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ؛ فَجَعَلَ الْوَحْيَ غَيْرَ التَّكْلِيمِ وَالتَّكْلِيمُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَانَ لِمُوسَى .

وَقَدْ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ نَادَاهُ كَمَا قَالَ : { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ } الْآيَةَ . وَقَالَ : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ } الْآيَةَ . وَ " النِّدَاءُ " بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا يَكُونُ إلَّا صَوْتًا مَسْمُوعًا فَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورُهُمْ . وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَقُولُونَ : إنَّ مُوسَى نَادَاهُ رَبُّهُ نِدَاءً سَمِعَهُ بِأُذُنِهِ وَنَادَاهُ بِصَوْتِ سَمِعَهُ مُوسَى وَالصَّوْتُ لَا يَكُونُ إلَّا كَلَامًا وَالْكَلَامُ لَا يَكُونُ إلَّا حُرُوفًا مَنْظُومَةً وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } وَقَالَ : { حم } { تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } وَقَالَ : { حم } { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } فَقَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْكِتَابَ وَالْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ : مِنْهُ بَدَأَ قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْهُ بَدَأَ أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ فَإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا إنَّهُ مَخْلُوقٌ قَالُوا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ فَبَدَا مِنْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ فَقَالَ السَّلَفُ : مِنْهُ بَدَأَ أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَمْ يَخْلُقْهُ فِي غَيْرِهِ فَيَكُونُ كَلَامًا لِذَلِكَ الْمَحَلِّ الَّذِي خَلَقَهُ فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا خَلَقَ صِفَةً مِنْ الصِّفَاتِ فِي مَحَلٍّ كَانَتْ الصِّفَةُ صِفَةً لِذَلِكَ الْمَحَلِّ وَلَمْ تَكُنْ صِفَةً لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فَإِذَا خَلَقَ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا فِي مَحَلٍّ كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْمُتَحَرِّكَ الْمُتَلَوِّنَ بِهِ وَكَذَلِكَ إذَا خَلَقَ حَيَاةً أَوْ إرَادَةً أَوْ قُدْرَةً أَوْ عِلْمًا أَوْ كَلَامًا فِي مَحَلٍّ كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْمُرِيدَ

الْقَادِرَ الْعَالِمَ الْمُتَكَلِّمَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَخْلُوقُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ صِفَةً لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِنَّمَا يَتَّصِفُ الرَّبُّ تَعَالَى بِمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ لَا بِمَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَهُوَ الْحَيُّ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الرَّحِيمُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ بِحَيَاتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلَامِهِ الْقَائِمِ بِهِ لَا بِمَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي . وَمَنْ جَعَلَ كَلَامَهُ مَخْلُوقًا لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ الْمَخْلُوقُ هُوَ الْقَائِلُ لِمُوسَى : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } وَهَذَا مُمْتَنِعٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامًا إلَّا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكُتُبِ بِمَعَانِيهَا وَأَلْفَاظِهَا الْمُنْتَظِمَةِ مِنْ حُرُوفِهَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَخْلُوقًا ؛ بَلْ كَانَ ذَلِكَ كَلَامًا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ . وَقَدْ قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ : إنَّ فُلَانًا يَقُولُ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَحْرُفَ سَجَدَتْ لَهُ إلَّا الْأَلِفُ فَقَالَتْ : لَا أَسْجُدُ حَتَّى أُؤْمَرَ فَقَالَ : هَذَا كُفْرٌ . فَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَالَ إنَّ الْحُرُوفَ مَخْلُوقَةٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ جِنْسُ الْحُرُوفِ مَخْلُوقًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ وَالتَّوْرَاةُ الْعِبْرِيَّةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مَخْلُوقًا وَهَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مُخَالِفٌ لِلْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .

وَالنَّاسُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي كَلَامِ اللَّهِ نِزَاعًا كَثِيرًا . وَالطَّوَائِفُ الْكِبَارُ نَحْوُ سِتِّ فِرَقٍ فَأَبْعَدُهَا عَنْ الْإِسْلَامِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالصَّابِئَةِ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ إنَّمَا هُوَ مَا يَفِيضُ عَلَى النُّفُوسِ : إمَّا مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِهِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّمَا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى مِنْ سَمَاءِ عَقْلِهِ أَيْ بِكَلَامِ حَدَثَ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ خَارِجٍ . وَأَصْلُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْأَفْلَاكَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْهَا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ كَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ بَلْ يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ فَلَمَّا جَاءَتْ الْأَنْبِيَاءُ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْبَاهِرَةِ جَعَلُوا يَتَأَوَّلُونَ ذَلِكَ تَأْوِيلَاتٍ يُحَرِّفُونَ فِيهَا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَقْوَالِ سَلَفِهِمْ الْمَلَاحِدَةِ فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهُمْ كَثِيرُو التَّنَاقُضِ كَقَوْلِهِمْ إنَّ الصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفُ وَهَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ الْأُخْرَى فَيَقُولُونَ : هُوَ عَقْلٌ وَعَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ وَلَذِيذٌ وَمُلْتَذٌّ وَلَذَّةٌ وَعَاشِقٌ وَمَعْشُوقٌ وَعِشْقٌ . وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَالِمٌ مَعْلُومٌ مُحِبٌّ مَحْبُوبٌ وَيَقُولُونَ نَفْسُ الْعِلْمِ هُوَ نَفْسُ الْمَحَبَّةِ وَهُوَ نَفْسُ الْقُدْرَةِ . وَنَفْسُ الْعِلْمِ هُوَ نَفْسُ الْعَالِمِ وَنَفْسُ الْمَحَبَّةِ هِيَ نَفْسُ الْمَحْبُوبِ . وَيَقُولُونَ إنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ فِي الْأَزَلِ ؛ فَيَجِبُ أَنْ يُقَارِنَهَا مَعْلُولُهَا فِي

الْأَزَلِ فِي الزَّمَنِ وَإِنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهَا بِالْعِلَّةِ لَا بِالزَّمَانِ . وَيَقُولُونَ إنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ وَمَعْلُولَهَا يَقْتَرِنَانِ فِي الزَّمَانِ وَيَتَلَازَمَانِ فَلَا يُوجَدُ مَعْلُولٌ إلَّا بِعِلَّةِ تَامَّةٍ وَلَا تَكُونُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ إلَّا مَعَ مَعْلُولِهَا فِي الزَّمَانِ . ثُمَّ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ حَوَادِثَ الْعَالَمِ حَدَثَتْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَجَدَّدَ مِنْ الْمُبْدِعِ الْأَوَّلِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَصِيرَ عِلَّةً لِلْحَوَادِثِ الْمُتَعَاقِبَةِ ؛ بَلْ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْحَوَادِثَ حَدَثَتْ بِلَا مُحْدِثٍ وَكَذَلِكَ عُدِمَتْ بَعْدَ حُدُوثِهَا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ عَدَمَهَا عَلَى أَصْلِهِمْ . وَهَؤُلَاءِ قَابَلَهُمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ ظَنُّوا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ يَتَرَاخَى عَنْهُ أَثَرُهُ وَأَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَالْحَوَادِثُ لَهَا ابْتِدَاءٌ وَقَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ . وَلَمْ يَهْتَدِ الْفَرِيقَانِ لِلْقَوْلِ الْوَسَطِ وَهُوَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ مُسْتَلْزِمٌ أَنْ يَكُونَ أَثَرُهُ عَقِبَ تَأْثِيرِهِ التَّامِّ لَا مَعَ التَّأْثِيرِ وَلَا مُتَرَاخِيًا عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُكَوِّنُ كُلَّ شَيْءٍ فَيَكُونُ عَقِبَ تَكْوِينِهِ لَا مَعَ تَكْوِينِهِ فِي الزَّمَانِ وَلَا مُتَرَاخِيًا عَنْ تَكْوِينِهِ كَمَا يَكُونُ الِانْكِسَارُ عَقِبَ الْكَسْرِ وَالِانْقِطَاعُ عَقِبَ الْقَطْعِ وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ عَقِبَ التَّطْلِيقِ لَا مُتَرَاخِيًا عَنْهُ وَلَا مُقَارِنًا لَهُ فِي الزَّمَانِ . وَالْقَائِلُونَ بِالتَّرَاخِي ظَنُّوا امْتِنَاعَ حَوَادِثِ لَا تَتَنَاهَى فَلَزِمَهُمْ أَنَّ

الرَّبَّ لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُ ذَلِكَ فَالْتَزَمُوا أَنَّ الرَّبَّ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ بِمَشِيئَتِهِ . فَافْتَرَقُوا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : كَلَامُهُ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مَقْدُورًا مُرَادًا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا وَمَا كَانَ حَادِثًا كَانَ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ ؛ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ وَتَسَلْسُلِهَا فِي ظَنِّهِمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ كَلَامُهُ لَا يَكُونُ إلَّا قَائِمًا بِهِ وَمَا كَانَ قَائِمًا بِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا قَدِيمَ الْعَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَقْدُورًا مُرَادًا لَكَانَ حَادِثًا فَكَانَتْ الْحَوَادِثُ تَقُومُ بِهِ وَلَوْ قَامَتْ بِهِ لَمْ يَسْبِقْهَا وَلَمْ يَخْلُ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ ؛ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَكِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا فِي الْأَزَلِ أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ . قَالَتْ " هَذِهِ الطَّوَائِفُ " : وَنَحْنُ بِهَذَا الطَّرِيقِ عَلِمْنَا حُدُوثَ الْعَالِمِ ؛ فَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ بِأَنَّهَا لَا تَخْلُوَا مِنْ الْحَوَادِثِ وَلَا تَسْبِقُهَا وَمَا لَمْ يَسْبِقْ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ هَذِهِ

قَضِيَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ وَلَمْ يَتَفَطَّنْ لِإِجْمَالِهَا . وَمِنْهُمْ مَنْ تَفَطَّنَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ مَا لَمْ يَسْبِقْ الْحَوَادِثَ الْمَحْصُورَةَ الْمَحْدُودَةَ وَمَا يَسْبِقُ جِنْسَ الْحَوَادِثِ الْمُتَعَاقِبَةِ . شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ . أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ حَادِثٌ بِالضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَوَادِثَ لَهَا مَبْدَأٌ مُعَيَّنٌ فَمَا لَمْ يَسْبِقْهَا يَكُونُ مَعَهَا أَوْ بَعْدَهَا وَكِلَاهُمَا حَادِثٌ . وَأَمَّا جِنْسُ الْحَوَادِثِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَهَذَا شَيْءٌ تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ فَقِيلَ إنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِ الْجَهْم وَأَبِي الهذيل . فَقَالَ الْجَهْمُ : بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ . وَقَالَ أَبُو الهذيل : بِفَنَاءِ حَرَكَاتِ أَهْلِهِمَا وَقِيلَ : بَلْ هُوَ جَائِزٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي ؛ لِأَنَّ الْمَاضِيَ دَخَلَ فِي الْوُجُودِ دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ . وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ طَوَائِفِ النُّظَّارِ . وَقِيلَ : بَلْ هُوَ جَائِزٌ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ . وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَقُولُ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَأَنَّ كَلِمَاتِ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ أَئِمَّةِ الْفَلَاسِفَةِ . لَكِنْ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ مُدَّعُونَ ذَلِكَ فِي حَرَكَاتِ الْفَلَكِ وَيَقُولُونَ إنَّهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ . وَخَالَفُوا فِي ذَلِكَ جُمْهُورَ الْفَلَاسِفَةِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَجَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ . فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ؛ بَلْ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ حَادِثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ . وَإِنَّ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ مِنْ صِفَاتِ

الْكَمَالِ وَلَيْسَتْ صِفَاتُهُ خَارِجَةً عَنْ مُسَمَّى اسْمِهِ ؛ بَلْ مَنْ قَالَ عَبَدْت اللَّهَ وَدَعَوْت اللَّهَ فَإِنَّمَا عَبَدَ ذَاتَه الْمُتَّصِفَةَ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي تَسْتَحِقُّهَا وَيَمْتَنِعُ وُجُودُ ذَاتِهِ بِدُونِ صِفَاتِهَا اللَّازِمَةِ لَهَا . ثُمَّ لَمَّا تَكَلَّمَ فِي " النُّبُوَّاتِ " مَنْ اتَّبَعَ أَرِسْطُو - كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ - وَرَأَوْا مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ إخْبَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ وَأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أَخَذُوا يُحَرِّفُونَ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَيَقُولُونَ : الْحُدُوثُ نَوْعَانِ ذَاتِيٌّ وَزَمَانِيٌّ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ الْفَلَكَ مُحْدَثٌ الْحُدُوثَ الزَّمَانِيَّ ؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَعْلُولٌ وَإِنْ كَانَ أَزَلِيًّا لَمْ يَزَلْ مَعَ اللَّهِ وَقَالُوا إنَّهُ مَخْلُوقٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَالْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ أَخْبَرَتْ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَالْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ لَا يَكُونُ فِي أَيَّامٍ . وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ خَلَقَ كَذَا إنَّمَا أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ خَلَقَ الْمَخْلُوقَ وَأَحْدَثَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَمَا قَالَ : { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا } وَالْعُقُولُ الصَّرِيحَةُ تُوَافِقُ ذَلِكَ وَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمَخْلُوقَ الْمَصْنُوعَ لَا يَكُونُ مُقَارِنًا لِلْفَاعِلِ فِي الزَّمَانِ وَلَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَهُ وَأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَكُونُ إلَّا بِإِحْدَاثِ الْمَفْعُولِ .

وَقَالُوا لِهَؤُلَاءِ قَوْلُكُمْ : " إنَّهُ مُؤَثِّرٌ تَامٌّ فِي الْأَزَلِ " لَفْظٌ مُجْمَلٌ يُرَادُ بِهِ التَّأْثِيرُ الْعَامُّ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَيُرَادُ بِهِ التَّأْثِيرُ الْمُطْلَقُ فِي شَيْءٍ بَعْدَ شَيْءٍ وَيُرَادُ بِهِ التَّأْثِيرُ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ دُونَ غَيْرِهِ ؛ فَإِنْ أَرَدْتُمْ " الْأَوَّلَ " لَزِمَ أَنْ لَا يَحْدُثَ فِي الْعَالَمِ حَادِثٌ وَهَذَا خِلَافُ الْمُشَاهَدَةِ وَإِنْ أَرَدْتُمْ " الثَّانِيَ " لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقًا حَادِثًا كَائِنًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَكَانَ الرَّبُّ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ فَعَّالًا لِمَا يَشَاءُ وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَكُمْ وَيَسْتَلْزِمُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ وَيُوَافِقُ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ الْعَقْلُ الصَّرِيحُ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ يُوَافِقُ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَإِنْ أَرَدْتُمْ " الثَّالِثَ " فَسَدَ قَوْلُكُمْ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ يَشَاءُ حُدُوثَهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا لَهَا مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ سَبَبٍ يُوجِبُ الْإِحْدَاثَ وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَكُمْ . فَإِنْ صَحَّ هَذَا جَازَ أَنْ يُحْدِثَ كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا لِشَيْءِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ هَذَا بَطَلَ فَقَوْلُكُمْ بَاطِلٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ . وَحَقِيقَةُ قَوْلِكُمْ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ أَثَرِهِ وَلَا يَكُونُ الْأَثَرُ إلَّا مَعَ الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ فِي الزَّمَنِ ؛ وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ لَا يَحْدُثَ شَيْءٌ وَيَلْزَمُكُمْ أَنَّ كُلَّ مَا حَدَثَ حَدَثَ بِدُونِ مُؤَثِّرٍ وَيَلْزَمُكُمْ بُطْلَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ أَثَرٍ وَأَثَرٍ وَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَقُولُوا بَعْضُ الْآثَارِ يُقَارِنُ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ وَبَعْضُهَا يَتَرَاخَى عَنْهُ .

وَأَيْضًا فَكَوْنُهُ فَاعِلًا لِمَفْعُولِ مُعَيَّنٍ مُقَارِنٍ لَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا بَاطِلٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ وَأَيْضًا فَأَنْتُمْ وَسَائِرُ الْعُقَلَاءِ مُوَافِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُمْكِنَ الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا مُمْكِنًا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَهُوَ الَّذِي جَعَلْتُمُوهُ الْمُمْكِنَ الْخَاصَّ الَّذِي قَسِيمُهُ الضَّرُورِيُّ الْوَاجِبُ وَالضَّرُورِيُّ الْمُمْتَنِعُ لَا يَكُونُ إلَّا مَوْجُودًا تَارَةً وَمَعْدُومًا أُخْرَى وَأَنَّ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ لَا يَكُونُ إلَّا ضَرُورِيًّا وَاجِبًا يَمْتَنِعُ عَدَمُهُ . وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ حَتَّى ابْنُ سِينَا وَذَكَرَهُ فِي كُتُبِهِ الْمَشْهُورَةِ " كالشفا " وَغَيْرِهِ . ثُمَّ تَنَاقَضَ فَزَعَمَ أَنَّ الْفَلَكَ مُمْكِنٌ مَعَ كَوْنِهِ قَدِيمًا أَزَلِيًّا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَزَعَمَ أَنَّ الْوَاجِبَ بِغَيْرِهِ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ الَّذِي يَمْتَنِعُ عَدَمُهُ يَكُونُ مُمْكِنًا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَزَعَمَ أَنَّ لَهُ مَاهِيَّةً غَيْرَ وُجُودِهِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَتَنَاقُضِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَ " الْقَوْلُ الثَّانِي " لِلنَّاسِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُمْ بِهِ صِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ لَا حَيَاةٌ وَلَا عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا كَلَامٌ وَلَا إرَادَةٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا غَضَبٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ بَلْ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ فَذَلِكَ الْمَخْلُوقُ هُوَ كَلَامُهُ وَهَذَا قَوْلُ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ . وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِأَقْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَنُصُوصِهِمْ ؛ وَلَيْسَ مَعَ هَؤُلَاءِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ قَوْلٌ يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ ؛ بَلْ لَهُمْ شُبَهٌ عَقْلِيَّةٌ فَاسِدَةٌ قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهَا فِي غَيْرِ هَذَا

الْمَوْضِعِ ، وَهَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يُقِيمُونَ الدَّلِيلَ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ بِتِلْكَ الْحُجَجِ وَهُمْ لَا لِلْإِسْلَامِ نَصَرُوا وَلَا لِأَعْدَائِهِ كَسَرُوا . وَ " الْقَوْلُ الثَّالِثُ " قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بِكَلَامِ قَائِمٍ بِذَاتِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا وَهَؤُلَاءِ مُوَافِقُونَ لِمَنْ قَبْلَهُمْ فِي أَصْلِ قَوْلِهِمْ لَكِنْ قَالُوا الرَّبُّ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ وَلَا يَقُومُ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ . وَأَوَّلُ مَنْ اشْتَهَرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ فِي الْإِسْلَامِ " عَبْدُ اللَّهِ بْن سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ " ثُمَّ افْتَرَقَ مُوَافِقُوهُ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : ذَلِكَ الْكَلَامُ . مَعْنَى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَأْمُورٍ وَالنَّهْيُ عَنْ كُلِّ مَحْظُورٍ وَالْخَبَرُ عَنْ كُلِّ مُخْبَرٍ عَنْهُ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً . وَقَالُوا مَعْنَى الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَاحِدٌ وَمَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ هُوَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ . وَقَالُوا : الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ صِفَاتٌ لِلْكَلَامِ لَا أَنْوَاعٌ لَهُ . وَمِنْ مُحَقِّقِيهِمْ مَنْ جَعَلَ الْمَعْنَى يَعُودُ إلَى الْخَبَرِ وَالْخَبَرَ يَعُودُ إلَى الْعِلْمِ . وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ : قَوْلُ هَؤُلَاءِ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ تَكْلِيمُهُ لِمُوسَى لَيْسَ إلَّا خَلْقُ إدْرَاكٍ يَفْهَمُ بِهِ مُوسَى ذَلِكَ الْمَعْنَى . فَقِيلَ لَهُمْ : أَفَهِمَ كُلَّ الْكَلَامِ أَمْ بَعْضَهُ ؟ إنْ كَانَ فَهِمَهُ كُلَّهُ

فَقَدْ عَلِمَ عِلْمَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ فَهِمَ بَعْضَهُ فَقَدْ تَبَعَّضَ وَعِنْدَهُمْ كَلَامُ اللَّه لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَعَدَّدُ . وَقِيلَ لَهُمْ : قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى وَإِيحَائِهِ لِغَيْرِهِ . وَعَلَى أَصْلِكُمْ لَا فَرْقَ . وَقِيلَ لَهُمْ : قَدْ كَفَّرَ اللَّهُ مَنْ جَعَلَ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ قَوْلَ الْبَشَرِ وَقَدْ جَعَلَهُ تَارَةً قَوْلَ رَسُولٍ مِنْ الْبَشَرِ وَتَارَةً قَوْلَ رَسُولٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ } { وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } فَهَذَا الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } { مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } فَهَذَا جِبْرِيلُ فَأَضَافَهُ تَارَةً إلَى الرَّسُولِ الْمَلَكِيِّ وَتَارَةً إلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ . وَاَللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ . وَكَانَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ ادَّعَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ أَحْدَثَهُ جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ فَقِيلَ لَهُمْ : لَوْ أَحْدَثَهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ إضَافَتُهُ إلَى الْآخَرِ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَضَافَهُ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِاسْمِ الرَّسُولِ الدَّالِّ عَلَى مُرْسِلِهِ لَا بِاسْمِ الْمَلَكِ وَالنَّبِيِّ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ رَسُولٍ بَلَّغَهُ عَنْ مُرْسِلِهِ لَا قَوْلُ مَلَكٍ أَوْ نَبِيٍّ أَحْدَثَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بَلْ قَدْ كَفَرَ مَنْ قَالَ إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ .

وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى الَّتِي وَافَقَتْ ابْنَ كُلَّابٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ قَالَتْ : بَلْ الْكَلَامُ الْقَدِيمُ هُوَ حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِ الرَّبِّ أَزَلًا وَأَبَدًا لَا يَتَكَلَّمُ بِهَا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِهَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ . وَلَمْ يُفَرِّقْ هَؤُلَاءِ بَيْنَ جِنْسِ الْحُرُوفِ وَجِنْسِ الْكَلَامِ وَبَيْنَ عَيْنِ حُرُوفٍ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَقُولُ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ إنَّهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ ؛ فَإِنَّ الْحُرُوفَ الْمُتَعَاقِبَةَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا قَدِيمًا أَزَلِيًّا وَإِنْ كَانَ جِنْسُهَا قَدِيمًا ؛ لِإِمْكَانِ وُجُودِ كَلِمَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَحُرُوفٍ مُتَعَاقِبَةٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَامْتِنَاعِ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهَا قَدِيمًا أَزَلِيًّا فَإِنَّ الْمَسْبُوقَ بِغَيْرِهِ لَا يَكُونُ أَزَلِيًّا . وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ وُجُودِهَا وَمَاهِيَّتِهَا فَقَالَ : التَّرْتِيبُ فِي مَاهِيَّتِهَا لَا فِي وُجُودِهَا وَبُطْلَانُ هَذَا الْقَوْلِ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ فَإِنَّ مَاهِيَّةَ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ حُرُوفٌ لَا يَكُونُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَالصَّوْتُ لَا يَكُونُ إلَّا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْمَاهِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ أَزَلِيًّا مُتَقَدِّمًا عَلَيْهَا بِهِ مَعَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بَيْنَهُ لَوْ قُدِّرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا . وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا أَيْضًا مُتَرَتِّبًا تَرْتِيبًا مُتَعَاقِبًا . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَدِيمَ هُوَ مَا يُسْمَعُ مِنْ الْعِبَادِ مِنْ الْأَصْوَاتِ بِالْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَوْ بَعْضُ ذَلِكَ وَكَانَ أَظْهَرَ

فَسَادًا مِمَّا قَبْلَهُ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ حُدُوثُ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ . وَ " طَائِفَةٌ خَامِسَةٌ " قَالَتْ : بَلْ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِ ؛ لَكِنْ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ فِي الْأَزَلِ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الرَّبَّ فِي الْأَزَلِ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الْكَلَامِ بِمَشِيئَتِهِ وَلَا عَلَى الْفِعْلِ كَمَا فَعَلَهُ أُولَئِكَ ثُمَّ جَعَلُوا الْفِعْلَ وَالْكَلَامَ مُمْكِنًا مَقْدُورًا مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ شَيْءٍ أَوْجَبَ الْقُدْرَةَ وَالْإِمْكَانَ كَمَا قَالَ أُولَئِكَ فِي الْمَفْعُولَاتِ الْمُنْفَصِلَة . وَأَمَّا السَّلَفُ فَقَالُوا : لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَأَنَّ الْكَلَامَ صِفَةُ كَمَالٍ وَمَنْ يَتَكَلَّمُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَتَكَلَّمُ كَمَا أَنَّ مَنْ يَعْلَمُ وَيَقْدِرُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَقْدِرُ وَمَنْ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَكُونُ الْكَلَامُ لَازِمًا لِذَاتِهِ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ قُدْرَةٌ وَلَا لَهُ فِيهِ مَشِيئَةٌ وَالْكَمَالُ إنَّمَا يَكُونُ بِالصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالْمَوْصُوفِ لَا بِالْأُمُورِ الْمُبَايَنَةِ لَهُ وَلَا يَكُونُ الْمَوْصُوفُ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا قَادِرًا إلَّا بِمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ أَكْمَلُ مِمَّنْ حَدَثَتْ لَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِهَا لَوْ كَانَ حُدُوثُهَا مُمْكِنًا فَكَيْفَ إذَا كَانَ مُمْتَنِعًا ؟ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مَنْعُوتًا بِنُعُوتِ الْجَلَالِ ؛ وَمِنْ أَجَلِّهَا الْكَلَامُ . فَلَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ بِالْعَرَبِيَّةِ كَمَا تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ

الْعَرَبِيِّ وَمَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ قَائِمٌ بِهِ لَيْسَ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ فَلَا تَكُونُ الْحُرُوفُ الَّتِي هِيَ مَبَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَكُتُبُهُ الْمُنَزَّلَةُ مَخْلُوقَةٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِهَا .
فَصْلٌ :
ثُمَّ تَنَازَعَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْحُرُوفِ الْمَوْجُودَةِ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ . وَسَبَبُ نِزَاعِهِمْ أَمْرَانِ : " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْكَلَامِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ اللَّهُ بِهِ فَيُسْمَعُ مِنْهُ وَبَيْنَ مَا إذَا بَلَّغَهُ عَنْهُ مُبَلِّغٌ فَسُمِعَ مِنْ ذَلِكَ الْمُبَلِّغِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ بِهِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ ؛ فَإِذَا قَرَأَهُ الْقُرَّاءُ قَرَءُوهُ بِأَصْوَاتِ أَنْفُسِهِمْ . فَإِذَا قَالَ الْقَارِئُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } كَانَ هَذَا الْكَلَامُ الْمَسْمُوعُ مِنْهُ كَلَامَ اللَّهِ لَا كَلَامَ نَفْسِهِ وَكَانَ هُوَ قَرَأَهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ لَا بِصَوْتِ اللَّهِ فَالْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } وَكَانَ يَقُولُ : { أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي ؟ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي } وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ ثَابِتٌ فَبَيَّنَ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يُبَلِّغُهُ كَلَامُ رَبِّهِ وَبَيَّنَ أَنَّ الْقَارِئَ

يَقْرَؤُهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ } قَالَ أَحْمَد وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا : هُوَ تَحْسِينُهُ بِالصَّوْتِ . قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : يُحَسِّنُهُ بِصَوْتِهِ فَبَيَّنَ أَحْمَد أَنَّ الْقَارِئَ يُحَسِّنُ الْقُرْآنَ بِصَوْتِ نَفْسِهِ . وَ " السَّبَبُ الثَّانِي " أَنَّ السَّلَفَ قَالُوا : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَالُوا لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ . فَبَيَّنُوا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ قَدِيمٌ أَيْ جِنْسُهُ قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ الْمُعَيَّنِ قَدِيمٌ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ الْقُرْآنُ قَدِيمٌ ؛ بَلْ قَالُوا : إنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ بِمَشِيئَتِهِ كَانَ الْقُرْآنُ كَلَامَهُ وَكَانَ مُنَزَّلًا مِنْهُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ ذَلِكَ أَزَلِيًّا قَدِيمًا بِقِدَمِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَجِنْسُ كَلَامِهِ قَدِيمٌ . فَمَنْ فَهِمَ قَوْلَ السَّلَفِ وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ زَالَتْ عَنْهُ الشُّبُهَاتُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُعْضِلَةِ الَّتِي اضْطَرَبَ فِيهَا أَهْلُ الْأَرْضِ . فَمَنْ قَالَ إنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ كُلَّهَا مَخْلُوقَةٌ وَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى مَخْلُوقٌ فَقَدْ قَالَ قَوْلًا مُخَالِفًا لِلْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ وَالْمَنْقُولِ الصَّحِيحِ وَمَنْ قَالَ نَفْسُ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ أَوْ مِدَادُهُمْ أَوْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَدِيمٌ فَقَدْ خَالَفَ أَيْضًا أَقْوَالَ السَّلَفِ وَكَانَ فَسَادُ قَوْلِهِ ظَاهِرًا لِكُلِّ أَحَدٍ وَكَانَ مُبْتَدِعًا قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا قَالَتْهُ طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ

طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِمْ بَرِيئُونَ مِنْ ذَلِكَ . وَمَنْ قَالَ إنَّ الْحَرْفَ الْمُعَيَّنَ أَوْ الْكَلِمَةَ الْمُعَيَّنَةَ قَدِيمَةُ الْعَيْنِ فَقَدْ ابْتَدَعَ قَوْلًا بَاطِلًا فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ جِنْسَ الْحُرُوفِ الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً وَإِنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ لَيْسَ مَخْلُوقًا وَالْحُرُوفَ الْمُنْتَظِمَةَ مِنْهُ جُزْءٌ مِنْهُ وَلَازِمَةٌ لَهُ وَقَدْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا فَلَا تَكُونُ مَخْلُوقَةً فَقَدْ أَصَابَ . وَإِذَا قَالَ إنَّ اللَّهَ هَدَى عِبَادَهُ وَعَلَّمَهُمْ الْبَيَانَ فَأَنْطَقَهُمْ بِهَا بِاللُّغَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ جَعَلَهُمْ يَنْطِقُونَ بِالْحُرُوفِ الَّتِي هِيَ مَبَانِي كُتُبِهِ وَكَلَامِهِ وَأَسْمَائِهِ فَهَذَا قَدْ أَصَابَ فَالْإِنْسَانُ وَجَمِيعُ مَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْأَصْوَاتِ وَالْحَرَكَاتِ وَغَيْرِهَا مَخْلُوقٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَالرَّبُّ تَعَالَى بِمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ صِفَاتِهِ وَكَلِمَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْعِبَادُ إذَا قَرَءُوا كَلَامَهُ فَإِنَّ كَلَامَهُ الَّذِي يَقْرَؤُونَهُ هُوَ كَلَامُهُ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ وَكَلَامُهُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا وَكَانَ مَا يَقْرَؤُونَ بِهِ كَلَامَهُ مِنْ حَرَكَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ مَخْلُوقًا وَكَذَلِكَ مَا يُكْتَبُ فِي الْمَصَاحِفِ مِنْ كَلَامِهِ فَهُوَ كَلَامُهُ مَكْتُوبًا فِي الْمَصَاحِفِ وَكَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْمِدَادُ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ كَلَامُهُ وَغَيْرُ كَلَامِهِ مَخْلُوقٌ .

وَقَدْ فَرَّقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ كَلَامِهِ وَبَيْنَ مِدَادِ كَلِمَاتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } وَكَلِمَاتُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَالْمِدَادُ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ كَلِمَاتُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَالْقُرْآنُ الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكَذَلِكَ الْمَكْتُوبُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَغَيْرِهِ قَالَ تَعَالَى : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ } { فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } وَقَالَ : { كَلَّا إنَّهَا تَذْكِرَةٌ } { فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } { فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ } { مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً } { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } وَقَالَ : { إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } { لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ } .
فَصْلٌ :
فَهَذَانِ الْمُتَنَازِعَانِ اللَّذَانِ تَنَازَعَا فِي " الْأَحْرُفِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى آدَمَ " فَقَالَ أَحَدُهُمَا : إنَّهَا قَدِيمَةٌ وَلَيْسَ لَهَا مُبْتَدَأٌ وَشَكْلُهَا وَنَقْطُهَا مُحْدَثٌ . وَقَالَ الْآخَرُ : إنَّهَا لَيْسَتْ بِكَلَامِ اللَّهِ وَإِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ بِشَكْلِهَا وَنَقْطِهَا وَإِنَّ الْقَدِيمَ هُوَ اللَّهُ وَكَلَامُهُ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُ كَتَبَ بِهَا . وَسُؤَالُهُمَا أَنْ نُبَيِّنَ لَهُمَا الصَّوَابَ وَأَيُّهُمَا أَصَحُّ اعْتِقَادًا يُقَالُ لَهُمَا : يَحْتَاجُ بَيَانُ الصَّوَابِ إلَى بَيَانِ مَا فِي السُّؤَالِ مِنْ الْكَلَامِ الْمُجْمَلِ

فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ نِزَاعِ الْعُقَلَاءِ لِكَوْنِهِمْ لَا يَتَصَوَّرُونَ مَوْرِدَ النِّزَاعِ تَصَوُّرًا بَيِّنًا وَكَثِيرٌ مِنْ النِّزَاعِ قَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ فِيهِ فِي قَوْلٍ آخَرَ غَيْرِ الْقَوْلَيْنِ الَّلَذِينَ قَالَاهُمَا ، وَكَثِيرٌ مِنْ النِّزَاعِ قَدْ يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى أَصْلٍ ضَعِيفٍ إذَا بُيِّنَ فَسَادُهُ ارْتَفَعَ النِّزَاعُ . فَأَوَّلُ مَا فِي هَذَا السُّؤَالِ قَوْلُهُمَا : الْأَحْرُفُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى آدَمَ فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ مُفَرَّقَةً مَكْتُوبَةً وَهَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ وَهُوَ وَمِثْلُهُ يُوجَدُ فِي التَّوَارِيخِ كَتَارِيخِ ابْنِ جَرِيرٍ الطبري وَنَحْوِهِ وَهَذَا وَنَحْوُهُ مَنْقُولٌ عَمَّنْ يَنْقُلُ الْأَحَادِيثَ الإسرائيلية وَنَحْوَهَا مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِثْلُ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ وَمَالِك بْنِ دِينَارٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا يَنْقُلُهُ هَؤُلَاءِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ عُمْدَةً فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِنَقْلِ مُتَوَاتِرٍ أَوْ أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا عَنْ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ وَأَيْضًا فَهَذَا النَّقْلُ قَدْ عَارَضَهُ نَقْلٌ آخَرُ وَهُوَ : " { إنَّ أَوَّلَ مَنْ خَطَّ وَخَاطَ إدْرِيسُ } " . فَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ وَهُوَ مِثْلُ ذَلِكَ وَأَقْوَى فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ أَنَّ إدْرِيسَ أَوَّلُ مَنْ خَاطَ الثِّيَابَ وَخَطَّ بِالْقَلَمِ : وَعَلَى هَذَا فَبَنُو آدَمَ مِنْ قَبْلِ إدْرِيسَ لَمْ يَكُونُوا يَكْتُبُونَ بِالْقَلَمِ وَلَا يَقْرَؤُونَ كُتُبًا . وَاَلَّذِي فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْمَعْرُوفِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، عَنْ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ آدَمَ كَانَ نَبِيًّا مُكَلَّمًا كَلَّمَهُ اللَّهُ قَبْلًا } " وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ شَيْئًا مَكْتُوبًا فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَى آدَمَ صَحِيفَةً وَلَا كِتَابًا وَلَا هَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا لَا أَصْلَ لَهُ وَلَوْ كَانَ هَذَا مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَكَانَ هَذَا النَّقْلُ لَيْسَ هُوَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَحَادِيثِ الإسرائيلية الَّتِي لَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا ؛ بَلْ وَلَا يَجُوزُ التَّصْدِيقُ بِصِحَّتِهَا إلَّا بِحُجَّةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " { إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ ؛ فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِحَقِّ فَتُكَذِّبُوهُ وَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِبَاطِلِ فَتُصَدِّقُوهُ } " . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَأَنْطَقَهُ بِالْكَلَامِ الْمَنْظُومِ . وَأَمَّا تَعْلِيمُ حُرُوفٍ مُقَطَّعَةٍ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ مَكْتُوبَةً فَهُوَ تَعْلِيمٌ لَا يَنْفَعُ وَلَكِنْ لَمَّا أَرَادُوا تَعْلِيمَ الْمُبْتَدِئِ بِالْخَطِّ صَارُوا يُعَلِّمُونَهُ الْحُرُوفَ الْمُفْرَدَةَ حُرُوفَ الْهِجَاءَ ثُمَّ يُعَلِّمُونَهُ تَرْكِيبَ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ فَيُعَلَّمُ أَبْجَدَ هوز وَلَيْسَ هَذَا وَحْدَهُ كَلَامًا . فَهَذَا الْمَنْقُولُ عَنْ آدَمَ مِنْ نُزُولِ حُرُوفِ الْهِجَاءِ عَلَيْهِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ نَقْلٌ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ عَقْلٌ ؛ بَلْ الْأَظْهَرُ فِي كِلَيْهِمَا نَفْيُهُ وَهُوَ مَنْ جِنْسِ مَا يَرْوُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَفْسِيرِ ا ب ت ث وَتَفْسِيرِ أَبْجَد

هوز حُطِّي وَيَرْوُونَهُ عَنْ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَهُ لِمُعَلِّمِهِ فِي الْكُتَّابِ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْوَاهِيَةِ بَلْ الْمَكْذُوبَةِ . وَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالنَّقْلِ أَنْ يُحْتَجَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي هَذَا الْبَابِ كَالشَّرِيفِ المزيدي وَالشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ وَابْنِهِ عَبْدِ الْوَهَّابِ وَغَيْرِهِمْ . وَقَدْ يَذْكُرُ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ فَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَذَا الْبَابِ بَاطِلٌ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَعَنْ النَّقَّاشِ وَنَحْوُهُ نَقَلَهُ الشَّرِيفُ المزيدي الْحَرَّانِي وَغَيْرُهُ فَأَجَلُّ مَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبري وَقَدْ بَيَّنَ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ كُلَّ مَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ بَاطِلٌ . فَذَكَرَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِهِ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي تَفْسِيرِ أَبْجَد هوز حُطِّي وَذَكَرَ حَدِيثًا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الجزري عَنْ فُرَاتِ بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَعَلَّمُوا أباجاد وَتَفْسِيرُهَا وَيْلٌ لِعَالِمِ جَهِلَ تَفْسِيرَ أَبِي جَادّ قَالَ : قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا تَفْسِيرُهَا ؟ قَالَ ؟ أَمَّا الْأَلِفُ فَآلَاءُ اللَّهِ وَحَرْفٌ مِنْ أَسْمَائِهِ . وَأَمَّا الْبَاءُ فَبَهَاءُ اللَّهِ وَأَمَّا الْجِيمُ فَجَلَالُ اللَّهِ وَأَمَّا الدَّالُ فَدَيْنُ

اللَّهِ وَأَمَّا الْهَاءُ فَالْهَاوِيَةُ وَأَمَّا الْوَاوُ فَوَيْلٌ لِمَنْ سَهَا وَأَمَّا الزَّايُ فَالزَّاوِيَةُ وَأَمَّا الْحَاءُ فَحَطُوطُ الْخَطَايَا عَنْ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ } " وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ . وَذَكَرَ حَدِيثًا ثَانِيًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ وَاقِدٍ حَدَّثَنِي الْفُرَاتُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مهران عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " لَيْسَ شَيْءٌ إلَّا وَلَهُ سَبَبٌ وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَفْطَنُ لَهُ وَلَا بَلَغَهُ ذَلِكَ أَنَّ لِأَبِي جَادّ حَدِيثًا عَجِيبًا أَمَّا " أَبُو جَادّ " فَأَبَى آدَمَ الطَّاعَةَ وَجَدَّ فِي أَكْلِ الشَّجَرَةِ وَأَمَّا " هوز " فَزَلَّ آدَمَ فَهَوَى مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ وَأَمَّا " حُطِّي " فَحُطَّتْ عَنْهُ خَطِيئَتُهُ وَأَمَّا " كلمن " فَأَكْلُهُ مِنْ الشَّجَرَةِ وَمُنَّ عَلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ " وَسَاقَ تَمَامَ الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ . وَذَكَرَ حَدِيثًا ثَالِثًا مِنْ حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمِسْعَرِ بْنِ كدام عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَسْلَمَتْهُ أُمُّهُ إلَى الْكُتَّابِ لِيُعَلِّمَهُ فَقَالَ لَهُ الْمُعَلِّمُ : اُكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ عِيسَى وَمَا بِسْمِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ لَهُ الْمُعَلِّمُ وَمَا أَدْرِي . فَقَالَ لَهُ عِيسَى الْبَاءُ بَهَاءُ اللَّهِ وَالسِّينُ سَنَاؤُهُ وَالْمِيمُ مُلْكُهُ وَاَللَّهُ إلَهُ الْآلِهَةِ وَالرَّحْمَنُ رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالرَّحِيمُ رَحِيمُ الْآخِرَةِ . أَبُو جَاد : أَلِفٌ آلَاءُ اللَّهِ وَبَاءٌ بَهَاءُ اللَّهِ وَجِيمٌ جَمَالُ اللَّهِ وَدَالٌ اللَّهُ الدَّائِمُ وهوز هَاءُ الْهَاوِيَةِ } " وَذَكَرَ حَدِيثًا

مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَذَكَرَهُ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ . وَرَوَى أَبُو الْفَرَجِ المقدسي عَنْ الشَّرِيفِ المزيدي حَدِيثًا عَنْ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ : ا ب ت ث مِنْ هَذَا الْجِنْسِ . ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : وَلَوْ كَانَتْ الْأَخْبَارُ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ صِحَاحَ الْأَسَانِيدِ لَمْ يُعْدَلْ عَنْ الْقَوْلِ بِهَا إلَى غَيْرِهَا وَلَكِنَّهَا وَاهِيَةُ الْأَسَانِيدِ غَيْرُ جَائِزٍ الِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِهَا ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ زِيَادٍ الجزري الَّذِي حَدَّثَ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ بْنَ قُرَّةَ عَنْ فُرَاتٍ عَنْهُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِنَقْلِهِ وَأَنَّ عَبْدَ الرَّحِيمِ بْنَ وَاقِدٍ الَّذِي خَالَفَهُ فِي رِوَايَةِ ذَلِكَ عَنْ الْفُرَاتِ مَجْهُولٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ وَأَنَّ إسْمَاعِيلَ بْنَ يَحْيَى الَّذِي حَدَّثَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِرِوَايَتِهِ وَلَا جَائِزٌ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ الِاحْتِجَاجُ بِأَخْبَارِهِ . قُلْت : إسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى هَذَا يُقَالُ لَهُ التيمي كُوفِيٌّ مَعْرُوفٌ بِالْكَذِبِ وَرِوَايَةُ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ فِي غَيْرِ الشَّامِيِّينَ لَا يُحْتَجُّ بِهَا بَلْ هُوَ ضَعِيفٌ فِيمَا يَنْقُلُهُ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ بِخِلَافِ مَا يَنْقُلُهُ عَنْ شُيُوخِهِ الشَّامِيِّينَ ؛ فَإِنَّهُ حَافِظٌ لِحَدِيثِ أَهْلِ بَلَدِهِ كَثِيرُ الْغَلَطِ فِي حَدِيثِ أُولَئِكَ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالرِّجَالِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ وَاقِدٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَفُرَاتُ بْنُ السَّائِبِ ضَعِيفٌ أَيْضًا

لَا يُحْتَجُّ بِهِ فَهُوَ فُرَاتُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ وَمُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الجزري ضَعِيفٌ أَيْضًا . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي أَبْجَد هوز حُطِّي فَقَالَ طَائِفَةٌ هِيَ أَسْمَاءُ قَوْمٍ قِيلَ أَسْمَاءُ مُلُوكِ مَدْيَنَ أَوْ أَسْمَاءُ قَوْمٍ كَانُوا مُلُوكًا جَبَابِرَةً . وَقِيلَ : هِيَ أَسْمَاءُ السِّتَّةِ الْأَيَّامِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا الدُّنْيَا . وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الطبري . وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ أَصْلَهَا أَبُو جَاد مِثْلُ أَبِي عَاد وَهَوَازّ مِثْلُ رَوَادّ وَجَوَّاب . وَأَنَّهَا لَمْ تُعْرَبْ لِعَدَمِ الْعَقْدِ وَالتَّرْكِيبِ . وَالصَّوَابُ : أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ أَسْمَاءً لِمُسَمَّيَاتِ وَإِنَّمَا أُلِّفَتْ لِيُعْرَفَ تَأْلِيفُ الْأَسْمَاءِ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ وَلَفْظُهَا : أَبْجَد هوز حُطِّي لَيْسَ لَفْظُهَا أَبُو جَاد هَوَازّ . ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْحِسَابِ صَارُوا يَجْعَلُونَهَا عَلَامَاتٍ عَلَى مَرَاتِبِ الْعَدَدِ فَيَجْعَلُونَ الْأَلِفَ وَاحِدًا وَالْبَاءَ اثْنَيْنِ وَالْجِيمَ ثَلَاثَةً إلَى الْيَاءِ ثُمَّ يَقُولُونَ الْكَافُ عِشْرُونَ . . . (1) وَآخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْهَنْدَسَةِ وَالْمَنْطِقِ يَجْعَلُونَهَا عَلَامَاتٍ عَلَى الْخُطُوطِ الْمَكْتُوبَةِ أَوْ عَلَى أَلْفَاظِ الْأَقْيِسَةِ الْمُؤَلَّفَةِ كَمَا يَقُولُونَ : كُلُّ أَلِفٍ ب وَكُلُّ ب ج فَكُلُّ أَلِفٍ ج . وَمَثَّلُوا بِهَذِهِ لِكَوْنِهَا أَلْفَاظًا تَدُلُّ عَلَى صُورَةِ الشَّكْلِ وَالْقِيَاسُ لَا يَخْتَصُّ بِمَادَّةِ دُونَ مَادَّةٍ . كَمَا جَعَلَ أَهْلُ التَّصْرِيفِ لَفْظَ " فَعَلَ " تُقَابِلُ الْحُرُوفَ الْأَصْلِيَّةَ ،

وَالزَّائِدَةَ يَنْطِقُونَ بِهَا . وَيَقُولُونَ : وَزْنُ اسْتَخْرَجَ " اسْتَفْعَلَ " وَأَهْلُ الْعَرُوضِ يَزِنُونَ بِأَلْفَاظِ مُؤَلَّفَةٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ يُرَاعُونَ الْوَزْن مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِالْأَصْلِ وَالزَّائِدِ : وَلِهَذَا سُئِلَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ عَنْ وَزْنِ نَكْتَلْ فَقَالَ نَفْعَلْ وَضَحِكَ مِنْهُ أَهْلُ التَّصْرِيفِ . وَوَزْنُهُ عِنْدَهُمْ نفتل فَإِنَّ أَصْلَهُ نَكْتَالُ وَأَصْل نَكْتَالُ : نكتيل . تَحَرَّكَتْ الْيَاءُ وَانْفَتَحَ مَا قَبِلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا ثُمَّ لَمَّا جُزِمَ الْفِعْلَ سَقَطَتْ كَمَا نَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي نَعْتَدِ وَنَفْتَدِ مَنْ اعْتَادَ يَعْتَادُ وَاقْتَادَ الْبَعِيرَ يَقْتَادُهُ . وَنَحْوَ ذَلِكَ فِي نقتيل فَلَمَّا حَذَفُوا الْأَلِفَ الَّتِي تُسَمَّى لَامَ الْكَلِمَةِ صَارَ وَزْنُهَا . . . (1) وَجَعَلَتْ " ثَمَانِيَةً " تَكُونُ مُتَحَرِّكَةً : وَهِيَ الْهَمْزَةُ وَتَكُونُ سَاكِنَةً وَهِيَ حَرْفَانِ عَلَى الِاصْطِلَاحِ الْأَوَّلِ وَحَرْفٌ وَاحِدٌ عَلَى الثَّانِي وَالْأَلِفُ تُقْرَنُ بِالْوَاوِ وَالْيَاءِ لِأَنَّهُنَّ حُرُوفُ الْعِلَّةِ وَلِهَذَا ذُكِرَتْ فِي آخِرِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ وَنَطَقُوا بِأَوَّلِ لَفْظِ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا إلَّا الْأَلِفَ فَلَمْ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَنْطِقُوا بِهَا ابْتِدَاءً فَجَعَلُوا اللَّامَ قَبْلَهَا فَقَالُوا : " لَا " وَاَلَّتِي فِي الْأَوَّلِ هِيَ الْهَمْزَةُ الْمُتَحَرِّكَةُ فَإِنَّ الْهَمْزَةَ فِي أَوَّلِهَا . وَبَعْضُ النَّاسِ يَنْطِقُ بِهَا " لَام أَلِف " وَالصَّوَابُ أَنَّ يُنْطَقَ بِهَا " لَا " وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الْعِلْمَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نَقْلٍ مُصَدَّقٍ وَنَظَرٍ مُحَقَّقٍ . وَأَمَّا النُّقُولُ الضَّعِيفَةُ لَا سِيَّمَا الْمَكْذُوبَةُ فَلَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا . وَكَذَلِكَ النَّظَرِيَّاتُ الْفَاسِدَةُ وَالْعَقْلِيَّاتُ الجهلية الْبَاطِلَةُ لَا يُحْتَجُّ بِهَا .

الثَّانِي أَنْ يُقَالَ : هَذِهِ الْحُرُوفُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ قَدْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا بِأَسْمَاءِ حُرُوفٍ مِثْلِ قَوْلِهِ : { الم } وَقَوْلِهِ { المص } وَقَوْلِهِ { الم } - { طس } - { حم } - { كهيعص } - { حم } - { عسق } - { ن } - { ق } فَهَذَا كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ .
الثَّالِثُ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ إذَا وُجِدَتْ فِي كَلَامِ الْعِبَادِ وَكَذَلِكَ الْأَسْمَاءُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْقُرْآنِ إذَا وُجِدَتْ فِي كَلَامِ الْعِبَادِ مِثْلِ آدَمَ وَنُوحٍ وَمُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيُقَالُ : هَذِهِ الْأَسْمَاءُ وَهَذِهِ الْحُرُوفُ قَدْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا ؛ لَكِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا مُفْرَدَةً . فَإِنَّ الِاسْمَ وَحْدَهُ لَيْسَ بِكَلَامِ ؛ وَلَكِنْ تَكَلَّمَ بِهَا فِي كَلَامِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } وَقَوْلِهِ : { وَإِذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا } إلَى قَوْلِهِ : { رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } وَقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ } وَنَحْوِ ذَلِكَ وَنَحْنُ إذَا تَكَلَّمْنَا بِكَلَامِ ذَكَرْنَا فِيهِ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ فَكَلَامُنَا مَخْلُوقٌ وَحُرُوفُ كَلَامِنَا مَخْلُوقَةٌ كَمَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ لِرَجُلِ : أَلَسْت مَخْلُوقًا ؟ قَالَ : بَلَى قَالَ : أَلَيْسَ كَلَامُك مِنْك ؟ قَالَ : بَلَى قَالَ : أَلَيْسَ كَلَامُك مَخْلُوقًا ؟ قَالَ : بَلَى قَالَ : فَاَللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكَلَامُهُ مِنْهُ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ . فَقَدْ نَصَّ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ كَلَامَ الْعِبَادِ مَخْلُوقٌ وَهُمْ إنَّمَا

يَتَكَلَّمُونَ بِالْأَسْمَاءِ وَالْحُرُوفِ الَّتِي يُوجَدُ نَظِيرُهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهَا بِصَوْتِ نَفْسِهِ وَحُرُوفِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُمَاثِلُ صِفَاتِ الْعِبَادِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا صِفَاتِهِ وَلَا أَفْعَالِهِ وَالصَّوْتُ الَّذِي يُنَادِي بِهِ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالصَّوْتُ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْهُ مُوسَى لَيْسَ كَأَصْوَاتِ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَالصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ هُوَ حُرُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ وَتِلْكَ لَا يُمَاثِلُهَا شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ كَمَا أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ الْقَائِمَ بِذَاتِهِ لَيْسَ مِثْلَ عِلْمِ عِبَادِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُمَاثِلُ الْمَخْلُوقِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ الصِّفَاتِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلَّمَ الْعِبَادَ مَنْ عِلْمِهِ مَا شَاءَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ } وَهْم إذَا عَلَّمَهُمْ اللَّهُ مَا عَلَّمَهُمْ مَنْ عِلْمِهِ فَنَفْسُ عِلْمِهِ الَّذِي اتَّصَفَ بِهِ لَيْسَ مَخْلُوقًا وَنَفْسُ الْعِبَادِ وَصِفَاتُهُمْ مَخْلُوقَةٌ لَكِنْ قَدْ يَنْظُرُ النَّاظِرُ إلَى مُسَمَّى الْعِلْمِ مُطْلَقًا فَلَا يُقَالُ : إنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ مَخْلُوقٌ لِاتِّصَافِ الرَّبِّ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَا يَتَّصِفُ بِهِ الْعَبْدُ مَخْلُوقًا . وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ مَا يُوصَفُ اللَّهُ بِهِ وَيُوصَفُ بِهِ الْعِبَادُ يُوصَفُ اللَّهُ بِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ وَيُوصَفُ بِهِ الْعِبَادُ بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنْ ذَلِكَ ؛ مِثْلُ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ فَإِنَّ اللَّهَ لَهُ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ وَكَلَامٌ . فَكَلَامُهُ يَشْتَمِلُ عَلَى حُرُوفٍ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ وَالْعَبْدُ لَهُ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ وَكَلَامٌ ،

وَكَلَامُ الْعَبْدِ يَشْتَمِلُ عَلَى حُرُوفٍ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ . فَهَذِهِ الصِّفَاتُ لَهَا ثَلَاثُ اعْتِبَارَاتٍ : تَارَةً تُعْتَبَرُ مُضَافَةً إلَى الرَّبِّ . وَتَارَةً تُعْتَبَرُ مُضَافَةً إلَى الْعَبْدِ وَتَارَةً تُعْتَبَرُ مُطْلَقَةً لَا تَخْتَصُّ بِالرَّبِّ وَلَا بِالْعَبْدِ . فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : حَيَاةُ اللَّهِ وَعِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَةُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا يُمَاثِلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَإِذَا قَالَ عِلْمُ الْعَبْدِ وَقُدْرَةُ الْعَبْدِ وَكَلَامُ الْعَبْدِ فَهَذَا كُلُّهُ مَخْلُوقٌ وَلَا يُمَاثِلُ صِفَاتِ الرَّبِّ . وَإِذَا قَالَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْكَلَامُ فَهَذَا مُجْمَلٌ مُطْلَقٌ لَا يُقَالُ عَلَيْهِ كُلِّهِ إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَلَا إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوق بَلْ مَا اتَّصَفَ بِهِ الرَّبُّ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَا اتَّصَفَ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مَخْلُوقٌ فَالصِّفَةُ تَتْبَعُ الْمَوْصُوفَ . فَإِنْ كَانَ الْمَوْصُوفُ هُوَ الْخَالِقَ فَصِفَاتُهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَإِنْ كَانَ الْمَوْصُوفُ هُوَ الْعَبْدَ الْمَخْلُوقَ . فَصِفَاتُهُ مَخْلُوقَةٌ . ثُمَّ إذَا قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فَالْقُرْآنُ فِي نَفْسِهِ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِنْ كَانَ حَرَكَاتُ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتُهُمْ مَخْلُوقَةً . وَلَوْ قَالَ الْجُنُبُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } يَنْوِي بِهِ الْقُرْآنَ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ قُرْآنًا وَلَوْ قَالَهُ يَنْوِي بِهِ حَمْدَ اللَّهِ لَا يَقْصِدُ بِهِ الْقِرَاءَةَ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا وَجَاز لَهُ ذَلِكَ . وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ

الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . فَأَخْبَرَ أَنَّهَا أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ وَقَالَ هِيَ مِنْ الْقُرْآنِ فَهِيَ مِنْ الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ وَلَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ وَلَوْ قَالَ الْقَائِلُ : { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ } وَمَقْصُودُهُ الْقُرْآنُ كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ اللَّهِ وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ قَصَدَ مَعَ ذَلِكَ تَنْبِيهَ غَيْرِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . وَلَوْ قَالَ لِرَجُلِ اسْمُهُ يَحْيَى وَبِحَضْرَتِهِ كِتَابٌ : يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ لَكَانَ هَذَا مَخْلُوقًا ؛ لِأَنَّ لَفْظَ يَحْيَى هنا مُرَادٌ بِهِ ذَلِكَ الشَّخْصُ وَبِالْكِتَابِ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَيْسَ مُرَادًا بِهِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ : { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ } وَالْكَلَامُ كَلَامُ الْمَخْلُوقِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي مُسَمَّى " الْكَلَامِ " فِي الْأَصْلِ فَقِيلَ : هُوَ اسْمُ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْمَعْنَى وَقِيلَ : الْمَعْنَى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ وَقِيلَ : لِكُلِّ مِنْهُمَا بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ وَقِيلَ : بَلْ هُوَ اسْمٌ عَامٌّ لَهُمَا جَمِيعًا يَتَنَاوَلُهُمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَإِنْ كَانَ مَعَ التَّقْيِيدِ يُرَادُ بِهِ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً . هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَا يُعْرَفُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ . وَهَذَا كَمَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي مُسَمَّى " الْإِنْسَانِ " هَلْ هُوَ الرُّوحُ فَقَطْ أَوْ الْجَسَدُ فَقَطْ ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ اسْمٌ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ جَمِيعًا وَإِنْ

كَانَ مَعَ الْقَرِينَةِ قَدْ يُرَادُ بِهِ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً فَتَنَازُعُهُمْ فِي مُسَمَّى النُّطْقِ كَتَنَازُعِهِمْ فِي مُسَمَّى النَّاطِقِ . فَمَنْ سَمَّى شَخْصًا مُحَمَّدًا وَإِبْرَاهِيمَ وَقَالَ : جَاءَ مُحَمَّدٌ وَجَاءَ إبْرَاهِيمُ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُحَمَّدًا وَإِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْقُرْآنِ . وَلَوْ قَالَ : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ . يَعْنِي بِهِ خَاتَمَ الرُّسُلِ وَخَلِيلَ الرَّحْمَنِ لَكَانَ قَدْ تَكَلَّمَ بِمُحَمَّدِ وَإِبْرَاهِيمَ اللَّذَيْنِ فِي الْقُرْآنِ لَكِنْ قَدْ تَكَلَّمَ بِالِاسْمِ وَأَلَّفَهُ كَلَامًا فَهُوَ كَلَامُهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا فِي " آدَابِ الْخَلَاءِ " أَنَّهُ لَا يَسْتَصْحِبُ مَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ نَزَعَ خَاتَمَهُ . وَكَانَ خَاتَمُهُ مَكْتُوبًا عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } مُحَمَّدٌ سَطْرٌ رَسُولٌ سَطْرٌ اللَّهُ سَطْرٌ . وَلَمْ يَمْنَعْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَا يَكُونُ فِيهِ كَلَامُ الْعِبَادِ وَحُرُوفُ الْهِجَاءِ مِثْلُ وَرَقِ الْحِسَابِ الَّذِي يَكْتُبُ فِيهِ أَهْلُ الدِّيوَانِ الْحِسَابَ وَمِثْلُ الْأَوْرَاقِ الَّتِي يَكْتُبُ فِيهَا الْبَاعَةُ مَا يَبِيعُونَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَفِي السِّيرَةِ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَالَحَ غطفان عَلَى نِصْفِ تَمْرِ الْمَدِينَةِ أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ لَهُ : أَهَذَا شَيْءٌ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَسَمْعًا وَطَاعَةً أَمْ شَيْءٌ تَفْعَلُهُ لِمَصْلَحَتِنَا ؟ فَبَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِوَحْيٍ بَلْ فَعَلَهُ بِاجْتِهَادِهِ فَقَالَ : لَقَدْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ

وَمَا كَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْهَا تَمْرَةً إلَّا بِقِرَى أَوْ بِشِرَاءِ فَلَمَّا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْكُلُوا تَمْرَنَا لَا يَأْكُلُونَ تَمْرَةً وَاحِدَةً وَبَصَقَ سَعْدٌ فِي الصَّحِيفَةِ وَقَطَّعَهَا } فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ هَذِهِ حُرُوفٌ فَلَا يَجُوزُ إهَانَتُهَا وَالْبُصَاقُ فِيهَا . وَأَيْضًا فَقَدْ كَرِهَ السَّلَفُ مَحْوَ الْقُرْآنِ بِالرِّجْلِ وَلَمْ يَكْرَهُوا مَحْوُ مَا فِيهِ كَلَامُ الْآدَمِيِّينَ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ الْحُرُوفَ قَدِيمَةٌ أَوْ حُرُوفُ الْمُعْجَمِ قَدِيمَةٌ فَإِنْ أَرَادَ جِنْسَهَا فَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنْ أَرَادَ الْحَرْفَ الْمُعَيَّنَ فَقَدْ أَخْطَأَ فَإِنَّ لَهُ مَبْدَأٌ وَمُنْتَهًى وَهُوَ مَسْبُوقٌ بِغَيْرِهِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إلَّا مُحْدَثًا . وَأَيْضًا فَلَفْظُ الْحُرُوفِ مُجْمَلٌ يُرَادُ بِالْحُرُوفِ الْحُرُوفُ الْمَنْطُوقَةُ الْمَسْمُوعَةُ الَّتِي هِيَ مَبَانِي الْكَلَامِ وَيُرَادُ بِهَا الْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ وَيُرَادُ بِهَا الْحُرُوفُ الْمُتَخَيَّلَةُ فِي النَّفْسِ وَالصَّوْتِ لَا يَكُونُ كَلَامًا إلَّا بِالْحُرُوفِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ . وَأَمَّا الْحُرُوفُ فَهَلْ تَكُونُ كَلَامًا بِدُونِ الصَّوْتِ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ . وَالْحَرْفُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الصَّوْتُ الْمُقَطَّعُ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نِهَايَةُ الصَّوْتِ وَحْدَهُ وَقَدْ يُرَادُ بِالْحُرُوفِ الْمِدَادُ وَقَدْ يُرَادُ بِالْحُرُوفِ شَكْلُ الْمِدَادِ فَالْحُرُوفُ الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَإِذَا كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ قِيلَ كَلَامُ اللَّهِ الْمَكْتُوبُ فِي الْمُصْحَفِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَمَّا نَفْسُ أَصْوَاتُ الْعِبَادِ فَمَخْلُوقَةٌ وَالْمِدَادُ مَخْلُوقٌ وَشَكْلُ الْمِدَادِ مَخْلُوقٌ فَالْمِدَادُ مَخْلُوقٌ بِمَادَّتِهِ وَصُورَتِهِ وَكَلَامُ اللَّهِ الْمَكْتُوبُ بِالْمِدَادِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَمِنْ كَلَامِ اللَّهِ

الْحُرُوفُ الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا فَإِذَا كُتِبَتْ بِالْمِدَادِ لَمْ تَكُنْ مَخْلُوقَةً وَكَانَ الْمِدَادُ مَخْلُوقًا . وَأَشْكَالُ الْحُرُوفِ الْمَكْتُوبَةِ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهَا اصْطِلَاحُ الْأُمَمِ .
وَالْخَطُّ الْعَرَبِيُّ قَدْ قِيلَ إنَّ مَبْدَأَهُ كَانَ مِنْ الْأَنْبَارِ وَمِنْهَا انْتَقَلَ إلَى مَكَّةَ وَغَيْرِهَا وَالْخَطُّ الْعَرَبِيُّ تَخْتَلِفُ صُورَتُهُ : الْعَرَبِيُّ الْقَدِيمُ فِيهِ تَكَوُّفٌ وَقَدْ اصْطَلَحَ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى تَغْيِيرِ بَعْضِ صُوَرِهِ وَأَهْلُ الْمَغْرِب لَهُمْ اصْطِلَاحٌ ثَالِثٌ حَتَّى فِي نَقْطِ الْحُرُوفِ وَتَرْتِيبِهَا وَكَلَامُ اللَّهِ الْمَكْتُوبُ بِهَذِهِ الْخُطُوطِ كَالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ هُوَ فِي نَفْسِهِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْخُطُوطِ الَّتِي يُكْتَبُ بِهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَالْحَرْفُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِ فِي كَلَامِ الْخَالِقِ أَوْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِ ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ هُوَ مِنْ حَيْثُ هُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ فِي كَلَامِ الْعِبَادِ وَإِنْ قُلْتُمْ مَخْلُوقٌ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا فِي كَلَامِ اللَّهِ ؟ قِيلَ : قَوْلُ الْقَائِلِ الْحَرْفُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ كَقَوْلِهِ الْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَالْعِلْمُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَالْقُدْرَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ وَالْوُجُودُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ وَغَيْرَهَا إذَا أُخِذَتْ مُجَرَّدَةً مُطْلَقَةً غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ وَلَا مُشَخَّصَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقِيقَةٌ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْأَذْهَانِ

إلَّا شَيْءٌ مُعَيَّنٌ فَلَيْسَ ثَمَّ وُجُودٌ إلَّا وُجُودُ الْخَالِقِ أَوْ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ وَوُجُودُ كُلِّ مَخْلُوقٍ مُخْتَصٌّ بِهِ وَإِنْ كَانَ اسْمُ الْوُجُودِ عَامًّا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ اسْمٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ أَفْرَادَ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا عِلْمُ الْخَالِقِ وَعِلْمُ الْمَخْلُوقِ وَعِلْمُ كُلِّ مَخْلُوقٍ مُخْتَصٌّ بِهِ قَائِمٌ بِهِ وَاسْمُ الْكَلَامِ وَالْحُرُوفِ يَعُمُّ كُلَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْكَلَامِ وَالْحُرُوفِ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا كَلَامُ الْخَالِقِ وَكَلَامُ الْمَخْلُوقِينَ . وَكَلَامُ كُلِّ مَخْلُوقٍ مُخْتَصٌّ بِهِ وَاسْمُ الْكَلَامِ يَعُمُّ كُلَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا اللَّفْظُ . وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا الْحُرُوفُ الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا الْمَوْجُودَةُ فِي كَلَامِ الْخَالِقِ وَالْحُرُوفُ الْمَوْجُودَةُ فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ . فَإِذَا قِيلَ : إنَّ عِلْمَ الرَّبِّ وَقُدْرَتَهُ بِكَلَامِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَحُرُوفَ كَلَامِهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ الْعَبْدِ وَقُدْرَتُهُ وَكَلَامُهُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَحُرُوفُ كَلَامِهِ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ . وَأَيْضًا فَلَفْظُ الْحَرْفِ يَتَنَاوَلُ الْحَرْفَ الْمَنْطُوقَ وَالْحَرْفَ الْمَكْتُوبَ وَإِذَا قِيلَ إنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِالْحُرُوفِ الْمَنْطُوقَةِ كَمَا تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَبِقَوْلِهِ : الم - وَحُمَّ - وَطسم - وَطَسَ - وَيس - وَقِ - وَنِّ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا كَلَامُهُ وَكَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِذَا كُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ كَانَ مَا كُتِبَ مِنْ كَلَامِ الرَّبِّ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَإِنْ كَانَ الْمِدَادُ وَشَكْلُهُ مَخْلُوقًا . وَ " أَيْضًا " فَإِذَا قَرَأَ النَّاسُ كَلَامَ اللَّهِ فَالْكَلَامُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ إذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِهِ وَإِذَا قَرَأَهُ الْمُبَلِّغُ لَمْ يَخْرَجْ عَنْ أَنْ يَكُونَ

كَلَامَ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ كَلَامُ مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا أَمْرًا يَأْمُرُ بِهِ أَوْ خَبَرًا يُخْبِرُهُ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ الْمُبَلِّغِ لَهُ عَنْ غَيْرِهِ ؛ إذْ لَيْسَ عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ . وَإِذَا قَرَأَهُ الْمُبَلِّغُ فَقَدْ يُشَارُ إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ فَيُقَالُ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا بَلَغَهُ بِهِ الْعِبَادُ مِنْ صِفَاتِهِمْ وَقَدْ يُشَارُ إلَى نَفْسِ صِفَةِ الْعَبْدِ كَحَرَكَتِهِ وَحَيَاتِهِ وَقَدْ يُشَارُ إلَيْهِمَا فَالْمُشَارُ إلَيْهِ الْأَوَّلُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْمُشَارُ إلَيْهِ الثَّانِي مَخْلُوقٌ وَالْمُشَارُ إلَيْهِ الثَّالِثُ فَمِنْهُ مَخْلُوقٌ وَمِنْهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ نَظِيرِ هَذَا هُوَ نَظِيرُ صِفَةِ الْعَبْدِ لَا نَظِيرُ صِفَةِ الرَّبِّ أَبَدًا . وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ الْقَافُ فِي قَوْلِهِ { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } كَالْقَافِ فِي قَوْلِهِ : قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ قِيلَ : مَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ وَسُمِعَ مِنْهُ لَا يُمَاثِلُ صِفَةَ الْمَخْلُوقِينَ وَلَكِنْ إذَا بَلَّغْنَا كَلَامَ اللَّهِ فَإِنَّمَا بَلَّغْنَاهُ بِصِفَاتِنَا وَصِفَاتُنَا مَخْلُوقَةٌ وَالْمَخْلُوقُ يُمَاثِلُ الْمَخْلُوقَ . وَفِي هَذَا جَوَابٌ لِلطَّائِفَتَيْنِ لِمَنْ قَاسَ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ بِصِفَةِ الْخَالِقِ فَجَعَلَهَا غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةَ أَشْبَاهُ الْيَهُودِ وَالْحُلُولِيَّةُ الْمُمَثِّلَةُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131