الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

أَبِي يَعْلَى ؛ وَالشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ ؛ وَأَبِي الْخَطَّابِ ؛ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمْ : فَمَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ . وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِمَا رَوَاهُ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ يُونُسَ بْنِ يُوسُفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مَرَّ بِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بلتعة وَهُوَ يَبِيعُ زَبِيبًا لَهُ بِالسُّوقِ ؛ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : إمَّا أَنْ تَزِيدَ فِي السِّعْرِ وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ مِنْ سُوقِنَا . وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُوهُ بِمَا رَوَاهُ فَقَالَ : حَدَّثَنَا الدراوردي عَنْ دَاوُد بْنِ صَالِحٍ التَّمَّارِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عُمَرَ : أَنَّهُ مَرَّ بِحَاطِبِ بِسُوقِ الْمُصَلَّيْ وَبَيْنَ يَدَيْهِ غِرَارَتَانِ فِيهِمَا زَبِيبٌ ؛ فَسَأَلَهُ عَنْ سِعْرِهِمَا ؟ فَسَعَّرَ لَهُ مُدَّيْنِ لِكُلِّ دِرْهَمٍ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : قَدْ حَدَثَتْ بِعِيرِ مُقْبِلَةٍ مِنْ الطَّائِفِ تَحْمِلُ زَبِيبًا وَهُمْ يَعْتَبِرُونَ بِسِعْرَك فَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ السِّعْرَ وَإِمَّا أَنْ تُدْخِلَ زَبِيبَك الْبَيْتَ فَتَبِيعُهُ كَيْفَ شِئْت فَلَمَّا رَجَعَ عُمَرُ حَاسَبَ نَفْسَهُ ؛ ثُمَّ أَتَى حَاطِبًا فِي دَارِهِ فَقَالَ : إنَّ الَّذِي قُلْت لَك لَيْسَ بِعَزْمَةٍ مِنِّي وَلَا قَضَاءٍ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أَرَدْت بِهِ الْخَيْرَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ فَحَيْثُ شِئْت فَبِعْ وَكَيْفَ شِئْت فَبِعْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهَذَا الْحَدِيثُ مُقْتَضَاهُ لَيْسَ بِخِلَافِ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَلَكِنَّهُ رَوَى بَعْضَ الْحَدِيثِ أَوْ رَوَاهُ عَنْهُ مَنْ رَوَاهُ ؛ وَهَذَا أَتَى بِأَوَّلِ الْحَدِيثِ وَآخِرِهِ ؛ وَبِهِ أَقُولُ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مُسَلَّطُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَأْخُذَهَا أَوْ شَيْئًا مِنْهَا بِغَيْرِ طِيبِ

أَنْفُسِهِمْ إلَّا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَلْزَمُهُمْ وَهَذَا لَيْسَ مِنْهَا . قُلْت : وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الباجي : الَّذِي يُؤْمَرُ مَنْ حَطَّ عَنْهُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ هُوَ السِّعْرُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ النَّاسِ ؛ فَإِذَا انْفَرَدَ مِنْهُمْ الْوَاحِدُ وَالْعَدَدُ الْيَسِيرُ بِحَطِّ السِّعْرِ أُمِرُوا بِاللِّحَاقِ بِسِعْرِ الْجُمْهُورِ ؛ لِأَنَّ الْمَرَاعِيَ حَالُ الْجُمْهُورِ وَبِهِ تَقُومُ الْمَبِيعَاتُ . وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : لَا يُقَامُ النَّاسُ لِخَمْسَةِ . قَالَ : وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ فِي ذَلِكَ إلَى قَدْرِ الْأَسْوَاقِ ؛ وَهَلْ يُقَامُ مَنْ زَادَ فِي السُّوقِ - أَيْ : فِي قَدْرِ الْمَبِيعِ - بِالدِّرْهَمِ مَثَلًا كَمَا يُقَامُ مَنْ نَقَصَ مِنْهُ ؟ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ ابْنُ الْقَصَّارِ الْمَالِكِيُّ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِ مَالِكٍ : وَلَكِنْ مَنْ حَطَّ سِعْرًا . فَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ : أَرَادَ مَنْ بَاعَ خَمْسَةً بِدِرْهَمِ وَالنَّاسُ يَبِيعُونَ ثَمَانِيَةً . وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمِصْرِيِّينَ : أَرَادَ مَنْ بَاعَ ثَمَانِيَةً وَالنَّاسُ يَبِيعُونَ خَمْسَةً . قَالَ : وَعِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا مَمْنُوعَانِ ؛ لِأَنَّ مَنْ بَاعَ ثَمَانِيَةً وَالنَّاسُ يَبِيعُونَ خَمْسَةً أَفْسَدَ عَلَى أَهْلِ السُّوقِ بَيْعَهُمْ ؛ فَرُبَّمَا أَدَّى إلَى الشَّغَبِ وَالْخُصُومَةِ ؛ فَفِي مَنْعِ الْجَمِيعِ مَصْلَحَةٌ . قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ : وَلَا خِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ أَهْلِ السُّوقِ . وَأَمَّا الْجَالِبُ فَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ : لَا يُمْنَعُ الْجَالِبُ أَنْ يَبِيعَ فِي السُّوقِ دُونَ النَّاسِ . وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : مَا عَدَا الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ إلَّا بِسِعْرِ النَّاسِ وَإِلَّا رَفَعُوا قَالَ : وَأَمَّا جَالِبُ الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ فَيَبِيعُ كَيْفَ شَاءَ ؛

إلَّا أَنَّ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ حُكْمَ أَهْلِ السُّوقِ ؛ إنْ أَرْخَصَ بَعْضُهُمْ تَرَكُوا وَإِنْ كَثُرَ الْمُرَخِّصُ قِيلَ لِمَنْ بَقِيَ : إمَّا أَنْ تَبِيعُوا كَبَيْعِهِمْ وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعُوا . قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : وَهَذَا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ : مَأْكُولًا أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ ؛ دُونَ مَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يُمْكِنُ تَسْعِيرُهُ ؛ لِعَدَمِ التَّمَاثُلِ فِيهِ . قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ : يُرِيدُ إذَا كَانَ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ مُتَسَاوِيًا فَإِذَا اخْتَلَفَ لَمْ يُؤْمَرْ بَائِعُ الْجَيِّدِ أَنْ يَبِيعَهُ بِسِعْرِ الدُّونِ . قُلْت : وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ فِي التَّسْعِيرِ : أَنْ لَا يُحَدَّ لِأَهْلِ السُّوقِ حَدٌّ لَا يَتَجَاوَزُونَهُ مَعَ قِيَامِ النَّاسِ بِالْوَاجِبِ فَهَذَا مَنَعَ مِنْهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ حَتَّى مَالِكٌ نَفْسُهُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَنُقِلَ الْمَنْعُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسَالِمٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَذَكَرَ أَبُو الْوَلِيدِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَرَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ . وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُمْ أَرْخَصُوا فِيهِ ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ أَلْفَاظَهُمْ . وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ ؛ وَصَاحِبِ السُّوقِ يُسَعِّرُ عَلَى الْجَزَّارِينَ : لَحْمَ الضَّأْنِ ثُلُثَ رِطْلٍ ؛ وَلَحْمَ الْإِبِلِ نِصْفَ رِطْلٍ ؛ وَإِلَّا خَرَجُوا مِنْ السُّوقِ . قَالَ : إذَا سَعَّرَ عَلَيْهِمْ قَدْرَ مَا يَرَى مِنْ شِرَائِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ يَقُومُوا مِنْ السُّوقِ . وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا مَصْلَحَةٌ لِلنَّاسِ بِالْمَنْعِ مِنْ إغْلَاءِ

السِّعْرِ عَلَيْهِمْ وَلَا فَسَادَ عَلَيْهِمْ . قَالُوا : وَلَا يُجْبَرُ النَّاسُ عَلَى الْبَيْعِ إنَّمَا يُمْنَعُونَ مِنْ الْبَيْعِ بِغَيْرِ السِّعْرِ الَّذِي يَحُدُّهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ ؛ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي ؛ وَلَا يَمْنَعُ الْبَائِعُ رِبْحًا وَلَا يَسُوغُ لَهُ مِنْهُ مَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ . وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَاحْتَجُّوا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا فَقَالَ : بَلْ اُدْعُوا اللَّهَ ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا فَقَالَ : بَلْ اللَّهُ يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ ؛ وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَتْ لِأَحَدِ عِنْدِي مَظْلِمَةٌ } " . قَالُوا : وَلِأَنَّ إجْبَارَ النَّاسِ عَلَى بَيْعٍ لَا يَجِبُ أَوْ مَنْعِهِمْ مِمَّا يُبَاحُ شَرْعًا : ظُلْمٌ لَهُمْ وَالظُّلْمُ حَرَامٌ . وَأَمَّا صِفَةُ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ جَوَّزَهُ : فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْمَعَ وُجُوهَ أَهْلِ سُوقِ ذَلِكَ الشَّيْءِ ؛ وَيَحْضُرُ غَيْرُهُمْ اسْتِظْهَارًا عَلَى صِدْقِهِمْ ؛ فَيَسْأَلُهُمْ : كَيْفَ يَشْتَرُونَ ؟ وَكَيْفَ يَبِيعُونَ ؟ فَيُنَازِلُهُمْ إلَى مَا فِيهِ لَهُمْ وَلِلْعَامَّةِ سَدَادٌ حَتَّى يَرْضَوْا وَلَا يُجْبَرُونَ عَلَى التَّسْعِيرِ ؛ وَلَكِنْ عَنْ رِضًا . قَالَ : وَعَلَى هَذَا أَجَازَهُ مَنْ أَجَازَهُ . قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ : وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ بِهَذَا يَتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَةِ مَصَالِحِ الْبَاعَةِ وَالْمُشْتَرِينَ وَيَجْعَلُ لِلْبَاعَةِ فِي

ذَلِكَ مِنْ الرِّبْحِ مَا يَقُومُ بِهِمْ ؛ وَلَا يَكُونُ فِيهِ إجْحَافٌ بِالنَّاسِ وَإِذَا سَعَّرَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ رِضًا بِمَا لَا رِبْحَ لَهُمْ فِيهِ أَدَّى ذَلِكَ إلَى فَسَادِ الْأَسْعَارِ وَإِخْفَاءِ الْأَقْوَاتِ وَإِتْلَافِ أَمْوَالِ النَّاسِ . قُلْت : فَهَذَا الَّذِي تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ .
وَأَمَّا إذَا امْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ بَيْعِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ بَيْعُهُ فَهُنَا يُؤْمَرُونَ بِالْوَاجِبِ وَيُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَبِيعَ إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْهُ : فَهُنَا يُؤْمَرُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؛ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ بِلَا رَيْبٍ . وَمَنْ مَنَعَ التَّسْعِيرَ مُطْلَقًا مُحْتَجًّا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ وَأَنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ } " فَقَدْ غَلِطَ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ قَضِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ لَيْسَتْ لَفْظًا عَامًّا وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّ أَحَدًا امْتَنَعَ مِنْ بَيْعٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَوْ عَمَلٍ يَجِبُ عَلَيْهِ ؛ أَوْ طَلَبَ فِي ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ عِوَضِ الْمِثْلِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا رَغِبَ النَّاسُ فِي الْمُزَايَدَةِ فِيهِ : فَإِذَا كَانَ صَاحِبُهُ قَدْ بَذَلَهُ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَلَكِنَّ النَّاسَ تَزَايَدُوا فِيهِ فَهُنَا لَا يُسَعَّرُ عَلَيْهِمْ وَالْمَدِينَةُ كَمَا ذَكَرْنَا إنَّمَا كَانَ الطَّعَامُ الَّذِي يُبَاعُ فِيهَا غَالِبًا مِنْ الْجَلَبِ ؛ وَقَدْ يُبَاعُ فِيهَا شَيْءٌ يُزْرَعُ فِيهَا ؛ وَإِنَّمَا كَانَ يُزْرَعُ فِيهَا

الشَّعِيرُ ؛ فَلَمْ يَكُنْ الْبَائِعُونَ وَلَا الْمُشْتَرُونَ نَاسًا مُعَيَّنِينَ ؛ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَحَدٌ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَى عَيْنِهِ أَوْ إلَى مَالِهِ ؛ لِيُجْبَرَ عَلَى عَمَلٍ أَوْ عَلَى بَيْعٍ بَلْ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كُلُّهُمْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْبَالِغِينَ الْقَادِرِينَ عَلَى الْجِهَادِ إلَّا مَنْ يَخْرُجُ فِي الْغَزْوِ وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَغْزُو بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ : أَوْ بِمَا يُعْطَاهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ أَوْ الْفَيْءِ ؛ أَوْ مَا يُجَهِّزُهُ بِهِ غَيْرُهُ وَكَانَ إكْرَاهُ الْبَائِعِينَ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعُوا سِلَعَهُمْ إلَّا بِثَمَنِ مُعَيَّنٍ إكْرَاهًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ إكْرَاهُهُمْ عَلَى أَصْلِ الْبَيْعِ فَإِكْرَاهُهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ الثَّمَنِ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ . وَأَمَّا مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ فَكَاَلَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّرَ لَهُ الثَّمَنَ الَّذِي يَبِيعُ بِهِ وَيُسَعِّرُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ ؛ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ } " فَهَذَا لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْلِكَ شَرِيكُهُ عِتْقَ نَصِيبِهِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْهُ لِيُكْمِلَ الْحُرِّيَّةَ فِي الْعَبْدِ قَدْرَ عِوَضِهِ بِأَنْ يُقَوِّمَ جَمِيعَ الْعَبْدِ قِيمَةَ عَدْلٍ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ ؛ وَيُعْطِي قِسْطَهُ مِنْ الْقِيمَةِ ؛ فَإِنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ لَا فِي قِيمَةِ النِّصْفِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَؤُلَاءِ : كَلُّ مَا لَا يُمْكِنُ قَسْمُهُ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُقْسَمُ ثَمَنُهُ إذَا طَلَبَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ ذَلِكَ ؛

وَيُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْبَيْعِ وَحَكَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ ذَلِكَ إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ وَلَا يُمْكِنُ إعْطَاؤُهُ ذَلِكَ إلَّا بِبَيْعِ الْجَمِيعِ فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ يُوجِبُ إخْرَاجَ الشَّيْءِ مِنْ مِلْكِ مَالِكِهِ بِعِوَضِ الْمِثْلِ لِحَاجَةِ الشَّرِيكِ إلَى إعْتَاقِ ذَلِكَ ؛ وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ الْمُطَالَبَةُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ : فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَتْ حَاجَتُهُ أَعْظَمَ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى إعْتَاقِ ذَلِكَ النَّصِيبِ ؟ مِثْلَ حَاجَةِ الْمُضْطَرِّ إلَى الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَقْوِيمُ الْجَمِيعِ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ هُوَ حَقِيقَةُ التَّسْعِيرِ . وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَنْزِعَ النِّصْفَ الْمَشْفُوعَ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي بِمِثْلِ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ ؛ لَا بِزِيَادَةِ ؛ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ ضَرَرِ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُقَاسَمَةِ وَهَذَا ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ وَإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا إلْزَامٌ لَهُ بِأَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ الثَّمَنَ لَا بِزِيَادَةِ ؛ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ التَّكْمِيلِ لِوَاحِدِ : فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ لِلشَّرِيكِ بِمَا شَاءَ ؟ بَلْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ الشَّرِيكِ زِيَادَةً عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ بِهِ وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ نَوْعِ التَّوْلِيَةِ ؛ فَإِنَّ التَّوْلِيَةَ : أَنْ يُعْطِيَ الْمُشْتَرِيَ السِّلْعَةَ لِغَيْرِهِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ الْبَيْعِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ ؛ وَمَعَ هَذَا فَلَا يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ لِأَجْنَبِيٍّ غَيْرِ الشَّرِيكِ إلَّا بِمَا شَاءَ ؛ إذْ لَا حَاجَةَ بِذَاكَ إلَى

شِرَائِهِ كَحَاجَةِ الشَّرِيكِ . فَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ قَوْمًا اُضْطُرُّوا إلَى سُكْنَى فِي بَيْتِ إنْسَانٍ إذَا لَمْ يَجِدُوا مَكَانًا يَأْوُونَ إلَيْهِ إلَّا ذَلِكَ الْبَيْتَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَكِّنَهُمْ . وَكَذَلِكَ لَوْ احْتَاجُوا إلَى أَنْ يُعِيرَهُمْ ثِيَابًا يَسْتَدْفِئُونَ بِهَا مِنْ الْبَرْدِ ؛ أَوْ إلَى آلَاتٍ يَطْبُخُونَ بِهَا ؛ أَوْ يَبْنُونَ أَوْ يَسْقُونَ : يَبْذُلُ هَذَا مَجَّانًا . وَإِذَا احْتَاجُوا إلَى أَنْ يُعِيرَهُمْ دَلْوًا يَسْتَقُونَ بِهِ ؛ أَوْ قِدْرًا يَطْبُخُونَ فِيهَا ؛ أَوْ فَأْسًا يَحْفِرُونَ بِهِ : فَهَلْ عَلَيْهِ بَذْلُهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ لَا بِزِيَادَةِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ بَذْلِ ذَلِكَ مَجَّانًا إذَا كَانَ صَاحِبُهَا مُسْتَغْنِيًا عَنْ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ وَعِوَضِهَا ؛ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ } { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } وَفِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : كُنَّا نَعُدُّ ( الْمَاعُونَ عَارِيَةَ الدَّلْوِ وَالْقِدْرِ وَالْفَأْسِ . وَفَى الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْخَيْلَ قَالَ : " { هِيَ مَا لِرَجُلِ أَجْرٌ وَلِرَجُلِ سِتْرٌ وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ . فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا ؛ وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا } " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مِنْ حَقِّ الْإِبِلِ إعَارَةُ دَلْوِهَا وَإِضْرَابُ فَحْلِهَا } " وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ

قَالَ : " { لَا يَمْنَعَنَّ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ } " وَإِيجَابُ بَذْلِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ مَذْهَبُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ .
وَلَوْ احْتَاجَ إلَى إجْرَاءِ مَاءٍ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ : فَهَلْ يُجْبَرُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَالْأَخْبَارُ بِذَلِكَ مَأْثُورَةٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ لِلْمَانِعِ : وَاَللَّهِ لَنُجْرِيَنَّهَا وَلَوْ عَلَى بَطْنِك . وَمَذْهَبُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ : أَنَّ زَكَاةَ الْحُلِيِّ عَارِيَتُهُ . وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالْمَنَافِعُ الَّتِي يَجِبُ بَذْلُهَا نَوْعَانِ : مِنْهَا مَا هُوَ حَقُّ الْمَالِ ؛ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَعَارِيَةِ الْحُلِيِّ . وَمِنْهَا مَا يَجِبُ لِحَاجَةِ النَّاسِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ بَذْلَ مَنَافِعِ الْبَدَنِ يَجِبُ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يَجِبُ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ ؛ وَإِفْتَاءُ النَّاسِ ؛ وَأَدَاءُ الشَّهَادَةِ ؛ وَالْحُكْمُ بَيْنَهُمْ ؛ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ ؛ وَالْجِهَادُ ؛ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِ الْأَبْدَانِ ؛ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ بَذْلِ مَنَافِعِ الْأَمْوَالِ لِلْمُحْتَاجِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } وَقَالَ : { وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ } . وَلِلْفُقَهَاءِ فِي أَخْذِ الْجُعْلِ عَلَى الشَّهَادَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ ؛ هِيَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا .
وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ .

وَالثَّالِثُ يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ .
وَالرَّابِعُ يَجُوزُ . فَإِنْ أَخَذَ أَجْرًا عِنْدَ الْعَمَلِ لَمْ يَأْخُذْ عِنْدَ الْأَدَاءِ . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لِبَسْطِهَا مَوَاضِعُ أُخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُ إذَا كَانَتْ السُّنَّةُ قَدْ مَضَتْ فِي مَوَاضِعَ بِأَنَّ عَلَى الْمَالِكِ أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ بِثَمَنِ مُقَدَّرٍ : إمَّا بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَإِمَّا بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ : لَمْ يَحْرُمْ مُطْلَقًا تَقْدِيرُ الثَّمَنِ . ثُمَّ إنَّ مَا قَدَّرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاءِ نَصِيبِ شَرِيكِ الْمُعْتِقِ هُوَ لِأَجْلِ تَكْمِيلِ الْحُرِّيَّةِ ؛ وَذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ وَمَا احْتَاجَ إلَيْهِ النَّاسُ حَاجَةً عَامَّةً فَالْحَقُّ فِيهِ لِلَّهِ ؛ وَلِهَذَا يَجْعَلُ الْعُلَمَاءُ هَذِهِ حُقُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى وَحُدُودًا لِلَّهِ ؛ بِخِلَافِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَحُدُودِهِمْ وَذَلِكَ مِثْلُ حُقُوقِ الْمَسَاجِدِ وَمَالِ الْفَيْءِ ؛ وَالصَّدَقَاتِ وَالْوَقْفِ عَلَى أَهْلِ الْحَاجَاتِ وَالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمِثْلِ حَدِّ الْمُحَارَبَةِ وَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَقْتُلُ شَخْصًا لِأَجْلِ الْمَالِ يُقْتَلُ حَتْمًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلَيْسَ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ الْعَفُوُّ عَنْهُ ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَقْتُلُ شَخْصًا لِغَرَضِ خَاصٍّ ؛ مِثْلَ خُصُومَةٍ بَيْنَهُمَا ؛ فَإِنَّ هَذَا حَقٌّ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ ؛ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا عَفَوْا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَحَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ إلَى الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ : لَيْسَ الْحَقُّ فِيهَا لِوَاحِدِ بِعَيْنِهِ ؛ فَتَقْدِيرُ الثَّمَنِ فِيهَا بِثَمَنِ الْمِثْلِ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيرِهِ لِتَكْمِيلِ الْحُرِّيَّةِ ؛ لَكِنَّ تَكْمِيلَ الْحُرِّيَّةِ وَجَبَ عَلَى الشَّرِيكِ الْمُعْتِقِ ؛ فَلَوْ لَمْ يُقَدِّرْ فِيهَا الثَّمَنَ لَتَضَرَّرَ بِطَلَبِ

الشَّرِيكِ الْآخَرِ مَا شَاءَ وَهُنَا عُمُومُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ شِرَاءُ الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ لِأَنْفُسِهِمْ ؛ فَلَوْ مُكِّنَ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى سِلْعَتِهِ أَنْ لَا يَبِيعَ إلَّا بِمَا شَاءَ لَكَانَ ضَرَرُ النَّاسِ أَعْظَمَ . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إذَا اُضْطُرَّ الْإِنْسَانُ إلَى طَعَامِ الْغَيْرِ كَانَ عَلَيْهِ بَذْلُهُ لَهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ وَبَيْنَ مَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ وَأَبْعَدُ الْأَئِمَّةِ عَنْ إيجَابِ الْمُعَاوَضَةِ وَتَقْدِيرِهَا هُوَ الشَّافِعِيُّ ؛ وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ يُوجِبُ عَلَى مَنْ اُضْطُرَّ الْإِنْسَانُ إلَى طَعَامِهِ أَنْ يُعْطِيَهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ . وَتَنَازَعَ أَصْحَابُهُ فِي جَوَازِ التَّسْعِيرِ لِلنَّاسِ إذَا كَانَ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ وَلَهُمْ فِيهِ وَجْهَانِ . وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ ضَرَرِ الْعَامَّةِ فَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي أَمْرُ الْمُحْتَكِرِ بِبَيْعِ مَا فَضَلَ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ أَهْلِهِ عَلَى اعْتِبَارِ السِّعْرِ فِي ذَلِكَ فَنَهَاهُ عَنْ الِاحْتِكَارِ فَإِنْ رُفِعَ التَّاجِرُ فِيهِ إلَيْهِ ثَانِيًا حَبَسَهُ وَعَزَّرَهُ عَلَى مُقْتَضَى رَأْيِهِ زَجْرًا لَهُ أَوْ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ فَإِنْ كَانَ أَرْبَابُ الطَّعَامِ يَتَعَدَّوْنَ وَيَتَجَاوَزُونَ الْقِيمَةَ تَعَدِّيًا فَاحِشًا وَعَجَزَ الْقَاضِي عَنْ صِيَانَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِالتَّسْعِيرِ : سَعَّرَ حِينَئِذٍ بِمَشُورَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْبَصِيرَةِ . وَإِذَا تَعَدَّى أَحَدٌ بَعْدَ مَا فَعَلَ ذَلِكَ أَجْبَرَهُ الْقَاضِي . وَهَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرٌ حَيْثُ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ وَكَذَا عِنْدَهُمَا أَيْ عِنْدَ أَبِي

يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَجْرُ عَلَى قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ . وَمَنْ بَاعَ مِنْهُمْ بِمَا قَدَّرَهُ الْإِمَامُ صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكْرَهٍ عَلَيْهِ . وَهَلْ يَبِيعُ الْقَاضِي عَلَى الْمُحْتَكِرِ طَعَامَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ؟ قِيلَ : هُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي مَالِ الْمَدْيُونِ . وَقِيلَ : يَبِيعُ هَاهُنَا بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى الْحَجْرَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ . وَالسِّعْرُ لَمَّا غَلَا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلَبُوا مِنْهُ التَّسْعِيرَ فَامْتَنَعَ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مَنْ عِنْدَهُ طَعَامٌ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ ؛ بَلْ عَامَّةُ مَنْ كَانُوا يَبِيعُونَ الطَّعَامَ إنَّمَا هُمْ جَالِبُونَ يَبِيعُونَهُ إذَا هَبَطُوا السُّوقَ ؛ لَكِنْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ : نَهَاهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ سِمْسَارٌ وَقَالَ : " { دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ } " وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فَنَهَى الْحَاضِرَ الْعَالِمَ بِالسِّعْرِ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِلْبَادِي الْجَالِبِ لِلسِّلْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَوَكَّلَ لَهُ مَعَ خِبْرَتِهِ بِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ أَغْلَى الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ فَنَهَاهُ عَنْ التَّوَكُّلِ لَهُ - مَعَ أَنَّ جِنْسَ الْوِكَالَةِ مُبَاحٌ - لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ السِّعْرِ عَلَى النَّاسِ . وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ وَهَذَا أَيْضًا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَجُعِلَ لِلْبَائِعِ إذَا هَبَطَ إلَى السُّوقِ الْخِيَارُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الْبَائِعِ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَغَبْنِهِ فَأَثْبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخِيَارَ لِهَذَا

الْبَائِعِ . وَهَلْ هَذَا الْخِيَارُ فِيهِ ثَابِتٌ مُطْلَقًا أَوْ إذَا غَبَنَ ؟ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ إذَا غَبَنَ وَالثَّانِي يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ مُطْلَقًا وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَقَالَ طَائِفَةٌ : بَلْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الْمُشْتَرِي إذَا تَلَقَّاهُ الْمُتَلَقِّي فَاشْتَرَاهُ ثُمَّ بَاعَهُ . وَفِي الْجُمْلَةِ فَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ الَّذِي جِنْسُهُ حَلَالٌ حَتَّى يَعْلَمَ الْبَائِعُ بِالسِّعْرِ وَهُوَ ثَمَنُ الْمِثْلِ وَيَعْلَمُ الْمُشْتَرِي بِالسِّلْعَةِ . وَصَاحِبُ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ يَقُولُ : لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِيَ حَيْثُ شَاءَ وَقَدْ اشْتَرَى مِنْ الْبَائِعِ كَمَا يَقُولُ : وَلِلْبَادِي أَنْ يُوَكِّلَ الْحَاضِرَ . وَلَكِنَّ الشَّارِعَ رَاعَى الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ ؛ فَإِنَّ الْجَالِبَ إذَا لَمْ يَعْرِفْ السِّعْرَ كَانَ جَاهِلًا بِثَمَنِ الْمِثْلِ فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي غَارًّا لَهُ ؛ وَلِهَذَا أَلْحَقَ مَالِكٌ وَأَحْمَد بِذَلِكَ كُلَّ مُسْتَرْسِلٍ . وَالْمُسْتَرْسِلُ : الَّذِي لَا يُمَاكِسُ وَالْجَاهِلُ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ ؛ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَالِبِينَ الْجَاهِلِينَ بِالسِّعْرِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ لَا يَبِيعَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ إلَّا بِالسِّعْرِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ ثَمَنُ الْمِثْلِ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ مُحْتَاجِينَ إلَى الِابْتِيَاعِ مِنْ ذَلِكَ الْبَائِعِ ؛ لَكِنْ لِكَوْنِهِمْ جَاهِلِينَ بِالْقِيمَةِ أَوْ مُسْلِمِينَ إلَى الْبَائِعِ غَيْرَ مماكسين لَهُ وَالْبَيْعُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الرِّضَا وَالرِّضَا يَتْبَعُ الْعِلْمَ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ غَبْنٌ فَقَدْ يَرْضَى وَقَدْ لَا

يَرْضَى فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ غَبَنَ وَرَضِيَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَإِذَا لَمْ يَرْضَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى سَخَطِهِ . وَلِهَذَا أَثْبَتَ الشَّارِعُ الْخِيَارَ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْعَيْبِ أَوْ التَّدْلِيسِ ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ الصِّحَّةُ وَأَنْ يَكُونَ الْبَاطِنَ كَالظَّاهِرِ . فَإِذَا اشْتَرَى عَلَى ذَلِكَ فَمَا عَرَفَ رِضَاهُ إلَّا بِذَلِكَ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ فِي السِّلْعَةِ غِشًّا أَوْ عَيْبًا فَهُوَ كَمَا لَوْ وَصَفَهَا بِصِفَةِ وَتَبَيَّنَتْ بِخِلَافِهَا فَقَدْ يَرْضَى وَقَدْ لَا يَرْضَى فَإِنْ رَضِيَ وَإِلَّا فَسَخَ الْبَيْعَ . وَفَى الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا } " . وَفِي السُّنَنِ { أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ شَجَرَةٌ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ ؛ وَكَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ يَتَضَرَّرُ بِدُخُولِ صَاحِبِ الشَّجَرَةِ فَشَكَا ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ بَدَلَهَا أَوْ يَتَبَرَّعَ لَهُ بِهَا فَلَمْ يَفْعَلْ فَأَذِنَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فِي قَلْعِهَا وَقَالَ لِصَاحِبِ الشَّجَرَةِ : إنَّمَا أَنْتَ مُضَارٌّ } . فَهُنَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهَا أَنْ يَبِيعَهَا ؛ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْبَيْعِ عِنْدَ حَاجَةِ الْمُشْتَرِي وَأَيْنَ حَاجَةُ هَذَا مِنْ حَاجَةِ عُمُومِ النَّاسِ إلَى الطَّعَامِ ؟ وَنَظِيرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتْجُرُونَ فِي الطَّعَامِ بِالطَّحْنِ وَالْخُبْزِ . وَنَظِيرُ هَؤُلَاءِ صَاحِبُ الْخَانِ والقيسارية وَالْحَمَّامُ إذَا احْتَاجَ النَّاسُ إلَى الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ وَهُوَ إنَّمَا ضَمِنَهَا لِيَتَّجِرَ فِيهَا فَلَوْ امْتَنَعَ مِنْ إدْخَالِ النَّاسِ إلَّا بِمَا شَاءَ وَهُمْ

يَحْتَاجُونَ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ وَأُلْزِمَ بِبَذْلِ ذَلِكَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ ؛ كَمَا يُلْزَمُ الَّذِي يَشْتَرِي الْحِنْطَةَ وَيَطْحَنُهَا لِيَتَّجِرَ فِيهَا وَاَلَّذِي يَشْتَرِي الدَّقِيقَ وَيَخْبِزُهُ لِيَتَّجِرَ فِيهِ مَعَ حَاجَةِ النَّاسِ إلَى مَا عِنْدَهُ ؛ بَلْ إلْزَامُهُ بِبَيْعِ ذَلِكَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْلَى وَأَحْرَى بَلْ إذَا امْتَنَعَ مِنْ صَنْعَةِ الْخُبْزِ وَالطَّحْنِ حَتَّى يَتَضَرَّرَ النَّاسُ بِذَلِكَ أُلْزِمَ بِصَنْعَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ وَإِذَا كَانَتْ حَاجَةُ النَّاسِ تَنْدَفِعُ إذَا عَمِلُوا مَا يَكْفِي النَّاسَ بِحَيْثُ يَشْتَرِي إذْ ذَاكَ بِالثَّمَنِ الْمَعْرُوفِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَسْعِيرٍ . وَأَمَّا إذَا كَانَتْ حَاجَةُ النَّاسِ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِالتَّسْعِيرِ الْعَادِلِ سَعَّرَ عَلَيْهِمْ تَسْعِيرَ عَدْلٍ ؛ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ .
فَصْلٌ :
فَأَمَّا الْغِشُّ وَالتَّدْلِيسُ فِي " الدِّيَانَاتِ " فَمِثْلُ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ : مِثْلَ إظْهَارِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ . وَمِثْلَ سَبِّ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ سَبِّ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَشَايِخِهِمْ وَوُلَاةِ أُمُورِهِمْ : الْمَشْهُورِينَ عِنْدَ عُمُومِ الْأُمَّةِ بِالْخَيْرِ . وَمِثْلَ التَّكْذِيبِ بِأَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ . وَمِثْلَ رِوَايَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ الْمُفْتَرَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِثْلَ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ

بِأَنْ يَنْزِلَ الْبَشَرُ مَنْزِلَةَ الْإِلَهِ . وَمِثْلَ تَجْوِيزِ الْخُرُوجِ عَنْ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِثْلَ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَتَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَالتَّكْذِيبِ بِقَدَرِ اللَّهِ وَمُعَارَضَةِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ . وَمِثْلَ إظْهَارِ الْخُزَعْبَلَاتِ السِّحْرِيَّةِ والشعبذية الطَّبِيعِيَّةِ وَغَيْرِهَا ؛ الَّتِي يُضَاهَى بِهَا مَا لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ ؛ لِيَصُدَّ بِهَا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ؛ أَوْ يُظَنَّ بِهَا الْخَيْرَ فِيمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَطُولُ وَصْفُهُ . فَمَنْ ظَهَرَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ وَجَبَ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ وَعُقُوبَتُهُ عَلَيْهَا - إذَا لَمْ يَتُبْ حَتَّى قَدَرَ عَلَيْهِ - بِحَسَبِ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ قَتْلٍ أَوْ جَلْدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . وَأَمَّا الْمُحْتَسِبُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعَزِّرَ مَنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا وَيَمْنَعُ مِنْ الِاجْتِمَاعِ فِي مَظَانِّ التُّهَمِ فَالْعُقُوبَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى ذَنْبٍ ثَابِتٍ . وَأَمَّا الْمَنْعُ وَالِاحْتِرَازُ فَيَكُونُ مَعَ التُّهْمَةِ كَمَا مَنَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَجْتَمِعَ الصِّبْيَانُ بِمَنْ كَانَ يُتَّهَمُ بِالْفَاحِشَةِ . وَهَذَا مِثْلُ الِاحْتِرَازِ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْمُتَّهَمِ بِالْكَذِبِ وَائْتِمَانِ الْمُتَّهَمِ بِالْخِيَانَةِ وَمُعَامَلَةِ الْمُتَّهَمِ بِالْمَطْلِ .

فَصْلٌ :
" الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ " لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَزَعُ بِالسُّلْطَانِ . مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ . وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَاجِبَةٌ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ ؛ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ . فَمِنْهَا عُقُوبَاتٌ مُقَدَّرَةٌ ؛ مِثْلَ جَلْدِ الْمُفْتَرِي ثَمَانِينَ وَقَطْعِ السَّارِقِ . وَمِنْهَا عُقُوبَاتٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ قَدْ تُسَمَّى " التَّعْزِيرَ " . وَتَخْتَلِفُ مَقَادِيرُهَا وَصِفَاتُهَا بِحَسَبِ كِبَرِ الذُّنُوبِ وَصِغَرِهَا ؛ وَبِحَسَبِ حَالِ الْمُذْنِبِ ؛ وَبِحَسَبِ حَالِ الذَّنْبِ فِي قِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ . " وَالتَّعْزِيرُ " أَجْنَاسٌ . فَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالتَّوْبِيخِ وَالزَّجْرِ بِالْكَلَامِ . وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالْحَبْسِ . وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالنَّفْيِ عَنْ الْوَطَنِ . وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالضَّرْبِ . فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِتَرْكِ وَاجِبٍ مِثْلَ الضَّرْبِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ أَوْ تَرْكِ أَدَاءِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ : مِثْلَ تَرْكِ وَفَاءِ الدَّيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ؛ أَوْ عَلَى تَرْكِ رَدِّ الْمَغْصُوبِ ؛ أَوْ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ إلَى أَهْلِهَا : فَإِنَّهُ يُضْرَبُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ عَلَيْهِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ . وَإِنْ كَانَ الضَّرْبُ عَلَى ذَنْبٍ مَاضٍ جَزَاءً بِمَا كَسَبَ وَنَكَالًا مِنْ اللَّهِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ : فَهَذَا يُفْعَلُ مِنْهُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَقَطْ وَلَيْسَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ .

وَأَمَّا أَكْثَرُ التَّعْزِيرِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ أَحَدُهَا :
عَشْرُ جَلَدَاتٍ .
وَالثَّانِي : دُونَ أَقَلِّ الْحُدُودِ ؛ إمَّا تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا ؛ وَإِمَّا تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ سَوْطًا .
وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَالثَّالِثُ . أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّرُ بِذَلِكَ . وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ؛ لَكِنْ إنْ كَانَ التَّعْزِيرُ فِيمَا فِيهِ مُقَدَّرٌ لَمْ يَبْلُغْ بِهِ ذَلِكَ الْمُقَدَّرَ مِثْلَ التَّعْزِيرِ : عَلَى سَرِقَةٍ دُونَ النِّصَابِ لَا يَبْلُغُ بِهِ الْقَطْعَ وَالتَّعْزِيرِ عَلَى الْمَضْمَضَةِ بِالْخَمْرِ لَا يَبْلُغُ بِهِ حَدَّ الشُّرْبِ وَالتَّعْزِيرِ عَلَى الْقَذْفِ بِغَيْرِ الزِّنَا لَا يَبْلُغُ بِهِ الْحَدَّ . وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ ؛ عَلَيْهِ دَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ ؛ فَقَدَ { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَرْبِ الَّذِي أَحَلَّتْ لَهُ امْرَأَتُهُ جَارِيَتَهَا مِائَةً وَدَرَأَ عَنْهُ الْحَدَّ بِالشُّبْهَةِ } . وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمْرُ بِضَرْبِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وُجِدَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ مِائَةً مِائَةً . وَأَمَرَ بِضَرْبِ الَّذِي نَقَشَ عَلَى خَاتَمِهِ وَأَخَذَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِائَةً . ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِائَةً ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِائَةً . وَضَرَبَ صَبِيغَ بْنَ عِسْلٍ - لَمَّا رَأَى مِنْ بِدْعَتِهِ - ضَرْبًا كَثِيرًا لَمْ يُعِدْهُ . وَمَنْ لَمْ يَنْدَفِعْ فَسَادُهُ فِي الْأَرْضِ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلَ مِثْلَ الْمُفَرِّقِ

لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالدَّاعِي إلَى الْبِدَعِ فِي الدِّينِ قَالَ تَعَالَى : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا } وَقَالَ : { مَنْ جَاءَكُمْ وَأَمْرُكُمْ عَلَى رَجُلٍ وَأَحَدٍ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ } . { وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ رَجُلٍ تَعَمَّدَ عَلَيْهِ الْكَذِبَ } { وَسَأَلَهُ ابْنُ الديلمي عَمَّنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ ؟ فَقَالَ : مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْهَا فَاقْتُلُوهُ . } فَلِهَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد إلَى جَوَازِ قَتْلِ الْجَاسُوسِ . وَذَهَبَ مَالِكٌ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى قَتْلِ الدَّاعِيَةِ إلَى الْبِدَعِ . وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْمُخْتَصَرَةُ مَوْضِعَ ذَلِكَ . فَإِنَّ الْمُحْتَسِبَ لَيْسَ لَهُ الْقَتْلُ وَالْقَطْعُ . وَمِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ : النَّفْيُ وَالتَّغْرِيبُ ؛ كَمَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُعَزِّرُ بِالنَّفْيِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ إلَى خَيْبَرَ ؛ وَكَمَا نَفَى صَبِيغَ بْنَ عِسْلٍ إلَى الْبَصْرَةِ وَأَخْرَجَ نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ إلَى الْبَصْرَةِ لَمَّا افْتَتَنَ بِهِ النِّسَاءُ .
فَصْلٌ :
وَ " التَّعْزِيرُ بِالْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ " مَشْرُوعٌ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ

فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ ؛ وَمَذْهَبِ أَحْمَد فِي مَوَاضِعَ بِلَا نِزَاعٍ عَنْهُ ؛ وَفِي مَوَاضِعَ فِيهَا نِزَاعٌ عَنْهُ . وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ { رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِثْلِ إبَاحَتِهِ سَلَبَ الَّذِي يَصْطَادُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ لِمَنْ وَجَدَهُ } وَمِثْلِ أَمْرِهِ بِكَسْرِ دِنَانِ الْخَمْرِ وَشَقِّ ظُرُوفِهِ وَمِثْلِ { أَمْرِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرو بِحَرْقِ الثَّوْبَيْنِ الْمُعَصْفَرَيْنِ ؛ وَقَالَ لَهُ : أَغْسِلُهُمَا ؟ قَالَ : لَا بَلْ احْرَقْهُمَا . } { وَأَمْرِهِ لَهُمْ يَوْمَ خَيْبَرَ بِكَسْرِ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي فِيهَا لُحُومُ الْحُمُرِ . ثُمَّ لَمَّا اسْتَأْذَنُوهُ فِي الْإِرَاقَةِ أَذِنَ ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى الْقُدُورَ تَفُورُ بِلَحْمِ الْحُمُرِ أَمَرَ بِكَسْرِهَا وَإِرَاقَةِ مَا فِيهَا ؛ فَقَالُوا : أَفَلَا نُرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا ؟ فَقَالَ : افْعَلُوا } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبَةً . وَمِثْلَ هَدْمِهِ لِمَسْجِدِ الضِّرَارِ . وَمِثْلَ تَحْرِيقِ مُوسَى لِلْعِجْلِ الْمُتَّخَذِ إلَهًا { وَمِثْلَ تَضْعِيفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغُرْمَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ } وَمِثْلَ مَا رُوِيَ مِنْ إحْرَاقِ مَتَاعِ الْغَالِّ وَمِنْ حِرْمَانِ الْقَاتِلِ سَلَبَهُ لَمَّا اعْتَدَى عَلَى الْأَمِيرِ . وَمِثْلَ أَمْرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِتَحْرِيقِ الْمَكَانِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ وَمِثْلَ أَخْذِ شَطْرِ مَالِ مَانِعِ الزَّكَاةِ وَمِثْلَ تَحْرِيقِ . عُثْمَانَ بْنِ عفان الْمَصَاحِفَ الْمُخَالِفَةَ لِلْإِمَامِ ؛ وَتَحْرِيقِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِكُتُبِ الْأَوَائِلِ وَأَمْرِهِ بِتَحْرِيقِ قَصْرِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الَّذِي بَنَاهُ لَمَّا أَرَادَ

أَنْ يَحْتَجِبَ عَنْ النَّاسِ ؛ فَأَرْسَلَ مُحَمَّدَ بْنَ مسلمة وَأَمَرَهُ أَنْ يُحَرِّقَهُ عَلَيْهِ ؛ فَذَهَبَ فَحَرَّقَهُ عَلَيْهِ . وَهَذِهِ الْقَضَايَا كُلُّهَا صَحِيحَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَنَظَائِرُهَا مُتَعَدِّدَةٌ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةَ مَنْسُوخَةٌ وَأَطْلَقَ ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فَقَدْ غَلِطَ عَلَى مَذْهَبِهِمَا . وَمَنْ قَالَهُ مُطْلَقًا مِنْ أَيِّ مَذْهَبٍ كَانَ : فَقَدْ قَالَ قَوْلًا بِلَا دَلِيلٍ . وَلَمْ يَجِئْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ قَطُّ يَقْتَضِي أَنَّهُ حَرَّمَ جَمِيعَ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ ؛ بَلْ أَخَذَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَأَكَابِرُ أَصْحَابِهِ بِذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ . وَعَامَّةُ هَذِهِ الصُّوَرِ مَنْصُوصَةٌ عَنْ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَبَعْضُهَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِاعْتِبَارِ مَا بَلَغَهُ مِنْ الْحَدِيثِ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا : إنَّ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالْبَدَنِيَّةِ : تَنْقَسِمُ إلَى مَا يُوَافِقُ الشَّرْعَ ؛ وَإِلَى مَا يُخَالِفُهُ . وَلَيْسَتْ الْعُقُوبَةُ الْمَالِيَّةُ مَنْسُوخَةً عِنْدَهُمَا . وَالْمُدَّعُونَ لِلنُّسَخِ لَيْسَ مَعَهُمْ حُجَّةٌ بِالنَّسْخِ ؛ لَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ . وَهَذَا شَأْنُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُخَالِفُ النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ وَالسُّنَّةَ الثَّابِتَةَ بِلَا حُجَّةٍ . إلَّا مُجَرَّدَ دَعْوَى النَّسْخِ ؛ وَإِذَا طُولِبَ بِالنَّاسِخِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ حُجَّةٌ

لِبَعْضِ النُّصُوصِ تُوهِمُهُ تَرْكَ الْعَمَلِ ؛ إلَّا أَنَّ مَذْهَبَ طَائِفَتِهِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهَا إجْمَاعٌ ؛ وَالْإِجْمَاعُ دَلِيلٌ عَلَى النَّسْخِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ ؛ فَإِنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَلَكِنْ لَا يُعْرَفُ إجْمَاعٌ عَلَى تَرْكِ نَصٍّ إلَّا وَقَدْ عُرِفَ النَّصُّ النَّاسِخُ لَهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ مَنْ يَدَّعِي نَسْخَ النُّصُوصِ بِمَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْإِجْمَاعِ إذَا حَقَّقَ الْأَمْرَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ الْإِجْمَاعُ الَّذِي ادَّعَاهُ صَحِيحًا ؛ بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ فِيهِ نِزَاعًا ثُمَّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَكُونُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ أَصْحَابِهِ وَلَكِنْ هُوَ نَفْسُهُ لَمْ يَعْرِفْ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ وَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : عِبَادَاتٌ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ .
وَعُقُوبَاتٌ إمَّا مُقَدَّرَةٌ وَإِمَّا مُفَوَّضَةٌ وَكَفَّارَاتُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَقْسَامِ الْوَاجِبَاتِ يَنْقَسِمُ إلَى : بَدَنِيٍّ . وَإِلَى مَالِيٍّ . وَإِلَى مُرَكَّبٍ مِنْهُمَا . فَالْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ : كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ . وَالْمَالِيَّةُ : كَالزَّكَاةِ . وَالْمُرَكَّبَةُ : كَالْحَجِّ . وَالْكَفَّارَاتُ الْمَالِيَّةُ : كَالْإِطْعَامِ . وَالْبَدَنِيَّةُ : كَالصِّيَامِ . وَالْمُرَكَّبَةُ : كَالْهَدْيِ بِذَبْحِ . وَالْعُقُوبَاتُ الْبَدَنِيَّةُ : كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ . وَالْمَالِيَّةُ : كَإِتْلَافِ أَوْعِيَةِ الْخَمْرِ .

وَالْمُرَكَّبَةُ : كَجَلْدِ السَّارِقِ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ وَتَضْعِيفِ الْغُرْمِ عَلَيْهِ وَكَقَتْلِ الْكُفَّارِ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ . وَكَمَا أَنَّ الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةَ تَارَةً تَكُونُ جَزَاءً عَلَى مَا مَضَى كَقَطْعِ السَّارِقِ ؛ وَتَارَةً تَكُونُ دَفْعًا عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ كَقَتْلِ الْقَاتِلِ : فَكَذَلِكَ الْمَالِيَّةُ ؛ فَإِنَّ مِنْهَا مَا هُوَ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْمُنْكَرِ ؛ وَهِيَ تَنْقَسِمُ كَالْبَدَنِيَّةِ إلَى إتْلَافٍ ؛ وَإِلَى تَغْيِيرٍ ؛ وَإِلَى تَمْلِيكِ الْغَيْرِ . فَالْأَوَّلُ الْمُنْكَرَاتُ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ يَجُوزُ إتْلَافُ مَحَلِّهَا تَبَعًا لَهَا ؛ مِثْلَ الْأَصْنَامِ الْمَعْبُودَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ؛ لَمَّا كَانَتْ صُوَرُهَا مُنْكَرَةً جَازَ إتْلَافُ مَادَّتِهَا ؛ فَإِذَا كَانَتْ حَجَرًا أَوْ خَشَبًا وَنَحْوَ ذَلِكَ جَازَ تَكْسِيرُهَا وَتَحْرِيقُهَا . وَكَذَلِكَ آلَاتُ الْمَلَاهِي مِثْلَ الطُّنْبُورِ يَجُوزُ إتْلَافُهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ؛ وَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَمِثْلَ ذَلِكَ أَوْعِيَةُ الْخَمْرِ ؛ يَجُوزُ تَكْسِيرُهَا وَتَخْرِيقُهَا ؛ وَالْحَانُوتُ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ يَجُوزُ تَحْرِيقُهُ . وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى ذَلِكَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَاتَّبَعُوا مَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَحْرِيقِ حَانُوتٍ كَانَ يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ لِرُوَيْشِدِ الثَّقَفِيِّ ؛ وَقَالَ : إنَّمَا أَنْتَ فُوَيْسِقٌ لَا رُوَيْشِدٌ . وَكَذَلِكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَمَرَ بِتَحْرِيقِ قَرْيَةٍ كَانَ يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَكَانَ الْبَيْعِ مِثْلُ الْأَوْعِيَةِ . وَهَذَا أَيْضًا عَلَى الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا .

وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ؛ حَيْثُ رَأَى رَجُلًا قَدْ شَابَ اللَّبَنَ بِالْمَاءِ لِلْبَيْعِ فَأَرَاقَهُ عَلَيْهِ وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِذَلِكَ أَفْتَى طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْأَصْلِ ؛ وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { نَهَى أَنْ يُشَابَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ لِلْبَيْعِ } وَذَلِكَ بِخِلَافِ شَوْبِهِ لِلشُّرْبِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا خُلِطَ لَمْ يَعْرِفْ الْمُشْتَرِي مِقْدَارَ اللَّبَنِ مِنْ الْمَاءِ ؛ فَأَتْلَفَهُ عُمَرُ . وَنَظِيرُهُ مَا أَفْتَى بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْأَصْلِ فِي جَوَازِ إتْلَافِ الْمَغْشُوشَاتِ فِي الصِّنَاعَاتِ : مِثْلَ الثِّيَابِ الَّتِي نُسِجَتْ نَسْجًا رَدِيئًا إنَّهُ يَجُوزُ تَمْزِيقُهَا وَتَحْرِيقُهَا ؛ وَلِذَلِكَ لَمَّا رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ ثَوْبًا مِنْ حَرِيرٍ مَزَّقَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ الزُّبَيْرُ : أَفْزَعْت الصَّبِيَّ فَقَالَ : لَا تَكْسُوهُمْ الْحَرِيرَ . كَذَلِكَ { تَحْرِيقُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِثَوْبِهِ الْمُعَصْفَرِ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . } وَهَذَا كَمَا يُتْلِفُ مِنْ الْبَدَنِ الْمَحَلَّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْمَعْصِيَةُ ؛ فَتُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ وَتُقْطَعُ رِجْلُ الْمُحَارِبِ وَيَدُهُ . وَكَذَلِكَ الَّذِي قَامَ بِهِ الْمُنْكَرُ فِي إتْلَافِهِ نُهِيَ عَنْ الْعَوْدِ إلَى ذَلِكَ الْمُنْكَرِ ؛ وَلَيْسَ إتْلَافُ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَى الْإِطْلَاقِ ؛ بَلْ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَحَلِّ مَفْسَدَةٌ جَازَ إبْقَاؤُهُ أَيْضًا ؛ إمَّا لِلَّهِ وَإِمَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ كَمَا أَفْتَى طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ : أَنَّ الطَّعَامَ الْمَغْشُوشَ مِنْ الْخُبْزِ وَالبَطَّيخِ وَالشِّوَاءِ كَالْخُبْزِ وَالطَّعَامِ الَّذِي لَمْ

يَنْضَجْ وَكَالطَّعَامِ الْمَغْشُوشِ وَهُوَ : الَّذِي خُلِطَ بِالرَّدِيءِ وَأَظْهَرَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ جَيِّدٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ : يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ إتْلَافِهِ . وَإِذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ أَتْلَفَ اللَّبَنَ الَّذِي شِيبَ لِلْبَيْعِ : فَلَأَنْ يَجُوزُ التَّصَدُّقُ بِذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ عُقُوبَةُ الْغَاشِّ وَزَجْرُهُ عَنْ الْعَوْدِ وَيَكُونُ انْتِفَاعُ الْفُقَرَاءِ بِذَلِكَ أَنْفَعَ مِنْ إتْلَافِهِ وَعُمَرُ أَتْلَفَهُ لِأَنَّهُ كَانَ يُغْنِي النَّاسَ بِالْعَطَاءِ ؛ فَكَانَ الْفُقَرَاءُ عِنْدَهُ فِي الْمَدِينَةِ إمَّا قَلِيلًا وَإِمَّا مَعْدُومِينَ . وَلِهَذَا جَوَّزَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ التَّصَدُّقَ بِهِ وَكَرِهُوا إتْلَافَهُ . فَفِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَطْرَحُ اللَّبَنَ الْمَغْشُوشَ فِي الْأَرْضِ أَدَبًا لِصَاحِبِهِ وَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ ؛ وَرَأَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ . وَهَلْ يَتَصَدَّقُ بِالْيَسِيرِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . وَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ مَنْعَ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ وَقَالَ : لَا يُحِلُّ ذَنْبٌ مِنْ الذُّنُوبِ مَالَ إنْسَانٍ وَإِنْ قَتَلَ نَفْسًا ؛ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَشْهُرُ عَنْهُ وَقَدْ اسْتَحْسَنَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِاللَّبَنِ الْمَغْشُوشِ ؛ وَفِي ذَلِكَ عُقُوبَةُ الْغَاشِّ بِإِتْلَافِهِ عَلَيْهِ وَنَفْعُ الْمَسَاكِينِ بِإِعْطَائِهِمْ إيَّاهُ وَلَا يهراق . قِيلَ لِمَالِكِ : فَالزَّعْفَرَانُ وَالْمِسْكُ أَتَرَاهُ مِثْلُهُ ؟ قَالَ : مَا أَشْبَهَهُ بِذَلِكَ إذَا كَانَ هُوَ غِشُّهُ فَهُوَ كَاللَّبَنِ . قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : هَذَا فِي الشَّيْءِ الْخَفِيفِ مِنْهُ فَأَمَّا

إذَا كَثُرَ مِنْهُ فَلَا أَرَى ذَلِكَ ؛ وَعَلَى صَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ ؛ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ فِي ذَلِكَ أَمْوَالٌ عِظَامٌ . يُرِيدُ فِي الصَّدَقَةِ بِكَثِيرِهِ . قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ : وَسَوَاءٌ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ كَانَ ذَلِكَ يَسِيرًا أَوْ كَثِيرًا ؛ لِأَنَّهُ سَاوَى فِي ذَلِكَ بَيْنَ الزَّعْفَرَانِ وَاللَّبَنِ وَالْمِسْكِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ ؛ وَخَالَفَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ ؛ فَلَمْ يَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِمَا كَانَ يَسِيرًا ؛ وَذَلِكَ إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي غَشَّهُ وَأَمَّا مَنْ وُجِدَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ مَغْشُوشٌ لَمْ يَغُشَّهُ هُوَ ؛ وَإِنَّمَا اشْتَرَاهُ أَوْ وُهِبَ لَهُ أَوْ وَرِثَهُ : فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ . وَمِمَّنْ أَفْتَى بِجَوَازِ إتْلَافِ الْمَغْشُوشِ مِنْ الثِّيَابِ ابْنُ الْقَطَّانِ قَالَ فِي الْمَلَاحِفِ الرَّدِيئَةِ النَّسْجِ : تُحَرَّقُ بِالنَّارِ . وَأَفْتَى ابْنُ عَتَّابٍ فِيهَا بِالتَّصَدُّقِ ؛ وَقَالَ : تُقْطَعُ خِرَقًا وَتُعْطَى لِلْمَسَاكِينِ إذَا تَقَدَّمَ إلَى مُسْتَعْمِلِيهَا فَلَمْ يَنْتَهُوا . وَكَذَلِكَ أَفْتَى بِإِعْطَاءِ الْخُبْزِ الْمَغْشُوشِ لِلْمَسَاكِينِ ؛ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ الْقَطَّانِ وَقَالَ : لَا يَحِلُّ هَذَا فِي مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِذْنِهِ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْأُصْبُعِ : وَهَذَا اضْطِرَابٌ فِي جَوَابِهِ وَتَنَاقُضٌ فِي قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ جَوَابَهُ فِي الْمَلَاحِفِ بِإِحْرَاقِهَا بِالنَّارِ أَشَدُّ مِنْ إعْطَاءِ هَذَا الْخُبْزِ لِلْمَسَاكِينِ وَابْنُ عَتَّابٍ أَضْبَطُ فِي أَصْلِهِ فِي ذَلِكَ وَأَتْبَعُ لِقَوْلِهِ وَإِذَا لَمْ يَرَ وَلِيُّ الْأَمْرِ عُقُوبَةَ الْغَاشِّ بِالصَّدَقَةِ أَوْ الْإِتْلَافِ فَلَا بُدَّ

أَنْ يَمْنَعَ وُصُولَ الضَّرَرِ إلَى النَّاسِ بِذَلِكَ الْغِشِّ إمَّا بِإِزَالَةِ الْغِشِّ ؛ وَإِمَّا بِبَيْعِ الْمَغْشُوشِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَغْشُوشٌ وَلَا يَغُشُّهُ عَلَى غَيْرِهِ . قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ : قُلْت لِمُطَرِّفٍ وَابْنِ الماجشون لَمَّا نُهِينَا عَنْ التَّصَدُّقِ بِالْمَغْشُوشِ لِرِوَايَةِ أَشْهَبَ : فَمَا وَجْهُ الصَّوَابِ عِنْدَكُمَا فِيمَنْ غَشَّ أَوْ نَقَصَ مِنْ الْوَزْنِ ؟ قَالَا : يُعَاقَبُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَالْإِخْرَاجِ مِنْ السُّوقِ ؛ وَمَا كَثُرَ مِنْ الْخُبْزِ وَاللَّبَنِ أَوْ غَشَّ مِنْ الْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ فَلَا يُفَرَّقُ وَلَا يُنْهَبُ . قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ : وَلَا يَرُدُّهُ الْإِمَامُ إلَيْهِ وَلْيُؤْمَرْ بِبَيْعِهِ عَلَيْهِ مَنْ يَأْمَنُ أَنْ يَغُشَّ بِهِ وَبِكَسْرِ الْخُبْزِ إذَا كَثُرَ وَيُسَلِّمُهُ لِصَاحِبِهِ وَيُبَاعُ عَلَيْهِ الْعَسَلُ وَالسَّمْنُ وَاللَّبَنُ الَّذِي يَغُشُّهُ مِمَّنْ يَأْكُلُهُ وَيُبَيِّنُ لَهُ غِشَّهُ هَكَذَا الْعَمَلُ فِيمَا غُشَّ مِنْ التِّجَارَاتِ . قَالَ : وَهُوَ إيضَاحُ مَنْ اسْتَوْضَحْته ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا التَّغْيِيرُ فَمِثْلُ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ كَسْرِ سِكَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْجَائِزَةِ بَيْنَهُمْ إلَّا مِنْ بَأْسٍ } فَإِذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ أَوْ الدَّنَانِيرُ الْجَائِزَةُ فِيهَا بَأْسٌ كُسِرَتْ وَمِثْلُ تَغْيِيرِ الصُّورَةِ الْمُجَسَّمَةِ وَغَيْرِ الْمُجَسَّمَةِ إذَا لَمْ تَكُنْ مَوْطُوءَةً ؛ مِثْلُ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ : إنِّي أَتَيْتُك اللَّيْلَةَ ؛ فَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَدْخَلَ عَلَيْك الْبَيْتَ إلَّا أَنَّهُ كَانَ فِي الْبَيْتِ تِمْثَالُ رَجُلٍ كَانَ فِي الْبَيْتِ قِرَامُ سِتْرٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ وَكَانَ فِي الْبَيْتِ كَلْبٌ ؛ فَأَمَرَ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِي فِي الْبَيْتِ يُقْطَعُ فَيُصَيَّرُ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ ؛ وَأَمَرَ بِالسِّتْرِ يُقْطَعُ فَيُجْعَلُ فِي وِسَادَتَيْنِ مُنْتَبَذَتَيْنِ يُوطَآنِ وَأَمَرَ بِالْكَلْبِ يُخْرَجُ . فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا الْكَلْبُ جَرْوٌ كَانَ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ تَحْتَ نَضِيدٍ لَهُمْ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَصَحَّحَهُ . كُلُّ مَا كَانَ مِنْ الْعَيْنِ أَوْ التَّأْلِيفِ الْمُحَرَّمِ فَإِزَالَتُهُ وَتَغْيِيرُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ إرَاقَةِ خَمْرِ الْمُسْلِمِ ؛ وَتَفْكِيكِ آلَاتِ الْمَلَاهِي ؛ وَتَغْيِيرِ الصُّوَرِ الْمُصَوَّرَةِ ؛ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ إتْلَافِ مَحِلِّهَا تَبَعًا لِلْحَالِ وَالصَّوَابُ جَوَازُهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَالصَّوَابُ إنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَهُوَ حَرَامٌ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْبِتْعُ وَالْمِزْرُ وَالْحَشِيشَةُ القنبية وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَأَمَّا التَّغْرِيمُ : فَمِثْلُ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَنِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ سَرَقَ مِنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ قَبْلَ أَنْ يُؤْوِيَهُ إلَى الْجَرِينِ : أَنَّ عَلَيْهِ جَلَدَاتُ نَكَالٍ وَغُرْمُهُ مَرَّتَيْنِ . وَفِيمَنْ

سَرَقَ مِنْ الْمَاشِيَةِ قَبْلَ أَنْ تُؤْوَى إلَى الْمَرَاحِ : أَنَّ عَلَيْهِ جَلَدَاتُ نَكَالٍ وَغُرْمُهُ مَرَّتَيْنِ } . وَكَذَلِكَ قَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الضَّالَّةِ الْمَكْتُومَةِ أَنَّهُ يُضَعَّفُ غُرْمُهَا وَبِذَلِكَ كُلِّهِ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛ مِثْلُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَأَضْعَفَ عُمَرُ وَغَيْرُهُ الْغُرْمَ فِي نَاقَةِ أَعْرَابِيٍّ أَخَذَهَا مَمَالِيكُ جِيَاعٌ فَأَضْعَفَ الْغُرْمَ عَلَى سَيِّدِهِمْ وَدَرَأَ عَنْهُمْ الْقَطْعَ . وَأَضْعَفَ عُثْمَانُ بْنُ عفان فِي الْمُسْلِمِ إذَا قَتَلَ الذِّمِّيَّ عَمْدًا إنَّهُ يُضَعَّفُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَأَخَذَ بِذَلِكَ . أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ .
فَصْلٌ :
الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ يَكُونَانِ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فِي قَدَرِ اللَّهِ وَفِي شَرْعِهِ : فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْعَدْلِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } وَقَالَ : { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ } . وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ } . وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ . } وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا } . وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ نَظِيفٌ

يُحِبُّ النَّظَافَةَ } . وَلِهَذَا قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ وَشَرَعَ قَطْعَ يَدِ الْمُحَارِبِ وَرِجْلِهِ ؛ وَشَرَعَ الْقِصَاصَ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَبْشَارِ فَإِذَا أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ الْعُقُوبَةُ مِنْ جِنْسِ الْمَعْصِيَةِ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمَشْرُوعُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مِثْلَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي شَاهِدِ الزُّورِ إنَّهُ أَمَرَ بِإِرْكَابِهِ دَابَّةً مَقْلُوبًا وَتَسْوِيدِ وَجْهِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا قَلَبَ الْحَدِيثَ قَلَبَ وَجْهَهُ وَلَمَّا سَوَّدَ وَجْهَهُ بِالْكَذِبِ سَوَّدَ وَجْهَهُ . وَهَذَا قَدْ ذَكَرَهُ فِي تَعْزِيرِ شَاهِدِ الزُّورِ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا } { قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } . وَفِي الْحَدِيثِ : { يُحْشَرُ الْجَبَّارُونَ والمتكبرون عَلَى صُوَرِ الذَّرِّ يَطَؤُهُمْ النَّاسُ بِأَرْجُلِهِمْ } فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَذَلُّوا عِبَادَ اللَّهِ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ لِعِبَادِهِ كَمَا أَنَّ مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ ؛ فَجَعَلَ الْعِبَادَ مُتَوَاضِعِينَ لَهُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يُصْلِحُنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَيُوَفِّقُنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَسَائِرِ إخْوَانِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .

فَصْلٌ : (*)
فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ
الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ كُتُبَهُ وَأَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ مِنْ الدِّينِ ؛ فَإِنَّ رِسَالَةَ اللَّهِ : إمَّا إخْبَارٌ وَإِمَّا إنْشَاءٌ . فَالْإِخْبَارُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ خَلْقِهِ : مِثْلَ التَّوْحِيدِ وَالْقَصَصِ الَّذِي يَنْدَرِجُ فِيهِ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ . وَالْإِنْشَاءُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْإِبَاحَةُ . وَهَذَا كَمَا ذَكَرَ فِي أَنْ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ؛ لِتَضَمُّنِهَا ثُلُثَ التَّوْحِيدِ ؛ إذْ هُوَ قَصَصٌ ؛ وَتَوْحِيدٌ ؛ وَأَمْرٌ . وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي صِفَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } هُوَ بَيَانٌ لِكَمَالِ رِسَالَتِهِ ؛ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَنَهَى عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ ؛ وَأَحَلَّ كُلَّ طَيِّبٍ وَحَرَّمَ كُلَّ خَبِيثٍ ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا بُعِثْت لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ } . وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ

رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَتَمَّهَا وَأَكْمَلَهَا إلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ ؛ فَكَانَ النَّاسُ يُطِيفُونَ بِهَا وَيَعْجَبُونَ مِنْ حُسْنِهَا ؛ وَيَقُولُونَ : لَوْلَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ فَأَنَا تِلْكَ اللَّبِنَةُ } . فَبِهِ كَمُلَ دِينُ اللَّهِ الْمُتَضَمِّنُ لِلْأَمْرِ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَالنَّهْيِ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ وَإِحْلَالِ كُلِّ طَيِّبٍ وَتَحْرِيمِ كُلِّ خَبِيثٍ . وَأَمَّا مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الرُّسُلِ فَقَدْ كَانَ يُحَرِّمُ عَلَى أُمَمِهِمْ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ كَمَا قَالَ : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } . وَرُبَّمَا لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ الْخَبَائِثِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلَّا مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ } . وَتَحْرِيمُ الْخَبَائِثِ يَنْدَرِجُ فِي مَعْنَى " النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ " كَمَا أَنَّ إحْلَالَ الطَّيِّبَاتِ يَنْدَرِجُ فِي " الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ " لِأَنَّ تَحْرِيمَ الطَّيِّبَاتِ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِجَمِيعِ الْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ مِمَّا لَمْ يَتِمَّ إلَّا لِلرَّسُولِ ؛ الَّذِي تَمَّمَ اللَّهُ بِهِ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ الْمُنْدَرِجَةَ فِي الْمَعْرُوفِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } فَقَدْ أَكْمَلَ اللَّهُ لَنَا الدِّينَ وَأَتَمَّ عَلَيْنَا النِّعْمَةَ وَرَضِيَ لَنَا الْإِسْلَامَ دِينًا . وَكَذَلِكَ وَصَفَ الْأُمَّةَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَبِيَّهَا حَيْثُ قَالَ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ

يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } وَلِهَذَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : كُنْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ فِي الْأَقْيَادِ وَالسَّلَاسِلِ حَتَّى تُدْخِلُوهُمْ الْجَنَّةَ . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ خَيْرُ الْأُمَمِ لِلنَّاسِ : فَهُمْ أَنْفَعُهُمْ لَهُمْ وَأَعْظَمُهُمْ إحْسَانًا إلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ كَمَّلُوا أَمْرَ النَّاسِ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِمْ عَنْ الْمُنْكَرِ مِنْ جِهَةِ الصِّفَةِ وَالْقَدْرِ حَيْثُ أَمَرُوا بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَنَهَوْا عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ لِكُلِّ أَحَدٍ وَأَقَامُوا ذَلِكَ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَهَذَا كَمَالُ النَّفْعِ لِلْخَلْقِ . وَسَائِرِ الْأُمَمِ لَمْ يَأْمُرُوا كُلَّ أَحَدٍ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ ؛ وَلَا نَهَوْا كُلَّ أَحَدٍ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ وَلَا جَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ . بَلْ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُجَاهِدْ وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا كَبَنِي إسْرَائِيلَ فَعَامَّةُ جِهَادِهِمْ كَانَ لِدَفْعِ عَدُوِّهِمْ عَنْ أَرْضِهِمْ كَمَا يُقَاتِلُ الصَّائِلُ الظَّالِمُ ؛ لَا لِدَعْوَةِ الْمُجَاهِدِينَ وَأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِمْ عَنْ الْمُنْكَرِ كَمَا قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ : { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } { قَالُوا يَا مُوسَى إنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { قَالُوا يَا مُوسَى إنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ

هَلْ عَسَيْتُمْ إنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا } " فَعَلَّلُوا الْقِتَالَ بِأَنَّهُمْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَمَعَ هَذَا فَكَانُوا نَاكِلِينَ عَمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا لَمْ تَحِلَّ لَهُمْ الْغَنَائِمُ ؛ وَلَمْ يَكُونُوا يَطَئُونَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَعْظَمَ الْأُمَمِ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَنَا بَنُو إسْرَائِيلَ ؛ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ : عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ ؛ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ ؛ وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلَانِ ؛ وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ ؛ وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ وَرَأَيْت سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ فَرَجَوْت أَنْ يَكُونَ أُمَّتِي ؛ فَقِيلَ : هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ . ثُمَّ قِيلَ لِي : اُنْظُرْ فَرَأَيْت سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ فَقِيلَ لِي : اُنْظُرْ هَكَذَا وَهَكَذَا فَرَأَيْت سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ فَقِيلَ : هَؤُلَاءِ أُمَّتُك وَمَعَ هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ فَتَذَاكَرَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : أَمَّا نَحْنُ فَوُلِدْنَا فِي الشِّرْكِ وَكُنَّا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَبْنَاؤُنَا فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : هُمْ الَّذِينَ لَا يَتَطَيَّرُونَ وَالَا يَكْتَوُونَ ؛ وَلَا يسترقون وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ : فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ :

أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ : أَمِنْهُمْ أَنَا ؟ فَقَالَ : سَبَقَك بِهَا عُكَّاشَةُ . } وَلِهَذَا كَانَ إجْمَاعُ هَذِهِ الْأُمَّةِ حُجَّةً ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَيَنْهَوْنَ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ ؛ فَلَوْ اتَّفَقُوا عَلَى إبَاحَةِ مُحَرَّمٍ أَوْ إسْقَاطِ وَاجِبٍ ؛ أَوْ تَحْرِيمِ حَلَالٍ أَوْ إخْبَارٍ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ؛ أَوْ خَلْقِهِ بِبَاطِلِ : لَكَانُوا مُتَّصِفِينَ بِالْأَمْرِ بِمُنْكَرٍ وَالنَّهْيِ عَنْ مَعْرُوفٍ : مِنْ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ؛ بَلْ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ مَا لَمْ تَأْمُرْ بِهِ الْأُمَّةُ فَلَيْسَ مِنْ الْمَعْرُوفِ وَمَا لَمْ تَنْهَ عَنْهُ فَلَيْسَ مِنْ الْمُنْكَرِ . وَإِذَا كَانَتْ آمِرَةً بِكُلِّ مَعْرُوفٍ نَاهِيَةً عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ : فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَأْمُرَ كُلُّهَا بِمُنْكَرِ أَوْ تَنْهَى كُلُّهَا عَنْ مَعْرُوفٍ ؟ وَاَللَّهُ تَعَالَى كَمَا أَخْبَرَ بِأَنَّهَا تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَقَدْ أَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَى الْكِفَايَةِ مِنْهَا بِقَوْلِهِ : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . وَإِذَا أَخْبَرَ بِوُقُوعِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ أَنْ يَصِلَ أَمْرُ الْآمِرِ وَنَهْيُ النَّاهِي مِنْهَا إلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ فِي الْعَالَمِ ؛ إذْ لَيْسَ هَذَا مِنْ شَرْطِ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ : فَكَيْفَ يُشْتَرَطُ فِيمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِهَا ؟ بَلْ الشَّرْطُ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْمُكَلَّفُونَ مِنْ وُصُولِ ذَلِكَ إلَيْهِمْ . ثُمَّ إذَا فَرَّطُوا فَلَمْ يَسْعَوْا فِي وُصُولِهِ إلَيْهِمْ مَعَ قِيَامِ فَاعِلِهِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ :

كَانَ التَّفْرِيطُ مِنْهُمْ لَا مِنْهُ .وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ لَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ بَلْ هُوَ عَلَى الْكِفَايَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ مِنْ تَمَامِ ذَلِكَ كَانَ الْجِهَادُ أَيْضًا كَذَلِكَ فَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ مَنْ يَقُومُ بِوَاجِبِهِ أَثِمَ كُلُّ قَادِرٍ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ ؛ إذْ هُوَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَإِتْمَامَهُ بِالْجِهَادِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ ؛ وَلِهَذَا قِيلَ : لِيَكُنْ أَمْرُك بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُك عَنْ الْمُنْكَرِ غَيْرَ مُنْكَرٍ . وَإِذَا كَانَ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ والمستحبات فَالْوَاجِبَاتُ والمستحبات لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ فِيهَا رَاجِحَةً عَلَى الْمَفْسَدَةِ ؛ إذْ بِهَذَا بُعِثَتْ الرُّسُلُ وَنَزَلَتْ الْكُتُبُ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ؛ بَلْ كُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ صَلَاحٌ .
وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى الصَّلَاحِ وَالْمُصْلِحِينَ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَمَّ الْمُفْسِدِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَحَيْثُ كَانَتْ مَفْسَدَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَعْظَمَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ لَمْ تَكُنْ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ تُرِكَ وَاجِبٌ وَفُعِلَ مُحَرَّمٌ ؛ إذْ الْمُؤْمِنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ فِي عِبَادِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ هُدَاهُمْ وَهَذَا مَعْنَى

قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ } وَالِاهْتِدَاءُ إنَّمَا يَتِمُّ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ فَإِذَا قَامَ الْمُسْلِمُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ كَمَا قَامَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ لَمْ يَضُرَّهُ ضَلَالُ الضُّلَّالِ . وَذَلِكَ يَكُونُ تَارَةً بِالْقَلْبِ ؛ وَتَارَةً بِاللِّسَانِ ؛ وَتَارَةً بِالْيَدِ . فَأَمَّا الْقَلْبُ فَيَجِبُ بِكُلِّ حَالٍ ؛ إذْ لَا ضَرَرَ فِي فِعْلِهِ وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَلَيْسَ هُوَ بِمُؤْمِنِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَذَلِكَ أَدْنَى - أَوْ - أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } وَقَالَ : { لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ } . وَقِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ : مَنْ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ ؟ فَقَالَ : الَّذِي لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا وَهَذَا هُوَ الْمَفْتُونُ الْمَوْصُوفُ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ . وَهُنَا يَغْلَطُ فَرِيقَانِ مِنْ النَّاسِ : فَرِيقٌ يَتْرُكُ مَا يَجِبُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ تَأْوِيلًا لِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ كَمَا { قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي خُطْبَتِهِ : إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ } وَإِنَّكُمْ تَضَعُونَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا وَإِنِّي سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِ مِنْهُ } .

وَالْفَرِيقُ الثَّانِي : مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى إمَّا بِلِسَانِهِ وَإِمَّا بِيَدِهِ مُطْلَقًا ؛ مِنْ غَيْرِ فِقْهٍ وَحِلْمٍ وَصَبْرٍ وَنَظَرٍ فِيمَا يَصْلُحُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا لَا يَصْلُحُ وَمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَمَا لَا يَقْدِرُ كَمَا فِي { حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الخشني : سَأَلْت عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ وَرَأَيْت أَمْرًا لَا يَدَانِ لَك بِهِ فَعَلَيْك بِنَفْسِك وَدَعْ عَنْك أَمْرَ الْعَوَامِّ ؛ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِك أَيَّامٌ الصَّبْرُ فِيهِنَّ عَلَى مِثْلِ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ كَأَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ } . فَيَأْتِي بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مُطِيعٌ فِي ذَلِكَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُوَ مُعْتَدٍ فِي حُدُودِهِ كَمَا انْتَصَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ ؛ كَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ ؛ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ غَلِطَ فِيمَا أَتَاهُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْجِهَادِ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ فَسَادُهُ أَعْظَمَ مِنْ صَلَاحِهِ ؛ وَلِهَذَا { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ عَلَى جَوْرِ الْأَئِمَّةِ ؛ وَنَهَى عَنْ قِتَالِهِمْ مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَقَالَ : أَدُّوا إلَيْهِمْ حُقُوقَهُمْ وَسَلُوا اللَّهَ حُقُوقَكُمْ } . وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لُزُومُ الْجَمَاعَةِ وَتَرْكُ قِتَالِ الْأَئِمَّةِ وَتَرْكُ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ . وَأَمَّا أَهْلُ الْأَهْوَاءِ - كَالْمُعْتَزِلَةِ - فَيَرَوْنَ الْقِتَالَ لِلْأَئِمَّةِ مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ وَيَجْعَلُ الْمُعْتَزِلَةُ أُصُولَ دِينِهِمْ

خَمْسَةً : " التَّوْحِيدَ " الَّذِي هُوَ سَلْبُ الصِّفَاتِ ؛ وَ " الْعَدْلَ " الَّذِي هُوَ التَّكْذِيبُ بِالْقَدَرِ ؛ وَ " الْمَنْزِلَةَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ " وَ " إنْفَاذَ الْوَعِيدِ " وَ " الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ " الَّذِي مِنْهُ قِتَالُ الْأَئِمَّةِ . وَقَدْ تَكَلَّمْت عَلَى قِتَالِ الْأَئِمَّةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَجِمَاعُ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي " الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ " : فِيمَا إذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ وَالْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ أَوْ تَزَاحَمَتْ ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَرْجِيحُ الرَّاجِحِ مِنْهَا فِيمَا إذَا ازْدَحَمَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ وَتَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ . فَإِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَإِنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ وَدَفْعِ مَفْسَدَةٍ فَيُنْظَرُ فِي الْمُعَارِضِ لَهُ فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَفُوتُ مِنْ الْمَصَالِحِ أَوْ يَحْصُلُ مِنْ الْمَفَاسِدِ أَكْثَرَ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ ؛ بَلْ يَكُونُ مُحَرَّمًا إذَا كَانَتْ مَفْسَدَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ ؛ لَكِنَّ اعْتِبَارَ مَقَادِيرِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ هُوَ بِمِيزَانِ الشَّرِيعَةِ فَمَتَى قَدَرَ الْإِنْسَانُ عَلَى اتِّبَاعِ النُّصُوصِ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهَا وَإِلَّا اجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ لِمَعْرِفَةِ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ وَقُلْ إنْ تعوز النُّصُوصَ مَنْ يَكُونُ خَبِيرًا بِهَا وَبِدَلَالَتِهَا عَلَى الْأَحْكَامِ . وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الشَّخْصُ أَوْ الطَّائِفَةُ جَامِعَيْنِ بَيْنَ مَعْرُوفٍ وَمُنْكَرٍ بِحَيْثُ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يَفْعَلُوهُمَا جَمِيعًا ؛ أَوْ يَتْرُكُوهَا جَمِيعًا : لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْمَرُوا بِمَعْرُوفِ وَلَا أَنْ يُنْهُوا مِنْ مُنْكَرٍ ؛ يَنْظُرُ : فَإِنْ كَانَ الْمَعْرُوفُ أَكْثَرَ أَمَرَ بِهِ ؛ وَإِنْ اسْتَلْزَمَ مَا هُوَ دُونَهُ مِنْ الْمُنْكَرِ . وَلَمْ يَنْهَ

عَنْ مُنْكَرٍ يَسْتَلْزِمُ تَفْوِيتَ مَعْرُوفٍ أَعْظَمَ مِنْهُ ؛ بَلْ يَكُونُ النَّهْيُ حِينَئِذٍ مِنْ بَابِ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالسَّعْيِ فِي زَوَالِ طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَزَوَالِ فِعْلِ الْحَسَنَاتِ وَإِنْ كَانَ الْمُنْكَرُ أَغْلَبَ نَهَى عَنْهُ ؛ وَإِنْ اسْتَلْزَمَ فَوَاتَ مَا هُوَ دُونَهُ مِنْ الْمَعْرُوفِ . وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِذَلِكَ الْمَعْرُوفِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْمُنْكَرِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ أَمْرًا بِمُنْكَرِ وَسَعْيًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَإِنْ تَكَافَأَ الْمَعْرُوفُ وَالْمُنْكَرُ الْمُتَلَازِمَانِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِمَا وَلَمْ يُنْهَ عَنْهُمَا . فَتَارَةً يَصْلُحُ الْأَمْرُ ؛ وَتَارَةً يَصْلُحُ النَّهْيُ ؛ وَتَارَةً لَا يَصْلُحُ لَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ حَيْثُ كَانَ الْمَعْرُوفُ وَالْمُنْكَرُ مُتَلَازِمَيْنِ ؛ وَذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ الْوَاقِعَةِ .
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ النَّوْعِ فَيُؤْمَرُ بِالْمَعْرُوفِ مُطْلَقًا وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ مُطْلَقًا . وَفِي الْفَاعِلِ الْوَاحِدِ وَالطَّائِفَةِ الْوَاحِدَةِ يُؤْمَرُ بِمَعْرُوفِهَا وَيَنْهَى عَنْ مُنْكَرِهَا وَيُحْمَدُ مَحْمُودُهَا وَيُذَمُّ مَذْمُومُهَا ؛ بِحَيْثُ لَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرُ بِمَعْرُوفِ فَوَاتَ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ حُصُولَ مُنْكَرٍ فَوْقَهُ وَلَا يَتَضَمَّنُ النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ حُصُولَ أَنْكَرَ مِنْهُ أَوْ فَوَاتَ مَعْرُوفٍ أَرْجَحَ مِنْهُ . وَإِذَا اشْتَبَهَ الْأَمْرُ اسْتَبَانَ الْمُؤْمِنُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ ؛ فَلَا يَقْدُمُ عَلَى الطَّاعَةِ إلَّا بِعِلْمِ وَنِيَّةٍ ؛ وَإِذَا تَرَكَهَا كَانَ عَاصِيًا فَتَرْكُ الْأَمْرِ الْوَاجِبِ مَعْصِيَةٌ ؛ وَفِعْلُ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ الْأَمْرِ مَعْصِيَةٌ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَلَا

حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ إقْرَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي وَأَمْثَالِهِ مِنْ أَئِمَّةِ النِّفَاقِ وَالْفُجُورِ لِمَا لَهُمْ مِنْ أَعْوَانٍ فَإِزَالَةُ مُنْكَرِهِ بِنَوْعِ مِنْ عِقَابِهِ مُسْتَلْزِمَةٌ إزَالَةَ مَعْرُوفٍ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِغَضَبِ قَوْمِهِ وَحَمِيَّتِهِمْ ؛ وَبِنُفُورِ النَّاسِ إذَا سَمِعُوا أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا خَاطَبَ النَّاسَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ بِمَا خَاطَبَهُمْ بِهِ وَاعْتَذَرَ مِنْهُ وَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ قَوْلًا الَّذِي أَحْسَنَ فِيهِ : حَمِيَ لَهُ سَعْدُ بْنُ عبادة مَعَ حُسْنِ إيمَانِهِ . وَأَصْلُ هَذَا أَنْ تَكُونَ مَحَبَّةُ الْإِنْسَانِ الْمَعْرُوفَ وَبُغْضُهُ لِلْمُنْكَرِ ؛ وَإِرَادَتُهُ لِهَذَا ؛ وَكَرَاهَتُهُ لِهَذَا : مُوَافِقَةً لِحُبِّ اللَّهِ وَبُغْضِهِ وَإِرَادَتِهِ وَكَرَاهَتِهِ الشَّرْعِيِّينَ . وَأَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ لِلْمَحْبُوبِ وَدَفْعُهُ لِلْمَكْرُوهِ بِحَسَبِ قُوَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ : فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَقَدْ قَالَ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . فَأَمَّا حُبُّ الْقَلْبِ وَبُغْضُهُ وَإِرَادَتُهُ وَكَرَاهِيَتُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كَامِلَةً جَازِمَةً ؛ لَا يُوجِبُ نَقْصَ ذَلِكَ إلَّا نَقْصَ الْإِيمَانِ . وَأَمَّا فِعْلُ الْبَدَنِ فَهُوَ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ وَمَتَى كانت إرَادَةُ الْقَلْبِ وَكَرَاهَتِهِ كَامِلَةً تَامَّةً وَفِعْلُ الْعَبْدِ مَعَهَا بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ : فَإِنَّهُ يُعْطَى ثَوَابَ الْفَاعِلِ الْكَامِلِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ : فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ حُبُّهُ وَبُغْضُهُ وَإِرَادَتُهُ وَكَرَاهَتُهُ بِحَسَبِ مَحَبَّةِ نَفْسِهِ وَبُغْضِهَا ؛ لَا

بِحَسَبِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبُغْضِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهَذَا مِنْ نَوْعِ الْهَوَى ؛ فَإِنْ اتَّبَعَهُ الْإِنْسَانُ فَقَدْ اتَّبَعَ هَوَاهُ { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } فَإِنَّ أَصْلَ الْهَوَى مَحَبَّةُ النَّفْسِ وَيَتْبَعُ ذَلِكَ بُغْضُهَا وَنَفْسُ الْهَوَى - وَهُوَ الْحَبُّ وَالْبُغْضُ الَّذِي فِي النَّفْسِ - لَا يُلَامُ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ لَا يُمْلَكُ وَإِنَّمَا يُلَامُ عَلَى اتِّبَاعِهِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا دَاوُدُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ : خَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَكَلِمَةُ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا . وَثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ : شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ } . وَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ يَتْبَعُهُ ذَوْقٌ عِنْدَ وُجُودِ الْمَحْبُوبِ وَالْمُبْغَضِ وَوَجْدٌ وَإِرَادَةٌ ؛ وَغَيْرُ ذَلِكَ فَمَنْ اتَّبَعَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ ؛ بَلْ قَدْ يَصْعَدُ بِهِ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يَتَّخِذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَاتِّبَاعُ الْأَهْوَاءِ فِي الدِّيَانَاتِ أَعْظَمُ مِنْ اتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ فِي الشَّهَوَاتِ . فَإِنَّ الْأَوَّلَ حَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ لَكُمْ

مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ } الْآيَةَ ؛ إلَى أَنْ قَالَ : { بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } وَقَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إنَّكَ إذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } وَقَالَ : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } . وَلِهَذَا كَانَ مَنْ خَرَجَ عَنْ مُوجِبِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعِبَادِ يَجْعَلُ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ ؛ كَمَا كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَهُمْ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ وَذَلِكَ إنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ الْعِلْمَ فَقَدْ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَالْعِلْمُ بِالدِّينِ لَا يَكُونُ إلَّا بِهُدَى اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ : { وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } . فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَنْظُرَ فِي نَفْسِ حُبِّهِ وَبُغْضِهِ . وَمِقْدَارِ حُبِّهِ

وَبُغْضِهِ : هَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؟ وَهُوَ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ مَأْمُورًا بِذَلِكَ الْحَبِّ وَالْبُغْضِ . لَا يَكُونُ مُتَقَدِّمًا فِيهِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ : { لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } وَمَنْ أَحَبَّ أَوْ أَبْغَضَ قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَفِيهِ نَوْعٌ مِنْ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَمُجَرَّدُ الْحَبِّ وَالْبُغْضِ هَوًى ؛ لَكِنَّ الْمُحَرَّمَ اتِّبَاعُ حُبِّهِ وَبُغْضِهِ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ : وَلِهَذَا قَالَ : { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ أَضَلَّهُ ذَلِكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ هُدَاهُ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ . وَهُوَ السَّبِيلُ إلَيْهِ . وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ هُوَ مِنْ أَوْجَبِ الْأَعْمَالِ وَأَفْضَلِهَا وَأَحْسَنِهَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } وَهُوَ كَمَا قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ . فَإِنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ : أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ . فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ لَا بُدَّ أَنْ يُرَادَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ وَحْدَهُ ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ } .

وَهَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ وَلَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ وَهُوَ حَقُّهُ عَلَى عِبَادِهِ : أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ صَالِحًا ؛ وَهُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَهُوَ الطَّاعَةُ فَكُلُّ طَاعَةٍ عَمَلٌ صَالِحٌ وَكُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ طَاعَةٌ وَهُوَ الْعَمَلُ الْمَشْرُوعُ الْمَسْنُونُ ؛ إذْ الْمَشْرُوعُ الْمَسْنُونُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَهُوَ الْحَسَنُ وَهُوَ الْبِرُّ وَهُوَ الْخَيْرُ ؛ وَضِدَّهُ الْمَعْصِيَةُ وَالْعَمَلُ الْفَاسِدُ وَالسَّيِّئَةُ وَالْفُجُورُ وَالظُّلْمُ . وَلَمَّا كَانَ الْعَمَلُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ شَيْئَيْنِ : النِّيَّةُ وَالْحَرَكَةُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ } فَكُلُّ أَحَدٍ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ لَهُ عَمَلٌ وَنِيَّةٌ ؛ لَكِنَّ النِّيَّةَ الْمَحْمُودَةَ الَّتِي يَتَقَبَّلُهَا اللَّهُ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا : أَنْ يُرَادَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ . وَالْعَمَلُ الْمَحْمُودُ : الصَّالِحُ ؛ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا .
وَإِذَا كَانَ هَذَا حَدُّ كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ : فَالْآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَكَذَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا يَكُونُ عَمَلُهُ صَالِحًا إنْ لَمْ يَكُنْ بِعِلْمِ وَفِقْهٍ وَكَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ

كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ . وَكَمَا فِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { الْعِلْمُ إمَامُ الْعَمَلِ وَالْعَمَلُ تَابِعُهُ } وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْقَصْدَ وَالْعَمَلَ إنْ لَمْ يَكُنْ بِعِلْمِ كَانَ جَهْلًا وَضَلَالًا وَاتِّبَاعًا لِلْهَوَى كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَهْلِ الْإِسْلَامِ . فَلَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا . وَلَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ بِحَالِ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ . وَمِنْ الصَّلَاحِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَهُوَ أَقْرَبُ الطُّرُقِ إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ . وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الرِّفْقِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ ؛ وَلَا كَانَ الْعُنْفُ فِي شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ وَيُعْطِي عَلَيْهِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ . } وَلَا بُدَّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ حَلِيمًا صَبُورًا عَلَى الْأَذَى ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ أَذًى ؛ فَإِنْ لَمْ يَحْلَمْ وَيَصْبِرْ كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ . كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ : { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ الرُّسُلَ - وَهُمْ أَئِمَّةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ - بِالصَّبْرِ كَقَوْلِهِ لِخَاتَمِ الرُّسُلِ ؛ بَلْ ذَلِكَ مَقْرُونٌ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ . فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَا أُرْسِلَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ . اقْرَأْ الَّتِي بِهَا نُبِّئَ

فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } { قُمْ فَأَنْذِرْ } { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } { وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } { وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } فَافْتَتَحَ آيَاتِ الْإِرْسَالِ إلَى الْخَلْقِ بِالْأَمْرِ بِالنِّذَارَةِ وَخَتَمَهَا بِالْأَمْرِ بِالصَّبْرِ وَنَفْسُ الْإِنْذَارِ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ . فَعُلِمَ أَنَّهُ يَجِبُ بَعْدَ ذَلِكَ الصَّبْرُ وَقَالَ : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا } { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلَّا بِاللَّهِ } { وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } . فَلَا بُدَّ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ : الْعِلْمُ ؛ وَالرِّفْقُ ؛ وَالصَّبْرُ ؛ الْعِلْمُ قَبْلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيُ ؛ وَالرِّفْقُ مَعَهُ وَالصَّبْرُ بَعْدَهُ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الثَّلَاثَةِ مُسْتَصْحِبًا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ ؛ وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ وَرَوَوْهُ مَرْفُوعًا ؛ ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي الْمُعْتَمَدِ : " لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ إلَّا مَنْ كَانَ فَقِيهًا فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ ؛ فَقِيهًا فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ ؛ رَفِيقًا فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ ؛ رَفِيقًا فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ ؛ حَلِيمًا فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ حَلِيمًا فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ " . وَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِهَذِهِ الْخِصَالِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مِمَّا يُوجِبُ صُعُوبَةً عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النُّفُوسِ ؛ فَيَظُنُّ أَنَّهُ بِذَلِكَ يَسْقُطُ عَنْهُ فَيَدَعُهُ ؛ وَذَلِكَ مِمَّا يَضُرُّهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَضُرُّهُ الْأَمْرُ بِدُونِ هَذِهِ الْخِصَالِ أَوْ

أَقَلَّ : فَإِنَّ تَرْكَ الْأَمْرِ الْوَاجِبِ مَعْصِيَةٌ : فَالْمُنْتَقِلُ مِنْ مَعْصِيَةٍ إلَى مَعْصِيَةٍ أَكْبَرَ مِنْهَا كَالْمُسْتَجِيرِ مِنْ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ وَالْمُنْتَقِلُ مِنْ مَعْصِيَةٍ إلَى مَعْصِيَةٍ كَالْمُنْتَقِلِ مِنْ دِينٍ بَاطِلٍ إلَى دِينٍ بَاطِلٍ ؛ وَقَدْ يَكُونُ الثَّانِي شَرًّا مِنْ الْأَوَّلِ : وَقَدْ يَكُونُ دُونَهُ ؛ وَقَدْ يَكُونَانِ سَوَاءً ؛ فَهَكَذَا تَجِدُ الْمُقَصِّرَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْمُعْتَدِيَ فِيهِ قَدْ يَكُونُ ذَنْبُ هَذَا أَعْظَمُ : وَقَدْ يَكُونُ ذَنْبُ هَذَا أَعْظَمُ ؛ وَقَدْ يَكُونَانِ سَوَاءً .
وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِمَا أَرَانَا اللَّهُ مِنْ آيَاتِهِ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِنَا وَبِمَا شَهِدَ بِهِ فِي كِتَابِهِ : أَنَّ الْمَعَاصِيَ سَبَبُ الْمَصَائِبِ ؛ فَسَيِّئَاتُ الْمَصَائِبِ وَالْجَزَاءُ مِنْ سَيِّئَاتِ الْأَعْمَالِ وَأَنَّ الطَّاعَةَ سَبَبُ النِّعْمَةِ فَإِحْسَانُ الْعَمَلِ سَبَبٌ لِإِحْسَانِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } " وَقَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } وَقَالَ : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } " وَقَالَ : { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ } وَقَالَ : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } .

وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِمَا عَاقَبَ بِهِ أَهْلَ السَّيِّئَاتِ مِنْ الْأُمَمِ ؛ كَقَوْمِ نُوحٍ ؛ وَعَادٍ ؛ وَثَمُودَ ؛ وَقَوْمِ لُوطٍ ؛ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ ؛ وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ : فِي الدُّنْيَا . وَأَخْبَرَ بِمَا يُعَاقِبُهُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ : { يَا قَوْمِ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ } { مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ } { وَيَا قَوْمِ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ } { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ } وَقَالَ : { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } وَقَالَ : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } وَقَالَ : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } . إلَى قَوْلِهِ : { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إنَّا مُنْتَقِمُونَ } . وَلِهَذَا يَذْكُرُ اللَّهُ فِي عَامَّةِ سُوَرِ الْإِنْذَارِ مَا عَاقَبَ بِهِ أَهْلَ السَّيِّئَاتِ فِي الدُّنْيَا وَمَا أَعَدَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ يَذْكُرُ فِي السُّورَةِ وَعْدَ الْآخِرَةِ فَقَطْ ؛ إذْ عَذَابُ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ ؛ وَثَوَابُهَا أَعْظَمُ ؛ وَهِيَ دَارُ الْقَرَارِ . وَإِنَّمَا يَذْكُرُ مَا يَذْكُرُهُ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا تَبَعًا ؛ كَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } { وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } وَقَالَ : { فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ

ثَوَابِ الْآخِرَةِ } وَقَالَ : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } { الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } وَقَالَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } . وَأَمَّا ذِكْرُهُ لِعُقُوبَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَفِي سُورَةِ : { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا } { وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا } ثُمَّ قَالَ : { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ } { تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ } فَذَكَرَ الْقِيَامَةَ مُطْلَقًا ثُمَّ قَالَ : { هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } { إذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى } { اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } ثُمَّ ذَكَرَ الْمُبْدَأَ وَالْمَعَادَ مُفَصَّلًا فَقَالَ : { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا } . إلَى قَوْله تَعَالَى { فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى } . إلَى قَوْله تَعَالَى { فَأَمَّا مَنْ طَغَى } { وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } { فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى } { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } إلَى آخِرِ السُّورَةِ . وَكَذَلِكَ فِي " الْمُزَّمِّلِ " ذَكَرَ قَوْلَهُ : { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا } { إنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا } { وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا } إلَى قَوْله تَعَالَى { كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا } { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا } . كَذَلِكَ فِي " سُورَةِ الْحَاقَّةِ " ذَكَرَ قِصَصَ الْأُمَمِ ؛ كثمود وَعَادٍ وَفِرْعَوْنَ

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } { وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } إلَى تَمَامِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ . وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ ن وَالْقَلَمِ ؛ ذَكَرَ قِصَّةَ أَهْلِ الْبُسْتَانِ الَّذِينَ مَنَعُوا حَقَّ أَمْوَالِهِمْ وَمَا عَاقَبَهُمْ بِهِ ثُمَّ قَالَ : { كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } . كَذَلِكَ فِي " سُورَةِ التَّغَابُنِ " قَالَ : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } ثُمَّ قَالَ : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } . وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ " ق " ذَكَرَ حَالَ الْمُخَالِفِينَ لِلرُّسُلِ ؛ وَذَكَرَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ فِي الْآخِرَةِ . وَكَذَلِكَ فِي " سُورَةِ الْقَمَرِ " ذَكَرَ هَذَا وَهَذَا . كَذَلِكَ فِي " آلِ حم " مَثَلُ حم غَافِرٌ ؛ وَالسَّجْدَةُ ؛ وَالزُّخْرُفُ ؛ وَالدُّخَانُ وَغَيْرُ ذَلِكَ . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى . فَإِنَّ التَّوْحِيدَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ هُوَ أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ ؛ كَمَا فِي صَحِيحِ

الْبُخَارِيِّ عَنْ { يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ قَالَ : إنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ إذْ جَاءَهَا عِرَاقِيٌّ فَقَالَ : أَيُّ الْكَفَنِ خَيْرٌ ؟ قَالَتْ : وَيْحك وَمَا يَضُرُّك ؟ قَالَ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرِينِي مُصْحَفَك . قَالَتْ : لِمَ ؟ قَالَ : لَعَلِّي أُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ . فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ قَالَتْ : وَمَا يَضُرُّك أَيَّه قَرَأْت قَبْلُ إنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إذَا ثَابَ النَّاسُ إلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ لَقَالُوا : لَا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا وَلَوْ نَزَلَ لَا تَزْنُوا لَقَالُوا : لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ : { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَ النِّسَاءُ إلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ قَالَ : فَأَخْرَجْت لَهُ الْمُصْحَفَ فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آيَ السُّوَرِ . } وَإِذَا كَانَ الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ سَبَبَ الشَّرِّ وَالْعُدْوَانِ فَقَدْ يُذْنِبُ الرَّجُلُ أَوْ الطَّائِفَةُ وَيَسْكُتُ آخَرُونَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَيُنْكِرُ عَلَيْهِمْ آخَرُونَ إنْكَارًا مَنْهِيًّا عَنْهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ ؛ فَيَحْصُلُ التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ وَالشَّرُّ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْفِتَنِ وَالشُّرُورِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ؛ إذْ الْإِنْسَانُ ظَلُومٌ جَهُولٌ وَالظُّلْمُ وَالْجَهْلُ أَنْوَاعٌ فَيَكُونُ ظُلْمُ الْأَوَّلِ وَجَهْلُهُ مِنْ نَوْعٍ وَظُلْمُ كُلٍّ مِنْ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَجَهْلِهِمَا مَنْ نَوْعٍ آخَرَ وَآخَرَ .

وَمَنْ تَدَبَّرَ الْفِتَنَ الْوَاقِعَةَ رَأَى سَبَبَهَا ذَلِكَ وَرَأَى أَنَّ مَا وَقَعَ بَيْنَ أُمَرَاءِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَائِهَا وَمَنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ مِنْ مُلُوكِهَا وَمَشَايِخِهَا ؛ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْعَامَّةِ مِنْ الْفِتَنِ : هَذَا أَصْلُهَا ؛ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَسْبَابُ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ : الَّتِي هِيَ الْأَهْوَاءُ الدِّينِيَّةُ والشهوانية ؛ وَهِيَ الْبِدَعُ فِي الدِّينِ وَالْفُجُورُ فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ أَنَّ أَسْبَابَ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ الْبِدَعُ فِي الدِّينِ وَالْفُجُورُ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ : تَعُمُّ بَنِي آدَمَ ؛ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ ؛ فَبِذَنْبِ بَعْضِ النَّاسِ يَظْلِمُ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ ؛ كَالزِّنَا بِلِوَاطِ وَغَيْرِهِ ؛ أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ ؛ أَوْ ظُلْمٍ فِي الْمَالِ بِخِيَانَةِ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ غَصْبٍ ؛ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْمَعَاصِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَقْبَحَةً مَذْمُومَةً فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ فَهِيَ مُشْتَهَاةٌ أَيْضًا وَمِنْ شَأْنِ النُّفُوسِ أَنَّهَا لَا تُحِبُّ اخْتِصَاصَ غَيْرِهَا بِهَا ؛ لَكِنْ تُرِيدُ أَنْ يَحْصُلَ لَهَا مَا حَصَلَ لَهُ وَهَذَا هُوَ الْغِبْطَةُ الَّتِي هِيَ أَدْنَى نَوْعَيْ الْحَسَدِ . فَهِيَ تُرِيدُ الِاسْتِعْلَاءَ عَلَى الْغَيْرِ وَالِاسْتِئْثَارَ دُونَهُ ؛ أَوْ تَحْسُدُهُ وَتَتَمَنَّى زَوَالَ النِّعْمَةِ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ ؛ فَفِيهَا مِنْ إرَادَةِ الْعُلُوِّ وَالْفَسَادِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَالْحَسَدِ مَا مُقْتَضَاهُ أَنَّهَا تَخْتَصُّ عَنْ غَيْرِهَا بِالشَّهَوَاتِ ؛ فَكَيْفَ إذَا رَأَتْ الْغَيْرَ قَدْ اسْتَأْثَرَ عَلَيْهَا بِذَلِكَ وَاخْتَصَّ بِهَا دُونَهَا ؟ فَالْمُعْتَدِلُ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الَّذِي يُحِبُّ الِاشْتِرَاكَ والتساوي وَأَمَّا الْآخَرُ فَظَلُومٌ حَسُودٌ . وَهَذَانِ يَقَعَانِ فِي الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ وَالْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ لِحَقِّ اللَّهِ فَمَا كَانَ

جِنْسُهُ مُبَاحًا مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَنِكَاحٍ وَلِبَاسٍ وَرُكُوبٍ وَأَمْوَالٍ : إذَا وَقَعَ فِيهَا الِاخْتِصَاصُ حَصَلَ الظُّلْمُ ؛ وَالْبُخْلُ وَالْحَسَدُ . وَأَصْلُهُمَا الشُّحُّ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ : أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا ؛ وَأَمَرَهُمْ بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا ؛ وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا } . وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْأَنْصَارِ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِ الْمُهَاجِرِينَ : { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } أَيْ : لَا يَجِدُونَ الْحَسَدَ مِمَّا أُوتِيَ إخْوَانُهُمْ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ ؛ { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } ثُمَّ قَالَ : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . وَرُئِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَقُولُ : رَبِّ قِنِي شُحَّ نَفْسِي رَبِّ قِنِي شُحَّ نَفْسِي فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : إذَا وُقِيت شُحَّ نَفْسِي فَقَدْ وُقِيت الْبُخْلَ وَالظُّلْمَ وَالْقَطِيعَةَ أَوْ كَمَا قَالَ . فَهَذَا الشُّحُّ الَّذِي هُوَ شِدَّةُ حِرْصِ النَّفْسِ يُوجِبُ الْبُخْلَ بِمَنْعِ مَا هُوَ عَلَيْهِ ؛ وَالظُّلْمِ بِأَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ . وَيُوجِبُ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ ؛ وَيُوجِبُ الْحَسَدَ ؛ وَهُوَ : كَرَاهَةُ مَا أَخْتَصَّ بِهِ الْغَيْرُ وَالْحَسَدُ فِيهِ بُخْلٌ وَظُلْمٌ ؛ فَإِنَّهُ بُخْلٌ بِمَا أُعْطِيهِ غَيْرُهُ ؛ وَظُلْمُهُ بِطَلَبِ زَوَالِ ذَلِكَ عَنْهُ . فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي جِنْسِ الشَّهَوَاتِ الْمُبَاحَةِ ؛ فَكَيْفَ بِالْمُحَرَّمَةِ :

كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؟ وَإِذَا وَقَعَ فِيهَا اخْتِصَاصٌ فَإِنَّهُ يَصِيرُ فِيهَا نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : بُغْضُهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الِاخْتِصَاصِ وَالظُّلْمِ ؛ كَمَا يَقَعُ فِي الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ الْجِنْسُ . وَالثَّانِي : بُغْضُهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ . وَلِهَذَا كَانَتْ الذُّنُوبُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا فِيهَا ظُلْمُ النَّاسِ ؛ كَالظُّلْمِ بِأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَمَنْعِ الْحُقُوقِ ؛ وَالْحَسَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالثَّانِي : مَا فِيهِ ظُلْمُ النَّاسِ فَقَطْ ؛ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا ؛ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ ضَرَرُهُمَا . وَالثَّالِثُ : مَا يَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَمْرَانِ ؛ مِثْلَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُتَوَلِّي أَمْوَالَ النَّاسِ يَزْنِي بِهَا وَيَشْرَبُ بِهَا الْخَمْرَ ؛ وَمِثْلَ أَنْ يَزْنِيَ بِمَنْ يَرْفَعُهُ عَلَى النَّاسِ بِذَلِكَ السَّبَبِ وَيَضُرُّهُمْ ؛ كَمَا يَقَعُ مِمَّنْ يُحِبُّ بَعْضَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } .

وَأُمُورُ النَّاسِ تَسْتَقِيمُ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْعَدْلِ الَّذِي فِيهِ الِاشْتِرَاكُ فِي أَنْوَاعِ الْإِثْمِ : أَكْثَرُ مِمَّا تَسْتَقِيمُ مَعَ الظُّلْمِ فِي الْحُقُوقِ وَإِنْ لَمْ تَشْتَرِكْ فِي إثْمٍ ؛ وَلِهَذَا قِيلَ : إنَّ اللَّهَ يُقِيمُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً ؛ وَلَا يُقِيمُ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً . وَيُقَالُ : الدُّنْيَا تَدُومُ مَعَ الْعَدْلِ وَالْكُفْرِ وَلَا تَدُومُ مَعَ الظُّلْمِ وَالْإِسْلَامِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ ذَنْبٌ أَسْرَعَ عُقُوبَةً مِنْ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ } فَالْبَاغِي يُصْرَعُ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ مَغْفُورًا لَهُ مَرْحُومًا فِي الْآخِرَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَدْلَ نِظَامُ كُلِّ شَيْءٍ ؛ فَإِذَا أُقِيمَ أَمْرُ الدُّنْيَا بِعَدْلِ قَامَتْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهَا فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَمَتَى لَمْ تَقُمْ بِعَدْلِ لَمْ تَقُمْ وَإِنْ كَانَ لِصَاحِبِهَا مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُجْزَى بِهِ فِي الْآخِرَةِ ؛ فَالنَّفْسُ فِيهَا دَاعِي الظُّلْمِ لِغَيْرِهَا بِالْعُلُوِّ عَلَيْهِ وَالْحَسَدِ لَهُ ؛ وَالتَّعَدِّي عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ . وَدَاعِي الظُّلْمِ لِنَفْسِهَا بِتَنَاوُلِ الشَّهَوَاتِ الْقَبِيحَةِ كَالزِّنَا وَأَكْلِ الْخَبَائِثِ . فَهِيَ قَدْ تَظْلِمُ مَنْ لَا يَظْلِمُهَا ؛ وَتُؤْثِرُ هَذِهِ الشَّهَوَاتِ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْهَا ؛ فَإِذَا رَأَتْ نُظَرَاءَهَا قَدْ ظَلَمُوا وَتَنَاوَلُوا هَذِهِ الشَّهَوَاتِ صَارَ دَاعِي هَذِهِ الشَّهَوَاتِ أَوْ الظُّلْمِ فِيهَا أَعْظَمَ بِكَثِيرِ وَقَدْ تَصْبِرُ ؛ وَيَهِيجُ ذَلِكَ لَهَا مِنْ بُغْضِ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَحَسَدِهِ وَطَلَبِ عِقَابِهِ وَزَوَالِ الْخَيْرِ عَنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَلَهَا حُجَّةٌ عِنْدَ نَفْسِهَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ ؛ يَكُونُ ذَلِكَ الْغَيْرُ قَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَالْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِنَّ أَمْرَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيَهُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ ؛ وَالْجِهَادُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الدِّينِ .

وَالنَّاسُ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : قَوْمٌ لَا يَقُومُونَ إلَّا فِي أَهْوَاءِ نُفُوسِهِمْ ؛ فَلَا يَرْضَوْنَ إلَّا بِمَا يُعْطُونَهُ وَلَا يَغْضَبُونَ إلَّا لِمَا يحرمونه ؛ فَإِذَا أُعْطِيَ أَحَدُهُمْ مَا يَشْتَهِيهِ مِنْ الشَّهَوَاتِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ زَالَ غَضَبُهُ وَحَصَلَ رِضَاهُ وَصَارَ الْأَمْرُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ مُنْكَرًا - يُنْهَى عَنْهُ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ ؛ وَيَذُمُّ صَاحِبَهُ وَيَغْضَبُ عَلَيْهِ - مَرْضِيًّا عِنْدَهُ وَصَارَ فَاعِلًا لَهُ وَشَرِيكًا فِيهِ ؛ وَمُعَاوِنًا عَلَيْهِ ؛ وَمُعَادِيًا لِمَنْ نَهَى عَنْهُ وَيُنْكِرُ عَلَيْهِ . وَهَذَا غَالِبٌ فِي بَنِي آدَمَ يَرَى الْإِنْسَانُ وَيَسْمَعُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصِيهِ . وَسَبَبُهُ : أَنَّ الْإِنْسَانَ ظَلُومٌ جَهُولٌ ؛ فَلِذَلِكَ لَا يَعْدِلُ بَلْ رُبَّمَا كَانَ ظَالِمًا فِي الْحَالَيْنِ يَرَى قَوْمًا يُنْكِرُونَ عَلَى الْمُتَوَلِّي ظُلْمَهُ لِرَعِيَّتِهِ وَاعْتِدَاءَهُ عَلَيْهِمْ ؛ فَيَرْضَى أُولَئِكَ الْمُنْكِرُونَ بِبَعْضِ الشَّيْءِ فَيَنْقَلِبُونَ أَعْوَانًا لَهُ . وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِمْ أَنْ يَسْكُتُوا عَنْ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ تَرَاهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَزْنِي وَيَسْمَعُ الْمَلَاهِيَ حَتَّى يُدْخِلُوا أَحَدَهُمْ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ ؛ أَوْ يَرْضَوْهُ بِبَعْضِ ذَلِكَ ؛ فَتَرَاهُ قَدْ صَارَ عَوْنًا لَهُمْ . وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَعُودُونَ بِإِنْكَارِهِمْ إلَى أَقْبَحِ مِنْ الْحَالِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا وَقَدْ يَعُودُونَ إلَى مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ أَوْ نَظِيرِهِ . وَقَوْمٌ يَقُومُونَ دِيَانَةً صَحِيحَةً يَكُونُونَ فِي ذَلِكَ مُخْلِصِينَ لِلَّهِ مُصْلِحِينَ فِيمَا عَمِلُوهُ وَيَسْتَقِيمُ لَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى يَصْبِرُوا عَلَى مَا أُوذُوا . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَهُمْ مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ :

يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ . وَقَوْمٌ يَجْتَمِعُ فِيهِمْ هَذَا وَهَذَا ؛ وَهُمْ غَالِبُ الْمُؤْمِنِينَ فَمَنْ فِيهِ دِينٌ وَلَهُ شَهْوَةٌ تَجْتَمِعُ فِي قُلُوبِهِمْ إرَادَةُ الطَّاعَةِ وَإِرَادَةُ الْمَعْصِيَةِ وَرُبَّمَا غَلَبَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً . وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ الثُّلَاثِيَّةُ كَمَا قِيلَ : الْأَنْفُسُ ثَلَاثٌ : أَمَّارَةٌ ؛ وَمُطَمْئِنَةٌ ؛ وَلَوَّامَةٌ . فَالْأَوَّلُونَ هُمْ أَهْلُ الْأَنْفُسِ الْأَمَّارَةِ الَّتِي تَأْمُرُهُ بِالسُّوءِ . وَالْأَوْسَطُونَ هُمْ أَهْلُ النُّفُوسِ الْمُطْمَئِنَّةِ الَّتِي قِيلَ فِيهَا : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ } { ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً } { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } { وَادْخُلِي جَنَّتِي } . وَالْآخَرُونَ هُمْ أَهْلُ النُّفُوسِ اللَّوَّامَةِ الَّتِي تَفْعَلُ الذَّنْبَ ثُمَّ تَلُومُ عَلَيْهِ ؛ وَتَتَلَوَّنُ : تَارَةً كَذَا . وَتَارَةً كَذَا . وَتَخْلِطُ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ اللَّذَيْنِ أُمِرَ الْمُسْلِمُونَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اقْتَدُوا بالذين مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ } أَقْرَبُ عَهْدًا بِالرِّسَالَةِ وَأَعْظَمُ إيمَانًا وَصَلَاحًا ؛ وَأَئِمَّتُهُمْ أَقْوَمُ بِالْوَاجِبِ وَأَثْبَتُ فِي الطُّمَأْنِينَةِ : لَمْ تَقَعْ فِتْنَةٌ ؛ إذْ كَانُوا فِي حُكْمِ الْقِسْمِ الْوَسَطِ . وَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَخِلَافَةِ عَلِيٍّ كَثُرَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ ؛ فَصَارَ فِيهِمْ شَهْوَةٌ وَشُبْهَةٌ مَعَ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ ؛ وَصَارَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْوُلَاةِ

وَبَعْضِ الرَّعَايَا ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ بَعْدُ ؛ فَنَشَأَتْ الْفِتْنَةُ الَّتِي سَبَبُهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ تَمْحِيصِ التَّقْوَى وَالطَّاعَةِ فِي الطَّرَفَيْنِ ؛ وَاخْتِلَاطِهِمَا بِنَوْعِ مِنْ الْهَوَى وَالْمَعْصِيَةِ فِي الطَّرَفَيْنِ : وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُتَأَوِّلٌ أَنَّهُ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَنَّهُ مَعَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَمَعَ هَذَا التَّأْوِيلِ نَوْعٌ مِنْ الْهَوَى ؛ فَفِيهِ نَوْعٌ مِنْ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ؛ وَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ الْأُخْرَى . فَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ ؛ وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي أَنْ يُقِيمَ قَلْبَهُ وَلَا يُزِيغَهُ : وَيُثَبِّتَهُ عَلَى الْهُدَى وَالتَّقْوَى ؛ وَلَا يَتَّبِعُ الْهَوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } . وَهَذَا أَيْضًا حَالُ الْأُمَّةِ فِيمَا تَفَرَّقَتْ فِيهِ وَاخْتَلَفَتْ فِي الْمَقَالَاتِ وَالْعِبَادَاتِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ مِمَّا تَعْظُمُ بِهَا الْمِحْنَةُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ . فَإِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى شَيْئَيْنِ : إلَى دَفْعِ الْفِتْنَةِ الَّتِي اُبْتُلِيَ بِهَا نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ فِتْنَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا عَنْ نُفُوسِهِمْ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لَهَا : فَإِنَّ مَعَهُمْ نُفُوسًا وَشَيَاطِينَ كَمَا مَعَ غَيْرِهِمْ فَمَعَ وُجُودِ ذَلِكَ مِنْ نُظَرَائِهِمْ يَقْوَى الْمُقْتَضِي عِنْدَهُمْ ؛ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ ؛ فَيَقْوَى الدَّاعِي الَّذِي فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَشَيْطَانُهُ ؛ وَمَا يَحْصُلُ مِنْ الدَّاعِي بِفِعْلِ الْغَيْرِ وَالنَّظِيرِ . فَكَمْ مِمَّنْ لَمْ يَرِدْ خَيْرًا وَلَا شَرًّا حَتَّى رَأَى غَيْرَهُ - لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ نَظِيرُهُ -

يَفْعَلُهُ فَفَعَلَهُ فَإِنَّ النَّاسَ كَأَسْرَابِ الْقَطَا ؛ مَجْبُولُونَ عَلَى تَشَبُّهِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضِ . وَلِهَذَا كَانَ الْمُبْتَدِئُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ : لَهُ مِثْلُ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ الْأَجْرِ وَالْوِزْرِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ؛ وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا } وَذَلِكَ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْحَقِيقَةِ . وَأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ نَظِيرِهِ . وَشَبَهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ . فَإِذَا كَانَ هَذَانِ دَاعِيَيْنِ قَوِيَّيْنِ : فَكَيْفَ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِمَا دَاعِيَانِ آخَرَانِ ؟ وَذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْمُنْكَرِ يُحِبُّونَ مَنْ يُوَافِقُهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ ؛ وَيُبْغِضُونَ مَنْ لَا يُوَافِقُهُمْ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الدِّيَانَاتِ الْفَاسِدَةِ مِنْ مُوَالَاةِ كُلِّ قَوْمٍ لِمُوَافَقِيهِمْ ؛ وَمُعَادَاتِهِمْ لِمُخَالِفِيهِمْ . وَكَذَلِكَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ كَثِيرًا مَا يَخْتَارُونَ وَيُؤْثِرُونَ مَنْ يُشَارِكُهُمْ : إمَّا لِلْمُعَاوَنَةِ عَلَى ذَلِكَ ؛ كَمَا فِي الْمُتَغَلِّبِينَ مِنْ أَهْلِ الرِّيَاسَاتِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِمْ . وَإِمَّا بِالْمُوَافَقَةِ ؛ كَمَا فِي الْمُجْتَمِعِينَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَخْتَارُونَ أَنْ يَشْرَبَ كُلُّ مَنْ حَضَرَ عِنْدَهُمْ وَإِمَّا لِكَرَاهَتِهِمْ امْتِيَازَهُ عَنْهُمْ بِالْخَيْرِ : إمَّا حَسَدًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِئَلَّا يَعْلُوَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَيُحْمَدُ دُونَهُمْ . وَإِمَّا لِئَلَّا يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ . وَإِمَّا لِخَوْفِهِمْ مِنْ مُعَاقَبَتِهِ لَهُمْ بِنَفْسِهِ ؛ أَوْ بِمَنْ يَرْفَعُ ذَلِكَ إلَيْهِمْ ؛ وَلِئَلَّا يَكُونُوا تَحْت مِنَّتِهِ وَخَطَرِهِ

وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ : { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً } . وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَدَّتْ الزَّانِيَةُ لَوْ زَنَى النِّسَاءُ كُلُّهُنَّ . وَالْمُشَارِكَةُ قَدْ يَخْتَارُونَهَا فِي نَفْسِ الْفُجُورِ كَالِاشْتِرَاكِ فِي الشُّرْبِ وَالْكَذِبِ وَالِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ وَقَدْ يَخْتَارُونَهَا فِي النَّوْعِ ؛ كَالزَّانِي الَّذِي يَوَدُّ أَنَّ غَيْرَهُ يَزْنِي ؛ وَالسَّارِقُ الَّذِي يَوَدُّ أَنَّ غَيْرَهُ يَسْرِقُ أَيْضًا ؛ لَكِنْ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ الَّتِي زَنَى بِهَا أَوْ سَرَقَهَا . وَأَمَّا الدَّاعِي الثَّانِي فَقَدْ يَأْمُرُونَ الشَّخْصَ بِمُشَارَكَتِهِمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْمُنْكَرِ . فَإِنْ شَارَكَهُمْ وَإِلَّا عَادُوهُ وَآذَوْهُ عَلَى وَجْهٍ يَنْتَهِي إلَى حَدِّ الْإِكْرَاهِ ؛ أَوَّلًا يَنْتَهِي إلَى حَدِّ الْإِكْرَاهِ ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَخْتَارُونَ مُشَارَكَةَ الْغَيْرِ لَهُمْ فِي قَبِيحِ فِعْلِهِمْ أَوْ يَأْمُرُونَهُ بِذَلِكَ وَيَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى مَا يُرِيدُونَهُ : مَتَى شَارَكَهُمْ وَعَاوَنَهُمْ وَأَطَاعَهُمْ انْتَقَصُوهُ وَاسْتَخَفُّوا بِهِ . وَجَعَلُوا ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِ فِي أُمُورٍ أُخْرَى . وَإِنْ لَمْ يُشَارِكْهُمْ عَادَوْهُ وَآذَوْهُ . وَهَذِهِ حَالُ غَالِبِ الظَّالِمِينَ الْقَادِرِينَ . وَهَذَا الْمَوْجُودُ فِي الْمُنْكَرِ نَظِيرُهُ فِي الْمَعْرُوفِ وَأَبْلَغُ مِنْهُ كَمَا قَالَ

تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } فَإِنَّ دَاعِيَ الْخَيْرِ أَقْوَى ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ فِيهِ دَاعٍ يَدْعُوهُ إلَى الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ ؛ وَالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ ؛ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فَإِذَا وُجِدَ مَنْ يَعْمَلُ مِثْلَ ذَلِكَ صَارَ لَهُ دَاعٍ آخَرُ ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ نَظِيرُهُ ؛ لَا سِيَّمَا مَعَ الْمُنَافَسَةِ وَهَذَا مَحْمُودٌ حَسَنٌ . فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يُحِبُّ مُوَافَقَتَهُ عَلَى ذَلِكَ وَمُشَارَكَتَهُ لَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالصَّالِحِينَ ؛ وَيُبْغِضُهُ إذَا لَمْ يَفْعَلْ : صَارَ لَهُ دَاعٍ ثَالِثٌ ؛ فَإِذَا أَمَرُوهُ بِذَلِكَ وَوَالَوْهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَادَوْهُ وَعَاقَبُوهُ عَلَى تَرْكِهِ صَارَ لَهُ دَاعٍ رَابِعٌ . وَلِهَذَا يُؤْمَرُ الْمُؤْمِنُونَ أَنْ يُقَابِلُوا السَّيِّئَاتِ بِضِدِّهَا مِنْ الْحَسَنَاتِ ؛ كَمَا يُقَابِلُ الطَّبِيبُ الْمَرَضَ بِضِدِّهِ . فَيُؤْمَرُ الْمُؤْمِنُ بِأَنْ يُصْلِحَ نَفْسَهُ وَذَلِكَ بِشَيْئَيْنِ : بِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ . وَتَرْكِ السَّيِّئَاتِ مَعَ وُجُودِ مَا يَنْفِي الْحَسَنَاتِ وَيَقْتَضِي السَّيِّئَاتِ . وَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ . وَيُؤْمَرُ أَيْضًا بِإِصْلَاحِ غَيْرِهِ بِهَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبِعَةِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ وَإِمْكَانِهِ ؛ قَالَ تَعَالَى : { وَالْعَصْرِ } { إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } . وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ فَكَّرَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي سُورَةِ ( وَالْعَصْرِ لَكَفَتْهُمْ . وَهُوَ كَمَا قَالَ . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ خَاسِرُونَ إلَّا مَنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُؤْمِنًا صَالِحًا ؛ وَمَعَ غَيْرِهِ مُوصِيًا بِالْحَقِّ مُوصِيًا بِالصَّبْرِ . وَإِذَا عَظُمَتْ الْمِحْنَةُ كَانَ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ سَبَبًا لِعُلُوِّ

الدَّرَجَةِ وَعَظِيمِ الْأَجْرِ ؛ كَمَا { سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ الْأَنْبِيَاءُ : ثُمَّ الصَّالِحُونَ ؛ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ ؛ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ . فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ . وَلَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ } وَحِينَئِذٍ فَيَحْتَاجُ مِنْ الصَّبْرِ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ غَيْرُهُ : وَذَلِكَ هُوَ سَبَبُ الْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } . فَلَا بُدَّ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى فِعْلِ الْحَسَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكِ السَّيِّئِ الْمَحْظُورِ ؛ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الصَّبْرُ عَلَى فِعْلِ الْأَذَى وَعَلَى مَا يُقَالُ ؛ وَالصَّبْرُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَكَارِهِ ؛ وَالصَّبْرُ عَنْ الْبَطَرِ عِنْدَ النِّعَمِ : وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ . وَلَا يُمْكِنُ الْعَبْدُ أَنْ يَصْبِرَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَطْمَئِنُّ بِهِ وَيَتَنَعَّمُ بِهِ وَيُغْتَذَى بِهِ وَهُوَ الْيَقِينُ ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ سَلُوا اللَّهَ الْيَقِينَ ؛ وَالْعَافِيَةَ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنْ الْعَافِيَةِ فَسَلُوهُمَا اللَّهُ } . وَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ يُحْسِنُ أَوْ أَحَبَّ مُوَافَقَتَهُ عَلَى ذَلِكَ ؛ أَوْ نَهَى

غَيْرَهُ عَنْ شَيْءٍ ؛ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُحْسِنَ إلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ إحْسَانًا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُهُ ؛ مِنْ حُصُولِ الْمَحْبُوبِ وَانْدِفَاعِ الْمَكْرُوهِ ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ لَا تَصْبِرُ عَلَى الْمُرِّ إلَّا بِنَوْعِ مِنْ الْحُلْوِ ؛ لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ ؛ حَتَّى جَعَلَ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ نَصِيبًا فِي الصَّدَقَاتِ . وَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } فَلَا بُدَّ أَنْ يَصْبِرَ وَأَنْ يَرْحَمَ وَهَذَا هُوَ الشَّجَاعَةُ وَالْكَرَمُ . وَلِهَذَا يُقْرِنُ اللَّهُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ تَارَةً ؛ وَهِيَ الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الصَّبْرِ تَارَةً . وَلَا بُدَّ مِنْ الثَّلَاثَةِ : الصَّلَاةِ ؛ وَالزَّكَاةِ ؛ وَالصَّبْرِ . لَا تَقُومُ مَصْلَحَةُ الْمُؤْمِنِينَ إلَّا بِذَلِكَ ؛ فِي صَلَاحِ نُفُوسِهِمْ وَإِصْلَاحِ غَيْرِهِمْ ؛ لَا سِيَّمَا كُلَّمَا قَوِيَتْ الْفِتْنَةُ وَالْمِحْنَةُ ؛ فَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ تَكُونُ أَشَدَّ ؛ فَالْحَاجَةُ إلَى السَّمَاحَةِ وَالصَّبْرِ عَامَّةً لِجَمِيعِ بَنِي آدَمَ لَا تَقُومُ مَصْلَحَةُ دِينِهِمْ وَلَا دُنْيَاهُمْ إلَّا بِهِ . وَلِهَذَا جَمِيعُهُمْ يَتَمَادَحُونَ بِالشَّجَاعَةِ وَالْكَرَمِ حَتَّى إنَّ ذَلِكَ عَامَّةُ مَا يَمْدَحُ بِهِ الشُّعَرَاءُ فِي شِعْرِهِمْ . وَكَذَلِكَ يَتَذَامُّونَ بِالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ . وَالْقَضَايَا الَّتِي يَتَّفِقُ عَلَيْهَا بَنُو آدَمَ لَا تَكُونُ إلَّا حَقًّا ؛ كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى مَدْحِ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ ؛ وَذَمِّ الْكَذِبِ وَالظُّلْمِ . وَقَدْ قَالَ { النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلَهُ الْأَعْرَابُ ؛ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إلَى سَمُرَةٍ فَتَعَلَّقَتْ بِرِدَائِهِ ؛ فَالْتَفَتَ إلَيْهِمْ

وَقَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ عِنْدِي عَدَدَ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْته عَلَيْكُمْ ؛ ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذُوبًا } . لَكِنْ يَتَنَوَّعُ ذَلِكَ بِتَنَوُّعِ الْمَقَاصِدِ وَالصِّفَاتِ ؛ فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى . وَلِهَذَا جَاءَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِذَمِّ الْبُخْلِ وَالْجُبْنِ ؛ وَمَدْحِ الشَّجَاعَةِ وَالسَّمَاحَةِ فِي سَبِيلِهِ دُونَ مَا لَيْسَ فِي سَبِيلِهِ ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { شَرُّ مَا فِي الْمَرْءِ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ } . وَقَالَ : { مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلَمَةَ ؟ فَقَالُوا الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى أَنَّا نَزِنُهُ بِالْبُخْلِ فَقَالَ : وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ ؟ } وَفِي رِوَايَةٍ : { إنَّ السَّيِّدَ لَا يَكُونُ بَخِيلًا بَلْ سَيِّدُكُمْ الْأَبْيَضُ الْجَعْدُ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ } . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إمَّا أَنْ تُعْطِيَنِي وَإِمَّا أَنْ تَبْخَلَ عَنِّي فَقَالَ تَقُولُ : وَإِمَّا أَنْ تَبْخَلَ عَنِّي وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ ؟ فَجَعَلَ الْبُخْلَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَمْرَاضِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ : { قَالَ عُمَرُ : قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْمًا فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاَللَّهِ لَغَيْرُ هَؤُلَاءِ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُمْ فَقَالَ : إنَّهُمْ خَيَّرُونِي بَيْنَ أَنْ يَسْأَلُونِي بِالْفُحْشِ وَبَيْنَ أَنْ يبخلوني وَلَسْت بِبَاخِلِ يَقُولُ : إنَّهُمْ يَسْأَلُونِي مَسْأَلَةً لَا تَصْلُحُ فَإِنْ أَعْطَيْتهمْ وَإِلَّا قَالُوا : هُوَ بَخِيلٌ فَقَدْ خَيَّرُونِي بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُكْرِهِينَ لَا يَتْرُكُونِي مِنْ أَحَدِهِمَا : الْفَاحِشَةُ وَالتَّبْخِيلُ . وَالتَّبْخِيلُ أَشَدُّ ؛ فَأَدْفَعُ

الْأَشَدَّ بِإِعْطَائِهِمْ }. وَالْبُخْلُ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعُ : كَبَائِرَ ؛ وَغَيْرُ كَبَائِرَ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَقَالَ : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } . وَقَالَ : { فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } . وَقَالَ : { وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ } . وَقَالَ : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ } { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } . وَقَالَ : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } الْآيَةَ . وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْإِيتَاءِ وَالْإِعْطَاءِ وَذَمِّ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ : كُلُّهُ ذَمٌّ لِلْبُخْلِ وَكَذَلِكَ ذَمُّهُ لِلْجُبْنِ كَثِيرٌ مِثْلَ قَوْلِهِ : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } . وَقَوْلُهُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ

إنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } . وَقَوْلُهُ : { فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } . وَقَوْلُهُ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا } . وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْحَضِّ عَلَى الْجِهَادِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ وَذَمِّ النَّاكِلِينَ عَنْهُ وَالتَّارِكِينَ لَهُ : كُلُّهُ ذَمٌّ لِلْجُبْنِ . وَلَمَّا كَانَ صَلَاحُ بَنِي آدَمَ لَا يَتِمُّ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ إلَّا بِالشَّجَاعَةِ وَالْكَرَمِ : بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ تَوَلَّى عَنْ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ أَبْدَلَ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَقُومُ بِذَلِكَ ؛ فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا قَلِيلٌ } { إلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . وَقَالَ تَعَالَى : { هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } .

وَبِالشَّجَاعَةِ وَالْكَرَمِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَضَّلَ السَّابِقِينَ فَقَالَ : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } . وَقَدْ ذَكَرَ الْجِهَادَ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ فِي سَبِيلِهِ ؛ وَمَدَحَهُ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ ؛ وَذَلِكَ هُوَ الشَّجَاعَةُ وَالسَّمَاحَةُ فِي طَاعَتِهِ سُبْحَانَهُ فَقَالَ : { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } . { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } . وَالشَّجَاعَةُ لَيْسَتْ هِيَ قُوَّةُ الْبَدَنِ وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ قَوِيَّ الْبَدَنِ ضَعِيفَ الْقَلْبِ ؛ وَإِنَّمَا هِيَ قُوَّةُ الْقَلْبِ وَثَبَاتُهُ . فَإِنَّ الْقِتَالَ مَدَارُهُ عَلَى قُوَّةِ الْبَدَنِ وَصَنْعَتِهِ لِلْقِتَالِ ؛ وَعَلَى قُوَّةِ الْقَلْبِ وَخِبْرَتِهِ بِهِ . وَالْمَحْمُودُ مِنْهُمَا مَا كَانَ بِعِلْمِ وَمَعْرِفَةٍ ؛ دُونَ التَّهَوُّرِ الَّذِي لَا يُفَكِّرُ صَاحِبُهُ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَحْمُودِ وَالْمَذْمُومِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ . حَتَّى يَفْعَلَ مَا يَصْلُحُ . فَأَمَّا الْمَغْلُوبُ حِينَ غَضَبِهِ فَلَيْسَ بِشُجَاعِ وَلَا شَدِيدٍ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ جِمَاعَ ذَلِكَ هُوَ الصَّبْرُ ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ . وَالصَّبْرُ صَبْرَانِ : صَبْرٌ عِنْدَ الْغَضَبِ ؛ وَصَبْرٌ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ . كَمَا قَالَ الْحَسَنُ : مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ

جُرْعَةً أَعْظَمَ مِنْ جُرْعَةِ حِلْمٍ عِنْدَ الْغَضَبِ ؛ وَجُرْعَةِ صَبْرٍ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ هُوَ الصَّبْرُ عَلَى الْمُؤْلِمِ . وَهَذَا هُوَ الشُّجَاعُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَصْبِرُ عَلَى الْمُؤْلِمِ . وَالْمُؤْلِمُ إنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ دَفْعُهُ أَثَارَ الْغَضَبَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ أَثَارَ الْحُزْنَ ؛ وَلِهَذَا يَحْمَرُّ الْوَجْهُ عِنْدَ الْغَضَبِ لِثَوَرَانِ الدَّمِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِ الْقُدْرَةِ وَيَصْفَرُّ عِنْدَ الْحُزْنِ لِغَوْرِ الدَّمِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِ الْعَجْزِ ؛ وَلِهَذَا جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا تَعُدُّونَ الرَّقُوبَ فِيكُمْ ؟ قَالُوا : الرَّقُوبُ الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ قَالَ : لَيْسَ ذَلِكَ بِالرَّقُوبِ ؛ وَلَكِنَّ الرَّقُوبَ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يُقَدِّمْ مِنْ وَلَدِهِ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ : مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ ؟ قُلْنَا : الَّذِي لَا تَصْرَعُهُ الرِّجَالُ فَقَالَ : لَيْسَ بِذَلِكَ وَلَكِنَّ الصُّرَعَةُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ } فَذَكَرَ مَا يَتَضَمَّنُ الصَّبْرَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ وَالصَّبْرَ عِنْدَ الْغَضَبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُصِيبَةِ : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } { الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى فِي الْغَضَبِ : { وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } . وَهَذَا الْجَمْعُ بَيْنَ صَبْرِ الْمُصِيبَةِ وَصَبْرِ الْغَضَبِ نَظِيرُ الْجَمْعِ بَيْنَ صَبْرِ النِّعْمَةِ وَصَبْرِ الْمُصِيبَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا

مِنْهُ إنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } { إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } . وَقَالَ : { لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } . وَبِهَذَا وَصَفَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ مَنْ وَصَفَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ الْمُهَاجِرِينَ حَيْثُ قَالَ :
لَا يَفْرَحُونَ إذَا نَالَتْ سُيُوفُهُمْ * * * قَوْمًا وَلَيْسُوا مجازيعا إذَا نِيلُوا
وَكَذَلِكَ قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي صِفَةِ الْأَنْصَارِ :
لَا فَخْرَ إنْ هُمْ أَصَابُوا مِنْ عَدُوِّهِمْ * * * وَإِنْ أُصِيبُوا فَلَا خَوْرَ وَلَا هَلَعَ
وَقَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْلِبُ فَلَا يَبْطَرُ ؛ وَيَغْلِبُ فَلَا يَضْجَرُ . وَلَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُو النَّاسَ عِنْدَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ إلَى تَعَدِّي الْحُدُودِ بِقُلُوبِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ : { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَمَّا قِيلَ لَهُ : وَقَدْ بَكَى لَمَّا رَأَى إبْرَاهِيمَ فِي النَّزْعِ أَتَبْكِي ؟ أَوَلَمْ تَنْهَ عَنْ الْبُكَاءِ ؟ فَقَالَ : إنَّمَا نَهَيْت عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ : صَوْتٌ عِنْدَ نَغْمَةِ لَهْوٍ وَلَعِبٍ وَمَزَامِيرَ شَيْطَانٍ . وَصَوْتٌ عِنْدَ مُصِيبَةِ لَطْمِ خُدُودٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ وَدُعَاءٍ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ } فَجَمَعَ بَيْنَ الصَّوْتَيْنِ .

وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ فِي الْمَصَائِبِ فَمِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ } . وَقَالَ : { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ الْحَالِقَةِ وَالصَّالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ } . وَقَالَ : { مَا كَانَ مِنْ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ الْيَدِ وَاللِّسَانِ فَمِنْ الشَّيْطَانِ } . وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ عَلَى دَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا حُزْنِ الْقَلْبِ ؛ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا أَوْ يَرْحَمُ - وَأَشَارَ إلَى لِسَانِهِ وَقَالَ : مَنْ يُنَحْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ } . وَاشْتَرَطَ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْبَيْعَةِ أَنْ لَا يَنُحْنَ وَقَالَ : { إنَّ النَّائِحَةَ إذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا فَإِنَّهَا تَلْبَسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دِرْعًا مَنْ جَرَبٍ وَسِرْبَالًا مِنْ قَطِرَانٍ } . وَقَالَ فِي الْغَلَبَةِ وَالْمَصَائِبِ وَالْفَرَحِ : { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ؛ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ ؛ وَلْيَحُدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ } . وَقَالَ : { إنَّ أَعَفَّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الْإِيمَانِ } . وَقَالَ : { لَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا } . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ بِهِ فِي الْجِهَادِ مِنْ الْعَدْلِ وَتَرْكِ الْعُدْوَانِ ؛ اتِّبَاعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } . وَنَهَى عَنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ وَتَخَتُّمِ الذَّهَبِ ؛ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ

وَالْفِضَّةِ ؛ وَإِطَالَةِ الثِّيَابِ ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ فِي النِّعَمِ وَذَمِّ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَجَعَلَ فِيهِمْ الْخَسْفَ وَالْمَسْخَ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } . وَقَالَ عَنْ قَارُونَ : { إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } . وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ مَعَ الصَّبْرِ عَنْ الِاعْتِدَاءِ فِي الشَّهْوَةِ هِيَ جَوَامِعُ هَذَا الْبَابِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ وَيَشْتَهِيهِ : وَبَيْنَ مَا يُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ فَهُوَ يَطْلُبُ الْأَوَّلَ بِمَحَبَّتِهِ وَشَهْوَتِهِ وَيَدْفَعُ الثَّانِيَ بِبُغْضِهِ وَنُفْرَتِهِ . وَإِذَا حَصَلَ الْأَوَّلُ أَوْ انْدَفَعَ الثَّانِي أَوْجَبَ لَهُ فَرَحًا وَسُرُورًا وَإِنْ حَصَلَ الثَّانِي أَوْ انْدَفَعَ الْأَوَّلُ حَصَلَ لَهُ حُزْنٌ فَهُوَ مُحْتَاجٌ عِنْدَ الْمَحَبَّةِ وَالشَّهْوَةِ أَنْ يَصْبِرَ عَنْ عُدْوَانِهِمَا ؛ وَعِنْدَ الْغَضَبِ وَالنُّفْرَةِ أَنْ يَصْبِرَ عَنْ عُدْوَانِهِمَا ؛ وَعِنْدَ الْفَرَحِ أَنْ يَصْبِرَ عَنْ عُدْوَانِهِ ؛ وَعِنْدَ الْمُصِيبَةِ أَنْ يَصْبِرَ عَنْ الْجَزَعِ مِنْهَا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الصَّوْتَيْنِ الْأَحْمَقَيْنِ الْفَاجِرَيْنِ : الصَّوْتُ الَّذِي يُوجِبُ الِاعْتِدَاءَ فِي الْفَرَحِ حَتَّى يَصِيرَ الْإِنْسَانُ فَرِحًا فَخُورًا ؛ وَالصَّوْتُ الَّذِي يُوجِبُ الْجَزَعَ . وَأَمَّا الصَّوْتُ الَّذِي يُثِيرُ الْغَضَبَ لِلَّهِ : كَالْأَصْوَاتِ الَّتِي تُقَالُ فِي الْجِهَادِ مِنْ الْأَشْعَارِ الْمُنْشَدَةِ : فَتِلْكَ لَمْ تَكُنْ بِآلَاتِ وَكَذَلِكَ أَصْوَاتُ الشَّهْوَةِ فِي الْفَرَحِ ؛ فَرَخَّصَ مِنْهَا فِيمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ

فِي الْأَعْرَاسِ وَالْأَفْرَاحِ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ . وَعَامَّةِ الْأَشْعَارِ الَّتِي تُنْشَدُ بِالْأَصْوَاتِ لِتَحْرِيكِ النُّفُوسِ هِيَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبِعَةِ وَهِيَ التَّشْبِيبُ ؛ وَأَشْعَارُ الْغَضَبِ وَالْحَمِيَّةِ ؛ وَهِيَ الْحَمَاسَةُ وَالْهِجَاءُ . وَأَشْعَارُ الْمَصَائِبِ كَالْمَرَاثِي وَأَشْعَارِ النِّعَمِ وَالْفَرَحِ وَهِيَ الْمَدَائِحُ . وَالشُّعَرَاءُ جَرَتْ عَادَتُهُمْ أَنْ يَمْشُوا مَعَ الطَّبْعِ ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ } وَلِهَذَا أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَتْبَعُهُمْ الْغَاوُونَ وَالْغَاوِي : هُوَ الَّذِي يَتْبَعُ هَوَاهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ ؛ وَهَذَا هُوَ الْغَيُّ ؛ وَهُوَ خِلَافُ الرُّشْدِ . كَمَا أَنَّ الضَّالَّ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مَصْلَحَتَهُ هُوَ خِلَافُ الْمُهْتَدِي قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي } . فَلِهَذَا تَجِدُهُمْ يَمْدَحُونَ جِنْسَ الشُّجَاعَةِ وَجِنْسَ السَّمَاحَةِ ؛ إذْ كَانَ عَدَمُ هَذَيْنِ مَذْمُومًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَمَّا وُجُودُهُمَا فَبِهِ تَحْصُلُ مَقَاصِدُ النُّفُوسِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ؛ لَكِنَّ الْعَاقِبَةَ فِي ذَلِكَ لِلْمُتَّقِينَ . وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَّقِينَ فَلَهُمْ عَاجِلَةٌ لَا عَاقِبَةٌ وَالْعَاقِبَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْآخِرَةِ فَتَكُونُ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ نُوحٍ وَنَجَاتَهُ بِالسَّفِينَةِ : { قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } إلَى قَوْلِهِ : { فَاصْبِرْ إنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } . وَقَالَ :

{ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } . وَالْفُرْقَانُ : أَنْ يَحْمَدَ مِنْ ذَلِكَ مَا حَمِدَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي حَمْدُهُ زَيْنٌ وَذَمُّهُ شَيْنٌ ؛ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الشُّعَرَاءِ وَالْخُطَبَاءِ وَغَيْرِهِمْ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ الْقَائِلُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ حَمْدِي زَيْنٌ وَذَمِّي شَيْنٌ قَالَ لَهُ : " ذَاكَ اللَّهُ " . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ حَمِدَ الشَّجَاعَةَ وَالسَّمَاحَةَ فِي سَبِيلِهِ ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ { أَبِي مُوسَى قَالَ : قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلَ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً ؛ وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً ؛ وَيُقَاتِلُ رِيَاءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الَّذِي خُلِقَ الْخَلْقُ لَهُ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } فَكُلُّ مَا كَانَ لِأَجْلِ الْغَايَةِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا الْخَلْقُ كَانَ مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ الَّذِي يَبْقَى لِصَاحِبِهِ وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ . وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ : مَنْ يَعْمَلْ لِلَّهِ بِشَجَاعَةِ وَسَمَاحَةٍ ؛ فَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُسْتَحِقُّونَ لِلْجَنَّةِ . وَمَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللَّهِ بِشَجَاعَةِ وَسَمَاحَةٍ ؛

فَهَذَا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ . وَمَنْ يَعْمَلْ لِلَّهِ لَكِنْ لَا بِشَجَاعَةِ وَلَا سَمَاحَةٍ ؛ فَهَذَا فِيهِ مِنْ النِّفَاقِ وَنَقْصِ الْإِيمَانِ بِقَدْرِ ذَلِكَ . وَمَنْ لَا يَعْمَلْ لِلَّهِ وَلَيْسَ فِيهِ شَجَاعَةٌ وَلَا سَمَاحَةٌ ؛ فَهَذَا لَيْسَ لَهُ دُنْيَا وَلَا آخِرَةٌ . فَهَذِهِ الْأَخْلَاقُ وَالْأَفْعَالُ يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْمُؤْمِنُ عُمُومًا وَخُصُوصًا فِي أَوْقَاتِ الْمِحَنِ وَالْفِتَنِ الشَّدِيدَةِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى صَلَاحِ نُفُوسِهِمْ وَدَفْعِ الذُّنُوبِ عَنْ نُفُوسِهِمْ عِنْدَ الْمُقْتَضِي لِلْفِتْنَةِ عِنْدَهُمْ وَيَحْتَاجُونَ أَيْضًا إلَى أَمْرِ غَيْرِهِمْ وَنَهْيِهِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِمْ وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ مِنْ الصُّعُوبَةِ مَا فِيهِ ؛ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَمَرَهُمْ بِدَعْوَةِ النَّاسِ وَجِهَادِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } { الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } . وَكَمَا قَالَ : { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } وَكَمَا قَالَ : { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } . وَكَمَا قَالَ : { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } .
وَلَمَّا كَانَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ الِابْتِلَاءِ وَالْمِحَنِ مَا يُعَرِّضُ بِهِ الْمَرْءَ لِلْفِتْنَةِ : صَارَ فِي النَّاسِ مَنْ يَتَعَلَّلُ

لِتَرْكِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَطْلُبُ السَّلَامَةَ مِنْ الْفِتْنَةِ كَمَا قَالَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } الْآيَةَ . وَقَدْ ذَكَرَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي { الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ لَمَّا أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّجَهُّزِ لِغَزْوِ الرُّومِ - وَأَظُنُّهُ قَالَ : هَلْ لَك فِي نِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ ؟ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنِّي رَجُلٌ لَا أَصْبِرُ عَنْ النِّسَاءِ ؛ وَإِنِّي أَخَافُ الْفِتْنَةَ بِنِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ . فائذن لِي وَلَا تَفْتِنِّي } . وَهَذَا الْجَدُّ هُوَ الَّذِي تَخَلَّفَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ؛ وَاسْتَتَرَ بِجَمَلِ أَحْمَرَ ؛ وَجَاءَ فِيهِ الْحَدِيثُ : { أَنَّ كُلَّهُمْ مَغْفُورٌ لَهُ إلَّا صَاحِبَ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } } . يَقُولُ : إنَّهُ طَلَبَ الْقُعُودَ لِيَسْلَمَ مِنْ فِتْنَةِ النِّسَاءِ فَلَا يَفْتَتِنُ بِهِنَّ فَيَحْتَاجُ إلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ الْمَحْظُورِ وَمُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ عَنْهُ فَيَتَعَذَّبُ بِذَلِكَ أَوْ يُوَاقِعُهُ فَيَأْثَمُ ؛ فَإِنَّ مَنْ رَأَى الصُّوَرَ الْجَمِيلَةَ وَأَحَبَّهَا فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهَا إمَّا لِتَحْرِيمِ الشَّارِعِ وَإِمَّا لِلْعَجْزِ عَنْهَا يُعَذِّبُ قَلْبَهُ وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا وَفَعَلَ الْمَحْظُورَ هَلَكَ . وَفِي الْحَلَالِ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مُعَالَجَةِ النِّسَاءِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ . فَهَذَا وَجْهُ قَوْلِهِ : { وَلَا تَفْتِنِّي } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } يَقُولُ نَفْسُ إعْرَاضِهِ عَنْ الْجِهَادِ الْوَاجِبِ وَنُكُولِهِ عَنْهُ وَضَعْفِ إيمَانِهِ وَمَرَضِ قَلْبِهِ الَّذِي زَيَّنَ لَهُ تَرْكَ الْجِهَادِ : فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ سَقَطَ فِيهَا

فَكَيْفَ يَطْلُبُ التَّخَلُّصَ مِنْ فِتْنَةٍ صَغِيرَةٍ لَمْ تُصِبْهُ بِوُقُوعِهِ فِي فِتْنَةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ أَصَابَتْهُ ؟ وَاَللَّهُ يَقُولُ : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } . فَمَنْ تَرَكَ الْقِتَالَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ لِئَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ : فَهُوَ فِي الْفِتْنَةِ سَاقِطٌ بِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ رَيْبِ قَلْبِهِ وَمَرَضِ فُؤَادِهِ وَتَرْكِهِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْجِهَادِ . فَتَدَبَّرْ هَذَا ؛ فَإِنَّ هَذَا مَقَامٌ خَطَرٌ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ وَيُقَاتِلُونَ ؛ طَلَبًا لِإِزَالَةِ الْفِتْنَةِ الَّتِي زَعَمُوا وَيَكُونُ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ أَعْظَمَ فِتْنَةً ؛ كَالْمُقْتَتِلِينَ فِي الْفِتْنَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ . وَأَقْوَامٌ يَنْكُلُونَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْقِتَالِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَتَكُونُ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ؛ لِئَلَّا يَفْتِنُوا وَهُمْ قَدْ سَقَطُوا فِي الْفِتْنَةِ وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي " سُورَةِ بَرَاءَةَ " دَخَلَ فِيهَا الِافْتِتَانُ بِالصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ ؛ فَإِنَّهَا سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ . وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَدَيِّنِينَ ؛ يَتْرُكُونَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَجِهَادٍ يَكُونُ بِهِ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَتَكُونُ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ؛ لِئَلَّا يَفْتِنُوا بِجِنْسِ الشَّهَوَاتِ ؛ وَهُمْ قَدْ وَقَعُوا فِي الْفِتْنَةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِمَّا زَعَمُوا أَنَّهُمْ فَرُّوا مِنْهُ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ الْقِيَامُ بِالْوَاجِبِ وَتَرْكُ الْمَحْظُورِ . وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ ؛ وَإِنَّمَا تَرَكُوا ذَلِكَ لِكَوْنِ نُفُوسِهِمْ لَا تُطَاوِعُهُمْ إلَّا عَلَى فِعْلِهِمَا جَمِيعًا أَوْ تَرْكِهِمَا جَمِيعًا : مِثْلَ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُحِبُّ الرِّئَاسَةَ أَوْ

الْمَالَ وَشَهَوَاتِ الْغَيِّ ؛ فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَجِهَادٍ وَإِمَارَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمَحْظُورَاتِ . فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ أَغْلَبَ الْأَمْرَيْنِ . فَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ تَرْكِ ذَلِكَ الْمَحْظُورِ لَمْ يَتْرُكْ ذَلِكَ لِمَا يُخَافُ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مَا هُوَ دُونَهُ فِي الْمَفْسَدَةِ ؛ وَإِنْ كَانَ تَرْكُ الْمَحْظُورِ أَعْظَمَ أَجْرًا لَمْ يَفُوتُ ذَلِكَ بِرَجَاءِ ثَوَابٍ بِفِعْلِ وَاجِبٍ يَكُونُ دُونَ ذَلِكَ ؛ فَذَلِكَ يَكُونُ بِمَا يَجْتَمِعُ لَهُ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ؛ فَهَذَا هَذَا . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يَطُولُ .
وَكُلُّ بَشَرٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَلَا بُدَّ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى حَتَّى لَوْ أَنَّهُ وَحْدَهُ لَكَانَ يَأْمُرُ نَفْسَهُ وَيَنْهَاهَا ؛ إمَّا بِمَعْرُوفِ وَإِمَّا بِمُنْكَرٍ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } فَإِنَّ الْأَمْرَ هُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ وَإِرَادَتِهِ ؛ وَالنَّهْيُ طَلَبُ التَّرْكِ وَإِرَادَتِهِ وَلَا بُدَّ لِكُلِّ حَيٍّ مِنْ إرَادَةٍ وَطَلَبٍ فِي نَفْسِهِ يَقْتَضِي بِهِمَا فِعْلُ نَفْسِهِ وَيَقْتَضِي بِهِمَا فِعْلُ غَيْرِهِ إذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ حَيٌّ يَتَحَرَّكُ بِإِرَادَتِهِ . وَبَنُو آدَمَ لَا يَعِيشُونَ إلَّا بِاجْتِمَاعِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَإِذَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا ائْتِمَارٌ بِأَمْرِ وَتَنَاهٍ عَنْ أَمْرٍ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَقَلُّ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَاةِ اثْنَيْنِ ؛ كَمَا قِيلَ : الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ اشْتِرَاكًا فِي مُجَرَّدِ الصَّلَاةِ حَصَلَ بِاثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا إمَامٌ

وَالْآخَرُ مَأْمُومٌ كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَالِكِ بْنِ الحويرث وَصَاحِبِهِ : إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا ؛ وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا } وَكَانَا مُتَقَارِبَيْنِ فِي الْقِرَاءَةِ . وَأَمَّا الْأُمُورُ الْعَادِيَّةُ فَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةٍ يَكُونُونَ فِي سَفَرٍ إلَّا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ . } وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْ لَوَازِمِ وُجُودِ بَنِي آدَمَ : فَمَنْ لَمْ يَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَيَنْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَيُؤْمَرُ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَيُنْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ ؛ وَإِلَّا فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى . وَيُؤْمَرَ وَيُنْهَى : إمَّا بِمَا يُضَادُّ ذَلِكَ ؛ وَإِمَّا بِمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْحَقُّ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِالْبَاطِلِ الَّذِي لَمْ يُنْزِلْهُ اللَّهُ وَإِذَا اُتُّخِذَ ذَلِكَ دِينًا كَانَ دِينًا مُبْتَدَعًا . وَهَذَا كَمَا أَنَّ كُلَّ بَشَرٍ فَإِنَّهُ مُتَحَرِّكٌ بِإِرَادَتِهِ هَمَّامٌ حَارِثٌ فَمَنْ لَمْ تَكُنْ نِيَّتُهُ صَالِحَةً وَعَمَلُهُ عَمَلًا صَالِحًا لِوَجْهِ اللَّهِ وَإِلَّا كَانَ عَمَلًا فَاسِدًا أَوْ لِغَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ وَهُوَ الْبَاطِلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } . وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ مِنْ جِنْسِ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا

وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } . وَقَالَ : { وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } . وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } .
وَأُولُو الْأَمْرِ أَصْحَابُ الْأَمْرِ وَذَوُوه ؛ وَهُمْ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ ؛ وَذَلِكَ يَشْتَرِكُ فِيهِ أَهْلُ الْيَدِ وَالْقُدْرَةِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ أُولُوا الْأَمْرِ صِنْفَيْنِ : الْعُلَمَاءُ ؛ وَالْأُمَرَاءُ . فَإِذَا صَلَحُوا صَلَحَ النَّاسُ وَإِذَا فَسَدُوا فَسَدَ النَّاسُ ؛ كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ للأحمسية لَمَّا سَأَلَتْهُ : مَا بَقَاؤُنَا عَلَى هَذَا الْأَمْرِ ؟ قَالَ : مَا اسْتَقَامَتْ لَكُمْ أَئِمَّتُكُمْ . وَيَدْخُلُ فِيهِمْ الْمُلُوكُ وَالْمَشَايِخُ وَأَهْلُ الدِّيوَانِ ؛ وَكُلُّ مَنْ كَانَ مَتْبُوعًا فَإِنَّهُ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَيَنْهَى عَمَّا نَهَى عَنْهُ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ أَنْ يُطِيعَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ ؛ وَلَا يُطِيعُهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ تَوَلَّى أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ وَخَطَبَهُمْ ؛ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ : أَيُّهَا النَّاسُ الْقَوِيُّ فِيكُمْ الضَّعِيفُ عِنْدِي حَتَّى آخُذَ مِنْهُ الْحَقَّ ؛

وَالضَّعِيفُ فِيكُمْ الْقَوِيُّ عِنْدِي حَتَّى آخُذَ لَهُ الْحَقَّ ؛ أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت اللَّهَ فَإِذَا عَصَيْت اللَّهَ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ.
فَصْلٌ :
وَإِذَا كَانَتْ جَمِيعُ الْحَسَنَاتِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ شَيْئَيْنِ : أَنْ يُرَادَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ ؛ وَأَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِلشَّرِيعَةِ . فَهَذَا فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ ؛ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ ؛ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ؛ فِي الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْأُمُورِ الْعِبَادِيَّةِ . وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَوَّلَ ثَلَاثَةٍ تُسْجَرُ بِهِمْ جَهَنَّمُ : رَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ وَأَقْرَأهُ لِيَقُولَ النَّاسُ : هُوَ عَالِمٌ وَقَارِئٌ . وَرَجُلٌ قَاتَلَ وَجَاهَدَ لِيَقُولَ النَّاسُ : هُوَ شُجَاعٌ وَجَرِيءٌ . وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ وَأَعْطَى لِيَقُولَ النَّاسُ : جَوَادٌ سَخِيٌّ } فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ هُمْ بِإِزَاءِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ بَعْدَ النَّبِيِّينَ مِنْ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ؛ فَإِنَّ مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَعَلَّمَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ كَانَ صِدِّيقًا ؛ وَمَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَقُتِلَ كَانَ شَهِيدًا وَمَنْ تَصَدَّقَ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ كَانَ صَالِحًا ؛ وَلِهَذَا يَسْأَلُ الْمُفْرِطُ فِي مَالِهِ الرَّجْعَةَ وَقْتَ الْمَوْتِ ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَنْ أُعْطِيَ مَالًا فَلَمْ يَحُجَّ مِنْهُ وَلَمْ يُزَكِّ سَأَلَ الرَّجْعَةَ وَقْتَ الْمَوْتِ وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ

الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ } . فَهَذِهِ الْأُمُورُ الْعِلْمِيَّةُ الْكَلَامِيَّةُ يَحْتَاجُ الْمُخْبِرُ بِهَا أَنْ يَكُونَ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ : حَقًّا صَوَابًا . وَمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ . فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمُوَافِقُ لِلسُّنَّةِ وَالشَّرِيعَةِ ؛ الْمُتَّبِعُ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ كَمَا أَنَّ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَتَعَبَّدُ الْعِبَادُ بِهَا إذَا كَانَتْ مِمَّا شَرَعَهُ اللَّهُ وَأَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ : كَانَتْ حَقًّا صَوَابًا مُوَافِقًا لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ . وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ مِنْ الْقِسْمَيْنِ كَانَ مِنْ الْبَاطِلِ وَالْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ وَالْجَهْلِ وَإِنْ كَانَ يُسَمِّيهِ مَنْ يُسَمِّيهِ عُلُومًا وَمَعْقُولَاتٍ ؛ وَعِبَادَاتٍ وَمُجَاهَدَاتٍ ؛ وَأَذْوَاقًا وَمَقَامَاتٍ . وَيَحْتَاجُ أَيْضًا أَنْ يُؤْمَرَ بِذَلِكَ لِأَمْرِ اللَّهِ ؛ وَيَنْهَى عَنْهُ لِنَهْيِ اللَّهِ ؛ وَيُخْبِرَ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَإِيمَانٌ وَهُدًى كَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ . كَمَا تَحْتَاجُ الْعِبَادَةُ أَنْ يَقْصِدَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ . فَإِذَا قِيلَ ذَلِكَ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْحَمِيَّةِ ؛ أَوْ لِإِظْهَارِ الْعِلْمِ وَالْفَضِيلَةِ ؛ أَوْ لِطَلَبِ السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ : كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَاتِلِ شَجَاعَةً وَحَمِيَّةً وَرِيَاءً . وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ لَك مَا وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَقَالِ ؛ وَأَهْلِ الْعِبَادَةِ وَالْحَالِ . فَكَثِيرًا مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَقْوَالِ مَا هُوَ خِلَافُ

الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَوِفَاقِهَا . وَكَثِيرًا مَا يَتَعَبَّدُ هَؤُلَاءِ بِعِبَادَاتِ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهَا ؛ بَلْ قَدْ نَهَى عَنْهَا أَوْ مَا يَتَضَمَّنُ مَشْرُوعًا مَحْظُورًا . وَكَثِيرًا مَا يُقَاتِلُ هَؤُلَاءِ قِتَالًا مُخَالِفًا لِلْقِتَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ ؛ أَوْ مُتَضَمِّنًا لِمَأْمُورِ مَحْظُورٍ . ثُمَّ كُلٌّ مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ : الْمَأْمُورُ ؛ وَالْمَحْظُورُ ؛ وَالْمُشْتَمِلُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ : قَدْ يَكُونُ لِصَاحِبِهِ نِيَّةٌ حَسَنَةٌ ؛ وَقَدْ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ وَقَدْ يَجْتَمِعُ لَهُ هَذَا وَهَذَا . فَهَذِهِ تِسْعَةُ أَقْسَامٍ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ ؛ وَفِي الْأَمْوَالِ الْمُنْفَقَةِ عَلَيْهَا مِنْ الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ : الْفَيْءُ وَغَيْرُهُ وَالْأَمْوَالُ الْمَوْقُوفَةُ ؛ وَالْأَمْوَالُ الْمُوصَى بِهَا وَالْمَنْذُورَةُ ؛ وَأَنْوَاعُ الْعَطَايَا وَالصَّدَقَاتِ وَالصِّلَاتِ . وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ لُبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَخَلْطِ عَمَلٍ صَالِحٍ وَآخَرَ سَيْءٍ . وَالسَّيِّئُ مِنْ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ صَاحِبُهُ مُخْطِئًا أَوْ نَاسِيًا مَغْفُورًا لَهُ . كَالْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ الَّذِي لَهُ أَجْرٌ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ وَقَدْ يَكُونُ صَغِيرًا مُكَفَّرًا بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَقَدْ يَكُونُ مَغْفُورًا بِتَوْبَةِ أَوْ بِحَسَنَاتِ تَمْحُو السَّيِّئَاتِ ؛ أَوْ مُكَفَّرًا بِمَصَائِبِ الدُّنْيَا وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ إلَّا أَنَّ دِينَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إرَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ . وَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الْعَامُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ أَحَدٍ غَيْرَهُ قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { شَهِدَ اللَّهُ

أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } . وَالْإِسْلَامُ يَجْمَعُ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ ؛ فَلَا يَكُونُ مُتَكَبِّرًا . وَالثَّانِي الْإِخْلَاصُ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ } فَلَا يَكُونُ مُشْرِكًا وَهُوَ : أَنْ يَسْلَمَ الْعَبْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } { إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } . وَالْإِسْلَامُ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا مُعَدَّى بِحَرْفِ اللَّامِ ؛ مِثْلَ مَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ ؛ وَمِثْلَ قَوْله تَعَالَى { وَأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ } وَمَثَلَ قَوْله تَعَالَى { قَالَتْ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَمِثْلَ قَوْلِهِ : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا

وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } وَمَثَلَ قَوْلِهِ : { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } { وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ } . وَيُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا مَقْرُونًا بِالْإِحْسَانِ ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } فَقَدْ أَنْكَرَ أَنَّ يَكُونَ دِينٌ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الدِّينِ ؛ وَهُوَ إسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ مَعَ الْإِحْسَانِ وَأَخْبَرَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . أَثْبَتَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ الْجَامِعَةُ وَالْقَضِيَّةُ الْعَامَّةُ رَدًّا لِمَا زَعَمَ مَنْ زَعَمَهُ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلَّا مُتَهَوِّدٌ أَوْ مُتَنَصِّرٌ . وَهَذَانِ الْوَصْفَانِ - وَهُمَا إسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ ؛ وَالْإِحْسَانُ - هُمَا الْأَصْلَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ وَهَمَا : كَوْنُ الْعَمَلِ خَالِصًا لِلَّهِ صَوَابًا : مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ وَالشَّرِيعَةِ . وَذَلِكَ أَنَّ إسْلَامَ الْوَجْهِ لِلَّهِ هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ لِلَّهِ ؛ كَمَا

قَالَ بَعْضُهُمْ :
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لَسْت مُحْصِيهِ * * * رَبَّ الْعِبَادِ إلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ
وَقَدْ اسْتَعْمَلَ هُنَا أَرْبَعَةَ أَلْفَاظٍ : إسْلَامُ الْوَجْهِ ؛ وَإِقَامَةُ الْوَجْهِ ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } . وَقَوْلُهُ : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } وَتَوْجِيهُ الْوَجْهِ كَقَوْلِ الْخَلِيلِ : { إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } . وَكَذَلِكَ كَانَ { النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ فِي صَلَاتِهِ : { وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَقُولُ إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ : اللَّهُمَّ أَسْلَمْت نَفَسِي إلَيْك وَوَجَّهْت وَجْهِي إلَيْك } . فَالْوَجْهُ يَتَنَاوَلُ الْمُتَوَجِّهَ وَالْمُتَوَجَّهَ إلَيْهِ وَيَتَنَاوَلُ الْمُتَوَجَّهَ نَفْسَهُ كَمَا يُقَالُ : أَيُّ وَجْهٍ تُرِيدُ ؟ أَيْ : أَيُّ وُجْهَةٍ وَنَاحِيَةٍ تَقْصِدُ : وَذَلِكَ أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ . فَحَيْثُ تَوَجَّهَ الْإِنْسَانُ تَوَجَّهَ وَجْهُهُ ؛ وَوَجْهُهُ مُسْتَلْزِمٌ لِتَوَجُّهِهِ ؛ وَهَذَا فِي بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ جَمِيعًا . فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ . وَالْبَاطِنُ هُوَ الْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ هُوَ الْكَمَالُ وَالشِّعَارُ فَإِذَا تَوَجَّهَ قَلْبُهُ إلَى شَيْءٍ تَبِعَهُ وَجْهُهُ الظَّاهِرُ فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَصْدُهُ وَمُرَادُهُ وَتَوَجُّهُهُ إلَى اللَّهِ فَهَذَا صَلَاحُ إرَادَتِهِ وَقَصْدُهُ

فَإِذَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ مُحْسِنًا فَقَدْ اجْتَمَعَ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ صَالِحًا وَلَا يُشْرِكُ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا . وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الْإِحْسَانُ : وَهُوَ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ وَهُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاَلَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ هُوَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِسُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ؛ فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَنْ أَخْلَصَ قَصْدَهُ لِلَّهِ وَكَانَ مُحْسِنًا فِي عَمَلِهِ فَإِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلثَّوَابِ سَالِمٌ مِنْ الْعِقَابِ . وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ يَجْمَعُونَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ ؛ كَقَوْلِ الْفُضَيْل ابْنِ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ فَقِيلَ : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ؟ فَقَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ . وَإِذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا . وَالْخَالِصُ : أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ . وَقَدْ رَوَى ابْنُ شَاهِينَ واللالكائي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : لَا يُقْبَلُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ إلَّا بِنِيَّةِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ إلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ . وَرَوَيَا عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مِثْلَهُ وَلَفْظُهُ : " لَا يَصْلُحُ " مَكَانَ يُقْبَلُ . وَهَذَا فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مُجَرَّدَ الْقَوْلِ كَافِيًا فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ إذْ الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٍ ؛ لَا بُدَّ مِنْ هَذَيْنِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَبَيَّنَّا أَنَّ مُجَرَّدَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ

مَعَ الْبُغْضِ وَالِاسْتِكْبَارِ لَا يَكُونُ إيمَانًا - بِاتِّفَاقِ الْمُؤْمِنِينَ - حَتَّى يَقْتَرِنَ بِالتَّصْدِيقِ عَمَلٌ . وَأَصْلُ الْعَمَلِ عَمَلُ الْقَلْبِ وَهُوَ الْحُبُّ وَالتَّعْظِيمُ الْمُنَافِي لِلْبُغْضِ وَالِاسْتِكْبَارِ ثُمَّ قَالُوا : وَلَا يُقْبَلُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ إلَّا بِنِيَّةِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْقَوْلَ وَالْعَمَلُ إذَا لَمْ يَكُنْ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَقْبَلْهُ اللَّهُ تَعَالَى . ثُمَّ قَالُوا : وَلَا يُقْبَلُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ إلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ ؛ وَهِيَ الشَّرِيعَةُ وَهِيَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ وَالنِّيَّةَ الَّذِي لَا يَكُونُ مَسْنُونًا مَشْرُوعًا قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ : يَكُونُ بِدْعَةً لَيْسَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ فَلَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ ؛ وَلَا يَصْلُحُ : مِثْلَ أَعْمَالِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ . وَلَفْظُ " السُّنَّةِ " فِي كَلَامِ السَّلَفِ يَتَنَاوَلُ السُّنَّةَ فِي الْعِبَادَاتِ وَفِي الِاعْتِقَادَاتِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي السُّنَّةِ يَقْصِدُونَ الْكَلَامَ فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَهَذَا كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وأبي بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اقْتِصَادٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَةٍ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَصَلَوَاتُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ كَلَامٍ سَبَقَ :
وَأَصْلُ ذَلِكَ الْعِلْمُ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ الْعَدْلُ وَالظُّلْمُ إلَّا بِالْعِلْمِ . فَصَارَ الدِّينُ كُلُّهُ الْعِلْمَ وَالْعَدْلَ ؛ وَضِدُّ ذَلِكَ الظُّلْمُ وَالْجَهْلُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } وَلَمَّا كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا - وَذَلِكَ يَقَعُ مِنْ الرُّعَاةِ تَارَةً وَمِنْ الرَّعِيَّةِ تَارَةً وَمِنْ غَيْرِهِمْ تَارَةً - كَانَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ الصَّبْرُ عَلَى ظُلْمِ الْأَئِمَّةِ وَجَوْرِهِمْ كَمَا هُوَ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَكَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ لَمَّا قَالَ : { إنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلَقَّوْنِي عَلَى الْحَوْضِ } وَقَالَ : { مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ } إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ . وَقَالَ : { أَدُّوا إلَيْهِمْ الَّذِي لَهُمْ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ } وَانْهَوْا عَنْ قِتَالِهِمْ مَا صَلَّوْا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعَهُمْ أَصْلُ الدِّينِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَعِبَادَتُهُ وَمَعَهُمْ حَسَنَاتٌ وَتَرْكُ سَيِّئَاتٍ كَثِيرَةٍ . وَأَمَّا مَا يَقَعُ مِنْ ظُلْمِهِمْ وَجَوْرِهِمْ بِتَأْوِيلِ سَائِغٍ أَوْ غَيْرِ سَائِغٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَالَ لِمَا فِيهِ مِنْ ظُلْمٍ وَجَوْرٍ كَمَا هُوَ عَادَةُ أَكْثَرِ النُّفُوسِ تُزِيلُ الشَّرَّ بِمَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ وَتُزِيلُ الْعُدْوَانَ بِمَا هُوَ أَعْدَى مِنْهُ ؛

فَالْخُرُوج عَلَيْهِمْ يُوجِبُ مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ أَكْثَرَ مِنْ ظُلْمِهِمْ فَيُصْبَرُ عَلَيْهِ كَمَا يُصْبَرُ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ عَلَى ظُلْمِ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ : { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } وَقَوْلِهِ : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } وَقَوْلِهِ : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } . وَهَذَا عَامٌّ فِي وُلَاةِ الْأُمُورِ وَفِي الرَّعِيَّةِ إذَا أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ ؛ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَصْبِرُوا عَلَى مَا أُصِيبُوا بِهِ فِي ذَاتِ اللَّهِ كَمَا يَصْبِرُ الْمُجَاهِدُونَ عَلَى مَا يُصَابُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ . فَالصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى فِي الْعِرْضِ أَوْلَى وَأَوْلَى ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَيَنْدَرِجُ فِي ذَلِكَ وُلَاةُ الْأُمُورِ فَإِنَّ عَلَيْهِمْ مِنْ الصَّبْرِ وَالْحِلْمِ مَا لَيْسَ عَلَى غَيْرِهِمْ كَمَا أَنَّ عَلَيْهِمْ مِنْ الشَّجَاعَةِ وَالسَّمَاحَةِ مَا لَيْسَ عَلَى غَيْرِهِمْ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْإِمَارَةِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ . فَكَمَا وَجَبَ عَلَى الْأَئِمَّةِ الصَّبْرُ عَلَى أَذَى الرَّعِيَّةِ وَظُلْمِهَا إذَا لَمْ تَتِمَّ الْمَصْلَحَةُ إلَّا بِذَلِكَ إذْ كَانَ تَرْكُهُ يُفْضِي إلَى فَسَادٍ أَكْثَرَ مِنْهُ : فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الرَّعِيَّةِ الصَّبْرُ عَلَى جَوْرِ الْأَئِمَّةِ وَظُلْمِهِمْ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِ الصَّبْرِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ . فَعَلَى كُلٍّ مِنْ الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ لِلْآخَرِ حُقُوقٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا كَمَا ذَكَرَ بَعْضَهُ فِي " كِتَابِ الْجِهَادِ وَالْقَضَاءِ " وَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ لِلْآخَرِ وَيَحْلُمَ

عَنْهُ فِي أُمُورٍ ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ السَّمَاحَةِ وَالصَّبْرِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } وَفِي الْحَدِيثِ { أَفْضَلُ الْإِيمَانِ السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ } وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . فَبِالْحِلْمِ يَعْفُو عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ وَبِالسَّمَاحَةِ يُوَصِّلُ إلَيْهِمْ الْمَنَافِعَ فَيَجْمَعُ جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ . فَأَمَّا الْإِمْسَاكُ عَنْ ظُلْمِهِمْ وَالْعَدْلُ عَلَيْهِمْ فَوُجُوبُ ذَلِكَ أَظْهَرُ مِنْ هَذَا فَلَا حَاجَةَ إلَى بَيَانِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
فِي مَرَاتِبِ الذُّنُوبِ أَمَّا مَرَاتِبُهَا فِي الْآخِرَةِ فَلَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا ؛ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا مَرَاتِبُهَا فِي الدُّنْيَا : فِي الذَّمِّ وَالْعِقَابِ . وَقَدْ ذَكَرْت فِيمَا قَبْلُ هَذَا أَنَّ الذُّنُوبَ الَّتِي فِيهَا ظُلْمُ الْغَيْرِ وَالْإِضْرَارُ بِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا أَعْظَمُ عُقُوبَةً فِي الدُّنْيَا مِمَّا لَمْ يَتَضَمَّنْ ضَرَرَ الْغَيْرِ ؛ وَإِنْ كَانَ عُقُوبَةُ هَذَا فِي الْآخِرَةِ أَكْبَرَ كَمَا يُعَاقَبُ ذَوُو الْجَرَائِمِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِمَا لَا يُعَاقَبُ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الْكَافِرِينَ ؛ وَإِنْ كَانَ الْكَافِرُ أَشَدَّ عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْمُسْلِمِ . وَيُعَاقَبُ الثَّانِي عَلَى عَدَالَتِهِ مِثْلَ شَارِبِ النَّبِيذِ مُتَأَوِّلًا . وَالْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ بِمَا لَا يُعَاقَبُ بِهِ الْفَاسِقُ الْمُسْتَسِرُّ بِالذَّنْبِ . وَيُعَاقَبُ

الدَّاعِي إلَى بِدْعَةٍ وَالْمُظْهِرُ لِلْمُنْكَرِ بِمَا لَا يُعَاقَبُ بِهِ الْمُنَافِقُ الْمُسْتَسِرُّ بِنِفَاقِهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ لِلْغَيْرِ . فَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ فِي الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ وَفِي الْفَاسِقِ وَالْعَدْلِ وَفِي الْمُنَافِقِ وَالْمُؤْمِنِ الْمُظْهِرِ لِبِدْعَةِ أَوْ ذَنَبٍ . وَبَيَّنْت سَبَبَ ذَلِكَ ؛ أَنَّ عُقُوبَةَ هَؤُلَاءِ مِنْ بَابِ دَفْعِ ظُلْمِ الظَّالِمِينَ عَنْ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ؛ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَظْلِمْ إلَّا نَفْسَهُ فَإِنَّ عُقُوبَتَهُ إلَى رَبِّهِ . " وَجِمَاعُ الْأَمْرِ " أَنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا ظُلْمٌ : فَإِمَّا ظُلْمُ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ فَقَطْ أَوْ ظُلْمُهُ مَعَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ ؛ فَمَا كَانَ مِنْ ظُلْمِ الْغَيْرِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْرَعَ مِنْ عُقُوبَتِهِ مَا يَدْفَعُ بِهِ ظُلْمَ الظَّالِمِ عَنْ الدِّينِ وَالدُّنْيَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } فَجَعَلَ السَّبَبَ الْمُبِيحَ لِعُقُوبَةِ الْغَيْرِ الَّتِي هِيَ قِتَالُهُ : { بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } . وَقَالَ : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ } فَبَيَّنَ أَنَّ الظَّالِمَ يُعْتَدَى عَلَيْهِ : أَيْ بِتَجَاوُزِ . الْحَدِّ الْمُطْلَقِ فِي حَقِّهِ ؛ وَهُوَ الْعُقُوبَةُ وَهَذَا عُدْوَانٌ جَائِزٌ كَمَا قَالَ : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } . وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ : إنَّ هَذَا لَيْسَ بِعُدْوَانِ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا سَمَّاهُ عُدْوَانًا عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ كَمَا قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } . لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْعُدْوَانَ الْمُطْلَقَ هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الْمُطْلَقِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ إلَّا إذَا اعْتَدَى فَيَتَجَاوَزُ الْحَدَّ فِي حَقِّهِ بِقَدْرِ تَجَاوُزِهِ .

وَالسَّيِّئَةُ اسْمٌ لِمَا يَسُوءُ الْإِنْسَانَ ؛ فَإِنَّ الْمَصَائِبَ وَالْعُقُوبَاتِ تُسَمَّى سَيِّئَةً فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى . وَالظُّلْمُ نَوْعَانِ : تَفْرِيطٌ فِي الْحَقِّ وَتَعَدٍّ لِلْحَدِّ . فَالْأَوَّلُ تَرْكُ مَا يَجِبُ لِلْغَيْرِ مِثْلَ تَرْكِ قَضَاءِ الدُّيُونِ وَسَائِرِ الْأَمَانَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ . وَالثَّانِي الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِ مِثْلُ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ وَكِلَاهُمَا ظُلْمٌ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتَّبِعْ } فَجَعَلَ مُجَرَّدَ الْمَطْلِ الَّذِي هُوَ تَأْخِيرُ الْأَدَاءِ مَعَ الْقُدْرَةِ ظُلْمًا فَكَيْفَ بِالتَّرْكِ رَأْسًا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } إلَى قَوْلِهِ : { وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ } . قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلَيِّهَا فَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِدُونِ أَنْ يُقْسِطَ لَهَا فِي مَهْرِهَا . فَسَمَّى اللَّهُ تَكْمِيلَ الْمَهْرِ قِسْطًا ؛ وَضِدُّهُ الظُّلْمُ . وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ ظَاهِرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ : أَنَّ الْعَدْلَ قَدْ يَكُونُ أَدَاءَ وَاجِبٍ وَقَدْ يَكُونُ تَرْكَ مُحَرَّمٍ وَقَدْ يَجْمَعُ الْأَمْرَيْنِ وَأَنَّ الظُّلْمَ أَيْضًا قَدْ يَكُونُ تَرْكَ وَاجِبٍ وَقَدْ يَكُونُ فِعْلَ مُحَرَّمٍ وَقَدْ يَجْمَعُ الْأَمْرَيْنِ . فَإِذَا عُرِفَ هَذَا ؛ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ الْعَدْلَ وَالظُّلْمَ يَكُونُ

فِي حَقِّ نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَيَكُونُ فِي حُقُوقِ النَّاسِ - كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ كَتَبْت فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ " الْقَوَاعِدِ " وَفِي آخِرِ " مُسَوَّدَةِ الْفِقْهِ " كَلَامًا كُلِّيًّا فِي أَنَّ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ تَدْخُلُ فِي الْعَدْلِ وَجَمِيعُ السَّيِّئَاتِ تَدْخُلُ فِي الظُّلْمِ - فَإِنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِهَذَا مَسَائِلُ نَافِعَةٌ . مِنْهَا : أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَمَنْ يَتْبَعُهُمْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُقُوقٌ لِلنَّاسِ هِيَ الْمَقْصُودَةُ الْوَاجِبَةُ مِنْهُ فِي مَرْتَبَتِهِ ؛ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَطْلُوبَةً مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ النَّوْعِ وَلَا وَاجِبَةً عَلَيْهِ ؛ إذْ وُجُوبُهَا عَلَيْهِ دُونَ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ عَلَيْهِ مُحَرَّمَاتٌ حُرْمَتُهَا عَلَيْهِ مَرْتَبَتُهُ وَإِنْ لَمْ تَحْرُمْ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ أَوْ تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِمْ أَخَفُّ : مِثَالُ ذَلِكَ الْجِهَادُ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا عَلَى الْكِفَايَةِ مِنْهُمْ ؛ وَقَدْ يَجِبُ أَحْيَانًا عَلَى أَعْيَانِهِمْ ؛ لَكِنْ وُجُوبُهُ عَلَى الْمُرْتَزِقَةِ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ مَالُ الْفَيْءِ لِأَجْلِ الْجِهَادِ أَوْكَدُ ؛ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ عَيْنًا ؛ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ وَوَاجِبٌ بِالْعَقْدِ الَّذِي دَخَلُوا فِيهِ لَمَّا عَقَدُوا مَعَ وُلَاةِ الْأَمْرِ عَقْدَ الطَّاعَةِ فِي الْجِهَادِ وَوَاجِبٌ بِالْعِوَضِ . فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَا بِشَرْعِ وَلَا بِبَيْعَةِ إمَامٍ : لَوَجَبَ بِالْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهِ كَمَا يَجِبُ الْعَمَلُ عَلَى الْأَجِيرِ الَّذِي قَبَضَ الْأُجْرَةَ وَيَجِبُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ عَلَى مَنْ قَبَضَ الثَّمَنَ وَهَذَا وُجُوبٌ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَبِقَبْضِ الْعِوَضِ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ وُجُوبٌ

بِالشَّرْعِ وَبِمُجَرَّدِ مُبَايَعَةِ الْإِمَامِ وَهُوَ وَاجِبٌ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ مَا فِي تَرْكِهِ مِنْ تَغْرِيرِ الْمُسْلِمِينَ وَالضَّرَرُ اللَّاحِقُ لَهُمْ بِتَرْكِهِ وُجُوبُ الضَّمَانِ لِلْمَضْمُونِ لَهُ . فَإِنَّ " الْمُرْتَزِقَةَ " ضَمِنُوا لِلْمُسْلِمِينَ بِالِارْتِزَاقِ الدَّفْعَ عَنْهُمْ فَاطْمَأَنَّ النَّاسُ إلَى ذَلِكَ وَاكْتَفَوْا بِهِمْ وَأَعْرَضُوا عَنْ الدَّفْعِ بِأَنْفُسِهِمْ ، أَعْظَمُ مِمَّا يَطْمَئِنُّ الْمُوَكَّلُ وَالْمُضَارِبُ إلَى وَكِيلِهِ وَعَامِلِهِ فَإِذَا فَرَّطَ بَعْضُهُمْ وَضَيَّعَ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّهُمْ أَدْخَلُوا الضَّرَرَ الْعَظِيمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ بِمَا تَرَكُوهُ مِنْ الْقِتَالِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ حَتَّى لَحِقَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الضَّرَرِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ : فِي الْأَنْفُسِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْأَمْوَالِ مَا لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ أَحَدٌ . فَظُلْمُ الْمُقَاتِلَةِ بِتَرْكِ الْجِهَادِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَعْظَمِ ظُلْمٍ يَكُونُ ؛ بِخِلَافِ مَا يَلْحَقُ أَحَدُهُمْ مِنْ الضَّرَرِ فَإِنَّ ذَاكَ ظُلْمٌ لِنَفْسِهِ . وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْمَعْصِيَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ - كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَفِعْلِ الْفَاحِشَةِ - فَإِنَّ هَذَا ظُلْمٌ لِنَفْسِهِ مُخْتَصٌّ بِهِ فَعُقُوبَتُهُ عَلَى تَرْكِ الْجِهَادِ وَذَمِّهِ عَلَى ذَلِكَ أَعْظَمُ بِكَثِيرِ مِنْ ذَمِّهِ وَعُقُوبَتِهِ عَلَى ذَلِكَ . وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ جَمْعُ الْعُقُوبَتَيْنِ كَانَتْ الْعُقُوبَةُ عَلَى تَرْكِ الْجِهَادِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْعُقُوبَةِ عَلَى هَذِهِ الْمَعَاصِي كَمَا أَنَّ مَنْفَعَةَ الْجِهَادِ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ قَدْ

تَكُونُ أَعْظَمَ بِكَثِيرِ مِنْ مَنْفَعَةِ رَدْعِهِ عَنْ الْخَمْرِ وَالْفَاحِشَةِ إذَا اسْتَسَرَّ بِذَلِكَ وَلَمْ يَظْلِمْ بِهِ غَيْرَهُ ؛ فَيَدْفَعُ هُنَا أَعْظَمَ الفسادين بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا . وَفِي مِثْلِ هَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ وَبِأَقْوَامِ لَا خَلَاقَ لَهُمْ } وَيُذَمُّ أَحَدُ هَؤُلَاءِ أَوْ يُزْجَرُ بِمَا فِيهِ مِنْ عَجْزٍ عَنْ الْجِهَادِ أَوْ تَفْرِيطٍ فِيهِ مَا لَا يَفْعَلُ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ مَرْصَدًا لِلْجِهَادِ . وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ عَلَى الْأُمَّةِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ : صُورَةً وَمَعْنًى ؛ مَعَ أَنَّ حِفْظَ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ عُمُومًا عَلَى الْكِفَايَةِ مِنْهُمْ وَمِنْهُ مَا يَجِبُ عَلَى أَعْيَانِهِمْ وَهُوَ عِلْمُ الْعَيْنِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ ؛ لَكِنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ عَيْنًا وَكِفَايَةً عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ رَأَسُوا فِيهِ أَوْ رُزِقُوا عَلَيْهِ أَعْظَمَ مِنْ وُجُوبِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ عُمُومًا . وَقَدْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ لِقُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ وَعَجْزِ غَيْرِهِمْ ؛ وَيَدْخُلُ فِي الْقُدْرَةِ اسْتِعْدَادُ الْعَقْلِ وَسَابِقَةُ الطَّلَبِ وَمَعْرِفَةُ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ وَالْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَسَائِرِ الْأَدِلَّةِ الْمُتَعَدِّدَةِ وَالتَّفَرُّغُ لَهُ عَمَّا يَشْغَلُ بِهِ غَيْرَهُمْ . وَلِهَذَا مَضَتْ السُّنَّةُ بِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْعِلْمِ وَالْجِهَادِ يَلْزَمُ كَالشُّرُوعِ فِي الْحَجِّ يَعْنِي أَنَّ مَا حَفِظَهُ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ وَعِلْمِ الْجِهَادِ لَيْسَ لَهُ

إضَاعَتُهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ أَجْذَمُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَقَالَ : { عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي - حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا - فَرَأَيْت فِي مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا الرَّجُلُ يُؤْتِيهِ اللَّهُ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ يَنَامُ عَنْهَا حَتَّى يَنْسَاهَا } وَقَالَ : { مَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ نَسِيَهُ فَلَيْسَ مِنَّا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَكَذَلِكَ الشُّرُوعُ فِي عَمَلِ الْجِهَادِ . فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا صافوا عَدُوًّا أَوْ حَاصَرُوا حِصْنًا لَيْسَ لَهُمْ الِانْصِرَافُ عَنْهُ حَتَّى يَفْتَحُوهُ . وَلِذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا يَنْبَغِي لِنَبِيِّ إذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَنْزِعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ } . فَالْمُرْصِدُونَ لِلْعِلْمِ عَلَيْهِمْ لِلْأُمَّةِ حِفْظُ عِلْمِ الدِّينِ وَتَبْلِيغُهُ ؛ فَإِذَا لَمْ يُبَلِّغُوهُمْ عِلْمَ الدِّينِ أَوْ ضَيَّعُوا حِفْظَهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ لِلْمُسْلِمِينَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } فَإِنَّ ضَرَرَ كِتْمَانِهِمْ تَعَدَّى إلَى الْبَهَائِمِ وَغَيْرِهَا فَلَعَنَهُمْ اللَّاعِنُونَ حَتَّى الْبَهَائِمُ . كَمَا أَنَّ مُعَلِّمَ الْخَيْرِ يُصَلِّي عَلَيْهِ اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْبَحْرِ وَالطَّيْرُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ .

وَكَذَلِكَ كَذِبُهُمْ فِي الْعِلْمِ مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ . وَكَذَلِكَ إظْهَارُهُمْ لِلْمَعَاصِي وَالْبِدَعِ الَّتِي تَمْنَعُ الثِّقَةَ بِأَقْوَالِهِمْ . وَتَصْرِفُ الْقُلُوبَ عَنْ اتِّبَاعِهِمْ وَتَقْتَضِي مُتَابَعَةَ النَّاسِ لَهُمْ فِيهَا ؛ هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ وَيَسْتَحِقُّونَ مِنْ الذَّمِّ وَالْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ أَظْهَرَ الْكَذِبَ وَالْمَعَاصِيَ وَالْبِدَعَ مِنْ غَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّ إظْهَارَ غَيْرِ الْعَالِمِ - وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ ضَرَرٍ - فَلَيْسَ هُوَ مِثْلُ الْعَالِمِ فِي الضَّرَرِ الَّذِي يَمْنَعُ ظُهُورَ الْحَقِّ وَيُوجِبُ ظُهُورَ الْبَاطِلِ ؛ فَإِنَّ إظْهَارَ هَؤُلَاءِ لِلْفُجُورِ وَالْبِدَعِ بِمَنْزِلَةِ إعْرَاضِ الْمُقَاتِلَةِ عَنْ الْجِهَادِ وَدَفْعِ الْعَدُوِّ ؛ لَيْسَ هُوَ مِثْلُ إعْرَاضِ آحَادِ الْمُقَاتِلَةِ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . فَتَرْكُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِتَبْلِيغِ الدِّينِ كَتَرْكِ أَهْلِ الْقِتَالِ لِلْجِهَادِ وَتَرْكِ أَهْلِ الْقِتَالِ لِلْقِتَالِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ كَتَرْكِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلتَّبْلِيغِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ كِلَاهُمَا ذَنْبٌ عَظِيمٌ ؛ وَلَيْسَ هُوَ مِثْلُ تَرْكِ مَا تَحْتَاجُ الْأُمَّةُ إلَيْهِ مِمَّا هُوَ مُفَوَّضٌ إلَيْهِمْ ؛ فَإِنَّ تَرْكَ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ تَرْكِ أَدَاءِ الْمَالِ الْوَاجِبِ إلَى مُسْتَحَقِّهِ . وَمَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ الْبِدَعِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي تَمْنَعُ قَبُولَ قَوْلِهِمْ وَتَدْعُو النُّفُوسَ إلَى مُوَافَقَتِهِمْ وَتَمَنُّعُهُمْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ إظْهَارِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ : أَشَدُّ ضَرَرًا لِلْأُمَّةِ وَضَرَرًا عَلَيْهِمْ مِنْ إظْهَارِ غَيْرِهِمْ لِذَلِكَ . وَلِهَذَا جَبَلَ اللَّهُ قُلُوبَ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّهَا تَسْتَعْظِمُ جُبْنَ الْجُنْدِيِّ

وَفَشَلَهُ وَتَرْكَهُ لِلْجِهَادِ وَمُعَاوَنَتَهُ لِلْعَدُوِّ : أَكْثَرَ مِمَّا تَسْتَعْظِمُهُ مِنْ غَيْرِهِ . وَتَسْتَعْظِمُ إظْهَارَ الْعَالِمِ الْفُسُوقَ وَالْبِدَعَ : أَكْثَرَ مِمَّا تَسْتَعْظِمُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ ؛ بِخِلَافِ فُسُوقِ الْجُنْدِيِّ وَظُلْمِهِ وَفَاحِشَتِهِ ؛ وَبِخِلَافِ قُعُودِ الْعَالِمِ عَنْ الْجِهَادِ بِالْبَدَنِ . وَمِثْلُ ذَلِكَ وُلَاةُ الْأُمُورِ كُلٌّ بِحَسَبِهِ مِنْ الْوَالِي وَالْقَاضِي ؛ فَإِنَّ تَفْرِيطَ أَحَدِهِمْ فِيمَا عَلَيْهِ رِعَايَتُهُ مِنْ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ أَوْ فِعْلٍ ضِدِّ ذَلِكَ مِنْ الْعُدْوَانِ عَلَيْهِمْ : يُسْتَعْظَمُ أَعْظَمَ مِمَّا يُسْتَعْظَمُ ذَنْبٌ يَخُصُّ أَحَدَهُمْ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ : فِي الْوِلَايَةِ وَالْعَدَاوَةِ
فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَبَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ؛ وَالْكُفَّارُ أَعْدَاءُ اللَّهِ وَأَعْدَاءُ الْمُؤْمِنِينَ . وَقَدْ أَوْجَبَ الْمُوَالَاةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ وَنَهَى عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيَّنَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ فِي مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ . فَأَمَّا " مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ " فَكَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا } إلَى قَوْلِهِ : { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { الَّذِينَ

آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } . وَقَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } إلَى قَوْلِهِ : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ وَقَوْلِهِ : { لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ } وَقَالَ : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ } وَقَالَ : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ } وَقَالَ : { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ : { فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } إلَى قَوْلِهِ :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } إلَى تَمَامِ الْكَلَامِ . وَقَالَ : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } { كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } . فَذَمَّ مَنْ يَتَوَلَّى الْكُفَّارَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَنَا وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي الْإِيمَانَ { بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } إلَى قَوْلِهِ : { سَبِيلًا } وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } . وَقَالَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } كَمَا قَالَ عَنْ الْكُفَّارِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا

آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } وَقَالَ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ } نَزَلَتْ فِيمَنْ تَوَلَّى الْيَهُودَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ : { مَا هُمْ مِنْكُمْ } وَلَا مِنْ الْيَهُودِ { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } إلَى قَوْلِهِ : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } وَقَالَ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ } إلَى تَمَامِ الْقِصَّةِ وَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ } { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إسْرَارَهُمْ } . وَتَبَيَّنَ أَنَّ مُوَالَاةَ الْكُفَّارِ كَانَتْ سَبَبَ ارْتِدَادِهِمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ فِي " سُورَةِ الْمَائِدَةِ " أَئِمَّةَ الْمُرْتَدِّينَ عَقِبَ النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ قَوْلُهُ : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ

لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا } . فَذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارَ الْمُهَادِنِينَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ يسمعون لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك وَهُوَ اسْتِمَاعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ الْمُهَادِنِينَ لِلْكُفَّارِ الْمُعْلِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يُهَادِنُوا كَمَا أَنَّ فِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ قَدْ يَكُونُ سَمَّاعًا لِلْمُنَافِقِينَ كَمَا قَالَ : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } . وَبَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ الْمَعْنَى : سَمَّاعُونَ لِأَجْلِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْجَاسُوسِ ؛ أَيْ يَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ وَيَنْقُلُونَهُ إلَيْهِمْ حَتَّى قِيلَ لِبَعْضِهِمْ : أَيْنَ فِي الْقُرْآنِ : الْحِيطَانُ لَهَا آذَانٌ ؟ قَالَ : فِي قَوْلِهِ : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ . { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } أَيْ لِيَكْذِبُوا : أَنَّ اللَّامَ لَامُ التَّعْدِيَةِ لَا لَامُ التَّبَعِيَّةِ ؛ وَلَيْسَ هَذَا مَعْنَى الْآيَتَيْنِ ؛ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِيكُمْ مَنْ يَسْمَعُ لَهُمْ أَيْ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ وَيَتْبَعُهُمْ . كَمَا فِي قَوْلِهِ : " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " اسْتِحْبَابُ اللَّهِ لِمَنْ حَمِدَهُ أَيْ قَبِلَ مِنْهُ يُقَالُ : فُلَانٌ يَسْمَعُ لِفُلَانِ أَيْ يَسْتَجِيبُ لَهُ وَيُطِيعُهُ . وَذَلِكَ أَنَّ الْمَسْمَعَ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ نَفْسَ السَّمْعِ الَّذِي يُشْبِهُ الْإِدْرَاكَ ؛ لَكِنْ إذَا كَانَ الْمَسْمُوعُ طَلَبًا : فَفَائِدَتُهُ وَمُوجِبُهُ الِاسْتِجَابَةُ وَالْقَبُولُ . وَإِذَا كَانَ الْمَسْمُوعُ خَبَرًا . فَفَائِدَتُهُ التَّصْدِيقُ وَالِاعْتِقَادُ فَصَارَ يَدْخُلُ

مَقْصُودُهُ وَفَائِدَتُهُ فِي مُسَمَّاهُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فَيُقَالُ : فُلَانٌ يَسْمَعُ لِفُلَانِ : أَيْ يُطِيعُهُ فِي أَمْرِهِ أَوْ يُصَدِّقُهُ فِي خَبَرِهِ . وَفُلَانٌ لَا يَسْمَعُ مَا يُقَالُ لَهُ : أَيْ لَا يُصَدِّقُ الْخَبَرَ وَلَا يُطِيعُ الْأَمْرَ كَمَا بَيَّنَ اللَّهُ السَّمْعَ عَنْ الْكُفَّارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً } وَقَوْلُهُ : { وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ } وَذَلِكَ لِأَنَّ سَمْعَ الْحَقِّ يُوجِبُ قَبُولُهُ إيجَابَ الْإِحْسَاسِ الْحَرَكَةَ وَإِيجَابُ عِلْمِ الْقَلْبِ حَرَكَةُ الْقَلْبِ فَإِنَّ الشُّعُورَ بِالْمُلَائِمِ يُوجِبُ الْحَرَكَةَ إلَيْهِ وَالشُّعُورُ بِالْمُنَافِرِ يُوجِبُ النُّفْرَةَ عَنْهُ فَحَيْثُ انْتَفَى مُوجِبُ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ مَبْدَئِهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ } . وَلِهَذَا جَعَلَ سَمْعَ الْكُفَّارِ بِمَنْزِلَةِ سَمْعِ الْبَهَائِمِ لِأَصْوَاتِ الرُّعَاةِ أَيْ يَسْمَعُونَ مُجَرَّدَ الْأَصْوَاتِ سَمْعَ الْحَيَوَانِ لَا يَسْمَعُونَ مَا فِيهَا - مِنْ تَأْلِيفِ الْحُرُوفِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْمَعَانِي - السَّمْعَ الَّذِي لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِالْقَلْبِ مَعَ الْجِسْمِ ؛ فَقَالَ تَعَالَى : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ } يَقُولُ : هُمْ يَسْتَجِيبُونَ { لِقَوْمٍ آخَرِينَ } وَأُولَئِكَ { لَمْ يَأْتُوكَ } وَأُولَئِكَ { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } يَقُولُونَ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَتَوْك : { إنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا } كَمَا ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ

الْآيَةِ : أَنَّهُمْ قَالُوا فِي حَدِّ الزِّنَا وَفِي الْقَتْلِ : اذْهَبُوا إلَى هَذَا النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ فَإِنْ حَكَمَ لَكُمْ بِمَا تُرِيدُونَهُ فَاقْبَلُوهُ وَإِنْ حَكَمَ بِغَيْرِهِ فَأَنْتُمْ قَدْ تَرَكْتُمْ حُكْمَ التَّوْرَاةِ أَفَلَا تَتْرُكُونَ حُكْمَهُ . فَهَذَا هُوَ اسْتِمَاعُ الْمُتَحَاكِمِينَ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوهُ ؛ وَلَوْ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْجَاسُوسِ لَمْ يَخُصَّ ذَلِكَ بِالسَّمَاعِ ؛ بَلْ يَرَوْنَ وَيَسْمَعُونَ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَنْقُلُونَ إلَى شَيَاطِينِهِمْ مَا رَأَوْهُ وَسَمِعُوهُ ؛ لَكِنَّ هَذَا مِنْ تَوَابِعِ كَوْنِهِمْ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ وَيُوَالُونَهُمْ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أَيْ : لَأَسْرَعُوا بَيْنَكُمْ يَطْلُبُونَ الْفِتْنَةَ بَيْنَكُمْ ثُمَّ قَالَ : وَفِيكُمْ مُسْتَجِيبُونَ لَهُمْ إذَا أَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ ؛ وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى وَفِيكُمْ مَنْ تَجَسَّسَ لَهُمْ : لَمْ يَكُنْ مُنَاسِبًا ؛ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ : أَنَّهُمْ إذَا أَوْضَعُوا بَيْنَكُمْ يَطْلُبُونَ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ مَنْ يَسْمَعُ مِنْهُمْ : حَصَلَ الشَّرُّ . وَأَمَّا الْجَسُّ فَلَمْ يَكُونُوا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فَإِنَّهُمْ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ يُوضَعُونَ خِلَالَهُمْ . مِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } فَذَكَرَ مَا يَدْخُلُ فِي آذَانِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ مِنْ الْكَلَامِ وَمَا يَدْخُلُ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَبُطُونِهِمْ مِنْ الطَّعَامِ : غِذَاءِ الْجُسُومِ وَغِذَاءِ الْقُلُوبِ فَإِنَّهُمَا غِذَاءَانِ

خَبِيثَانِ : الْكَذِبُ وَالسُّحْتُ وَهَكَذَا مَنْ يَأْكُلُ السُّحْتَ مِنْ الْبِرْطِيلِ وَنَحْوِهِ : يَسْمَعُ الْكَذِبَ كَشَهَادَةِ الزُّورِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ } . فَلَمَّا كَانَ هَؤُلَاءِ : يَسْتَجِيبُونَ لِغَيْرِ الرَّسُولِ كَمَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُ إذَا وَافَقَ آرَاءَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ فَإِنَّهُمْ مُتَخَيِّرُونَ بَيْنَ الْقَبُولِ مِنْهُ وَالْقَبُولِ مِمَّنْ يُخَالِفُهُ . فَكَانَ هُوَ مُتَخَيِّرًا فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ . وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بَيْنَ مَنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ .
وَإِذَا ظَهَرَ الْمَعْنَى تَبَيَّنَ فَصْلُ الْخِطَابِ فِي وُجُوبِ الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُعَاهِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ : كَالْمُسْتَأْمِنِ وَالْمُهَادِنِ وَالذِّمِّيِّ ؛ فَإِنَّ فِيهِ نِزَاعًا مَشْهُورًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . قِيلَ : لَيْسَ بِوَاجِبِ ؛ لِلتَّخَيُّرِ . وَقِيلَ : بَلْ هُوَ وَاجِبٌ وَالتَّخْيِيرُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } . قَالَ الْأَوَّلُونَ : أَمَّا الْأَمْرُ هُنَا أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إذَا حَكَمَ : فَهُوَ أَمْرٌ بِصِفَةِ الْحُكْمِ ؛ لَا بِأَصْلِهِ كَقَوْلِهِ : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } وَقَوْلِهِ : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } . وَهَذَا أَصْوَبُ ؛ فَإِنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ بِمُحْتَمَلِ . فَكَيْفَ بِمَرْجُوحِ . وَقِيلَ : يَجِبُ فِي مَظَالِمِ الْعِبَادِ ؛ دُونَ غَيْرِهَا . وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ فِي

مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ . وَحَقِيقَةُ الْآيَةِ : إنْ كَانَ مُسْتَجِيبًا لِقَوْمِ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ كَالْمُعَاهِدِ : مِنْ الْمُسْتَأْمَنِ وَغَيْرِهِ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى أُمَرَائِهِ وَعُلَمَائِهِ فِي دَارَهِمَ وَكَالذِّمِّيِّ الَّذِي إنْ حَكَمَ لَهُ بِمَا يُوَافِقُ غَرَضَهُ وَإِلَّا رَجَعَ إلَى أَكَابِرِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ فَيَكُونُ مُتَخَيَّرًا بَيْنَ الطَّاعَةِ لِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبَيْنَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا مُطِيعًا لِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ عَنْهُ مَنْدُوحَةٌ كَالْمَظْلُومِ الَّذِي يَطْلُبُ نَصْرَهُ مِنْ ظَالِمِهِ وَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَنْصُرُهُ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ . فَهَذَا : لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَخْيِيرٌ . وَإِذَا كَانَ عَقْدُ الذِّمَّةِ قَدْ أَوْجَبَ نَصْرَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَنَصْرُهُ مِمَّنْ يَظْلِمُهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْلَى أَنْ يُوجِبَ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُتَحَاكِمُ إلَى الْحَاكِمِ وَالْعَالِمِ : مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَتَخَيَّرُونَ بَيْنَ الْقَبُولِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبَيْنَ تَرْكِ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ . وَهَذَا مِنْ حُجَّةِ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ الَّذِينَ كَانُوا لَا يُحَدِّثُونَ الْمُعْلِنِينَ بِالْبِدَعِ بِأَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ : مَنْ لَا يَكُونُ قَصْدُهُ فِي اسْتِفْتَائِهِ وَحُكُومَتِهِ الْحَقَّ بَلْ غَرَضُهُ مَنْ يُوَافِقُهُ عَلَى هَوَاهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ سَوَاءٌ كَانَ صَحِيحًا أَوْ بَاطِلًا . فَهَذَا سَمَاعٌ لِغَيْرِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا بَعَثَ رَسُولَهُ

بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ فَلَيْسَ عَلَى خُلَفَاءِ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يُفْتُوهُ وَيَحْكُمُوا لَهُ كَمَا لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَحْكُمُوا بَيْنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ الْمُسْتَجِيبِينَ لِقَوْمِ آخَرِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ .
وَمِنْ جِنْسِ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ الَّتِي ذَمَّ اللَّهُ بِهَا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ : الْإِيمَانُ بِبَعْضِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ أَوْ التَّحَاكُمُ إلَيْهِمْ دُونَ كِتَابِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا شَأْنُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ - أَحَدِ رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ - لَمَّا ذَهَبَ إلَى الْمُشْرِكِينَ وَرَجَّحَ دِينَهُمْ عَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ . وَالْقِصَّةُ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي " الصَّارِمِ الْمَسْلُولِ " لَمَّا ذَكَرْنَا قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ " . وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْله تَعَالَى عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } الْآيَةَ . فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ اتَّبَعُوا السِّحْرَ وَتَرَكُوا كِتَابَ اللَّهِ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْيَهُودِ وَبَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ اتِّبَاعِهِمْ كُتُبَ السَّحَرَةِ - أَعْدَاءِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى - مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ

وَهُوَ كَإِيمَانِهِمْ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ؛ فَإِنَّ الطَّاغُوتَ هُوَ الطَّاغِي مِنْ الْأَعْيَانِ وَالْجِبْتُ : هُوَ مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : الْجِبْتُ السِّحْرُ وَالطَّاغُوتُ الشَّيْطَانُ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْعِيَافَةُ وَالطِّيَرَةُ وَالطَّرْقُ : مِنْ الْجِبْتِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } أَيْ : وَمَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَشْرَكَ وَعَبَدَ الطَّوَاغِيتَ . فَهُنَا ذَكَرَ عِبَادَتَهُمْ لِلطَّاغُوتِ وَفِي " الْبَقَرَةِ " ذَكَرَ اتِّبَاعَهُمْ لِلسِّحْرِ وَذَكَرَ فِي " النِّسَاءِ " إيمَانَهُمْ بِهِمَا جَمِيعًا : بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ . وَأَمَّا التَّحَاكُمُ إلَى غَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ قَالَ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } . وَالطَّاغُوتُ فعلوت مِنْ الطُّغْيَانِ . كَمَا أَنَّ الْمَلَكُوتَ فعلوت مِنْ الْمُلْك . وَالرَّحَمُوتُ وَالرَّهَبُوتُ والرغبوت . فعلوت مِنْ الرَّحْمَةِ

وَالرَّهْبَةُ وَالرَّغْبَةُ . وَالطُّغْيَانُ : مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ ؛ وَهُوَ الظُّلْمُ وَالْبَغْيُ . فَالْمَعْبُودُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إذَا لَمْ يَكُنْ كَارِهًا لِذَلِكَ : طَاغُوتٌ ؛ وَلِهَذَا سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَصْنَامَ طَوَاغِيتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لَمَّا قَالَ : { وَيَتَّبِعُ مَنْ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ } . وَالْمُطَاعُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالْمُطَاعُ فِي اتِّبَاعِ غَيْرِ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ - سَوَاءٌ كَانَ مَقْبُولًا خَبَرُهُ الْمُخَالِفُ لِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ مُطَاعًا أَمْرُهُ الْمُخَالِفُ لِأَمْرِ اللَّهِ - هُوَ طَاغُوتٌ ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ مَنْ تُحُوكِمَ إلَيْهِ مَنْ حَاكَمَ بِغَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ طَاغُوتٌ وَسَمَّى اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَعَادًا طُغَاةً وَقَالَ فِي صَيْحَةِ ثَمُودَ : { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ } . فَمَنْ كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُوَالِيًا لِلْكُفَّارِ : مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَوْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْمُوَالَاةِ وَنَحْوِهَا : مِثْلَ إتْيَانِهِ أَهْلَ الْبَاطِلِ وَاتِّبَاعِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ مَقَالِهِمْ وَفِعَالِهِمْ الْبَاطِلَ : كَانَ لَهُ مِنْ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ وَالنِّفَاقِ بِحَسَبِ ذَلِكَ ؛ وَذَلِكَ مِثْلُ مُتَابَعَتِهِمْ فِي آرَائِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ ؛ كَنَحْوِ أَقْوَالِ الصَّابِئَةِ وَأَفْعَالِهِمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ الْمُخَالَفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ وَنَحْوِ أَقْوَالِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَفْعَالِهِمْ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ وَنَحْوِ أَقْوَالِ الْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَفْعَالِهِمْ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَمَنْ تَوَلَّى أَمْوَاتَهُمْ أَوْ أَحْيَاءَهُمْ بِالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْمُوَافَقَةِ فَهُوَ مِنْهُمْ ؛ كَاَلَّذِينَ وَافَقُوا أَعْدَاءَ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ : مِنْ الْكَلْدَانِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ

مِنْ الْمُشْرِكِينَ عُبَّادِ الْكَوَاكِبِ أَهْلِ السِّحْرِ ؛ وَاَلَّذِينَ وَافَقُوا أَعْدَاءَ مُوسَى مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ بِالسِّحْرِ . أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ صَانِعٌ غَيْرَ الصَّنْعَةِ وَلَا خَالِقٌ غَيْرَ الْمَخْلُوقِ وَلَا فَوْقَ السَّمَاوَاتِ إلَهٌ كَمَا يَقُولُهُ الِاتِّحَادِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة . وَاَلَّذِينَ وَافَقُوا الصَّائِبَةَ وَالْفَلَاسِفَةَ فِيمَا كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي الْخَالِقِ وَرُسُلِهِ : فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَالْمَعَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الطَّوَائِفَ : وَإِنْ كَانَ كُفْرُهَا ظَاهِرًا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ . حَتَّى مِنْ الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ وَالْإِمَارَةِ قَدْ دَخَلَ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُفْرِهِمْ وَعِظَمِهِمْ وَيَرَى تَحْكِيمَ مَا قَرَّرُوهُ مِنْ الْقَوَاعِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ كَثَرُوا فِي الْمُسْتَأْخِرِينَ وَلَبِسُوا الْحَقَّ - الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ - بِالْبَاطِلِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَعْدَاؤُهُمْ . وَاَللَّهُ تَعَالَى : يُحِبُّ تَمْيِيزَ الْخَبِيثِ مِنْ الطَّيِّبِ وَالْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ . فَيُعْرَفُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافَ : مُنَافِقُونَ أَوْ فِيهِمْ نِفَاقٌ ؛ وَإِنْ كَانُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ كَوْنَ الرَّجُلِ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُنَافِقًا فِي الْبَاطِنِ ؛ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ كُلَّهُمْ مُسْلِمُونَ فِي الظَّاهِرِ وَالْقُرْآنُ قَدْ بَيَّنَ صِفَاتِهِمْ وَأَحْكَامَهُمْ . وَإِذَا كَانُوا مَوْجُودِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عِزَّةِ الْإِسْلَامِ مَعَ ظُهُورِ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَنُورِ الرِّسَالَةِ : فَهُمْ مَعَ بُعْدِهِمْ عَنْهُمَا أَشَدُّ وُجُودًا لَا سِيَّمَا وَسَبَبُ النِّفَاقِ هُوَ سَبَبُ الْكُفْرِ وَهُوَ الْمُعَارِضُ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ يَجِبُ أَوْ يَجُوزُ بُغْضُهُ أَوْ هَجْرُهُ أَوْ كِلَاهُمَا لِلَّهِ تَعَالَى ؟ وَمَاذَا يُشْتَرَطُ عَلَى الَّذِي يُبْغِضُهُ أَوْ يَهْجُرُهُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ الشُّرُوطِ ؟ وَهَلْ يَدْخُلُ تَرْكُ السَّلَامِ فِي الْهِجْرَانِ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا بَدَأَ الْمَهْجُورُ الْهَاجِرَ بِالسَّلَامِ هَلْ يَجِبُ الرَّدُّ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَسْتَمِرُّ الْبُغْضُ وَالْهِجْرَانُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَتَحَقَّقَ زَوَالُ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي أَبْغَضَهُ وَهَجَرَهُ عَلَيْهَا ؟ أَمْ يَكُونُ لِذَلِكَ مُدَّةٌ مَعْلُومَةٌ ؟ فَإِنْ كَانَ لَهَا مُدَّةٌ مَعْلُومَةٌ فَمَا حَدُّهَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : الْهَجْرُ الشَّرْعِيُّ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا بِمَعْنَى التَّرْكِ لِلْمُنْكَرَاتِ . وَالثَّانِي بِمَعْنَى الْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا .
فَالْأَوَّلُ : هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } . وقَوْله تَعَالَى { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا

وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ } . فَهَذَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ الْمُنْكَرَاتِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ مِثْلَ قَوْمٍ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ يَجْلِسُ عِنْدَهُمْ . وَقَوْمٌ دُعُوا إلَى وَلِيمَةٍ فِيهَا خَمْرٌ وَزَمْرٌ لَا يُجِيبُ دَعْوَتَهُمْ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ . بِخِلَافِ مَنْ حَضَرَ عِنْدَهُمْ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ أَوْ حَضَرَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ . وَلِهَذَا يُقَالُ : حَاضِرُ الْمُنْكَرِ كَفَاعِلِهِ . وَفِي الْحَدِيثِ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ } . وَهَذَا الْهَجْرُ مِنْ جِنْسِ هَجْرِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ عَنْ فِعْلِ الْمُنْكَرَاتِ . كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ } . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ . فَإِنَّهُ هَجْرٌ لِلْمَقَامِ بَيْنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَا يُمَكِّنُونَهُ مِنْ فِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } . النَّوْعُ الثَّانِي : الْهَجْرُ عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ وَهُوَ هَجْرُ مَنْ يُظْهِرُ الْمُنْكَرَاتِ يُهْجَرُ حَتَّى يَتُوبَ مِنْهَا كَمَا { هَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ : الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ } حِينَ ظَهَرَ مِنْهُمْ تَرْكُ الْجِهَادِ الْمُتَعَيَّنِ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَلَمْ يَهْجُرْ مَنْ أَظْهَرَ الْخَيْرَ

وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا فَهُنَا الْهَجْرُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّعْزِيرِ . وَالتَّعْزِيرُ يَكُونُ لِمَنْ ظَهَرَ مِنْهُ تَرْكُ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلُ الْمُحَرَّمَاتِ كَتَارِكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالتَّظَاهُرِ بِالْمَظَالِمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالدَّاعِي إلَى الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ الَّتِي ظَهَرَ أَنَّهَا بِدَعٌ . وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ : إنَّ الدُّعَاةَ إلَى الْبِدَعِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُمْ وَلَا يُؤْخَذُ عَنْهُمْ الْعِلْمُ وَلَا يُنَاكَحُونَ . فَهَذِهِ عُقُوبَةٌ لَهُمْ حَتَّى يَنْتَهُوا ؛ وَلِهَذَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الدَّاعِيَةِ وَغَيْرِ الدَّاعِيَةِ ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَةَ أَظْهَرَ الْمُنْكَرَاتِ فَاسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ بِخِلَافِ الْكَاتِمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَرًّا مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ . وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { أَنَّ الْمَعْصِيَةَ إذَا خَفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إلَّا صَاحِبَهَا وَلَكِنْ إذَا أُعْلِنَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ ضَرَّتْ الْعَامَّةَ } وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِ مِنْهُ } . فَالْمُنْكَرَاتُ الظَّاهِرَةُ يَجِبُ إنْكَارُهَا ؛ بِخِلَافِ الْبَاطِنَةِ فَإِنَّ عُقُوبَتَهَا عَلَى صَاحِبِهَا

خَاصَّةً . وَهَذَا الْهَجْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْهَاجِرِينَ فِي قُوَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ زَجْرُ الْمَهْجُورِ وَتَأْدِيبُهُ وَرُجُوعُ الْعَامَّةِ عَنْ مِثْلِ حَالِهِ . فَإِنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ رَاجِحَةً بِحَيْثُ يُفْضِي هَجْرُهُ إلَى ضَعْفِ الشَّرِّ وَخِفْيَتِهِ كَانَ مَشْرُوعًا . وَإِنْ كَانَ لَا الْمَهْجُورُ وَلَا غَيْرُهُ يَرْتَدِعُ بِذَلِكَ بَلْ يُزِيدُ الشَّرَّ وَالْهَاجِرُ ضَعِيفٌ بِحَيْثُ يَكُونُ مَفْسَدَةُ ذَلِكَ رَاجِحَةً عَلَى مَصْلَحَتِهِ لَمْ يَشْرَعْ الْهَجْرُ ؛ بَلْ يَكُونُ التَّأْلِيفُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْفَعَ مِنْ الْهَجْرِ . وَالْهَجْرُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْفَعُ مِنْ التَّأْلِيفِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَلَّفُ قَوْمًا وَيَهْجُرُ آخَرِينَ . كَمَا أَنَّ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا كَانُوا خَيْرًا مِنْ أَكْثَرِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لَمَّا كَانَ أُولَئِكَ كَانُوا سَادَةً مُطَاعِينَ فِي عَشَائِرِهِمْ فَكَانَتْ الْمَصْلَحَةُ الدِّينِيَّةُ فِي تَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ وَهَؤُلَاءِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنُونَ سِوَاهُمْ كَثِيرٌ فَكَانَ فِي هَجْرِهِمْ عِزُّ الدِّينِ وَتَطْهِيرُهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي الْعَدُوِّ الْقِتَالُ تَارَةً وَالْمُهَادَنَةُ تَارَةً وَأَخْذُ الْجِزْيَةِ تَارَةً كُلُّ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ وَالْمَصَالِحِ . وَجَوَابُ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ فِي هَذَا الْبَابِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَلِهَذَا كَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَمَاكِنِ الَّتِي كَثُرَتْ فِيهَا الْبِدَعُ كَمَا كَثُرَ الْقَدَرُ فِي الْبَصْرَةِ وَالتَّنْجِيمُ بِخُرَاسَانَ وَالتَّشَيُّعُ بِالْكُوفَةِ وَبَيَّنَ مَا لَيْسَ

كَذَلِكَ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْمُطَاعِينَ وَغَيْرِهِمْ وَإِذَا عَرَفَ مَقْصُودَ الشَّرِيعَةِ سَلَكَ فِي حُصُولِهِ أَوْصَلَ الطُّرُقِ إلَيْهِ . وَإِذَا عَرَفَ هَذَا فَالْهِجْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ مِنْ الْأَعْمَالِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ . فَالطَّاعَةُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً لِلَّهِ وَأَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِأَمْرِهِ فَتَكُونُ خَالِصَةً لِلَّهِ صَوَابًا . فَمَنْ هَجَرَ لِهَوَى نَفْسِهِ أَوْ هَجَرَ هَجْرًا غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهِ : كَانَ خَارِجًا عَنْ هَذَا . وَمَا أَكْثَرَ مَا تَفْعَلُ النُّفُوسُ مَا تَهْوَاهُ ظَانَّةً أَنَّهَا تَفْعَلُهُ طَاعَةً لِلَّهِ . وَالْهَجْرُ لِأَجْلِ حَظِّ الْإِنْسَانِ لَا يَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنَّ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ ؛ يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ } فَلَمْ يُرَخِّصْ فِي هَذَا الْهَجْرِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ كَمَا لَمْ يُرَخِّصْ فِي إحْدَادِ غَيْرِ الزَّوْجَةِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ كُلَّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا ؛ إلَّا رَجُلًا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ : أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا } فَهَذَا الْهَجْرُ لِحَقِّ الْإِنْسَانِ حَرَامٌ وَإِنَّمَا رَخَّصَ فِي بَعْضِهِ كَمَا رَخَّصَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَهْجُرَ امْرَأَتَهُ فِي الْمَضْجَعِ إذَا نَشَزَتْ . وَكَمَا رَخَّصَ فِي هَجْرِ الثَّلَاثِ . فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْهَجْرِ لِحَقِّ اللَّهِ وَبَيْنَ الْهَجْرِ لِحَقِّ نَفْسِهِ .

فَالْأَوَّلُ مَأْمُورٌ بِهِ وَالثَّانِي مَنْهِيٌّ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إخْوَةٌ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا تَقَاطَعُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ : { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ } . وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إذْ اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ } .
وَهَذَا لِأَنَّ الْهَجْرَ مِنْ " بَابِ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ " فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَهَذَا يُفْعَلُ لِأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ . وَالْمُؤْمِنُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَادِيَ فِي اللَّهِ وَيُوَالِيَ فِي اللَّهِ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مُؤْمِنٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُوَالِيَهُ وَإِنْ ظَلَمَهُ ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ لَا يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ الْإِيمَانِيَّةَ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَجَعَلَهُمْ إخْوَةً

مَعَ وُجُودِ الْقِتَالِ وَالْبَغْيِ وَالْأَمْرِ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ . فَلْيَتَدَبَّرْ الْمُؤْمِنُ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَمَا أَكْثَرَ مَا يَلْتَبِسُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ تَجِبُ مُوَالَاتُهُ وَإِنْ ظَلَمَك وَاعْتَدَى عَلَيْك وَالْكَافِرُ تَجِبُ مُعَادَاتُهُ وَإِنْ أَعْطَاك وَأَحْسَنَ إلَيْك ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَيَكُونُ الْحَبُّ لِأَوْلِيَائِهِ وَالْبُغْضُ لِأَعْدَائِهِ وَالْإِكْرَامُ لِأَوْلِيَائِهِ وَالْإِهَانَةُ لِأَعْدَائِهِ وَالثَّوَابُ لِأَوْلِيَائِهِ وَالْعِقَابُ لِأَعْدَائِهِ . وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الرَّجُلِ الْوَاحِدِ خَيْرٌ وَشَرٌّ وَفُجُورٌ وَطَاعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ وَسُنَّةٌ وَبِدْعَةٌ : اسْتَحَقَّ مِنْ الْمُوَالَاةِ وَالثَّوَابِ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ وَاسْتَحَقَّ مِنْ الْمُعَادَاتِ وَالْعِقَابِ بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنْ الشَّرِّ فَيَجْتَمِعُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مُوجِبَاتُ الْإِكْرَامِ وَالْإِهَانَةِ فَيَجْتَمِعُ لَهُ مِنْ هَذَا وَهَذَا كَاللِّصِّ الْفَقِيرِ تُقْطَعُ يَدُهُ لِسَرِقَتِهِ وَيُعْطَى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يَكْفِيهِ لِحَاجَتِهِ . هَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَخَالَفَهُمْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجْعَلُوا النَّاسَ لَا مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ فَقَطْ وَلَا مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ فَقَطْ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ بِالنَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَنْ يُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ مَنْ يَأْذَنُ

لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ كَمَا اسْتَفَاضَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَصَلِّ اللَّهُمَّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي مَسَائِلِ إسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ - وَذَكَرَهُ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " فِي بَابِ مُجَانَبَةِ مَنْ قَالَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ - عَنْ إسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : مَنْ قَالَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ ؟ قَالَ : أَلْحِقْ بِهِ كُلَّ بَلِيَّةٍ . قُلْت : فَيُظْهِرُ الْعَدَاوَةَ لَهُمْ أَمْ يُدَارِيهِمْ ؟ قَالَ : أَهْلُ خُرَاسَانَ لَا يَقْوَوْنَ بِهِمْ . وَهَذَا الْجَوَابُ مِنْهُ مَعَ قَوْلِهِ فِي الْقَدَرِيَّةِ : لَوْ تَرَكْنَا الرِّوَايَةَ عَنْ الْقَدَرِيَّةِ لِتَرْكَنَاهَا عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَمَعَ مَا كَانَ يُعَامِلُهُمْ بِهِ فِي الْمِحْنَةِ : مِنْ الدَّفْعِ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَمُخَاطَبَتِهِمْ بِالْحُجَجِ يُفَسِّرُ مَا فِي كَلَامِهِ وَأَفْعَالِهِ مِنْ هَجْرِهِمْ وَالنَّهْيِ عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ وَمُكَالَمَتِهِمْ حَتَّى هَجَرَ فِي زَمَنٍ غَيْرٍ مَا أَعْيَانَ مِنْ الْأَكَابِرِ وَأَمَرَ بِهَجْرِهِمْ لِنَوْعِ مَا مِنْ التَّجَهُّمِ .

فَإِنَّ الْهِجْرَةَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ وَالْعُقُوبَةُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْهِجْرَةِ الَّتِي هِيَ تَرْكُ السَّيِّئَاتِ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ } وَقَالَ : { مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ } فَهَذَا هِجْرَةُ التَّقْوَى . وَفِي هِجْرَةِ التَّعْزِيرِ وَالْجِهَادِ : هِجْرَةُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِهَجْرِهِمْ حَتَّى تِيبَ عَلَيْهِمْ . فَالْهِجْرَةُ تَارَةً تَكُونُ مِنْ نَوْعِ التَّقْوَى إذَا كَانَتْ هَجْرًا لِلسَّيِّئَاتِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُتَّقِينَ خِلَافُ الظَّالِمِينَ وَأَنَّ الْمَأْمُورِينَ بِهِجْرَانِ مَجَالِسِ الْخَوْضِ فِي آيَاتِ اللَّهِ هُمْ الْمُتَّقُونَ . وَتَارَةً تَكُونُ مِنْ نَوْعِ الْجِهَادِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَهُوَ عُقُوبَةُ مَنْ اعْتَدَى وَكَانَ ظَالِمًا . وَعُقُوبَةُ الظَّالِمِ وَتَعْزِيرُهُ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ ؛ فَلِهَذَا اخْتَلَفَ حُكْمُ الشَّرْعِ فِي نَوْعَيْ الْهِجْرَتَيْنِ : بَيْنَ الْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ وَبَيْنَ قِلَّةِ نَوْعِ الظَّالِمِ الْمُبْتَدِعِ وَكَثْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ كَمَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِذَلِكَ فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ . فَإِنَّ كُلَّمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فَهُوَ ظُلْمٌ ؛ إمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ فَقَطْ وَإِمَّا فِي حَقِّ عِبَادِهِ وَإِمَّا فِيهِمَا . وَمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ هَجْرِ التُّرْكِ وَالِانْتِهَاءِ وَهَجْرِ الْعُقُوبَةِ وَالتَّعْزِيرِ إنَّمَا هُوَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ

دِينِيَّةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى فِعْلِهِ وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ فِي السَّيِّئَةِ حَسَنَةٌ رَاجِحَةٌ لَمْ تَكُنْ سَيِّئَةً وَإِذَا كَانَ فِي الْعُقُوبَةِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى الْجَرِيمَةِ لَمْ تَكُنْ حَسَنَةً ؛ بَلْ تَكُونُ سَيِّئَةً ؛ وَإِنْ كَانَتْ مُكَافِئَةً لَمْ تَكُنْ حَسَنَةً وَلَا سَيِّئَةً فَالْهِجْرَانُ قَدْ يَكُونُ مَقْصُودُهُ تَرْكَ سَيِّئَةِ الْبِدْعَةِ الَّتِي هِيَ ظُلْمٌ وَذَنْبٌ وَإِثْمٌ وَفَسَادٌ وَقَدْ يَكُونُ مَقْصُودُهُ فِعْلَ حَسَنَةِ الْجِهَادِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَعُقُوبَةَ الظَّالِمِينَ لِيَنْزَجِرُوا وَيَرْتَدِعُوا . وَلِيَقْوَى الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ عِنْدَ أَهْلِهِ . فَإِنَّ عُقُوبَةَ الظَّالِمِ تَمْنَعُ النُّفُوسَ عَنْ ظُلْمِهِ وَتَحُضُّهَا عَلَى فِعْلٍ ضِدِّ ظُلْمِهِ : مِنْ الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي هِجْرَانِهِ انْزِجَارُ أَحَدٍ وَلَا انْتِهَاءُ أَحَدٍ ؛ بَلْ بُطْلَانُ كَثِيرٍ مِنْ الْحَسَنَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا لَمْ تَكُنْ هِجْرَةً مَأْمُورًا بِهَا كَمَا ذَكَرَهُ أَحْمَد عَنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ إذْ ذَاكَ : أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَقْوَوْنَ بالْجَهْمِيَّة . فَإِذَا عَجَزُوا عَنْ إظْهَارِ الْعَدَاوَةِ لَهُمْ سَقَطَ الْأَمْرُ بِفِعْلِ هَذِهِ الْحَسَنَةِ وَكَانَ مُدَارَاتُهُمْ فِيهِ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَأْلِيفُ الْفَاجِرِ الْقَوِيِّ . وَكَذَلِكَ لَمَّا كَثُرَ الْقَدَرُ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَلَوْ تُرِكَ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ عَنْهُمْ لَا نَدْرُسُ الْعِلْمَ وَالسُّنَنَ وَالْآثَارَ الْمَحْفُوظَةَ فِيهِمْ . فَإِذَا تَعَذَّرَ إقَامَةُ الْوَاجِبَاتِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إلَّا بِمَنْ فِيهِ بِدْعَةٌ مَضَرَّتُهَا دُونَ مَضَرَّةِ تَرْكِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ : كَانَ تَحْصِيلُ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ مَعَ مَفْسَدَةٍ مَرْجُوحَةٍ مَعَهُ خَيْرًا مِنْ الْعَكْسِ . وَلِهَذَا كَانَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِيهِ تَفْصِيلٌ .

وَكَثِيرٌ مِنْ أَجْوِبَةِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ خَرَجَ عَلَى سُؤَالِ سَائِلٍ قَدْ عَلِمَ الْمَسْئُولَ حَالَهُ أَوْ خَرَجَ خِطَابًا لِمُعَيَّنِ قَدْ عَلِمَ حَالَهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَضَايَا الْأَعْيَانِ الصَّادِرَةِ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا فِي نَظِيرِهَا . فَإِنَّ أَقْوَامًا جَعَلُوا ذَلِكَ عَامًّا فَاسْتَعْمَلُوا مِنْ الْهَجْرِ وَالْإِنْكَارِ مَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ فَلَا يَجِبُ وَلَا يُسْتَحَبُّ وَرُبَّمَا تَرَكُوا بِهِ وَاجِبَاتٍ أَوْ مُسْتَحَبَّاتٍ وَفَعَلُوا بِهِ مُحَرَّمَاتٍ . وَآخَرُونَ أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَمْ يَهْجُرُوا مَا أُمِرُوا بِهَجْرِهِ مِنْ السَّيِّئَاتِ الْبِدْعِيَّةِ ؛ بَلْ تَرَكُوهَا تَرْكَ الْمُعْرِضِ ؛ لَا تَرْكَ الْمُنْتَهِي الْكَارِهِ أَوْ وَقَعُوا فِيهَا وَقَدْ يَتْرُكُونَهَا تَرْكَ الْمُنْتَهِي الْكَارِهِ وَلَا يَنْهَوْنَ عَنْهَا غَيْرَهُمْ وَلَا يُعَاقِبُونَ بِالْهِجْرَةِ وَنَحْوِهَا مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهَا فَيَكُونُونَ قَدْ ضَيَّعُوا مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مَا أُمِرُوا بِهِ إيجَابًا أَوْ اسْتِحْبَابًا فَهُمْ بَيْنَ فِعْلِ الْمُنْكَرِ أَوْ تَرْكِ النَّهْيِ عَنْهُ وَذَلِكَ فِعْلُ مَا نُهُوا عَنْهُ وَتَرْكُ مَا أُمِرُوا بِهِ . فَهَذَا هَذَا . وَدِينُ اللَّهِ وَسَطٌ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ مُسْلِمٍ بَدَرَتْ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ فِي حَالِ صِبَاهُ تُوجِبُ مُهَاجَرَتَهُ وَمُجَانَبَتَهُ . فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ : يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَصْفَحُ عَنْهُ وَيَتَجَاوَزُ عَنْ كُلِّ مَا كَانَ مِنْهُ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : لَا تَجُوزُ أُخُوَّتُهُ وَلَا مُصَاحَبَتُهُ . فَأَيُّ الطَّائِفَتَيْنِ أَحَقُّ بِالْحَقِّ ؟
فَأَجَابَ :
لَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ تَابَ إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } أَيْ لِمَنْ تَابَ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَتَابَ الرَّجُلُ فَإِنْ عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا سَنَةً مِنْ الزَّمَانِ وَلَمْ يَنْقُضْ التَّوْبَةَ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ وَيُجَالَسُ وَيُكَلَّمُ . وَأَمَّا إذَا تَابَ وَلَمْ تَمْضِ عَلَيْهِ سَنَةٌ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ . مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : فِي الْحَالِ يُجَالَسُ وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا بُدَّ مِنْ مُضِيِّ سَنَةٍ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِصَبِيغِ بْنِ عِسْلٍ . وَهَذِهِ مِنْ

مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ . فَمَنْ رَأَى أَنْ تُقْبَلَ تَوْبَةُ هَذَا التَّائِبِ وَيُجَالَسُ فِي الْحَالِ قَبْلَ اخْتِبَارِهِ : فَقَدْ أَخَذَ بِقَوْلِ سَائِغٍ . وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ يُؤَخَّرُ مُدَّةً حَتَّى يَعْمَلَ صَالِحًا وَيُظْهِرُ صِدْقَ تَوْبَتِهِ فَقَدْ أَخَذَ بِقَوْلِ سَائِغٍ . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ لَيْسَ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ :
نَهَى اللَّهُ عَنْ إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } وَكَذَلِكَ أَمَرَ بِسَتْرِ الْفَوَاحِشِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ الْكِتَابَ } . وَقَالَ : { كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إلَّا الْمُجَاهِرِينَ ؛ وَالْمُجَاهِرَةَ أَنْ يَبِيتَ الرَّجُلُ عَلَى الذَّنْبِ قَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَيُصْبِحُ يَتَحَدَّثُ بِهِ } فَمَا دَامَ الذَّنْبُ مَسْتُورًا فَمُصِيبَتُهُ عَلَى صَاحِبِهِ خَاصَّةً فَإِذَا أَظْهَرَ وَلَمْ يُنْكَرْ كَانَ ضَرَرُهُ عَامًّا فَكَيْفَ إذَا كَانَ فِي ظُهُورِهِ تَحْرِيكُ غَيْرِهِ إلَيْهِ وَلِهَذَا أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ أَشْكَالَ الشِّعْرِ الْغَزَلِيِّ الرَّقِيقِ ؛ لِئَلَّا تَتَحَرَّكُ النُّفُوسُ إلَى الْفَوَاحِشِ فَلِهَذَا أَمَرَ مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْعِشْقِ أَنْ يَعِفَّ وَيَكْتُمَ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
وَأَمَّا تَارِكُ الصَّلَاةِ وَنَحْوُهُ مِنْ الْمُظْهِرِينَ لِبِدْعَةِ أَوْ فُجُورٍ فَحُكْمُ الْمُسْلِمِ يَتَنَوَّعُ كَمَا تَنَوَّعَ الْحُكْمُ فِي حَقِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَقِّ مَكَّةَ وَفِي الْمَدِينَةِ . فَلَيْسَ حُكْمُ الْقَادِرِ عَلَى تَعْزِيرِهِمْ بِالْهِجْرَةِ حُكْمَ الْعَاجِزِ وَلَا هِجْرَةُ مَنْ لَا يَحْتَاجُ إلَى مُجَالَسَتِهِمْ كَهِجْرَةِ الْمُحْتَاجِ . وَالْأَصْلُ أَنَّ هِجْرَةَ الْفُجَّارِ نَوْعَانِ : هِجْرَةُ تَرْكٍ وَهِجْرَةُ تَعْزِيرٍ . أَمَّا الْأُولَى فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا } وَقَوْلُهُ : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ هِجْرَةُ الْمُسْلِمِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ . فَالْمَقْصُودُ بِهَذَا أَنْ يَهْجُرَ الْمُسْلِمُ السَّيِّئَاتِ وَيَهْجُرَ قُرَنَاءَ السُّوءِ الَّذِينَ تَضُرُّهُ صُحْبَتُهُمْ إلَّا لِحَاجَةِ أَوْ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ . وَأَمَّا " هَجْرُ التَّعْزِيرِ " فَمِثْلُ { هَجْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } وَهَجْرِ عُمَرَ وَالْمُسْلِمِينَ لِصَبِيغِ فَهَذَا مِنْ نَوْعِ الْعُقُوبَاتِ . فَإِذَا كَانَ يَحْصُلُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131