الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

لَا يَعْلَمُ خِلَافًا فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَإِلَّا فَسَنَذْكُرُ الْخِلَافَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ . وَقَدْ اعْتَذَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَمَّا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي كَفَّارَةِ الْعِتْقِ بِعُذْرَيْنِ " أَحَدُهُمَا " انْفِرَادُ سُلَيْمَانَ التيمي بِذَلِكَ . " وَالثَّانِي " مُعَارَضَتُهُ بِمَا رَوَاهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ مِنْ غَيْرِ تَكْفِيرٍ . وَمَا وَجَدْت أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَشَاهِيرِ بَلَغَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنْ الصَّحَابَةِ مَا بَلَغَ أَحْمَد قَالَ المروذي : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : إذَا قَالَ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ حُرٌّ . يَعْتِقُ عَلَيْهِ إذَا حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ لَيْسَ فِيهِمَا كَفَّارَةٌ وَقَالَ : وَلَيْسَ يَقُولُ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ فِي حَدِيثِ لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ أَنَّهَا سَأَلَتْ ابْنَ عُمَرَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ وَذَكَرَتْ الْعِتْقَ فَأَمَرُوهَا بِكَفَّارَةٍ إلَّا التيمي ؛ وَغَيْرَهُ لَمْ يَذْكُرُوا الْعِتْقَ قَالَ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ قِصَّةِ امْرَأَتِهِ وَأَنَّهَا سَأَلَتْ ابْنَ عُمَرَ وَحَفْصَةَ فَأَمَرُوهَا بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ قُلْت فِيهَا الْمَشْيُ ؟ قَالَ نَعَمْ أَذْهَبُ إلَى أَنَّ فِيهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَيْسَ يَقُولُ فِيهِ كُلُّ مَمْلُوكٍ إلَّا التيمي . قُلْت : فَإِذَا حَلَفَ بِعِتْقِ مَمْلُوكِهِ فَحَنِثَ ؟ قَالَ : يَعْتِقُ كَذَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا الْجَارِيَةُ تَعْتِقُ ؛ ثُمَّ قَالَ : مَا سَمِعْنَا إلَّا مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ . قُلْت : فإيش إسْنَادُهُ ؟ : قَالَ : مَعْمَرٌ عَنْ إسْمَاعِيلَ ؛ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ : إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ وَأَيُّوبُ بْنُ مُوسَى وَهُمَا مَكِّيَّانِ .

فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْحَلِفِ بِالنَّذْرِ بِأَنَّهُمَا لَا يُكَفِّرَانِ وَاتَّبَعَ مَا بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ عَارَضَ مَا رُوِيَ مِنْ الْكُفَّارِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ مَعَ انْفِرَادِ التيمي بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ . وَقَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَد قَالَ أَبِي : وَإِذَا قَالَ : جَارِيَتِي حُرَّةٌ إنْ لَمْ أَصْنَعْ كَذَا وَكَذَا ؟ قَالَ : قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ : يَعْتِقُ . وَإِذَا قَالَ : كُلُّ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ لَمْ يُدْخِلْ فِيهِ جَارِيَتَهُ فِيهِ كَفَّارَةٌ فَإِنَّ ذَا لَا يُشْبِهُهُ ذَا أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ لَا يُكَفَّرَانِ . وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُونَ : إذَا قَالَ الرَّجُلُ : مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَإِذَا قَالَ : مَالِي عَلَى فُلَانٍ صَدَقَةٌ . وَفَرَّقُوا بَيْنَ قَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَمَالِي صَدَقَةٌ أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ ؛ وَبَيْنَ قَوْلِهِ : فَامْرَأَتِي طَالِقٌ ؛ أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ : بِأَنَّهُ هُنَاكَ مُوجَبُ الْقَوْلِ وُجُوبُ الصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ لَا وُجُودُ الصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ فَإِذَا اقْتَضَى الشَّرْطُ وُجُوبَ ذَلِكَ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ بَدَلًا عَنْ هَذَا الْوَاجِبِ كَمَا يَكُونُ بَدَلًا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ كَمَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بَدَلًا عَنْ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ وَبَقِيَتْ بَدَلًا عَنْ الصَّوْمِ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهُ وَكَمَا يَكُونُ بَدَلًا عَنْ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ ؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَ إذَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ أَمْكَنَ أَنْ يُخَيَّرَ بَيْنَ أَدَائِهِ وَبَيْنَ أَدَاءِ غَيْرِهِ . وَأَمَّا الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ فَإِنَّ مُوجَبَ الْكَلَامِ وُجُودُهُمَا فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وُجِدَ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ وَإِذَا وَقَعَا لَمْ يَرْتَفِعَا بَعْدَ وُقُوعِهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَقْبَلَانِ الْفَسْخَ ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ ؛ فَإِنَّهُ

هُنَا لَمْ يُعَلِّقْ الْعِتْقَ ؛ وَإِنَّمَا عَلَّقَ وُجُوبَهُ بِالشَّرْطِ فَيُخَيَّرُ بَيْنَ فِعْلِ هَذَا الْإِعْتَاقِ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ الَّتِي هِيَ بَدَلٌ عَنْهُ ؛ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ : إذَا مُتّ فَعَبْدِي حُرٌّ . عَتَقَ بِمَوْتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى الْإِعْتَاقِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُ هَذَا التَّدْبِيرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ؛ إلَّا قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَد . وَفِي بَيْعِهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ . وَلَوْ وَصَّى بِعِتْقِهِ فَقَالَ : إذَا مُتّ فَاعْتِقُوهُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ كَسَائِرِ الْوَصَايَا وَكَانَ لَهُ بَيْعُهُ هُنَا وَإِنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ . وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ فِي تَارِيخِهِ : أَنْ الْمَهْدِيَّ لَمَّا رَأَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ رَأْيُ أَهْلِ بَيْتِهِ مِنْ الْعَهْدِ إلَى ابْنِهِ عَزَمَ عَلَى خَلْعِ عِيسَى وَدَعَاهُمْ إلَى الْبَيْعَةِ لِمُوسَى ؛ فَامْتَنَعَ عِيسَى مِنْ الْخَلْعِ وَزَعَمَ أَنَّ عَلَيْهِ أَيْمَانًا تُخْرِجُهُ مِنْ أَمْلَاكِهِ وَتُطَلِّقُ نِسَاءَهُ . فَأَحْضَرَ لَهُ الْمَهْدِيُّ ابْنَ عُلَاثَةَ وَمُسْلِمَ بْنَ خَالِدٍ وَجَمَاعَةً مِنْ الْفُقَهَاءِ فَأَفْتَوْهُ بِمَا يُخْرِجُهُ عَنْ يَمِينِهِ وَاعْتَاضَ عَمَّا يَلْزَمُهُ فِي يَمِينِهِ بِمَالِ كَثِيرٍ ذَكَرَهُ وَلَمْ يَزَلْ إلَى أَنْ خُلِعَ وَبُويِعَ لِلْمَهْدِيِّ وَلِمُوسَى الْهَادِي بَعْدَهُ . وَأَمَّا " أَبُو ثَوْرٍ " فَقَالَ فِي الْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ ؛ لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ الَّتِي أَفْتَاهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَحَفْصَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَزَيْنَبُ رَبِيبَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهَا : إنْ لَمْ أُفَرِّقْ بَيْنَك وَبَيْنَ امْرَأَتِك فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي مُحَرَّرٌ . وَهَذِهِ الْقِصَّةُ هِيَ مِمَّا اعْتَمَدَهَا الْفُقَهَاءُ الْمُسْتَدِلُّونَ فِي مَسْأَلَةِ " نَذْرِ

اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " لَكِنْ تَوَقَّفَ أَحْمَد وَأَبُو عُبَيْدٍ عَنْ الْعِتْقِ فِيهَا لِمَا ذَكَرْته مِنْ الْفَرْقِ . وَعَارَضَ أَحْمَد ذَلِكَ . وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَلَمْ يَبْلُغْ أَبَا ثَوْرٍ فِيهِ أَثَرٌ فَتَوَقَّفَ عَنْهُ مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَهُ مُسَاوَاتُهُ لِلْعِتْقِ ؛ لَكِنْ خَافَ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ . و " الصَّوَابُ " أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْجَمِيعِ - الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ - لِمَا سَنَذْكُرُهُ وَلَوْ لَمْ يُنْقَلْ فِي الطَّلَاقِ نَفْسِهِ خِلَافٌ مُعَيَّنٍ لَكَانَ فُتْيَا مَنْ أَفْتَى مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتَاقِ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ عَلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ نَذْرُ الْعِتْقِ الَّذِي هُوَ قُرْبَةٌ لَمَّا خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ أَجْزَأَتْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ : فَالْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ لَيْسَ بِقُرْبَةِ إمَّا أَنْ تُجْزِئَ فِيهِ الْكَفَّارَةُ أَوْ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ نَذْرُ غَيْرِ الطَّاعَةِ لَا شَيْءَ فِيهِ . وَيَكُونُ قَوْلُهُ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْت طَالِقٌ . بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَك كَمَا كَانَ عِنْدَ أُولَئِكَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ قَوْلُهُ : فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ . بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : فَعَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَهُمْ . عَلَى أَنِّي إلَى السَّاعَةِ لَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَلَامٌ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَدَثَ فِي زَمَانِهِمْ وَإِنَّمَا ابْتَدَعَهُ النَّاسُ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَاخْتَلَفَ فِيهِ التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ . " فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ " أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ . و " الْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْوُقُوعُ . ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جريج عَنْ ابْنِ طاوس عَنْ أَبِيهِ : أَنَّهُ

كَانَ يَقُولُ : الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ لَيْسَ شَيْئًا . قُلْت : أَكَانَ يَرَاهُ يَمِينًا ؟ قَالَ : لَا أَدْرِي . فَقَدْ أَخْبَرَ ابْنُ طاوس عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَاهُ مُوقِعًا لِلطَّلَاقِ وَتَوَقَّفَ فِي كَوْنِهِ يَمِينًا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ نَذْرِ مَا لَا قُرْبَةَ فِيهِ . وَفِي كَوْنِ مِثْلِ هَذَا يَمِينًا خِلَافٌ مَشْهُورٌ وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ : كدَاوُد وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ ؛ لَكِنْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ وَلَا عِتْقٌ مُعَلَّقٌ . وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُؤَجَّلِ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْعُقُودَ لَا يَصِحُّ مِنْهَا إلَّا مَا دَلَّ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ عَلَى وُجُوبِهِ أَوْ جَوَازِهِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى " ثَلَاثِ مُقَدِّمَاتٍ " يُخَالِفُونَ فِيهَا . " أَحَدُهَا " كَوْنُ الْأَصْلِ تَحْرِيمَ الْعُقُودِ . " الثَّانِي " أَنَّهُ لَا يُبَاحُ مَا كَانَ فِي مَعْنَى النُّصُوصِ . " الثَّالِثُ " أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُؤَجَّلَ وَالْمُعَلَّقَ لَمْ يَنْدَرِجْ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ . وَأَمَّا الْمَأْخَذُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ كَوْنِ هَذَا كَنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ فَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ الَّذِينَ جَوَّزُوا التَّكْفِيرَ فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ وَفَرَّقُوا بَيْنَ نَذْرِ التَّبَرُّرِ وَنَذْرِ الْغَضَبِ فَإِنَّ هَذَا الْفَرْقَ يُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُعَلَّقِ الَّذِي يُقْصَدُ وُقُوعُهُ عِنْدَ الشَّرْطِ وَبَيْنَ الْمُعَلَّقِ الْمَحْلُوفِ بِهِ الَّذِي يُقْصَدُ عَدَمُ وُقُوعِهِ ؛ إلَّا أَنْ يَصِحَّ الْفَرْقُ الْمَذْكُورُ بَيْنَ كَوْنِ الْمُعَلَّقِ هُوَ الْوُجُودَ أَوْ الْوُجُوبَ . وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُخَرَّجُ عَلَى أُصُولِ أَحْمَد مِنْ مَوَاضِعَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا وَكَذَلِكَ هُوَ أَيْضًا لَازِمٌ لِمَنْ قَالَ فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ بِكَفَّارَةِ

كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الَّتِي اخْتَارَهَا أَكْثَرُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ الَّتِي اخْتَارَهَا كَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ ؛ فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ وَالْحَلِفِ بِالْعِتْقِ هُوَ الْمُتَوَجِّهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ هَذَا مِنْ أَقْوَى حُجَجِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ فِي الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ ؛ فَإِنَّهُمْ قَاسُوهُ عَلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَاعْتَقَدَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ . وَأَيْضًا فَإِذَا حَلَفَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ كَقَوْلِهِ عَبِيدِي أَحْرَارٌ لَأَفْعَلَنَّ أَوْ نِسَائِي طَوَالِقُ لَأَفْعَلَنَّ : فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : مَالِي صَدَقَةٌ لَأَفْعَلَنَّ وَعَلَيَّ الْحَجُّ لَأَفْعَلَنَّ . وَاَلَّذِي يُوضِحُ التَّسْوِيَةَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا اعْتَمَدَ فِي الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى فِدْيَةِ الْخُلْعِ قَالَهُ فِي البويطي وَهُوَ " كِتَابٌ مِصْرِيٌّ " مِنْ أَجْوَدِ كَلَامِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يُسَمُّونَ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِسَبَبِ طَلَاقًا بِصِفَةِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ الشَّرْطَ صِفَةً . وَيَقُولُونَ : إذَا وُجِدَتْ الصِّفَةُ فِي زَمَانِ الْبَيْنُونَةِ وَإِذَا لَمْ تُوجَدْ الصِّفَةُ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ لَهَا وَجْهَانِ . " أَحَدُهُمَا " أَنَّ هَذَا الطَّلَاقَ مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ ؛ لَيْسَ طَلَاقًا مُجَرَّدًا عَنْ صِفَةٍ ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ أَوْ إذَا طَهُرْت . فَقَدْ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِالزَّمَانِ الْخَاصِّ ؛ فَإِنَّ الظَّرْفَ صِفَةٌ لِلْمَظْرُوفِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : إنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْت طَالِقٌ . فَقَدْ وَصَفَهُ بِعِوَضِهِ .

و " الثَّانِي " أَنَّ نُحَاةَ الْكُوفَةِ يُسَمُّونَ حُرُوفَ الْجَرِّ وَنَحْوَهَا حُرُوفَ الصِّفَاتِ . فَلَمَّا كَانَ هَذَا مُعَلَّقًا بِالْحُرُوفِ الَّتِي قَدْ تُسَمَّى " حُرُوفَ الصِّفَاتِ " سُمِّيَ طَلَاقًا بِصِفَةِ كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفِ . و " الْوَجْهُ الْأَوَّلُ " هُوَ الْأَصْلُ ؛ فَإِنَّ هَذَا يَعُودُ إلَيْهِ ؛ إذْ النُّحَاةُ إنَّمَا سَمَّوْا حُرُوفَ الْجَرِّ حُرُوفَ الصِّفَاتِ لِأَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ يَصِيرُ فِي الْمَعْنَى صِفَةً لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ فَإِذَا كَانَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ إنَّمَا اعْتَمَدُوا فِي الطَّلَاقِ الْمَوْصُوفِ عَلَى طَلَاقِ الْفِدْيَةِ وَقَاسُوا كُلَّ طَلَاقٍ بِصِفَةِ عَلَيْهِ صَارَ هَذَا . . . (1)
كَمَا أَنَّ النَّذْرَ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطِ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى . { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّذْرَ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطِ هُوَ نَذْرٌ بِصِفَةِ ؛ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ النَّذْرِ الْمَقْصُودِ شَرْطُهُ وَبَيْنَ النَّذْرِ الْمَقْصُودِ عَدَمُ شَرْطِهِ الَّذِي خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ فَلِذَلِكَ يُفَرَّقُ بَيْنَ الطَّلَاقِ الْمَقْصُودِ وَصْفُهُ كَالْخُلْعِ حَيْثُ الْمَقْصُودُ فِيهِ الْعِوَضُ وَالطَّلَاقِ الْمَحْلُوفِ بِهِ الَّذِي يُقْصَدُ عَدَمُهُ وَعَدَمُ شَرْطِهِ ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُقَاسُ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا أَشْبَهَهُ وَمَعْلُومٌ ثُبُوتُ الْفَرْقِ بَيْنَ الصِّفَةِ الْمَقْصُودَةِ وَبَيْنَ الصِّفَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا الَّتِي يُقْصَدُ عَدَمُهَا كَمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي النَّذْرِ سَوَاءٌ . وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ : الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْأَثَرُ وَالِاعْتِبَارُ .

أَمَّا " الْكِتَابُ " فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } فَوَجْهُ الدِّلَالَةِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وَهَذَا نَصٌّ عَامٌّ فِي كُلِّ يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ لَهَا تَحِلَّةً وَذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ لِلْأُمَّةِ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْخِطَابِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ الْأُمَّةَ يَحْلِفُونَ بِأَيْمَانِ شَتَّى فَلَوْ فُرِضَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ لَيْسَ لَهَا تَحِلَّةٌ لَكَانَ مُخَالِفًا لِلْآيَةِ كَيْفَ وَهَذَا عَامٌّ لَمْ تُخَصَّ مِنْهُ صُورَةٌ وَاحِدَةٌ لَا بِنَصِّ وَلَا بِإِجْمَاعِ بَلْ هُوَ عَامٌّ عُمُومًا مَعْنَوِيًّا مَعَ عُمُومِهِ اللَّفْظِيِّ ؛ فَإِنَّ الْيَمِينَ مَعْقُودَةٌ تُوجِبُ مَنْعَ الْمُكَلَّفِ مِنْ الْفِعْلِ فَشَرْعُ التَّحِلَّةِ لِهَذِهِ الْعُقْدَةِ مُنَاسِبٌ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّخْفِيفِ وَالتَّوْسِعَةِ . وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْيَمِينِ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي غَيْرِهِمَا مِنْ أَيْمَانِ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ .
فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَيَقْتُلَنَّ النَّفْسَ أَوْ لَيَقْطَعَنَّ رَحِمَهُ أَوْ لَيَمْنَعَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ مِنْ أَدَاءِ أَمَانَةٍ وَنَحْوِهَا : فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الطَّلَاقَ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ أَنْ يَبَرَّ وَيَتَّقِيَ وَيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِمَّا يَجْعَلُ اللَّهُ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ ؛ ثُمَّ إنْ وَفَّى بِيَمِينِهِ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ ضَرَرِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ مَا قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الدُّخُولِ فِيهِ وَإِنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَفِي الطَّلَاقِ أَيْضًا مِنْ ضَرَرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا لَا خَفَاءَ فِيهِ . أَمَّا الدِّينُ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ مَعَ اسْتِقَامَةِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ :

إمَّا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ أَوْ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ فَكَيْفَ إذَا كَانَا فِي غَايَةِ الِاتِّصَالِ وَبَيْنَهُمَا مِنْ الْأَوْلَادِ وَالْعِشْرَةِ مَا يَكُونُ فِي طَلَاقِهِمَا مِنْ ضَرَرِ الدِّينِ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَكَذَلِكَ ضَرَرُ الدُّنْيَا كَمَا يَشْهَدُ بِهِ الْوَاقِعُ ؛ بِحَيْثُ لَوْ خُيِّرَ أَحَدُهُمَا بَيْنَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِهِ وَوَطَنِهِ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ لَاخْتَارَ فِرَاقَ مَالِهِ وَوَطَنِهِ عَلَى الطَّلَاقِ وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ فِرَاقَ الْوَطَنِ بِقَتْلِ النَّفْسِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ مُتَابَعَةً لِعَطَاءِ : إنَّهَا إذَا أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ فَحَلَفَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا بِالطَّلَاقِ أَنَّهَا لَا تَحُجُّ صَارَتْ مُحْصِرَةً وَجَازِ لَهَا التَّحَلُّلُ ؛ لِمَا عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ الزَّائِدِ عَلَى ضَرَرِ الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ أَوْ الْقَرِيبِ مِنْهُ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَك أَوْ أُعْتِقَ عَبِيدِي ؛ فَإِنَّ هَذَا فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأُطَلِّقَنَّك أَوْ لَأَعْتِقَنَّ عَبِيدِي ؛ وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَ وُجُودِ الْعِتْقِ وَوُجُوبِهِ هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْمُفَرِّقُونَ . وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَا مِنْ تَحْرِيمٍ لِمَا أَحَلَّ اللَّهُ إلَّا وَاَللَّهُ غَفُورٌ لِفَاعِلِهِ رَحِيمٌ بِهِ وَأَنَّهُ لَا عِلَّةَ تَقْتَضِي ثُبُوتَ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ لِأَنَّ قَوْلَهُ ( لِمَ ) لِأَيِّ شَيْءٍ . اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ وَالْإِنْكَارِ وَالتَّقْدِيرُ لَا سَبَبَ لِتَحْرِيمِك مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَلَوْ كَانَ الْحَالِف بِالنَّذْرِ وَالْعِتَاقِ وَالطَّلَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا لَا رُخْصَةَ لَهُ لَكَانَ هُنَا سَبَبٌ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْحَلَالِ وَلَا يَبْقَى مُوجِبُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى هَذَا الْفَاعِلِ .

وَأَيْضًا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } وَالْحُجَّةُ مِنْهَا كَالْحُجَّةِ مِنْ الْأُولَى وَأَقْوَى ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : { لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } وَهَذَا عَامٌّ لِتَحْرِيمِهَا بِالْأَيْمَانِ مِنْ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهَا ؛ ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ الْمَخْرَجِ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ } أَيْ فَكَفَّارَةُ تَعْقِيدِكُمْ أَوْ عَقْدِكُمْ الْأَيْمَانَ وَهَذَا عَامٌّ ؛ ثُمَّ قَالَ : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } وَهَذَا عَامٌّ كَعُمُومِ قَوْلِهِ : { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } . وَمِمَّا يُوضِحُ " عُمُومَهُ " أَنَّهُمْ قَدْ أَدْخَلُوا الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ فَقَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ } فَأَدْخَلُوا فِيهِ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَالنَّذْرِ وَالْحَلِفَ بِاَللَّهِ . وَإِنَّمَا لَمْ يُدْخِلْ مَالِكٌ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا تَنْجِيزَ الطَّلَاقِ مُوَافَقَةً لِابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ لَيْسَ بِحَلِفِ ؛ وَإِنَّمَا الْحَلِفُ الْمُنْعَقِدُ مَا تَضَمَّنَ مَحْلُوفًا بِهِ وَمَحْلُوفًا عَلَيْهِ : إمَّا بِصِيغَةِ الْقَسَمِ وَإِمَّا بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ ؛ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَهَذِهِ الدِّلَالَةُ تَنْبِيهٌ عَلَى أُصُولِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ " نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا عَلَى التَّكْفِيرِ فِيهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَجَعَلُوا قَوْلَهُ : { تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } { كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } عَامًّا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَالْيَمِينِ بِالنَّذْرِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ شُمُولَ اللَّفْظِ لِنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ فِي الْحَجِّ وَالْعِتْقِ وَنَحْوِهِمَا سَوَاءٌ .

فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ فَقَطْ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ مُطْلَقِ الْيَمِينِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ { عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ } { تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } مُنْصَرِفًا إلَى الْيَمِينِ الْمَعْهُودَةِ عِنْدَهُمْ وَهِيَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَعُمُّ اللَّفْظُ إلَّا الْمَعْرُوفَ عِنْدَهُمْ . وَالْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ وَلَوْ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا فَقَدْ عَلَّمَنَا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْيَمِينُ الَّتِي لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً كَالْيَمِينِ بِالْمَخْلُوقَاتِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْيَمِينِ الْمَشْرُوعَةِ ؛ لِقَوْلِهِ : { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ فَلْيَصْمُتْ } وَهَذَا سُؤَالُ مَنْ يَقُولُ كُلُّ يَمِينٍ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ فَلَا كَفَّارَةَ لَهَا وَلَا حِنْثَ . فَيُقَالُ : لَفْظُ " الْيَمِينِ " شَمِلَ هَذَا كُلَّهُ بِدَلِيلِ اسْتِعْمَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ اسْمَ الْيَمِينِ فِي هَذَا كُلِّهِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " النَّذْرُ حَلِفٌ " وَقَوْلِ الصَّحَابَةِ لِمَنْ حَلَفَ بِالْهَدْيِ وَالْعِتْقِ : كَفِّرْ يَمِينَك . وَكَذَلِكَ فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ . وَلِإِدْخَالِ الْعُلَمَاءِ لِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ } وَيَدُلُّ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ثُمَّ قَالَ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فَاقْتَضَى هَذَا أَنَّ نَفْسَ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ يَمِينٌ كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ . وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ : إمَّا تَحْرِيمُهُ الْعَسَلَ وَإِمَّا تَحْرِيمُهُ مَارِيَةَ

الْقِبْطِيَّةَ . وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَتَحْرِيمُ الْحَلَالِ يَمِينٌ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ ؛ وَلَيْسَ يَمِينًا بِاَللَّهِ ؛ وَلِهَذَا أَفْتَى جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ - كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ - أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ : إمَّا " كَفَّارَةً كُبْرَى " كَالظِّهَارِ وَإِمَّا " كَفَّارَةً صُغْرَى " كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ . وَمَا زَالَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ الظِّهَارَ وَنَحْوَهُ يَمِينًا . " وَأَيْضًا " فَإِنَّ قَوْلَهُ : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ : لِمَ تُحَرِّمُ بِلَفْظِ الْحَرَامِ ؟ وَإِمَّا : لِمَ تُحَرِّمُهُ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَنَحْوِهَا ؟ وَإِمَّا : لِمَ تُحَرِّمُهُ مُطْلَقًا ؟ فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ تَحْرِيمَهُ بِغَيْرِ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ يَمِينٌ فَيَعُمُّ . وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ تَحْرِيمُهُ بِالْحَلِفِ بِاَللَّهِ فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْحَلِفَ بِاَللَّهِ تَحْرِيمًا لِلْحَلَالِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ لَمْ تُوجِبْ الْحُرْمَةَ الشَّرْعِيَّةَ ؛ لَكِنْ لَمَّا أَوْجَبَتْ امْتِنَاعَ الْحَالِفِ مِنْ الْفِعْلِ فَقَدْ حَرَّمَتْ عَلَيْهِ الْفِعْلَ تَحْرِيمًا شَرْطِيًّا لَا شَرْعِيًّا فَكُلُّ يَمِينٍ تُوجِبُ امْتِنَاعَهُ مِنْ الْفِعْلِ فَقَدْ حَرَّمَتْ عَلَيْهِ الْفِعْلَ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُهُ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } لَا بُدَّ أَنْ يَعُمَّ كُلَّ يَمِينٍ حَرَّمَتْ الْحَلَالَ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُطَابِقَ صُوَرَهُ ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ هُوَ سَبَبُ قَوْلِهِ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وَسَبَبُ الْجَوَابِ إذَا كَانَ عَامًّا كَانَ الْجَوَابُ عَامًّا لِئَلَّا يَكُونَ جَوَابًا عَنْ الْبَعْضِ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْمِيمِ وَهَذَا التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } .

وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمَتْ الْعُمُومَ وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ عَامَّتُهُمْ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَغَيْرِهَا . وَأَيْضًا فَنَقُولُ : عَلَى الرَّأْسِ . سَلَّمْنَا أَنَّ الْيَمِينَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ الْمُرَادُ بِهَا الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ مَا سِوَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا يَلْزَمُ بِهَا حُكْمٌ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَلِفَ بِصِفَاتِهِ كَالْحَلِفِ بِهِ كَمَا لَوْ قَالَ : وَعِزَّةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لَعَمْرُ اللَّهِ أَوْ : وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ جَوَازُ الْحَلِفِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَنَحْوِهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْحَلِفَ بِصِفَاتِهِ كَالِاسْتِعَاذَةِ بِهَا - وَإِنْ كَانَتْ الِاسْتِعَاذَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِاَللَّهِ فِي مِثْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعُوذُ بِوَجْهِك } { وَأَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ } { وَأَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك } وَنَحْوِ ذَلِكَ - وَهَذَا أَمْرٌ مُتَقَرِّرٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْحَلِفُ بِالنَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِمَا هُوَ حَلِفٌ بِصِفَاتِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ . فَقَدْ حَلَفَ بِإِيجَابِ الْحَجِّ عَلَيْهِ وَإِيجَابُ الْحَجِّ عَلَيْهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مِنْ صِفَاتِهِ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : فَعَلَيَّ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ . وَإِذَا قَالَ : فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ . فَقَدْ حَلَفَ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ الَّذِي هُوَ تَحْرِيمُهُ عَلَيْهِ وَالتَّحْرِيمُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ كَمَا أَنَّ الْإِيجَابَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِهِ فِي قَوْلِهِ : { وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } فَجَعَلَ صُدُورَهُ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ مِنْ آيَاتِهِ ؛ لَكِنَّهُ إذَا حَلَفَ بِالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ فَقَدْ عَقَدَ الْيَمِينَ لِلَّهِ كَمَا يَعْقِدُ النَّذْرَ لِلَّهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ : عَلَيَّ الْحَجُّ وَالصَّوْمُ . عَقْدٌ

لِلَّهِ ؛ وَلَكِنْ إذَا كَانَ حَالِفًا فَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ الْعَقْدَ لِلَّهِ بَلْ قَصَدَ الْحَلِفَ بِهِ فَإِذَا حَنِثَ وَلَمْ يُوَفِّ بِهِ فَقَدْ تَرَكَ مَا عَقَدَ لِلَّهِ كَمَا أَنَّهُ إذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ فَقَدْ تَرَكَ مَا عَقَدَهُ لِلَّهِ . " يُوَضِّحُ ذَلِكَ " أَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ أَوْ بِغَيْرِ اللَّهِ مِمَّا يُعَظِّمُهُ بِالْحَلِفِ فَإِنَّمَا حَلَفَ بِهِ لِيَعْقِدَ بِهِ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَيَرْبِطَهُ بِهِ لِأَنَّهُ يُعَظِّمُهُ فِي قَلْبِهِ إذَا رَبَطَ بِهِ شَيْئًا لَمْ يَحِلَّهُ ؛ فَإِذَا حَلَّ مَا رَبَطَهُ بِهِ فَقَدْ انْتَقَصَتْ عَظَمَتُهُ مِنْ قَلْبِهِ وَقَطَعَ السَّبَبَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ . وَكَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ : الْيَمِينُ الْعَقْدُ عَلَى نَفْسِهِ لِحَقِّ مَنْ لَهُ حَقٌّ وَلِهَذَا . إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ غَمُوسًا كَانَتْ مِنْ الْكَبَائِرِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَذَكَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَدِّ الْكَبَائِرِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا تَعَمَّدَ أَنْ يَعْقِدَ بِاَللَّهِ مَا لَيْسَ مُنْعَقِدًا بِهِ فَقَدْ نَقَصَ الصِّلَةَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ اللَّهِ بِمَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ أَوْ تَبَرَّأَ مِنْ اللَّهِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّهُ عَقَدَ بِاَللَّهِ فِعْلًا قَاصِدًا لِعَقْدِهِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ ؛ لَكِنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَهُ حَلَّ هَذَا الْعَقْدِ الَّذِي عَقَدَهُ ؛ كَمَا يُبِيحُ لَهُ تَرْكَ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ لِحَاجَةِ أَوْ يُزِيلُ عَنْهُ وُجُوبَهَا . وَلِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إذَا قَالَ : هُوَ يَهُودِيٌّ . أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ . فَهِيَ يَمِينٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ ؛ لِأَنَّهُ رَبَطَ عَدَمَ

الْفِعْلِ بِكُفْرِهِ الَّذِي هُوَ بَرَاءَتُهُ مِنْ اللَّهِ فَيَكُونُ قَدْ رَبَطَ الْفِعْلَ بِإِيمَانِهِ بِاَللَّهِ وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ . فَرَبْطُ الْفِعْلِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ مِنْ الْإِيجَابِ أَوْ التَّحْرِيمِ أَدْنَى حَالًا مِنْ رَبْطِهِ بِاَللَّهِ . " يُوَضِّحُ ذَلِكَ " أَنَّهُ إذَا عَقَدَ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ فَهُوَ عَقْدٌ لَهَا بِإِيمَانِهِ بِاَللَّهِ وَهُوَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ جَلَالِ اللَّهِ وَإِكْرَامِهِ الَّذِي هُوَ جَدّ اللَّهِ وَمَثَلُهُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا أَنَّهُ إذَا سَبَّحَ اللَّهَ وَذَكَرَهُ فَهُوَ مُسَبِّحٌ لِلَّهِ وَذَاكِرٌ لَهُ بِقَدْرِ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ ؛ وَلِذَلِكَ جَاءَ التَّسْبِيحُ تَارَةً لِاسْمِ اللَّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } مَعَ قَوْلِهِ : { اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا } فَحَيْثُ عَظَّمَ الْعَبْدُ رَبَّهُ بِتَسْبِيحِ اسْمِهِ أَوْ الْحَلِفِ بِهِ أَوْ الِاسْتِعَاذَةِ بِهِ فَهُوَ مُسَبِّحٌ لَهُ بِتَوَسُّطِ الْمَثَلِ الْأَعْلَى الَّذِي فِي قَلْبِهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ عِلْمًا وَفَضْلًا وَإِجْلَالًا وَإِكْرَامًا وَحُكْمُ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ إنَّمَا يَعُودُ إلَى مَا كَسَبَهُ قَلْبُهُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } وَكَمَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ } . فَلَوْ اعْتَبَرَ الشَّارِعُ مَا فِي لَفْظِ الْقَسَمِ مِنْ انْعِقَادِهِ بِالْأَيْمَانِ وَارْتِبَاطِهِ بِهِ دُونَ قَصْدِ الْحَلِفِ لَكَانَ مُوجَبُهُ أَنَّهُ إذَا حَنِثَ بِغَيْرِ أَيْمَانِهِ تَزُولُ حَقِيقَتُهُ كَمَا قَالَ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وَكَمَا أَنَّهُ إذَا حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ يَمِينًا

فَاجِرَةً كَانَتْ مِنْ الْكَبَائِرِ وَإِذَا اشْتَرَى بِهَا مَالًا مَعْصُومًا فَلَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِ وَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ؛ لَكِنَّ الشَّارِعَ عَلِمَ أَنَّ الْحَالِفَ بِهَا لَيَفْعَلَنَّ أَوْ لَا يَفْعَلُ لَيْسَ غَرَضُهُ الِاسْتِخْفَافَ بِحُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ وَالتَّعَلُّقَ بِهِ لِغَرَضِ الْحَالِفِ بِالْيَمِينِ الْغَمُوسِ فَشَرَعَ لَهُ الْكَفَّارَةَ وَحَلَّ هَذَا الْعَقْدَ وَأَسْقَطَهَا عَنْ لَغْوِ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْقِدْ قَلْبُهُ شَيْئًا مِنْ الْجِنَايَةِ عَلَى إيمَانِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْكَفَّارَةِ . وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ مُوجَبَ لَفْظِ الْيَمِينِ انْعِقَادُ الْفِعْلِ بِهَذَا الْيَمِينِ الَّذِي هُوَ إيمَانُهُ بِاَللَّهِ فَإِذَا عَدِمَ الْفِعْلَ كَانَ مُقْتَضَى لَفْظِهِ عَدَمُ إيمَانِهِ . هَذَا لَوْلَا مَا شَرَعَ اللَّهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ كَمَا أَنَّ مُقْتَضَى قَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا أَوْجَبَ عَلَيَّ كَذَا . أَنَّهُ عِنْدَ الْفِعْلِ يَجِبُ ذَلِكَ الْفِعْلُ لَوْلَا مَا شَرَعَ اللَّهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ . " يُوَضِّحُ ذَلِكَ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَمَا قَالَ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَجُعِلَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ فِي قَوْلِهِ : هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا كَالْغَمُوسِ فِي قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ مَا فَعَلْت كَذَا ؛ إذْ هُوَ فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ قَدْ قَطَعَ عَهْدَهُ مِنْ اللَّهِ حَيْثُ عَلَّقَ الْإِيمَانَ بِأَمْرِ مَعْدُومٍ وَالْكُفْرَ بِأَمْرِ مَوْجُودٍ بِخِلَافِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ . وَطَرْدُ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ إذَا كَانَتْ فِي النَّذْرِ أَوْ الطَّلَاقِ أَوْ الْعِتَاقِ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ بِهِ وَلَمْ تَرْفَعْهُ الْكَفَّارَةُ كَمَا يَقَعُ الْكُفْرُ بِذَلِكَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : الْمُرَادُ بِهِ الْيَمِينُ الْمَشْرُوعَةُ .

و " أَيْضًا " قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فَإِنَّ السَّلَفَ مُجْمِعُونَ أَوْ كَالْمُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّكُمْ لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ مَانِعًا لَكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ بِهِ مِنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ ؛ بِأَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَعْرُوفًا مُسْتَحَبًّا أَوْ وَاجِبًا أَوْ لَيَفْعَلَنَّ مَكْرُوهًا أَوْ حَرَامًا وَنَحْوَهُ فَإِذَا قِيلَ لَهُ : افْعَلْ ذَلِكَ أَوْ لَا تَفْعَلْ هَذَا . قَالَ : قَدْ حَلَفْت بِاَللَّهِ : فَيَجْعَلُ اللَّهَ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ . فَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَى عِبَادَهُ أَنْ يَجْعَلُوا نَفْسَهُ مَانِعًا لَهُمْ فِي الْحِلْفِ مِنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى . وَالْحَلِفُ بِهَذِهِ الْأَيْمَانِ إنْ كَانَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ الْحَلِفِ بِهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَانِعًا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى فَإِنَّهُ إذَا نَهَى أَنْ يَكُونَ هُوَ سُبْحَانَهُ عُرْضَةً لِأَيْمَانِنَا أَنْ نَبَرَّ وَنَتَّقِيَ فَغَيْرُهُ أَوْلَى أَنْ نَكُونَ مَنْهِيِّينَ عَنْ جَعْلِهِ عُرْضَةً لِأَيْمَانِنَا وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّنَا مَنْهِيُّونَ عَنْ أَنْ نَجْعَلَ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ عُرْضَةً لِأَيْمَانِنَا أَنْ نَبَرَّ وَنَتَّقِيَ وَنُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ لِمَا فِي الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَأْمُرُ بِهِ فَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِالنَّذْرِ أَوْ بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالْعَتَاقِ أَنْ لَا يَبَرَّ وَلَا يَتَّقِيَ وَلَا يُصْلِحَ فَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إنْ وَفَّى بِذَلِكَ فَقَدْ جَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ أَنْ يَبَرَّ وَيَتَّقِيَ وَيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ وَإِنْ حَنِثَ فِيهَا وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُ الْمَنْذُورِ ؛ فَقَدْ يَكُونُ خُرُوجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَبْعَدَ عَنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِنْ الْأَمْرِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى يَمِينِهِ تَرَكَ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ تَرَكَ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى فَصَارَتْ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ أَنْ يَبَرَّ وَيَتَّقِيَ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ .

وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ : فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَأَنْ يَلِجَ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ } وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اسْتَلَجَ فِي أَهْلِهِ بِيَمِينِ فَهُوَ أَعْظَمُ إثْمًا } فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّجَاجَ بِالْيَمِينِ فِي أَهْلِ الْحَالِفِ أَعْظَمُ مِنْ التَّكْفِيرِ . " وَاللَّجَاجُ " التَّمَادِي فِي الْخُصُومَةِ ؛ وَمِنْهُ قِيلُ رَجُلٍ لَجُوجٍ إذَا تَمَادَى فِي الْخُصُومَةِ وَلِهَذَا تُسَمِّي الْعُلَمَاءُ هَذَا " نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " فَإِنَّهُ يَلِجُّ حَتَّى يَعْقِدَهُ ثُمَّ يَلِجُّ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ الْحِنْثِ . فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّجَاجَ بِالْيَمِينِ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ الْكَفَّارَةِ وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَيْمَانِ . وَأَيْضًا { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ : إذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ { فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلْ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وَفِي رِوَايَةٍ { فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ . وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } وَهَذَا نَكِرَةٌ

فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَيَعُمُّ كُلَّ حَلِفٍ عَلَى يَمِينٍ كَائِنًا مَا كَانَ الْحَلِفُ ؛ فَإِذَا رَأَى غَيْرَ الْيَمِينِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا خَيْرًا مِنْهَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا تَرْكًا لِخَيْرِ فَيَرَى فِعْلَهُ خَيْرًا مِنْ تَرْكِهِ أَوْ يَكُونَ فِعْلًا لِشَرِّ فَيَرَى تَرْكَهُ خَيْرًا مِنْ فِعْلِهِ فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ . وَقَوْلُهُ هُنَا " عَلَى يَمِينٍ " هُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ سُمِّيَ الْأَمْرُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَمِينًا كَمَا يُسَمَّى الْمَخْلُوقُ خَلْقًا وَالْمَضْرُوبُ ضَرْبًا وَالْمَبِيعُ بَيْعًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي قِصَّتِهِ وَقِصَّةِ أَصْحَابِهِ ؛ لَمَّا جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَحْمِلُوهُ فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا أَحْمِلُكُمْ وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : إنِّي وَاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتهَا } وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ { إلَّا كَفَّرْت عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ عَلَى الْيَمِينِ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْهَا وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ أَيْضًا { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْهَا وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ

هَذِهِ الْوُجُوهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الجشمي . فَهَذِهِ نُصُوصُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَوَاتِرَةُ أَنَّهُ أَمَرَ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ وَيَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ أَوْ النَّذْرِ وَنَحْوِهِ . وَرَوَى النَّسَائِي عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا عَلَى الْأَرْضِ يَمِينٌ أَحْلِفُ عَلَيْهَا فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْته } وَهَذَا صَرِيحٌ بِأَنَّهُ قَصَدَ تَعْمِيمَ كُلِّ يَمِينٍ فِي الْأَرْضِ وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ فَهِمُوا مِنْهُ دُخُولَ الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ فِي هَذَا الْكَلَامِ فَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زريع حَدَّثَنَا خبيب الْمُعَلِّمُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : أَنَّ أَخَوَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ فَسَأَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ الْقِسْمَةَ فَقَالَ إنْ عُدْت تَسْأَلُنِي الْقِسْمَةَ فَكُلُّ مَالِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : إنَّ الْكَعْبَةَ غَنِيَّةٌ عَنْ مَالِك كَفِّرْ عَنْ يَمِينِك وَكَلِّمْ أَخَاك سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا يَمِينَ عَلَيْك وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ وَلَا فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَفِيمَا لَا يُمْلَكُ } فَهَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمَرَ هَذَا الَّذِي حَلَفَ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَنَذَرَ نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ بِأَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ وَأَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ الْمَنْذُورَ وَاحْتَجَّ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَمِينَ عَلَيْك وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ وَلَا فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَفِيمَا لَا يُمْلَكُ } فَفُهِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِيَمِينِ أَوْ نَذْرٍ عَلَى مَعْصِيَةٍ أَوْ قَطِيعَةٍ فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ النَّذْرِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ؛ كَمَا أَفْتَاهُ عُمَرُ . وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا النَّذْرَ

كَانَ عِنْدَهُ يَمِينًا لَمْ يَقُلْ لَهُ كَفِّرْ عَنْ يَمِينِك . وَإِنَّمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَمِينَ وَلَا نَذْرَ } لِأَنَّ الْيَمِينَ مَا قُصِدَ بِهَا الْحَضُّ أَوْ الْمَنْعُ وَالنَّذْرَ مَا قُصِدَ بِهِ التَّقَرُّبُ وَكِلَاهُمَا لَا يُوَفَّى بِهِ فِي الْمَعْصِيَةِ وَالْقَطِيعَةِ . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دِلَالَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَمِينَ وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ وَلَا فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ } يَعُمُّ جَمِيعَ مَا يُسَمَّى يَمِينًا أَوْ نَذْرًا سَوَاءٌ كَانَتْ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ أَوْ كَانَتْ بِوُجُوبِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبِ مِنْ الصَّدَقَةِ أَوْ الصِّيَامِ أَوْ الْحَجِّ أَوْ الْهَدْيِ أَوْ كَانَتْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ كَالظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ . وَمَقْصُودُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَّا أَنْ يَكُونَ نَهْيَهُ عَنْ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ وَالْقَطِيعَةِ فَقَطْ أَوْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ مَا فِي الْيَمِينِ وَالنَّذْرِ مِنْ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ ؛ لِاسْتِدْلَالِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْلَا أَنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى هَذَا لَمْ يَصِحَّ اسْتِدْلَالُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَا أَجَابَ بِهِ السَّائِلَ مِنْ الْكَفَّارَةِ دُونَ إخْرَاجِ الْمَالِ فِي كُسْوَةِ الْكَعْبَةِ ؛ وَلِأَنَّ لَفْظَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُمُّ ذَلِكَ كُلَّهُ . وَأَيْضًا فَمِمَّا يُبَيِّنُ دُخُولَ الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ فِي الْيَمِينِ وَالْحَلِفِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ } رَوَاهُ أَحْمَد وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ

وَأَبُو دَاوُد وَلَفْظُهُ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ ثَنَا سُفْيَانُ ؛ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ اسْتَثْنَى } وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ غَيْرَ حنث } وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ } رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِي وَابْنُ مَاجَه وَلَفْظُهُ " فَلَهُ ثُنْيَاهُ " وَالنَّسَائِي وَقَالَ : " فَقَدْ اسْتَثْنَى " ثُمَّ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ أَدْخَلُوا الْحَلِفَ بِالنَّذْرِ وَبِالطَّلَاقِ وَبِالْعِتَاقِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالُوا : يَنْفَعُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد يَجْعَلُ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ لَا خِلَافَ فِيهِ فِي مَذْهَبِهِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ . وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَدْخُلُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ هُوَ نَفْسُ إيقَاعِ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ إيقَاعِهِمَا وَالْحَلِفِ بِهِمَا ظَاهِرٌ . وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ " قَاعِدَةَ الِاسْتِثْنَاءِ " فَإِذَا كَانُوا قَدْ أَدْخَلُوا الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي قَوْلِهِ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ } فَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } فَإِنَّ كِلَا اللَّفْظَيْنِ سَوَاءٌ وَهَذَا وَاضِحٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ } الْعُمُومُ فِيهِ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ :

{ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } وَإِذَا كَانَ لَفْظُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ لَفْظُهُ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا يَنْفَعُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ يَنْفَعُ فِيهِ التَّكْفِيرُ وَكُلُّ مَا يَنْفَعُ فِيهِ التَّكْفِيرُ يَنْفَعُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَدَ بِقَوْلِهِ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ } جَمِيعَ الْأَيْمَانِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا مِنْ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَبِالنَّذْرِ وَبِالطَّلَاقِ وَبِالْعِتَاقِ وَبِقَوْلِهِ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا } إنَّمَا قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ أَوْ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ وَالنَّذْرِ . فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ فَإِنَّ حُضُورَ مُوجِبِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ بِقَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ حُضُورِ مُوجِبِ اللَّفْظِ الْآخَرِ إذْ كِلَاهُمَا لَفْظٌ وَاحِدٌ ؛ وَالْحُكْمُ فِيهِمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهُوَ رَفْعُ الْيَمِينِ . إمَّا بِالِاسْتِثْنَاءِ وَإِمَّا بِالتَّكْفِيرِ .
وَبَعْدَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ انْقَسَمَتْ فِي دُخُولِ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ فِي حَدِيثِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ " . " فَقَوْمٌ " قَالُوا : يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ أَنْفُسُهُمَا ؛ حَتَّى لَوْ قَالَ أَنْت طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَنْت حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ : دَخَلَ ذَلِكَ فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا .

وَقَوْمٌ قَالُوا [ لَا ] (1) يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ ؛ لَا إيقَاعُهُمَا وَلَا الْحَلِفُ بِهِمَا بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ وَلَا بِصِيغَةِ الْقَسَمِ وَهَذَا أَشْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . و " الْقَوْلُ الثَّالِثُ " أَنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ؛ بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَد . وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ : إنْ كَانَ الْحَلِفُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ دَخَلَ فِي الْحَدِيثِ وَنَفَعَتْهُ الْمَشِيئَةُ رِوَايَةً وَاحِدَةً ؛ وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ و " هَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ " هُوَ الصَّوَابُ الْمَأْثُورُ مَعْنَاهُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ : كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ ؛ لَمْ يَجْعَلُوا فِي الطَّلَاقِ اسْتِثْنَاءً وَلَمْ يَجْعَلُوهُ مِنْ الْأَيْمَانِ ؛ ثُمَّ قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْحَلِفَ بِالصَّدَقَةِ وَالْهَدْيِ وَالْعِتَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَمِينًا مُكَفَّرَةً وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَد فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ : الِاسْتِثْنَاءُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ لَيْسَا مِنْ الْأَيْمَانِ قَالَ أَيْضًا : الثُّنْيَا فِي الطَّلَاقِ لَا أَقُولُ بِهِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعِتَاقَ حَرْفَانِ وَاقِعَانِ . وَقَالَ أَيْضًا : إنَّمَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ كَفَّارَةٌ وَالطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ لَا يُكَفَّرَانِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ظَاهِرٌ وَذَلِكَ أَنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ لَيْسَا يَمِينًا أَصْلًا وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْإِبْرَاءِ مِنْ الدَّيْنِ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ : " وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ ثُمَّ إنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ أَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَوْ أَبْرَأَ

غَرِيمَهُ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ ؛ مَا عَلِمْت أَحَدًا خَالَفَ فِي ذَلِكَ . فَمَنْ أَدْخَلَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ } فَقَدْ حَمَّلَ الْعَامَّ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ كَمَا أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ مِنْ هَذَا الْعَامِّ قَوْلَهُ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَا أَفْعَلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ إنْ فَعَلْته فَامْرَأَتِي طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ . فَقَدْ أَخْرَجَ مِنْ الْقَوْلِ الْعَامِّ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِيهِ فَإِنَّ هَذَا يَمِينٌ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ . وَهُنَا يَنْبَغِي تَقْلِيدُ أَحْمَد بِقَوْلِهِ : الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ لَيْسَا مِنْ الْأَيْمَانِ ؛ فَإِنَّ الْحَلِفَ بِهِمَا كَالْحَلِفِ بِالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهِمَا . وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ عَقْلًا وَعُرْفًا وَشَرْعًا ؛ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ أَبَدًا . ثُمَّ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ . حَنِثَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّوْهُ يَمِينًا وَكَذَلِكَ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ سَمَّوْهُ يَمِينًا وَكَذَلِكَ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ سَمَّوْهُ يَمِينًا وَمَعْنَى الْيَمِينِ مَوْجُودٌ فِيهِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : أَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ . فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ تَعُودُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَعْنَى إنِّي حَالِفٌ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَعَلَهُ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَكُنْ قَدْ شَاءَهُ ؛ فَلَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا لَهُ . فَلَوْ نَوَى عَوْدَهُ إلَى الْحَلِفِ بِأَنْ يَقْصِدَ - أَيْ الْحَالِفُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَكُونَ حَالِفًا كَانَ مَعْنَى هَذَا مُغَايِرًا الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْإِنْشَاءَاتِ كَالطَّلَاقِ ،

وَعَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ . تَعُودُ الْمَشِيئَةُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى الْفِعْلِ فَالْمَعْنَى لَأَفْعَلَنَّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَعَلَهُ فَمَتَى لَمْ يَفْعَلْهُ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ قَدْ شَاءَهُ فَلَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا لِلطَّلَاقِ ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ عَنَى بِالطَّلَاقِ يَلْزَمُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ لُزُومَهُ إيَّاهُ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْت طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَقَوْلِ أَحْمَد : إنَّمَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا فِيهِ حُكْمُ الْكَفَّارَةِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ لَا يُكَفَّرَانِ . كَلَامٌ حَسَنٌ بَلِيغٌ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَّجَ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ وَحُكْمَ الْكَفَّارَةِ مَخْرَجًا وَاحِدًا بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ وَبِصِيغَةِ وَاحِدَةٍ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا جَمَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا يَقَعُ لِمَا عُلِّقَ بِهِ الْفِعْلُ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي هِيَ الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ وَنَحْوُهُمَا لَا تُعَلَّقُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ بِوُجُوبِ أَسْبَابِهَا فَإِذَا انْعَقَدَتْ أَسْبَابُهَا فَقَدْ شَاءَهَا اللَّهُ وَإِنَّمَا تُعَلَّقُ عَلَى الْمَشِيئَةِ الْحَوَادِثُ الَّتِي قَدْ يَشَاؤُهَا اللَّهُ وَقَدْ لَا يَشَاؤُهَا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَنَحْوِهَا وَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا شُرِعَتْ لِمَا يَحْصُلُ مِنْ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الَّتِي قَدْ يَحْصُلُ فِيهَا الْمُوَافَقَةُ بِالْبِرِّ تَارَةً وَالْمُخَالَفَةِ بِالْحِنْثِ أُخْرَى . وَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْمُوَافَقَةَ وَالْمُخَالَفَةَ كَارْتِفَاعِ الْيَمِينِ بِالْمَشِيئَةِ الَّتِي تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ وَعَدَمَ التَّعْلِيقِ : فَكُلُّ مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ لَيَفْعَلَنَّهُ فَلَمْ يَفْعَلْهُ فَإِنَّهُ إنْ عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُعَلِّقْهُ بِالْمَشِيئَةِ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ فَالِاسْتِثْنَاءُ وَالتَّكْفِيرُ يَتَعَاقَبَانِ الْيَمِينَ إذَا لَمْ يَحْصُلُ فِيهَا الْمُوَافَقَةُ

فَهَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدْفَعُ مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الزِّيَادَةِ أَوْ النَّقْصِ فَهَذَا عَلَى مَا أَوْجَبَهُ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ثُمَّ يُقَالُ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ لَا يُكَفَّرَانِ . كَقَوْلِهِ وَقَوْلِ غَيْرِهِ : لَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِمَا وَهَذَا فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ . وَأَمَّا الْحَلِفُ بِهِمَا فَلَيْسَ تَكْفِيرًا لَهُمَا ؛ وَإِنَّمَا هُوَ تَكْفِيرٌ لِلْحَلِفِ بِهِمَا كَمَا أَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَالْهَدْيِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ فَإِنَّهُ لَمْ يُكَفِّرْ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالصَّدَقَةَ وَالْحَجَّ وَالْهَدْيَ وَإِنَّمَا يُكَفِّرُ الْحَلِفَ بِهِمْ وَإِلَّا فَالصَّلَاةُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْعِبَادَاتُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا وَكَمَا أَنَّهُ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ . فَإِنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ بِلَا خِلَافٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَمُوَافِقِيهِ مِنْ الْقَائِلِينَ بِنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ تَكْفِيرًا لِلْعِتْقِ وَإِنَّمَا هُوَ تَكْفِيرٌ لِلْحَلِفِ بِهِ . فَلَازَمَ قَوْلَ أَحْمَد هَذَا أَنَّهُ إذَا جَعَلَ الْحَلِفَ بِهِمَا يَصِحُّ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ كَانَ الْحَلِفُ بِهِمَا تَصِحُّ فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَهَذَا مُوجَبُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْحَلِفَ بِهِمَا يَصِحُّ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ كَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَذْهَبِ مَالِكٍ فَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ وَنَحْنُ فِي هَذَا الْمَقَامِ إنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي " مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ " عَلَى حِدَةٍ .

وَإِذَا قَالَ أَحْمَد أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ لَزِمَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْحَلِفِ بِهِمَا . وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فَقَالَ : يَصِحُّ فِي الْحَلِفِ بِهِمَا الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا تَصِحُّ الْكَفَّارَةُ . فَهَذَا الْفَرْقُ لَمْ أَعْلَمْهُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ عَنْ أَحْمَد ؛ وَلَكِنَّهُمْ مَعْذُورُونَ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ حَيْثُ لَمْ يَجِدُوهُ نَصَّ فِي تَكْفِيرِ الْحَلِفِ بِهِمَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ كَمَا نَصَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْحَلِفِ بِهِمَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَازِمٌ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ الَّتِي يَنْصُرُونَهَا . وَمَنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ قَوْلَهُ لَوَازِمُ لَا يَتَفَطَّنُ لِلُزُومِهَا وَلَوْ تَفَطَّنَ لَكَانَ إمَّا أَنْ يَلْتَزِمَهَا أَوْ لَا يَلْتَزِمَهَا بَلْ يَرْجِعُ عَنْ الْمَلْزُومِ أَوْ لَا يَرْجِعُ عَنْهُ وَيَعْتَقِدُ أَنَّهَا غَيْرُ لَوَازِمَ . وَالْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ إذَا خَرَجُوا عَلَى قَوْلِ عَالِمٍ لَوَازِمِ قَوْلِهِ وَقِيَاسِهِ . فَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ اللَّازِمِ لَا بِنَفْيِ وَلَا إثْبَاتٍ أَوْ نَصَّ عَلَى نَفْيِهِ . وَإِذَا نَصَّ عَلَى نَفْيِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَصَّ عَلَى نَفْيِ لُزُومِهِ أَوْ لَمْ يَنُصَّ فَإِنْ كَانَ قَدْ نَصَّ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ اللَّازِمِ وَخَرَّجُوا عَنْهُ خِلَافَ الْمَنْصُوصِ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مِثْلُ أَنْ يَنُصَّ فِي مَسْأَلَتَيْنِ مُتَشَابِهَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ يُعَلِّلَ مَسْأَلَةً بِعِلَّةِ يَنْقُضُهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ كَمَا عَلَّلَ أَحْمَد هُنَا عَدَمَ التَّكْفِيرِ بِعَدَمِ الِاسْتِثْنَاءِ وَعَنْهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ رِوَايَتَانِ . فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَخْرِيجِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ بِنَفْيِ وَلَا إثْبَاتٍ هَلْ يُسَمَّى ذَلِكَ مَذْهَبًا ؟ أَوْ لَا يُسَمَّى ؟ وَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ .

فَالْأَثْرَمُ والخرقي وَغَيْرُهُمَا يَجْعَلُونَهُ مَذْهَبًا لَهُ وَالْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ وَغَيْرُهُمَا لَا يَجْعَلُونَهُ مَذْهَبًا لَهُ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا قِيَاسُ قَوْلِهِ وَلَازِمُ قَوْلِهِ ؛ فَلَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْمَذْهَبِ الْمَنْصُوصِ عَنْهُ ؛ وَلَا أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَيْسَ بِلَازِمِ قَوْلُهُ ؛ بَلْ هُوَ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ . هَذَا حَيْثُ أَمْكَنَ أَنْ لَا يُلَازِمَهُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ الطَّلَاقَ مُبِيحًا لَهُ أَوْ آمِرًا بِهِ أَوْ مُلْزِمًا لَهُ إذَا أَوْقَعَهُ صَاحِبُهُ وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ وَكَذَلِكَ النَّذْرُ . وَهَذِهِ الْعُقُودُ مِنْ النُّذُورِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ تَقْتَضِي وُجُوبَ أَشْيَاءَ عَلَى الْعَبْدِ أَوْ تَحْرِيمَ أَشْيَاءَ عَلَيْهِ . وَالْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ إنَّمَا يَلْزَمُ الْعَبْدَ إذَا قَصَدَهُ أَوْ قَصَدَ سَبَبَهُ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ هَذَا الْكَلَامُ بِغَيْرِ قَصْدٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ بِالِاتِّفَاقِ وَلَوْ تَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ مُكْرَهًا لَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُهَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ إنَّمَا هُوَ دَفْعُ الْمَكْرُوهِ عَنْهُ ؛ لَمْ يَقْصِدْ حُكْمَهَا ؛ وَلَا قَصَدَ التَّكَلُّمَ بِهَا ابْتِدَاءً . فَكَذَلِكَ الْحَالِفُ إذَا قَالَ : إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ الطَّلَاقُ لَيْسَ يَقْصِدُ الْتِزَامَ حَجٍّ وَلَا طَلَاقٍ وَلَا تَكَلَّمَ بِمَا يُوجِبُهُ ابْتِدَاءً ؛ وَإِنَّمَا قَصْدُهُ الْحَضُّ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ . أَوْ مَنْعُ نَفْسِهِ مِنْهُ كَمَا أَنَّ قَصْدَ الْمُكْرَهِ دَفْعُ الْمَكْرُوهِ عَنْهُ ؛ ثُمَّ قَالَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْحَضِّ وَالْمَنْعِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَهَذَا لِي لَازِمٌ أَوْ هَذَا عَلَيَّ حَرَامٌ ؛ لِشِدَّةِ امْتِنَاعِهِ مِنْ هَذَا اللُّزُومِ وَالتَّحْرِيمِ عُلِّقَ ذَلِكَ بِهِ فَقَصْدُهُ مَنْعُهُمَا جَمِيعًا لَا ثُبُوتُ أَحَدِهِمَا وَلَا ثُبُوتُ سَبَبِهِ . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا لِلْحُكْمِ وَلَا لِسَبَبِهِ وَإِنَّمَا قَصْدُهُ عَدَمُ الْحُكْمِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَلْزَمَهُ الْحُكْمُ .

و " أَيْضًا " فَإِنَّ الْيَمِينَ بِالطَّلَاقِ بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ فِي الْأُمَّةِ لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّهُ كَانَ يُحْلَفُ بِهَا عَلَى عَهْدِ قُدَمَاءِ الصَّحَابَةِ ؛ وَلَكِنْ قَدْ ذَكَرُوهَا فِي أَيْمَانِ الْبَيْعَةِ الَّتِي رَتَّبَهَا الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَصَدَقَةِ الْمَالِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ . وَلَمْ أَقِفْ إلَى السَّاعَةِ عَلَى كَلَامٍ لِأَحَدِ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَإِنَّمَا الَّذِي بَلَغَنَا عَنْهُمْ الْجَوَابُ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ كَمَا تَقَدَّمَ . ثُمَّ هَذِهِ " الْبِدْعَةُ " قَدْ شَاعَتْ فِي الْأُمَّةِ وَانْتَشَرَتْ انْتِشَارًا عَظِيمًا ؛ ثُمَّ لَمَّا اعْتَقَدَ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِهَا لَا مَحَالَةَ : صَارَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَا مِنْ الْأَغْلَالِ عَلَى الْأُمَّةِ مَا هُوَ شَبِيهٌ بِالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَنَشَأَ عَنْ ذَلِكَ " خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ مِنْ الْحِيَلِ وَالْمَفَاسِدِ " فِي الْأَيْمَانِ حَتَّى اتَّخَذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ عَلَى تَرْكِ أُمُورٍ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ فِعْلِهَا إمَّا شَرْعًا وَإِمَّا طَبْعًا وَعَلَى فِعْلِ أُمُورٍ يَصْلُحُ فِعْلُهَا إمَّا شَرْعًا وَإِمَّا طَبْعًا وَغَالِبُ مَا يَحْلِفُونَ بِذَلِكَ فِي حَالِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ . ثُمَّ فِرَاقُ الْأَهْلِ فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا يَزِيدُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَغْلَالِ الْيَهُودِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ اللَّهَ إنَّمَا حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ لِئَلَّا يُسَارِعَ النَّاسُ إلَى الطَّلَاقِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ . فَإِذَا حَلَفُوا بِالطَّلَاقِ عَلَى الْأُمُورِ اللَّازِمَةِ أَوْ الْمَمْنُوعَةِ وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى فِعْلِ تِلْكَ الْأُمُورِ أَوْ تَرْكِهَا مَعَ عَدَمِ فِرَاقِ الْأَهْلِ قَدَحَتْ الْأَفْكَارُ لَهُمْ " أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ مِنْ الْحِيَلِ " أُخِذَتْ عَنْ الْكُوفِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ .

" الْحِيلَةُ الْأُولَى " فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَيَتَأَوَّلُ لَهُمْ خِلَافَ مَا قَصَدُوهُ وَخِلَافَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي وَصَفَهُ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْفِقْهِ وَيُسَمُّونَهُ " بَابَ الْمُعَايَاةِ " و " بَابَ الْحِيَلِ فِي الْأَيْمَانِ " وَأَكْثَرُهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ الدِّينِ أَنَّهُ لَا يَسُوغُ فِي الدِّينِ وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ كَلَامِ الْحَالِفِ عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ يُشَدِّدُونَ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ يَحْتَالُ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ . " الْحِيلَةُ الثَّانِيَةُ " إذَا تَعَذَّرَ الِاحْتِيَالُ فِي الْكَلَامِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ احْتَالُوا لِلْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ؛ بِأَنْ يَأْمُرُوهُ بِمُخَالَعَةِ امْرَأَتِهِ لِيَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ الْبَيْنُونَةِ وَهَذِهِ الْحِيلَةُ أَحْدَثُ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا وَأَظُنُّهَا حَدَثَتْ فِي حُدُودِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ ؛ فَإِنَّ عَامَّةَ الْحِيَلِ إنَّمَا نَشَأَتْ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَحِيلَةُ الْخُلْعِ لَا تَمْشِي عَلَى أَصْلِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ لِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ فُرْقَةٍ بَائِنَةٌ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ عِنْدَهُمْ فَيَحْتَاجُ الْمُحْتَالُ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ أَنْ يَتَرَبَّصَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ ثُمَّ يَفْعَلُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا وَهَذَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ طُولِ الْمُدَّةِ . فَصَارَ يُفْتِي بِهَا بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَرُبَّمَا رَكَّبُوا مَعَهَا أَحَدَ قَوْلَيْهِ الْمُوَافِقَ لِأَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد مِنْ : أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ ؛ وَلَيْسَ بِطَلَاقِ . فَيَصِيرُ الْحَالِفُ كُلَّمَا أَرَادَ الْحِنْثَ خَلَعَ زَوْجَتَهُ وَفَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ؛ فَإِمَّا أَنْ يُفْتُوهُ بِنَقْصِ عَدَدِ الطَّلَاقِ ؛ أَوْ يُفْتُوهُ بِعَدَمِهِ وَهَذَا الْخُلْعُ الَّذِي هُوَ " خُلْعُ الْأَيْمَانِ " شَبِيهٌ بِنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ سَوَاءٌ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ

عَقَدَ عَقْدًا لَمْ يَقْصِدْهُ وَإِنَّمَا قَصَدَ إزَالَتِهِ وَهَذَا فَسَخَ فَسْخًا لَمْ يَقْصِدْهُ وَإِنَّمَا قَصَدَ إزَالَتَهُ وَهَذِهِ حِيلَةٌ مُحْدَثَةٌ بَارِدَةٌ قَدْ صَنَّفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ بَطَّةَ جُزْءًا فِي إبْطَالِهَا وَذَكَرَ عَنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ مَا قَدْ ذَكَرْت بَعْضَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . " الْحِيلَةُ الثَّالِثَةُ " إذَا تَعَذَّرَ الِاحْتِيَالُ فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ احْتَالُوا فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ فَيُبْطِلُونَهُ بِالْبَحْثِ عَنْ شُرُوطِهِ . فَصَارَ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ يَبْحَثُونَ عَنْ صِفَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ لَعَلَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى أَمْرٍ يَكُونُ بِهِ فَاسِدًا ؛ لِيُرَتِّبُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يَقَعُ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَد فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ أَنَّ الْوَلِيَّ الْفَاسِقَ لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ وَالْفُسُوقُ غَالِبٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فَيَنْفُقُ سُوقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِسَبَبِ الِاحْتِيَالِ لِرَفْعِ يَمِينِ الطَّلَاقِ حَتَّى رَأَيْت مَنْ صَنَّفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُصَنَّفًا مَقْصُودُهُ بِهِ الِاحْتِيَالُ لِرَفْعِ الطَّلَاقِ . ثُمَّ تَجِدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَحْتَالُونَ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ إنَّمَا يَنْظُرُونَ فِي صِفَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ وَكَوْنِ وِلَايَةِ الْفَاسِقِ لَا تَصِحُّ عِنْدَ إيقَاعِ الطَّلَاقِ الَّذِي قَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَقَعُ فِي الْفَاسِدِ فِي الْجُمْلَةِ وَأَمَّا عِنْدَ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ الَّذِي أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَلَا يَنْظُرُونَ فِي ذَلِكَ وَلَا يَنْظُرُونَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَ الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ ؛ بَلْ عِنْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ خَاصَّةً . وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَمِنْ الْمَكْرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ ؛ إنَّمَا أَوْجَبَهُ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالضَّرُورَةُ إلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ .

" الْحِيلَةُ الرَّابِعَةُ " الشَّرْعِيَّةُ فِي إفْسَادِ الْمَحْلُوفِ بِهِ أَيْضًا ؛ لَكِنْ لِوُجُودِ مَانِعٍ ؛ لَا لِفَوَاتِ شَرْطٍ ؛ فَإِنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ سُرَيْجٍ وَطَائِفَةً بَعْدَهُ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي وَإِذَا طَلَّقْتُك فَأَنْت طَالِقٌ قَبْلُ ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ طَلَاقٌ أَبَدًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْمُنَجَّزُ لَزِمَ وُقُوعُ الْمُعَلَّقِ وَإِذَا وَقَعَ الْمُعَلَّقُ امْتَنَعَ وُقُوعُ الْمُنَجَّزِ فَيُفْضِي وُقُوعُهُ إلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ فَلَا يَقَعُ وَأَمَّا عَامَّةُ فُقَهَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ ؛ بَلْ رَأَوْهُ مِنْ الزَّلَّاتِ الَّتِي يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ كَوْنُهَا لَيْسَتْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ؛ حَيْثُ قَدْ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الطَّلَاقَ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ نِكَاحٍ وَأَنَّهُ مَا مِنْ نِكَاحٍ إلَّا وَيُمْكِنُ فِيهِ الطَّلَاقُ : وَسَبَبُ الْغَلَطِ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا صِحَّةَ هَذَا الْكَلَامِ فَقَالُوا : إذَا وَقَعَ الْمُنَجَّزُ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ . وَهَذَا الْكَلَامُ لَيْسَ بِصَحِيحِ فَإِنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ وُقُوعَ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثِ وَوُقُوعَ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثِ مُمْتَنِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ . فَالْكَلَامُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى ذَلِكَ بَاطِلٌ ؛ وَإِذَا كَانَ بَاطِلًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ وُقُوعِ الْمُنَجَّزِ وُقُوعُ الْمُعَلَّقِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا . ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ يَقَعُ مِنْ الْمُعَلَّقِ تَمَامُ الثَّلَاثِ ؟ أَمْ يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ وَلَا يَقَعُ إلَّا الْمُنَجَّزُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَمَا أَدْرِي هَلْ اسْتَحْدَثَ ابْنُ سُرَيْجٍ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِلِاحْتِيَالِ عَلَى رَفْعِ الطَّلَاقِ ؟ أَمْ قَالَهُ طَرْدًا لِقِيَاسِ اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ وَاحْتَالَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ ؟ لَكِنِّي رَأَيْت

مُصَنَّفًا لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ صَنَّفَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَقْصُودُهُ بِهَا الِاحْتِيَالُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ . وَلِهَذَا صَاغُوهَا بِقَوْلِهِ : إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْت طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا . لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْت طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا لَمْ تَنْفَعْهُ هَذِهِ الصِّيغَةُ فِي الْحِيلَةِ وَإِنْ كَانَ كِلَاهُمَا فِي الدَّوْرِ سَوَاءٌ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ فَأَنْت طَالِقٌ : لَمْ يَحْنَثْ إلَّا بِتَطْلِيقِ يُنَجِّزُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْيَمِينُ ؛ أَوْ يُعَلِّقُهُ بَعْدَهَا عَلَى شَرْطٍ فَيُوجَدُ . فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ التَّنْجِيزِ وَالتَّعْلِيقِ الَّذِي وُجِدَ شَرْطُهُ تَطْلِيقٌ . أَمَّا إذَا كَانَ قَدْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا قَبْلَ هَذِهِ الْيَمِينِ بِشَرْطِ وَوُجِدَ الشَّرْطُ بَعْدَ هَذِهِ الْيَمِينَ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدُ وُجُودِ الشَّرْطِ وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ تَطْلِيقًا ؛ لِأَنَّ التَّطْلِيقَ لَا بُدَّ أَنْ يَصْدُرَ عَنْ الْمُطَلِّقِ وَوُقُوعَ الطَّلَاقِ بِصِفَةِ يَفْعَلُهَا غَيْرُهُ لَيْسَ فِعْلًا مِنْهُ . فَأَمَّا إذَا قَالَ : إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي . فَهَذَا يَعُمُّ الْمُنَجَّزَ وَالْمُعَلَّقَ بَعْدَ هَذَا بِشَرْطِ وَالْوَاقِعُ بَعْدَ هَذَا بِشَرْطِ تَقَدَّمَ تَعْلِيقُهُ . فَصَوَّرُوا الْمَسْأَلَةَ بِصُورَةِ قَوْلِهِ : إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي . حَتَّى إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِالطَّلَاقِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا قَالُوا لَهُ : قُلْ إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْت طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا . فَيَقُولُ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ لَهُ : افْعَلْ الْآنَ مَا حَلَفْت عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْك طَلَاقٌ فَهَذَا " التَّسْرِيجُ " الْمُنْكَرُ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْمَعْلُومُ يَقِينًا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الشَّرِيعَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا نَفْقُه فِي الْغَالِبِ وَأَحْوَجُ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ إلَّا الْحَلِف بِالطَّلَاقِ وَإِلَّا فَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ أَحَدٌ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَكَادُ يَقْصِدُ انْسِدَادَ بَابِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ إلَّا نَادِرًا .

" الْحِيلَةُ الْخَامِسَةُ " إذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَمْ يُمْكِنْ الِاحْتِيَالُ لَا فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا وَلَا فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ إبْطَالًا وَلَا مَنْعًا : احْتَالُوا لِإِعَادَةِ النِّكَاحِ " بِنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ " الَّذِي دَلَّتْ السُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مَعَ دِلَالَةِ الْقُرْآنِ وَشَوَاهِدِ الْأُصُولِ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَفَسَادِهِ ثُمَّ قَدْ تَوَلَّدَ مِنْ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ كَمَا قَدْ نَبَّهْنَا عَلَى بَعْضِهِ فِي " كِتَابِ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ " وَأَغْلَب مَا يحوج النَّاسَ إلَى نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ هُوَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ ؛ وَإِلَّا فَالطَّلَاقُ الثَّلَاثُ لَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ فِي الْغَالِبِ إلَّا إذَا قَصَدَهُ وَمَنْ قَصَدَهُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مِنْ النَّدَمِ وَالْفَسَادِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَنْ اضْطَرَّ لِوُقُوعِهِ لِحَاجَتِهِ إلَى الْحِنْثِ . فَهَذِهِ " الْمَفَاسِدُ الْخَمْسُ " الَّتِي هِيَ الِاحْتِيَالُ عَلَى نَقْضِ الْأَيْمَانِ وَإِخْرَاجِهَا مِنْ مَفْهُومِهَا وَمَقْصُودِهَا ثُمَّ الِاحْتِيَالُ بِالْخُلْعِ وَإِعَادَةِ النِّكَاحِ ثُمَّ الِاحْتِيَالُ بِالْبَحْثِ عَنْ فَسَادِ النِّكَاحِ ثُمَّ الِاحْتِيَالُ بِمَنْعِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ ثُمَّ الِاحْتِيَالُ بِنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ : فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّعِبِ الَّذِي يُنَفِّرُ الْعُقَلَاءَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَيُوجِبُ طَعْنَ الْكُفَّارِ فِيهِ كَمَا رَأَيْته فِي بَعْضِ كُتُبِ النَّصَارَى وَغَيْرِهَا وَتَبَيَّنَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ صَحِيحِ الْفِطْرَةِ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ بَرِيءٌ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذِهِ الْخُزَعْبَلَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ حِيَلَ الْيَهُودِ ومخاريق الرُّهْبَانِ .

وَأَكْثَرُ مَا أَوْقَعَ النَّاسَ فِيهَا وَأَوْجَبَ كَثْرَةَ إنْكَارِ الْفُقَهَاءِ فِيهَا وَاسْتِخْرَاجِهِمْ لَهَا هُوَ حَلِفُ النَّاسِ بِالطَّلَاقِ وَاعْتِقَادُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحِنْثِ لَا مَحَالَةَ ؛ حَتَّى لَقَدْ فَرَّعَ الْكُوفِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُرُوعِ الْأَيْمَانِ شَيْئًا كَثِيرًا مَبْنَاهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُرُوعِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي يُفَرِّعُهَا هَؤُلَاءِ وَنَحْوُهُمْ هِيَ كَمَا كَانَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : مِثَالُهَا مِثَالُ رَجُلٍ بَنَى دَارًا حَسَنَةً عَلَى حِجَارَةٍ مَغْصُوبَةٍ فَإِذَا نُوزِعَ فِي اسْتِحْقَاقِ تِلْكَ الْحِجَارَةِ الَّتِي هِيَ الْأَسَاسُ فَاسْتَحَقَّهَا غَيْرُهُ انْهَدَمَ بِنَاؤُهُ ؛ فَإِنَّ الْفُرُوعَ الْحَسَنَةَ إنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى أُصُولٍ مُحْكَمَةٍ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْفَعَةٌ . فَإِذَا كَانَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَاعْتِقَادُ لُزُومِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحِنْثِ قَدْ أَوْجَبَ هَذِهِ الْمَفَاسِدَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي قَدْ غَيَّرَتْ بَعْضَ أُمُورِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَصَارَ فِي هَؤُلَاءِ شُبَهٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّ لُزُومَ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحَلِفِ بِهِ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا أَفْتَى بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ وَلَا أَحَدٌ مِنْهُمْ فِيمَا أَعْلَمُهُ وَلَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ التَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَالْعُلَمَاءُ بَعْدَهُمْ وَلَا هُوَ مُنَاسِبٌ لِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ قَالَهُ أَكْثَرَ مِنْ عَادَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ أُسْنِدَتْ إلَى قِيَاسٍ مُعْتَضِدٍ بِتَقْلِيدِ لِقَوْمِ أَئِمَّةٍ عُلَمَاءَ مَحْمُودِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ وَهُمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ فَوْقَ مَا يُظَنُّ بِهِمْ ؛ لَكِنْ لَمْ نُؤْمَرْ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَّا بِالرَّدِّ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ وَقَدْ خَالَفَهُمْ مَنْ لَيْسَ دُونَهُمْ ؛ بَلْ مِثْلُهُمْ أَوْ فَوْقَهُمْ . فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ أَعْيَانٍ مِنْ الصَّحَابَةِ

كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْمُجْمَعِ عَلَى إمَامَتِهِ وَفِقْهِهِ وَدِينِهِ وَأُخْتِهِ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَزَيْنَبَ رَبِيبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مِنْ أَمْثَلِ فَقِيهَاتِ الصَّحَابَةِ الْإِفْتَاءَ بِالْكَفَّارَةِ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ أَوْلَى مِنْهُ . وَذَكَرْنَا عَنْ طاوس وَهُوَ مِنْ أَفَاضِلِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ عِلْمًا وَفِقْهًا وَدِينًا : أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى الْيَمِينَ بِالطَّلَاقِ مُوقِعَةً لَهُ .
فَإِذَا كَانَ لُزُومُ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ بِهِ مُقْتَضِيًا لِهَذِهِ الْمَفَاسِدِ وَحَالُهُ فِي الشَّرِيعَةِ هَذِهِ الْحَالُ : كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا أَفْضَى إلَى هَذَا الْفَسَادِ لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي ضَمَانِ الْحَدَائِقِ مَنْ يَزْدَرِعُهَا وَيَسْتَثْمِرُهَا وَيَبِيعُ الْخُضَرَ وَنَحْوَهَا .
وَذَلِكَ أَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ إذَا حَلَفَ لَيَقْطَعَنَّ رَحِمَهُ وَلَيَعُقَّنَّ أَبَاهُ وَلَيَقْتُلَنَّ عَدُوَّهُ الْمُسْلِمَ الْمَعْصُومَ وَلَيَأْتِيَنَّ الْفَاحِشَةَ وَلَيَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ وَلَيُفَرِّقَنَّ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ فَهُوَ بَيْنَ " ثَلَاثَةِ أُمُورٍ " إمَّا أَنْ يَفْعَلَ هَذَا الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ : فَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ بَلْ وَالْمُفْتِينَ إذَا رَأَوْهُ قَدْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَخْفِيفِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ وَإِقَامَةِ عُذْرِهِ .

وَإِمَّا أَنْ يَحْتَالَ بِبَعْضِ تِلْكَ الْحِيَلِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا اسْتَخْرَجَهُ قَوْمٌ مِنْ الْمُفْتِينَ : فَفِي ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَمُخَادَعَتِهِ وَالْمَكْرِ فِي دِينِهِ وَالْكَيْدِ لَهُ وَضَعْفِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَالِاعْتِدَاءِ لِحُدُودِهِ وَالِانْتِهَاكِ لِمَحَارِمِهِ وَالْإِلْحَادِ فِي آيَاتِهِ : مَا لَا خَفَاءَ بِهِ ؛ وَإِنْ كَانَ فِي إخْوَانِنَا الْفُقَهَاءِ مَنْ قَدْ يَسْتَجِيزُ بَعْضَ ذَلِكَ فَقَدْ دَخَلَ مِنْ الْغَلَطِ فِي ذَلِكَ - وَإِنْ كَانَ مَغْفُورًا لِصَاحِبِهِ الْمُجْتَهِدِ الْمُتَّقِي لِلَّهِ - مَا فَسَادُهُ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ حَقِيقَةَ الدِّينِ . وَإِمَّا أَنْ لَا يَحْتَالَ وَلَا يَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ ؛ بَلْ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ إذَا اعْتَقَدَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ . فَفِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا لَا يَأْذَنُ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ . أَمَّا " فَسَادُ الدِّينِ " فَإِنَّ الطَّلَاقَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مَعَ اسْتِقَامَةِ حَالِ الزَّوْجِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْمُخْتَلَعَاتِ وَالْمُنْتَزَعَاتِ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ } وَقَالَ : { أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ } وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ ؟ أَوْ مَكْرُوهٌ ؟ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَقَدْ اسْتَحْسَنُوا جَوَابَ أَحْمَد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا سُئِلَ عَمَّنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَحَرَّمَ لَيَطَأَنَّ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ . فَقَالَ : يُطَلِّقُهَا وَلَا يَطَؤُهَا قَدْ أَبَاحَ اللَّهُ الطَّلَاقَ وَحَرَّمَ وَطْءَ الْحَائِضِ . وَهَذَا الِاسْتِحْسَانُ يَتَوَجَّهُ عَلَى أَصْلَيْنِ : إمَّا عَلَى قَوْلِهِ إنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِحَرَامِ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهُ دُونَ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ . وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ كِلَاهُمَا حَرَامًا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ حَرَامٍ إلَّا إلَى حَرَامٍ .

وَأَمَّا " ضَرَرُ الدُّنْيَا " فَأَبْيَنُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ ؛ فَإِنَّ لُزُومَ الطَّلَاقِ وَالْمَحْلُوفَ بِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ يُوجِبُ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَمْ تَأْتِ بِهِ الشَّرِيعَةُ فِي مِثْلِ هَذَا قَطُّ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الصَّالِحَةَ تَكُونُ فِي صُحْبَةِ زَوْجِهَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ سِنِينَ كَثِيرَةً وَهِيَ مَتَاعُهُ الَّذِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الْمُؤْمِنَةُ إنْ نَظَرْت إلَيْهَا أَعْجَبَتْك ؛ وَإِنْ أَمَرْتهَا أَطَاعَتْك وَإِنْ غِبْت عَنْهَا حَفِظَتْك فِي نَفْسِهَا وَمَالِك } وَهِيَ الَّتِي أَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { لَمَّا سَأَلَهُ الْمُهَاجِرُونَ أَيَّ الْمَالِ نَتَّخِذُ ؟ فَقَالَ : لِسَانًا ذَاكِرًا ؛ وَقَلْبًا شَاكِرًا أَوْ امْرَأَةً صَالِحَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى إيمَانِهِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ ثوبان وَيَكُونُ مِنْهَا مِنْ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ مَا امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فِي كِتَابِهِ فَيَكُونُ أَلَمُ الْفِرَاقِ أَشَدَّ عَلَيْهَا مِنْ الْمَوْتِ أَحْيَانًا وَأَشَدَّ مِنْ ذَهَابِ الْمَالِ وَأَشَدَّ مِنْ فِرَاقِ الْأَوْطَانِ ؛ خُصُوصًا إنْ كَانَ بِأَحَدِهِمَا عِلَاقَةٌ مِنْ صَاحِبِهِ أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَطْفَالٌ يَضِيعُونَ بِالْفِرَاقِ وَيَفْسُدُ حَالُهُمْ ثُمَّ يُفْضِي ذَلِكَ إلَى الْقَطِيعَةِ بَيْنَ أَقَارِبِهَا وَوُقُوعِ الشَّرِّ لَمَّا زَالَتْ نِعْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ الَّتِي امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فِي قَوْلِهِ : { فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا } وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ الْحَرَجِ الدَّاخِلِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وَمِنْ الْعُسْرِ الْمَنْفِيِّ بِقَوْلِهِ : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }
" وَأَيْضًا " فَإِذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ فِعْلَ بِرٍّ وَإِحْسَانٍ : مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ وَتَعْلِيمِ عِلْمٍ ؛ وَصِلَةِ رَحِمٍ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ

وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا ؛ فَإِنَّهُ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ فِي الطَّلَاقِ أَعْظَمُ أَلَا يَفْعَلَ ذَلِكَ ؛ بَلْ وَلَا يُؤْمَرُ بِهِ شَرْعًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْفَسَادُ النَّاشِئُ مِنْ الطَّلَاقِ أَعْظَمَ مِنْ الصَّلَاحِ الْحَاصِلِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ . وَهَذِهِ الْمَفْسَدَةُ هِيَ الَّتِي أَزَالَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ } وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَأَنْ يَلِجَ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ الْكَفَّارَةَ } . فَإِنْ قِيلَ : فَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي أَحَدٍ هَذِهِ الضَّرَائِرِ الثَّلَاثِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْلِفَ ؟ قِيلَ : لَيْسَ فِي شَرِيعَتِنَا ذَنْبٌ إذَا فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَخْرَجٌ مِنْهُ بِالتَّوْبَةِ إلَّا بِضَرَرِ عَظِيمٍ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا . فَهَبْ هَذَا قَدْ أَتَى كَبِيرَةً مِنْ الْكَبَائِرِ فِي حَلِفِهِ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ تَابَ مِنْ تِلْكَ الْكَبِيرَةِ فَكَيْفَ يُنَاسِبُ أُصُولَ شَرِيعَتِنَا أَنْ يَبْقَى أَثَرُ ذَلِكَ الذَّنْبِ عَلَيْهِ لَا يَجِدُ مِنْهُ مَخْرَجًا وَهَذَا بِخِلَافِ الَّذِي يُنْشِئُ الطَّلَاقَ لَا بِالْحَلِفِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا وَهُوَ مُرِيدٌ الطَّلَاقَ : إمَّا لِكَرَاهَةِ الْمَرْأَةِ أَوْ غَضَبٍ عَلَيْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الطَّلَاقَ ثَلَاثَةً فَإِذَا كَانَ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِالطَّلَاقِ بِاخْتِيَارِهِ وَلَهُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ : كَانَ وُقُوعُ الضَّرَرِ بِمِثْلِ هَذَا نَادِرًا ؛ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ؛ فَإِنَّ مَقْصُودَهُ لَمْ يَكُنْ الطَّلَاقَ ؛ إنَّمَا كَانَ أَنْ

يَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ أَوْ لَا يَفْعَلَهُ ثُمَّ قَدْ يَأْمُرُهُ الشَّرْعُ أَوْ تَضْطَرُّهُ الْحَاجَةُ إلَى فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ فَيَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ لَا لَهُ وَلَا لِسَبَبِهِ . " وَأَيْضًا " فَإِنَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي " بَابِ الْأَيْمَانِ " تَخْفِيفُهَا بِالْكَفَّارَةِ ؛ لَا تَثْقِيلُهَا بِالْإِيجَابِ أَوْ التَّحْرِيمِ . فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَرَوْنَ الظِّهَارَ طَلَاقًا وَاسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ حَتَّى ظَاهَرَ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ مِنْ امْرَأَتِهِ . " وَأَيْضًا " فَالِاعْتِبَارُ بِنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ إلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَدَمَ تَأْثِيرِهِ . وَالْقِيَاسُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ أَصَحُّ مَا يَكُونُ مِنْ الِاعْتِبَارِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ : إنْ أَكَلْت أَوْ شَرِبْت فَعَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ عَبْدِي أَوْ فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ فَأَنَا مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ أَوْ فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ فَإِنَّهُ تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدِ الْجُمْهُورِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ ؛ بِدِلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ : فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ إنْ أَكَلْت هَذَا أَوْ شَرِبْت هَذَا فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ . أَوْ فَالطَّلَاقُ لِي لَازِمٌ . أَوْ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ . أَوْ : فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ الطَّلَاقُ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا : فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ عَلَيَّ الْحَجُّ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ الْحَجُّ لِي لَازِمٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا . وَكِلَاهُمَا يَمِينَانِ مُحْدَثَانِ لَيْسَتَا مَأْثُورَتَيْنِ عَنْ الْعَرَبِ وَلَا مَعْرُوفَتَيْنِ عَنْ الصَّحَابَةِ ؛ وَإِنَّمَا

الْمُتَأَخِّرُونَ صَاغُوا مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي أَيْمَانًا وَرَبَطُوا إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى كَالْأَيْمَانِ الَّتِي كَانَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ يَحْلِفُونَ بِهَا وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَحْلِفُ بِهَا ؛ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ : إنْ فَعَلْت فَمَالِي صَدَقَةٌ . يَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّدَقَةِ عِنْدَ الْفِعْلِ . وَقَوْلُهُ : فَامْرَأَتِي طَالِقٌ . يَقْتَضِي وُجُودَ الطَّلَاقِ . فَالْكَلَامُ يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِنَفْسِ الشَّرْطِ وَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ بَعْدَ هَذَا طَلَاقًا وَلَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الصَّدَقَةِ حَتَّى يُحْدِثَ صَدَقَةً . وَجَوَابُ هَذَا الْفَرْقِ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْفُقَهَاءُ الْمُفَرِّقُونَ مِنْ " وَجْهَيْنِ " " أَحَدُهُمَا " مَنْعُ الْوَصْفِ الْفَارِقِ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ الْمَقِيسِ عَلَيْهَا وَفِي بَعْضِ صُوَرِ الْفُرُوعِ الْمَقِيسِ عَلَيْهَا . " وَالثَّانِي " بَيَانُ عَدَمِ التَّأْثِيرِ . أَمَّا " الْأَوَّلُ " فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَمَالِي صَدَقَةٌ أَوْ فَأَنَا مُحْرِمٌ أَوْ فَبَعِيرِي هَدْيٌ . فَالْمُعَلَّقُ بِالصِّفَةِ وُجُودُ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْرَامِ وَالْهَدْيِ لَا وُجُوبُهُمَا كَمَا أَنَّ الْمُعَلَّقَ فِي قَوْلِهِ : فَعَبْدِي حُرٌّ وَامْرَأَتِي طَالِقٌ . وُجُودُ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ لَا وُجُوبُهُمَا ؛ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِيمَا إذَا قَالَ هَذَا : هَدْيٌ وَهَذَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ : هَلْ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ أَوْ لَا يَخْرُجُ ؟ فَمَنْ قَالَ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ فَهُوَ كَخُرُوجِ زَوْجَتِهِ وَعَبْدِهِ عَنْ مِلْكِهِ . وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الصَّدَقَةَ

وَالْهَدْيَ يَتَمَلَّكُهُمَا النَّاسُ بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ وَالْعَبْدِ . وَهَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : عَلَيَّ الطَّلَاقُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا فَهُوَ كَقَوْلِهِ : عَلَيَّ الْحَجُّ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا فَهُوَ جَعَلَ الْمَحْلُوفَ بِهِ هَاهُنَا وُجُوبَ الطَّلَاقِ ؛ لَا وُجُودَهُ كَأَنَّهُ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ . فَبَعْضُ صُوَرِ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ يَكُونُ الْمَحْلُوفُ بِهِ صِيغَةَ وُجُوبٍ . كَمَا أَنَّ بَعْضَ صُوَرِ الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ يَكُونُ الْمَحْلُوفُ بِهِ صِيغَةَ وُجُودٍ . و " أَمَّا الْجَوَابُ الثَّانِي " فَنَقُولُ : هَبْ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالْفِعْلِ هُنَا وُجُودُ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْمُعَلَّقَ هُنَاكَ وُجُوبُ الصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالْإِهْدَاءِ أَلَيْسَ مُوجَبُ الشَّرْطِ ثُبُوتَ هَذَا الْوُجُوبِ ؟ بَلْ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ هَذَا الْوُجُوبُ بَلْ يَجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ وُجُوبِ الشَّرْطِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ الْوُجُوبُ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ هَذَا الْوُجُودُ ؛ بَلْ كَمَا لَوْ قَالَ : هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ إنْ فَعَلَ كَذَا ؛ فَإِنَّ الْمُعَلَّقَ هُنَا وُجُودُ الْكُفْرِ عِنْدَ الشَّرْطِ ؛ ثُمَّ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ لَمْ يُوجَدْ الْكُفْرُ بِالِاتِّفَاقِ ؛ بَلْ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ . وَلَوْ قَالَ ابْتِدَاءً : هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ يَلْزَمُهُ الْكُفْرُ ؛ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ ابْتِدَاءً : عَبْدِي حُرٌّ ؛ وَامْرَأَتِي طَالِقٌ ؛ وَهَذِهِ الْبَدَنَةُ هَدْيٌ وَعَلَيَّ هَدْيٌ ؛ وَعَلَيَّ صَوْمُ

يَوْمِ الْخَمِيسِ . وَلَوْ عَلَّقَ الْكُفْرَ بِشَرْطِ يَقْصِدُ وُجُودَهُ كَقَوْلِهِ : إذَا هَلَّ الْهِلَالُ فَقَدْ بَرِئْت مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ ؛ لَكِنْ لَا يُنَاجَزُ الْكُفْرَ ؛ لِأَنَّ تَوْقِيتَهُ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ عَقِيدَتِهِ . قِيلَ : فَالْحَلِفُ بِالنَّذْرِ إنَّمَا عَلَيْهِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ فَقَطْ قِيلَ : مِثْلُهُ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ ؛ وَكَذَلِكَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ كَمَا لَوْ قَالَ فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي . وَمَنْ قَالَ إنَّهُ إذَا قَالَ : فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي . لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ . فَقِيَاسُ قَوْلِهِ فِي الطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؛ وَلِهَذَا تَوَقَّفَ طاوس فِي كَوْنِهِ يَمِينًا . وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِهِ وَالتَّكْفِيرِ فَكَذَلِكَ هُنَا يُخَيَّرُ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَبَيْنَ التَّكْفِيرِ فَإِنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ كَانَ اخْتِيَارًا لِلتَّكْفِيرِ ؛ كَمَا أَنَّهُ فِي الظِّهَارِ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ التَّكْفِيرِ وَبَيْنَ تَطْلِيقِهَا ؛ فَإِنْ وَطِئَهَا لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ؛ لَكِنْ فِي الظِّهَارِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْوَطْءُ حَتَّى يُكَفِّرَ لِأَنَّ الظِّهَارَ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ . وَأَمَّا هُنَا فَقَوْلُهُ : إنْ فَعَلْت فَهِيَ طَالِقٌ . بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَهَا . أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأُطَلِّقَنَّهَا . إنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ وَإِنْ طَلَّقَهَا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . يَبْقَى أَنْ يُقَالَ : هَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْفَوْرِ إذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا حِينَئِذٍ ؟ كَمَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأُطَلِّقَنَّهَا السَّاعَةَ وَلَمْ يُطَلِّقْهَا ؟ أَوْ لَا تَجِبُ إلَّا إذَا عَزَمَ عَلَى إمْسَاكِهَا ؟ أَوْ لَا تَجِبُ حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ كَاَلَّذِي يُخَيَّرُ

بَيْنَ فِرَاقِهَا وَإِمْسَاكِهَا لِعَيْبِ وَنَحْوِهِ وَكَالْمُعْتَقَةِ تَحْتَ عَبْدِهِ ؟ أَوْ لَا تَجِبُ بِحَالِ حَتَّى يَفُوتَ الطَّلَاقُ ؟ قِيلَ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ : فَثُلْثُ مَالِي صَدَقَةٌ أَوْ هَدْيٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَالْأَقْيَسُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِأَحَدِهِمَا كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْخِيَارِ .
فَصْلٌ :
مُوجَبُ " نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " عِنْدَنَا أَحَدُ شَيْئَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ إمَّا التَّكْفِيرُ وَإِمَّا فِعْلُ الْمُعَلَّقِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ مُوجَبَ اللَّفْظِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ صَدَقَةُ أَلْفٍ أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ صَوْمُ شَهْرٍ : هُوَ الْوُجُوبُ عِنْدَ الْفِعْلِ . فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذَا الْوُجُوبِ وَبَيْنَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ . فَإِذَا لَمْ يَلْتَزِمُ الْوُجُوبَ الْمُعَلَّقَ ثَبَتَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ . فَاللَّازِمُ لَهُ أَحَدُ الوجوبين ؛ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَابِتٌ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ الْآخَرِ ؛ كَمَا فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ . وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ عِتْقُ هَذَا الْعَبْدِ ؛ أَوْ تَطْلِيقُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ أَوْ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ أَوْ أَهْدِيَ . فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْعَبْدِ لِلْإِعْتَاقِ ؛ وَالْمَالِ لِلتَّصَدُّقِ وَالْبَدَنَةِ لِلْهَدْيِ . وَلَوْ أَنَّهُ نَجَّزَ ذَلِكَ فَقَالَ : هَذَا الْمَالُ صَدَقَةٌ وَهَذِهِ الْبَدَنَةُ هَدْيٌ وَعَلَيَّ عِتْقُ هَذَا الْعَبْدِ : فَهَلْ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ بِذَلِكَ ؟ أَوْ يَسْتَحِقُّ الْإِخْرَاجَ ؟ فِيهِ خِلَافٌ

وَهُوَ يُشْبِهُ قَوْلَهُ : هَذَا وَقْفٌ . فَأَمَّا إذَا قَالَ : هَذَا الْعَبْدُ حُرٌّ وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ طَالِقٌ . فَهُوَ إسْقَاطٌ ؛ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : ذِمَّةُ فُلَانٍ بَرِيئَةٌ مِنْ كَذَا أَوْ مِنْ دَمِ فُلَانٍ أَوْ مِنْ قَذْفِي فَإِنَّ إسْقَاطَ حَقِّ الدَّمِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ مِنْ بَابِ إسْقَاطِ حَقِّ الْمِلْكِ بِمِلْكِ الْبُضْعِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ . فَإِنْ قَالَ : إنْ فَعَلْت فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ أَوْ فَعَلَيَّ الْعِتْقُ أَوْ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ . وَقُلْنَا إنَّ مُوجَبَهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ وُقُوعِ ذَلِكَ وَبَيْنَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ كَمَا لَوْ قَالَ : فَهَذَا الْمَالُ صَدَقَةٌ أَوْ هَذِهِ الْبَدَنَةُ هَدْيٌ وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا لَوْ قَالَ : إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ أَوْ نِسَائِي طَوَالِقُ . وَقُلْنَا التَّخْيِيرُ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اخْتِيَارِهِ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْوُقُوعِ أَوْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ . وَمِثَالٌ ذَلِكَ أَيْضًا إذَا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ ؛ أَوْ أُخْتَانِ فَاخْتَارَ إحْدَاهُمَا . فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي تَكُونُ الْفُرْقَةُ أَحَدَ اللَّازِمَيْنِ : إمَّا فُرْقَةُ مُعَيَّنٍ أَوْ نَوْعُ الْفُرْقَةِ ؛ لَا يَحْتَاجُ إنْشَاءَ طَلَاقٍ ؛ لَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ الطَّلَاقُ إلَّا بِمَا يُوجِبُ تَعْيِينَهُ كَمَا فِي النَّظَائِرِ الْمَذْكُورَةِ . ثُمَّ إذَا اخْتَارَ الطَّلَاقَ فَهَلْ يَقَعُ مِنْ حِينِ الِاخْتِيَارِ ؟ أَوْ مِنْ حِينِ الْحِنْثِ ؟ يُخَرَّجُ عَلَى نَظِيرِ ذَلِكَ . فَلَوْ قَالَ فِي جِنْسِ مَسَائِلِ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ : اخْتَرْت

التَّكْفِيرَ أَوْ اخْتَرْت فِعْلَ الْمَنْذُورِ : هَلْ يَتَعَيَّنُ بِالْقَوْلِ ؟ أَوْ لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالْفِعْلِ ؟ إنْ كَانَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الوجوبين تَعَيَّنَ بِالْقَوْلِ كَمَا فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْإِنْشَاءِ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ لَمْ يَتَعَيَّنْ إلَّا بِالْفِعْلِ كَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْحُكْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ امْرَأَتِي طَالِقٌ أَوْ دَمِي هَدْرٌ أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ أَوْ بَدَنَتِي هَدْيٌ : تَعَيَّنَ الْحُكْمُ بِالْقَوْلِ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ الْفِعْلُ إلَّا بِالْفِعْلِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ :
جَلِيلُ الْقَدْرِ الْيَمِينُ الْمُتَضَمِّنَةُ حَضًّا أَوْ مَنْعًا لِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ ؛ لَأَفْعَلَنَّ وَلَا أَفْعَلُ . فِيهَا مَعْنَى الطَّلَبِ وَالْخَبَرِ ؛ وَكَذَلِكَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِخِلَافِ الْخَبَرِ الْمَحْضِ كَقَوْلِهِ { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَنْزِلَنَّ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا وَإِمَامًا مُقْسِطًا } أَوْ وَاَللَّهِ لَيَقْدَمَنَّ الرَّكْبُ . فَإِنَّ هَذَا إخْبَارٌ مَحْضٌ بِأَمْرِ سَيَكُونُ كَمَا يُخْبَرُ عَنْ الْمَاضِي بِمِثْلِ ذَلِكَ ؛ وَبِخِلَافِ الطَّلَبِ الْمَحْضِ ؛ كَقَوْلِهِ لِغَيْرِهِ : افْعَلْ أَوْ بِاَللَّهِ افْعَلْ وَنَحْوَ ذَلِكَ . إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إلَّا مُجَرَّدُ الطَّلَبِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيُطِيعُهُ أَمْ يَعْصِيهِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَحْسُنُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي هَذَا الضَّرْبِ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ لِعَدَمِ الْمُخَالَفَةِ

فَإِنَّهُ طَلَبٌ مَحْضٌ مُؤَكَّدٌ بِاَللَّهِ كَقَوْلِهِ : سَأَلْتُك بِاَللَّهِ إلَّا مَا فَعَلْت أَوْ سَأَلْتُك بِاَللَّهِ لَا تَفْعَلْ . فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَخْصُوصُ أَوْ الْمَمْنُوعُ مِمَّنْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ مُوَافَقَتُهُ لَهُ - كَعَبْدِهِ وَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ - فَهُوَ كَنَفْسِهِ فِيهَا مَعْنَى الطَّلَبِ وَالْخَبَرِ ؛ فَإِنَّهُ لِكَوْنِهِ مُطِيعًا لَهُ فِي الْعَادَةِ جَرَى مَجْرَى طَاعَةِ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ فَطَلَبَ الْفِعْلَ مِنْهُمَا طَلَبًا قَرَنَهُ بِالْإِخْبَارِ عَنْ كَوْنِهِ . فَقَوْلُهُ : لَأَقُومَنَّ غَدًا . يَتَضَمَّنُ أَمْرَيْنِ " أَحَدَهُمَا " أَنِّي مُرِيدٌ الْقِيَامَ غَدًا . و " الثَّانِي " سَيَكُونُ الْقِيَامُ غَدًا ؛ بِخِلَافِ الْقَسَمِ الْخَبَرِيِّ الْمَحْضِ فَإِنَّهُ بِمَعْنَى سَيَكُونُ وَبِخِلَافِ الْقَسَمِ الطَّلَبِيِّ الْمَحْضِ فَإِنَّهُ بِمَعْنَى أُرِيدُ مِنْك وَأَطْلُبُ مِنْك أَنْ تَقُومَ وَالْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ لَمْ يَجِئْ لِمُخَالَفَةِ الْمَطْلُوبِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الطَّلَبِ الْمَحْضِ وَإِنَّمَا جَاءَ لِمُخَالَفَةِ الْخَبَرِ كَمَا لَوْ كَانَ خَبَرًا مَحْضًا عَنْ مُسْتَقْبَلٍ وَالِاسْتِثْنَاءُ يُعَلِّقُ الْفِعْلَ بِالْمَشِيئَةِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى لَيَكُونَنَّ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ لَمْ يَكُنْ مُخْبِرًا بِكَوْنِهِ فَلَا مُخَالَفَةَ فَلَا حِنْثَ ؛ وَلِهَذَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ " فَالْخَبَرُ الْمَحْضُ " كَقَوْلِهِ : " لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً فَلَتَأْتِيَنَّ كُلُّ امْرَأَةٍ بِفَارِسِ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " وَالْوِلَادَةُ لَيْسَتْ مِنْ فِعْلِهِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ وَكَمَا تَقُولُ : وَاَللَّهِ لَيَجِيءُ زَيْدٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ . فَصَارَ لِقَائِلِ : لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ " ثَلَاثُ نِيَّاتٍ "

" تَارَةً " يَكُونُ غَرَضُهُ تَعْلِيقُ الْإِرَادَةِ وَالْمَعْنَى إنْ شَاءَ اللَّهُ كُنْت السَّاعَةَ مُرِيدًا لَهُ وَطَالِبًا ؛ وَإِلَّا فَلَا . فَهَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا وَلَا تَرْتَفِعُ الْكَفَّارَةُ بِهَذَا وَحْدَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : أَنْت طَالِقٌ إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ شِئْت إنْ شِئْت . أَنَّ الْمَشِيئَةَ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا فَكَذَا هَذَا . فَمَتَى قَالَ هَذَا لَمْ تَكُنْ إرَادَتُهُ حَاصِلَةً فَهَذَا مِثْلُ الَّذِي يُطْلَبُ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَقُولُ : أُعْطِيك إنْ شَاءَ اللَّهُ . فَلَا وَعْدَ لَهُ وَإِذَا نَوَى هَذَا فِي الْيَمِينِ صَحَّ لَكِنْ لَا يَرْفَعُ الْكَفَّارَةَ ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الطَّلَبِ لَمْ تُوجِبْ الْكَفَّارَةَ وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ مُخَالَفَةُ الْخَبَرِ فَلَوْ كَانَ خَبَرًا لَا طَلَبَ مَعَهُ غَيْرَ تَعْلِيقٍ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ . فَأَكْثَرَ مَا فِي هَذَا انْتِفَاءُ الطَّلَبِ وَالْحَضِّ مِنْ الْيَمِينِ . " الثَّانِي " أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُ تَعْلِيقَ الْإِخْبَارِ . وَالْمَعْنَى أَنَّ قِيَامِي كَائِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ أَنَّ قِيَامَك كَائِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَأَنَا مُخْبِرٌ بِوُقُوعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وُقُوعَهُ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ فَلَا أُخْبِرُ بِهِ . وَإِذَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ فَلَا مُخَالَفَةَ فَلَا حِنْثَ وَإِنْ كُنْت مُرِيدًا لَهُ السَّاعَةَ جَزْمًا فَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَرْفَعُ الْكَفَّارَةَ فَكَأَنَّهُ قَالَ : أَنَا شَاكٌّ فِي الْوُقُوعِ فَلَسْت أُخْبِرُ بِوُقُوعِهِ جَزْمًا وَإِنَّمَا أُخْبِرُ بِوُقُوعِهِ عِنْدَ هَذِهِ الصِّفَةِ . كَقَوْلِهِ : لَأَقُومَنَّ إنْ قَدِمَ زَيْدٌ وَإِنْ أَعْطَيْتنِي مِائَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهُوَ وَعْدٌ أَوْ وَعِيدٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ وَإِنْ كَانَ الْوَاعِدُ أَوْ الْمُتَوَاعِدُ مُرِيدًا فِي الْحَالِ لِإِنْفَاذِهِ ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ قَوْلَهُ : لَأَصُومَنَّ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ رَمَضَانَ لَا يَقْدَحُ ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ عَادَ إلَى الْإِخْبَارِ لَا إلَى الْإِرَادَةِ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ

مَنْ قَالَ : هَذَا يَقْدَحُ فِي إرَادَتِهِ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّهُ إذَا نَوَى عَوْدَ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى طَلَبِهِ وَإِرَادَتِهِ نَفَعَهُ فِي الْكَفَّارَةِ أَوْ لَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِهَذَا الشَّرْطِ . وَعَلَى خَاطِرِي هُنَا قَوْلٌ لَا أَسْتَثْبِتُهُ . " الثَّالِثُ " أَنْ لَا يَكُونَ غَرَضُهُ تَعْلِيقَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ جَازِمٌ بِإِرَادَتِهِ وَجَازِمٌ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ كَمَا لَوْ كَانَ خَبَرًا مَحْضًا مِثْلُ قَوْلِهِ : لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ وَلَيَخْرُجَنَّ الدَّجَّالُ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ . وَهَذِهِ أَيْمَانٌ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِنَوْعِ مِنْهَا كَقَوْلِهِ : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبِّي } فَهَذَا مَاضٍ وَحَاضِرٌ وَقَالَ : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } وَقَالَ : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى وُقُوعِ إتْيَانِ السَّاعَةِ وَبَعْثِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ وَهُمَا مُسْتَقِلَّانِ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ وَهَذَا { كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرِ : لَآتِيَنَّهُ وَلَأَطُوفَنَّ بِهِ } فَهُنَا إذَا قَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ لَا يَكُونُ غَرَضُهُ تَعْلِيقَ الْإِخْبَارِ وَإِنَّمَا غَرَضُهُ تَحْقِيقُهُ كَقَوْلِهِ : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ } فَإِنَّ هَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ ؛ إذْ الْحَوَادِثُ كُلُّهَا لَا تَكُونُ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ مِثْلَ مَا لَوْ قَالَ : لَيَكُونَنَّ إنْ اتَّفَقَتْ أَسْبَابُ كَوْنِهِ . وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَإِنْ اتَّفَقَتْ أَسْبَابُ كَوْنِهِ كَانَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُخْبِرًا لَهُمْ بِذَلِكَ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِمَا لَا يُفِيدُ .

فَهَذَا إذَا نَوَاهُ هَلْ يَرْفَعُ الْكَفَّارَةَ ؟ فَبِالنَّظَرِ إلَى قَصْدِهِ وَجَزْمِهِ فِي الْخَبَرِ قَدْ حَصَلَتْ الْمُخَالَفَةُ وَبِالنَّظَرِ إلَى لَفْظِهِ وَأَنَّهُ إنَّمَا جَزَمَ بِمَشْرُوطِ لَا بِمُطْلَقِ لَمْ تَقَعْ الْمُخَالَفَةُ ؛ وَإِنْ أَخْطَأَ اعْتِقَادُهُ كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى مَنْ يَظُنُّهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ الْمَاضِي بِمُوجَبِ اعْتِقَادِهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا تَعَمَّدَ الْكَذِبَ . وَكَذَلِكَ هَذَا لَمْ يَتَأَلَّ عَلَى اللَّهِ ؛ لَكِنْ يُقَالُ : كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشُكَّ فَلَمَّا تَأَلَّى عَلَى اللَّهِ وَأَكَّدَ الْمَشِيئَةَ قَاصِدًا بِهَا تَحْقِيقَ جَزْمِهِ بِالْإِخْبَارِ صَارَ وَجُودُهَا زَائِدًا لَهُ فِي التَّأَلِّي لَا مُعَلَّقًا . فَقَدْ يُقَالُ فِي مُعَارَضَةِ هَذَا : الْجَزْمِ يُرْجَعُ إلَى اعْتِقَادِهِ ؛ لَا إلَى كَلَامِهِ وَأَمَّا كَلَامُهُ فَلَمْ يَتَأَلَّ فِيهِ عَلَى اللَّهِ ؛ بَلْ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا يَكُونُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَالَ مَعَ ذَلِكَ : أَنَا مُعْتَقِدٌ أَنَّهُ يَكُونُ جَازِمًا بِهِ . فَالْكَفَّارَةُ وَجَبَتْ لِمُخَالَفَةِ خَبَرِي مُخْبَرِهِ أَوْ لِمُخَالَفَةِ اعْتِقَادِي مُعْتَقَدِهِ ؟ إنَّمَا وَجَبَتْ لِمُخَالَفَةِ الْخَبَرِ فَإِنِّي لَوْ قُلْت إنِّي أَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا يَكُونُ وَأَنَا جَازِمٌ بِاعْتِقَادِي لَمْ يَكُنْ عَلَيَّ حِنْثٌ إذَا لَمْ يَكُنْ . وَمَعْنَى كَلَامِي أَنِّي جَازِمٌ بِأَنَّ هَذَا سَيَكُونُ وَأُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ يَكُونُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَعَلَّقْت لَكُمْ إخْبَارِي لَا اعْتِقَادِي وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِي إنْ شَاءَ اللَّهُ فَائِدَةٌ ؛ إذْ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى أَنِّي جَازِمٌ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ أَكُنْ جَازِمًا مُطْلَقًا . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ اعْتِقَادِي وَإِخْبَارِي إنْ شَاءَ اللَّهُ كَانَ هُوَ الْقَسَمَ الْأَوَّلَ ؛ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ اعْتِقَادِي ثَابِتٌ بِهِ وَإِخْبَارِي لَكُمْ مُعَلَّقٌ بِهِ عَلَّقْته بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يُخْبِرَ بالمستقبلات إلَّا مُعَلِّقًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ . فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ .

وَبِهَذَا التَّقْسِيمِ يَظْهَرُ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنْ نَوَى بِالِاسْتِثْنَاءِ مَعْنَى قَوْلِهِ { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا } { إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } فَإِنَّ الرَّجُلَ مَأْمُورٌ أَنْ لَا يَقُولَ لَأَفْعَلَنَّهُ غَدًا إلَّا أَنْ يَقُولَ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا الْبَحْثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الرَّافِعَ لِلْكَفَّارَةِ إنَّمَا يُعَلِّقُ مَا فِي الْيَمِينِ مِنْ مَعْنَى الْخَبَرِ الْمَحْضِ أَوْ الْمَشُوبِ ؛ لَا يُعَلِّقُ مَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الطَّلَبِ الْمَحْضِ أَوْ الْمَشُوبِ ؛ إذْ مُخَالَفَةُ الطَّلَبِ لَا تُوجِبُ كَفَّارَةً وَإِنَّمَا يُوجِبُهَا مُخَالَفَةُ الْخَبَرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّفْعَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ فِي الْمَشِيئَةِ تَعْلِيقٌ وَالتَّعْلِيقُ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا لَمْ يَقَعْ ؛ بِخِلَافِ مَا قَدْ وَقَعَ . وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَرْفَعُ الْإِنْشَاءَاتِ بِأَسْرِهَا لَا الطَّلَاقَ وَلَا غَيْرَهُ كَمَا لَا يَرْفَعُ مُوجَبَ الطَّلَبِ . وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ هَذِهِ أَنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ الْمُغَلَّبُ عَلَيْهَا حُكْمُ الْإِنْشَاءَاتِ ؛ لِامْتِنَاعِ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهَا وَأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهَا بِأَسْرِهَا اسْتِثْنَاءُ تَحْقِيقٌ ؛ لَا تَعْلِيقٍ كَقَوْلِهِ : كَانَ هَذَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَكَانَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ . وَيُخَرَّجُ مِنْ هَذَا " الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْأَيْمَانِ " إنْ عَادَ إلَى الْمُوَافَاةِ فَعَلَى بَابِهِ ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الِاسْمِ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَخَالَفَهُ فِيهِ صَاحِبُ مُعَاذٍ بِتَأْوِيلِ صَحِيحٍ وَتَرْكُهُ جَائِزٌ . وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ أَحْسَنَ

مِنْ تَرْكِهِ . وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ أَحْمَد فِي . . . (1) وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَوْجَبَهُ كَمَا أَنَّ الْمُرْجِئَةَ تَحْظُرُهُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَدْ يَرَى تَرْكَهُ أَحْسَنَ . فَالْإِقْسَامُ فِيهِ : إمَّا وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ أَوْ مَمْنُوعٌ . حَظْرًا أَوْ كَرَاهَةً أَوْ مَسْنُونًا أَوْ مُسْتَوِي الْحَالَتَيْنِ . وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْيَمِينِ يَظْهَرُ مَعْنَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مِنْ جَوَازِ نَسْخِ ذَلِكَ أَوْ الْخَلْفِ فِيهِ ؛ فَإِنَّ مَنْ رَآهُمَا خَبَرًا : قَالَ النَّسْخُ يَقْتَضِي الْكَذِبَ وَالْآخَرُ يَقُولُ هُوَ خَبَرٌ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الطَّلَبِ . فَإِذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت هَذَا ضَرَبْتُك . تَضَمَّنَ إنِّي مُرِيدٌ السَّاعَةَ لِضَرْبِك إذَا فَعَلْته وَمُخْبِرُك بِهِ ؛ فَلَيْسَ هُوَ خَبَرًا مَحْضًا فَيَكُونُ النَّسْخُ عَائِدًا إلَى مَا فِيهِ مِنْ الطَّلَبِ تَغْلِيبًا لِلطَّلَبِ عَلَى الْخَبَرِ كَمَا أَنَّهُ فِي بَابِ الْمَشِيئَةِ وَالْكَفَّارَةِ غَلَبَ الْخَبَرُ عَلَى الطَّلَبِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا تَضَمَّنَ مَعْنَيَانِ فَقَدْ يَغْلِبُ أَحَدُهُمَا بِحَسَبِ الضمائم ؛ وَلِهَذَا فَرَّقَ فِي الْخَلْفِ بَيْنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لِأَنَّ الْوَاعِدَ لَمَّا تَضَمَّنَ كَلَامُهُ طَلَبَ الْخَبَرِ الْمَوْعُودِ بِهِ مِنْ نَفْسِهِ فِي مَعْرِضِ الْمُقَابَلَةِ صَارَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْتِزَامِهِ الْأَعْوَاضَ مِنْ الْعُقُودِ ؛ فَإِنَّهُ أَمْرٌ وَجَبَ لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ وَالْمُتَوَعِّدُ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ طَلَبَ الشَّرِّ الْمُتَوَعَّدِ بِهِ فِي مَعْرِضِ الْمُقَابَلَةِ بِمَنْزِلَةِ إلْزَامِهِ لِغَيْرِهِ عِوَضًا إذَا بَذَلَ هُوَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَمَا وَجَبَ لَهُ عَلَى الْغَيْرِ فَلَهُ الْتِزَامُهُ وَلَهُ تَرْكُ الْتِزَامِهِ .

فَقَوْلُك : بِعْتُك هَذَا بِأَلْفِ . فِي مَعْنَى الْمُوَاعِدِ بِالْأَلْفِ عِنْدَ حُصُولِ الْمَبِيعِ وَفِي مَعْنَى الْمُطَالِبِ بِالْمَبِيعِ عِنْدَ بَذْلِ الْأَلْفِ . فَمُطَالَبَتُهُ بِالْوَعِيدِ الَّذِي هُوَ الْعُقُوبَةُ لَيْسَ بِأَحْسَنَ حَالًا مِنْ مُطَالَبَتِهِ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ ؛ فَإِنَّ أَخْذَ الْحُقُوقِ مِنْ النَّاسِ فِيهَا شَوْبُ الْأَلَمِ فَلَا يَخْلُصُ مِنْ نَوْعِ عُقُوبَةٍ وَإِنْ لَمْ تُسَمَّ بِهَا فَإِنَّمَا الْغَرَضُ تَمْثِيلُ هَذَا بِهَذَا فِيمَا يَجِبُ لِلْمُتَكَلِّمِ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَإِنْ تَضَمَّنَا خَبَرًا فَهُمَا مُتَضَمِّنَيْنِ طَلَبًا صَيَّرَهُمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْشَاءِ الَّذِي وَإِنْ كَانَ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الْخَبَرِ عَنْ الْمَاضِي فَهُوَ إنْشَاءٌ لِأَمْرِ حَاضِرٍ . وَهَذَانِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُمَا لَفْظَ الْخَبَرِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ فَهُمَا إنْشَاءٌ لِلْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ فَإِذَا كَانَ وَعْدٌ وَجَبَ فَسُمِّيَ خَلْفُهُ كَذِبًا كَمَا قَالَ لِمَنْ قَالَ : { لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا } { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } وَإِذَا كَانَ وَعِيدًا لَمْ يَجِبْ إنْفَاذُهُ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى بَيَانِ الِاسْتِحْقَاقِ . وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ نَسْخُ الْوَعِيدِ كَمَا ذَكَرَهُ السَّلَفُ فِي قَوْلِهِ : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } وَأَمَّا الْوَعْدُ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا يَجُوزُ نَسْخُهُ لِأَنَّهُ مُوجَبُ الْمَشْرُوطِ . وَأَمَّا قَبْلَ الْعَمَلِ فَيَتَوَجَّهُ جَوَازُ نَسْخِهِ كَفَسْخِ التَّعْلِيقَاتِ الْجَائِزَةِ غَيْرِ اللَّازِمَةِ مِنْ الْجَعَالَةِ وَنَحْوِهَا ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : مَنْ رَدَّ عَبْدِي الْآبِقِ فَلَهُ دِرْهَمٌ . فَلَهُ فَسْخُ ذَلِكَ قَبْلَ الْعَمَلِ . وَالْفَسْخُ كَالنَّسْخِ . هَذَا فَسْخٌ لِإِنْشَاءَاتِ هِيَ الْعُقُودُ الْمُتَضَمِّنَةُ الْتِزَامَ إرَادَةٍ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ وَهَذَا فَسْخٌ لِطَلَبِ أَيْضًا . وَكَمَا أَنَّ الْمُتَصَوَّرَ فِي الْفَسْخِ أَنَّهُ رَفْعُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الطَّلَبُ أَوْ الْإِذْنُ

فَالْفَسْخُ رَفْعُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْإِرَادَةُ أَوْ الْإِبَاحَةُ وَكَذَلِكَ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ رَفْعُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ إرَادَةُ الْإِعْطَاءِ أَوْ الْإِبَاحَةِ . فَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا كَانَ لِأَنَّ مِنْ الْكَلَامِ مَا تَضَمَّنَ مَعْنَى الطَّلَبِ وَالْخَبَرِ وَهُوَ الْأَيْمَانُ وَالنُّذُورُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالْعُقُودُ . فَهَذَا " الْقِسْمُ الثَّالِثُ " الْمُرَكَّبُ هُوَ الَّذِي اضْطَرَبَ النَّاسُ فِي أَحْكَامِهِ وَلِهَذَا قَسَّمَ بَعْضُهُمْ الْكَلَامَ إلَى خَبَرٍ وَإِنْشَاءٍ لِيَكُونَ الْإِنْشَاءُ أَعَمَّ مِنْ الطَّلَبِ ؛ لِأَنَّهُ يُنْشِئُ طَلَبًا وَإِذْنًا وَمَا ثَمَّ غَيْرُ الطَّلَبِ وَالْإِذْنِ ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَطْلُبَ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وُجُودًا أَوْ عَدَمًا . وَقَدْ يُقَالُ : الْإِذْنُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الطَّلَبِ ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْ نَفْسِهِ تَمْكِينَ الْمَأْذُونِ لَهُ كَمَا أَنَّ الِالْتِزَامَ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الطَّلَبِ لِأَنَّهُ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ حَقًّا يَطْلُبُهُ الْمُسْتَحِقُّ وُجُوبًا وَهُنَاكَ جَعَلَهُ لَهُ مُبَاحًا . فَهَذَا هَذَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : فَيَعُودُ الْأَمْرُ إلَى طَلَبٍ أَوْ خَبَرٍ ؛ أَوْ مُرَكَّبٍ مِنْهُمَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
فَصْلٌ :
وَبِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَصْلِ تَظْهَرُ مَسْأَلَةُ " الِاسْتِثْنَاءِ فِي الظِّهَارِ " فَإِنَّ قَوْلَهُ أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ . وَأَنْت عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي . قَالَ أَحْمَد : يَصِحُّ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ ؛ لِأَنَّ مُوجَبَهُ الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ بِالْعَوْدِ . وَأَصْلُ أَحْمَد : أَنَّ كُلَّ مَا شُرِعَتْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ شُرِعَ فِيهِ الْيَمِينُ وَإِلَّا فَلَا .

وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْهُمْ ابْنُ بَطَّةَ والعكبري وَابْنُ عَقِيلٍ : لَا يَصِحُّ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ بِمَنْزِلَةِ التَّطْلِيقِ وَالْإِعْتَاقِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ جُمْلَتَيْنِ كَالْقَسَمِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ كَسَائِرِ الْإِنْشَاءَاتِ ؛ فَقَوْلُهُ : أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ كَقَوْلِهِ : أَنْت طَالِقٌ . لَيْسَ هُنَا فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ يُعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : لَأَخْرُجَنَّ . وَهَذَا فِي بَادِئِ الرَّأْيِ أَقْوَى لِلْمُشَابَهَةِ الصُّورِيَّةِ . لَكِنَّ قَوْلَ أَحْمَد أَفْقَهُ وَأَدْخَلُ فِي الْمَعْنَى . وَإِنَّمَا هُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَدَّ نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ كَنَذْرِ التَّبَرُّرِ ؛ لِلِاسْتِوَاءِ فِي الصُّورَةِ اللَّفْظِيَّةِ . وَمَنْ عَدَّهُ يَمِينًا لِمُشَابَهَةِ الْيَمِينِ فِي مَعْنَى وَصْفِهَا وَهُوَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَمَنْ أَعْطَاهُ حُكْمَهُمَا لِجَمْعِهِ مَعْنَاهُمَا . فَإِنَّ نِصْفَهُ يُشْبِهُ الْيَمِينَ فِي الْمَعْنَى وَنِصْفَهُ يُشْبِهُ النَّذْرَ . وَلِهَذَا سَائِرُ الْأَلْفَاظِ الْمُعَلَّقِ بِهَا الْأَحْكَامُ قَدْ يَنْظُرُ نَاظِرٌ إلَى صُورَتِهَا وَآخَرُ إلَى مَعْنَاهَا وَآخَرُ إلَيْهِمَا مَعًا كَمَا فِي قَوْلِهِ لَأَفْعَلَنَّ . الصُّورَةُ صُورَةُ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى قَدْ يَكُونُ خَبَرًا وَقَدْ يَكُونُ طَلَبًا وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ . فَقَوْلُهُ : أَنْت عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي . كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إنْشَاءً مَحْضًا لِلتَّحْرِيمِ وَالتَّحْرِيمُ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الطَّلَاقِ فَكَانَ عِنْدَهُمْ طَلَاقًا عَلَى مُوجَبِ ظَاهِرِ لَفْظِهِ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَسْتَلْزِمُ التَّحْرِيمَ . فَجَعَلُوا اللَّازِمَ دَلِيلًا عَلَى الْمَلْزُومِ فَأَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ فَإِنَّ الْحَلَالَ لَا يَكُونُ كَالْحَرَامِ الْمُؤَبَّدِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ طَلَاقًا وَإِنْ عُنِيَ بِهِ الطَّلَاقُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْمَعْنَى الْفَاسِدِ وَهُوَ الْمُشَابَهَةُ

الْمُحَرَّمَةُ ؛ فَصَارَ كَقَوْلِهِ : أَنْت يَهُودِيَّةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ . إذَا عَنَى بِهِ الطَّلَاقَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْكُفْرِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُثْبِتَهُ فِيهَا . أَوْ أَنْت أَتَانٌ أَوْ نَاقَةٌ أَوْ أَنْت عَلَيَّ كَالْأَتَانِ وَالنَّاقَةِ . وَمِنْ هُنَا قَالَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ إنَّ قَوْلَهُ : أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ . أَيْضًا يَمِينٌ لَيْسَ بِطَلَاقِ وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يَمِينٌ مُغَلَّظَةٌ كَالظِّهَارِ . وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد . فَصَارَ قَوْلُهُ أَنْت عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي . بِمَنْزِلَةِ لَا أَقْرَبَنَّك ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْمُشَابَهَةِ لِلْأُمِّ يَقْتَضِي امْتِنَاعَهُ عَنْ وَطْئِهَا وَيَقْتَضِي رَفْعَ الْعَقْدِ . فَأَبْطَلَ الشَّارِعُ رَفْعَ الْعَقْدِ لِأَنَّ هَذَا إلَى الشَّارِعِ ؛ لَا إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْعُقُودَ والفسوخ أثبات اللَّهِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِإِذْنِ الشَّارِعِ وَأَثْبَتَ امْتِنَاعَهُ مِنْ الْفِعْلِ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَطْءِ وَتَرْكَهُ إلَيْهِ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ فَلَمَّا صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : لَا يَنْبَغِي مِنِّي وَطْؤُك . فَهَذَا مَعْنَى الْيَمِينِ ؛ لَكِنَّهُ جَعَلَهُ يَمِينًا كُبْرَى لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ لِأَنَّ تِلْكَ الْيَمِينَ شُرِعَ الْحَلِفُ بِهَا فَلَمْ يَعْصِ فِي عَقْدِهَا وَهَذِهِ الْيَمِينُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ تَرْكُهَا وَاجِبٌ فَكَانَتْ الْكَفَّارَةُ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ . وَلِهَذَا كَانَتْ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ لَا تُوجِبُ تَحْرِيمَ الْفِعْلِ إلَى التَّكْفِيرِ وَهَذِهِ الْيَمِينُ تُوجِبُ تَحْرِيمَ الْحِنْثِ إلَى التَّكْفِيرِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْنَثَ فِيهَا حَتَّى يُحِلَّهَا وَوَجَبَتْ فِيهَا الْكَفَّارَةُ الْكُبْرَى . وَكَوْنُهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً لَا يَمْتَنِعُ انْدِرَاجُهَا فِي اسْمِ الْيَمِينِ كَلَفْظِ النَّذْرِ هُوَ يَمِينٌ وَجُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِمَا تَضَمَّنَ عَهْدًا

وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ كُلَّ تَحْرِيمٍ " يَمِينًا " بِقَوْلِهِ : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } - إلَى قَوْلِهِ - { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } كَمَا سَمَّى الصَّحَابَةُ نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " يَمِينًا " وَهُوَ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ ؛ نَظَرًا إلَى الْمَعْنَى . يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الظِّهَارَ لَوْ كَانَ إنْشَاءً مَحْضًا لَأُوجِبَ حُكْمُهُ ؛ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ كَفَّارَةٌ ؛ إذْ الْكَفَّارَةُ لَا تَكُونُ لِرَفْعِ عَقْدٍ أَوْ فَسْخٍ ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ لِرَفْعِ إثْمِ الْمُخَالَفَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا عَقْدُهُ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنْ عَقْدِ الْيَمِينِ وَعَقْدِ الظِّهَارِ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ إلَّا إذَا وُجِدْت الْمُخَالَفَةُ عُلِمَ أَنَّهُ يَمِينٌ . وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ يُوجِبُ لَفْظُ الظِّهَارِ تَرْكَ الْعَقْدِ فَإِذَا أَمْسَكَهَا مِقْدَارَ مَا يُمْكِنُهُ إزَالَتُهُ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ . وَأَمَّا أَحْمَد وَالْجُمْهُورُ فَعِنْدَهُمْ يُوجِبُ لَفْظُهُ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْوَطْءِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ حَرَامًا فَالْكَفَّارَةُ تَرْفَعُ هَذَا التَّحْرِيمَ فَلَا يَجُوزُ الْوَطْءُ قَبْلَ ارْتِفَاعِهِ . وَكَذَلِكَ يَقُولُ أَحْمَد فِي قَوْله : أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ . أَنَّ مُوجَبَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْوَطْءِ عَلَى جِهَةِ التَّحْرِيمِ ؛ لَكِنَّ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا يَقُولُ : إنَّهُ فِي الظِّهَارِ مَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُعْطِيَ اللَّفْظَ ظَاهِرَهُ ؛ فَإِنَّهُ لَا تَصِيرُ مِثْلَ أُمِّهِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ فَاقْتَصَرَ بِهِ عَلَى بَعْضِهِ وَهُوَ تَرْكُ الْوَطْءِ ؛ دُونَ تَرْكِ الْعَقْدِ كَمَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ .

وَلَفْظُ الْحَرَامِ يُمْكِنُ إثْبَاتُ مُوجَبِهِ . وَقَدْ يَقُولُ أَحْمَد : إنَّ الْحَرَامَ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ مُوجَبِهِ ؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَ الْعَيْنِ لَا يَثْبُتُ أَبَدًا وَالتَّحْرِيمُ الْعَارِضُ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ شَبِيهٍ ؛ إذْ لَيْسَ هُوَ الْمَفْهُومَ مِنْ مُطْلَقِ التَّحْرِيمِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ تَحْرِيمٌ مُقَيَّدٌ فَاسْتُعْمِلَ بَعْضُ مُوجَبِ اللَّفْظِ وَهُوَ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ وَطْءٌ وَلِأَنَّ التَّحْرِيمَ الْمُضَافَ إلَى الْعَيْنِ إنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْفِعْلُ فَكَأَنَّهُ [ قَالَ ] (1) وَطْؤُك حَرَامٌ . وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا أَطَؤُك . فَكَمَا أَنَّ الْإِيلَاءَ لَا يَكُونُ طَلَاقًا وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ فَكَذَلِكَ التَّحْرِيمُ ؛ إذْ الْإِيلَاءُ نَوْعٌ مِنْ الْأَيْمَانِ القسمية وَالظِّهَارَ نَوْعٌ مِنْ الْأَيْمَانِ التحريمية . وَالْبَحْثُ فِيهِ يَتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ : نَضَعُهُ عَلَى أَدْنَى دَرَجَاتِ التَّحْرِيمِ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ فَلَا تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ إلَّا بِسَبَبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : أَنْت طَالِقٌ . لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً ؛ وَكَمَا اُكْتُفِيَ فِي التَّشْبِيهِ بِالتَّحْرِيمِ . أَمَّا إذَا نَوَى الطَّلَاقَ فَيُقَالُ : وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ بِالظِّهَارِ .
فَصْلٌ :
وَيَتَّصِلُ بِهَذَا " إذَا حَلَفَ بِالظِّهَارِ أَوْ بِالْحَرَامِ " عَلَى حَظٍّ أَوْ مَنْعٍ كَقَوْلِهِ إنْ فَعَلْت هَذَا فَأَنْت عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ حَرَامٌ ؛ أَوْ الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي أَوْ الظِّهَارُ لَا أَفْعَلُهُ أَوْ لَأَفْعَلَنَّهُ . فَهَذَا أَصْحَابُنَا فِيهِ إذَا حَنِثَ بِالظِّهَارِ كَمَا أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ ؛ وَلِهَذَا قَالُوا فِي أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ : مِنْهَا الظِّهَارُ .

وَكُنْت أُفْتِي بِهَذَا تَقْلِيدًا ؛ وَلِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحُجَّةِ مِنْ أَنَّهُ حُكْمٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ كَمَا لَوْ قَالَ : إنْ فَعَلْت هَذَا فَأَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ . عُقُوبَةً لَهَا عَلَى فِعْلِهِ . وَأَفْتَيْت بَعْدَ هَذَا أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ عَدَمَ الْفِعْلِ وَعَدَمَ التَّحْرِيمِ كَمَا قُلْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ " نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " وَكَمَا قُلْنَاهُ فِي قَوْلِهِ : هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا وَقَوْلِهِ : هُوَ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ وَالْمَيْتَةَ إنْ فَعَلَ كَذَا . فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ الْحُكْمَ عِنْدَ الشَّرْطِ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ الِامْتِنَاعُ مِنْ فِعْلٍ ؛ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ فَعَلَ كَذَا ؛ وَلَيْسَ غَرَضُهُ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ عِنْدَ الْفِعْلِ ؛ وَإِنَّمَا غَرَضُهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْفِعْلِ وَذِكْرُ الْتِزَامِ ذَلِكَ تَقْدِيرًا تَحْقِيقًا لِلْمَنْعِ كَمَا ذُكِرَ الْتِزَامُ التَّهَوُّدِ وَالتَّنَصُّرِ تَقْدِيرًا كَمَا أَنَّهُ مَعْنَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ هَتَكْت حُرْمَةَ الْأَيْمَانِ بِاَللَّهِ إنْ فَعَلْت هَذَا أَوْ نَقَصْت حُرْمَةَ اللَّهِ أَوْ اسْتَخْفَفْت بِحُرْمَةِ اللَّهِ إنْ فَعَلْت . وَمُوجَبُ الْأَيْمَانِ كُلِّهَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ الْوَفَاءُ وَأَنَّهُ مَتَى حَنِثَ فَقَدْ هَتَكَ أَيْمَانَهُ وَأَنَّهُ تَهَوَّدَ وَتَنَصَّرَ كَمَا أَنَّ مُوجَبَ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ مِنْ اللَّفْظِ وُجُوبُ الْوَفَاءِ ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطِ يَجِبُ عِنْدَ وُجُودِهِ وَالْحَالِفُ بِشَيْءِ عَلَى فِعْلٍ قَدْ الْتَزَمَ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَجَعَلَهُ مُعَلَّقًا بِمُعَظَّمِهِ الْمَحْلُوفِ بِهِ . فَمَتَى لَمْ يَفْعَلْهُ فَقَدْ هَتَكَ تِلْكَ الْحُرْمَةَ .

وَقَوْلُهُ : أَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَوْ بِكَذَا . فِي مَعْنَى قَوْلِهِ أَعْقِدُهُ بِهِ وَأُلْصِقُهُ بِهِ ؛ وَلِهَذَا يُسَمَّى الْمُصَاحِبُ " حَلِيفًا " كَمَا كَانَ يُقَالُ لِعُثْمَانِ : " حَلِيفُ الْمِحْرَابِ " وَعِلَّتُهُ لَا يَتَخَلَّفُ ؛ وَلِهَذَا قِيلَ : إنَّ الْبَاءَ لِإِلْصَاقِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِالْمَحْلُوفِ بِهِ ؛ وَإِنَّمَا أَتَى بِلَامِ الْقَسَمِ تَوْكِيدًا ثَانِيًا كَأَنَّهُ قَالَ : أُلْصِقُ وَأَعْتَقِدُ بِاَللَّهِ مَضْمُونَ قَوْلِي لَأَفْعَلَنَّ . وَلِهَذَا سُمِّيَ التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ " تَحِلَّةً " لِأَنَّهُ يَحِلُّ هَذَا الْعَقْدَ الَّذِي عُقِدَ بِالْمَحْلُوفِ بِهِ مِثْلَ فَسْخِ الْبَيْعِ الَّذِي يَحِلُّ مَا بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مِنْ الِانْعِقَادِ . فَالشَّارِعُ جَعَلَ الْأَيْمَانَ مِنْ بَابِ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ بِهَذَا الْبَدَلِ ؛ لَا مِنْ اللَّازِمَةِ مُطْلَقًا كَمَا كَانَ الْعَقْدُ بَيْنَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَحْلُوفِ بِهِ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ سَوَّغَ سُبْحَانَهُ لِعَبْدِهِ أَنْ يَحِلَّ هَذَا الْعَقْدَ الَّذِي عُقِدَ لِي وَبِي بِالْكَفَّارَةِ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ وَقُرْبَةٌ وَكَانَ الْعَبْدُ مُخَيَّرًا بَيْنَ تَمَامِ عَقْدِهِ وَبَيْنَ حَلِّهِ بِالْبَدَلِ الْمَشْرُوعِ ؛ إذْ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي عَقَدَ هَذَا الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ كَمَا كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مُخَيَّرِينَ بَيْنَ الصِّيَامِ الَّذِي أَوْجَبَهُ وَبَيْنَ تَرْكِهِ بِالْكَفَّارَةِ وَكَمَا أَنَّ الْمُعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إذَا أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُنْشِئَ لِلْحَجِّ سَفَرًا وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهُ بِهَدْيِ التَّمَتُّعِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي إكْمَالِ الْحَجِّ بِالسَّفَرِ أَوْ بِالْهَدْيِ . وَلِهَذَا قُلْنَا : لَيْسَ جبرانا . لِأَنَّ دَمَ الْجُبْرَانِ لَا يُخَيَّرُ فِي سَبَبِهِ كَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ هَدْيٌ وَاجِبٌ كَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَحْضَةِ

أَوْ الْبَدَنِيَّةِ الْمَالِيَّةِ وَهُوَ الْهَدْيُ ؛ وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ : إذَا كَانَ وَاجِبًا فَلَا يُؤْكَلُ مِنْهُ بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ ؟ قُلْنَا هَدْيُ النَّذْرِ أَيْضًا فِيهِ خِلَافٌ وَمَا وَجَبَ مُعَيَّنًا يَأْكُلُ مِنْهُ بِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الذَّابِحِ لِلَّهِ مُهْدِيًا إلَى بَيْتِهِ أَعْظَمَ الْمَقْصُودَيْنِ ؛ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ تَفْرِقَتِهِ فِي الْحَرَمِ ؛ وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ نُوجِبُ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ هَدْيٌ دُونَ مَا هُوَ نُسُكٌ ؛ لِيَظْهَرَ تَحْقِيقُهُ بِتَسْمِيَتِهِ هَدْيًا وَهُوَ الْإِهْدَاءُ إلَى الْكَعْبَةِ . فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمُقْتَضِي لِلْوَفَاءِ قَائِمٌ وَإِنَّمَا الشَّارِعُ جَعَلَ الْكَفَّارَةَ رُخْصَةً ثُمَّ قَدْ يَجِبُ وَقَدْ يُسْتَحَبُّ كَمَا فِي أَكْلِ الْمُضْطَرِّ لِلْمَيْتَةِ : فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي " نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " وَمَا أَشْبَهَهُ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ " إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ " ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَرَادَ ثُبُوتَ التَّحْرِيمِ عُقُوبَةً لَهَا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لَهَا أَوْ لِأُمِّهَا : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ . فَهُنَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ ثُبُوتَ التَّحْرِيمِ كَمَا أَنَّ فِي " نَذْرِ التَّبَرُّرِ " مَقْصُودُهُ ثُبُوتُ الْوُجُوبِ وَكَمَا فِي " الْخُلْعِ " مَقْصُودُهُ أَخْذُ الْعِوَضِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَهَذَا التَّفْرِيقُ مُتَوَجِّهٌ عَلَى أَصْلِنَا فَإِنَّا كَمَا فَرَّقْنَا فِي الْتِزَامِ الْإِيجَابِ الْمُعَلَّقِ يَنْبَغِي أَنْ نُفَرِّقَ فِي الْتِزَامِ التَّحْرِيمِ الْمُعَلَّقِ . وَيَنْبَغِي أَنْ نُخَيِّرَهُ إذَا حَنِثَ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِالتَّحْرِيمِ وَبَيْنَ تَكْفِيرِ يَمِينِهِ كَمَا خَيَّرْنَاهُ فِي النَّذْرِ .

ثُمَّ إنَّ طَرَدْنَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ - كَمَا يَتَخَرَّجُ عَلَى أُصُولِنَا وَكَمَا يُؤْثَرُ عَنْ الصَّحَابَةِ جُعِلَ الْعِتْقُ دَاخِلًا فِي " نَذْرِ اللَّجَاجِ " وَعَنْ طاوس وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرَوْنَ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ شَيْئًا وَتَوَقَّفَ الرَّاوِي : هَلْ كَانَ طاوس يَعُدُّهَا يَمِينًا ؟ - فَهُوَ مُتَوَجِّهٌ وَهُوَ أَقْوَى إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . وَإِنْ فَرَّقْنَا بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَبَيْنَ الْحَرَامِ وَالظِّهَارِ فَمُتَوَجِّهٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ هُنَاكَ عَلَّقَ نَفْسَ الْوُقُوعِ الَّذِي لَا يُعَلَّقُ بِمَشِيئَةِ وَهُنَاكَ عَلَّقَ يَمِينًا كَأَنَّهُ قَالَ : إنْ فَعَلْت هَذَا فَعَلَيَّ يَمِينُ حَرَامٍ أَوْ فَعَلَيَّ يَمِينُ ظِهَارٍ أَوْ إنْ فَعَلْت هَذَا صِرْت مُظَاهِرًا وَمُحَرِّمًا . وَهُوَ إذَا صَارَ مُظَاهِرًا مُحَرِّمًا لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ ؛ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ تَحْرِيمُ تَزَيُّلِهِ الْكَفَّارَةَ فَصَارَ مِثْلَ قَوْلِهِ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ أَوْ فَأَنَا حَاجٌّ أَوْ أَنَا مُحْرِمٌ . وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ فَلْيُتَحَقَّقْ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي رَجُلٍ حَلَفَ أَنَّهُ مِنْ حِينِ عَقَلَ لَمْ يَفْعَلْ الذَّنْبَ وَكَانَ قَدْ فَعَلَ هَذَا الذَّنْبَ وَلَهُ نَحْوُ عِشْرِينَ سَنَةً ؛ وَنَوَى بِقَلْبِهِ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ مِنْ حِينِ بَلَغَ . فَهَذَا يُنْظَرُ إلَى مُرَادِهِ بِقَوْلِهِ : مِنْ حِينِ عَقَلَ . فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ مِنْ حِينِ بَلَغَ الْحُلُمَ . فَهُوَ بَارٌّ وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ بِلَا رَيْبٍ . وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ : أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ مِنْ حِينِ مَيَّزَ . فَابْنُ عَشْرِ سِنِينَ يُمَيِّزُ . فَهَذَا إذَا كَانَ يَعْلَمُ كَذِبَ نَفْسِهِ فَيَمِينُهُ غَمُوسٌ وَهِيَ مِنْ الْكَبَائِرِ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ إلَى اللَّهِ مِنْهَا . فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْأَيْمَانِ الْمُكَفَّرَةِ فَفِيهَا قَوْلَانِ : جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ ؛ وَإِنَّمَا تُمْحَى بِالتَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . و " الْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّ فِيهَا الْكَفَّارَةَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْهُ فَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ مُكَفَّرَةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَالْكُفْرِ كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا وَكَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ أَوْ عَلَيَّ الْحَرَامُ أَوْ الطَّلَاقُ

يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَإِنْ كُنْت فَعَلْت كَذَا فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ أَوْ إنْ كُنْت فَعَلْت كَذَا فَإِنِّي يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ . فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ " فَقِيلَ : إذَا حَنِثَ يَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ . وَقِيلَ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَقِيلَ : بَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ كَمَا بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَإِنْ كَانَ قَدْ حَلَفَ بِهَذِهِ الْأَيْمَانِ يَمِينًا غَمُوسًا فَمَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَقَالَ إنَّ هَذِهِ الْأَيْمَانَ تُكَفَّرُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ فِيهَا كَفَّارَةً . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : الْيَمِينُ الْغَمُوسُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ فَلَهُمْ " قَوْلَانِ " " أَحَدُهُمَا " أَنَّ هَذِهِ يَلْزَمُهُ فِيهَا مَا الْتَزَمَهُ مِنْ نَذْرٍ وَطَلَاقٍ وَعِتَاقٍ وَكُفْرٍ . وَإِنْ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ لَا تَلْزَمُهُ الْيَمِينُ الْمَغْفُورَةُ وَهِيَ الْحَلِفُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد . وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ } قَالُوا لِأَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ بَلْ الْحِنْثُ فِيهَا مُقَارِنٌ لِلْعَفْوِ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا وَقَدْ الْتَزَمَ فِيهَا مَا الْتَزَمَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِكَذِبِهِ فَيَجِبُ إلْزَامُهُ بِذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى كَذِبِهِ وَزَجْرًا لِمَنْ يَحْلِفُ يَمِينًا كَاذِبَةً بِخِلَافِ الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ فَإِنَّ صَاحِبَهَا مُطِيعٌ لِلَّهِ لَيْسَ بِعَاصٍ .

و " الْقَوْلُ الثَّانِي " وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ كُفْرٍ وَغَيْرِهِ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنَّمَا قَصَدَ فِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ الْيَمِينَ . فَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ إذَا كَانَ كَاذِبًا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا وَلَا أَنْ يَلْزَمَهُ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ نَذْرٍ وَطَلَاقٍ وَعِتَاقٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا لَمْ يَقْصِدْ إذَا حَنِثَ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ أَنْ يَلْزَمَهُ ذَلِكَ ؛ بَلْ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ وَمَقْصُودُهُ هُوَ الْيَمِينُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ : فَمَا فُرِّقَ فِيهِ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالنَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ بِذَلِكَ يُفَرَّقُ بِهِ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ ؛ لَكِنْ هُوَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَدْ أَتَى كَبِيرَةً مِنْ الْكَبَائِرِ بِيَمِينِهِ الْغَمُوسِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ إلَى اللَّهِ مِنْهَا كَمَا يَتُوبُ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَإِذَا تَابَ مِنْ الذَّنْبِ كَانَ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ ؛ وَلَا يَصْدُرُ كُفْرٌ وَلَا نَذْرٌ وَلَا طَلَاقٌ وَلَا عِتَاقٌ بَلْ إنَّمَا صَدَرَ مِنْهُ الْحَلِفُ بِذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ هَلْ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ ؟ أَوْ الْحَجُّ رَاكِبًا وَيَفْتَدِي ؟ أَوْ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ يَجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدِ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ : مِثْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ وَحَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ وَزَيْنَبَ رَبِيبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَبِذَلِكَ أَفْتَى ابْنُ الْقَاسِمِ ابْنَهُ لَمَّا حَنِثَ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . كَمَا بُسِطَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مِنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } { وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ

وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فَذَكَرَ اللَّهُ اسْمَ " الْأَيْمَانِ " فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ فِي قَوْلِهِ : { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } وَقَوْلِهِ { بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ } وَقَوْلِهِ : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } وَقَوْلِهِ : { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } وقَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَفْهِمُ لِطَلَبِ الْفَهْمِ وَالْعِلْمِ فَإِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ؛ وَلَكِنَّ مِثْلَ هَذَا يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ " اسْتِفْهَامَ إنْكَارٍ " وَاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِ يَكُونُ بِتَضَمُّنِ الْإِنْكَارِ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ : إمَّا إنْكَارَ نَفْيٍ إنْ كَانَ مَضْمُونُهَا خَبَرًا وَإِمَّا إنْكَارَ نَهْيٍ إنْ كَانَ مَضْمُونُهَا إنْشَاءً . وَالْكَلَامُ إمَّا خَبَرٌ وَإِمَّا إنْشَاءٌ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } وَقَوْلِهِ : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَاَللَّهُ تَعَالَى نَهَى نَبِيَّهُ عَنْ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ كَمَا نَهَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَرَضَ لَهُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِهِمْ كَمَا ذَكَرَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ . وَقَوْلُهُ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } هُوَ مَا ذَكَرَهُ

فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ . وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ التَّحْرِيمِ تَحْرِيمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَلَالَ : إمَّا أَمَتَهُ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةَ وَإِمَّا الْعَسَلَ ؛ وَإِمَّا كِلَاهُمَا . وَكَذَلِكَ آيَةُ الْمَائِدَةِ فَإِنَّ طَائِفَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَدْ حَرَّمُوا الطَّيِّبَاتِ إمَّا تَبَتُّلًا وَتَرَهُّبًا كَمَا عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ حَتَّى نَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ؛ وَإِمَّا غَيْرَ ذَلِكَ . وَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِمَنْ حَرَّمَ الْحَلَالَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَخْرَجًا ؛ وَأَنَّ الْيَمِينَ الْمُتَضَمِّنَةَ تَحْرِيمَهُ لِلْحَلَالِ لَهُ مِنْهَا مَخْرَجٌ بِالْكَفَّارَةِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ . لَيْسُوا كَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الَّذِينَ كَانُوا إذَا حَرَّمُوا شَيْئًا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُكَفِّرُوا قَالَ تَعَالَى : { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلَّا مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ } وَلِذَلِكَ قَدْ قِيلَ : إنَّهُمْ كَانُوا إذَا حَلَفُوا عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ لَزِمَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُكَفِّرُوا ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ : كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لَا يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ أَيُّوبَ بِمَا يُحَلِّلُ يَمِينَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كَفَّارَةٌ . فَإِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْأَشْيَاءِ : تَارَةً تَكُونُ حَضًّا وَإِلْزَامًا وَتَارَةً تَكُونُ مَنْعًا وَتَحْرِيمًا . كَمَا أَنَّ عَهْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَحُكْمَهُ عَلَى خَلْقِهِ يَنْقَسِمُ إلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ وَلِذَا كَانَ " الظِّهَارُ " فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَوَّلِ الْإِسْلَامِ طَلَاقًا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ الْكَفَّارَةَ وَكَذَلِكَ كَانَ " الْإِيلَاءُ " طَلَاقًا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ حُكْمَهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الظِّهَارَ نَوْعٌ مِنْ التَّحْرِيمِ ؛ فَمُوجَبُهُ رَفْعُ الْمِلْكِ ؛ إذْ الزَّوْجَةُ لَا تَكُونُ مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ . و " الْإِيلَاءُ " يَقْتَضِي عِنْدَهُمْ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ وَذَلِكَ يُنَافِي النِّكَاحَ .

وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ لَفْظَ " الْيَمِينِ " فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ تَعَالَى : { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إنَّا إذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ } - إلَى قَوْلِهِ - { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إنَّا إذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ فِي سِيَاقِ ذِكْرِ مُعَاهَدَةِ الْمُشْرِكِينَ : { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ } { أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } { وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ } قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ - وَهَذَا لَفْظُ الْجَوْهَرِيِّ - الْيَمِينُ الْقَسَمُ . وَالْجَمْعُ أَيْمُنٌ وَأَيْمَانٌ فَقَالَ : سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَحَالَفُوا يُمْسِكُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ عَلَى يَمِينِ صَاحِبِهِ .

فَصْلٌ :
وَلَفْظُ " الْيَمِينِ " فِي كِتَابِ اللَّهِ ؛ وَكَذَا فِي لَفْظِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِالْقُرْآنِ أَوَّلًا يَتَنَاوَلُ عِنْدَهُمْ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ بِاَللَّهِ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ الْحَلِفُ وَبِأَيِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ كَانَ الْحَلِفُ . وَكَذَلِكَ الْحَلِفُ بِصِفَاتِهِ كَعِزَّتِهِ و . . . وَأَحْكَامُهُ كَالتَّحْرِيمِ وَالْإِيجَابِ ؛ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ وَالْإِيجَابَ مِنْ أَحْكَامِهِ . وَالْحَالِفُ إذَا قَالَ : أَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَيَكُونَنَّ . فَهُوَ قَدْ الْتَزَمَ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَأَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَقَدَ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ ؛ فَجَعَلَ لُزُومَ الْفِعْلِ مَعْقُودًا بِاَللَّهِ لِئَلَّا يُمْكِنَ فَسْخُهُ وَنَقْضُهُ فَمُوجَبُ يَمِينِهِ فِي نَفْسِهَا لُزُومُ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَهُ أَوْ انْتِقَاضُ إيمَانِهِ بِاَللَّهِ الَّذِي عَقَدَ بِهِ الْيَمِينَ . وَهَذَا الثَّانِي لَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهِ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ ؛ لَكِنَّ الشَّارِعَ فِي شَرِيعَتِنَا لَمْ يَجْعَلْ لَهُ وِلَايَةَ التَّحْرِيمِ عَلَى نَفْسِهِ وَالْإِيجَابَ عَلَى نَفْسِهِ مُطْلَقًا ؛ بَلْ شَرَعَ لَهُ تَحِلَّةَ يَمِينِهِ وَشَرَعَ لَهُ الْكَفَّارَةَ الرَّافِعَةَ لِمُوجَبِ الْإِثْمِ الْحَاصِلِ بِالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ إذَا كَانَ الْحِنْثُ وَالتَّكْفِيرُ خَيْرًا مِنْ الْمُقَامِ عَلَى الْيَمِينِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي " الْيَمِينِ " هَلْ تَقْتَضِي إيجَابًا وَتَحْرِيمًا تَرْفَعُهُ الْكَفَّارَةُ ؟ أَوْ لَا تَقْتَضِي ذَلِكَ ؟ أَوْ هِيَ مُوجِبَةٌ لِذَلِكَ لَوْلَا مَا جَعَلَهُ الشَّرْعُ مَانِعًا مِنْ هَذَا الِاقْتِضَاءِ ؟ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ " أَصَحُّهَا " الثَّالِثُ " كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

و " الْمَقْصُودُ " أَنْ نَذْكُرَ مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ مَا يُبَيِّنُ مَعْنَى الْيَمِينِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَفِي لُغَتِهِمْ ؛ فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زريع حَدَّثَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَخَوَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ فَسَأَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ الْقِسْمَةَ فَقَالَ : إنْ عُدْت تَسْأَلُنِي الْقِسْمَةَ فَكُلُّ مَالِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : إنَّ الْكَعْبَةَ غَنِيَّةٌ عَنْ مَالِك كَفِّرْ عَنْ يَمِينِك وَكَلِّمْ أَخَاك سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا يَمِينَ عَلَيْك وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ الرَّبِّ وَلَا فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَلَا فِي مَا لَا تَمْلِكُ } . وَهَذَا الرَّجُلُ تَكَلَّمَ بِصِيغَةِ التَّعْلِيقِ صِيغَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَعَلَّقَ وُجُوبَ صَرْفِ مَالِهِ فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ عَلَى مَسْأَلَتِهِ الْقِسْمَةَ وَهَذِهِ الصِّيغَةُ يَقْصِدُ بِهَا " نَذْرَ التَّبَرُّرِ " كَقَوْلِهِ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي وَسَلِمَ مَالِي الْغَائِبُ فَثُلْثُ مَالِي صَدَقَةٌ وَيَقْصِدُ بِهَا نَذْرَ الْيَمِينِ الَّذِي يُسَمَّى " نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " كَمَا قَصَدَ هَذَا الْمُعَلَّقَ . وَالصِّيغَةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ صِيغَةُ تَعْلِيقٍ لَكِنَّ الْمَعْنَى وَالْقَصْدَ مُتَبَايِنٌ ؛ فَإِنَّهُ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ مَقْصُودُهُ حُصُولُ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ كَشِفَاءِ الْمَرِيضِ وَسَلَامَةِ الْمَالِ . وَالْتِزَامِ طَاعَةِ اللَّهِ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى نِعْمَتِهِ وَتَقَرُّبًا إلَيْهِ وَفِي النَّوْعِ الْآخَرِ مَقْصُودُهُ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ يَحُضُّهُ عَلَيْهِ وَحَلَفَ فَالْوُجُوبُ لِامْتِنَاعِهِ مِنْ وُجُوبِ هَذَا عَلَيْهِ وَكَرَاهَةِ ذَلِكَ وَبُغْضِهِ إيَّاهُ كَمَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْكُفْرِ وَيُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ فَيَقُولُ : إنْ فَعَلْت فَهُوَ

يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ . وَلَيْسَ مَقْصُودُهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ ؛ بَلْ لِفَرْطِ بُغْضِهِ لِلْكُفْرِ بِهِ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ؛ قَصْدًا لِانْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ ؛ فَإِنَّ الْكُفْرَ اللَّازِمَ يَقْصِدُ نَفْيَهُ فَقَصَدَ بِهِ الْفِعْلَ لِنَفْيِ الْفِعْلِ أَيْضًا كَمَا إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ فَلِعَظَمَةِ اللَّهِ فِي قَلْبِهِ عَقَدَ بِهِ الْيَمِينَ لِيَكُونَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَازِمًا لِإِيمَانِهِ بِاَللَّهِ ؛ فَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْمَلْزُومِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وُجُودُ اللَّازِمِ وَهُوَ لُزُومُ الْفِعْلِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يُفْعَلَ أَمْرًا جُعِلَ امْتِنَاعُهُ مِنْهُ لَازِمًا لِإِيمَانِهِ بِاَللَّهِ وَهَذَا هُوَ عَقْدُ الْيَمِينِ ؛ وَلَيْسَ مَقْصُودُهُ رَفْعَ إيمَانِهِ بَلْ مَقْصُودُهُ أَنْ لَا يَرْتَفِعَ إيمَانُهُ وَلَا مَا عَقَدَهُ بِهِ مِنْ الِامْتِنَاعِ ؛ فَسَمَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ هَذَا " يَمِينًا " وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ الْفِعْلُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَمِينَ عَلَيْك وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ وَلَا فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَلَا فِي مَا لَا يُمْلَكُ } . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْيَمِينَ وَالنَّذْرَ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْيَمِينَ وَالنَّذْرَ ؛ فَإِنَّ الْيَمِينَ - مَقْصُودُهَا الْحَضُّ أَوْ الْمَنْعُ مِنْ الْإِنْشَاءِ . أَوْ التَّصْدِيقُ أَوْ التَّكْذِيبُ فِي الْخَبَرِ . وَالنَّذْرَ مَا يُقْصَدُ بِهِ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ وَلِهَذَا أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ الْتَزَمَ طَاعَةً لِلَّهِ فَأَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ قَصْدًا لِلتَّقَرُّبِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ إلَى اللَّهِ . وَهَذَا كَمَا أَوْجَبَ الشَّارِعُ عَلَى مَنْ شَرَعَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إتْمَامَ ذَلِكَ لِلَّهِ ؛ لِقَوْلِهِ :

{ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وَإِنْ كَانَ الشَّارِعُ مُتَطَوِّعًا . وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ إتْمَامِ غَيْرِهِمَا . وَلَمْ يُوجِبْ سُبْحَانَهُ الْوَفَاءَ بِالْيَمِينِ لِأَنَّ مَقْصُودَ صَاحِبِهَا الْحَضُّ وَالْمَنْعُ ؛ لَيْسَ مَقْصُودُهُ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . وَلَكِنَّ صِيغَةَ النَّذْرِ تَكُونُ غَالِبًا بِصِيغَةِ التَّعْلِيقِ صِيغَةِ الْمَجَازَاتِ كَقَوْلِهِ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي كَانَ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ . وَصِيغَةُ الْيَمِينِ غَالِبًا تَكُونُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ كَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَقَدْ يَجْتَمِعُ الْقَسَمُ وَالْجَزَاءُ كَقَوْلِهِ { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ } { فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } . وَلِهَذَا تَرْجَمَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إحْدَى الصِّيغَتَيْنِ " بَابَ التَّعْلِيقِ بِالشُّرُوطِ " كَتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَالنَّذْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَعَلَى الْأُخْرَى " بَابَ جَامِعِ الْأَيْمَانِ " كَمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ وَالطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ وَالظِّهَارُ وَالْحَرَامُ وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَمَسَائِلُ أَحَدِ الْبَابَيْنِ مُخْتَلِطَةٌ بِمَسَائِلِ الْآخَرِ . وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ ذَكَرَ مَسَائِلَ جَامِعِ الْأَيْمَانِ مَعَ مَسَائِلِ التَّعْلِيقِ وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهَا فِي " بَابِ الْأَيْمَانِ " وَالْمَنْفِيُّ بِإِحْدَى الصِّيغَتَيْنِ مُثْبَتٌ بِالْأُخْرَى وَالْمُقَدَّمُ فِي إحْدَاهُمَا مُؤَخَّرٌ فِي الْأُخْرَى : فَإِذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَمَالِي حَرَامٌ أَوْ عَبْدِي حُرٌّ أَوْ امْرَأَتِي طَالِقٌ أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ . أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا وَكَذَا حَجَّةٍ أَوْ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ

فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُهُ لَا يَفْعَلُ كَذَا أَوْ الْعِتْقُ أَوْ الْحَرَامُ يَلْزَمُهُ وَالْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ يَلْزَمُهُ لَا يَفْعَلُ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَفِي صِيغَةِ الْجَزَاءِ أَثْبَتَ الْفِعْلَ وَقَدَّمَهُ وَأَخَّرَ الْحُكْمَ . وَلَمَّا أَخَّرَ الْفِعْلَ وَنَفَاهُ وَقَدَّمَ الْحُكْمَ وَالْمَحْلُوفَ بِهِ مَقْصُودُهُ أَنْ لَا يَكُونَ وَلَا يَهْتِكَ حُرْمَتَهُ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا كَافِرٌ أَوْ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ فَهُوَ كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لِأَنَّهُ كَذَا . وَلِهَذَا كَانَ نَظَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ إلَى مَعْنَى الصِّيغَةِ وَمَقْصُودِ الْمُتَكَلِّمِ سَوَاءً كَانَتْ بِصِيغَةِ الْمَجَازَاتِ أَوْ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ . فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُهُ الْحَطَّ أَوْ الْمَنْعَ جَعَلُوهُ يَمِينًا وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْمَجَازَاتِ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ جَعَلُوهُ نَاذِرًا وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ ؛ وَلِهَذَا جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاذِرَ حَالِفًا ؛ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ لِلْفِعْلِ بِصِيغَةِ الْمُجَازَاةِ . فَإِنْ كَانَ الْمَنْذُورُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمَرَهُ بِهِ وَإِلَّا جَعَلَ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ . وَكَذَلِكَ الْحَالِفُ إنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ إذَا حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا اعْتِبَارًا بِالْمَقْصُودِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ أُمِرَ بِهِ وَهُوَ النَّذْرُ الَّذِي يُوَفَّى بِهِ وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ . وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ وَأَرْضَى مِنْهُ أُمِرَ بِالْأَحَبِّ الْأَرْضَى لِلَّهِ وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ النَّذْرِ وَأُمِرَ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ . وَهَذَا كُلُّهُ تَحْقِيقًا لِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَأَنَّ كُلَّ يَمِينٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ عَقْدٍ أَوْ شَرْطٍ تَضَمَّنَ مَا يُخَالِفُ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لَازِمًا بَلْ يَجِبُ تَقْدِيمُ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ .

فَكُلُّ مَا يَقْصِدُهُ الْعِبَادُ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْتُرُوكِ إنْ كَانَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِهِ وَبِالْإِعَانَةِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْهَى عَنْهُ وَعَنْ الْإِعَانَةِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ فَهُوَ مَعَ النِّيَّةِ الْحَسَنَةِ يَكُونُ طَاعَةً وَمَعَ النِّيَّةِ السَّيِّئَةِ يَكُونُ ذَنْبًا وَمَعَ عَدَمِ كُلٍّ مِنْهُمَا لَا هَذَا وَلَا هَذَا . فَالشَّرْعُ دَائِمًا فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالشُّرُوطِ وَالْعُقُودِ يُبْطِلُ مِنْهَا مَا كَانَ مُخَالِفًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ لَكِنْ إذَا كَانَ قَدْ عَلَّقَ تِلْكَ الْأُمُورَ بِإِيمَانِهِ بِاَللَّهِ شُرِعَتْ الْكَفَّارَةُ مَاحِيَةً لِمُقْتَضَى هَذَا الْعَقْدِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ مُوجَبُهُ الْإِثْمَ إذَا خَالَفَ يَمِينَهُ ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ " حِنْثًا " قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ } وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ بِأَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبَرُّ وَلَا يَتَّقِي اللَّهَ وَلَا يَصِلُ رَحِمَهُ فَإِذَا أُمِرَ بِذَلِكَ قَالَ أَنَا قَدْ حَلَفْت بِاَللَّهِ فَيَجْعَلُ الْحَلِفَ بِاَللَّهِ مَانِعًا لَهُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . فَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَى سُبْحَانَهُ أَنْ يُجْعَلَ اللَّهُ أَيْ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ مَانِعًا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ فَغَيْرُ ذَلِكَ أَوْلَى أَنْ يُنْهَى عَنْ كَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ . وَالْأَيْمَانُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلْكَفَّارَةِ كُلُّهَا تَعُودُ إلَى الْحَلِفِ بِاَللَّهِ كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ بَعْضِ الْآثَارِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ يُسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ قَالَ : مَالُهُ فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ

قَالَ : كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ . قَالَ : وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ الرَّجُلِ يَحْلِفُ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ الصَّدَقَةِ بِالْمُلْكِ أَوْ نَحْوِ هَذِهِ الْأَيْمَانِ فَقَالَ : إذَا حَنِثَ فَكَفَّارَةُ يَمِينٍ إلَّا أَنِّي لَا أَحْمِلُهُ عَلَى الْحِنْثِ مَا لَمْ يَحْنَثْ قِيلَ لَهُ لَا يَفْعَلُ . قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَإِذَا حَنِثَ كَفَرَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قِيلَ لَهُ : أَلَيْسَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ الْأَثْرَمُ : حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دكين حَدَّثَنَا حَسَنٌ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : مَنْ قَالَ مَالِي فِي مِيرَاثِ الْكَعْبَةِ وَكُلُّ مَالِي فَهُوَ هَدْيٌ وَكُلُّ مَالِي فَهُوَ فِي الْمَسَاكِينِ فَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ . وَقَالَ الْأَثْرَمُ : حَدَّثَنَا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ قَالَ أَبِي : حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي أَبُو رَافِعٍ قَالَ : قَالَتْ مَوْلَاتِي لَيْلَى بِنْتُ الْعَجْمَاءِ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا مُحَرَّرٌ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ إنْ لَمْ تُطَلِّقْ امْرَأَتَك أَوْ تُفَرِّقْ بَيْنَك وَبَيْنَ امْرَأَتِك . قَالَ فَأَتَيْت زَيْنَبَ ابْنَةَ أُمِّ سَلَمَةَ وَكَانَتْ إذَا ذُكِرَتْ امْرَأَةٌ بِالْمَدِينَةِ فَقِيهَةٌ ذُكِرَتْ زَيْنَبُ قَالَ : فَأَتَيْتهَا فَجَاءَتْ مَعِي إلَيْهَا فَقَالَتْ : فِي الْبَيْتِ هَارُوتُ وَمَارُوتُ . قَالَتْ يَا زَيْنَبُ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك ؛ إنَّهَا قَالَتْ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ فَقَالَتْ : يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ خَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ فَأَتَيْت حَفْصَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهَا فَأَتَتْهَا فَقَالَتْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ جَعَلَنِي اللَّهُ

فِدَاك إنَّهَا قَالَتْ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ فَقَالَتْ : يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ خَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ قَالَ : فَأَتَيْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَجَاءَ مَعِي إلَيْهَا فَقَامَ عَلَى الْبَابِ فَسَلَّمَ فَقَالَتْ بَيْنًا أَنْت وَبَيْنًا أَبُوك فَقَالَ : أَمِنَ حِجَارَةٍ أَنْت أَمِنْ حَدِيدٍ أَنْت أَيُّ شَيْءٍ أَنْت أَفْتَتْك زَيْنَبُ وَأَفْتَتْك أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ تَقْبَلِي فُتْيَاهُمَا قَالَتْ . يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك ؛ إنَّهَا قَالَتْ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ فَقَالَ : يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ كَفِّرِي عَنْ يَمِينِك وَخَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ . وَذَكَرَ هَذَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي " مُصَنَّفِهِ " عَنْ التيمي عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ المزني قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو رَافِعٍ قَالَ : قَالَتْ لِي مَوْلَاتِي لَيْلَى ابْنَةُ الْعَجْمَاءِ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ وَكُلُّ مَالِهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ إنْ لَمْ تُطَلِّقْ امْرَأَتَك . قَالَ فَأَتَتْنَا زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ . وَكَانَ إذَا ذُكِرَتْ امْرَأَةٌ فَقِيهَةٌ ذُكِرَتْ زَيْنَبُ فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهَا فَقَالَتْ . خَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَكَفِّرِي عَنْ يَمِينِك قَالَ فَأَتَتْنَا حَفْصَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك وَذَكَرَتْ لَهَا يَمِينَهَا فَقَالَتْ : كَفِّرِي عَنْ يَمِينِك قَالَ : وَأَتَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقُلْنَا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَذَكَرَتْ لَهُ يَمِينَهَا فَقَالَ : كَفِّرِي يَمِينِك وَخَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ .

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : قَوْلُهُ : وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ . هُوَ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التيمي وَأَشْعَثَ الحمراني عَنْ بَكْرِ المزني مَعَ هَذَا الْحَدِيثِ وَفِي رِوَايَةِ أَشْعَثَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عُمَرَ وَحَفْصَةُ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ . وَقَالَ الْأَثْرَمُ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ أَخْبَرْنَا عِمْرَانُ ؛ عَنْ قتادة عَنْ زرارة بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ ابْنَ عَبَّاسٍ : أَنَّ امْرَأَةً جَعَلَتْ بُرْدَهَا عَلَيْهَا هَدْيًا إنْ لَبِسَتْهُ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَفِي غَضَبٍ أَمْ فِي رِضًا ؟ قَالُوا : فِي غَضَبٍ . قَالَ . إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِالْغَضَبِ لِتُكَفِّر عَنْ يَمِينِهَا قُلْت : ابْنُ عَبَّاسٍ اسْتَفْسَرَ النَّذْرَ هَلْ مَقْصُودُهَا التَّقَرُّبُ بِالْمَنْذُورِ كَمَا قَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ إنْ سَلِمَ مَالِي تَصَدَّقْت بِهِ أَوْ مَقْصُودُهَا الْحَلِفُ أَنَّهَا لَا تَلْبَسُهُ فَيَكُونُ عَلَيْهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَقَالَ : أَفِي غَضَبٍ أَمْ رِضًا ؟ فَلَمَّا قَالُوا : فِي غَضَبٍ عَلِمَ أَنَّهَا حَالِفَةٌ لَا نَاذِرَةٌ وَلِهَذَا سَمَّى الْفُقَهَاءُ هَذَا " نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " فَهُوَ يَمِينٌ وَإِنْ كَانَ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الْجَزَاءِ . وَقَالَ الْأَثْرَمُ . حَدَّثَنِي ابْنُ الطَّبَّاعِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ؛ عَنْ يَعْلَى بْنِ النُّعْمَانِ ؛ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ جَعَلَ مَالَهُ فِي الْمَسَاكِينِ ؟ قَالَ . أَمْسِكْ عَلَيْك مَالَك وَأَنْفِقْهُ عَلَى

عِيَالِك وَاقْضِ بِهِ دَيْنَك وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك وَقَالَ حَرْبٌ الكرماني فِي مَسَائِلِهِ حَدَّثَنَا الْمُسَيِّبُ بْنُ وَاضِحٍ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ أَبِي السَّفَرِ ؛ عَنْ الأوزاعي ؛ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الرَّجُلِ يَحْلِفُ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ؟ قَالَ : إنَّمَا الْمَشْيُ عَلَى مَنْ نَوَاهُ فَأَمَّا مَنْ حَلَفَ فِي الْغَضَبِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَقَالَ الْأَثْرَمُ . حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ ؛ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ قَالَ : إذَا كَانَ نَذَرَ الشُّكْرَ فَعَلَيْهِ وَفَاءُ نَذْرِهِ وَالنَّذْرُ فِي الْمَعْصِيَةِ وَالْغَضَبِ يَمِينٌ . وَقَالَ الْأَثْرَمُ : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا ابْنُ جريج قَالَ : سُئِلَ عَطَاءٌ عَنْ رَجُلٍ قَالَ عَلَيَّ أَلْفُ بَدَنَةٍ ؟ فَقَالَ : يَمِينٌ وَعَنْ رَجُلٍ قَالَ : عَلَيَّ أَلْفُ حَجَّةٍ ؟ قَالَ يَمِينٌ ؛ وَعَنْ رَجُلٍ قَالَ : مَالِي هَدْيٌ ؟ قَالَ يَمِينٌ وَعَنْ رَجُلٍ قَالَ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ ؟ قَالَ يَمِينٌ . وَقَالَ أَحْمَد حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قتادة عَنْ الْحَسَنِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ : إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَأَنَا مُحْرِمٌ بِحَجَّةِ ؟ قَالَ لَيْسَ الْإِحْرَامُ إلَّا عَلَى مَنْ نَوَى الْحَجَّ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا . وَقَالَ أَحْمَد : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طاوس عَنْ أَبِيهِ قَالَ : يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا . وَقَالَ الْأَثْرَمُ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ الْمِنْهَالِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ فِي رَجُلٍ قَالَ : هُوَ مُحْرِمٌ بِحَجَّةِ ؟ قَالَ يَمِينٌ وَقَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الواسطي عَنْ أَيُّوبَ يَعْنِي أَبَا الْعَلَاءِ عَنْ

قتادة وَمَنْصُورٍ عَنْ الْحَسَنِ : فِي رَجُلٍ قَالَ : إنْ دَخَلَ مَنْزِلَ فُلَانٍ فَعَلَيْهِ مَشْيٌ إلَى بَيْتِ اللَّهِ ؟ قَالَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ قَالَ : فَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ فَعَلَيْهِ الْمَشْيُ وَإِنْ لَمْ يُطِقْ الْمَشْيَ رَكِبَ فَأَهْدَى . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَخِيهِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ : جَاءَ إنْسَانٌ فَاسْتَفْتَى الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ جَعَلَ عَلَيْهِ مَشْيًا إلَى بَيْتِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ الْقَاسِمُ أَجَعَلَهُ نَذْرًا ؟ قَالَ لَا . أَوَجَعَلَهُ لِلَّهِ ؟ قَالَ : لَا قَالَ : فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ مَا ذَكَرَهُ حَنْبَلٌ قَالَ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : يُقَالُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ كَانَ عِنْدَهُ قَضَاءٌ وَكَانَ يَتْبَعُ قَضَاءَ عُمَرَ وَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيّ . قَالَ : الِاخْتِلَافُ بَيْنَ النَّاسِ فِي هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ : مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيّ وَشُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَقَدْ أَخْبَرَنِي الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَنَّهُ رَآهُمَا جَمِيعًا الزُّبَيْدِيّ وَشُعَيْبَ بْنَ أَبِي حَمْزَةَ . وَرَأَيْته لِلزُّبَيْدِيِّ أَكْثَرَ تَعْظِيمًا وَهُمَا صَاحِبَا الزُّهْرِيّ بِالرَّصَافَةِ مِنْ قِبَلِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ : مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيّ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَلَى نَفَقَاتِ هِشَامٍ . وَعَنْ بَقِيَّةَ قَالَ قَالَ لَنَا الأوزاعي : مَا فَعَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيّ ؟ قَالَ قُلْت : وَلِيَ بَيْتَ الْمَالِ . قَالَ إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ

وَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ الذهلي مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عفير أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ : أَنَّ امْرَأَةً نَذَرَتْ أَنْ تَنْحَرَ ابْنَهَا عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي أَمْرٍ إنْ فَعَلَتْهُ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ الْأَمْرَ فَقَدِمَتْ الْمَدِينَةَ تَسْتَفْتِي عَنْ نَذْرِهَا فَجَاءَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ : لَا أَعْلَمُ اللَّهُ أَمَرَ فِي النَّذْرِ إلَّا بِالْوَفَاءِ قَالَتْ الْمَرْأَةُ : فَأَنْحَرُ ابْنِي ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : قَدْ نَهَاكُمْ اللَّهُ أَنْ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ لَمْ يَزِدْهَا ابْنُ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ . فَجَاءَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَاسْتَفْتَتْهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَمَرَ اللَّهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ وَنَهَاكُمْ أَنْ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ . وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ نَذَرَ إنْ تَوَافَى لَهُ عَشَرَةُ رَهْطٍ أَنْ يَنْحَرَ أَحَدَهُمْ فَلَمَّا تَوَافَى لَهُ عَشَرَةٌ وَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ أَيَّهمْ يَنْحَرُ فَصَارَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَكَانَ أَحَبَّ النَّاسِ إلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ . اللَّهُمَّ أَهُوَ أَوْ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؛ وَصَارَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى نَحْرِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِلْمَرْأَةِ فَإِنِّي أَرَى أَنْ تَنْحَرِي مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ مَكَانَ ابْنِك . فَبَلَغَ الْحَدِيثُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ فَقَالَ : مَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ أَصَابَا الْفُتْيَا " إنَّهُ لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ " اسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إلَيْهِ وَاعْمَلِي مَا اسْتَطَعْت مِنْ الْخَيْرِ فَأَمَّا أَنْ تَنْحَرِي ابْنَك فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَاك عَنْ ذَلِكَ . قَالَ : فَسُرَّ النَّاسُ بِذَلِكَ وَأَعْجَبَهُمْ قَوْلُ مَرْوَانَ وَرَأَوْا أَنْ قَدْ أَصَابَ الْفَتْوَى فَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ يُفْتُونَ بِأَنْ لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ .

قُلْت ابْنُ عُمَرَ كَانَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَنْ النَّذْرِ لِلْمَعْصِيَةِ لَا يَأْمُرُ فِيهِ لَا بِوَفَاءِ وَلَا تَرْكٍ كَمَا سُئِلَ عَنْ مَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ فَقَالَ : أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَارَضَ عِنْدَهُ دَلِيلَانِ : الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ . وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِوَفَاءِ النَّذْرِ مُقَيَّدٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ ؛ وَلِهَذَا نَقَلَ مَالِكٌ فِي " مُوَطَّئِهِ " الْحَدِيثَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بَعْدَهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ ؛ وَمَنْ نَدَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ بِلَفْظِ النَّذْرِ مُطْلَقًا ؛ إذْ قَوْلُهُ { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } خَبَرٌ وَثَنَاءٌ وَقَوْلُهُ : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } خَاصٌّ ؛ لَكِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالْعُقُودِ وَالنَّذْرُ مِنْ ذَلِكَ . فَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَعْنَى قَوْلِهِمَا : أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ . وَهَذِهِ حَالُ مَنْ يَجْعَلُ الْعُهُودَ وَالْعُقُودَ مُقْتَضِيَةً لِلْوَفَاءِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ . وَهَذَا كَثِيرًا مَا يَعْرِضُ لِبَعْضِ أَهْلِ الْوَرَعِ كَمَا عَرَضَ لِابْنِ عُمَرَ حَتَّى إنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ عَنْ نَقْضِ كَثِيرٍ مِنْ الْعُهُودِ وَالْعُقُودِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرِيعَةِ وَهُمْ يَتَوَرَّعُونَ أَيْضًا عَنْ مُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ فَيَبْقَوْنَ فِي الْحَيْرَةِ وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَعَنْهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ : " إحْدَاهُمَا " هَذَا . " وَالْأُخْرَى " عَلَيْهِ ذَبْحُ كَبْشٍ ؛ وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ الشَّرِيعَةَ ؛ دُونَ الِاحْتِجَاجِ بِقِصَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّ عَمَلَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ أَصْلًا إلَّا إذَا أَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ

لَكِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ احْتَجَّ بِهِ لِكَوْنِ الدِّيَةِ أَقَرَّهَا الْإِسْلَامُ وَهِيَ بَدَلُ النَّفْسِ فَرَأَى هَذَا الْبَدَلَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ فِي الِافْتِدَاءِ ثُمَّ جَعَلَ الِافْتِدَاءَ بِالْكَبْشِ اتِّبَاعًا لِقِصَّةِ إبْرَاهِيمَ وَهُوَ الْأَنْسَبُ . وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَسَائِرِ نُذُورِ الْمَعْصِيَةِ . وَاَلَّذِي أَفْتَى بِهِ مَرْوَانُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ وَكُلُّ مَنْ يَقُولُ نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ لَا شَيْءَ فِيهِ . وَهَذَا النَّذْرُ ظَاهِرُهُ نَذْرُ يَمِينٍ ؛ لَكِنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا . فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ نَذْرَ تَبَرُّرٍ كَنَذْرِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؛ وَلَكِنْ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ فَرَوَوْا الْقِصَّةَ بِالْمَعْنَى الَّذِي عِنْدَهُمْ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ :
قَدْ كَتَبْت فِي " قَاعِدَةِ الْعُهُودِ وَالْعُقُودِ " الْقَاعِدَةُ فِي الْعُهُودِ الدِّينِيَّةِ فِي الْقَوَاعِدِ الْمُطْلَقَةِ وَالْقَاعِدَةُ فِي الْعُقُودِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ وَفِي " كِتَابِ النَّذْرِ " أَيْضًا أَنَّ مَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ إذَا نَذَرَهُ الْعَبْدُ أَوْ عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ أَوْ بَايَعَ عَلَيْهِ الرَّسُولَ أَوْ الْإِمَامَ أَوْ تَحَالَفَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُهُودَ

وَالْمَوَاثِيقَ تَقْتَضِي لَهُ وُجُوبًا ثَانِيًا غَيْرَ الْوُجُوبِ الثَّابِتِ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَتَكُونُ وَاجِبَةً مِنْ وَجْهَيْنِ بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ تَارِكُهَا مِنْ الْعُقُوبَةِ مَا يَسْتَحِقُّهُ نَاقِضُ الْعُهُودِ وَالْمِيثَاقِ ؛ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ عَاصِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ . هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا إنَّهُ إذَا نَذَرَ وَاجِبًا فَهُوَ بَعْدَ النَّذْرِ كَمَا كَانَ قَبْلَ النَّذْرِ ؛ بِخِلَافِ نَذْرِ الْمُسْتَحَبِّ . فَلَيْسَ كَمَا قَالَ ؛ بَلْ النَّذْرُ إذَا كَانَ يُوجِبُ فِعْلَ الْمُسْتَحَبِّ فَإِيجَابُهُ لِفِعْلِ الْوَاجِبِ أَوْلَى ؛ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ ؛ بَلْ هُمَا وجوبان مِنْ نَوْعَيْنِ لِكُلِّ نَوْعٍ حُكْمٌ غَيْرُ حُكْمِ الْآخَرِ ؛ مِثْلُ الْجَدَّةِ إذَا كَانَتْ أُمَّ أُمِّ أُمٍّ وَأُمَّ أُمِّ أَب ؛ فَإِنَّ فِيهَا سَبَبَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا تَسْتَحِقُّ بِهِ السُّدْسَ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا : إنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي هِيَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُهَا ؛ أَوْ قَالَ تَفْسُدُ (1) حَتَّى قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إذَا قَالَ : زَوَّجْتُك عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ إمْسَاكٍ بِمَعْرُوفِ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانِ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا لِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ الطَّلَاقَ : فَهَذَا كَلَامٌ فَاسِدٌ جِدًّا ؛ فَإِنَّ الْعُقُودَ إنَّمَا وَجَبَتْ مُوجِبَاتُهَا لِإِيجَابِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَهَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَمُطْلَقُ الْعَقْدِ لَهُ مَعْنًى مَفْهُومٌ فَإِذَا أُطْلِقَ كَانَا قَدْ أَوْجَبَا مَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ هُوَ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ كَمُوجَبِ النَّذْرِ لَمْ يُوجِبْهُ الشَّارِعُ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا أَوْجَبَ الْوَفَاءَ بِالْعُقُودِ كَمَا أَوْجَبَ الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ . فَإِذَا كَانَ لَهُ مُوجَبٌ مَعْلُومٌ بِلَفْظِ مُطْلَقٍ أَوْ بِعُرْفِ وَصَرَّحَ الْمُتَعَاقِدَانِ بِإِيجَابِهِ بِلَفْظِ خَاصٍّ كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ فَيَكُونُ الْعَاقِدُ

قَدْ أَوْجَبَهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ جَعَلَ لَهُ إيجَابًا خَاصًّا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ الْإِيجَابِ الْعَامِّ . وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا نَظَائِرُ مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } وَقَوْلِهِ : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } وَقَوْلِهِ : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } وَقَوْلِهِ : { قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَوْلِهِ : { يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ أَمَرَ أَجِيرَهُ أَنْ يَرْهَنَ شَيْئًا عِنْدَ شَخْصٍ فَرَهَنَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ فَعَدِمَ الرَّهْنَ فَحَلَفَ صَاحِبُ الرَّهْنِ إنْ لَمْ يَأْتِهِ بِهِ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَمْ يَعْدَمْ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ عَدَمُهُ : فَهَلْ يَحْنَثُ إذَا اسْتَعْمَلَهُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَ حِينَ حَلَفَ مُعْتَقِدًا أَنَّ الرَّهْنَ بَاقٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَعْدَمْ فَحَلَفَ لِيُحْضَرَ لَمْ يَحْنَثْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى وَلَدِهِ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ حَتَّى يُعْطِيَهُ الْكِسَاءَ الَّذِي أَخَذَهُ ؛ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا : فَهَلْ يَحْنَثُ إذَا دَخَلَ أَمْ لَا ؟

فَأَجَابَ :
إذَا دَخَلَ مَنْزِلَهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ الْحَالَةُ مَا ذُكِرَ ؛ لِكَوْنِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْإِنَاءِ وَلَيْسَ فِيهِ مَاءٌ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا حَلَفَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ ابْنَهُ أَخَذَهُ وَتَبَيَّنَ بِخِلَافِ ذَلِكَ . وَمِثْلُ هَذَا فِيهِ أَيْضًا نِزَاعٌ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا حِنْثَ فِيهِ فَصَارَ غَيْرَ حَانِثٍ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ . وَالْمَسْأَلَةُ الْمَشْهُورَةُ إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ فَإِنَّ هَذَا جَهْلٌ بِالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ وَذَلِكَ جَهْلٌ بِصِفَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَتْ عَلَيْهِ وَالِدَتُهُ أَنْ لَا يُصَالِحَ زَوْجَتَهُ . وَإِنْ صَالَحَهَا مَا تَرْجِعُ تُكَلِّمُهُ : فَمَا يَجِبُ فِي أَمْرِهِ وَصَالِحِ زَوْجَتِهِ وَأَمْرِ وَالِدَتِهِ فِي الشَّرْعِ الْمُطَهَّرِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا صَالَحَ زَوْجَتَهُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَيَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُكَلِّمَهُ وَتُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهَا . وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ إمَّا عِتْقُ رَقَبَةٍ وَإِمَّا إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ رِطْلَانِ مِنْ الْخُبْزِ . وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْدِمَهُ مِمَّا يُؤْكَلُ بِالْمَوْزِ وَالْجُبْنِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِ وَإِمَّا كُسْوَةُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ثَوْبًا ثَوْبًا . وَيَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهَا بِإِذْنِهَا الْحَالِفُ أَوْ زَوْجَتُهُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
كَفَّارَةُ الْيَمِينِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ قَالَ تَعَالَى : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } فَمَتَى كَانَ وَاجِدًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ بِإِحْدَى الثَّلَاثِ ؛ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ . وَإِذَا اخْتَارَ أَنْ يُطْعِمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ فَلَهُ ذَلِكَ . " وَمِقْدَارُ مَا يُطْعِمُ " مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ إطْعَامَهُمْ : هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ ؟ أَوْ بِالْعُرْفِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ " مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ " وَهَؤُلَاءِ عَلَى أَقْوَالٍ . مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُطْعِمُ كُلَّ وَاحِدٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَشَعِيرٍ أَوْ رُبْعَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ؛ وَهُوَ مُدٌّ كَقَوْلِ أَحْمَد وَطَائِفَةٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ يُجْزِئُ فِي الْجَمِيعِ مُدٌّ مِنْ الْجَمِيعِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ . " وَالْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ بِالْعُرْفِ لَا بِالشَّرْعِ ؛ فَيُطْعِمُ أَهْلَ كُلِّ بَلَدٍ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُونَ أَهْلِيهِمْ قَدْرًا وَنَوْعًا . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ قَالَ إسْمَاعِيلُ

بْنُ إسْحَاقَ : كَانَ مَالِكٌ يَرَى فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَنَّ الْمُدَّ يُجْزِئُ بِالْمَدِينَةِ قَالَ مَالِكٌ : وَأَمَّا الْبُلْدَانُ فَإِنَّ لَهُمْ عَيْشًا غَيْرَ عَيْشِنَا فَأَرَى أَنْ يُكَفِّرُوا بِالْوَسَطِ مِنْ عَيْشِهِمْ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ } وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ مُطْلَقًا . وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ هَذَا الْقَوْلُ ؛ وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ الْأَوْسَطُ خُبْزٌ وَلَبَنٌ خُبْزٌ وَسَمْنٌ خُبْزٌ وَتَمْرٌ . وَالْأَعْلَى خُبْزٌ وَلَحْمٌ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْآثَارَ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ وَهُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَأُصُولِهِ فَإِنَّ أَصْلَهُ أَنَّ مَا لَمْ يُقَدِّرْهُ الشَّارِعُ فَإِنَّهُ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ وَهَذَا لَمْ يُقَدِّرْهُ الشَّارِعُ فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْله تَعَالَى { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } فَإِنَّ أَحْمَد لَا يُقَدِّرُ طَعَامَ الْمَرْأَةِ وَالْوَلَدِ وَلَا الْمَمْلُوكِ ؛ وَلَا يُقَدِّرُ أُجْرَةَ الْأَجِيرِ الْمُسْتَأْجَرِ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَلَا يُقَدِّرُ الضِّيَافَةَ الْوَاجِبَةَ عِنْدَهُ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَا يُقَدِّرُ الضِّيَافَةَ الْمَشْرُوطَةَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ : هَذَا مَعَ أَنَّ هَذِهِ وَاجِبَةٌ بِالشَّرْطِ فَكَيْفَ يُقَدِّرُ طَعَامًا وَاجِبًا بِالشَّرْعِ ؟ بَلْ وَلَا يُقَدِّرُ الْجِزْيَةَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَلَا الْخَرَاجَ ؛ وَلَا يُقَدِّرُ أَيْضًا الْأَطْعِمَةَ الْوَاجِبَةَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ وَجَبَتْ بِشَرْعِ أَوْ شَرْطٍ وَلَا غَيْرَ الْأَطْعِمَةِ مِمَّا وَجَبَتْ مُطْلَقًا . فَطَعَامُ الْكَفَّارَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يُقَدَّرَ .

و " الْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ " فَمَا لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ أَوْ اللُّغَةِ رَجَعَ فِي ذَلِكَ إلَيْهِمَا . وَمَا لَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِيهِمَا رَجَعَ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُقَدِّرُ لِلْعُقُودِ أَلْفَاظًا بَلْ أَصْلُهُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ جِنْسِ أَصْلِ مَالِكٍ كَمَا أَنَّ قِيَاسَ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ كَلَامُهُ أَيْضًا كَمَا قَدْ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ؛ وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ تَقْدِيرُ ذَلِكَ بِالصَّاعِ كَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي " الْأُدْمِ " هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ كَانَ يُطْعِمُ أَهْلَهُ بِأُدُمِ أَطْعَمَ الْمَسَاكِينَ بِأُدُمِ . وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يُطْعِمُ بِلَا أُدْمٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُفَضِّلَ الْمَسَاكِينَ عَلَى أَهْلِهِ بَلْ يُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ . وَعَلَى هَذَا فَمِنْ الْبِلَادِ مَنْ يَكُونُ أَوْسَطُ طَعَامِ أَهْلِهِ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ كَمَا يُقَالُ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَإِذَا صَنَعَ خُبْزًا جَاءَ نَحْوَ رِطْلَيْنِ بِالْعِرَاقِيِّ وَهُوَ بِالدِّمَشْقِيِّ خَمْسَةُ أَوَاقٍ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ أُوقِيَّةٍ فَإِنْ جَعَلَ بَعْضَهُ أُدْمًا كَمَا جَاءَ عَنْ السَّلَفِ كَانَ الْخُبْزُ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوَاقٍ وَهَذَا لَا يَكْفِي أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَمْصَارِ ؛ فَلِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : يُطْعِمُ فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا : إمَّا مُدَّانِ أَوْ مُدٌّ وَنِصْفٌ عَلَى قَدْرِ طَعَامِهِمْ فَيُطْعِمُ مِنْ الْخُبْزِ إمَّا نِصْفَ رِطْلٍ بِالدِّمَشْقِيِّ وَإِمَّا ثُلُثَا رِطْلٍ وَإِمَّا رِطْلٌ وَإِمَّا أَكْثَرُ . إمَّا مَعَ الْأُدْمِ عَلَى قَدْرِ عَادَتِهِمْ فِي الْأَكْلِ فِي وَقْتٍ (1) ؛ فَإِنَّ عَادَةَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ بِالرُّخْصِ

وَالْغَلَاءِ وَالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَتَخْتَلِفُ بِالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَإِذَا حُسِبَ مَا يُوجِبُهُ أَبُو حَنِيفَةَ خُبْزًا كَانَ رِطْلًا وَثُلُثًا بِالدِّمَشْقِيِّ ؛ فَإِنَّهُ يُوجِبُ نِصْفَ صَاعٍ عِنْدَهُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ . وَأَمَّا مَا يُوجِبُهُ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ فَيُوجِبُ صَاعًا ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ وَذَلِكَ بِقَدْرِ مَا يُوجِبُهُ الشَّافِعِيُّ سِتَّ مَرَّاتٍ وَهُوَ بِقَدْرِ مَا يُوجِبُهُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَتِهِمْ فَقَدْ يُجْزِئُ فِي بَلَدٍ مَا أَوْجَبَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَفِي بَلَدٍ مَا أَوْجَبَهُ أَحْمَد وَفِي بَلَدٍ آخَرَ مَا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا عَلَى حَسَبِ عَادَتِهِ ؛ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } . وَإِذَا جَمَعَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ وَعَشَّاهُمْ خُبْزًا وَأُدْمًا مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي الدَّلِيلِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِطْعَامِ ؛ لَمْ يُوجِبْ التَّمْلِيكَ وَهَذَا إطْعَامٌ حَقِيقَةً . وَمَنْ أَوْجَبَ " التَّمْلِيكَ " احْتَجَّ بِحُجَّتَيْنِ " إحْدَاهُمَا " أَنَّ الطَّعَامَ الْوَاجِبَ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ وَلَا يُعْلَمُ إذَا أَكَلُوا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَأْكُلُ قَدْرَ حَقِّهِ . و " الثَّانِيَةُ " أَنَّهُ بِالتَّمْلِيكِ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ مَعَ الْإِطْعَامِ . وَجَوَابُ الْأُولَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ ؛ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِهِ فَالْكَلَامُ

إنَّمَا هُوَ إذَا أَشْبَعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَدَاءً وَعَشَاءً وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ قَدْ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ قَدْرَ حَقِّهِ وَأَكْثَرُ . وَأَمَّا التَّصَرُّفُ بِمَا شَاءَ فَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ إنَّمَا أَوْجَبَ فِيهَا التَّمْلِيكَ لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا بِاللَّامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } وَلِهَذَا حَيْثُ ذَكَرَ اللَّهُ التَّصَرُّفَ بِحَرْفِ الظَّرْفِ كَقَوْلِهِ : { وَفِي الرِّقَابِ } { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّمْلِيكُ ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُعْتِقَ مِنْ الزَّكَاةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَمْلِيكًا لِلْمُعْتَقِ وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهَا سِلَاحًا يُعِينُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْإِطْعَامُ أَوْلَى مِنْ التَّمْلِيكِ ؛ لِأَنَّ الْمُمَلَّكَ قَدْ يَبِيعُ مَا أَعْطَيْته وَلَا يَأْكُلُهُ ؛ بَلْ قَدْ يَكْنِزُهُ فَإِذَا أَطْعَمَ الطَّعَامَ حَصَلَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ قَطْعًا . وَغَايَةُ مَا يُقَالُ : أَنَّ التَّمْلِيكَ قَدْ يُسَمَّى إطْعَامًا كَمَا يُقَالُ ؛ { أَطْعَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَدَّةَ السُّدْسَ } وَفِي الْحَدِيثِ : { مَا أَطْعَمَ اللَّهُ نَبِيًّا طُعْمَةً إلَّا كَانَتْ لِمَنْ يَلِي الْأَمْرَ بَعْدَهُ } لَكِنْ يُقَالُ : لَا رَيْبَ أَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ الْإِطْعَامَ الْمَعْرُوفَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَلِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُقَالُ إذَا ذُكِرَ الْمُطْعِمُ فَيُقَالُ : أَطْعَمَهُ كَذَا . فَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ وَقِيلَ : أَطْعِمْ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينِ . فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا نَفْسُ الْإِطْعَامِ لَكِنْ لَمَّا كَانُوا يَأْكُلُونَ مَا يَأْخُذُونَهُ سُمِّيَ التَّمْلِيكُ لِلطَّعَامِ إطْعَامًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْإِطْعَامُ . أَمَّا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مَصْرِفًا غَيْرَ الْأَكْلِ فَهَذَا لَا يُسَمَّى إطْعَامًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ .

وَقَالَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
وَأَمَّا " النَّذْرُ " فَهُوَ نَوْعَانِ : طَاعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ . فَمَنْ نَذَرَ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ صَدَقَةً فَعَلَيْهِ أَنْ يُوَفِّيَ بِهِ وَإِنْ نَذَرَ مَا لَيْسَ بِطَاعَةِ مِثْلَ النَّذْرِ لِبَعْضِ الْمَقَابِرِ وَالْمَشَاهِدِ وَغَيْرِهَا زَيْتًا أَوْ شَمْعًا أَوْ نَفَقَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَهَذَا نَذْرُ مَعْصِيَةٍ وَهُوَ شَبِيهٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ بِالنَّذْرِ لِلْأَوْثَانِ ؛ كَاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى : فَهَذَا لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لَكِنْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُوجِبُ كَفَّارَةَ يَمِينٍ كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُوجِبُ شَيْئًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَإِذَا صَرَفَ الرَّجُلُ ذَلِكَ الْمَنْذُورَ فِي قُرْبَةٍ مَشْرُوعَةٍ مِثْلُ أَنْ يَصْرِفَ الدُّهْنَ فِي تَنْوِيرِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي هِيَ بُيُوتُ اللَّهِ وَيَصْرِفَ النَّفَقَةَ إلَى صَالِحِي الْفُقَرَاءِ : كَانَ هَذَا عَمَلًا صَالِحًا يَتَقَبَّلُهُ اللَّهُ مِنْهُ ؛ مَعَ أَنَّ أَصْلَ " عَقْدِ النَّذْرِ " مَكْرُوهٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرِ ؛ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابٌ الْقَضَاءُ
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
" فَائِدَةٌ نَافِعَةٌ جَامِعَةٌ "
الْمَقْصُودُ مِنْ الْقَضَاءِ وُصُولُ الْحُقُوقِ إلَى أَهْلِهَا وَقَطْعُ الْمُخَاصَمَةِ . فَوُصُولُ الْحُقُوقِ هُوَ الْمَصْلَحَةُ وَقَطْعُ الْمُخَاصَمَةِ إزَالَةُ الْمَفْسَدَةِ . فَالْمَقْصُودُ هُوَ جَلْبُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ وَإِزَالَةُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ . وَوُصُولُ الْحُقُوقِ هُوَ مِنْ الْعَدْلِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ . وَقَطْعُ الْخُصُومَةِ هُوَ مِنْ " بَابِ دَفْعِ الظُّلْمِ وَالضَّرَرِ " وَكِلَاهُمَا يَنْقَسِمُ إلَى إبْقَاءِ مَوْجُودٍ وَدَفْعِ مَفْقُودٍ . فَفِي وُصُولِ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحِقِّهَا يُحْفَظُ مَوْجُودُهَا وَيَحْصُلُ مَقْصُودُهَا وَفِي الْخُصُومَةِ يُقْطَعُ مَوْجُودُهَا وَيُدْفَعُ مَفْقُودُهَا . فَإِذَا حَصَلَ الصُّلْحُ زَالَتْ الْخُصُومَةُ الَّتِي هِيَ أَحَدُ الْمَقْصُودَيْنِ . وَأَمَّا " الْحُقُوقُ " فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ وَصَلَتْ مَعَهُ أَوْ رَضِيَ صَاحِبُ الْحَقِّ بِتَرْكِهِ وَهُوَ جَائِزٌ وَإِذَا انْفَصَلَتْ الْحُقُوقُ بِحُكْمِ وَشَهَادَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ فِي فَصْلِهَا جَرْحُ الْحُكَّامِ وَالشُّهُودِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي لَا يُصَارُ إلَيْهَا إلَّا لِضَرُورَةِ كَالْمُخَاصَمَةِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْفَصْلِ الْأَمْرُ صَعْبًا بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ وَغَيْرِهِمَا .

" فَالْأَقْسَامُ أَرْبَعَةٌ " : إمَّا فَصْلٌ بِصُلْحِ . فَهَذَا هُوَ الْغَايَةُ لِأَنَّهُ حَصَّلَ الْمَقَاصِدَ الثَّلَاثَ عَلَى التَّمَامِ . وَإِمَّا فَصْلٌ بِحُكْمِ مَرَّ . فَقَدْ حَصَلَ مَعَهُ وُصُولُ الْحَقِّ وَقَطْعُ الْخُصُومَةِ وَلَمْ يَحْصُلْ مَعَهُ صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ : وَإِمَّا صُلْحٌ عَلَى تَرْكِ بَعْضِ مَا يَدَّعِي أَنَّهُ حَقٌّ . فَهَذَا أَيْضًا قَدْ حَصَّلَ مَقْصُودَ الصُّلْحِ وَقَطَعَ النِّزَاعَ ؛ وَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ وُصُولِ الْحُقُوقِ ؛ لَكِنْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ التَّرْكِ . وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْحُكْمَ بِالصُّلْحِ أَحْسَنُ مِنْ الْحُكْمِ بِالْفَصْلِ الْمُرِّ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي دَفْعِ الْخُصُومَةِ وَامْتَازَ ذَلِكَ بِصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ مَعَ تَرْكِ أَحَدِهِمَا لِحَقِّهِ ؛ وَامْتَازَ الْآخَرُ بِأَخْذِ الْمُسْتَحِقِّ حَقَّهُ مَعَ ضَغَائِنَ . فَتِلْكَ الْمَصْلَحَةُ أَكْمَلُ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْحَقُّ إنَّمَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ وَقَدْ يَكُونُ الْبَاطِنُ بِخِلَافِهِ . وَأَمَّا لَا فَضْلَ وَلَا صُلْحَ فَهَذَا لَا يَصْلُحُ يَحْصُلُ بِهِ مَفْسَدَةُ تَرْكِ الْقَضَاءِ . وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي يَدِ صَاحِبِهِ كَالْوَقْفِ وَغَيْرِهِ يَخَافُ إنْ لَمْ يُحْفَظْ بِالْبَيِّنَاتِ أَنْ يُنْسِيَهُ شَرْط وَيَجْحَد وَلَا يَأْتِيهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ فَهُنَا فِي سَمَاعِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حِفْظُ الْحَقِّ الْمَجْحُودِ عَنْ خَصْمٍ مُقَدَّرٍ وَهَذَا أَحَدُ مَقْصُودَيْ الْقَضَاءِ فَلِذَلِكَ يُسْمَعُ ذَلِكَ . وَمَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ : لَا يُسْمَعُ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ فَعِنْدَهُ لَيْسَ لِلْقَضَاءِ فَائِدَةٌ إلَّا فَصْلُ الْخُصُومَةِ وَلَا خُصُومَةَ وَلَا قَضَاءَ ؛ فَلِذَلِكَ لَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ إلَّا فِي وَجْهٍ مُدَّعًى عَلَيْهِ لِتَظْهَرَ الْخُصُومَةُ . وَمَنْ قَالَ بِالْخَصْمِ الْمُسَخَّرِ فَإِنَّهُ يُنْصَبُ لِلشَّرِّ ثُمَّ يَقْطَعُهُ وَمَنْ قَالَ تُسْمَعُ فَإِنَّهُ يَحْفَظُ الْحَقَّ الْمَوْجُودَ وَيَذَرُ الشَّرَّ الْمَفْقُودَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
فِيمَا جَعَلَ اللَّهُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ وَمَا لَمْ يَجْعَلْ لِوَاحِدِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ الْحُكْمَ فِيهِ بَلْ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْحُكَّامِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الشَّخْصُ مِنْ آحَادِ الْعَامَّةِ . وَهَذَا مِثْلُ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ جَمِيعَ الْخَلْقِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهَا وَيَعْمَلُوا بِهَا وَقَدْ بَيَّنَهَا فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ أَوْ تَنَازَعَتْ الْأُمَّةُ فِيهِ إذَا وَقَعَ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْحُكَّامِ وَبَيْنَ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ : مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الْجُنْدِ أَوْ الْعَامَّةِ أَوْ غَيْرِهِمْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهَا عَلَى مَنْ يُنَازِعُهُ وَيُلْزِمَهُ بِقَوْلِهِ وَيَمْنَعَهُ مِنْ الْقَوْلِ الْآخَرِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُؤْذِيَهُ أَوْ يُعَاقِبَهُ . مِثْلُ أَنْ يَتَنَازَعَ حَاكِمٌ أَوْ غَيْرُ حَاكِمٍ فِي قَوْلِهِ : { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } هَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ ؟ كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ وَقَالُوا : إنَّ مَسَّ الْمَرْأَةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لَا لِشَهْوَةِ وَلَا لِغَيْرِ شَهْوَةٍ . أَوْ الْمُرَادُ بِهِ اللَّمْسُ بِجَمِيعِ الْبَشَرَةِ إمَّا لِشَهْوَةِ وَإِمَّا مُطْلَقًا ؟ كَمَا نُقِلَ الْأَوَّلُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ . وَالثَّالِثُ قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ . وَلِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ " .

وَالْأَظْهَرُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَأَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَنْتَقِضُ بِمَسِّ النِّسَاءِ مُطْلَقًا وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يَمَسُّونَ نِسَاءَهُمْ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ قَطُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ الْمُسْلِمِينَ بِالْوُضُوءِ مِنْ ذَلِكَ ؛ وَلَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ عَلَى حَيَاتِهِ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ ؛ وَلَا نُقِلَ عَنْهُ قَطُّ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ ؛ بَلْ قَدْ نُقِلَ عَنْهُ فِي السُّنَنِ { أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ نِسَائِهِ وَلَا يَتَوَضَّأُ } وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ ؛ لَكِنْ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ الْمَسِّ . وَكَذَلِكَ تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْوُضُوءِ مِنْ خُرُوجِ الدَّمِ بِالْفِصَادِ وَالْحِجَامَةِ وَالْجَرْحِ وَالرُّعَافِ وَفِي " الْقَيْءِ " وَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ ؛ وَعَنْ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ؛ لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ قَطُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ بَلْ كَانَ أَصْحَابُهُ يَخْرُجُونَ فِي الْمَغَازِي فَيُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْوُضُوءِ " مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ " و " مَسِّ الْمَرْأَةِ لِشَهْوَةِ " إنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَجِبُ وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي " الْوُضُوءِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ " و " مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ " إنَّ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ وَلَا يَجِبُ ؛ فَمَنْ تَوَضَّأَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَهَذَا أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ . وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ ذِكْرَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ؛ بَلْ الْمَقْصُودُ ضَرْبُ الْمَثَلِ بِهَا .

وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ كَالْجَدِّ وَالْمُشْرِكَةِ وَغَيْرِهِمَا وَفِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الطَّلَاقِ وَالْإِيلَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْعِبَادَاتِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَفِي مَسَائِلِ زِيَارَاتِ الْقُبُورِ ؛ مِنْهُمْ مِنْ كَرِهَهَا مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَاحَهَا وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَحَبَّهَا إذَا كَانَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ . وَتَنَازَعُوا فِي " السَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " : هَلْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةِ ؟ أَوْ مُسْتَقْبِلَ الْحُجْرَةِ ؟ وَهَلْ يَقِفُ بَعْدَ السَّلَامِ يَدْعُو لَهُ أَمْ لَا ؟ وَتَنَازَعُوا أَيُّ الْمَسْجِدَيْنِ أَفْضَلُ : الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَوْ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمَا أَفْضَلُ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَى بُقْعَةٍ لِلْعِبَادَةِ فِيهَا غَيْرَ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ السَّفَرَ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ وَتَنَازَعُوا فِيمَا إذَا نَذَرَ السَّفَرَ إلَى الْمَسْجِدَيْنِ إلَى أُمُورٍ أُخْرَى يَطُولُ ذِكْرُهَا . وَتَنَازَعُوا فِي بَعْضِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ : هَلْ ثَبَتَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ أَوْ لَمْ تَثْبُتْ ؟

فَهَذِهِ الْأُمُورُ الْكُلِّيَّةُ لَيْسَ لِحَاكِمِ مِنْ الْحُكَّامِ كَائِنًا مَنْ كَانَ - وَلَوْ كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ - أَنْ يَحْكُمَ فِيهَا بِقَوْلِهِ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِي قَوْلِهِ فَيَقُولُ : أَلْزَمْته أَنْ لَا يَفْعَلَ وَلَا يُفْتِيَ إلَّا بِالْقَوْلِ الَّذِي يُوَافِقُ لِمَذْهَبِي ؛ بَلْ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْحَاكِمُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ تَكَلَّمَ بِمَا عِنْدَهُ وَإِذَا كَانَ عِنْدَ مُنَازِعِهِ عِلْمٌ تَكَلَّمَ بِهِ فَإِنْ ظَهَرَ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ وَعُرِفَ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجَبَ عَلَى الْجَمِيعِ اتِّبَاعُ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ خَفِيَ ذَلِكَ أُقِرَّ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى قَوْلِهِ - أُقِرَّ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى مَذْهَبِهِ وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى مَذْهَبِهِ - وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَمْنَعَ الْآخَرَ إلَّا بِلِسَانِ الْعِلْمِ وَالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ فَيَقُولُ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ . وَأَمَّا " بِالْيَدِ وَالْقَهْرِ " فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ إلَّا فِي الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي يُتَحَاكَمُ فِيهَا إلَيْهِ مِثْلُ مَيِّتٍ مَاتَ وَقَدْ تَنَازَعَ وَرَثَتُهُ فِي قَسْمِ تَرِكَتِهِ فَيُقَسِّمُهَا بَيْنَهُمْ إذَا تَحَاكَمُوا إلَيْهِ وَإِذَا حَكَمَ هُنَا بِأَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَلْزَمَ الْخَصْمَ بِحُكْمِهِ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقُولَ أَنَا لَا أَرْضَى حَتَّى يَحْكُمَ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ . وَكَذَلِكَ إذَا تَحَاكَمَ إلَيْهِ اثْنَانِ فِي دَعْوَى يَدَّعِيهَا أَحَدُهُمَا فَصَلَ بَيْنَهُمَا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَلْزَمَ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِمَا حَكَمَ بِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ : أَنْت حَكَمْت عَلَيَّ بِالْقَوْلِ الَّذِي لَا أَخْتَارُهُ ؛ فَإِنَّ الْحَاكِمَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } وَقَدْ يَخُصُّ اللَّهُ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ

وَالْحُكَّامِ بِعِلْمِ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } .
وَعَلَى الْحُكَّامِ أَنْ لَا يَحْكُمُوا إلَّا بِالْعَدْلِ . " وَالْعَدْلُ " هُوَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فَأَوْجَبَ اللَّهُ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ مَعَ طَاعَةِ الرَّسُولِ وَأَوْجَبَ عَلَى الْأُمَّةِ إذَا تَنَازَعُوا أَنْ يَرُدُّوا مَا تَنَازَعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ . فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْحَكَمُ الَّذِي يَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِهِ وَالْحُكْمُ لَهُ وَحْدَهُ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ؛ فَمَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ كَانَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ وَكَانَتْ لَهُ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ عَصَى الرَّسُولَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ وَالْعَذَابِ ؛ قَالَ تَعَالَى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا

بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَامَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ يَقُولُ : اللَّهُمَّ رَبَّ جبرائيل وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْت تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا أَخْتَلِفُ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك ؛ إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . وَقَالَ تَعَالَى { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ هَدَاهُمْ وَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقَّ ؛ لَكِنَّ بَعْضَهُمْ يَبْغِي عَلَى بَعْضٍ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِالْحَقِّ فَيَتَّبِعُ هَوَاهُ وَيُخَالِفُ أَمْرَ اللَّهِ وَهُوَ الَّذِي يَعْرِفُ الْحَقَّ وَيَزِيغُ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَقَالَ يُوسُفُ : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ

سُلْطَانٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } فَالْحُكْمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَرُسُلُهُ يُبَلِّغُونَ عَنْهُ ؛ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُهُ وَأَمْرُهُمْ أَمْرُهُ وَطَاعَتُهُمْ طَاعَتُهُ فَمَا حَكَمَ بِهِ الرَّسُولُ وَأَمَرَهُمْ بِهِ وَشَرَعَهُ مِنْ الدِّينِ وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلَائِقِ اتِّبَاعُهُ وَطَاعَتُهُ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ . وَالرَّسُولُ يُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } فَعَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ أَنْ يُحَكِّمُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَأَفْضَلَ الْمُرْسَلِينَ وَأَكْرَمَ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ حُكْمِهِ فِي شَيْءٍ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الْمُلُوكِ أَوْ الشُّيُوخِ أَوْ غَيْرِهِمْ . وَلَوْ أَدْرَكَهُ مُوسَى أَوْ عِيسَى وَغَيْرُهُمَا مِنْ الرُّسُلِ كَانَ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ - عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا - قَالُوا : لَمْ

يَبْعَثْ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ عَهْدِ نُوحٍ إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهْم أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى النَّبِيِّ الْمُتَقَدِّمِ أَنْ يُصَدِّقَ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ وَعَلَى النَّبِيِّ الْمُتَأَخِّرِ أَنْ يُصَدِّقَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ ؛ وَلِهَذَا لَمْ تَخْتَلِفْ الْأَنْبِيَاءُ بَلْ دِينُهُمْ وَاحِدٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } أَيْ مِلَّتُكُمْ مِلَّةً وَاحِدَةً كَقَوْلِهِمْ : { إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } أَيْ مِلَّةٍ . وَقَالَ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ } فَدِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ مُسْلِمُونَ مُؤْمِنُونَ كَمَا قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ ؛ لَكِنَّ بَعْضَ الشَّرَائِعِ تَتَنَوَّعُ فَقَدْ يُشَرِّعُ فِي وَقْتٍ أَمْرًا لِحِكْمَةِ ثُمَّ يُشَرِّعُ فِي وَقْتٍ آخَرَ أَمْرًا آخَرَ لِحِكْمَةِ ؛ كَمَا شَرَعَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ

الصَّلَاةَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ وَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ فَتَنَوَّعَتْ الشَّرِيعَةُ وَالدِّينُ وَاحِدٌ وَكَانَ اسْتِقْبَالُ الشَّامِ ذَلِكَ الْوَقْتَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ السَّبْتُ لِمُوسَى مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ لَمَّا نُسِخَ صَارَ دِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ النَّاسِخَ وَهُوَ الصَّلَاةُ إلَى الْكَعْبَةِ فَمَنْ تَمَسَّكَ بِالْمَنْسُوخِ دُونَ النَّاسِخِ فَلَيْسَ هُوَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَلَا هُوَ مُتَّبِعٌ لِأَحَدِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَمَنْ بَدَّلَ شَرْعَ الْأَنْبِيَاءِ وَابْتَدَعَ شَرْعًا فَشَرْعُهُ بَاطِلٌ لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ كَمَا قَالَ : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وَلِهَذَا كَفَرَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِأَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِشَرْعِ مُبَدَّلٍ مَنْسُوخٍ . وَاَللَّهُ أَوْجَبَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِجَمِيعِ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ الرُّسُلِ ؛ فَعَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ اتِّبَاعُهُ وَاتِّبَاعُ مَا شَرَعَهُ مِنْ الدِّينِ وَهُوَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ الشَّرْعُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ اتِّبَاعُهُ ؛ - وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْخُرُوجُ عَنْهُ وَهُوَ الشَّرْعُ الَّذِي يُقَاتِلُ عَلَيْهِ الْمُجَاهِدُونَ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَسُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ تَنْصُرُ هَذَا الشَّرْعَ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَمَا قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نَضْرِبَ بِهَذَا - يَعْنِي السَّيْفَ - مَنْ خَرَجَ عَنْ هَذَا . يَعْنِي الْمُصْحَفَ } قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا

الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَأَنْزَلَ الْعَدْلَ وَمَا بِهِ يُعْرَفُ الْعَدْلُ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلَ الْحَدِيدَ . فَمَنْ خَرَجَ عَنْ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ قُوتِلَ بِالْحَدِيدِ . فَالْكِتَابُ وَالْعَدْلُ مُتَلَازِمَانِ وَالْكِتَابُ هُوَ الْمُبَيِّنُ لِلشَّرْعِ ؛ فَالشَّرْعُ هُوَ الْعَدْلُ وَالْعَدْلُ هُوَ الشَّرْعُ وَمَنْ حَكَمَ بِالْعَدْلِ فَقَدْ حَكَمَ بِالشَّرْعِ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَنْسُبُونَ مَا يَقُولُونَهُ إلَى الشَّرْعِ وَلَيْسَ مِنْ الشَّرْعِ ؛ بَلْ يَقُولُونَ ذَلِكَ إمَّا جَهْلًا وَإِمَّا غَلَطًا وَإِمَّا عَمْدًا وَافْتِرَاءً وَهَذَا هُوَ الشَّرْعُ الْمُبَدَّلُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَصْحَابُهُ الْعُقُوبَةَ ؛ لَيْسَ هُوَ الشَّرْعَ الْمُنَزَّلَ الَّذِي جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إلَى خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ فَإِنَّ هَذَا الشَّرْعَ الْمُنَزَّلَ كُلُّهُ عَدْلٌ لَيْسَ فِيهِ ظُلْمٌ وَلَا جَهْلٌ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } فَاَلَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ هُوَ الْقِسْطُ وَالْقِسْطُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } فَاَلَّذِي أَرَاهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ هُوَ الْعَدْلُ .
وَقَدْ يَقُولُ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَالْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ أَقْوَالًا بِاجْتِهَادِهِمْ ؛ فَهَذِهِ يَسُوغُ

الْقَوْلُ بِهَا وَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَلْتَزِمَ إلَّا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَهَذَا شَرْعٌ دَخَلَ فِيهِ التَّأْوِيلُ وَالِاجْتِهَادُ وَقَدْ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ الْمُنَزَّلِ فَيَكُونُ لِصَاحِبِهِ أَجْرَانِ وَقَدْ لَا يَكُونُ مُوَافِقًا لَهُ ؛ لَكِنْ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا ؛ فَإِذَا اتَّقَى الْعَبْدُ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ آجَرَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَغَفَرَ لَهُ خَطَأَهُ . وَمَنْ كَانَ هَكَذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يَذُمَّهُ وَلَا يَعِيبَهُ وَلَا يُعَاقِبَهُ وَلَكِنْ إذَا عُرِفَ الْحَقُّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَمْ يَجُزْ تَرْكُ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ وَذَلِكَ هُوَ الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ دِينُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ لَا يُجَاهِدُونَ عَلَى قَوْلِ عَالِمٍ وَلَا شَيْخٍ وَلَا مُتَأَوِّلٍ ؛ بَلْ يُجَاهِدُونَ لِيُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ وَيَكُونَ الدِّينُ لَهُ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بُعِثْت بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمِ فَهُوَ مِنْهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ { قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً : فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .

فَالْمَقْصُودُ بِالْجِهَادِ أَنْ لَا يُعْبَدَ أَحَدٌ إلَّا اللَّهُ ؛ فَلَا يَدْعُو غَيْرَهُ وَلَا يُصَلِّي لِغَيْرِهِ وَلَا يَسْجُدُ لِغَيْرِهِ ؛ وَلَا يَصُومُ لِغَيْرِهِ وَلَا يَعْتَمِرُ وَلَا يَحُجُّ إلَّا إلَى بَيْتَهُ وَلَا يَذْبَحُ الْقَرَابِينَ إلَّا لَهُ وَلَا يَنْذِرُ إلَّا لَهُ وَلَا يَحْلِفُ إلَّا بِهِ وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يَخَافُ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَتَّقِي إلَّا إيَّاهُ . فَهُوَ الَّذِي لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلَّا هُوَ وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إلَّا هُوَ وَلَا يَهْدِي الْخَلْقَ إلَّا هُوَ ؛ وَلَا يَنْصُرُهُمْ إلَّا هُوَ وَلَا يَرْزُقُهُمْ إلَّا هُوَ وَلَا يُغْنِيهِمْ إلَّا هُوَ وَلَا يَغْفِرُ ذُنُوبَهُمْ إلَّا هُوَ قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } { وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ } { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } { ثُمَّ إذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } { لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ الشِّرْكَ كُلَّهُ وَأَنْ يَجْعَلَ لَهُ نِدًّا ؛ فَلَا يُدْعَى غَيْرُهُ لَا الْمَلَائِكَةُ وَلَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا الصَّالِحُونَ وَلَا الشَّمْسُ وَلَا الْقَمَرُ وَلَا الْكَوَاكِبُ وَلَا الْأَوْثَانُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ ؛ بَلْ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ اتَّخَذَ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا فَهُوَ كَافِرٌ قَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى :

{ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِمَنْ يَدْعُو الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْهُمْ وَلَا تَحْوِيلَهُ وَأَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ بِالْوَسِيلَةِ وَهِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ فَكَيْفَ يَدْعُونَ الْمَخْلُوقِينَ وَيَذَرُونَ الْخَالِقَ وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا } وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلِيمٌ بِأَحْوَالِ عِبَادِهِ رَحِيمٌ بِهِمْ ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ رَأَى امْرَأَةً مِنْ السَّبْيِ إذْ رَأَتْ وَلَدًا أَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا فَقَالَ : أَتَرَوْنَ هَذِهِ وَاضِعَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ ؟ قَالُوا : لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا } وَهُوَ سُبْحَانَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ إنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إلَيَّ رَبِّي إنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } وَهُوَ تَعَالَى رَحِيمٌ وَدُودٌ . و " الْوُدُّ " اللُّطْفُ وَالْمَحَبَّةُ ؛ فَهُوَ يَوَدُّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَيَجْعَلُ لَهُمْ الْوُدَّ فِي الْقُلُوبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ : يُحِبُّهُمْ وَيُحَبِّبُهُمْ إلَى عِبَادِهِ .

وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ وَلَا تُغَلِّطُهُ الْمَسَائِلُ وَلَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ ؛ بَلْ يُحِبُّ مَنْ يَدْعُوهُ وَيَتَضَرَّعُ إلَيْهِ وَيُبْغِضُ مَنْ لَا يَدْعُوهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ لَا يَسْأَلُ اللَّهَ يَغْضَبُ عَلَيْهِ } وَقَالَ تَعَالَى { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ رَبُّنَا قَرِيبٌ فَنُنَاجِيهِ ؟ أَوْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ كَالْمَخْلُوقِينَ الَّذِينَ تُرْفَعُ إلَيْهِمْ الْحَوَائِجُ بِالْحِجَابِ ؛ بَلْ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ اللَّهُ حَمِدَنِي عَبْدِي فَإِذَا قَالَ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ اللَّهُ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي فَإِذَا قَالَ { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قَالَ اللَّهُ : مَجَّدَنِي عَبْدِي ؛ فَإِذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } قَالَ هَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ } .

وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَتَوَلَّى كَلَامَ عِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَاجِبٌ وَلَا تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ وَيَنْطُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ وَيَنْظُرُ أَمَامَهُ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ } وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَرِيبٌ مِمَّنْ دَعَاهُ يَتَقَرَّبُ مِمَّنْ عَبَدَهُ وَأَطَاعَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إذَا ذَكَرَنِي إنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ وَإِنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت مِنْهُ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت مِنْهُ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً } . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يُولِي عِبَادَهُ إحْسَانًا وَجُودًا وَكَرَمًا ؛ لَا لِحَاجَةٍ إلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } وَلَا يُحَاسِبُ الْعِبَادَ إلَّا هُوَ وَحْدَهُ وَهُوَ الَّذِي يُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } . وَهُوَ الَّذِي يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ وَيَنْصُرُهُمْ وَيَهْدِيهِمْ ؛ لَا أَحَدَ غَيْرَهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إنِ

الْكَافِرُونَ إلَّا فِي غُرُورٍ } { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ } وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْآيَةِ أَنَّ مَعْنَاهُ مَنْ ذَا الَّذِي يَكْلَؤُكُمْ بَدَلًا مِنْ اللَّهِ ؟ مِنْ الَّذِي يَدْفَعُ الْآفَاتِ عَنْكُمْ الَّتِي تَخَافُونَهَا مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ .
وَالرَّسُولُ هُوَ الْوَاسِطَةُ وَالسَّفِيرُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ الَّذِي يُبَلِّغُهُمْ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ وَتَحْلِيلَهُ وَتَحْرِيمَهُ : فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا شَرَعَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الشَّرْعُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ إلْزَامُ النَّاسِ بِهِ وَيَجِبُ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ الْجِهَادُ عَلَيْهِ وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ اتِّبَاعُهُ وَنَصْرُهُ .
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّرْعِ اللَّازِمِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ " حُكْمُ الْحَاكِمِ " وَلَوْ كَانَ الْحَاكِمُ أَفْضَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ ؛ بَلْ حُكْمُ الْحَاكِمِ الْعَالِمِ الْعَادِلِ يُلْزِمُ قَوْمًا مُعَيَّنِينَ تَحَاكَمُوا إلَيْهِ فِي قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ ؛ لَا يَلْزَمُ جَمِيعَ الْخُلُقِ وَلَا يَجِبُ عَلَى عَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَلِّدَ حَاكِمًا لَا فِي قَلِيلٍ وَلَا فِي كَثِيرٍ إذَا كَانَ قَدْ عَرَفَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ؛ بَلْ لَا يَجِبُ عَلَى آحَادِ الْعَامَّةِ تَقْلِيدُ الْحَاكِمِ فِي شَيْءٍ ؛ بَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مَنْ يَجُوزُ لَهُ اسْتِفْتَاؤُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمًا وَمَتَى تَرَكَ الْعَالِمُ مَا عَلِمَهُ مِنْ

كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَاتَّبَعَ حُكْمَ الْحَاكِمِ الْمُخَالِفِ لِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ مُرْتَدًّا كَافِرًا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى : { المص } { كِتَابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } . وَلَوْ ضُرِبَ وَحُبِسَ وَأُوذِيَ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى لِيَدَعَ مَا عَلِمَهُ مِنْ شَرْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَاتَّبَعَ حُكْمَ غَيْرِهِ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِعَذَابِ اللَّهِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ وَإِنْ أُوذِيَ فِي اللَّهِ فَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الم } { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } .
وَهَذَا إذَا كَانَ الْحَاكِمُ قَدْ حَكَمَ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ قَدْ تَنَازَعَ فِيهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فَحُكْمُ الْحَاكِمِ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُخَالِفُ مَا حَكَمَ بِهِ فَعَلَى هَذَا أَنْ يَتَّبِعَ

مَا عَلِمَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْمُرَ بِذَلِكَ وَيُفْتِيَ بِهِ وَيَدْعُوَ إلَيْهِ وَلَا يُقَلِّدَ الْحَاكِمَ . هَذَا كُلُّهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنْ تَرَكَ الْمُسْلِمُ عَالِمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ مَا عَلِمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ غَيْرِهِ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعَذَابِ قَالَ تَعَالَى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْحَاكِمُ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ هَذَا النَّصُّ - مِثْلَ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ تَكَلَّمُوا فِي مَسَائِلَ بِاجْتِهَادِهِمْ وَكَانَ فِي ذَلِكَ سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُخَالِفُ اجْتِهَادَهُمْ - فَهُمْ مَعْذُورُونَ لِكَوْنِهِمْ اجْتَهَدُوا و { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وَلَكِنْ مَنْ عَلِمَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ السُّنَّةِ إلَى غَيْرِهَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } وَمَنْ اتَّبَعَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ كَانَ مَهْدِيًّا مَنْصُورًا بِنُصْرَةِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } { إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ } { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } وَإِذَا أَصَابَتْ الْعَبْدَ مُصِيبَةٌ كَانَتْ بِذَنْبِهِ لَا بِاتِّبَاعِهِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ بِاتِّبَاعِهِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

يُرْحَمُ وَيُنْصَرُ وَبِذُنُوبِهِ يُعَذَّبُ وَيُخْذَلُ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } وَلِهَذَا لَمَّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ وَكَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِمْ الْعَدُوُّ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ بِذُنُوبِهِمْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ حِكْمَةَ ابْتِلَائِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ } { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { إنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } { وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } وَاَللَّهُ قَدَّرَهَا وَقَدَّرَ كُلَّ شَيْءٍ . لَكِنْ مَا أَصَابَ الْعَبْدَ مِنْ عَافِيَةٍ وَنَصْرٍ وَرِزْقٍ فَهُوَ مِنْ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِ فَالْخَيْرُ كُلُّهُ مِنْ اللَّهِ ؛ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ بَلْ هُوَ فَقِيرٌ لَا يَمْلِكُ

لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا : وَمَا أَصَابَهُ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِذُنُوبِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يُكَفِّرُ ذُنُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِتِلْكَ الْمَصَائِبِ وَيَأْجُرُهُمْ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا وَيَغْفِرُ لِمَنْ اسْتَغْفَرَ وَيَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا غَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى حَتَّى الشَّوْكَةِ يشاكها ؛ إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ } { وَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ جَاءَتْ قَاصِمَةَ الظَّهْرِ وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا ؟ قَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْت تَنْصَبُ ؟ أَلَسْت تَحْزَنُ ؟ أَلَسْت تُصِيبُك اللَّأْوَاءُ ؟ فَذَلِكَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ } وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي الْقُرْآنِ أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا أَصَابَهُمْ وَمَا أَصَابَ أَتْبَاعَهُمْ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْأَذَى فِي اللَّهِ ثُمَّ إنَّهُ تَعَالَى نَصَرَهُمْ وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ وَقَصَّ عَلَيْنَا ذَلِكَ لِنَعْتَبِرَ بِهِ قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .
فَالشَّرْعُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَّبِعَهُ وَيَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ نَصْرُهُ وَالْجِهَادُ عَلَيْهِ هُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَأَمَّا حُكْمُ الْحَاكِمِ فَذَاكَ يُقَالُ لَهُ قَضَاءُ الْقَاضِي ؛ لَيْسَ هُوَ الشَّرْعَ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ طَاعَتُهُ ؛ بَلْ الْقَاضِي الْعَالِمُ الْعَادِلُ يُصِيبُ تَارَةً وَيُخْطِئُ تَارَةً وَلَوْ حَكَمَ الْحَاكِمُ لِشَخْصِ بِخِلَافِ

الْحَقِّ فِي الْبَاطِنِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُهُ وَلَوْ كَانَ الْحَاكِمُ سَيِّدَ الْأَوَّلِينَ والآخرين كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . { إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } فَهَذَا سَيِّدُ الْحُكَّامِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ يَقُولُ إذَا حَكَمْت لِشَخْصِ بِشَيْءِ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ فَلَا يَأْخُذُهُ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِالْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ لَا يَنْفُذُ فِي الْبَاطِنِ فَلَوْ حَكَمَ لِزَيْدِ بِمَالِ عَمْرٍو وَكَانَ مُجْتَهِدًا مُتَحَرِّيًا لِلْحَقِّ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُهُ . وَأَمَّا فِي " الْعُقُودِ والفسوخ " مِثْلُ أَنْ يَحْكُمَ بِنِكَاحِ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ فَسْخِ بَيْعٍ فَفِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ وَجُمْهُورُهُمْ يَقُولُونَ لَا يَنْفُذُ أَيْضًا وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَعْرُوفَةٌ ؛ وَهَذَا إذَا كَانَ الْحَاكِمُ عَالِمًا عَادِلًا وَقَدْ حَكَمَ فِي أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ . و " الْقُضَاةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ . وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ . وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ } فَالْقَاضِي الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إذَا حَكَمَ لِلْإِنْسَانِ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَخْذُهُ ؛ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ إذَا حَكَمَ فِي الدِّينِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ ؛ بَلْ هُوَ فِيهِ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ تَكَلَّمَ وَإِلَّا سَكَتَ ؛

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131