الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

الْعَارِضِ . فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي مَعْنَى الْفِعْلِيَّةِ نَفْيٌ لِكَوْنِهَا عَمِلَتْ عَمَلَ الْفِعْلِ . لَكِنَّهَا دَلَّتْ عَلَى اتِّصَافِ الذَّاتِ بِهَذَا فَنَفَتْ عَنْ الذَّاتِ أَنْ يَعْرِضَ لَهَا هَذَا الْفِعْلُ تَنْزِيهًا لِلذَّاتِ وَنَفْيًا لِقَبُولِهَا لِذَلِكَ . فَالْأَوَّلُ نَفْيُ الْفِعْلِ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ وَالثَّانِي نَفْيُ قَبُولِهِ فِي الْمَاضِي مَعَ الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ . فَقَوْلُهُ { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } أَيْ نَفْسِي لَا تَقْبَلُ وَلَا يَصْلُحُ لَهَا أَنْ تَعْبُدَ مَا عَبَدْتُمُوهُ قَطُّ وَلَوْ كُنْتُمْ عَبَدْتُمُوهُ فِي الْمَاضِي فَقَطْ . فَأَيُّ مَعْبُودٍ عَبَدْتُمُوهُ فِي وَقْتٍ فَأَنَا لَا أَقْبَلُ أَنْ أَعْبُدَهُ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ . فَفِي هَذَا مِنْ عُمُومِ عِبَادَتِهِمْ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ وَمِنْ قُوَّةِ بَرَاءَتِهِ وَامْتِنَاعِهِ وَعَدَمِ قَبُولِهِ لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ مَا لَيْسَ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى . تِلْكَ تَضَمَّنَتْ نَفْيَ الْفِعْلِ فِي الزَّمَانِ غَيْرِ الْمَاضِي وَهَذِهِ تَضَمَّنَتْ نَفْيَ إمْكَانِهِ وَقَبُولِهِ لِمَا كَانَ مَعْبُودًا لَهُمْ وَلَوْ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ الْمَاضِي فَقَطْ . وَالتَّقْدِيرُ : مَا عَبَدْتُمُوهُ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ الْمَاضِيَةِ فَأَنَا لَا يُمْكِنُنِي وَلَا يَسُوغُ لِي أَنْ أَعْبُدَهُ أَبَدًا . وَلَكِنْ لَمْ يَنْفِ إلَّا مَا يَكُونُ مِنْهُ فِي الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَرَاءَتُهُ هُوَ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ . وَهَذِهِ السُّورَةُ يُؤْمَرُ بِهَا كُلُّ مُسْلِمٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ قَبْلَ قِرَاءَتِهَا .

فَهُوَ يَتَبَرَّأُ فِي الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ مِمَّا يَعْبُدُهُ الْمُشْرِكُونَ فِي أَيْ زَمَانٍ كَانَ وَيَنْفِي جَوَازَ عِبَادَتِهِ لِمَعْبُودِهِمْ وَيُبَيِّنُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَكُونُ وَلَا يَصْلُحُ وَلَا يَسُوغُ . فَهُوَ يَنْفِي جَوَازَهُ شَرْعًا وَوُقُوعًا . فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ لَا يُقَالُ إلَّا فِيمَا يُسْتَقْبَحُ مِنْ الْأَفْعَالِ كَمَنْ دُعِيَ إلَى ظُلْمٍ أَوْ فَاحِشَةٍ فَقَالَ : " أَنَا أَفْعَلُ هَذَا ؟ مَا أَنَا بِفَاعِلِ هَذَا أَبَدًا " . فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ " لَا أَفْعَلُهُ أَبَدًا " . وَهَذَا كَقَوْلِهِ { وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } . فَهُوَ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْفِعْلِ بُغْضًا فِيهِ وَكَرَاهَةً لَهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ " لَا أَفْعَلُ " . فَقَدْ يَتْرُكُهُ الْإِنْسَانُ وَهُوَ يُحِبُّهُ لِغَرَضِ آخَرَ . فَإِذَا قَالَ " مَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ " دَلَّ عَلَى الْبُغْضِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْمَقْتِ لِمَعْبُودِهِمْ وَلِعِبَادَتِهِمْ إيَّاهُ . وَهَذِهِ هِيَ الْبَرَاءَةُ . وَلِهَذَا تُسْتَعْمَلُ فِي ضِدِّ الْوِلَايَةِ فَيُقَالُ : تَوَلَّ فُلَانًا وَتَبَرَّأَ مِنْ فُلَانٍ . كَمَا قَالَ تَعَالَى { إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } الْآيَةَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ عَنْ الْكُفَّارِ : { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } فَهُوَ خِطَابٌ لِجِنْسِ الْكُفَّارِ وَإِنْ أَسْلَمُوا فِيمَا بَعْدُ فَهُوَ خِطَابٌ لَهُمْ مَا دَامُوا كُفَّارًا . فَإِذَا أَسْلَمُوا لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ ذَلِكَ . فَإِنَّهُمْ حِينَئِذٍ مُؤْمِنُونَ لَا كَافِرُونَ .

وَإِنْ كَانُوا مُنَافِقِينَ فَهُمْ كَافِرُونَ فِي الْبَاطِنِ فَيَتَنَاوَلُهُمْ الْخِطَابُ . وَهَذَا كَمَا يُقَالُ : قُلْ يَا أَيُّهَا الْمُحَارِبُونَ وَالْمُخَاصِمُونَ وَالْمُقَاتِلُونَ وَالْمُعَادُونَ . فَهُوَ خِطَابٌ لَهُمْ مَا دَامُوا مُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ . وَمَا دَامَ الْكَافِرُ كَافِرًا فَإِنَّهُ لَا يَعْبُدُ اللَّهَ وَإِنَّمَا يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ ؛ سَوَاءٌ كَانَ مُتَظَاهِرًا أَوْ غَيْرَ مُتَظَاهِرٍ بِهِ كَالْيَهُودِ . فَإِنَّ الْيَهُودَ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَإِنَّمَا يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ لِأَنَّ عِبَادَةَ اللَّهِ إنَّمَا تَكُونُ بِمَا شَرَعَ وَأَمَرَ . وَهُمْ وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُ فَتِلْكَ الْأَعْمَالُ الْمُبَدَّلَةُ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهَا هُوَ يَكْرَهُهَا وَيُبْغِضُهَا وَيَنْهَى عَنْهَا فَلَيْسَتْ عِبَادَةً . فَكُلُّ كَافِرٍ بِمُحَمَّدِ لَا يَعْبُدُ مَا يَعْبُدُهُ مُحَمَّدٌ مَا دَامَ كَافِرًا . وَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ يَتَنَاوَلُ مَا هُوَ دَائِمٌ لَا يَنْقَطِعُ . فَهُوَ مَا دَامَ كَافِرًا لَا يَعْبُدُ مَعْبُودَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا فِي الْحَاضِرِ وَلَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ . وَلَمْ يَقُلْ عَنْهُمْ " وَلَا تَعْبُدُونَ مَا أَعْبُدُ " بَلْ ذَكَرَ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ لِيُبَيِّنَ أَنَّ نَفْسَ نُفُوسِكُمْ الْخَبِيثَةِ الْكَافِرَةِ بَرِيئَةٌ مِنْ عِبَادَةِ إلَهِ مُحَمَّدٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَعْبُدَهُ مَا دَامَتْ كَافِرَةً . إذْ لَا تَكُونُ عَابِدَتَهُ إلَّا بِأَنْ تَعْبُدَهُ

وَحْدَهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ . وَمَنْ كَانَ كَافِرًا بِمُحَمَّدِ لَا يَكُونُ عَمَلُهُ عِبَادَةً لِلَّهِ قَطُّ . وَتَبْرِئَتُهُمْ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ جَاءَتْ بِلَفْظِ وَاحِدٍ بِجُمْلَةِ اسْمِيَّةٍ تَقْتَضِي بَرَاءَةَ ذَوَاتِهِمْ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ لَمْ تَقْتَصِرْ عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ . وَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَقُولَ فِيهِمْ " وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا عَبَدْت " كَمَا قَالَ فِي نَفْسِهِ { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } لِوَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِقِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ مَعْبُودُهُ غَيْرَ اللَّهِ . فَلَوْ قَالَ " وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا عَبَدْت " لَقَالُوا : بَلْ نَحْنُ نَعْبُدُ مَا كُنْت تَعْبُدُ لَمَّا كُنْت مُشْرِكًا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ " وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ " . وَلَمْ يَقُلْ " مَا أَنَا عَابِدٌ لَهُ " إذْ نَفْسُهُ قَدْ لَا تَكُونُ عَابِدَةً لَهُ مُطْلَقًا . وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَعْبُدَ الْوَاحِدُ مِنْ النَّاسِ غَيْرَ اللَّهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَكُونُ مَنْ لَمْ يَعْبُدْ مَا يَعْبُدُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَذْمُومًا بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يُخَاطِبُ بِهَذِهِ السُّورَةِ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ حِينَ يَقُولُهَا مَا يَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ . فَهُوَ يَقُولُ لِلْكُفَّارِ " وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُهُ الْآنَ " . وَذَكَرَ النَّفْيَ عَنْ الْكُفَّارِ فِي الْجُمْلَتَيْنِ لِتَقَارُبِ كُلُّ جُمْلَةٍ جُمْلَةً . فَلَمَّا قَالَ { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } فَنَفَى الْفِعْلَ قَالَ { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } .

ثُمَّ لَمَّا زَادَ النَّفْيُ بِنَفْيِ جَوَازِ ذَلِكَ وَبَرَاءَةِ النَّفْسِ مِنْهُ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَتِهِ لَهُ وَقُبْحِهِ وَنَفَى أَنْ يَعْبُدَ شَيْئًا مِمَّا عَبَدُوهُ وَلَوْ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ قَالَ { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } بَلْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِنْ عِبَادَةِ مَا أَعْبُدُهُ . فَلَيْسَ لِبَرَاءَتِي وَكَمَالِ بَرَاءَتِي وَبُعْدِي مِنْ مَعْبُودِكُمْ وَكَمَالِ قُرْبِي إلَى اللَّهِ فِي عِبَادَتِي لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ يَكُونُ لَكُمْ نَصِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ . بَلْ أَنْتُمْ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا تَعْبُدُونَ مَا أَعْبُدُ لَا فِي الْحَالِ الْأُولَى وَلَا فِي الثَّانِيَةِ . وَلَوْ اقْتَصَرَ فِي تَبِرِّيهِمْ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَبْرِئَةٌ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ الثَّانِيَةِ . فَبَرَّأَهُمْ مِنْ مَعْبُودِهِ حِينَ الْبَرَاءَةِ الْأُولَى الْخَاصَّةِ وَحِينَ الْبَرَاءَةِ الثَّانِيَةِ الْعَامَّةِ الْقَاطِعَةِ . وَهُمْ لَمْ يَخْتَلِفْ حَالُهُمْ فِي الْحَالَيْنِ بَلْ هُمْ فِيهِمَا لَا يَعْبُدُونَ مَا يَعْبُدُ . فَلَمْ يَكُنْ فِي تَغْيِيرِ الْعِبَارَةِ فَائِدَةٌ وَإِنَّمَا غُيِّرَتْ الْعِبَارَةُ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ الْمُؤْمِنِينَ لِتَغْيِيرِ الْمَعْنَيَيْنِ . وَالْإِنْسَانُ يَقْوَى يَقِينُهُ وَإِخْلَاصُهُ وَتَوْحِيدُهُ وَبَرَاءَتُهُ مِنْ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ وَبُغْضُهُ لِمَا يَعْبُدُونَ وَلِعِبَادَتِهِمْ فَرَفَعَ دَرَجَتَهُ فِي ذَلِكَ . وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَقُولُ لِلْكُفَّارِ : " لَا تَعْبُدُونَ مَا أَعْبُدُ " فِي هَذِهِ الْحَالِ سَوَاءٌ كَانُوا هُمْ قَدْ زَادَ كُفْرُهُمْ وَبُغْضُهُمْ لَهُ أَوْ لَمْ يَزِدْ .

فَالْمَقْصُودُ بِالسُّورَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنْهُ . وَتَبِرِّيهِ مِنْهُمْ إنْشَاءٌ يُنْشِئُهُ كَمَا يُنْشِئُ الْمُتَكَلِّمُ بِالشَّهَادَتَيْنِ . وَهَذَا يَزِيدُ وَيَنْقُصُ . وَيَقْوَى وَيَضْعُفُ . وَأَمَّا هُمْ فَهُوَ يُخْبِرُ بِبَرَاءَتِهِمْ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يُنْشِئُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ . فَخِطَابُ الْمُؤْمِنِ عَنْ حَالِهِمْ خَبَرٌ عَنْ حَالِهِمْ وَالْخَبَرُ مُطَابِقٌ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ لَفْظُ خَبَرِهِ عَنْهُمْ إذَا كَانُوا فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ عِبَادَتِهِ لِلَّهِ لَا يَعْبُدُونَ مَا يَعْبُدُ . فَهَذَا اللَّفْظُ الْخَبَرِيُّ مُطَابِقٌ لِحَالِهِمْ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ زَادُوا أَوْ نَقَصُوا . وَلَا يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُنْشِئَ زِيَادَةً فِي كُفْرِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ . بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِدُعَائِهِمْ إلَى الْإِيمَانِ . وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْقِصَهُمْ فِي خَبَرِهِ عَمَّا هُمْ مُتَّصِفُونَ بِهِ . فَلَمْ يَكُنْ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ حَالِهِمْ زِيَادَةٌ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ وَلَا نَقْصٌ . فَلَمْ يُغَيِّرْ لَفْظَ الْخَبَرِ فِي الْحَالَيْنِ بِلَفْظِ وَاحِدٍ . وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ نَفْسُهُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُنْشِئَ قُوَّةَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَتَهُ وَحْدَهُ وَالْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ وَعِبَادَتَهُ وَبَرَاءَتَهُ مِنْهُ وَمِنْ عَابِدِيهِ . وَقَوْلُهُ : { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } وَإِنْ كَانَ لَفْظُهَا خَبَرًا فَفِيهَا مَعْنَى الْإِنْشَاءِ كَسَائِرِ أَلْفَاظٍ الْإِنْشَاءَاتِ كَقَوْلِهِ " أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَقَوْلِهِ { إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } { إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } وَقَوْلِهِ { إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } فَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِيهَا مَعْنَى الْإِنْشَاءِ لَهَا يُنْشِئُهُ الْمُؤْمِنُ فِي

نَفْسِهِ مِنْ زِيَادَةِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الشِّرْكِ وَهِيَ الْمُقَشْقَشَةُ الَّتِي تُقَشْقِشُ مِنْ الشِّرْكِ كَمَا يُقَشْقَشُ الْمَرِيضُ مِنْ الْمَرَضِ . فَإِنَّ الشِّرْكَ وَالْكُفْرَ أَعْظَمُ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ . فَأَمَرَ الْمُؤْمِنَ بِقَوْلِ يُوجِبُ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْبَرَاءَةِ مِنْ الشِّرْكِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ قَبْلَ ذَلِكَ . وَكُلَّمَا قَالَهُ ازْدَادَ بَرَاءَةً مِنْ الشِّرْكِ وَقَلْبُهُ شِفَاءً مِنْ الْمَرَضِ وَإِنْ كَانَ الْكَفَرَةُ الْمُخَاطَبُونَ لَا يَزْدَادُونَ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُمْ إلَّا كُفْرًا . فَالْجُمَلُ الْخَبَرِيَّةُ تُطَابِقُ الْمُخْبَرَ عَنْهُ وَالْإِنْشَاءُ يُوجِبُ إحْدَاثَ مَا لَمْ يَكُنْ . فَقِيلَ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } أَيْ أَنَا مُمْتَنِعٌ مِنْ هَذَا تَارِكٌ لَهُ ثُمَّ قَالَ { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } أَيْ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ هَذَا مُتَنَزِّهٌ عَنْهُ ؛ مُزَكٍّ لِنَفْسِي مِنْهُ فَإِنَّ الشِّرْكَ أَعْظَمُ مَا تنجس بِهِ النَّفْسُ وَأَعْظَمُ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَتَطْهِيرِهَا تَزْكِيَتُهَا مِنْهُ وَتَطْهِيرُهَا مِنْهُ . فَمَا أَنَا عَابِدٌ قَطُّ مَا عَبَدْتُمْ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ . وَأَنْتُمْ مَعَ ذَلِكَ مَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ بَلْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْبُدُ . وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ مَأْمُورٌ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَطَالِبٌ زِيَادَةَ الْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَمُجْتَهِدٌ فِي ذَلِكَ . وَأَنَا أُخْبِرُ عَنْكُمْ بِأَنَّكُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْبُدُ إمَّا لِكَوْنِكُمْ تَأْمُرُونَ بِذَلِكَ وَإِمَّا لِكَوْنِكُمْ تَعْبُدُونَهُ فَلَا أُخْبِرُ بِهِ فَإِنَّهُ كَذِبٌ . وَإِمَّا لِكَوْنِكُمْ تَجْتَهِدُونَ فِي الْبَرَاءَةِ وَتُبَالِغُونَ فِيهَا فَبِهَا تَخْتَلِفُ فِيهِ أَحْوَالُكُمْ .

وَأَنَا لَا يَسُوغُ لِي أَنْ أَذْكُرَ مَا يُزِيلُ بَرَاءَتَكُمْ وَلَا أُكْذِبُ عَلَيْكُمْ فَإِنَّكُمْ تَنْقُصُونَ مِنْهَا إذَا تَبَرَّأَتْ بَلْ التَّبَرِّي مِنْهَا دَاعٍ وَبَاعِثٌ لِمَنْ لَهُ عَقْلٌ أَنْ يَنْظُرَ فِي سَبَبِ هَذِهِ الْبَرَاءَةِ لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ الرَّسُولِ الَّذِي خُوطِبَ أَوَّلًا . بِقَوْلِهِ { قُلْ } . فَلْيَنْظُرْ الْعَاقِلُ فِي سَبَبِ بَرَاءَتِي مِنْ الشِّرْكِ وَمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَاخْتِيَارِي بِهِ عَدَاوَتَكُمْ وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَاكُمْ وَاحْتِمَالِي هَذِهِ الْمَكَارِهَ الْعَظِيمَةَ . بَعْدَ مَا كُنْتُمْ تُعَظِّمُونِي غَايَةَ التَّعْظِيمِ وَتَصِفُونِي بِالْأَمَانَةِ وَتُسَمُّونِي " الْأَمِينَ " وَتُفَضِّلُونِي عَلَى غَيْرِي وَنَسَبِي فِيكُمْ أَفْضَلُ نَسَبٍ وَتَعْرِفُونَ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيَّ مِنْ الْعَقْلِ وَالْمَعْرِفَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَحُسْنِ الْمَقَاصِدِ وَطَلَبِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَأَنِّي لَا أَخْتَارُ لِأَحَدِ مِنْكُمْ سُوءًا وَلَا أُرِيدُ أَنْ أُصِيبَ أَحَدًا بِشَرِّ . فَاخْتِيَارِي لِلْبَرَاءَةِ مِمَّا تَعْبُدُونَ وَإِظْهَارِي لِسَبِّهِمْ وَشَتْمِهِمْ . أَهْوَ سُدًى لَيْسَ لَهُ مُوجِبٌ أُوجِبُهُ ؟ فَانْظُرُوا فِي ذَلِكَ . فَفِي السُّورَةِ دُعَاءٌ وَبَعْثٌ لِلْكُفَّارِ إلَى طَلَبِ الْحَقِّ وَمَعْرِفَتِهِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ كَمَالِ الْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ . وَمَعَانِيهَا كَثِيرَةٌ شَرِيفَةٌ يَطُولُ وَصْفُهَا .
وَقَوْلُهُ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } يَتَنَاوَلُ كُلَّ كَافِرٍ . فَهُوَ لَا يَعْبُدُ مَا يَعْبُدُهُ أَحَدٌ مِنْ الْكُفَّارِ وَلَا مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَلَا غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ

وَالْكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى وَلَا غَيْرَهُمْ مِنْ أَصْنَافِ الْكُفَّارِ . وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } . فَذَكَرَ لَفْظَ " مَا " وَلَمْ يَقُلْ " مَنْ تَعْبُدُونَ " . و " مَا " تَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمَا ذَكَرَهُ المهدوي وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّهُ قَالَ : { مَا أَعْبُدُ } وَلَمْ يَقُلْ " مَنْ أَعْبُدُ " يُقَابِلُ بِهِ { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْأَصْنَامُ فَضَعِيفٌ جِدًّا يُغَيِّرُ اللُّغَةَ وَيَخُصُّ عُمُومَ الْقُرْآنِ وَهُوَ عُمُومٌ مَقْصُودٌ وَيُزِيلُ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ تَعَلَّقَتْ هَذِهِ الْبَرَاءَةُ . فَإِنَّ " مَا " فِي اللُّغَةِ إمَّا لِمَا لَا يُعْلَمُ ، و لِصِفَاتِ مَا يُعْلَمُ كَمَا فِي قَوْلِهِ { فَانْكِحُوا مَا طَابَ } { وَمَا سَوَّاهَا } { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } وَفِي التَّسْبِيحِ الْمَأْثُورِ أَنَّهُ يُقَالُ عِنْدَ سَمَاعِ الرَّعْدِ : " سُبْحَانَ مَا سَبَّحَتْ لَهُ " وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ . فَقَوْلُهُ : { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } جَارٍ عَلَى أَصْلِ اللُّغَةِ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ مُطْلَقًا فَهُوَ لَا يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ مَا عَبَدَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ فَعَبَّرَ عَنْ ذَوَاتِهِمْ بـ " مَنْ " فَتَخْصِيصُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الشِّرْكِ بِشِرْكِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ غَلَطٌ عَظِيمٌ وَإِنَّمَا هِيَ بَرَاءَةٌ مِنْ كُلِّ شِرْكٍ . وَكَوْنُ الرَّبِّ يَتَّصِفُ بِمَا تَتَّصِفُ بِهِ الْأَصْنَامُ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ مَا لَا

يَجُوزُ عَلَيْهِ وَلَا تَصِحُّ الْمُقَابَلَةُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ . بَلْ الْمَقْصُودُ ذِكْرُ الصِّفَاتِ وَالْإِخْبَارُ بِمَعْبُودِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ لِيَتَبَرَّأَ مِنْ مَعْبُودِهِمْ وَيُبَرِّئَهُمْ مِنْ مَعْبُودِهِ . وَإِذَا قَالَ الْيَهُودُ : نَحْنُ نَقْصِدُ عِبَادَةَ اللَّهِ . كَانُوا كَاذِبِينَ سَوَاءٌ عَرَفُوا أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ أَوْ لَمْ يَعْرِفُوا كَمَا يَقُولُ النَّصَارَى : إنَّا نَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ وَمَا نَحْنُ بِمُشْرِكِينَ وَهُمْ كَاذِبُونَ . لِأَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا عِبَادَتَهُ لَعَبَدُوهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَهُوَ الشَّرْعُ لَا بِالْمَنْسُوخِ الْمُبَدَّلِ . وَأَيْضًا فَالرَّبُّ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ عِبَادَتَهُ هُوَ عِنْدَهُمْ رَبٌّ لَمْ يُنْزِلْ الْإِنْجِيلَ وَلَا الْقُرْآنَ وَلَا أَرْسَلَ الْمَسِيحَ وَلَا مُحَمَّدًا . بَلْ هُوَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فَقِيرٌ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ بَخِيلٌ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ عَاجِزٌ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا شَرَعَهُ . وَعِنْد جَمِيعِهِمْ أَنَّهُ أَيَّدَ الْكَاذِبِينَ الْمُفْتَرِينَ عَلَيْهِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ رُسُلُهُ وَلَيْسُوا رُسُلَهُ بَلْ هُمْ كَاذِبُونَ سَحَرَةٌ . قَدْ أَيَّدَهُمْ وَنَصَرَهُمْ : وَنَصَرَ أَتْبَاعَهُمْ عَلَى أَوْلِيَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ أَوْلِيَاؤُهُ دُونَ النَّاسِ . فَالرَّبُّ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ هُوَ دَائِمًا يَنْصُرُ أَعْدَاءَهُ . فَهُمْ يَعْبُدُونَ هَذَا الرَّبَّ وَالرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنُونَ لَا يَعْبُدُونَ هَذَا الْمَعْبُودَ الَّذِي تَعْبُدُهُ الْيَهُودُ . فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَمَّا وَصَفَتْ بِهِ الْيَهُودُ مَعْبُودَهَا

مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَعْبُودًا لَهُمْ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذِهِ الْإِضَافَةِ . فَلَيْسَ هُوَ مَعْبُودًا لِلْيَهُودِ وَإِنَّمَا فِي جِبِلَّاتِهِمْ صِفَاتٌ لَيْسَتْ هِيَ صِفَاتُهُ زَيَّنَهَا لَهُمْ الشَّيْطَانُ . فَهُمْ يَقْصِدُونَ عِبَادَةَ الْمُتَّصِفِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ . فَالرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ لَا يَعْبُدُونَ شَيْئًا تَعْبُدُهُ الْيَهُودُ وَإِنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ مَنْ يَعْبُدُونَهُ . وَهَذَا مِمَّا يَظْهَرُ بِهِ فَائِدَةُ مَا ذَكَرْنَا . وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ خَطَأُ مَنْ قَالَ إنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى دُونَ الْيَهُودِ كَمَا فِي قَوْلِ ابْنِ زَيْدٍ : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } قَالَ لِلْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى وَالْيَهُودِ لَا يَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُونَ إلَّا أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَكْفُرُونَ " بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَقَتَلُوا طَوَائِفَ الْأَنْبِيَاءِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا . قَالَ : إلَّا الْعِصَابَةَ الَّتِي تَقُولُ حَيْثُ خَرَجَ بُخْتُ نَصَّرَ وَقِيلَ : مَنْ سَمَّوْا عُزَيْرًا " ابْنُ اللَّهِ " وَلَمْ يَعْبُدُوهُ . وَلَمْ يَفْعَلُوا كَمَا فَعَلَتْ النَّصَارَى قَالَتْ : الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَعَبَدَتْهُ . فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْيَهُودَ لَا تُشْرِكُ كَمَا أَشْرَكَتْ الْعَرَبُ وَالنَّصَارَى صَحِيحٌ لَكِنَّهُمْ مَعَ هَذَا لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ . بَلْ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ . وَمَنْ قَالَ إنَّ الْيَهُودَ

تَعْبُدُ اللَّهَ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا قَبِيحًا . فَكُلُّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ كَانَ سَعِيدًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَكَانَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ . قَالَ تَعَالَى { أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } { وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ : إنَّك تَأْتِي قَوْمًا هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ فَأَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ } وَفِي رِوَايَةٍ : { فَادْعُهُمْ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَعْلِمْهُمْ . . . } " فَلَا يُعْبَدُ إلَّا اللَّهُ بَعْدَ أَنْ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا وَعُرِفَتْ رِسَالَتُهُ وَبُلِّغَتْ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ أَعْمَالَهُمْ حَابِطَةٌ . وَلَوْ عَبَدُوا اللَّهَ لَمْ تَحْبَطْ أَعْمَالُهُمْ . فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا . وَقَبْلَ إرْسَالِ مُحَمَّدٍ إنَّمَا كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مَنْ عَبَدَهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ . فَأَمَّا مَنْ تَرَكَ عِبَادَتَهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَهُوَ لَا يَعْبُدُ اللَّهَ إنَّمَا يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ وَيَعْبُدُ الطَّاغُوتَ . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْيَهُودِ بِأَنَّهُمْ عَبَدُوا الطَّاغُوتَ وَأَنَّهُ لَعَنَهُمْ وَغَضِبَ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ . وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَدْخُلُ فِيهِ الشَّيْطَانُ وَالْوَثَنُ وَالْكُهَّانُ

وَالدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَقَالَ تَعَالَى . { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } وَقَالَ { نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } الْآيَةَ وَهُمْ أَشَدُّ عَدَاوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ النَّصَارَى وَكُفْرُهُمْ أَغْلَظُ وَهُمْ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ . وَلِهَذَا قِيلَ : إنَّهُمْ تَحْتَ النَّصَارَى فِي النَّارِ . وَالْيَهُودُ إنْ لَمْ يَعْبُدُوا الْمَسِيحَ فَقَدْ افْتَرَوْا عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ النَّصَارَى . وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ النَّصَارَى فَوْقَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . فَالنَّصَارَى مُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيُشْرِكُونَ بِهِ . وَأَمَّا الْيَهُودُ فَلَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ بَلْ هُمْ مُعَطِّلُونَ لِعِبَادَتِهِ مُسْتَكْبِرُونَ عَنْهَا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ اسْتَكْبَرُوا فَفَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ . بَلْ هُمْ مُتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ عَابِدُونَ لِلشَّيْطَانِ . فَالنَّبِيُّ وَالْمُؤْمِنُونَ لَا يَعْبُدُونَ مَا تَعْبُدُهُ الْيَهُودُ . وَهُمْ وَإِنْ وَصَفُوا اللَّهَ بِبَعْضِ مَا يَسْتَحِقُّهُ فَهُمْ يَصِفُونَهُ بِمَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ . وَلَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ عِبَادَةٌ لَهُ وَحْدَهُ . فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ عَبَدَهُ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ . وَالسُّورَةُ لَمْ يَقُلْ فِيهَا : " يَا أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ " حَتَّى يُقَالَ فِيهَا إنَّهَا

إنَّمَا تَنَاوَلَتْ مَنْ أَشْرَكَ . بَلْ قَالَ { يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فَتَنَاوَلَتْ كُلَّ كَافِرٍ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ يُظْهِرُ الشِّرْكَ أَوْ كَانَ فِيهِ تَعْطِيلٌ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ وَاسْتِكْبَارٌ عَنْ عِبَادَتِهِ . وَالتَّعْطِيلُ شَرٌّ مِنْ الشِّرْكِ وَكُلُّ مُعَطِّلٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُشْرِكًا . وَالنَّصَارَى مَعَ شِرْكِهِمْ لَهُمْ عِبَادَاتٌ كَثِيرَةٌ وَالْيَهُودُ مِنْ أَقَلِّ الْأُمَمِ عِبَادَةً وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ . لَكِنْ قَدْ يَعْرِفُونَ مَا لَا تَعْرِفُهُ النَّصَارَى لَكِنْ بِلَا عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ بِالْعِلْمِ . فَهُمْ مَغْصُوبٌ عَلَيْهِمْ وَأُولَئِكَ ضَالُّونَ . وَكِلَاهُمَا قَدْ بَرَّأَ اللَّهُ مِنْهُمْ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ . وَفِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يَعْرِفُ مَا لَا تَعْرِفُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِلَا عَمَلٍ بِالْعِلْمِ . فَفِيهِمْ شَبَهٌ كَمَا قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة : مَنْ فَسَدَ مِنْ عُلَمَائِنَا كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مِنْ الْيَهُودِ وَمَنْ فَسَدَ مِنْ عِبَادِنَا كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مِنْ النَّصَارَى . بَلْ قَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : مَا أَقْرَبَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْبَارِحَةِ أَنْتُمْ أَشْبَهُ النَّاسِ بِبَنِي إسْرَائِيلَ . بَلْ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ . قَالُوا : الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى . قَالَ : فَمَنْ ؟ وَفِي رِوَايَةٍ : فَارِسُ وَالرُّومُ ؟ قَالَ : وَمَنْ النَّاسُ إلَّا أُولَئِكَ } ؟ " . وَقَالَ : " { افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَافْتَرَقَتْ

النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً } " . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ فِيهِ حَالُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الَّذِينَ هُمْ عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } مَعْنَاهُ الْمَعْبُودُ . وَلَكِنْ هُوَ لَفْظٌ مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ وَالْكَثِيرَ وَالْمُذَكَّرَ وَالْمُؤَنَّثَ . فَهُوَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَعْبُودٍ لَهُمْ . وَالْمَعْبُودُ هُوَ الْإِلَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ : لَا أَعْبُدُ إلَهَكُمْ وَلَا تَعْبُدُونَ إلَهِي كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي قِصَّةِ يَعْقُوبَ . قَالَ تَعَالَى { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } وَاسْمُ الْإِلَهِ وَالْمَعْبُودِ يَتَضَمَّنُ إضَافَةً إلَى الْعَابِدِ . وَقَالَ : { إلَهَ آبَائِكَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } هُوَ الَّذِي يَعْبُدُهُ هَؤُلَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَيُؤَلِّهُونَهُ . وَإِنَّمَا يَعْبُدُهُ مَنْ كَانَ عَلَى مِلَّتِهِمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ { إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إبْرَاهِيمَ

وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ } إلَى قَوْلِهِ { ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } . فَتَبَيَّنَ أَنَّ مِلَّةَ آبَائِهِ هِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ . وَهِيَ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } إلَى قَوْلِهِ { فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَيْسُوا عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا عَلَى مِلَّتِهِ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَ إلَهَ إبْرَاهِيمَ . فَإِنَّ مَنْ عَبَدَ إلَهَ إبْرَاهِيمَ كَانَ عَلَى مِلَّتِهِ قَالَ تَعَالَى { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } إلَى قَوْلِهِ { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فَقَوْلُهُ : { قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ } يُبَيِّنُ أَنَّ مَا عَلَيْهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يُنَافِي مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ . وَهَذَا بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ مِمَّا لَا رَيْبَ فِيهِ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي بُعِثَ بِمِلَّةِ إبْرَاهِيمَ . وَالطَّائِفَتَانِ كَانَتَا خَارِجَتَيْنِ عَنْهَا بِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ التَّبْدِيل . قَالَ تَعَالَى { إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا } وَقَالَ { قُلْ إنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ } الْآيَةَ . وَقَالَ { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } . وَقَوْلُهُ { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } ، يُبَيِّنُ

أَنَّ كُلَّ مَنْ رَغِبَ عَنْهَا فَقَدْ سَفِهَ نَفْسَهُ . وَفِيهِ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ وَالْمَعْنَى قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ نُحَاةِ الْكُوفَةِ وَاخْتِيَارُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَكْثَرِ السَّلَفِ أَنَّ النَّفْسَ هِيَ الَّتِي سَفِهَتْ . فَإِنَّ " سَفِهَ " فِعْلٌ لَازِمٌ لَا يَتَعَدَّى لَكِنَّ الْمَعْنَى : إلَّا مَنْ كَانَ سَفِيهًا فَجَعَلَ الْفِعْلَ لَهُ وَنَصَبَ النَّفْسَ عَلَى التَّمْيِيزِ لَا النَّكِرَةِ كَقَوْلِهِ { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } . وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَعَرَفُوا هَذَا وَهَذَا . قَالَ الْفَرَّاءُ : نَصْبُ النَّفْسِ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالتَّفْسِيرِ كَمَا يُقَالُ : ضِقْت بِالْأَمْرِ ذَرْعًا مَعْنَاهُ : ضَاقَ ذَرْعِي بِهِ . وَمِثْلُهُ { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } أَيْ اشْتَعَلَ الشَّيْبَ فِي الرَّأْسِ . قَالَ : وَمِنْهُ قَوْلُهُ : أَلِمَ فُلَانٌ رَأَسَهُ وَوَجِعَ بَطْنَهُ وَرَشَدَ أَمْرَهُ . وَكَانَ الْأَصْلُ : سَفِهَتْ نَفْسُ زَيْدٍ وَرَشَدَ أَمْرُهُ فَلَمَّا حَوَّلَ الْفِعْلَ إلَى زَيْدٍ انْتَصَبَ مَا بَعْدَهُ عَلَى التَّمْيِيزِ . فَهَذِهِ شَوَاهِدُ عَرَفَهَا الْفَرَّاءُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : غَبَنَ فُلَانٌ رَأْيَهُ وَبَطِرَ عَيْشَهُ . وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ { بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } أَيْ بَطِرَتْ نَفْسُ الْمَعِيشَةِ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ يَمَانِ بْنِ رَبَابٍ : حَمِقَ رَأْيُهُ وَنَفَسُهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ السَّائِبِ : ضَلَّ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَقَوْلِ

أَبِي رَوْقٍ : عَجَزَ رَأْيُهُ عَنْ نَفْسِهِ . وَالْبَصْرِيُّونَ لَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ . فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : جَهِلَ نَفْسَهُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ كيسان وَالزَّجَّاجُ . قَالَ : لِأَنَّ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ فَقَدْ جَهِلَ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ خَالِقَهَا . وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ ضَعِيفٌ . فَإِنَّهُ إنْ قِيلَ إنَّ الْمَعْنَى صَحِيحٌ فَهُوَ إنَّمَا قَالَ ( سَفِهَ و " سَفُهَ " فِعْلٌ لَازِمٌ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ و " جَهِلَ " فِعْلٌ مُتَعَدٍّ . وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ " سَفَّهْت كَذَا " أَلْبَتَّةَ بِمَعْنَى : جهلته . بَلْ قَالُوا : سَفُهَ بِالضَّمِّ سَفَاهَةً أَيْ صَارَ سَفِيهًا وَسَفِهَ بِالْكَسْرِ أَيْ حَصَلَ مِنْهُ سَفَهٌ كَمَا قَالُوا فِي " فَقِهَ وَفَقُهَ " . وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ : سَفِهَتْ الشُّرْبَ إذَا أَكْثَرْت مِنْهُ . وَهُوَ يُوَافِقُ مَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ أَيْ صَارَ شُرْبُهُ سَفِيهًا فَسَفِهَ شُرْبَهُ لَمَّا جَاوَزَ الْحَدَّ . وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَيُونُسُ : نُصِبَ بِإِسْقَاطِ الْخَافِضِ أَيْ سَفِهَ فِي نَفْسِهِ . وَقَوْلُهُمْ " بِإِسْقَاطِ الْخَافِضِ " لَيْسَ هُوَ أَصْلًا فَيُعْتَبَرُ بِهِ وَلَكِنْ قَدْ تَنْزِعُ حُرُوفُ الْجَرِّ فِي مَوَاضِعَ مَسْمُوعَةٍ فَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ بِنَفْسِهِ . وَإِنْ كَانَ مَقِيسًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ . ف " سَفِهَ " لَيْسَ مِنْ هَذَا لَا يُقَالُ : سَفِهْت أَمْرَ اللَّهِ وَلَا دِينَ الْإِسْلَامِ بِمَعْنَى : جَهِلْته أَيْ سَفِهْت فِيهِ . وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِالسَّفَهِ وَيُنْصَبُ عَلَى التَّمْيِيزِ مَا خُصَّ بِهِ .

مِثْلُ نَفْسِهِ أَوْ شُرْبِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ مَنْ رَغِبَ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ فَهُوَ سَفِيهٌ . قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : رَغِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ وَابْتَدَعُوا الْيَهُودِيَّةَ والنصرانية وَلَيْسَتْ مِنْ اللَّهِ وَتَرَكُوا دِينَ إبْرَاهِيمَ . وَكَذَلِكَ قَالَ قتادة : بَدَّلُوا دِينَ الْأَنْبِيَاءِ وَاتَّبَعُوا الْمَنْسُوخَ . فَأَمَّا مُوسَى وَالْمَسِيحُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمَا فَهُمْ عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ مُتَّبِعُونَ لَهُ وَهُوَ إمَامُهُمْ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ { إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا } . فَهُوَ يَتَنَاوَلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ وَبَعْدَ مَبْعَثِهِ . وَقِيلَ إنَّهُ عَامٌّ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : كُلُّ مُؤْمِنٍ وَلِيُّ إبْرَاهِيمَ مِمَّنْ مَضَى وَمِمَّنْ بَقِيَ . وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ : هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ صَدَّقُوا نَبِيَّ اللَّهِ وَاتَّبَعُوهُ وَكَانَ مُحَمَّدٌ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ . وَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَلَيْسُوا عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ . فَإِنْ قِيلَ : فَالْمُشْرِكُ يَعْبُدُ اللَّهَ وَغَيْرَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِ الْخَلِيلِ { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } { أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } . فَقَدْ اسْتَثْنَاهُ مِمَّا يَعْبُدُونَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } { إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } وَاسْتَثْنَاهُ

أَيْضًا . وَفِي الْمَسْنَدِ وَغَيْرِهِ حَدِيثُ { حُصَيْنٍ الخزاعي لَمَّا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا حُصَيْنُ كَمْ تَعْبُدُ الْيَوْمَ ؟ قَالَ : سَبْعَةُ آلِهَةٍ سِتَّةٌ فِي الْأَرْضِ وَوَاحِدٌ فِي السَّمَاءِ . قَالَ : فَمَنْ الَّذِي تَعُدُّ لِرَغْبَتِك وَرَهْبَتِك ؟ قَالَ : الَّذِي فِي السَّمَاءِ } . قِيلَ : هَذَا قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَقُولُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى : نَحْنُ نَعْبُدُ اللَّهَ . فَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ عِبَادَتَهُ مَعَ الشِّرْكِ بِهِ عِبَادَةٌ وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي هَذَا . وَأَمَّا قَوْلُ الْخَلِيلِ فَفِيهِ قَوْلَانِ . قَالَ طَائِفَةٌ : إنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ : كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ مَعَ آلِهَتِهِمْ . وَعَلَى هَذَا فَهَذَا لَفْظٌ مُقَيَّدٌ . فَإِنَّهُ قَالَ { مَا تَعْبُدُونَ } . فَسَمَّاهُ عِبَادَةً إذَا عَرَفَ الْمُرَادَ لَكِنْ لَيْسَتْ هِيَ الْعِبَادَةُ الَّتِي هِيَ عِنْدَ اللَّهِ عِبَادَةٌ . فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : " { أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ . مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ } " . وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } . سَمَّاهُ إيمَانًا مَعَ التَّقْيِيدِ وَإِلَّا فَالْمُشْرِكُ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ . وَقَدْ قَالَ { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } . فَهَذَا مَعَ التَّقْيِيدِ . وَمَعَ الْإِطْلَاقِ فَالْإِيمَانُ هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالْبِشَارَةُ بِالْخَيْرِ .

وَقَوْلُهُ { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } نَفْيُ الْعِبَادَةِ مُطْلَقًا لَيْسَ هُوَ نَفْيٌ لِمَا قَدْ يُسَمَّى عِبَادَةً مَعَ التَّقْيِيدِ . وَالْمُشْرِكُ إذَا كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ وَيَعْبُدُ غَيْرَهُ فَيُقَالُ : إنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ وَغَيْرَهُ أَوْ يَعْبُدُهُ مُشْرِكًا بِهِ . لَا يُقَالُ : إنَّهُ يَعْبُدُ مُطْلَقًا . وَالْمُعَطِّلُ الَّذِي لَا يَعْبُدُ شَيْئًا شَرٌّ مِنْهُ . وَالْعِبَادَةُ الْمُطْلَقَةُ الْمُعْتَدِلَةُ هِيَ الْمَقْبُولَةُ وَعِبَادَةُ الْمُشْرِكِ لَيْسَتْ مَقْبُولَةً . وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا قَوْلُهُ : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } الْآيَةَ . قَالُوا فِيهَا { نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ } ثُمَّ قَالُوا : { إلَهًا وَاحِدًا } . فَهَذَا بَدَلٌ مِنْ الْأَوَّلِ فِي أَظْهَرِ الْوَجْهَيْنِ . فَإِنَّ النَّكِرَةَ تُبْدَلُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ { لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ } { نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } فَذُكِرَتْ مُعَرَّفَةً وَمَوْصُوفَةً . كَذَلِكَ قَالُوا { نَعْبُدُ إلَهَكَ } فَعَرَّفُوهُ ثُمَّ قَالُوا { إلَهًا وَاحِدًا } فَوَصَفُوهُ . وَالْبَدَلُ فِي حُكْمِ تَكْرِيرِ الْعَامِلِ أَحْيَانًا كَمَا فِي قَوْلِهِ { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } فَالتَّقْدِيرُ : نَعْبُدُ إلَهَك نَعْبُدُ إلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . فَجَمَعُوا بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ بِأَمْرَيْنِ بِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ إلَهَهُ وَأَنَّهُمْ إنَّمَا يَعْبُدُونَ إلَهًا وَاحِدًا . فَمَنْ عَبَدَ إلَهَيْنِ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا لِإِلَهِهِ وَإِلَهِ آبَائِهِ . وَإِنَّمَا يَعْبُدُ إلَهَهُ مَنْ عَبَدَ إلَهًا وَاحِدًا . وَلَوْ كَانَ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَعَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ عَابِدًا لَهُ لَكَانَتْ عِبَادَتُهُ نَوْعَيْنِ عِبَادَةَ إشْرَاكٍ وَعِبَادَةَ إخْلَاصٍ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ

قَوْلُهُ { إلَهًا وَاحِدًا } بَدَلًا . لِأَنَّ هَذَا كُلٌّ مِنْ كُلٍّ لَيْسَ هُوَ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ . فَعَلِمَ أَنَّ إلَهَهُ وَإِلَهَ آبَائِهِ لَا يَكُونُ إلَّا إلَهًا وَاحِدًا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قَوْلُهُ { إلَهًا وَاحِدًا } نُصِبَ عَلَى الْحَالِ لَكِنَّهَا حَالٌ لَازِمَةٌ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا إلَهًا وَاحِدًا كَقَوْلِهِ { وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا } وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا مُصَدِّقًا . وَمِنْهُ { مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } { وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ } . فَمَنْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ فَمَا عَبَدَهُ إلَهًا وَاحِدًا وَمَنْ أَشْرَكَ بِهِ فَمَا عَبَدَهُ . وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا إلَهًا وَاحِدًا . فَإِذَا لَمْ يَعْبُدُهُ فِي الْحَالِ اللَّازِمَةِ لَهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَالٌ أُخْرَى يَعْبُدُهُ فِيهَا فَمَا عَبَدَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُشْرِكُ يَجْعَلُ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى فَهُوَ يَعْبُدُ فِي حَالٍ لَيْسَ هُوَ فِيهَا الْوَاحِدُ قِيلَ : هَذَا غَلَطٌ مَنْشَؤُهُ أَنَّ لَفْظَ " الْإِلَهِ " يُرَادُ بِهِ الْمُسْتَحِقُّ لِلْإِلَهِيَّةِ وَيُرَادُ بِهِ مَا اتَّخَذَهُ النَّاسُ إلَهًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَهًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ هِيَ أَسْمَاءٌ سَمَّوْهَا هُمْ وَآبَاؤُهُمْ . فَتِلْكَ لَيْسَتْ فِي نَفْسِهَا آلِهَةً وَإِنَّمَا هِيَ آلِهَةٌ فِي أَنْفُسِ الْعَابِدِينَ . فَإِلَهِيَّتُهَا أَمْرٌ قَدَّرَهُ الْمُشْرِكُونَ وَجَعَلُوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلْخَارِجِ كَاَلَّذِي يَجْعَلُ مَنْ لَيْسَ بِعَالَمِ عَالِمًا وَمَنْ لَيْسَ بِحَيِّ حَيًّا وَمَنْ لَيْسَ بِصَادِقِ وَلَا عَدْلٍ صَادِقًا وَعَدْلًا فَيُقَالُ : هَذَا عِنْدَك صَادِقٌ وَعَادِلٌ وَعَالِمٌ وَتِلْكَ اعْتِقَادَاتٌ غَيْرُ مُطَابِقَةٍ وَأَقْوَالٌ كَاذِبَةٌ غَيْرُ لَائِقَةٍ .

وَلِهَذَا يَجْعَلُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِافْتِرَاءِ وَالْكَذِبِ كَمَا قَالَ أَصْحَابُ الْكَهْفِ { هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } . وَقَالَ الْخَلِيلُ { إنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إفْكًا } . وَقَالَ { وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَخْرُصُونَ } أَيْ أَيُّ شَيْءٍ يَتَّبِعُ الَّذِينَ يُشْرِكُونَ ؟ وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ وَالْخَرْصَ وَهُوَ الْحَزْرُ . هَذَا صَوَابٌ وَأَنَّ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ . وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا نَافِيَةٌ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ كَأَبِي الْفَرَجِ . وَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا قَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقَالَ هُودٌ { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ إنْ أَنْتُمْ إلَّا مُفْتَرُونَ } . وَإِذَا كَانَتْ إلَهِيَّةُ مَا سِوَى اللَّهِ أَمْرًا مُخْتَلَقًا يُوجَدُ فِي الذِّهْنِ وَاللِّسَانِ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْأَعْيَانِ . وَهُوَ مِنْ بَابِ الْكَذِبِ وَالِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ الَّذِي لَيْسَ بِمُطَابِقِ . وَمَا عِنْدَ عَابِدِيهَا مِنْ الْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ لَهَا تَابِعٌ لِذَلِكَ الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ . كَمَنْ اعْتَقَدَ فِي شَخْصٍ أَنَّهُ صَادِقٌ فَصَدَّقَهُ فِيمَا يَقُولُ وَبَنَى عَلَى إخْبَارِهِ أَعْمَالًا كَثِيرَةً . فَلَمَّا تَبَيَّنَ كَذِبُهُ ظَهَرَ فَسَادُ تِلْكَ الْأَعْمَالِ كَأَتْبَاعِ مُسَيْلِمَةَ وَالْأُسُودِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ الزَّوَايَا وَالتُّرَّهَاتِ وَمَا يَشْرَعُونَهُ لِأَتْبَاعِهِمْ مِمَّا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ بِخِلَافِ الصَّادِقِ وَالصِّدْقِ .

وَلِهَذَا كَانَتْ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ { كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ } . وَقَالَ فِي كَلِمَةِ الشِّرْكِ { كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ } . فَلَيْسَ لَهَا أَسَاسٌ ثَابِتٌ وَلَا فَرْعٌ ثَابِتٌ إذْ كَانَتْ بَاطِلَةً كَأَقْوَالِ الْكَاذِبِينَ وَأَعْمَالِهِمْ . بَلْ هِيَ أَعْظَمُ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ مَعَ الْحُبِّ لَهَا . وَالشِّرْكُ أَعْظَمُ الظُّلْمِ . { قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْ الذَّنْبِ أَعْظَمُ . قَالَ : أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك } " . فَنَفْسُ تَأَلُّهِهِمْ لَهَا وَعِبَادَتِهِمْ إيَّاهَا وَتَعْظِيمِهَا وَحُبِّهَا وَدُعَائِهَا وَاعْتِقَادِهَا آلِهَةً وَالْخَبَرُ عَنْهَا بِأَنَّهَا آلِهَةٌ مَوْجُودٌ كَمَا كَانَ اعْتِقَادُ الْكَذَّابِينَ مَوْجُودًا . وَأَمَّا نَفْسُ اتِّصَافِهَا بِالْإِلَهِيَّةِ فَمَفْقُودٌ كَاتِّصَافِ مُسَيْلِمَةَ بِالنُّبُوَّةِ .
فَهُنَا حَالَانِ حَالٌ لِلْعَابِدِ وَحَالٌ لِلْمَعْبُودِ . فَأَمَّا الْعَابِدُونَ فَكُلُّهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ عِبَادَةٌ وَتَأَلُّهٌ لِمَنْ عَبَدُوهُ . وَأَمَّا الْمَعْبُودُونَ فَالرَّحْمَنُ لَهُ الْإِلَهِيَّةُ وَمَا سِوَاهُ لَا إلَهِيَّةَ لَهُ بَلْ هُوَ مَيِّتٌ لَا يَمْلِكُ لِعَابِدِيهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا . { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } وَهُوَ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ { سَبِيلًا } بِالتَّقَرُّبِ بِعِبَادَتِهِ وَذِكْرِهِ . وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهَا { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ

إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } فَأَخْبَرَ عَنْ الْخَلَائِقِ كُلِّهَا أَنَّهَا تُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . فَقَوْلُهُ { نَعْبُدُ إلَهَكَ } { إلَهًا وَاحِدًا } إذَا قِيلَ إنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ الْفَاعِلِ الْعَابِدِ أَوْ مِنْ الْمَفْعُولِ الْمَعْبُودِ . فَالْأَوَّلُ : نَعْبُدُهُ فِي حَالِ كَوْنِنَا مُخْلِصِينَ لَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ . وَالثَّانِي نَعْبُدُهُ فِي الْحَالِ اللَّازِمَةِ لَهُ وَهُوَ أَنَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ فَنَعْبُدُهُ مُخْلِصِينَ مُعْتَرِفِينَ لَهُ بِأَنَّهُ الْإِلَهُ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ . فَإِنْ كَانَ التَّقْدِيرُ هَذَا الثَّانِي امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْمُشْرِكُ عَابِدًا لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَعْبُدُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَيْسَتْ لَهُ حَالٌ أُخْرَى نَعْبُدُهُ فِيهَا . وَإِنْ كَانَ التَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ نَعْبُدَهُ فِي حَالٍ أُخْرَى نَتَّخِذُ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى فِي أَنْفُسِنَا . لَكِنَّ قَوْلَهُ { إلَهًا وَاحِدًا } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مِنْ الْمَعْبُودِ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ : نَعْبُدُهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينُ فَإِنَّ هَذِهِ حَالٌ مِنْ الْفَاعِلِ . وَلِهَذَا يَأْتِي هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } وَقَوْلِهِ { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } . فَهَذَا حَالٌ مِنْ الْفَاعِلِ

فَإِنَّهُ يَكُونُ تَارَةً مُخْلِصًا وَتَارَةً مُشْرِكًا . وَأَمَّا الرَّبُّ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا إلَهًا وَاحِدًا . وَالْحَالُ وَإِنْ كَانَتْ صِفَةً لِلْمَفْعُولِ فَهِيَ أَيْضًا حَالٌ لِلْفَاعِلِ . فَإِنَّهُمْ قَالُوا : نَعْبُدُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ . فَلَزِمَ أَنَّ عِبَادَتَهُمْ لَهُ لَيْسَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَالِ . وَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ { نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ } . . . { إلَهًا وَاحِدًا } هِيَ حَالٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ جَمِيعًا بِالْعَابِدِ وَالْمَعْبُودِ . فَإِنَّ الْعَامِلَ فِيهَا الْمُتَعَلِّقَ بِهَا الْعِبَادَةُ وَهِيَ فِعْلُ الْعَابِدِ وَاَلَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَفْعُولُ فِي الْعَرَبِيَّةِ هُوَ الْمَعْبُودُ . كَمَا قِيلَ فِي الْجُمْلَةِ { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } . قِيلَ : هِيَ وَاوُ الْعَطْفِ وَقِيلَ وَاوُ الْحَالِ أَيْ نَعْبُدُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ . قَالُوا : وَهِيَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ " نَعْبُدُ " أَوْ مَفْعُولِهِ لِرُجُوعِ الْهَاءِ إلَيْهِ فِي " لَهُ " وَهَذَا التَّرْدِيدُ غَلَطٌ إذْ هِيَ حَالٌ مِنْهُمَا جَمِيعًا . فَإِنَّهُمْ إذَا عَبَدُوهُ وَهُمْ مُسْلِمُونَ فَهُمْ مُسْلِمُونَ حَالَ كَوْنِهِمْ عَابِدِينَ وَحَالَ كَوْنِهِ مَعْبُودًا إذْ كَوْنُهُمْ عَابِدِينَ وَكَوْنِهِ مَعْبُودًا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِمُقَارَنَةِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ . فَالظَّرْفُ وَالْحَالُ هُنَا كَلِمَةٌ وَلَيْسَتْ مُفْرَدًا وَلِهَذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ . فَإِنَّ الْمُفْرَدَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي اللَّفْظِ صِفَةً لِهَذَا وَهَذَا . فَإِذَا قُلْت : ضَرَبْت زَيْدًا قَاعِدًا فَالْقُعُودُ حَالٌ لِلْفَاعِلِ أَوْ الْمَفْعُولِ . وَإِذَا قُلْت : ضَرَبْته وَالنَّاسُ

قُعُودٌ فَلَيْسَ هَذِهِ الْحَالُ مِنْ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ بَلْ هِيَ مُقَارِنَةٌ لِلضَّرْبِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا كَأَنَّهُ قَالَ : ضَرَبْته فِي زَمَانِ قُعُودِ النَّاسِ . فَهُوَ ظَرْفٌ لِلْفِعْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِخِلَافِ مَا إذَا قُلْت : ضَرَبْته فِي حَالِ قُعُودِي أَوْ قُعُودِهِ فَهَذَا يَخْتَلِفُ . وَالْآيَةُ فِيهَا { إلَهًا وَاحِدًا } . فَهَذِهِ حَالٌ مِنْ الْمَعْبُودِ بِلَا رَيْبٍ . فَلَزِمَ أَنَّهُمْ إنَّمَا عَبَدُوهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ إلَهًا وَاحِدًا وَهَذِهِ لَازِمَةٌ لَهُ . وَإِذَا قِيلَ الْمُرَادُ : فِي حَالِ كَوْنِهِ مَعْبُودًا وَاحِدًا لَا نَتَّخِذُ مَعَهُ مَعْبُودًا آخَرَ فَهَذِهِ حَالٌ لَيْسَتْ لَازِمَةً لَكِنَّهُ صِفَةٌ لِلْعَابِدِينَ لَا لَهُ . قِيلَ : هَذَا لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ لَهُ وَلَا وَصْفٌ لَهُ بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْإِلَهِيَّةَ . لَكِنْ فِيهَا وَصْفَهُمْ فَقَطْ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ { إلَهًا وَاحِدًا } كَقَوْلِهِ { وَإِلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ } فَهُوَ فِي نَفْسِهِ إلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ جَعَلَ مَعَهُ الْمُشْرِكُونَ آلِهَةً بِالِافْتِرَاءِ وَالْحُبِّ . فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْمُ . وَلَوْ أَرَادُوا ذَلِكَ الْمَعْنَى لَقَالُوا : نَعْبُدُهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ . وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ ذَكَرُوهُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُمْ { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } لَا سِيَّمَا إذَا جُعِلَتْ حَالًا أَيْ نَعْبُدُهُ إلَهًا وَاحِدًا فِي حَالِ إسْلَامِنَا لَهُ .

وَإِسْلَامِهِمْ لَهُ يَتَضَمَّنُ إخْلَاصَ الدِّينِ لَهُ وَخُضُوعَهُمْ وَاسْتِسْلَامَهُمْ لِأَحْكَامِهِ بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ . وَلِهَذَا قَالَ آمِرًا لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا { آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } . ثُمَّ قَالَ { صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } { قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } . وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَعَانٍ جَلِيلَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ اسْتِيفَائِهَا .
فَصْلٌ :
وَهَذَا النِّزَاعُ فِي قَوْلِهِ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } هَلْ هُوَ خِطَابٌ لِجِنْسِ الْكُفَّارِ كَمَا قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ أَوْ لِمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ كَافِرًا كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ يَتَعَلَّقُ بِمُسَمَّى " الْكَافِرِ " وَمُسَمَّى " الْمُؤْمِنِ " .

فَطَائِفَةٌ تَقُولُ : هَذَا إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ وَافَى الْقِيَامَةَ بِالْإِيمَانِ . فَاسْمُ الْمُؤْمِنِ عِنْدَهُمْ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا . فَأَمَّا مَنْ آمَنَ ثُمَّ ارْتَدَّ فَذَاكَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ بِإِيمَانِ . وَهَذَا اخْتِيَارُ الْأَشْعَرِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَهَكَذَا يُقَالُ : الْكَافِرُ مَنْ مَاتَ كَافِرًا . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ حُبَّ اللَّهِ وَبُغْضَهُ وَرِضَاهُ وَسَخَطَهُ وَوِلَايَتَهُ وَعَدَاوَتَهُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَافَاةِ فَقَطْ . فَاَللَّهُ يُحِبُّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا . وَيَرْضَى عَنْهُ وَيُوَالِيهِ بِحُبِّ قَدِيمٍ وَمُوَالَاةٍ قَدِيمَةٍ . وَيَقُولُونَ : إنَّ عُمَرَ حَالَ كُفْرِهِ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْرُوفٌ عَنْ ابْنِ كِلَابٍ وَمَنْ تَبِعَهُ كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ . وَأَكْثَرُ الطَّوَائِفِ يُخَالِفُونَهُ فِي هَذَا فَيَقُولُونَ : بَلْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ عَدُوًّا لِلَّهِ ثُمَّ يَصِيرُ وَلِيًّا لِلَّهِ وَيَكُونُ اللَّهُ يُبْغِضُهُ ثُمَّ يُحِبُّهُ . وَهَذَا مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ وَالْعَامَّةِ . وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ والكَرَّامِيَة وَالْحَنَفِيَّةِ قَاطِبَةً وَقُدَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ . وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ الْقُرْآنُ كَقَوْلِهِ { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } { وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } . وَقَوْلُهُ { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا

ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا } فَوَصَفَهُمْ بِكُفْرِ بَعْدَ إيمَانٍ وَإِيمَانٍ بَعْدَ كُفْرٍ . وَأَخْبَرَ عَنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَأَنَّهُمْ إنْ انْتَهَوْا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ . وَقَالَ { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } وَقَالَ { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ : تَقُولُ الْأَنْبِيَاءُ : " { إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ . وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ } " . وَفِي دُعَاءِ الْحَجَّاجِ عِنْدَ الْمُلْتَزِمِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ : " فَإِنْ كُنْت رَضِيت عَنِّي فَازْدَدْ عَنِّي رِضًا وَإِلَّا فَمِنْ الْآنَ فَارْضَ عَنِّي " . وَبَعْضُهُمْ حَذَفَ " فَارْضَ عَنِّي فَظَنَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ " فَمِنْ الْآنِ " أَنَّهُ مِنْ " الْمَنِّ " . وَهُوَ تَصْحِيفٌ . وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ كَمَا فِي تَمَامِ الْكَلَامِ وَإِلَّا فَمِنْ الْآنَ فَارْضَ عَنِّي . فَبَيَّنَ أَنَّهُ يَزْدَادُ رِضًا وَأَنَّهُ يَرْضَى فِي وَقْتٍ مَحْدُودٍ . وَشَوَاهِدُ هَذَا كَثِيرَةٌ . وَهُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ .
فَصْلٌ :
وَنَظِيرُ الْقَوْلِ فِي { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } الْقَوْلَانِ فِي قَوْلِهِ { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } فَإِنَّ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَيْنِ .

أَحَدَهُمَا : أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِمَنْ يَمُوتُ كَافِرًا . وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ مُقَاتِلٍ كَمَا قَالَ فِي قَوْلِهِ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } . وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ الضَّحَّاكِ . قَالَا : نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَأَبِي جَهْلٍ وَأَبِي طَالِبٍ وَأَبِي لَهَبٍ مِمَّنْ لَمْ يُسْلِمْ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَخَمْسَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ . وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ لَمْ يَذْكُرُوا غَيْرَ هَذَا الْقَوْلِ كَالثَّعْلَبِيِّ والبغوي وَابْنِ الْجَوْزِيِّ . قَالَ البغوي : هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَقْوَامٍ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الشَّقَاوَةِ فِي سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ . وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ : وَهَذِهِ الْآيَةُ وَرَدَتْ بِلَفْظِ الْعُمُومِ وَالْمُرَادُ بِهَا الْخُصُوصُ لِأَنَّهَا آذَنَتْ بِأَنَّ الْكُفَّارَ حِينَ إنْذَارِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَقَدْ آمَنُ كَثِيرٌ مِنْ الْكُفَّارِ عِنْدَ إنْذَارِهِمْ . وَلَوْ كَانَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي الْعُمُومِ لَكَانَ خَبَرُ اللَّهِ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ نَقْلُهَا إلَى الْخُصُوصِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْآيَةَ عَلَى مُقْتَضَاهَا وَالْمُرَادُ بِهَا أَنَّ الْإِنْذَارَ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَافِرِ مَا دَامَ كَافِرًا لَا يَنْفَعُهُ الْإِنْذَارُ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ كَمَا قِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْآيَاتِ أَنَّهَا غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْإِيمَانِ . وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ { وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ } .

فَالْآيَاتُ أُفُقِيَّةٌ وَأَرْضِيَّةٌ وَقُرْآنِيَّةٌ وَهِيَ أَدِلَّةُ الْعِلْمِ . وَالْإِنْذَارُ يَقْتَضِي الْخَوْفَ . فَالْآيَاتُ لِمَنْ إذَا عَرَفَ الْحَقَّ عَمِلَ بِهِ فَهَذَا تَنْفَعُهُ الْحِكْمَةُ . وَالْإِنْذَارُ لِمَنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ وَلَهُ هَوًى يَصُدُّهُ فَيُنْذَرُ بِالْعَذَابِ الَّذِي يَدْعُوهُ إلَى مُخَالَفَةِ هَوَاهُ وَهُوَ خَوْفُ الْعَذَابِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ . وَآخَرُ لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ فَيَحْتَاجُ إلَى الْجَدَلِ فَيُجَادِلُ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } وَقَالَ { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا } { إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } . فَالْمُرَادُ أَنَّ الْكَافِرَ مَا دَامَ كَافِرًا لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ سَوَاءٌ أُنْذِرَ أَمْ لَمْ يُنْذَرْ وَلَا يُؤْمِنُ مَا دَامَ كَذَلِكَ . لِأَنَّ عَلَى قَلْبِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ مَوَانِعَ تَصُدُّ عَنْ الْفَهْمِ وَالْقَبُولِ . وَهَكَذَا حَالُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَوَاهُ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُلْ " إنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ " . وَقِيلَ ذَلِكَ لِمَنْ سَبَقَتْ عَلَيْهِ الشِّقْوَةُ أَوْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الْكَلِمَةُ كَقَوْلِهِ { إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } فَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُؤْمِنُونَ إلَّا حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ وَقْتَ

رُؤْيَةِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ كَإِيمَانِ فِرْعَوْنَ الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا . وَمُوسَى قَدْ دَعَا عَلَيْهِ فَقَالَ { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا } . وَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ سُبْحَانَهُ الْكُفَّارَ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ } الْآيَةَ . فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ قَدْ يُؤْمِنُوا إذَا شَاءَ . وَآيَةُ الْبَقَرَةِ مُطْلَقَةٌ عَامَّةٌ . فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ . وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً فِي الْمُنَافِقِينَ . فَبَيَّنَ حَالَ الْكَافِرِ الْمُصِرِّ عَلَى كُفْرِهِ أَنَّ الْإِنْذَارَ لَا يَنْفَعُهُ لِلْحُجُبِ الَّتِي عَلَى قَلْبِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ . وَلَيْسَ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ فَيَسْمَعُ وَيَقْبَلُ . وَلَكِنْ هُوَ حِينَ يَكُونُ كَافِرًا لَا تَتَنَاوَلُهُ الْآيَةُ . وَهَذَا كَمَا يُقَالُ فِي الْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ : لَا يَجُوزُ أَنْ تُعْقَدَ لَهُ الذِّمَّةُ وَلَا يَكُونُ قَطُّ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ مَا دَامَ حَرْبِيًّا . فَالْكُفَّارُ مَا دَامُوا كُفَّارًا هُمْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ . لَهُمْ مَوَانِعُ تَمْنَعُهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ كَمَا أَنَّ لِلْمُنَافِقِينَ مَوَانِعَ تَمْنَعُهُمْ مَا دَامُوا كَذَلِكَ وَإِنْ أُنْذِرُوا . وَهَذَا كَقَوْلِهِ { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } فَهَذَا مِثْلُ كُلِّ كَافِرٍ مَا دَامَ كَافِرًا .

وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ يَسْمَعُونَ إذَا زَالَ الْغِطَاءُ الَّذِي عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ وَهُوَ الْكُفْرُ . فَمَا دَامُوا هَذِهِ حَالُهُمْ فَهُمْ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ تَغَيُّرَ الْحَالِ مُمْكِنٌ كَمَا قَالَ { إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } وَكَمَا هُوَ الْوَاقِعُ .
وَمِثْلُ هَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ بِدُعَائِهِ وَإِنْذَارِهِ وَبَيَانِهِ يَحْصُلُ الْهُدَى وَلَوْ كَانَ أَكْمَلَ النَّاسِ وَأَنَّ الدَّاعِيَ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا نَاصِحًا مُخْلِصًا فَقَدْ لَا يَسْتَجِيبُ الْمَدْعُوُّ لَا لِنَقْصِ فِي الدُّعَاءِ لَكِنْ لِفَسَادِ فِي الْمَدْعُوِّ . وَهَذَا لِأَنَّ حُصُولَ الْمَطْلُوبِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى فِعْلِ الْفَاعِلِ وَقَبُولِ الْقَابِلِ كَالسَّيْفِ الْقَاطِعِ يُؤَثِّرُ بِشَرْطِ قَبُولِ الْمَحَلِّ فِيهِ لَا يَقْطَعُ الْحِجَارَةَ وَالْحَدِيدَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَالنَّفْخُ يُؤَثِّرُ إذَا كَانَ هُنَاكَ قَابِلٌ لَا يُؤَثِّرُ فِي الرَّمَادِ . وَالدُّعَاءُ وَالتَّعْلِيمُ وَالْإِرْشَادُ . وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ لَهُ فَاعِلٌ وَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالنِّذَارَةِ وَلَهُ قَابِلٌ وَهُوَ الْمُسْتَمِعُ . فَإِذَا كَانَ الْمُسْتَمِعُ قَابِلًا حَصَلَ الْإِنْذَارُ التَّامُّ وَالتَّعْلِيمُ التَّامُّ وَالْهُدَى التَّامُّ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَابِلًا قِيلَ : عَلَّمْته فَلَمْ يَتَعَلَّمْ وَهَدَيْته فَلَمْ يَهْتَدِ وَخَاطَبْته فَلَمْ يُصْغِ وَنَحْوَ ذَلِكَ .

فَقَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } هُوَ مِنْ هَذَا . إنَّمَا يَهْتَدِي مَنْ يَقْبَلُ الِاهْتِدَاءَ وَهُمْ الْمُتَّقُونَ لَا كُلَّ أَحَدٍ . وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّقِينَ قَبْلَ اهْتِدَائِهِمْ بَلْ قَدْ يَكُونُوا كُفَّارًا . لَكِنْ إنَّمَا يَهْتَدِي بِهِ مِنْ كَانَ مُتَّقِيًا . فَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ اهْتَدَى بِالْقُرْآنِ . وَالْعِلْمُ وَالْإِنْذَارُ إنَّمَا يَكُونُ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْقُرْآنُ . وَهَكَذَا قَوْلُهُ { لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا } الْإِنْذَارَ التَّامَّ فَإِنَّ الْحَيَّ يَقْبَلُهُ . وَلِهَذَا قَالَ { وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ } فَهُمْ لَمْ يَقْبَلُوا الْإِنْذَارَ . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا } . وَعَكْسُهُ قَوْلُهُ { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ } أَيْ كُلُّ مَنْ ضَلَّ بِهِ فَهُوَ فَاسِقٌ . فَهُوَ ذَمٌّ لِمَنْ يَضِلُّ بِهِ فَإِنَّهُ فَاسِقٌ . لَيْسَ أَنَّهُ كَانَ فَاسِقًا قَبْلَ ذَلِكَ . وَلِهَذَا تَأَوَّلَهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْخَوَارِجِ وَسَمَّاهُمْ " فَاسِقِينَ " لِأَنَّهُمْ ضَلُّوا بِالْقُرْآنِ . فَمَنْ ضَلَّ بِالْقُرْآنِ فَهُوَ فَاسِقٌ . فَقَوْلُهُ { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَالتَّقْدِيرُ : مَنْ خَتَمَ عَلَى قَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ غِشَاوَةً فَسَوَاءٌ عَلَيْك أَنْذَرْته أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُ هُوَ لَا يُؤْمِنُ أَيْ مَا دَامَ كَذَلِكَ .

وَلَكِنْ هَذَا قَدْ يَزُولُ وَفِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُك " الْمُتَوَكِّلَ " لَسْت بِفَظِّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سخاب فِي الْأَسْوَاقِ . وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ . وَلَنْ أَقْبِضَهُ حَتَّى أُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ فَأَفْتَحُ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا . وَقَدْ قَالَ { لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } { لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يُؤْمِنُونَ . ثُمَّ قَالَ { إنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا } إلَى قَوْلِهِ { إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } فَهَذَا هُوَ الْإِنْذَارُ التَّامُّ وَهُوَ الْإِنْذَارُ الَّذِي يَقْبَلُهُ الْمُنْذِرُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ . وَقَوْلُهُ { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } هُوَ أَصْلُ الْإِنْذَارِ كَمَا يُقَالُ فِي الْبَلِيدِ وَالْمَشْغُولِ الذِّهْنِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ : سَوَاءٌ عَلَيْك أَعْلَمْته أَمْ لَمْ تُعْلِمْهُ لَا يَتَعَلَّمُ وَلَا يَقْبَلُ الْهُدَى وَيُقَالُ فِي الذَّكِيِّ الْفَارِغِ : إنَّمَا يَتَعَلَّمُ مِثْلُ هَذَا . ثُمَّ الْمَشْغُولُ قَدْ يَتَفَرَّغُ . وَقَدْ يَصْلُحُ ذِهْنٌ بَعْدَ فَسَادِهِ وَيَفْسُدُ بَعْدَ صَلَاحِهِ لِفَسَادِ قَلْبِهِ وَصَلَاحِهِ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَكْثَرُ تَفْسِيرِ السَّلَفِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي

مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أَيْ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك وَإِنْ قَالُوا : إنَّا قَدْ آمَنَّا بِمَا جَاءَنَا قَبْلَك { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } أَيْ إنَّهُمْ قَدْ كَفَرُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ ذِكْرِك وَجَحَدُوا مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمِيثَاقِ فَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَك وَبِمَا عِنْدَهُمْ مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ غَيْرُك . فَكَيْفَ يَسْمَعُونَ مِنْك إنْذَارًا وَتَحْذِيرًا ؟ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ الْإِنْذَارَ لِكُفْرِهِمْ بِمَا عِنْدَهُمْ وَمَا جَاءَهُمْ مِنْ الْحَقِّ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِنْهُمْ خَلْقًا تَابُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَآمَنُوا . وَرُوِيَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ : آيَتَانِ فِي قَادَةِ الْأَحْزَابِ { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } . قَالَ : هُمْ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } . ( قُلْت : جَعَلَهُمْ قَادَةَ الْأَحْزَابِ لِكَوْنِهِمْ أَضَلُّوا الْأَتْبَاعَ فَأَحَلُّوهُمْ دَارَ الْبَوَارِ . وَالْأَحْزَابُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ قَدْ أَسْلَمَ عَامَّةُ قَادَتِهَا وَحَسُنَ إسْلَامُهُمْ مِثْلُ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَأَبِي سُفْيَان . وَهَؤُلَاءِ أَسْلَمَ مِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ وَهُمْ الطُّلَقَاءُ . وَمِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ . وَالْحِزْبُ الْآخَرُ غطفان وَقَدْ أَسْلَمُوا أَيْضًا .

وَالْآيَةُ لَا بُدَّ أَنْ تَتَنَاوَلَ كُفَّارَ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فَإِنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ وَإِنْ تَنَاوَلَتْ مَعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ . فَهِيَ تَعُمُّ كُلَّ كَافِرٍ . وَمُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ يَخُصُّهَا بِبَعْضِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ . وَابْنُ السَّائِبِ يَقُولُ : هِيَ إنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ مِنْهُمْ حيي بْنُ أَخْطَبَ . وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا فِي الْيَهُودِ . وَأَبُو الْعَالِيَةِ يَقُولُ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَادَةِ الْأَحْزَابِ . وَالْآيَةُ تَعُمُّ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ وَغَيْرُهُمْ كَمَا أَنَّ آيَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ الْمَوْجُودِينَ وَقْتَ النُّزُولِ وَهِيَ تَعُمُّهُمْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَهُ { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } كَقَوْلِهِ { فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ } { وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ } وَقَوْلَهُ { أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ } { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ } . وَكُلُّ هَذَا فِيهِ بَيَانُ أَنَّ مُجَرَّدَ دُعَائِك وَتَبْلِيغِك وَحِرْصِك عَلَى هُدَاهُمْ لَيْسَ مُوجِبُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إذَا شَاءَ اللَّهُ هُدَاهُمْ فَشَرَحَ صُدُورَهُمْ لِلْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { إنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ

لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ } فَفِيهِ تَعْزِيَةٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَّنَتْ الْآيَةُ لَهُ أَنَّ تَبْلِيغَك وَإِنْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَفِيهِ مَصَالِحُ عَظِيمَةٌ غَيْرُ ذَلِكَ . وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ . ف { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } وَقَدْ قَالَ لَهُ { إنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } . فَفِيهِ تَقْرِيرُ التَّوْحِيدِ وَتَقْرِيرُ مَقْصُودِ الرِّسَالَةِ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَمَّنْ لَا يُؤْمِنُ فَقَالَ { إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ } . وَقَالَ { لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } " ثُمَّ قَالَ { لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } . فَخَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي تِلْكَ { إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } . وَهُمْ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ أَيْ حَقَّ عَلَيْهِمْ مَا قَالَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَكَتَبَهُ وَقَدَّرَهُ . فَجَعَلَ الْمُوجَبَ هُوَ التَّقْدِيرُ السَّابِقُ وَهُوَ قَوْلُهُ . وَالْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ خَبَرًا مُجَرَّدًا بِمَا سَيَكُونُ وَقَدْ يَكُونُ قَوْلًا يَتَضَمَّنُ أَشْيَاءَ كَالْيَمِينِ الْمُتَضَمِّنَة لِلْحَضِّ وَالْمَنْعِ . فَقَدْ ذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ تَقَدُّمَ الْيَمِينِ كَقَوْلِهِ { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي } وَنَحْوُ ذَلِكَ .

فَهُوَ خَبَرٌ عَمَّا قَالَهُ أَوْ قَالَهُ وَكَتَبَهُ . وَهُوَ التَّقْدِيرُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ قَدَّرَ مَا يَفْعَلُهُ وَعَلِمَهُ وَكَتَبَهُ كَمَا تَظَاهَرَتْ النُّصُوصُ بِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ . وَالْقَدَرُ تَضَمَّنَ عِلْمَهُ بِمَا سَيَكُونُ وَمَشِيئَتَهُ لِوُجُودِ مَا قَدَّرَهُ وَعَلِمَ أَنْ سَيَخْلُقُهُ . وَالْقَوْلُ قَدْ يَكُونُ خَبَرًا وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الطَّلَبِ الْحَضِّ وَالْمَنْعِ بِالْقَسَمِ وَإِمَّا لِكِتَابَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ كَقَوْلِهِ { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } وَقَوْلِهِ { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَوْلِهِ " { يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا } " .
وَأَمَّا قَوْلُهُ { وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } فَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالْكُفَّارِ . وَهُوَ الْوَعِيدُ الْمُتَضَمِّنُ الْجَزَاءَ عَلَى الْأَعْمَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لإبليس { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } .
وَقَوْلُهُ { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى } أَيْ إنَّ عَذَابَهُمْ لَهُ أَجَلٌ مُسَمًّى إمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِمَّا فِي الدُّنْيَا كَيَوْمِ بَدْرٍ وَإِمَّا عَقِبَ الْمَوْتِ وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ . فَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّك إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَكَانَ الْعَذَابُ لِزَامًا أَيْ لَازِمًا لَهُمْ . فَإِنَّ الْمُقْتَضِي لَهُ قَائِمٌ تَامٌّ وَهُوَ كُفْرُهُمْ .

وَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ الْقَوْلَ عَلَى الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ مِنْهُمْ . فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ . وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ إذْ كَانَ أُولَئِكَ غَيْرُ مَعْرُوفِينَ وَإِنَّمَا هُمْ طَائِفَةٌ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ وَهُمْ لَا يَتَمَيَّزُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ . بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِإِنْذَارِ الْجَمِيعِ وَفِيهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ . فَذَكَرَ اللَّفْظَ الْعَامَّ ؛ وَإِرَادَةُ أُولَئِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ الْخَاصِّ . وَذَكَرَ الْمَعْنَى الَّذِي أَوْجَبَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ قَطُّ وَلَا فِيهِ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ . وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى يُصَانُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ . وَمَا ذَكَرَ مِنْ الْمَوَانِعِ هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ الْإِنْذَارَ سَوَاءٌ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لِسَبَبِ يُوجِبُ ذَلِكَ فَيَمْتَنِعُ قَبُولُ الْإِنْذَارِ بِسَبَبِ الْمَوَانِعِ . وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمَوَانِعَ قَدْ تَزُولُ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَازِمَةً لِكُلِّ كَافِرٍ . وَإِذَا كَانَ الْمَانِعُ مَا سَبَقَ مِنْ الْقَوْلِ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِمْ فَقَدْ لَا يَزُولُ أَبَدًا كَمَا قَالَ { إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } . وَقَدْ يَذْكُرُ هَذَا وَهَذَا .

وَأَمَّا إذَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْمَوَانِعِ الَّتِي فِيهِمْ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا سَبَقَ مِنْ الْقَوْلِ فَهَذِهِ الْمَوَانِعُ يُرْجَى زَوَالُهَا وَيُمْكِنُ مَا لَمْ يَذْكُرْ مَعَهَا مَا يَقْتَضِي امْتِنَاعَ تَغَيُّرِ حَالِهِمْ وَحُصُولِ الْهُدَى .
فَصْلٌ :
{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } . جَاءَ الْخِطَابُ فِيهَا بـ " مَا " وَلَمْ يَجِئْ بـ " مَنْ " فَقِيلَ : { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } لَمْ يَقُلْ " لَا أَعْبُدُ مَنْ تَعْبُدُونَ " لِأَنَّ " مَنْ " لِمَنْ يَعْلَمُ وَالْأَصْنَامُ لَا تَعْلَمُ .
وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ جِدًّا ، فَإِنَّ مَعْبُودَ الْمُشْرِكِينَ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَعْلَمُ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ . وَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ تَغْلِبُ صِيغَةُ أُولِي الْعِلْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ { فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ } . فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِحَالِ مَنْ يَعْلَمُ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِعِبَادَتِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ { إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا } الْآيَةَ فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ وَهُوَ لِأُولِي الْعِلْمِ .

وَأَمَّا مَا لَا يَعْلَمُ فَجَمْعُهُ مُؤَنَّثٌ كَمَا تَقُولُ : الْأَمْوَالُ جَمَعْتهَا وَالْحِجَارَةُ قَذَفَتْهَا . ف " مَا " هِيَ لِمَا لَا يَعْلَمُ وَلِصِفَاتِ مَنْ يَعْلَمُ . وَلِهَذَا تَكُونُ لِلْجِنْسِ الْعَامِّ لِأَنَّ شُمُولَ الْجِنْسِ لِمَا تَحْتَهُ هُوَ بِاعْتِبَارِ صِفَاتِهِ كَمَا قَالَ { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } أَيْ الَّذِي طَابَ وَالطَّيِّبُ مِنْ النِّسَاءِ . فَلَمَّا قَصَدَ الْإِخْبَارَ عَنْ الْمَوْصُوفِ بِالطَّيِّبِ وَقَصَدَ هَذِهِ الصِّفَةَ دُونَ مُجَرَّدِ الْعَيْنِ عَبَّرَ بـ " مَا " . وَلَوْ عَبَّرَ بـ " مَنْ " كَانَ الْمَقْصُودُ مُجَرَّدَ الْعَيْنِ وَالصِّفَةُ لِلتَّعْرِيفِ حَتَّى لَوْ فُقِدَتْ لَكَانَتْ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ كَمَا إذَا قُلْت : جَاءَنِي مَنْ يَعْرِفُ وَمَنْ كَانَ أَمْسِ فِي الْمَسْجِدِ وَمَنْ فَعَلَ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَالْمَقْصُودُ الْإِخْبَارُ عَنْ عَيْنِهِ وَالصِّلَةُ لِلتَّعْرِيفِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ قَدْ ذَهَبَتْ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ { وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا } { وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا } { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ إنَّهَا اسْمٌ مَوْصُولٌ وَالْمَعْنَى : وَبَانِيهَا وَطَاحِيهَا وَمُسَوِّيهَا وَلَمَّا قَالَ { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } { وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } أَخْبَرَ بـ " مَنْ " لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ عَنْ فَلَاحِ عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ لِلتَّزْكِيَةِ وَالتَّدْسِيَةِ قَدْ ذَهَبَ فِي الدُّنْيَا . فَالْقَسَمُ هُنَاكَ بِالْمَوْصُوفِ بِحَيْثُ إنَّهُ إنَّمَا أَقْسَمَ بِهَذَا الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةُ

لَازِمَةٌ . فَإِنَّهُ لَا تُوجَدُ مَبْنِيَّةً إلَّا بِبَانِيهَا وَلَا مطحية إلَّا بِطَاحِيهَا وَلَا مُسَوَّاةً إلَّا بِمُسَوِّيهَا . وَأَمَّا الْمَرْءُ الْمُزَكِّي نَفْسَهُ وَالْمُدَسِّيهَا فَقَدْ انْقَضَى عَمَلُهُ فِي الدُّنْيَا وَفَلَاحُهُ وَخَيْبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ لَيْسَا مُسْتَلْزِمَيْنِ لِذَلِكَ الْعَمَلِ . وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُهُ { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } . وَلِهَذَا يُسْتَفْهَمُ بِهَا عَنْ صِفَاتِ مَنْ يَعْلَمُ فِي قَوْلِهِ { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } كَمَا يُسْتَفْهَمُ عَلَى وَجْهٍ بِهَا فِي قَوْلِهِ { مَاذَا تَعْبُدُونَ } . وَأَمَّا قَوْلُهُ { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } فَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ عَيْنِ الْخَالِقِ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآلِهَةِ الَّتِي تُعْبَدُ . فَإِنَّ الْمُسْتَفْهِمِينَ بِهَا كَانُوا مُقِرِّينَ بِصِفَةِ الْخَالِقِ وَإِنَّمَا طَلَبَ بِالِاسْتِفْهَامِ تَعْيِينَهُ وَتَمْيِيزَهُ وَلِتُقَامَ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ بِاسْتِحْقَاقِهِ وَحْدَهُ الْعِبَادَةَ . وَأَمَّا فِرْعَوْنُ فَكَانَ مُنْكِرًا لِلْمَوْصُوفِ الْمُسَمَّى فَاسْتَفْهَمَ بِصِيغَةِ " مَا " لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِهِ طَالِبًا لِتَعْيِينِهِ . وَلِهَذَا كَانَ الْجَوَابُ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ بِقَوْلِ مُوسَى { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَبِقَوْلِهِ { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ } فَأَجَابَ أَيْضًا بِالصِّفَةِ . وَهُنَاكَ قَالَ { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } فَكَانَ الْجَوَابُ بِالِاسْمِ الْمُمَيِّزِ لِلْمُسَمَّى عَنْ غَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا } إلَى تَمَامِ الْآيَاتِ .

فَقَوْلُهُ { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } يَقْتَضِي تَنْزِيهَهُ عَنْ كُلِّ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ مَعْبُودُهُمْ . لِأَنَّ كُلَّ مَا عَبَدَهُ الْكَافِرُ وَجَبَتْ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ كَافِرًا لَا يَكُونُ مَعْبُودُهُ الْإِلَهَ الَّذِي يَعْبُدُهُ الْمُؤْمِنُ . إذْ لَوْ كَانَ هُوَ مَعْبُودَهُ لَكَانَ مُؤْمِنًا لَا كَافِرًا . وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ أُمُورًا . أَحَدُهَا : أَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ بَرَاءَتَهُ مِنْ أَعْيَانِ مَنْ يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ . الثَّانِي : أَنَّهُمْ إذَا عَبَدُوا اللَّهَ وَغَيْرَهُ فَمَعْبُودُهُمْ الْمَجْمُوعُ وَهُوَ لَا يَعْبُدُ الْمَجْمُوعَ لَا يَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ . فَيَعْبُدُهُ عَلَى وَجْهِ إخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ لَا عَلَى وَجْهِ الشِّرْكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِ الْخَلِيلِ { إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } { إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } وَقَوْلُهُ { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } { أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } بِأَنْ يُقَالَ : هُنَا نَفْيُ عِبَادَةِ الْمَجْمُوعِ وَذَلِكَ لَا يَنْفِي عِبَادَةَ الْوَاحِدِ الَّذِي هُوَ اللَّهُ . وَالْخَلِيلُ تَبَرَّأَ مِنْ الْمَجْمُوعِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ فَاسْتَثْنَى . أَوْ يُقَالُ : الْخَلِيلُ تَبَرَّأَ مِنْ جَمِيعِ الْمَعْبُودِينَ مِنْ الْجَمِيعِ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَثْنَى رَبُّ الْعَالَمِينَ . وَلِهَذَا لَمَّا وَقَعَ مُسْتَثْنًى فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ

{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } لَمْ يَحْتَجْ إلَى اسْتِثْنَاءٍ آخَرَ . وَأَمَّا هَذِهِ السُّورَةُ فَإِنَّ فِيهَا التَّبَرِّي مِنْ عِبَادَةِ مَا يَعْبُدُونَ لَا مِنْ نَفْسِ مَا يَعْبُدُونَ . وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَمِنْ عِبَادَتِهِمْ وَمِمَّا يَعْبُدُونَ . فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بَاطِلٌ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ : " { أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ } " . فَعِبَادَةُ الْمُشْرِكِ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ لَا يُقَالُ : نَصِيبُ اللَّهِ مِنْهَا حَقٌّ وَالْبَاقِي بَاطِلٌ بِخِلَافِ مَعْبُودِهِمْ . فَإِنَّ اللَّهَ إلَهٌ حَقٌّ وَمَا سِوَاهُ آلِهَةٌ بَاطِلَةٌ . فَلَمَّا تَبَرَّأَ الْخَلِيلُ مِنْ الْمَعْبُودِينَ احْتَاجَ إلَى اسْتِثْنَاءِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَلَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ تَبَرُّؤُهُ مِنْ أَنْ يَعْبُدَ مَا يَعْبُدُونَ فَكَانَ الْمَنْفِيُّ هُوَ الْعِبَادَةَ تَبَرَّأَ مِنْ عِبَادَةِ الْمَجْمُوعِ الَّذِينَ يَعْبُدُهُمْ الْكَافِرُونَ . الثَّالِثُ : إنْ كَانَ النَّفْيُ عَنْ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ مَعْبُودُهُمْ لَا عَنْ عَيْنِهِ فَهُوَ لَا يَعْبُدُ شَيْئًا مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعْبُودُهُمْ . لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعْبُودُهُمْ هُمْ مُشْرِكُونَ بِهِ فَوَجَبَتْ الْبَرَاءَةُ مِنْ عِبَادَتِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ . وَلَوْ قَالَ " مَنْ تَعْبُدُونَ " لَكَانَ يُقَالُ : إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ لِأَنَّ النَّفْيَ وَاقِعٌ عَلَى

عَيْنِ الْمَعْبُودِ . وَلَيْسَ إذَا لَمْ يَعْبُدْ مَا يَعْبُدُونَ مُتَبَرِّئًا مِنْهُ وَمُعَادِيًا لَهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ . بَلْ هُوَ تَارِكٌ لِعِبَادَةِ مَا يَعْبُدُونَ . وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْوَجْهِ الرَّابِعِ : وَهُوَ قَوْلُهُ { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } نَفَى عَنْهُمْ عِبَادَةَ مَعْبُودِهِ . فَهُمْ إذَا عَبَدُوا اللَّهَ مُشْرِكِينَ بِهِ لَمْ يَكُونُوا عَابِدِينَ مَعْبُودَهُ . وَكَذَلِكَ هُوَ إذَا عَبَدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا مَعْبُودَهُمْ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّهُمْ لَوْ عَيَّنُوا اللَّهَ بِمَا لَيْسَ هُوَ اللَّهُ وَقَصَدُوا عِبَادَةَ اللَّهَ مُعْتَقِدِينَ أَنَّ هَذَا هُوَ اللَّهُ كَاَلَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ وَاَلَّذِينَ عَبَدُوا الْمَسِيحَ وَاَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ الدَّجَّالَ وَاَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَهَوَاهُمْ وَمَنْ عَبَدَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَهُمْ عِنْدَ نُفُوسِهِمْ إنَّمَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ لَكِنَّ هَذَا الْمَعْبُودَ الَّذِي لَهُمْ لَيْسَ هُوَ اللَّهَ . فَإِذَا قَالَ { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } كَانَ مُتَبَرِّئًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَعْبُودِينَ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ الْعَابِدِينَ هُوَ اللَّهُ . الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّهُمْ إذَا وَصَفُوا اللَّهَ بِمَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ كَالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ وَأَنَّهُ فَقِيرٌ أَوْ بَخِيلٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ وَعَبَدُوهُ كَذَلِكَ . فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْمَعْبُودِ الَّذِي لِهَؤُلَاءِ . فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ اللَّهَ

كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَلَّا تَرَوْنَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي سَبَّ قُرَيْشٍ ؟ يَسُبُّونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ } " . فَهُمْ وَإِنْ قَصَدُوا عَيْنَهُ لَكِنْ لَمَّا وَصَفُوهُ بِأَنَّهُ مُذَمَّمٌ كَانَ سَبُّهُمْ وَاقِعًا عَلَى مَنْ هُوَ مُذَمَّمٌ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَذَاكَ لَيْسَ هُوَ اللَّهَ . فَالْمُؤْمِنُونَ بُرَآءُ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ . الْوَجْهُ السَّابِعُ : أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمَا وَصَفَ بِهِ الرَّسُولُ رَبَّهُ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يَعْبُدْ مَا عَبَدَهُ الرَّسُولُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ . وَقِسْ عَلَى هَذَا فَلْتَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَعَانِيَ وَتُلَخِّصْ وَتُهَذِّبْ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

سُورَةُ تَبَّتْ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
" سُورَةُ تَبَّتْ " نَزَلَتْ فِي هَذَا وَامْرَأَتِهِ وَهُمَا مِنْ أَشْرَفِ بَطْنَيْنِ فِي قُرَيْشٍ وَهُوَ عَمُّ عَلِيٍّ وَهِيَ عَمَّةُ مُعَاوِيَةَ وَاَللَّذَانِ تَدَاوَلَا الْخِلَافَةَ فِي الْأُمَّةِ هَذَانِ الْبَطْنَانِ : بَنُو أُمَيَّة وَبَنُو هَاشِمٍ وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَمِنْ قَبِيلَتَيْنِ أَبْعَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتُّفِقَ فِي عَهْدِهِمَا مَا لَمْ يُتَّفَقْ بَعْدَهُمَا . وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذَمُّ مَنْ كَفَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمِهِ إلَّا هَذَا وَامْرَأَتَهُ فَفِيهِ أَنَّ الْأَنْسَابَ لَا عِبْرَةَ بِهَا بَلْ صَاحِبُ الشَّرَفِ يَكُونُ ذَمُّهُ عَلَى تَخَلُّفِهِ عَنْ الْوَاجِبِ أَعْظَمَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ } الْآيَةَ . قَالَ النَّحَّاسُ : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالْخُسْرِ وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ : وَقَدْ تَبَّ وَقَوْلُهُ : { وَمَا كَسَبَ } أَيْ وَلَدُهُ . فَإِنَّ قَوْلَهُ :

{ وَمَا كَسَبَ } يَتَنَاوَلُهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ وَلَدُهُ مِنْ كَسْبِهِ . وَاسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْ مَالِ الْوَلَدِ . ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ : { سَيَصْلَى نَارًا } أَخْبَرَ بِزَوَالِ الْخَيْرِ وَحُصُولِ الشَّرِّ و " الصِّلِيّ " الدُّخُولُ وَالِاحْتِرَاقُ جَمِيعًا . وَقَوْلُهُ : { حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } إنْ كَانَ مَثَلًا لِلنَّمِيمَةِ ؛ لِأَنَّهَا تُضْرِمُ الشَّرَّ فَيَكُونُ حَطَبَ الْقُلُوبِ وَقَدْ يُقَالُ : ذَنْبُهَا أَعْظَمُ وَحَمْلُ النَّمِيمَةِ لَا يُوصَفُ بِالْحَبْلِ فِي الْجِيدِ وَإِنْ كَانَ وَصْفًا لِحَالِهَا فِي الْآخِرَةِ كَمَا وَصَفَ بَعْلَهَا وَهُوَ يَصْلَى وَهِيَ تَحْمِلُ الْحَطَبَ عَلَيْهِ كَمَا أَعَانَتْهُ عَلَى الْكُفْرِ . فَيَكُونُ مِنْ حَشْرِ الْأَزْوَاجِ وَفِيهِ عِبْرَةٌ لِكُلِّ مُتَعَاوِنَيْنِ عَلَى الْإِثْمِ أَوْ عَلَى إثْمٍ مَا أَوْ عُدْوَانٍ مَا . وَيَكُونُ الْقُرْآنُ قَدْ عَمَّمَ الْأَقْسَامَ الْمُمْكِنَةَ فِي الزَّوْجَيْنِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ إمَّا كَإِبْرَاهِيمَ وَامْرَأَتِهِ وَإِمَّا هَذَا وَامْرَأَتُهُ وَإِمَّا فِرْعَوْنُ وَامْرَأَتُهُ وَإِمَّا نُوحٌ وَامْرَأَتُهُ وَلُوطٌ وَيَسْتَقِيمُ أَنْ يُفَسَّرَ حَمْلُ الْحَطَبِ بِالنَّمِيمَةِ بِحَمْلِ الْوَقُودِ فِي الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ : " { مَنْ كَانَ لَهُ لِسَانَانِ } إلَخْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
__________
آخِرُ الْمُجَلَّدِ الْسَادِسِ عَشْرَ

الْجُزْءُ الْسَابِعِ عَشَرَ
كِتَابُ الْتَفْسِيرِ
الْجُزْءُ الْرَابِعُ
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ .
سُورَةُ الْإِخْلَاصِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - َرحِمَهُ الْلَّهُ - تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
عَمَّا وَرَدَ فِي سُورَةِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي سُورَةِ ( الزَّلْزَلَةِ ) وَ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَ ( الْفَاتِحَةِ ) هَلْ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ ثَابِتٌ فِي الْمَجْمُوعِ أَمْ فِي الْبَعْضِ ؟ وَمَنْ رَوَى ذَلِكَ ؟ وَمَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ ؟ وَمَا مَعْنَى هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ وَكَلَامُ اللَّهِ وَاحِدٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ وَهَلْ هَذِهِ الْمُفَاضَلَةُ - بِتَقْدِيرِ

ثُبُوتِهَا - مُتَعَدِّيَةٌ إلَى الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَمْ لَا ؟ وَالصِّفَاتُ الْقَدِيمَةُ وَالْأَسْمَاءُ الْقَدِيمَةُ هَلْ يَجُوزُ الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَهَا مَعَ أَنَّهَا قَدِيمَةٌ ؟ وَمَنْ الْقَائِلُ بِذَلِكَ وَفِي أَيِّ كُتُبِهِ قَالَ ذَلِكَ وَوَجْهُ التَّرْجِيحِ فِي ذَلِكَ بِمَا يُمْكِنُ مِنْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَنَقْلِيٍّ ؟
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا الَّذِي أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ - كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ - فَأَخْرَجُوا فَضْلَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَرُوِيَ عَنْ الدارقطني أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَصِحَّ فِي فَضْلِ سُورَةٍ أَكْثَرُ مِمَّا صَحَّ فِي فَضْلِهَا . وَكَذَلِكَ أَخْرَجُوا فَضْلَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا { إنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا } لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا أَنَّهَا تَعْدِلُ جُزْءًا مِنْ الْقُرْآنِ كَمَا { قَالَ فِي { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } إنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ الضَّحَّاكِ الْمَشْرِقِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : { أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ بِثُلُثِ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ ؟ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا : أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ معدان بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ؟

قَالُوا : وَكَيْفَ يَقْرَأُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ؟ قَالَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } . وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ جَزَّأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَجَعَلَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ } . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ { أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } يُرَدِّدُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ وَكَانَ الرَّجُلُ يتقالها فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } . وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي أَخِي قتادة بْنُ النُّعْمَانِ { أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ مِنْ السِّحْرِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا . . الْحَدِيثَ } بِنَحْوِهِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُحْشُدُوا فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ قَالَ : فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ثُمَّ دَخَلَ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضِ : إنِّي أَرَى هَذَا خَبَرًا جَاءَهُ مِنْ السَّمَاءِ فَذَاكَ الَّذِي أَدَخَلَهُ . ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنِّي قُلْت لَكُمْ سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ أَلَا إنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } وَفِي لَفْظٍ لَهُ { قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَقَرَأَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } حَتَّى خَتَمَهَا . } وَأُمًّا حَدِيثُ " الزَّلْزَلَةِ " و { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَرَأَ إذَا زُلْزِلَتْ عَدَلَتْ لَهُ نِصْفَ الْقُرْآنِ . وَمَنْ قَرَأَ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ عَدَلَتْ لَهُ رُبُعَ الْقُرْآنِ } . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا زُلْزِلَتِ } تَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ و { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } تَعْدِلُ رُبُعَ الْقُرْآنِ } رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا : غَرِيبٌ . وَأَمَّا حَدِيثُ ( الْفَاتِحَةِ فَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ { عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ابْنِ الْمُعَلَّى قَالَ : كُنْت أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أَجِبْهُ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْت أُصَلِّي . قَالَ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ : { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ } ثُمَّ قَالَ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةً فِي الْقُرْآنِ قَالَ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ } . وَفِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدُ مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأبي بْنِ كَعْبٍ أَلَا أُعَلِّمُك سُورَةً مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا - قَالَ - فَإِنِّي أَرْجُو

أَلَا تَخْرُجَ مِنْ هَذَا الْبَابِ حَتَّى تَعْلَمَهَا وَقَالَ فِيهِ كَيْفَ تَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ ؟ فَقَرَأْت عَلَيْهِ أُمَّ الْقُرْآنِ فَقَالَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا إنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيته } . وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى عَامِرِ بْنِ كريز مُرْسَلًا . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مَثَلُهُنَّ قَطُّ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } } . وَفِي لَفْظٍ : { قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنْزِلَ عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ يُرَ مَثَلُهُنَّ قَطُّ الْمُعَوِّذَتَانِ } فَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَمْ يُرَ مِثْلُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ الْفَاتِحَةِ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ فَضْلَ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي كَوْنِ الْجَمِيعِ كَلَامُ اللَّهِ فَهَذَا السُّؤَالُ يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ هَلْ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ أَمْ لَا ؟ وَالثَّانِي : مَا مَعْنَى كَوْنِ ( { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ؟ وَمَا سَبَبُ ذَلِكَ ؟

فَنَقُولُ :
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ " مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ " وَالنَّاسُ مُتَنَازِعُونَ فِيهَا نِزَاعًا مُنْتَشِرًا فَطَوَائِفُ يَقُولُونَ : بَعْضُ كَلَامِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ كَمَا نَطَقَتْ بِهِ النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ : حَيْثُ أَخْبَرَ عَنْ ( الْفَاتِحَةِ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ فِي الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ مِثْلُهَا . وَأَخْبَرَ عَنْ سُورَةِ ( الْإِخْلَاصِ ) أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَعَدْلُهَا لِثُلُثِهِ يَمْنَعُ مُسَاوَاتَهَا لِمِقْدَارِهَا فِي الْحُرُوفِ . وَجَعَلَ ( آيَةَ الْكُرْسِيِّ أَعْظَمَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا وَكَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأبي بْنِ كَعْبٍ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيَّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَعَك أَعْظَمُ ؟ قَالَ : قُلْت : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : فَقُلْت : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } قَالَ : فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ : ليهنك الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ } . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادِ مُسْلِمٍ وَزَادَ فِيهِ { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ لِهَذِهِ الْآيَةِ لِسَانًا وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ الْمَلِكَ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ } . وَرُوِيَ أَنَّهَا { سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ . } وَقَالَ فِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ : { لَمْ يُرَ مَثَلُهُنَّ قَطُّ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا . وَهَذَا بَيَانٌ مِنْ اللَّهِ لِكَوْنِ تِلْكَ الْآيَةِ قَدْ يَأْتِي بِمَثَلِهَا تَارَةً أَوْ خَيْرٍ مِنْهَا أُخْرَى فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ

الْآيَاتِ تَتَمَاثَلُ تَارَةً وَتَتَفَاضَلُ أُخْرَى . وَأَيْضًا فَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ جَمِيعُهَا كَلَامُ اللَّهِ مَعَ عِلْمِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ . قَالَ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَحْسَنُ مِنْ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَغَيْرِ الْمُنَزَّلَةِ . وَقَالَ تَعَالَى { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } . وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْفَاتِحَةَ أَوْ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِهَذَا الْوَصْفِ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ . وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مَجِيدًا وَكَرِيمًا وَعَزِيزًا . وَقَدْ تَحَدَّى الْخَلْقَ بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ أَوْ بِمِثْلِ عَشْرِ سُورٍ مِنْهُ أَوْ بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْهُ فَقَالَ : { فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إنْ كَانُوا صَادِقِينَ } . وَقَالَ { فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } . وَقَالَ : { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } وَخَصَّهُ بِأَنَّهُ لَا يُقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ إلَّا هُوَ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَقْرَأَ غَيْرَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِ وَلَا بِدُونِ قِرَاءَتِهِ وَلَا يُصَلِّي بِلَا قُرْآنٍ ، فَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ

مَقَامَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ لَا يَقُومُ غَيْرُ الْفَاتِحَةِ مَقَامَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ قِيلَ بِأَنَّهَا فَرْضٌ تُعَادُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهَا أَوْ قِيلَ بِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ يَأْثَمُ تَارِكُهَا وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ أَوْ قِيلَ إنَّهَا سُنَّةٌ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ قِرَاءَةَ غَيْرِهَا مُسَاوٍ لِقِرَاءَتِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . وَخُصَّ الْقُرْآنُ بِأَنَّهُ لَا يُمَسُّ مُصْحَفُهُ إلَّا طَاهِرٌ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ - مِثْلَ سَعْدٍ وَسَلْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ - وَجَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَمَضَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي أَنَّهُ كَتَبَهُ لَهُ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ كِتَابُ اللَّهِ . وَكَذَلِكَ لَا يَقْرَأُ الْجُنُبُ الْقُرْآنَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ السُّنَّةُ . وَتَفْضِيلُ أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ بِأَحْكَامِ تُوجِبُ تَشْرِيفَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُرَجَّحٍ وَهَذَا خِلَافُ مَا عُلِمَ مِنْ سُنَّةِ الرَّبِّ تَعَالَى فِي شَرْعِهِ بَلْ وَفِي خَلْقِهِ وَخِلَافُ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ مَعَ الشَّرْعِيَّةِ . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَبَشِّرْ عِبَادِي } { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } . فَدَلَّ عَلَى

أَنَّ فِيمَا أُنْزِلَ حَسَنٌ وَأَحْسَنُ سَوَاءٌ كَانَ الْأَحْسَنُ هُوَ وَالنَّاسِخُ الَّذِي يَجِبُ الْأَخْذُ بِهِ دُونَ الْمَنْسُوخِ إذْ كَانَ لَا يَنْسَخُ آيَةً إلَّا يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَوْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ . وَالْقَوْلُ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ هُوَ الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الطَّوَائِفِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَكَلَامُ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مُنْتَشِرٌ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ مِثْلَ مَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ سُرَيْجٍ فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : ثُلُثٌ مِنْهُ أَحْكَامٌ وَثُلُثٌ مِنْهُ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ وَثُلُثٌ مِنْهُ الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ . وَهَذِهِ السُّورَةُ جَمَعَتْ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ . وَمِثْلَ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي مَسْأَلَةِ تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ أَبُو الْمُظَفَّرِ مَنْصُورُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمْعَانِي الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ " الِاصْطِلَامِ " وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ سَائِرَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُرْآنِ لَا تَخْتَصُّ بِالْفَاتِحَةِ قُلْت : سَائِرُ الْأَحْكَامِ قَدْ تَعَلَّقَتْ بِالْقُرْآنِ عَلَى الْعُمُومِ وَهَذَا عَلَى الْخُصُوصِ بِدَلِيلِ أَنَّ عِنْدَنَا قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ عَلَى التَّعْيِينِ مَشْرُوعَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ وَعِنْدَكُمْ عَلَى السُّنَّةِ . قَالَ : وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ لَمَّا وَجَبَتْ فِي الصَّلَاةِ وَجَبَ أَنْ تَتَعَيَّنَ الْفَاتِحَةُ لِأَنَّ الْقُرْآنَ امْتَازَ عَنْ غَيْرِهِ بِالْإِعْجَازِ وَأَقَلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِعْجَازُ سُورَةٌ وَهَذِهِ السُّورَةُ أَشْرَفُ السُّوَرِ لِأَنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَلِأَنَّهَا تَصْلُحُ عِوَضًا عَنْ جَمِيعِ السُّورِ وَلَا

تَصْلُحُ جَمِيعُ السُّورِ عِوَضًا عَنْهَا وَلِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا لَا تَشْتَمِلُ سُورَةٌ مَا عَلَى قَدْرِهَا مِنْ الْآيَاتِ وَذَلِكَ مِنْ الثَّنَاءِ وَالتَّحْمِيدِ لِلرَّبِّ وَالِاسْتِعَانَةِ وَالِاسْتِعَاذَةِ وَالدُّعَاءِ مِنْ الْعَبْدِ . فَإِذَا صَارَتْ هَذِهِ السُّورَةُ أَشْرَفَ السُّوَرِ وَكَانَتْ الصَّلَاةُ أَشْرَفَ الْحَالَاتِ فَتَعَيَّنَتْ أَشْرَفَ السُّوَرِ فِي أَشْرَفِ الْحَالَاتِ . هَذَا لَفْظُهُ فَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أَشْرَفُ السُّوَرِ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ أَشْرَفُ الْحَالَاتِ وَبَيَّنُوا مِنْ شَرَفِهَا عَلَى غَيْرِهَا مَا ذَكَرُوهُ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْقَاضِي أَبِي خَازِمِ بْنِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ قَالَ فِي تَعْلِيقِهِ - وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْت - قَالَ فِي مَسْأَلَةِ كَوْنِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ رُكْنًا فِي الصَّلَاةِ : أَمَّا الطَّرِيقُ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ أَنَّا نَقُولُ : الصَّلَاةُ أَشْرَفُ الْعِبَادَاتِ وَجَبَتْ فِيهَا الْقِرَاءَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَيَّنَ لَهَا أَشْرَفُ السُّورِ وَالْفَاتِحَةُ أَشْرَفُ السُّوَرِ فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَيَّنَ . قَالَ : وَاعْلَمْ أَنَّا نَحْتَاجُ فِي تَمْهِيدِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إلَى شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصَّلَاةَ أَشْرَفُ الْعِبَادَاتِ وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَمْدَ أَشْرَفُ السُّوَرِ . وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ قَالَ : وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ أَشْرَفُ فَالنَّصُّ وَالْمَعْنَى وَالْحَكَمُ : أَمَّا النَّصُّ فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا عِوَضٌ مِنْ غَيْرِهَا . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ

الخدري عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَاتِحَةُ الْكِتَابُ شِفَاءٌ مِنْ السُّمِّ } . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : أَنْزَلَ اللَّهُ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ مِنْ السَّمَاءِ أَوْدَعَ عُلُومَهَا أَرْبَعَةً مِنْهَا : التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالْفُرْقَانُ ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْفُرْقَانَ ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ الْقُرْآنِ الْمُفَصَّلَ ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ الْمُفَصَّلِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ . فَمَنْ عَلِمَ تَفْسِيرَهَا كَانَ كَمَنْ عَلِمَ تَفْسِيرَ جَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ وَمَنْ قَرَأَهَا فَكَأَنَّمَا قَرَأَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْقُرْآنَ . وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ قَابَلَهَا بِجَمِيعِ الْقُرْآنِ فَقَالَ : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } . وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ لَا يُدَانِيهَا غَيْرُهَا فِيهَا قُلْت : هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهَا هِيَ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ وَجَعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ جَمِيعَ الْقُرْآنِ . قَالَ : وَلِأَنَّهَا تُسَمَّى " أُمَّ الْقُرْآنِ " وَأُمُّ الشَّيْءِ أَصْلُهُ وَمَادَّتُهُ وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهَ مَكَّةَ " أُمَّ الْقُرَى " لِشَرَفِهَا عَلَيْهِنَّ . وَلِأَنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَلِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا لَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ سُورَةٌ مِنْ الثَّنَاءِ وَالتَّحْمِيدِ لِلرَّبِّ تَعَالَى وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَالِاسْتِعَاذَةِ وَالدُّعَاءِ مِنْ الْعَبْدِ عَلَى مَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي } الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنَزِّلْ مِثْلَهَا فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهَا تَيَسَّرَ قِرَاءَتُهَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَا لَا يَتَيَسَّرُ غَيْرُهَا مِنْ الْقُرْآنِ .

وَتُضْرَبُ بِهَا الْأَمْثَالُ وَلِهَذَا يُقَالُ : فُلَانٌ يَحْفَظُ الشَّيْءَ مِثْلَ الْفَاتِحَةِ وَإِذَا كَانَتْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَغَيْرُهَا لَا يُسَاوِيهَا فِي هَذَا فَاخْتَصَّتْ بِالشَّرَفِ وَلِأَنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ : مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا تَثَنَّى قِرَاءَتُهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ . قَالَ بَعْضُهُمْ : ثُنِّيَ نُزُولُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْت : وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ . قَالَ : وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّهُ تُسْتَحَبُّ قِرَاءَتُهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَيُكْرَهُ الْإِخْلَالُ بِهَا وَلَوْلَا أَنَّهَا أَشْرَفُ لَمَا اخْتَصَّتْ بِهَذَا الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ عِنْدَ الْمُنَازِعِينَ - يَعْنِي أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ - أَنَّ مَنْ أَخَلَّ بِقِرَاءَتِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ . فَنَقُولُ : لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ رُكْنًا أَوْ لَيْسَتْ بِرُكْنِ فَإِنْ كَانَتْ رُكْنًا وَجَبَ أَنْ لَا تُجْبَرَ بِالسُّجُودِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُكْنًا وَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ سُجُودٌ . قُلْت : يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ السُّجُودَ لَا يَجِبُ إلَّا بِتَرْكِ وَاجِبٍ فِي حَالِ الْعَمْدِ فَإِذَا سَهَا عَنْهُ وَجَبَ لَهُ السُّجُودُ وَمَا كَانَ وَاجِبًا فَإِذَا تَعَمَّدَ تَرْكَهُ وَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ بِخِلَافِ مَنْ سَهَا عَنْ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ فَإِنَّ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْبِرَ مَا تَرَكَهُ بِسُجُودِ السَّهْوِ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ وَاجِبٌ لِأَنَّ مِنْ الْوَاجِبَاتِ عِنْدَهُمْ مَا إذَا تَرَكَهُ سَهْوًا لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ . كَمَا لَا تَبْطُلُ بِالزِّيَادَةِ سَهْوًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ زَادَ عَمْدًا لَبَطَلَتْ الصَّلَاةُ . لَكِنَّ مَالِكًا وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا يَقُولَانِ :

مَا كَانَ وَاجِبًا إذَا تَرَكَهُ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِذَا تَرَكَهُ سَهْوًا فَمِنْهُ مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَمِنْهُ مَا يَنْجَبِرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ فَتَرْكُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِرَاءَةِ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ مُطْلَقًا وَتَرْكُ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُمَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ عَمْدُهُ وَيَجِبُ السُّجُودُ لِسَهْوِهِ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَقُولُ : الْوَاجِبُ الَّذِي لَيْسَ بِفَرْضِ - كَالْفَاتِحَةِ - إذَا تَرَكَهُ كَانَ مُسِيئًا وَلَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ . وَالشَّافِعِيُّ لَا يُفَرِّقُ فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْوَاجِبِ . وَلَكِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَجِّ هُوَ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ بَعْضِ مَنْ قَالَ إنَّ الْفَاتِحَةَ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهَا . وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَأَمَّا { قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي . هَلْ تَعْلَمُ سُورَةً مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَا فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلَهَا ؟ } فَمَعْنَاهُ مِثْلُهَا فِي جَمْعِهَا لِمَعَانِي الْخَيْرِ لِأَنَّ فِيهَا الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْحَمْدِ الَّذِي هُوَ لَهُ حَقِيقَةٌ لَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ وَخَيْرٍ مِنْهُ لَا مِنْ سِوَاهُ فَهُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ وَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ حُمِدَ غَيْرُهُ فَإِلَيْهِ يَعُودُ الْحَمْدُ . وَفِيهَا التَّعْظِيمُ لَهُ وَأَنَّهُ الرَّبُّ لِلْعَالَمِ أَجْمَعَ وَمَالِكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ الْمَعْبُودُ وَالْمُسْتَعَانُ . وَفِيهَا تَعْلِيمُ الدُّعَاءِ وَالْهُدَى وَمُجَانَبَةُ طَرِيقِ مَنْ ضَلَّ وَغَوَى . وَالدُّعَاءُ لُبَابُ الْعِبَادَةِ فَهِيَ أَجْمَعُ سُورَةٍ لِلْخَيْرِ لَيْسَ فِي الْكُتُبِ مِثْلُهَا عَلَى هَذِهِ

الْوُجُوهِ . قَالَ : وَقَدْ قِيلَ إنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا وَلَا يُجْزِئُ غَيْرُهَا عَنْهَا . وَلَيْسَ هَذَا بِتَأْوِيلِ مُجْتَمَعٍ عَلَيْهِ . قُلْت : يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ فِي هَذَا نِزَاعًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ كَوْنُ الصَّلَاةِ لَا تُجْزِئُ إلَّا بِهَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ الْأَوَّلَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَنَّهَا أَفْضَلُ السُّوَرِ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ تَفْضِيلِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ وَأَنَّ السَّلَفَ كُلَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِذَلِكَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ الْجَمِيعُ كَلَامُ اللَّهِ فَلَا يُفَضِّلُ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَقَالَ تَعَالَى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } .
" وَأَحْسَنُ الْقَصَصِ " قِيلَ إنَّهُ مَصْدَرٌ وَقِيلَ إنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ . قِيلَ : الْمَعْنَى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْك أَحْسَنَ الِاقْتِصَاصِ كَمَا يُقَالُ نُكَلِّمُك أَحْسَنَ التَّكْلِيمِ وَنُبَيِّنُ لَك أَحْسَنَ الْبَيَانِ . قَالَ الزَّجَّاجُ : نَحْنُ نُبَيِّنُ لَك أَحْسَنَ الْبَيَانِ . وَالْقَاصُّ الَّذِي يَأْتِي بِالْقِصَّةِ عَلَى حَقِيقَتِهَا . قَالَ وَقَوْلُهُ : { بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } أَيْ بِوَحْيِنَا إلَيْك هَذَا الْقُرْآنَ وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْك هَذَا الْقُرْآنَ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ : نَقْرَأُ

عَلَيْك أَحْسَنَ الْقِرَاءَةِ وَنَتَلُوا عَلَيْك أَحْسَنَ التِّلَاوَةِ وَالثَّانِي أَنَّ الْمَعْنَى نَقُصُّ عَلَيْك أَحْسَنَ مَا يُقَصُّ أَيْ أَحْسَنَ الْأَخْبَارِ الْمَقْصُوصَاتِ كَمَا قَالَ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } وَقَالَ : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى : { فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ } وَقَوْلُهُ : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } الْمُرَادُ خَبَرُهُمْ وَنَبَؤُهُمْ وَحَدِيثُهُمْ لَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْمَصْدَرِ . وَالْقَوْلَانِ مُتَلَازِمَانِ فِي الْمَعْنَى كَمَا سَنُبَيِّنُهُ وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَنْصُوبَ قَدْ جَمَعَ مَعْنَى الْمَصْدَرِ وَمَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِأَنَّ فِيهِ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ بِخِلَافِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُبَايِنُ فِيهَا الْفِعْلُ الْمَفْعُولَ بِهِ فَإِنَّهُ إذَا انْتَصَبَ بِهَذَا الْمَعْنَى امْتَنَعَ الْمَعْنَى الْآخَرُ . وَمَنْ رَجَّحَ الْأَوَّلَ مِنْ النُّحَاةِ - كَالزَّجَّاجِ وَغَيْرِهِ - قَالُوا : الْقَصَصُ مَصْدَرٌ يُقَالُ قَصَّ أَثَرَهُ يَقُصُّهُ قَصَصًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا } . وَكَذَلِكَ اقْتَصَّ أَثَرَهُ وَتَقَصَّصَ وَقَدْ اقْتَصَصْت الْحَدِيثَ : رَوَيْته عَلَى وَجْهِهِ وَقَدْ اقْتَصَّ عَلَيْهِ الْخَبَرَ قَصَصًا . وَلَيْسَ الْقَصَصُ بِالْفَتْحِ جَمْعُ قِصَّةٍ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ . فَإِنَّ ذَلِكَ يُقَالُ فِي قِصَصٍ بِالْكَسْرِ وَاحِدُهُ قِصَّةٌ وَالْقِصَّةُ هِيَ الْأَمْرُ وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُقَصُّ فِعْلَةُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَجَمْعُهُ قِصَصٌ بِالْكَسْرِ . وَقَوْلُهُ : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } بِالْفَتْحِ لَمْ يَقُلْ أَحْسَنَ الْقِصَصِ بِالْكَسْرِ وَلَكِنْ

بَعْضُ النَّاسِ ظَنُّوا أَنَّ الْمُرَادَ أَحْسَنُ الْقِصَصِ بِالْكَسْرِ وَأَنَّ تِلْكَ الْقِصَّةَ قِصَّةُ يُوسُفَ وَذَكَرَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ . ثُمَّ ذَكَرُوا : لِمَ سُمِّيَتْ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ؟ فَقِيلَ : لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ قِصَّةٌ تَتَضَمَّنُ مِنْ الْعِبَرِ وَالْحِكَمِ وَالنُّكَتِ مَا تَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْقِصَّةُ . وَقِيلَ : لِامْتِدَادِ الْأَوْقَاتِ بَيْنَ مُبْتَدَاهَا وَمُنْتَهَاهَا . وَقِيلَ لِحُسْنِ مُحَاوَرَةِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ وَصَبْرِهِ عَلَى أَذَاهُمْ وَإِغْضَائِهِ عَنْ ذِكْرِ مَا تَعَاطَوْهُ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَكَرَمِهِ فِي الْعَفْوِ . وَقِيلَ لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْأَنْعَامِ وَالطَّيْرِ وَسِيَرِ الْمُلُوكِ وَالْمَمَالِيكِ وَالتُّجَّارِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْجُهَّالِ وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَمَكْرِهِنَّ وَحِيَلِهِنَّ وَفِيهَا أَيْضًا ذِكْرُ التَّوْحِيدِ وَالْفِقْهِ وَالسِّيَرِ وَتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا وَالسِّيَاسَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَتَدْبِيرِ الْمَعَاشِ فَصَارَتْ أَحْسَنَ الْقَصَصِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَعَانِي وَالْفَوَائِدِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا . وَقِيلَ فِيهَا ذِكْرُ الْحَبِيبِ وَالْمَحْبُوبِ . وَقِيلَ " أَحْسَنُ " بِمَعْنَى أَعْجَبَ . وَاَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ قِصَّةَ يُوسُفَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ مِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ " الْقَصَصَ " بِالْفَتْحِ هُوَ النَّبَأُ وَالْخَبَرُ وَيَقُولُونَ هِيَ أَحْسَنُ الْأَخْبَارِ وَالْأَنْبَاءِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّ الْمُرَادَ أَحْسَنُ الْقِصَصِ بِالْكَسْرِ وَهَؤُلَاءِ جُهَّالٌ بِالْعَرَبِيَّةِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ :
( أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) قِصَّةَ يُوسُفَ وَحْدَهَا بَلْ هِيَ مِمَّا قَصَّهُ اللَّهُ وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي أَحْسَنِ الْقَصَصِ

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلَّا رِجَالًا نُوحِي إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ } { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فَبَيَّنَ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي قَصَصِ الْمُرْسَلِينَ وَأَمَرَ بِالنَّظَرِ فِي عَاقِبَةِ مَنْ كَذَّبَهُمْ وَعَاقِبَتُهُمْ بِالنَّصْرِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ قِصَّةَ مُوسَى وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِ أَعْظَمُ وَأَشْرَفُ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ وَلِهَذَا هِيَ أَعْظَمُ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي تُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ ثَنَّاهَا اللَّهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا وَبَسَطَهَا وَطَوَّلَهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا ؛ بَلْ قَصَصُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ - كَنُوحِ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُرْسَلِينَ - أَعْظَمُ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ وَلِهَذَا ثَنَّى اللَّهُ تِلْكَ الْقَصَصَ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يُثَنِّ قِصَّةَ يُوسُفَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِينَ عَادُوا يُوسُفَ لَمْ يُعَادُوهُ عَلَى الدِّينِ بَلْ عَادَوْهُ عَدَاوَةً دُنْيَوِيَّةً وَحَسَدُوهُ عَلَى مَحَبَّةِ أَبِيهِ لَهُ وَظَلَمُوهُ فَصَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ وَابْتُلِيَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِمَنْ ظَلَمَهُ وَبِمَنْ دَعَاهُ إلَى الْفَاحِشَةِ فَصَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ فِي هَذَا وَفِي هَذَا وَابْتُلِيَ أَيْضًا بِالْمُلْكِ فَابْتُلِيَ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ فَصَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ فِي هَذَا وَهَذَا فَكَانَتْ قِصَّتُهُ مِنْ أَحْسَنِ الْقَصَصِ وَهِيَ

أَحْسَنُ مِنْ الْقَصَصِ الَّتِي لَمْ تُقَصَّ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ يَظْلِمُونَ وَيَحْسُدُونَ وَيَدْعُونَ إلَى الْفَاحِشَةِ وَيُبْتَلَوْنَ بِالْمُلْكِ لَكِنْ لَيْسَ مَنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ وَصَبَرَ مِثْلَ يُوسُفَ وَلَا فِيهِمْ مَنْ كَانَتْ عَاقِبَتُهُ أَحْسَنَ الْعَوَاقِبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِثْلَ يُوسُفَ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ قِصَّةَ أَهْلِ الْكَهْفِ وَقِصَّةَ ذِي الْقَرْنَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا هِيَ فِي جِنْسِهَا أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِهَا . فَقِصَّةُ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَحْسَنُ قَصَصِ الْمُلُوكِ وَقِصَّةُ أَهْلِ الْكَهْفِ أَحْسَنُ قَصَصِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ . فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا قَصَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ أَحْسَنُ مِمَّا لَمْ يَقُصُّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ قِصَّةَ يُوسُفَ أَحْسَنُ مَا قُصَّ فِي الْقُرْآنِ . وَأَيْنَ مَا جَرَى لِيُوسُفَ مِمَّا جَرَى لِمُوسَى وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الرُّسُلِ وَأَيْنَ مَا عُودِيَ أُولَئِكَ مِمَّا عُودِيَ فِيهِ يُوسُفُ وَأَيْنَ فَضْلُ أُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ وَعُلُوُّ دَرَجَتِهِمْ مِنْ يُوسُفَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ؟ وَأَيْنَ نَصْرُ أُولَئِكَ مِنْ نَصْرِ يُوسُفَ ؟ فَإِنَّ يُوسُفَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَأَذَلَّ اللَّهُ الَّذِينَ ظَلَمُوهُ ثُمَّ تَابُوا فَكَانَ فِيهَا مِنْ الْعِبْرَةِ أَنَّ الْمَظْلُومَ الْمَحْسُودَ إذَا صَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ كَانَتْ لَهُ الْعَاقِبَةُ وَأَنَّ الظَّالِمَ الْحَاسِدَ

قَدْ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَيَعْفُو عَنْهُ وَأَنَّ الْمَظْلُومَ يَنْبَغِي لَهُ الْعَفْوُ عَنْ ظَالِمِهِ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ . وَبِهَذَا { اعْتَبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ لَمَّا قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَدْ أَذَلَّ اللَّهُ لَهُ الَّذِينَ عَادُوهُ وَحَارَبُوهُ مِنْ الطُّلَقَاءِ - فَقَالَ : مَاذَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ؟ فَقَالُوا : نَقُولُ أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ عَمٍّ كَرِيمٌ . فَقَالَ : إنِّي قَائِلٌ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ : { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } } . وَكَذَلِكَ { عَائِشَةُ لَمَّا ظُلِمَتْ وَافْتُرِيَ عَلَيْهَا وَقِيلَ لَهَا : إنْ كُنْت أَلْمَمْت بِذَنْبِ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إلَيْهِ فَقَالَتْ فِي كَلَامِهَا : أَقُولُ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } } . فَفِي قِصَّةِ يُوسُفَ أَنْوَاعٌ مِنْ الْعِبْرَةِ لِلْمَظْلُومِ وَالْمَحْسُودِ وَالْمُبْتَلَى بِدَوَاعِي الْفَوَاحِشِ وَالذُّنُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . لَكِنْ أَيْنَ قِصَّةُ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَالْمَسِيحِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ كَانَتْ قِصَّتُهُ أَنَّهُ دَعَا الْخَلْقَ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَكَذَّبُوهُ وَآذَوْهُ وَآذَوْا مَنْ آمَنَ بِهِ ؟ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أُوذُوا اخْتِيَارًا مِنْهُمْ لِعِبَادَةِ اللَّهِ فَعُودُوا وَأُوذُوا فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ بِاخْتِيَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَوْلَا إيمَانُهُمْ وَدَعْوَتُهُمْ الْخَلْقَ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ لَمَا أُوذُوا وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ أُوذِيَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَمَا أُخِذَ يُوسُفُ مِنْ أَبِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَلِهَذَا كَانَتْ مِحْنَةُ يُوسُفَ بِالنِّسْوَةِ وَامْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَاخْتِيَارِهِ السِّجْنَ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ

أَعْظَمَ مِنْ إيمَانِهِ وَدَرَجَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَأَجْرِهِ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى ظُلْمِ إخْوَتِهِ لَهُ ؛ وَلِهَذَا يَعْظُمُ يُوسُفُ بِهَذَا أَعْظَمَ مِمَّا يَعْظُمُ بِذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِيهِ : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } وَهَذَا كَالصَّبْرِ عَنْ الْمَعَاصِي مَعَ الصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ فَالْأَوَّلُ أَعْظَمُ وَهُوَ صَبْرُ الْمُتَّقِينَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ . قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري : أَفْعَالُ الْبِرِّ يَفْعَلُهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَلَنْ يَصْبِرَ عَنْ الْمَعَاصِي إلَّا صِدِّيقٌ وَيُوسُفُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . وَأَمَّا مَنْ يُظْلَمُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَيَصْبِرُ فَهَذَا كَثِيرٌ وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ صَبْرَ الْكِرَامِ سَلَا سَلْوَ الْبَهَائِمِ . وَكَذَلِكَ إذَا مُكِّنَ الْمَظْلُومُ وَقَهَرَ ظَالِمَهُ فَتَابَ الظَّالِمُ وَخَضَعَ لَهُ فَعَفْوُهُ عَنْهُ مِنْ الْمَحَاسِنِ وَالْفَضَائِلِ لَكِنَّ هَذَا يَفْعَلُهُ خَلْقٌ كَثِيرُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَعُقَلَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ حِلْمَ الْمُلُوكِ وَالْوُلَاةِ أَجْمَعُ لِأَمْرِهِمْ وَطَاعَةِ النَّاسِ لَهُمْ وَتَأْلِيفِهِمْ لِقُلُوبِ النَّاسِ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ مِنْ أَحْلَمِ النَّاسِ وَكَانَ الْمَأْمُونُ حَلِيمًا حَتَّى كَانَ يَقُولُ : لَوْ عَلِمَ النَّاسُ مَحَبَّتِي فِي الْعَفْوِ تَقَرَّبُوا إلَيَّ بِالذُّنُوبِ وَلِهَذَا لَمَّا قَدَرَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِي الْمُلْكِ - وَهُوَ عَمُّهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ - عَفَا عَنْهُ . وَأَمَّا الصَّبْرُ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَالْهَوَى الْغَالِبِ لِلَّهِ لَا رَجَاءً لِمَخْلُوقِ وَلَا خَوْفًا مِنْهُ مَعَ كَثْرَةِ الدَّوَاعِي إلَى فِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَاخْتِيَارِهِ الْحَبْسَ الطَّوِيلَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ يُوسُفُ : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ } فَهَذَا لَا يُوجَدُ نَظِيرُهُ إلَّا فِي خِيَارِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَأَوْلِيَائِهِ

الْمُتَّقِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } فَهَذَا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وَلِهَذَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ ذَنَبٌ أَصْلًا بَلْ الْهَمُّ الَّذِي هَمَّ بِهِ لَمَّا تَرَكَهُ لِلَّهِ كَتَبَ لَهُ بِهِ حَسَنَةً وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ سُبْحَانَهُ تَوْبَةً وَاسْتِغْفَارًا كَمَا ذَكَرَ تَوْبَةَ الْأَنْبِيَاءِ كَآدَمَ ودَاوُد وَنُوحٍ وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عَنْ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ فَاحِشَةً وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَإِنَّمَا كَانَتْ تَوْبَاتُهُمْ مِنْ أُمُورٍ أُخَرَ هِيَ حَسَنَاتٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمْ وَلِهَذَا لَا يُعْرَفُ لِيُوسُفَ نَظِيرٌ فِيمَا اُبْتُلِيَ بِهِ مِنْ دَوَاعِي الْفَاحِشَةِ وَتَقْوَاهُ وَصَبْرِهِ فِي ذَلِكَ . وَإِنَّمَا يُعْرَفُ لِغَيْرِهِ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ : إمَامٌ عَادِلٌ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ مُعَلَّقٌ قَلْبُهُ بِالْمَسْجِدِ إذَا خَرَجَ حَتَّى يَعُودَ إلَيْهِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ فَقَالَ : إنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةِ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ } وَإِذَا كَانَ الصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى لِئَلَّا يَفْعَلَ الْفَاحِشَةَ أَعْظَمَ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى ظُلْمِ إخْوَتِهِ فَكَيْفَ بِصَبْرِ الرُّسُلِ عَلَى أَذَى الْمُكَذِّبِينَ لِئَلَّا يَتْرُكُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ دَعْوَتِهِمْ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِمْ عَنْ

الْمُنْكَرِ ؟ فَهَذَا الصَّبْرُ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إذْ كَانَ الْجِهَادُ مَقْصُودًا بِهِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَأَنَّ الدِّينَ كُلَّهُ لِلَّهِ فَالْجِهَادُ وَالصَّبْرُ فِيهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِي وَصَحَّحَهُ وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ الطَّوِيلِ - وَهُوَ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ - فَالصَّبْرُ عَلَى تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ صَبْرُ الْمُهَاجِرِ الَّذِي هَجَرَ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَصَبْرُ الْمُجَاهِدِ الَّذِي جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي اللَّهِ وَجَاهَدَ عَدُوَّ اللَّهِ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ وَالْمُهَاجِرُ الصَّابِرُ عَلَى تَرْكِ الذَّنْبِ إنَّمَا جَاهَدَ نَفْسَهُ وَشَيْطَانَهُ ثُمَّ يُجَاهِدُ عَدُوَّ اللَّهِ الظَّاهِرَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَصَبْرُ الْمَظْلُومِ صَبْرُ الْمُصَابِ . لَكِنَّ الْمُصَابَ بِمُصِيبَةٍ سَمَاوِيَّةٍ تَصْبِرُ نَفْسُهُ مَا لَا تَصْبِرُ نَفْسُ مَنْ ظَلَمَهُ النَّاسُ فَإِنَّ ذَاكَ يَسْتَشْعِرُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِهِ هَذَا فَتَيْأَسُ نَفْسُهُ مِنْ الدَّفْعِ وَالْمُعَاقَبَةِ وَأَخْذِ الثَّأْرِ بِخِلَافِ الْمَظْلُومِ الَّذِي ظَلَمَهُ النَّاسُ فَإِنَّ نَفْسَهُ تَسْتَشْعِرُ أَنَّ ظَالِمَهُ يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَعُقُوبَتُهُ وَأَخْذُ ثَأْرِهِ مِنْهُ فَالصَّبْرُ عَلَى هَذِهِ الْمُصِيبَةِ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ كَصَبْرِ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَهَذَا يَكُونُ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ ذَلِكَ فَيَصْبِرُ عَلَى ذَلِكَ كَالْمَصَائِبِ السَّمَاوِيَّةِ وَيَكُونُ أَيْضًا لِيَنَالَ ثَوَابَ الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ

النَّاسِ وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَلِيُسْلِمَ قَلْبَهُ مِنْ الْغِلِّ لِلنَّاسِ وَكِلَا النَّوْعَيْنِ يَشْتَرِكُ فِي أَنَّ صَاحِبَهُ يَسْتَشْعِرُ أَنَّ ذَلِكَ بِذُنُوبِهِ وَهُوَ مِمَّا يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ وَيَسْتَغْفِرُ وَيَتُوبُ وَأَيْضًا فَيَرَى أَنَّ ذَلِكَ الصَّبْرَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَأَنَّ الْجَزَعَ مِمَّا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ . وَإِنْ ارْتَقَى إلَى الرِّضَا رَأَى أَنَّ الرِّضَا جَنَّةُ الدُّنْيَا وَمُسْتَرَاحُ الْعَابِدِينَ وَبَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ . وَإِنْ رَأَى ذَلِكَ نِعْمَةً لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ قَلْبِهِ وَدِينِهِ وَقُرْبِهِ إلَى اللَّهِ وَتَكْفِيرَ سَيِّئَاتِهِ وَصَوْنَهُ عَنْ ذُنُوبٍ تَدْعُوهُ إلَيْهَا شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ شَكَرَ اللَّهَ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ . فَالْمَصَائِبُ السَّمَاوِيَّةُ وَالْآدَمِيَّةُ تَشْتَرِكُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَمَعْرِفَةُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَعِلْمُهُمْ بِهَا هُوَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يَمُنُّ بِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ فِي الْمَصَائِبِ وَغَيْرِهَا مُتَبَايِنَةً تَبَايُنًا عَظِيمًا . ثُمَّ إذَا شَهِدَ الْعَبْدُ الْقَدَرَ وَأَنَّ هَذَا أَمْرٌ قَدَّرَهُ اللَّهُ وَقَضَاهُ وَهُوَ الْخَالِقُ لَهُ فَهُوَ مَعَ الصَّبْرِ يُسَلِّمُ لِلرَّبِّ الْقَادِرِ الْمَالِكِ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَهَذَا حَالُ الصَّابِرِ وَقَدْ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَهُ لِلرَّبِّ الْمُحْسِنِ الْمُدَبِّرِ لَهُ بِحُسْنِ اخْتِيَارِهِ الَّذِي { لَا يَقْضِي لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ : إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ } كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ صهيب عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَذَا تَسْلِيمُ رَاضٍ لِعِلْمِهِ بِحُسْنِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ وَهَذَا يُورِثُ الشُّكْرَ . وَقَدْ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَهُ لِلرَّبِّ الْمُحْسِنِ إلَيْهِ الْمُتَفَضِّلِ عَلَيْهِ بِنِعَمِ عَظِيمَةٍ . وَإِنْ لَمْ

يَرَ هَذَا نِعْمَةً فَيَكُونُ تَسْلِيمُهُ تَسْلِيمَ رَاضٍ غَيْرَ شَاكِرٍ . وَقَدْ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَهُ لِلَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَأَنْ يُعْبَدَ لِذَاتِهِ وَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى كُلِّ مَا يَفْعَلُهُ فَإِنَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ رَحِيمٌ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا إلَّا لِحِكْمَةِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحَمْدِهِ عَلَى كُلِّ مَا خَلَقَهُ . فَهَذَا تَسْلِيمُ عَبْدٍ عَابِدٍ حَامِدٍ وَهَذَا مِنْ الْحَامِدِينَ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إلَى الْجَنَّةِ وَمِنْ بَيْنِهِمْ صَاحِبُ لِوَاءِ الْحَمْدِ وَآدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِهِ . وَهَذَا يَكُونُ الْقَضَاءُ خَيْرًا لَهُ وَنِعْمَةً مِنْ اللَّهِ عَلَيْهِ . لَكِنْ يَكُونُ حَمْدُهُ لِلَّهِ وَرِضَاهُ بِقَضَائِهِ مِنْ حَيْثُ عَرَفَ اللَّهَ وَأَحَبَّهُ وَعَبَدَهُ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْأُلُوهِيَّةَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَيَكُونُ صَبْرُهُ وَرِضَاهُ وَحَمْدُهُ مِنْ عِبَادَتِهِ الصَّادِرَةِ عَنْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَالشَّهَادَةِ وَهَذَا يَشْهَدُ بِقَلْبِهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالْإِلَهُ عِنْدَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ إلَّا مُجَرَّدَ رُبُوبِيَّتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَوْ مُجَرَّدَ إحْسَانِهِ وَنِعْمَتِهِ فَإِنَّهُمَا مَشْهَدَانِ نَاقِصَانِ قَاصِرَانِ وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِمَا مَنْ نَقَصَ عِلْمُهُ بِاَللَّهِ وَبِدِينِهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ كَأَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ مَشْهَدُ أُولَئِكَ وَالثَّانِي مَشْهَدُ هَؤُلَاءِ وَشُهُودُ رُبُوبِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ مَعَ شُهُودِ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ مَعَ شُهُودِ إلَهِيَّتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَحَمْدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَمَجْدِهِ هُوَ مَشْهَدُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانِ

لِلسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَا يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ فِي عُمُومِ الْمَصَائِبِ وَمَا يَكُونُ بِأَفْعَالِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَهُ فِيهِ كَظْمُ الْغَيْظِ وَالْعَفْوُ عَنْ النَّاسِ . وَيُوسُفُ الصِّدِّيقُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ هَذَا وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرُ عَنْ الْفَاحِشَةِ مَعَ قُوَّةِ الدَّاعِي إلَيْهَا فَهَذَا الصَّبْرُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرِ بَلْ وَأَعْظَمُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَةِ . وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي وَصْفِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَعَدَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ : { وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } { وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } { أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } فَوَصَفَهُمْ بِالْكَرَمِ وَالْحِلْمِ وَبِالْإِنْفَاقِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ وَالْعَفْوِ عَنْ النَّاسِ . ثُمَّ لَمَّا جَاءَتْ الشَّهَوَاتُ الْمُحَرَّمَاتُ وَصَفَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا فَقَالَ { وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ

يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا } فَوَصَفَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا وَتَرْكِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا لَا بِتَرْكِ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ : فَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا السَّمْعُ وَاللِّسَانُ يَزْنِي وَزِنَاهُ الْمَنْطِقُ وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْمَشْيُ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } . وَفِي الْحَدِيثِ { كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ } . فَلَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْكَبِيرَةِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقَعُ فِي الْكَبِيرَةِ فَيُؤْمَرُ بِالتَّوْبَةِ وَيُؤْمَرُونَ أَنْ لَا يُصِرُّوا عَلَى صَغِيرَةٍ فَإِنَّهُ لَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ . وَيُوسُفُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبَرَ عَلَى الذَّنْبِ مُطْلَقًا وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا هَمٌّ تَرَكَهُ لِلَّهِ كَتَبَ لَهُ بِهِ حَسَنَةً . وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ بَعْضُ الْمُقَدِّمَاتِ مِثْلَ حَلِّ السَّرَاوِيلِ وَالْجُلُوسِ مَجْلِسَ الْخَاتِنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَنْقُولًا نَقْلًا يُصَدَّقُ بِهِ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِثْلَ هَذِهِ الإسْرائيليَّاتِ إذَا لَمْ تُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْرَفْ صِدْقُهَا وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ تَصْدِيقُهَا وَلَا تَكْذِيبُهَا إلَّا بِدَلِيلِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ } فَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّهُ صَرَفَ عَنْهُ السُّوءَ

وَالْفَحْشَاءَ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ قَدْ فَعَلَ صَغِيرَةً لَتَابَ مِنْهَا . وَالْقُرْآنُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ تَوْبَتِهِ . وَمَنْ وَقَعَ مِنْهُ بَعْضُ أَنْوَاعِ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَدْ صُرِفَ عَنْهُ بَلْ يَكُونُ قَدْ وَقَعَ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْهُ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ هَذَا . وَقَدْ شَهِدَتْ النِّسْوَةُ لَهُ أَنَّهُنَّ مَا عَلِمْنَ عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ وَلَوْ كَانَ قَدْ بَدَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ لَكَانَتْ الْمَرْأَةُ قَدْ رَأَتْ ذَلِكَ وَهِيَ مِنْ النِّسْوَةِ اللَّاتِي شَهِدْنَ وَقُلْنَ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ وَقَالَتْ مَعَ ذَلِكَ : { وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } وَقَالَتْ : { أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } . وَقَوْلُهُ ( سُوءٍ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تَرَ مِنْهُ سُوءًا فَإِنَّ الْهَمَّ فِي الْقَلْبِ لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ وَلَوْ اطَّلَعَتْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إذًا تَرَكَهُ لِلَّهِ كَانَ حَسَنَةً وَلَوْ تَرَكَهُ مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ حَسَنَةً وَلَا سَيِّئَةً فَإِنَّهُ لَا إثْمَ فِيهِ إلَّا مَعَ الْقَوْلِ أَوْ الْعَمَلِ . وَأَمَّا قِصَّةُ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَتِلْكَ أَعْظَمُ وَالْوَاقِعُ فِيهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَمَا فَعَلَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ الدَّعْوَةِ إلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَدِينِهِ وَإِظْهَارِ آيَاتِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَمُجَاهَدَةِ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ هُوَ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلِهَذَا كَانُوا أَفْضَلَ مِنْ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَمَا صَبَرُوا عَلَيْهِ وَعَنْهُ أَعْظَمُ مِنْ الَّذِي صَبَرَ يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَنْهُ وَعِبَادَتُهُمْ لِلَّهِ

وَطَاعَتُهُمْ وَتَقْوَاهُمْ وَصَبْرُهُمْ بِمَا فَعَلُوهُ أَعْظَمُ مِنْ طَاعَةِ يُوسُفَ وَعِبَادَتِهِ وَتَقْوَاهُ أُولَئِكَ أُولُوا الْعَزْمِ الَّذِينَ خَصَّهُمْ اللَّهُ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } وَقَالَ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } وَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ تَطْلُبُ مِنْهُمْ الْأُمَمُ الشَّفَاعَةَ وَبِهِمْ أَمَرَ خَاتَمُ الرُّسُلِ أَنْ يُقْتَدَى فِي الصَّبْرِ فَقِيلَ لَهُ : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ } فَقِصَصُهُمْ أَحْسَنُ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ ؛ وَلِهَذَا ثَنَّاهَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ لَا سِيَّمَا قِصَّةُ مُوسَى . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : أَحْسَنُ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ حَدِيثُ تَكْلِيمِ اللَّهِ لِمُوسَى .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ قَوْلَهُ : { أَحْسَنَ الْقَصَصِ } قَدْ قِيلَ إنَّهُ مَصْدَرٌ وَقِيلَ إنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ وَالْقَوْلَانِ مُتَلَازِمَانِ . لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْقَصَصَ مَفْعُولٌ بِهِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَصْدَرًا فَقَدْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَقْصُوصِ كَمَا فِي لَفْظِ الْخَبَرِ وَالنَّبَأِ وَالِاسْتِعْمَالِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَقَدْ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ أَهْلُ اللُّغَةِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : وَقَدْ قَصَّ عَلَيْهِ الْخَبَرَ قَصَصًا وَالِاسْمُ أَيْضًا الْقَصَصُ بِالْفَتْحِ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ حَتَّى صَارَ أَغْلَبَ عَلَيْهِ فَقَوْلُهُ أَحْسَنَ الْقَصَصِ كَقَوْلِهِ : نُخْبِرُك أَحْسَنَ الْخَبَرِ وَنُنَبِّئُك أَحْسَنَ النَّبَأِ

وَنُحَدِّثُك أَحْسَنَ الْحَدِيثِ . وَلَفْظُ " الْكَلَامِ " يُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا وَيُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْقَوْلِ فَإِنَّ الْقَوْلَ فِيهِ فِعْلٌ مِنْ الْقَائِلِ هُوَ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ وَالْقَوْلُ يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَلِهَذَا تَارَةً يَجْعَلُ الْقَوْلَ نَوْعًا مِنْ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِعَمَلِ وَتَارَةً يُجْعَلُ قَسِيمًا لَهُ يُقَالُ : الْقَوْلُ وَالْعَمَلُ وَكَذَلِكَ قَدْ يُقَالُ فِي لَفْظِ " الْقَصَصِ " وَ " الْبَيَانِ " وَ " الْحَدِيثِ " وَ " الْخَبَرِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِذَا أُرِيدَ بِالْقِصَصِ وَنَحْوِهِ الْمَصْدَرُ الَّذِي مُسَمَّاهُ الْفِعْلُ فَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْقَوْلِ وَالْقَوْلُ تَابِعٌ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ نَفْسُ الْكَلَامِ وَالْقَوْلُ فَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْفِعْلِ تَابِعٌ لِلْفِعْلِ . فَالْمَصَادِرُ الْجَارِيَةُ عَلَى سُنَنِ الْأَفْعَالِ يُرَادُ بِهَا الْفِعْلُ كَقَوْلِك كَلَّمْته تَكْلِيمًا وَأَخْبَرْته إخْبَارًا وَأَمَّا مَا لَمْ يَجْرِ عَلَى سُنَنِ الْفِعْلِ - مِثْلَ الْكَلَامِ وَالْخَبَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَإِنَّ هَذَا إذَا أُطْلِقَ أُرِيدَ بِهِ الْقَوْلُ وَكَذَلِكَ قَدْ يُقَالُ فِي لَفْظِ الْقَصَصِ فَإِنَّ مَصْدَرَهُ الْقِيَاسِيَّ قَصًّا مِثْلَ عَدَّهُ عَدًّا وَمَدَّهُ مَدًّا وَكَذَلِكَ قَصَّهُ قَصًّا وَأَمَّا قَصَّصَ فَلَيْسَ هُوَ قِيَاسُ مَصْدَرِ الْمُضَعَّفِ وَلَمْ يَذْكُرُوا عَلَى كَوْنِهِ مَصْدَرًا إلَّا قَوْلَهُ { فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا } وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ . بَلْ قَدْ يَكُونُ اسْمَ مَصْدَرٍ أُقِيمَ مَقَامَهُ كَقَوْلِهِ : { وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا } وَإِنْ جُعِلَ مَصْدَرَ قَصَّ الْأَثَرَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ قَصَّ الْحَدِيثَ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ خَبَرٌ وَنَبَأٌ فَكَانَ لَفْظُ قَصَصٍ كَلَفْظِ خَبَرٍ وَنَبَأٍ وَكَلَامٍ .

وَأَسْمَاءُ الْمَصَادِرِ فِي بَابِ الْكَلَامِ تَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ نَفْسَهُ وَتَدُلُّ عَلَى فِعْلِ الْقَائِلِ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ وَاللُّزُومِ فَإِنَّك إذَا قُلْت : الْكَلَامُ وَالْخَبَرُ وَالْحَدِيثُ وَالنَّبَأُ وَالْقَصَصُ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ قَوْلِك : التَّكْلِيمُ وَالْإِنْبَاءُ وَالْإِخْبَارُ وَالتَّحْدِيثُ وَلِهَذَا يُقَالُ إنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ وَاسْمُ الْمَصْدَرِ يَنْتَصِبُ عَلَى الْمَصْدَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ { وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا } فَإِذَا قَالَ : كَلَّمْته كَلَامًا حَسَنًا وَحَدَّثْته حَدِيثًا طَيِّبًا وَأَخْبَرْته أَخْبَارًا سَارَّةً وَقَصَصْت عَلَيْهِ قِصَصًا صَادِقَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ كَانَ هَذَا مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا كَقَوْلِك كَلَّمْته تَكْلِيمًا وَأَنْبَأْته إنْبَاءً . فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ { أَحْسَنَ الْقَصَصِ } مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ وَكُلُّ مَا قَصَّهُ اللَّهُ فَهُوَ أَحْسَنُ الْقَصَصِ وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْمَصْدَرِ وَمَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ جَازَ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا فَإِنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ تَقُولُ : قُلْت قَوْلًا حَسَنًا وَقَدْ أَسْمَعْته قَوْلًا وَلَمْ يَسْمَعْ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ وَإِنَّمَا سَمِعَ الصَّوْتَ وَتَقُولُ قَالَ يَقُولُ قَوْلًا فَتَجْعَلُهُ مَصْدَرًا وَالصَّوْتُ نَفْسُهُ لَيْسَ هُوَ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ إنَّمَا مُسَمَّى الْمَصْدَرِ الْفِعْلُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلصَّوْتِ وَلَكِنَّ هُمَا مُتَلَازِمَانِ .
وَلِهَذَا تَنَازَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فِي التِّلَاوَةِ وَالْقُرْآنِ هَلْ هِيَ الْقُرْآنُ الْمَتْلُوُّ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ تَفَطَّنَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ لِمَا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَعْنَى وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ وَسَبَبُ الِاشْتِبَاهِ أَنَّ الْمَتْلُوَّ هُوَ الْقُرْآنُ نَفْسُهُ الَّذِي هُوَ الْكَلَامُ وَالتِّلَاوَةُ قَدْ يُرَادُ بِهَا هَذَا وَقَدْ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ حَرَكَةِ التَّالِي

وَفِعْلِهِ وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْأَمْرَانِ جَمِيعًا فَمَنْ قَالَ : التِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ أَرَادَ بِالتِّلَاوَةِ نَفْسَ الْقُرْآنِ الْمَسْمُوعِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَتْلُوُّ وَمَنْ قَالَ غَيْرَهُ أَرَادَ بِالتِّلَاوَةِ حَرَكَةَ الْعَبْدِ وَفِعْلَهُ وَتِلْكَ لَيْسَتْ هِيَ الْقُرْآنُ وَمَنْ نَهَى عَنْ أَنْ يُقَالَ التِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ أَوْ غَيْرُ الْمَتْلُوِّ فَلِأَنَّ لَفْظَ التِّلَاوَةِ يَجْمَعُ الْأَمْرَيْنِ كَمَا نَهَى الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَنْ أَنْ يُقَالَ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ الْمَلْفُوظُ نَفْسُهُ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَيُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا وَهُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَأَطْلَقَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَطْلَقَ نَاسٌ آخَرُونَ أَنَّ لَفْظِي بِهِ مَخْلُوقٌ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : لَمْ يَتَنَازَعْ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ إلَّا فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ وَهَذَا كَانَ تَنَازُعُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ أَدْرَكُوهُ . ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ قَالُوا : التِّلَاوَةُ غَيْرُ الْمَتْلُوِّ وَأَرَادُوا بِالتِّلَاوَةِ نَفْسَ كَلَامِ اللَّهِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ وَأَرَادُوا بِالْمَتْلُوِّ مَعْنًى وَاحِدًا قَائِمًا بِذَاتِ اللَّهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : التِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ وَأَرَادُوا بِالتِّلَاوَةِ نَفْسَ الْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ مِنْ الْقُرْآنِ جَعَلُوا مَا سَمِعَ مِنْ الْأَصْوَاتِ هُوَ نَفْسُ الْكَلَامِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ سَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ وَبَيْنَ سَمَاعِهِ مِنْ الْمُبَلَّغِ لَهُ عَنْهُ فَزَادَ كُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ الْبِدَعِ مَا لَمْ يَكُنْ يَقُولُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْعِلْمِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ

السُّنَّةِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَا يَجْعَلُ الْمَتْلُوَّ مُجَرَّدَ مَعْنًى وَلَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ - وَغَيْرُهَا مِنْ خَصَائِصِهِمْ - غَيْرُ مَخْلُوقٍ بَلْ هُمْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْمَتْلُوَّ هُوَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ الَّذِي نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ اللَّهِ بِالْحَقِّ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ . وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي تِلَاوَةِ الْعِبَادِ لَهُ : هَلْ هِيَ الْقُرْآنُ نَفْسُهُ أَمْ هِيَ الْفِعْلُ الَّذِي يَقْرَأُ بِهِ الْقُرْآنَ ؟ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ لَفْظَ " التِّلَاوَةِ " يُرَادُ بِهِ هَذَا وَهَذَا وَلَفْظُ " الْقُرْآنِ " يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } { ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : إنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي قَلْبِك وَتَقْرَأَهُ بِلِسَانِك . وَقَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ : يُقَالُ قَرَأْت الْكِتَابَ قِرَاءَةً وَقُرْآنًا وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ :
ضَحَّوْا بِأَشْمَطَ عُنْوَانَ السُّجُودِ بِهِ * * * يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنًا
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } وَهْم إنَّمَا يَسْتَمِعُونَ الْكَلَامَ نَفْسَهُ وَلَا يَسْتَمِعُونَ

مُسَمَّى الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسْمَعُ فَقَوْلُهُ { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } مِنْ هَذَا الْبَابِ مِنْ بَابِ نَقْرَأُ عَلَيْك أَحْسَنَ الْقَصَصِ وَنَتْلُو عَلَيْك أَحْسَنَ الْقَصَصِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ : { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْ قِرَاءَةَ جِبْرِيلَ { فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } فَاسْتَمِعْ لَهُ حَتَّى يَقْضِيَ قِرَاءَتَهُ . وَالْمَشْهُورُ فِي قَوْلِهِ { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ } أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ فَكَذَلِكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ لَكِنَّ فِي كِلَاهُمَا مَعْنَى الْمَصْدَرِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ فَفِيهِ مَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ وَمَعْنَى الْمَصْدَرِ جَمِيعًا وَقَدْ يَغْلِبُ هَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ { إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } فَالْمُرَادُ هُنَا نَفْسُ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ وَقَدْ يَغْلِبُ هَذَا تَارَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } وَقَوْلِهِ : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } وَغَالِبُ مَا يَذْكُرُ لَفْظَ " الْقُرْآنِ " إنَّمَا يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْكَلَامِ لَا يُرَادُ بِهِ التَّكَلُّمُ بِالْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ . وَمِثْلَ هَذَا كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ يَكُونُ أَمْرَانِ مُتَلَازِمَانِ إمَّا دَائِمًا وَإِمَّا غَالِبًا فَيُطْلَقُ الِاسْمُ عَلَيْهِمَا وَيَغْلِبُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً وَقَدْ يَقَعُ عَلَى أَحَدِهِمَا مُفْرَدًا كَلَفْظِ " النَّهْرِ " وَ " الْقَرْيَةِ " وَ " الْمِيزَابِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ حَالٌ وَمَحَلُّ فَالِاسْمِ يَتَنَاوَلُ مَجْرَى الْمَاءِ وَالْمَاءُ الْجَارِي وَكَذَلِكَ لَفْظُ

الْقَرْيَةِ يَتَنَاوَلُ الْمَسَاكِنَ وَالسُّكَّانَ ثُمَّ تَقُولُ : حَفَرَ النَّهْرَ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَجْرَى وَتَقُولُ جَرَى النَّهْرُ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَاءُ وَتَقُولُ جَرَى الْمِيزَابُ تَعْنِي الْمَاءَ وَنَصَبَ الْمِيزَابَ تَعْنِي الْخَشَبَ . وَقَالَ تَعَالَى { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ } وَالْمُرَادُ السُّكَّانُ فِي الْمَكَانِ وَقَالَ تَعَالَى { وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا } وَقَالَ تَعَالَى { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } وَالْخَاوِي عَلَى عُرُوشِهِ الْمَكَانُ لَا السُّكَّانُ وَقَالَ تَعَالَى : { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْقَرْيَةِ هُمْ السُّكَّانُ كَانَ إرَادَتُهُمْ أَكْثَرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ النَّهْرِ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْمَاءُ كَانَ إرَادَتُهُ أَكْثَرَ كَقَوْلِهِ : { وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ } وَقَوْلُهُ : { وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا } فَهَذَا كَثِيرٌ أَكْثَرُ مِنْ قَوْلِهِمْ حَفَرْنَا النَّهْرَ . وَكَذَلِكَ إطْلَاقُ لَفْظِ الْقُرْآنِ عَلَى نَفْسِ الْكَلَامِ أَكْثَرَ مِنْ إطْلَاقِهِ عَلَى نَفْسِ التَّكَلُّمِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ وَالْقَصَصِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ

الْكَلَامِ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ الْكَلَامِ أَكْثَرَ مِمَّا يُرَادُ بِهَا فِعْلُ الْمُتَكَلِّمِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } الْمُرَادُ الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ الْقَصَصِ وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا قَصَّهُ اللَّهُ لَمْ يَخُصَّ بِهِ سُورَةَ يُوسُفَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } وَلَمْ يَقُلْ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْك هَذِهِ السُّورَةَ وَالْآثَارُ الْمَأْثُورَةُ فِي ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ تَدُلُّ كُلُّهَا عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ وَهُوَ الْمُرَادُ . وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا حَاصِلٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَسَوَاءٌ كَانَ أَحْسَنُ الْقَصَصِ مَصْدَرًا أَوْ مَفْعُولًا أَوْ جَامِعًا لِلْأَمْرَيْنِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْقَصَصِ أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَحْسَنَ كَانَ الْآخَرُ أَحْسَنَ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى { أَحْسَنَ الْقَصَصِ } كَقَوْلِهِ : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } وَالْآثَارُ السَّلَفِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . وَالسَّلَفُ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَأَحْسَنُ الْقَصَصِ كَمَا أَنَّهُ الْمُهَيْمِنُ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ كُتُبِ السَّمَاءِ فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ كُلَّهُ لَا فَضْلَ لِبَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ { عَنْ الْقَاسِمِ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَلُّوا مِلَّةً فَقَالُوا : حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } ثُمَّ مَلُّوا مِلَّةً فَقَالُوا : حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَنَزَلَتْ : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ }

ثُمَّ مَلُّوا مِلَّةً فَقَالُوا : حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } } . وَقَدْ رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي " فَضَائِلِ الْقُرْآنِ " عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ فَقَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ { عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن عتبة قَالَ : مَلَّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِلَّةً فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } قَالَ : ثُمَّ نَعَتَهُ فَقَالَ : { كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ قَالَ : ثُمَّ مَلُّوا مِلَّةً أُخْرَى فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنَا شَيْئًا فَوْقَ الْحَدِيثِ وَدُونَ الْقُرْآنِ يَعْنُونَ الْقَصَصَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } - إلَى قَوْلِهِ - { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } قَالَ : فَإِنْ أَرَادُوا الْحَدِيثَ دَلَّهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْحَدِيثِ وَإِنْ أَرَادُوا الْقَصَصَ دَلَّهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْقَصَصِ . } وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِ حَسَنٍ مَرْفُوعًا عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ { عَنْ سَعْدٍ قَالَ : نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنُ فَتَلَاهُ عَلَيْهِمْ زَمَانًا . فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ قَصَصْت عَلَيْنَا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { الر } { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ }

فَتَلَاهُ عَلَيْهِمْ زَمَانًا } . وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ أَحْسَنَ الْكَلَامِ نُهُوا عَنْ اتِّبَاعِ مَا سِوَاهُ قَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } . وَرَوَى النَّسَائِي وَغَيْرُهُ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ شَيْئًا مِنْ التَّوْرَاةِ فَقَالَ : لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ . } وَفِي رِوَايَةٍ { مَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي . } وَفِي لَفْظٍ : { فَتَغَيَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِ عُمَرُ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْأَنْصَارِ : يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلَا تَرَى إلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : رَضِينَا بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا . } وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يُنْهَوْنَ عَنْ اتِّبَاعِ كُتُبٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ . وَعُمَرُ انْتَفَعَ بِهَذَا حَتَّى أَنَّهُ لَمَّا فُتِحَتْ الإسْكَنْدَريَّة وُجِدَ فِيهَا كُتُبٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كُتُبِ الرُّومِ فَكَتَبُوا فِيهَا إلَى عُمَرَ فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُحْرَقَ وَقَالَ : حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ . وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إسْحَاقَ عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ قَيْسٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ عرفطة قَالَ : كُنْت عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إذْ أُتِيَ بِرَجُلِ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ مَسْكَنُهُ بِالسُّوسِ . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَنْتَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ العبدي ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : وَأَنْتَ النَّازِلُ بِالسُّوسِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَضَرَبَهُ بِقَنَاةِ مَعَهُ فَقَالَ لَهُ : مَا ذَنْبِي ؟ قَالَ

فَقَرَأَ عَلَيْهِ { الر } { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَضَرَبَهُ ثَلَاثَ ضَرَبَاتٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ عُمَرُ : أَنْتَ الَّذِي انتسخت كِتَابَ دَانْيَالَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : اذْهَبْ فَامْحُهُ بِالْحَمِيمِ وَالصُّوفِ الْأَبْيَضِ وَلَا تَقْرَأْهُ وَلَا تُقْرِئْهُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ . فَقَرَأَ عَلَيْهِ عُمَرُ هَذِهِ الْآيَةَ لِيُبَيِّنَ لَهُ أَنَّ الْقُرْآنَ أَحْسَنُ الْقَصَصِ فَلَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى غَيْرِهِ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَصَصَ عَامٌّ لَا يَخْتَصُّ بِسُورَةِ يُوسُفَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ مِنْ كِتَابِ دَانْيَالَ وَنَحْوِهِ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ . وَكَذَلِكَ مِثْلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ مَأْثُورَةٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا أُتِيَ بِمَا كُتِبَ مِنْ الْكُتُبِ مَحَاهُ وَذَكَرَ فَضِيلَةَ الْقُرْآنِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قتادة { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } قَالَ : مِنْ الْكُتُبِ الْمَاضِيَةِ وَأُمُورِ اللَّهِ السَّالِفَةِ فِي الْأُمَمِ { بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحْسَنَ الْقَصَصِ يَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ ؛ بَلْ لَفْظُ " الْقَصَصِ " يَتَنَاوَلُ مَا قَصَّهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ غَيْرَ أَخْبَارِ الْأُمَمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ

الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } . وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَعْرُوفِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : مُؤْتَمَنًا عَلَيْهِ . قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّهُ الْأَمِينُ . وَرُوِيَ مِنْ تَفْسِيرِ الْوَالِبِيَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : الْمُهَيْمِنُ الْأَمِينُ قَالَ : عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ وَكَذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : مُصَدِّقًا بِهَذِهِ الْكُتُبِ وَأَمِينًا عَلَيْهَا . وَمِنْ تَفْسِيرِ الْوَالِبِيَّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ قَالَ : شَهِيدًا وَكَذَلِكَ قَالَ السدي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ فِي قَوْلِهِ : " وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ " عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ . قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَطِيَّةَ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وقتادة والسدي وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوِ ذَلِكَ . وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَدْ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ طُلِبَ مِنْهُ إخْرَاجُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ مُخْتَصَرًا بِأَصَحِّ الْأَسَانِيدِ وَأَنَّهُ تَحَرَّى إخْرَاجَهُ بِأَصَحِّ الْأَخْبَارِ إسْنَادًا وَأَشْبَعَهَا مَتْنًا وَذَكَرَ إسْنَادَهُ عَنْ كُلِّ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ شَيْئًا . فَالسَّلَفُ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمُهَيْمِنُ الْمُؤْتَمِنُ الشَّاهِدُ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُهَيْمِنَ عَلَى الشَّيْءِ أَعْلَى مِنْهُ مَرْتَبَةً . وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ " الْمُهَيْمِنُ " وَيُسَمَّى الْحَاكِمَ عَلَى النَّاسِ الْقَائِمَ بِأُمُورِهِمْ " الْمُهَيْمِنُ " . قَالَ الْمُبَرِّدُ وَالْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا : الْمُهَيْمِنُ فِي اللُّغَةِ الْمُؤْتَمِنُ . وَقَالَ الْخَلِيلُ : الرَّقِيبُ الْحَافِظُ وَقَالَ الْخَطَّابِيَّ : الْمُهَيْمِنُ

الشَّهِيدُ . قَالَ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ : الْهَيْمَنَةُ الْقِيَامُ عَلَى الشَّيْءِ وَالرِّعَايَةُ لَهُ وَأَنْشَدَ : أَلَا إنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ مُهَيْمِنُهُ التاليه فِي الْعُرْفِ وَالنُّكْرِ يُرِيدُ الْقَائِمُ عَلَى النَّاسِ بِالرِّعَايَةِ لَهُمْ . وَفِي مُهَيْمِنٍ قَوْلَانِ : قِيلَ أَصْلُهُ مؤيمن وَالْهَاءُ مُبَدَّلَةٌ مِنْ الْهَمْزَةِ وَقِيلَ بَلْ الْهَاءُ أَصْلِيَّةٌ . وَهَكَذَا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ قَرَّرَ مَا فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ الْخَبَرِ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَزَادَ ذَلِكَ بَيَانًا وَتَفْصِيلًا . وَبَيَّنَ الْأَدِلَّةَ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى ذَلِكَ وَقَرَّرَ نُبُوَّةَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ وَرِسَالَةَ الْمُرْسَلِينَ وَقَرَّرَ الشَّرَائِعَ الْكُلِّيَّةَ الَّتِي بُعِثَتْ بِهَا الرُّسُلُ كُلُّهُمْ . وَجَادَلَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ بِأَنْوَاعِ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ وَبَيَّنَ عُقُوبَاتِ اللَّهِ لَهُمْ وَنَصْرَهُ لِأَهْلِ الْكُتُبِ الْمُتَّبِعِينَ لَهَا وَبَيَّنَ مَا حُرِّفَ مِنْهَا وَبُدِّلَ وَمَا فَعَلَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَبَيَّنَ أَيْضًا مَا كَتَمُوهُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِبَيَانِهِ وَكُلُّ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّاتُ بِأَحْسَنِ الشَّرَائِعِ وَالْمَنَاهِجِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ فَصَارَتْ لَهُ الْهَيْمَنَةُ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَهُوَ شَاهِدٌ بِصِدْقِهَا وَشَاهِدٌ بِكَذِبِ مَا حُرِّفَ مِنْهَا وَهُوَ حَاكِمٌ بِإِقْرَارِ مَا أَقَرَّهُ اللَّهُ وَنَسْخِ مَا نَسَخَهُ فَهُوَ شَاهِدٌ فِي الْخَبَرِيَّاتِ حَاكِمٌ فِي الْأَمْرِيَّاتِ .

وَكَذَلِكَ مَعْنَى " الشَّهَادَةِ " وَ " الْحُكْمِ " يَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ مِنْ صِدْقٍ وَمُحْكَمٍ وَإِبْطَالِ مَا أَبْطَلَهُ مِنْ كَذِبٍ وَمَنْسُوخٍ وَلَيْسَ الْإِنْجِيلُ مَعَ التَّوْرَاةِ وَلَا الزَّبُورِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ بَلْ هِيَ مُتَّبَعَةٌ لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ إلَّا يَسِيرًا نَسَخَهُ اللَّهُ بِالْإِنْجِيلِ ؛ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ . ثُمَّ إنَّهُ مُعْجِزٌ فِي نَفْسِهِ لَا يَقْدِرُ الْخَلَائِقُ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ فَفِيهِ دَعْوَةُ الرَّسُولِ وَهُوَ آيَةُ الرَّسُولِ وَبُرْهَانُهُ عَلَى صِدْقِهِ وَنُبُوَّتِهِ وَفِيهِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُوَ نَفْسُهُ بُرْهَانٌ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ . وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ وَبَيَانِ الْآيَاتِ عَلَى تَفْضِيلِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مَا لَوْ جُمِعَ إلَيْهِ عُلُومُ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَكُنْ مَا عِنْدَهُمْ إلَّا بَعْضُ مَا فِي الْقُرْآنِ . وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ وَأُمُورِ الْمَعَادِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْأَخْلَاقِ وَالسِّيَاسَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَسَائِرِ مَا فِيهِ كَمَالُ النُّفُوسِ وَصَلَاحُهَا وَسَعَادَتُهَا وَنَجَاتُهَا لَمْ يَجِدْ عِنْدَ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنْ أَهْلِ النُّبُوَّاتِ وَمِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ كالمتفلسفة وَغَيْرِهِمْ إلَّا بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ . وَلِهَذَا لَمْ تَحْتَجْ الْأُمَّةُ مَعَ رَسُولِهَا وَكِتَابِهَا إلَى نَبِيٍّ آخَرَ وَكِتَابٍ آخَرَ ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَحْتَاجَ إلَى شَيْءٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ غَيْرُهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ عِلْمِ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُلْهَمِينَ أَوْ مِنْ عِلْمِ أَرْبَابِ النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ الَّذِينَ لَا يَعْتَصِمُونَ مَعَ ذَلِكَ بِكِتَابِ مُنَزَّلٍ مِنْ السَّمَاءِ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { إنَّهُ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ } . فَعَلَّقَ ذَلِكَ تَعْلِيقًا فِي أُمَّتِهِ مَعَ جَزْمِهِ بِهِ فِيمَنْ تَقَدَّمَ لِأَنَّ الْأُمَمَ قَبْلَنَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إلَى الْمُحَدِّثِينَ كَمَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إلَى نَبِيٍّ بَعْدَ نَبِيٍّ وَأَمَّا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَغْنَاهُمْ اللَّهُ بِرَسُولِهِمْ وَكِتَابِهِمْ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ حَتَّى أَنَّ الْمُحَدِّثَ مِنْهُمْ كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِذَا حَدَّثَ شَيْئًا فِي قَلْبِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَكَذَلِكَ لَا يَقْبَلُهُ إلَّا إنْ وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا سِوَاهُ . وَالْمَقْصُودُ أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا هُوَ مِنْ الْعِلْمِ الْمُسْتَقِرِّ فِي نُفُوسِ الْأُمَّةِ السَّابِقِينَ وَالتَّابِعِينَ وَلَمْ يُعْرَفْ قَطُّ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ رَدَّ مِثْلَ هَذَا وَلَا قَالَ : لَا يَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ بَعْضُهُ أَشْرَفُ مِنْ بَعْضٍ فَإِنَّهُ كُلُّهُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ إنَّمَا حَدَثَ هَذَا الْإِنْكَارُ لَمَّا ظَهَرَتْ بِدَعُ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ وَجَعَلُوهُ عِضِينَ .
وَمِمَّنْ ذَكَرَ " تَفْضِيلَ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ فِي نَفْسِهِ " أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا كَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الإسفرائيني وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَأَبِي إسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَمِثْلِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَالْحَلْوَانِيِّ الْكَبِيرِ وَابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنِ عَقِيلٍ . قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ فِي

" كِتَابِ الْوَاضِحِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ " فِي احْتِجَاجِهِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُنْسَخُ بِالسَّنَةِ قَالَ : فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَلَيْسَتْ السُّنَّةُ مِثْلَ الْقُرْآنِ وَلَا خَيْرًا مِنْهُ فَبَطَلَ النَّسْخُ بِهَا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْمُحَالِ وَهُوَ كَوْنُ خَبَرِهِ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ فَمَا أَدَّى إلَيْهِ فَهُوَ مُحَالٌ . قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : أَصْلُ اسْتِدْلَالِكُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ الْفَضْلُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا لَكُمْ وَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ فِي حَقِّنَا : إمَّا سُهُولَةٌ فِي التَّكْلِيفِ فَهُوَ خَيْرٌ عَاجِلٌ أَوْ أَكْثَرُ ثَوَابًا لِكَوْنِهِ أَثْقَلَ وَأَشَقَّ وَيَكُونُ نَفْعًا فِي الْآجِلِ وَالْعَاقِبَةِ وَكِلَاهُمَا قَدْ يَتَحَقَّقُ بِطَرِيقِ السُّنَّةِ . وَيَحْتَمِلُ : نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا لَا نَاسِخًا لَهَا بَلْ يَكُونُ تَكْلِيفًا مُبْتَدَأً هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَرِيقُهُ الْقُرْآنَ النَّاسِخَ وَلَا السُّنَّةُ النَّاسِخَةُ . قَالُوا : يُوَضِّحُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ نَفْسَهُ لَيْسَ بَعْضُهُ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَصْرِفُوا اللَّفْظَ عَنْ ظَاهِرِهِ مِنْ خَيْرٍ يَعُودُ إلَى التَّكْلِيفِ لَا إلَى الطَّرِيقِ . وَقَالَ فِي الْجَوَابِ : قَوْلُهُمْ : الْخَيْرُ يَرْجِعُ إلَى مَا يَخُصُّنَا مِنْ سُهُولَةٍ أَوْ ثَوَابٍ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَقَالَ : " لَكُمْ " . فَلَمَّا حَذَفَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْإِطْلَاقُ وَهُوَ كَوْنُ النَّاسِخِ خَيْرًا مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَذَاتِهِ وَمِنْ جِهَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي

بِآيَاتِ خَيْرٍ مِنْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَعُودُ إلَى الْجِنْسِ كَمَا إذَا قَالَ الْقَائِلُ : مَا آخُذُ مِنْك دِينَارًا إلَّا أُعْطِيك خَيْرًا مِنْهُ لَا يُعْقَلُ بِالْإِطْلَاقِ إلَّا دِينَارًا خَيْرًا مِنْهُ فَيَتَخَيَّرُ مِنْ الْجِنْسِ أَوَّلًا ثُمَّ النَّفْعِ فَإِمَّا أَنْ يَرْجِعَ ذَلِكَ إلَى ثَوْبٍ أَوْ عَرَضٍ غَيْرِ الدِّينَارِ فَلَا وَفِي آخِرِ الْآيَةِ مَا يَشْهَدُ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقُرْآنَ لِأَنَّهُ قَالَ : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَوَصْفُهُ لِنَفَسِهِ بِالْقُدْرَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ هُوَ أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { أَوْ مِثْلِهَا } يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ يَقْتَضِي إطْلَاقَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَنَّثَهَا تَأْنِيثَ الْآيَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : نَأْتِ بِآيَةِ خَيْرٍ مِنْهَا أَوْ بِآيَةِ مِثْلِهَا . " قُلْت " : وَأَيْضًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْخَيْرِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ أَخَفَّ عَمَلًا أَوْ أَشَقَّ وَأَكْثَرَ ثَوَابًا لِأَنَّ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ ثَابِتَانِ لِكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مُبْتَدَأً وَنَاسِخًا فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَيْسَرَ مِنْ غَيْرِهِ فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَشَقَّ فَيَكُونُ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ لَازِمَةً لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يُقَالَ مَا نَنْسَخُ مِنْ حُكْمٍ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ فَإِنَّ الْمَنْسُوخَ أَيْضًا يَكُونُ خَيْرًا وَمَثَلًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَإِنَّهُمْ إنْ فَسَّرُوا الْخَيْرَ بِكَوْنِهِ أَسْهَلَ فَقَدْ يَكُونُ الْمَنْسُوخُ أَسْهَلَ فَيَكُونُ خَيْرًا وَإِنْ فَسَّرُوهُ بِكَوْنِهِ أَعْظَمَ أَجْرًا لِمَشَقَّتِهِ فَقَدْ يَكُونُ الْمَنْسُوخُ كَذَلِكَ وَاَللَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِخَيْرٍ مِمَّا يَنْسَخُهُ أَوْ مِثْلِهِ فَلَا يَأْتِي بِمَا هُوَ دُونَهُ .

وَأَيْضًا فَعَلَى مَا قَالُوهُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ خَيْرًا مِنْ شَيْءٍ بَلْ إنْ كَانَ خَيْرًا مِنْ جِهَةِ السُّهُولَةِ فَذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ الْأَجْرِ . قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ الْقُرْآنَ فِي نَفْسِهِ لَا يَتَخَايَرُ وَلَا يَتَفَاضَلُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ الْخَيْرَ الَّذِي هُوَ الْأَفْضَلِيَّةُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ الَّذِي فِي " سُورَةِ الْإِخْلَاصِ " وَمَا ضَمِنَهَا مِنْ نَفْيِ التَّجَزُّؤِ وَالِانْقِسَامِ أَفْضَلُ مِنْ " تَبَّتْ " الْمُتَضَمِّنَةِ ذَمِّ أَبِي لَهَبٍ وَذَمِّ زَوْجَتِهِ إنْ شِئْت فِي كَوْنِ الْمَدْحِ أَفْضَلُ مِنْ الْقَدْحِ وَإِنْ شِئْت فِي الْإِعْجَازِ فَإِنَّ تِلَاوَةَ غَيْرِهَا مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْهَا الْفَصَاحَةُ وَالْبَيَانُ أَفْضَلُ وَلَيْسَ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ وَاحِدًا لَا يَكُونُ التَّفَاضُلُ لِمَعْنَى يَعُودُ إلَى الْكَلَامِ ثَانِيًا كَمَا أَنَّ الْمُرْسَلَ وَاحِدٌ لِذِي النُّونِ وَإِبْرَاهِيمَ وَإِبْرَاهِيمُ أَفْضَلُ مِنْ ذِي النُّونِ . قَالَ : وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } لَا يَكُونُ نَاسِخًا بَلْ مُبْتَدَأً فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَزَاءِ مَجْزُومًا وَهَذَا يُعْطِي الْبَدَلِيَّةَ وَالْمُقَابَلَةَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ : إنْ تُكْرِمْنِي أُكْرِمْك وَإِنْ أَطَعْتَنِي أَطَعْتُك يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ مُقَابَلَةً وَبَدَلًا لَا فِعْلًا مُبْتَدَأً . قُلْت : الْمَقْصِدُ هُنَا ذِكْرُ مَا نَصَرَهُ - مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ فِي نَفْسِهِ بَعْضُهُ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ - لَيْسَ الْمَقْصُودُ الْكَلَامُ فِي مَسْأَلَةِ النَّسْخِ وَكَذَلِكَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ صَرَّحُوا بِأَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ قَدْ يَكُونُ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ " جَوَاهِرُ الْقُرْآنِ " قَالَ :

لَعَلَّك تَقُولُ قَدْ تَوَجَّهَ قَصْدُك فِي هَذِهِ التَّنْبِيهَاتِ إلَى تَفْضِيلِ بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ وَالْكُلُّ كَلَامُ اللَّهِ فَكَيْفَ يُفَارِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ بَعْضُهَا أَشْرَفَ مِنْ بَعْضٍ ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ نُورَ الْبَصِيرَةِ إنْ كَانَ لَا يُرْشِدُك إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الْمُدَايَنَاتِ وَبَيْنَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَسُورَةِ تَبَّتْ وَتَرْتَاعُ مِنْ اعْتِقَادِ الْفِرَقِ نَفْسُك الْخَوَّارَةُ الْمُسْتَغْرِقَةُ فِي التَّقْلِيدِ فَقَلِّدْ صَاحِبَ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ وَقَالَ : { قَلْبُ الْقُرْآنِ يس } وَقَدْ دَلَّتْ الْأَخْبَارُ عَلَى شَرَفِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ : { فَاتِحَةُ الْكِتَابِ أَفْضَلُ سُوَرِ الْقُرْآنِ } وَقَالَ : { آيَةُ الْكُرْسِيِّ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ } وَقَالَ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } وَالْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي فَضَائِلِ قَوَارِعِ الْقُرْآنِ وَتَخَصُّصِ بَعْضِ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ بِالْفَضْلِ وَكَثْرَةِ الثَّوَابِ فِي تِلَاوَتِهَا لَا تُحْصَى فَاطْلُبْهُ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ إنْ أَرَدْت . وَنُنَبِّهُك الْآنَ عَلَى مَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ الْأَرْبَعَةِ فِي تَفْضِيلِ هَذِهِ السُّوَرِ . قُلْت : وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَا ذَكَرَهُ فِي تَفْضِيلِ ( { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } . وَمِمَّنْ ذَكَرَ كَلَامَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ عَمَّنْ حَكَاهُ مِنْ السَّلَفِ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " قَالَ فِي { قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي : أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ ؟ وَذَكَرَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ } فِيهِ حُجَّةٌ لِتَفْضِيلِ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ

وَتَفْضِيلُ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ عِنْدَ مَنْ اخْتَارَهُ : مِنْهُمْ إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين . قَالَ : وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى عِظَمِ أَجْرِ قَارِئِي ذَلِكَ وَجَزِيلِ ثَوَابِهِ عَلَى بَعْضِهِ أَكْثَرُ مِنْ سَائِرِهِ . قَالَ : وَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ فَأَبَى ذَلِكَ الْأَشْعَرِيُّ وَابْنُ الْبَاقِلَانِي وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْأَفْضَلِ نَقْصُ الْمَفْضُولِ عَنْهُ وَكَلَامُ اللَّهِ لَا يَتَبَعَّضُ . قَالُوا : وَمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : " أَفْضَلُ " وَ " أَعْظَمُ " لِبَعْضِ الْآيِ وَالسُّوَرِ فَمَعْنَاهُ عَظِيمٌ وَفَاضِلٌ . قَالَ : وَقِيلَ : كَانَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ أَعْظُمَ لِأَنَّهَا جَمَعَتْ أُصُولَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ الْإِلَهِيَّةِ وَالْحَيَاةِ والوحدانية وَالْعِلْمِ وَالْمُلْكِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَهَذِهِ السَّبْعَةُ قَالُوا هِيَ أُصُولُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ . قُلْت : الْمَقْصُودُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ هَذِهِ السَّبْعَةَ هِيَ أُصُولُ الْأَسْمَاءِ . فَهَذِهِ السَّبْعَةُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِالْعَقْلِ وَمَا سِوَاهَا قَالُوا إنَّمَا يُعْلَمُ بِالسَّمْعِ وَهَذَا أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى طَرِيقِ عِلْمِنَا لَا إلَى أَمْرٍ حَقِيقِيٍّ ثَابِتٍ لَهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَكَيْفَ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَا سِوَاهَا قَدْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَيْضًا كَالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَمَذْهَبُ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَكْثَرُ قُدَمَاءِ الصفاتية أَنَّ الْعُلُوَّ مِنْ الصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْعَبَّاسِ القلانسي وَالْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيَّ وَمَذْهَبُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ الْقَاضِي

أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي وَغَيْرِهِ وَمَذْهَبِ ابْنِ كَرَّامٍ وَأَصْحَابِهِ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ . وَكَذَلِكَ مَا فَسَّرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ مِنْ قَوْلِ الْمُفَضَّلِينَ إنَّ الْمُرَادَ كَثْرَةُ الثَّوَابِ فَهَذَا لَا يُنَازَعُ فِيهِ الْأَشْعَرِيُّ وَابْنُ الْبَاقِلَانِي فَإِنَّ الثَّوَابَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُنَازَعُ أَحَدٌ فِي أَنَّ بَعْضَهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي نَفْسِ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ كَلَامُهُ فَحِكَايَتُهُ النِّزَاعُ يُنَاقِضُ مَا فَسَّرَ بِهِ قَوْلَ الْمُثَبِّتَةِ . وَقَدْ بَيَّنَ مَأْخَذَ الْمُمْتَنِعِينَ عَنْ التَّفْضِيلِ : مِنْهُمْ مِنْ نَفْيِ التَّفَاضُلِ فِي الصِّفَاتِ مُطْلَقًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَتَفَاضَلُ وَالْقُرْآنُ مِنْ الصِّفَاتِ . وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ عَلَى أَصْلِهِ فَلَا يُعْقَلُ فِيهِ مَعْنَيَانِ فَضْلًا أَنْ يُعْقَلَ فِيهِ فَاضِلٌ وَمَفْضُولٌ وَهَذَا أَصْلُ أَبِي الْحَسَنِ وَمَنْ وَافَقَهُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا أَقْوَالَهُمْ فِي أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ يَكُونُ بَعْضُهُ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ لَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ - كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ كالْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ - بَلْ كُلُّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَوْ تُتُبِّعَ ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ لَكَثَرُوا فَإِنَّ هَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْبِدْعَةِ أَمَا السَّلَفُ - كَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ - فَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ تَنَازُعٌ بَلْ الْآثَارُ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْهُمْ بِهِ .

وَاشْتَهَرَ الْقَوْلُ بِإِنْكَارِ تَفَاضُلِهِ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ لَمَّا أَظْهَرَتْ الْجَهْمِيَّة الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ . وَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَجَمَاهِيرُ الْأُمَّةِ عَلَى إنْكَارِ ذَلِكَ وَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ . وَظَنَّتْ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ - مِثْلَ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ - أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ إلَّا إذَا قِيلَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا كَلَّمَ مُوسَى حِينَ أَتَاهُ وَلَا قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ بَعْدَ أَنْ خَلَقَهُ وَلَا يَغْضَبُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ أَنْ يَكْفُرَ بِهِ وَلَا يَرْضَى عَنْهُ بَعْدَ أَنْ يُطِيعَهُ وَلَا يُحِبَّهُ بَعْدَ أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ وَلَا يَتَكَلَّمَ بِكَلَامِ بَعْدَ كَلَامٍ فَتَكُونُ كَلِمَاتُهُ لَا نِهَايَةَ لَهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ظَنُّوا انْتِفَاءَهُ عَنْ اللَّهِ . وَقَالُوا إنَّمَا يُمْكِنُ مُخَالَفَةُ هَؤُلَاءِ إذَا قِيلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْكَلَامِ لَازِمٌ لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ كَلَامٍ لَهُ كَقَوْلِهِ : يَا آدَمَ يَا نُوحُ . وَصَارُوا طَائِفَتَيْنِ : طَائِفَةٌ تَقُولُ إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ وَطَائِفَةٌ تَقُولُ إنَّهُ حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مُقْتَرِنٌ بَعْضُهَا بِبَعْضِ أَزَلًا وَأَبَدًا وَإِنْ كَانَتْ مُتَرَتِّبَةً فِي ذَاتِهَا تَرَتُّبًا ذَاتِيًّا لَا تَرَتُّبًا وُجُودِيًّا كَمَا قَدْ بَيَّنَ مَقَالَاتِ النَّاسِ فِي كَلَامِ اللَّهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْأَوَّلُونَ عِنْدَهُمْ كَلَامُ اللَّهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا بَعْضٌ لَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ . وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ : هُوَ قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ وَالْقَدِيمُ لَا يَتَفَاضَلُ . وَرُبَّمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا }

أَنَّهُ قَالَ : خَيْرًا لَكُمْ مِنْهَا أَوْ أَنْفَعَ لَكُمْ . فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ مُوَافِقٌ لِهَؤُلَاءِ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَقْصُودُهُ بَيَانُ وَجْهِ كَوْنِهِ خَيْرًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَنْفَعَ لِلْعِبَادِ فَإِنَّ مَا كَانَ أَكْثَرُ مِنْ الْكَلَامِ نَفْعًا لِلْعِبَادِ كَانَ فِي نَفْسِهِ أَفْضَلُ كَمَا بَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ . وَصَارَ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ الْكُلَّابِيَة مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَفَاضُلِ كَلَامِ اللَّهِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ إنَّمَا يُمْكِنُ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ يَرَوْنَ فَضْلَ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ فَضْلَ مَخْلُوقٍ عَلَى مَخْلُوقِ وَتَفْضِيلُ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ . فَإِذَا ظَنَّ أُولَئِكَ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَفْضِيلِ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ مُسْتَلْزِمٌ لِكَوْنِ الْقُرْآنِ مَخْلُوقًا فَرُّوا مِنْ ذَلِكَ وَأَنْكَرُوا الْقَوْلَ بِهِ لِأَجْلِ مَا ظَنُّوهُ مِنْ التَّلَازُمِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنُّوهُ بَلْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَجُمْهُورُهَا يَقُولُونَ : إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكَذَلِكَ سَائِرُ كَلَامِ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ عَنْهُمْ . وَحَدَّثَنَا أَبِي عَنْ جَدِّنَا أَبِي الْبَرَكَاتِ وَصَاحِبِهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَنَّهُمَا نَظَرَا فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَأَظُنُّهُ كَانَ نَظَرَهُمْ فِي تَفْسِيرِ أَبِي عَبْدِ

الله مُحَمَّدِ بْنِ تَيْمِيَّة فَلَمَّا رَأَيَا تِلْكَ الْأَقْوَالَ قَالَا : هَذَا إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ . وَزَارَ مَرَّةً أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ هَذَا شَيْخَنَا أَبِي زَكَرِيَّا بْنِ الصَّيْرَفِيِّ وَكَانَ مَرِيضًا فَدَعَا أَبُو زَكَرِيَّا بِدُعَاءِ مَأْثُورٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد يَقُولُ فِيهِ " أَسْأَلُك - بِقُدْرَتِك الَّتِي قَدَرْت بِهَا أَنْ تَقُولَ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ - أَنْ تَفْعَلَ بِنَا كَذَا وَكَذَا " فَلَمَّا خَرَجَ النَّاسُ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لَهُ : مَا هَذَا الدُّعَاءُ الَّذِي دَعَوْت بِهِ ؟ هَذَا إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَلَا يُقَالُ عِنْدَهُمْ قَدَرَ أَنْ يَتَكَلَّمَ أَوْ يَقُولَ فَإِنَّ كَلَامَهُ قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ تَلَقَّى هَذَا عَنْ الْبُحُوثِ الَّتِي يَذْكُرُهَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزَّاغُونِي وَأَمْثَالُهُ وَقَبْلَهُ أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ وَأَمْثَالُهُ وَقَبْلَهُمَا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَنَحْوُهُ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ - كَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي - وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ يُوَافِقُونَ ابْنَ كُلَّابٍ عَلَى قَوْلِهِ : إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَلَى قَوْلِهِ : إنَّ الْقُرْآنَ لَازِمٌ لِذَاتِ اللَّهِ بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ - قَوْلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ السَّلَفِ - الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ حَتَّى إنَّ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ السالمية مِنْ هَؤُلَاءِ - كَالْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ

الزَّاغُونِي - يُصَرِّحُونَ بِأَنَّ مَذْهَبَ أَحْمَد أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَأَنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَمْ يَقُولُوا هَذَا قَطُّ وَلَا نَاظَرُوا عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُمْ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَمْ يَعْرِفُوا أَقْوَالَهُمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ . وَلَكِنْ الَّذِينَ ظَنُّوا أَنَّ قَوْلَ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعِهِ هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَمِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ هُمْ الَّذِينَ صَارُوا يَقُولُونَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ بَعْضُهُ أَفْضَلُ إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْبِدَعِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ كَمَا صَارَ يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ أَقْوَالِ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِهَذَا بَلْ أَنْكَرُوا عَلَى ابْنِ كُلَّابٍ هَذَا الْأَصْلَ وَأَمَرَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ بِهَجْرِ الْكُلَّابِيَة عَلَى هَذَا الْأَصْلِ حَتَّى هُجِرَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيَّ لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ ابْنِ كُلَّابٍ وَكَانَ قَدْ وَافَقَهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَكَانَ أَحْمَد يُحَذِّرُ عَنْ الْكُلَّابِيَة . وَكَانَ قَدْ وَقَعَ بَيْن أَبِي بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَة الْمُلَقَّبِ بِإِمَامِ الْأَئِمَّةِ وَبَيْنَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ مُشَاجَرَةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِقَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّتَهُمْ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ فِي ( تَارِيخِ نَيْسَابُورَ ) وَبَسْطُ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى الْمَآخِذِ الَّتِي تَعْرِفُ بِهَا حَقَائِقَ الْأَقْوَالِ .

فَصْلٌ :
وَفِي الْجُمْلَةِ فَدَلَالَةُ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ وَالْآثَارِ السَّلَفِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحِجَجِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ هُوَ مِنْ الدَّلَالَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمَشْهُورَةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ كَلَامَ اللَّهِ وَكَذَلِكَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْأَحَادِيثُ الْإِلَهِيَّةُ الَّتِي يَحْكِيهَا الرَّسُولُ عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَقَوْلِهِ : { يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا } الْحَدِيثَ وَكَقَوْلِهِ : { مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ هِيَ وَإِنْ اشْتَرَكَتْ فِي كَوْنِهَا كَلَامَ اللَّهِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلَامَ لَهُ نِسْبَتَانِ : نِسْبَةٌ إلَى الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَنِسْبَةٌ إلَى الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ . فَهُوَ يَتَفَاضَلُ بِاعْتِبَارِ النِّسْبَتَيْنِ وَبِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ أَيْضًا مِثْلَ الْكَلَامِ الْخَبَرِيِّ لَهُ نِسْبَتَانِ : نِسْبَةٌ إلَى الْمُتَكَلِّمِ الْمُخْبِرِ وَنِسْبَةٌ إلَى الْمَخْبَرِ عَنْهُ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ . ف { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَ { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } كِلَاهُمَا كَلَامُ اللَّهِ وَهُمَا مُشْتَرِكَانِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَكِنَّهُمَا مُتَفَاضِلَانِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ الْمُخْبِرِ عَنْهُ . فَهَذِهِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَبَرُهُ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَصِفَتِهِ الَّتِي يَصِفُ بِهَا نَفْسَهُ

وَكَلَامَهُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ . وَهَذِهِ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ عَنْ بَعْضِ خَلْقِهِ وَيُخْبِرُ بِهِ عَنْهُ وَيَصِفُ بِهِ حَالَهُ وَهُمَا فِي هَذِهِ الْجِهَةِ مُتَفَاضِلَانِ بِحَسَبِ تَفَاضُلِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِالْكَلَامَيْنِ . أَلَّا تَرَى أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ هُوَ كُلُّهُ كَلَامُهُ لَكِنَّ كَلَامَهُ الَّذِي يَذْكُرُ بِهِ رَبَّهُ أَعْظَمُ مِنْ كَلَامِهِ الَّذِي يَذْكُرُ بِهِ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْجَمِيعُ كَلَامُهُ فَاشْتِرَاكُ الْكَلَامَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَكَلِّمِ لَا يَمْنَعُ تَفَاضُلَهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَتْ النِّسْبَتَانِ أَوْ إحْدَاهُمَا تُوجِبُ التَّفْضِيلَ أَوْ لَا تُوجِبُهُ . فَكَلَامُ الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ الْعُلَمَاءُ وَالْخُطَبَاءُ وَالشُّعَرَاءُ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ وَاحِدًا وَكَذَلِكَ كَلَامُ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَسَوَاءٌ أُرِيدَ بِالْكَلَامِ الْمَعَانِي فَقَطْ أَوْ الْأَلْفَاظُ فَقَطْ أَوْ كِلَاهُمَا أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا فَلَا رَيْبَ فِي تَفَاضُلِ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي مِنْ الْمُتَكَلِّمِ الْوَاحِدِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ اتِّفَاقِ الْكَلَامَيْنِ فِي أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهِمَا وَاحِدٌ لَا يُوجِبُ تَمَاثُلُهُمَا مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ . فَتَفَاضُلُ الْكَلَامِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ خَبَرًا أَوْ إنْشَاءً أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ وَالشِّرْعَةِ فَلَيْسَ الْخَبَرُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْحَمْدِ لِلَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى كَالْخَبَرِ الْمُتَضَمِّنِ لِذِكْرِ أَبِي لَهَبٍ وَفِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ وَإِنْ كَانَ هَذَا كَلَامًا عَظِيمًا مُعَظَّمًا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ وَكَذَلِكَ لَيْسَ الْأَمْرُ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ الَّذِي أَمَرَتْ

بِهِ الشَّرَائِعُ كُلُّهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرُ بِالْمَأْمُورَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ الشِّرْكِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَالزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَتْهُ الشَّرَائِعُ كُلُّهَا وَمَا يَحْصُلُ مَعَهُ فَسَادٌ عَظِيمٌ كَالْأَمْرِ بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ وَإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنْ اللُّقْمَةِ السَّاقِطَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْقِرَانِ فِي التَّمْرِ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرَانِ وَاجِبَيْنِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ كَالْأَمْرِ بِأَخْذِ الزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَالْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْحَامِلِ وَإِيتَائِهَا أَجْرَهَا إذَا أَرْضَعَتْ .
وَلِهَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى تَفَاضُلِ أَنْوَاعِ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ وَقَالُوا : إنَّ إيجَابَ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ قَدْ يَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ إيجَابِ الْآخَرِ وَتَحْرِيمُهُ أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ الْآخَرِ فَهَذَا أَعْظَمُ إيجَابًا وَهَذَا أَعْظَمُ تَحْرِيمًا وَلَكِنْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ نَازَعُوا فِي ذَلِكَ كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ فَقَالُوا : التَّفَاضُلُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ لَكِنْ فِي مُتَعَلَّقِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثْرَةُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ . وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ : بَلْ التَّفَاضُلُ فِي الْأَمْرَيْنِ وَالتَّفَاضُلُ فِي الْمُسَبِّبَاتِ دَلِيلٌ عَلَى التَّفَاضُلِ فِي الْأَسْبَابِ وَكَوْنُ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ ثَوَابُهُ أَعْظَمُ وَعِقَابُهُ أَعْظَمُ : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِهِ وَالنَّهْيَ عَنْهُ أَوْكَدُ وَكَوْنُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَالنَّهْيَيْنِ مَخْصُوصًا بِالتَّوْكِيدِ دُونَ الثَّانِي مِمَّا لَا يَسْتَرِيبُ فِيهِ عَاقِلٌ وَلَوْ تَسَاوَيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَامْتَنَعَ الِاخْتِصَاصُ بِتَوْكِيدِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ وَالتَّفْضِيلَ مُتَضَادَّانِ . وَجُمْهُورُ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ عَلَى التَّفَاضُلِ فِي الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ وَإِطْلَاقُ

ذَلِكَ هُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْخَطَّابِ وَالْقَاضِي يَعْقُوبَ البرزبيني وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَلْوَانِيِّ وأبي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي وَغَيْرِهِمْ لَكِنْ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُفَسِّرُ التَّفَاضُلَ بِتَفَاضُلِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ الْنُّفَاةِ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ نَفْسَ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالْبُغْضَ وَالْإِرَادَةَ وَالْكَرَامَةَ وَالطَّلَبَ وَالِاقْتِضَاءَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي تَتَفَاضَلُ وَتَتَفَاضَلُ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَيْهَا . وَنَفْسُ حُبِّ الْعِبَادِ لِرَبِّهِمْ يَتَفَاضَلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } . وَنَفْسُ حُبِّ اللَّهِ لَهُمْ يَتَفَاضَلُ أَيْضًا فَإِنَّ الْخَلِيلَيْنِ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدًا أَحَبُّ إلَيْهِ مِمَّنْ سِوَاهُمَا وَبَعْضُ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ بَعْضٍ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ هَذَا مَشْهُورٌ وَمُسْتَفِيضٌ فِي الْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ وَكَلَامِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ كَقَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ : لَوْ عَلِمْنَا أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ لَفَعَلْنَاهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ الصَّفِّ وَهُوَ مَشْهُورٌ ثَابِتٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ . وَكَوْنُ هَذَا أَحَبَّ إلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا هُوَ دَاخِلٌ فِي تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ وَبَعْضِ الْأَشْخَاصِ عَلَى بَعْضٍ . وَبَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ عَلَى بَعْضٍ وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَّةَ : وَاَللَّهِ إنَّك لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ . وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْك لَمَا خَرَجْت } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ مِنْ

حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ . وَكَذَلِكَ تَفْضِيلُ حُبِّهِ وَبُغْضِهِ عَلَى حُبِّ غَيْرِهِ وَبُغْضِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسِهِ . وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } . وَقَالَ { لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ } وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَقَالَ تَعَالَى : { لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الْآيَةَ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ تَفَاضُلُ الْمَأْمُورَاتِ : فَبَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَبَعْضُ الْمَنْهِيَّاتِ شَرٌّ مِنْ بَعْضٍ وَحِينَئِذٍ فَطَلَبُ الْأَفْضَلِ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ أَكْمَلُ مِنْ طَلَبِ الْمَفْضُول وَالطَّالِبُ إذَا كَانَ حَكِيمًا يَكُونُ طَلَبُهُ لِهَذَا أَوْكَدَ . فَفِي الْجُمْلَةِ مِنْ الْمُسْتَقَرِّ فِي فِطَرِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ يَلْحَقُهُمَا التَّفَاضُلُ مِنْ جِهَةِ الْمُخْبِرِ عَنْهُ وَالْمَأْمُورِ بِهِ فَإِذَا كَانَ الْمَخْبَرُ بِهِ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ كَانَ الْخَبَرُ بِهِ أَفْضَلَ وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ أَفْضَلَ كَانَ الْأَمْرُ بِهِ أَفْضَلَ . وَلِهَذَا كَانَ الْخَبَرُ بِمَا فِيهِ نَجَاةُ النُّفُوسِ مِنْ الْعَذَابِ وَحُصُولُ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ أَفْضَلَ مِنْ الْخَبَرِ بِمَا فِيهِ نَيْلُ مَنْزِلَةٍ أَوْ حُصُولُ دَرَاهِمَ وَالرُّؤْيَا الَّتِي تَتَضَمَّنُ أَفْضَلَ الْخِبْرَيْنِ أَعْظَمُ مِنْ الرُّؤْيَا الَّتِي تَتَضَمَّنُ أَدْنَاهُمَا وَهَذَا أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ الْعُقَلَاءِ قَاطِبَةً . وَإِذَا قَدَرَ أَمِيرَانِ أَمَرَ أَحَدُهُمَا بِعَدْلِ عَامٍّ عَمَّرَ بِهِ الْبِلَادَ وَدَفَعَ بِهِ الْفَسَادَ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ أَعْظَمَ مِنْ أَمْرِ أَمِيرٍ

يَعْدِلُ بَيْنَ خَصْمَيْنِ فِي مِيرَاثِ بَعْضِ الْأَمْوَاتِ . وَأَيْضًا فَالْخَبَرُ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ بِالْمَخْبَرِ بِهِ وَالْأَمْرُ يَتَضَمَّنُ طَلَبًا وَإِرَادَةً لِلْمَأْمُورِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إرَادَةَ فِعْلِ الْأَمْرِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَلَكِنْ أَعَانَ أَهْلَ الطَّاعَةِ فَصَارَ مُرِيدًا لَأَنْ يَخْلُقَ أَفْعَالَهُمْ وَلَمْ يَعْنِ أَهْلَ الْمَعْصِيَةِ فَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَخْلُقَ أَفْعَالَهُمْ . فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ الْخِلْقِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ وَأَمَّا الْإِرَادَةُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُحِبُّ فِعْلَ مَا أَمَرَ بِهِ وَيَرْضَاهُ إذَا فُعِلَ وَيُرِيدُ مِنْ الْمَأْمُورِ أَنْ يَفْعَلَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَأْمُورٌ فَهَذِهِ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الْأَمْرِ . وَلِهَذَا أَثَبَتَ اللَّهُ هَذِهِ الْإِرَادَةَ فِي الْأَمْرِ دُونَ الْأُولَى . وَلَكِنْ فِي النَّاسِ مِنْ غَلَطٍ فَنَفَى الْإِرَادَةَ مُطْلَقًا وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْإِرَادَةِ الْخِلْقِيَّةِ وَالْإِرَادَةِ الْأَمْرِيَّةِ . وَالْقُرْآنُ فَرَّقَ بَيْنَ الْإِرَادَتَيْنِ فَقَالَ فِي الْأُولَى : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } وَقَالَ نُوحٌ : { وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } وَقَالَ : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } وَقَالَ : { وَلَوْلَا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللَّهِ } وَلِهَذَا قَالَ الْمُسْلِمُونَ : مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وَقَالَ : { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } وَقَالَ : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ }

وَقَالَ : { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْأَمْرِ مِنْ طَلَبٍ وَاسْتِدْعَاءٍ وَاقْتِضَاءٍ سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّ هُنَاكَ إرَادَةً شَرْعِيَّةً وَأَنَّهُ لَا إرَادَةَ لِلرَّبِّ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ سِوَاهَا كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ أَوْ قِيلَ : لَا إرَادَةَ لِلرَّبِّ إلَّا الْإِرَادَةُ الْخِلْقِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّ إرَادَتَهُ عَيْنُ نَفْسِ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَأَنَّ إرَادَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَرِضَاهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِكُلِّ مَا يُوجَدُ مِنْ إيمَانٍ وَكُفْرٍ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِمَا لَا يُوجَدُ سَوَاءٌ كَانَ إيمَانًا أَوْ كُفْرًا وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ لَهَا أَثَرٌ فِي وُجُودِ مَقْدُورِهِ وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ قُوًى وَأَسْبَابٌ يَخْلُقُ بِهَا وَلَا لِلَّهِ حِكْمَةٌ يَخْلُقُ وَيَأْمُرُ لِأَجْلِهَا كَمَا يَقُولُ هَذَا وَمَا يُشْبِهُهُ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ رَأْسُ الْجَبْرِيَّةِ هُوَ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ بَعْضِهِ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَبَعْضِ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لَا عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ كَأَبِي الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ نَاقَضُوا الْقَدَرِيَّةَ الْمُعْتَزِلَةَ مُنَاقِضَةً أَلْجَأَتْهُمْ إلَى إنْكَارِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَإِنْ كَانَ مَنْ يَقُولُ بِبَعْضِ ذَلِكَ يَتَنَاقَضُ وَقَدْ يَثْبُتُ أَحَدُهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْمَعْنَى .

وَأَمَّا السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ فَيُثْبِتُونَ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ وَالْإِرَادَةَ الْخِلْقِيَّةَ الْقَدَرِيَّةَ الشَّامِلَةَ لِكُلِّ حَادِثٍ وَالْإِرَادَةَ الْأَمْرِيَّةَ الشَّرْعِيَّةَ الْمُتَنَاوِلَةَ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ لِعِبَادِهِ وَهُوَ مَا أَمَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَهُوَ مَا يَنْفَعُ الْعِبَادَ وَيُصْلِحُهُمْ وَيَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ الْحَمِيدَةُ النَّافِعَةُ فِي الْمَعَادِ الدَّافِعَةُ لِلْفَسَادِ . فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ الْأَمْرِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِإِلَهِيَّتِهِ الْمُتَضَمِّنَةُ لِرُبُوبِيَّتِهِ كَمَا أَنَّ تِلْكَ الْإِرَادَةَ الْخِلْقِيَّةَ الْقَدَرِيَّةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ . وَلِهَذَا كَانَ مَنْ نَظَرَ إلَى هَذِهِ فَقَطْ وَرَاعَى هَذِهِ الْخِلْقِيَّةَ الْكَوْنِيَّةَ الْقَدَرِيَّةَ دُونَ تِلْكَ يَكُونُ لَهُ بِدَايَةٌ بِلَا نِهَايَةٍ فَيَكُونُ مِنْ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا يَحْصُلُ لَهُمْ بَعْضُ مُطَالِبِهِمْ فِي الدُّنْيَا لِاسْتِعَانَتِهِمْ بِاَللَّهِ إذْ شَهِدُوا رُبُوبِيَّتَهُ وَلَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إذْ لَمْ يَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ . وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ . وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْأَمْرِيَّةِ دُونَ تِلْكَ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ عَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ وَقَدْ يُرَاعَى الْأَمْرُ ؛ لَكِنَّهُ يَكُونُ عَاجِزًا مَخْذُولًا حَيْثُ لَمْ يَشْهَدْ رُبُوبِيَّةَ اللَّهِ وَفَقْرَهُ إلَيْهِ لِيَكُونَ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ بَرِيًّا مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا بِهِ . فَهَذَا قَدْ يَقْصِدُ أَنْ يَعْبُدَهُ وَلَا يَقْصِدَ حَقِيقَةَ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَهِيَ حَالُ الْقَدَرِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ خَالِقًا أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَلَا مُرِيدًا لِلْكَائِنَاتِ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني : إنَّمَا يَعْجَبُ بِفِعْلِهِ الْقَدَرِيِّ لِأَنَّهُ لَا يَرَى أَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ لِفِعْلِهِ . فَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ

يُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِهِمْ وَأَنَّ لِلَّهِ الْمِنَّةَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فَكَيْفَ يَعْجَبُونَ بِهَا ؟ أَوْ كَمَا قَالَ . وَالْأَوَّلُ قَدْ يَقْصِدُ أَنْ يَسْتَعِينَهُ وَيَسْأَلَهُ وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَيَبْرَأَ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا بِهِ وَلَكِنْ لَا يَقْصِدُ أَنْ يَعْبُدَهُ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ وَلَا يَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُعْبَدَ وَيُطَاعَ وَأَنَّهُ يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَيَغْضَبُ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ بَلْ يَنْسَلِخُ مِنْ الدِّينِ أَوْ بَعْضِهِ لَا سِيَّمَا فِي نِهَايَةِ أَمْرِهِ . وَهَذِهِ الْحَالُ إنْ طَرَدَهَا صَاحِبُهَا كَانَ شَرًّا مِنْ حَالِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَدَرِيَّةِ بَلْ إنْ طَرَدَهَا طَرْدًا حَقِيقِيًّا أَخْرَجَتْهُ مِنْ الدِّينِ خُرُوجَ الشَّعْرَةِ مِنْ الْعَجِينِ وَهِيَ حَالُ الْمُشْرِكِينَ . وَأَمَّا مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يُحَقِّقُ قَوْلَهُ { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَيَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَلَا يُوَافِقُ أَمْرَهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ وَكُلُّ قَاصِدٍ لَمْ يُعِنْهُ اللَّهُ فَهُوَ مَصْدُودٌ مِنْ مَآرِبِهِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَيَعْبُدُ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ عَلَى ذَلِكَ مُؤْمِنًا بِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ : بِقَدْرِهِ وَشَرْعِهِ فَيَسْتَعِينُ اللَّهُ عَلَى طَاعَتِهِ وَيَشْكُرُهُ عَلَيْهَا وَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنَّةٌ مِنْ اللَّهِ عَلَيْهِ وَيَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ وَسَيِّئَاتِ عَمَلِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَأَنَّ لِلَّهِ الْحُجَّةَ الْبَالِغَةَ عَلَى خَلْقِهِ وَأَنَّ لَهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ حِكْمَةً بَالِغَةً وَرَحْمَةً سَابِغَةً . وَهَذِهِ الْأُمُورُ أُصُولٌ عَظِيمَةٌ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ .

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْخَبَرَ الصَّادِقَ يَتَضَمَّنُ جِنْسَ الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَالْأَمْرُ يَتَضَمَّنُ جِنْسَ الطَّلَبِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ . ثُمَّ هَلْ مَدْلُولُ الْخَبَرِ جِنْسٌ مِنْ الْمَعَانِي غَيْرَ جِنْسِ الْعِلْمِ وَمَدْلُولُ الْأَمْرِ جِنْسٌ مِنْ الْمَعَانِي غَيْرَ جِنْسِ الْإِرَادَةِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ النُّظَّارِ مِثْلَ ابْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ ؟ أَوْ الْمَدْلُولُ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ ؟ كَمَا يَقُولُهُ جُمْهُورُ نُظَّارِ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرَ . فَيَقُولُونَ : إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَيَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ . وَالْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُخَالِفُ أَهْلَ السُّنَّةِ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُخَالِفُونَ ابْنَ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي ذَيْنك الْأَصْلَيْنِ . وَلِهَذَا يُقَالُ : إنَّهُ لَمْ يُوَافِقْهُ أَحَدٌ مِنْ الطَّوَائِفِ عَلَى مَا أَحْدَثَهُ مِنْ الْقَوْلِ فِي الْكَلَامِ وَالصِّفَاتِ وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ خَيْرًا مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةِ . وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَطَوَائِفِ النُّظَّارِ فَلَا يَقُولُونَ بِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَا الْكُلَّابِيَة كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فُقَهَاءُ الطَّوَائِفِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا مِنْ الْكُتُبِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ النَّاسَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ لَهَا مَعَانٍ : سَوَاءٌ سُمِّيَ طَلَبًا أَوْ إرَادَةً أَوْ عِلْمًا أَوْ حُكْمًا أَوْ كَلَامًا نَفْسَانِيًّا . وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَتَفَاضَلُ فِي نَفْسِهَا فَلَيْسَ عِلْمُنَا بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ

كَعِلْمِنَا بِحَالِ أَبِي لَهَبٍ . وَلَيْسَ الطَّلَبُ الْقَائِمُ بِنَا إذَا أُمِرْنَا بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ كَالطَّلَبِ الْقَائِمِ بِنَا إذَا أُمِرْنَا بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَكْلِ بِالْيَمِينِ وَإِخْرَاجِ الدِّرْهَمِ مِنْ الزَّكَاةِ . فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ مَعَانِيَ الْكَلَامِ قَدْ تَتَفَاضَلُ فِي نَفْسِهَا كَمَا قَدْ تَتَمَاثَلُ وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا صِيغَةُ الْأَمْرِ - سَوَاءٌ سُمِّيَتْ طَلَبًا أَوْ اقْتِضَاءً أَوْ اسْتِدْعَاءً أَوْ إرَادَةً أَوْ مَحَبَّةً أَوْ رِضًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ - فَإِنَّهَا مُتَفَاضِلَةٌ بِحَسَبِ تَفَاضُلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَمَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ النَّفْسَانِيَّةِ فَهِيَ مُتَفَاضِلَةٌ فِي نَفْسِهَا بِحَسَبِ تَفَاضُلِ الْمُخْبِرِ عَنْهُ . فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ تَفَاضُلِ الْكَلَامِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَاحِدًا . وَهُوَ أَيْضًا مُتَفَاضِلٌ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلَّمُ فِيهِ وَاحِدًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَكْلِيمَهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَفْضَلُ مِنْ تَكْلِيمِهِ بِالْإِيحَاءِ وَبِإِرْسَالِ رَسُولٍ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ فَضَائِلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا وَقَالَ : { إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي } وَقَالَ : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } وَاَلَّذِي يَجِدُ النَّاسَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ تَتَفَاضَلُ أَحْوَالُهُ

فِي أَنْوَاعِ الْكَلَامِ بَلْ وَفِي الْكَلَامِ الْوَاحِدِ يَتَفَاضَلُ مَا يَقُومُ بِقَلْبِهِ مِنْ الْمَعَانِي وَمَا يَقُومُ بِلِسَانِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ بِحَيْثُ قَدْ يَكُونُ إذَا كَانَ طَالِبًا هُوَ أَشَدُّ رَغْبَةً وَمَحَبَّةً وَطَلَبًا لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ لِلْآخَرِ وَيَكُونُ صَوْتُهُ بِهِ أَقْوَى وَلَفْظُهُ بِهِ أَفْصَحَ وَحَالُهُ فِي الطَّلَبِ أَقْوَى وَأَشَدُّ تَأْثِيرًا ؛ وَلِهَذَا يَكُونُ لِلْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ الْمَوْعِظَةِ بَلْ لِلْآيَةِ الْوَاحِدَةِ إذَا سُمِعَتْ مِنْ اثْنَيْنِ مِنْ ظُهُورِ التَّفَاضُلِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى تَمْثِيلٍ . وَكَذَلِكَ فِي الْخَبَرِ قَدْ يَقُومُ بِقَلْبِهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ وَتَصَوُّرِ الْمَعْلُومِ وَشُهُودِ الْقَلْبِ إيَّاهُ بِاللِّسَانِ مِنْ حُسْنِ التَّعْبِيرِ عَنْهُ لَفْظًا وَصَوْتًا مَا لَا يُقَارِبُهُ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ إذَا أَخْبَرَ عَنْ غَيْرِهِ . فَهَذَا نَوْعُ إشَارَةٍ إلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِتَفْضِيلِ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ مُوَافِقًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَكَلَامُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةُ . وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ تَقُولُ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يُفَضَّلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ لِهَؤُلَاءِ فِي تَأْوِيلِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي التَّفْضِيلِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ التَّفَاضُلُ فِي مُتَعَلَّقِهِ مِثْلَ كَوْنِ بَعْضِهِ أَنْفَعَ لِلنَّاسِ مِنْ بَعْضٍ لِكَوْنِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ أَوْ الْعَمَلِ بِهِ أَخَفَّ مَعَ التَّمَاثُلِ فِي الْأَجْرِ وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } أَيْ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا لَكُمْ لَا أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا خَيْرٌ مِنْ تِلْكَ . وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ كَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري قَالَ . نَأْتِ بِحُكْمِ خَيْرٍ لَكُمْ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ : إمَّا فِي الْعَاجِلِ لِخِفَّتِهِ

عَلَيْكُمْ وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ لِعِظَمِ ثَوَابِهِ مِنْ أَجْلِ مَشَقَّةِ حَمْلِهِ . قَالَ : وَالْمُرَادُ مَا نَنْسَخُ مِنْ حُكْمِ آيَةٍ كَقَوْلِهِ : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } أَيْ حُبَّهُ قَالَ : وَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ خَيْرًا مِنْ شَيْءٍ . لِأَنَّ جَمِيعَهُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَا يَجُوزُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُقَالَ : بَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ أَوْ بَعْضُهَا خَيْرٌ مِنْ بَعْضٍ . وَطَرْدُ ذَلِكَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ فَمَنَعَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَسْمَائِهِ أَعْظَمَ أَوْ أَفْضَلَ أَوْ أَكْبَرَ مِنْ بَعْضٍ . وَقَالَ : مَعْنَى الِاسْمِ الْأَعْظَمِ : الْعَظِيمُ وَكُلُّهَا سَوَاءٌ فِي الْعَظَمَةِ وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُ حَالُ النَّاسِ حِينَ الدُّعَاءِ فَيَكُونُ الْأَعْظَمُ بِحَسَبِ حَالِ الدُّعَاءِ لَا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ أَعَظُمَ . وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ نَظِيرَ الْقَوْلِ الثَّانِي فِي تَفْضِيلِ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ لِمَنْ مَنَعَ تَفْضِيلَهُ أَنَّ الْمُرَادَ يَكُونُ هَذَا أَفْضَلَ أَوْ خَيْرًا كَوْنُهُ فَاضِلًا فِي نَفْسِهِ ؛ لَا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ يُحْكَى عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ قَالُوا : إنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ عَظِيمٌ فَاضِلٌ وَقَالُوا : مُقْتَضَى الْأَفْضَلِ تَقْصِيرُ الْمَفْضُولِ عَنْهُ وَكَلَامُ اللَّهِ لَا يَتَبَعَّضُ وَهَذَا يَقُولُونَهُ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ عِنْدَهُمْ يَمْتَنِعُ فِيهِ تَمَاثُلُ أَوْ تَفَاضُلُ وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَلِامْتِنَاعِ التَّغَايُرِ وَلَا يَقُولُونَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ فَإِنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ عِنْدَهُمْ مَخْلُوقٌ وَلَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ قَالُوا : لِأَنَّ الْكَلَامَ

يَمْتَنِعُ قِيَامُهُ بِغَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ وَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ يَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ قِيَامُهُ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ قَائِمًا بِغَيْرِهِ لَبَطَلَ أَصْلُهُمْ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ هُمْ وَسَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَرَدُّوا بِهِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَهَؤُلَاءِ يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ عِنْدَهُمْ وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِهِمْ . وَبَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ يَقُولُ : إنَّ لَفْظَ " كَلَامِ اللَّهِ " يَقَعُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ وَعَلَى الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْمَخْلُوقِ الدَّالِّ عَلَيْهِ . وَأَمَّا كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقِ عِنْدَهُمْ فَهُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَهُوَ الَّذِي يَمْتَنِعُ تَفَاضُلُهُ عِنْدَهُمْ . وَأَصْلُ هَؤُلَاءِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ الْمَعَانِي بَلْ هُوَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ فَقَطْ وَأَنَّ مَعَانِيَ كِتَابِ اللَّهِ هِيَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ . فَمَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الدَّيْنِ وَالْفَاتِحَةِ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَتَبَّتْ وَمَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَكُلِّ حَدِيثٍ إلَهِيٍّ وَكُلِّ مَا يُكَلِّمُ بِهِ الرَّبُّ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكُلِّ مَا يُكَلِّمُ بِهِ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ : إنَّمَا هِيَ مَعْنًى وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ لَا بِالنَّوْعِ . وَلَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ بَلْ كَلَامُ غَيْرِهِ : جِبْرِيلَ أَوْ مُحَمَّدٍ أَوْ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ عَبَّرَ بِهِ عَنْ ذَلِكَ الْوَاحِدِ وَذَلِكَ الْوَاحِدِ هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ وَالنَّهْيُ عَنْ كُلِّ مَا نَهَى عَنْهُ وَالْإِخْبَارُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ لَيْسَتْ أَنْوَاعًا لِلْكَلَامِ وَأَقْسَامًا لَهُ فَإِنَّ الْوَاحِدَ بِالْعَيْنِ لَا يَقْبَلُ

التَّنْوِيعَ وَالتَّقْسِيمَ ؛ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّنْوِيعَ وَالتَّقْسِيمَ وَإِنَّمَا هِيَ صِفَاتٌ لِذَلِكَ الْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ وَهِيَ صِفَاتٌ إضَافِيَّةٌ لَهُ فَإِذَا تَعَلَّقَ بِمَا يُطْلَبُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَانَ أَمْرًا وَإِذَا تَعَلَّقَ بِمَا يُنْهَى عَنْهُ كَانَ نَهْيًا وَإِذَا تَعَلَّقَ بِمَا يُخْبَرُ عَنْهُ كَانَ خَبَرًا . وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ : فَسَادُ هَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَعَانِيَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } لَيْسَتْ هِيَ مَعَانِي { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } وَلَا مَعَانِي آيَةِ الدَّيْنِ مَعَانِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَلَا مَعَانِي الْخَبَرِ عَنْ صِفَاتِ اللَّهِ هِيَ مَعَانِي الْخَبَرِ عَنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ وَأَنَّ تَعَلُّقَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْحَقَائِقِ الْمَخْبَرِ عَنْهَا وَالْأَفْعَالُ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إنْ كَانَ أَمْرًا وُجُودِيًّا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ فَإِنْ قَامَ بِذَاتِ اللَّهِ فَقَدْ تَعَدَّدَتْ مَعَانِي الْكَلَامِ الْقَائِمَةُ بِذَاتِهِ وَإِنْ قَامَ بِذَاتِ غَيْرِهِ كَانَ صِفَةً لِذَلِكَ الْغَيْرِ لَا لِلَّهِ وَإِنْ قَامَ لَا بِمَحَلِّ كَانَ مُمْتَنِعًا ؛ فَإِنَّ الْمَعَانِيَ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا ؛ وَإِنْ كَانَ تَعَلُّقُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْحَقَائِقِ أَمْرًا عَدَمِيًّا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يُمَيَّزُ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بَلْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ خَبَرِ اللَّهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ إذْ كَانَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ لَا تَعَدُّدَ فِيهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمْتَازَ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ . وَالْحَقَائِقُ الْمَخْبَرُ عَنْهَا وَالْمَأْمُورُ بِهَا وَالْمَنْهِيُّ عَنْهَا لَا تَكُونُ بِأَنْفُسِهَا مُخْبَرًا بِهَا وَمَأْمُورًا بِهَا وَمَنْهِيًّا عَنْهَا بَلْ الْخَبَرُ عَنْهَا وَالْأَمْرُ بِهَا وَالنَّهْيُ عَنْهَا هُوَ غَيْرُ ذَوَاتِهَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَا أَمْرٌ مَوْجُودٌ غَيْرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي لَا امْتِيَازَ فِيهِ وَلَا تَعَدُّدَ وَغَيْرُ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي لَا تُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ : لَمْ

يَكُنْ هُنَا مَا يُمَيِّزُ بَيْنَ النَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَلَا مَا يَجْعَلُ مَعَانِيَ آيَةِ الْوُضُوءِ غَيْرَ مَعَانِي آيَةِ الدَّيْنِ فَإِنَّ الْحُرُوفَ الْمَخْلُوقَةَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى إنْ لَمْ تَدُلَّ إلَّا عَلَيْهِ فَلَا تَعَدُّدَ فِيهِ وَلَا تَنْوِيعَ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى التَّعَلُّقَاتِ الَّتِي هِيَ عَدَمِيَّةٌ فَالْعَدَمُ لَيْسَ بِشَيْءِ حَتَّى يَكُونَ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا وَلَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ إلَّا ذَلِكَ الْمَعْنَى وَتَعَلُّقُهُ بِالْحَقَائِقِ الْمَخْبَرِ عَنْهَا وَالْمَأْمُورِ بِهَا وَنَفْسُ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الْمَخْلُوقِ عِنْدَهُمْ هُوَ الدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى فَالْمَدْلُولُ إنْ كَانَ هُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَلَا يَتَمَيَّزُ فِيهِ أَمْرٌ عَنْ خَبَرٍ وَلَا أَمْرٌ بِصَلَاةِ عَنْ أَمْرٍ بِزَكَاةِ وَلَا نَهْيٌ عَنْ الْكُفْرِ عَنْ إخْبَارٍ بِتَوْحِيدِ . وَإِنْ كَانَتْ التَّعَلُّقَاتُ عَدَمِيَّةً فَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِشَيْءِ وَلَا يَكُونُ الْعَدَمُ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا وَلَا يَكُونُ مَدْلُولُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَسَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ أُمُورًا عَدَمِيَّةً لَا وُجُودَ لَهَا وَلَا تَكُونُ الْأُمُورُ الْعَدَمِيَّةُ هِيَ الَّتِي بِهَا وَجَبَتْ الصَّلَاةُ وَحَرَّمَ الظُّلْمَ وَلَا يَكُونُ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ بِتِلْكَ الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ إلَّا صِفَاتٍ إضَافِيَّةً وَهِيَ مِنْ مَعْنَى السَّلْبِيَّةِ فَإِنَّهَا إنْ لَمْ تَكُنْ سَلْبَ أَمْرٍ مَوْجُودٍ فَهِيَ تَعَلُّقٌ لَيْسَ بِمَوْجُودِ . فَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ - عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ - أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ لَا مَعَانٍ وَلَا حُرُوفٌ إلَّا بِمَعْنَى وَاحِدٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ مَوْجُودَةً وَلَا مَعْلُومَةً . وَمِنْ حُجَّةِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ إذَا قِيلَ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ كَانَ الْمَفْضُولُ نَاقِصًا عَنْ الْفَاضِلِ وَصِفَاتُ اللَّهِ كَامِلَةٌ لَا نَقْصَ فِيهَا وَالْقُرْآنُ

مِنْ صِفَاتِهِ . قَالَ هَؤُلَاءِ : صِفَاتُ اللَّهِ كُلُّهَا مُتَوَافِرَةٌ فِي الْكَمَالِ مُتَنَاهِيَةٌ إلَى غَايَةِ التَّمَامِ لَا يَلْحَقُ شَيْئًا مِنْهَا نَقْصٌ بِحَالِ . ثُمَّ لَمَّا اعْتَقَدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ التَّفَاضُلَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ مُمْتَنِعٌ ظَنُّوا أَنَّ الْقَوْلَ بِتَفْضِيلِ بَعْضِ كَلَامِهِ عَلَى بَعْضٍ لَا يُمْكِنُ إلَّا عَلَى قَوْلِ الْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِتَفْضِيلِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ . قَالُوا : وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ التَّفَاضُلُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ . وَلِأَجْلِ هَذَا الِاعْتِقَادِ صَارَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ يَذْكُرُ إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ التَّفْضِيلِ فِي الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الدَّرَّاجِ فِي مُصَنَّفٍ صَنَّفَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ : " أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ مِمَّا ظَاهِرُهُ الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ آيِ الْقُرْآنِ وَسُورِهِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ تَفْضِيلَ ذَوَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ ؛ إذْ هُوَ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ بَلْ هُوَ كُلُّهُ لِلَّهِ فَاضِلٌ كَسَائِرِ صِفَاتِهِ الْوَاجِبِ لَهَا نَعْتُ الْكَمَالِ " . وَهَذَا النَّقْلُ لِلْإِجْمَاعِ هُوَ بِحَسَبِ مَا ظَنَّهُ لَازِمًا لِأَهْلِ السُّنَّةِ فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَظَنَّ هُوَ أَنَّ الْمُفَاضَلَةَ إنَّمَا تَقَعُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ لَا فِي الصِّفَاتِ قَالَ مَا قَالَ . وَإِلَّا فَلَا يُنْقَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّهُ أَنْكَرَ فَضْلَ كَلَامِ اللَّهِ بَعْضَهُ

عَلَى بَعْضٍ : لَا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي لَوَازِمِهِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا إجْمَاعًا . وَلَيْسَ هُوَ لَازِمًا لِابْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ كَالْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُجَوِّزُونَ وُقُوعَ الْمُفَاضَلَةِ فِي الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ مَخْلُوقٌ عِنْدَهُمْ وَهَذَا الْمَخْلُوقُ يُسَمَّى " كِتَابَ اللَّهِ " وَالْمَعْنَى الْقَدِيمُ يُسَمَّى " كَلَامُ اللَّهِ " وَلَفْظُ " الْقُرْآنِ " يُرَادُ بِهِ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَدِيمُ وَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ الْمَخْلُوقُ . وَحِينَئِذٍ فَهِمَ يَتَأَوَّلُونَ مَا وَرَدَ مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ عَلَى الْقُرْآنِ الْمَخْلُوقِ عِنْدَهُمْ . وَإِنَّمَا الْقَوْلُ الْمُتَوَاتِرُ عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ قَالُوا : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا مَقَالَةَ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْ اللَّهِ بَلْ كَفَّرُوا مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَالْكُتُبُ الْمَوْجُودَةُ فِيهَا أَلْفَاظُهُمْ بِأَسَانِيدِهَا وَغَيْرِ أَسَانِيدِهَا كَثِيرَةٌ : مِثْلُ : ( كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة ) لِلْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَ ( الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة ) لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الجعفي شَيْخِ الْبُخَارِيِّ وَ ( الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة ) لِلْحَكَمِ بْنِ مَعْبَدٍ الخزاعي وَ ( كِتَابِ السُّنَّةِ ) لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَ ( السُّنَّةِ ) لِحَنْبَلِ ابْنِ عَمِّ الْإِمَامِ أَحْمَد وَ ( السُّنَّةِ ) لِأَبِي دَاوُد السجستاني وَ ( السُّنَّةِ ) لِلْأَثْرَمِ وَ ( السُّنَّةِ ) لِأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ وَ ( السُّنَّةِ وَالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ ) لِخُشَيْشِ بْنِ أَصْرَمَ

وَ ( الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة ) لِعُثْمَانِ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي . وَ ( نَقْضِ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ عَلَى الجهمي الْكَاذِبِ الْعَنِيدِ فِيمَا افْتَرَى عَلَى اللَّهِ فِي التَّوْحِيدِ ) وَ ( كِتَابِ التَّوْحِيدِ ) لِابْنِ خُزَيْمَة وَ ( السُّنَّةِ للطبراني ) وَلِأَبِي الشَّيْخِ الأصبهاني وَ ( شَرْحِ أُصُولِ السُّنَّةِ ) لِأَبِي الْقَاسِمِ اللالكائي وَ ( الْإِبَانَةِ ) لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ وَكُتُبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ منده وَ ( السُّنَّةِ ) لِأَبِي ذَرٍّ الهروي وَ ( الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ ) للبيهقي وَ ( الْأُصُولِ ) لِأَبِي عُمَرَ الطلمنكي وَ ( الْفَارُوقِ ) لِأَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ وَ ( الْحُجَّةِ ) لِأَبِي الْقَاسِمِ التيمي . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُصَنَّفَاتِ الَّتِي يَطُولُ تَعْدَادُهَا : الَّتِي يَذْكُرُ مُصَنِّفُوهَا الْعُلَمَاءُ الثِّقَاتُ مَذَاهِبَ السَّلَفِ بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ عَنْهُمْ بِأَلْفَاظِهِمْ الْكَثِيرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي تُعْرَفُ مِنْهَا أَقْوَالُهُمْ مَعَ أَنَّهُ مِنْ حِينِ مِحْنَةِ الْجَهْمِيَّة لِأَهْلِ السُّنَّةِ - الَّتِي جَرَتْ فِي زَمَنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ لَمَّا صَبَرَ فِيهَا الْإِمَامُ أَحْمَد وَقَامَ بِإِظْهَارِ السُّنَّةِ وَالصَّبْرِ عَلَى مِحْنَةِ الْجَهْمِيَّة حَتَّى نَصَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَالسُّنَّةَ وَأَطْفَأَ نَارَ تِلْكَ الْفِتْنَةِ - ظَهَرَ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ وَانْتَشَرَ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ الْمُتَّبِعِينَ لِلسَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ : أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الَّذِينَ أَحْدَثُوا فِي الْإِسْلَامِ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ هُمْ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ وَالْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَمِنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْنَافِ الْجَهْمِيَّة لَمْ يَقُلْ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ . فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ

كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . أَمَّا كَوْنُهُ لَا يَفْضُلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ الَّذِينَ كَانُوا أَئِمَّةَ الْمِحْنَةِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَمْثَالِهِ وَلَا عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمْ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ عَدَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا هَذَا نَقْلٌ لِمَا يَظُنُّهُ النَّاقِلُ لَازِمًا لِمَذْهَبِهِمْ . فَلَمَّا كَانَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ لَا مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ وَظَنَّ هَذَا النَّاقِلُ أَنَّ التَّفَاضُلَ يَمْتَنِعُ فِي صِفَاتِ الْخَالِقِ نَقَلَ امْتِنَاعَ التَّفَاضُلِ عَنْهُمْ بِنَاءً عَلَى هَذَا التَّلَازُمِ . وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ : أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَمَنْقُولَةٌ عَنْهُمْ بِلَا رَيْبٍ . وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ أَنَّ صِفَاتِ الرَّبِّ لَا تَتَفَاضَلُ فَهَلْ يُمْكِنُك أَنْ تَنْقُلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ قَوْلًا بِذَلِكَ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَنْقُلَ إجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا عَلِمْت أَحَدًا يُمْكِنُهُ أَنْ يُثْبِتَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا بِهَذَا اللَّفْظِ وَلَا بِغَيْرِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا إجْمَاعًا . وَلَكِنْ إنْ كَانَ قَالَ قَائِلٌ ذَلِكَ وَلَمْ يَبْلُغْنَا قَوْلُهُ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ . لَكِنَّ الَّذِي أَقْطَعُ بِهِ وَيَقْطَعُ بِهِ كُلُّ مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِكَلَامِ السَّلَفِ أَنَّ الْقَوْلَ بِهَذَا لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا بَيْنَ السَّلَفِ وَلَا قَالَهُ وَاحِدٌ وَاشْتَهَرَ قَوْلُهُ عِنْدَ الْبَاقِينَ فَسَكَتُوا عَنْهُ وَلَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْكُتُبِ الَّتِي نُقِلَ

فِيهَا أَلْفَاظُهُمْ بِأَعْيَانِهَا بَلْ الْمَنْقُولُ الثَّابِتُ عَنْهُمْ - أَوْ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ تَفَاضُلَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَكَذَا مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَوْ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَحْمَد عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ : أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَفْضُلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّمَا مُسْتَنَدُهُمْ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ كَلَامَهُ مِنْ صِفَاتِهِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ لَيْسَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَهَذَا أَيْضًا صَحِيحٌ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ . ثُمَّ ظَنُّوا أَنَّ التَّفَاضُلَ إنَّمَا يَقَعُ فِي الْمَخْلُوقِ لَا فِي الصِّفَاتِ وَهَذَا الظَّنُّ لَمْ يَنْقُلُوهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَلَا مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ وَلِهَذَا شَنَّعَ هَؤُلَاءِ عَلَى مَنْ ظَنَّ فَضْلَ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَالْآثَارُ لِظَنِّهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِخِلَافِ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْمُرَابِطِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ فِي رَدِّهِ لِتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ إذَا عَدَلَتْ بِثُلُثِ الْقُرْآنِ أَنَّهَا تَفْضُلُ الرُّبُعَ مِنْهُ وَخُمُسَهُ وَمَا دُونَ الثُّلُثِ فَهُوَ التَّفَاضُلُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَقَالَ : فَهَذَا لَوْلَا عُذْرُ الْجَهَالَةِ لَحُكِمَ عَلَى قَائِلِهِ بِالْكُفْرِ إذْ لَا يَصِحُّ التَّفَاضُلُ إلَّا فِي الْمَخْلُوقَاتِ ؛ إذْ صِفَاتُهُ كُلُّهَا فَاضِلَةٌ فِي غَايَةِ الْفَضِيلَةِ وَنِهَايَةِ الْعُلُوِّ وَالْكَرَامَةِ فَمَنْ تَنَقَّصَ شَيْئًا مِنْهَا عَنْ سَائِرِهَا فَقَدْ أَلْحَدَ فِيهَا أَلَا تَسْمَعُهُ مَنَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } .

قَالَ : وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ لَا مِنْ صِفَةِ خَلْقِهِ . قَالَ : وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُمْ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَلَا يَخْلُو مَعْنَى ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ تَكُونَ النَّاسِخَةُ خَيْرًا مِنْ الْمَنْسُوخَةِ فِي ذَاتِهَا وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ خَيْرًا مِنْهَا لِمَنْ تَعَبَّدَ بِهَا إذْ مُحَالٌ أَنْ يَتَفَاضَلَ الْقُرْآنُ فِي ذَاتِهِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالِاسْتِقَامَةِ ؛ إذْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَزِيزَ صِفَةُ اللَّهِ وَأَسْمَاءُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ كُلُّهَا مُتَوَافِرَةٌ فِي الْكَمَالِ مُتَنَاهِيَةٌ إلَى غَايَةِ التَّمَامِ لَا يَلْحَقُ شَيْئًا مِنْهَا نَقْصٌ بِحَالِ . فَلَمَّا اسْتَحَالَ أَنْ تَكُونَ آيَةٌ خَيْرًا مِنْ آيَةٍ فِي ذَاتِهَا عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِخَيْرِ مِنْهَا إنَّمَا هُوَ لِلْمُتَعَبِّدِينَ بِهَا لَمْ يَنْقُلْ عِبَادَهُ مِنْ تَخْفِيفٍ إلَى تَثْقِيلٍ وَلَكِنَّهُ نَقَلَهُمْ بِالنَّسْخِ مِنْ تَحْرِيمٍ إلَى تَحْلِيلٍ وَمِنْ إيجَابٍ إلَى تَخْيِيرٍ وَمِنْ تَطْهِيرٍ إلَى تَطْهِيرٍ وَالشَّاهِدُ لَنَا قَوْلُهُ : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } . فَيُقَالُ : أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : " لَوْلَا عُذْرُ الْجَهَالَةِ لَحُكِمَ عَلَى مُثْبِتِ الْمُفَاضَلَةِ بِالْكُفْرِ " فَهُمْ يُقَابِلُونَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَحُجَّتُهُمْ أَقْوَى . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفْرَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ بَلْ عُلِمَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا وَإِنَّمَا الْكَافِرُ مَنْ أَنْكَرَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَصٌّ يَمْنَعُ تَفْضِيلَ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ بَلْ وَلَا يَمْنَعُ تَفَاضُلَ صِفَاتِهِ

تَعَالَى بَلْ وَلَا نَقْلَ هَذَا النَّفْيِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا عَنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَهُمْ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ بِحَيْثُ جُعِلُوا أَعْلَامًا لِلسُّنَّةِ وَأَئِمَّةً لِلْأُمَّةِ .
وَأَمَّا تَفْضِيلُ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ ؛ بَلْ تَفْضِيلُ بَعْضِ صِفَاتِهِ عَلَى بَعْضِ : فَدَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْآثَارِ السَّلَفِيَّةِ كَثِيرَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَنَّهَا لَا تَتَفَاضَلُ لَمْ يَكُنْ نَفْيُ تَفَاضُلِهَا مَعْلُومًا إلَّا بِالْعَقْلِ لَا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهَا تَتَفَاضَلُ فَالدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ هُوَ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مَعَ الْعَقْلِيَّةِ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ التَّفْضِيلُ لَكَانَ كُفْرُ جَاحِدِ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ كُفْرِ مَنْ يُثْبِتُ التَّفْضِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ حَقًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ جَحَدَ مُوجِبَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ ؛ بَلْ لَمَّا رَآهُ بِعَقْلِهِ وَأَخْطَأَ فِيهِ ؛ إذْ نَحْنُ نَتَكَلَّمُ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ خَالَفَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ بِمُجَرَّدِ عَقْلِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْكُفْرِ مِمَّنْ لَمْ يُخَالِفْ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ وَإِنَّمَا خَالَفَ مَا عُلِمَ بِالْعَقْلِ إنْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا . وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ بَعْضِ نفاة الصِّفَاتِ لَمَّا تَأَمَّلَ حَالَ أَصْحَابِهِ وَحَالَ مُثْبِتِيهَا قَالَ : لَا رَيْبَ أَنَّ حَالَ هَؤُلَاءِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ حَالِنَا فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إنْ كَانُوا مُصِيبِينَ فَقَدْ نَالُوا الدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالرِّضْوَانَ الْأَكْبَرَ وَإِنْ كَانُوا مُخْطِئِينَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : نَحْنُ يَا رَبِّ صَدَّقْنَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابُك

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131