الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

وَالْهِلَالُ يَسْتَسِرُّ آخِرَ الشَّهْرِ : إمَّا لَيْلَةً وَإِمَّا لَيْلَتَيْنِ . كَمَا يَسْتَسِرُّ لَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِينَ وَالشَّمْسُ لَا تَكْسِفُ إلَّا وَقْتَ اسْتِسْرَارِهِ وَلِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيَالِي مُعْتَادَةٌ مَنْ عَرَفَهَا عَرَفَ الْكُسُوفَ وَالْخُسُوفَ . كَمَا أَنَّ مَنْ عَلِمَ كَمْ مَضَى مِنْ الشَّهْرِ يَعْلَمُ أَنَّ الْهِلَالَ يَطْلُعُ فِي اللَّيْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ أَوْ الَّتِي قَبْلَهَا . لَكِنَّ الْعِلْمَ بِالْعَادَةِ فِي الْهِلَالِ عِلْمٌ عَامٌّ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْعَادَةِ فِي الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ فَإِنَّمَا يَعْرِفُهُ مَنْ يَعْرِفُ حِسَابَ جَرَيَانِهِمَا وَلَيْسَ خَبَرُ الْحَاسِبِ بِذَلِكَ مِنْ بَابِ عِلْمِ الْغَيْبِ وَلَا مِنْ بَابِ مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَكُونُ كَذِبُهُ فِيهَا أَعْظَمَ مِنْ صِدْقِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ ثَابِتٍ وَبِنَاءً عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ صَحِيحٍ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ النُّجُومِ فَقَدْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَصَدَّقَهُ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ صَلَاتَهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا } . وَالْكُهَّانُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَهُ مِنْ الْمُنَجِّمِينَ فِي الْأَحْكَامِ وَمَعَ هَذَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ إتْيَانِهِمْ وَمَسْأَلَتِهِمْ فَكَيْفَ بِالْمُنَجِّمِ ؟ وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ .

وَأَمَّا مَا يُعْلَمُ بِالْحِسَابِ فَهُوَ مِثْلُ الْعِلْمِ بِأَوْقَاتِ الْفُصُولِ كَأَوَّلِ الرَّبِيعِ وَالصَّيْفِ وَالْخَرِيفِ وَالشِّتَاءِ لِمُحَاذَاةِ الشَّمْسِ أَوَائِلَ الْبُرُوجِ الَّتِي يَقُولُونَ فِيهَا إنَّ الشَّمْسَ نَزَلَتْ فِي بُرْجِ كَذَا : أَيْ حَاذَتْهُ . وَمَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ إنَّ الشَّمْسَ تَكْسِفُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الِاسْتِسْرَارِ فَقَدْ غَلِطَ وَقَالَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ . وَمَا يُرْوَى عَنْ الواقدي مِنْ ذِكْرِهِ : أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ يَوْمَ الْعَاشِرِ مِنْ الشَّهْرِ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْكُسُوفِ : غَلَطٌ . والواقدي لَا يُحْتَجُّ بِمَسَانِيدِهِ فَكَيْفَ بِمَا أَرْسَلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْنِدَهُ إلَى أَحَدٍ وَهَذَا فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ خَطَأٌ فَأَمَّا هَذَا فَيُعْلَمُ أَنَّهُ خَطَأٌ . وَمَنْ جَوَّزَ هَذَا فَقَدْ قَفَا مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ وَمَنْ حَاجَّ فِي ذَلِكَ فَقَدْ حَاجَّ فِي مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ اجْتِمَاعِ صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْكُسُوفِ فَهَذَا ذَكَرُوهُ فِي ضِمْنِ كَلَامِهِمْ فِيمَا إذَا اجْتَمَعَ صَلَاةُ الْكُسُوفِ وَغَيْرُهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ فَقَدْ رَأَوْا اجْتِمَاعَهَا مَعَ الْوِتْرِ وَالظُّهْرِ وَذَكَرُوا صَلَاةَ الْعِيدِ مَعَ عَدَمِ اسْتِحْضَارِهِمْ هَلْ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ أَوْ لَا يُمْكِنُ فَلَا يُوجَدُ فِي تَقْدِيرِهِمْ ذَلِكَ الْعِلْمُ بِوُجُودِ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ لَكِنْ اُسْتُفِيدَ مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ عِلْمُ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ كَمَا يُقَدِّرُونَ مَسَائِلَ يُعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَقَعُ لِتَحْرِيرِ الْقَوَاعِدِ وَتَمْرِينِ الْأَذْهَانِ عَلَى ضَبْطِهَا .

وَأَمَّا تَصْدِيقُ الْمُخْبِرِ بِذَلِكَ وَتَكْذِيبُهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَدَّقَ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ صِدْقُهُ وَلَا يُكَذَّبَ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ كَذِبُهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوهُمْ وَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوهُمْ } . وَالْعِلْمُ بِوَقْتِ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا لَكِنَّ هَذَا الْمُخْبِرَ الْمُعَيَّنَ قَدْ يَكُونُ عَالِمًا بِذَلِكَ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَقَدْ يَكُونُ ثِقَةً فِي خَبَرِهِ وَقَدْ لَا يَكُونُ . وَخَبَرُ الْمَجْهُولِ الَّذِي لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِ وَصِدْقِهِ وَلَا يُعْرَفُ كَذِبُهُ مَوْقُوفٌ . وَلَوْ أَخْبَرَ مُخْبِرٌ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مَجْهُولٌ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ وَلَكِنْ إذَا تَوَاطَأَ خَبَرُ أَهْلِ الْحِسَابِ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ وَمَعَ هَذَا فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى خَبَرِهِمْ عِلْمٌ شَرْعِيٌّ فَإِنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ لَا تُصَلَّى إلَّا إذَا شَاهَدْنَا ذَلِكَ وَإِذَا جَوَّزَ الْإِنْسَانُ صِدْقَ الْمُخْبِرِ بِذَلِكَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فَنَوَى أَنْ يُصَلِّيَ الْكُسُوفَ وَالْخُسُوفَ عِنْدَ ذَلِكَ وَاسْتَعَدَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ لِرُؤْيَةِ ذَلِكَ كَانَ هَذَا حَثًّا مِنْ بَابِ الْمُسَارَعَةِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْكُسُوفِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ تَوَاتَرَتْ بِهَا السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهَا أَهْلُ الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . وَاسْتَفَاضَ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ صَلَاةَ الْكُسُوفِ يَوْمَ مَاتَ ابْنُهُ إبْرَاهِيمُ .

وَكَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ ظَنَّ أَنَّ كُسُوفَهَا كَانَ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ مَاتَ فَخَطَبَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : { إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ } . وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ { وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ } . وَهَذَا بَيَانٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمَا سَبَبٌ لِنُزُولِ عَذَابٍ بِالنَّاسِ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا يُخَوِّفُ عِبَادَهُ بِمَا يَخَافُونَهُ إذَا عَصَوْهُ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَإِنَّمَا يَخَافُ النَّاسُ مِمَّا يَضُرُّهُمْ فَلَوْلَا إمْكَانُ حُصُولِ الضَّرَرِ بِالنَّاسِ عِنْدَ الْخُسُوفِ مَا كَانَ ذَلِكَ تَخْوِيفًا قَالَ تَعَالَى : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إلَّا تَخْوِيفًا } وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُزِيلُ الْخَوْفَ ، أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِالنَّاسِ وَصَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ فِي الْكُسُوفِ صَلَاةً طَوِيلَةً .
وَقَدْ رُوِيَ فِي صِفَةِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ أَنْوَاعٌ ؛ لَكِنَّ الَّذِي اسْتَفَاضَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَهُوَ الَّذِي اسْتَحَبَّهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ : كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ يَقْرَأُ قِرَاءَةً طَوِيلَةً ثُمَّ يَرْكَعُ رُكُوعًا طَوِيلًا دُونَ الْقِرَاءَةِ ثُمَّ يَقُومُ فَيَقْرَأُ قِرَاءَةً طَوِيلَةً دُونَ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى ثُمَّ يَرْكَعُ رُكُوعًا دُونَ الرُّكُوعِ

الْأَوَّلِ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ : أَنَّهُ جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا . وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ وَقْتَ الْكُسُوفِ إلَى أَنْ يَتَجَلَّى فَإِنْ فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ قَبْلَ التَّجَلِّي ذَكَرَ اللَّهَ وَدَعَاهُ إلَى أَنْ يَتَجَلَّى . وَالْكُسُوفُ يَطُولُ زَمَانُهُ تَارَةً وَيَقْصُرُ أُخْرَى بِحَسَبِ مَا يَكْسِفُ مِنْهَا فَقَدْ تَكْسِفُ كُلُّهَا وَقَدْ يَكْسِفُ نِصْفُهَا أَوْ ثُلُثُهَا . فَإِذَا عَظُمَ الْكُسُوفُ طَوَّلَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَقْرَأَ بِالْبَقَرَةِ وَنَحْوِهَا فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ وَبَعْدَ الرُّكُوعِ الثَّانِي يَقْرَأُ بِدُونِ ذَلِكَ . وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ كُلَّهُ مِثْلُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ : { انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إبْرَاهِيمُ بْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّاسُ : انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَإِلَى الصَّلَاةِ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي يُرْسِلُهَا اللَّهُ لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إلَى ذِكْرِهِ

وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ { حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ } وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ { فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْهَا فَصَلُّوا وَادْعُوَا حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ } . وَفِي رِوَايَةٍ لِعَائِشَةَ { فَصَلُّوا حَتَّى يُفَرِّجَ اللَّهُ مَا بِكُمْ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَسْجِدِ فَقَامَ وَكَبَّرَ وَصَفَّ النَّاسَ وَرَاءَهُ فَاقْتَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ . فَقَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ . ثُمَّ قَامَ فَاقْتَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً هِيَ أَدْنَى مِنْ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا هُوَ أَدْنَى مِنْ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ ثُمَّ قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى اسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وَانْجَلَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ } . وَقَدْ جَاءَ إطَالَتُهُ لِلسُّجُودِ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ وَكَذَلِكَ الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ لَكِنْ رُوِيَ فِي الْقِرَاءَةِ الْمُخَافَتَةُ وَالْجَهْرُ أَصَحُّ . وَأَمَّا تَطْوِيلُ السُّجُودِ فَلَمْ

يَخْتَلِفُ فِيهِ الْحَدِيثُ لَكِنْ فِي كُلِّ حَدِيثٍ زِيَادَةٌ لَيْسَتْ فِي الْآخَرِ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ لَا تَخْتَلِفُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْمَطَرِ وَالرَّعْدِ وَالزَّلَازِلِ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الشَّرْعِ وَعَلَى قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا الْمَطَرُ : فَإِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُهُ فِي السَّمَاءِ مِنْ السَّحَابِ وَمِنْ السَّحَابِ يَنْزِلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ } { أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ } أَيْ مِنْ خِلَالِ السَّحَابِ . وَقَوْلُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ السَّمَاءِ : أَيْ مِنْ الْعُلُوِّ وَالسَّمَاءُ اسْمُ جِنْسٍ لِلْعَالِي قَدْ يَخْتَصُّ بِمَا فَوْقَ الْعَرْشِ تَارَةً وَبِالْأَفْلَاكِ تَارَةً وَبِسَقْفِ الْبَيْتِ تَارَةً لِمَا يَقْتَرِنُ بِاللَّفْظِ وَالْمَادَّةُ الَّتِي يُخْلَقُ مِنْهَا الْمَطَرُ هِيَ الْهَوَاءُ الَّذِي فِي الْجَوِّ تَارَةً وَبِالْبُخَارِ الْمُتَصَاعِدِ مِنْ الْأَرْضِ تَارَةً وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَالْفَلَاسِفَةُ يُوَافِقُونَ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ " فَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّعْدِ قَالَ : مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ مَعَهُ مخاريق مِنْ نَارٍ يَسُوقُ بِهَا السَّحَابَ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ } . وَفِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ للخرائطي : عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّعْدِ فَقَالَ : " مَلَكٌ وَسُئِلَ عَنْ الْبَرْقِ فَقَالَ : مخاريق بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ - وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ - مخاريق مِنْ حَدِيدٍ بِيَدِهِ " . وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ كَذَلِكَ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَقْوَالٌ لَا تُخَالِفُ ذَلِكَ . كَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ اصْطِكَاكُ أَجْرَامِ السَّحَابِ بِسَبَبِ انْضِغَاطِ الْهَوَاءِ فِيهِ فَإِنَّ هَذَا لَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ فَإِنَّ الرَّعْدَ مَصْدَرُ رَعَدَ يَرْعَدُ رَعْدًا . وَكَذَلِكَ الرَّاعِدُ يُسَمَّى رَعْدًا . كَمَا يُسَمَّى الْعَادِلُ عَدْلًا . وَالْحَرَكَةُ تُوجِبُ الصَّوْتَ وَالْمَلَائِكَةُ هِيَ الَّتِي تُحَرِّكُ السَّحَابَ وَتَنْقُلُهُ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ وَكُلُّ حَرَكَةٍ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ فَهِيَ عَنْ الْمَلَائِكَةِ وَصَوْتُ الْإِنْسَانِ هُوَ عَنْ اصْطِكَاكِ أَجْرَامِهِ الَّذِي هُوَ شَفَتَاهُ وَلِسَانُهُ وَأَسْنَانُهُ

وَلَهَاتُهُ وَحَلْقُهُ . وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَكُونُ مُسَبِّحًا لِلرَّبِّ . وَآمِرًا بِمَعْرُوفِ وَنَاهِيًا عَنْ مُنْكَرٍ . فَالرَّعْدُ إذًا صَوْتٌ يَزْجُرُ السَّحَابَ وَكَذَلِكَ الْبَرْقُ قَدْ قِيلَ : لَمَعَانُ الْمَاءِ أَوْ لَمَعَانُ النَّارِ وَكَوْنُهُ لَمَعَانَ النَّارِ أَوْ الْمَاءِ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ اللَّامِعُ مِخْرَاقًا بِيَدِ الْمَلَكِ فَإِنَّ النَّارَ الَّتِي تَلْمَعُ بِيَدِ الْمَلَكِ كَالْمِخْرَاقِ مِثْلَ مُزْجِي الْمَطَرِ . وَالْمَلَكُ يُزْجِي السَّحَابَ كَمَا يُزْجِي السَّائِقُ لِلْمَطِيِّ .
وَالزَّلَازِلُ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ كَمَا يُخَوِّفُهُمْ بِالْكُسُوفِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْآيَاتِ وَالْحَوَادِثُ لَهَا أَسْبَابٌ وَحِكَمٌ فَكَوْنُهَا آيَةً يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ هِيَ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا أَسْبَابُهُ : فَمِنْ أَسْبَابِهِ انْضِغَاطُ الْبُخَارِ فِي جَوْفِ الْأَرْضِ كَمَا يَنْضَغِطُ الرِّيحُ وَالْمَاءُ فِي الْمَكَانِ الضَّيِّقِ فَإِذَا انْضَغَطَ طَلَبَ مَخْرَجًا فَيَشُقُّ وَيُزَلْزِلُ مَا قَرُبَ مِنْهُ مِنْ الْأَرْضِ . وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ : إنَّ الثَّوْرَ يُحَرِّكُ رَأْسَهُ فَيُحَرِّكُ الْأَرْضَ فَهَذَا جَهْلٌ وَإِنْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ وَبُطْلَانَهُ ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ الْأَرْضُ كُلُّهَا تُزَلْزَلُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

كِتَابُ الْجَنَائِزِ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ قَوْمٍ مُسْلِمِينَ مُجَاوِرِي النَّصَارَى : فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ إذَا مَرِضَ النَّصْرَانِيُّ أَنْ يَعُودَهُ ؟ وَإِذَا مَاتَ أَنْ يَتْبَعَ جِنَازَتَهُ ؟ وَهَلْ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وِزْرٌ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَا يَتْبَعُ جِنَازَتَهُ وَأَمَّا عِيَادَتُهُ فَلَا بَأْسَ بِهَا . فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِتَأْلِيفِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَإِذَا مَاتَ كَافِرًا فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ ؛ وَلِهَذَا لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ مَرَارَةِ مَا يُذْبَحُ وَغَيْرُهُ مِمَّا يَحِلُّ أَكْلُهُ أَوْ يَحْرُمُ هَلْ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِمَرَارَتِهِ ؟ أَمْ لَا ؟ .

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَ الْمَذْبُوحُ مِمَّا يُبَاحُ أَكْلُهُ جَازَ التَّدَاوِي بِمَرَارَتِهِ وَإِلَّا فَلَا .
وَسُئِلَ :
هَلْ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ ؟ .
فَأَجَابَ :
التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ حَرَامٌ بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى ذَلِكَ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ . ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ تُصْنَعُ لِلدَّوَاءِ فَقَالَ : إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ } وَفِي السُّنَنِ { عَنْهُ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ الدَّوَاءِ بِالْخَبِيثِ } . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا } وَفِي السُّنَنِ { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ضُفْدَعٍ تُجْعَلُ فِي دَوَاءٍ فَنَهَى عَنْ قَتْلِهَا وَقَالَ : إنَّ نَقِيقَهَا تَسْبِيحٌ } . وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ أَكْلِ الْمُضْطَرِّ لِلْمَيْتَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ قَطْعًا . وَلَيْسَ لَهُ عَنْهُ عِوَضٌ وَالْأَكْلُ مِنْهَا وَاجِبٌ فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ . وَهُنَا لَا يُعْلَمُ

حُصُولُ الشِّفَاءِ وَلَا يَتَعَيَّنُ هَذَا الدَّوَاءُ بَلْ اللَّهُ تَعَالَى يُعَافِي الْعَبْدَ بِأَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَالتَّدَاوِي لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَلَا يُقَاسُ هَذَا بِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْمُدَاوَاةِ بِالْخَمْرِ : وَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّهَا جَائِزَةٌ . فَمَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ } فَاَلَّذِي يَقُولُ تَجُوزُ لِلضَّرُورَةِ فَمَا حُجَّتُهُ وَقَالُوا إنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي قَالَ فِيهِ { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا } ضَعِيفٌ وَاَلَّذِي يَقُولُ بِجَوَازِ الْمُدَاوَاةِ بِهِ فَهُوَ خِلَافُ الْحَدِيثِ وَاَلَّذِي يَقُولُ ذَلِكَ مَا حُجَّتُهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ : كَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ تُصْنَعُ لِلدَّوَاءِ فَقَالَ : إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ } وَفِي سُنَن أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ } وَالْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا } وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ ابْنُ حِبَّانَ

فِي صَحِيحِهِ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَاَلَّذِينَ جَوَّزُوا التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ قَاسُوا ذَلِكَ عَلَى إبَاحَةِ الْمُحَرَّمَاتِ : كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ لِلْمُضْطَرِّ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ يَقِينًا بِتَنَاوُلِ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّهُ إذَا أَكَلَهَا سَدَّتْ رَمَقَهُ وَأَزَالَتْ ضَرُورَتَهُ وَأَمَّا الْخَبَائِثُ بَلْ وَغَيْرُهَا فَلَا يُتَيَقَّنُ حُصُولُ الشِّفَاءِ بِهَا فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَتَدَاوَى وَلَا يُشْفَى وَلِهَذَا أَبَاحُوا دَفْعَ الْغُصَّةِ بِالْخَمْرِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهَا وَتَعَيُّنِهَا لَهُ بِخِلَافِ شُرْبِهَا لِلْعَطَشِ فَقَدْ تَنَازَعُوا فِيهِ : فَإِنَّهُمْ قَالُوا : إنَّهَا لَا تَرْوِي . الثَّانِي : أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى إزَالَةِ ضَرُورَتِهِ إلَّا الْأَكْلُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ وَأَمَّا التَّدَاوِي فَلَا يَتَعَيَّنُ تَنَاوُلُ هَذَا الْخَبِيثِ طَرِيقًا لِشِفَائِهِ فَإِنَّ الْأَدْوِيَةَ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ وَقَدْ يَحْصُلُ الشِّفَاءُ بِغَيْرِ الْأَدْوِيَةِ كَالدُّعَاءِ وَالرُّقْيَةِ وَهُوَ أَعْظَمُ نَوْعَيْ الدَّوَاءِ . حَتَّى قَالَ بقراط : نِسْبَةُ طِبِّنَا إلَى طِبِّ أَرْبَابِ الْهَيَاكِلِ كَنِسْبَةِ طِبِّ الْعَجَائِزِ إلَى طِبِّنَا . وَقَدْ يَحْصُلُ الشِّفَاءُ بِغَيْرِ سَبَبٍ اخْتِيَارِيٍّ بَلْ بِمَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي الْجِسْمِ مِنْ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .

الثَّالِثُ : أَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا قَالَ مَسْرُوقٌ : مَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ . وَأَمَّا التَّدَاوِي فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ . وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بَلْ قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : أَيُّمَا أَفْضَلُ : التَّدَاوِي ؟ أَمْ الصَّبْرُ ؟ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ { الْجَارِيَةِ الَّتِي كَانَتْ تُصْرَعُ وَسَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهَا فَقَالَ : إنْ أَحْبَبْت أَنْ تَصْبِرِي وَلَك الْجَنَّةُ وَإِنْ أَحْبَبْت دَعَوْت اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَك فَقَالَتْ : بَلْ أَصْبِرُ وَلَكِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي أَلَّا أَتَكَشَّفَ فَدَعَا لَهَا أَلَّا تَتَكَشَّفَ } وَلِأَنَّ خَلْقًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَمْ يَكُونُوا يَتَدَاوَوْنَ بَلْ فِيهِمْ مَنْ اخْتَارَ الْمَرَضَ . كأبي بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي ذَرٍّ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمْ تَرْكُ التَّدَاوِي . وَإِذَا كَانَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَاجِبًا وَالتَّدَاوِي لَيْسَ بِوَاجِبِ لَمْ يَجُزْ قِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَإِنَّ مَا كَانَ وَاجِبًا قَدْ يُبَاحُ فِيهِ مَا يُبَاحُ فِي غَيْرِ الْوَاجِبِ ؛ لِكَوْنِ مَصْلَحَةِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ تَغْمُرُ مَفْسَدَةَ الْمُحَرَّمِ وَالشَّارِعُ يَعْتَبِرُ الْمَفَاسِدَ وَالْمَصَالِحَ فَإِذَا اجْتَمَعَا قَدَّمَ الْمَصْلَحَةَ الرَّاجِحَةَ عَلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ ؛ وَلِهَذَا أَبَاحَ فِي الْجِهَادِ الْوَاجِبِ مَا لَمْ يُبِحْهُ فِي غَيْرِهِ حَتَّى أَبَاحَ رَمْيَ الْعَدُوِّ بِالْمَنْجَنِيقِ وَإِنْ أَفْضَى ذَلِكَ إلَى قَتْلِ

النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَتَعَمُّدُ ذَلِكَ يَحْرُمُ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ وُصِفَ لَهُ شَحْمُ الْخِنْزِيرِ لِمَرَضٍ بِهِ : هَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا التَّدَاوِي بِأَكْلِ شَحْمِ الْخِنْزِيرِ فَلَا يَجُوزُ . وَأَمَّا التَّدَاوِي بِالتَّلَطُّخِ بِهِ ثُمَّ يَغْسِلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى جَوَازِ مُبَاشَرَةِ النَّجَاسَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ، وَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ . كَمَا يَجُوزُ اسْتِنْجَاءُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِيَدِهِ . وَمَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ جَازَ التَّدَاوِي بِهِ . كَمَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِلُبْسِ الْحَرِيرِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ كَالْمَطَاعِمِ الْخَبِيثَةِ فَلَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا . كَمَا لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِشُرْبِ الْخَمْرِ لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِشُحُومِ الْمَيْتَةِ فِي طَلْيِ السُّفُنِ وَدَهْنِ الْجُلُودِ

وَالِاسْتِصْبَاحِ بِهِ وَأَقَرَّهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ . وَإِنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْ ثَمَنِهِ . وَلِهَذَا رَخَّصَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِطَهَارَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي الْيَابِسَاتِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَفِي الْمَائِعَاتِ الَّتِي لَا تُنَجِّسُهَا .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَتَدَاوَى بِالْخَمْرِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ : هَلْ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ هَذِهِ الْآيَةُ : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ } فِي إبَاحَةِ مَا ذُكِرَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِذَلِكَ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ يُتَدَاوَى بِهَا فَقَالَ : إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ } وَفِي السُّنَنِ { عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الدَّوَاءِ بِالْخَبِيثِ وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا } . وَلَيْسَ ذَلِكَ بِضَرُورَةِ فَإِنَّهُ لَا يُتَيَقَّنُ الشِّفَاءُ بِهَا كَمَا يُتَيَقَّنُ الشِّبَعُ بِاللَّحْمِ الْمُحَرَّمِ ؛ وَلِأَنَّ الشِّفَاءَ لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ طَرِيقٌ بَلْ يَحْصُلُ بِأَنْوَاعِ

مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمَخْمَصَةِ فَإِنَّهَا لَا تَزُولُ إلَّا بِالْأَكْلِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْمَرِيضِ إذَا قَالَتْ لَهُ الْأَطِبَّاءُ : مَا لَك دَوَاءٌ غَيْرَ أَكْلِ لَحْمِ الْكَلْبِ أَوْ الْخِنْزِيرِ . فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهُ مَعَ قَوْله تَعَالَى { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا } ؟ وَإِذَا وَصَفَ لَهُ الْخَمْرَ أَوْ النَّبِيذَ : هَلْ يَجُوزُ شُرْبُهُ مَعَ هَذِهِ النُّصُوصِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْخَبَائِثِ لِمَا رَوَاهُ وَائِلُ بْنُ حجر { أَنَّ طَارِقَ بْنَ سويد الجعفي . سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ عَنْهَا فَقَالَ : إنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ فَقَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءِ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ : قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّوَاءَ وَأَنْزَلَ الدَّاءَ وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا وَلَا تَتَدَاوَوْا بِحَرَامِ } . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الدَّوَاءِ بِالْخَبِيثِ } وَفِي لَفْظٍ يَعْنِي السُّمَّ رَوَاهُ

أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِي . وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ : { ذَكَرَ طَبِيبٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَوَاءً وَذَكَرَ الضُّفْدَعَ تُجْعَلُ فِيهِ فَنَهَى رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهِ عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ } رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي السُّكْرِ : " إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ " ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ . وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَأَمْثَالُهَا صَرِيحَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ التَّدَاوِي بِالْخَبَائِثِ مُصَرِّحَةٌ بِتَحْرِيمِ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ إذْ هِيَ أُمُّ الْخَبَائِثِ وَجِمَاعُ كُلِّ إثْمٍ . وَالْخَمْرُ اسْمٌ لِكُلِّ مُسْكِرٍ كَمَا ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } وَفِي رِوَايَةٍ { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي شَرَابَيْنِ كُنَّا نَصْنَعُهُمَا بِالْيَمَنِ : الْبِتْعِ وَهُوَ مِنْ الْعَسَلِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ وَالْمِزْرِ : وَهُوَ مِنْ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ ؟ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِتْعِ . وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ - وَكَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ فَقَالَ : كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ } وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِي وَغَيْرُهُمَا : عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ حُبْشَانَ مِنْ الْيَمَنِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَرَابٍ يَشْرَبُونَهُ بِأَرْضِهِمْ مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ : الْمِزْرُ فَقَالَ : أَمُسْكِرٌ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ إنَّ عَلَى اللَّهِ عَهْدًا لِمَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ } الْحَدِيثَ . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُسْتَفِيضَةُ صَرِيحَةٌ بِأَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَأَنَّهُ خَمْرٌ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ وَلَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا قَوْلُ الْأَطِبَّاءِ : إنَّهُ لَا يَبْرَأُ مِنْ هَذَا الْمَرَضِ إلَّا بِهَذَا الدَّوَاءِ الْمُعَيَّنِ . فَهَذَا قَوْلُ جَاهِلٍ لَا يَقُولُهُ مَنْ يَعْلَمُ الطِّبَّ أَصْلًا فَضْلًا عَمَّنْ يَعْرِفُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الشِّفَاءَ لَيْسَ فِي سَبَبٍ مُعَيَّنٍ يُوجِبُهُ فِي الْعَادَةِ كَمَا لِلشِّبَعِ سَبَبٌ مُعَيَّنٌ يُوجِبُهُ فِي الْعَادَةِ إذْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْفِيهِ اللَّهُ بِلَا دَوَاءٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْفِيهِ اللَّهُ بِالْأَدْوِيَةِ الْجُثْمَانِيَّةِ حَلَالِهَا وَحَرَامِهَا وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فَلَا يَحْصُلُ الشِّفَاءُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَكْلِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلشِّبَعِ ؛ وَلِهَذَا أَبَاحَ اللَّهُ لِلْمُضْطَرِّ الْخَبَائِثَ أَنْ يَأْكُلَهَا عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إلَيْهَا فِي الْمَخْمَصَةِ فَإِنَّ الْجُوعَ يَزُولُ بِهَا وَلَا يَزُولُ بِغَيْرِهَا بَلْ يَمُوتُ أَوْ يَمْرَضُ مِنْ الْجُوعِ فَلَمَّا تَعَيَّنَتْ طَرِيقًا

إلَى الْمَقْصُودِ أَبَاحَهَا اللَّهُ بِخِلَافِ الْأَدْوِيَةِ الْخَبِيثَةِ . بَلْ قَدْ قِيلَ : مَنْ اسْتَشْفَى بِالْأَدْوِيَةِ الْخَبِيثَةِ كَانَ دَلِيلًا عَلَى مَرَضٍ فِي قَلْبِهِ وَذَلِكَ فِي إيمَانِهِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ الْمُؤْمِنِينَ لَمَا جَعَلَ اللَّهُ شِفَاءَهُ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ وَلِهَذَا إذَا اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَكْلُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَمَّا التَّدَاوِي فَلَا يَجِبُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ بِالْحَلَالِ وَتَنَازَعُوا : هَلْ الْأَفْضَلُ فِعْلُهُ ؟ أَوْ تَرْكُهُ عَلَى طَرِيقِ التَّوَكُّلِ ؟ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَغَيْرَهَا لَمْ يُبِحْ ذَلِكَ إلَّا لِمَنْ اُضْطُرَّ إلَيْهَا غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ وَفِي آيَةٍ أُخْرَى : { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُتَدَاوِيَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَيْهَا فَعُلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ . وَأَمَّا مَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ لَا لِمُجَرَّدِ الضَّرُورَةِ : كَلِبَاسِ الْحَرِيرِ ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا } وَهَذَا جَائِزٌ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّ لُبْسَ الْحَرِيرِ إنَّمَا حُرِّمَ عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ ، وَلِهَذَا أُبِيحَ لِلنِّسَاءِ لِحَاجَتِهِنَّ إلَى التَّزَيُّنِ بِهِ وَأُبِيحَ لَهُنَّ التَّسَتُّرُ بِهِ مُطْلَقًا فَالْحَاجَةُ إلَى التَّدَاوِي بِهِ كَذَلِكَ بَلْ أَوْلَى وَهَذِهِ حُرِّمَتْ لِمَا فِيهَا مِنْ

السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ لُبْسُهَا لِلْبَرْدِ : أَوْ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَسْتَتِرُ بِهِ غَيْرُهَا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ الشَّرْعُ الْمُطَهَّرُ يُنْكِرُ مَا تَفْعَلُهُ الشَّيَاطِينُ الجانة مِنْ مَسِّهَا وتخبيطها وَجَوَلَانِ بَوَارِقِهَا عَلَى بَنِي آدَمَ وَاعْتِرَاضِهَا ؟ فَهَلْ لِذَلِكَ مُعَالَجَةٌ بِالْمُخَرَّقَاتِ وَالْأَحْرَازِ وَالْعَزَائِمِ وَالْأَقْسَامِ وَالرُّقَى وَالتَّعَوُّذَاتِ وَالتَّمَائِمِ ؟ وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ : لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ الْجِنَّ يَرْجِعُونَ إلَى الْحَقَائِقِ عِنْدَ عَامِرَةِ الْأَجْسَادِ بِالْبَوَارِ وَأَنَّ هَذِهِ الْخَوَاتِمَ الْمُتَّخَذَةَ مَعَ كُلِّ إنْسَانٍ مِنْ سُرْيَانِيٍّ وَعِبْرَانِيٍّ وَعَجَمِيٍّ وَعَرَبِيٍّ لَيْسَ لَهَا بُرْهَانٌ وَأَنَّهَا مِنْ مُخْتَلَقِ الْأَقَاوِيلِ وَخُرَافَاتِ الْأَبَاطِيلِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ الْقُوَّةِ وَلَا مِنْ الْقَبْضِ بِحَيْثُ يَفْعَلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مُتَوَلِّي هَذَا الشَّأْنِ عَلَى مَمَرِّ الدُّهُورِ وَالْأَوْقَاتِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، وُجُودُ الْجِنِّ ثَابِتٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا . وَكَذَلِكَ دُخُولُ الْجِنِّيِّ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } وَفِي

الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ } . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ قُلْت لِأَبِي : إنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ : إنَّ الْجِنِّيَّ لَا يَدْخُلُ فِي بَدَنِ الْمَصْرُوعِ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ يَكْذِبُونَ هَذَا يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِهِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَمْرٌ مَشْهُورٌ فَإِنَّهُ يَصْرَعُ الرَّجُلَ فَيَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ لَا يَعْرِف مَعْنَاهُ وَيُضْرَبُ عَلَى بَدَنِهِ ضَرْبًا عَظِيمًا لَوْ ضُرِبَ بِهِ جَمَلٌ لَأَثَّرَ بِهِ أَثَرًا عَظِيمًا . وَالْمَصْرُوعُ مَعَ هَذَا لَا يُحِسُّ بِالضَّرْبِ وَلَا بِالْكَلَامِ الَّذِي يَقُولُهُ وَقَدْ يَجُرُّ الْمَصْرُوعَ وَغَيْرَ الْمَصْرُوعِ وَيَجُرُّ الْبِسَاطَ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ وَيُحَوِّلُ آلَاتٍ وَيَنْقُلُ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ وَيُجْرِي غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ مَنْ شَاهَدَهَا أَفَادَتْهُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِأَنَّ النَّاطِقَ عَلَى لِسَانِ الْإِنْسِيِّ وَالْمُحَرِّكَ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ الْإِنْسَانِ . وَلَيْسَ فِي أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُنْكِرُ دُخُولَ الْجِنِّيِّ فِي بَدَنِ الْمَصْرُوعِ وَغَيْرِهِ وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَادَّعَى أَنَّ الشَّرْعَ يُكَذِّبُ ذَلِكَ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى الشَّرْعِ وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَنْفِي ذَلِكَ .
وَأَمَّا مُعَالَجَةُ الْمَصْرُوعِ بِالرُّقَى وَالتَّعَوُّذَاتِ فَهَذَا عَلَى

وَجْهَيْنِ : فَإِنْ كَانَتْ الرُّقَى وَالتَّعَاوِيذُ مِمَّا يُعْرَفُ مَعْنَاهَا وَمِمَّا يَجُوزُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا الرَّجُلُ دَاعِيًا اللَّهَ ذَاكِرًا لَهُ وَمُخَاطِبًا لِخَلْقِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرْقَى بِهَا الْمَصْرُوعُ وَيُعَوَّذَ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أَذِنَ فِي الرُّقَى مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكًا } . { وَقَالَ : مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ } . وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ كَلِمَاتٌ مُحَرَّمَةٌ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا شِرْكٌ أَوْ كَانَتْ مَجْهُولَةَ الْمَعْنَى يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا كُفْرٌ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْقِيَ بِهَا وَلَا يُعَزِّمَ وَلَا يُقْسِمَ وَإِنْ كَانَ الْجِنِّيُّ قَدْ يَنْصَرِفُ عَنْ الْمَصْرُوعِ بِهَا فَإِنَّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ضَرَرُهُ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ كَالسِّيمَيا وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ فَإِنَّ السَّاحِرَ السيماوي وَإِنْ كَانَ يَنَالُ بِذَلِكَ بَعْضَ أَغْرَاضِهِ كَمَا يَنَالُ السَّارِقُ بِالسَّرِقَةِ بَعْضَ أَغْرَاضِهِ وَكَمَا يَنَالُ الْكَاذِبُ بِكَذِبِهِ وَبِالْخِيَانَةِ بَعْضَ أَغْرَاضِهِ وَكَمَا يَنَالُ الْمُشْرِكُ بِشِرْكِهِ وَكُفْرِهِ بَعْضَ أَغْرَاضِهِ وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ نَالُوا بَعْضَ أَغْرَاضِهِمْ بِهَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّهَا تَعْقُبُهُمْ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِمَّا حَصَّلُوهُ مِنْ أَغْرَاضِهِمْ . فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ الرُّسُلَ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا فَكُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَمَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةٌ عَلَى مَفْسَدَتِهِ وَمَنْفَعَتُهُ رَاجِحَةٌ عَلَى الْمَضَرَّةِ . وَإِنْ كَرِهَتْهُ النُّفُوسُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ

لَكُمْ } الْآيَةَ . فَأَمَرَ بِالْجِهَادِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِلنُّفُوسِ لَكِنَّ مَصْلَحَتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ رَاجِحَةٌ عَلَى مَا يَحْصُلُ لِلنُّفُوسِ مِنْ أَلَمِهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَشْرَبُ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ لِتَحْصُلَ لَهُ الْعَافِيَةُ فَإِنَّ مَصْلَحَةَ حُصُولِ الْعَافِيَةِ لَهُ رَاجِحَةٌ عَلَى أَلَمِ شُرْبِ الدَّوَاءِ . وَكَذَلِكَ التَّاجِرُ الَّذِي يَتَغَرَّبُ عَنْ وَطَنِهِ وَيَسْهَرُ وَيَخَافُ وَيَتَحَمَّلُ هَذِهِ الْمَكْرُوهَاتِ مَصْلَحَةُ الرِّبْحِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ رَاجِحَةٌ عَلَى هَذِهِ الْمَكَارِهِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ السَّاحِرِ : { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَعْلَمُونَ أَنَّ السَّاحِرَ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ . وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ بَعْضَ أَغْرَاضِهِمْ فِي الدُّنْيَا { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } آمَنُوا وَاتَّقَوْا بِفِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ لَكَانَ مَا يَأْتِيهِمْ بِهِ عَلَى ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا يَحْصُلُ لَهُمْ بِالسِّحْرِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } . وَقَالَ : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } . وَقَالَ : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً }

الْآيَتَيْنِ . وَقَالَ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } { أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا } . وَالْأَحَادِيثُ فِيمَا يُثِيبُ اللَّهُ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَدْفَعَ كُلَّ ضَرَرٍ بِمَا شَاءَ وَلَا يَجْلِبُ كُلَّ نَفْعٍ بِمَا شَاءَ بَلْ لَا يَجْلِبُ النَّفْعَ إلَّا بِمَا فِيهِ تَقْوَى اللَّهِ وَلَا يَدْفَعُ الضَّرَرَ إلَّا بِمَا فِيهِ تَقْوَى اللَّهِ فَإِنْ كَانَ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْعَزَائِمِ وَالْأَقْسَامِ وَالدُّعَاءِ وَالْخَلْوَةِ وَالسَّهَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ لَمْ يَفْعَلْهُ . فَمَنْ كَذَّبَ بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ مِنْ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَالسِّحْرِ وَمَا يَأْتُونَ بِهِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ - كَدُعَاءِ الْكَوَاكِبِ وَتَخْرِيجِ الْقُوَى الْفَعَّالَةِ السَّمَاوِيَّةِ بِالْقُوَى الْمُنْفَعِلَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَمَا يَنْزِلُ مِنْ الشَّيَاطِينِ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ فَالشَّيَاطِينُ الَّتِي تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ وَيُسَمُّونَهَا رُوحَانِيَّةَ الْكَوَاكِبِ - وَأَنْكَرُوا دُخُولَ الْجِنِّ فِي أَبْدَانِ الْإِنْسِ وَحُضُورَهَا بِمَا يَسْتَحْضِرُونَ بِهِ مِنْ الْعَزَائِمِ وَالْأَقْسَامِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فَقَدْ كَذَّبَ بِمَا لَمْ يُحِطْ بِهِ عِلْمًا . وَمَنْ جَوَّزَ أَنْ يَفْعَلَ الْإِنْسَانُ بِمَا رَآهُ مُؤَثِّرًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِنَ ذَلِكَ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ - فَيَفْعَلُ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ وَيَتْرُكُ

مَا حَرَّمَ اللَّهُ - وَقَدْ دَخَلَ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إمَّا مِنْ الْكُفْرِ وَإِمَّا مِنْ الْفُسُوقِ وَإِمَّا الْعِصْيَانِ بَلْ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَيَتْرُكَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ . وَمِمَّا شَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ التَّعَوُّذِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ . وَلَمْ يَقْرَبْهُ شَيْطَانٌ حَتَّى يُصْبِحَ } وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ : { أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ } . { وَلَمَّا جَاءَتْهُ الشَّيَاطِينُ بِلَهَبٍ مِنْ نَارٍ أَمَرَ بِهَذَا التَّعَوُّذِ : أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمِنْ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ } . فَقَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْ الْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ الَّتِي يَقُولُهَا الْعَبْدُ إذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى وَإِذَا نَامَ وَإِذَا خَافَ شَيْئًا وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ مَا فِيهِ بَلَاغٌ . فَمَنْ سَلَكَ مِثْلَ هَذِهِ السَّبِيلِ فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَمَنْ دَخَلَ فِي سَبِيلِ أَهْلِ الْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ الدَّاخِلَةِ فِي الشِّرْكِ وَالسِّحْرِ فَقَدْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَبِذَلِكَ ذَمَّ

اللَّهُ مَنْ ذَمَّهُ مِنْ مُبَدِّلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ . حَيْثُ قَالَ : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى } - إلَى قَوْلِهِ - { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا كَوْنُهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ كَيْفِيَّةُ الْجِنِّ وَمَقَالَتُهُمْ بِعَدَمِ عِلْمِهِ لَمْ يُنْكَرْ وُجُودُهُمْ إذْ وُجُودُهُمْ ثَابِتٌ بِطُرُقٍ كَثِيرَةٍ غَيْرِ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ رَآهُمْ وَفِيهِمْ مَنْ رَأَى مَنْ رَآهُمْ وَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِالْخَبَرِ وَالْيَقِينِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ كَلَّمَهُمْ وَكَلَّمُوهُ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ وَيَتَصَرَّفُ فِيهِمْ . وَهَذَا يَكُونُ لِصَالِحِينَ وَغَيْرِ صَالِحِينَ . وَلَوْ ذَكَرْت مَا جَرَى لِي وَلِأَصْحَابِي مَعَهُمْ لَطَالَ الْخِطَابُ وَكَذَلِكَ

مَا جَرَى لِغَيْرِنَا لَكِنَّ الِاعْتِمَادَ فِي الْأَجْوِبَةِ الْعِلْمِيَّةِ عَلَى مَا يَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي عِلْمِهِ لَا يَكُونُ بِمَا يَخْتَصُّ بِعِلْمِهِ الْمُجِيبُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ لِمَنْ يُصَدِّقُهُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَقُولُ : يَا أَزِرَّانِ : يَا كِيَان هَلْ صَحَّ أَنَّ هَذِهِ أَسْمَاءٌ وَرَدَتْ بِهَا السُّنَّةُ لَمْ يَحْرُمْ قَوْلُهَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَمْ يَنْقُلْ هَذِهِ عَنْ الصَّحَابَةِ أَحَدٌ لَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَا بِإِسْنَادِ ضَعِيفٍ وَلَا سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا أَئِمَّتِهَا . وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ لَا مَعْنَى لَهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ؛ فَكُلُّ اسْمٍ مَجْهُولٍ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْقِيَ بِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ وَلَوْ عَرَفَ مَعْنَاهَا وَأَنَّهُ صَحِيحٌ لَكُرِهَ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ بِغَيْرِ الْأَسْمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ أُصِيبَ بِمَرَضِ فَإِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ اسْتَغَاثَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَيَبْكِي . فَهَلْ تَكُونُ اسْتِغَاثَتُهُ مِمَّا يُنَافِي الصَّبْرَ الْمَأْمُورَ بِهِ ؟ أَوْ هُوَ

تَضَرُّعٌ وَالْتِجَاءٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
دُعَاؤُهُ اللَّهَ وَاسْتِغَاثَتُهُ بِهِ وَاشْتِكَاؤُهُ إلَيْهِ لَا يُنَافِي الصَّبْرَ الْمَأْمُورَ بِهِ . وَإِنَّمَا يُنَافِيهِ فِي ذَلِكَ الِاشْتِكَاءُ إلَى الْمَخْلُوقِ . وَلَقَدْ قَالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } وَقَالَ : { إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ . } وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَاوُوسٍ : أَنَّهُ كَرِهَ أَنِينَ الْمَرِيضِ . وَقَالَ : إنَّهُ شَكْوَى وَقُرِئَ ذَلِكَ عَلَى أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَمَا أَنَّ حَتَّى مَاتَ . وَيُرْوَى عَنْ السُّرِّيِّ السقطي أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَ الْمَرِيضِ : آهْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَهَذَا إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ وَهَذَا كَمَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ : { إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ } ثُمَّ بَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ مِنْ آخِرِ الصُّفُوفِ فَالْأَنِينُ وَالْبُكَاءُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَالتَّضَرُّعُ وَالشِّكَايَةُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَسَنٌ وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ فَيُكْرَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ مُبْتَلًى سَكَنَ فِي دَارٍ بَيْنَ قَوْمٍ أَصِحَّاءَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يُمْكِنُنَا مُجَاوَرَتُك وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُجَاوِرَ الْأَصِحَّاءَ فَهَلْ يَجُوزُ إخْرَاجُهُ ؟ .

فَأَجَابَ : نَعَمْ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ السَّكَنِ بَيْنَ الْأَصِحَّاءِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يُورَدُ مُمَرَّضٌ عَلَى مُصِحٍّ } فَنَهَى صَاحِبَ الْإِبِلِ الْمِرَاضِ أَنْ يُورِدَهَا عَلَى صَاحِبِ الْإِبِلِ الصِّحَاحِ مَعَ قَوْلِهِ : { لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ } . وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ مَجْذُومٌ لِيُبَايِعَهُ أَرْسَلَ إلَيْهِ بِالْبَيْعَةِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي دُخُولِ الْمَدِينَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ الَّذِي كَانَ لَا يُصَلِّي هَلْ لِأَحَدٍ فِيهَا أَجْرٌ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ عَلَيْهِ إثْمٌ إذَا تَرَكَهَا مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي ؟ وَكَذَلِكَ الَّذِي يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَمَا كَانَ يُصَلِّي هَلْ يَجُوزُ لِمَنْ كَانَ يَعْلَمُ حَالَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا مَنْ كَانَ مُظْهِرًا لِلْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةُ : مِنْ الْمُنَاكَحَةِ والموارثة وَتَغْسِيلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ مَنْ عُلِمَ مِنْهُ النِّفَاقُ وَالزَّنْدَقَةُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مُظْهِرًا لِلْإِسْلَامِ فَإِنَّ اللَّهَ نَهَى نَبِيَّهُ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ . فَقَالَ : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ

وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } وَقَالَ : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } . وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُظْهِرًا لِلْفِسْقِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ كَأَهْلِ الْكَبَائِرِ فَهَؤُلَاءِ لَا بُدَّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى أَحَدِهِمْ زَجْرًا لِأَمْثَالِهِ عَنْ مِثْلِ مَا فَعَلَهُ كَمَا امْتَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ وَعَلَى الْغَالِّ وَعَلَى الْمَدِينِ الَّذِي لَا وَفَاءَ لَهُ وَكَمَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ يَمْتَنِعُونَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ - كَانَ عَمَلُهُ بِهَذِهِ السُّنَّةِ حَسَنًا . ( وَقَدْ قَالَ لِجُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ البجلي ابْنُهُ : إنِّي لَمْ أَنَمْ الْبَارِحَةَ بَشَمًا فَقَالَ : أَمَا إنَّك لَوْ مُتّ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْك ) (*) . كَأَنَّهُ يَقُولُ : قَتَلْت نَفْسَك بِكَثْرَةِ الْأَكْلِ . وَهَذَا مِنْ جِنْسِ هَجْرِ الْمُظْهِرِينَ لِلْكَبَائِرِ حَتَّى يَتُوبُوا فَإِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِثْلُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا وَمَنْ صَلَّى عَلَى أَحَدِهِمْ يَرْجُو لَهُ رَحْمَةَ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي امْتِنَاعِهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا وَلَوْ امْتَنَعَ فِي الظَّاهِرِ وَدَعَا لَهُ فِي الْبَاطِنِ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ كَانَ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَتَيْنِ أَوْلَى مِنْ تَفْوِيتِ إحْدَاهُمَا . وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ النِّفَاقُ وَهُوَ مُسْلِمٌ يَجُوزُ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ بَلْ يُشْرَعُ ذَلِكَ وَيُؤْمَرُ بِهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وَكُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْكَبَائِرَ فَإِنَّهُ تَسُوغُ عُقُوبَتُهُ بِالْهَجْرِ

وَغَيْرِهِ حَتَّى مِمَّنْ فِي هَجْرِهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ رَاجِحَةٌ فَتَحْصُلُ الْمَصَالِحُ الشَّرْعِيَّةُ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ يُصَلِّي وَقْتًا وَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ كَثِيرًا أَوْ لَا يُصَلِّي هَلْ يُصَلَّى عَلَيْهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
مِثْلُ هَذَا مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ بَلْ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ النِّفَاقَ يُصَلِّي الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ وَيُغَسَّلُونَ وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ . كَمَا كَانَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِنْ كَانَ عَلِمَ نِفَاقَ شَخْصٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ كَمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ عُلِمَ نِفَاقُهُ . وَأَمَّا مَنْ شَكَّ فِي حَالِهِ فَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ ظَاهِرَ الْإِسْلَامِ . كَمَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ نِفَاقُهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ لَا يَجُوزُ النَّهْيُ

عَنْهُ وَلَكِنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُنَافِقِ لَا تَنْفَعُهُ . كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَلْبَسَ ابْنَ أبي قَمِيصَهُ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ قَمِيصِي مِنْ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } . وَتَارِكُ الصَّلَاةِ أَحْيَانًا وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْمُتَظَاهِرِينَ بِالْفِسْقِ فَأَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ إذَا كَانَ فِي هَجْرِ هَذَا وَتَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِحَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ بَاعِثًا لَهُمْ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَيْهِ هَجَرُوهُ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ كَمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ وَالْغَالِّ وَالْمَدِينِ الَّذِي لَا وَفَاءَ لَهُ وَهَذَا شَرٌّ مِنْهُمْ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ امْتَنَعَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَتَّى يُخْلِفَ وَفَاءً قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ وَفَاءِ الدَّيْنِ عَنْهُ فَلَمَّا تَمَكَّنَ صَارَ هُوَ يُوَفِّيهِ مِنْ عِنْدِهِ فَصَارَ الْمَدِينُ يُخْلِفُ وَفَاءً .

هَذَا مَعَ قَوْلِهِ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو مُوسَى عَنْهُ : { إنَّ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَلْقَاهُ عَبْدٌ بِهَا بَعْدَ الْكَبَائِرِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا أَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَدَعُ قَضَاءً } رَوَاهُ أَحْمَد . فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ تَرْكَ الدَّيْنِ بَعْدَ الْكَبَائِرِ . فَإِذَا كَانَ قَدْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَدِينِ الَّذِي لَا قَضَاءَ لَهُ فَعَلَى فَاعِلِ الْكَبَائِرِ أَوْلَى وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ قَاتِلُ نَفْسِهِ وَالْغَالُّ : لَمَّا لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمَا . وَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِذَوِي الْفَضْلِ تَرْكُ الصَّلَاةِ عَلَى ذَوِي الْكَبَائِرِ الظَّاهِرَةِ وَالدُّعَاةِ إلَى الْبِدَعِ وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ جَائِزَةً فِي الْجُمْلَةِ . فَأَمَّا قَوْلُهُ : { الشَّهِيدُ يُغْفَرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الدَّيْنُ } فَأَرَادَ بِهِ أَنَّ صَاحِبَهُ يُوَفَّاهُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ مَمْلُوكٌ هَرَبَ ثُمَّ رَجَعَ . فَلَمَّا رَجَعَ أَخَذَ سِكِّينَتَهُ وَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهَلْ يَأْثَمُ سَيِّدُهُ ؟ وَهَلْ تَجُوزُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ . وَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ قَدْ ظَلَمَهُ وَاعْتَدَى عَلَيْهِ بَلْ كَانَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ رَفْعُ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ

أَنْ يَصْبِرَ إلَى أَنْ يُفَرِّجَ اللَّهُ . فَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ ظَلَمَهُ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُقَتِّرَ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ أَوْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَوْ يَضْرِبَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ يُرِيدَ بِهِ فَاحِشَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَإِنَّ عَلَى سَيِّدِهِ مِنْ الْوِزْرِ بِقَدْرِ مَا نُسِبَ إلَيْهِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ . { وَلَمْ يُصَلِّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ . فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : صَلُّوا عَلَيْهِ } فَيَجُوزُ لِعُمُومِ النَّاسِ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ . وَأَمَّا أَئِمَّةُ الدِّينِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ ، فَإِذَا تَرَكُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ زَجْرًا لِغَيْرِهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا حَقٌّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ يَدَّعِي الْمَشْيَخَةَ : فَرَأَى ثُعْبَانًا فَقَامَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ لِيَقْتُلَهُ فَمَنَعَهُ عَنْهُ وَأَمْسَكَهُ بِيَدِهِ عَلَى مَعْنَى الْكَرَامَةِ لَهُ فَلَدَغَهُ الثُّعْبَانُ فَمَاتَ ، فَهَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَنْ يَتْرُكُوا الصَّلَاةَ عَلَى هَذَا وَنَحْوِهِ وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي عَلَيْهِ عُمُومُ النَّاسِ كَمَا { امْتَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ وَعَلَى

الْغَالِّ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَقَالَ : صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ } . وَقَالُوا لسمرة بْنِ جُنْدُبٍ : إنَّ ابْنَك الْبَارِحَةَ لَمْ يَبِتْ فَقَالَ : بَشَمًا ؟ قَالُوا : نَعَمْ قَالَ : أَمَا إنَّهُ لَوْ مَاتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ ، فَبَيَّنَ سَمُرَةُ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ بَشَمًا لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَاتِلًا لِنَفْسِهِ بِكَثْرَةِ الْأَكْلِ . فَهَذَا الَّذِي مَنَعَ مِنْ قَتْلِ الْحَيَّةِ وَأَمْسَكَهَا بِيَدِهِ حَتَّى قَتَلَتْهُ أَوْلَى أَنْ يَتْرُكَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَاتِلُ نَفْسِهِ بَلْ لَوْ فَعَلَ هَذَا غَيْرُهُ بِهِ لَوَجَبَ الْقَوَدُ عَلَيْهِ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ ظَنَّ أَنَّهَا لَا تَقْتُلُ فَهَذَا شَبِيهُ عَمَلِهِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي أَكَلَ حَتَّى بَشَمَ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَ نَفْسِهِ فَمَنْ جَنَى جِنَايَةً لَا تَقْتُلُ غَالِبًا كَانَ شِبْهَ عَمْدٍ وَإِمْسَاكُ الْحَيَّاتِ مِنْ نَوْعِ الْجِنَايَاتِ فَإِنَّهُ فِعْلٌ غَيْرُ مُبَاحٍ . وَهَذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَذَا الْفِعْلِ إلَّا إظْهَارَ خَارِقِ الْعَادَةِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يَمْنَعُ انْخِرَاقَ الْعَادَةِ . كَيْفَ وَغَالِبُ هَؤُلَاءِ كَذَّابُونَ مُلْبِسُونَ خَارِجُونَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَهْيِهِ يُخْرِجُونَ النَّاسَ عَنْ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ إلَى طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَيُفْسِدُونَ عَقْلَ النَّاسِ وَدِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ فَيَجْعَلُونَ الْعَاقِلَ مُولَهًا كَالْمَجْنُونِ أَوْ مُتَوَلِّهًا بِمَنْزِلَةِ الشَّيْطَانِ الْمَفْتُونِ وَيُخْرِجُونَ الْإِنْسَانَ عَنْ الشَّرِيعَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بِدَعٍ مُضَادَّةٍ لَهَا فَيَفْتِلُونَ الشُّعُورَ

وَيَكْشِفُونَ الرُّؤُوسَ بَدَلًا عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَرْجِيلِ الشِّعْرِ وَتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ بَدَلًا عَنْ سُنَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ وَيُصَلُّونَ صَلَاةً نَاقِصَةَ الْأَرْكَانِ وَالْوَاجِبَاتِ وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى بِدَعِهِمْ الْمُنْكَرَةِ عَلَى أَتَمِّ الْحَالَاتِ وَيَصْنَعُونَ اللَّاذَنَ وَمَاءَ الْوَرْدِ وَالزَّعْفَرَانَ لِإِمْسَاكِ الْحَيَّاتِ وَدُخُولِ النَّارِ بِأَنْوَاعٍ مِنْ الْحِيَلِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ بَدَلًا عَمَّا جَعَلَهُ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ مِنْ الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَيُفْسِدُونَ مَنْ يُفْسِدُونَهُ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ بَدَلًا عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْعِفَّةِ وَغَضِّ الْبَصَرِ ، وَحِفْظِ الْفَرْجِ وَكَفِّ اللِّسَانِ . وَمَنْ كَانَ مُبْتَدِعًا ظَاهِرَ الْبِدْعَةِ وَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَمِنْ الْإِنْكَارِ الْمَشْرُوعِ أَنْ يُهْجَرَ حَتَّى يَتُوبَ وَمِنْ الْهَجْرِ امْتِنَاعُ أَهْلِ الدِّينِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِيَنْزَجِرَ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِطَرِيقَتِهِ وَيَدْعُو إلَيْهِ وَقَدْ أَمَرَ بِمِثْلِ هَذَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ رَكِبَ الْبَحْرَ لِلتِّجَارَةِ ، فَغَرِقَ فَهَلْ مَاتَ شَهِيدًا ؟ .
فَأَجَابَ :
نَعَمْ مَاتَ شَهِيدًا إذَا لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا بِرُكُوبِهِ فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْغَرِيقُ وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ وَالْحَرِيقُ شَهِيدٌ وَالْمَيِّتُ بِالطَّاعُونِ شَهِيدٌ وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ فِي نِفَاسِهَا شَهِيدَةٌ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ شَهِيدٌ } . وَجَاءَ ذِكْرُ غَيْرِ هَؤُلَاءِ . وَرُكُوبُ الْبَحْرِ لِلتِّجَارَةِ جَائِزٌ إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ السَّلَامَةُ . وَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهُ لِلتِّجَارَةِ فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ : إنَّهُ شَهِيدٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْجِنَازَةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ مَعَ الْجِنَازَةِ لَا بِقِرَاءَةِ

وَلَا ذِكْرٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ هَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا ؛ بَلْ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُتْبَعَ بِصَوْتِ أَوْ نَارٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَسَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَجُلًا يَقُولُ فِي جِنَازَةٍ : اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَا غَفَرَ اللَّهُ بَعْدُ . وَقَالَ قَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ - وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ خَفْضَ الصَّوْتِ عِنْدَ الْجَنَائِزِ وَعِنْدَ الذِّكْرِ وَعِنْدَ الْقِتَالِ . وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالْآثَارِ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمُفَضَّلَةِ . وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : إنَّ هَذَا قَدْ صَارَ إجْمَاعًا مِنْ النَّاسِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَا زَالَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَمَا زَالَتْ جَنَائِزُ كَثِيرَةٌ تَخْرُجُ بِغَيْرِ هَذَا فِي عِدَّةِ أَمْصَارٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا كَوْنُ أَهْلِ بَلَدٍ أَوْ بَلَدَيْنِ أَوْ عَشْرٍ تَعَوَّدُوا ذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا بِإِجْمَاعِ ؛ بَلْ أَهْلُ مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَهِيَ دَارُ الْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ ؛ وَالْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ؛ بَلْ لَوْ اتَّفَقُوا فِي مِثْلِ زَمَنِ مَالِكٍ وَشُيُوخِهِ عَلَى شَيْءٍ وَلَمْ يَنْقُلُوهُ عَنْ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ خُلَفَائِهِ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ وَبَعْدَ زَمَنِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ لَيْسَ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ هَذَا يُشَبَّهُ بِجَنَائِزِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ أَهْلُ الْكِتَابِ عَادَتُهُمْ رَفْعُ الْأَصْوَاتِ مَعَ الْجَنَائِزِ وَقَدْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي شُرُوطِ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ لَا يَفْعَلُوا ذَلِكَ ثُمَّ إنَّمَا نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِيمَا لَيْسَ هُوَ مِنْ طَرِيقِ سَلَفِنَا الْأَوَّلِ وَأَمَّا إذَا اتَّبَعْنَا طَرِيقَ سَلَفِنَا الْأَوَّلِ كُنَّا مُصِيبِينَ وَإِنْ شَارَكَنَا فِي بَعْضِ ذَلِكَ مَنْ شَارَكَنَا كَمَا أَنَّهُمْ يُشَارِكُونَنَا فِي الدَّفْنِ فِي الْأَرْضِ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ نَصْرَانِيَّةٍ بَعْلُهَا مُسْلِمٌ تُوُفِّيَتْ وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ لَهُ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ ، فَهَلْ تُدْفَنُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ ؟ أَوْ مَعَ النَّصَارَى ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مَقَابِرِ النَّصَارَى لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ فَلَا يُدْفَنُ الْكَافِرُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا الْمُسْلِمُ مَعَ الْكَافِرِينَ ؛ بَلْ تُدْفَنُ مُنْفَرِدَةً وَيُجْعَلُ ظَهْرُهَا إلَى الْقِبْلَةِ ؛ لِأَنَّ

وَجْهَ الطِّفْلِ إلَى ظَهْرِهَا فَإِذَا دُفِنَتْ كَذَلِكَ كَانَ وَجْهُ الصَّبِيِّ الْمُسْلِمِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَالطِّفْلُ يَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ كَافِرَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
مُفْتِي الْأَنَامِ بَقِيَّةُ السَّلَفِ الْكِرَامِ تَقِيُّ الدِّينِ بَقِيَّةُ الْمُجْتَهِدِينَ أَثَابَهُ اللَّهُ وَأَحْسَنَ إلَيْهِ عَنْ تَلْقِينِ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ دَفْنِهِ هَلْ صَحَّ فِيهِ حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَنْ صَحَابَتِهِ ؟ وَهَلْ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ يَجُوزُ فِعْلُهُ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
هَذَا التَّلْقِينُ الْمَذْكُورِ قَدْ نُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ : أَنَّهُمْ أَمَرُوا بِهِ كَأَبِي أمامة الْبَاهِلِيِّ وَغَيْرِهِ . وَرُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّهُ مِمَّا لَا يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّ هَذَا التَّلْقِينَ لَا بَأْسَ بِهِ فَرَخَّصُوا فِيهِ وَلَمْ يَأْمُرُوا بِهِ ، وَاسْتَحَبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَكَرِهَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ .

وَاَلَّذِي فِي السُّنَن { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ عَلَى قَبْرِ الرَّجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ إذَا دُفِنَ وَيَقُولُ : سَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَقِّنُوا أَمْوَاتَكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } . فَتَلْقِينُ الْمُحْتَضِرِ سُنَّةٌ مَأْمُورٌ بِهَا . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمَقْبُورَ يُسْأَلُ وَيُمْتَحَنُ وَأَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالدُّعَاءِ لَهُ ؛ فَلِهَذَا قِيلَ : إنَّ التَّلْقِينَ يَنْفَعُهُ فَإِنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ } وَأَنَّهُ قَالَ : { مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ } وَأَنَّهُ أَمَرَنَا بِالسَّلَامِ عَلَى الْمَوْتَى . فَقَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللَّهُ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ يَجِبُ تَلْقِينُ الْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ الْقِرَاءَةُ تَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ ؟ .
فَأَجَابَ :
تَلْقِينُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَيْسَ وَاجِبًا بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا كَانَ مِنْ

عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِ بَيْنَهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ . بَلْ ذَلِكَ مَأْثُورٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ؛ كَأَبِي أمامة وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ . فَمِنْ الْأَئِمَّةِ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَقَدْ اسْتَحَبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَكْرَهُهُ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ بِدْعَةٌ . فَالْأَقْوَالُ فِيهِ ثَلَاثَةٌ : الِاسْتِحْبَابُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ . فَأَمَّا الْمُسْتَحَبُّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ وَحَضَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ . وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عَلَى الْقَبْرِ فَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَلَمْ يَكُنْ يَكْرَهُهَا فِي الْأُخْرَى . وَإِنَّمَا رَخَّصَ فِيهَا لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَوْصَى أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَ قَبْرِهِ بِفَوَاتِحِ الْبَقَرَةِ وَخَوَاتِيمِهَا ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قِرَاءَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، فَالْقِرَاءَةُ عِنْدَ الدَّفْنِ مَأْثُورَةٌ فِي الْجُمْلَةِ وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يُنْقَلْ فِيهِ أَثَرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
هَلْ يُشْرَعُ تَلْقِينُ الْمَيِّتِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ ؟ أَوْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا تَلْقِينُ الْمَيِّتِ فَقَدْ ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّين مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَاسْتَحْسَنُوهُ أَيْضًا ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي ، وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ نَفْسُهُ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ فِيهِ شَيْءٌ . وَمِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ كَانَ يَفْعَلُهُ ، كَأَبِي أمامة الْبَاهِلِيِّ وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ . وَمِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد مَنْ اسْتَحَبَّهُ ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ رَاتِبَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْخَتْمَةِ الَّتِي تُعْمَلُ عَلَى الْمَيِّتِ وَالْمُقْرِئِينَ بِالْأُجْرَةِ هَلْ قِرَاءَتُهُمْ تَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ ؟ وَطَعَامُ الْخَتْمَةِ يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَإِنْ كَانَ

وَلَدُ الْمَيِّتِ يُدَايِنُ لِأَجْلِ الصَّدَقَةِ إلَى الْمَيْسُورِ تَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ ؟ .
فَأَجَابَ :
اسْتِئْجَارُ النَّاسِ لِيَقْرَءُوا وَيُهْدُوهُ إلَى الْمَيِّتِ لَيْسَ بِمَشْرُوعِ وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يَصِلُ مَا قُرِئَ لِلَّهِ ، فَإِذَا كَانَ قَدْ اُسْتُؤْجِرَ لِلْقِرَاءَةِ لِلَّهِ وَالْمُسْتَأْجِرُ لَمْ يَتَصَدَّقْ عَنْ الْمَيِّتِ بَلْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَقْرَأُ عِبَادَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ . لَكِنْ إذَا تُصُدِّقَ عَنْ الْمَيِّتِ عَلَى مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ أَوْ غَيْرِهِمْ ؛ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ مُحْتَسِبًا وَأَهْدَاهُ إلَى الْمَيِّتِ نَفَعَهُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ جَعْلِ الْمُصْحَفِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَإِيقَادِ قِنْدِيلٍ فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِ مَكْرُوهٌ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا جَعْلُ الْمُصْحَفِ عِنْدَ الْقُبُورِ وَإِيقَادُ الْقَنَادِيلِ هُنَاكَ فَهَذَا مَكْرُوهٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَوْ كَانَ قَدْ جَعَلَ الْقِرَاءَةَ فِيهِ هُنَالِكَ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَقْرَأْ فِيهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } فَإِيقَادُ السُّرُجِ مِنْ قِنْدِيلٍ

وَغَيْرِهِ عَلَى الْقُبُورِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ الْفِعْلَيْنِ اللَّذَيْنِ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَفْعَلُهُمَا . كَمَا قَالَ : { لَا يَخْرُجُ الرَّجُلَانِ يَضْرِبَانِ الْغَائِطَ كَاشِفَيْنِ عَنْ عَوْرَاتِهِمَا يَتَحَدَّثَانِ فَإِنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يُنْهَى عَنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَحْدَهُ وَعَنْ التَّحَدُّثِ وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } { يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا } فَتَوَعَّدَ عَلَى مَجْمُوعِ أَفْعَالٍ وَكُلُّ فِعْلٍ مِنْهَا مُحَرَّمٌ . وَذَلِكَ لِأَنَّ تَرْتِيبَ الذَّمِّ عَلَى الْمَجْمُوعِ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الذَّمِّ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهَا مُبَاحًا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الذَّمِّ . وَالْحَرَامُ لَا يَتَوَكَّدُ بِانْضِمَامِ الْمُبَاحِ الْمُخَصَّصِ إلَيْهِ . وَالْأَئِمَّةُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي الْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ ، فَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَد فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَرَخَّصَ فِيهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ : هُوَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ . وَأَمَّا جَعْلُ الْمَصَاحِفِ عِنْدَ الْقُبُورِ لِمَنْ يَقْصِدُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ هُنَاكَ

وَتِلَاوَتَهُ فَبِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ . بَلْ هِيَ تَدْخُلُ فِي مَعْنَى " اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ " وَقَدْ اسْتَفَاضَتْ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا . قَالَتْ عَائِشَةُ : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ ؛ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا } وَقَالَ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي النَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَسَاجِدَ بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَإِذَا اُتُّخِذَ الْقَبْرُ لِبَعْضِ ذَلِكَ كَانَ دَاخِلًا فِي النَّهْيِ فَإِذَا كَانَ هَذَا مَعَ كَوْنِهِمْ يَقْرَءُونَ فِيهَا فَكَيْفَ إذَا جُعِلَتْ الْمَصَاحِفُ بِحَيْثُ لَا يُقْرَأُ فِيهَا ؟ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا لَا حَيٌّ وَلَا مَيِّتٌ ، فَإِنَّ هَذَا لَا نِزَاعَ فِي النَّهْيِ عَنْهُ . وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ يَنْتَفِعُ بِمِثْلِ ذَلِكَ لَفَعَلَهُ السَّلَفُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَأَسْرَعَ إلَى فِعْلِ ذَلِكَ وَتَحَرِّيهِ .

وَسُئِلَ :
عَنْ الْمَيِّتِ هَلْ يَجُوزُ نَقْلُهُ أَمْ لَا ؟ وَأَرْوَاحُ الْمَوْتَى هَلْ تَجْتَمِعُ بَعْضُهَا بِبَعْضِ أَمْ لَا ؟ وَرُوحُ الْمَيِّتِ هَلْ تَنْزِلُ فِي الْقَبْرِ أَمْ لَا ؟ وَيَعْرِفُ الْمَيِّتُ مَنْ يَزُورُهُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يُنْبَشُ الْمَيِّتُ مِنْ قَبْرِهِ إلَّا لِحَاجَةِ . مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْمَدْفِنُ الْأَوَّلُ فِيهِ مَا يُؤْذِي الْمَيِّتَ فَيُنْقَلُ إلَى غَيْرِهِ كَمَا نَقَلَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ . وَأَرْوَاحُ الْأَحْيَاءِ إذَا قُبِضَتْ تَجْتَمِعُ بِأَرْوَاحِ الْمَوْتَى وَيَسْأَلُ الْمَوْتَى الْقَادِمَ عَلَيْهِمْ عَنْ حَالِ الْأَحْيَاءِ فَيَقُولُونَ : مَا فَعَلَ فُلَانٌ ؟ فَيَقُولُونَ : فُلَانٌ تَزَوَّجَ ، فُلَانٌ عَلَى حَالٍ حَسَنَةٍ . وَيَقُولُونَ : مَا فَعَلَ فُلَانٌ ؟ فَيَقُولُ : أَلَمْ يَأْتِكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : لَا ذَهَبَ بِهِ إلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ . وَأَمَّا أَرْوَاحُ الْمَوْتَى فَتَجْتَمِعُ الْأَعْلَى يَنْزِلُ إلَى الْأَدْنَى وَالْأَدْنَى لَا يَصْعَدُ إلَى الْأَعْلَى . وَالرُّوحُ تُشْرِفُ عَلَى الْقَبْرِ وَتُعَادُ إلَى اللَّحْدِ أَحْيَانًا . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ

كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } . وَالْمَيِّتُ قَدْ يَعْرِفُ مَنْ يَزُورُهُ وَلِهَذَا كَانَتْ السُّنَّةُ أَنْ يُقَالَ : { السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ دَارِ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ ، وَالْمُسْتَأْخِرِين } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْمٍ لَهُمْ تُرْبَةٌ : وَهِيَ فِي مَكَانٍ مُنْقَطِعٍ وَقُتِلَ فِيهَا قَتِيلٌ وَقَدْ بَنَوْا لَهُمْ تُرْبَةً أُخْرَى هَلْ يَجُوزُ نَقْلُ مَوْتَاهُمْ إلَى التُّرْبَةِ الْمُسْتَجَدَّةِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يُنْبَشُ الْمَيِّتُ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَنْقُلُونَ مِنْ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ إلَى مَقَابِرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَيَنْقُلُونَ مِنْ مَقَابِرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ ، وَمَقْصُودُهُمْ أَنَّ مَنْ خُتِمَ لَهُ بِشَرٍّ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَقَدْ مَاتَ فِي الظَّاهِرِ مُسْلِمًا أَوْ كَانَ

كِتَابِيًّا وَخُتِمَ لَهُ بِخَيْرِ فَمَاتَ مُسْلِمًا فِي عِلْمِ اللَّهِ وَفِي الظَّاهِرِ مَاتَ كَافِرًا فَهَؤُلَاءِ يُنْقَلُونَ . فَهَلْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ لِذَلِكَ حُجَّةٌ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا الْأَجْسَادُ فَإِنَّهَا لَا تُنْقَلُ مِنْ الْقُبُورِ لَكِنْ نَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يَكُونُ ظَاهِرُهُ الْإِسْلَامَ وَيَكُونُ مُنَافِقًا إمَّا يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا مُعَطِّلًا . فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ نُظَرَائِهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ أَيْ أَشْبَاهَهُمْ وَنُظَرَاءَهُمْ . وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ مَنْ مَاتَ وَظَاهِرُهُ كَافِرٌ أَنْ يَكُونَ آمَنَ بِاَللَّهِ قَبْلَ أَنْ يُغَرْغِرَ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ وَكَتَمَ أَهْلُهُ ذَلِكَ إمَّا لِأَجْلِ مِيرَاثٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَيَكُونُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ مَقْبُورًا مَعَ الْكُفَّارِ . وَأَمَّا الْأَثَرُ فِي نَقْلِ الْمَلَائِكَةِ فَمَا سَمِعْت فِي ذَلِكَ أَثَرًا .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ } فَهَلْ يَقْتَضِي ذَلِكَ إذَا مَاتَ لَا يَصِلُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِ الْبِرِّ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَيْسَ فِي الْآيَةِ وَلَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَنْتَفِعُ بِدُعَاءِ الْخَلْقِ لَهُ وَبِمَا يُعْمَلُ عَنْهُ مِنْ الْبِرِّ بَلْ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مُتَّفِقُونَ عَلَى انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ بِذَلِكَ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ فَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } { وَقِهِمُ

السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ } . فَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَدْعُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمَغْفِرَةِ وَوِقَايَةِ الْعَذَابِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَدُعَاءُ الْمَلَائِكَةِ لَيْسَ عَمَلًا لِلْعَبْدِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبِّ { اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } وَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } فَقَدْ ذَكَرَ اسْتِغْفَارَ الرُّسُلِ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمْرًا بِذَلِكَ وَإِخْبَارًا عَنْهُمْ بِذَلِكَ . وَمِنْ السُّنَنِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي مَنْ جَحَدَهَا كَفَرَ : صَلَاةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمَيِّتِ وَدُعَاؤُهُمْ لَهُ فِي الصَّلَاةِ . وَكَذَلِكَ شَفَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ السُّنَنَ فِيهَا مُتَوَاتِرَةٌ بَلْ لَمْ يُنْكِرُ شَفَاعَتَهُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ إلَّا أَهْلُ الْبِدَعِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَشَفَاعَتُهُ دُعَاؤُهُ وَسُؤَالُهُ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَجَاحِدُ مِثْلِ ذَلِكَ كَافِرٌ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ . وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ مِثْلُ مَا فِي الصِّحَاحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ

قَالَ : إنَّ لِي مَخْرَفًا - أَيْ بُسْتَانًا - أُشْهِدُكُمْ أَنِّي تَصَدَّقْت بِهِ عَنْهَا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أُمِّي افْتَلَتَتْ نَفْسَهَا وَلَمْ تُوصِ وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إنْ تَصَدَّقْت عَنْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يُوصِ أَيَنْفَعُهُ إنْ تَصَدَّقْت عَنْهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ } . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص : { أَنَّ العاص بْنَ وَائِلٍ نَذَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَذْبَحَ مِائَةَ بَدَنَةٍ وَأَنَّ هِشَامَ بْنَ العاص نَحَرَ حِصَّتَهُ خَمْسِينَ وَأَنَّ عَمْرًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : أَمَّا أَبُوك فَلَوْ أَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ فَصُمْت عَنْهُ أَوْ تَصَدَّقْت عَنْهُ نَفَعَهُ ذَلِكَ } وَفِي سُنَنِ الدارقطني : أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي أَبَوَيْنِ وَكُنْت أَبَرُّهُمَا حَالَ حَيَاتِهِمَا . فَكَيْفَ بِالْبِرِّ بَعْدَ مَوْتِهِمَا ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مِنْ بَعْدِ الْبِرِّ أَنْ تُصَلِّيَ لَهُمَا مَعَ صَلَاتِك وَأَنْ تَصُومَ لَهُمَا مَعَ صِيَامِك وَأَنْ تَصَدَّقَ لَهُمَا مَعَ صَدَقَتِك } . وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الطالقاني قَالَ :

قُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ { إنَّ الْبِرَّ بَعْدَ الْبِرِّ أَنْ تُصَلِّيَ لِأَبَوَيْك مَعَ صَلَاتِك وَتَصُومَ لَهُمَا مَعَ صِيَامِك ؟ } قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : يَا أَبَا إسْحَاقَ عَمَّنْ هَذَا ؟ قُلْت لَهُ : هَذَا مِنْ حَدِيثِ شِهَابِ بْنِ خِرَاشٍ قَالَ : ثِقَةٌ قُلْت : عَمَّنْ ؟ قَالَ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ . فَقَالَ : ثِقَةٌ عَمَّنْ ؟ قُلْت : عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَا أَبَا إسْحَاقَ إنَّ بَيْنَ الْحَجَّاجِ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَفَاوِزَ تُقْطَعُ فِيهَا أَعْنَاقُ الْمَطِيِّ وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الصَّدَقَةِ اخْتِلَافٌ ، وَالْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُرْسَلٌ . وَالْأَئِمَّةُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ : كَالْعِتْقِ . وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ : كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَمَعَ هَذَا فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - { أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صِيَامُ نَذْرٍ قَالَ : أَرَأَيْت إنْ كَانَ عَلَى أُمِّك دَيْنٌ فقضيتيه أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا ؟ قَالَتْ : نَعَمْ قَالَ : فَصُومِي عَنْ أُمِّك } .

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ : { أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إنَّ أُخْتِي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ : أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُخْتِك دَيْنٌ أَكُنْت تَقْضِيهِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ قَالَ فَحَقُّ اللَّهِ أَحَقُّ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بريدة بْنِ حصيب عَنْ أَبِيهِ : { أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَيُجْزِي عَنْهَا أَنْ أَصُومَ عَنْهَا قَالَ : نَعَمْ } . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ يُصَامُ عَنْ الْمَيِّتِ مَا نَذَرَ وَأَنَّهُ شُبِّهَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ . وَالْأَئِمَّةُ تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُخَالِفْ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ مَنْ بَلَغَتْهُ وَإِنَّمَا خَالَفَهَا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ عَمْرٍو بِأَنَّهُمْ إذَا صَامُوا عَنْ الْمُسْلِمِ نَفَعَهُ . وَأَمَّا الْحَجُّ فَيُجْزِي عِنْدَ عَامَّتِهِمْ لَيْسَ فِيهِ إلَّا اخْتِلَافٌ شَاذٌّ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا ؟ فَقَالَ : حُجِّي عَنْهَا أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّك دَيْنٌ أَكُنْت قَاضِيَتُهُ عَنْهَا ؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاَللَّهُ أَحَقُّ

بِالْوَفَاءِ } وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ : { إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بريدة { أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ أَفَيُجْزِي - أَوْ يَقْضِي - أَنْ أَحُجَّ عَنْهَا قَالَ : نَعَمْ } . فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ : " أَنَّهُ أَمَرَ بِحَجِّ الْفَرْضِ عَنْ الْمَيِّتِ وَبِحَجِّ النَّذْرِ " . كَمَا أَمَرَ بِالصِّيَامِ . وَأَنَّ الْمَأْمُورَ تَارَةً يَكُونُ وَلَدًا وَتَارَةً يَكُونُ أَخًا وَشَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِالدَّيْنِ يَكُونُ عَلَى الْمَيِّتِ ، وَالدَّيْنُ يَصِحُّ قَضَاؤُهُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْوَلَدِ . كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْأَخِ . فَهَذَا الَّذِي ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عِلْمٌ مُفَصَّلٌ مُبَيَّنٌ ، فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } { إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ } بَلْ هَذَا حَقٌّ وَهَذَا حَقٌّ . أَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّهُ قَالَ : { انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ } فَذِكْرُ الْوَلَدِ وَدُعَاؤُهُ لَهُ خَاصَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ كَسْبِهِ كَمَا قَالَ : { مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } قَالُوا : إنَّهُ وَلَدُهُ ، وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ

أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ } . فَلَمَّا كَانَ هُوَ السَّاعِيَ فِي وُجُودِ الْوَلَدِ كَانَ عَمَلُهُ مِنْ كَسْبِهِ بِخِلَافِ الْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْأَبِ وَنَحْوِهِمْ . فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ أَيْضًا بِدُعَائِهِمْ بَلْ بِدُعَاءِ الْأَجَانِبِ لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِهِ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ . . } لَمْ يَقُلْ : إنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِعَمَلِ غَيْرِهِ . فَإِذَا دَعَا لَهُ وَلَدُهُ كَانَ هَذَا مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي لَمْ يَنْقَطِعْ وَإِذَا دَعَا لَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِهِ لَكِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ . وَأَمَّا الْآيَةُ فَلِلنَّاسِ عَنْهَا أَجْوِبَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ . كَمَا قِيلَ : إنَّهَا تَخْتَصُّ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَقِيلَ : إنَّهَا مَخْصُوصَةٌ وَقِيلَ : إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَقِيلَ : إنَّهَا تَنَالُ السَّعْيَ مُبَاشَرَةً وَسَبَبًا ، وَالْإِيمَانُ مِنْ سَعْيِهِ الَّذِي تَسَبَّبَ فِيهِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَلْ ظَاهِرُ الْآيَةِ حَقٌّ لَا يُخَالِفُ بَقِيَّةَ النُّصُوصِ ، فَإِنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } وَهَذَا حَقٌّ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ سَعْيَهُ فَهُوَ الَّذِي يَمْلِكُهُ وَيَسْتَحِقُّهُ . كَمَا أَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ مِنْ الْمَكَاسِبِ مَا اكْتَسَبَهُ هُوَ . وَأَمَّا سَعْيُ غَيْرِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَمِلْكٌ لِذَلِكَ الْغَيْرِ لَا لَهُ لَكِنْ هَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِسَعْيِ غَيْرِهِ كَمَا يَنْتَفِعُ الرَّجُلُ بِكَسْبِ غَيْرِهِ . فَمَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ فَيُثَابُ الْمُصَلِّي عَلَى سَعْيِهِ الَّذِي هُوَ صَلَاتُهُ وَالْمَيِّتُ أَيْضًا يُرْحَمُ بِصَلَاةِ الْحَيِّ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ : { مَا مِنْ

مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ أَنْ يَكُونُوا مِائَةً وَيُرْوَى أَرْبَعِينَ وَيُرْوَى ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ وَيُشَفَّعُونَ فِيهِ إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ - أَوْ قَالَ إلَّا غُفِرَ لَهُ - } فَاَللَّهُ تَعَالَى يُثِيبُ هَذَا السَّاعِيَ عَلَى سَعْيِهِ الَّذِي هُوَ لَهُ وَيَرْحَمُ ذَلِكَ الْمَيِّتَ بِسَعْيِ هَذَا الْحَيِّ لِدُعَائِهِ لَهُ وَصَدَقَتِهِ عَنْهُ وَصِيَامِهِ عَنْهُ وَحَجِّهِ عَنْهُ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ دَعْوَةً إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ دَعْوَةً قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ : آمِينَ ، وَلَك بِمِثْلِهِ } . فَهَذَا مِنْ السَّعْيِ الَّذِي يَنْفَعُ بِهِ الْمُؤْمِنُ أَخَاهُ يُثِيبُ اللَّهُ هَذَا وَيَرْحَمُ هَذَا ، { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } وَلَيْسَ كُلُّ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَيِّتُ أَوْ الْحَيُّ أَوْ يُرْحَمُ بِهِ يَكُونُ مِنْ سَعْيِهِ بَلْ أَطْفَالُ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مَعَ آبَائِهِمْ بِلَا سَعْيٍ فَاَلَّذِي لَمْ يَجُزْ إلَّا بِهِ أَخَصُّ مِنْ كُلِّ انْتِفَاعٍ ؛ لِئَلَّا يَطْلُبَ الْإِنْسَانُ الثَّوَابَ عَلَى غَيْرِ عَمَلِهِ وَهُوَ كَالدَّيْنِ يُوَفِّيهِ الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ فَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ مَا وَفَّى بِهِ الدَّيْنَ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُوَفِّي لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْفُقَهَاءُ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ - وَفَّقَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِمَرْضَاتِهِ - فِي الْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ هَلْ تَصِلُ إلَيْهِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَالْأُجْرَةُ عَلَى ذَلِكَ وَطَعَامُ أَهْلِ الْمَيِّتِ لِمَنْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَالْقِرَاءَةُ عَلَى الْقَبْرِ وَالصَّدَقَةُ عَنْ الْمَيِّتِ أَيُّهُمَا الْمَشْرُوعُ الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ ؟ وَالْمَسْجِدُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقُبُورِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ وَمَا يُعْلَمُ هَلْ بُنِيَ قَبْلَ الْقُبُورِ ؟ أَوْ الْقُبُورُ قَبْلَهُ ؟ وَلَهُ ثَلَاثٌ : رِزْقٌ وَأَرْبَعُمِائَةِ اصددمون قَدِيمَةٌ مِنْ زَمَانِ الرُّومِ مَا هُوَ لَهُ بَلْ لِلْمَسْجِدِ وَفِيهِ الْخُطْبَةُ كُلَّ جُمُعَةٍ وَالصَّلَاةُ أَيْضًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَلَهُ كُلَّ سَنَةٍ مَوْسِمٌ يَأْتِي إلَيْهِ رِجَالٌ كَثِيرٌ وَنِسَاءٌ وَيَأْتُونَ بِالنُّذُورِ مَعَهُمْ فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا لِمَصَالِحِ الْمَسْجِدِ الَّذِي فِي الْبَلَدِ ؟ أَفْتُونَا يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا الصَّدَقَةُ عَنْ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ وَرَدَتْ بِذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ . مِثْلُ قَوْلِ سَعْدٍ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي اُفْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَأُرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ فَهَلْ يَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا ؟

فَقَالَ : نَعَمْ } وَكَذَلِكَ يَنْفَعُهُ الْحَجُّ عَنْهُ وَالْأُضْحِيَّةُ عَنْهُ وَالْعِتْقُ عَنْهُ وَالدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ . وَأَمَّا الصِّيَامُ عَنْهُ وَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ عَنْهُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْهُ فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ : أَحَدُهُمَا : يَنْتَفِعُ بِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا ، وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ . وَالثَّانِي : لَا تَصِلُ إلَيْهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ لِنَفْسِ الْقِرَاءَةِ وَالْإِهْدَاءِ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ إنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْأَذَانِ وَالْإِمَامَةِ وَالْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ ، فَقِيلَ : يَصِحُّ لِذَلِكَ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ يَخْتَصُّ فَاعِلُهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ فَإِنَّهَا إنَّمَا تَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِ دُونَ الْكَافِرِ فَلَا يَجُوزُ إيقَاعُهَا إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . وَإِذَا فُعِلَتْ بِعُرُوضٍ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَجْرٌ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ لَا مَا فُعِلَ لِأَجْلِ عُرُوضِ الدُّنْيَا .

وَقِيلَ يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا لِلْفَقِيرِ دُونَ الْغَنِيِّ ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد كَمَا أَذِنَ اللَّهُ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يَأْكُلَ مَعَ الْفَقْرِ وَيَسْتَغْنِيَ مَعَ الْغِنَى ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ عَلَى هَذَا فَإِذَا فَعَلَهَا الْفَقِيرُ لِلَّهِ وَإِنَّمَا أَخَذَ الْأُجْرَةَ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ وَلِيَسْتَعِينَ بِذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَاَللَّهُ يَأْجُرُهُ عَلَى نِيَّتِهِ فَيَكُونُ قَدْ أَكَلَ طَيِّبًا وَعَمِلَ صَالِحًا . وَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ إلَّا لِأَجْلِ الْعُرُوضِ فَلَا ثَوَابَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ثَوَابٌ ، فَلَا يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ ثَوَابُ الْعَمَلِ لَا نَفْسُ الْعَمَلِ ؛ فَإِذَا تَصَدَّقَ بِهَذَا الْمَالِ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهُ وَصَلَ ذَلِكَ إلَى الْمَيِّتِ وَإِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ مَنْ يَسْتَعِينُ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمِهِ كَانَ أَفْضَلَ وَأَحْسَنَ فَإِنَّ إعَانَةَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ عَلَى تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتِهِ وَتَعْلِيمِهِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ .
وَأَمَّا صَنْعَةُ أَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا يَدْعُونَ النَّاسَ إلَيْهِ فَهَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَإِنَّمَا هُوَ بِدْعَةٌ بَلْ قَدْ قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصَنْعَتَهُمْ الطَّعَامَ لِلنَّاسِ مِنْ النِّيَاحَةِ . وَإِنَّمَا الْمُسْتَحَبُّ إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ أَنْ يُصْنَعَ لِأَهْلِهِ طَعَامٌ ، كَمَا قَالَ

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : { اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ }. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الدَّائِمَةُ عَلَى الْقُبُورِ فَلَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ السَّلَفِ .
وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْقَبْرِ فَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَد فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَرَخَّصَ فِيهَا فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَوْصَى أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَ دَفْنِهِ بِفَوَاتِحِ الْبَقَرَةِ وَخَوَاتِمِهَا . وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْأَنْصَارِ أَنَّهُ أَوْصَى عِنْدَ قَبْرِهِ بِالْبَقَرَةِ وَهَذَا إنَّمَا كَانَ عِنْدَ الدَّفْنِ فَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلِهَذَا فُرِّقَ فِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ حِينَ الدَّفْنِ وَالْقِرَاءَةِ الرَّاتِبَةِ بَعْدَ الدَّفْنِ فَإِنَّ هَذَا بِدْعَةٌ لَا يُعْرَفُ لَهَا أَصْلٌ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْمَيِّتَ يَنْتَفِعُ بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَيُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ غَلِطَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ } . فَالْمَيِّتُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُثَابُ عَلَى سَمَاعٍ وَلَا غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ وَيَسْمَعُ سَلَامَ الَّذِي يُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَيَسْمَعُ غَيْرَ ذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَمَلٌ غَيْرُ مَا اسْتَثْنَى .

وَأَمَّا بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَتُسَمَّى " مَشَاهِدَ " فَهَذَا غَيْرُ سَائِغٍ ؛ بَلْ جَمِيعُ الْأُمَّةِ يَنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا } . قَالَتْ عَائِشَةُ : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ كُرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } . وَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَشَاهِدِ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهَا لَا أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ . وَلَا فِي الصَّلَاةِ فِي الْمَشَاهِدِ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ وَنَحْوِهَا فَضِيلَةٌ عَلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ فَضْلًا عَنْ الْمَسَاجِدِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَهَا فِيهَا فَضْلٌ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِهَا أَوْ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي بَعْضِ الْمَسَاجِدِ فَقَدْ فَارَقَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَمَرَقَ مِنْ الدِّينِ بَلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْأُمَّةُ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا نَهْيَ تَحْرِيمٍ وَإِنْ كَانُوا مُتَنَازِعِينَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ : هَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ ؟ أَوْ مَكْرُوهَةٌ ؟ أَوْ مُبَاحَةٌ ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَنْبُوشَةِ وَالْقَدِيمَةِ فَذَلِكَ لِأَجْلِ تَعْلِيلِ النَّهْيِ بِالنَّجَاسَةِ لِاخْتِلَاطِ التُّرَابِ بِصَدِيدِ الْمَوْتَى .

وَأَمَّا هَذَا فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ وَأَنَّ ذَلِكَ أَصْلُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ . قَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ : هَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ : { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } وَلِهَذَا لَا يُشْرَعُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُنْذَرَ لِلْمَشَاهِدِ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ لَا زَيْتٌ وَلَا شَمْعٌ وَلَا دَرَاهِمُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ وَلِلْمُجَاوِرِينَ عِنْدَهَا وَخُدَّامِ الْقُبُورِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لَعَنَ مَنْ يَتَّخِذُ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ ، وَمَنْ نَذَرَ ذَلِكَ فَقَدْ نَذَرَ مَعْصِيَةً ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } . وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَهِيَ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَمَذْهَبُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ . لَكِنْ إنْ تَصَدَّقَ بِالنَّذْرِ

فِي الْمَشَاهِدِ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَسْتَعِينُونَ بِذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَدْ أَحْسَنَ فِي ذَلِكَ وَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ . وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْقُلَ صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ وَخُطَبَهُمْ مِنْ مَسْجِدٍ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ إلَى مَشْهَدٍ مِنْ مَشَاهِدِ الْقُبُورِ وَنَحْوِهَا . بَلْ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الضَّلَالَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ حَيْثُ تَرَكُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَفَعَلُوا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَتَرَكُوا السُّنَّةَ وَفَعَلُوا الْبِدْعَةَ تَرَكُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَارْتَكَبُوا مَعْصِيَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ يَجِبُ إعَادَةُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ إلَى الْمَسْجِدِ الَّذِي هُوَ بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ { أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } .
وَأَمَّا الْقُبُورُ الَّتِي فِي الْمَشَاهِدِ وَغَيْرِهَا فَالسُّنَّةُ لِمَنْ زَارَهَا أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْمَيِّتِ وَيَدْعُوَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ أَنْ يَقُولُوا إذَا زَارُوا الْقُبُورَ : { السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ عَنْ قَرِيبٍ لَاحِقُونَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين

نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ } .
وَأَمَّا التَّمَسُّحُ بِالْقَبْرِ أَوْ الصَّلَاةُ عِنْدَهُ أَوْ قَصْدُهُ لِأَجْلِ الدُّعَاءِ عِنْدَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّ الدُّعَاءَ هُنَاكَ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ فِي غَيْرِهِ أَوْ النَّذْرُ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ هُوَ مِمَّا أُحْدِثَ مِنْ الْبِدَعِ الْقَبِيحَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ شُعَبِ الشِّرْكِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ هَلْ الْأَفْضَلُ أَنْ يَهْدِيَ ثَوَابَهُ لِوَالِدَيْهِ وَلِمَوْتَى الْمُسْلِمِينَ ؟ أَوْ يَجْعَلُ ثَوَابَهُ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً ؟ .
فَأَجَابَ :
أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ مَا وَافَقَ هَدْيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَدْيَ الصَّحَابَةِ كَمَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : { خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ

مَاتَ ؛ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ . فَإِذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ ، فَالْأَمْرُ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِأَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَانُوا يَدْعُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ لِأَحْيَائِهِمْ وَأَمْوَاتِهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ عَلَى الْجِنَازَةِ وَعِنْدَ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَرُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ عِنْدَ كُلِّ خَتْمَةٍ دَعْوَةٌ مُجَابَةٌ فَإِذَا دَعَا الرَّجُلُ عَقِيبَ الْخَتْمِ لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِمَشَايِخِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ كَانَ هَذَا مِنْ الْجِنْسِ الْمَشْرُوعِ . وَكَذَلِكَ دُعَاؤُهُ لَهُمْ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاطِنِ الْإِجَابَةِ . وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَأَمَرَ أَنْ يُصَامَ عَنْهُ الصَّوْمَ ، فَالصَّدَقَةُ عَنْ الْمَوْتَى مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَكَذَلِكَ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي الصَّوْمِ عَنْهُمْ ، وَبِهَذَا وَغَيْرُهُ احْتَجَّ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّهُ يَجُوزُ إهْدَاءُ ثَوَابِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ إلَى مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . فَإِذَا أَهْدَى لِمَيِّتِ ثَوَابَ صِيَامٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ قِرَاءَةٍ جَازَ ذَلِكَ

وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ يَقُولُونَ : إنَّمَا يُشْرَعُ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَةِ السَّلَفِ إذَا صَلَّوْا تَطَوُّعًا وَصَامُوا وَحَجُّوا أَوْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ يَهْدُونَ ثَوَابَ ذَلِكَ لِمَوْتَاهُمْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا لِخُصُوصِهِمْ بَلْ كَانَ عَادَتُهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَعْدِلُوا عَنْ طَرِيقِ السَّلَفِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ " هَلَّلَ سَبْعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ وَأَهْدَاهُ لِلْمَيِّتِ يَكُونُ بَرَاءَةً لِلْمَيِّتِ مِنْ النَّارِ " حَدِيثٌ صَحِيحٌ ؟ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا هَلَّلَ الْإِنْسَانُ وَأَهْدَاهُ إلَى الْمَيِّتِ يَصِلُ إلَيْهِ ثَوَابُهُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا هَلَّلَ الْإِنْسَانُ هَكَذَا : سَبْعُونَ أَلْفًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ . وَأُهْدِيَتْ إلَيْهِ نَفَعَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا حَدِيثًا صَحِيحًا وَلَا ضَعِيفًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ قِرَاءَةِ أَهْلِ الْمَيِّتِ تَصِلُ إلَيْهِ ؟ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ إذَا أَهْدَاهُ إلَى الْمَيِّتِ يَصِلُ إلَيْهِ ثَوَابُهَا أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ قِرَاءَةُ أَهْلِهِ وَتَسْبِيحُهُمْ وَتَكْبِيرُهُمْ وَسَائِرُ ذِكْرِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى إذَا أَهْدَوْهُ إلَى الْمَيِّتِ وَصَلَ إلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
هَلْ الْقِرَاءَةُ تَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ مِنْ الْوَلَدِ أَوْ لَا ؟ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا وُصُولُ ثَوَابِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ : كَالْقِرَاءَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَمَذْهَبُ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهَا تَصِلُ وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهَا لَا تَصِلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ تَرَكَ وَالِدَيْهِ كُفَّارًا : وَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ أَسْلَمُوا ؟ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَنْ كَانَ مِنْ أُمَّةٍ أَصْلُهَا كُفَّارٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأَبَوَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَا قَدْ أَسْلَمَا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }.

بَابُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْمَشْرُوعِ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا زِيَارَةُ الْقُبُورِ : فَهِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ : شَرْعِيَّةٌ وَبِدْعِيَّةٌ . فَالشَّرْعِيَّةُ : مِثْلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ وَالْمَقْصُودُ بِهَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ كَمَا يُقْصَدُ بِذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى جِنَازَتِهِ . كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُ أَهْلَ الْبَقِيعِ وَيَزُورُ شُهَدَاءَ أُحُدٍ وَيُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا : { السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ } . وَهَكَذَا كُلُّ مَا فِيهِ دُعَاءٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ : كَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسَّلَامِ . كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ :

{ إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدَ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَا مِنْ مُسْلِمٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } . وَأَمَّا الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ : وَهِيَ زِيَارَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ جِنْسِ زِيَارَةِ النَّصَارَى الَّذِينَ يَقْصِدُونَ دُعَاءَ الْمَيِّتِ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ وَطَلَبَ الْحَوَائِجِ عِنْدَهُ فَيُصَلُّونَ عِنْدَ قَبْرِهِ وَيَدْعُونَ بِهِ فَهَذَا وَنَحْوُهُ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا بَلْ قَدْ سَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بَابَ الشِّرْكِ " . فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا } قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ . لَكِنْ كُرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا ، وَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . فَالزِّيَارَةُ الْأُولَى مِنْ جِنْسِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَالْإِحْسَانِ إلَى خَلْقِ اللَّهِ

وَذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الزَّكَاةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا . وَالثَّانِي : مِنْ جِنْسِ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ وَالظُّلْمِ فِي حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ وَفِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ } . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } . قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ وَصَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ دِينِ النَّصَارَى وَلَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالتَّابِعُونَ يَقْصِدُونَ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا غَيْرِهِ بَلْ كَرِهَ الْأَئِمَّةُ وُقُوفَ الْإِنْسَانِ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلدُّعَاءِ وَقَالُوا هَذِهِ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ بَلْ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ ثُمَّ يَذْهَبُونَ .

وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتَاهُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَنَصَّ أَبُو يُوسُف وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ بِمَخْلُوقِ لَا النَّبِيِّ وَلَا الْمَلَائِكَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ . وَقَدْ أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ جَدْبٌ وَشِدَّةٌ وَكَانُوا يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَسْتَسْقُونَ وَيَدْعُونَ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَيَسْتَنْصِرُونَ وَيَتَوَسَّلُونَ بِدُعَاءِ الصَّالِحِينَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَهَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ : بِدُعَائِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ } . وَلَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا صَالِحٍ وَلَا الصَّلَاةَ عِنْدَهُ وَلَا طَلَبَ الْحَوَائِجِ مِنْهُ وَلَا الْإِقْسَامَ عَلَى اللَّهِ بِهِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ : أَسْأَلُك بِحَقِّ فُلَانٍ وَفُلَانٍ ؛ بَلْ كُلُّ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ طِبَاقِ الْأُمَّةِ .

وَسُئِلَ الشَّيْخُ :
عَنْ الزِّيَارَةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الِاخْتِلَافُ إلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ فَلَيْسَ بِمُسْتَحَبِّ وَإِنَّمَا الْمُسْتَحَبُّ عِنْدَ الدَّفْنِ أَنْ يُقَامَ عَلَى قَبْرِهِ وَيُدْعَى لَهُ بِالتَّثْبِيتِ . كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ إذَا دَفَنَ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُومُ عَلَى قَبْرِهِ وَيَقُولُ : سَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ } . وَهَذَا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } فَإِنَّهُ لَمَّا نَهَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَعَنْ الْقِيَامِ عَلَى قُبُورِهِمْ كَانَ دَلِيلُ الْخِطَابِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُصَلَّى عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّفْنِ وَيُقَامُ عَلَى قَبْرِهِ بَعْدَ الدَّفْنِ . فَزِيَارَةُ الْمَيِّتِ الْمَشْرُوعَةُ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ هِيَ مِنْ هَذَا الْقِيَامِ الْمَشْرُوعِ .

وَسُئِلَ :
عَنْ الْأَحْيَاءِ إذَا زَارُوا الْأَمْوَاتَ هَلْ يَعْلَمُونَ بِزِيَارَتِهِمْ ؟ وَهَلْ يَعْلَمُونَ بِالْمَيِّتِ إذَا مَاتَ مِنْ قَرَابَتِهِمْ أَوْ غَيْرِهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ قَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ بِتَلَاقِيهِمْ وَتَسَاؤُلِهِمْ وَعَرْضِ أَعْمَالِ الْأَحْيَاءِ عَلَى الْأَمْوَاتِ ، كَمَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ : قَالَ : { إذَا قُبِضَتْ نَفْسُ الْمُؤْمِنِ تَلَقَّاهَا الرَّحْمَةُ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ كَمَا يَتَلَقَّوْنَ الْبَشِيرَ فِي الدُّنْيَا فَيُقْبِلُونَ عَلَيْهِ وَيَسْأَلُونَهُ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ : أَنْظِرُوا أَخَاكُمْ يَسْتَرِيحُ فَإِنَّهُ كَانَ فِي كَرْبٍ شَدِيدٍ . قَالَ : فَيُقْبِلُونَ عَلَيْهِ وَيَسْأَلُونَهُ مَا فَعَلَ فُلَانٌ وَمَا فَعَلَتْ فُلَانَةُ هَلْ تَزَوَّجَتْ } الْحَدِيثَ . وَأَمَّا عِلْمُ الْمَيِّتِ بِالْحَيِّ إذَا زَارَهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا عَرَفَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } . قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَّحَهُ عَبْدُ الْحَقِّ صَاحِبُ الْأَحْكَامِ .

وَأَمَّا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ حَيَاةِ الشَّهِيدِ وَرِزْقِهِ وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ دُخُولِ أَرْوَاحِهِمْ الْجَنَّةَ فَذَهَبَ طَوَائِفُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ دُونَ الصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ . وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ وَجَمَاهِيرُ أَهْلِ السُّنَّةِ : أَنَّ الْحَيَاةَ وَالرِّزْقَ وَدُخُولَ الْأَرْوَاحِ الْجَنَّةَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالشَّهِيدِ ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ الثَّابِتَةُ وَيَخْتَصُّ الشَّهِيدُ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِ الظَّانِّ يَظُنُّ أَنَّهُ يَمُوتُ فَيَنْكُلُ عَنْ الْجِهَادِ فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ لِيَزُولَ الْمَانِعُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْجِهَادِ وَالشَّهَادَةِ . كَمَا نَهَى عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَاقِعُ . وَإِنْ كَانَ قَتْلُهُمْ لَا يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ خَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَمُفْتِي الْأَنَامِ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الزَّاهِدُ الْوَرِعُ نَاصِرُ السُّنَّةِ وَقَامِعُ الْبِدْعَةِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ صَحَّ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى النِّسَاءِ زِيَارَةُ الْقُبُورِ ؟ أَمْ يُكْرَهُ ؟ أَمْ يُسْتَحَبُّ ؟ . وَإِذَا قِيلَ : بِالْكَرَاهَةِ . هَلْ تَكُونُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ ؟ أَمْ تَنْزِيهٍ ؟ وَهَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي " . أَمْ لَا ؟ وَهَلْ صَحَّ فِي فَضْلِ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا زِيَارَةُ الْقُبُورِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ نَهَى عَنْهَا نَهْيًا عَامًّا ثُمَّ أَذِنَ

فِي ذَلِكَ . فَقَالَ : { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا . فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَأْذَنْت رَبِّي فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَ أُمِّي فَأَذِنَ لِي وَاسْتَأْذَنْت فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } . وَهُنَا مَسْأَلَتَانِ : إحْدَاهُمَا : مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا وَالْأُخْرَى مُتَنَازَعٌ فِيهَا . فَأَمَّا الْأُولَى : فَإِنَّ الزِّيَارَةَ تَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ : زِيَارَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَزِيَارَةٌ بِدْعِيَّةٌ . فَالزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ : السَّلَامُ عَلَى الْمَيِّتِ وَالدُّعَاءُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَتِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ } وَهَذَا الدُّعَاءُ يُرْوَى بَعْضُهُ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ بِعِدَّةِ أَلْفَاظٍ ، كَمَا رُوِيَتْ أَلْفَاظُ التَّشَهُّدِ وَغَيْرِهِ وَهَذِهِ الزِّيَارَةُ هِيَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهَا إذَا خَرَجَ لِزِيَارَةِ قُبُورِ أَهْلِ الْبَقِيعِ . وَأَمَّا الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ : فَمِنْ جِنْسِ زِيَارَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَهْلِ

الْبِدَعِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكُتُبِ الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا } قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ كُرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . فَالزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ مِثْلُ قَصْدِ قَبْرِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِلصَّلَاةِ عِنْدَهُ أَوْ الدُّعَاءِ عِنْدَهُ أَوْ بِهِ أَوْ طَلَبِ الْحَوَائِجِ مِنْهُ أَوْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ قَبْرِهِ أَوْ الِاسْتِغَاثَةِ بِهِ أَوْ الْإِقْسَامِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا سَنَّ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ بَلْ قَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ الْكِبَارُ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيهِ بَعْضُ النَّاسِ " إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِجَاهِي " هُوَ مِنْ الْمَكْذُوبَاتِ الَّتِي لَمْ يَرْوِهَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَرْوُونَهُ مِنْ قَوْلِهِ : " لَوْ أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ ظَنَّهُ بِحَجَرٍ لَنَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ " فَإِنَّ هَذَا أَيْضًا مِنْ الْمَكْذُوبَاتِ .

وَقَدْ نَصَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ عَلَى اللَّهِ بِمَخْلُوقٍ لَا نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ القدوري فِي " كِتَابِ شَرْحِ الْكَرْخِي " عَنْ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ : سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ قَالَ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ إلَّا بِهِ وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ : بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك وَبِحَقِّ خَلْقِك ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِهِ : هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا أَكْرَهُ هَذَا . وَأَكْرَهُ بِحَقِّ فُلَانٍ وَبِحَقِّ أَنْبِيَائِك وَرُسُلِك وَبِحَقِّ الْبَيْتِ وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ . قَالَ القدوري شَارِحُ الْكِتَابِ : الْمَسْأَلَةُ بِخَلْقِهِ لَا تَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ فَلَا يَجُوزُ يَعْنِي : وِفَاقًا .
قُلْت : وَأَمَّا الِاسْتِشْفَاعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ وَهُوَ طَلَبُ الشَّفَاعَةِ مِنْهُ وَالتَّوَسُّلُ إلَى اللَّهِ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَبِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ وَالتَّوَجُّهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ فَهَذَا مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي حميد الساعدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ

لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُك } . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَا فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ } وَقَالَ ذَلِكَ لِعَشِيرَتِهِ الْأَقْرَبِينَ . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : { غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبِلَالِهَا } فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ مُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الْجَزَاءُ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَهُوَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، كَمَا قَالَ تَعَالَى { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَلَّغَ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ قَدْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَشْهَدَ اللَّهَ عَلَى أُمَّتِهِ أَنَّهُ بَلَّغَهُمْ كَمَا جَعَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَقُولُ : { أَلَا هَلْ بَلَّغْت ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ فَيَرْفَعُ إصْبَعَهُ إلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إلَيْهِمْ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ اشْهَدْ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَأَمَّا إجَابَةُ الدَّاعِي وَتَفْرِيجُ الْكُرُبَاتِ وَقَضَاءُ الْحَاجَاتِ فَهَذَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحْدَهُ لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ أَحَدٌ . وَلِهَذَا فَرَّقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ مَا فِيهِ حَقٌّ لِلرَّسُولِ

وَبَيْنَ مَا هُوَ لِلَّهِ وَحْدَهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّسُولُ مِنْ الطَّاعَةِ فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ . وَأَمَّا الْخَشْيَةُ وَالتَّقْوَى فَجَعَلَ ذَلِكَ لَهُ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } فَجَعَلَ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ . كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } . وَأَمَّا التَّوَكُّلُ وَالرَّغْبَةُ فَلِلَّهِ وَحْدَهُ . كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } وَلَمْ يَقُلْ وَرَسُولُهُ . وَقَالَ : { إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } وَلَمْ يَقُلْ : وَإِلَى الرَّسُولِ وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } . فَالْعِبَادَةُ وَالْخَشْيَةُ وَالتَّوَكُّلُ وَالدُّعَاءُ وَالرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ أَحَدٌ وَأَمَّا الطَّاعَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْإِرْضَاءُ : فَعَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَنُحِبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَنُرْضِيَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ؛ لِأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَإِرْضَاءَهُ إرْضَاءٌ لِلَّهِ وَحُبَّهُ مِنْ حُبِّ اللَّهِ . وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ مِنْ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ بَدَّلُوا الدِّينَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَسَائِطَ فِي تَبْلِيغِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ إلَّا مُتَابَعَةُ

الرَّسُولِ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ وَتَرْكِ مَا حَذَّرَ . وَمَنْ جَعَلَ إلَى اللَّهِ طَرِيقًا غَيْرَ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ فَهُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ : مِثْلَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ مِنْ خَوَاصِّ الْأَوْلِيَاءِ أَوْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الْفَلَاسِفَةِ أَوْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَوْ الْمُلُوكِ مَنْ لَهُ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مُتَابَعَةِ رَسُولِهِ وَيَذْكُرُونَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُفْتَرَاةِ مَا هُوَ أَعْظَمُ الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ . كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : إنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَأْذَنَ عَلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَقَالُوا : اذْهَبْ إلَى مَنْ أَنْتَ رَسُولٌ إلَيْهِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُمْ أَصْبَحُوا لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَأَخْبَرُوهُ بِالسِّرِّ الَّذِي نَاجَاهُ اللَّهُ بِهِ وَأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ بِدُونِ إعْلَامِ الرَّسُولِ . وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ : إنَّهُمْ قَاتَلُوهُ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ مَعَ الْكُفَّارِ وَقَالُوا : مَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ كُنَّا مَعَهُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ . وَمِثْلُ احْتِجَاجِ بَعْضِهِمْ بِقِصَّةِ الْخَضِرِ وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنَّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ يَسْتَغْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا اسْتَغْنَى الْخَضِرُ عَنْ مُوسَى وَمِثْلُ قَوْلِ بَعْضِهِمْ : إنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ لَهُ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي كَثُرَتْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الزُّهْدِ وَالْفَقْرِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ وَالتَّفَلْسُفِ . وَكُفْرُ هَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَدْ يَكُونُ

أَعْظَمَ وَقَدْ يَكُونُ أَخَفَّ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَحَدًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَاسِطَةً فِي شَيْءٍ مِنْ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ مِثْلَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ مِنْ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَإِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَقَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ ؛ بَلْ غَايَةُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ سَبَبًا : مِثْلُ أَنْ يَدْعُوَ أَوْ يَشْفَعَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } وَيَقُولُ : { وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } وَيَقُولُ : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ فَنَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ . فِي قَوْله تَعَالَى { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ اتِّخَاذَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا كُفْرٌ وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ فِي الشَّفَاعَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :

فَالْمُشْرِكُونَ أَثْبَتُوا الشَّفَاعَةَ الَّتِي هِيَ شِرْكٌ ؛ كَشَفَاعَةِ الْمَخْلُوقِ عِنْدَ الْمَخْلُوقِ كَمَا يَشْفَعُ عِنْدَ الْمُلُوكِ خَوَّاصُهُمْ لِحَاجَةِ الْمُلُوكِ إلَى ذَلِكَ فَيَسْأَلُونَهُمْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ وَتُجِيبُ الْمُلُوكُ سُؤَالَهُمْ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِمْ فَاَلَّذِينَ أَثْبَتُوا مِثْلَ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مُشْرِكُونَ كُفَّارٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ بَلْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إجَابَةُ دُعَاءِ الشَّافِعِينَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ } وَقَالَ : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ } { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ صَاحِبِ " يس " : { أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ } { إنِّي إذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } { إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } . وَأَمَّا الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ : فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا شَفَاعَةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ وَهَؤُلَاءِ مُبْتَدِعَةٌ ضُلَّالٌ مُخَالِفُونَ لِلسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِإِجْمَاعِ خَيْرِ الْقُرُونِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُمْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانِ أَثْبَتُوا مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَفَوْا مَا نَفَاهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، فَالشَّفَاعَةُ الَّتِي أَثْبَتُوهَا هِيَ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الْأَحَادِيثُ ، كَشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذَا جَاءَ النَّاسُ إلَى آدَمَ ثُمَّ نُوحٍ ثُمَّ إبْرَاهِيمَ ثُمَّ مُوسَى ثُمَّ عِيسَى ثُمَّ يَأْتُونَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : { فَأَذْهَبُ إلَى رَبِّي فَإِذَا رَأَيْت رَبِّي خَرَرْت لَهُ سَاجِدًا فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيَّ لَا أُحْسِنُهَا الْآنَ فَيَقُولُ : أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ } فَهُوَ يَأْتِي رَبَّهُ سُبْحَانَهُ فَيَبْدَأُ بِالسُّجُودِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ شَفَعَ بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الَّتِي نَفَاهَا الْقُرْآنُ كَمَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ وَالنَّصَارَى وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَيَنْفِيهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مِثْلَ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ الْغَائِبِينَ وَالْمَيِّتِينَ قَضَاءَ حَوَائِجِهِمْ وَيَقُولُونَ : إنَّهُمْ إذَا أَرَادُوا ذَلِكَ قَضَوْهَا وَيَقُولُونَ : إنَّهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَخَوَاصِّ الْمُلُوكِ عِنْدَ الْمُلُوكِ يَشْفَعُونَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُلُوكِ وَلَهُمْ عَلَى الْمُلُوكِ إدْلَالٌ يَقْضُونَ بِهِ حَوَائِجَهُمْ فَيَجْعَلُونَهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ شُرَكَاءِ الْمَلِكِ وَبِمَنْزِلَةِ أَوْلَادِهِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ نَزَّهَ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا : عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ } . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَ " الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ " هِيَ مِنْ أَسْبَابِ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَدُعَاءُ خَلْقِهِ وَإِحْدَاثُ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ . وَ " الزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ " هِيَ مِنْ جِنْسِ الْإِحْسَانِ إلَى الْمَيِّتِ بِالدُّعَاءِ لَهُ كَالْإِحْسَانِ إلَيْهِ . بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَهِيَ مِنْ الْعِبَادَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى الَّتِي يَنْفَعُ اللَّهُ بِهَا الدَّاعِيَ وَالْمَدْعُوَّ لَهُ كَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلَبِ الْوَسِيلَةِ وَالدُّعَاءِ لِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ : أَحْيَائِهِمْ وَأَمْوَاتِهِمْ .
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْمُتَنَازَعُ فِيهَا : فَالزِّيَارَةُ الْمَأْذُونُ فِيهَا هَلْ فِيهَا إذْنٌ لِلنِّسَاءِ وَنَسْخٌ لِلنَّهْيِ فِي حَقِّهِنَّ ؟ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ فِيهَا بَلْ هُنَّ مَنْهِيَّاتٌ عَنْهَا ؟ وَهَلْ النَّهْيُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ ؟ فِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ وَالثَّلَاثَةُ أَقْوَالٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَيْضًا وَغَيْرِهِمَا . وَقَدْ حُكِيَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَد ، وَهُوَ نَظِيرُ تَنَازُعِهِمْ فِي تَشْيِيعِ النِّسَاءِ لِلْجَنَائِزِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُرَخِّصُ فِي الزِّيَارَةِ دُونَ التَّشْيِيعِ كَمَا اخْتَارَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ النِّسَاءَ مَأْذُونٌ لَهُنَّ فِي الزِّيَارَةِ وَأَنَّهُ أَذِنَ

لَهُنَّ كَمَا أَذِنَ لِلرِّجَالِ وَاعْتَقَدَ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } خِطَابٌ عَامٌّ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ النِّسَاءَ لَمْ يَدْخُلْنَ فِي الْإِذْنِ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِعِدَّةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَزُورُوهَا " صِيغَةُ تَذْكِيرٍ وَصِيغَةُ التَّذْكِيرِ إنَّمَا تَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ بِالْوَضْعِ وَقَدْ تَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ أَيْضًا عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ لَكِنَّ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ : قِيلَ : إنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَحِينَئِذٍ فَيَحْتَاجُ تَنَاوُلُ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ إلَى دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَقِيلَ : إنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ دُخُولُ النِّسَاءِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ الضَّعِيفِ وَالْعَامِّ لَا يُعَارِضُ الْأَدِلَّةَ الْخَاصَّةَ الْمُسْتَفِيضَةَ فِي نَهْيِ النِّسَاءِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ وَلَا يَنْسَخُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ . الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ : لَوْ كَانَ النِّسَاءُ دَاخِلَاتٍ فِي الْخِطَابِ لَاسْتَحَبَّ لَهُنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ كَمَا اسْتَحَبَّ لِلرِّجَالِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّلَ بِعِلَّةٍ تَقْتَضِي الِاسْتِحْبَابَ وَهِيَ قَوْلُهُ : { فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } وَلِهَذَا تَجُوزُ زِيَارَةُ قُبُورِ الْمُشْرِكِينَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ زَارَ قَبْرَ أُمِّهِ وَقَالَ : { اسْتَأْذَنْت رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي وَاسْتَأْذَنْته فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } .

وَأَمَّا زِيَارَتُهُ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ فَذَلِكَ فِيهِ أَيْضًا الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ وَالدُّعَاءُ كَمَا عَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ إذَا زَارُوا قُبُورَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ وَيَدْعُوا لَهُمْ ، فَلَوْ كَانَتْ زِيَارَةُ الْقُبُورِ مَأْذُونًا فِيهَا لِلنِّسَاءِ لَاسْتَحَبَّ لَهُنَّ كَمَا اسْتَحَبَّ لِلرِّجَالِ لِمَا فِيهَا مِنْ الدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَذَكُّرِ الْمَوْتِ ، وَمَا عَلِمْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ اسْتَحَبَّ لَهُنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ وَلَا كَانَ النِّسَاءُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ يَخْرُجْنَ إلَى زِيَارَةِ الْقُبُورِ كَمَا يَخْرُجُ الرِّجَالُ . وَاَلَّذِينَ رَخَّصُوا فِي الزِّيَارَةِ اعْتَمَدُوا عَلَى مَا يُرْوَى عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا زَارَتْ قَبْرَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَ قَدْ مَاتَ فِي غَيْبَتِهَا . وَقَالَتْ : لَوْ شَهِدْتُك لَمَا زُرْتُك ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزِّيَارَةَ لَيْسَتْ مُسْتَحَبَّةً لِلنِّسَاءِ كَمَا تُسْتَحَبُّ لِلرِّجَالِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاسْتَحَبَّ لَهَا زِيَارَتَهُ كَمَا تُسْتَحَبُّ لِلرِّجَالِ زِيَارَتُهُ سَوَاءٌ شَهِدَتْهُ أَوْ لَمْ تَشْهَدْهُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْجَنَائِزِ أَوْكَدُ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى النِّسَاءَ عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَفِي ذَلِكَ تَفْوِيتُ صَلَاتِهِنَّ عَلَى الْمَيِّتِ فَإِذَا لَمْ يَسْتَحِبَّ لَهُنَّ اتِّبَاعَهَا لِمَا فِيهَا مِنْ الصَّلَاةِ وَالثَّوَابِ فَكَيْفَ بِالزِّيَارَةِ .

الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ : غَايَةُ مَا يُقَالُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَزُورُوا الْقُبُورَ } خِطَابٌ عَامٌّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ } هُوَ أَدَلُّ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ صِيغَةِ التَّذْكِيرِ فَإِنَّ لَفْظَ : " مَنْ " يَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ مَنْ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ . وَلَفْظُ " مَنْ " أَبْلَغُ صِيَغِ الْعُمُومِ ثُمَّ قَدْ عُلِمَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ لَمْ يَتَنَاوَلْ النِّسَاءَ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُنَّ عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ سَوَاءٌ كَانَ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ . فَإِذَا لَمْ يَدْخُلْنَ فِي هَذَا الْعُمُومِ فَكَذَلِكَ فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَكِلَاهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ تَشْيِيعَ الْجِنَازَةِ مِنْ جِنْسِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } فَنَهَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَعَنْ الْقِيَامِ عَلَى قُبُورِهِمْ . وَكَانَ دَلِيلُ الْخِطَابِ وَمُوجِبُ التَّعْلِيلِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَيُقَامُ عَلَى قُبُورِهِمْ ، وَذَلِكَ كَمَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ : هُوَ الْقِيَامُ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَهُوَ مَقْصُودُ زِيَارَةِ قُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِذَا كَانَ النِّسَاءُ لَمْ يَدْخُلْنَ فِي عُمُومِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ فَلَأَنْ لَا يَدْخُلْنَ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ الَّتِي غَايَتُهَا دُونَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ

الْأَوْلَى بِخِلَافِ مَا إذَا أَمْكَنَ النِّسَاءَ أَنْ يُصَلِّينَ عَلَى الْمَيِّتِ بِلَا اتِّبَاعٍ كَمَا يُصَلِّينَ عَلَيْهِ فِي الْبَيْتِ فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدُّعَاءِ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي الْبَيْتِ . وَإِذَا قِيلَ مَفْسَدَةُ الِاتِّبَاعِ لِلْجَنَائِزِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ الزِّيَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُصِيبَةَ حَدِيثَةٌ وَفِي ذَلِكَ أَذًى لِلْمَيِّتِ وَفِتْنَةٌ لِلْحَيِّ بِأَصْوَاتِهِنَّ وَصُوَرِهِنَّ . قِيلَ : وَمُطْلَقُ الِاتِّبَاعِ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ الزِّيَارَةِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ الدُّعَاءِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالِاتِّبَاعِ الْحَمْلُ وَالدَّفْنُ وَالصَّلَاةُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الزِّيَارَةِ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ - وَذَلِكَ الْفَرْضُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ بِحَيْثُ لَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا نِسَاءٌ لَكَانَ حَمْلُهُ وَدَفْنُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ فَرْضًا عَلَيْهِنَّ وَفِي تَغْسِيلِهِنَّ لِلرِّجَالِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ . وَكَذَلِكَ إذَا تَعَذَّرَ غُسْلُ الْمَيِّتِ هَلْ يُيَمَّمُ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ وَهُوَ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ - فَإِذَا كَانَ النِّسَاءُ مَنْهِيَّاتٍ عَمَّا جِنْسُهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَمَصْلَحَتُهُ أَعْظَمُ إذَا قَامَ بِهِ الرِّجَالُ فَمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى أَحَدٍ أَوْلَى . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : مَفْسَدَةُ التَّشْيِيعِ أَعْظَمُ : مَمْنُوعٌ ؛ بَلْ إذَا رُخِّصَ لِلْمَرْأَةِ فِي الزِّيَارَةِ كَانَ ذَلِكَ مَظِنَّةَ تَكْرِيرِ ذَلِكَ فَتَعْظُمُ فِيهِ الْمَفْسَدَةُ وَيَتَجَدَّدُ الْجَزَعُ وَالْأَذَى لِلْمَيِّتِ فَكَانَ ذَلِكَ مَظِنَّةَ قَصْدِ الرِّجَالِ لَهُنَّ وَالِافْتِتَانِ بِهِنَّ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ فَإِنَّهُ يَقَعُ بِسَبَبِ

زِيَارَةِ النِّسَاءِ الْقُبُورَ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْفَسَادِ مَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ مِنْهُ عِنْدَ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ . وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ جِنْسَ زِيَارَةِ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ اتِّبَاعِهِنَّ وَأَنَّ نَهْيَ الِاتِّبَاعِ إذَا كَانَ نَهْيَ تَنْزِيهٍ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ نَهْيُ الزِّيَارَةِ نَهْيَ تَحْرِيمٍ وَذَلِكَ أَنَّ نَهْيَ الْمَرْأَةِ عَنْ الِاتِّبَاعِ قَدْ يَتَعَذَّرُ لِفَرْطِ الْجَزَعِ كَمَا يَتَعَذَّرُ تَسْكِينُهُنَّ لِفَرْطِ الْجَزَعِ أَيْضًا فَإِذَا خَفَّفَ هَذِهِ الْقُوَّةَ الْمُقْتَضِي لَمْ يَلْزَمْ تَخْفِيفُ مَا لَا يَقْوَى الْمُقْتَضَى فِيهِ . وَإِذَا عَفَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْعَبْدِ عَمَّا لَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ إلَّا بِمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَعْفُوَ لَهُ عَمَّا يُمْكِنُهُ تَرْكُهُ بِدُونِ هَذِهِ الْمَشَقَّةِ الْوَاجِبَةِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنْ يُقَالَ : قَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقَيْنِ : أَنَّهُ لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِي وَصَحَّحَهُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد ؛ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي وَحَسَّنَهُ وَفِي نُسَخٍ تَصْحِيحُهُ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَه مِنْ ذِكْرِ الزِّيَارَةِ .

فَإِنْ قِيلَ : الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ قَالَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ تَرَكَهُ شُعْبَةُ وَلَيْسَ بِذَاكَ وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ كَانَ كَثِيرَ الْحَدِيثِ وَلَيْسَ يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ . وَقَالَ السَّعْدِيُّ وَالنَّسَائِي لَيْسَ بِقَوِيِّ الْحَدِيثِ . وَالثَّانِي فِيهِ أَبُو صَالِحٍ باذام مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ وَقَدْ ضَعَّفُوهُ قَالَ أَحْمَد : كَانَ ابْنُ مَهْدِيٍّ تَرَكَ حَدِيثَ أَبِي صَالِحٍ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ يَكْتُبُ حَدِيثَهُ وَلَا يَحْتَجُّ بِهِ . وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ تَفْسِيرٌ وَمَا أَقَلَّ مَا لَهُ فِي الْمُسْنَدِ وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ رَضِيَهُ . قُلْت : الْجَوَابُ عَلَى هَذَا مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُقَالَ كُلٌّ مِنْ الرَّجُلَيْنِ قَدْ عَدَّلَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَمَا جَرَّحَهُ آخَرُونَ أَمَّا عُمَرُ فَقَدْ قَالَ فِيهِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ اللَّهِ العجلي : لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَكَذَلِكَ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ ، وَابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ مِنْ أَصْعَبِ النَّاسِ تَزْكِيَةً . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : تَرَكَهُ شُعْبَةُ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ . كَمَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ لَمْ يَسْمَعْ شُعْبَةُ مِنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ شَيْئًا وَشُعْبَةُ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَمَالِكٌ وَنَحْوُهُمْ قَدْ كَانُوا يَتْرُكُونَ الْحَدِيثَ عَنْ أُنَاسٍ لِنَوْعِ شُبْهَةٍ بَلَغَتْهُمْ لَا تُوجِبُ رَدَّ

أَخْبَارِهِمْ فَهُمْ إذَا رَوَوْا عَنْ شَخْصٍ كَانَتْ رِوَايَتُهُمْ تَعْدِيلًا لَهُ . وَأَمَّا تَرْكُ الرِّوَايَةِ فَقَدْ يَكُونُ لِشُبْهَةٍ لَا تُوجِبُ الْجَرْحَ وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي غَيْرِ وَاحِدٍ قَدْ خُرِّجَ لَهُ فِي الصَّحِيحِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : لَيْسَ بِقَوِيٍّ فِي الْحَدِيثِ عِبَارَةٌ لَيِّنَةٌ تَقْتَضِي أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِي حِفْظِهِ بَعْضُ التَّغَيُّرِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ لَا تَقْتَضِي عِنْدَهُمْ تَعَمُّدَ الْكَذِبِ وَلَا مُبَالَغَةً فِي الْغَلَطِ . وَأَمَّا أَبُو صَالِحٍ : فَقَدْ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا تَرَكَ أَبَا صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ وَمَا سَمِعْت أَحَدًا مِنْ النَّاسِ يَقُولُ فِيهِ شَيْئًا وَلَمْ يَتْرُكْهُ شُعْبَةُ وَلَا زَائِدَةُ فَهَذِهِ رِوَايَةُ شُعْبَةَ عَنْهُ تَعْدِيلٌ لَهُ كَمَا عُرِفَ مِنْ عَادَةِ شُعْبَةَ ، وَتَرْكُ ابْنُ مَهْدِيٍّ لَهُ لَا يُعَارِضُ ذَلِكَ فَإِنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ أَعْلَمُ بِالْعِلَلِ وَالرِّجَالِ مِنْ ابْنِ مَهْدِيٍّ فَإِنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ شُعْبَةَ وَيَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ أَعْلَمُ بِالرِّجَالِ مِنْ ابْنِ مَهْدِيٍّ وَأَمْثَالِهِ . وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ : يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ ، فَأَبُو حَاتِمٍ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا فِي كَثِيرٍ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ شَرْطَهُ فِي التَّعْدِيلِ صَعْبٌ وَالْحُجَّةُ فِي اصْطِلَاحِهِ لَيْسَ هُوَ الْحُجَّةَ فِي جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ .

وَهَذَا كَقَوْلِ مَنْ قَالَ : لَا أَعْلَمُ أَنَّهُمْ رَضُوهُ ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ الطَّبَقَةِ الْعَالِيَةِ وَلِهَذَا لَمْ يُخَرِّجْ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ ، لَكِنَّ مُجَرَّدَ عَدَمِ تَخْرِيجِهِمَا لِلشَّخْصِ لَا يُوجِبُ رَدَّ حَدِيثِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيُقَالُ : إذَا كَانَ الْجَارِحُ وَالْمُعَدِّلُ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَمْ يُقْبَلْ الْجَرْحُ إلَّا مُفَسَّرًا فَيَكُونُ التَّعْدِيلُ مُقَدَّمًا عَلَى الْجَرْحِ الْمُطْلَقِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ حَدِيثَ مِثْلِ هَؤُلَاءِ يَدْخُلُ فِي الْحَسَنِ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فَإِذَا صَحَّحَهُ مَنْ صَحَّحَهُ كَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْجَرْحِ إلَّا مَا ذُكِرَ كَانَ أَقَلَّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْحَسَنِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ قَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ : أَحَدُهُمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْآخَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرِجَالُ هَذَا لَيْسَ رِجَالَ هَذَا فَلَمْ يَأْخُذْهُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ وَلَيْسَ فِي الْإِسْنَادَيْنِ مَنْ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ وَإِنَّمَا التَّضْعِيفُ مِنْ جِهَةِ سُوءِ الْحِفْظِ وَمِثْلُ هَذَا حُجَّةٌ بِلَا رَيْبٍ وَهَذَا مِنْ أَجْوَدِ الْحَسَنِ الَّذِي شَرَطَهُ التِّرْمِذِيُّ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْحَسَنَ مَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مُتَّهَمٌ وَلَمْ يَكُنْ شَاذًّا : أَيْ مُخَالِفًا لِمَا ثَبَتَ بِنَقْلِ الثقاة . وَهَذَا الْحَدِيثُ تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَلَيْسَ فِيهِ مُتَّهَمٌ وَلَا خَالَفَهُ أَحَدٌ مِنْ الثقاة وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا يُخَافُ فِيهِ مِنْ شَيْئَيْنِ : إمَّا تَعَمُّدُ الْكَذِبِ وَإِمَّا خَطَأُ الرَّاوِي فَإِذَا كَانَ مِنْ وَجْهَيْنِ لَمْ يَأْخُذْهُ أَحَدُهُمَا

عَنْ الْآخَرِ وَلَيْسَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنْ يَتَّفِقَ تَسَاوِي الْكَذِبِ فِيهِ : عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَذِبِ ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الرُّوَاةُ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكَذِبِ . وَأَمَّا الْخَطَأُ فَإِنَّهُ مَعَ التَّعَدُّدِ يَضْعُفُ وَلِهَذَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَطْلُبَانِ مَعَ الْمُحَدِّثِ الْوَاحِدِ مَنْ يُوَافِقُهُ خَشْيَةَ الْغَلَطِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمَرْأَتَيْنِ { أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } هَذَا لَوْ كَانَا عَنْ صَاحِبٍ وَاحِدٍ فَكَيْفَ وَهَذَا قَدْ رَوَاهُ عَنْ صَاحِبٍ وَذَلِكَ عَنْ آخَرَ وَفِي لَفْظِ أَحَدِهِمَا زِيَادَةٌ عَلَى لَفْظِ الْآخَرِ فَهَذَا كُلُّهُ وَنَحْوُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي الْأَصْلِ مَعْرُوفٌ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَبْ أَنَّهُ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ مَنْسُوخٌ فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَنْسَخُهُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَد فِي رِوَايَتِهِ وَرَوَاهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ { أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَقْبَلَتْ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ الْمَقَابِرِ فَقُلْت لَهَا : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَلَيْسَ كَانَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ كَانَ نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ثُمَّ أَمَرَ بِزِيَارَتِهَا } . قِيلَ : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ الْخِطَابُ بِأَنَّ الْإِذْنَ لَمْ يَتَنَاوَلْ النِّسَاءَ فَلَا يَدْخُلْنَ فِي الْحُكْمِ النَّاسِخِ .

الثَّانِي : خَاصٌّ فِي النِّسَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ أَوْ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ } وَقَوْلُهُ : " فَزُورُوهَا " بِطَرِيقِ التَّبَعِ فَيَدْخُلْنَ بِعُمُومٍ ضَعِيفٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالرِّجَالِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَنَاوِلًا لِلنِّسَاءِ وَالْعَامُّ إذَا عُرِفَ أَنَّهُ بَعْدَ الْخَاصِّ لَمْ يَكُنْ نَاسِخًا لَهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْعَامَّ بَعْدَ الْخَاصِّ إذْ قَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ } بَعْدَ إذْنِهِ لِلرِّجَالِ فِي الزِّيَارَةِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَرَنَهُ بِالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ وَذَكَرَ هَذَا بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ الَّتِي تَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ وَلَعْنُ الزَّائِرَاتِ جَعَلَهُ مُخْتَصًّا بِالنِّسَاءِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اتِّخَاذَ الْمَسَاجِدِ وَالسُّرُجِ بَاقٍ مُحْكَمٌ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فَكَذَلِكَ الْآخَرُ . وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَحْمَدُ احْتَجَّ بِهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ لَمَّا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى ذَلِكَ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ تُنَاقِضُ ذَلِكَ وَهِيَ اخْتِيَارُ الخرقي وَغَيْرِهِ مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ . وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ، فَإِنَّ الْمُحْتَجَّ عَلَيْهَا احْتَجَّ بِالنَّهْيِ الْعَامِّ فَدَفَعَتْ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّهْيَ مَنْسُوخٌ ، وَهُوَ كَمَا قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَمْ يَذْكُرْ لَهَا الْمُحْتَجُّ النَّهْيَ الْمُخْتَصَّ بِالنِّسَاءِ الَّذِي فِيهِ لَعْنُهُنَّ عَلَى الزِّيَارَةِ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهَا : " قَدْ أَمَرَ بِزِيَارَتِهَا " فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أَمَرَ بِهَا أَمْرًا

يَقْتَضِي الِاسْتِحْبَابَ وَالِاسْتِحْبَابُ إنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ لِلرِّجَالِ خَاصَّةً وَلَكِنَّ عَائِشَةَ بَيَّنَتْ أَنَّ أَمْرَهُ الثَّانِيَ نَسَخَ نَهْيَهُ الْأَوَّلَ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ وَهُوَ النِّسَاءُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ ، وَلَوْ كَانَتْ عَائِشَةُ تَعْتَقِدُ أَنَّ النِّسَاءَ مَأْمُورَاتٍ بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ لَكَانَتْ تَفْعَلُ ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ الرِّجَالُ وَلَمْ تَقُلْ لِأَخِيهَا : لَمَا زُرْتُك . الْجَوَابُ الثَّالِثُ : جَوَابُ مَنْ يَقُولُ بِالْكَرَاهَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا : حَدِيثُ اللَّعْنِ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ وَحَدِيثُ الْإِذْنِ يَرْفَعُ التَّحْرِيمَ ، وَبَقِيَ أَصْلُ الْكَرَاهَةِ يُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُ { أُمِّ عَطِيَّةَ : نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْنَا } . وَالزِّيَارَةُ مِنْ جِنْسِ الِاتِّبَاعِ فَيَكُونُ كِلَاهُمَا مَكْرُوهًا غَيْرَ مُحَرَّمٍ . الْجَوَابُ الرَّابِعُ : جَوَابُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ : كَإِسْحَاقِ بْنِ رَاهَوَيْه فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : اللَّعْنُ قَدْ جَاءَ بِلَفْظِ الزَّوَّارَاتِ وَهُنَّ الْمُكْثِرَاتُ لِلزِّيَارَةِ فَالْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ فِي الدَّهْرِ لَا تَتَنَاوَلُ ذَلِكَ وَلَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ زَائِرَةً وَيَقُولُونَ : عَائِشَةُ زَارَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَمْ تَكُنْ زَوَّارَةً . وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالتَّحْرِيمِ : فَيَقُولُونَ قَدْ جَاءَ بِلَفْظِ " الزَّوَّارَاتِ " وَلَفْظُ الزَّوَّارَاتِ قَدْ يَكُونُ لِتَعَدُّدِهِنَّ كَمَا يُقَالُ : فَتَّحْت الْأَبْوَابَ إذْ لِكُلِّ بَابٍ فَتْحٌ يَخُصُّهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { حَتَّى إذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا }

وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِكُلِّ بَابٍ فَتْحًا وَاحِدًا . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَا ضَابِطَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا يُحَرَّمُ وَمَا لَا يُحَرَّمُ وَاللَّعْنُ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : التَّشْيِيعُ كَذَلِكَ وَيُحْتَجُّ بِمَا رُوِيَ فِي التَّشْيِيعِ مِنْ التَّغْلِيظِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ فَإِنَّكُنَّ تَفْتِنَّ الْحَيَّ وَتُؤْذِينَ الْمَيِّتَ } وَقَوْلِهِ لِفَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - { أَمَا إنَّك لَوْ بَلَغْت مَعَهُمْ الْكُدَى لَمْ تَدْخُلِي الْجَنَّةَ حَتَّى يَكُونَ كَذَا وَكَذَا } وَهَذَانِ يُؤَيِّدُهُمَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّهُ { نَهَى النِّسَاءَ عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ } . وَأَمَّا قَوْلُ { أُمِّ عَطِيَّةَ : وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْنَا } فَقَدْ يَكُونُ مُرَادُهَا لَمْ يُؤَكِّدْ النَّهْيَ وَهَذَا لَا يَنْفِي التَّحْرِيمَ وَقَدْ تَكُونُ هِيَ ظَنَّتْ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَهْيِ تَحْرِيمٍ وَالْحُجَّةُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا فِي ظَنِّ غَيْرِهِ . الْجَوَابُ الْخَامِسُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّلَ الْإِذْنَ لِلرِّجَالِ بِأَنَّ ذَلِكَ يُذَكِّرُ بِالْمَوْتِ وَيُرَقِّقُ الْقَلْبَ وَيُدْمِعُ الْعَيْنَ هَكَذَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَد ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا فُتِحَ لَهَا هَذَا الْبَابُ أَخْرَجَهَا إلَى الْجَزَعِ وَالنَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الضَّعْفِ وَكَثْرَةِ الْجَزَعِ وَقِلَّةِ الصَّبْرِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِتَأَذِّي الْمَيِّتِ بِبُكَائِهَا وَلِافْتِتَانِ الرِّجَالِ

بِصَوْتِهَا وَصُورَتِهَا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ : { فَإِنَّكُنَّ تَفْتِنَّ الْحَيَّ وَتُؤْذِينَ الْمَيِّتَ } وَإِذَا كَانَتْ زِيَارَةُ النِّسَاءِ مَظِنَّةً وَسَبَبًا لِلْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ فِي حَقِّهِنَّ وَحَقِّ الرِّجَالِ وَالْحِكْمَةُ هُنَا غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحُدَّ الْمِقْدَارَ الَّذِي لَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ وَلَا التَّمْيِيزَ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ . وَمِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْحِكْمَةَ إذَا كَانَتْ خَفِيَّةً أَوْ غَيْرَ مُنْتَشِرَةٍ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِمَظِنَّتِهَا فَيُحَرَّمُ هَذَا الْبَابُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ كَمَا حَرَّمَ النَّظَرَ إلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفِتْنَةِ وَكَمَا حَرَّمَ الْخَلْوَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ النَّظَرِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ مَا يُعَارِضُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا دُعَاؤُهَا لِلْمَيِّتِ وَذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي بَيْتِهَا ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إذَا عَلِمَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ نَفْسِهَا أَنَّهَا إذَا زَارَتْ الْمَقْبَرَةَ بَدَا مِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ لَمْ تَجُزْ لَهَا الزِّيَارَةُ بِلَا نِزَاعٍ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ ضَعِيفٌ وَلَيْسَ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلَا صَحِيحٌ وَلَا رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ كَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي وَابْنِ مَاجَه وَالتِّرْمِذِيِّ وَلَا أَهْلُ الْمَسَانِيدِ الْمَعْرُوفَةِ كَمُسْنَدِ أَحْمَد

وَنَحْوِهِ وَلَا أَهْلُ الْمُصَنَّفَاتِ كَمُوَطَّأِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا بَلْ عَامَّةُ مَا يُرْوَى فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مَكْذُوبَةٌ مَوْضُوعَةٌ ، كَمَا يُرْوَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي إبْرَاهِيمَ فِي عَامٍ وَاحِدٍ ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ } وَهَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَكَذَلِكَ مَا يُرْوَى أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي وَمَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ } لَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَصْلٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَى بَعْضَ ذَلِكَ الدارقطني وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ فَمَدَارُ ذَلِكَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ ، أَوْ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِرِوَايَتِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ . وَإِنَّمَا اعْتَمَدَ الْأَئِمَّةُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } وَكَمَا فِي سُنَنِ النَّسَائِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِقَبْرِي مَلَائِكَةً تُبَلِّغُنِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ } فَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَلِهَذَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَرِهَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ :

زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَالِكٌ قَدْ أَدْرَكَ النَّاسَ مِنْ التَّابِعِينَ وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ عِنْدَهُمْ أَلْفَاظُ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنْ يَقِفَ مُسْتَقْبِلَ الْقَبْرِ يَدْعُو : بَلْ وَكَرِهَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنْ يَقُومَ لِلدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ هُنَاكَ وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَنَّهُ لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا . وَقَدْ ذَكَرُوا فِي أَسْبَابِ كَرَاهَتِهِ أَنْ يَقُولَ زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُرِيدُ بِهِ الزِّيَارَةَ الْبِدْعِيَّةَ وَهِيَ قَصْدُ الْمَيِّتِ لِسُؤَالِهِ وَدُعَائِهِ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ فِي قَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَهُمْ يَعْنُونَ بِلَفْظِ الزِّيَارَةِ مِثْلَ هَذَا وَهَذَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ فَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فَاسِدٍ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالسَّلَامِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ . أَمَّا لَفْظُ الزِّيَارَةِ فِي عُمُومِ الْقُبُورِ فَقَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْهَا مِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ : { فَزُورُوا الْقُبُورَ . فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } مَعَ زِيَارَتِهِ لِقَبْرِ أُمِّهِ فَإِنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ زِيَارَةَ قُبُورِ الْكُفَّارِ فَلَا يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ زِيَارَةُ الْمَيِّتِ لِدُعَائِهِ وَسُؤَالِهِ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَزُورُ مُعَظَّمًا فِي الدِّينِ :

كَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ ، فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَعْنِي بِزِيَارَةِ قُبُورِهِمْ هَذِهِ الزِّيَارَةَ الْبِدْعِيَّةَ وَالشَّرِكِيَّةَ فَلِهَذَا كَرِهَ مَالِكٌ ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذَا ، وَإِنْ لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَيْسَ فِيهِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ . فَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَرْوِيَ بِإِسْنَادٍ ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ شَيْئًا فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ الثَّابِتُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ يُنَاقِضُ الْمَعْنَى الْفَاسِدَ الَّذِي تَرْوِيهِ الْجُهَّالُ بِهَذَا اللَّفْظِ . كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُمَا كُنْتُمْ } . وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ كُرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا . وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلُ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ } . وَأَشْبَاهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ . فَكَيْفَ يَعْدِلُ مَنْ لَهُ عِلْمٌ وَإِيمَانٌ عَنْ مُوجِبِ هَذِهِ النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ إلَى مَا يُنَاقِضُ مَعْنَاهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَمْ يُثْبِتْ مِنْهَا شَيْئًا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ زِيَارَةِ النِّسَاءِ الْقُبُورَ : هَلْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ } رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِي وَصَحَّحَهُ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجِ } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ : أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي وَابْنُ مَاجَه . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَأَخْرَجَهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ نَهَى زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ . } . فَإِنْ قِيلَ فَالنَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ كَمَا قَالَ ذَلِكَ أَهْلُ الْقَوْلِ الْآخَرِ . قِيلَ : هَذَا لَيْسَ بِجَيِّدِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ

الْقُبُورِ فَزُورُوهَا } هَذَا خِطَابٌ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَإِنَّ اللَّفْظَ لَفْظٌ مُذَكَّرٌ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالذُّكُورِ أَوْ مُتَنَاوِلٌ لِغَيْرِهِمْ بِطَرِيقِ التَّبَعِ ، فَإِنْ كَانَ مُخْتَصًّا بِهِمْ فَلَا ذِكْرَ لِلنِّسَاءِ وَإِنْ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِغَيْرِهِمْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ عَامًّا وَقَوْلُهُ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ } خَاصٌّ بِالنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } فَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ سَوَاءٌ كَانُوا ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا وَأَمَّا الَّذِينَ يَزُورُونَ فَإِنَّمَا لَعَنَ النِّسَاءَ الزَّوَّارَاتِ دُونَ الرِّجَالِ وَإِذَا كَانَ هَذَا خَاصًّا وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الرُّخْصَةِ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعَامِّ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَذَلِكَ لَوْ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَهَا . وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ } فَهَذَا عَامٌّ وَالنِّسَاءُ لَمْ يَدْخُلْنَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ نَهَى النِّسَاءَ عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ ، { عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي نُشَيِّعُ مَيِّتًا فَلَمَّا فَرَغْنَا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْصَرَفْنَا مَعَهُ فَلَمَّا تَوَسَّطْنَا الطَّرِيقَ إذَا نَحْنُ بِامْرَأَةٍ مُقْبِلَةٍ فَلَمَّا دَنَتْ إذَا هِيَ فَاطِمَةُ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَخْرَجَك يَا فَاطِمَةُ مِنْ بَيْتِك قَالَتْ : أَتَيْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهْلَ هَذَا

الْبَيْتِ فَعَزَّيْنَاهُمْ بِمَيِّتِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّك بَلَغْت مَعَهُمْ الْكُدَى أَمَا إنَّك لَوْ بَلَغْت مَعَهُمْ الْكُدَى مَا رَأَيْت الْجَنَّةَ حَتَّى يَرَاهَا جَدُّ أَبِيك } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَقَدْ فَسَّرَ " الْكُدَى " بِالْقُبُورِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ الْمَيِّتُ يَسْمَعُ كَلَامَ زَائِرِهِ وَيَرَى شَخْصَهُ ؟ وَهَلْ تُعَادُ رُوحُهُ إلَى جَسَدِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَمْ تَكُونُ تُرَفْرِفُ عَلَى قَبْرِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَغَيْرِهِ ؟ وَهَلْ تَصِلُ إلَيْهِ الْقِرَاءَةُ وَالصَّدَقَةُ مِنْ نَاحِلِيهِ وَغَيْرِهِمْ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْمَالِ الْمَوْرُوثِ عَنْهُ وَغَيْرِهِ ؟ وَهَلْ تُجْمَعُ رُوحُهُ مَعَ أَرْوَاحِ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ الَّذِينَ مَاتُوا قَبْلَهُ سَوَاءٌ كَانَ مَدْفُونًا قَرِيبًا مِنْهُمْ أَوْ بَعِيدًا ؟ وَهَلْ تُنْقَلُ رُوحُهُ إلَى جَسَدِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ يَكُونُ بَدَنُهُ إذَا مَاتَ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ وَدُفِنَ بِهَا يُنْقَلُ إلَى الْأَرْضِ الَّتِي وُلِدَ بِهَا ؟ وَهَلْ يَتَأَذَّى بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ ؟ وَالْمَسْئُولُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْجَوَابَ عَنْ هَذِهِ الْفُصُولِ - فَصْلًا فَصْلًا - جَوَابًا وَاضِحًا مُسْتَوْعِبًا لِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا نُقِلَ فِيهِ عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَشَرْحَ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ : أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ وَاخْتِلَافِهِمْ وَمَا الرَّاجِحُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، نَعَمْ يَسْمَعُ الْمَيِّتُ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ } . وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَالَ : يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ يَا عتبة بْنَ رَبِيعَةَ يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا ؟ فَإِنِّي وَجَدْت مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا فَسَمِعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُونَ وَأَنَّى يُجِيبُونَ وَقَدْ جُيِّفُوا فَقَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتَ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا } ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ فَقَالَ : هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا ؟ وَقَالَ : إنَّهُمْ يَسْمَعُونَ الْآنَ مَا أَقُولُ } . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالسَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ . وَيَقُولُ : { قُولُوا السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ } فَهَذَا خِطَابٌ لَهُمْ وَإِنَّمَا يُخَاطَبُ مَنْ يَسْمَعُ ، وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ رَجُلٍ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ . } . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { أَكْثِرُوا مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْك ؟ وَقَدْ أَرَمْت - يَعْنِي صِرْت رَمِيمًا - فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ } وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِقَبْرِي مَلَائِكَةً يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ . } . فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَأَمْثَالُهَا تُبَيِّنُ أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ فِي الْجُمْلَةِ كَلَامَ الْحَيِّ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ لَهُ دَائِمًا بَلْ قَدْ يَسْمَعُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ كَمَا قَدْ يَعْرِضُ لِلْحَيِّ فَإِنَّهُ قَدْ يَسْمَعُ أَحْيَانًا خِطَابَ مَنْ يُخَاطِبُهُ وَقَدْ لَا يَسْمَعُ لِعَارِضٍ يَعْرِضُ لَهُ وَهَذَا السَّمْعُ سَمْعُ إدْرَاكٍ لَيْسَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جَزَاءٌ وَلَا هُوَ السَّمْعُ الْمَنْفِيُّ بِقَوْلِهِ : { إنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } فَإِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ سَمْعُ الْقَبُولِ وَالِامْتِثَالِ ، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْكَافِرَ كَالْمَيِّتِ الَّذِي لَا يَسْتَجِيبُ لِمَنْ دَعَاهُ وَكَالْبَهَائِمِ الَّتِي تَسْمَعُ الصَّوْتَ وَلَا تَفْقَهُ الْمَعْنَى ، فَالْمَيِّتُ وَإِنْ سَمِعَ الْكَلَامَ وَفَقِهَ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إجَابَةُ الدَّاعِي وَلَا امْتِثَالُ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ فَلَا يَنْتَفِعُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَإِنْ سَمِعَ الْخِطَابَ وَفَهِمَ الْمَعْنَى ، كَمَا

قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ . } . وَأَمَّا رُؤْيَةُ الْمَيِّتِ : فَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : هَلْ تُعَادُ رُوحُهُ إلَى بَدَنِهِ ذَلِكَ الْوَقْتَ أَمْ تَكُونُ تُرَفْرِفُ عَلَى قَبْرِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَغَيْرِهِ ؟ فَإِنَّ رُوحَهُ تُعَادُ إلَى الْبَدَنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ، وَتُعَادُ أَيْضًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ ، وَأَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِي وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ : { أَنَّ نَسَمَةَ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يُعَلَّقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ } وَفِي لَفْظٍ { ثُمَّ تَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ } وَمَعَ ذَلِكَ فَتَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ مَتَى شَاءَ اللَّهُ وَذَلِكَ فِي اللَّحْظَةِ بِمَنْزِلَةِ نُزُولِ الْمَلَكِ وَظُهُورِ الشُّعَاعِ فِي الْأَرْضِ وَانْتِبَاهِ النَّائِمِ . هَذَا وَجَاءَ فِي عِدَّةِ آثَارٍ أَنَّ الْأَرْوَاحَ تَكُونُ فِي أَفْنِيَةِ الْقُبُورِ قَالَ مُجَاهِدٌ : الْأَرْوَاحُ تَكُونُ عَلَى أَفْنِيَةُ الْقُبُورِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ مِنْ يَوْمِ دَفْنِ الْمَيِّتِ لَا تُفَارِقُهُ فَهَذَا يَكُونُ أَحْيَانًا وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : بَلَغَنِي أَنَّ الْأَرْوَاحَ مُرْسَلَةٌ تَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَتْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الْقِرَاءَةُ وَالصَّدَقَةُ " وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي وُصُولِ ثَوَابِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ كَمَا يَصِلُ إلَيْهِ أَيْضًا الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ وَالدُّعَاءُ عِنْدَ قَبْرِهِ . وَتَنَازَعُوا فِي وُصُولِ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ : كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ . وَالصَّوَابُ أَنَّ الْجَمِيعَ يَصِلُ إلَيْهِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ } وَثَبَتَ أَيْضًا : { أَنَّهُ أَمَرَ امْرَأَةً مَاتَتْ أُمُّهَا وَعَلَيْهَا صَوْمٌ أَنْ تَصُومَ عَنْ أُمِّهَا } . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ العاص : { لَوْ أَنَّ أَبَاك أَسْلَمَ فَتَصَدَّقْت عَنْهُ أَوْ صُمْت أَوْ أَعْتَقْت عَنْهُ نَفَعَهُ ذَلِكَ } وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا احْتِجَاجُ بَعْضِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } فَيُقَالُ لَهُ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ : أَنَّهُ يُصَلَّى

عَلَيْهِ وَيُدْعَى لَهُ وَيُسْتَغْفَرُ لَهُ ، وَهَذَا مِنْ سَعْيِ غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ قَدْ ثَبَتَ مَا سَلَفَ مِنْ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِالصَّدَقَةِ عَنْهُ وَالْعِتْقِ وَهُوَ مِنْ سَعْيِ غَيْرِهِ ، وَمَا كَانَ مِنْ جَوَابِهِمْ فِي مَوَارِدِ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ جَوَابُ الْبَاقِينَ فِي مَوَاقِعِ النِّزَاعِ . وَلِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ . لَكِنَّ الْجَوَابَ الْمُحَقَّقَ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ : إنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْتَفِعُ إلَّا بِسَعْيِ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا قَالَ : { لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } فَهُوَ لَا يَمْلِكُ إلَّا سَعْيَهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرَ ذَلِكَ . وَأَمَّا سَعْيُ غَيْرِهِ فَهُوَ لَهُ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمْلِكُ إلَّا مَالَ نَفْسِهِ وَنَفْعَ نَفْسِهِ ، فَمَالُ غَيْرِهِ وَنَفْعُ غَيْرِهِ هُوَ كَذَلِكَ لِلْغَيْرِ ؛ لَكِنْ إذَا تَبَرَّعَ لَهُ الْغَيْرُ بِذَلِكَ جَازَ . وَهَكَذَا هَذَا إذَا تَبَرَّعَ لَهُ الْغَيْرُ بِسَعْيِهِ نَفَعَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ كَمَا يَنْفَعُهُ بِدُعَائِهِ لَهُ وَالصَّدَقَةِ عَنْهُ وَهُوَ يَنْتَفِعُ بِكُلِّ مَا يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَقَارِبِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ كَمَا يَنْتَفِعُ بِصَلَاةِ الْمُصَلِّينَ عَلَيْهِ وَدُعَائِهِمْ لَهُ عِنْدَ قَبْرِهِ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُهُ : هَلْ تَجْتَمِعُ رُوحُهُ مَعَ أَرْوَاحِ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ ؟ فَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أبي أيوب الأنصاري وغيره من السلف ورواه أبو حاتم في الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا عُرِجَ بِرُوحِهِ تَلَقَّتْهُ الْأَرْوَاحُ يَسْأَلُونَهُ عَنْ الْأَحْيَاءِ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ : دَعُوهُ حَتَّى يَسْتَرِيحَ فَيَقُولُونَ لَهُ : مَا فَعَلَ فُلَانٌ ؟ فَيَقُولُ : عَمِلَ عَمَلَ صَلَاحٍ فَيَقُولُونَ : مَا فَعَلَ فُلَانٌ ؟ فَيَقُولُ : أَلَمْ يَقْدَمْ عَلَيْكُمْ فَيَقُولُونَ : لَا فَيَقُولُونَ ذُهِبَ بِهِ إلَى الْهَاوِيَةِ } . وَلَمَّا كَانَتْ أَعْمَالُ الْأَحْيَاءِ تُعْرَضُ عَلَى الْمَوْتَى كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ : " اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَعْمَلَ عَمَلًا أُخْزَى بِهِ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ " . فَهَذَا اجْتِمَاعُهُمْ عِنْدَ قُدُومِهِ يَسْأَلُونَهُ فَيُجِيبُهُمْ . وَمَا اسْتِقْرَارُهُمْ فَبِحَسَبِ مَنَازِلِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ فَمَنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ كَانَتْ مَنْزِلَتُهُ أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ؛ لَكِنَّ الْأَعْلَى يَنْزِلُ إلَى الْأَسْفَلِ وَالْأَسْفَلَ لَا يَصْعَدُ إلَى الْأَعْلَى فَيَجْتَمِعُونَ إذَا شَاءَ اللَّهُ كَمَا يَجْتَمِعُونَ فِي الدُّنْيَا مَعَ تَفَاوُتِ مَنَازِلِهِمْ وَيَتَزَاوَرُونَ .

وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمَدَافِنُ مُتَبَاعِدَةً فِي الدُّنْيَا أَوْ مُتَقَارِبَةً ، قَدْ تَجْتَمِعُ الْأَرْوَاحُ مَعَ تَبَاعُدِ الْمَدَافِنِ وَقَدْ تَفْتَرِقُ مَعَ تَقَارُبِ الْمَدَافِنِ يُدْفَنُ الْمُؤْمِنُ عِنْدَ الْكَافِرِ وَرُوحُ هَذَا فِي الْجَنَّةِ وَرُوحُ هَذَا فِي النَّارِ وَالرَّجُلَانِ يَكُونَانِ جَالِسَيْنِ أَوْ نَائِمَيْنِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَقَلْبُ هَذَا يُنَعَّمُ وَقَلْبُ هَذَا يُعَذَّبُ وَلَيْسَ بَيْنَ الرُّوحَيْنِ اتِّصَالٌ ، فَالْأَرْوَاحُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ : فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ . } وَالْبَدَنُ لَا يُنْقَلُ إلَى مَوْضِعِ الْوِلَادَةِ بَلْ قَدْ جَاءَ : { أَنَّ الْمَيِّتَ يُذَرُّ عَلَيْهِ مِنْ تُرَابِ حُفْرَتِهِ } وَمِثْلُ هَذَا لَا يُجْزَمُ بِهِ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ ، بَلْ أَجْوَدُ مِنْهُ حَدِيثٌ آخَرُ فِيهِ : { أَنَّهُ مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ إلَّا قِيسَ لَهُ مِنْ مَسْقَطِ رَأْسِهِ إلَى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ فِي الْجَنَّةِ } . وَالْإِنْسَانُ يُبْعَثُ مِنْ حَيْثُ مَاتَ وَبَدَنُهُ فِي قَبْرِهِ مُشَاهَدٌ فَلَا تُدْفَعُ الْمُشَاهَدَةُ بِظُنُونٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا بَلْ هِيَ مُخَالِفَةٌ فِي الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : هَلْ يُؤْذِيهِ الْبُكَاءُ عَلَيْهِ ؟ . فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالْعُلَمَاءِ . وَالصَّوَابُ

أَنَّهُ يَتَأَذَّى بِالْبُكَاءِ عَلَيْهِ كَمَا نَطَقَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ } - وَفِي لَفْظٍ - { مَنْ يُنَحْ عَلَيْهِ يُعَذَّبْ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ } " وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ لَمَّا أُغْمِيَ عَلَيْهِ جَعَلَتْ أُخْتُهُ تَنْدُبُ وَتَقُولُ : وَاعَضُدَاه وَانَاصِرَاه فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ : مَا قُلْت لِي شَيْئًا إلَّا قِيلَ لِي : أَكَذَلِكَ أَنْتَ ؟ . وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَعْذِيبِ الْإِنْسَانِ بِذَنْبِ غَيْرِهِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } ثُمَّ تَنَوَّعَتْ طُرُقُهُمْ فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ . فَمِنْهُمْ مَنْ غَلَّطَ الرُّوَاةَ لَهَا كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ عَائِشَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا . وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى مَا إذَا أَوْصَى بِهِ فَيُعَذَّبُ عَلَى إيصَائِهِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ : كالمزني وَغَيْرِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ فَيُعَذَّبُ عَلَى تَرْكِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ : مِنْهُمْ جَدِّي أَبُو الْبَرَكَاتِ وَكُلُّ

هَذِهِ الْأَقْوَالِ ضَعِيفَةٌ جِدًّا . وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ الَّتِي يَرْوِيهَا مِثْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ لَا تُرَدُّ بِمِثْلِ هَذَا . وَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَهَا مِثْلُ هَذَا نَظَائِرُ تَرُدُّ الْحَدِيثَ بِنَوْعٍ مِنْ التَّأْوِيلِ وَالِاجْتِهَادِ لِاعْتِقَادِهَا بُطْلَانَ مَعْنَاهُ وَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا الْبَابَ وَجَدَ هَذَا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الصَّرِيحَ الَّذِي يَرْوِيهِ الثِّقَةُ لَا يَرُدُّهُ أَحَدٌ بِمِثْلِ هَذَا إلَّا كَانَ مُخْطِئًا . وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَوَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظَيْنِ - وَهِيَ الصَّادِقَةُ فِيمَا نَقَلَتْهُ - فَرَوَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ : { إنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ } وَهَذَا مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ عُمَرَ فَإِنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَزِيدَهُ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ جَازَ أَنْ يُعَذِّبَ غَيْرَهُ ابْتِدَاءً بِبُكَاءِ أَهْلِهِ ؛ وَلِهَذَا رَدَّ الشَّافِعِيُّ فِي مُخْتَلَفِ الْحَدِيثِ هَذَا الْحَدِيثَ نَظَرًا إلَى الْمَعْنَى ، وَقَالَ : الْأَشْبَهُ رِوَايَتُهَا الْأُخْرَى : { أَنَّهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَيُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ . } وَاَلَّذِينَ أَقَرُّوا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى مُقْتَضَاهُ ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ عُقُوبَةِ الْإِنْسَانِ بِذَنْبِ غَيْرِهِ وَأَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ، وَاعْتَقَدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ اللَّهَ يُعَاقِبُ الْإِنْسَانَ بِذَنْبِ غَيْرِهِ فَجَوَّزُوا

أَنْ يُدْخِلُوا أَوْلَادَ الْكُفَّارِ النَّارَ بِذُنُوبِ آبَائِهِمْ ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ طَوَائِفُ مُنْتَسِبَةٌ إلَى السُّنَّةِ فَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُدْخِلُ النَّارَ إلَّا مَنْ عَصَاهُ كَمَا قَالَ : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } فَلَا بُدَّ أَنْ يَمْلَأَ جَهَنَّمَ مِنْ أَتْبَاعِ إبْلِيسَ فَإِذَا امْتَلَأَتْ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ فِيهَا مَوْضِعٌ فَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْ إبْلِيسَ لَمْ يَدْخُلْ النَّارَ . وَأَطْفَالُ الْكُفَّارِ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِيهِمْ : أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ : اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ . كَمَا قَدْ أَجَابَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، فَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا : إنَّهُمْ كُلُّهُمْ فِي النَّارِ وَاخْتَارَ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ غَلَطٌ عَلَى أَحْمَد . وَطَائِفَةٌ جَزَمُوا أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ وَاخْتَارَ ذَلِكَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثٍ فِيهِ رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا رَأَى إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ وَعِنْدَهُ أَطْفَالُ الْمُؤْمِنِينَ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ ؟ قَالَ : وَأَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ . } وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ : اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ وَلَا يُحْكَمُ لِمُعَيَّنٍ مِنْهُمْ بِجَنَّةِ وَلَا نَارٍ وَقَدْ جَاءَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ يُؤْمَرُونَ وَيُنْهَوْنَ فَمَنْ أَطَاعَ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ

عَصَى دَخَلَ النَّارَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . وَالتَّكْلِيفُ إنَّمَا يَنْقَطِعُ بِدُخُولِ دَارِ الْجَزَاءِ وَهِيَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ وَأَمَّا عَرَصَاتُ الْقِيَامَةِ فَيُمْتَحَنُونَ فِيهَا كَمَا يُمْتَحَنُونَ فِي الْبَرْزَخِ فَيُقَالُ لِأَحَدِهِمْ : مَنْ رَبُّك ؟ وَمَا دِينُك ؟ وَمَنْ نَبِيُّك ؟ وَقَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ } { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَتَجَلَّى اللَّهُ لِعِبَادِهِ فِي الْمَوْقِفِ إذَا قِيلَ : لِيَتْبَعْ كُلُّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فَيَتْبَعُ الْمُشْرِكُونَ آلِهَتَهُمْ وَيَبْقَى الْمُؤْمِنُونَ فَيَتَجَلَّى لَهُمْ الرَّبُّ الْحَقُّ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْرِفُونَ فَيُنْكِرُونَهُ ثُمَّ يَتَجَلَّى لَهُمْ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَسْجُدُ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ وَتَبْقَى ظُهُورُ الْمُنَافِقِينَ كَقُرُونِ الْبَقَرِ فَيُرِيدُونَ أَنْ يَسْجُدُوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } الْآيَةَ } وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هَاهُنَا أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا فِي الْآخِرَةِ إلَّا بِذَنْبِهِ وَأَنَّهُ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَقَوْلُهُ : { إنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ } لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّائِحَةَ لَا تُعَاقَبُ بَلْ النَّائِحَةُ تُعَاقَبُ عَلَى النِّيَاحَةِ كَمَا فِي

الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { أَنَّ النَّائِحَةَ إذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تَلْبَسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دِرْعًا مِنْ جَرَبٍ وَسِرْبَالًا مِنْ قَطِرَانٍ } فَلَا يَحْمِلُ عَمَّنْ يَنُوحُ وِزْرَهُ أَحَدٌ . وَأَمَّا تَعْذِيبُ الْمَيِّتِ : فَهُوَ لَمْ يَقُلْ : إنَّ الْمَيِّتَ يُعَاقَبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ ، بَلْ قَالَ : " يُعَذَّبُ " وَالْعَذَابُ أَعَمُّ مِنْ الْعِقَابِ فَإِنَّ الْعَذَابَ هُوَ الْأَلَمُ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ تَأَلَّمَ بِسَبَبٍ كَانَ ذَلِكَ عِقَابًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ } فَسَمَّى السَّفَرَ عَذَابًا وَلَيْسَ هُوَ عِقَابًا عَلَى ذَنْبٍ . وَالْإِنْسَانُ يُعَذَّبُ بِالْأُمُورِ الْمَكْرُوهَةِ الَّتِي يَشْعُرُ بِهَا مِثْلَ الْأَصْوَاتِ الْهَائِلَةِ وَالْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ وَالصُّوَرِ الْقَبِيحَةِ فَهُوَ يَتَعَذَّبُ بِسَمَاعِ هَذَا وَشَمِّ هَذَا وَرُؤْيَةِ هَذَا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَمَلًا لَهُ عُوقِبَ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يُنْكَرُ أَنْ يُعَذَّبَ الْمَيِّتُ بِالنِّيَاحَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ النِّيَاحَةُ عَمَلًا لَهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ ؟ . وَالْإِنْسَانُ فِي قَبْرِهِ يُعَذَّبُ بِكَلَامِ بَعْضِ النَّاسِ وَيَتَأَلَّمُ بِرُؤْيَةِ بَعْضِهِمْ وَبِسَمَاعِ كَلَامِهِ وَلِهَذَا أَفْتَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : بِأَنَّ الْمَوْتَى إذَا عُمِلَ عِنْدَهُمْ الْمَعَاصِي فَإِنَّهُمْ يَتَأَلَّمُونَ بِهَا كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ ، فَتَعْذِيبُهُمْ

بِعَمَلِ الْمَعَاصِي عِنْدَ قُبُورِهِمْ كَتَعْذِيبِهِمْ بِنِيَاحَةِ مَنْ يَنُوحُ عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ النِّيَاحَةُ سَبَبُ الْعَذَابِ . وَقَدْ يَنْدَفِعُ حُكْمُ السَّبَبِ بِمَا يُعَارِضُهُ فَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَيِّتِ مِنْ قُوَّةِ الْكَرَامَةِ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ مِنْ الْعَذَابِ كَمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ النَّاسِ مِنْ الْقُوَّةِ مَا يَدْفَعُ ضَرَرَ الْأَصْوَاتِ الْهَائِلَةِ وَالْأَرْوَاحِ وَالصُّوَرِ الْقَبِيحَةِ . وَأَحَادِيثُ الْوَعِيدِ يُذْكَرُ فِيهَا السَّبَبُ ، وَقَدْ يَتَخَلَّفُ مُوجِبُهُ لِمَوَانِعَ تَدْفَعُ ذَلِكَ : إمَّا بِتَوْبَةٍ مَقْبُولَةٍ وَإِمَّا بِحَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ وَإِمَّا بِمَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ وَإِمَّا بِشَفَاعَةِ شَفِيعٍ مُطَاعٍ وَإِمَّا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ فَإِنَّهُ { لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ . } وَمَا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا وَالْبَرْزَخِ وَالْقِيَامَةِ مِنْ الْأَلَمِ الَّتِي هِيَ عَذَابٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهِ خَطَايَاهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا أَذًى حَتَّى الشَّوْكَةَ يَشَاكُهَا إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ . } . وَفِي الْمُسْنَدِ { لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ جَاءَتْ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا

فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْت تَحْزَنُ أَلَسْت يُصِيبُك الْأَذَى } فَإِنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةٌ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا طَيِّبٌ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { أَنَّهُمْ إذَا عَبَرُوا عَلَى الصِّرَاطِ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ } . وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ . وَمَا ذَكَرْنَا فِي أَنَّ الْمَوْتَى يَسْمَعُونَ الْخِطَابَ وَيَصِلُ إلَيْهِمْ الثَّوَابُ وَيُعَذَّبُونَ بِالنِّيَاحَةِ بَلْ وَمَا لَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ السَّائِلُ مِنْ عِقَابِهِمْ فِي قُبُورِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ يُكْشَفُ لِكَثِيرٍ مِنْ أَبْنَاءِ زَمَانِنَا يَقَظَةً وَمَنَامًا وَيَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَيَتَحَقَّقُونَهُ وَعِنْدَنَا مِنْ ذَلِكَ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ لَكِنَّ الْجَوَابَ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ يُعْتَمَدُ فِيهِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَمَا كُشِفَ لِلْإِنْسَانِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَخْبَرَهُ بِهِ مَنْ هُوَ صَادِقٌ عِنْدَهُ فَهَذَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ عَلِمَهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُهُ إيمَانًا وَتَصْدِيقًا بِمَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ الْإِيمَانُ بِغَيْرِ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْجَبَ التَّصْدِيقَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } الْآيَةَ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ } . فَالْمُحَدِّثُ الْمُلْهَمُ الْمُكَاشَفُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَزِنَ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنْ وَافَقَ ذَلِكَ صَدَّقَ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ وَإِنْ خَالَفَ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ ، كَمَا كَانَ يَجِبُ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ سَيِّدُ الْمُحَدِّثِينَ إذَا أُلْقِيَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ وَكَانَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَعْصُومًا وَإِنَّمَا الْعِصْمَةُ لِلنُّبُوَّةِ . وَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ أَفْضَلَ مِنْ عُمَرَ فَإِنَّ الصِّدِّيقَ لَا يَتَلَقَّى مِنْ قَلْبِهِ بَلْ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ وَهِيَ مَعْصُومَةٌ وَالْمُحَدِّثُ يَتَلَقَّى تَارَةً عَنْ قَلْبِهِ وَتَارَةً عَنْ النُّبُوَّةِ فَمَا تَلَقَّاهُ عَنْ النُّبُوَّةِ فَهُوَ مَعْصُومٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَمَا أُلْهِمَ فِي قَلْبِهِ : فَإِنْ وَافَقَ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّةُ فَهُوَ حَقٌّ وَإِنْ خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ . فَلِهَذَا لَا يَعْتَمِدُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فِي مِثْلِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ إلَّا عَلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ شَوَاهِدُ وَبَيِّنَاتٌ مِمَّا شَاهَدُوهُ وَوَجَدُوهُ وَمِمَّا عَقَلُوهُ وَعَمِلُوهُ وَذَلِكَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ هُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمَّا حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فَهُمْ رُسُلُهُ وَإِلَّا فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ فِيهَا مِنْ الدَّلَائِلِ وَالِاعْتِبَارَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّوَاهِدِ

الْحِسِّيَّةِ الْكَشْفِيَّةِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ وَجَدَ ذَلِكَ وَقِيَاسُ بَنِي آدَمَ وَكَشْفُهُمْ تَابِعٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا مُخَالِفٌ لَهُ وَمَعَ كَوْنِهِ حَقًّا فَلَا يُفَصَّلُ الْخِلَافُ بَيْنَ النَّاسِ وَلَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ التَّصْدِيقُ بِهِ كَمَا يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِمَا عُرِفَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ وَهُوَ كَلَامُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ . وَلَكِنْ مَنْ حَصَلَ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ بَصِيرَةٌ أَوْ قِيَاسٌ أَوْ بُرْهَانٌ كَانَ ذَلِكَ نُورًا عَلَى نُورٍ . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : بَصِيرَةُ الْمُؤْمِنِ تَنْطِقُ بِالْحِكْمَةِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ فِيهَا بِأَثَرِ ، فَإِذَا جَاءَ الْأَثَرُ كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } قَالَ تَعَالَى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ يَتَكَلَّمُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
يَتَكَلَّمُ وَقَدْ يَسْمَعُ أَيْضًا مَنْ كَلَّمَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّهُمْ يَسْمَعُونَ قَرْعَ نِعَالِهِمْ } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ الْمَيِّتَ يُسْأَلُ فِي قَبْرِهِ : فَيُقَالُ لَهُ : مَنْ رَبُّك ؟ وَمَا دِينُك ؟ وَمَنْ نَبِيُّك ؟ فَيُثَبِّتُ اللَّهُ الْمُؤْمِنَ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فَيَقُولُ : اللَّهُ رَبِّي وَالْإِسْلَامُ دِينِي وَمُحَمَّدٌ نَبِيِّي وَيُقَالُ لَهُ : مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ ؟ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ : هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ } . وَهَذَا تَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ . وَكَذَلِكَ يَتَكَلَّمُ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ : آهْ آهْ لَا أَدْرِي سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته فَيُضْرَبُ بِمِرْزَبَّةِ مِنْ حَدِيدٍ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الْإِنْسَانَ .

وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْلَا أَلَّا تدافنوا لَسَأَلْت اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مِثْلَ الَّذِي أَسْمَعُ } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ نَادَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ لَمَّا أَلْقَاهُمْ فِي الْقَلِيبِ وَقَالَ : { مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ } وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ مُنْتَشِرَةٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ بُكَاءِ الْأُمِّ وَالْإِخْوَةِ عَلَى الْمَيِّتِ : هَلْ فِيهِ بَأْسٌ عَلَى الْمَيِّتِ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا دَمْعُ الْعَيْنِ وَحُزْنُ الْقَلْبِ فَلَا إثْمَ فِيهِ ؛ لَكِنَّ النَّدْبَ وَالنِّيَاحَةَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَأَيُّ صَدَقَةٍ تُصُدِّقَ بِهَا عَنْ الْمَيِّتِ نَفَعَهُ ذَلِكَ .
وَسُئِلَ :
عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالتَّعْزِيَةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
التَّعْزِيَةُ مُسْتَحَبَّةٌ فَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ } . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ :

مَا نَقَصَ مِنْ عُمُرِهِ زَادَ فِي عُمُرِك فَغَيْرُ مُسْتَحَبٍّ بَلْ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ بِمَا يَنْفَعُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَك وَأَحْسَنَ عَزَاك وَغَفَرَ لِمَيِّتِك . وَأَمَّا نَقْصُ الْعُمُرِ وَزِيَادَتُهُ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ بِحَالِ وَيُحْمَلُ مَا وَرَدَ عَلَى زِيَادَةِ الْبَرَكَةِ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَحْصُلُ نَقْصٌ وَزِيَادَةٌ عَمَّا كُتِبَ فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ . وَأَمَّا عِلْمُ اللَّهِ الْقَدِيمُ فَلَا يَتَغَيَّرُ . وَأَمَّا اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ : فَهَلْ يُغَيَّرُ مَا فِيهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَعَلَى هَذَا يَتَّفِقُ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ النُّصُوصِ . وَأَمَّا صَنْعَةُ الطَّعَامِ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ فَمُسْتَحَبَّةٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ } لَكِنْ إنَّمَا يَطِيبُ إذَا كَانَ بِطِيبِ نَفْسِ الْمُهْدِي وَكَانَ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مُكَافَأَةً عَنْ مَعْرُوفٍ مِثْلِهِ فَإِنْ عَلِمَ الرَّجُلُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاحٍ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ وَإِنْ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ فَلَا بَأْسَ بِتَنَاوُلِ الْيَسِيرِ مِنْهُ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ مِثْلَ تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَنُوحُ عَلَى الْقَبْرِ وَيَذْكُرُ شَيْئًا لَا يَلِيقُ وَالنِّسَاءُ مُكْشِفَاتُ الْوُجُوهِ وَالرِّجَالُ حَوْلَهُمْ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، النِّيَاحَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْمَعْرُوفِينَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ النَّائِحَةَ إذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا فَإِنَّهَا تَلْبَسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دِرْعًا مِنْ جَرَبٍ وَسِرْبَالًا مِنْ قَطِرَانٍ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ : { أَنَّهُ لَعَنَ النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ قَالَ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ . } .
وَكَشْفُ النِّسَاءِ وُجُوهَهُنَّ بِحَيْثُ يَرَاهُنَّ الْأَجَانِبُ غَيْرُ جَائِزٍ وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ هَذَا الْمُنْكَرِ وَغَيْرِهِ وَمَنْ لَمْ يَرْتَدِعْ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَزْجُرُهُ لَا سِيَّمَا النَّوْحُ لِلنِّسَاءِ عِنْدَ الْقُبُورِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي الَّتِي يَكْرَهُهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ - مِنْ الْجَزَعِ

وَالنَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ وَإِيذَاءِ الْمَيِّتِ وَفِتْنَةِ الْحَيِّ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَتَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ الصَّبْرِ وَالِاحْتِسَابِ وَفِعْلِ أَسْبَابِ الْفَوَاحِشِ وَفَتْحِ بَابِهَا - مَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْهَوْا عَنْهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
__________
آخِرُ الْمُجَلَّدِ الْرَابِعِ وَالْعِشْرِينَ

الْجُزْءُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ
كِتَابُ الفِقْهِ
الْجُزْءُ الخَامِسُ : الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كِتَابُ الزَّكَاةِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة رَحِمَهُ اللَّهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْعَمَ عَلَى عِبَادِهِ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ عَلَيْهِمْ وَمِنْ قَبْلِهَا تَمَّتْ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ وَأَكْمَلَ لَهُ الدِّينَ وَجَعَلَهُ مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ فَبَعَثَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَجَعَلَ كِتَابَهُ مُهَيْمِنًا عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ وَأَمَرَ فِيهِ

بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَبِالْإِحْسَانِ إلَى خَلْقِ اللَّهِ . فَقَالَ تَعَالَى : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } . وَجَعَلَ دِينَهُ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ : إسْلَامٌ ثُمَّ إيمَانٌ ثُمَّ إحْسَانٌ . وَجَعَلَ الْإِسْلَامَ مَبْنِيًّا عَلَى أَرْكَانٍ خَمْسَةٍ : وَمِنْ آكَدِهَا الصَّلَاةُ " وَهِيَ خَمْسَةُ فُرُوضٍ وَقَرَنَ مَعَهَا الزَّكَاةَ فَمِنْ آكَدِ الْعِبَادَاتِ الصَّلَاةُ وَتَلِيهَا الزَّكَاةُ فَفِي الصَّلَاةِ عِبَادَتُهُ وَفِي الزَّكَاةِ الْإِحْسَانُ إلَى خَلْقِهِ فَكَرَّرَ فَرْضَ الصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ آيَةٍ وَلَمْ يَذْكُرْهَا إلَّا قَرَنَ مَعَهَا الزَّكَاةَ . مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } وَقَالَ : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } وَقَالَ : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ " { أَنَّ جِبْرِيلَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِسْلَامِ

فَقَالَ : شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَحَجُّ الْبَيْتِ } وَعَنْهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } . { ولما بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ : إنَّك تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتَرُدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك لِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ } .
فَصْلٌ :
وَجَاءَ ذِكْرُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِي الْقُرْآنِ مُجْمَلًا فَبَيَّنَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ بَيَانَهُ أَيْضًا مِنْ الْوَحْيِ ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ .

قَالَ حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ : كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسُّنَّةِ يُعَلِّمُهُ إيَّاهَا كَمَا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ . وَقَدْ ذَكَرْت فِي الصَّلَاةِ فَصْلًا قَبْلَ هَذَا . وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ الزَّكَاةِ . فَنَذْكُرُ مَا تَيَسَّرَ مِنْ أَحْكَامِهَا وَبَعْضَ الْأَحَادِيثِ وَشَيْئًا مِنْ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ . فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الزَّكَاةَ صَدَقَةً وَزَكَاةً . وَلَفْظُ الزَّكَاةِ فِي اللُّغَةِ يَدُلُّ عَلَى النُّمُوِّ وَالزَّرْعُ يُقَالُ فِيهِ : زَكَا إذَا نَمَا وَلَا يَنْمُو إلَّا إذَا خَلَصَ مِنْ الدَّغَلِ . فَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي الشَّرِيعَةِ تَدُلُّ عَلَى الطَّهَارَةِ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } نَفْسُ الْمُتَصَدِّقِ تَزْكُو وَمَالُهُ يَزْكُو يَطْهُرُ وَيَزِيدُ فِي الْمَعْنَى . وَقَدْ أَفْهَمَ الشَّرْعُ أَنَّهَا شُرِعَتْ لِلْمُوَاسَاةِ وَلَا تَكُونُ الْمُوَاسَاةُ إلَّا فِيمَا لَهُ مَالٌ مِنْ الْأَمْوَالِ فَحَدَّ لَهُ أَنْصِبَةً وَوَضَعَهَا فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَنْمُو بِنَفْسِهِ ؛ كَالْمَاشِيَةِ وَالْحَرْثِ . وَمَا يَنْمُو بِتَغَيُّرِ عَيْنِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ كَالْعَيْنِ وَجَعَلَ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ عَلَى حِسَابِ التَّعَبِ فَمَا وُجِدَ مِنْ أَمْوَالِ الْجَاهِلِيَّةِ هُوَ أَقَلُّهُ تَعَبًا فَفِيهِ الْخُمُسُ ثُمَّ مَا فِيهِ التَّعَبُ مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ فِيهِ نِصْفُ الْخُمُسِ وَهُوَ الْعُشْرُ فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَمَا فِيهِ التَّعَبُ مِنْ طَرَفَيْنِ فِيهِ رُبُعُ الْخُمُسِ وَهُوَ نِصْفُ الْعُشْرِ فِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ وَمَا فِيهِ التَّعَبُ فِي طُولِ السَّنَةِ كَالْعَيْنِ فَفِيهِ ثُمُنُ ذَلِكَ وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ .

فَصْلٌ :
وَافْتَتَحَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ( كِتَابَ الزَّكَاةِ ) فِي مُوَطَّئِهِ بِذِكْرِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ ؛ لِأَنَّهُ أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي الْبَابِ وَكَذَلِكَ فَعَلَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَفِيهِ ذِكْرُ نِصَابِ الْوَرِقِ وَنِصَابِ الْإِبِلِ وَنِصَابِ الْحَبِّ وَالثَّمَرِ ثُمَّ الْمَاشِيَةُ وَالْعَيْنُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مُرُورِ الْحَوْلِ . فَثَنَّى بِمَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . فِي اعْتِبَارِ الْحَوْلِ . وَلَوْ كَانَ قَدْ خَالَفَهُمْ مُعَاوِيَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ فَمَا رَوَاهُ أَوْ قَالَهُ الْخُلَفَاءُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ لَا سِيَّمَا الصِّدِّيقُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي } وَقَوْلِهِ : { إنْ يُطِعْ الْقَوْمُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا } . ثُمَّ ذَكَرَ " نِصَابَ الذَّهَبِ " وَالْحُجَّةُ فِيهِ أَضْعَفُ مِنْ الْوَرِقِ فَلِهَذَا أَخَّرَهُ . ثُمَّ ذَكَرَ مَا تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْهُ فَذَكَرَ الْأَحَادِيثَ وَالْآيَاتِ فِي ذَلِكَ وَأَجْوَدُهَا حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَكِتَابُهُ فِي الصَّدَقَةِ وَذَكَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ : أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الْعَيْنِ وَالْحَرْثِ

وَالْمَاشِيَةِ وَاخْتَارَهُ . وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَهُوَ إجْمَاعٌ أَنَّ الزَّكَاةَ فِيمَا ذُكِرَ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي تِسْعَةِ أَشْيَاءَ : فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ . إذَا بَلَغَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ .
فَصْلٌ :
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ وَلَا فِيمَا دُون خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ . وَأَشَارَ بِخَمْسِ أَصَابِعِهِ } وَفِي لَفْظٍ - { لَيْسَ فِيمَا دُون خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ - وَفِي لَفْظٍ : ثَمَرٍ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ . وَفِي لَفْظٍ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ } وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { فِيمَا سَقَتْ الْأَنْهَارُ وَالْغَيْمُ الْعُشْرُ وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشْرِ } وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَلَفْظُهُ { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عثريا الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ } . وَفِي الْمُوَطَّأِ " الْعُيُونُ وَالْبَعْلُ " وَالْبَعْلُ : مَا شَرِبَ بِعُرُوقِهِ وَيَمْتَدُّ فِي الْأَرْضِ

وَلَا يَحْتَاجُ إلَى سَقْيٍ مِنْ الْكَرْمِ وَالنَّخْلُ . وَ " العثري " مَا تَسْقِيهِ السَّمَاءُ وَتُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ الْعِذْى وَقِيلَ يُجْمَعُ لَهُ مَاءُ الْمَطَرِ فَيَصِيرُ سواقيا يَتَّصِلُ الْمَاءُ بِهَا . قَالَ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ " فَوَائِدُ " مِنْهَا : إيجَابُ الصَّدَقَةِ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ وَنَفْيُهَا عَمَّا دُونَهُ وَ " الذَّوْدُ مِنْ الْإِبِلِ " مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ وَ " الْأُوقِيَّةُ " اسْمٌ لِوَزْنِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَ " النَّشُّ " نِصْفُ أُوقِيَّةٍ وَ " النَّوَاةُ " خَمْسَةُ دَرَاهِمَ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سلام وَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ : وَهِيَ الْخَمْسُ الْأَوَاقِي فَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ إيجَابُ الزَّكَاةِ فِيهِ لِعَدَمِ النَّصِّ بِالْعَفْوِ عَمَّا زَادَ وَنَصِّهِ عَلَى الْعَفْوِ فِيمَا دُونَهَا وَذَلِكَ إيجَابٌ لَهَا فِي الْخَمْسِ فَمَا فَوْقَهَا وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي ؛ وَاللَّيْثِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا . وَفِي الذَّهَبِ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ . يُرْوَى هَذَا عَنْ عُمَرَ وَبِهِ قَالَ سَعِيدٌ وَالْحَسَنُ وَطَاوُوسٌ وَعَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَمَكْحُولٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ

وَأَبُو حَنِيفَةَ . وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ الْجَمِيعِ .
فَصْلٌ :
" فَنِصَابُ الْوَرِقِ " الَّتِي تَجِبُ زَكَاتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ عَلَى مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ : { خَمْسُ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ } وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ . وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا : { وَفِي الرَّقَّةِ رُبُعُ الْعُشْرِ } . وَأَمَّا " نِصَابُ الذَّهَبِ " فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ : السُّنَّةُ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا عِنْدَنَا : أَنَّ الزَّكَاةَ . تَجِبُ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا كَمَا تَجِبُ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ . فَقَدْ حَكَى مَالِكٌ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَا حُكِيَ خِلَافٌ إلَّا عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ : لَا شَيْءَ فِي الذَّهَبِ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ مِثْقَالًا . نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى فِيهِ فَضَعِيفٌ . وَمَا دُونَ الْعِشْرِينَ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ وَقِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ . وَدَلَّ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ عَلَى إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ كَمَا وَجَبَتْ فِي الْفِضَّةِ . قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي

سَبِيلِ اللَّهِ } الْآيَةَ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا زَكَاتَهَا } الْحَدِيثَ . وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمَضْرُوبُ مِنْهَا دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ وَغَيْرُ الْمَضْرُوبِ .
فَصْلٌ :
وَهَلْ يَضُمُّ الذَّهَبَ إلَى الْفِضَّةِ فَيُكْمِلُ بِهِمَا النِّصَابَ وَيُزَكِّي أَمْ لَا ؟ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ : قِيلَ : لَا يَضُمُّ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ عَنْ شَرِيكٍ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ . وَقِيلَ : يَضُمُّ الذَّهَبَ ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ وَلَا يَضُمُّ الْوَرِقَ إلَى الذَّهَبِ ؛ لِأَنَّهَا أَصْلٌ . وَقِيلَ : يَضُمُّ بِشَرْطِ أَنَّ الْأَقَلَّ يَتْبَعُ الْأَكْثَرَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَالْأَوْزَاعِي . وَقِيلَ : يَضُمُّ لَكِنْ بِالْقِيمَةِ . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ . وَقِيلَ : يَضُمُّ بِالْأَجْزَاءِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وقتادة والنَّخَعِي

وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٌ وَصَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ : أَبِي يُوسُفَ . فَعِنْدَ هَؤُلَاءِ . مَنْ كَانَ مَعَهُ عَشْرُ دَنَانِيرَ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ ؛ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الْعَشَرَةِ مِائَةً وَخَمْسِينَ وَمَعَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّ الدِّينَارَ فِي الزَّكَاةِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَالضَّمُّ بِالْأَجْزَاءِ لَا بِالْقِيمَةِ .
فَصْلٌ :
وَالْحَوْلُ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ وَالْمَاشِيَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَثُ عُمَّالَهُ عَلَى الصَّدَقَةِ كُلَّ عَامٍ وَعَمِلَ بِذَلِكَ الْخُلَفَاءُ فِي الْمَاشِيَةِ وَالْعَيْنِ لِمَا عَلِمُوهُ مِنْ سُنَّتِهِ فَرَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عفان وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ قَالُوا : هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ . وَقَالُوا : لَا تَجِبُ زَكَاةُ مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ . قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا . إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا تَقَدَّمَ . فَمَنْ مَلَكَ نِصَابًا مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْوَرِقِ وَأَقَامَ فِي مِلْكِهِ حَوْلًا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ . وَإِنْ مَلَكَ دُونَ النِّصَابِ ثُمَّ مَلَكَ مَا يُتِمُّ النِّصَابَ بَنَى الْأَوَّلَ عَلَى حَوْلِ الثَّانِي . فَالِاعْتِبَارُ مِنْ يَوْمِ كَمُلَ النِّصَابُ . وَإِنْ مَلَكَ

نِصَابًا ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ مَلَكَ نِصَابًا بَنَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حَوْلِهِ وَرِبْحُ الْمَالِ مَضْمُومٌ إلَى أَصْلِهِ يُزَكِّي الرِّبْحَ لِحَوْلِ الْأَصْلِ وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ نِصَابًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ دُونَ النِّصَابِ فَتَمَّ عِنْدَ الْحَوْلِ نِصَابًا بِرِبْحِهِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ كَانَ مَعَهُ عَرَضٌ لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ مَلَكَ مَا يُكْمِلُ النِّصَابَ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْعُرُوضُ الَّتِي لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ فِي الْعُرُوضِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التِّجَارَةُ الزَّكَاةَ إذَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ : رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ وَالْحَسَنُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَمَيْمُونُ بْنُ مهران وطاوس والنَّخَعِي وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٌ ودَاوُد : لَا زَكَاةَ فِيهَا . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ { سَمُرَةَ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِمَّا نُعِدُّهُ لِلْبَيْعِ } . وَرُوِيَ عَنْ حَمَاسٍ قَالَ : مَرَّ بِي عُمَرَ فَقَالَ : أَدِّ زَكَاةَ مَالِك فَقُلْت : مَالِي إلَّا جِعَابٌ وَأُدْمٌ فَقَالَ قَوِّمْهَا ثُمَّ أَدِّ زَكَاتَهَا . وَاشْتَهَرَتْ الْقِصَّةُ بِلَا مُنْكِرٍ فَهِيَ إجْمَاعٌ .

وَأَمَّا مَالِكٌ فَمَذْهَبُهُ أَنَّ التُّجَّارَ عَلَى قِسْمَيْنِ : مُتَرَبِّصٍ وَمُدِيرٍ . فَالْمُتَرَبِّصُ : وَهُوَ الَّذِي يَشْتَرِي السِّلَعَ وَيَنْتَظِرُ بِهَا الْأَسْوَاقَ فَرُبَّمَا أَقَامَتْ السِّلَعُ عِنْدَهُ سِنِينَ فَهَذَا عِنْدَهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ فَيُزَكِّيَهَا لِعَامٍ وَاحِدٍ وَحُجَّتُهُ أَنَّ الزَّكَاةَ شُرِعَتْ فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ فَإِذَا زَكَّى السِّلْعَةَ كُلَّ عَامٍ - وَقَدْ تَكُونُ كَاسِدَةً - نَقَصَتْ عَنْ شِرَائِهَا فَيَتَضَرَّرُ فَإِذَا زُكِّيَتْ عِنْدَ الْبَيْعِ فَإِنْ كَانَتْ رَبِحَتْ فَالرِّبْحُ كَانَ كَامِنًا فِيهَا فَيُخْرِجُ زَكَاتَهُ وَلَا يُزَكِّي حَتَّى يَبِيعَ بِنِصَابٍ ثُمَّ يُزَكِّي بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَبِيعُهُ مِنْ كَثِيرٍ وَقَلِيلٍ . وَأَمَّا الْمُدِيرُ : وَهُوَ الَّذِي يَبِيعُ السِّلَعَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ فَلَا يَسْتَقِرُّ بِيَدِهِ . سِلْعَةٌ فَهَذَا يُزَكِّي فِي السَّنَةِ الْجَمِيعَ يَجْعَلُ لِنَفْسِهِ شَهْرًا مَعْلُومًا يَحْسِبُ مَا بِيَدِهِ مِنْ السِّلَعِ وَالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمَلِيءِ الثِّقَةِ وَيُزَكِّي الْجَمِيعَ هَذَا إذَا كَانَ يَنِضُّ فِي يَدِهِ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ وَلَوْ دِرْهَمٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَبِيعُ بِعَيْنِ أَصْلًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الْحُلِيِّ " فَإِنْ كَانَ لِلنِّسَاءِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ عِنْدَ مَالِكٌ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي عُبَيْدٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ

وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ . وَقِيلَ : فِيهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي . وَأَمَّا حِلْيَةُ الرِّجَالِ : فَمَا أُبِيحُ مِنْهُ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ كَحِلْيَةِ السَّيْفِ وَالْخَاتَمِ الْفِضَّةِ وَأَمَّا مَا يَحْرُمُ اتِّخَاذُهُ كَالْأَوَانِي فَفِيهِ الزَّكَاةُ . وَمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ تَحْلِيَةِ الْمِنْطَقَةِ وَالْخُوذَةِ وَالْجَوْشَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَفِي زَكَاتِهِ خِلَافٌ فَعِنْدَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ فِيهِ الزَّكَاةُ وَلَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ وَأَبَاحَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد إذَا كَانَ مِنْ فِضَّةٍ وَأَمَّا حِلْيَةُ الْفَرَسِ كَالسَّرْجِ وَاللِّجَامِ وَالْبِرْذَوْنِ فَهَذَا فِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ مَنَعَ مِنْ اتِّخَاذِهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَكَذَلِكَ الدَّوَاةُ وَالْمُكْحُلَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سَوَاءٌ كَانَ فِضَّةً أَوْ ذَهَبًا .
فَصْلٌ :
وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الْيَتَامَى عِنْدَ مَالِكٌ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي ثَوْرٍ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ عُمَرَ : اتَّجِرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى

لَا تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ وَقَالَتْهُ عَائِشَةَ أَيْضًا . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ سِيرِين .
فَصْلٌ :
الْمَالُ الْمَغْصُوبُ وَالضَّائِعُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . قَالَ مَالِكٌ : لَيْسَ فِيهِ زَكَاةُ حَتَّى يَقْبِضَهُ فَيُزَكِّيَهُ لِعَامٍ وَاحِدٍ كَذَلِكَ الدَّيْنُ عِنْدَهُ لَا يُزَكِّيهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ زَكَاةً وَاحِدَةً وَقَوْلُ مَالِكٌ : يُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٌ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ . وَقِيلَ : يُزَكِّي كُلَّ عَامٍ إذَا قَبَضَهُ زَكَاةً عَمَّا مَضَى وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ .
فَصْلٌ :
وَالْمَعَادِنُ : إذَا أَخْرَجَ مِنْهَا نِصَابًا مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ أَخْذِهِ : عِنْدَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَزَادَ أَحْمَد الْيَاقُوتَ وَالزَّبَرْجَدَ وَالْبِلَّوْرَ وَالْعَقِيقَ وَالْكُحْلَ وَالسَّبَجَ وَالزَّرْنِيخَ . وَعِنْدَ إسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ : يَسْتَقْبِلُ بِهِ حَوْلًا وَيُزَكِّيهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَجْعَلُ فِيهِ الْخُمُسَ وَلَهُ قَوْلٌ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُ إلَّا فِيمَا يَنْطَبِعُ : كَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ دُونَ غَيْرِهِ .

وَأَمَّا مَا يَخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَقِيلَ فِيهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَرِوَايَةٌ لِأَحْمَدَ .
فَصْلٌ :
وَالدَّيْنُ يُسْقِطُ زَكَاةَ الْعَيْنِ : عِنْدَ مَالِكٌ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْحَسَنُ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَمَيْمُونُ بْنُ مهران والنَّخَعِي وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ " وَأَبِي ثَوْرٍ . وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : سَمِعْت عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ : هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ حَتَّى تَخْلُصَ أَمْوَالُكُمْ تُؤَدُّونَ مِنْهَا الزَّكَاةَ . وَعِنْدَ مَالِكٌ إنْ كَانَ عِنْدَهُ عُرُوضٌ تُوَفِّي الدَّيْنَ تَرَكَ الْعَيْنَ وَجَعَلَهَا فِي مُقَابَلَةِ الدَّيْنِ وَهِيَ الَّتِي يَبِيعُهَا الْحَاكِمُ فِي الدَّيْنِ مَا يَفْضُلُ عَنْ ضَرُورَتِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مَلِيءٍ ثِقَةٍ جَعَلَهُ فِي مُقَابَلَةِ دَيْنِهِ أَيْضًا . وَزَكَّى الْعَيْنَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا مَا بِيَدِهِ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ .
فَصْلٌ :
وَاخْتُلِفَ : هَلْ فِي الْعَسَلِ زَكَاةٌ ؟ فَكَانَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ .

فَرَأَى الزُّهْرِيِّ أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ وَهُوَ قَوْلُ الأوزاعي وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ الْعُشْرُ . وَعِنْدَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد لَا زَكَاةَ فِيهِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ الْعُشْرُ } . الْحَدِيثُ . فَفِيهِ مَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمِقْدَارُ الْمَأْخُوذُ مِنْ الْمُعَشَّرَاتِ . وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّ شَيْءٍ يَجِبُ الْعُشْرُ وَنِصْفُهُ . فَقَالَتْ طَائِفَةٌ يَجِبُ الْعُشْرُ فِي كُلِّ مَا يَزْرَعُهُ الْآدَمِيُّونَ مِنْ الْحُبُوبِ وَالْبُقُولِ وَمَا أَنْبَتَتْهُ تِجَارَاتُهُمْ مِنْ الثِّمَارِ قَلِيلُ ذَلِكَ وَكَثِيرُهُ وَيُرْوَى هَذَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ : لَا يَجِبُ إلَّا فِيمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ فِيمَا يَبْلُغُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ . وَقَالَ أَحْمَد : يَجِبُ الْعُشْرُ فِيمَا يَيْبَسُ وَيَبْقَى مِمَّا يُكَالُ وَيَبْلُغُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا . وَسَوَاءٌ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ قُوتًا كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْأُرْزِ وَالذُّرَةِ أَوْ مِنْ الْقُطْنِيَّاتِ كَالْبَاقِلَاءِ وَالْعَدَسِ أَوْ مِنْ الْأَبَازِيرِ كالكسفرة وَالْكَمُّونِ والكراويا وَالْبِزْرِ كَبِزْرِ الْكَتَّانِ

وَالسِّمْسِمِ وَسَائِرِ الْحُبُوبِ . وَتَجِبُ أَيْضًا عِنْدَهُ فِيمَا جَمَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَاللَّوْزِ وَالْبُنْدُقِ وَالْفُسْتُقِ وَلَا تَجِبُ فِي الْفَوَاكِهِ وَلَا فِي الْخُضَرِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ . وَيُشْبِهُهُ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ . قَالَ مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٌ وَزَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ : تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْ الثِّمَارِ ذَوَاتِ الْأُصُولِ كُلِّهَا مَا اُدُّخِرَ مِنْهَا وَمَا لَمْ يُدَّخَرْ وَقَالَ إذَا اجْتَمَعَ لِلرَّجُلِ مِنْ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ خَرْصُ ثَمَرَتِهِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ إنْ كَانَ مِمَّا يَيْبَسُ : كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ ؟ وَالْفُسْتُقِ أَخْرَجَ عُشْرَهُ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَيْبَسُ : مِثْلَ الرُّمَّانِ وَالتُّفَّاحِ والفرسك وَالسَّفَرْجَلِ وَشِبْهِهِ فَبَلَغَ خَرْصُهَا وَهِيَ خَضْرَاءُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ إنْ بَاعَهُ عُشْرُ الثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يَبِعْهَا فَبِعُشْرِ كَيْلِ خَرْصِهَا . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ قَوْلِهِمْ : تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالسَّلْتِ وَالذُّرَةِ وَالدُّخْنِ وَالْأُرْزِ وَالْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ وَالْجُلُبَّانِ وَالرَّشِّ وَالْبِسِلَّةِ وَالسِّمْسِمِ وَالْمَاشّ وَحَبِّ الْفُجْلِ وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْحُبُوبَ الْمَأْكُولَةَ الْمُدَّخَرَةَ . وَتَجِبُ فِي ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ الثِّمَارِ : وَهِيَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَالزَّيْتُونُ

وَقَالَ الشَّافِعِيِّ : تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيمَا يَيْبَسُ وَيُدَّخَرُ وَيُقْتَاتُ مَأْكُولًا أَوْ طَبِيخًا أَوْ سَوِيقًا وَلَهُ فِي الزَّيْتُونِ قَوْلَانِ وَتَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ فِي التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ . وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : كُلُّ مَا يُخْتَبَزُ فَفِيهِ الصَّدَقَةُ مَعَ أَنَّهُ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالزَّيْتُونِ . وَكَذَلِكَ الثَّوْرِيُّ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي الزَّيْتُونِ وَالْأَوْزَاعِي وَالزُّهْرِيُّ وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا . وَقَالَ الأوزاعي : مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الزَّكَاةَ فِي الْحِنْطَةِ وَفِي الشَّعِيرِ وَالسَّلْتِ وَالتَّمْرِ وَالْعِنَبِ وَالزَّيْتُونِ . وَقَالَ إسْحَاقُ : كُلُّ مَا يُخْتَبَزُ فَفِيهِ الصَّدَقَةُ . وَعِنْدَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : تِسْعَةُ أَشْيَاءَ كَمَا تَقَدَّمَ فَقَطْ : التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَالْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَالْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ وَالْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ . وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَعْتَبِرُ الْخَمْسَةَ الْأَوْسُقِ إلَّا مَا يُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ . أَنَّهُ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي الْقَلِيلِ وَيُعْتَبَرُ أَيْضًا عِنْدَهُمْ الْيُبْسُ وَالتَّصْفِيَةُ فِي الْحُبُوبِ وَالْجَفَافُ فِي الثِّمَارِ وَمَا لَا زَيْتَ فِيهِ مِنْ الزَّيْتُونِ وَمَا لَا يُزَبَّبُ مِنْ الْعِنَبِ وَلَا يُتْمِرُ مِنْ الرُّطَبِ تُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْ ثَمَنِهِ أَوْ مِنْ حَبِّهِ . قَالَ مَالِكٌ إذَا بَلَغَ مِنْهُ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَبِيعَ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ ثَمَنِهِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131