الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

عِبَادَتُهُ لِعَدَمِ عَقْلِهِ فَبُطْلَانُ عُقُودِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى كَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُ قَدْ تَصِحُّ عِبَادَاتُ مَنْ لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ ؛ لِنَقْصِ عَقْلِهِ : كَالصَّبِيِّ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهِ . " الثَّالِثُ " أَنَّ جَمِيعَ الْأَقْوَالِ وَالْعُقُودِ مَشْرُوطَةٌ بِوُجُودِ التَّمْيِيزِ وَالْعَقْلِ . فَمَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهُ وَلَا عَقْلَ لَيْسَ لِكَلَامِهِ فِي الشَّرْعِ اعْتِبَارٌ أَصْلًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ قَدْ زَالَ عَقْلُهُ الَّذِي بِهِ يَتَكَلَّمُ وَيَتَصَرَّفُ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ . أَوْ إثْبَاتُ مِلْكٍ أَوْ إزَالَتُهُ . وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ مَعَ تَقْرِيرِ الشَّارِعِ لَهُ . " وَالرَّابِعُ " أَنَّ الْعُقُودَ وَغَيْرَهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مَشْرُوطَةٌ بالقصود . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } وَقَدْ قَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي " كِتَابِ بَيَانِ الدَّلِيلِ . عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ " وَقَرَّرَتْ : أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ ؛ لَسَهْوٌ وَسَبْقُ لِسَانٍ وَعَدَمُ عَقْلٍ : فَإِنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ . وَأَمَّا إذَا قُصِدَ اللَّفْظُ وَلَمْ يُقْصَدْ مَعْنَاهُ : كَالْهَازِلِ ؛ فَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ . وَالْمُرَادُ هُنَا " بِالْقَصْدِ " الْقَصْدُ الْعَقْلِيِّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْعَقْلِ . فَأَمَّا الْقَصْدُ الْحَيَوَانِيُّ الَّذِي يَكُونُ لِكُلِّ حَيَوَانٍ : فَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي وُجُودِ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْأَفْعَالِ وَهَذَا وَحْدَهُ غَيْرُ كَافٍ فِي صِحَّةِ الْعُقُودِ وَالْأَقْوَالِ ؛ فَإِنَّ الْمَجْنُونَ وَالصَّبِيَّ وَغَيْرَهُمَا لَهُمَا

هَذَا الْقَصْدُ كَمَا هُوَ لِلْبَهَائِمِ وَمَعَ هَذَا فَأَصْوَاتُهُمْ وَأَلْفَاظُهُمْ بَاطِلَةٌ مَعَ عَدَمِ التَّمْيِيزِ ؛ لَكِنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ وَالْمَجْنُونَ الَّذِي يُمَيِّزُ أَحْيَانًا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ حِينَ التَّمْيِيزِ . " الْخَامِسُ " أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْإِخْبَارِ ؛ لَا مِنْ بَابِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ : وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ السَّكْرَانَ مُعَاقَبًا أَوْ غَيْرَ مُعَاقَبٍ لَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِصِحَّةِ عُقُودِهِ وَفَسَادِهَا ؛ فَإِنَّ الْعُقُودَ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُثَابُ عَلَيْهَا وَلَا الْجِنَايَاتِ الَّتِي يُعَاقَبُ عَلَيْهَا ؛ بَلْ هِيَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَالْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَهِيَ مِنْ لَوَازِمِ وُجُودِ الْخَلْقِ ؛ فَإِنَّ الْعُهُودَ وَالْوَفَاءَ بِهَا أَمْرٌ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ الْآدَمِيِّينَ إلَّا بِهَا ؛ لِاحْتِيَاجِ بَعْضِ النَّاسِ إلَى بَعْضٍ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ ؛ وَإِنَّمَا تَصْدُرُ عَنْ الْعَقْلِ . فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَقْلٌ وَلَا تَمْيِيزٌ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَاهَدَ وَلَا حَلَفَ وَلَا بَاعَ وَلَا نَكَحَ وَلَا طَلَّقَ وَلَا أَعْتَقَ .
يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَانَ كَلَامُ السَّكْرَانِ بَاطِلًا بِالِاتِّفَاقِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا تَكَلَّمَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي سُكْرِهِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ : هَلْ أَنْتُمْ إلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي . لَمْ يَكُنْ مُؤَاخَذًا عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ لَمَّا خَلَطَ الْمُخَلِّطُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } قَبْلَ النَّهْيِ لَمْ يُعْتَبْ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ لَوْ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَعَاهَدُوا وَشَرَطُوا لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ بِالِاتِّفَاقِ وَمَنْ سَكِرَ سُكْرًا لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ مِثْلُ أَنْ يَشْرَبَ مَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُسْكِرُهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَأَمَّا مَنْ سَكِرَ بِشُرْبِ مُحَرَّمٍ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَأْثَمُ

بِذَلِكَ وَيَسْتَحِقُّ مِنْ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا جَاءَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى . فَهَذَا الْفَرْقُ ثَابِتٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ سَكِرَ سُكْرًا يُعْذَرُ فِيهِ فَأَمَّا كَوْنُ عَهْدِهِ الَّذِي يُعَاهِدُ بِهِ الْآدَمِيِّينَ مُنْعَقِدًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَيَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُهُ : فَهَذَا لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ سُكْرِ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ ؛ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا كَانَ الْمُوجِبُ لِصِحَّتِهِ أَنَّ صَاحِبَهُ فَعَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ مُمَيِّزٌ ؛ لَا أَنَّهُ بَرٌّ وَفَاجِرٌ . وَالشَّرْعُ لَمْ يَجْعَلْ السَّكْرَانَ بِمَنْزِلَةِ الصَّاحِي أَصْلًا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ اخْتَصَمَ مَعَ زَوْجَتِهِ خُصُومَةً شَدِيدَةً ؛ بِحَيْثُ تَغَيَّرَ عَقْلُهُ فَقَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا : فَهَلْ يَجِبُ بِذَلِكَ أَمْ لَا .
فَأَجَابَ :
إذَا بَلَغَ الْأَمْرُ إلَى أَنْ لَا يَعْقِلَ مَا يَقُولُ - كَالْمَجْنُونِ - لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ غَضِبَ فَقَالَ : طَالِقٌ ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ زَوْجَتَهُ ؛ وَاسْمَهَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ لَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ تَطْلِيقَهَا لَمْ يَقَعْ بِهَذَا اللَّفْظِ طَلَاقٌ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا أُكْرِهَ بِغَيْرِ حَقٍّ عَلَى الطَّلَاقِ لَمْ يَقَعْ بِهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ . وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ . وَإِذَا كَانَ حِينَ الطَّلَاقِ قَدْ أَحَاطَ بِهِ أَقْوَامٌ يُعْرَفُونَ بِأَنَّهُمْ يُعَادُونَهُ أَوْ يَضْرِبُونَهُ وَلَا يُمْكِنُهُ إذْ ذَاكَ أَنْ يَدْفَعَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ وَادَّعَى أَنَّهُمْ أَكْرَهُوهُ عَلَى الطَّلَاقِ : قُبِلَ قَوْلُهُ . فَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ بِالطَّلَاقِ يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ وَادَّعَى الْإِكْرَاهَ : قُبِلَ قَوْلُهُ وَفِي تَحْلِيفِهِ نِزَاعٌ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ مُسِكَ وَضُرِبَ وَسَجَنُوهُ وَغَصَبُوهُ عَلَى طَلَاقِ زَوْجَتِهِ فَطَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً وَرَاحَتْ وَهِيَ حَامِلَةٌ مِنْهُ ؟

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا الطَّلَاقُ لَا يَقَعُ . وَأَمَّا نِكَاحُهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَهُوَ نِكَاحٌ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ وَقَعَ وَيُعَزَّرُ مَنْ أَكْرَهَهُ عَلَى الطَّلَاقِ وَمَنْ تَوَلَّى هَذَا النِّكَاحَ الْمُحَرَّمَ الْبَاطِلَ . وَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَقْضِيَ الْعِدَّةَ مِنْ الْأَوَّلِ بِالْوَضْعِ . وَالْعِدَّةُ مِنْ الثَّانِي فِيهَا خِلَافٌ . إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ النِّكَاحَ مُحَرَّمٌ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا إنْ كَانَ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ النِّكَاحِ فَلَا بُدَّ أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ : أَنَا مَا أُرِيدُك قُومِي ؛ رُوحِي إلَى أَهْلِك أَنَا أَبَا أُطَلِّقُكِ وَنَوَى بِهَذَا اللَّفْظِ الطَّلَاقَ : فَهَلْ يُشْرَعُ أَنْ يُرَاجِعَهَا وَيَتَزَوَّجَهَا بِصَدَاقِ ثَانٍ . أَفْتُونَا ؟
فَأَجَابَ :
الْوَعْدُ بِالطَّلَاقِ لَا يَقَعُ وَلَوْ كَثُرَتْ أَلْفَاظُهُ وَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَذَا الْوَعْدِ وَلَا يُسْتَحَبُّ . وَأَمَّا إذَا أَوْقَعَ بِهَا الطَّلَاقَ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ : اذْهَبِي إلَى بَيْتِ أُمِّك وَأَرَادَ يَذْكُرُ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا ؛ لَا أَنَّهُ سَيُطَلِّقُهَا : فَهَذَا يَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ إذَا لَمْ يَنْوِ أَكْثَرَ وَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ بِلَا رِضَاهَا وَبِلَا وَلِيٍّ وَلَا مَهْرٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ وَلَهُ أَوْلَادٌ وَوَالِدَتُهُ تَكْرَهُ الزَّوْجَةَ وَتُشِيرُ عَلَيْهِ بِطَلَاقِهَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ طَلَاقُهَا ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِقَوْلِ أُمِّهِ ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَبَرَّ أُمَّهُ وَلَيْسَ تَطْلِيقُ امْرَأَتِهِ مِنْ بَرِّهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ وَزَوْجِهَا مُتَّفِقِينَ وَأُمُّهَا تُرِيدُ الْفُرْقَةَ فَلَمْ تُطَاوِعْهَا الْبِنْتُ : فَهَلْ عَلَيْهَا إثْمٌ فِي دُعَاءِ أُمِّهَا عَلَيْهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا تَزَوَّجَتْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا أَنْ تُطِيعَ أَبَاهَا وَلَا أُمَّهَا فِي فِرَاقِ زَوْجِهَا وَلَا فِي زِيَارَتِهِمْ وَلَا يَجُوزُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ ؛ بَلْ طَاعَةُ زَوْجِهَا عَلَيْهَا إذَا لَمْ يَأْمُرْهَا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ أَحَقُّ مِنْ طَاعَةِ أَبَوَيْهَا { وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا رَاضٍ دَخَلَتْ الْجَنَّةَ } وَإِذَا كَانَتْ الْأُمُّ تُرِيدُ التَّفْرِيقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا فَهِيَ

مِنْ جِنْسِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ لَا طَاعَةَ لَهَا فِي ذَلِكَ وَلَوْ دَعَتْ عَلَيْهَا . اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَا مُجْتَمِعَيْنِ عَلَى مَعْصِيَةٍ أَوْ يَكُونَ أَمْرُهُ لِلْبِنْتِ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالْأُمُّ تَأْمُرُهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْوَاجِبَةِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ نَوَى أَنْ يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ إذَا حَاضَتْ وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِطَلَاقِ ؛ فَلَمَّا أَنْ حَاضَتْ عَلِمَ أَنَّهَا طَلُقَتْ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ فَقَالَ لِلشُّهُودِ : آنَ طَلْقَة زَوْجَتِي . قَالُوا : مَتَى طَلَّقْتهَا ؟ قَالَ : أَوَّلَ أَمْسِ ؛ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ فَلَمَّا مَضَى حَيْضَتَانِ غَيْرَ الْحَيْضَةِ الَّتِي ظَنَّ أَنَّهَا طَلُقَتْ فِيهَا زَوَّجَهَا الشُّهُودُ بِرَجُلِ آخَرَ ثُمَّ مَكَثَتْ عِنْدَهُ وَطَلَّقَهَا ثُمَّ وَفَتْ عِدَّتَهَا ثُمَّ أَرَادَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ رَدَّهَا : فَهَلْ هِيَ حَلَالٌ لَهُ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ أَمْ يَجِبُ عَقْدٌ جَدِيدٌ . ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا إذَا نَوَى أَنَّهُ سَيُطَلِّقُهَا إذَا حَاضَتْ فَهَذَا لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ . وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ تِلْكَ النِّيَّةَ طَلَاقٌ فَأَقَرَّ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِتِلْكَ النِّيَّةِ لَمْ يَقَعْ بِهَذَا الْإِقْرَارِ فِي الْبَاطِنِ ؛ وَلَكِنْ يُؤْخَذُ بِهِ فِي الْحُكْمِ . وَإِذَا لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ فَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى زَوْجِيَّتِهِ فِي الْبَاطِنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ وَأُمُّهُ مَا تُرِيدُ الزَّوْجَةَ فَطَلَّقَ الزَّوْجَةَ ثُمَّ قَالَ . كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا مِنْ هَذِهِ الْمَدِينَةِ الَّتِي دَاخِلِ السُّورِ : لَا امْرَأَتُهُ وَلَا غَيْرُهَا . فَإِنْ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ أَوْ تَزَوَّجَ غَيْرَهَا مِنْ الْمَدِينَةِ يَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا ؟
فَأَجَابَ :
بَلْ يَتَزَوَّجُ إنْ شَاءَ مِنْ الْمَدِينَةِ ؛ وَإِنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِهَا وَيَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَخَاصَمَ مَعَ زَوْجَتِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ : هِيَ طَالِقٌ طَلْقَةً وَاحِدَةً فَسَبَقَ لِسَانُهُ فَقَالَ ثَلَاثَةً ؛ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نِيَّتَهُ : فَمَا الْحُكْمُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا سَبَقَ لِسَانُهُ بِالثَّلَاثِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَإِنَّمَا قَصَدَ وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ بِهِ إلَّا وَاحِدَةٌ ؛ بَلْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ : طَاهِرٌ . فَسَبَقَ لِسَانُهُ بِطَالِقِ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ امْرَأَةٍ دَايَنَتْ زَوْجَهَا ثُمَّ قَالَتْ لَهُ : إنِّي أَخَافُ أَنَّك لَا تُوَفِّينِي . فَقَالَ لَهَا : إنْ لَمْ أُوَفِّيك إلَى آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ هَذَا وَإِلَّا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَالزَّوْجُ غَائِبٌ فِي قوص وَمَا وَكَّلَ أَحَدًا : فَهَلْ إذَا أَبْرَأَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا مِنْ الدِّينِ وَمَضَى الشَّهْرُ يَقَعُ الطَّلَاقُ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا تَبَرَّعَ أَحَدٌ ( بِقَضَاءِ الدَّيْنِ : فَهَلْ يَسْقُطُ الدَّيْنُ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُضِيِّ الشَّهْرِ ؟ أَوْ يَقَعُ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا أَبْرَأَتْهُ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَوْلٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ لِوَجْهَيْنِ : " أَحَدِهِمَا " أَنَّهُ بِالْإِبْرَاءِ تَعَذَّرَ الْوَفَاءُ فَصَارَ الْإِيفَاءُ مُمْتَنِعًا . " الثَّانِي " أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَى فِعْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَأْمُورِ بِفِعْلِهِ ؛ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِوَفَاءِ الدَّيْنِ مَا كَانَ ثَابِتًا ؛ فَكَذَلِكَ الْيَمِينُ وَعُرْفُ النَّاسِ فَهَذَا كَهَذَا ؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ إنَّمَا يَقْصِدُ بِهَذَا فِي الْعَادَةِ تَبْرِئَةَ ذِمَّتِهِ وَقَطْعَ مُطَالَبَةِ الْغَرِيمِ لَهُ وَوَفَاءَهُ إذَا كَانَ الدَّيْنُ بَاقِيًا . وَكَذَلِكَ إذَا وَفَى الدَّيْنَ عَنْهُ مُوَفٍّ : فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْ الدَّيْنِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ؛ كَمَا يَبْرَأُ بِالْإِبْرَاءِ وَتَعَذَّرَ الْإِيفَاءُ مِنْ جِهَتِهِ وَحَصَلَ مَقْصُودُ الْغَرِيمِ فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَاءَ الدَّيْنِ عَلَى الْغَرِيمِ كَقَضَائِهِ حَيْثُ قَالَ : { أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { عَلَى أُمِّك دَيْنٌ فقضيتيه عَنْهَا أَكَانَ يُجْزِئُ عَنْهُ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ اللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا وَهِيَ بِكْرٌ : فَهَلْ لَهُ سَبِيلٌ فِي مُرَاجَعَتِهَا ؟
فَأَجَابَ .
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الطَّلَاقُ ثَلَاثًا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ الدُّخُولِ سَوَاءٌ فِي ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِذَلِكَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ عَقَدَ الْعَقْدَ عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ بَالِغًا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يُصِبْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ عَقَدَ عَلَيْهَا شَخْصٌ آخَرُ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يُصِبْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا : فَهَلْ يَجُوزُ لِلَّذِي طَلَّقَهَا أَوَّلًا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا ؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَهُوَ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَيُدْخَلَ بِهَا فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ : كُلُّ شَيْءٍ أَمْلِكُهُ عَلَيَّ حَرَامٌ . فَهَلْ تَحْرُمُ امْرَأَتُهُ وَأَمَتُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا غَيْرُ الزَّوْجَةِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا نِزَاعٌ . هَلْ تَطْلُقُ ؟ أَوْ تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ ؟ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ . هُوَ طَلَاقٌ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ : عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَمَذْهَبُ أَحْمَد عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ ؛ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ فَفِيهِ نِزَاعٌ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ خَاصَمَ زَوْجَتَهُ وَضَرَبَهَا فَقَالَتْ لَهُ : طَلِّقْنِي . فَقَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ : فَهَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا قَوْلُهُ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . قِيلَ : عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ إذَا أَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا . وَقِيلَ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ وَلَهَا أَوْلَادٌ وَبَنَاتٌ مِنْهُ وَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا ثُمَّ إنَّهُ كَتَبَ وَكَالَةً لِزَوْجَتِهِ الْجَدِيدَةِ وَقَالَ : مَتَى رَدَدْت أُمَّ أَوْلَادِي كَانَ طَلَاقُهَا بِيَدِك وَوَكَّلَهَا فِي طَلَاقِهَا مُدَّةَ عَشَرَةِ سِنِينَ ؛ وَقَدْ طَلَّقَ الَّتِي بِيَدِهَا الْوَكَالَةُ : فَهَلْ تَصِحُّ هَذِهِ الْوَكَالَةُ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا صَحَّتْ : فَهَلْ تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِطَلَاقِ الْمُوَكَّلَةِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ يَظُنُّ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الْوَكَالَةَ بِحَالِهَا ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إذَا وَكَّلَ امْرَأَتَهُ فِي بَيْعٍ وَنَحْوَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ بِالتَّطْلِيقِ كَمَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ؛ لَكِنْ هَذِهِ لَيْسَتْ تِلْكَ . وَالصَّوَابُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْمَسْئُولُ عَنْهَا أَنَّهَا تَبْطُلُ بِالتَّطْلِيقِ لِأَنَّهُ هُنَا لَمْ يُرِدْ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَقَدْ اسْتَنَابَ غَيْرَهُ فِي ذَلِكَ كَمَا يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ مَتَاعَهُ فَيُوكِلُ شَخْصًا ؛ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ تَمْكِينُهَا هِيَ مِنْ الطَّلَاقِ لِيَكُونَ أَمْرُهَا بِيَدِ هَذِهِ الزَّوْجَةِ فَإِنْ شَاءَتْ طَلُقَتْ وَإِنْ شَاءَتْ لَمْ تُطَلِّقْهَا ؛ وَهُوَ قَدْ اشْتَرَطَ لَهَا أَنْ يَكُونَ أَمْرُ هَذِهِ بِيَدِهَا ؛ لِئَلَّا تُبْقِيَ زَوْجَتَهُ إلَّا بِرِضَاهَا . فَالْمَقْصُودُ أَنِّي لَا أَتَزَوَّجُهَا إلَّا بِرِضَاك . وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنِّي لَا أَجْمَعَ بَيْنَك وَبَيْنَهَا ؛ لِمَا تَكْرَهُ الْمَرْأَةُ مِنْ الضَّرَّةِ فَيَكُونُ هَذَا مِنْ مَوَانِعِ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْعَقْدِ مِنْ الْقَسْمِ وَنَحْوِهِ فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ يُبْقِ لَهَا عَلَيْهِ حَقُّ قَسْمٍ

وَلَا نَحْوَهُ فَلَا تُزَاحِمُهَا تِلْكَ فِي الْحُقُوقِ وَلَا تَكُونُ ضَرَّةً لَهَا وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَاهَا فِي تَزَوُّجِهِ بِتِلْكَ . فَإِنَّ الرَّجُلَ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَقْصِدُ إرْضَاءَ الْمَرْأَةَ بِتَرْكِ زَوْجَتِهِ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ زَوْجَتَهُ فَأَمَّا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ فَلَا يَقْصِدُ إرْضَاءَهَا فَكَيْفَ وَهُوَ قَدْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَهَذَا غَايَةُ إسْخَاطِهَا فَمَنْ أَسْخَطَهَا بِذَلِكَ كَيْفَ يَقْصِدُ إرْضَاءَهَا بِمَا هُوَ دُونَهُ وَبِهَذَا وَنَحْوِهِ يُعْلَمُ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ أَنَّ هَذَا إنَّمَا جُعِلَ أَمْرُهَا بِيَدِهَا مَا دَامَتْ هَذِهِ الْمُمْكِنَةُ زَوْجَةً ؛ فَإِذَا صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً لَمْ يَكُنْ بِيَدِهَا شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ تِلْكَ . وَهَذَا كُلُّهُ إذَا جُعِلَ هَذَا الشَّرْطُ لَازِمًا فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ شَرْطًا لَازِمًا فَيَكُونُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا ابْتِدَاءً : أَمْرُك بِيَدِك . أَوْ : أَمْرُ فُلَانَةَ بِيَدِك . وَهَذَا لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ . وَأَمَّا صُورَةُ السُّؤَالِ فِيهِ أَنَّهُ مَشْرُوطٌ فِي الْعَقْدِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ طَوَائِفَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَعَمْرِو بْنِ العاص وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَطَاوُوسٍ ؛ وَالْأَوْزَاعِي وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ : إذَا اشْتَرَطَ لَهَا أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا كَانَ الشَّرْطُ صَحِيحًا . وَإِذَا تَزَوَّجَ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ كَوْنِهِ يُشْتَرَطُ لَهَا أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ فَأَمْرُ الزَّوْجَةِ بِيَدِهَا ؛ وَمَقْصُودُهَا وَاحِدٌ ؛ وَفِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ إنَّمَا يَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ مَا دَامَتْ زَوْجَةً .

وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فَعِنْدَهُمَا هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلٌ لَا يُلْزِمُ ؛ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا كَمَا لَوْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ . وَالْوَكَالَةُ عَقْدٌ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ عَقْدَ الْوَكَالَةِ . وَإِذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَمْرُك بِيَدِك فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا : هُوَ كَالتَّوْكِيلِ . وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : إنَّهُ كَالتَّمْلِيكِ . فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ يَدِهَا وَلَكِنْ هَذِهِ الصُّورَةُ وَقَعَتْ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا لِمَنْ يَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي الْعَقْدِ لَهَا مَا تَمْلِكُ بِهِ الطَّرْقَ إذَا تَزَوَّجَ عَلَيْهَا . وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ نِكَاحُهَا بَاقِيًا . فَإِذَا أَبَانَهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الشَّرْطِ حَقٌّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ كَلَامٌ وَكَانَ عَلَى عَزْمِ السَّفَرِ فَقَالَ لِوَكِيلِهِ : إنْ كَانَتْ تَرْضَى بِهَذِهِ النَّفَقَةِ الْعَادَةِ فَسَلِّمْ إلَيْهَا النَّفَقَةَ وَإِنْ لَمْ تَرْضَ بِالنَّفَقَةِ فَسَلِّمْ إلَيْهَا كِتَابَهَا وَأَنَّ الْوَكِيلَ بَعْدَمَا سَافَرَ الْمُوَكِّلُ سَلَّمَ إلَيْهَا كِتَابَهَا وَطَلَّقَ عَلَيْهَا طَلْقَة رَجْعِيَّةً وَسَيَّرَ عِلْمَ الْمُوَكِّلُ أَنَّهُ قَدْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً رَجْعِيَّةً فَلَمَّا عَلِمَ الْمُوَكِّلُ مَا هَانَ عَلَيْهِ فَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ رَاجَعَهَا وَسَيَّرَ طَلَبَهَا فَلَمَّا سَمِعَ الْوَكِيلُ أَنَّهُ رَاجَعَ زَوْجَتَهُ ذَكَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا : فَهَلْ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ الْمُرَاجَعَةُ لِزَوْجَتِهِ بَعْدَ قَوْلِ الْوَكِيلِ ذَلِكَ ؟

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَوْلُهُ : يُسَلِّمُ إلَيْهَا كِتَابَهَا . كِنَايَةً عَنْ الطَّلَاقِ فَإِذَا قَالَ الْمُوَكِّلُ : إنَّهُ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ بِدَلَالَةِ الْحَالِ : مَلَكَ أَنْ يُطَلِّقَ وَاحِدَةً وَلَمْ يَمْلِكْ الْوَكِيلُ أَنْ يُطَلِّقَ ثَلَاثًا إلَّا بِإِذْنِ الْمُوَكِّلِ . وَإِذَا قَالَ لِلْوَكِيلِ لَمْ أُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا ثَلَاثًا قَبْلَ قَوْلِهِ ؛ وَلَمْ يُمْكِنْ الْوَكِيلُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا وَإِذَا طَلَّقَهَا الْوَكِيلُ وَاحِدَةً ثُمَّ رَاجَعَهَا الزَّوْجُ صَحَّتْ الرَّجْعَةُ .

بَابُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ يَمِينِ الْغَمُوسِ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَعَنْ رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : لَا يَدْخُلُ أَهْلُك بَيْتِي فَصَعُبَ عَلَيْهِ : فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ مَا قَالَهُ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ قَالَهُ .
فَأَجَابَ :
الْأَيْمَانُ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا النَّاسُ نَوْعَانِ : " أَحَدُهُمَا " أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ . و " الثَّانِي " أَيْمَانُ الْمُشْرِكِينَ فَالْقِسْمُ الثَّانِي الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ : كَالْحَلِفِ بِالْكَعْبَةِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْمَشَايِخِ وَالْمُلُوكِ وَالْآبَاءِ وَالسَّيْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْلِفُ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ . فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ لَا حُرْمَةَ لَهَا ؛ بَلْ هِيَ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى مَنْ حَنِثَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ مَنْ حَلَفَ بِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُوَحِّدَ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ حَلَفَ فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ . { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ . فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ

وَأَكْثَرِهِمْ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ نَهَى عَنْهَا ؛ بَلْ قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ قَالَ : لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا قَالَ : وَهَذَا لِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ وَالشِّرْكُ أَعْظَمُ مِنْ الْكَذِبِ . وَالنَّذْرُ لِلْمَخْلُوقَاتِ أَعْظَمُ مِنْ الْحَلِفِ بِهَا فَمَنْ نَذَرَ لِمَخْلُوقِ لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ وَلَا وَفَاءَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ : مِثْلَ مَنْ يُنْذِرُ لِمَيِّتِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ كَمَنْ يُنْذِرُ لِلشَّيْخِ جاكير . وَأَبِي الْوَفَاءِ أَوْ الْمُنْتَظِرِ أَوْ السِّتِّ نَفِيسَةَ أَوْ لِلشَّيْخِ رَسْلَانَ أَوْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ : زَيْتًا أَوْ شَمْعًا أَوْ سُتُورًا أَوْ نَقْدًا : ذَهَبًا أَوْ دَرَاهِمَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ : فَكُلُّ هَذِهِ النُّذُورِ مُحَرَّمَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَجِبُ ؛ بَلْ وَلَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يُوفِي بِالنَّذْرِ إذَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَانَ طَاعَةً ؛ فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ عِبَادَةً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ إلَّا بِمَا شَرَعَ . فَمَنْ نَذَرَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ أَعْظَمُ مِنْ شِرْكِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ كَالسُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ . وَلَوْ نَذَرَ مَا لَيْسَ عِبَادَةً - كَمَا لَوْ نَذَرَتْ الْمَرْأَةُ صَوْمَ أَيَّامِ الْحَيْضِ - لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ . وَلَا يَجُوزُ صِيَامُ أَيَّامِ الْحَيْضِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِيه } وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُسَافِرَ إلَى قَبْرِ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ شَيْخٍ مِنْ الْمَشَايِخِ ؛ أَوْ مَشْهَدِهِ ؛ أَوْ مَقَامِهِ أَوْ مَسْجِدٍ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يُوفِيَ بِنَذْرِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ .

وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ صَدَقَةً أَوْ اعْتِكَافًا أَوْ أُضْحِيَّةً أَوْ هَدْيًا أَوْ نَذَرَ أَنْ يُسَافِرَ إلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الْمَقْدِسِ : فَفِيهِ " قَوْلَانِ " لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ . " أَحَدُهُمَا " لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُوفِيَ بِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَمَنْ أَصْلُهُ أَنْ لَا يَجِبَ بِالنَّذْرِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ : كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ : فَيَجِبُ بِالنَّذْرِ لِأَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَعِنْدَ مَالِكٍ ؛ فَلِهَذَا وَجَبَ عِنْدَهُ . وَإِتْيَانُ الْمَسْجِدِ لَيْسَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ فَلَا يَجِبُ عِنْدَهُ بِالنَّذْرِ . و " الْقَوْلُ الثَّانِي " يَجِبُ الْوَفَاءُ إذَا نَذَرَ إتْيَانَ الْمَسْجِدَيْنِ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ طَاعَةٌ لِلَّهِ . فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ } هَذَا إنْ كَانَ قَصَدَ أَنْ يُسَافِرَ لِلْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ وَلِلِاعْتِكَافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ نَفْسَ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا لِلْعِبَادَةِ فِي مَسْجِدِهِ لَمْ يَفِ بِهَذَا النَّذْرِ ؛ نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلَيْسَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ .

فَمَنْ نَذَرَ سَفَرًا إلَى بُقْعَةٍ لِيُعَظِّمَهَا غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ كَالسَّفَرِ إلَى الطُّورِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ أَوْ غَارِ حِرَاءٍ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَنَّثُ فِيهِ أَوْ غَارِ ثَوْرٍ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ : { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ } لَمْ يَفِ بِهَذَا النَّذْرِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ فَكَيْفَ بِمَا سَوَّى ذَلِكَ مِنْ الْغِيَرَانِ وَالْكُهُوفِ وَكَذَلِكَ لَوْ نَذَرَ السَّفَرَ إلَى قَبْرِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ قَبْرِ أَبِي بريد أَوْ قَبْرِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ أَوْ قُبُورِ أَهْلِ الْبَقِيعِ ؛ فَإِنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ مَشْرُوعَةٌ لِمَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهَا وَكَانَ مَقْصُودُهُ الدُّعَاءَ لِلْمَيِّتِ . فَأَمَّا السَّفَرُ إلَيْهَا فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ أَيْضًا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ ( هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، وَعَنْهُ تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ .
فَصْلٌ :
" النَّوْعُ الثَّانِي " أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ حَلَفَ بِاسْمِ اللَّهِ فَهِيَ أَيْمَانٌ مُنْعَقِدَةٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ . وَإِذَا حَلَفَ بِمَا يَلْتَزِمُهُ لِلَّهِ كَالْحَلِفِ بِالنَّذْرِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ عَشْرُ حِجَجٍ . أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ . أَوْ : عَلَيَّ صِيَامُ شَهْرٍ . أَوْ : فَنِسَائِي طَوَالِقُ : أَوْ عَبِيدِي أَحْرَارٌ . أَوْ يَقُولُ : الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا . أَوْ

الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا . أَوْ إلَّا فَعَلْت كَذَا . وَإِنْ فَعَلْت كَذَا فَنِسَائِي طَوَالِقُ . أَوْ عَبِيدِي أَحْرَارٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهِيَ أَيْمَانٌ مُنْعَقِدَةٌ . وَقَالَ طَائِفَةٌ : بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْحَلِفِ بِالْمَخْلُوقَاتِ فَلَا تَنْعَقِدُ . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ ؛ فَإِنَّ عُمَرَ وَابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُمْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ . وَكَانُوا يَأْمُرُونَ مَنْ حَلَفَ بِالنَّوْعِ الثَّانِي أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَلَا يَنْهَوْنَهُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ وَالنَّذْرِ لِلَّهِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ } فَقَوْلُ الْقَائِلِ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا . إنْ قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ فَهُوَ يَمِينٌ ؛ كَمَا لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا . أَوْ إنْ أَقْتُلَ فُلَانًا فَعَلَيَّ كَفَّارَةٌ : فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الخراسانيون فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . فَاَلَّذِينَ قَالُوا : هَذَا يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ . مِنْهُمْ مَنْ أَلْزَمَ الْحَالِفَ بِمَا الْتَزَمَهُ فَأَلْزَمَهُ إذَا حَنِثَ بِالنَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ . وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا . وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الشَّافِعِيِّ . وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ النَّذْرِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَبُو ثَوْرٍ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْأَيْمَانَ كُلُّهَا فِيهَا كَفَّارَةٌ إذَا حَنِثَ وَلَا يَلْزَمُهُ إذَا حَنِثَ لَا نَذْرٌ وَلَا طَلَاقٌ وَلَا عَتَاقٌ وَلَا حَرَامٌ . وَهَذَا مَعْنَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَقَدْ ثَبَتَ النَّقْلُ عَنْهُمْ صَرِيحٌ بِذَلِكَ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ وَالنَّذْرِ . وَتَعْلِيلُهُمْ وَعُمُومُ كَلَامِهِمْ

يَتَنَاوَلُ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ طَلَاقًا كَمَا ثَبَتَ عَنْ طَاوُوسٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَجَعْفَرِ ابْنِ مُحَمَّدٍ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ أَلْزَمَ الْكَفَّارَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُلْزِمْهُ الْكَفَّارَةَ . فَلِلْعُلَمَاءِ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ أَكْثَرُ مِنْ " أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ " قِيلَ : يَلْزَمُهُ مُطْلَقًا ؛ كَقَوْلِ الْأَرْبَعَةِ . وَقِيلَ : لَا يَلْزَمُهُ مُطْلَقًا ؛ كَقَوْلِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِمَا . وَقِيلَ : إنْ قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ لَمْ يَلْزَمْهُ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ ؛ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الصَّحَابَةِ " الْيَمِينُ " .
فَفِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ " قَوْلَانِ " أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ فَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى مَاضٍ أَوْ حَاضِرٍ قَصْدُهُ بِهِ الْخَبَرَ - لَا الْحَضَّ وَالْمَنْعَ - كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَقَدْ فَعَلْت كَذَا . أَوْ لَمْ أَفْعَلْهُ . وَقَوْلُهُ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَقَدْ فَعَلْت كَذَا . أَوْ لَمْ أَفْعَلْهُ . أَوْ الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَقَدْ فَعَلْت كَذَا . فَهَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَقِدًا صِدْقَ نَفْسِهِ ؛ أَوْ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ ؛ فَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ صِدْقَ نَفْسِهِ " فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ " . " أَحَدُهَا " لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَيْمَانِ ؛ وَهَذَا أَظْهَرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَد . فَمَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ أَوْ غَيْرِهِمَا

عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ . " وَالثَّانِي " يَكُونُ كَالْحَلِفِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فِي الْجَمِيعِ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَد . فَعَلَى هَذَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِيمَا يُكَفِّرُهُ " وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ " أَنَّ يَمِينَهُ إذَا كَانَتْ مُكَفِّرَةً كَالْحَلِفِ بِسْمِ اللَّهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ بَلْ هَذَا مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ ؛ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُكَفِّرَةٍ كَالْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ ؛ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ فَإِذَا كَانَتْ الْيَمِينُ غَمُوسًا - وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ كَاذِبًا عَالِمًا بِكَذِبِ نَفْسِهِ - فَهَذِهِ الْيَمِينُ يَأْثَمُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ مِنْهَا وَهِيَ كَبِيرَةٌ مِنْ الْكَبَائِرِ ؛ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَاجِرَةٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ } ثُمَّ إنْ كَانَتْ مِمَّا يُكَفِّرُ : فَفِيهَا كَفَّارَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَقَالُوا : هَذِهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . قَالُوا : وَالْكَبَائِرُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا كَمَا لَا كَفَّارَةَ فِي السَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ ؛ وَكَذَلِكَ قَتْلُ الْعَمْدِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ .

وَإِذَا حَلَفَ بِالْتِزَامِ يَمِينٍ غَمُوسٍ كَالصُّورَةِ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا السَّائِلُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : الْحِلُّ عَلَيْهِ حَرَامٌ مَا فَعَلْت كَذَا . أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي مَا فَعَلْت كَذَا . أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا . فَمَالِي صَدَقَةٌ . أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ . أَوْ فَنِسَائِي طَوَالِقُ . أَوْ عَبِيدِي أَحْرَارٌ . فَقِيلَ : تَلْزَمُهُ هَذِهِ اللَّوَازِمُ إذَا قُلْنَا لَا كَفَّارَةَ فِي الْغَمُوسِ ؛ وَإِنْ قُلْنَا : هَذِهِ أَيْمَانٌ مُكَفِّرَةٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ لَخَلَتْ هَذِهِ الْأَيْمَانُ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَلُزُومُ مَا الْتَزَمَهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ " جَدِّي أَبِي الْبَرَكَاتِ " وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيَّ : مَنْ حَلَفَ بِالْكُفْرِ يَمِينًا غَمُوسًا كَفَّرَ . " وَالْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّ هَذَا كَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ بِاَللَّهِ هِيَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَلَا يَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ النَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْحَرَامِ وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَقْصِدْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ نَذْرٌ وَلَا طَلَاقٌ وَلَا عَتَاقٌ وَلَا حَرَامٌ سَوَاءٌ كَانَتْ الْيَمِينُ مُنْعَقِدَةً أَوْ كَانَتْ غَمُوسًا أَوْ كَانَتْ لَغْوًا وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنَّذْرُ لِمَنْ قَصَدَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ التَّعْلِيقَ " نَوْعَانِ " نَوْعٌ يُقْصَدُ بِهِ وُقُوعُ الْجَزَاءِ إذَا وَقَعَ الشَّرْطُ : فَهَذَا تَعْلِيقٌ لَازِمٌ . فَإِذَا عَلَّقَ النَّذْرَ أَوْ الطَّلَاقَ أَوْ الْعَتَاقَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَزِمَهُ . فَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إذَا تَطَهَّرْت مِنْ الْحَيْضِ فَأَنْتِ طَالِقٌ . أَوْ إذَا تَبَيَّنَ حَمْلُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ عِنْدَ الصِّفَةِ وَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَهُ بِالْهِلَالِ وَكَذَلِكَ لَوْ نَهَاهَا عَنْ أَمْرٍ وَقَالَ : إنْ فَعَلْته فَأَنْتِ طَالِقٌ : وَهُوَ إذَا فَعَلَتْهُ يُرِيدُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَنَحْوَ هَذَا .

بِخِلَافِ مِثْلَ أَنْ يَنْهَاهَا عَنْ فَاحِشَةٍ أَوْ خِيَانَةٍ أَوْ ظُلْمٍ فَيَقُولُ : إنْ فعلتيه أَنْتِ طَالِقٌ . فَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَكْرَهُ طَلَاقَهَا ؛ لَكِنْ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ الْمُنْكَرَ كَانَ طَلَاقُهَا أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ أَوْقَعُوا الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ إذَا كَانَ قَصْدُهُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الشَّرْطِ كَمَا أَلْزَمُوهُ بِالنَّذْرِ ؛ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ قَصْدُهُ الْيَمِينَ . وَاَلَّذِي قَصْدُهُ الْيَمِينَ هُوَ مِثْلَ الَّذِي يَكْرَهُ الشَّرْطَ وَيَكْرَهُ الْجَزَاءَ وَإِنْ وَقْعَ الشَّرْطُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : إنْ سَافَرْت مَعَكُمْ فَنِسَائِي طَوَالِقُ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَمَالِي صَدَقَةٌ وَعَلَيَّ عَشْرُ حِجَجٍ . وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا يُعْرَفُ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ تَلْزَمَهُ هَذِهِ الْأُمُورُ وَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ . فَهَذَا هُوَ الْحَالِفُ . فَيَجِبُ الْفَرْقُ فِي جَمِيعِ التَّعْلِيقَاتِ وَمَنْ قَصْدُهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ وَمَنْ قَصْدُهُ الْيَمِينَ . فَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا بِصِفَةِ يَقْصِدُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَهَا : وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ إذَا كَانَ حَلَالًا وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ أَوْ حَامِلٌ قَدْ تَبَيَّنَ حَمْلُهَا . " وَأَمَّا الطَّلَاقُ الْحَرَامُ " كَمَا لَوْ طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ أَوْ الطُّهْرِ بَعْدَ أَنْ وَطِئَهَا وَقَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا : فَفِيهِ نِزَاعٌ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ كَمَا لَا يَلْزَمُ النِّكَاحُ الْمُحَرَّمُ وَنَحْوُهُ . وَجَمْعُ الثَّلَاثِ حَرَامٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . فَإِذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا : فَهَلْ يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ ؟ أَوْ وَاحِدَةٌ ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا وَاحِدَةٌ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
إذَا " حَلَفَ الرَّجُلُ بِالطَّلَاقِ " فَقَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَن كَذَا ؛ أَوْ لَا أَفْعَلُهُ . أَوْ الطَّلَاقُ لَازِمٌ لِي لَأَفْعَلَنهُ . أَوْ إنْ لَمْ أَفْعَلْهُ فَالطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي . أَوْ لَازِمٌ وَنَحْوُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْتِزَامَ الطَّلَاقِ فِي يَمِينِهِ ثُمَّ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ : فَهَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ؟ فِيهِ " قَوْلَانِ " لِعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ مَذَاهِبِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَهَذَا مَنْصُوصٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : كَالْقَفَّالِ وَأَبِي سَعِيدٍ الْمُتَوَلِّي صَاحِبِ " التَّتِمَّةِ " وَبِهِ يُفْتِي وَيَقْضِي فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ فِي بِلَادِ الشَّرْقِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالْحِجَازِ وَالْيُمْنِ وَغَيْرِهَا . وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ - كَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ - كَانُوا يُفْتُونَ وَيَقْضُونَ فِي بِلَادِ فَارِسَ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ إلَى الْيَوْمِ فَإِنَّهُمْ خَلْقٌ عَظِيمٌ وَفِيهِمْ قُضَاةٌ وَمُفْتُونَ عَدَدٌ كَثِيرٌ . وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ كَطَاوُوسِ وَغَيْرِ طَاوُوسٍ ، وَبِهِ يُفْتِي كَثِيرٌ مِنْ

عُلَمَاءِ الْمَغْرِبِ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَكَانَ بَعْضُ شُيُوخِ مِصْرَ يُفْتِي بِذَلِكَ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ وَأُصُولُ مَذْهَبِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
وَلَوْ " حَلَفَ بِالثَّلَاثِ " فَقَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي ثَلَاثًا لَأَفْعَلَن كَذَا ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْ فَكَانَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ ودَاوُد وَغَيْرِهِمْ يُفْتُونَ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الثَّلَاثُ ؛ لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ يُوقِعُ بِهِ وَاحِدَةً وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ فِي التَّنْجِيزِ ؛ فَضْلًا عَنْ التَّعْلِيقِ وَالْيَمِينِ . وَهَذَا قَوْلُ مَنْ اتَّبَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد ودَاوُد فِي التَّنْجِيزِ وَالتَّعْلِيقِ وَالْحَلِفِ . وَمِنْ السَّلَفِ طَائِفَةٌ مِنْ أَعْيَانِهِمْ فَرَّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا . وَاَلَّذِينَ لَمَّ يُوقِعُوا طَلَاقًا بِمَنْ قَالَ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَن كَذَا : مِنْهُمْ مَنْ لَا يُوقِعُ بِهِ طَلَاقًا ؛ وَلَا يَأْمُرُهُ بِكَفَّارَةٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْمُرُهُ بِكَفَّارَةٍ . وَبِكُلِّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَفْتَى كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ بُسِطَتْ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَأَلْفَاظُهُمْ وَمَنْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُمْ ؛ وَالْكُتُبُ الْمَوْجُودُ ذَلِكَ فِيهَا ؛ وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ تَبْلُغُ عِدَّةَ مُجَلَّدَاتٍ .

وَهَذَا بِخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْته فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ؛ وَهُوَ فِيمَا إذَا حَلَفَ بِصِيغَةِ اللُّزُومِ مِثْلَ قَوْلِهِ . الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهَذَا النِّزَاعُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ أَوْ مَحْلُوفًا بِهِ : فَفِي الْمَذْهَبَيْنِ : هَلْ ذَلِكَ صَرِيحٌ ؟ أَوْ كِنَايَةٌ ؟ أَوْ لَا صَرِيحٌ وَلَا كِنَايَةٌ فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَاهُ ؟ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد قَوْلَانِ هَلْ ذَلِكَ صَرِيحٌ ؛ أَوْ كِنَايَةٌ . وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ أَوْ التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْحَلِفُ : فَالنِّزَاعُ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِمْ بِغَيْرِ هَذِهِ الصِّيغَةِ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ مَنْ أَفْتَى بِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ وَخَالَفَ كُلَّ قَوْلٍ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فَقَدْ أَخْطَأَ ؛ وَاقْتَفَى مَا لَا عِلْمَ بِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } بَلْ أَجْمَعَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَأَتْبَاعُهُمْ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ مِثْلَهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَنْ قَضَى بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَجُزْ نَقْضُ حُكْمِهِ . وَمَنْ أَفْتَى بِهِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْفُتْيَا سَاغَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَجُزْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا عَلَى مَنْ قَلَّدَهُ . وَلَوْ قَضَى أَوْ أَفْتَى بِقَوْلِ سَائِغٍ يَخْرُجُ عَنْ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا ثَبَتَ فِيهِ النِّزَاعُ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُخَالِفْ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً وَلَا مَعْنَى ذَلِكَ ؛ بَلْ كَانَ الْقَاضِي بِهِ وَالْمُفْتِي بِهِ يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ - كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - فَإِنَّ هَذَا يَسُوغُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ وَيُفْتِيَ بِهِ .

وَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ نَقْضُ حُكْمِهِ إذَا حَكَمَ وَلَا مَنْعُهُ مِنْ الْحُكْمِ بِهِ وَلَا مِنْ الْفُتْيَا بِهِ وَلَا مَنْعِ أَحَدٍ مِنْ تَقْلِيدِهِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ يُسَوِّغُ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ بَلْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالرَّدِّ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَهُوَ الرَّدُّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُرَدَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ بَلْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ اتِّبَاعُ قَوْلِنَا دُونَ الْقَوْلِ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقِيمَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا - كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ وَتَجِبُ اسْتِتَابَةُ مِثْلِ هَذَا وَعُقُوبَتُهُ كَمَا يُعَاقَبُ أَمْثَالُهُ . فَإِذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَتَمَسَّكَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ؛ لَمْ يُحْتَجَّ عَلَى قَوْلِهِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ - كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - وَلَيْسَ مَعَ صَاحِبِ الْقَوْلِ الْآخَرِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَبْطُلُ بِهِ قَوْلُهُ : لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ حُجَّةٌ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ الَّذِي يَحْتَجُّ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ جَوَّزَ أَنْ يَمْنَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْقَوْلِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَوْجَبَ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ الْقَوْلِ الَّذِي يُنَاقِضُهُ بِلَا حُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ تُوجِبُ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعَ هَذَا الْقَوْلِ وَتُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعَ ذَلِكَ الْقَوْلِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ انْسَلَخَ مِنْ الدِّينِ تَجِبُ اسْتِتَابَتُهُ وَعُقُوبَتُهُ

كَأَمْثَالِهِ وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا فَيُعْذَرُ بِالْجَهْلِ أَوَّلًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَدَلَائِلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ فَإِنْ أَصَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ : فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَكُلُّ يَمِينٍ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : مِثْلُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ وَالْحَلِفِ بِالْحَجِّ وَالْمَشْيِ وَالصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ سَوَاءٌ حَلَفَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ فَقَالَ : الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي : أَوْ الْعِتْقُ يَلْزَمُنِي : لَأَفْعَلَن كَذَا . أَوْ حَلَفَ بِصِيغَةِ الْعِتْقِ فَقَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَرَامُ وَنِسَائِي طَوَالِقُ أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ وَعَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى . وَاتَّفَقَتْ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ يَسُوغُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ جَمِيعِهَا بِأَنَّهُ إذَا حَنِثَ لَا يَلْزَمُهُ مَا حَلَفَ بِهِ ؛ بَلْ إمَّا أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ . وَإِمَّا أَنْ تَجْزِيَهُ الْكَفَّارَةُ . وَيَسُوغُ لِلْمُفْتِي أَنْ يَقْضِيَ بِذَلِكَ . وَمَا زَالَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُفْتِي بِذَلِكَ مِنْ حِينِ حَدَثَ الْحَلِفُ بِهَا . وَإِلَى هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ . مِنْهُمْ مَنْ يُفْتِي بِالْكَفَّارَةِ فِيهَا . وَمِنْهُمْ يُفْتِي بِأَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا وَلَا لُزُومَ الْمَحْلُوفِ بِهِ كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُفْتِي بِلُزُومِ الْمَحْلُوفِ بِهِ . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي الْأُمَّةِ مَنْ يُفْتِي بِهَا بِالْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْحَرَامِ وَالنَّذْرِ . وَأَمَّا إذَا حَلَفَ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَالْكَعْبَةِ وَالْمَلَائِكَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي هَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .

فَالْأَيْمَانُ " ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ " : أَمَّا الْحَلِفُ بِاَللَّهِ فَفِيهِ الْكَفَّارَةُ بِالِاتِّفَاقِ . وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ إلَّا الْحَلِفَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قَوْلَانِ " فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ وَقَدْ عَدَّى بَعْضُ أَصْحَابِ ذَلِكَ إلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ . وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ . وَأَمَّا مَا عَقَدَ مِنْ الْأَيْمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ هَذِهِ الْأَيْمَانُ فَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهَا " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ " وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فِي بَعْضِهَا : فَهَذَا كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ النِّزَاعِ يَدَّعِي فِيهَا الْإِجْمَاعَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ النِّزَاعَ وَمَقْصُودُهُ أَنِّي لَا أَعْلَمُ نِزَاعًا . فَمَنْ عَلِمَ النِّزَاعَ وَأَثْبَتَهُ كَانَ مُثْبِتًا عَالِمًا وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةَ نِزَاعٍ فِي السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ مَنْ أَلْزَمَ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ نَصُّ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ : كَانَ الْقَوْلُ بِنَفْيِ لُزُومِهِ سَائِغًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَمْنَعَ قَاضِيًا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ أَنْ يَقْضِيَ بِذَلِكَ وَلَا يَمْنَعَ مُفْتِيًا يَصْلُحُ لِلْفُتْيَا أَنْ يُفْتِيَ بِذَلِكَ ؛ بَلْ هُمْ يُسَوِّغُونَ الْفُتْيَا وَالْقَضَاءَ فِي أَقْوَالٍ ضَعِيفَةٍ ؛ لِوُجُودِ الْخِلَافِ فِيهَا فَكَيْفَ يَمْنَعُونَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الشَّرْعِيُّ وَالْقَوْلُ بِهِ ثَابِتٌ عَنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ بَلْ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ ثَبَتَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَفْتَوْا فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الطَّلَاقِ : أَنَّهُ لَا يُلْزِمُ الْحَالِفَ بِهِ ؛ بَلْ يَجْزِيه

كَفَّارَةُ يَمِينٍ . فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُمْ فِي الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ ؟ وَهَلْ يُظَنُّ بِالصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِيمَنْ حَلَفَ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْ الطَّاعَاتِ - كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَفْعَلَ هَذِهِ الطَّاعَاتِ بَلْ يَجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؛ وَيَقُولُونَ فِيمَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ ؛ بَلْ يُبْغِضُهُ : إنَّهُ يَلْزَمُ مَنْ حَلَفَ بِهِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ حَلَفَ بِالْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ كُفْرٌ وَلَا إسْلَامٌ . فَلَوْ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ وَفِعْلُهُ لَمْ يَصِرْ يَهُودِيًّا بِالِاتِّفَاقِ . وَهَلْ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؟ عَلَى " قَوْلَيْنِ " " أَحَدُهُمَا " يَلْزَمُهُ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . " وَالثَّانِي " لَا يَلْزَمُهُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ؛ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَد ؛ وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ إذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَصِيرُ كَافِرًا إذَا حَنِثَ وَحَلَفَ بِهِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ . قَالُوا : لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ لِلْكُفْرِ . وَالْجُمْهُورُ قَالُوا : لَا يَكْفُرُ ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْكُفْرُ ؛ فَلِبُغْضِهِ لَهُ حَلَفَ بِهِ . وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ إنَّمَا يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لِفَرْطِ بُغْضِهِ لَهُ . وَبِهَذَا فَرَّقَ الْجُمْهُورُ بَيْنَ " نَذْرِ التَّبَرُّرِ " و " نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " قَالُوا : لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَصْدُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ ؛ بِخِلَافِ الثَّانِي . فَإِذَا قَالَ : إنْ شَفَى اللَّهُ

مَرِيضِي فَعَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ . أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ : لَزِمَهُ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ . وَأَمَّا إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ . أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ . وَقَصْدُهُ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ فَهَذَا مَوْضِعُ النِّزَاعِ : هَلْ يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ فِي الصُّورَتَيْنِ ؟ أَوْ لَا يَلْزَمُهُ فِي الصُّورَتَيْنِ ؟ أَوْ يَجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؟ أَوْ يَجْزِيه الْكَفَّارَةُ فِي تَعْلِيقِ الْوُجُوبِ دُونَ تَعْلِيقِ الْوُقُوعِ ؟ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي الطَّلَاقِ وَلَوْ قَالَ الْيَهُودِيُّ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ وَفَعَلَهُ لَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْحَالِفَ حَلَفَ بِمَا يَلْزَمُهُ وُقُوعُهُ وَهَكَذَا إذَا قَالَ الْمُسْلِمُ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَنِسَائِي طَوَالِقُ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ ؛ وَأَنَا يَهُودِيٌّ : وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يُطَلِّقَ نِسَاءَهُ وَيَعْتِقَ عَبِيدَهُ وَيُفَارِقَ دِينَهُ مَعَ أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وُقُوعُ الْعِتْقِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَبْعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ : مِثْلَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ رَبِيبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا قَالُوا هُمْ وَأَئِمَّةُ التَّابِعِينَ إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ الْمَحْلُوفُ بِهِ ؛ بَلْ يَجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ : كَانَ هَذَا الْقَوْلُ - مَعَ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ . فَكَيْفَ يَسُوغُ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ أَنْ يُلْزِمَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ مَا لَهُمْ مِنْ مَصْلَحَةِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ؛ فَإِنَّ

فِي ذَلِكَ مِنْ صِيَانَةِ أَنْفُسِهِمْ وَحَرِيمِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ وَصِلَةِ أَرْحَامِهِمْ ؛ وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ : مَا يُوجِبُ تَرْجِيحَهُ لِمَنْ لَا يَكُونُ عَارِفًا بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ عَارِفًا بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . فَإِنَّ الْقَائِلَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ لَيْسَ مَعَهُ مِنْ الْحُجَّةِ مَا يُقَاوِمُ قَوْلَ مَنْ نَفَى وُقُوعَ الطَّلَاقِ . وَلَوْ اجْتَهَدَ مَنْ اجْتَهَدَ فِي إقَامَةِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ سَالِمٍ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الْحَالِفِ لَعَجَزَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا عَجَزَ عَنْ تَحْدِيدِ ذَلِكَ . فَهَلْ يَسُوغُ لِأَحَدِ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا يُخَالِفُ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ وَيَخْرُجَ عَنْ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ . وَهُوَ لَمْ يُعَارَضْ نَصًّا وَلَا إجْمَاعًا وَلَا مَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ وَيُقَدِّمُ عَلَيْهِ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ لَيْسَ لِأَحَدِ الْمَنْعُ مِنْ الْفُتْيَا بِهِ وَالْقَضَاءِ بِهِ . وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ رُجْحَانُهُ فَكَيْفَ إذَا ظَهَرَ رُجْحَانُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبَيْنَ مَا لِلَّهِ فِيهِ مِنْ الْمِنَّةِ . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وَقَالَ فِي كِتَابِهِ : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَدِيّ بْنِ حَاتِمٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ : { إذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلَتْهَا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَأَنْ يَلِجَ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ الْكَفَّارَةَ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ } . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : مَنْ اسْتَلَجَ فِي أَهْلِهِ فَهُوَ أَعْظَمُ إثْمًا . فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَلِجُ " مِنْ اللَّجَاجِ ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ هَذِهِ الْأَيْمَانُ " نُذُرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " .
وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ " ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " . " صِيغَةُ التَّنْجِيزِ . وَالْإِرْسَالُ " كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ مُطَلَّقَةٌ فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . " الثَّانِي " صِيغَةُ قَسَمٍ كَقَوْلِهِ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَن كَذَا . أَوْ لَا أَفْعَلُ كَذَا . فَهَذَا يَمِينٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَاتِّفَاقِ طَوَائِفِ الْفُقَهَاءِ وَاتِّفَاقِ الْعَامَّةِ وَاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَرْضِ . " الثَّالِثُ " صِيغَةُ تَعْلِيقٍ كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ . فَهَذِهِ إنْ كَانَ قَصْدُهُ بِهِ الْيَمِينَ - وَهُوَ الَّذِي يَكْرَهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ مُطْلَقًا كَمَا يَكْرَهُ .

الِانْتِقَالَ عَنْ دِينِهِ - إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ . أَوْ يَقُولُ الْيَهُودِيُّ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ : فَهُوَ يَمِينٌ حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . فَإِنَّ الْيَمِينَ هِيَ مَا تَضَمَّنَتْ حَضًّا أَوْ مَنْعًا أَوْ تَصْدِيقًا أَوْ تَكْذِيبًا بِالْتِزَامِ مَا يَكْرَهُ الْحَالِفُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ . فَالْحَالِفُ لَا يَكُونُ حَالِفًا إلَّا إذَا كَرِهَ وُقُوعَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ . فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا سَوَاءٌ كَانَ يُرِيدُ الشَّرْطَ وَحْدَهُ وَلَا يَكْرَهُ الْجَزَاءَ عِنْدَ وُقُوعِهِ أَوْ كَانَ يُرِيدُ الْجَزَاءَ عِنْدَ وُقُوعِهِ غَيْرَ مُرِيدٍ لَهُ أَوْ كَانَ مُرِيدًا لَهُمَا . فَأَمَّا إذَا كَانَ كَارِهًا لِلشَّرْطِ وَكَارِهًا لِلْجَزَاءِ مُطْلَقًا - يَكْرَهُ وُقُوعَهُ ؛ وَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ لِيَمْنَعَ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ الشَّرْطِ ؛ أَوْ لِيَحُضَّ بِذَلِكَ - فَهَذَا يَمِينٌ . وَإِنْ قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ وُجُودِ الْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ ؛ إنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِذَا طَهُرْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِذَا زَنَيْت فَأَنْتِ طَالِقٌ . وَقَصْدُهُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْفَاحِشَةِ ؛ لَا مُجَرَّدُ الْحَلِفِ عَلَيْهَا : فَهَذَا لَيْسَ بِيَمِينِ ؛ وَلَا كَفَارَّةٍ فِي هَذَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ ؛ بَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إذَا وَجَدَ الشَّرْطَ عِنْدَ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ .

فَالْيَمِينُ الَّتِي يَقْصِدُ بِهَا الْحَضَّ أَوْ الْمَنْعَ أَوْ التَّصْدِيقَ ؛ أَوْ التَّكْذِيبَ - بِالْتِزَامِهِ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ مَا يَكْرَهُ وُقُوعَهُ - سَوَاءٌ كَانَتْ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ ؛ أَوْ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ : يَمِينٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْخَلْقِ مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ كَوْنَ الْكَلَامِ يَمِينًا مِثْلَ كَوْنِهِ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا وَخَبَرًا . وَهَذَا الْمَعْنَى ثَابِتٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ : الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا تَتَنَوَّعُ اللُّغَاتُ فِي الْأَلْفَاظِ ؛ لَا فِي الْمَعَانِي ؛ بَلْ مَا كَانَ مَعْنَاهُ يَمِينًا أَوْ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا عِنْدَ الْعَجَمِ فَكَذَلِكَ مَعْنَاهُ يَمِينٌ أَوْ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ عِنْدَ الْعَرَبِ . وَهَذَا أَيْضًا يَمِينُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يَمِينٌ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ وَيَمِينٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كُلِّهِمْ . وَإِذَا كَانَ " يَمِينًا " فَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِلْيَمِينِ إلَّا حُكْمَانِ . إمَّا أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ مُنْعَقِدَةً مُحْتَرَمَةً فَفِيهَا الْكَفَّارَةُ . وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ مُنْعَقِدَةً مُحْتَرَمَةً - كَالْحَلِفِ بِالْمَخْلُوقَاتِ : مِثْلَ الْكَعْبَةِ وَالْمَلَائِكَةِ ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ - فَهَذَا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ . فَأَمَّا يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ ؛ مُحْتَرَمَةٌ غَيْرُ مُكَفِّرَةٍ : فَهَذَا حُكْمٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَقُومُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ سَالِمٌ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَامِ . فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْيَمِينُ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ دَخَلَتْ فِي قَوْله تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } . وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَيْمَانِهِمْ ؛ بَلْ كَانَتْ مِنْ الْحَلِفِ بِالْمَخْلُوقَاتِ : فَلَا يَجِبُ بِالْحِنْثِ لَا كَفَّارَةَ وَلَا غَيْرَهَا فَتَكُونُ مَهْدَرَةً .

فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارِ يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِلْزَامَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ لِلْحَالِفِ فِي يَمِينِهِ حَكَمٌ يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَحَسَبُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ . فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ الْعَمَلُ بِهَذَا الْقَوْلِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْقَوْلِ : فَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ مَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ النِّزَاعِ وَالْأَدِلَّةِ . وَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ وَخَفِيَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ كَانَ حَسْبُهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ سَائِغًا لَا يَمْنَعُ مِنْ الْحُكْمِ بِهِ وَالْفُتْيَا بِهِ . أَمَّا إلْزَامُ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَمَنْعُهُمْ مِنْ الْقَوْلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ : فَهَذَا خِلَافُ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . فَمَنْ مَنَعَ الْحُكْمَ وَالْفُتْيَا بِعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَتَقْلِيدِ مَنْ نَفَى بِذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَهَذَا حَسْبُهُ أَنْ يُعْذَرَ ؛ لَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَمُعَانِدٌ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ إذَا ظَهَرَ لَهُ وَلَا يُصْغِي لِمَنْ يَقُولُهُ لِيَعْرِفَ مَا قَالَ ؛ بَلْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } فَإِنَّهُ : إمَّا مُقَلِّدٌ وَإِمَّا مُجْتَهِدٌ . فَالْمُقَلِّدُ لَا يُنْكِرُ الْقَوْلَ الَّذِي يُخَالِفُ مَتْبُوعُهُ إنْكَارَ مَنْ يَقُولُ هُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُحْرَمَ الْقَوْلَ بِهِ وَيُوجِبَ الْقَوْلَ بِقَوْلِ سَلَفِهِ . وَالْمُجْتَهِدُ يَنْظُرُ وَيُنَاظِرُ وَهُوَ مَعَ ظُهُورِ قَوْلِهِ لَا يُسَوِّغُ قَوْلَ مُنَازِعِيهِ الَّذِي سَاغَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَهُوَ مَا لَمْ يَظْهَرْ أَنَّهُ خَالَفَ نَصًّا وَلَا إجْمَاعًا فَمَنْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ

التَّقْلِيدِ السَّائِغِ وَالِاجْتِهَادِ كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مِنْ الَّذِينَ { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } وَكَانَ مَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ . وَمَنْ قَالَ إنَّهُ اتَّبَعَ هَذِهِ الْفُتْيَا فَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ وَلَدُ زِنًا : كَانَ هَذَا الْقَائِلُ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالْمُشَاقَّةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ . وَعَلَى الْجُمْلَةِ إذَا كَانَ الْمُلْتَزَمُ بِهِ قُرْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى يَقْصِدُ بِهِ الْقُرْبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى : لَزِمَهُ فِعْلُهُ أَوْ الْكَفَّارَةُ . وَلَوْ الْتَزَمَ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ : كَالتَّطْلِيقِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَمِثْلِ ذَلِكَ : لَمْ يَلْزَمْهُ ؛ بَلْ يَجْزِيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ يُكْرَهُ وُقُوعُهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ كَمَا يُكْرَهُ وُقُوعُ الْكُفْرِ : فَلَا يَقَعُ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ قَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ : هَلْ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ كَمَا قَالَ ؟ أَمْ كَيْفَ الْحُكْمُ ؟.
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْحَالِفِ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي عَلَى مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَلْزَمُهُ بِالطَّلَاقِ ؛ لَا مَنْ يَجُوزُ فِي الْحَلِف بِهِ كَفَّارَةٌ . أَوْ فَعَلَيَّ

الْحَجُّ : عَلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ . أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَلْزَمُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ . أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا عَلَى أَغْلَظِ قَوْلٍ قِيلَ فِي الْإِسْلَامِ . أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا أَنِّي لَا أَسْتَفْتِي مَنْ يُفْتِينِي بِالْكَفَّارَةِ فِي الْحَلِف بِالطَّلَاقِ . أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا وَلَا أَسْتَفْتِي مَنْ يُفْتِينِي بِحِلِّ يَمِينِي أَوْ رَجْعَةٍ فِي يَمِينِي وَنَحْوَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَغْلُظُ فِيهَا اللُّزُومُ تَغْلِيظًا يُؤَكِّدُ بِهِ لُزُومَ الْمُعَلِّقِ عِنْدَ الْحِنْثِ ؛ لِئَلَّا يَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ ؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ عِنْدَ الْيَمِينِ يُرِيدُ تَأْكِيدَ يَمِينِهِ بِكُلِّ مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ مِنْ أَسْبَابِ التَّأْكِيدِ وَيُرِيدُ مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْ الْحِنْثِ فِيهَا بِكُلِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُهُ وَذَلِكَ كُلُّهُ لَا يُخْرِجُ هَذِهِ الْعُقُودَ عَنْ أَنْ تَكُونَ أَيْمَانًا مُكَفِّرَةً وَلَوْ غَلَّظَ الْأَيْمَانَ الَّتِي شَرَعَ اللَّهُ فِيهَا الْكَفَّارَةَ بِمَا غَلَّظَ وَلَوْ قَصَدَ أَلَّا يَحْنَثَ فِيهَا بِحَالِ : فَذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ شَرْعَ اللَّهِ . وَأَيْمَانُ الْحَالِفِينَ لَا تُغَيِّرُ شَرَائِعَ الدِّينِ ؛ بَلْ مَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِهِ قَبْلَ يَمِينِهِ فَقَدْ أَمَرَ بِهِ بَعْدَ الْيَمِينِ وَالْيَمِينُ مَا زَادَتْهُ إلَّا تَوْكِيدًا . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُفْتِيَ أَحَدًا بِتَرْكِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَلَا بِفِعْلِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَوْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ ؟ وَهَذَا مِثْلُ الَّذِي يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ : مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَطَاعَةِ السُّلْطَانِ وَمُنَاصَحَتِهِ وَتَرْكِ الْخُرُوجِ وَمُحَارَبَتِهِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ الْأُمُورُ كَانَتْ قَبْلَ الْيَمِينِ وَاجِبَةً وَهِيَ بَعْدَ الْيَمِينِ أَوْجَبُ .

وَمَا كَانَ مُحَرَّمًا قَبْلَ الْيَمِينِ فَهُوَ بَعْدَ الْيَمِينِ أَشَدُّ تَحْرِيمًا ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ يُبَايِعُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَاعَتِهِ وَالْجِهَادِ مَعَهُ وَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ وَلَوْ لَمْ يُبَايِعُوهُ فَالْبَيْعَةُ أَكَّدَتْهُ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَنْقُضَ مِثْلَ هَذَا الْعَقْدِ . وَكَذَلِكَ مُبَايَعَةُ السُّلْطَانِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَنْقُضَهَا وَلَوْ لَمْ يَحْلِفْ فَكَيْفَ إذَا حَلَفَ بَلْ لَوْ عَاقَدَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ عَلَى بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ نِكَاحٍ : لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَغْدِرَ بِهِ وَلَوَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهَذَا الْعَقْدِ فَكَيْفَ بِمُعَاقَدَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ : مِنْ طَاعَتِهِمْ وَمُنَاصَحَتِهِمْ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ . فَكُلُّ عَقْدٍ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ بِدُونِ الْيَمِينِ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ كَانَتْ الْيَمِينُ مُوَكَّدَةً لَهُ وَلَوْ لَمْ يَجُزْ فَسْخُ مِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } . وَمَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ الْيَمِينِ إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ لَمْ يَصِرْ حَرَامًا ؛ بَلْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فِعْلُهُ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِرْ وَاجِبًا عَلَيْهِ بَلْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ وَلَا يَفْعَلُهُ وَلَوْ غَلَّظَ فِي الْيَمِينِ بِأَيِّ شَيْءٍ غَلَّظَهَا ؛ فَأَيْمَانُ الْحَالِفِينَ لَا تُغَيَّرُ شَرَائِعَ الدِّينِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُحَرِّمَ بِيَمِينِهِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَلَا يُوجِبَ بِيَمِينِهِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ . هَذَا هُوَ شَرْعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَأَمَّا شَرْعُ مَنْ قَبْلَهُ فَكَانَ فِي شَرْعِ بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ شَيْئًا حُرِّمَ عَلَيْهِ وَإِذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِمْ كَفَّارَةٌ فَقَالَ تَعَالَى : { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلَّا مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ } فَإِسْرَائِيلُ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا فَحُرِّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّنَا : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وَهَذَا الْفَرْضُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } { وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } . وَلِهَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا كَفَّارَةٌ بَلْ كَانَتْ الْيَمِينُ تُوجِبُ عَلَيْهِمْ فِعْلَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَمَرَ اللَّهُ أَيُّوبَ أَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ ضِغْثًا فَيَضْرِبُ بِهِ وَلَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَلَوْ كَانَ فِي شَرْعِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَانَ ذَلِكَ أَيْسَرَ عَلَيْهِ مِنْ ضَرْبِ امْرَأَتِهِ وَلَوْ بِضِغْثِ ؛ فَإِنَّ أَيُّوبَ كَانَ قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَا يُوجِبُونَهُ بِالْيَمِينِ بِمَنْزِلَةِ مَا

يَجِبُ بِالشَّرْعِ . كَانَتْ الْيَمِينُ عِنْدَهُمْ كَالنَّذْرِ . وَالْوَاجِبُ بِالشَّرْعِ قَدْ يُرَخَّصُ فِيهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يُرَخَّصُ فِي الْجَلْدِ الْوَاجِبِ فِي الْحَدِّ إذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ لَا يَحْتَمِلُ التَّفْرِيقَ ؛ بِخِلَافِ مَا الْتَزَمَهُ الْإِنْسَانُ بِيَمِينِهِ فِي شَرْعِنَا فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِالشَّرْعِ فَيَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَهُ وَلَهُ مَخْرَجٌ مِنْ ذَلِكَ فِي شَرْعِنَا بِالْكَفَّارَةِ . وَلَكِنْ بَعْضُ عُلَمَائِنَا لَمَّا ظَنُّوا أَنَّ الْأَيْمَانَ مِمَّا لَا مَخْرَجَ لِصَاحِبِهِ مِنْهُ بَلْ يَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَهُ فَطِنُوا أَنَّ شَرْعَنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَشَرْعِ بَنِي إسْرَائِيلَ احْتَاجُوا إلَى الِاحْتِيَالِ فِي الْأَيْمَانِ : إمَّا فِي لَفْظِ الْيَمِينِ وَإِمَّا بِخُلْعِ الْيَمِينِ وَإِمَّا بِدَوْرِ الطَّلَاقِ وَإِمَّا بِجَعْلِ النِّكَاحِ فَاسِدًا فَلَا يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ . وَإِنْ غَلَبُوا عَنْ هَذَا كُلِّهِ دَخَلُوا فِي التَّحْلِيلِ وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ وَمَا وَضَعَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . وَصَارَ مَا شَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ هُوَ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَمَا أَحْدَثَ غَيْرُهُ غَايَتَهُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ مَعَ شَرْعِهِ ؛ وَإِنْ كَانَ

الَّذِينَ قَالُوهُ بِاجْتِهَادِهِمْ لَهُمْ سَعْيٌ مَشْكُورٌ وَعَمَلٌ مَبْرُورٌ وَهُمْ مَأْجُورُونَ عَلَى ذَلِكَ مُثَابُونَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ مَسَائِلِ النِّزَاعِ الَّتِي تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ فَأَصْوَبُ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ : مَنْ أَصَابَ هَذَا الْقَوْلَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَمَنْ لَمْ يُؤَدِّهِ اجْتِهَادُهُ إلَّا إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ ؛ وَالْقَوْلُ الْمُوَافِقُ لِسُنَّتِهِ مَعَ الْقَوْلِ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ طَرِيقٍ سَهْلٍ مُخَصَّبٍ يُوَصِّلُ إلَى الْمَقْصُودِ وَتِلْكَ الْأَقْوَالُ فِيهَا بُعْدٌ وَفِيهَا وُعُورَةٌ وَفِيهَا حدوثة . فَصَاحِبُهَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ التَّعَبِ وَالْجُهْدِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي الطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ . وَلِهَذَا أَذَاعُوا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى تِلْكَ الطَّرِيقَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ مِنْ لُزُومِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ : مِنْ الْقَطِيعَةِ وَالْفُرْقَةِ ؛ وَتَشْتِيتِ الشَّمْلِ وَتَخْرِيبِ الدِّيَارِ وَمَا يُحِبُّهُ الشَّيْطَانُ وَالسَّحَرَةُ مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَمَا يَظْهَرُ مَا فِيهَا مِنْ الْفَسَادِ لِكُلِّ عَاقِلٍ . ثُمَّ إمَّا أَنْ يَلْزَمُوا هَذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَيَدْخُلُوا فِي الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ . وَإِمَّا أَنْ يَدْخُلُوا فِي مُنْكَرَاتِ أَهْلِ الِاحْتِيَالِ وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ مِنْ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بِمَا أَغْنَاهُمْ بِهِ مِنْ الْحَلَالِ . " فَالطُّرُقُ ثَلَاثَةٌ " : أَمَّا الطَّرِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمَحْضَةُ الْمُوَافِقَةُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهِيَ طَرِيقُ أَفَاضِلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانِ . وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ وَالْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ وَإِنْ كَانَ مَنْ سَلَكَهَا مِنْ سَادَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَهُمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا أُتُوا بِهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ

الْمَأْمُورِ بِهِ { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } . وَهَذَا كَالْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ إذَا أَدَّى اجْتِهَادَ كُلِّ فِرْقَةٍ إلَى جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ : فَكُلُّهُمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مُقِيمُونَ لِلصَّلَاةِ ؛ لَكِنْ الَّذِي أَصَابَ الْقِبْلَةَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَهُ أَجْرَانِ وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَقَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ : بِمَعْنَى أَنَّهُ مُطِيعٌ لِلَّهِ ؛ وَلَكِنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاحِدٌ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَا شَرَعَ اللَّهُ تَكْفِيرَهُ مِنْ الْأَيْمَانِ هُوَ مُكَفَّرٌ وَلَوْ غَلَّظَهُ بِأَيِّ وَجْهٍ غَلَّظَ وَلَوْ الْتَزَمَ أَنْ لَا يُكَفِّرَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَهُ فَإِنَّ الْتِزَامَهُ أَنْ لَا يُكَفِّرَهُ الْتِزَامٌ لِتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُحَرِّمَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ بَلْ عَلَيْهِ فِي يَمِينِهِ الْكَفَّارَةُ . فَهَذَا الْمُلْتَزِمُ لِهَذَا الِالْتِزَامِ الْغَلِيظِ هُوَ يَكْرَهُ لُزُومَهُ إيَّاهُ وَكُلَّمَا غَلَّظَ كَانَ لُزُومُهُ لَهُ أَكْرَهَ إلَيْهِ وَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ لِقَصْدِهِ الْحَظْرَ وَالْمَنْعَ ؛ لِيَكُونَ لُزُومُهُ لَهُ مَانِعًا مِنْ الْحِنْثِ ؛ لَمْ يَلْتَزِمْهُ لِقَصْدِ لُزُومِهِ إيَّاهُ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَصْدَ يُنَاقِضُ عَقْدَ الْيَمِينِ ؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ لَا يَحْلِفُ إلَّا بِالْتِزَامِ مَا يَكْرَهُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ ؛ وَلَا يَحْلِفُ قَطُّ إلَّا بِالْتِزَامِهِ مَا يُرِيدُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ فَلَا يَقُولُ حَالِفٌ إنْ فَعَلْت كَذَا غَفَرَ اللَّهُ لِي وَلَا أَمَاتَنِي عَلَى الْإِسْلَامِ ؛ بَلْ يَقُولُ : إنْ فَعَلْت

كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ نِسَائِي طَوَالِقُ أَوْ عَبِيدِي أَحْرَارٌ . أَوْ كُلُّ مَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ أَوْ عَلَيَّ عَشْرُ حِجَجٍ حَافِيًا مَكْشُوفَ الرَّأْسِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَوْ فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا عَلَى أَغْلَظِ قَوْلٍ . وَقَدْ يَقُولُ مَعَ ذَلِكَ : عَلَيَّ أَنْ لَا أَسْتَفْتِيَ مَنْ يُفْتِينِي بِالْكَفَّارَةِ وَيَلْتَزِمُ عِنْدَ غَضَبِهِ مِنْ اللَّوَازِمِ مَا يَرَى أَنَّهُ لَا مَخْرَجَ لَهُ مِنْهُ إذَا حَنِثَ . لِيَكُونَ لُزُومُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ الْحِنْثِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَقْصِدُ قَطُّ أَنْ يَقَعَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ اللَّوَازِمِ وَإِنْ وَقَعَ الشَّرْطُ أَوْ لَمْ يَقَعْ وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهَا تَلْزَمُهُ الْتَزَمَهَا لِاعْتِقَادِهِ لُزُومَهَا إيَّاهُ مَعَ كَرَاهَتِهِ لِأَنْ يَلْتَزِمَهُ ؛ لَا مَعَ إرَادَتِهِ أَنْ يَلْتَزِمَهُ وَهَذَا هُوَ الْحَالِفُ وَاعْتِقَادُ لُزُومِ الْجَزَاءِ غَيْرُ قَصْدِهِ لِلُزُومِ الْجَزَاءِ . فَإِنْ قَصَدَ لُزُومَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ : لَزِمَهُ مُطْلَقًا ؛ وَلَوْ كَانَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ فَلَوْ كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَوْ إذَا فَعَلَ هُوَ ذَلِكَ الْأَمْرَ . فَقَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا تَفْعَلِينَ كَذَا . وَقَصْدُهُ أَنَّهَا تَفْعَلُهُ فَتَطْلُقُ ؛ لَيْسَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَنْهَاهَا عَنْ الْفِعْلِ وَلَا هُوَ كَارِهٌ لِطَلَاقِهَا ؛ بَلْ هُوَ مُرِيدٌ لِطَلَاقِهَا : طَلُقَتْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ حَالِفًا ؛ بَلْ هُوَ مُعَلِّقٌ لِلطَّلَاقِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ وَمَعْنَى كَلَامِهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ فَيَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ هُنَا عِنْدَ الْحِنْثِ فِي اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ . وَمَقْصُودُهُ مَقْصُودُ التَّعْلِيقِ . وَالطَّلَاقُ هُنَا إنَّمَا

وَقَعَ عِنْدَ الشَّرْطِ الَّذِي قُصِدَ إيقَاعُهُ عِنْدَهُ ؛ لَا عِنْدَ مَا هُوَ حِنْثٌ فِي الْحَقِيقَةِ ؛ إذًا لِاعْتِبَارِ بِقَصْدِهِ وَمُرَادِهِ ؛ لَا بِظَنِّهِ وَاعْتِقَادِهِ : فَهُوَ الَّذِي تُبْنَى عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } . وَالسَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَجَمَاهِيرِ الْخَلَفِ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ إذَا قُصِدَ بِهِ الطَّلَاقُ فَهُوَ طَلَاقٌ وَإِنْ قُصِدَ بِهِ غَيْرُ الطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا . وَلَيْسَ لِلطَّلَاقِ عِنْدَهُمْ لَفْظٌ مُعَيَّنٌ ؛ فَلِهَذَا يَقُولُونَ : إنَّهُ يَقَعُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ . وَلَفْظُ الصَّرِيحِ عِنْدَهُمْ كَلَفْظِ الطَّلَاقِ لَوْ وَصَلَهُ بِمَا يُخْرِجُهُ عَنْ طَلَاقِ الْمَرْأَةِ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَثَاقِ الْحَبْسِ أَوْ مِنْ الزَّوْجِ الَّذِي كَانَ قَبْلِي وَنَحْوَ ذَلِكَ .
وَالْمَرْأَةُ إذَا أَبْغَضَتْ الرَّجُلَ كَانَ لَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } وَهَذَا الْخُلْعُ تَبِينُ بِهِ الْمَرْأَةُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ إلَّا بِرِضَاهَا وَلَيْسَ هُوَ كَالطَّلَاقِ الْمُجَرَّدِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقَعُ رَجْعِيًّا لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ بِدُونِ رِضَاهَا ؛ لَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْخُلْعِ : هَلْ يَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ مَحْسُوبَةٌ مِنْ الثَّلَاثِ ؟ أَوْ

تَقَعُ بِهِ فُرْقَةٌ بَائِنَةٌ وَلَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بَلْ هُوَ فَسْخٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ . و " الْأَوَّلُ " مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِك وَكَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَنُقِلَ عَنْ طَائِفَة مِنْ الصَّحَابَةِ ؛ لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَلْ ضَعَّفَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ خُزَيْمَة وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ جَمِيعَ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ . و " الثَّانِي " أَنَّهُ فُرْقَةٌ بَائِنَةٌ وَلَيْسَ مِنْ الثَّلَاثِ وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِهِ : كطاوس وَعِكْرِمَةَ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه ؛ وَأَبِي ثَوْرٍ ودَاوُد وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ خُزَيْمَة وَغَيْرِهِمْ . وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْخُلْعَ بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَكَانَ الطَّلَاقُ أَرْبَعًا . ثُمَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ تَنَازَعُوا : هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْخُلْعُ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ ؟ أَوْ لَا يَكُونُ إلَّا بِلَفْظِ الْخُلْعِ وَالْفَسْخِ وَالْمُفَادَاةِ وَيُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَنْوِيَ الطَّلَاقَ ؟ أَوْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَهُ أَوْ لَا يَنْوِيَهُ وَهُوَ خُلْعٌ بِأَيِّ لَفْظٍ وَقَعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ ؟ عَلَى أَوْجُهٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : أَصَحُّهَا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ الْوَجْهُ الْأَخِيرُ وَهُوَ : أَنَّ الْخُلْعَ هُوَ الْفُرْقَةُ بِعِوَضِ فَمَتَى فَارَقَهَا بِعِوَضِ فَهِيَ

مُفْتَدِيَةٌ لِنَفْسِهَا بِهِ وَهُوَ خَالِعٌ لَهَا بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ قَطُّ لَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَلَا عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْخُلْعِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ؛ بَلْ كَلَامُهُمْ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ . وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْخُلْعِ هَلْ هُوَ طَلَاقٌ أَمْ لَا ؟ قَالَ : وَأَحْسَبُ الَّذِينَ قَالُوا هُوَ طَلَاقٌ هُوَ فِيمَا إذَا كَانَ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ ؟ وَلِهَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ والطَّحَاوِي أَنَّ هَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ وَالشَّافِعِيُّ لَمْ يَحْكِ عَنْ أَحَدٍ هَذَا ؛ بَلْ ظَنَّ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ . وَهَذَا بَنَاهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا وَاحِدًا فَإِنَّ حُكْمَهَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ . وَفِي مَذْهَبِهِ فِي نِزَاعٍ فِي الْأَصْلِ وَأَمَّا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فَإِنَّ أُصُولَهُ وَنُصُوصَهُ وَقَوْلَ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ بِمَعَانِيهَا لَا بِالْأَلْفَاظِ وَفِي مَذْهَبِهِ قَوْلٌ آخَرَ : أَنَّهُ تَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ وَهَذَا يُذْكَرُ فِي التَّكَلُّمِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَفِي الْمُزَارَعَةِ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَقَدْ ذَكَرْنَا أَلْفَاظَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَلْفَاظَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَبَيَّنَّا أَنَّهَا بَيِّنَةٌ فِي عَدَمِ التَّفْرِيقِ . وَأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ لَا تَحْتَمِلُ التَّفْرِيقَ وَكَذَلِكَ أَصُولُ أَحْمَد . وَسَبَبُهُ ظَنُّ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا أَنَّ الْآثَارَ الثَّابِتَةَ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ تَدُلُّ دَلَالَةً بَيِّنَةً أَنَّهُ خُلْعٌ ؛ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ تُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ . وَالطَّلَاقُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ .

قَالَ هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ طَلَاقٌ بَائِنٌ مَحْسُوبٌ مِنْ الثَّلَاثِ أَصْلًا بَلْ كُلُّ طَلَاقٍ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ . وَقَالَ هَؤُلَاءِ : وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَائِنَةً لَمْ يَقَعْ بِهَا إلَّا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ ؛ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ . قَالُوا : وَتَقْسِيمُ الطَّلَاقِ إلَى رَجْعِيٍّ وَبَائِنٍ تَقْسِيمٌ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَهَذَا قَوْلُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ فَإِنَّ كُلَّ طَلَاقٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَا يَقَعُ إلَّا رَجْعِيًّا وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَائِنَةً أَوْ طَلَاقًا بَائِنًا : لَمْ يَقَعْ بِهِ عِنْدَهُمَا إلَّا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ . وَأَمَّا الْخُلْعُ فَفِيهِ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِهِمَا . فَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الصَّحِيحِ طَرَدَ هَذَا الْأَصْلَ وَاسْتَقَامَ قَوْلُهُ وَلَمْ يَتَنَاقَضْ كَمَا يَتَنَاقَضُ غَيْرُهُ ؛ إلَّا مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : إنَّ الْخُلْعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ يَقَعُ طَلَاقًا بَائِنًا فَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا فِي الْجُمْلَةِ طَلَاقًا بَائِنًا مَحْسُوبًا مِنْ الثَّلَاثِ فَنَقَضُوا أَصْلَهُمْ الصَّحِيحَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَقَالَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ : إذَا وَقَعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ كَانَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا ؛ لَا بَائِنًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَجْعَلْهُ طَلَاقًا بَائِنًا لِمُخَالَفَةِ الْقُرْآنِ ؛ وَظَنَّ أَنَّهُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ يَكُونُ طَلَاقًا فَجَعَلَهُ رَجْعِيًّا وَهَذَا خَطَأٌ ؛ فَإِنَّ مَقْصُودَ الِافْتِدَاءِ لَا يَحْصُلُ إلَّا مَعَ الْبَيْنُونَةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ حُصُولُ الْبَيْنُونَةِ بِالْخُلْعِ مِمَّا لَمْ يُعْرَفْ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لَكِنَّ بَعْضَهُمْ جَعَلَهُ جَائِزًا ؛ فَقَالَ : لِلزَّوْجِ أَنْ يَرُدَّ الْعِوَضَ وَيُرَاجِعَهَا ؛ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الزَّوْجَ وَحْدَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ وَلَكِنْ لَوْ اتَّفَقَا عَلَى فَسْخِهِ كَالتَّقَايُلِ : فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ آخَرُ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ .

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ يُبَيِّنُ أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا يَكُونُ إلَّا رَجْعِيًّا وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ طَلَاقٌ بَائِنٌ إلَّا قَبْلَ الدُّخُولِ . وَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ وَهَذِهِ الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى وَهِيَ إنَّمَا تَحْصُلُ بِالثَّلَاثِ لَا بِطَلْقَةِ وَاحِدَةٍ مُطْلَقَةٍ ؛ لَا يَحْصُلُ بِهَا لَا بَيْنُونَةٌ كُبْرَى وَلَا صُغْرَى . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ . إنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ عَامَّةً طَلَاقُهُمْ الْفِدَاءُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَيْسَ الْفِدَاءُ بِطَلَاقِ . وَرَدَّ الْمَرْأَةَ عَلَى زَوْجِهَا بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ وَخُلْعٍ مَرَّةً . وَبِهَذَا أَخَذَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ؛ لَكِنْ تَنَازَعَ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ : هَلْ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَعْنَى إذَا كَانَ وَاحِدًا فَالِاعْتِبَارُ بِأَيِّ لَفْظٍ وَقَعَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَقَاصِدِ الْعُقُودِ وَحَقَائِقِهَا لَا بِاللَّفْظِ وَحْدَهُ فَمَا كَانَ خُلْعًا فَهُوَ خُلْعٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ وَمَا كَانَ طَلَاقًا فَهُوَ طَلَاقٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ وَمَا كَانَ يَمِينًا فَهُوَ يَمِينٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ وَمَا كَانَ إيلَاءٌ فَهُوَ إيلَاءٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ وَمَا كَانَ ظِهَارًا فَهُوَ ظِهَارٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ . وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ " الطَّلَاقُ " و " الْيَمِينُ " و " الظِّهَارُ " و " الْإِيلَاءُ " و " الِافْتِدَاءُ " وَهُوَ الْخُلْعُ وَجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ حُكْمًا فَيَجِبُ أَنْ نَعْرِفَ حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَنَدْخُلَ فِي الطَّلَاقِ مَا كَانَ طَلَاقًا وَفِي الْيَمِينِ مَا كَانَ يَمِينًا وَفِي الْخُلْعِ مَا كَانَ خُلْعًا وَفِي الظِّهَارِ مَا كَانَ ظِهَارًا ؛ وَفِي الْإِيلَاءِ مَا كَانَ إيلَاءً . وَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ عَنْ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَائِهِمْ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ بَعْضُ ذَلِكَ بِبَعْضِ

فَيَجْعَلُ مَا هُوَ ظِهَارٌ طَلَاقًا : فَيَكْثُرُ بِذَلِكَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ الَّذِي يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَحْتَاجُونَ إمَّا إلَى دَوَامِ الْمَكْرُوه ؛ وَإِمَّا إلَى زَوَالِهِ بِمَا هُوَ أَكْرَهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُ وَهُوَ " نِكَاحُ التَّحْلِيلِ " . وَأَمَّا الطَّلَاقُ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ إذَا أَرَادَ طَلَاقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ أَوْ كَانَتْ حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا ثُمَّ يَدَعُهَا تَتَرَبَّصُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا غَرَضٌ : ؟ سَرَّحَهَا بِإِحْسَانِ . ثُمَّ إنْ بَدَا لَهُ بَعْدَ هَذَا إرْجَاعُهَا يَتَزَوَّجُهَا بِعَقْدِ جَدِيدٍ ثُمَّ إذَا أَرَادَ ارْتِجَاعَهَا أَوْ تَزَوَّجَهَا وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلَّقَهَا فَهَذَا طَلَاقُ السُّنَّةِ الْمَشْرُوعِ . وَمَنْ لَمْ يُطَلِّقْ إلَّا طَلَاقَ السُّنَّةِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ نِكَاحِ التَّحْلِيلِ وَغَيْرِهِ ؛ بَلْ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ لَهُ فِي كُلِّ طَلْقَةٍ رَجْعَةٌ أَوْ عَقْدٌ جَدِيدٌ : فَهُنَا قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَلَا يَجُوزُ عَوْدُهَا إلَيْهِ بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ أَصْلًا ؛ بَلْ قَدْ { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } وَاتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ أَصْحَابُهُ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ فَلَا يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَحَدًا مِنْ خُلَفَائِهِ أَوْ أَصْحَابِهِ أَعَادَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا إلَى زَوْجِهَا بَعْدَ نِكَاحِ تَحْلِيلٍ أَبَدًا وَلَا كَانَ نِكَاحُ التَّحْلِيلِ ظَاهِرًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ كَانَ مَنْ يَفْعَلُهُ سِرًّا وَقَدْ لَا تَعْرِفُ الْمَرْأَةُ وَلَا وَلِيُّهَا وَقَدْ { لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } وَفِي الرِّبَا قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ } فَلَعَنَ الْكَاتِبَ وَالشُّهُودَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشْهِدُونَ عَلَى دِينِ الرِّبَا وَلَمْ يَكُونُوا يُشْهِدُونَ عَلَى نِكَاحِ التَّحْلِيلِ .

و " أَيْضًا " فَإِنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْتَبُ فِيهِ صَدَاقٌ كَمَا تُكْتَبُ الدُّيُونُ وَلَا كَانُوا يَشْهَدُونَ فِيهِ لِأَجْلِ الصَّدَاقِ ؛ بَلْ كَانُوا يَعْقِدُونَهُ بَيْنَهُمْ وَقَدْ عَرَفُوا بِهِ وَيَسُوقُ الرَّجُلُ الْمَهْرَ لِلْمَرْأَةِ فَلَا يَبْقَى لَهَا عَلَيْهِ دِينٌ ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ رَسُولُ اللَّهِ فِي نِكَاحِ التَّحْلِيلِ الْكَاتِبَ وَالشُّهُودَ كَمَا ذَكَرَهُمْ فِي الرِّبَا . وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِشْهَادِ عَلَى النِّكَاحِ حَدِيثٌ . وَنِزَاعُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَقِيلَ : يَجِبُ الْإِعْلَانُ أَشْهَدُوا أَوْ لَمْ يُشْهِدُوا فَإِذَا أَعْلَنُوهُ وَلَمْ يَشْهَدُوا تَمَّ الْعَقْدُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ . وَقِيلَ : يَجِبُ الْإِشْهَادُ : أَعْلَنُوهُ أَوْ لَمْ يُعْلِنُوهُ فَمَتَى أَشْهَدُوا وَتَوَاصَوْا بِكِتْمَانِهِ لَمْ يَبْطُلْ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ . وَقِيلَ : يَجِبُ الْأَمْرَانِ الْإِشْهَادُ وَالْإِعْلَانُ . وَقِيلَ : يَجِبُ أَحَدُهُمَا . وَكِلَاهُمَا يُذْكَرُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد .
وَأَمَّا " نِكَاحُ السِّرِّ " الَّذِي يَتَوَاصَوْنَ بِكِتْمَانِهِ وَلَا يُشْهِدُونَ عَلَيْهِ أَحَدًا : فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ السِّفَاحِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعِهَا .

وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَقْوَالِ الثَّابِتَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ ؛ وَبَيْنَ الْأَقْوَالِ الْمَرْجُوحَةِ وَأَنَّ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَجْمَعُ مَصَالِحَ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ ؛ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ فِي شَرِيعَتِهِ مَا فَرَّقَهُ شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْكَمَالِ ؛ إذْ لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ فَكَمُلَ بِهِ الْأَمْرُ كَمَا كَمُلَ بِهِ الدِّينُ . فَكِتَابُهُ أَفْضَلُ الْكُتُبِ وَشَرْعُهُ أَفْضَلُ الشَّرَائِعِ وَمِنْهَاجُهُ أَفْضَلُ الْمَنَاهِجِ وَأُمَّتُهُ خَيْرُ الْأُمَمِ وَقَدْ عَصَمَهَا اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ فَلَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ ؛ وَلَكِنْ يَكُونُ عِنْدَ بَعْضِهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ بَعْضٍ وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } فَهَذَانِ نَبِيَّانِ كَرِيمَانِ حَكَمَا فِي قِصَّةٍ فَخَصَّ اللَّهُ أَحَدَهُمَا بِالْفَهْمِ ؛ وَلَمْ يَعِبْ الْآخَرَ ؛ بَلْ أَثْنَى عَلَيْهِمَا جَمِيعًا بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ . وَهَذَا حُكْمُ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَخُلَفَاءُ الرُّسُلِ الْعَامِلِينَ بِالْكِتَابِ . وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ الَّتِي قَضَى فِيهَا دَاودُ وَسُلَيْمَانُ لِعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا وَمَا يُشْبِهُهَا أَيْضًا قَوْلَانِ . مِنْهُمْ مَنْ يَقْضِي بِقَضَاءِ دَاوُد . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْضِي بِقَضَاءِ سُلَيْمَانَ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَقُولُ بِهِ ؛ بَلْ قَدْ لَا يَعْرِفُهُ . وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

وَأَمَّا إذَا " حَلَفَ بِالْحَرَامِ " فَقَالَ : الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ فَعَلْت كَذَا أَوْ مَا يَحِلُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَحْرُمُ عَلَيَّ إنْ فَعَلْت كَذَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَلَهُ زَوْجَةٌ . فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ؛ لَكِنَّ الْقَوْلَ الرَّاجِحَ أَنَّ هَذِهِ يَمِينٌ لَا يَلْزَمُهُ بِهَا طَلَاقٌ وَلَوْ قَصَدَ بِذَلِكَ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد الْمَشْهُورُ عَنْهُ حَتَّى لَوْ قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَهُ . وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَقَصَدَ بِهِ الطَّلَاقَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الظِّهَارَ طَلَاقًا وَالْإِيلَاءَ طَلَاقًا : فَرَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَجَعَلَ فِي الظِّهَارِ الْكَفَّارَةَ الْكُبْرَى وَجَعَلَ الْإِيلَاءَ يَمِينًا يَتَرَبَّصُ فِيهَا الرَّجُلُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ . فَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَ بِمَعْرُوفِ أَوْ يُسَرِّحَ بِإِحْسَانِ . وَكَذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : إنَّهُ إذَا كَانَ مُزَوِّجًا فَحَرَّمَ امْرَأَتَهُ أَوْ حَرَّمَ الْحَلَالَ مُطْلَقًا كَانَ مُظَاهِرًا وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد . وَإِذَا حَلَفَ بِالظِّهَارِ أَوْ الْحَرَامِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَحَنِثَ فِي يَمِينِهِ : أَجْزَأَتْهُ الْكَفَّارَةُ فِي مَذْهَبِهِ ؛ لَكِنْ قِيلَ : إنَّ الْوَاجِبَ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ سَوَاءٌ حَلَفَ

أَوْ أَوْقَعَ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَد . وَقِيلَ : بَلْ إنْ حَلَفَ بِهِ أَجْزَأَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَإِنْ أَوْقَعَهُ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ وَهَذَا أَقْوَى وَأَقْيَسُ عَلَى أَصْلِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَالْحَالِفُ بِالْحَرَامِ تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا تُجْزِئُ الْحَالِفَ بِالنَّذْرِ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ . وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ بِالْعِتْقِ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَكَذَلِكَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ تُجْزِئُ أَيْضًا فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا أَفْتَى مَنْ أَفْتَى بِهِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ لَا يُخَالِفُ ذَاكَ ؛ بَلْ مَعْنَاهُ يُوَافِقُهُ . وَكُلُّ يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَيْمَانِهِمْ فَفِيهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَأَمَّا إذَا كَانَ مَقْصُودُ الرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ أَوْ يَعْتِقَ أَوْ أَنْ يُظَاهِرَ : فَهَذَا يَلْزَمُهُ مَا أَوْقَعَهُ سَوَاءٌ كَانَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلِّقًا فَلَا تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي مَا بَقِيت أَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ ؛ إلَّا إنْ كُنْت سَاهِيًا ؛ أَوْ غالطا . لِأَنَّهُ تَخَاصَمَ مَعَ شَخْصٍ وَحَصَلَ لَهُ حَرَجٌ فَقَالَ : أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ تَلْزَمُنِي . أَوْ الْأَيْمَانُ تَلْزَمُنِي عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ : لَا بُدَّ أَنْ أَشْكُوَك إلَى الْمُحْتَسِبِ . وَلَمْ يَكُنْ ذَكَرَ الْيَمِينَ الْأَوَّلَ ؛ وَهُوَ شَافِعِيُّ الْمَذْهَبِ : فَمَا يَجِبُ عَلَى الْيَمِينِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ نَاسِيًا لِلْيَمِينِ الْأَوَّلِ وَحَلَفَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ ذَكَرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي مَتَى رَأَيْت فُلَانَةً عِنْدَك طَلَّقْتُك : فَهَلْ يَحْنَثُ إذَا طَلَعَتْ وَلَمْ يَرَهَا أَوْ اجْتَمَعُوا ثَلَاثَتُهُمْ فِي مَكَانٍ غَيْرَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
إذَا طَلَعَتْ وَلَمْ يَرَهَا أَوْ اجْتَمَعَ بِهَا فِي بَيْتِ غَيْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ ؛ أَوْ [ فِي ] (1) سَبَبِ الْيَمِينِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ خَرَجَتْ زَوْجَتُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ثُمَّ قَالَ لَهَا : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي ثَلَاثًا مَا بَقِيت أَرْفَعُ الْعَصَا عَنْك ؛ وَنِيَّتُهُ فِي ذَلِكَ إذَا خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ : فَهَلْ يَجِبُ الطَّلَاقُ بِالْحَالِ ؛ أَوْ إذَا خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ ؟ وَهَلْ إذَا أَذِنَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
لَا طَلَاقَ عَلَيْهِ بِالْحَالِ ؛ بَلْ إذَا خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ حَنِثَ فَإِنْ أَذِنَ لَهَا إذْنًا عَامًّا جَازَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ سَبَبٌ يُخَالِفُ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ اتَّهَمَ زَوْجَتَهُ بِسَرِقَةِ دَرَاهِمَ ؛ فَقَالَتْ : وَاَللَّهِ مَا أَخَذْت شَيْئًا . فَقَالَ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي مِنْك ثَلَاثًا إنْ لَمْ تُحْضِرِي الدَّرَاهِمَ : مَا تَكُونُ لَهُ زَوْجَتُهُ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَأْخُذْ الدَّرَاهِمَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُمْتَنِعٌ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِرَدِّهَا إلَّا إذَا كَانَتْ أَخَذَتْهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ جَرَى مِنْهُ كَلَامٌ فِي زَوْجَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ فَقَالَ : إنْ جَاءَتْ زَوْجَتِي بِبِنْتٍ فَهِيَ طَالِقٌ ثُمَّ إنَّهُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ جَرَى بَيْنَهُمْ كَلَامٌ فَنَزَلَ عَنْ طَلْقَةٍ ثُمَّ إنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَضَعَتْ بِنْتًا . فَهَلْ يَقَعُ عَلَى الزَّوْجِ الطَّلَاقُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ قَدْ أَبَانَهَا بِالطَّلْقَةِ بِأَنْ تَكُونَ الطَّلْقَة بِعِوَضِ أَوْ وَدَّعَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا : فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ . وَفِيهَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ " أَحَدُهُمَا " يَقَعُ وَهُوَ رِوَايَةٌ مُخَرَّجَةٌ فَيَذْهَبُ أَحْمَد . وَإِنْ كَانَ لَمْ يُبِنْهَا بَلْ رَاجَعَ فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّ النِّكَاحَ بَاقٍ فَإِنْ وَجَدَتْ الصِّفَةَ الْمُعَلِّقَ بِهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ تَخَاصَمَا هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَانْجَرَحَ مِنْهَا ؛ فَقَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي مِنْك ثَلَاثًا : إنْ قُلْت طَلِّقْنِي طَلَّقْتُك . فَسَكَتَتْ ثُمَّ قَالَتْ لِأُمِّهَا : أَيُّ شَيْءٍ يَقُولُ ؟ قَالَتْ أُمُّهَا يَقُولُ كَذَا . قُولِي لَهُ : طَلِّقْنِي : ثُمَّ قَالَتْ الْمَرْأَةُ : طَلِّقْنِي . فَهَلْ يَقَعُ طَلَاقٌ بِوَاحِدَةٍ ؛ أَوْ بِثَلَاثِ ؟ أَوْ لَا يَقَعُ ؟

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا لَمْ يَنْوِ بِقَوْلِهِ : إذَا قُلْت طَلِّقْنِي طَلَّقْتُك . أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي الْمَجْلِسِ ؛ بَلْ يُطَلِّقُهَا عِنْدَ الشُّهُودِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا لَمْ يَحْنَثْ إذَا افْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ لَكِنْ يُطَلِّقُهَا بَعْدَ ذَلِكَ الطَّلَاقِ الَّذِي قَصَدَ بِيَمِينِهِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْصِدْ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا وَلَا اثْنَتَيْنِ أَجْزَأَ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً . هَذَا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ إجَابَةَ سُؤَالِهَا مُطْلَقًا . وَأَمَّا إذَا قَصَدَ إجَابَةَ سُؤَالِهَا إذَا كَانَتْ طَالِبَةً لِلطَّلَاقِ فَإِذَا رَجَعَتْ وَقَالَتْ ؛ لَا أُرِيدُ الطَّلَاقَ : لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ إذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ وَهُوَ سَاكِنٌ بِهَا فِي غَيْرِ مَنْزِلٍ سَكَنَهَا : إنْ قَعَدْت عِنْدَكُمْ فَأَنْتِ طَالِقٌ ؛ وَإِنْ سَكَنْت عِنْدَكُمْ فَأَنْتِ طَالِقٌ ؛ ثُمَّ قَالَ أَيْضًا : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ؛ ثُمَّ انْتَقَلَ بِنَفْسِهِ وَمَتَاعِهِ دُونَ زَوْجَتِهِ إلَى مَكَانٍ آخَرَ ؛ وَعَادَتْ زَوْجَتُهُ إلَى مَكَانِهَا الْأَوَّلِ ؛ فَإِذَا عَادَ وَقَعَدَ عِنْدَ زَوْجَتِهِ يَقَعُ عَلَيْهِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ ؟ أَمْ طَلْقَتَانِ ؟ وَهَلْ السَّكَنُ هُوَ الْقُعُودُ ؟ أَوْ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ ؟ وَإِذَا لَمْ يَنْوِ بِالْحَرَامِ الطَّلَاقَ : هَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ نَوَى ؟ وَهَلْ إذَا كَانَ مَذْهَبٌ تَزُولُ بِهِ هَذِهِ الصُّورَةُ مُخَالِفًا لِمَذْهَبِهِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ أَمْ لَا ؟

فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا قَوْلُهُ : إنْ قَعَدْت عِنْدَكُمْ وَإِنْ سَكَنْت عِنْدَكُمْ فَإِنْ كَانَ نِيَّةُ الْحَالِفِ بِالْقُعُودِ إذَا انْتَقَضَ سَبَبُ تِلْكَ الْحَالِ ؛ بِمَنْزِلَةِ مَنْ دُعِيَ إلَى غَدَاءٍ فَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يَتَغَدَّى ؛ فَإِنَّ سَبَبَ الْيَمِينِ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْغَدَاءَ الْمُعَيَّنَ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِغَدَاءِ غَيْرِ ذَلِكَ : وَهَكَذَا إذَا كَانَ قَدْ زَارَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ قَوْمًا فَرَأَى مِنْ الْأَحْوَالِ مَا كَرِهَ أَنْ تُقِيمَ تِلْكَ الْمَرْأَةُ عِنْدَهُمْ فَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يُقِيمُ وَلَا يَسْكُنُ وَقَصَدَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ أَوْ كَانَ سَبَبُ الْيَمِينِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . وَأَمَّا إنْ كَانَ قَدْ نَوَى الْعُمُومَ بِحَيْثُ قَصَدَ أَنَّهُ لَا يَقْعُدُ عِنْدَهُمْ وَلَا يُسَاكِنُهُمْ بِحَالِ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِالْقُعُودِ . وَإِنْ أَطْلَقَ الْيَمِينَ فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَحَيْثُ يَحْنَثُ بِالْقُعُودِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْقُعُودُ الَّذِي قَصَدَهُ هُوَ السُّكْنَى لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْثَرَ مِنْ طَلْقَةٍ ؛ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ؛ كَمَا لَوْ كَرَّرَ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ . وَإِنْ كَانَ الْقُعُودُ دَاخِلًا فِي ضِمْنِ السُّكْنَى - كَمَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ - فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدَاخُلُ الصِّفَاتِ كَمَا لَوْ قَالَ : إنْ أَكَلْت تُفَّاحَةً وَاحِدَةً : فَقَدْ قِيلَ : تَقَعُ طَلْقَتَانِ ؛ لِوُجُودِ الصِّفَتَيْنِ . وَقِيلَ : لَا يَقَعُ إلَّا طَلْقَة وَاحِدَةٌ أَيْضًا . وَهُوَ أَقْوَى فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّك طَالِقٌ سَوَاءٌ أَكَلَتْ تُفَّاحَةً كَامِلَةً أَوْ نِصْفَهَا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : إنْ قَعَدْت . فَالْقُعُودُ " لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ " يُرَادُ بِهِ السُّكْنَى مُشْتَمِلًا عَلَى الْعُقُودِ وَيَكُونُ

أَوَّلًا حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَقْعُدُ ثُمَّ حَلَفَ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ السُّكْنَى فَإِذَا سَكَنَ كَانَ الْأَوَّلُ بَعْضَ الثَّانِي فَلَا يَقَعُ أَكْثَرُ مِنْ طَلْقَةٍ إذَا قِيلَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ عَلَى أَقْوَى الْقَوْلَيْنِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ " فَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا فَفَعَلَهُ : فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ ؛ بَلْ حَرَّمَهَا تَحْرِيمًا : فَهَذَا عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ فِي الصُّورَتَيْنِ . وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ : يَقُولُونَ : إنَّ الْحَرَامَ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ إذَا لَمْ يَنْوِهِ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَتْبَاعِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ صَارَ بِحُكْمِ الْعُرْفِ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ : فَهَذَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ . وَقَدْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يَرَوْنَ لَفْظَ " الظِّهَارِ " صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ قَوْلُهُ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي حَتَّى تَظَاهَرَ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ مِنْ امْرَأَتِهِ الْمُجَادِلَةِ الَّتِي ثَبَتَ حُكْمُهَا فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ } وَأَفْتَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا بِالطَّلَاقِ حَتَّى نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ وَجَعَلَ الظِّهَارَ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ .

" وَالْحَرَامَ " نَظِيرَ الظِّهَارِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ لَهَا بِالْمُحَرَّمَةِ وَهَذَا نُطْقٌ بِالتَّحْرِيمِ وَكِلَاهُمَا مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ فَقَدْ دَلَّ كِتَابُ اللَّهِ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ يَمِينٌ بِقَوْلِهِ : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } إلَى قَوْلِهِ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } . مَعَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ . وَأَمَّا تَقْلِيدُ الْمُسْتَفْتِي لِلْمُفْتِي فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ وَلَا شَرْعٍ لَهُ الْتِزَامُ قَوْلِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ فِي كُلِّ مَا يُوجِبُهُ وَيُحَرِّمُهُ وَيُبِيحُهُ ؛ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : عَلَى الْمُسْتَفْتِي أَنْ يُقَلِّدَ الْأَعْلَمَ الْأَرْوَعَ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ اسْتِفْتَاؤُهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْمُفْتِينَ وَإذَا كَانَ لَهُ نَوْعُ تَمْيِيزٍ فَقَدْ قِيلَ : يَتَّبِعُ أَيَّ الْقَوْلَيْنِ أَرْجَحُ عِنْدِهِ بِحَسَبِ تَمْيِيزِهِ فَإِنَّ هَذَا أَوْلَى مِنْ التَّخْيِيرِ الْمُطْلَقِ . وَقِيلَ : لَا يَجْتَهِدُ إلَّا إذَا صَارَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ . وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ . فَإِذَا تَرَجَّحَ عِنْدَ الْمُسْتَفْتِي أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : إمَّا لِرُجْحَانِ دَلِيلِهِ بِحَسَبِ تَمْيِيزِهِ وَإِمَّا لِكَوْنِ قَائِلِهِ أَعْلَمَ وَأَرْوَعَ : فَلَهُ ذَلِكَ وَإِنْ خَالَفَ قَوْلُهُ الْمَذْهَبَ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِحَمَاتِهِ : إنْ لَمْ تَبِيعِينِي جَارِيَتَك وَإِلَّا ابْنَتُك طَالِقٌ ثَلَاثًا . فَقَالُوا : مَا نَبِيعُك الْجَارِيَةَ . فَقَالَ ؛ ابْنَتُكُمْ طَالِقٌ ثَلَاثًا . وَنِيَّتُهُ إنْ لَمْ تُعْطِينِي الْجَارِيَةَ ؟

فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ قَدْ نَوَى الشَّرْطَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ الطَّلَاقَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ . فَأَنْتِ طَالِقٌ . فَدَخَلَتْ نَاسِيَةً ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ نَاسِيَةً لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ مَكَّةَ . كَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَابْنِ جريج وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الشُّجَاعُ الْمِقْدَامُ لَيْثُ الْحُرُوبِ وَأَسَدُ السُّنَّةِ ؛ الصَّابِرُ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَلَى الْمِحْنَةِ الْعَلَمُ الْحُجَّةُ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّة رَحِمَهُ اللَّهُ رَبُّ الْبَرِيَّةِ :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّ الْقُرْآنَ صَوْتٌ وَحَرْفٌ وَأَنَّ الرَّحْمَنَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى : عَلَى مَا يُفِيدُهُ الظَّاهِرُ وَيَفْهَمُهُ النَّاسُ مِنْ ظَاهِرِهِ هَلْ يَحْنَثُ فِي هَذَا ؟ أَمْ لَا ؟ (*)

فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إنْ كَانَ مَقْصُودُ هَذَا الْحَالِفِ أَنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ وَالْمِدَادِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ حُرُوفَ الْقُرْآنِ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ : فَقَدْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ . وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ النَّاسِ يَقُولُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُكْرَهُ تَجْرِيدُ الْكَلَامِ فِي الْمِدَادِ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ وَفِي صَوْتِ الْعَبْدِ لِئَلَّا يَتَذَرَّعَ بِذَلِكَ إلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ تَكَلَّمَ فِي صَوْتِ الْعَبْدِ وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي نَقْرَؤُهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهُ حَقِيقَةً ؛ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ وَأَنَّ الَّذِي بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً ؛ لَكِنْ مَا عَلِمْت أَحَدًا حَكَمَ عَلَى مَجْمُوعِ الْمِدَادِ الْمَكْتُوبِ بِهِ وَصَوْتِ الْعَبْدِ بِالْقُرْآنِ : بِأَنَّهُ قَدِيمٌ . وَلَكِنْ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ وَكَلَامِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ فِي " بَابِ صِفَاتِ اللَّهِ " إلَّا الْمَعَانِيَ الَّتِي تَلِيقُ بِالْخَلْقِ ؛ لَا بِالْخَالِقِ ثُمَّ يُرِيدُونَ تَحْرِيفَ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ إذَا وَجَدُوا ذَلِكَ فِيهَا وَإِنْ وَجَدُوهُ فِي كَلَامِ التَّابِعِينَ لِلسَّلَفِ افْتَرَوْا الْكَذِبَ عَلَيْهِمْ وَنَقَلُوا عَنْهُمْ بِحَسَبِ الْفَهْمِ الْبَاطِلِ الَّذِي فَهِمُوهُ أَوْ زَادُوا عَلَيْهِمْ فِي الْأَلْفَاظِ وَغَيَّرُوهَا قَدْرًا وَوَصْفًا كَمَا نَسْمَعُ مِنْ أَلْسِنَتِهِمْ وَنَرَى فِي كُتُبِهِمْ . ثُمَّ بَعْضُ مَنْ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِهَؤُلَاءِ النَّقْلَةِ قَدْ يَحْكِي هَذَا الْمَذْهَبَ عَمَّنْ حَكَوْهُ عَنْهُمْ وَيَذُمُّ وَيَبْحَثُ مَعَ مَنْ لَا وُجُودَ لَهُ وَذَمُّهُ وَاقِعٌ عَلَى مَوْصُوفٍ غَيْرِ

مَوْجُودٍ نَظِيرَ مَا صَرَفَ اللَّهُ عَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ قُرَيْشٍ يَشْتُمُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ } . وَهَذَا نَظِيرُ مَا تَحْكِي الرَّافِضَةُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْعِبَادَةِ وَالْمَعْرِفَةِ أَنَّهُمْ نَاصِبَةٌ وَتَحْكِي الْقَدَرِيَّةُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مُجْبِرَةٌ وَتَحْكِي الْجَهْمِيَّة عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مُشَبِّهَةٌ وَيَحْكِي مَنْ خَالَفَ الْحَدِيثَ وَنَابَذَ أَهْلَهُ عَنْهُمْ : أَنَّهُمْ نَابِتَةٌ وَحَشْوِيَّةٌ وَغُثَاءٌ وَغَثَرًا . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَكْذُوبَةِ . وَمَنْ تَأَمَّلَ كُتُبَ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَجَدَهُمْ لَا يَبْحَثُونَ فِي الْغَالِبِ أَوْ فِي الْجَمِيعِ إلَّا مَعَ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي مَا عَلِمْنَا لِقَائِلِهِ وُجُودًا . وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ الْحَالِفِ : أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ هَذِهِ الْمِائَةُ وَالْأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً : حُرُوفُهَا وَمَعَانِيهَا وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ هُوَ الْحُرُوفُ دُونَ الْمَعَانِي وَلَا الْمَعَانِي دُونَ الْحُرُوفِ ؛ بَلْ هُوَ مَجْمُوعُ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي وَأَنَّ تِلَاوَتَنَا لِلْحُرُوفِ وَتَصَوُّرَنَا لِلْمَعَانِي لَا يُخْرِجُ الْمَعَانِيَ وَالْحُرُوفَ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُجُودِنَا : فَهَذَا مَذْهَبُ الْمُسْلِمِينَ . وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي يقرؤه الْمُسْلِمُونَ وَيَكْتُبُونَهُ فِي مَصَاحِفِهِمْ : هُوَ كَلَامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَقِيقَةً ؛ لَا مَجَازًا وَأَنَّهُ

لَا يَجُوزُ نَفْيُ كَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ ؛ إذْ الْكَلَامُ يُضَافُ حَقِيقَةً لِمَنْ قَالَهُ مُتَّصِفًا بِهِ مُبْتَدِيًا وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا وَهُوَ كَلَامٌ لِمَنْ اتَّصَفَ بِهِ مُبْتَدِيًا ؛ لَا مَنْ بَلَغَهُ مُؤَدِّيًا . فَإِنَّا بِالِاضْطِرَارِ نَعْلَمُ مِنْ دِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينِ سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ : إنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ - حُرُوفُ الْقُرْآنِ - مَا هِيَ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا الْقُرْآنُ اسْمٌ لِمُجَرَّدِ الْمَعَانِي : لَأَنْكَرُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ غَايَةَ الْإِنْكَارِ وَكَانَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ جَسَدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي اسْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا هَذَا اسْمٌ لِلرُّوحِ دُونَ الْجَسَدِ . أَوْ يَقُولُ : إنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ اسْمًا لِحَرَكَاتِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ ؛ وَإِنَّمَا هِيَ اسْمٌ لِأَعْمَالِ الْقَلْبِ فَقَطْ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الشَّهْرَستَانِي - وَهُوَ مِنْ أَخْبَرِ النَّاسِ بِالْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَالْمَقَالَاتِ فِي نِهَايَةِ الْإِقْدَامِ - أَنَّ الْقَوْلَ بِحُدُوثِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ قَوْلٌ مُحْدَثٌ وَأَنَّ مَذْهَبَ سَلَفِ الْأُمَّةِ نَفْيُ الْخَلْقِ عَنْهَا ؛ وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ الطَّائِفَةِ الْقَائِلَةِ بِحُدُوثِهَا . وَلَا يَحْسَبُ اللَّبِيبُ أَنَّ فِي الْعَقْلِ أَوْ فِي السَّمْعِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ ؛ بَلْ مَنْ تَبَحَّرَ فِي الْمَقُولَاتِ وَوَقَفَ عَلَى أَسْرَارِهَا : عَلِمَ قَطْعًا أَنْ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ الصَّرِيحِ الَّذِي لَا يَكْذِبُ قَطُّ مَا يُخَالِفُ مَذْهَبَ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ ؛ بَلْ يُخَالِفُ

مَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ الْمُنَازِعُونَ لَهُمْ بِظُلْمَةِ قُلُوبِهِمْ وَأَهْوَاءِ نُفُوسِهِمْ ؛ أَوْ مَا قَدْ يَفْتَرُونَهُ عَلَيْهِمْ لِعَدَمِ التَّقْوَى وَقِلَّةِ الدِّينِ . وَلَوْ فُرِضَ - عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ - أَنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ الَّذِي لَا يُكَذِّبُ يُنَاقِضُ بَعْضَ الْأَخْبَارِ : لِلُزُومِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ : إمَّا تَكْذِيبُ النَّاقِلِ . أَوْ تَأْوِيلُ الْمَنْقُولِ ؛ لَكِنْ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - هَذَا لَمْ يَقَعْ ؛ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ قَطُّ فَإِنَّ حِفْظَ اللَّهِ لِمَا أَنْزَلَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَأْبَى ذَلِكَ . نَعَمْ يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا فِي أَحَادِيثَ وَضَعَتْهَا الزَّنَادِقَةُ لِيَشِينُوا بِهَا أَهْلَ الْحَدِيثِ كَحَدِيثِ " عَرَقِ الْخَيْلِ " و " الْجَمَلِ الْأَوْرَقِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُ الْعُلَمَاءُ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ كَذِبٌ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا مَا قَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ : مِثْلَ الشَّافِعِيِّ والحميدي ؟ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِمْ : مِنْ إنْكَارِهِمْ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَالْآثَارُ بِذَلِكَ مَشْهُورَةٌ فِي كِتَابِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَكِتَابِ اللكائي ؛ تِلْمِيذِ أَبِي حَامِدٍ الإسفراييني وَكِتَابِ الطَّبَرَانِي ؛ وَكِتَابِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَطُولُ ذِكْرُهُ . وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ التَّقْرِيرِ بِالْأَدِلَّةِ وَالْأَسْوِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ .

وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مُرَادُ الْحَالِفِ بِذِكْرِ الصَّوْتِ : التَّصْدِيقُ بِالْآثَارِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَابَتِهِ وَتَابِعِيهِمْ الَّتِي وَافَقَتْ الْقُرْآنَ وَتَلَقَّاهَا السَّلَفُ بِالْقَبُولِ : مِثْلَ مَا خَرَّجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ { أَنَّ اللَّهَ يُنَادِي آدَمَ بِصَوْتِ } وَمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ { أَنَّ اللَّهَ يُنَادِي عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَوْتِ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ } وَمِثْلَ { أَنَّ اللَّهَ إذَا تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ - الْقُرْآنِ ؛ أَوْ غَيْرِهِ - سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ صَوْتَهُ } وَفِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : سَمِعُوا صَوْتَ الْجَبَّارِ . وَأَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى بِصَوْتِ . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ الَّتِي قَالَهَا : إمَّا ذَاكِرًا وَإِمَّا آثِرًا : مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أنيس وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَمَسْرُوقٍ أَحَدِ أَعْيَانِ كِبَارِ التَّابِعِينَ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَحَدِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ ؛ وَمَنْ لَا يُحْصَى كَثْرَةً . وَلَا يُنْقَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَلَا قَالَ خِلَافَهُ ؛ بَلْ كَانَتْ الْآثَارُ مَشْهُورَةٌ بَيْنَهُمْ مُتَدَاوَلَةٌ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ ؛ بَلْ أَنْكَرَ ذَلِكَ شَخْصٌ فِي وَقْتِ الْإِمَامِ أَحْمَد ؛ وَهُوَ أَوَّلُ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي نَبَغَتْ فِيهَا الْبِدَعُ بِإِنْكَارِ ذَلِكَ عَلَى النُّصُوصِ وَإِلَّا فَقَبْلَهُ قَدْ نَبَغَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَغَيْرَهُ فَهَجَرَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ مَا أَنْكَرَ ذَلِكَ . وَصَارَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَالْجَمَلِ الْأَجْرَبِ . فَإِنْ أَرَادَ الْحَالِفُ مَا هُوَ مَنْقُولٌ عَنْ السَّلَفِ نَقْلًا صَحِيحًا فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ

وَأَمَّا حَلِفُهُ : أَنَّ " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى " عَلَى مَا يُفِيدُهُ الظَّاهِرُ وَيَفْهَمُهُ النَّاسُ مِنْ ظَاهِرِهِ : فَلَفْظَةُ " الظَّاهِرِ " قَدْ صَارَتْ مُشْتَرِكَةً ؛ فَإِنَّ الظَّاهِرَ فِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ وَاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَالدِّينِ الْقَيِّمِ وَلِسَانِ السَّلَفِ غَيْرُ الظَّاهِرِ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ . فَإِنْ أَرَادَ الْحَالِفُ بِالظَّاهِرِ شَيْئًا مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ الْمُحَدِّثِينَ أَوْ مَا يَقْتَضِي نَوْعَ نَقْصٍ : بِأَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ مِثْلَ اسْتِوَاءِ الْأَجْسَامِ عَلَى الْأَجْسَامِ أَوْ كَاسْتِوَاءِ الْأَرْوَاحِ إنْ كَانَتْ لَا تَدْخُلُ عِنْدَهُ فِي اسْمِ الْأَجْسَامِ : فَقَدْ حَنِثَ فِي ذَلِكَ وَكَذَبَ ؛ وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا يَقُولُ ذَلِكَ ؛ إلَّا مَا يُرْوَى عَنْ مِثْلِ دَاوُد الجواربي الْبَصْرِيِّ وَمُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْخُرَاسَانِيِّ وَهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ الرَّافِضِيَّ ؛ وَنَحْوِهِمْ ؛ إنْ صَحَّ النَّقْلُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ؛ لَا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَإِنَّ مُبَايَنَتَهُ لِلْمَخْلُوقِينَ وَتَنَزُّهَهُ عَنْ مُشَارَكَتِهِمْ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِمَّا يَعْرِفُهُ الْعَارِفُونَ مِنْ خَلِيقَتِهِ وَيَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ . وَإِنَّ كُلَّ صِفَةٍ تَسْتَلْزِمُ حُدُوثًا أَوْ نَقْصًا غَيْرَ الْحُدُوثِ فَيَجِبُ نَفْيُهَا عَنْهُ . وَمَنْ حَكَى عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ قَاسَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ : فَهُوَ إمَّا كَاذِبٌ ؛ أَوْ مُخْطِئٌ . وَإِنْ أَرَادَ الْحَالِفُ بِالظَّاهِرِ مَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي فِطَرِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ ظُهُورِ الْأَهْوَاءِ وَتَشَتُّتِ الْآرَاءِ ؛ وَهُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى

كَمَا أَنَّ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي سَائِرِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ كَالْحَيَاةِ ؛ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ ؛ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ ؛ وَالْكَلَامِ ؛ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَا كَقَوْلِهِ : { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } و { يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إذَا أُطْلِقَتْ عَلَيْنَا أَنْ تَكُونَ أَعْرَاضًا أَوْ أَجْسَامًا ؛ لِأَنَّ ذَوَاتَنَا كَذَلِكَ ؛ وَلَيْسَ ظَاهِرُهَا إذَا أُطْلِقَتْ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَّا مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَيُنَاسِبُ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ ؛ فَكَمَا أَنَّ لَفْظَ " ذَاتٍ " و " وُجُودٍ " و " حَقِيقَةٍ " : تُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى عِبَادِهِ وَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْإِطْلَاقَيْنِ ؛ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَيْسَ ظَاهِرُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ مُسَاوِيًا لِظَاهِرِهِ فِي حَقِّنَا . وَلَا مُشَارِكًا لَهُ : فِيمَا يُوجِبُ نَقْصًا أَوْ حُدُوثًا سَوَاءٌ جُعِلَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُتَوَاطِئَةً أَوْ مُشْتَرَكَةً ؛ أَوْ مُشَكِّكَةً كَذَلِكَ قَوْلُهُ : { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } و { إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } . الْبَابُ فِي الْجَمِيعِ وَاحِدٌ . وَكَانَ قُدَمَاءُ " الْجَهْمِيَّة " يُنْكِرُونَ جَمِيعَ الصِّفَاتِ لِلَّهِ الَّتِي هِيَ فِينَا أَعْرَاضٌ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ . أَوْ أَجْسَامٍ : كَالْيَدِ وَالْوَجْهِ . وحدثاؤهم أَقَرُّوا بِكَثِيرِ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ فِينَا أَعْرَاضٌ : كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ . وَأَنْكَرُوا بَعْضَهَا وَالصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ فِينَا أَجْسَامٌ . وَفِيهِمْ مَنْ أَقَرَّ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ فِينَا أَجْسَامٌ كَالْيَدِ .

" وَأَمَّا السَّلَفِيَّةُ " فَعَلَى مَا حَكَاهُ الخطابي وَأَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُمَا قَالُوا : مَذْهَبُ السَّلَفِ إجْرَاءُ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِ الصِّفَاتِ عَلَى ظَاهِرِهَا . مَعَ نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا ؛ فَلَا نَقُولُ : إنَّ مَعْنَى الْيَدِ الْقُدْرَةُ وَلَا إنَّ مَعْنَى السَّمْعِ الْعِلْمُ . وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ يُحْتَذَى فِيهِ حَذْوَهُ وَيُتَّبَعُ فِيهِ مِثَالُهُ . فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ الذَّاتِ إثْبَاتَ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ كَيْفِيَّةٍ فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتُ كَيْفِيَّةٍ . فَقَدْ أَخْبَرَك الخطابي وَالْخَطِيبُ - وَهُمَا إمَامَانِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مُتَّفَقٌ عَلَى عِلْمِهِمَا بِالنَّقْلِ وَعِلْمُ الخطابي بِالْمَعَانِي - أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ إجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا . وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي قَدْ بَالَغْت فِي الْبَحْثِ عَنْ مَذَاهِبِ السَّلَفِ فَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْهُمْ خَالَفَ ذَلِكَ . وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ : إنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ أَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ . فَيَجِبُ لِمَنْ أَحْسَنَ بِهِ الظَّنَّ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ " الظَّاهِرُ " الَّذِي يَلِيقُ بِالْمَخْلُوقِ لَا بِالْخَالِقِ . وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ مُرَادٌ فَهُوَ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ كَافِرٌ . فَهُنَا " بَحْثَانِ " : لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ . أَمَّا الْمَعْنَوِيّ : فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ فِي قَوْلِهِ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَنَحْوِهِ . أَنْ يُقَالَ : اسْتِوَاءٌ كَاسْتِوَاءِ

مَخْلُوقٍ : أَوْ يُفَسَّرُ بِاسْتِوَاءِ مُسْتَلْزَمٍ حُدُوثًا أَوْ نَقْصًا : فَهَذَا الَّذِي يَحْكِي عَنْ الضُّلَّالِ الْمُشَبِّهَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا بِالْقُرْآنِ وَبِالْعَقْلِ . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : مَا ثَمَّ اسْتِوَاءٌ حَقِيقِيٌّ أَصْلًا وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إلَهٌ وَلَا فَوْقَ السَّمَوَاتِ رَبٌّ : فَهَذَا مَذْهَبُ الضَّالَّةِ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا بِمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ لِمَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي الْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ وَبِمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَلِيقَتَهُ مِنْ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ فَوْقَ خَلْقِهِ كَإِقْرَارِهِمْ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : مَا زَالَتْ الْأُمَمُ عَرَبُهَا وَعَجَمُهَا فِي جَاهِلِيَّتِهَا وَإِسْلَامِهَا مُعْتَرِفَةً بِأَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ أَيْ عَلَى السَّمَاءِ . أَوْ يُقَالُ : بَلْ اسْتَوَى سُبْحَانَهُ عَلَى الْعَرْشِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَيُنَاسِبُ كِبْرِيَاءَهُ وَأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ حَامِلٌ لِلْعَرْشِ وَلِحَمَلَةِ الْعَرْشِ وَإِنَّ الِاسْتِوَاءَ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفَ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانَ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالَ عَنْهُ بِدْعَةٌ كَمَا قَالَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ . فَهَذَا مَذْهَبُ الْمُسْلِمِينَ . وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِ اسْتَوَى عِنْدَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَاقِينَ عَلَى الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ الَّتِي لَمْ تَنْحَرِفْ إلَى تَعْطِيلٍ وَلَا إلَى تَمْثِيلٍ . هَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ الْوَاسِطِيَّ الْمُتَّفَقُ عَلَى إمَامَتِهِ وَجَلَالَتِهِ وَفَضْلِهِ وَهُوَ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ حَيْثُ قَالَ

مَنْ زَعَمَ أَنَّ { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } خِلَافَ مَا يَقَرُّ فِي نُفُوسِ الْعَامَّةِ فَهُوَ جهمي فَإِنَّ الَّذِي أَقَرَّهُ اللَّهُ فِي فِطَرِ عِبَادِهِ وَجَبَلَهُمْ عَلَيْهِ أَنَّ رَبَّهُمْ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ كَمَا { أَنْشَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
شَهِدْت بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ * * * وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا
وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافَ * * * وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا }
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ - الَّذِي أَجْمَعَتْ فِرَقُ الْأُمَّةِ عَلَى إمَامَتِهِ وَجَلَالَتِهِ حَتَّى قِيلَ : إنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ . وَقِيلَ : مَا أَخْرَجَتْ خُرَاسَانُ مِثْلَ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَقَدْ أَخَذَ عَنْ عَامَّةِ عُلَمَاءِ وَقْتِهِ : مِثْلَ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِي وَطَبَقَتِهِمْ - قِيلَ لَهُ : بِمَاذَا نَعْرِفُ رَبَّنَا ؟ قَالَ : بِأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة - الْمُلَقَّبُ إمَامُ الْأَئِمَّةِ وَهُوَ مِمَّنْ يُعَرِّجُ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ بِمَا يَنْصُرُهُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَيَكَادُ يُقَالُ : لَيْسَ فِيهِمْ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُ - : مَنْ لَمْ يَقُلْ : إنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ باين مِنْ خَلْقِهِ : وَجَبَ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَأُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ ؛ لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِنَتِنِ رِيحِهِ أَهْلُ الْمِلَّةِ وَلَا أَهْلُ الذِّمَّةِ وَكَانَ مَالُهُ فَيْئًا . وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ الْإِمَامُ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ وَهُوَ مَشْهُورٌ

عَنْهُ : إنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ ؛ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَا يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مَكَانٌ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : مِثْلَ مَا قَالَ مَالِكٌ وَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ . وَالْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَسَائِرِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ بِذَلِكَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ مَنْ تَتَبَّعَهَا ؟ وَقَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا مُصَنَّفَاتٍ صِغَارًا وَكِبَارًا ؛ وَمَنْ تَتَبَّعَ الْآثَارَ عَلِمَ أَيْضًا قَطْعًا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ حَرْفٌ وَاحِدٌ يُنَاقِضُ ذَلِكَ ؛ بَلْ كُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ وَعَقِيدَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ يُصَدِّقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ؛ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَعْلَمَ مِنْ بَعْضٍ ؛ كَمَا أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمَ بِخَصَائِصِ النُّبُوَّةِ وَمَزَايَاهَا وَحُقُوقِهَا وَمُوجِبَاتِهَا وَحَقِيقَتِهَا وَصِفَاتِهَا . ثُمَّ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَالَ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ : ظَاهِرُ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ ؛ وَلَا قَالَ هَذِهِ الْآيَةُ أَوْ هَذَا الْحَدِيثُ مَصْرُوفٌ عَنْ ظَاهِرِهِ ؛ مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي آيَاتِ الْأَحْكَامِ الْمَصْرُوفَةِ عَنْ عُمُومِهَا وَظَاهِرِهَا ؛ وَتَكَلَّمُوا فِيمَا يَسْتَشْكِلُ مِمَّا قَدْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ تَنَاقَضَ . وَهَذَا مَشْهُورٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ . وَهَذِهِ الصِّفَاتُ أَطْلَقُوهَا بِسَلَامَةِ وَطَهَارَةٍ وَصَفَاءٍ لَمْ يَشُوبُوهُ بِكَدَرِ وَلَا غِشٍّ . وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الظَّاهِرَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ لَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ سَلَفُ الْأُمَّةِ قَالُوا لِلْأُمَّةِ : الظَّاهِرُ الَّذِي تَفْهَمُونَهُ غَيْرُ مُرَادٍ وَلَكَانَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ اسْتَشْكَلَ هَذِهِ الْآيَةَ وَغَيْرَهَا .

فَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ زَاغَ قَلْبُهُ حَتَّى صَارَ يَظْهَرُ لَهُ مِنْ الْآيَةِ مَعْنًى فَاسِدٌ مِمَّا يَقْتَضِي حُدُوثًا أَوْ نَقْصًا : فَلَا شَكَّ أَنَّ الظَّاهِرَ لِهَذَا الزايغ غَيْرُ مُرَادٍ . وَإِذَا رَأَيْنَا رَجُلًا يَفْهَمُ مِنْ الْآيَةِ هَذَا الظَّاهِرَ الْفَاسِدَ قَرَّرْنَا عِنْدَهُ " أَوَّلًا " : أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ مَفْهُومًا مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ . ثُمَّ قَرَّرْنَا عِنْدَهُ " ثَانِيًا " أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مَعْنًى فَاسِدٌ . حَتَّى لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ - وَإِنْ كَانَ هَذَا فَرْضُ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ - لَوَجَبَ صَرْفُ الْآيَةِ عَنْ ظَاهِرِهَا كَسَائِرِ الظَّوَاهِرِ الَّتِي عَارَضَهَا مَا أَوْجَبَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا غَيْرُ الظَّاهِرِ . وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ لَمْ يُحَكِّمْ دَلَالَاتِ اللَّفْظِ وَيَعْلَمْ أَنَّ ظُهُورَ الْمَعْنَى مِنْ اللَّفْظِ : تَارَةً يَكُونُ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ ؛ أَوْ الْعُرْفِيِّ ؛ أَوْ الشَّرْعِيِّ ؛ إمَّا فِي الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ وَإِمَّا فِي الْمُرَكَّبَةِ . وَتَارَةً بِمَا اقْتَرَنَ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ مِنْ التَّرْكِيبِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ دَلَالَتُهُ فِي نَفْسِهِ . وَتَارَةً بِمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي تَجْعَلُهُ مَجَازًا . وَتَارَةً بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَالُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ وَالْمُتَكَلَّمِ فِيهِ . وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ الَّذِي يُعَيِّنُ أَحَدَ مُحْتَمَلَاتِ اللَّفْظِ أَوْ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُوَ مَجَازُهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُعْطِي اللَّفْظَ صِفَةَ الظُّهُورِ ؛ وَإِلَّا فَقَدْ يَتَخَبَّطُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ . نَعَمْ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِاللَّفْظِ قَطُّ شَيْءٌ مِنْ الْقَرَائِنِ الْمُتَّصِلَةِ الَّتِي تُبَيِّنُ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ ؛ بَلْ عَلِمَ مُرَادَهُ بِدَلِيلِ آخَرَ لَفْظِيٍّ مُنْفَصِلٍ : فَهُنَا أُرِيدَ بِهِ خِلَافُ الظَّاهِرِ . كَالْعُمُومِ الْمَخْصُوصِ بِدَلِيلِ مُنْفَصِلٍ . وَإِنْ كَانَ الصَّارِفُ عَقْلِيًّا ظَاهِرًا : فَفِي تَسْمِيَةِ الْمُرَادِ خِلَافُ الظَّاهِرِ . خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي " أُصُولِ الْفِقْهِ " .

وَبِالْجُمْلَةِ فَإِذَا عُرِفَ الْمَقْصُودُ فَقَوْلُنَا : هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ . أَوْ لَيْسَ هُوَ الظَّاهِرَ : خِلَافٌ لَفْظِيٌّ ؛ فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ مِمَّنْ فِي عُرْفِ خِطَابِهِ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ مَا هُوَ مُمَاثِلٌ لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ : فَقَدْ حَنِثَ . وَإِنْ كَانَ فِي عُرْفِ خِطَابِهِ أَنَّ ظَاهِرَهَا هُوَ مَا يَلِيقُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَحْنَثْ . وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عُرْفَ أَهْلِ نَاحِيَتِهِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ : وَلَمْ يَكُنْ سَبَبٌ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مُرَادِهِ وَتَعَذَّرَ الْعِلْمُ بِنِيَّتِهِ : فَقَدْ جَازَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَعْنًى صَحِيحًا وَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَعْنًى بَاطِلًا : فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ . وَهَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ . كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ حَنِثَ . وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يُحَنِّثْهُ فَالْحُكْمُ فِي يَمِينِهِ ظَاهِرٌ . وَاعْلَمْ أَنَّ عَامَّةَ مَنْ يُنْكِرُ هَذِهِ الصِّفَةَ وَأَمْثَالَهَا إذَا بَحَثْت عَنْ الْوَجْهِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَجَدْتهمْ قَدْ اعْتَقَدُوا أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ . أَوْ اسْتِوَاءٍ يَسْتَلْزِمُ حُدُوثًا أَوْ نَقْصًا ثُمَّ حَكَوْا عَنْ مُخَالِفِهِمْ هَذَا الْقَوْلَ ثُمَّ تَبِعُوا فِي إقَامَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِهِ ثُمَّ يَقُولُونَ : فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ : إمَّا بِالِاسْتِيلَاءِ أَوْ بِالظُّهُورِ وَالتَّجَلِّي أَوْ بِالْفَضْلِ وَالرُّجْحَانِ الَّذِي هُوَ عُلُوُّ الْقَدْرِ وَالْمَكَانَةِ . وَيَبْقَى " الْمَعْنَى الثَّالِثُ " وَهُوَ : اسْتِوَاءٌ يَلِيقُ بِجَلَالِهِ يَكُونُ دَلَالَةُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَيْهِ كَدَلَالَةِ لَفْظِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ عَلَى مَعَانِيهَا : قَدْ دَلَّ السَّمْعُ عَلَيْهِ

بَلْ مَنْ أَكْثَرَ النَّظَرَ فِي آثَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ أَلْقَى إلَى الْأُمَّةِ إنَّ رَبَّكُمْ الَّذِي تَعْبُدُونَهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ . فَوْقَ الْعَرْشِ وَفَوْقَ السَّمَوَاتِ . وَعَلِمَ أَنَّ عَامَّةَ السَّلَفِ كَانَ هَذَا عِنْدَهُمْ مِثْلَ مَا عِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَأَنَّهُ لَا يُنْقَلُ عَنْ وَاحِدٍ لَفْظٌ يَدُلُّ لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ . وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ إنَّ رَبَّنَا لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ أَوْ أَنَّ اسْتِوَاءَهُ عَلَى الْعَرْشِ كَاسْتِوَائِهِ عَلَى الْبَحْرِ . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تُرَّهَاتِ الْجَهْمِيَّة وَلَا مَثَّلَ اسْتِوَاءَهُ بِاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِ وَلَا أَثْبَتَ لَهُ صِفَةً تَسْتَلْزِمُ حُدُوثًا أَوْ نَقْصًا . وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ لَك خَطَأَ مَنْ أَطْلَقَ " الظَّاهِرَ " عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَلِيقُ بِالْخَلْقِ : أَنَّ الْأَلْفَاظَ " نَوْعَانِ " . " أَحَدُهُمَا " مَا مَعْنَاهُ مُفْرَدٌ : كَلَفْظِ الْأَسَدِ وَالْحِمَارِ وَالْبَحْرِ وَالْكَلْبِ . فَهَذِهِ إذَا قِيلَ : " أَسَدُ اللَّهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ " أَوْ قِيلَ لِلْبَلِيدِ : حِمَارٌ . أَوْ لِلْعَالِمِ أَوْ السَّخِيِّ أَوْ الْجَوَادِ مِنْ الْخَيْلِ : بَحْرٌ . أَوْ قِيلَ لِلْأَسَدِ : كَلْبٌ . فَهَذَا مَجَازٌ ؛

ثُمَّ إنْ قُرِنَتْ بِهِ قَرِينَةٌ تَبَيَّنَ الْمُرَادُ { كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَرَسِ أَبِي طَلْحَةَ : إنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا } وَقَوْلِهِ : { إنَّ خَالِدًا سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ } { وَقَوْلِهِ لِعُثْمَانِ : إنَّ اللَّهَ يقمصك قَمِيصًا } وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ اسْتَلَمَهُ وَصَافَحَهُ فَكَأَنَّمَا بَايَعَ رَبَّهُ . أَوْ كَمَا قَالَ . وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَهَذَا اللَّفْظُ فِيهِ تَجَوُّزٌ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ ظَهَرَ مِنْ اللَّفْظِ مُرَادُ صَاحِبِهِ . وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ فِي اسْتِعْمَالِ هَذَا الْمُتَكَلِّمِ ؟ لَا عَلَى الظَّاهِرِ فِي الْوَضْعِ الْأَوَّلِ وَكُلُّ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْقَوْلَ عَلِمَ الْمُرَادَ بِهِ وَسَبَقَ ذَلِكَ إلَى ذِهْنِهِ لِاسْتِحَالَةِ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ نَصًّا ؛ لَا مُحْتَمَلًا . وَلَيْسَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ فِي شَيْءٍ . وَهَذَا أَحَدُ مثارات غَلَطِ الغالطين فِي هَذَا الْبَابِ حَيْثُ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمَعْنَى الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ وَأَنَّ اللَّفْظَ مُتَأَوَّلٌ . " النَّوْعُ الثَّانِي " مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا فِي مَعْنَاهُ إضَافَةٌ : إمَّا بِأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إضَافَةً مَحْضَةً : كَالْعُلُوِّ وَالسُّفُولِ وَفَوْقُ وَتَحْتُ . وَنَحْوِ ذَلِكَ . أَوْ أَنْ يَكُونَ مَعْنًى ثُبُوتِيًّا فِيهِ إضَافَةٌ : كَالْعِلْمِ وَالْحُبِّ وَالْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ

وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْأَلْفَاظِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ لَهُ مَعْنًى مُفْرَدٌ بِحَسَبِ بَعْضِ مَوَارِدِهِ ؛ لِوَجْهَيْنِ . " أَحَدِهِمَا " أَنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مُفْرَدًا قَطُّ . " الثَّانِي " أَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ أَوْ الْمَجَازُ ؛ بَلْ يُجْعَلُ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ مَوَارِدِهِ . وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ فَإِنَّ لَفْظَ اسْتَوَى لَمْ تَسْتَعْمِلْهُ الْعَرَبُ فِي خُصُوصِ جُلُوسِ الْآدَمِيِّ - مَثَلًا - عَلَى سَرِيرِهِ حَقِيقَةً حَتَّى يَصِيرَ فِي غَيْرِهِ مَجَازًا : كَمَا أَنَّ لَفْظَ " الْعِلْمِ " لَمْ تَسْتَعْمِلْهُ الْعَرَبُ فِي خُصُوصِ الْعُرْفِ الْقَائِمِ بِقَلْبِ الْبَشَرِ الْمُنْقَسِمِ إلَى " ضَرُورِيٍّ " و " نَظَرِيٍّ " حَقِيقَةً وَاسْتَعْمَلَتْهُ فِي غَيْرِهِ مَجَازًا ؛ بَلْ الْمَعْنَى تَارَةً : يُسْتَعْمَلُ بِلَا تَعْدِيَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } . وَتَارَةً : يُعَدَّى بِحَرْفِ الْغَايَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } . وَتَارَةً : يُعَدَّى بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ . ثُمَّ هَذَا تَارَةً : يَكُونُ صِفَةً لِلَّهِ . وَتَارَةً : يَكُونُ صِفَةً لِخَلْقِهِ . فَلَا يَجِبُ أَنْ يُجْعَلَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ حَقِيقَةً وَفِي الْآخَرِ مَجَازًا . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ اسْتِوَاءِ اللَّهِ الْخَاصِّيَّةَ الَّتِي تَثْبُتُ لِلْمَخْلُوقِ دُونَ الْخَالِقِ ؛ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } وقَوْله تَعَالَى { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } وقَوْله

تَعَالَى { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } وقَوْله تَعَالَى { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ } { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } فَهَلْ يَسْتَحِلُّ مُسْلِمٌ أَنْ يُثْبِتَ لِرَبِّهِ خَاصِّيَّةَ الْآدَمِيِّ الْبَانِي الصَّانِعِ الْكَاتِبِ الْعَامِلِ ؟ أَمْ يَسْتَحِلُّ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ حَقِيقَةَ الْعَمَلِ وَالْبِنَاءِ كَمَا يَخْتَصُّ بِهِ وَيَلِيقُ بِجَلَالِهِ ؟ أَمْ يَسْتَحِلُّ أَنْ يَقُولَ : هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مَصْرُوفَةٌ عَنْ ظَاهِرِهَا ؟ أَمْ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَقُولَ : عَمَلُ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِهِ فَكَمَا أَنَّ ذَاتَهُ لَيْسَتْ مِثْلَ ذَوَاتِ خَلْقِهِ : فَعَمَلُهُ وَصُنْعُهُ وَبِنَاؤُهُ ؛ لَيْسَ مِثْلَ عَمَلِهِمْ وَصُنْعِهِمْ وَبِنَائِهِمْ . وَنَحْنُ لَمْ نَفْهَمْ مِنْ قَوْلِنَا : بَنَى فُلَانٌ . وَكَتَبَ فُلَانٌ : مَا فِي عَمَلِهِ مِنْ الْمُعَالَجَةِ وَالتَّأَثُّرِ إلَّا مِنْ جِهَةِ عِلْمِنَا بِحَالِ الْبَانِي ؛ لَا مِنْ جِهَةِ مُجَرَّدِ اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ لَفْظُ الْفِعْلِ وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِخُصُوصِ إضَافَتِهِ إلَى الْفَاعِلِ الْمُعَيَّنِ . وَبِهَذَا يَنْكَشِفُ لَك كَثِيرٌ مِمَّا يُشْكِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ وَتَرَى مَوَاقِعَ اللَّبْسِ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَاَللَّهُ يُوَفِّقُنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ . وَيَجْمَعُ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِنَفْسِهِ وَبَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَاحِبِ الْحَوْضِ الْمَوْرُودِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنْ لَا يَدْخُلَ دَارَ جَارِهِ ثُمَّ اُضْطُرَّ إلَى الدُّخُولِ فَدَخَلَ : فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى لُزُومِهَا ؟
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ يَمِينًا تَقْتَضِي حَضًّا أَوْ مَنْعًا كَقَوْلِهِ : الطَّلَاقُ أَوْ الْعِتْقُ يَلْزَمُهُ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَا يَفْعَلُ كَذَا . أَوْ قَوْلُهُ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ . أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ . وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . " أَحَدُهَا " أَنَّهُ إذَا حَنِثَ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ . وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . " وَالثَّانِي " لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ . وَهَذَا مَأْثُورٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد وَابْنِ حَزْمٍ . وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة شَيْخُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد لَا يُفْتِي بِالْوُقُوعِ ؛ فَإِنَّهُ رَوَى

عَنْ طاوس عَنْ أَبِيهِ : أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ شَيْئًا . فَقِيلَ لَهُ : أَكَانَ يَرَاهُ يَمِينًا قَالَ : لَا أَدْرِي . فَجَزَمَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوقِعُ الطَّلَاقَ وَشَكَّ هَلْ كَانَ يَجْعَلُهُ يَمِينًا فِيهَا كَفَّارَةٌ ؟ " وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ " أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهَذَا مَأْثُورٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْعِتْقِ كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَحَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ وَزَيْنَبَ رَبِيبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُمْ أَفْتَوْا مَنْ قَالَ لِفُلَانِ : إنْ لَمْ أُفَرِّقْ بَيْنَك وَبَيْنَ امْرَأَتِك فَمَالِي صَدَقَةٌ وَأَرِقَّائِي أَحْرَارٌ . فَقَالُوا : كَفِّرْ عَنْ يَمِينِك وَدَعْ الرَّجُلَ مَعَ امْرَأَتِهِ : يَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي الْعِتْقِ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فِي " جَامِعِهِ " عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ . أَنَّهُ سَأَلَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ عَنْ رَجُلٍ قَالَ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ حُرٌّ إنْ دَخَلَ عَلَى أَخِيهِ . فَقَالَ : يُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ فِي مُسْنَدِهِ ثَنَا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ ثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ قَالَ أَبِي : ثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي أَبُو رَافِعٍ قَالَ قَالَتْ مَوْلَاتِي لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ ؛ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا مُحَرَّرٌ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ إنْ لَمْ تُطَلِّقْ امْرَأَتَك أَوْ تُفَرِّقْ بَيْنَك وَبَيْنَ امْرَأَتِك . قَالَ : فَأَتَيْت زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ - وَكَانَتْ إذَا ذُكِرَتْ امْرَأَةٌ بِالْمَدِينَةِ فَقِيهَةٌ ذُكِرَتْ زَيْنَبُ قَالَ : فَأَتَيْتهَا فَجَاءَتْ - يَعْنِي إلَيْهَا -

فَقَالَتْ : فِي الْبَيْتِ هَارُوتُ وَمَارُوتُ قَالَتْ يَا زَيْنَبُ جَعَلَنِي اللَّهُ فَدَاك : إنَّهَا قَالَتْ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا مُحَرَّرٌ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ . فَقَالَتْ : يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ خَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ يَعْنِي وَكَفِّرِي يَمِينَك . فَأَتَيْت حَفْصَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهَا فَأَتَتْهَا ؛ فَقَالَتْ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ جَعَلَنِي اللَّهُ فَدَاك : إنَّهَا قَالَتْ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا مُحَرَّرٌ وَكُلُّ مَالٍ هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ . فَقَالَتْ يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ خَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِك . يَعْنِي وَكَفِّرِي عَنْ يَمِينِك . فَأَتَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَجَاءَ يَعْنِي إلَيْهَا ؛ فَقَامَ عَلَى الْبَابِ فَسَلَّمَ ؛ فَقَالَتْ ( سا أَنْتَ وسا أَبُوك ؛ فَقَالَ : أَمِنْ حِجَارَةٍ أَنْتِ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ أَنْتِ ؟ . مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ أَفْتَتْك زَيْنَبُ وَأَفْتَتْك حَفْصَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ تَقْبَلِي فُتْيَاهُمَا فَقَالَتْ : يَا أبا عَبْدِ الرَّحْمَنِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك : إنَّهَا قَالَتْ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ . فَقَالَ : يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ كَفِّرِي عَنْ يَمِينِك وَخَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ . وَهَذَا الْأَثَرُ مَعْرُوفٌ ؛ قَدْ رَوَاهُ حميد أَيْضًا وَغَيْرُهُ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ المزني . وَرَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَذَكَرُوا أَنَّ الثَّلَاثَةَ أَفْتَوْهَا بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ لَكِنْ سُلَيْمَانُ التيمي ذَكَرَ فِي رِوَايَتِهِ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ حميد وَغَيْرُهُ . وَبِهَذَا أَجَابَ أَحْمَد لَمَّا فَرَّقَ بَيْنَ الْحَلِف بِالْعِتْقِ وَالْحَلِفِ بِغَيْرِهِ .

وَعَارَضَ ذَلِكَ أَثَرٌ آخَرُ ذَكَرَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ المروذي : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : إذَا قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ حُرٌّ : فَيُعْتِقُ عَلَيْهِ إذَا حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ لَيْسَ فِيهِمَا كَفَّارَةٌ . وَقَالَ : لَيْسَ قَوْلُ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ . فِي حَدِيثِ لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ . وَحَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ أَنَّهَا سَأَلَتْ ابْنَ عُمَرَ وَحَفْصَةَ . وَزَيْنَبَ وَذَكَرَتْ الْعِتْقَ فَأَفْتَوْهَا بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَأَمَّا حميد وَغَيْرُهُ فَلَمْ يَذْكُرُوا الْعِتْقَ . قَالَ : وَسَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ قِصَّةَ امْرَأَتِهِ وَأَنَّهَا سَأَلَتْ ابْنَ عُمَرَ وَحَفْصَةَ فَأَمَرُوهَا بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ قُلْت فِيهَا الْمَشْيُ ؟ قَالَ : نَعَمْ . أَذْهَبُ إلَى أَنَّ فِيهَا كَفَّارَةَ يَمِينٍ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَيْسَتْ تَقُولُ فِيهِ كُلُّ مَمْلُوكٍ إلَّا (1) قُلْت : فَإِذَا حَلَفَ بِعِتْقِ مَمْلُوكِهِ يَحْنَثُ ؟ قَالَ : يَعْتِقُ كَذَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا لِلْجَارِيَةِ تَعْتِقُ ثُمَّ قَالَ : مَا سَمِعْنَا إلَّا مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ . وَقُلْت : فإيش إسْنَادُهُ ؟ قَالَ : مَعْمَرٌ ؛ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَالَ : إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ وَأَيُّوبُ بْنُ مُوسَى : مَكِّيَّانِ . وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : مَنْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَهُوَ يُحْرِمُ بِحَجَّةِ وَهُوَ يَهْدِي وَمَالُهُ فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ وَكُلُّ يَمِينٍ يُكَفِّرُ عِنْدَهَا عَقْدُ يَمِينٍ يَحْلِفُ عَلَى شَيْءٍ فَإِنَّمَا هِيَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عَلَى حَدِيثِ بَكْرٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ فِي قِصَّةِ حَفْصَةَ . حَلَفَتْ لَتُفَرِّقَن بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا فَقَالَتْ : يَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ كَفِّرِي عَنْ يَمِينِك وَاعْتِقِي جَارِيَتَك فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ كَفَّارَةَ يَمِينٍ عَنْ الْعِتْقِ : فَهَذَا أَفْضَلُ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ فِيهِ كَفَّارَةٌ وَلَا اسْتِثْنَاءٌ . وَالِاسْتِثْنَاءُ

دَائِمًا يَكُونُ فِي الْيَمِينِ الَّتِي تُكَفِّرُ فَأَوْجَبَ الْعِتْقَ ؛ وَجَعَلَ فِي غَيْرِهِ كَفَّارَةً . قُلْت : فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَجْوِبَتِهِ ؛ وَلَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ : أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَكُونُ [ إلَّا ] (1) فِي الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ ؛ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ : بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ قَوْلًا وَاحِدًا كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ . وَقَدْ نَقَلَ عَنْ أَحْمَد " الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الإسفراييني " وَمَنْ اتَّبَعَهُ : الْفَرْقُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَذَلِكَ غَلَطٌ عَلَى أَحْمَد ؛ إنَّمَا هَذَا قَوْلُ الْقَدَرِيَّةِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ الْمَشِيئَةَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَالْعِتْقِ طَاعَةٌ ؛ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ . فَإِذَا قَالَ : عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَعَ الْعِتْقُ . وَإِذَا قَالَ : امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ . وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا مُسْنَدًا مِنْ رِوَايَةِ أَهْلِ الشَّامِ عَنْ مُعَاذٍ وَهُوَ مِمَّا وَضَعَتْهُ الْقَدَرِيَّةُ الَّذِينَ كَانُوا بِالشَّامِ . وَسَبَبُ الْغَلَطِ فِي ذَلِكَ : أَنَّ أَحْمَد قَالَ فِيمَنْ قَالَ : إنْ مَلَكْت فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَمَلَكَهُ عَتَقَ . وَقَالَ فِيمَنْ قَالَ : إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةً فَهِيَ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ

فَتَزَوَّجَهَا لَمْ تَطْلُقْ . فَفَرْقٌ بَيْنَ التَّعْلِيقَيْنِ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْعِتْقَ مُعَلَّقٌ بِالْمِلْكِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقُرَبِ كَالنَّذْرِ فَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى الْمِلْكِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ } وَالْعِتْقُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا بِالْمِلْكِ ؛ وَلِهَذَا يَصِحُّ بَيْعُ الْعَبْدِ بِشَرْطِ عِتْقِهِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ . فَلَوْ قِيلَ : إنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لِلنِّكَاحِ فَائِدَةٌ وَالْعُقُودُ الَّتِي لَا يَحْصُلُ بِهَا مَقْصُودُهَا بَاطِلَةٌ . فَلَمَّا فَرَّقَ أَحْمَد فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ اعْتَقَدَ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ أَنَّ الْفَرْقَ لِأَجْلِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ وَذَلِكَ غَلَطٌ عَلَيْهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ يَتَنَوَّعُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ ؛ أَوْ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ نَفَعَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَإِذَا قَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ . فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : كَأَبِي مُحَمَّدٍ وَأَبِي الْبَرَكَاتِ - هُنَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ قَوْلًا وَاحِدًا . وَقِيلَ : بَلْ الرِّوَايَتَانِ فِي صِيغَةِ الْقَسَمِ وَفِي صِيغَةِ التَّعْلِيقِ ؛ وَهَذَا أَشْبَهُ بِكَلَامِ أَحْمَد ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ ؛ فَإِنَّ لَهُمْ فِي النَّوْعَيْنِ قَوْلَيْنِ فَإِذَا كَانَ أَحْمَد فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْحَلِف بِالْعِتْقِ سَوَاءٌ كَانَ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ أَوْ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ مَعَ قَوْلِهِ : إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ - لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ مِنْ الْأَيْمَانِ الْمُكَفِّرَةِ . قَالَ فِي رِوَايَةِ

أَبِي طَالِبٍ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فَقَالَ : الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا يُكَفِّرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } فَكُلُّ يَمِينٍ فِيهَا كَفَّارَةٌ ؛ غَيْرُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ . وَأَمَّا كَوْنُ سُلَيْمَانَ التيمي هُوَ الَّذِي ذَكَرَ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ حُرٌّ . فَسُلَيْمَانُ التيمي ثِقَةٌ ثَبْتٌ ؛ وَهُوَ أَجَلُّ مَنْ الَّذِينَ لَمْ يَذْكُرُوا الزِّيَادَةَ ؛ وَسَبَبُهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ لَمْ يَذْكُرُوا الْعِتْقَ هَابُوهُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ النِّزَاعِ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ : أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ الْعِتْقَ فِي ذَلِكَ عَنْ التيمي أَيْضًا مَعَ أَنَّ التيمي كَانَ يَذْكُرُ الْعِتْقَ بِلَا نِزَاعٍ . قَالَ الْمَيْمُونِيَّ : قَالَ أَحْمَد وَابْنُ أَبِي عَدِيّ : لَمْ يَذْكُرُوا فِي حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ عَتَقَ . قُلْت : وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيّ هُوَ أَجَلُّ مَنْ رَوَى عَنْ التيمي فَعَلِمَ أَنَّ مِنْ الرُّوَاةِ مَنْ كَانَ يَتْرُكُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مَعَ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي الْحَدِيثِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا ثَبَتَتْ عِنْدَ أَبِي ثَوْرٍ أَخَذَ بِهَا . وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فَقَدْ قَالَ أَحْمَد مَا سَمِعْنَاهُ إلَّا مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَعَنْ مَعْمَرٍ . وَعُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ قَدْ قِيلَ : إنَّهُ سَمِعَ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ أَبُو زَرْعَةَ : هُوَ يَمَانِيٌّ حِمْيَرِيٌّ ثِقَةٌ وَقَدْ رَوَى لَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه . وَالْأَثَرُ الْأَوَّلُ أَثْبَتُ ؛ وَرِجَالُهُ وَرُوَاتُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا يَرْوُونَ ؛ وَهَذَا الْأَثَرُ فِيهِ تَمْوِيهٌ ؛ وَلَمْ يُضْبَطْ لَنَا لَفْظُهُ . وَقَدْ بُسِطَ

الْكَلَامُ عَلَى تَضْعِيفِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ؛ فَإِنْ صَحَّ كَانَ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَثَرًا فِي الطَّلَاقِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يَكُونَ مِنْهُ . " وَبِالْجُمْلَةِ " فَالنِّزَاعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَابِتٌ بَيْنَ السَّلَفِ : كَعَطَاءِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي فِي شَرْحِ قَوْلِ الخرقي : " وَمَنْ حَلَفَ بِعِتْقِ مَا يَمْلِكُ فَحَنِثَ عَتَقَ عَلَيْهِ كُلُّ مَا يَمْلِكُ : مِنْ عَبِيدِهِ وَإِمَائِهِ وَمُكَاتِبِيهِ وَمُدَبِّرِيهِ وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَشِقْصٍ يَمْلِكُهُ مِنْ مَمْلُوكٍ " . فَقَالَ : مَعْنَاهُ إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ وَعَتِيقٌ . أَوْ : فَكُلُّ مَا أَمْلِكُ حُرٌّ ؛ فَإِنَّ هَذَا إذَا حَنِثَ عَتَقَ مَمَالِيكُهُ وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ كَفَّارَةٌ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ؛ وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ؛ وَالثَّوْرِيُّ ؛ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِي ؛ وَاللَّيْثُ ؛ وَالشَّافِعِيُّ ؛ وَإِسْحَاقُ قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ؛ وَأَبِي هُرَيْرَةَ ؛ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ وَالْحَسَنِ وَأَبِي ثَوْرٍ : يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي رَافِعٍ الْمُتَقَدِّمِ قَالَ : وَلَنَا أَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ عَلَى شَرْطٍ وَهُوَ قَابِلٌ لِلتَّعْلِيقِ فَيَنْتَفِعُ بِوُجُودِ شَرْطِهِ كَالطَّلَاقِ وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ فِي مَعْنَاهُ ؛ وَلِأَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ بِيَمِينِ فِي الْحَقِيقَةِ ؛ إنَّمَا هُوَ تَعْلِيقٌ بِشَرْطِ فَأَشْبَهَ الطَّلَاقَ . قَالَ : فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ فَإِنَّ أَحْمَد

قَالَ فِيهِ : كَفِّرْ عَنْ يَمِينِك . وَاعْتِقْ جَارِيَتَك ؛ وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَمْلُوكٌ سِوَاهَا . قُلْت : الْقِيَاسُ الْمَذْكُورُ عِنْدَهُمْ مُنْتَقِضٌ بِكُلِّ مَا يُعَلِّقُهُ بِالشَّرْطِ : مِنْ صَدَقَةِ الْمَالِ وَالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ وَالْهَدْيِ وَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ أَوْ أُطَلِّقَ وَقَوْلُهُ : إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا صِيغَتُهُ صِيغَةُ الشَّرْطِ وَهُوَ عِنْدَهُمْ يَمِينٌ اعْتِبَارًا بِمَعْنَاهُ . وَالْأَصْلُ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ ؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ فِيهِ نِزَاعٌ ؛ بَلْ إذَا لَمْ يُوقِعُوا الْعَتَاقَ مَعَ كَوْنِهِ قُرْبَةً فَأَوْلَى أَلَّا يُوقِعُوا الطَّلَاقَ . وَأَبُو ثَوْرٍ لَمْ يُسَلِّمْ الطَّلَاقَ ؛ لَكِنْ قَالَ : إنْ كَانَ فِيهِ إجْمَاعٌ فَالْإِجْمَاعُ أَوْلَى مَا اتَّبَعَ ؛ وَإِلَّا فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ كَالْعَتَاقِ - وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إجْمَاعٌ . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ وَأَنَّهُمْ قَالُوا : اعْتِقِي جَارِيَتَك . فَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَحَدٌ أَنَّهُمْ قَالُوا : اعْتِقِي جَارِيَتَك وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَد والجوزجاني وَالْأَثْرَمُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَحَرْبٌ الكرماني وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ : فَلَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ . وَكَلَامُ أَحْمَد فِي عَامَّةِ أَجْوِبَتِهِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَحْمَد عَنْهُمْ ذَلِكَ ؛ وَإِنَّمَا أَجَابَ بِكَوْنِ الْحَلِفِ بِعِتْقِ الْمَمْلُوكِ إنَّمَا ذَكَرَهُ التيمي . وَأَبُو مُحَمَّدٍ نَقَلَ ذَلِكَ مِنْ " جَامِعِ الْخَلَّالِ " وَالْخَلَّالُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي ضِمْنِ مَسْأَلَةِ أَبِي طَالِبٍ

كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ . وَذَلِكَ غَلَطٌ عَلَى أَحْمَد . وَأَبُو طَالِبٍ لَهُ أَحْيَانًا غَلَطَاتٌ فِي فَهْمِ مَا يَرْوِيه : هَذَا مِنْهَا . وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ عَنْ أَحْمَد مِنْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ : فَهَذَا نَقَلَهُ عَنْ أَحْمَد غَيْرُ وَاحِدٍ مَعَ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ ثِقَةٌ وَالْغَالِبُ عَلَى رِوَايَتِهِ الصِّحَّةُ ؛ وَلَكِنْ رُبَّمَا غَلِطَ فِي اللَّفْظِ . فَأَمَّا نَقْلُهُ : أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِيمَا يُكَفِّرُ فَلَمْ يَغْلَطْ فِيهِ ؛ بَلْ نَقَلَهُ كَمَا نَقَلَهُ غَيْرُهُ . قَالَ هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : أَلَيْسَ قَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى الِاسْتِثْنَاءَ بَعْدَ حِينٍ ؟ قَالَ : إنَّمَا هَذَا فِي الْقَوْلِ ؛ لَيْسَ فِي الْيَمِينِ ؛ كَانَ يَذْهَبُ إلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : إنَّمَا هَذَا فِي الْقَوْلِ ؛ لَيْسَ فِي الْيَمِينِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ جَائِزًا فِيمَا تَكُونُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَا يَكْفُرُ . فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ فَإِذَا كَانَ قَدْ نَصَّ مَعَ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَزِمَهُ إجْرَاءُ الْكَفَّارَةِ فِي ذَلِكَ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ مُقْتَضَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } فَجَعَلَ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ فِي عَقْدِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا وَجَعَلَ ذَلِكَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ إذَا حَلَفْنَا

وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ فَقَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ } فَمَا دَخَلَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى . وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ الْمُنَجَّزَانِ لَا يَدْخُلَانِ فِي مُسَمَّى الْيَمِينِ وَالْحَلِفِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ بِخِلَافِ الْحَلِفِ عَلَى الْحَضِّ وَالْمَنْعِ وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ فَإِنَّهُ يَمِينٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ .
وَأَمَّا التَّعْلِيقُ الْمَحْضُ كَقَوْلِهِ : إنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَأَنْتِ طَالِقٌ . فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لَهُمْ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ أَحْمَد فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لَيْسَ بِيَمِينِ كَاخْتِيَارِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى . وَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِ أَحْمَد فِي الْوَجْهِ الْآخَرِ : هُوَ يَمِينٌ كَاخْتِيَارِ أَبِي الْخَطَّابِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } وَهَذَا عَامٌّ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ فِيهَا هَذَا فَمَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ هَذَا فَلَيْسَ بِيَمِينِ . " وَالْمَقْصُودُ " هُنَا ذَكَرَ تَحْرِيرِ الْمَنْقُولِ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الدَّلَائِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا طَلَاقَ إلَّا عَنْ وَطَرٍ وَلَا عِتْقَ إلَّا مَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ

اللَّهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ بِالطَّلَاقِ وَلَا هُوَ مُتَقَرِّبٌ بِالْعِتْقِ ؛ بَلْ هُوَ حَالِفٌ بِهِمَا ؛ وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَقَدْ قِيلَ : إنَّ فِيهِ كَفَّارَةً . وَقِيلَ : لَا كَفَّارَةَ فِيهِ . وَهَذَا الثَّانِي قَوْلُ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ . وَالشِّيعَةُ يَقُولُونَ : لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ . وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ بِلُزُومِ الطَّلَاقِ وَعَدَمِ التَّكْفِيرِ ضَعِيفًا أَيْضًا وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ . وَالْقَوْلُ بِلُزُومِ الْكَفَّارَةِ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ طَاوُوسٍ وَغَيْرِهِ ؛ وَهُوَ مُقْتَضَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَبِهِ أَفْتَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفْتِينَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الطَّلَاقَ أَوْلَى أَلَّا يَقَعَ مِنْ الْعِتْقِ فَإِذَا أَفْتَى الصَّحَابَةُ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ الْعِتْقُ فَالطَّلَاقُ أَوْلَى ؛ وَلَكِنَّ أَبَا ثَوْرٍ لَمْ يَبْلُغْهُ فِي الطَّلَاقِ شَيْءٌ فَقَالَ ؛ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ أَيْضًا ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ إجْمَاعٌ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُتَّبَعَ .
وَأَمَّا إذَا قَالَ : إذَا فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ عَبْدِي أَوْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي وَمَالِي صَدَقَةٌ وَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ فَعَلَيَّ صَوْمُ كَذَا وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهُنَا يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ . وَيُقَالُ : إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ إلَيْهَا وَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَيُسَمِّيه الْفُقَهَاءُ " نَذَرَ اللَّجَاجَ وَالْغَضَبَ " . هَذَا إذَا كَانَ الْمَنْذُورُ قُرْبَةً : كَانَ الْعِتْقُ وَنَحْوُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُرْبَةً كَالطَّلَاقِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِك وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ ؛ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ : أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ .

" فَنَذْرُ التَّبَرُّرِ " مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ النَّاذِرِ حُصُولَ الشَّرْطِ وَيَلْتَزِمُ فِعْلَ الْجَزَاءِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى ؛ كَقَوْلِهِ : إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ أَنْ أَصُومَ كَذَا أَوْ أَتَصَدَّقَ بِكَذَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ : فَهَذَا النَّذْرُ عَلَيْهِ أَنْ يُوفِيَ بِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . وَأَمَّا " نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ " فَقَصْدُ النَّاذِرِ أَنْ لَا يَكُونَ الشَّرْطُ وَلَا الْجَزَاءُ : مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لَهُ : سَافِرْ مَعَ فُلَانٍ . فَيَقُولُ : إنْ سَافَرْت فَعَلَيَّ صَوْمُ كَذَا وَكَذَا أَوْ عَلَيَّ الْحَجُّ . فَمَقْصُودُهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ الشَّرْطَ وَلَا الْجَزَاءَ وَكَمَا لَوْ قَالَ : هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا . أَوْ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ فَلَا يَكْفُرُ بَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : إنْ أَعْطَيْتُمُونِي الدَّرَاهِمَ كَفَرْت فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ ؛ بَلْ يُنَجَّزُ كُفْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ حُصُولَ الْكُفْرِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ . فَطَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ نَظَرُوا إلَى لَفْظِ النَّاذِرِ فَقَالُوا : قَدْ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِشَرْطِ فَيَجِبُ وُجُودُهُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ ؛ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ " نَذْرِ اللَّجَاجِ " و " نَذْرِ التَّبَرُّرِ " . وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْمُحَقِّقُونَ فَقَالُوا : الِاعْتِبَارُ بِمَعْنَى اللَّفْظِ . وَالْمُشْتَرِطُ هُنَا قَصْدُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ ؛ وَهُنَاكَ قَصْدُهُ أَنْ لَا يَكُونَ

هَذَا وَلَا هَذَا ؛ وَلِهَذَا يَحْلِفُ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ تَارَةً . وَبِصِيغَةِ الْقَسَمِ أُخْرَى . مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : عَلَيَّ الْحَجُّ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَا فَعَلْت كَذَا أَوْ عَلَيَّ الْعِتْقُ إنْ فَعَلْت كَذَا أَوْ لَا فَعَلْت كَذَا . وَهَذَا حُجَّةُ مَنْ أَمَرَهُ بِكَفَّارَةٍ فِي الْعِتْقِ وَكَذَا فِي الطَّلَاقِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ لَهُ : سَافِرْ . فَقَالَ : عَلَيْهِ الْعِتْقُ أَوْ الطَّلَاقُ لَا يَفْعَلُ كَذَا أَوْ إنْ فَعَلَ كَذَا فَعَبْدُهُ حُرٌّ أَوْ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ : فَقَصْدُهُ أَنْ لَا يَكُونَ الشَّرْطُ وَلَا الْجَزَاءُ : فَهُوَ حَالِفٌ بِذَلِكَ ؛ لَا مُوقِعَ لَهُ . قَالُوا : وَهَذَا الْحَالِفُ الْتَزَمَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فَهُوَ كَمَا لَوْ الْتَزَمَ إيقَاعَهُ بِأَنْ يَقُولَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ أَوْ أُطَلِّقَ . وَلَوْ قَالَ هَذَا لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُطَلِّقَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ لَكِنْ فِي وُجُوبِ الْإِعْتَاقِ قَوْلَانِ . فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَلَا عَتَاقٌ ؛ لَكِنْ الشَّافِعِيُّ يُلْزِمُهُ الْكَفَّارَةَ إذَا لَمْ يُعْتِقْ وَلَا يُلْزِمُهُ الْكَفَّارَةَ إذَا لَمْ يُطَلِّقْ . فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ . وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَأَحْمَد يُلْزِمُهُ الْكَفَّارَةَ فِيهِمَا عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ إذَا لَمْ يَكُنْ قُرْبَةً لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِعْلُهُ بِالِاتِّفَاقِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ الْمَشْهُورِ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ . وَمَذْهَبُ أَحْمَد الْمَشْهُورُ : عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . قَالَ هَؤُلَاءِ : الْتِزَامُهُ الْوُقُوعَ كَالْتِزَامِهِ الْكُفْرَ ؛ وَلَوْ الْتَزَمَهُ لَمْ يَكْفُرْ بِالِاتِّفَاقِ ؛ بَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي إحْدَى الْقَوْلَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ .

قَالَ الْمُوقِعُونَ لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ هُنَا الْتَزَمَ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَهُوَ الْوُقُوعُ وَهُنَاكَ الْتَزَمَ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِهِ وَهُوَ الْإِيقَاعُ كَقَوْلِهِ : فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ عَلَيَّ الصَّوْمُ أَوْ عَلَيَّ الصَّدَقَةُ وَهُوَ فِي الْفِعْلِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَفْعَلَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهُ وَيُكَفِّرَ ؛ بِخِلَافِ الْحُكْمِ فَإِنَّهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . قَالُوا : وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْخُلْعَ جَائِزٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ أَعْطَيْتِنِي كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ . فَأَعْطَتْهُ إيَّاهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ . فَيُقَاسُ عَلَيْهِ سَائِرُ الشُّرُوطِ إذَا عُلِّقَ بِهَا الطَّلَاقُ وَقَعَ وَكَذَلِكَ ثَبَتَ جَوَازُ الْكِتَابَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفِي مَعْنَاهَا مَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ : إنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ حُرٌّ ؛ وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ . فَهَذَا مُنْتَهَى مَا يَحْتَجُّ بِهِ هَؤُلَاءِ . وَأَمَّا أُولَئِكَ فَيَقُولُونَ . قَوْلُكُمْ إنَّ اللَّازِمَ بِهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَهُنَاكَ فِعْلُ غَلَطٍ ؛ بَلْ اللَّازِمُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ فِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ؛ لَكِنْ فِي إحْدَاهُمَا وُقُوعٌ وَفِي الْآخِرَةِ وُجُوبٌ . فَقَوْلُهُ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ . إنَّمَا يَكُونُ فِيهِ وُجُوبُ الْحَجِّ ؛ لَا نَفْسُ فِعْلِهِ . ثُمَّ يُقَالُ : لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ حُكْمًا شَرْعِيًّا أَوْ أَنْ يَكُونَ مُلَازِمًا لَهُ . كَالسَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ اللَّازِمِ لَهُ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ : هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا . فَقَدْ الْتَزَمَ حُكْمًا وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ بِلَا نِزَاعٍ . وَأَيْضًا فَلَوْ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الصَّوْمُ ؛ أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ . فَالْجَزَاءُ وُجُوبُ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ . ثُمَّ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ بِحُكْمِ الْوُجُوبِ فَالْوُجُوبُ

هُوَ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ ؛ لَيْسَ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ نَفْسَ فِعْلِهِ ؛ إذْ لَوْ كَانَ الْمُعَلَّقُ نَفْسَ فِعْلِهِ لَوُجِدَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ اللُّغَوِيِّ وَلَكِنَّ الْمُعَلَّقَ وُجُوبُ الْإِعْتَاقِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ ثُمَّ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْتِزَامِ هَذَا الْوُجُوبِ ؛ وَبَيْنَ التَّكْفِيرِ . وَفِيمَا إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ . فَالْجَزَاءُ نَفْسُ الْحُرِّيَّةِ وَمُقْتَضَاهَا تَحْرِيمُ اسْتِعْبَادِهِ وَكَذَلِكَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ مُوجِبُهُ تَحْرِيمُ اسْتِمْتَاعِهِ . فَالتَّحْرِيمُ هُنَا مُوجِبُ الْجَزَاءِ ؛ لَا نَفْسُ الْجَزَاءِ . وَهَذَا مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْإِخْبَارِ ؛ وَذَلِكَ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ . وَكَذَا قَوْلُهُ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَمَالِي صَدَقَةٌ ؛ فَإِنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ يَصِيرَ الْمَالُ صَدَقَةً . فَهَذَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ؛ لَا فِعْلٌ ؛ لَكِنْ إذَا صَارَ صَدَقَةً لَزِمَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ . وَلَوْ قَالَ : فَعَبْدِي حُرٌّ الْتَزَمَ أَنْ يَصِيرَ حُرًّا فَلَوْ قَالَ . فَعَلَيَّ أَنَّ أَعْتِقَ هَذَا فَالْمُلْتَزِمُ وُجُوبُ الْعِتْقِ . ثُمَّ إذَا وَجَبَ كَانَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ . وَمَعَ هَذَا فَلَهُ رَفْعُ الْوُجُوبِ ؛ وَإِذَا قَالَ : فَهُوَ حُرٌّ فَإِنَّهُ الْتَزَمَ نَفْسَ الْحُرِّيَّةِ وَهُوَ إذَا صَارَ حُرًّا كَانَ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا صَارَتْ طَالِقَةً ثَلَاثًا كَانَ عَلَيْهِ إرْسَالُهَا وَأَنْ لَا يَخْلُوَ بِهَا وَلَا يَطَأَهَا . فَالنَّاذِرُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْتَزَمَ الْحُكْمَ وَالْفِعْلُ يَتْبَعُهُ . ثُمَّ إذَا فَعَلَ مَا أَوْجَبَهُ فَهُوَ الْإِيقَاعُ لِلطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ : حَصَلَ الْوُقُوعُ . فَمُوجِبُ التَّعْلِيقِ وُجُوبٌ يَتْبَعُهُ إيقَاعٌ وَوُقُوعٌ . ثُمَّ إذَا قَصَدَ بِهَذَا التَّعْلِيقِ الْيَمِينَ صَارَ يَمِينًا ؛ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْوُجُوبُ وَلَا الْإِيقَاعُ وَلَا الْوُقُوعُ . فَإِذَا كَانَ قَصْدُ الْيَمِينِ مَنْعَ الثَّلَاثَةِ فَلَأَنْ يُمْنَعَ وَاحِدٌ مِنْهَا وَهُوَ الْوُقُوعُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .

قَالُوا : وَلِأَنَّ الْمُظَاهِرَ وَالْمُحَرِّمَ إذَا قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ . إنَّمَا الْتَزَمَ حُكْمًا شَرْعِيًّا ؛ لَمْ يُلْتَزَمْ فِعْلًا . وَمَعَ هَذَا فَدَخَلَتْ فِي ذَلِكَ الْكَفَّارَةُ . قَالُوا : فَكَمَا أَنَّهُ يُخَيَّرُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُلْتَزَمُ وُجُوبَ الْعِتْقِ بَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمَهُ أَوْ يُكَفِّرَ فَكَذَلِكَ إذَا الْتَزَمَ وُقُوعَهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمَ وُقُوعَهُ فَيُعْتِقَهُ وَيُرْسِلَ الْعَبْدَ فَيَكُونُ إعْتَاقُهُ إرْسَالَهُ إمْضَاءً لِلْمَنْذُورِ ؛ وَبَيْنَ أَنْ لَا يُعْتِقَهُ وَلَا يُرْسِلَهُ فَلَا يُكَفِّرَ إمْضَاءً لَهُ ؛ بَلْ يَكُونُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ كَمَا إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَهَذَا الْمَالُ صَدَقَةٌ أَوْ هَذَا الْبَعِيرُ هَدْيٌ وَحِنْثٌ . فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْمَالِ وَيُرْسِلَ الْبَعِيرَ هَدْيًا ؛ فَيَكُونُ قَدْ الْتَزَمَ مُوجِبَ كَوْنِهِ صَدَقَةً وَهَدْيًا ؛ وَبَيْنَ أَنْ يُكَفِّرَ وَيُمْسِكَ الْمَالَ وَالْهَدْيَ فَلَا يُرْسِلُهُ . وَأَمَّا إذَا الْتَزَمَ مُحَرَّمًا ؛ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ إهَانَةُ الْمُصْحَفِ ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَهُنَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ النِّزَاعُ الْمُتَقَدِّمُ ؛ وَكَذَلِكَ إذَا الْتَزَمَ حُكْمًا لَا يَجُوزُ الْتِزَامُهُ مِثْلَ قَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ . فَهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ الْتِزَامُ الْكُفْرِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَلَوْ قَصَدَ ذَلِكَ لَكَانَ كَافِرًا بِالْقَصْدِ . وَالْمَقْصُودُ : أَنَّهُ لَا فَرْقَ لَا فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي الْعُرْفِ بَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمَ الْحُكْمَ الْمُوجِبَ عَلَيْهِ فِعْلًا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْفِعْلَ حُكْمًا آخَرَ يَقْتَضِي وُجُوبَ فِعْلٍ أَوْ تَحْرِيمِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمَ الْحُكْمَ الْمُقْتَضِيَ لِوُجُوبِ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ تَحْرِيمِهِ . فَالْتِزَامُ وُجُوبِ الْفِعْلِ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ الْحُكْمَ كَمَا إذَا قَالَ : فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ أَوْ أَعْتِقَ . فَإِنَّهُ

الْتَزَمَ وُجُوبَ الطَّلَاقِ وَالْإِعْتَاقِ وَالتَّطْلِيقِ وَذَلِكَ فِعْلٌ مِنْهُ يُوجِبُ حُكْمًا وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْتِزَامَهُ لِوُجُوبِ الْفِعْلِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ الْوُقُوعُ أَقْوَى مِنْ الْتِزَامِهِ الْوُقُوعَ ؛ فَإِنَّهُ هُنَاكَ الْتَزَمَ حُكْمَيْنِ وَفِعْلَيْنِ وَهُوَ هُنَا الْتَزَمَ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ وَأَحَدَ الْفِعْلَيْنِ فَاَلَّذِي الْتَزَمَهُ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ فِي بَعْضِ مَا الْتَزَمَهُ فِي مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ . فَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَلْتَزِمَ هَذَا فَذَاكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . فَهُوَ فِي مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ إذَا قَصَدَ بِالتَّعْلِيقِ الْيَمِينَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَحْنَثَ وَيُكَفِّرَ يَمِينَهُ وَبَيْنَ أَنْ يُوفِيَ بِمَا الْتَزَمَهُ فَيُوقِعُ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ وَالصَّدَقَةَ فَكَذَلِكَ الَّذِي الْتَزَمَهُ فِي مَوَاقِعِ النِّزَاعِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَالْحِنْثُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ يَكُونُ بِأَنْ يُوجَدَ الشَّرْطُ وَلَا يُوجَدَ الْجَزَاءُ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ . فَإِذَا قَالَ : إذَا فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ الْعِتْقُ أَوْ الطَّلَاقُ : لَمْ يَحْنَثْ إلَّا إذَا فَعَلَهُ وَلَمْ يُوجَدْ الْجَزَاءُ الْمُعَلَّقُ بِهِ فَإِنْ أَوْقَعَ الْجَزَاءَ الْمُعَلَّقَ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ كَمَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ لَمْ يَحْنَثْ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ الْتَزَمَ فِعْلًا كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا عَتَقَ عَبْدِي أَوْ طَلُقَتْ امْرَأَتِي . فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ : فَعَلَيَّ عِتْقُ عَبْدِي أَوْ طَلَاقُ امْرَأَتِي . فَالْتِزَامُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مُتَضَمِّنٌ لِالْتِزَامِ الْآخَرِ ؛ فَإِنَّ الْوُجُوبَ يَقْتَضِي أَنَّ عَلَيْهِ فِعْلَ الْوَاجِبِ وَالتَّحْرِيمَ يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ فِعْلَ الْمُحَرَّمِ . وَالْإِيجَابُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْوُجُوبِ ؛ وَالتَّحْرِيمُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُرْمَةِ . وَالْوُجُوبُ يَقْتَضِي الْفِعْلَ وَالْإِيقَاعُ مُسْتَلْزِمُ الْوُقُوعِ مُقْتَضٍ لِلْحُرْمَةِ وَالْحُرْمَةُ مُقْتَضِيَةٌ لِلتَّرْكِ . فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمَ الْإِيجَابَ

وَالْوُجُوبَ وَالْفِعْلَ أَوْ التَّحْرِيمَ أَوْ الْحُرْمَةَ أَوْ الْإِيقَاعَ أَوْ الْوُقُوعَ أَوْ الْحُرْمَةَ الَّتِي هِيَ مُوجَبُ ذَلِكَ . قَالَ هَؤُلَاءِ : وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ احْتَجَّ بِالْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ وَتَعْلِيقِ ذَلِكَ بِعِوَضِ فَجَوَابُهُ عِنْدَ أَهْلِ الظَّاهِرِ - ابْنِ حَزْمٍ وَنَحْوِهِ - أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : لَا يَقَعُ شَيْءٌ مِنْ الْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَالْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ وَمَا لَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِإِبَاحَتِهِ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ . وَلَا يَكْتَفُونَ فِي ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الْعَامَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالشُّرُوطِ وَالْعَهْدِ وَتَحْرِيمِ الْغَدْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ مَنْسُوخَةٌ . وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَاسْمُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي الْقُرْآنِ يَتَنَاوَلُ الْمُنْجَزَ وَالْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الشَّرْطِ ؛ فَإِنَّ كِلَاهُمَا دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى التَّطْلِيقِ ؛ بِخِلَافِ مَا يُكْرَهُ وُقُوعُهُ عِنْدَ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ يَمِينٌ دَاخِلُ فِي مُسَمَّى التَّطْلِيقِ . وَعَلَى هَذَا فَالْجَوَابُ عَلَى قَوْلِ الْأَئِمَّةِ وَالْجُمْهُورِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّرْطِ الْمَقْصُودِ وُجُودُهُ وَالشَّرْطِ الْمَقْصُودِ عَدَمُهُ وَعَدَمِ الْجَزَاءِ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ وَهُوَ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْحَلِفُ وَلَا يُرَادُ بِهِ وُقُوعُ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ هُوَ مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ ؛ لَا يُعْرَفُ عَنْهُمْ فِيهِ خِلَافٌ وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ

وَالْفُقَهَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ . فَيُقَالُ : إنَّهُ هُنَا قَصَدَ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ كَمَا قَصَدَ ذَاكَ نَذْرَ التَّبَرُّرِ . فَكَمَا أَنَّهُ فَرَّقَ فِي النُّذُورِ الْمُعَلَّقَةِ بِالشُّرُوطِ بَيْنَ مَا يَقْصِدُ فِيهِ ثُبُوتَهَا وَبَيْنَ مَا يَقْصِدُ فِيهِ نَفْيَهَا ؛ كَذَلِكَ هَذَا . فَإِنَّ هَذَا جَمِيعُهُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَهِيَ أَحْكَامٌ مُعَلَّقَةٌ بِشُرُوطِ وَإِذَا كَانَ الشَّرْعُ أَوْ الْعَقْلُ وَالْعُرْفُ تَفَرَّقَ فِي الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّقَةِ بِالشُّرُوطِ اللُّغَوِيَّةِ بَيْنَ مَا يَقْصِدُ ثُبُوتَهُ وَبَيْنَ مَا يَقْصِدُ انْتِفَاءَهُ - كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - لَمْ يَجُزْ تَسْوِيَةُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ . وَإِنَّمَا يَحْسُنُ الِاحْتِجَاجُ بِالْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ كُلُّ مَنْ يَمْنَعُ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالشُّرُوطِ جُمْلَةً كَمَا هُوَ مَذْهَبُ ابْنِ حَزْمٍ وَالْإِمَامِيَّةِ أَوْ بَعْضِهِمْ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطِ لَا يَقَعُ بِحَالِ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ عِنْدَهُمْ مِنْ الطَّلَاقِ إلَّا مَا ثَبَتَ أَنَّ الشَّارِعَ أَذِنَ فِيهِ . قَالُوا : وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ أَذِنَ فِي هَذَا فَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِالْقِيَاسِ وَجَعَلُوا مَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي الْحَلِف بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ حُجَّةً لَهُمْ ؛ وَلَيْسَ بِحُجَّةِ لَهُمْ ؛ فَإِنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ طاوس أَنَّهُ لَا يَرَى الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ شَيْئًا وَهَذَا لَا يَقْضِي أَنَّهُ لَا يَرَى تَعْلِيقَهُ بِالشُّرُوطِ بِحَالِ بَلْ قَدْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّرْطِ الْمَقْصُودِ ثُبُوتُهُ وَالْمَقْصُودِ عَدَمُهُ كَمَا أَنَّ هَذَا هُوَ قَوْلُ طَاوُوسٍ وَعَطَاءٍ وَغَيْرِهِمَا فِي مَسْأَلَةِ " نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ "

وَلِهَذَا لَمَّا دَخَلَ الشَّافِعِيُّ مِصْرَ سَأَلَهُ سَائِلٌ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ فَعَلَيَّ الصَّوْمُ . فَأَفْتَاهُ الشَّافِعِيُّ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ مِصْرَ قَوْلَ مَالِكٍ : إنَّ عَلَيْهِ الْحَجَّ وَالصَّوْمَ . وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا حَنِثَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَاسِمُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ أَفْتَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْقَاسِمُ - الَّذِي هُوَ الْعُمْدَةُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ - بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ . وَقَالَ : أَفْتَيْتُك بِقَوْلِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَإِنْ عُدْت أَفْتَيْتُك بِقَوْلِ مَالِكٍ . وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ مَالِكٍ يُرَجِّحُونَ الْإِفْتَاءَ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ وَهُوَ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ آخِرًا . وَأَمَّا جُمْهُورُ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ التَّكْفِيرِ وَبَيْنَ فِعْلِ الْمُلْتَزِمِ . وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَةٌ : أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ عَيْنًا وَيَذْكُرُ قَوْلًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . كَذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفْتِينَ أَصْحَابِ مَالِكٍ يُفْتُونَ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ وَيَحْتَجُّونَ بِمَا رَوَوْهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : كُلُّ يَمِينٍ وَإِنْ عَظُمَتْ فَكَفَّارَتُهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ . وَهَذَا قَوْلُ طاوس وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الصَّحَابَةِ . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَسَائِلُ جَلِيلَةٌ تَحْتَاجُ إلَى بَسْطٍ طَوِيلٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ :
وَالْإِفْتَاءُ بِهَذَا الْأَصْلِ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْغَالِبِ ؛ بَلْ غَالِبُ مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالنَّذْرِ وَالْحَرَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَوَاعِدَ . " الْقَاعِدَةُ الْأُولَى " إذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَهُ نَاسِيًا لِيَمِينِهِ أَوْ جَاهِلًا بِأَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ . فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . " أَحَدُهَا " لَا يَحْنَثُ بِحَالِ فِي جَمِيعِ الْأَيْمَانِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَكِّيِّينَ : كَعَطَاءِ وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَغَيْرِهِمْ وَمَذْهَبُ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ بَلْ أَظْهَرُهُمَا وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَنَظَرْت جَوَابَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَوَجَدْت النَّاقِلِينَ لَهُ بِقَدْرِ النَّاقِلِينَ لِجَوَابِهِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ صَاحِبُهُ والخرقي وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ . وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ وَالْيَمِينِ الَّتِي لَا تُكَفِّرُ - عَلَى مَنْصُوصِهِ - وَهِيَ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ . و " الْقَوْلُ الثَّالِثُ " أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي جَمِيعِ الْأَيْمَانِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ عَنْهُ .

وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْحَضَّ وَالْمَنْعَ فِي الْيَمِينِ بِمَنْزِلَةِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَبْدِهِ أَوْ قَرَابَتِهِ أَوْ صَدِيقِهِ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُطِيعُهُ هُوَ طَالِبٌ لِمَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ مَانِعٌ لِمَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ وَقَدْ وَكَّدَ طَلَبَهُ وَمَنَعَهُ بِالْيَمِينِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمُؤَكَّدِ . وَقَدْ اسْتَقَرَّ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ عَاصِيًا مُخَالِفًا : فَكَذَلِكَ مَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ حَانِثًا مُخَالِفًا لِيَمِينِهِ . وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْ فَعَلَهُ مُتَأَوِّلًا أَوْ مُقَلِّدًا لِمَنْ أَفْتَاهُ أَوْ مُقَلِّدًا لِعَالِمِ مَيِّتٍ أَوْ مُجْتَهِدًا مُصِيبًا أَوْ مُخْطِئًا . فَحَيْثُ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْمُخَالَفَةَ ؛ وَلَكِنْ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلْيَمِينِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ حَانِثًا . وَيَدْخُلُ فِي هَذَا إذَا خَالَعَ وَفَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ الْفِعْلَ بَعْدَ الْخُلْعِ لَمْ تَتَنَاوَلْهُ يَمِينُهُ فَهَذِهِ الصُّورَةُ تَدْخُلُ فِي يَمِينِ الْجَاهِلِ الْمُتَأَوِّلِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ هَذَا الْخُلْعَ خُلْعَ الْأَيْمَانِ بَاطِلٌ وَهُوَ أَصَحُّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ صَحِيحًا فَذَلِكَ يَقُولُ : إنَّهُ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ الْبَيْنُونَةِ وَالْمَرْأَةُ لَوْ فَعَلَتْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَمْ يَحْنَثْ الرَّجُلُ بِالِاتِّفَاقِ وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَتْهُ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ الْمُخْتَلِعَةَ لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَقُولُ : يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ ؛ فَيَحْنَثُ عِنْدَهُ إذَا وَجَدَتْ الصِّفَةَ فِي زَمَنِ الْبَيْنُونَةِ وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ عَامِّيًّا فَقِيلَ لَهُ : خَالِعْ امْرَأَتَك وَافْعَلْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْرِفْ مَعْنَى الْخُلْعِ فَظَنَ أَنَّهُ طَلَاقٌ مُجَرَّدٌ

فَطَلَّقَهَا ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِذَلِكَ : لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ مَنْ لَا يَحْنَثُ الْجَاهِلُ الْمُتَأَوِّلُ وَكَذَلِكَ لَوْ قِيلَ لَهُ : زِلْهَا بِطَلْقَةِ . فَأَزَالَهَا بِطَلْقَةِ ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ : لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ طَلْقَةً ثَانِيَةً وَإِنْ كَانَتْ الطَّلْقَةُ الْأَوْلَى رَجْعِيَّةً ؛ لَكِنْ فِي صُورَةِ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ وَالْجَهْلِ لَا يَحْنَثُ وَتَبْقَى الْيَمِينُ مَعْقُودَةً عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلَيْسَ فِيهِ نِزَاعٌ إلَّا وَجْهٌ ضَعِيفٌ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ .
" الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ " إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ . فَهَذَا أَوْلَى بِعَدَمِ التَّحْنِيثِ مِنْ مَسْأَلَةِ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا ؛ وَلِهَذَا فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمَا بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَصُورَةِ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ فَقَالُوا هُنَا لَا يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُنَاكَ يَحْنَثُ . قَالُوا : لِأَنَّهُ هنا كانت الْيَمِينُ عَلَى الْمَاضِي فَلَمْ تَنْعَقِدْ ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ عَلَى مَاضٍ إنْ كَانَ عَالِمًا فَهُوَ : إمَّا صَادِقٌ بَارٌّ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ فَتَكُونُ يَمِينُهُ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا مُعْتَقِدًا أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ : فَهَذَا لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ عَلَى فَاعِلِهِ إثْمُ الْكَذَّابِ . وَهَذَا هُوَ لَغْوُ الْيَمِينِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَمِثْلُ هَذَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ النِّسْيَانُ كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ : لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تَقْصُرْ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَسِيَ فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ : بَلَى قَدْ نَسِيت . فَقَالَ : أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ؟ قَالُوا : نَعَمْ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَنَّهُ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ خَمْسًا فَقَالُوا لَهُ بَعْدَ الصَّلَاةِ : أَزِيدُ فِي الصَّلَاةِ ؟ فَقَالَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالُوا صَلَّيْت خَمْسًا . قَالَ : إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيَتْ فَذَكِّرُونِي } .

قَالُوا :
وَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّهَا مُنْعَقِدَةٌ وَالْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَاقِعٌ فِي الْفِعْلِ لَا فِي الْعَقْدِ فَلِهَذَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ . وَأَمَّا فِي الطَّلَاقِ فَقَالُوا أَيْضًا فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ كَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد فِي الْمُسْتَقْبَلِ . وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَحْنَثُ الْجَاهِلُ وَالنَّاسِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَكَذَلِكَ لَا يَحْنَثُ الْمُخْطِئُ حِينَ عَقَدَ الْيَمِينَ الَّذِي حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ . وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا : إنَّهُ يَحْنَثُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيَحْنَثُ فِي الْمَاضِي ؛ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فَكَذَلِكَ لَا يَحْنَثُ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَنْ سَلَكَهَا مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : كَأَبِي الْبَرَكَاتِ فِي " مُحَرَّرِهِ " . وَأَصْحَابُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَقُولُونَ : إنَّ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا يَحْنَثُ إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ : فَيَلْزَمُهُ أَلَّا يَحْنَثَ مِنْ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا . وَيُضَعِّفُونَ قَوْلَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفَرْقِ وَقِيلَ : بَلْ لَا يَحْنَثُ فِي الْمَاضِي قَوْلًا وَاحِدًا وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ قَوْلَانِ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد سَلَكُوا مَسْلَكَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ : فَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فَقَالُوا : إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَفَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا فَفِيهِ

رِوَايَتَانِ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ فِي " الْفُصُولِ " وَأَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي ؛ وَغَيْرِهِمْ فَجَعَلُوا النِّزَاعَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي . وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : " لَغْوُ الْيَمِينِ " هُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ بِلَا نِزَاعٍ . وَأَمَّا إذَا سَبَقَ لِسَانُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ : فَفِيهِ رِوَايَتَانِ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ فِي " الْفُصُولِ " ؛ وَاخْتَارَ الْقَاضِي فِي " خِلَافِهِ " أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا وَاَللَّهِ بَلَى وَاَللَّهِ لَيْسَ بِلَغْوِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مَا يَسْبِقُ عَلَى اللِّسَانِ هُوَ لَغْوٌ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَفِيمَا إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ رِوَايَتَانِ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي مُحَمَّدٍ . " وَالصَّوَابُ " أَنَّ النِّزَاعَ فِي الصُّورَتَيْنِ ؛ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ فِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ عَنْهُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ ؛ وَلَكِنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذَا لَغْوٌ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَهَذَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَكَذَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّ كِلَا النَّوْعَيْنِ لَغْوٌ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ وَلِهَذَا جَزَمَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ أَحْمَد بِأَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا . وَلَمْ يَذْكُرُوا نِزَاعًا ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ كِلَيْهِمَا لَغْوٌ فِي جَوَابِهِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الخرقي وَابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ . وَذَكَرَ طَائِفَةٌ عَنْهُ فِي اللَّغْوِ " رِوَايَتَيْنِ " رِوَايَةً كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَرِوَايَةً كَقَوْلِ

الشَّافِعِيِّ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ : مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُمَا . وَصَرَّحَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ - كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ - بِأَنَّهُ إذَا قِيلَ : إنَّ اللَّغْوَ هُوَ أَنْ يَسْبِقَ عَلَى لِسَانِهِ الْيَمِينُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَإِنَّهُ إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ حَنِثَ . فَلِهَذَا صَارَ فِي مَذْهَبِهِ عِدَّةُ طُرُقٍ . " طَرِيقَةُ الْقُدَمَاءِ " أَنَّ كِلَيْهِمَا لَغْوٌ قَوْلًا وَاحِدًا . " وَطَرِيقَةُ الْقَاضِي " أَنَّ الْمَاضِيَ لَغْوٌ قَوْلًا وَاحِدًا وَفِي سَبْقِ اللِّسَانِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ رِوَايَتَانِ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ تُوَافِقُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . " وَطَرِيقَةُ أَبِي مُحَمَّدٍ " أَنَّ سَبْقَ اللِّسَانِ لَغْوٌ قَوْلًا وَاحِدًا . وَفِي الْمَاضِي رِوَايَتَانِ . وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ تُوَافِقُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ . " وَالطَّرِيقَةُ الرَّابِعَةُ " وَهِيَ أَضْعَفُ الطُّرُقِ : أَنَّ اللَّغْوَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ هَذَا دُونَ هَذَا وَفِي الْأُخْرَى هَذَا دُونَ هَذَا . " وَالطَّرِيقَةُ الْخَامِسَةُ " وَهِيَ الْجَامِعَةُ بَيْنَ الطُّرُقِ : أَنَّ فِي مَذْهَبِهِ ثَلَاثَ رِوَايَاتٍ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ فَإِذَا سَبَقَ عَلَى لِسَانِهِ : لَا وَاَللَّهِ بَلَى وَاَللَّهِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ : فَهَذَا لَغْوٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ

الْأَرْبَعَةِ .وَإِذَا سَبَقَ عَلَى لِسَانِهِ الْيَمِينُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ تَعَمَّدَ الْيَمِينَ عَلَى أَمْرٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ : فَفِي الصُّورَتَيْنِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ ؛ هِيَ الرِّوَايَاتُ الثَّلَاثُ عَنْ أَحْمَد . " أَحَدُهَا " أَنَّ الْجَمِيعَ لَغْوٌ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَهِيَ وَمَذْهَبُهُ فِي إحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ بِلَا نِزَاعٍ عَنْهُ . وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَقَدْ فَسَّرَ اللَّغْوَ بِهَذَا . وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ . " وَالثَّانِي " أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي الْمَاضِي دُونَ مَا سَبَقَ عَلَى لِسَانِهِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا . " وَالثَّالِثُ " بِالْعَكْسِ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُخْطِئَ فِي عَقْدِ الْيَمِينِ الَّذِي حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ هُوَ فِي إحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ كَالنَّاسِي وَالْجَاهِلِ وَفِي الْأُخْرَى لَا يَحْنَثُ قَوْلًا وَاحِدًا . وَالْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ أَئِمَّةِ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَعَلَى هَذَا فَالْحَالِفُ بِالطَّلَاقِ عَلَى أَمْرٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ لَا يَحْنَثُ إذَا لَمْ يَحْنَثْ النَّاسِي وَالْجَاهِلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ : إمَّا تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا . وَإِمَّا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى اخْتِلَافِ الطَّرِيقَتَيْنِ . وَهَكَذَا ذَكَرَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ .

وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ كَالسَّامِرِيِّ صَاحِبِ " الْمُسْتَوْعِبِ " أَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى أَمْرٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ أَنَّهُ يَحْنَثُ قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا لَغْوَ فِيهِ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَقُولُ إنَّ الطَّلَاقَ لَا لَغْوَ فِيهِ هُوَ الَّذِي يَحْنَثُ النَّاسِي وَالْجَاهِلُ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَحْنَثْ النَّاسِي وَالْجَاهِلُ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ لَا لَغْوَ فِي الطَّلَاقِ - إذَا فَسَّرَ اللَّغْوَ بِأَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ - فَإِنَّ عَدَمَ الْحِنْثِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْحِنْثِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ أَوْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهَا ؛ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ . وَلَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى امْرَأَتِهِ لَا يَفْعَلُهُ فَفَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا بِأَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ وَيَقُولُ إذَا حَلَفَ عَلَى أَمْرٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ أَنَّهُ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ الْمُقَارَنَ لِعَقْدِ الْيَمِينِ أَخَفُّ مِنْ الْجَهْلِ الْمُقَارِنِ لِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَغَايَتِهِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ ؛ وَلِأَنَّ الْيَمِينَ الْأُولَى مُنْعَقِدَةٌ اتِّفَاقًا . وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَفِي انْعِقَادِهَا نِزَاعٌ بَيْنَهُمْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ ثُمَّ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ : هَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ .

" أَحَدُهَا " أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ حَتَّى اعْتَقَدَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ إجْمَاعٌ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ عَامَّتُهُمْ عَلَيْهِ حُجَّةً وَحُجَّتُهُمْ عَلَيْهِ ضَعِيفَةٌ جِدًّا وَهِيَ : أَنَّهُ الْتَزَمَ أَمْرًا عِنْدَ وُجُودِ شَرْطٍ فَلَزِمَهُ مَا الْتَزَمَهُ . وَهَذَا مَنْقُوضٌ بِصُوَرِ كَثِيرَةٍ وَبَعْضُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ : كَنَذْرِ الطَّلَاقِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْمُبَاحِ وَكَالْتِزَامِ الْكُفْرِ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ ؛ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يُقَاسُ بِهِ إلَّا وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ مُؤَثِّرٌ فِي الشَّرْعِ وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٌ ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ مُوجِبُ الْعَقْدِ لُزُومَ مَا الْتَزَمَهُ صَارَ يَظُنُّ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ هَذَا عَقْدٌ لَازِمٌ وَهَذَا يُوَافِقُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ مُوجِبَةً وَمُحَرَّمَةً كَمَا يُقَالُ : إنَّهُ كَانَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا . لَكِنْ نَسَخَ هَذَا شَرْعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَرَضَ لِلْمُسْلِمِينَ تَحِلَّةَ أَيْمَانِهِمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَنْ يُحِلُّوا عَقْدَ الْيَمِينِ بِمَا فَرَضَهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِلَا رَيْبٍ ؛ إلَّا عَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ يُرْوَى عَنْ شريح وَيُذْكَرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد فِيمَا إذَا قَدَّمَ الطَّلَاقَ . وَإِذَا قِيلَ : يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ؛ فَإِنْ نَوَى بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ تَوْكِيدَ الْأُولَى - لَا إنْشَاءَ يَمِينٍ أُخْرَى - لَمْ يَقَعْ بِهِ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ وَإِنْ أَطْلَقَ وَقَعَ بِهِ ثَلَاثٌ وَقِيلَ : لَا يَقَعُ بِهِ إلَّا وَاحِدَةٌ .

و " الْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ . وَهَذَا مَذْهَبُ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ وَطَوَائِفَ مِنْ الشِّيعَةِ . وَيَذْكُرُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ ؛ بَلْ هُوَ مَأْثُورٌ عَنْ طَائِفَةٍ صَرِيحًا كَأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ رَاوِيَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ . وَأَصْلُ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ وَالنَّذْرِ : لَغْوٌ كَالْحَلِفِ بِالْمَخْلُوقَاتِ . وَيُفْتِي بِهِ فِي الْيَمِينِ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا بِالْتِزَامِ الطَّلَاقِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ : كَالْقَفَّالِ وَصَاحِبِ " التَّتِمَّةِ " وَيَنْقُلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَصًّا ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي أَوْ لَازِمٌ لِي وَنَحْوَ ذَلِكَ : صِيغَةُ نَذْرٍ ؛ لَا صِيغَةُ إيقَاعٍ كَقَوْلِهِ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ . وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُطَلِّقَ لَمْ يَلْزَمْهُ طَلَاقٌ بِلَا نِزَاعٍ ؛ وَلَكِنْ فِي لُزُومِهِ الْكَفَّارَةَ لَهُ قَوْلَانِ . " أَحَدُهُمَا " يَلْزَمُهُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : إمَّا مُطْلَقًا . وَإِمَّا إذَا قُصِدَ بِهِ الْيَمِينُ . " وَالثَّانِي " لَا . وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الخراسانيين مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَالْقَفَّالِ والبغوي وَغَيْرِهِمَا . فَمَنْ جَعَلَ هَذَا نَذْرًا وَلَمْ يُوجِبْ الْكَفَّارَةَ

فِي نَذْرِ الطَّلَاقِ : يُفْتِي بِأَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا أَفْتَى بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ قَالَ : عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ لَزِمَهُ عَلَى قَوْلِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا يُفْتَى بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ . وَأَمَّا " الْحَنَفِيَّةُ " فَبَنَوْهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِنَذْرِ الْمَعَاصِي وَالْمُبَاحَاتِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَكَذَلِكَ يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِتَفْرِيقِهِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ : عَلَيَّ نَذْرٌ . فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ . وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ : إنْ فَعَلْته فَعَلَيَّ نَذْرٌ . فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . فَفَرَّقَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ نَذْرِ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ بِنَذْرِ الطَّلَاقِ .
وَأَحْمَد عِنْدَهُ عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ الْمَنْصُوصِ عَنْهُ : أَنَّ نَذْرَ الطَّلَاقِ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَالْحَلِفُ بِنَذْرِهِ عَلَيْهِ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ وَافَقَهُ مِنْ الخراسانيين مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجَعَلَهُ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا هُوَ الْمُرَجَّحَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَذَكَرُوا ذَلِكَ فِي نَذْرِ جَمِيعِ الْمُبَاحَاتِ ؛ لَكِنَّ قَوْلَهُ : الطَّلَاقُ لِي لَازِمٌ فِيهِ صِيغَةُ إيقَاعٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد فَإِنْ نَوَى بِذَلِكَ النَّذْرَ فَفِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَهُ .
وَ " الْقَوْلُ الثَّالِثُ " وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ : أَنَّ هَذِهِ يَمِينٌ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَيَجْرِي فِيهَا مَا يَجْرِي فِي أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْحِنْثِ ؛

إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْحَالِفُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ فَلَهُ أَنْ يُوقِعَهُ وَلَا كَفَّارَةَ . وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : كَطَاوُوسِ وَغَيْرِهِ . وَهُوَ مُقْتَضَى الْمَنْقُولِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ وَبِهِ يُفْتِي كَثِيرٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى يُقَالَ : إنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ مَنْ يُفْتِي بِذَلِكَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مُقْتَضَى نُصُوصِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأُصُولُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِذَا كَرَّرَ الْيَمِينَ الْمُكَفِّرَةَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ : فَهَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ؟ أَوْ كَفَّارَاتٌ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . أَشْهَرُهُمَا عَنْهُ تَجْزِيه كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ حَكَاهَا ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ فِي الْحَلِف بِالطَّلَاقِ كَمَا حَكَوْهَا فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ وَالنَّذْرِ وَغَيْرِهِمَا فَإِذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ : فَفِيهَا الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ ؛ لَكِنْ هُنَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ : إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ كَمَا قَالُوا ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ . فَيَصِحُّ نَذْرُهُ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ . وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ . وَرَوَوْهُ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ .

وَأُمِّ سَلَمَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ ؛ كَطَاوُوسِ وَعَطَاءٍ وَغَيْرِهِمَا وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ صَحَابِيٍّ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ ؛ لَا فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَلَا فِي الْحَلِفِ بِالْعَتَاقِ ؛ بَلْ إذَا قَالَ الصَّحَابَةُ : إنَّ الْحَالِفَ بِالْعِتْقِ لَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ فَالْحَالِفُ بِالطَّلَاقِ أَوْلَى عِنْدَهُمْ . وَهَذَا كَالْحَلِفِ بِالنَّذْرِ مِثْلَ : أَنْ يَقُولَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ . أَوْ صَوْمُ سَنَةٍ . أَوْ ثُلُثُ مَالِي صَدَقَةٌ . فَإِنَّ هَذَا يَمِينٌ تُجْزِئُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ التَّابِعِينَ : كَطَاوُوسِ وَعَطَاءٍ وَأَبِي الشَّعْثَاءِ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ وَمَذْهَبُ أَحْمَد بِلَا نِزَاعٍ عَنْهُ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ اخْتَارَهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ كَابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ أَبِي الْغَمْرِ وَأَفْتَى ابْنُ الْقَاسِمِ ابْنَهُ بِذَلِكَ . وَالْمَعْرُوفُ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ : أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَحْلِفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ أَوْ النَّذْرِ : إمَّا أَنْ تُجْزِئَهُ الْكَفَّارَةُ فِي كُلِّ يَمِينٍ . وَإِمَّا أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَإِمَّا أَنْ يُلْزِمَهُ كَمَا حَلَفَ بِهِ ؛ بَلْ إذَا كَانَ قَوْلُهُ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ رَقَبَةً . وَقَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ لَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ ؛ بَلْ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَلَوْ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ لَزِمَهُ

بِالِاتِّفَاقِ فَقَوْلُهُ : فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْلَى أَلَّا يَلْزَمَهُ لِأَنَّ قَصْدَ الْيَمِينِ إذَا مَنَعَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْوُجُوبُ فِي الْإِعْتَاقِ وَالْعِتْقِ فَلَأَنْ يَمْنَعَ لُزُومَ الْعِتْقِ وَحْدَهُ أَوْلَى " وَأَيْضًا " فَإِنَّ ثُبُوتَ الْحُقُوقِ فِي الذِّمَمِ أَوْسَعُ نُفُوذًا ؛ فَإِنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ وَالْعَبْدَ قَدْ تَثْبُتُ الْحُقُوقُ فِي ذِمَمِهِمْ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُمْ فَإِذَا كَانَ قَصْدُ الْيَمِينِ مَعَ ثُبُوتِ الْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ فِي الذِّمَّةِ مَمْنُوعٌ فَلَأَنْ يُمْنَعَ وُقُوعُهُ أَوْلَى وَأَحْرَى وَإِذَا كَانَ الْعِتْقُ الَّذِي يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ لَا يَلْزَمُهُ إذَا قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ فَالطَّلَاقُ الَّذِي لَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ أَوْلَى أَنْ لَا يُلْزِمَ إذَا قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ ؛ فَإِنَّ التَّعْلِيقَ إنَّمَا يَلْزَمُ فِيهِ الْجَزَاءُ إذَا قَصَدَ وُجُوبَ الْجَزَاءِ عِنْدَ وُجُوبِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ : إنْ أبرأتيني مِنْ صَدَاقِك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَثُلُثُ مَالِي صَدَقَةٌ وَأَمَّا إذَا كَانَ يَكْرَهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ وَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ لِيَحُضَّ نَفْسَهُ أَوْ يَمْنَعَهَا أَوْ يَحُضَّ غَيْرَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ : فَهَذَا مُخَالِفٌ كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ وَمَالِي صَدَقَةٌ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَنِسَائِي طَوَالِقُ وَعَلَيَّ عَشْرُ حِجَجٍ وَصَوْمٌ : فَهَذَا حَالِفٌ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ وَسَائِرِ الطَّوَائِفِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } وَهَذَا يَتَنَاوَلُ

أَيْمَانَ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ لَفْظًا وَمَعْنًى ؛ وَلَمْ يَخُصَّهُ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ ؛ بَلْ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ تُحَقِّقُ عُمُومَهُ .
وَالْيَمِينُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ " نَوْعَانِ " : نَوْعٌ مُحْتَرَمٌ مُنْعَقِدٌ مُكَفِّرٌ كَالْحَلِفِ بِاَللَّهِ . وَنَوْعٌ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ ؛ وَلَا مُنْعَقِدٍ وَلَا مُكَفِّرٍ وَهُوَ الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ . فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْيَمِينُ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهَا الْكَفَّارَةُ . وَهِيَ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ . وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ مِنْ الثَّانِي . وَأَمَّا إثْبَاتُ يَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ ؛ غَيْرِ مُكَفِّرَةٍ فَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَتَقْسِيمُ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ إلَى يَمِينٍ مُكَفِّرَةٍ وَغَيْرِ مُكَفِّرَةٍ كَتَقْسِيمِ الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ إلَى خَمْرٍ وَغَيْرِ خَمْرٍ . وَتَقْسِيمِ السَّفَرِ إلَى طَوِيلٍ وَقَصِيرٍ . وَتَقْسِيمِ الْمُيَسَّرِ إلَى مُحَرَّمٍ وَغَيْرِ مُحَرَّمٍ ؛ بَلْ الْأُصُولُ تَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ . وَبَسْطُ الْكَلَامِ لَهُ مَوْضُوعٌ آخَرُ لَكِنَّ هَذَا " الْقَوْلَ الثَّالِثَ " وَهُوَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ الْكَفَّارَةِ فِي جَمِيعِ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي لَا تَتَنَاقَضُ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَابِرِ التَّابِعِينَ :

إمَّا فِي جَمِيعِ الْأَيْمَانِ . وَإِمَّا فِي بَعْضِهَا . وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَمِينٌ . وَالتَّعْلِيلُ بِذَلِكَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ . وَالصِّيَغُ ثَلَاثَةٌ " صِيغَةُ تَنْجِيزٍ " كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ فَهَذِهِ لَيْسَتْ يَمِينًا وَلَا كَفَّارَةَ فِي هَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ " وَالثَّانِي " صِيغَةُ قَسَمٍ كَمَا إذَا قَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا فَهَذِهِ يَمِينٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْفُقَهَاءِ . " وَالثَّالِثُ " صِيغَةُ تَعْلِيقٍ . فَهَذِهِ إنْ قَصَدَ بِهَا الْيَمِينَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الثَّانِي بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا إنْ قَصَدَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ الشَّرْطِ : مِثْلَ أَنْ يَخْتَارَ طَلَاقَهَا إذَا أَعْطَتْهُ الْعِوَضَ فَيَقُولُ : إنْ أَعْطَيْتِنِي كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ . وَيَخْتَارُ طَلَاقَهَا إذَا أَتَتْ كَبِيرَةً فَيَقُولُ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ زَنَيْت أَوْ سَرَقْت . وَقَصْدُهُ الْإِيقَاعَ عِنْدَ الصِّفَةِ ؛ لَا الْحَلِفِ : فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِاتِّفَاقِ السَّلَفِ ؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالصِّفَةِ رُوِيَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِيهِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ : كَعَلِيِّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي ذَرٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَمُعَاوِيَةَ وَكَثِيرٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَحَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ

وَمَا عَلِمْت أَحَدًا نَقَلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ الطَّلَاقَ بِالصِّفَةِ لَا يَقَعُ وَإِنَّمَا عُلِمَ النِّزَاعُ فِيهِ عَنْ بَعْضِ الشِّيعَةِ وَعَنْ ابْنِ حَزْمٍ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ . وَهَؤُلَاءِ الشِّيعَةُ بَلَغَتْهُمْ فَتَاوَى عَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْبَيْتِ فِيمَنْ قَصْدُهُ الْحَلِفُ : فَظَنُّوا أَنَّ كُلَّ تَعْلِيقٍ كَذَلِكَ كَمَا أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الْجُمْهُورِ بَلَغَتْهُمْ فَتَاوَى عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِيمَنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِصِفَةِ أَنَّهُ يَقَعُ عِنْدَهَا : فَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يَمِينٌ . وَجَعَلُوا كُلَّ تَعْلِيقٍ يَمِينًا كَمَنْ قَصْدُهُ الْيَمِينَ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ وَاَلَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ ؛ كَمَا لَمْ يُفَرِّقْ أُولَئِكَ بَيْنَهُمَا فِي نَفْسِ الطَّلَاقِ . وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ أَفْتَى فِي الْيَمِينِ بِلُزُومِ الطَّلَاقِ . كَمَا لَمْ أَعْلَمِ أَحَدًا مِنْهُمْ أَفْتَى فِي التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ حَتَّى قَالَ بِهِ دَاوُد وَأَصْحَابُهُ . فَفَرَّقُوا بَيْنَ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ وَاَلَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا فِي تَعْلِيقِ النَّذْرِ وَغَيْرِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ ؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ يَكْرَهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ وَإِنْ وُجِدَتْ الصِّفَةُ كَقَوْلِ الْمُسْلِمِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ : فَهُوَ يَكْرَهُ الْكُفْرَ وَإِنْ وُجِدَتْ الصِّفَةُ ؛ إنَّمَا الْتِزَامُهُ لِئَلَّا يُلْزِمَ وَلِيَمْتَنِعَ بِهِ مِنْ الشَّرْطِ ؛ لَا لِقَصْدِ وُجُودِهِ عِنْدَ الصِّفَةِ . وَهَكَذَا الْحَلِفُ بِالْإِسْلَامِ لَوْ قَالَ الذِّمِّيُّ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ . وَالْحَالِفُ بِالنَّذْرِ وَالْحَرَامِ وَالظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَنِسَائِي طَوَالِقُ وَمَالِي صَدَقَةٌ

فَهُوَ يَكْرَهُ هَذِهِ اللَّوَازِمَ وَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَإِنَّمَا عَلَّقَهَا لِيَمْنَعَ نَفْسَهُ مِنْ الشَّرْطِ ؛ لَا لِقَصْدِ وُقُوعِهَا وَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ فَالتَّعْلِيقُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ مِنْ بَابِ الْإِيقَاعِ وَاَلَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ مِنْ بَابِ الْيَمِينِ . وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَحْكَامَ الطَّلَاقِ وَأَحْكَامَ الْإِيمَانِ . وَإِذَا قَالَ : إنْ سَرَقْت إنْ زَنَيْت : فَأَنْتِ طَالِقٌ . فَهَذَا قَدْ يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقَامُهَا مَعَ هَذَا الْفِعْلِ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ طَلَاقِهَا ؛ وَإِنَّمَا قَصْدُهُ زَجْرُهَا وَتَخْوِيفُهَا لِئَلَّا تَفْعَلُ : فَهَذَا حَلِفٌ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَقَدْ يَكُونُ قَصْدُهُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِرَاقُهَا أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ الْمُقَامِ مَعَهَا مَعَ ذَلِكَ فَيَخْتَارُ إذَا فَعَلَتْهُ أَنْ تَطْلُقَ مِنْهُ : فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صِهْرَ أَخِيهِ وَحَلَفَ بِالثَّلَاثِ مَا يَدْخُلُ مَنْزِلَهُ : ثُمَّ دَخَلَ بِغَيْرِ رِضَاهُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْحَالِفُ قَدْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ يُطِيعُهُ وَيَبَرُّ يَمِينَهُ وَلَا يَدْخُلُ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ ؛ فَتَبَيَّنَ لَهُ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَمْ يَحْلِفْ . فَفِي حِنْثِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَالْأَقْوَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ لَا يَسْكُنُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَقَدْ انْتَقَلَ وَأَخْلَاهُ : فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعُودَ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ السَّبَبُ الَّذِي حَلَفَ لِأَجْلِهِ قَدْ زَالَ فَلَهُ أَنْ يَعُودَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهَا لَا تَحُطُّ يَدَهَا فِي خَرِيطَتِهِ وَلَا تَأْخُذُ مِنْهَا شَيْئًا وَقَالَ ذَلِكَ مُدَّةَ أَرْبَعِ شُهُورٍ ؛ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ حَلَفَ يَمِينًا ثَانِيًا أَنَّهَا لَا تَنْقُلُ مَا سَمِعَتْ إلَى أَحَدٍ ؛ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نَقَلَتْهُ لِلنَّاسِ فَقَالَ لَهَا زَوْجُهَا : مَا حَلَفْت عَلَيْك بِالطَّلَاقِ أَنَّك لَا تَنْقُلِيهِ إلَى أَحَدٍ وَقَدْ نَقَلْته ؟ قَالَتْ : نَقَلْته وَمَا عَلِمْت عَلَيَّ يَمِينًا . فَقَالَ : الْآنَ قَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ . قُومِي أَعْطِنِي خَرِيطَتِي وَأَعْطِنِي مِنْهَا الْخَيْطَ فَمَا بَقِيَ عَلَيَّ يَمِينٌ وَقَدْ وَقَعَ عَلَيَّ الطَّلَاقِ .

قَالَتْ : أَنَا مَا عَلِمْت أَنَّ عَلَيْنَا يَمِينًا بِالدَّائِمِ ؛ إنَّمَا اعْتَقَدْت الْيَمِينَ مُدَّةَ خَمْسَةِ أَوْ سِتَّةِ أَيَّامٍ . فَقَالَ لَهَا : أَنَا مَا أَعْرِفُ ؛ أَنْتِ السَّاعَةَ طَالِقٌ مِنِّي بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ : فَهَلْ يَلْزَمُهَا الطَّلَاقُ مِنْ أَوَّلِ يَمِينٍ ؟ أَوْ مِنْ الثَّانِي ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَتْ قَدْ اعْتَقَدَتْ أَنَّ حُكْمَ يَمِينِهِ قَدْ انْقَضَى وَفَعَلَتْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ : لَمْ يَحْنَثْ الْحَالِفُ . وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ أَنْتِ السَّاعَةَ طَالِقٌ مِنِّي ثَلَاثًا ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ : لَمْ يَقَعْ بِذَلِكَ شَيْءٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ كَاتَبَ عَبْدَهُ وَحَصَلَ مِنْهُ حَرَجٌ أَوْجَبَ أَنَّهُ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ لَا يُفَارِقُهُ مِنْ الضَّرْبِ وَالتَّرْسِيمِ إلَى حَيْثُ يُحْضِرُ إلَيْهِ حِسَابَهُ أَوْ يُعِيدُ إلَيْهِ مَا الْتَمَسَهُ مِنْ الجامكية : فَهَلْ يَجُوزُ خَلَاصُهُ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ الشَّرْعِيَّةِ ؟ أَفْتُونَا .
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
إنْ كَانَ إحْضَارُ الْحِسَابِ الْمَطْلُوبِ قَدْ عَجَزَ عَنْهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَعَنْ إعَادَةِ الْمَطْلُوبِ مِنْ الجامكية : لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَالَبَ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا ؛ بَلْ يُلْزَمُ وَلِيُّ الْأَمْرِ الْحَالِفِ بِفِرَاقِهِ وَإِذَا أَلْزَمَهُ بِذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ طَلَاقٌ سَوَاءٌ أَلْزَمَهُ بِذَلِكَ وَالِي حَرْبِ السُّلْطَانِ وَنَحْوُهُ أَوْ وَالِي حُكْمٍ أَوْ كَاتِبٍ فَوْقَهُ يَنْفُذُ حُكْمُهُ فِيهِ بِالْعَدْلِ وَهَكَذَا إنْ

لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إحْضَارُ أَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فِي الشَّرْعِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ إلْزَامُهُ بِفِرَاقِهِ وَإِذَا فَارَقَهُ وَالْحَالُ هَذِهِ لَمْ يَحْنَثْ . كَذَلِكَ إنْ اعْتَقَدَ الْحَالِفُ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى صِفَةٍ فَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ : مِثْلَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ فِي الْحِسَابِ كَشْفَ أُمُورٍ يَجِبُ كَشْفُهَا فَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ إذَا فَارَقَهُ وَكَذَلِكَ إنْ اعْتَقَدَ أَنَّ إعَادَةَ الجامكية وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ ؛ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ : فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ قَادِرٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَاجِزٌ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَهُوَ أَحْسَنُ الْقَوْلَيْنِ وَأَقْوَاهُمَا فِي الشَّرْعِ وَكَذَلِكَ لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ خَانَ أَوْ سَرَقَ مَالًا : فَحَلَفَ عَلَى إعَادَتِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَخُنْ وَلَمْ يَسْرِقْ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَهُوَ غَضْبَانُ : أَنَّهَا مَا تَدْخُلُ بَيْتَ عَمَّتِهَا وَرُزِقَتْ زَوْجَتُهُ وَلَدًا ؛ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ دَخَلَتْ الْمَرْأَةُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا بَيْتَ عَمَّتِهَا وَكَانَ قَدْ قَالَ لِلْحَالِفِ نَاسٌ : إنَّهُ إذَا وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ وَدَخَلَتْ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ أَفْتُونَا ؟ .

فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْحَالِفُ قَدْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا وُلِدَ لَهَا وَلَدٌ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَدَخَلَتْ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ : فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ ؛ لَكِنَّ يَمِينَهُ بَاقِيَةٌ فَإِذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ عَالِمًا عَامِدًا حَنِثَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ فَقَالَ لَهَا : إنْ خَرَجْت وَأَنَا غَائِبٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ؛ فَلَمَّا قَدِمَ مِنْ السَّفَرِ قَالَتْ لَهُ : وَاَللَّهِ احْتَجْت إلَى الْحَمَّامِ وَلَمْ أَقْدِرْ لِلْغَسْلِ بِالْبَيْتِ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَتْ اعْتَقَدَتْ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي يَمِينِهِ وَأَنَّهَا لَا تَكُونُ مُخَالِفَةً لِيَمِينِهِ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ : لَمْ يَحْنَثْ الْحَالِفُ فِي يَمِينِهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَتَانِ فَعُدِمَ مِنْ بَيْتِهِ مَبْلَغٌ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مِنْ الْجَدِيدَةِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَطَّلِعْ لِهَذَا الْمَبْلَغِ الَّذِي عُدِمَ مِنْ بَيْتِهِ مَا يُخَلِّي الْعَتِيقَةَ فِي بَيْتِهِ وَكَانَ فِي عَقِيدَتِهِ أَنَّ الْعَتِيقَةَ هِيَ الَّتِي خَانَتْ فِي الْمَبْلَغِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ؟

فَأَجَابَ - أَيَّدَهُ اللَّهُ - :
إذَا كَانَ قَدْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْعَتِيقَةَ قَدْ خَانَتْهُ فَحَلَفَ إنْ لَمْ تَأْتِ بِذَلِكَ لَأَخْرَجَهَا ؛ لِأَجْلِ ذَلِكَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَخُنْهُ : لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَهَا وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ مَا يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ لِرَجُلِ مُعَيَّنٍ ثُمَّ إنَّهُ زَوَّجَهَا بِغَيْرِهِ ثُمَّ بَانَتْ مِنْ الثَّانِي بِالثَّلَاثِ : فَهَلْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا لِلرَّجُلِ الَّذِي كَانَ قَدْ حَلَفَ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ نِيَّةُ الْحَالِفِ أَوْ سَبَبُ الْيَمِينِ يَقْتَضِي الْحَلِفَ عَلَى ذَلِكَ التَّزْوِيجِ خَاصَّةً : جَازَ أَنْ يُزَوِّجَهَا الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ : مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ امْتَنَعَ لِتَزْوِيجِهِ ؛ لِكَوْنِهِ طَلَبَ مِنْهُ جِهَازًا كَثِيرًا ثُمَّ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ قَنِعَ بِهَا بِلَا جِهَازٍ . وَأَمَّا إنْ كَانَ السَّبَبُ بَاقِيًا : حَنِثَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ حَجَّ لَهُ زَوْجَتَانِ وَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ لَا يُطْعِمُهُمْ شَيْئًا .

فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ نِيَّتُهُ أَنَّ سَبَبَ الْيَمِينِ يَقْتَضِي أَنَّهُ امْتَنَعَ لِسَبَبِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ السَّبَبُ انْحَلَّتْ يَمِينُهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنَّهَا لَا تَنْزِلُ مَنْ بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ ثُمَّ إنَّهَا قَالَتْ : أَنَا الْيَوْمَ أَتَغَدَّى أَنَا وَأُمُّك فَاعْتَقَدَ أَنَّ أُمَّهُ تَجِيءُ إلَى عِنْدِهَا وَاعْتَقَدَتْ الزَّوْجَةُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهَا : فَذَهَبَتْ إلَى عِنْدِ أُمِّهِ .
فَأَجَابَ :
الطَّلَاقُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَا يَقَعُ بِهِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا هُوَ إحْدَى قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد ؛ فَإِنَّ هَذِهِ هِيَ مَسْأَلَةُ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي وَالنِّزَاعُ فِيهَا مَشْهُورٌ هَلْ يَحْنَثُ ؟ أَمْ لَا يَحْنَثُ ؟ أَمْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ وَغَيْرِهَا ؟ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ مُطْلَقًا ؟ لِأَنَّ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ فِي الْيَمِينِ بِمَنْزِلَةِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فِي الْأَمْرِ ؛ إذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ جُمْلَةً طَلَبِيَّةً . فَإِنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ : إمَّا " جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ " فَيَكُونُ مَقْصُودُ الْحَالِفِ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ . وَإِمَّا " جُمْلَةٌ طَلَبِيَّةٌ " فَيَكُونُ مَقْصُودُ الْحَالِفِ

الْحَيْضَ وَالْمَنْعَ فَهُوَ يَحُضُّ نَفْسَهُ أَوْ مَنْ يَحْلِفُ عَلَيْهِ وَيَمْنَعُ نَفْسَهُ أَوْ مَنْ يَحْلِفُ عَلَيْهِ فَهُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ مُؤَكَّدٌ بِالْقَسَمِ . فَالْحِنْثُ فِي ذَلِكَ كَالْمَعْصِيَةِ فِي الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ اسْتَقَرَّ فِي الشَّرِيعَةِ : أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمَنْهِيَّ - كَأَهْلِ التَّأْوِيلِ السَّائِغِ - فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ هَذَا الْفَاعِلُ آثِمًا وَلَا عَاصِيًا كَمَا قَدْ اسْتَجَابَ اللَّهُ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } فَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ الْيَمِينَ ؛ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ لَيْسَ هُوَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ ؛ لِتَأْوِيلِ ؛ أَوْ غَلَطٍ : كَسَمْعِ وَنَحْوِهِ : لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا الْيَمِينَ فَلَا يَكُونُ حَالِفًا . فَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِسَائِرِ الْأَيْمَانِ ؛ إذْ الْأَيْمَانُ يَفْتَرِقُ حُكْمُهَا فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ . أَمَّا فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَلَا فَرْقَ وَالْكَلَامُ هُنَا فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ؛ لَا فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ تَعْلِيقًا مَحْضًا : كَالتَّعْلِيقِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا مَقْصُودُهُ وُقُوعَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ : كَنَذْرِ التَّبَرُّرِ وَكَالتَّعْلِيقِ عَلَى الْعِوَضِ فِي مِثْلِ الْخُلْعِ ؛ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ حَضَّ نَفْسِهِ أَوْ مَنْعَ مَنْ حَلَفَ عَلَيْهِ وَمَنْعَ نَفْسِهِ أَوْ مَنْ حَلَفَ عَلَيْهِ ؛ كَمَا يَقْصِدُ ذَلِكَ النَّاذِرُ : نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَسْمِيَةِ ذَلِكَ يَمِينًا وَكَانَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ جَوَازَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي ذَلِكَ ؛ بِخِلَافِ الْمَحْضِ فَإِنَّهُ إيقَاعٌ مُؤَقَّتٌ فَلَيْسَ هُوَ يَمِينٌ عَلَى الصَّحِيحِ وَلَا يَنْفَعُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ عِنْدَ مَنْ لَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيقَاعِ : كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131