الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِمَا هُوَ قَائِمٌ بِهِ فَلَمْ يَلْزَمْ هَؤُلَاءِ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ ظَالِمًا ؛ وَأَمَّا أُولَئِكَ فَإِذَا قَالُوا إنَّهُ يُوصَفُ بِالْمَخْلُوقِ الْمُنْفَصِلِ عَنْهُ فَيُسَمَّى عَادِلًا وَخَالِقًا لِوُجُودِ مَخْلُوقٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ خَلَقَهُ فَإِنَّهُمْ أَلْزَمُوهُمْ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا لِخَلْقِهِ ظُلْمًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ إذْ كَانُوا لَا يُفَرِّقُونَ فِيمَا انْفَصَلَ عَنْهُ بَيْنَ مَا يَكُونُ صِفَةً لِغَيْرِهِ وَفِعْلًا لَهُ وَبَيْنَ مَا لَا يَكُونُ إذْ الْجَمِيعُ عِنْدَهُمْ نِسْبَتُهُ وَاحِدَةٌ إلَى قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ . وَهَؤُلَاءِ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ ؛ وَلَيْسَ فِي السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِالْجَبْرِ وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يُجْبِرُ الْعِبَادَ كَإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يُكَلِّفُهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ هَذَا سَلَبَ قُدْرَتَهُمْ عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ وَذَلِكَ سَلَبَ كَوْنَهُمْ فَاعِلِينَ قَادِرِينَ . وَلِهَذَا كَانَ الْمُقْتَصِدُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ : كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَانِي وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ أَبِي الْحَسَنِ وَكَالْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَمْثَالِهِ يُفَصِّلُونَ فِي الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ كَمَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَفْصِيلِ الْجَبْرِ فَيَقُولُونَ : تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ لِعَجْزِ الْعَبْدِ عَنْهُ لَا يَجُوزُ وَأَمَّا مَا يُقَالُ إنَّهُ لَا يُطَاقُ لِلِاشْتِغَالِ بِضِدِّهِ فَيَجُوزُ تَكْلِيفُهُ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا قَاعِدًا فَفِي حَالِ الْقِيَامِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ مَعَهُ الْقُعُودَ وَيَجُوزَ أَنْ يُؤْمَرَ حَالَ الْقُعُودِ بِالْقِيَامِ

وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَلْ عَامَّةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هُوَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ لَكِنْ هَلْ يُسَمَّى هَذَا تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ . قِيلَ : إنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ قَادِرًا إلَّا حِينَ الْفِعْلِ وَإِنَّ الْقُدْرَةَ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ . كَمَا يَقُولُهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ نُظَّارِ الْمُثْبِتَةِ لِلْقَدَرِ فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ كُلُّ مُكَلَّفٍ فَهُوَ حِينَ التَّكْلِيفِ قَدْ كُلِّفَ مَا لَا يُطِيقُهُ حِينَئِذٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُطِيقُهُ حِينَ الْفِعْلِ بِقُدْرَةِ يَخْلُقُهَا اللَّهُ لَهُ وَقْتَ الْفِعْلِ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُطِيقُهُ لِاشْتِغَالِهِ بِضِدِّهِ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ الْمُقَارِنَةِ لِلْفِعْلِ لَا لِكَوْنِهِ عَاجِزًا عَنْهُ . وَأَمَّا الْعَاجِزُ عَنْ الْفِعْلِ كَالزَّمِنِ الْعَاجِزِ عَنْ الْمَشْيِ وَالْأَعْمَى الْعَاجِزِ عَنْ النَّظَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَؤُلَاءِ لَمْ يُكَلَّفُوا بِمَا يَعْجِزُونَ عَنْهُ وَمِثْلُ هَذَا التَّكْلِيفِ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا فِي الشَّرِيعَةِ بِاتِّفَاقِ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا شِرْذِمَةً قَلِيلَةً مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ادَّعَوْا وُقُوعَ مِثْلِ هَذَا التَّكْلِيفِ فِي الشَّرِيعَةِ وَنَقَلُوا ذَلِكَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ خَطَأٌ عَلَيْهِمْ . وَأَمَّا جَوَازُ هَذَا التَّكْلِيفِ عَقْلًا فَأَكْثَرُ الْأُمَّةِ نَفَتْ جَوَازَهُ مُطْلَقًا وَجَوَّزَهُ عَقْلًا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُثْبِتَةِ لِلْقَدَرِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؛ كَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرِهِمَا . وَ " طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ " فَرَّقَتْ فِي الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ : بَيْنَ الْمُمْكِنِ لِذَاتِهِ الَّذِي

يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ فِي الْخَارِجِ : كَالطَّيَرَانِ وَبَيْنَ الْمُمْتَنِعِ عَقْلًا كَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ . وَاَلَّذِينَ زَعَمُوا وُقُوعَ التَّكْلِيفِ بِالْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ - كالرَّازِي وَغَيْرِهِ - احْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ كَلَّفَ أَبَا لَهَبٍ بِالْإِيمَانِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ . فَكَلَّفَهُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ بِأَنْ يَفْعَلَ الشَّيْءَ وَبِأَنْ يُصَدِّقَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُصَدِّقًا بِذَلِكَ ؛ وَهُوَ صَادِقٌ فِي تَصْدِيقِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ كُلِّفَ خِلَافَ الْمَعْلُومِ وَخِلَافُ الْمَعْلُومِ مُحَالٌ فَيَكُونُ حَقِيقَةُ التَّكْلِيفِ أَنَّهُ يَجْعَلُ عِلْمَ اللَّهِ جَهْلًا ؛ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ . وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا لَفْظَ مَا لَا يُطَاقُ لَفْظًا عَامًّا يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ فِعْلٍ لِكَوْنِ الْقُدْرَةِ عِنْدَهُمْ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ ؛ وَيَدْخُلُ فِيهِ خِلَافُ الْمَعْلُومِ ؛ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَعْجُوزُ عَنْهُ ؛ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ . ثُمَّ ذَكَرُوا نَحْوَ " عَشْرِ حُجَجٍ " يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى جَوَازِ هَذَا الْجِنْسِ فَإِذَا فَصَّلَ الْأَمْرَ عَلَيْهِمْ ثَبَتَ أَنَّ دَعْوَاهُمْ جَوَازَ مَا لَا يُطَاقُ لِلْعَجْزِ عَنْهُ - سَوَاءٌ كَانَ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ أَوْ مُمْكِنًا - بَاطِلَةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا ؛ وَأَمَّا جَوَازُ تَكْلِيفِ مَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ مِنْ الْعِبَادَةِ ؛ وَيَقُولُونَ هُمْ : إنَّهُ لَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَيْهِ إلَّا حِينَ الْفِعْلِ ؛ فَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِهِ ؛ لَكِنْ ثَمَّ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ فِي كَوْنِهِ يَدْخُلُ فِيمَا لَا يُطَاقُ ؛ فَصَارَ مَا أَدْخَلُوهُ فِي هَذَا الِاسْمِ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً : مِنْهَا مَا يُنَازِعُونَ فِي جَوَازِهِ أَوْ وُقُوعِهِ وَ ( مِنْهَا مَا يُنَازِعُونَ فِي اسْمِهِ وَصِفَتِهِ لَا فِي وُقُوعِهِ .

أَمَّا تَكْلِيفُ أَبِي لَهَبٍ وَغَيْرِهِ بِالْإِيمَانِ فَهَذَا حَقٌّ وَهُوَ إذَا أُمِرَ أَنْ يُصَدِّقَ الرَّسُولَ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ وَأَخْبَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُصَدِّقُهُ بَلْ يَمُوتُ كَافِرًا لَمْ يَكُنْ هَذَا مُتَنَاقِضًا وَلَا هُوَ مَأْمُورٌ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِي كُلِّ مَا بَلَّغَ وَهَذَا التَّصْدِيقُ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ فَإِذَا قِيلَ لَهُ أَمَرْنَاكَ بِأَمْرِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تَفْعَلُهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا تَكْلِيفًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ . فَإِنْ قَالَ : تَصْدِيقُكُمْ فِي كُلِّ مَا تَقُولُونَ يَقْتَضِي أَنْ أَكُونَ مُؤْمِنًا إذَا صَدَّقْتُكُمْ وَإِذَا صَدَّقْتُكُمْ لَمْ أَكُنْ مُؤْمِنًا لِأَنَّكُمْ أَخْبَرْتُمْ أَنِّي لَا أُؤْمِنُ بِكُلِّ مَا أُخْبِرَ بِهِ قِيلَ لَهُ لَوْ وَقَعَ مِنْك لَمْ يَكُنْ فِيهِ هَذَا الْخَبَرُ وَلَمْ يَكُنْ يُخْبِرُ أَنَّكَ لَا تُؤْمِنُ فَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَى تَصْدِيقِنَا وَبِتَقْدِيرِ وُجُودِهِ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْخَبَرُ وَ إنَّمَا وَقَعَ لِأَنَّكَ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ تَصْدِيقِنَا بِهَذَا الْخَبَرِ فَوَقَعَ بَعْدَ تَكْذِيبِكَ وَتَرْكِكَ مَا كُنْتَ قَادِرًا عَلَيْهِ لَمْ نَقُلْ لَكَ حِينَ أَمَرْنَاكَ بِالتَّصْدِيقِ الْعَامِّ وَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ . وَلَوْ قِيلَ لَكَ آمِنْ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تُؤْمِنُ بِهَذَا الْخَبَرِ فَاَلَّذِي أُمِرْتَ أَنْ تُؤْمِنَ بِهِ هُوَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَهَذَا أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَلَا تَفْعَلُهُ وَإِذَا صَدَّقْتَنَا فِي خَبَرِنَا أَنَّكَ لَا تُؤْمِنُ لَمْ يَكُنْ هُنَا تَنَاقُضٌ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ وَنَحْنُ لَمْ نَأْمُرْكَ بِهَذَا بَلْ أَمَرْنَاكَ بِإِيمَانِ مُطْلَقٍ تَقْدِرُ عَلَيْهِ وَأَخْبَرْنَا مَعَ ذَلِكَ أَنَّكَ لَا تَفْعَلْ ذَلِكَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ وَلَمْ نَقُلْ لَكَ صَدِّقْنَا فِي هَذَا وَهَذَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لَكِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْكَ هُوَ

التَّصْدِيقُ الْمُطْلَقُ وَالتَّصْدِيقُ بِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْكَ حِينَئِذٍ وَلَوْ وَقَعَ مِنْكَ التَّصْدِيقُ الْمُطْلَقُ امْتَنَعَ مِنَّا هَذَا الْخَبَرُ بَلْ هَذَا الْخَبَرُ إنَّمَا وَقَعَ لِمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْكَ التَّصْدِيقُ الْمُطْلَقُ . وَهَذَا كُلُّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ أَبَا لَهَبٍ أُسْمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ وَأُمِرَ بِالتَّصْدِيقِ بِهَا ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ لَكِنْ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ : { سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ } لَمْ يَسْلَمْ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِإِسْمَاعِ هَذَا الْخِطَابِ لِأَبِي لَهَبٍ وَأَمَرَ أَبَا لَهَبٍ بِتَصْدِيقِهِ بَلْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَبَا لَهَبٍ أَنْ يُصَدِّقَ بِنُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فَقَوْلُهُ : إنَّهُ أُمِرَ أَنْ يُصَدِّقَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ قَوْلٌ بَاطِلٌ لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَنَقْلُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ بَلْ كَذِبٌ عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ ؛ فَقَدْ كَانَ الْإِيمَانُ وَاجِبًا عَلَى أَبِي لَهَبٍ وَمِنْ الْإِيمَانِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهَذَا قِيلَ لَهُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ وَجَبَ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يُبَلِّغَهُ إيَّاهَا بَلْ وَلَا غَيْرَهَا بَلْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ كَمَا حَقَّتْ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ إذْ قِيلَ لَهُ : { لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } وَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى الرَّسُولُ مَأْمُورًا بِتَبْلِيغِهِمْ الرِّسَالَةَ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَّغَهُمْ فَكَفَرُوا حَتَّى حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ بِأَعْيَانِهِمْ . وَقَدْ يُخْبِرُ اللَّهُ الرَّسُولَ عَنْ مُعَيَّنٍ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، وَلَكِنْ لَا يَأْمُرُهُ أَنْ يُعْلِمَهُ

بِذَلِكَ بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِتَبْلِيغِهِ وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ كَاَلَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } وَقَوْلَهُ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } . فَهَؤُلَاءِ قَدْ يَعْلَمُ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ وَبَعْضُ الْبَشَرِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ فِي مُعَيَّنٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَإِنْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِتَبْلِيغِهِ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَكْلِيفُهُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَعْلُومِ فَإِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ بِقُدْرَتِهِ وَمَا لَا يَشَاءُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ لَوْ شَاءَ لَفَعَلَهُ وَعِلْمُهُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ . وَالْعِبَادُ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ يُطِيعُونَهُ بِإِرَادَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ وَإِنْ كَانَ خَالِقًا لِذَلِكَ فَخَلْقُهُ لِذَلِكَ أَبْلَغُ فِي عِلْمِهِ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } وَمَا لَمْ يَفْعَلُوهُ فَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لِعَدَمِ إرَادَتِهِمْ لَهُ لَا لِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ بِهِ أَمْرًا بِمَا يَعْجِزُونَ عَنْهُ بَلْ هُوَ أَمْرٌ بِمَا لَوْ أَرَادُوهُ لَقَدَرُوا عَلَى فِعْلِهِ لَكِنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَهُ لِعَدَمِ إرَادَتِهِمْ لَهُ . وَجَهْمٌ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ اشْتَرَكُوا فِي أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ وَمَحَبَّتَهُ وَرِضَاهُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ ثُمَّ قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ : وَهُوَ لَا يُحِبُّ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ فَلَا يَشَاؤُهُ فَقَالُوا : إنَّهُ يَكُونُ بِلَا مَشِيئَةٍ وَقَالَتْ الْجَهْمِيَّة بَلْ هُوَ يَشَاءُ

ذَلِكَ ؛ فَهُوَ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَأَبُو الْحَسَنِ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَافَقُوا هَؤُلَاءِ ؛ فَذَكَرَ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي : أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ أَوَّلُ مَنْ خَالَفَ السَّلَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بِهِ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا . وَأَمَّا سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَأَكَابِرُ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَكَثِيرٌ مِنْ طَوَائِفِ النُّظَّارِ : كالْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة ؛ وَغَيْرِهِمْ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ؛ وَيَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ وَيَرْضَى بِهِ كَمَا لَا يَأْمُرُ وَلَا يَرْضَى بِالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَلَا يُحِبُّهُ ؛ كَمَا لَا يَأْمُرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ شَاءَهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ حَمَلَةُ الشَّرِيعَةِ مِنْ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا : كَقَضَاءِ دَيْنٍ يَضِيقُ وَقْتُهُ أَوْ عِبَادَةٍ يَضِيقُ وَقْتُهَا وَقَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْهُ لَمْ يَحْنَثْ وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ الْقَدَرِيَّةِ وَلَوْ قَالَ : إنْ كَانَ اللَّهُ يُحِبُّ ذَلِكَ وَيَرْضَاهُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ كَمَا لَوْ قَالَ : إنْ كَانَ يَنْدُبُ إلَى ذَلِكَ وَيُرَغِّبُ فِيهِ أَوْ يَأْمُرُ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ . وَبَسْطُ هَذِهِ الْأُمُورِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا جَوَابُ هَذِهِ " الْمَسْأَلَةِ " : فَإِنَّ هَذِهِ الْإِشْكَالَاتِ الْمَذْكُورَةَ إنَّمَا تَرُدُّ عَلَى قَوْلِ جَهْمٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَطَائِفَةٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد .

وَأَمَّا أَئِمَّةُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَعَامَّةِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ بَلْ يَقُولُونَ بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَيُثْبِتُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَشِيئَتِهِ وَبَيْنَ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ فَيَقُولُونَ : إنَّ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ - وَإِنْ وَقَعَ بِمَشِيئَتِهِ - فَهُوَ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ بَلْ يَسْخَطُهُ وَيُبْغِضُهُ . وَيَقُولُونَ : إرَادَةُ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ نَوْعَانِ : " نَوْعٌ " بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ لِمَا خَلَقَ كَقَوْلِهِ : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } . وَ " نَوْعٌ " بِمَعْنَى مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ لِمَا أَمَرَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَخْلُقْهُ كَقَوْلِهِ : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } وَبِهَذَا يُفْصَلُ النِّزَاعُ فِي مَسْأَلَةِ " الْأَمْرِ " هَلْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِرَادَةِ أَمْ لَا ؟ فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ تَزْعُمُ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَشِيئَةِ فَيَكُونُ قَدْ شَاءَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ وَالْجَهْمِيَّة قَالُوا : إنَّهُ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِشَيْءِ مِنْ الْإِرَادَةِ لَا لِحُبِّهِ لَهُ وَلَا رِضَاهُ

بِهِ إلَّا إذَا وَقَعَ فَإِنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ؛ وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ مَا أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ كَانَ ؛ وَمَا لَمْ يُحِبَّهُ وَلَمْ يَرْضَهُ لَمْ يَكُنْ وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ : { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِمَّنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ الْكُفْرُ أَوْ لَا يَرْضَاهُ دِينًا كَمَا يَقُولُونَ : لَمْ يَشَأْهُ مِمَّنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ أَوْ لَا يشاءه دِينًا ؛ إذْ كَانُوا مُوَافِقِينَ للجهمية وَالْقَدَرِيَّةِ فِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْمَشِيئَةِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْكُفْرُ مِنْ عِبَادِهِ لَمْ يَرْضَهُ لِعِبَادِهِ . كَمَا قَالَ : { إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } وَقَالَ : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } مَعَ قَوْلِهِ : { وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } . وَ ( فَصْلُ الْخِطَابِ : أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ مُسْتَلْزِمًا لِمَشِيئَةِ أَنْ يَخْلُقَ الرَّبُّ الْآمِرُ الْفِعْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ . وَلَا إرَادَةَ أَنْ يَفْعَلَهُ بَلْ قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يَخْلُقُهُ وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِمَحَبَّةِ الرَّبِّ وَرِضَاهُ مِنْ الْعَبْدِ أَنْ يَفْعَلَهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ ؛ وَهُوَ يُرِيدُهُ مِنْهُ إرَادَةَ الْآمِرِ مِنْ الْمَأْمُورِ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ لِمَصْلَحَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَخْلُقَهُ وَأَنْ يُعِينَهُ عَلَيْهِ ؛ لِمَا لَهُ فِي تَرْكِ ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ ؛ فَإِنَّ لَهُ حِكْمَةً بَالِغَةً فِيمَا خَلَقَهُ وَفِيمَا لَمْ يَخْلُقْهُ . وَفَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَخْلُقَ هُوَ الْفِعْلَ وَيَجْعَلَ غَيْرَهُ فَاعِلًا يُحْسِنُ إلَيْهِ وَيَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ بِالْإِعَانَةِ لَهُ عَلَى مَصْلَحَتِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِمَا يُصْلِحُهُ وَيُبَيِّنَ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ إذَا فَعَلَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُ هُوَ - نَفْسُهُ - أَنْ يُعِينَهُ لِمَا فِي تَرْكِ إعَانَتِهِ

مِنْ الْحِكْمَةِ ؛ لِكَوْنِ الْإِعَانَةِ قَدْ تَسْتَلْزِمُ مَا يُنَاقِضُ حِكْمَتَهُ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ الَّذِي خَلَقَهُ هُوَ يُبْغِضُهُ وَيَمْقُتُهُ كَمَا يَمْقُتُ مَا خَلَقَهُ مِنْ الْأَعْيَانِ الْخَبِيثَةِ كَالشَّيَاطِينِ وَالْخَبَائِثِ وَلَكِنَّهُ خَلَقَهَا لِحِكْمَةِ يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا . وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْعَبْدَ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ مَا لَا يُحِبُّهُ لِإِفْضَائِهِ إلَى مَا يُحِبُّهُ كَمَا يَشْرَبُ الْمَرِيضُ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ لِإِفْضَائِهِ إلَى مَا يُحِبُّهُ مِنْ الْعَافِيَةِ وَيَفْعَلُ مَا يَكْرَهُهُ مِنْ الْأَعْمَالِ لِإِفْضَائِهِ إلَى مَطْلُوبِهِ الْمَحْبُوبِ لَهُ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ الشَّيْءِ بَغِيضًا إلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا لَهُ لِحِكْمَةِ يُحِبُّهَا . وَكَذَلِكَ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ أَنْ يُحِبَّهُ إذَا كَانَ وَلَا يَفْعَلَهُ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ قَدْ يَسْتَلْزِمُ تَفْوِيتَ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْهُ أَوْ وُجُودَ مَا هُوَ أَبْغَضُ إلَيْهِ مِنْ عَدَمِهِ .
فَصْلٌ :
إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ : أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ كَيْفَ يَكُونُ الْعَبْدُ مُخْتَارًا لِأَفْعَالِهِ وَهُوَ مَجْبُورٌ عَلَيْهَا ؟ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَقُولُونَ : بِإِطْلَاقِ الْجَبْرِ وَنَفْيِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَاخْتِيَارِهِ وَتَأْثِيرِ قُدْرَتِهِ فِي الْفِعْلِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إطْلَاقَ " الْجَبْرِ " مِمَّا أَنْكَرَهُ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ : كالأوزاعي وَالزُّبَيْدِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ

وَغَيْرِهِمْ وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ أَطْلَقَهُ ؛ بَلْ مَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ أَطْلَقُوهُ فِي " مَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالْجَبْرِ " . وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ - لَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَلَا غَيْرُهُمْ : لَا مَالِكٌ وَلَا أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا الشَّافِعِيُّ وَلَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَلَا الأوزاعي وَلَا الثَّوْرِيُّ وَلَا اللَّيْثُ وَلَا أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ - إنَّ اللَّهَ يُكَلِّفُ الْعِبَادَ مَا لَا يُطِيقُونَهُ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ : إنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِفَاعِلِ لِفِعْلِهِ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ فَاعِلٌ مَجَازًا . وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ : إنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي فِعْلِهِ أَوْ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي كَسْبِهِ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ : إنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ قَادِرًا إلَّا حِينَ الْفِعْلِ وَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ عَلَى الْفِعْلِ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَهُ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُ عَلَى الْفِعْلِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ ، بَلْ نُصُوصُهُمْ مُسْتَفِيضَةٌ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ إثْبَاتِ اسْتِطَاعَةٍ لِغَيْرِ الْفَاعِلِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وقَوْله تَعَالَى { فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } { وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعِبَادَاتِ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى مُسْتَطِيعٍ وَأَنَّ الْمُسْتَطِيعَ يَكُونُ مُسْتَطِيعًا مَعَ مَعْصِيَتِهِ وَعَدَمِ فِعْلِهِ كَمَنْ اسْتَطَاعَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ

وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَلَمْ يَفْعَلْهُ فَإِنَّهُ مُسْتَطِيعٌ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ عَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ الَّذِي اسْتَطَاعَهُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ لَا عَلَى تَرْكِ مَا لَمْ يَسْتَطِعْهُ . وَصَرَّحُوا بِمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ سُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْفِعْلِ تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ حِينَ الْفِعْلِ مُسْتَطِيعًا أَيْضًا عِنْدَهُمْ فَهُوَ مُسْتَطِيعٌ عِنْدَهُمْ قَبْلَ الْفِعْلِ وَمَعَ الْفِعْلِ وَهُوَ حِينَ الْفِعْلِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا تَارِكًا فَلَا يَقُولُونَ : إنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا قَبْلَ الْفِعْلِ ، كَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَا بِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ كَقَوْلِ الْمُجَبِّرَةِ بَلْ يَكُونُ مُسْتَطِيعًا قَبْلَ الْفِعْلِ وَحِينَ الْفِعْلِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : الْعُلَمَاءُ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْعَبْدَ يَفْعَلُهَا قَسْرًا . يُقَالُ لَهُ : لَمْ يُصَرِّحْ بِهَذَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْمَشْهُورِينَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَكَابِرِ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَإِنَّمَا يُصَرِّحُ بِهَذَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ سَلَكُوا مَسْلَكَ جَهْمٍ وَمَنْ وَافَقَهُ وَلَيْسَ هُوَ لِأَهْلِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ بَلْ وَلَا جُمْهُورِهِمْ وَلَا أَئِمَّتِهِمْ بَلْ هُمْ عِنْدَ أَئِمَّةِ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ .

فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ النَّاظِمِ السَّائِلُ :
لِأَنَّهُمْ قَدْ صَرَّحُوا أَنَّهُ * * * عَلَى الْإِرَادَاتِ لَمَقْسُورُ
فَيُقَالُ لَهُ : الْقَسْرُ عَلَى الْإِرَادَةِ مِنْهُ . إذَا أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ جَعَلَهُ مُرِيدًا فَهَذَا حَقٌّ لَكِنَّ تَسْمِيَةَ مِثْلِ هَذَا قَسْرًا وَإِكْرَاهًا وَجَبْرًا تَنَاقُضٌ لَفْظًا وَمَعْنًى فَإِنَّ الْمَقْسُورَ الْمُكْرَهَ الْمَجْبُورَ لَا يَكُونُ مُرِيدًا مُخْتَارًا مُحِبًّا رَاضِيًا وَاَلَّذِي جُعِلَ مُخْتَارًا مُحِبًّا رَاضِيًا لَا يُقَالُ إنَّهُ مَقْسُورٌ مُكْرَهٌ مَجْبُورٌ . وَإِذَا قِيلَ : الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ جُعِلَ مُرِيدًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ بِدُونِ إرَادَةٍ مِنْهُ مُتَقَدِّمَةٍ اخْتَارَ بِهَا أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا . قِيلَ لَهُمْ : هَذَا الْمَعْنَى حَقٌّ سَوَاءٌ سُمِّيَ قَسْرًا أَوْ لَمْ يُسَمَّ . وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُنَاقِضُ كَوْنَهُ مُخْتَارًا فَإِنَّ مَنْ جُعِلَ مُرِيدًا مُخْتَارًا قَدْ أُثْبِتَ لَهُ الْإِرَادَةُ وَالِاخْتِيَارُ وَالشَّيْءُ لَا يُنَاقِضُ ذَاتَهُ وَلَا مُلَازِمَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ كَيْفَ يَكُونُ الْمُخْتَارُ قَدْ جُعِلَ مُخْتَارًا وَالْمُرِيدُ جُعِلَ مُرِيدًا . وَإِذَا قِيلَ : يُخَيَّرُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا . قِيلَ : مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ

مُخْتَارًا بِغَيْرِ إرَادَةٍ مِنْهُ سَابِقَةٍ لِأَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا كَمَا جَعَلَهُ قَادِرًا وَجَعَلَهُ عَالِمًا وَجَعَلَهُ حَيًّا وَجَعَلَهُ أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ وَطَوِيلًا وَقَصِيرًا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ إذَا جَعَلَهُ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ لَمْ يُنَاقِضْ ذَلِكَ اتِّصَافَهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَإِنَّ اللَّهَ إذَا جَعَلَهُ عَلَى صِفَةٍ كَانَ كَوْنُهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ ؛ لِأَنَّ مَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ ؛ فَإِنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَإِذَا كَانَ كَوْنُهُ مُخْتَارًا وَعَالِمًا وَقَادِرًا أَمْرًا مُلَازِمًا لِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَجَعْلِهِ والمتلازمان لَا يُنَاقِضُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بَلْ يُجَامِعُهُ وَلَا يُفَارِقُهُ فَيَكُونُ اخْتِيَارُ الْعَبْدِ مَعَ إطْلَاقِ الْجَبْرِ الَّذِي يَعْنِي بِهِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ مُخْتَارًا أَمْرَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ لَا أَمْرَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ وَلَا عَجَبَ مِنْ اجْتِمَاعِ الْمُتَلَازِمَيْنِ إنَّمَا الْعَجَبُ مِنْ تَنَاقُضِهِمَا .
فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ :
لِأَنَّهُمْ قَدْ صَرَّحُوا أَنَّهُ * * * عَلَى الْإِرَادَاتِ لَمَقْسُورُ
وَلَمْ يَكُنْ فَاعِلٌ أَفْعَالَهُ * * * حَقِيقَةً وَالْحُكْمُ مَشْهُورٌ
فَيُقَالُ لَهُ : الْمُصَرِّحُ بِأَنَّهُ غَيْرُ فَاعِلٍ حَقِيقَةً هُمْ الْجَهْمِيَّة : أَتْبَاعُ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهَذَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ

بِإِحْسَانِ وَلَا أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ : لَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَلَا غَيْرُهُمْ بَلْ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِلَفْظِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَاتَّبَعُوا السَّلَفَ فِي هَذَا الْأَصْلِ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ فَاعِلٌ حَقِيقَةً كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ أَئِمَّةُ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ - أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ - وَكُتُبُهُمْ مَشْحُونَةٌ بِذَلِكَ . وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : إنَّهُ فَاعِلٌ مَجَازًا ؛ وَقَالُوا : إنَّ الْفِعْلَ لَا يَقُومُ بِالْفَاعِلِ بَلْ الْفِعْلُ هُوَ الْمَفْعُولُ فَهَؤُلَاءِ يَلْزَمُهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ فَاعِلٌ لَا الرَّبُّ وَلَا الْعَبْدُ أَمَّا الْعَبْدُ . فَإِنَّهَا وَإِنْ قَامَتْ بِهِ الْأَفْعَالُ فَإِنَّهُ غَيْرُ فَاعِلٍ لَهَا عِنْدَهُمْ . وَأَمَّا الرَّبُّ فَعِنْدَهُمْ لَمْ يَقُمْ بِهِ فِعْلٌ لَا هَذِهِ وَلَا غَيْرُهَا وَالْفَاعِلُ الْمَعْقُولُ مَنْ قَامَ بِهِ الْفِعْلُ كَمَا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ الْمَعْقُولَ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ وَالْمُرِيدُ الْمَعْقُولُ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ وَالْحَيُّ وَالْعَالِمُ وَالْقَادِرُ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْمُتَحَرِّكُ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَرَكَةُ ؛ فَإِثْبَاتُ هَؤُلَاءِ فَاعِلًا لَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ كَإِثْبَاتِ مُتَقَدِّمِيهِمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ مُتَكَلِّمًا لَا يَقُومُ بِهِ كَلَامٌ ؛ وَمُرِيدًا لَا تَقُومُ بِهِ إرَادَةٌ وَعَالِمًا لَا يَقُومُ بِهِ عِلْمٌ ؛ وَقَادِرًا لَا تَقُومُ بِهِ قُدْرَةٌ ؛ وَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ كَمَا قَرَّرُوهُ فِي مَسْأَلَةِ " كَلَامِ اللَّهِ " ؛ وَإِثْبَاتِ " صِفَاتِهِ " كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . فَإِنَّ الْأَصْلَ الَّذِي وَافَقُوا بِهِ أَئِمَّةَ السُّنَّةِ وَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ هُوَ : أَنَّ الْمَعْنَى إذَا قَامَ بِمَحَلِّ عَادَ حُكْمُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ ؛ وَاشْتُقَّ لِذَلِكَ الْمَحَلِّ مِنْهُ اسْمٌ ؛ وَلَمْ يُشْتَقَّ لِغَيْرِهِ مِنْهُ اسْمٌ وَعَادَ حُكْمُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ ؛ وَلَمْ يَعُدْ عَلَى غَيْرِهِ ؛ كَمَا أَنَّ الْحَرَكَةَ وَالسَّوَادَ وَالْبَيَاضَ وَالْحَرَارَةَ وَالْبُرُودَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحَلِّ كَانَ هُوَ

الْمُتَحَرِّكَ الْأَسْوَدَ الْأَبْيَضَ الْحَارَّ الْبَارِدَ دُونَ غَيْرِهِ . قَالُوا : فَكَذَلِكَ الْكَلَامُ وَالْإِرَادَةُ إذَا قَامَا بِمَحَلِّ كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ الْمُرِيدَ دُونَ غَيْرِهِ . قَالُوا : فَلَا يَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ مُتَكَلِّمًا إلَّا بِكَلَامِ يَقُومُ بِهِ ؛ وَلَا مُرِيدًا إلَّا بِإِرَادَةِ تَقُومُ بِهِ ؛ وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إلَّا بِحَيَاةِ وَعِلْمٍ وَقُدْرَةٍ تَقُومُ بِهِ ؛ وَطَرْدُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ فَاعِلًا إلَّا بِفِعْلِ يَقُومُ بِهِ . وَلِهَذَا { اسْتَعَاذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ وَذَاتِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ ؛ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ ؛ وَبِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ } . وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْأَئِمَّةُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ ؛ قَالُوا : لِأَنَّهُ اسْتَعَاذَ بِهِ وَلَا يُسْتَعَاذُ بِمَخْلُوقِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : وَمِنْ هُنَا لَمْ يَكُنْ لِلْفِعْلِ فِي * * * مَا يَلْحَقُ الْفَاعِلَ تَأْثِيرٌ
فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ : أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْفِعْلِ فِيمَا يَلْحَقُ الْفَاعِلَ مِنْ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ؛ فَهَذَا إنَّمَا يَقُولُهُ مُنْكِرُو الْأَسْبَابِ ؛ كَجَهْمِ وَمَنْ

وَافَقَهُ ؛ وَإِلَّا فَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى إثْبَاتِ الْأَسْبَابِ وَالْحُكْمِ : خَلْقًا وَأَمْرًا . فَفِي " الْأَمْرِ " مِثْلَ مَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ ؛ الْأَسْبَابُ الْمُثْبِتَةُ لِلْإِرْثِ " ثَلَاثَةٌ " : نَسَبٌ وَنِكَاحٌ وَوَلَاءُ عِتْقٍ ؛ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُحَالَفَةِ ؛ وَالْإِسْلَامِ عَلَى يَدَيْهِ وَكَوْنِهِمَا مَنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ ؛ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْإِرْثِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَجْعَلُهُ سَبَبًا : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ . وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ . وَمِثْلُ مَا يَقُولُونَ : مِلْكُ النِّصَابِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ الْمَحْضُ سَبَبٌ لِلْقَوَدِ ؛ وَالسَّرِقَةُ سَبَبٌ لِلْقَطْعِ . وَمَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ السَّبَبَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي مُسَبَّبِهِ لَيْسَ عَلَامَةً مَحْضَةً وَإِنَّمَا يَقُولُ : إنَّهُ عَلَامَةٌ مَحْضَةٌ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ بَنَوْا عَلَى قَوْلِ جَهْمٍ ؛ وَقَدْ يُطْلَقُ مَا يُطْلِقُونَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَجُمْهُورُ مَنْ يُطْلِقُ ذَلِكَ مِنْ الْفُقَهَاءِ يَتَنَاقَضُونَ . تَارَةً يَقُولُونَ : بِقَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَتَارَةً يَقُولُونَ : بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ . وَكَذَلِكَ الْحِكْمَةُ وَشَرْعُ الْأَحْكَامِ لِلْحُكْمِ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ مَعَ السَّلَفِ . وَكَذَلِكَ الْحِكْمَةُ فِي " الْخَلْقِ " وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِذَلِكَ فِي " الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ "

وَمَمْلُوءٌ بِأَنَّهُ يَخْلُقُ الْأَشْيَاءَ بِالْأَسْبَابِ لَا كَمَا يَقُولُهُ أَتْبَاعُ جَهْمٍ إنَّهُ يَفْعَلُ عِنْدَهَا لَا بِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } وَقَوْلِهِ : { وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ } { وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ } { رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا } وَقَوْلِهِ : { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } وَقَوْلِهِ : { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } وَقَوْلِهِ : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَمَّا دُخُولُ لَامِ كَيْ فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ فَكَثِيرٌ جِدًّا وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَقَدْ بَسَطَ حُجَجَ نفاة الْحِكْمَةِ وَالتَّعْلِيلِ الْعَقْلِيَّةَ وَالشَّرْعِيَّةَ وَبَيَّنَ فَسَادَهَا كَمَا بَيَّنَ فَسَادَ حُجَجِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ . وَحِينَئِذٍ فَالْأَفْعَالُ سَبَبٌ لِلْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ . وَالْفُقَهَاءُ الْمُثْبِتُونَ لِلْأَسْبَابِ وَالْحُكْمِ قَسَّمُوا خِطَابَ الشَّرْعِ وَأَحْكَامَهُ إلَى " قِسْمَيْنِ " خِطَابَ تَكْلِيفٍ وَخِطَابَ وَضْعٍ وَإِخْبَارٍ كَجَعْلِ الشَّيْءِ سَبَبًا وَشَرْطًا وَمَانِعًا فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ نفاة ذَلِكَ ؛ بِأَنَّكُمْ إنْ أَرَدْتُمْ بِكَوْنِ الشَّيْءِ

سَبَبًا أَنَّ الْحُكْمَ يُوجَدُ إذَا وُجِدَ فَلَيْسَ هُنَا حُكْمٌ آخَرُ وَإِنْ أَرَدْتُمْ مَعْنًى آخَرَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ . وَجَوَابُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْأَسْبَابَ تَضَمَّنَتْ صِفَاتٍ مُنَاسِبَةً لِلْحُكْمِ شُرِعَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهَا وَشُرِعَ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْحِكْمَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } الْآيَةَ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا الَّذِينَ قَالُوا لَا تَأْثِيرَ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فِي أَفْعَالِهِ هُمْ هَؤُلَاءِ أَتْبَاعُ جَهْمٍ نفاة الْأَسْبَابِ ؛ وَإِلَّا فَاَلَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَأَتْبَاعُهُمْ وَأَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْمُثْبِتُونَ لِلْقَدَرِ الْمُخَالِفُونَ لِلْمُعْتَزِلَةِ إثْبَاتَ الْأَسْبَابِ وَأَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ مَعَ فِعْلِهِ لَهَا تَأْثِيرٌ كَتَأْثِيرِ سَائِرِ الْأَسْبَابِ فِي مُسَبَّبَاتِهَا ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْأَسْبَابَ وَالْمُسَبَّبَاتِ . وَالْأَسْبَابُ لَيْسَتْ مُسْتَقِلَّةً بِالْمُسَبَّبَاتِ ؛ بَلْ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ أَسْبَابٍ أُخَرَ تُعَاوِنُهَا وَلَهَا - مَعَ ذَلِكَ - أَضْدَادٌ تُمَانِعُهَا وَالْمُسَبَّبُ لَا يَكُونُ حَتَّى يَخْلُقَ اللَّهُ جَمِيعَ أَسْبَابِهِ وَيَدْفَعَ عَنْهُ أَضْدَادَهُ الْمُعَارِضَةَ لَهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ جَمِيعَ ذَلِكَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَمَا يَخْلُقُ سَائِرَ الْمَخْلُوقَاتِ فَقُدْرَةُ الْعَبْدِ سَبَبٌ مِنْ الْأَسْبَابِ وَفِعْلُ الْعَبْدِ لَا يَكُونُ بِهَا وَحْدَهَا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ . وَإِذَا أُرِيدَ بِالْقُدْرَةِ الْقُوَّةُ الْقَائِمَةُ بِالْإِنْسَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ إزَالَةِ الْمَوَانِعِ كَإِزَالَةِ

الْقَيْدِ وَالْحَبْسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالصَّادِّ عَنْ السَّبِيلِ كَالْعَدُوِّ وَغَيْرِهِ .
فَصْلٌ :
وقَوْله تَعَالَى { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِفَاعِلِ لِفِعْلِهِ الِاخْتِيَارِيِّ وَلَا أَنَّهُ لَيْسَ بِقَادِرِ عَلَيْهِ وَلَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرِيدِ ؛ بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشَاؤُهُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَهَذِهِ الْآيَةُ رَدٌّ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ : الْمُجْبِرَةِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ الْقَدَرِيَّةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } فَأَثْبَتَ لِلْعَبْدِ مَشِيئَةً وَفِعْلًا ثُمَّ قَالَ : { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } فَبَيَّنَ أَنَّ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ مُعَلَّقَةٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ . وَالْأُولَى رَدٌّ " عَلَى الْجَبْرِيَّةِ وَهَذِهِ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : قَدْ يَشَاءُ الْعَبْدُ مَا لَا يَشَاؤُهُ اللَّهُ كَمَا يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ يَشَاءُ مَا لَا يَشَاءُونَ . وَإِذَا قَالُوا : الْمُرَادُ بِالْمَشِيئَةِ هُنَا الْأَمْرُ عَلَى أَصْلِهِمْ وَالْمَعْنَى وَمَا يَشَاءُونَ فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ إنْ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ . قِيلَ : سِيَاقُ الْآيَةِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ هَذَا ؛ بَلْ الْمُرَادُ وَمَا تَشَاءُونَ بَعْدَ أَنْ أُمِرْتُمْ بِالْفِعْلِ أَنْ تَفْعَلُوهُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فَإِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلًا } { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } . وَقَوْلُهُ : { وَمَا تَشَاءُونَ } نَفْيٌ لِمَشِيئَتِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ }

تَعْلِيقٌ لَهَا بِمَشِيئَةِ الرَّبِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّ حَرْفَ ( أَنْ ) تُخَلِّصُ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ لِلِاسْتِقْبَالِ فَالْمَعْنَى : إلَّا أَنْ يَشَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْأَمْرُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا كَقَوْلِ الْإِنْسَانِ : لَا أَفْعَلُ هَذَا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ، وَقَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ فَقَالَ : لَأُصَلِّيَنَّ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ لَأَقْضِيَنَّ دَيْنِي غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَمَضَى الْغَدُ وَلَمْ يَقْضِهِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَلَوْ كَانَتْ الْمَشِيئَةُ هِيَ الْأَمْرَ لَحَنِثَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَلَيْسَ لَهُمْ عَنْهُ جَوَابٌ وَلِهَذَا خَرَقَ بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ الْقَدِيمَ وَقَالَ إنَّهُ يَحْنَثُ .
وَ أَيْضًا فَقَوْلُهُ : { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } سِيقَ لِبَيَانِ مَدْحِ الرَّبِّ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِبَيَانِ قُدْرَتِهِ وَبَيَانِ حَاجَةِ الْعِبَادِ إلَيْهِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ لَا تَفْعَلُونَ إلَّا أَنْ يَأْمُرَكُمْ لَكَانَ كُلُّ أَمْرٍ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الرَّبِّ الَّتِي يُمْدَحُ بِهَا وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ إلَّا بِأَمْرِهِ كَانَ هَذَا مَدْحًا لَهُمْ ؛ لَا لَهُ .

فَصْلٌ :
وَقَوْلُهُ : وَكُلِّ شَيْءٍ ثُمَّ لَوْ سَلِمَتْ * * * لَمْ يَكُ لِلْخَالِقِ تَقْدِيرُ
إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَوْ سَلِمَ أَنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ أَفْعَالَهُ حَقِيقَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ لَزِمَ نَفْيُ التَّقْدِيرِ فَهَذَا التَّلَازُمُ مَمْنُوعٌ . وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَوْ سَلِمَ أَنْ يَشَاءَ مَا لَمْ يَشَأْ اللَّهُ لَزِمَ انْتِفَاءُ مَشِيئَةِ اللَّهِ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ بَلْ يَلْزَمُ انْتِفَاءُ مَشِيئَتِهِ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ كُلِّهَا كَمَا يَلْزَمُ انْتِفَاءُ قُدْرَتِهِ عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ كُلِّهَا وَانْتِفَاءُ خَلْقِهِ لِشَيْءِ مِنْهَا وَفِي ذَلِكَ نَفْيُ هَذَا التَّقْدِيرِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْخَلْقِ . وَأَمَّا التَّقْدِيرُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى تَقْدِيرِهَا فِي نَفْسِهِ وَعِلْمِهِ بِهَا وَخَبَرِهِ عَنْهَا وَكِتَابَتِهِ لَهَا فَهَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ لُزُومًا بَيِّنًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُنْكِرُ الْعِلْمَ الْمُتَقَدِّمَ وَجُمْهُورُ الْقَدَرِيَّةِ لَا تُنْكِرُهُ لَكِنْ إذَا جَوَّزُوا حُدُوثَ حَوَادِثَ كَثِيرَةٍ بِدُونِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ أَثْبَتُوا فِي الْعَالَمِ حَوَادِثَ كَثِيرَةً يُحْدِثُهَا غَيْرُهُ وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى إحْدَاثِهَا وَحِينَئِذٍ فَلَا يُمْكِنُهُمْ الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ }

عَلَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَخْلُقْهَا عِنْدَهُمْ ؛ فَقَدْ يُنَازِعُهُمْ إخْوَانُهُمْ الْقَدَرِيَّةُ فِي عِلْمِهِ بِهَا قَبْلَ أَنْ تَكُونَ وَلَا يُمْكِنُهُمْ الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَدْ يَقُولُونَ عِلْمُهُ بِهَا مَعَ أَمْرِهِ بِخِلَافِ الْمَعْلُومِ يَقْتَضِي تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ لِأَنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ مُمْتَنِعٌ فَلَا يَكُونُ عَالِمًا بِهَا فَيُلْزِمُونَهُمْ بِنَفْيِ التَّقْدِيرِ السَّابِقِ .
فَصْلٌ :
وَقَوْلُهُ :
أَوْ كَانَ فَاللَّازِمُ مِنْ كَوْنِهِ * * * حُدُوثُهُ وَالْقَوْلُ مَهْجُورُ
كَأَنَّهُ يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَوْ كَانَ اللَّهُ مُقَدِّرًا لَهَا عَالِمًا بِهَا فَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ عَالِمًا بِهَا مُقَدِّرًا لَهَا بَعْدَ أَنْ تَكُونَ حُدُوثُ الْعِلْمِ بِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الرَّبُّ عَالِمًا بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَلَا مُقَدِّرًا لَهَا حَتَّى فُعِلَتْ وَهَذَا الْقَوْلُ مَهْجُورٌ بَاطِلٌ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَى بُطْلَانِهِ سَلَفُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ كَفَّرُوا مَنْ قَالَهُ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَعَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ تُبَيِّنُ فَسَادَهُ . فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ عَمَّا يَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ بَلْ أَعْلَمَ بِذَلِكَ مَنْ شَاءَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَغَيْرِ مَلَائِكَتِهِ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ

لِلْمَلَائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَالْمَلَائِكَةُ حَكَمُوا بِأَنَّ الْآدَمِيِّينَ يُفْسِدُونَ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْإِنْسَ وَلَا عِلْمَ لَهُمْ إلَّا مَا عَلَّمَهُمْ اللَّهُ ؛ كَمَا قَالُوا : { لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } ثُمَّ قَالَ : { إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَتَضَمَّنَ هَذَا مَا يَكُونُ فِيمَا بَعْدُ مِنْ آدَمَ وَإِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِمَا وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ . وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ آدَمَ يَخْرُجُ مِنْ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ لَوْلَا خُرُوجُهُ مِنْ الْجَنَّةِ لَمْ يَصِرْ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَسْكُنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَأْكُلَ مِنْ الشَّجَرَةِ بِقَوْلِهِ : { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَقُلْنَا يَا آدَمُ إنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى } { إنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى } { وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى } نَهَاهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَهُوَ نَهْيٌ عَنْ طَاعَةِ إبْلِيسَ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْخُرُوجِ وَقَدْ عَلِمَ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَنَّهُ إنَّمَا يَخْرُجُ مِنْهَا بِسَبَبِ طَاعَتِهِ إبْلِيسَ وَأَكْلِهِ مِنْ الشَّجَرَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ : { إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } . وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : إنَّهُ قَدَّرَ خُرُوجَهُ مِنْ الْجَنَّةِ قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِدُخُولِهَا بِقَوْلِهِ : { إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } وَقَالَ بَعْدَ هَذَا : { وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ }

وَقَالَ تَعَالَى : { قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ } { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } وَهَذَا خَبَرٌ عَمَّا سَيَكُونُ مِنْ عَدَاوَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ } وَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ وَأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ . وَقَالَ تَعَالَى : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } وَقَالَ : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } وَهَذَا قَسَمٌ مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْبَارُّ فِي قَسَمِهِ وَصِدْقُهُ مُسْتَلْزِمٌ لِعِلْمِهِ بِمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ ؛ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ . وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ ؛ إذْ لَوْ كَانَتْ أَفْعَالُهُمْ غَيْرَ مَقْدُورَةٍ لَهُ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَمْلَأَ جَهَنَّمَ بَلْ كَانَ ذَلِكَ إلَيْهِمْ إنْ شَاءُوا عَصَوْهُ فَمَلَأَهَا ؛ وَإِنْ شَاءُوا أَطَاعُوهُ فَلَمْ يَمْلَأْهَا . لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : إنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَعْصُونَهُ فَأَقْسَمَ عَلَى جَزَائِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ يُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ عِلْمَهُ بِالْمُسْتَقْبَلِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْزِمٌ لِخَلْقِهِ لَهُ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَسْتَفِيدُ الْعِلْمَ مِنْ غَيْرِهِ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ وَلَكِنَّ عِلْمَهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ ؛ فَلَوْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ خَارِجَةً عَنْ مَقْدُورِهِ وَمُرَادِهِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَعْلَمَهَا كَمَا يَعْلَمُ مَخْلُوقَاتُهُ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .

وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ } وَهَذَا خَبَرٌ عَمَّا سَيَكُونُ مِنْهُمْ مِنْ الذُّنُوبِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلُوهَا . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ دُعَاءِ مَنْ يَدْعُوهُمْ إلَى جِهَادِ هَؤُلَاءِ ؛ وَدُعَاؤُهُ لَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . بَلْ الْعِلْمُ بِالْمُسْتَقْبَلِ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ يَحْصُلُ لِآحَادِ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ حَاصِلًا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا سَيَكُونُ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ مِنْ أُمَّتِهِ وَغَيْرِ أُمَّتِهِ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ كَإِخْبَارِهِ بِأَنَّ ابْنَهُ الْحَسَنَ يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّهُ تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُمْ أُولَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّ قَوْمًا يَرْتَدُّونَ بَعْدَهُ عَلَى أَعْقَابِهِمْ ؛ وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّ خِلَافَةَ النُّبُوَّةِ تَكُونُ ثَلَاثِينَ سَنَةً ثُمَّ تَصِيرُ مُلْكًا ؛ وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّ الْجَبَلَ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدٌ ؛ وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ شُهَدَاءَ وَإِخْبَارُهُ يَوْمَ بَدْرٍ بِقَتْلِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلُوا وَإِخْبَارُهُ بِخُرُوجِ الدَّجَّالِ وَنُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شرقي دِمَشْقَ وَقَتْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ عَلَى بَابِ لُدٍّ . وَإِخْبَارُهُ بِخُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ؛ وَإِخْبَارُهُ بِخُرُوجِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { يَخْرُجُ مِنْ ضئضئ هَذَا قَوْمٌ يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ

مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمْيَةِ آيَتُهُمْ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا مُخَدَّجَ الْيَدِ عَلَى يَدِهِ مِثْلُ الْبِضْعَةِ مِنْ اللَّحْمِ تدردر } وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ لَمَّا قَاتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بالنهروان وَوُجِدَ هَذَا الشَّخْصُ كَمَا وَصَفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِخْبَارُهُ بِقِتَالِ التُّرْكِ وَصِفَتُهُمْ حَيْثُ قَالَ : { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ صِغَارَ الْأَعْيُنِ حُمْرَ الْخُدُودِ دُلُفَ الْأَنْفِ يَنْتَعِلُونَ الشَّعْرَ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمِطْرَقَةُ } وَقَدْ قَاتَلَ الْمُسْلِمُونَ هَؤُلَاءِ التُّرْكَ وَغَيْرَهُمْ لَمَّا ظَهَرُوا وَمِثْلُ هَذَا مِنْ أَخْبَارِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ وَهُوَ إنَّمَا يَعْلَمُ مَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا كَانَ هُوَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا يَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ فَكَيْفَ الَّذِي خَلَقَهُ وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُحِيطُ أَحَدٌ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ - لَا نَبِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ - إلَّا مَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى : إنَّنِي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ وَلَمَّا نَقَرَ الْعُصْفُورُ فِي الْبَحْرِ قَالَ لَهُ : مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إلَّا كَمَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْقَائِلُ فِي حَقِّ مُوسَى : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ } . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ نَفْيَ عِلْمِ اللَّهِ بِالْحَوَادِثِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا قَبْلَ أَنْ تَكُونَ بَاطِلٌ وَغُلَاةُ الْقَدَرِيَّةِ يَنْفُونَ ذَلِكَ .

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } . وَقَوْلُهُ : { لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا } وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْلُومِ بَعْدَ وُجُودِهِ ، وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ وَمُجَرَّدُ ذَلِكَ الْعِلْمِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَدْحٌ وَلَا ذَمٌّ وَلَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ وُجُودِ الْأَفْعَالِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا : لِنَرَى . وَكَذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ قَالُوا : لِنَعْلَمَهُ مَوْجُودًا بَعْدَ أَنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَكُونُ وَهَذَا الْمُتَجَدِّدُ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلنُّظَّارِ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْمُتَجَدِّدُ هُوَ نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَعْلُومِ فَقَطْ وَتِلْكَ نِسْبَةٌ عَدَمِيَّةٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ الْمُتَجَدِّدُ عِلْمٌ بِكَوْنِ الشَّيْءِ وَوُجُودِهِ وَهَذَا الْعِلْمُ غَيْرُ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } فَقَدْ أَخْبَرَ بِتَجَدُّدِ الرُّؤْيَةِ فَقِيلَ نِسْبَةٌ عَدَمِيَّةٌ وَقِيلَ الْمُتَجَدِّدُ أَمْرٌ ثُبُوتِيٌّ . وَالْكَلَامُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَمَنْ قَالَ هَذَا وَهَذَا وَحُجَجُ الْفَرِيقَيْنِ قَدْ بُسِطَتْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَعَامَّةُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمُتَجَدِّدَ أَمْرٌ ثُبُوتِيٌّ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَهَذَا مِمَّا هَجَرَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ الْحَارِثَ الْمُحَاسِبِيَّ عَلَى نَفْيِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ

بِقَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ فَرَّ مِنْ تَجَدُّدِ أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ وَقَالَ بِلَوَازِمِ ذَلِكَ ، فَخَالَفَ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ مَا أَوْجَبَ ظُهُورَ بِدْعَةٍ اقْتَضَتْ أَنْ يَهْجُرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَيُحَذِّرَ مِنْهُ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْحَارِثَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ . والمتأخرون مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلِ وَأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَةَ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَةَ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ ؛ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ تَقَدُّمَ عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابَتِهِ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ حَقٌّ وَالْقَوْلُ بِحُدُوثِ ذَلِكَ قَوْلٌ مَهْجُورٌ كَمَا قَالَهُ النَّاظِمُ إنْ كَانَ قَدْ أَرَادَ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُنَافِي أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ فَإِنَّ كَوْنَهُ خَالِقًا لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ لَا يُنَافِي الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ . فَكَيْفَ الْعِلْمُ الْمُتَقَدِّمُ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْعَبْدِ مَجْبُورًا لَا قُدْرَةَ لَهُ وَلَا فِعْلَ كَمَا تَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة الْمُجْبِرَةُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُهُ :
وَلَا يُقَالُ عِلْمُ اللَّهِ مَا يُخْتَارُ * * * فَالْمُخْتَارُ مَسْطُورُ

فَهُوَ يَتَضَمَّنُ إيرَادَ سُؤَالٍ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ . وَجَوَابَهُ مِنْهُمْ : فَإِنَّهُمْ قَدْ يَقُولُونَ : نَحْنُ نَقُولُ : إنَّهُ يَعْلَمُ وَإِذَا قُلْنَا ذَلِكَ لَمْ نَكُنْ قَدْ نَفَيْنَا الْقَدَرَ بَلْ أَثْبَتْنَا الْقَدَرَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ مَعَ نَفْيِ كَوْنِ الرَّبِّ تَعَالَى شَائِيًا جَمِيعَ الْحَوَادِثِ خَالِقًا لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ قَالَ النَّاظِمُ فَإِنَّ الَّذِي يَخْتَارُهُ الْعَبْدُ مَسْطُورٌ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ بِغَيْرِهِ فَيَلْزَمُ الْجَبْرُ . وَقَدْ يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ بِأَنْ يُقَالَ : اللَّازِمُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الْمَلْزُومِ ، فَإِنَّ عِلْمَهُ بِأَنَّهُ يَخْتَارُهُ مُوَافِقٌ لِمَا كَتَبَهُ مِنْ أَنَّهُ يَخْتَارُهُ وَتَغْيِيرُ الْعِلْمِ أَعْظَمُ مِنْ تَغْيِيرِ الْمَسْطُورِ . وَقَدْ يُقَالُ : إنَّهُ أَرَادَ جَعْلَ السَّطْرِ مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ أَيْ لَا يُقَالُ عَلِمَ مَا يَخْتَارُهُ وَسَطَّرَ ذَلِكَ . أَيْ فَتَقَدُّمُ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ كَافٍ فِي الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ ذَلِكَ لَا يَكْفِي فِي الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ وَهَذَا مِنْ حُجَّةِ الْقَائِلِينَ بِالْجَبْرِ . قَالُوا : خِلَافُ الْمَعْلُومِ مُمْتَنِعٌ ؛ فَالْأَمْرُ بِهِ أَمْرٌ بِمُمْتَنِعِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الْمَأْمُورُ لَلَزِمَ انْقِلَابُ الْعِلْمِ جَهْلًا . وَجَوَابُهُمْ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ لَفْظٌ مُجْمَلٌ فَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ لَا يَقَعُ وَلَا يَكُونُ فَهَذَا صَحِيحٌ وَلَكِنَّ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يَكُونُ لَا يَكُونُ تَكْلِيفًا بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْفَاعِلُ فَإِنَّ مَا لَا يَفْعَلُهُ الْفَاعِلُ قَدْ لَا يَفْعَلُهُ لِعَجْزِهِ عَنْهُ وَقَدْ لَا يَفْعَلُهُ لِعَدَمِ إرَادَتِهِ فَإِنَّمَا كُلِّفَ بِمَا يُطِيقُهُ مَعَ عِلْمِ الرَّبِّ

أَنَّهُ لَا يَكُونُ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ مَا لَا يَشَاؤُهُ هُوَ لَا يَكُونُ مَعَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَفَعَلَهُ . وَقَوْلُ الْمُحْتَجِّ : لَوْ وَقَعَ لَانْقَلَبَ الْعِلْمُ جَهْلًا . قِيلَ : هَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ عَاجِزٌ عَنْهُ لَوْ أَرَادَهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى فِعْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ لِعَدَمِ إرَادَتِهِ لَهُ لَا لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ ؛ كَاَلَّذِي لَا يَقَعُ مِنْ مَقْدُورَاتِ الرَّبِّ الَّتِي لَوْ شَاءَ لَفَعَلَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهَا . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهَا كَمَا قَالَهُ بَعْضُ غُلَاةِ أَهْلِ الْبِدَعِ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ } { بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا } مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعُوذُ بِوَجْهِكَ { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قَالَ : أَعُوذُ بِوَجْهِكَ { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قَالَ : هَاتَانِ أَهْوَنُ } . فَهَذَا الَّذِي أَخْبَرَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ مِنْهُ مَا لَا يَكُونُ وَهُوَ إرْسَالُ عَذَابٍ مِنْ فَوْقِ الْأُمَّةِ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ . وَمِنْهُ مَا يَكُونُ وَهُوَ لَبْسُهُمْ شِيَعًا وَإِذَاقَةُ بَعْضِهِمْ بَأْسَ بَعْضٍ ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ

عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً ؛ سَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَعْطَانِيهَا ؛ وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَهُمْ بِسَنَةِ عَامَّةٍ فَأَعْطَانِيهَا ؛ وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا } . وَقَدْ ذَكَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ مَا لَا يَكُونُ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَفَعَلَهُ كَقَوْلِهِ : { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } وَقَوْلِهِ : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } وَقَوْلِهِ : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً } وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْآيَاتِ تُبَيِّنُ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يَفْعَلَ أُمُورًا لَمْ تَكُنْ لَفَعَلَهَا ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ؛ فَإِنَّهُ لَوْلَا قُدْرَتُهُ عَلَيْهِ لَكَانَ إذَا شَاءَ لَا يَفْعَلُهُ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ إلَّا بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَخْبَرَ وَهُوَ الصَّادِقُ فِي خَبَرِهِ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَفَعَلَهُ عُلِمَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَإِنْ عَلِمَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ؛ وَعَلِمَ أَيْضًا أَنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ قَدْ يَكُونُ مَقْدُورًا . وَإِذَا قِيلَ هُوَ مُمْتَنِعٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُمْتَنِعِ لِعَدَمِ مَشِيئَةِ الرَّبِّ لَهُ لَا لِكَوْنِهِ مُمْتَنِعًا فِي نَفْسِهِ وَلَا لِكَوْنِهِ مَعْجُوزًا عَنْهُ . وَلَفْظُ " الْمُمْتَنِعِ " فِيهِ إجْمَالٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَمَا سُمِّيَ مُمْتَنِعًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَعَ

أَنَّهُ لَوْ شَاءَ الْعَبْدُ لَفَعَلَهُ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ فَهَذَا يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ بِلَا نِزَاعٍ ؛ وَإِنْ سَمَّاهُ بَعْضُهُمْ بِمَا لَا يُطَاقُ فَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ ؛ وَنِزَاعٌ فِي أَنَّ الْقُدْرَةَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّمَ الْفِعْلَ أَمْ لَا ؟
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُهُ :
وَالْجَبْرُ إنْ صَحَّ يَكُنْ مُكْرَهًا * * * وَعِنْدَكَ الْمُكْرَهُ مَعْذُورُ
فَيُقَالُ : قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى " الْجَبْرِ " ؛ وَأَنَّ الْجَبْرَ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْإِكْرَاهُ كَمَا يَجْبُرُ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ وَيُكْرِهُهُ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِ ؛ فَاَللَّهُ تَعَالَى أَجَلُّ وَأَعْلَى وَأَقْدَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى مِثْلِ هَذَا الْجَبْرِ وَالْإِكْرَاهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ مِنْ عَاجِزٍ يَعْجِزُ عَنْ جَعْلِ غَيْرِهِ مُرِيدًا لِفِعْلِهِ مُخْتَارًا لَهُ مُحِبًّا لَهُ رَاضِيًا بِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَجْعَلَ الْعَبْدَ مُحِبًّا لِمَا يَفْعَلُهُ ؛ مُخْتَارًا لَهُ جَعَلَهُ كَذَلِكَ ؛ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهُ مُرِيدًا لَهُ بِلَا مَحَبَّةٍ بَلْ مَعَ كَرَاهَةٍ فَيَفْعَلُهُ كَارِهًا لَهُ جَعَلَهُ كَذَلِكَ . وَلَيْسَ هَذَا كَإِكْرَاهِ الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ ؛ فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَجْعَلَ فِي قَلْبِ غَيْرِهِ لَا إرَادَةً وَحُبًّا وَلَا كَرَاهَةً وَبُغْضًا بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَكُونُ

سَبَبًا لِرَغْبَتِهِ أَوْ رَهْبَتِهِ ؛ فَإِذَا أَكْرَهَهُ فَعَلَ بِهِ مِنْ الْعِقَابِ أَوْ الْوَعِيدِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِرَهْبَتِهِ وَخَوْفِهِ ؛ فَيَفْعَلُ مَا لَا يَخْتَارُ فِعْلَهُ وَلَا يَفْعَلُهُ رَاضِيًا بِفِعْلِهِ ؛ وَيَكُونُ مُرَادُهُ دَفْعَ الشَّرِّ عَنْهُ ؛ فَهُوَ مُرِيدٌ لِلْفِعْلِ ؛ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الشَّرِّ عَنْهُ ؛ لَا نَفْسُ الْفِعْلِ وَلِهَذَا قَدْ يُسَمَّى مُخْتَارًا ؛ وَيُسَمَّى غَيْرَ مُخْتَارٍ بِاعْتِبَارِ وَيُسَمَّى مُرِيدًا وَيُسَمَّى غَيْرَ مُرِيدٍ بِاعْتِبَارِ . وَلَكِنَّ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ لَا يُسَمَّى فِيهَا مُخْتَارًا بَلْ مُكْرَهًا ؛ وَهِيَ لُغَةُ الْفُقَهَاءِ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْتَ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إنْ شِئْتَ وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا مُكْرِهَ لَهُ } . فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ يَفْعَلُ بِمَشِيئَتِهِ لَا يَكُونُ مُكْرَهًا وَالْمُكْرَهُ يَفْعَلُ بِمَشِيئَةِ غَيْرِهِ ؛ وَهُوَ الْمُكْرِهُ لَهُ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَاصِدًا لِمَا يَفْعَلُهُ لَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَفْعُولِ بِهِ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ وَلَا إرَادَةَ لَهُ فِي الْفِعْلِ بِحَالِ فَإِنَّ مَقْصُودَهُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ دَفْعُ الشَّيْءِ لَا نَفْسُ الْفِعْلِ فَالْمَرَاتِبُ ثَلَاثَةٌ : ( أَحَدُهَا مَنْ يَفْعَلُ بِهِ الْفِعْلَ مِنْ غَيْرِ قُدْرَةٍ لَهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ كَاَلَّذِي يَحْمِلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَيَدْخُلُ إلَى مَكَانٍ أَوْ يَضْرِبُ بِهِ غَيْرَهُ أَوْ تُضْجَعُ الْمَرْأَةُ وَتُفْعَلُ بِهَا الْفَاحِشَةُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا ؛ مِنْ غَيْرِ قُدْرَةٍ عَلَى الِامْتِنَاعِ ؛ فَهَذَا لَيْسَ لَهُ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ ؛ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا إرَادَةٌ . وَمِثْلُ هَذَا الْفِعْلِ لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ ؛ وَلَا عِقَابٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ وَإِنَّمَا يُعَاقَبُ إذَا أَمْكَنَهُ الِامْتِنَاعُ فَتَرَكَهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ

يَمْتَنِعْ كَانَ مُطَاوِعًا لَا مُكْرَهًا وَلِهَذَا فُرِّقَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ الْمُطَاوِعَةِ عَلَى الزِّنَا وَالْمُكْرَهَةِ عَلَيْهِ .
وَ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُكْرَهَ بِضَرْبِ أَوْ حَبْسٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى يَفْعَلَ فَهَذَا الْفِعْلُ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ وَإِنْ قَتَلَ . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ إذَا أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ الْمَعْصُومِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ قَتْلُهُ . وَإِنْ قَتَلَ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْقَوَدِ . فَقَالَ : أَكْثَرُهُمْ كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا يَشْتَرِكَانِ فِي الْقَتْلِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجِبُ عَلَى الْمُكْرَهِ الظَّالِمِ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ قَدْ صَارَ كَالْآلَةِ وَقَالَ زُفَرُ : بَلْ عَلَى الْمُكْرَهِ الْمُبَاشِرِ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ وَذَاكَ مُتَسَبِّبٌ وَقَالَ : لَوْ كَانَ كَالْآلَةِ لَمَا كَانَ آثِمًا وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ آثِمٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا تَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَأَمَّا إنْ أُكْرِهَ عَلَى الشُّرْبِ لِلْخَمْرِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ فَأَكْثَرُهُمْ يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَأَمَّا إنْ أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى الزِّنَا فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ .
أَحَدُهُمَا : لَا يَكُونُ مُكْرَهًا عَلَيْهِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَد .

وَالثَّانِي : قَدْ يَكُونُ مُكْرَهًا عَلَيْهِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ جَازَ لَهُ التَّكَلُّمُ بِهَا مَعَ طُمَأْنِينَةِ قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ .
وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى " الْعُقُودِ " كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَالْعِتْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ بَاطِلٌ فَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَلَا عِتَاقٌ وَلَا يَلْزَمُهُ نَذْرٌ وَلَا يَمِينٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ عِنْدَهُ وَيَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فَلَا يَلْزَمُ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ فَيَلْزَمُ مَعَ الْإِكْرَاهِ . وَأَمَّا الْمُكْرَهُ بِحَقِّ كَالْحَرْبِيِّ عَلَى الْإِسْلَامِ فَهَذَا يَلْزَمُهُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .
فَقَوْلُ النَّاظِمِ :
وَالْجَبْرُ إنْ صَحَّ يَكُنْ مُكْرَهًا * * * وَعِنْدَكَ الْمُكْرَهُ مَعْذُورُ
قَوْلٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَتَيْنِ

الْأُولَى : إنْ صَحَّ الْجَبْرُ كَانَ مُكْرَهًا وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ لَفْظَ " الْجَبْرِ " إذَا أُرِيدَ بِهِ الْجَبْرُ الْمَعْرُوفُ مِنْ إجْبَارِ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ عَلَى مَا لَا يُرِيدُهُ فَهَذَا الْجَبْرُ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ إرَادَتَهُ فَهَذَا الْجَبْرُ إذَا صَحَّ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا . وَ ( الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : وَالْمُكْرَهُ عِنْدَكَ مَعْذُورٌ . فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْمُكْرَهُ نَوْعَانِ : ( نَوْعٌ أَكْرَهَهُ الْمُكْرِهُ بِحَقِّ فَهَذَا لَيْسَ بِمَعْذُورِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُكْرِهُ أَحَدًا إلَّا بِحَقِّ سَوَاءٌ قَدَّرَ الْإِكْرَاهَ بِخَلْقِهِ وَقَدَرِهِ أَوْ شَرْعِهِ وَأَمْرِهِ وَإِنَّمَا الْمُكْرَهُ الْمَعْذُورُ هُوَ الْمَظْلُومُ الْمُكْرَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَاَللَّهُ تَعَالَى : لَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ بَلْ هُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ الظُّلْمِ لَكِنْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي مَعْنَى " الظُّلْمِ " الَّذِي يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهُ فَجَعَلَتْ الْقَدَرِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ " الظُّلْمَ " الَّذِي يُنَزَّهُ عَنْهُ الْخَالِقُ مِنْ جِنْسِ " الظُّلْمِ " الَّذِي يُنْهَى عَنْهُ الْمَخْلُوقَ وَشَبَّهُوا اللَّهَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ عَلَى

الْمَخْلُوقِ وَتَكَلَّمُوا فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْوِيزِ بِكَلَامِ مُتَنَاقِضٍ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عَنْهُمْ وَأَلْزَمُوا النَّاسَ إلْزَامَاتٍ كَثِيرَةً . ( مِنْهَا أَنْ قَالُوا : إنَّ الْعَبْدَ لَوْ رَأَى رُفْقَةً يَظْلِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهِمْ مِنْ الظُّلْمِ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ لَكَانَ ظَالِمًا وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ ظُلْمًا مِنْ اللَّهِ فَقَالُوا : هُوَ قَدْ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَعَرَّضَهُمْ لِلثَّوَابِ إذَا أَطَاعُوهُ وَلِلْعِقَابِ إذَا عَصَوْهُ وَهُمْ قَدْ ظَلَمُوا بِاخْتِيَارِهِمْ وَلَمْ يُمْكِنْ مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِإِلْجَائِهِمْ إلَى التَّرْكِ وَالْإِلْجَاءُ يُزِيلُ التَّكْلِيفَ الَّذِي عَرَّضَهُمْ بِهِ لِلثَّوَابِ . فَقَالَ لَهُمْ الْجُمْهُورُ : الْوَاحِدُ مِنَّا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ عِبَادَهُ لَا يُطِيعُونَ أَمْرَهُ وَلَا يَمْتَنِعُونَ عَنْ الظُّلْمِ بَلْ يَزْدَادُونَ عِصْيَانًا وَظُلْمًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حِكْمَةً وَلَا عَدْلًا وَإِنَّمَا يُحْمَدُ ذَلِكَ مِنْ الْوَاحِدِ مِنَّا لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْعَاقِبَةِ أَوْ لِعَجْزِهِ عَنْ الْمَنْعِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ بِالْعَوَاقِبِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ الْوَاحِدُ مِنَّا يَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا أَمَرَهُمْ لِيُعَرِّضَهُمْ لِلثَّوَابِ عَصَوْهُ وَظَلَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ الظُّلْمِ بِالْإِلْجَاءِ . وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . فَإِنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا التَّنْبِيهَ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ مُثْبِتَةِ الْقَدَرِ - مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين مِنْ الْجَهْمِيَّة

وَأَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ - الظُّلْمُ مِنْهُ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ فَكُلُّ مُمْكِنٍ يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ لَيْسَ فِعْلُهُ ظُلْمًا . وَقَالُوا : الظُّلْمُ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ أَوْ الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ مَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ اللَّهِ . وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَالنُّظَّارِ : بَلْ الظُّلْمُ هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَبْخَسَ الْمُحْسِنُ شَيْئًا مِنْ حَسَنَاتِهِ أَوْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ غَيْرِهِ وَهَذَا مِنْ الظُّلْمِ الَّذِي نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } . قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ : " الْهَضْمُ " أَنْ يُهْضَمَ مِنْ حَسَنَاتِهِ وَالظُّلْمُ أَنْ يُزَادَ فِي سَيِّئَاتِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى } { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } { أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } وَقَالَ : { قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ } { مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } وَفِي حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَحَسَّنَهُ ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يُجَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِرَجُلِ مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ فَيُنْشَرُ لَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِنْهَا مَدُّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ : أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا ؟ فَيَقُولُ : لَا يَا رَبِّ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَلَكَ عُذْرٌ أَوْ حَسَنَةٌ ؟ فَيَهَابُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ : لَا يَا رَبِّ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : بَلَى . إنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَاتٍ وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ فَتُخْرَجُ

لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَيَقُولُ : يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ ؟ فَيَقُولُ : إنَّكَ لَا تُظْلَمُ قَالَ : فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ } وَقَالَ تَعَالَى : { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } وَقَالَ : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } وَمِثْلُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَثِيرَةٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْفِ بِهَا الْمُمْتَنِعَ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْوُجُودَ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَتَوَهَّمْ أَحَدٌ وُجُودَهُ وَلَيْسَ فِي مُجَرَّدِ نَفْيِهِ مَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الْخِطَابِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ عَدْلِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } بَلْ يُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ وَلَا يُعَاقِبُهُمْ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } وَقَالَ : { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا أَحَدٌ أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ }

وَمِثْلُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَثِيرَةٌ وَهِيَ تُبَيِّنُ أَنَّ الظُّلْمَ الَّذِي نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ لَيْسَ هُوَ مَا تَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ وَلَا مَا تَقُولُهُ الْجَبْرِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى تَحْقِيقِ هَذَا الْمَقَامِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَبُيِّنَ فِيهَا حِكْمَةُ اللَّهِ وَعَدْلُهُ فَإِنَّ هَذَا الْمَقَامَ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَقَامَاتِ الَّتِي اضْطَرَبَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين . وَالْبَسْطُ الْكَثِيرُ الَّذِي يَنْتَهِي بِهِ إلَى تَفْصِيلِ أَقْوَالِ النَّاسِ وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ بِبَيَانِ الدَّلَائِلِ وَالْجَوَابُ عَنْ الْمُعَارَضَاتِ لَا يُنَاسِبُ جَوَابَ هَذَا النَّظْمِ . وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي ؛ وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تظالموا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ - يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أُكْسِكُمْ يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ ؛ يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إذَا

أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ } قَالَ سَعِيدٌ كَانَ أَبُو إدْرِيسَ الخولاني إذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ . فَذَكَرَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي قَالَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَد هُوَ أَشْرَفُ حَدِيثٍ لِأَهْلِ الشَّامِ إنَّهُ حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ . وَ " التَّحْرِيمُ " ضِدُّ الْإِيجَابِ وَبَيَّنَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ الْمُرَادُ بِهِ مُجَرَّدُ خَبَرِهِ بِمُجَرَّدِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ؛ وَعَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } فَهُوَ حَقٌّ أَحَقَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْخَلْقِ يُوجِبُ عَلَيْهِ حَقًّا وَلَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِ شَيْئًا . وَخَتَمَ الْحَدِيثَ بِقَوْلِهِ : { إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ } كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ : اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ خَلَقْتِنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ . مَنْ قَالَهَا إذَا أَصْبَحَ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ قَالَهَا إذَا أَمْسَى مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ }

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ : { أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي } وَمِنْ نِعَمِهِ عَلَى عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُيَسِّرُهُ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْحَسَنَاتِ فَإِنَّهَا مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَسَيِّئَاتُ الْعَبْدِ مِنْ عَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ إذْ كُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ وَهُوَ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لِكَمَالِ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ لَا لِمُجَرَّدِ قَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ . كَمَا يَقُولُهُ جَهْمٌ وَأَتْبَاعُهُ وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا وَبَيَّنَ حَقِيقَةَ قَوْلِهِ : { وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ } وَإِنْ كَانَ خَالِقَ كُلِّ شَيْءٍ . وَبَيَّنَ أَنَّ الشَّرَّ لَمْ يُضَفْ إلَى اللَّهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَّا عَلَى أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ : إمَّا بِطَرِيقِ الْعُمُومِ ، كَقَوْلِهِ : { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } وَإِمَّا بِطَرِيقَةِ إضَافَتِهِ إلَى السَّبَبِ كَقَوْلِهِ : { مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } وَإِمَّا أَنْ يُحْذَفَ فَاعِلُهُ كَقَوْلِ الْجِنِّ : { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } وَقَدْ جَمَعَ فِي الْفَاتِحَةِ " الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ " فَقَالَ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَهَذَا عَامٌّ وَقَالَ : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } فَحَذَفَ فَاعِلَ الْغَضَبِ . وَقَالَ : { وَلَا الضَّالِّينَ } فَأَضَافَ الضَّلَالَ إلَى الْمَخْلُوقِ وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ }

وَقَوْلُ الْخَضِرِ : { فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا } { فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا } { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى حَقَائِقِ هَذِهِ الْأُمُورِ . وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا إلَّا لِحِكْمَةِ قَالَ تَعَالَى : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } وَقَالَ : { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } فَالْمَخْلُوقُ بِاعْتِبَارِ الْحِكْمَةِ الَّتِي خُلِقَ لِأَجْلِهَا خَيْرٌ وَحِكْمَةٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَرٌّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَذَلِكَ أَمْرٌ عَارِضٌ جُزْئِيٌّ لَيْسَ شَرًّا مَحْضًا بَلْ الشَّرُّ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْخَيْرُ الْأَرْجَحُ هُوَ خَيْرٌ مِنْ الْفَاعِلِ الْحَكِيمِ وَإِنْ كَانَ شَرًّا لِمَنْ قَامَ بِهِ . وَظَنُّ الظَّانِّ أَنَّ الْحِكْمَةَ الْمَطْلُوبَةَ التَّامَّةَ قَدْ تَحْصُلُ مَعَ عَدَمِهِ إنَّمَا يَقُولُهُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَارْتِبَاطِ بَعْضِهَا بِبَعْضِ فَإِنَّ الْخَالِقَ إذَا خَلَقَ الشَّيْءَ فَلَا بُدَّ مِنْ خَلْقِ لَوَازِمِهِ فَإِنَّ وُجُودَ الْمَلْزُومِ بِدُونِ وُجُودِ اللَّازِمِ مُمْتَنِعٌ وَلَا بُدَّ مِنْ تَرْكِ خَلْقِ أَضْدَادِهِ الَّتِي تُنَافِيهِ فَإِنَّ اجْتِمَاعَ الضِّدَّيْنِ الْمُتَنَافِيَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُمْتَنِعٌ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْعُمُومِ شَيْءٌ ؛ لَكِنَّ مُسَمَّى " الشَّيْءِ " مَا تُصُوِّرَ وُجُودُهُ فَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ فَلَيْسَ شَيْئًا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ .

وَالْقُدْرَةُ عَلَى خَلْقِ الْمُتَضَادَّاتِ قُدْرَةٌ عَلَى خَلْقِهَا عَلَى الْبَدَلِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا شَاءَ أَنْ يَجْعَلَ الْعَبْدَ مُتَحَرِّكًا جَعَلَهُ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهُ سَاكِنًا جَعَلَهُ وَكَذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَغَيْرِهِمَا ؛ لَكِنْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ مُتَّصِفًا بِالْمُتَضَادَّاتِ فَيَكُونُ مُؤْمِنًا صِدِّيقًا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ كَافِرًا مُنَافِقًا مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَشُعْبَةٌ مِنْ النِّفَاقِ . وَاَلَّذِي يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَقُدْرَتَهُ وَحِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ زِيَادَةٌ عَلَيْهَا بَلْ كُلَّمَا أَمْكَنَ مِنْ الْكَمَالِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ فَهُوَ وَاجِبٌ لِلرَّبِّ تَعَالَى وَقَدْ يَعْلَمُ بَعْضُ الْعِبَادِ بَعْضَ حِكْمَتِهِ وَقَدْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِنْهَا مَا يَخْفَى . وَالنَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْعِلْمِ بِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ عِلْمًا بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ ازْدَادَ عِلْمًا بِحِكْمَةِ اللَّهِ وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ مُنْعِمٌ عَلَيْهِ بِالْحَسَنَاتِ عَمَلِهَا وَثَوَابِهَا وَأَنَّ مَا يُصِيبُهُ مِنْ عُقُوبَاتِ ذُنُوبِهِ فَبِعَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ نَفْسَ صُدُورِ الذُّنُوبِ مِنْهُ - وَإِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَقْدُورَاتِ الرَّبِّ - فَهُوَ لِنَقْصِ نَفْسِهِ وَعَجْزِهَا وَجَهْلِهَا الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِهَا وَأَنَّ مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ الْحَسَنَاتِ فَهُوَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ وَجُودِهِ وَأَنَّ الرَّبَّ مَعَ أَنَّهُ قَدْ خَلَقَ النَّفْسَ وَسَوَّاهَا وَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا فَإِلْهَامُ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى وَقَعَ

بِحِكْمَةِ بَالِغَةٍ لَوْ اجْتَمَعَ الْأَوَّلُونَ والآخرون مِنْ عُقَلَاءِ الْآدَمِيِّينَ عَلَى أَنْ يَرَوْا حِكْمَةً أَبْلَغَ مِنْهَا لَمْ يَرَوْا حِكْمَةً أَبْلَغَ مِنْهَا . لَكِنْ تَفْصِيلُ حِكْمَةِ الرَّبِّ مِمَّا يَعْجِزُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَتِهَا وَمِنْهَا مَا يَعْجِزُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ حَتَّى الْمَلَائِكَةُ ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ : { إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } قَالَ : { إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَتَكْفِيهِمْ الْمَعْرِفَةُ الْمُجْمَلَةُ وَالْإِيمَانُ الْعَامُّ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ هُدًى وَرَشَادٍ وَصَلَاحٍ فِي الْمَعَاشِ وَالْمُعَادِ ؛ وَمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ ؛ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعِفَّةَ وَالْغِنَى } وَيَقُولُ : { اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا ؛ وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا } وَيَقُولُ : { اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي ؛ وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ ؛ وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ } وَكُلُّ هَذَا فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِي الصَّحِيحِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ : اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ ؛ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ؛ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ

تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ . اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَقُولَ فِي صَلَاتِنَا : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } وَهَذَا أَفْضَلُ الْأَدْعِيَةِ وَأَوْجَبُهَا عَلَى الْعِبَادِ . وَمَنْ تَحَقَّقَ بِهَذَا الدُّعَاءِ جَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْهُدَى وَالرَّشَادِ ؛ فَإِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاءِ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ عَنْ الْمَقْتُولِ : هَلْ مَاتَ بِأَجَلِهِ ؟ أَمْ قَطَعَ الْقَاتِلُ أَجَلَهُ ؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : الْمَقْتُولُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوْتَى لَا يَمُوتُ أَحَدٌ قَبْلَ أَجَلِهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ أَحَدٌ عَنْ أَجَلِهِ . بَلْ سَائِرُ الْحَيَوَانِ وَالْأَشْجَارِ لَهَا آجَالٌ لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ . فَإِنَّ أَجَلَ الشَّيْءِ هُوَ نِهَايَةُ عُمْرِهِ وَعُمْرُهُ مُدَّةُ بَقَائِهِ فَالْعُمْرُ مُدَّةُ الْبَقَاءِ وَالْأَجَلُ نِهَايَةُ الْعُمْرِ بِالِانْقِضَاءِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } - وَفِي لَفْظٍ - { ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ } . وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ؛ وَقَدْ كَتَبَ ذَلِكَ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا يَمُوتُ

بِالْبَطْنِ أَوْ ذَاتِ الْجَنْبِ أَوْ الْهَدْمِ أَوْ الْغَرَقِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ وَهَذَا يَمُوتُ مَقْتُولًا : إمَّا بِالسُّمِّ وَإِمَّا بِالسَّيْفِ وَإِمَّا بِالْحَجَرِ وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْقَتْلِ . وَعِلْمُ اللَّهِ بِذَلِكَ وَكِتَابَتُهُ لَهُ بَلْ مَشِيئَتُهُ لِكُلِّ شَيْءٍ وَخَلْقُهُ لِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَمْنَعُ الْمَدْحَ وَالذَّمَّ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ ؛ بَلْ الْقَاتِلُ : إنْ قَتَلَ قَتِيلًا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَثَابَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ قَتَلَ قَتِيلًا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَقَتْلِ الْقُطَّاعِ وَالْمُعْتَدِينَ عَاقَبَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ قَتَلَ قَتِيلًا مُبَاحًا - كَقَتِيلِ الْمُقْتَصِّ - لَمْ يُثَبْ وَلَمْ يُعَاقَبْ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ حَسَنَةٌ أَوْ سَيِّئَةٌ فِي أَحَدِهِمَا . وَالْأَجَلُ أَجَلَانِ " أَجَلٌ مُطْلَقٌ " يَعْلَمُهُ اللَّهُ " وَأَجَلٌ مُقَيَّدٌ " وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ } فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمَلَكَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ أَجَلًا وَقَالَ : " إنْ وَصَلَ رَحِمَهُ زِدْتُهُ كَذَا وَكَذَا " وَالْمَلَكُ لَا يَعْلَمُ أَيَزْدَادُ أَمْ لَا ؛ لَكِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ . وَلَوْ لَمْ يُقْتَلْ الْمَقْتُولُ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْقَدَرِيَّةِ : إنَّهُ كَانَ يَعِيشُ وَقَالَ بَعْضُ نفاة الْأَسْبَابِ : إنَّهُ يَمُوتُ وَكِلَاهُمَا خَطَأٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ بِالْقَتْلِ فَإِذَا قَدَّرَ خِلَافَ مَعْلُومِهِ كَانَ تَقْدِيرًا لِمَا لَا يَكُونُ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ وَهَذَا قَدْ يَعْلَمُهُ بَعْضُ النَّاسِ وَقَدْ لَا يَعْلَمُهُ فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ أَمْكَنَ أَنْ

يَكُونَ قَدَّرَ مَوْتَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ قَدَّرَ حَيَاتَهُ إلَى وَقْتٍ آخَرَ فَالْجَزْمُ بِأَحَدِ هَذَيْنِ عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي لَا يَكُونُ جَهْلٌ . وَهَذَا كَمَنْ قَالَ : لَوْ لَمْ يَأْكُلْ هَذَا مَا قُدِّرَ لَهُ مِنْ الرِّزْقِ كَأَنْ يَمُوتَ أَوْ يُرْزَقَ شَيْئًا آخَرَ وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ : لَوْ لَمْ يُحْبِلْ هَذَا الرَّجُلُ هَذِهِ الْمَرْأَةَ هَلْ تَكُونُ عَقِيمًا أَوْ يُحْبِلُهَا رَجُلٌ آخَرُ وَلَوْ لَمْ تَزْدَرِعْ هَذِهِ الْأَرْضُ هَلْ كَانَ يَزْدَرِعُهَا غَيْرُهُ أَمْ كَانَتْ تَكُونُ مَوَاتًا لَا يَزْرَعُ فِيهَا وَهَذَا الَّذِي تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ مِنْ هَذَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ : هَلْ كَانَ يَتَعَلَّمُ مِنْ غَيْرِهِ ؟ أَمْ لَمْ يَكُنْ يَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ أَلْبَتَّةَ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ .

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ ، هَلْ هُمَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ : جَمِيعُ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ الْأَعْيَانِ وَصِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ مَمْلُوكَةٌ لِلَّهِ هُوَ رَبُّهَا وَخَالِقُهَا وَمَلِيكُهَا وَمُدَبِّرُهَا لَا رَبَّ لَهَا غَيْرُهُ وَلَا إلَهَ سِوَاهُ ؛ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا مُعِينٍ ؛ بَلْ هُوَ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } . أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَا يُدْعَى مِنْ دُونِهِ لَيْسَ لَهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا شِرْكٌ فِي مِلْكٍ وَلَا إعَانَةٌ عَلَى شَيْءٍ . وَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ : هِيَ الَّتِي ثَبَتَ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ ؛ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلشَّيْءِ مُسْتَقِلًّا بِمِلْكِهِ أَوْ يَكُونُ مُشَارِكًا لَهُ فِيهِ نَظِيرٌ أَوْ لَا ذَا وَلَا ذَاكَ فَيَكُونُ مُعِينًا لِصَاحِبِهِ : كَالْوَزِيرِ وَالْمُشِيرِ وَالْمُعَلِّمِ وَالْمُنْجِدِ وَالنَّاصِرِ فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِلْكٌ لِمِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا لِغَيْرِهِ شِرْكٌ فِي ذَلِكَ لَا قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ ؛ فَلَا

يَمْلِكُونَ شَيْئًا ؛ وَلَا لَهُمْ شِرْكٌ فِي شَيْءٍ ؛ وَلَا لَهُ سُبْحَانَهُ ظَهِيرٌ : وَهُوَ الْمُظَاهِرُ الْمُعَاوِنُ فَلَيْسَ لَهُ وَزِيرٌ وَلَا مُشِيرٌ وَلَا ظَهِيرٌ . وَهَذَا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ يُوَالِي الْمَخْلُوقَ لِذُلِّهِ ؛ فَإِذَا كَانَ لَهُ مَنْ يُوَالِيهِ عَزَّ بِوَلِيِّهِ ؛ وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يُوَالِي أَحَدًا لِذِلَّتِهِ تَعَالَى بَلْ هُوَ الْعَزِيزُ بِنَفْسِهِ و { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا } وَإِنَّمَا يُوَالِي عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ لِرَحْمَتِهِ وَنِعْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَجُودِهِ وَفَضْلِهِ وَإِنْعَامِهِ . وَحِينَئِذٍ : فَالْغَلَاءُ بِارْتِفَاعِ الْأَسْعَارِ ؛ وَالرُّخْصِ بِانْخِفَاضِهَا هُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا خَالِقَ لَهَا إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ ؛ وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا إلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؛ لَكِنْ هُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ بَعْضَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ سَبَبًا فِي بَعْضِ الْحَوَادِثِ كَمَا جَعَلَ قَتْلَ الْقَاتِلِ سَبَبًا فِي مَوْتِ الْمَقْتُولِ ؛ وَجَعَلَ ارْتِفَاعَ الْأَسْعَارِ قَدْ يَكُونُ بِسَبَبِ ظُلْمِ الْعِبَادِ وَانْخِفَاضِهَا قَدْ يَكُونُ بِسَبَبِ إحْسَانِ بَعْضِ النَّاسِ وَلِهَذَا أَضَافَ مَنْ أَضَافَ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ الْغَلَاءَ وَالرُّخْصَ إلَى بَعْضِ النَّاسِ وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أُصُولًا فَاسِدَةً : ( أَحَدُهَا : أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعَالَى .

وَ الثَّانِي : إنَّمَا يَكُونُ فِعْلُ الْعَبْدِ سَبَبًا لَهُ يَكُونُ الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي أَحْدَثَهُ . وَ ( الثَّالِثُ : أَنَّ الْغَلَاءَ وَالرُّخْصَ إنَّمَا يَكُونُ بِهَذَا السَّبَبِ . وَهَذِهِ الْأُصُولُ بَاطِلَةٌ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا ؛ وَدَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ السَّمْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا ؛ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَقُولُونَ : إنَّ الْعِبَادَ لَهُمْ قُدْرَةٌ وَمَشِيئَةٌ وَإِنَّهُمْ فَاعِلُونَ لِأَفْعَالِهِمْ ؛ وَيُثْبِتُونَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ الْحُكْمِ . وَ " مَسْأَلَةُ الْقَدَرِ " مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ ضَلَّ فِيهَا طَائِفَتَانِ مِنْ النَّاسِ " طَائِفَةٌ " أَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ ؛ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ كَمَا أَنْكَرَتْ ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ . وَ " طَائِفَةٌ " أَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فَاعِلًا لِأَفْعَالِهِ ؛ وَأَنْ تَكُونَ لَهُمْ قُدْرَةٌ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي مَقْدُورِهَا ؛ أَوْ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا هُوَ سَبَبٌ لِغَيْرِهِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَلَقَ شَيْئًا لِحِكْمَةِ كَمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْمُجْبِرَةِ الَّذِينَ نُسِبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إلَى السُّنَّةِ ؛ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ . وَ الْأَصْلُ الثَّانِي : وَهُوَ إنَّمَا كَانَ فِعْلُ الْعَبْدِ أَحَدَ أَسْبَابِهِ : كَالشِّبَعِ

الَّذِي يَكُونُ بِسَبَبِ الْأَكْلِ وَزُهُوقِ النَّفْسِ الَّذِي يَكُونُ بِالْقَتْلِ فَهَذَا قَدْ جَعَلَهُ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ فِعْلًا لِلْعَبْدِ وَالْجَبْرِيَّةُ لَمْ يَجْعَلُوا لِفِعْلِ الْعَبْدِ فِيهِ تَأْثِيرًا بَلْ مَا تَيَقَّنُوا أَنَّهُ سَبَبٌ قَالُوا : إنَّهُ عِنْدَهُ لَا بِهِ وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فَلَا يَجْعَلُونَ الْعَبْدَ فَاعِلًا لِذَلِكَ كَفِعْلِهِ لِمَا قَامَ بِهِ مِنْ الْحَرَكَاتِ فَلَا يَمْنَعُونَ أَنْ يَكُونَ مُشَارِكًا فِي أَسْبَابِهِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ جَعَلَ فِعْلَ الْعَبْدِ مَعَ غَيْرِهِ أَسْبَابًا فِي حُصُولِ مِثْلِ ذَلِكَ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ النَّوْعَيْنِ بِقَوْلِهِ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } { وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وَالْإِنْفَاقُ وَالسَّيْرُ هُوَ نَفْسُ أَعْمَالِهِمْ الْقَائِمَةِ بِهِمْ فَقَالَ فِيهَا : إلَّا كُتِبَ لَهُمْ وَلَمْ يَقُلْ إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ فَإِنَّهَا نَفْسُهَا عَمَلٌ فَنَفْسُ كِتَابَتِهَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ بِخِلَافِ الظَّمَأِ وَالنَّصَبِ وَالْجُوعِ الْحَاصِلِ بِغَيْرِ الْجِهَادِ بِخِلَافِ غَيْظِ الْكُفَّارِ بِمَا نِيلَ مِنْهُمْ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ نَفْسَ أَفْعَالِهِمْ وَإِنَّمَا هِيَ حَادِثَةٌ عَنْ أَسْبَابٍ مِنْهَا : أَفْعَالُهُمْ فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } . فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْآثَارِ عَنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَهُمْ بِهَا عَمَلٌ ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَهُمْ كَانَتْ سَبَبًا فِيهَا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ

الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ } . وَ ( الْأَصْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْغَلَاءَ وَالرُّخْصَ لَا تَنْحَصِرُ أَسْبَابُهُ فِي ظُلْمِ بَعْضٍ بَلْ قَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ قِلَّةَ مَا يَخْلُقُ أَوْ يَجْلِبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ الْمَطْلُوبِ فَإِذَا كَثُرَتْ الرَّغَبَاتُ فِي الشَّيْءِ وَقَلَّ الْمَرْغُوبُ فِيهِ : ارْتَفَعَ سِعْرُهُ فَإِذَا كَثُرَ وَقَلَّتْ الرَّغَبَاتُ فِيهِ انْخَفَضَ سِعْرُهُ وَالْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ قَدْ لَا تَكُونُ بِسَبَبِ مِنْ الْعِبَادِ وَقَدْ تَكُونُ بِسَبَبِ لَا ظُلْمَ فِيهِ وَقَدْ تَكُونُ بِسَبَبِ فِيهِ ظُلْمٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ الرَّغَبَاتِ فِي الْقُلُوبِ . فَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : قَدْ تَغْلُوا الْأَسْعَارُ وَالْأَهْوَاءُ غِرَارٌ وَقَدْ تَرْخُصُ الْأَسْعَارُ وَالْأَهْوَاءُ فقار .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَمَّا قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ - فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ " بِمِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ " فِي زَادِ الْآخِرَةِ مِنْ الْعَقَبَةِ الرَّابِعَةِ : وَهِيَ الْعَوَارِضُ بَعْدَ كَلَامٍ تَقَدَّمَ فِي التَّوَكُّلِ بِأَنَّ الرِّزْقَ مَضْمُونٌ - قَالَ : فَإِنْ قِيلَ هَلْ يَلْزَمُ الْعَبْدَ طَلَبُ الرِّزْقِ بِحَالِ فَاعْلَمْ أَنَّ الرِّزْقَ الْمَضْمُونَ هُوَ الْغِذَاءُ وَالْقِوَامُ فَلَا يُمْكِنُ طَلَبُهُ إذْ هُوَ شَيْءٌ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِالْعَبْدِ كَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى تَحْصِيلِهِ وَلَا دَفْعِهِ . وَأَمَّا الْمَقْسُومُ مِنْ الْأَسْبَابِ فَلَا يَلْزَمُ الْعَبْدَ طَلَبُهُ إذْ لَا حَاجَةَ لِلْعَبْدِ إلَى ذَلِكَ إنَّمَا حَاجَتُهُ إلَى الْمَضْمُونِ وَهُوَ مِنْ اللَّهِ وَفِي ضَمَانِ اللَّهِ . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } الْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ وَالثَّوَابُ وَقِيلَ : بَلْ هُوَ رُخْصَةٌ إذْ هُوَ أَمْرٌ وَارِدٌ بَعْدَ الْحَظْرِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ ؛ لَا بِمَعْنَى الْإِيجَابِ وَالْإِلْزَامِ . فَإِنْ قِيلَ : لَكِنْ هَذَا الرِّزْقُ الْمَضْمُونُ لَهُ أَسْبَابٌ هَلْ يَلْزَمُ مِنَّا طَلَبُ الْأَسْبَابِ قِيلَ : لَا يَلْزَمُ مِنْكَ طَلَبُ ذَلِكَ إذْ لَا حَاجَةَ بِالْعَبْدِ إلَيْهِ إذْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ

بِالسَّبَبِ وَبِغَيْرِ السَّبَبِ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُنَا طَلَبُ السَّبَبِ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ ضَمِنَ ضَمَانًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الطَّلَبِ وَالْكَسْبِ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } . ثُمَّ كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَأْمُرَ الْعَبْدَ بِطَلَبِ مَا لَا يَعْرِفُ مَكَانَهُ فَيَطْلُبَهُ : إذْ لَا يَعْرِفُ أَيَّ سَبَبٍ مِنْهَا رِزْقُهُ يَتَنَاوَلُهُ ( و لَا عَرَفَ الَّذِي صَيَّرَ سَبَبَ غِذَائِهِ وَتَرْبِيَتِهِ لَا غَيْرُ فَالْوَاحِدُ مِنَّا لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ السَّبَبَ بِعَيْنِهِ مِنْ أَيْنَ حَصَلَ لَهُ ؟ فَلَا يَصِحُّ تَكْلِيفُهُ فَتَأَمَّلْ - رَاشِدًا - فَإِنَّهُ بَيِّنٌ ثُمَّ حَسْبُكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - وَالْأَوْلِيَاءَ الْمُتَوَكِّلِينَ لَمْ يَطْلُبُوا الرِّزْقَ فِي الْأَكْثَرِ وَالْأَعَمِّ وَتَجَرَّدُوا لِلْعِبَادَةِ وَبِإِجْمَاعِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا تَارِكِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا عَاصِينَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَطْلُبَ الرِّزْقَ وَأَسْبَابَهُ بِأَمْرِ لَازِمٍ لِلْعَبْدِ . فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ هَذَا الْإِمَامِ وَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي كُتُبِ الْأَئِمَّةِ : كَالْفِقْهِ وَغَيْرِهِ ؟ وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ يَجِبُ عَلَيْهِ طَلَبُ الرِّزْقِ وَطَلَبُ سَبَبِهِ وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ احْتَاجَ إلَى الرِّزْقِ وَوَجَدَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ فَاضِلًا عَنْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ طَلَبُهُ مِنْهُ فَإِنْ مَنَعَهُ قَهَرَهُ وَإِنْ قَتَلَهُ . فَهَلْ هَذَا الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمِنْهَاجِ يَخْتَصُّ بِأَحَدِ دُونَ أَحَدٍ ؟ فَأَوْضِحُوا لَنَا مَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا مِنْ تَنَاقُضِ الْكَلَامَيْنِ ؛ مُثَابِينَ ؛ مَأْجُورِينَ ؛ وَابْسُطُوا لَنَا الْقَوْلَ .
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؛ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ قَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ . وَلَكِنْ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى خِلَافِ هَذَا ؛ وَأَنَّ الْكَسْبَ يَكُونُ وَاجِبًا تَارَةً ؛ وَمُسْتَحَبًّا تَارَةً ؛ وَمَكْرُوهًا تَارَةً وَمُبَاحًا تَارَةً وَمُحَرَّمًا تَارَةً . فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ شَيْءٌ وَاجِبٌ ؛ كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ مُحَرَّمٌ . وَالسَّبَبُ الَّذِي أُمِرَ الْعَبْدُ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَطَاعَتُهُ لَهُ وَلِرَسُولِهِ . وَاَللَّهُ فَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَيَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَالَ : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا } { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } وَقَالَ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } وَالتَّقْوَى تَجْمَعُ فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ . وَيُرْوَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَا أَبَا ذَرٍّ لَوْ عَمِلَ النَّاسُ كُلُّهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَوَسِعَتْهُمْ } . وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : مَا احْتَاجَ تَقِيٌّ قَطُّ . يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لِلْمُتَّقِينَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ مَخْرَجًا مِمَّا يَضِيقُ عَلَى النَّاسِ وَأَنْ يَرْزُقَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ فَيَدْفَعُ عَنْهُمْ مَا يَضُرُّهُمْ وَيَجْلِبُ لَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ . فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ فِي التَّقْوَى خَلَلًا فَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَلْيَتُبْ إلَيْهِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ

أَكْثَرَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا ، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } .
وَ الْمَقْصُودُ : أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ بِالتَّوَكُّلِ فَقَطْ بَلْ أَمَرَ مَعَ التَّوَكُّلِ بِعِبَادَتِهِ وَتَقْوَاهُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ فِعْلَ مَا أَمَرَ وَتَرْكَ مَا حَذَّرَ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُرْضِي رَبَّهُ بِالتَّوَكُّلِ بِدُونِ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ كَانَ ضَالًّا كَمَا أَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَقُومُ بِمَا يَرْضَى اللَّهُ عَلَيْهِ دُونَ التَّوَكُّلِ كَانَ ضَالًّا بَلْ فِعْلُ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا فَرْضٌ .
وَإِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ الْعِبَادَةِ دَخَلَ فِيهَا التَّوَكُّلُ . وَإِذَا قُرِنَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ كَانَ لِلتَّوَكُّلِ اسْمٌ يَخُصُّهُ . كَمَا فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِثْلُ التَّقْوَى وَطَاعَةِ الرَّسُولِ فَإِنَّ " التَّقْوَى " إذَا أُطْلِقَتْ دَخَلَ فِيهَا طَاعَةُ الرَّسُولِ . وَقَدْ يُعْطَفُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ كَقَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ { اعْبُدُوا اللَّهَ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } وَقَوْلِ شُعَيْبٍ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } فَإِنَّ الْإِنَابَةَ إلَى اللَّهِ وَالْمَتَابَ هُوَ الرُّجُوعُ إلَيْهِ بِعِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَالْعَبْدُ لَا يَكُونُ مُطِيعًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ - فَضْلًا أَنْ يَكُونَ مِنْ خَوَاصِّ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ - إلَّا بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ التَّوَكُّلُ .

وَأَمَّا مَنْ ظَنَّ أَنَّ التَّوَكُّلَ يُغْنِي عَنْ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا فَهُوَ ضَالٌّ وَهَذَا كَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَتَوَكَّلُ عَلَى مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ مِنْ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ بِدُونِ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ . وَهَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " مِمَّا سُئِلَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ ؟ فَقَالَ : لَا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ } " وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ { أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ فِيهِ وَيَكْدَحُونَ أَفِيمَا جَفَّتْ الْأَقْلَامُ وَطُوِيَتْ الصُّحُفُ ؟ } { وَلَمَّا قِيلَ لَهُ : أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ ؟ قَالَ : لَا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ } وَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْأَسْبَابَ الْمَخْلُوقَةَ وَالْمَشْرُوعَةَ هِيَ مِنْ الْقَدَرِ { فَقِيلَ لَهُ : أَرَأَيْتَ رُقًى نسترقي بِهَا ؟ وَتُقًى نَتَّقِي بِهَا ؟ وَأَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ : هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ } فَالِالْتِفَاتُ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ ؛ فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ مُعْتَمِدًا عَلَى اللَّهِ لَا عَلَى سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ وَاَللَّهُ يُيَسِّرُ لَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ مَا يُصْلِحُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنْ كَانَتْ الْأَسْبَابُ

مَقْدُورَةً لَهُ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهَا فَعَلَهَا مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ كَمَا يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَكَمَا يُجَاهِدُ الْعَدُوَّ وَيَحْمِلُ السِّلَاحَ وَيَلْبَسُ جُنَّةَ الْحَرْبِ وَلَا يَكْتَفِي فِي دَفْعِ الْعَدُوِّ عَلَى مُجَرَّدِ تَوَكُّلِهِ بِدُونِ أَنْ يَفْعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْجِهَادِ وَمِنْ تَرْكِ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا فَهُوَ عَاجِزٌ مُفَرِّطٌ مَذْمُومٌ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَنَّ ؛ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ لَكَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد { أَنَّ رَجُلَيْنِ تَحَاكَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى عَلَى أَحَدِهِمَا فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ فَإِنْ غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي حَمْلِ الزَّادِ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَسْفَارِ فَاَلَّذِي مَضَتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَكَابِرُ الْمَشَايِخِ هُوَ حَمْلُ الزَّادِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَانْتِفَاعِ الْحَامِلِ وَنَفْعِهِ لِلنَّاسِ . وَزَعَمَتْ " طَائِفَةٌ " أَنَّ مِنْ تَمَامِ التَّوَكُّلِ أَلَّا يَحْمِلَ الزَّادَ وَقَدْ رَدَّ

الْأَكَابِرُ هَذَا الْقَوْلَ كَمَا رَدَّهُ الْحَارِثُ المحاسبي فِي كِتَابِ التَّوَكُّلِ وَحَكَاهُ عَنْ شَقِيقٍ البلخي وَبَالَغَ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ بِذَلِكَ وَذَكَرَ مِنْ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ مَا يُبَيِّنُ بِهِ غَلَطَهُمْ وَأَنَّهُمْ غالطون فِي مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ وَأَنَّهُمْ عَاصُونَ لِلَّهِ بِمَا يَتْرُكُونَ مِنْ طَاعَتِهِ وَقَدْ حُكِيَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ بَعْضَ الْغُلَاةِ الْجُهَّالِ بِحَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ كَانَ إذَا وُضِعَ لَهُ الطَّعَامُ لَمْ يَمُدَّ يَدَهُ حَتَّى يُوضَعَ فِي فَمِهِ وَإِذَا وُضِعَ يُطْبِقُ فَمَهُ حَتَّى يَفْتَحُوهُ وَيُدْخِلُوا فِيهِ الطَّعَامَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ حَرَّمَ الْمَكَاسِبَ . وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ قِلَّةِ الْعِلْمِ بِسُنَّةِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَسْبَابِ وَشَرَعَ لِلْعِبَادِ أَسْبَابًا يَنَالُونَ بِهَا مَغْفِرَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَثَوَابَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ تَوَكُّلِهِ مَعَ تَرْكِهِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ يَحْصُلُ مَطْلُوبُهُ وَأَنَّ الْمَطَالِبَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ أَسْبَابًا لَهَا . فَهُوَ غالط فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ ضَمِنَ لِلْعَبْدِ رِزْقَهُ وَهُوَ لَا بُدَّ أَنْ يَرْزُقَهُ مَا عَمَّرَ فَهَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرِّزْقُ الْمَضْمُونُ لَهُ أَسْبَابٌ تَحْصُلُ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ وَغَيْرِ فِعْلِهِ . وَ " أَيْضًا " فَقَدْ يَرْزُقُهُ حَلَالًا وَحَرَامًا فَإِذَا فَعَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَزَقَهُ حَلَالًا وَإِذَا تَرَكَ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَقَدْ يَرْزُقُهُ مِنْ حَرَامٍ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الدُّعَاءُ وَالتَّوَكُّلُ ؛ فَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ ذَلِكَ لَا تَأْثِيرَ

لَهُ فِي حُصُولِ مَطْلُوبٍ وَلَا دَفْعِ مَرْهُوبٍ وَلَكِنَّهُ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ وَلَكِنْ مَا حَصَلَ بِهِ حَصَلَ بِدُونِهِ وَظَنَّ آخَرُونَ أَنَّ ذَلِكَ مُجَرَّدُ عَلَامَةٍ وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُنَالُ بِهَا سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ بِالدُّعَاءِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْكَسْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ إذَا قَالَ الْقَائِلُ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ السَّبَبُ مَاذَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ هَذَا الْمَقْتُولُ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ هَلْ كَانَ يَعِيشُ وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْقَدَرِيَّةِ أَنَّهُ كَانَ يَعِيشُ وَظَنَّ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ أَنَّهُ كَانَ يَمُوتُ وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا تَقْدِيرٌ لِأَمْرِ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَكُونُ فَاَللَّهُ قَدَّرَ مَوْتَهُ بِهَذَا السَّبَبِ فَلَا يَمُوتُ إلَّا بِهِ كَمَا قَدَّرَ اللَّهُ سَعَادَةَ هَذَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِعِبَادَتِهِ وَدُعَائِهِ وَتَوَكُّلِهِ وَعَمَلِهِ الصَّالِحِ وَكَسْبِهِ فَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِ وَإِذَا قَدَّرَ عَدَمَ هَذَا السَّبَبِ لَمْ يَعْلَمْ مَا يَكُونُ الْمُقَدَّرُ وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِهِ فَقَدْ يَكُونُ الْمُقَدَّرُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ يَمُوتُ وَقَدْ يَكُونُ الْمُقَدَّرُ أَنَّهُ يَحْيَى وَالْجَزْمُ بِأَحَدِهِمَا خَطَأٌ . وَلَوْ قَالَ الْقَائِلُ : أَنَا لَا آكُلُ وَلَا أَشْرَبُ فَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدَّرَ حَيَاتِي فَهُوَ يُحْيِينِي بِدُونِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كَانَ أَحْمَقَ كَمَنْ قَالَ : أَنَا لَا أَطَأُ امْرَأَتِي فَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدَّرَ لِي وَلَدًا تَحْمِلُ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ .

فَصْلٌ :
إذَا عُرِفَ هَذَا ، فَالسَّالِكُونَ طَرِيقَ اللَّهِ مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مَعَ قِيَامِهِ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْجِهَادِ وَالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ كَاَلَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ : { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا } وَاَلَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } . فَالصِّنْفُ الْأَوَّلُ أَهْلُ صَدَقَاتٍ وَالصِّنْفُ الثَّانِي أَهْلُ الْفَيْءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ : { إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } إلَى قَوْلِهِ : { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَقَالَ فِي " الصِّنْفِ الثَّانِي " : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } إلَى قَوْلِهِ : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ } ثُمَّ قَالَ : { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ } . فَذَكَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ تَغْلِبُ

عَلَيْهِمْ التِّجَارَةُ ؛ وَالْأَنْصَارُ تَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الزِّرَاعَةُ وَقَدْ قَالَ لِلطَّائِفَتَيْنِ : { أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ } فَذَكَرَ زَكَاةَ التِّجَارَةِ وَزَكَاةَ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ وَهُوَ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ أَوْ رُبُعُ الْعُشْرِ . وَمِنْ السَّالِكِينَ مَنْ يُمْكِنُهُ الْكَسْبُ مَعَ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ : { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فَجَعَلَ الْمُسْلِمِينَ أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ صِنْفًا أَهْلَ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ وَصِنْفًا يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَصِنْفًا يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالرَّابِعُ الْمُعَذَّرُونَ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ الْغِذَاءَ وَالْقِوَامَ هُوَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ فَلَا يُمْكِنُ طَلَبُهُ كَالْحَيَاةِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ هُوَ بَلْ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِأَسْبَابِ يُمْكِنُ طَلَبُهُ بِطَلَبِ الْأَسْبَابِ كَمَا مِثْلُهُ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ ؛ فَإِنَّ الْمَوْتَ يُمْكِنُ طَلَبُهُ وَدَفْعُهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ ؛ فَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ يَمُوتَ عَدُوُّ اللَّهِ سَعَيْنَا فِي قَتْلِهِ ؛ وَإِذَا أَرَدْنَا دَفْعَ ذَلِكَ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ دَفَعْنَاهُ بِمَا شَرَعَ اللَّهُ الدَّفْعَ بِهِ ؛ قَالَ تَعَالَى فِي دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } وَهَذَا مِثْلُ دَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ عَنَّا هُوَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ فَاللِّبَاسُ وَالِاكْتِسَابُ وَمِثْلُ دَفْعِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ هُوَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ

وَهَذَا كَمَا أَنَّ إزْهَاقَ الرُّوحِ هُوَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ وَيُمْكِنُ طَلَبُهُ بِالْقَتْلِ وَحُصُولُ الْعِلْمِ وَالْهُدَى فِي الْقَلْبِ هُوَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ وَيُمْكِنُ طَلَبُهُ بِأَسْبَابِهِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَبِالدُّعَاءِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ بِسَبَبِ وَبِغَيْرِ سَبَبٍ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُنَا طَلَبُ السَّبَبِ . جَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ : لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ جَمِيعُ مَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ وَيُقَدِّرُهُ إنَّمَا يَخْلُقُهُ وَيُقَدِّرُهُ بِأَسْبَابِ ؛ لَكِنْ مِنْ الْأَسْبَابِ مَا يَخْرُجُ عَنْ قُدْرَةِ الْعَبْدِ ؛ وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مَقْدُورًا لَهُ وَمِنْ الْأَسْبَابِ مَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ ؛ وَمِنْهَا مَا لَا يَفْعَلُهُ . وَالْأَسْبَابُ مِنْهَا " مُعْتَادٌ " وَمِنْهَا " نَادِرٌ " فَإِنَّهُ فِي بَعْضِ الْأَعْوَامِ قَدْ يَمْسِكُ الْمَطَرَ وَيُغَذِّي الزَّرْعَ بِرِيحِ يُرْسِلُهَا وَكَمَا يَكْثُرُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرَّجُلُ الصَّالِحِ فَهُوَ أَيْضًا سَبَبٌ مِنْ الْأَسْبَابِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الرِّزْقَ قَدْ يَأْتِي عَلَى أَيْدِي الْخَلْقِ ؛ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَأْتِيهِ بِرِزْقِهِ جِنِّيٌّ أَوْ مَلَكٌ أَوْ بَعْضُ الطَّيْرِ وَالْبَهَائِمِ ؛ وَهَذَا نَادِرٌ وَالْجُمْهُورُ إنَّمَا يُرْزَقُونَ بِوَاسِطَةِ بَنِي آدَمَ مِثْلَ أَكْثَرِ الَّذِينَ يَعْجِزُونَ عَنْ الْأَسْبَابِ يُرْزَقُونَ عَلَى أَيْدِي مَنْ يُعْطِيهِمْ : إمَّا صَدَقَةً وَإِمَّا هَدِيَّةً ؛ أَوْ نُذُرًا . وَإِمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَلَى أَيْدِي مَنْ يُيَسِّرُهُ لَهُمْ .

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَا ابْنَ آدَمَ إنْ تُنْفِقْ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ وَإِنْ تُمْسِكْ الْفَضْلَ شَرٌّ لَكَ وَلَا يُلَامُ عَلَى كَفَافٍ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ صَحِيحٍ { يَدُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيَدُ الْمُعْطِي الَّتِي تَلِيهَا وَيَدُ السَّائِلِ السُّفْلَى } . وَبَعْضُ النَّاسِ يَزْعُمُ أَنَّ يَدَ السَّائِلِ الْآخِذِ هِيَ الْعُلْيَا ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ بِيَدِ الْحَقِّ وَهَذَا خِلَافُ نَصِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَخْبَرَ : أَنَّ يَدَ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيَدَ الْمُعْطِي الَّتِي تَلِيهَا وَيَدَ السَّائِلِ السُّفْلَى . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ اللَّهَ ضَمِنَ ضَمَانًا مُطْلَقًا . فَيُقَالُ لَهُ : هَذَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْأَسْبَابِ عَلَى مَا يَجِبُ ؛ فَإِنَّ فِيمَا ضَمِنَهُ رِزْقَ الْأَطْفَالِ وَالْبَهَائِمِ وَالزَّوْجَاتِ وَمَعَ هَذَا فَيَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى وَلَدِهِ وَبَهَائِمِهِ وَزَوْجَتِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَنَفَقَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْجَبُ عَلَيْهِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : كَيْفَ يَطْلُبُ مَا لَا يَعْرِفُ مَكَانَهُ ؟ جَوَابُهُ : أَنَّهُ يَفْعَلُ السَّبَبَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِيمَا يَخْرُجُ عَنْ قُدْرَتِهِ مِثْلَ الَّذِي يَشُقُّ الْأَرْضَ وَيُلْقِي الْحَبَّ وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِي إنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِنْبَاتِ الزَّرْعِ وَدَفْعِ الْمُؤْذِيَاتِ وَكَذَلِكَ التَّاجِرُ غَايَةُ قُدْرَتِهِ تَحْصِيلُ السِّلْعَةِ وَنَقْلُهَا وَأَمَّا إلْقَاءُ الرَّغْبَةِ فِي قَلْبِ مَنْ يَطْلُبُهَا وَبَذْلُ الثَّمَنِ الَّذِي يَرْبَحُ بِهِ فَهَذَا

لَيْسَ مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ وَمَنْ فَعَلَ مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ لَمْ يُعَاقِبْهُ اللَّهُ بِمَا عَجَزَ عَنْهُ وَالطَّلَبُ لَا يَتَوَجَّهُ إلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ بَلْ إلَى مَا يَكْفِيهِ مِنْ الرِّزْقِ كَالدَّاعِي الَّذِي يَطْلُبُ مِنْ اللَّهِ رِزْقَهُ وَكِفَايَتَهُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ .
فَصْلٌ :
فَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ ، فَمِنْ الْكَسْبِ مَا يَكُونُ وَاجِبًا مِثْلَ الرَّجُلِ الْمُحْتَاجِ إلَى نَفَقَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عِيَالِهِ أَوْ قَضَاءِ دَيْنِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْكَسْبِ ؛ وَلَيْسَ هُوَ مَشْغُولًا بِأَمْرِ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ ؛ هُوَ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْكَسْبِ فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَسْبُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَإِذَا تَرَكَهُ كَانَ عَاصِيًا آثِمًا . وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مُسْتَحَبًّا : مِثْلَ هَذَا إذَا اكْتَسَبَ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ ؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ . قَالَ : يَعْمَلُ بِيَدِهِ يَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ . قَالُوا : فَإِنْ لَمْ يَجِدْ . قَالَ : يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ . قَالُوا : فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ : فَلْيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيُمْسِكْ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ } .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ لَمْ يَطْلُبُوا رِزْقًا . فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ عَامَّةُ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا يَفْعَلُونَ أَسْبَابًا يَحْصُلُ بِهَا الرِّزْقُ ؛ كَمَا قَالَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي ؛ وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمِ فَهُوَ مِنْهُمْ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَفْضَلَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ } وَكَانَ دَاوُد يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَكَانَ يَصْنَعُ الدُّرُوعَ وَكَانَ زَكَرِيَّا نَجَّارًا وَكَانَ الْخَلِيلُ لَهُ مَاشِيَةٌ كَثِيرَةٌ حَتَّى إنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ لِلضَّيْفِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُهُمْ عِجْلًا سَمِينًا ؛ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْيَسَارِ . وَخِيَارُ الْأَوْلِيَاءِ الْمُتَوَكِّلِينَ : الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - - أَفْضَلُ الْأَوْلِيَاءِ الْمُتَوَكِّلِينَ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ . وَكَانَ عَامَّتُهُمْ يَرْزُقُهُمْ اللَّهُ بِأَسْبَابِ يَفْعَلُونَهَا كَانَ الصِّدِّيقُ تَاجِرًا ؛ وَكَانَ يَأْخُذُ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْمَغْنَمِ ؛ وَلَمَّا وَلِيَ

الْخِلَافَةَ جُعِلَ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَانِ وَقَدْ أَخْرَجَ مَالَهُ كُلَّهُ وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا تَرَكْتَ لِأَهْلِكَ ؟ قَالَ : تَرَكْتُ لَهُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَمَعَ هَذَا فَمَا كَانَ يَأْخُذُ مَنْ أَحَدٍ شَيْئًا لَا صَدَقَةً وَلَا فُتُوحًا وَلَا نَذْرًا بَلْ إنَّمَا كَانَ يَعِيشُ مِنْ كَسْبِهِ . بِخِلَافِ مَنْ يَدَّعِي التَّوَكُّلَ وَيُخْرِجُ مَالَهُ كُلَّهُ ظَانًّا أَنَّهُ يَقْتَدِي بِالصِّدِّيقِ ؛ وَهُوَ يَأْخُذُ مِنْ النَّاسِ إمَّا بِمَسْأَلَةِ وَإِمَّا بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ حَالَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بَلْ فِي الْمُسْنَدِ : " أَنَّ الصِّدِّيقَ كَانَ إذَا وَقَعَ مِنْ يَدِهِ سَوْطٌ يَنْزِلُ فَيَأْخُذُهُ ، وَلَا يَقُولُ لِأَحَدِ نَاوِلْنِي إيَّاهُ وَيَقُولُ إنَّ خَلِيلِي أَمَرَنِي أَلَّا أَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا " . فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنْ جَعَلَ الْكُدْيَةَ وَسُؤَالَ النَّاسِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ حَتَّى إنَّهُمْ يَأْمُرُونَ الْمُرِيدَ بِالْمَسْأَلَةِ لِلْخَلْقِ . وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْرِيمِ مَسْأَلَةِ النَّاسِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَقَالَ : { لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ دَمٍ مُوجِعٍ أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } فَأَمَرَهُ أَنْ تَكُونَ رَغْبَتُهُ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَجْعَلُ دُعَاءَ اللَّهِ وَمَسْأَلَتَهُ نَقْصًا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَسْأَلُ النَّاسَ ويكديهم وَسُؤَالُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ حَاجَتَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ ؛ وَهُوَ طَرِيقُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِسُؤَالِهِ فَقَالَ : { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } وَمَدَحَ

الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ رَغْبَةً وَرَهْبَةً . وَمِنْ الدُّعَاءِ مَا هُوَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ كَالدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَحْتَجُّ بِمَا يُرْوَى عَنْ الْخَلِيلِ أَنَّهُ لَمَّا أُلْقِيَ فِي النَّارِ قَالَ لَهُ جبرائيل : هَلْ لَكَ مِنْ حَاجَةٍ ؟ فَقَالَ : أَمَّا إلَيْكَ فَلَا قَالَ : سَلْ قَالَ : حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي . وَأَوَّلُ هَذَا الْحَدِيثِ مَعْرُوفٌ وَهُوَ قَوْلُهُ : أَمَّا إلَيْكَ فَلَا ؛ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أَنَّهُ قَالَهَا : إبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ . وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَالَ لَهُ النَّاسُ : إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } . وَأَمَّا قَوْلُهُ : حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي فَكَلَامٌ بَاطِلٌ خِلَافَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ دُعَائِهِمْ لِلَّهِ وَمَسْأَلَتِهِمْ إيَّاهُ وَهُوَ خِلَافُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ مِنْ سُؤَالِهِمْ لَهُ صَلَاحَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . كَقَوْلِهِمْ : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } وَدُعَاءُ اللَّهِ وَسُؤَالُهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ عِبَادَةٌ لِلَّهِ مَشْرُوعَةٌ بِأَسْبَابِ كَمَا يُقَدِّرُهُ بِهَا فَكَيْفَ يَكُونُ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ مُسْقِطًا لِمَا خَلَقَهُ وَأَمَرَ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ .

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ الرِّزْقِ : هَلْ يَزِيدُ أَوْ يَنْقُصُ ؟ وَهَلْ هُوَ مَا أَكَلَ أَوْ مَا مَلَكَهُ الْعَبْدُ ؟
فَأَجَابَ : الرِّزْقُ نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا : مَا عَلِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَرْزُقُهُ فَهَذَا لَا يَتَغَيَّرُ .
وَ الثَّانِي مَا كَتَبَهُ وَأَعْلَمَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ فَهَذَا يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِحَسَبِ الْأَسْبَابِ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَأْمُرُ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ تَكْتُبَ لَهُ رِزْقًا وَإِنْ وَصَلَ رَحِمَهُ زَادَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ . وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ } . وَكَذَلِكَ عُمْرُ دَاوُد زَادَ سِتِّينَ سَنَةً فَجَعَلَهُ اللَّهُ مِائَةً بَعْدَ أَنْ كَانَ أَرْبَعِينَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ عُمَرَ : اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي شَقِيًّا فَامْحُنِي وَاكْتُبْنِي سَعِيدًا فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى عَنْ نُوحٍ : { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } . وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ . وَالْأَسْبَابُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الرِّزْقُ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَكَتَبَهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ بِأَنَّهُ يَرْزُقُ الْعَبْدَ بِسَعْيِهِ وَاكْتِسَابِهِ أَلْهَمَهُ السَّعْيَ وَالِاكْتِسَابَ

وَذَلِكَ الَّذِي قَدَّرَهُ لَهُ بِالِاكْتِسَابِ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الِاكْتِسَابِ وَمَا قَدَّرَهُ لَهُ بِغَيْرِ اكْتِسَابٍ كَمَوْتِ مَوْرُوثِهِ يَأْتِيهِ بِهِ بِغَيْرِ اكْتِسَابٍ وَالسَّعْيُ سعيان : سَعْيٌ فِيمَا نُصِبَ لِلرِّزْقِ ؛ كَالصِّنَاعَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ . وَسَعْيٌ بِالدُّعَاءِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْخَلْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ .
فَصْلٌ :
وَالرِّزْقُ يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعَبْدُ .
وَ الثَّانِي : مَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ فَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } وَقَوْلِهِ : { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ } وَهَذَا هُوَ الْحَلَالُ الَّذِي مَلَّكَهُ اللَّهُ إيَّاهُ . وَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا } وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالْعَبْدُ قَدْ يَأْكُلُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ فَهُوَ رِزْقٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ؛ لَا بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي وَمَا اكْتَسَبَهُ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ هُوَ رِزْقٌ بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ . فَإِنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ مَالُ وَارِثِهِ لَا مَالُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُفْتِي الْأَنَامِ أَوْحَدُ عَصْرِهِ فَرِيدُ دَهْرِهِ : تَقِيُّ الدِّين أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ - :
عَنْ الرَّجُلِ : إذَا قَطَعَ الطَّرِيقَ وَسَرَقَ أَوْ أَكَلَ الْحَرَامَ وَنَحْوَ ذَلِكَ هَلْ هُوَ رِزْقُهُ الَّذِي ضَمِنَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ هَذَا هُوَ الرِّزْقَ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ لَهُ وَلَا يُحِبُّ ذَلِكَ وَلَا يَرْضَاهُ . وَلَا أَمَرَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ } وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْحَرَامُ بَلْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ الْحَرَامِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَذُمُّهُ وَيَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ الْعِقَابَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِحَسَبِ دِينِهِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } وَهَذَا أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ . وَلَكِنَّ هَذَا الرِّزْقَ الَّذِي سَبَقَ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ وَقَدَّرَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ

ذَلِكَ ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إلَيْهِ الْمَلَكَ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ } فَكَمَا أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ مَا يَعْمَلُهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَهُوَ يُثِيبُهُ عَلَى الْخَيْرِ وَيُعَاقِبُهُ عَلَى الشَّرِّ فَكَذَلِكَ كَتَبَ مَا يَرْزُقُهُ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ مَعَ أَنَّهُ يُعَاقِبُهُ عَلَى الرِّزْقِ الْحَرَامِ . وَلِهَذَا كُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ وَاقِعٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ كَمَا تَقَعُ سَائِرُ الْأَعْمَالِ لَكِنْ لَا عُذْرَ لِأَحَدِ بِالْقَدَرِ بَلْ الْقَدَرُ يُؤْمَنُ بِهِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى اللَّهِ بِالْقَدَرِ بَلْ لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ وَمَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى رُكُوبِ الْمَعَاصِي فَحُجَّتُهُ دَاحِضَةٌ وَمَنْ اعْتَذَرَ بِهِ فَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ كَاَلَّذِينَ قَالُوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا } وَاَلَّذِينَ قَالُوا : { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ } { أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } . وَأَمَّا الرِّزْقُ الَّذِي ضَمِنَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ فَهُوَ قَدْ ضَمِنَ لِمَنْ يَتَّقِيهِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ مِنْ الْمُتَّقِينَ فَضَمِنَ لَهُ مَا يُنَاسِبُهُ بِأَنْ يَمْنَحَهُ مَا يَعِيشُ بِهِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يُعَاقِبُهُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ عَنْ الْخَلِيلِ : { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } - قَالَ اللَّهُ - : { وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .

وَاَللَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ الرِّزْقَ لِمَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى طَاعَتِهِ لَمْ يُبِحْهُ لِمَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ ؛ بَلْ هَؤُلَاءِ وَإِنْ أَكَلُوا مَا ضَمِنَهُ لَهُمْ مِنْ الرِّزْقِ فَإِنَّهُ يُعَاقِبُهُمْ كَمَا قَالَ : { وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } وَقَالَ تَعَالَى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } فَإِنَّمَا أَبَاحَ الْأَنْعَامَ لِمَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّيْدُ فِي الْإِحْرَامِ . وَقَالَ تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } فَكَمَا أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ يَأْكُلُ مَا قُدِّرَ لَهُ مِنْ الرِّزْقِ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى أَخْذِ مَا لَمْ يُبَحْ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ مُحَرَّمَ الْجِنْسِ أَوْ كَانَ مُسْتَعِينًا بِهِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلِهَذَا كَانَتْ أَمْوَالُ الْكُفَّارِ غَيْرَ مَغْصُوبَةٍ بَلْ مُبَاحَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَتُسَمَّى فَيْئًا إذَا عَادَتْ إلَى الْمُؤْمِنِينَ ؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهَا مَنْ يُطِيعُ اللَّهَ لَا مَنْ يَعْصِيهِ بِهَا فَالْمُؤْمِنُونَ يَأْخُذُونَهَا بِحُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْكُفَّارُ يَعْتَدُونَ فِي إنْفَاقِهَا كَمَا أَنَّهُمْ يَعْتَدُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ فَإِذَا عَادَتْ إلَى الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ فَاءَتْ إلَيْهِمْ كَمَا يَفِيءُ الْمَالُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ .

وَسُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْحَرَامِ :
هَلْ هُوَ رِزْقُ اللَّهِ لِلْجُهَّالِ ؟ أَمْ يَأْكُلُونَ مَا قُدِّرَ لَهُمْ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَنَّ لَفْظَ " الرِّزْقِ " يُرَادُ بِهِ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْعَبْدِ وَمَلَّكَهُ إيَّاهُ وَيُرَادُ بِهِ مَا يَتَغَذَّى بِهِ الْعَبْدُ . ( فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ : { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ } { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } فَهَذَا الرِّزْقُ هُوَ الْحَلَالُ وَالْمَمْلُوكُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْخَمْرُ وَالْحَرَامُ . وَ ( الثَّانِي كَقَوْلِهِ : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَرْزُقُ الْبَهَائِمَ وَلَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا تَمْلِكُ وَلَا بِأَنَّهُ أَبَاحَ اللَّهُ ذَلِكَ لَهَا إبَاحَةً شَرْعِيَّةً ؛ فَإِنَّهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَى الْبَهَائِمِ - وَكَذَلِكَ الْأَطْفَالُ وَالْمَجَانِينُ - لَكِنْ لَيْسَ بِمَمْلُوكِ لَهَا وَلَيْسَ بِمُحَرَّمِ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ بَعْضُ الَّذِي يَتَغَذَّى بِهِ الْعَبْدُ وَهُوَ مِنْ الرِّزْقِ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَتَغَذَّى بِهِ وَقَدَّرَ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا أَبَاحَهُ وَمَلَّكَهُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ

أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُبْعَثُ الْمَلَكُ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ . قَالَ : فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلَهَا وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَهَا } . وَالرِّزْقُ الْحَرَامُ مِمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَكَتَبَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ مِمَّا دَخَلَ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ حَرَّمَهُ وَنَهَى عَنْهُ فَلِفَاعِلِهِ مِنْ غَضَبِهِ وَذَمِّهِ وَعُقُوبَتِهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْلِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ : نَازَعْت أَقْدَارَ الْحَقِّ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ جَمِيعُ الْحَوَادِثِ كَائِنَةٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ نُزِيلَ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَنُزِيلَ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ وَالْبِدْعَةَ بِالسُّنَّةِ وَالْمَعْصِيَةَ بِالطَّاعَةِ مِنْ أَنْفُسِنَا وَمِنْ عِنْدِنَا فَكُلُّ مَنْ كَفَرَ أَوْ فَسَقَ أَوْ عَصَى فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِقَدَرِ اللَّهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُ عَنْ الْمُنْكَرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَيُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَإِنْ كَانَ مَا يَعْمَلُهُ مِنْ الْمُنْكَرِ وَالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ بِقَدَرِ اللَّهِ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَدَعَ السَّعْيَ فِيمَا يَنْفَعُهُ اللَّهُ بِهِ مُتَّكِلًا عَلَى الْقَدَرِ بَلْ يَفْعَلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَنَّ ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ : لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ لَكَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ : قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ } . فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ وَاَلَّذِي يَنْفَعُهُ

يَحْتَاجُ إلَى مُنَازَعَةِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَدَفْعِ مَا قُدِّرَ مِنْ الشَّرِّ بِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنْ الْخَيْرِ . وَعَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ وَأَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ خَالِصًا لِلَّهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِكَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ } وَاَلَّذِي قَبْلَهُ حَقِيقَةُ { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ إزَالَةُ مَا قَدَّرَ مِنْ الشَّرِّ بِمَا قَدَّرَ مِنْ الْخَيْرِ وَدَفْعُ مَا يُرِيدُهُ الشَّيْطَانُ وَيَسْعَى فِيهِ مِنْ الشَّرِّ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ بِمَا يَدْفَعُهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْخَيْرِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ } كَمَا يَدْفَعُ شَرَّ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ الَّذِي فِي نُفُوسِهِمْ وَاَلَّذِي سَعَوْا فِيهِ بِالْحَقِّ كَإِعْدَادِ الْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ وَكَالدُّعَاءِ وَالصَّدَقَةِ الذين يَدْفَعَانِ الْبَلَاءَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { إنَّ الدُّعَاءَ وَالْبَلَاءَ لَيَلْتَقِيَانِ فَيَعْتَلِجَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } فَالشَّرُّ تَارَةً يَكُونُ قَدْ انْعَقَدَ سَبَبُهُ وَخِيفَ فَيَدْفَعُ وُصُولَهُ فَيَدْفَعُ الْكُفَّارَ إذَا قَصَدُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ وَتَارَةً يَكُونُ قَدْ وُجِدَ فَيُزَالُ وَتُبَدَّلُ السَّيِّئَاتُ بِالْحَسَنَاتِ وَكُلُّ هَذَا مِنْ بَابِ دَفْعِ مَا قُدِّرَ مِنْ الشَّرِّ بِمَا قُدِّرَ مِنْ الْخَيْرِ وَهَذَا وَاجِبٌ تَارَةً وَمُسْتَحَبٌّ تَارَةً . فَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ .

وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ السُّلُوكِ وَالْإِرَادَةِ يَشْهَدُونَ رُبُوبِيَّةَ الرَّبِّ وَمَا قَدَّرَهُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَنْهَى عَنْهَا فَيَقِفُونَ عِنْدَ شُهُودِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ وَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَالتَّسْلِيمِ وَهَذَا جَهْلٌ وَضَلَالٌ قَدْ يُؤَدِّي إلَى الْكُفْرِ وَالِانْسِلَاخِ مِنْ الدِّينِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَرْضَى بِمَا يَقَعُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ بَلْ أَمَرَنَا أَنْ نَكْرَهَ ذَلِكَ وَنَدْفَعَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ قَالَ : { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } وَقَالَ : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } فَكَيْفَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَرْضَى لِأَنْفُسِنَا مَا لَا يَرْضَاهُ لَنَا وَهُوَ جَعَلَ مَا يَكُونُ مِنْ الشَّرِّ مِحْنَةً لَنَا وَابْتِلَاءً كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ أَمْرِهِ بِالْقِتَالِ : { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدِ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ } . فَالْمُؤْمِنُ إذَا كَانَ صَبُورًا شَكُورًا يَكُونُ مَا يُقْضَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَصَائِبِ خَيْرًا

لَهُ وَإِذَا كَانَ آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ نَاهِيًا عَنْ الْمُنْكَرِ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِهِ كَانَ مَا قُدِّرَ لَهُ مِنْ كُفْرِ الْكُفَّارِ سَبَبًا لِلْخَيْرِ فِي حَقِّهِ وَكَذَلِكَ إذَا دَعَاهُ الشَّيْطَانُ وَالْهَوَى كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ فَيَكُونُ مَا يُقَدَّرُ مِنْ الشَّرِّ إذَا نَازَعَهُ وَدَافَعَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ سَبَبًا لِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَحُصُولِ الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ وَارْتِفَاعِ الدَّرَجَاتِ . فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ قَوْلِ الْخَطِيبِ بْنِ نباتة أَبْرَأُ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا إلَيْهِ ؛ فَأَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَيْهِ وَقَالَ مَا يَصِحُّ ذَلِكَ إلَّا بِحَذْفِ الِاسْتِثْنَاءِ بِأَنْ تَقُولَ أَبْرَأُ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَيْهِ فَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ الْخَطِيبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } { إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } فَهَلْ أَصَابَ الْمُنْكِرُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
مَا ذَكَرَ الْخَطِيبُ صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ وَمَا ذَكَرَهُ الْآخَرُ مِنْ حَذْفِ الِاسْتِثْنَاءِ لَهُ مَعْنًى آخَرُ صَحِيحٌ ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ بَرِئْتُ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَيْهِ كَانَ الْمَعْنَى بَرِئْتُ إلَيْهِ مِنْ حَوْلِي وَقُوَّتِي : أَيْ مِنْ دَعْوَى حَوْلِي وَقُوَّتِي كَمَا يُقَالُ : بَرِئْتُ إلَى فُلَانٍ مِنْ الدَّيْنِ ذَكَرَهُ ثَعْلَبٌ فِي فَصِيحِهِ وَالْمَعْنَى بَرِئْتُ إلَيْهِ مِنْ هَذَا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } { قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إلَيْكَ مَا كَانُوا إيَّانَا يَعْبُدُونَ } وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ إنِّي أَبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ } وَقَوْلُ الْأَنْصَارِيِّ يَوْمَ أُحُدٍ : اللَّهُمَّ إنِّي أَبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ .

وَهَذَا الصَّنِيعُ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الدَّيْنِ : الْمَعْنَى أَوْصَلْتُهُ إلَيْهِ وَفِي غَيْرِهِ اعْتَذَرْتُ إلَيْهِ أَوْ أَلْقَيْتُ إلَيْهِ وَضُمِّنَ مَعْنَى أَلْقَيْتُ إلَيْهِ الْبَرَاءَةَ كَمَا يُقَالُ : أَلْقَى إلَيْهِ الْقَوْلَ { فَأَلْقَوْا إلَيْهِمُ الْقَوْلَ إنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ } { وَأَلْقَوْا إلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ } وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ } فَالتَّبَرِّي قَوْلٌ يُلْقَى إلَى الْمُخَاطَبِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقًا بِالْبَرَاءَةِ . وَالْخَطِيبُ لَمْ يُرِدْ هَذَا الْمَعْنَى بَلْ أَرَادَ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ أَنْ يُلْجِئَ ظَهْرَهُ إلَّا إلَى اللَّهِ وَيُفَوِّضَ أَمْرَهُ إلَّا إلَى اللَّهِ وَيَتَوَجَّهَ فِي أَمْرِهِ إلَّا إلَى اللَّهِ وَيَرْغَبَ فِي أَمْرِهِ إلَّا إلَى اللَّهِ . { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ : إذَا أَوَيْتَ إلَى مَضْجَعِكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ قُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْلَمْتُ نَفَسِي إلَيْكَ وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْكَ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إلَّا إلَيْكَ } فَمَعْنَى قَوْلِهِ : وَأَبْرَأُ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا إلَيْهِ . أَبْرَأُ مِنْ أَنْ أُثْبِتَ لِغَيْرِهِ حَوْلًا وَقُوَّةً أَلْتَجِئُ إلَيْهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَالْمَعْنَى لَا أَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا أَعْتَمِدُ إلَّا عَلَيْهِ . وَهُنَا مَعْنًى ثَالِثٌ : وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : أَبْرَأُ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا بِهِ أَيْ أَبْرَأُ مِنْ أَنْ أَتَبَرَّأَ وَأَعْتَقِدَ وَأَدَّعِيَ حَوْلًا أَوْ قُوَّةً إلَّا بِهِ فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ لَكِنَّ الْخَطِيبَ قَصَدَ الْمَعْنَى الْأَوْسَطَ الَّذِي يَدُلُّ لَفْظُهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ لَهُ حَوْلٌ وَقُوَّةٌ يُلْجَأُ إلَيْهِ وَيُسْتَنَدُ إلَيْهِ فَضُمِّنَ مَعْنَى الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ مَعْنَى الِالْتِجَاءِ فَصَارَ التَّقْدِيرُ أَبْرَأُ مِنْ الِالْتِجَاءِ إلَّا إلَيْهِ وَعَلَى

هَذَا الْحَالِ فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنَى الِالْتِجَاءِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ لَا مَعْنَى أَبْرَأُ وَلَمَّا ظَنَّ الْمُنْكِرُ عَلَى الْخَطِيبِ أَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ مُتَعَلِّقٌ بِلَفْظِ أَبْرَأُ أَنْكَرَ الِاسْتِثْنَاءَ وَلَوْ أَرَادَ الْخَطِيبُ هَذَا لَكَانَ حَذْفُ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ الْوَاجِبَ لَكِنْ لَمْ يُرِدْهُ بَلْ أَرَادَ مَا لَا يَصِحُّ إلَّا مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ فُرِّغَ مَا قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ لِمَا بَعْدَهُ وَالْمُفَرَّغُ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ الْمُوجَبِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى . وَلَفْظُ " الْبَرَاءَةِ " وَإِنْ كَانَ مُثْبَتًا فَفِيهِ مَعْنَى السَّلْبِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } { إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } فَالْحِفْظُ لَفْظٌ مُثْبَتٌ لَكِنْ تَضَمَّنَ مَعْنَى مَا سِوَى الْمَذْكُورِ فَالتَّقْدِيرُ لَا يَكْشِفُونَهَا إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْبَرَاءَةِ وَقَوْلُ الْخَلِيلِ : { إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } { إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } اسْتِثْنَاءٌ تَامٌّ ذُكِرَ فِيهِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْ شَيْءٍ لَا مِنْ لَا شَيْءٍ وَالْمُطَابِقُ لَهُ أَنْ يُقَالَ بَرِئْتُ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَى كُلِّ شَيْءٍ إلَّا إلَيْهِ . لَكِنَّ الْمُسْتَدِلَّ بِالْآيَةِ أَخَذَ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَهُوَ التَّبَرِّي مِمَّا سِوَى اللَّهِ وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ الْمُسْتَدِلُّ بِالْآيَةِ مَعْنًى صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَهُوَ الْبَرَاءَةُ مِمَّا سِوَى اللَّهِ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا

لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } وَهَذَا يُنَاسِبُ مَقْصُودَ الْخَطِيبِ . فَإِنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ يَتَبَرَّأَ مِمَّا سِوَى اللَّهِ لَيْسَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَتَبَرَّأَ إلَيْهِ لَكِنَّ الْخَطِيبَ قَصَدَ الْبَرَاءَةَ مِنْ الِالْتِجَاءِ إلَّا إلَيْهِ وَالِالْتِجَاءُ إلَيْهِ دَاخِلٌ فِي عِبَادَتِهِ فَهُوَ بَعْضُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَتَبَرَّءُوا مِنْ أَنْ يَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ أَوْ يَتَوَكَّلُوا إلَّا عَلَيْهِ وَهَذَا تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ بِهِ الْكُتُبَ لَكِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ مَقْصُودُهُ إخْلَاصَ الْعِبَادَةِ فِي مَسْأَلَتِهِ وَدُعَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالِالْتِجَاءِ إلَيْهِ ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ الْخَطِيبُ وَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ بِحَقَائِقِ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ وَالْمُنْكِرُ قَصَدَ مَعْنًى صَحِيحًا ؛ وَالْمُسْتَدِلُّ قَصَدَ مَعْنًى صَحِيحًا لَكِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْوِي كَثِيرًا مِنْ نَفْيِ مَا لَا يَعْلَمُ إلَّا مِنْ إثْبَاتِ مَا يَعْلَمُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
__________
(*) آخِرُ الْمُجَلَّدِ الثَّامِنِ

الْجُزْءُ الْتَاسِعُ
كِتَابُ الْمَنْطِقِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
مَا تَقُولُونَ فِي " الْمَنْطِقِ " وَهَلْ مَنْ قَالَ إنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ مُصِيبٌ أَمْ مُخْطِئٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا الْمَنْطِقُ : فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَإِنْ مَنْ لَيْسَ لَهُ بِهِ خِبْرَةٌ فَلَيْسَ لَهُ ثِقَةٌ بِشَيْءِ مِنْ عُلُومِهِ فَهَذَا الْقَوْلُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ مِنْ وُجُوهٍ

كَثِيرَةِ التَّعْدَادِ مُشْتَمِلٌ عَلَى أُمُورٍ فَاسِدَةٍ وَدَعَاوَى بَاطِلَةٍ كَثِيرَةٍ لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِاسْتِقْصَائِهَا . بَلْ الْوَاقِعُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا : أَنَّك لَا تَجِدُ مَنْ يُلْزِمُ نَفْسَهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي عُلُومِهِ بِهِ وَيُنَاظِرَ بِهِ إلَّا وَهُوَ فَاسِدُ النَّظَرِ وَالْمُنَاظَرَةِ كَثِيرُ الْعَجْزِ عَنْ تَحْقِيقِ عِلْمِهِ وَبَيَانِهِ . فَأَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ فِي هَذَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ هُوَ وَأَمْثَالُهُ فِي غَايَةِ الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالَةِ وَقَدْ فَقَدُوا أَسْبَابَ الْهُدَى كُلَّهَا فَلَمْ يَجِدُوا مَا يَرُدُّهُمْ عَنْ تِلْكَ الْجَهَالَاتِ إلَّا بَعْضُ مَا فِي الْمَنْطِقِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ صَحِيحَةٌ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ بَعْضِ ذَلِكَ رَجَعَ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ عَنْ بَعْضِ بَاطِلِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ حَقٌّ يَنْفَعُهُمْ وَإِنْ وَقَعُوا فِي بَاطِلٍ آخَرَ . وَمَعَ هَذَا فَلَا يَصِحُّ نِسْبَةُ وُجُوبِهِ إلَى شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ . إذْ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ فَإِنَّمَا أَتَى مِنْ نَفْسِهِ بِتَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْحَقِّ حَتَّى احْتَاجَ إلَى الْبَاطِلِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ : أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُوبِهِ قَوْلُ غُلَاتِهِ وَجُهَّالِ أَصْحَابِهِ . وَنَفْسُ الْحُذَّاقِ مِنْهُمْ لَا يَلْتَزِمُونَ قَوَانِينَهُ فِي كُلِّ عُلُومِهِمْ بَلْ يُعْرِضُونَ عَنْهَا . إمَّا لِطُولِهَا وَإِمَّا لِعَدَمِ فَائِدَتِهَا وَإِمَّا لِفَسَادِهَا وَإِمَّا لِعَدَمِ تَمَيُّزِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الْإِجْمَالِ وَالِاشْتِبَاهِ . فَإِنَّ فِيهِ مَوَاضِعَ كَثِيرَةً هِيَ لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعِرٍ لَا سَهْلٍ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينٌ فَيُنْتَقَلُ .

وَلِهَذَا مَا زَالَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ يَذُمُّونَهُ وَيَذُمُّونَ أَهْلَهُ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِهِ حَتَّى رَأَيْت لِلْمُتَأَخِّرِينَ فُتْيَا فِيهَا خُطُوطُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ زَمَانِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِيهَا كَلَامٌ عَظِيمٌ فِي تَحْرِيمِهِ وَعُقُوبَةِ أَهْلِهِ حَتَّى إنَّ مِنْ الْحِكَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي بَلَغَتْنَا : أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا عَمْرِو بْنَ الصَّلَاحِ أَمَرَ بِانْتِزَاعِ مَدْرَسَةٍ مَعْرُوفَةٍ مِنْ أَبِي الْحَسَنِ الآمدي وَقَالَ : أَخْذُهَا مِنْهُ أَفْضَلُ مِنْ أَخْذِ عَكَّا . مَعَ أَنَّ الْآمِدِيَّ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي وَقْتِهِ أَكْثَرَ تَبَحُّرًا فِي الْعُلُومِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْفَلْسَفِيَّةِ مِنْهُ وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِهِمْ إسْلَامًا وَأَمْثَلِهِمْ اعْتِقَادًا . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأُمُورَ الدَّقِيقَةَ : سَوَاءٌ كَانَتْ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا إيمَانًا أَوْ كُفْرًا لَا تُعْلَمُ إلَّا بِذَكَاءِ وَفِطْنَةٍ فَكَذَلِكَ أَهْلُهُ قَدْ يستجهلون مَنْ لَمْ يُشْرِكْهُمْ فِي عِلْمِهِمْ وَإِنْ كَانَ إيمَانُهُ أَحْسَنَ مِنْ إيمَانِهِمْ إذَا كَانَ فِيهِ قُصُورٌ فِي الذَّكَاءِ وَالْبَيَانِ وَهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ } { وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } { وَإِذَا انْقَلَبُوا إلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ } { وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ } { وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } { فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } { عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ } { هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } . فَإِذَا تَقَلَّدُوا عَنْ طَوَاغِيتِهِمْ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَحْصُلْ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ الْقِيَاسِيَّةِ فَلَيْسَ بِعِلْمِ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ لِكَثِيرِ مِنْهُمْ مَنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ الْقِيَاسِيَّةِ مَا يَسْتَفِيدُ

بِهِ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ فَيَكُونُ كَافِرًا زِنْدِيقًا مُنَافِقًا جَاهِلًا ضَالًّا مُضِلًّا ظَلُومًا كَفُورًا وَيَكُونُ مِنْ أَكَابِرِ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } . { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا } { وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } وَرُبَّمَا حَصَلَ لِبَعْضِهِمْ إيمَانٌ إمَّا مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا . وَيَحْصُلُ لَهُ أَيْضًا مِنْهَا نِفَاقٌ فَيَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ وَيَكُونُ فِي حَالٍ مُؤْمِنًا وَفِي حَالٍ مُنَافِقًا وَيَكُونُ مُرْتَدًّا : إمَّا عَنْ أَصْلِ الدِّينِ أَوْ عَنْ بَعْضِ شَرَائِعِهِ : إمَّا رِدَّةَ نِفَاقٍ وَإِمَّا رِدَّةَ كُفْرٍ وَهَذَا كَثِيرٌ غَالِبٌ لَا سِيَّمَا فِي الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ الَّتِي تَغْلِبُ فِيهَا الْجَاهِلِيَّةُ وَالْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ . فَلِهَؤُلَاءِ مِنْ عَجَائِبِ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالضَّلَالِ مَا لَا يَتَّسِعُ لِذِكْرِهِ الْمَقَامُ . وَلِهَذَا لَمَّا تَفَطَّنَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لِمَا فِي هَذَا النَّفْيِ مِنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ صَارُوا يَقُولُونَ : النُّفُوسُ الْقُدْسِيَّةُ - كَنُفُوسِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ - تَفِيضُ عَلَيْهَا الْمَعَارِفُ بِدُونِ الطَّرِيقِ الْقِيَاسِيَّةِ . وَهُمْ مُتَّفِقُونَ جَمِيعُهُمْ عَلَى أَنَّ مِنْ النُّفُوسِ مَنْ تَسْتَغْنِي عَنْ وَزْنِ عُلُومِهَا

بِالْمَوَازِينِ الصِّنَاعِيَّةِ فِي الْمَنْطِقِ لَكِنْ قَدْ يَقُولُونَ : هُوَ حَكِيمٌ بِالطَّبْعِ . وَالْقِيَاسُ يَنْعَقِدُ فِي نَفْسِهِ بِدُونِ تَعَلُّمِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ كَمَا يَنْطِقُ الْعَرَبِيُّ بِالْعَرَبِيَّةِ بِدُونِ النَّحْوِ ؛ وَكَمَا يَقْرِضُ الشَّاعِرُ الشِّعْرَ بِدُونِ مَعْرِفَةِ الْعَرُوضِ . لَكِنَّ اسْتِغْنَاءَ بَعْضِ النَّاسِ عَنْ هَذِهِ الْمَوَازِينِ لَا يُوجِبُ اسْتِغْنَاءَ الْآخَرِينَ . فَاسْتِغْنَاءُ كَثِيرٍ مِنْ النُّفُوسِ عَنْ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ . وَالْكَلَامُ هُنَا : هَلْ تَسْتَغْنِي النُّفُوسُ فِي عُلُومِهَا بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ نَفْسِ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ وَمَوَادِّهِ الْمُعَيَّنَةِ . فَالِاسْتِغْنَاءُ عَنْ جِنْسِ هَذَا الْقِيَاسِ شَيْءٌ وَعَنْ الصِّنَاعَةِ الْقَانُونِيَّةِ الَّتِي يُوزَنُ بِهَا الْقِيَاسُ شَيْءٌ آخَرُ . فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ " أَنَّهُ آلَةٌ قَانُونِيَّةٌ تَمْنَعُ مُرَاعَاتُهَا الذِّهْنَ أَنْ يَزِلَّ فِي فِكْرِهِ " وَفَسَادُ هَذَا مَبْسُوطٌ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا .
وَنَحْنُ بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَّا عَدَمَ فَائِدَتِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَتَضَمَّنُ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَحْصُلُ بِدُونِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَّا أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ قَدْ يُفِيدُ بَعْضَ النَّاسِ مِنْ الْعِلْمِ مَا يُفِيدُهُ هُوَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ إلَى ذَلِكَ الْعِلْمِ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَلِسَائِرِ بَنِي آدَمَ طَرِيقٌ إلَّا بِمِثْلِ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ . فَإِنَّ هَذَا قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ . وَهُوَ كَذِبٌ مُحَقَّقٌ . وَلِهَذَا مَا زَالَ مُتَكَلِّمُو الْمُسْلِمِينَ - وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ نَوْعٌ مِنْ الْبِدْعَةِ - لَهُمْ مِنْ الرَّدِّ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ وَبَيَانِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ وَحُصُولِ الضَّرَرِ وَالْجَهْلِ بِهِ وَالْكُفْرِ مَا

لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ ؛ دَعْ غَيْرَهُمْ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَاقِلَانِي فِي كِتَابِ " الدَّقَائِقِ " . فَأَمَّا الشِّعْرِيُّ - وَهُوَ مَا يُفِيدُ مُجَرَّدَ التَّخْيِيلِ وَتَحْرِيكِ النَّفْسِ - وَذَلِكَ يَظْهَرُ بِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَقْيِسَةَ خَمْسَةً : الْبُرْهَانِيَّ وَالْخَطَابِيَّ وَالْجَدَلِيَّ وَالشِّعْرِيَّ وَالْمُغَلِّطِيَّ السُّوفِسْطَائِيَّ . وَهُوَ مَا يُشْبِهُ الْحَقَّ وَهُوَ بَاطِلٌ وَهُوَ الْحِكْمَةُ الْمُمَوَّهَةُ - فَلَا غَرَضَ لَنَا فِيهِ هُنَا وَلَكِنَّ غَرَضَنَا تِلْكَ الثَّلَاثَةُ . قَالُوا : " الْجَدَلِيُّ " مَا سَلَّمَ الْمُخَاطَبُ مُقَدِّمَاتِهِ و " الْخِطَابِيُّ " مَا كَانَتْ مُقَدِّمَاتُهُ مَشْهُورَةً بَيْنَ النَّاسِ و " الْبُرْهَانِيُّ " مَا كَانَتْ مُقَدِّمَاتُهُ مَعْلُومَةً.
وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ تَكُونُ - مَعَ كَوْنِهَا خَطَابِيَّةً أَوْ جَدَلِيَّةً - يَقِينِيَّةً بُرْهَانِيَّةً بَلْ وَكَذَلِكَ مَعَ كَوْنِهَا شِعْرِيَّةً وَلَكِنْ هِيَ مِنْ جِهَةِ التَّيَقُّنِ بِهَا : تُسَمَّى بُرْهَانِيَّةً وَمِنْ جِهَةِ شُهْرَتِهَا عِنْدَ عُمُومِ النَّاسِ وَقَبُولِهِمْ لَهَا : تُسَمَّى خَطَابِيَّةً وَمِنْ جِهَةِ تَسْلِيمِ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ لَهَا : تُسَمَّى جَدَلِيَّةً . وَهَذَا كَلَامُ أُولَئِكَ الْمُبْتَدِعَةِ مِنْ الصَّابِئَةِ الَّذِينَ لَمْ يَذْكُرُوا النُّبُوَّاتِ وَلَا تَعَرَّضُوا لَهَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ . وَعَدَمُ التَّصْدِيقِ لِلرُّسُلِ وَاتِّبَاعِهِمْ كُفْرٌ وَضَلَالٌ . وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ تَكْذِيبَهُمْ فَالْكُفْرُ وَالضَّلَالُ أَعَمُّ مِنْ التَّكْذِيبِ .

وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْمَشْهُورَاتِ : هِيَ الْمَقْبُولَاتُ لِكَوْنِ صَاحِبِهَا مُؤَيَّدًا بِأَمْرِ يُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ - فَهَذِهِ مِنْ الزِّيَادَاتِ الَّتِي أَلْزَمَتْهُمْ إيَّاهَا الْحُجَّةُ وَرَأَوْا وُجُوبَ قَبُولِهَا عَلَى طَرِيقَةِ الْأَوَّلِينَ . وَلِهَذَا كَانَ غَالِبُ صَابِئَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ هُمْ الْفَلَاسِفَةُ مُمْتَزِجِينَ بِالْحَنِيفِيَّةِ كَمَا أَنَّ غَالِبَ مَنْ دَخَلَ فِي الْفَلْسَفَةِ مِنْ الْحُنَفَاءِ مَزَجَ الْحَنِيفِيَّةَ بالصبء وَلَبَسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ أَعْنِي بالصبء الْمُبْتَدَعِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إيمَانٌ بَلْ بِالنُّبُوَّاتِ كصبء صَاحِبِ الْمَنْطِقِ وَأَتْبَاعِهِ . وَأَمَّا الصبء الْقَدِيمُ فَذَاكَ أَصْحَابُهُ : مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات . فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ كَمَا أَنَّ التَّهَوُّدَ وَالتَّنَصُّرَ مِنْهُ مَا أَهْلُهُ مُبْتَدِعُونَ ضُلَّالٌ قَبْلَ إرْسَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهُ مَا كَانَ أَهْلُهُ مُتَّبِعِينَ لِلْحَقِّ . وَهُمْ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ وَالْآخِرِ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .
وَمَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْمَنْطِقِ : إنَّ الْقِيَاسَ الْخَطَابِيَّ هُوَ مَا يُفِيدُ الظَّنَّ كَمَا أَنَّ الْبُرْهَانِيَّ مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ : فَلَمْ يَعْرِفْ مَقْصُودَ الْقَوْمِ ؛ وَلَا قَالَ حَقًّا . فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَطَابِيِّ وَالْجَدَلِيِّ قَدْ يُفِيدُ الظَّنَّ كَمَا أَنَّ الْبُرْهَانِيَّ قَدْ تَكُونُ مُقَدِّمَاتُهُ مَشْهُورَةً وَمُسَلَّمَةً . فَالتَّقْسِيمُ لِمَوَادِّ الْقِيَاسِ وَقَعَ بِاعْتِبَارِ الْجِهَاتِ الَّتِي يُقْبَلُ مِنْهَا ؛ فَتَارَةً يُقْبَلُ

الْقَوْلُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ ؛ إذْ الْعِلْمُ يُوجِبُ الْقَبُولَ . وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ فَلَا يُوجِبُ قَبُولَهُ إلَّا لِسَبَبِ . فَإِنْ كَانَ لِشُهْرَتِهِ : فَهُوَ خَطَابِيٌّ وَلَوْ لَمْ يُفِدْ عِلْمًا وَلَا ظَنًّا . وَهُوَ أَيْضًا خَطَابِيٌّ إذَا كَانَتْ قَضِيَّتُهُ مَشْهُورَةً وَإِنْ أَفَادَ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا . وَالْقَوْلُ فِي الْجَدَلِيِّ كَذَلِكَ . ثُمَّ إنَّهُمْ قَدْ يُمَثِّلُونَ الْمَشْهُورَاتِ الْمَقْبُولَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ عِلْمِيَّةً بِقَوْلِنَا " الْعِلْمُ حَسَنٌ وَالْجَهْلُ قَبِيحٌ وَالْعَدْلُ حَسَنٌ وَالظُّلْمُ قَبِيحٌ " وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يُثْبِتُهَا مَنْ يَقُولُ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّا إذَا رَجَعْنَا إلَى مَحْضِ الْعَقْلِ لَمْ نَجِدْ فِيهِ حُكْمًا بِذَلِكَ . وَقَدْ يُمَثِّلُونَهَا بِأَنَّ الْمَوْجُودَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِلْمَوْجُودِ الْآخَرِ أَوْ محايثا لَهُ أَوْ أَنَّ الْمَوْجُودَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِجِهَةِ مِنْ الْجِهَاتِ . أَوْ يَكُونَ جَائِزَ الرُّؤْيَةِ وَيَزْعُمُونَ : أَنَّ هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْوَهْمِ لَا الْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ . قَالُوا : لِأَنَّ الْعَقْلَ يُسَلِّمُ مُقَدِّمَاتٍ يُعْلَمُ بِهَا فَسَادُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ . وَهَذَا كُلُّهُ تَخْلِيطٌ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ . فَأَمَّا تِلْكَ الْقَضَايَا الَّتِي سَمَّوْهَا مَشْهُورَاتٍ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ فَهِيَ مِنْ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ الْبَدِيهِيَّةِ الَّتِي جَزْمُ الْعُقُولِ بِهَا أَعْظَمُ مَنْ جَزْمِهَا بِكَثِيرِ مِنْ الْعُلُومِ الْحِسَابِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ وَهِيَ كَمَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بَلْ أَكْثَرُ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ : أَنَّهَا قَضَايَا بَدِيهِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ ؛ لَكِنْ

قَدْ لَا يُحْسِنُونَ تَفْسِيرَ ذَلِكَ . فَإِنَّ حُسْنَ ذَلِكَ وَقُبْحَهُ هُوَ حُسْنُ الْأَفْعَالِ وَقُبْحُهَا وَحُسْنُ الْفِعْلِ هُوَ كَوْنُهُ مُقْتَضِيًا لِمَا يَطْلُبُهُ الْحَيُّ لِذَاتِهِ وَيُرِيدُهُ مِنْ الْمَقَاصِدِ وَقُبْحُهُ بِالْعَكْسِ . وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ . فَإِنَّ الْعِلْمَ وَالصِّدْقَ وَالْعَدْلَ هِيَ كَذَلِكَ مُحَصِّلَةٌ لِمَا يُطْلَبُ لِذَاتِهِ وَيُرَادُ لِنَفْسِهِ مِنْ الْمَقَاصِدِ فَحُسْنُ الْفِعْلِ وَقُبْحُهُ هُوَ لِكَوْنِهِ مُحَصِّلًا لِلْمَقْصُودِ الْمُرَادِ بِذَاتِهِ أَوْ مُنَافِيًا لِذَلِكَ . وَلِهَذَا كَانَ الْحَقُّ يُطْلَقُ تَارَةً بِمَعْنَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَيُقَالُ : هَذَا حَقٌّ أَيْ ثَابِتٌ وَهَذَا بَاطِلٌ أَيْ مُنْتَفٍ ؛ وَفِي الْأَفْعَالِ : بِمَعْنَى التَّحْصِيلِ لِلْمَقْصُودِ فَيُقَالُ : هَذَا الْفِعْلُ حَقٌّ ؛ أَيْ نَافِعٌ ؛ أَوْ مُحَصِّلٌ لِلْمَقْصُودِ وَيُقَالُ : بَاطِلٌ أَيْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ .
وَأَمَّا زَعْمُهُمْ : أَنَّ الْبَدِيهَةَ وَالْفِطْرَةَ قَدْ تَحْكُمُ بِمَا يَتَبَيَّنُ لَهَا بِالْقِيَاسِ فَسَادُهُ : فَهَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ بَدِيهِيَّةٍ فِطْرِيَّةٍ فَإِنْ جُوِّزَ أَنْ تَكُونَ الْمُقَدِّمَاتُ الْفِطْرِيَّةُ الْبَدِيهِيَّةُ غَلَطًا مِنْ غَيْرِ تَبْيِينِ غَلَطِهَا إلَّا بِالْقِيَاسِ لَكَانَ قَدْ تَعَارَضَتْ الْمُقَدِّمَاتُ الْفِطْرِيَّةُ بِنَفْسِهَا وَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ الَّذِي مُقَدِّمَاتُهُ فِطْرِيَّةٌ . فَلَيْسَ رَدُّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْفِطْرِيَّةِ لِأَجْلِ تِلْكَ بِأَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ بَلْ الْغَلَطُ فِيمَا تَقِلُّ مُقَدِّمَاتُهُ أَوْلَى فَمَا يُعْلَمُ بِالْقِيَاسِ وَبِمُقَدِّمَاتٍ فِطْرِيَّةٍ أَقْرَبُ إلَى الْغَلَطِ مِمَّا يُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ الْفِطْرَةِ .

وَهَذَا يَذْكُرُونَهُ فِي نَفْيِ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَبَاطِيلِهِمْ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ مُتَقَدِّمِيهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا الْمُقَدِّمَاتِ الْمُتَلَقَّاةِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَكِنْ الْمُتَأَخِّرُونَ رَتَّبُوهُ عَلَى ذَلِكَ : إمَّا بِطْرِيقِ الصَّابِئَةِ الَّذِينَ لَبَّسُوا الْحَنِيفِيَّةَ بِالصَّابِئَةِ : كَابْنِ سِينَا وَنَحْوِهِ وَإِمَّا بِطَرِيقِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا الظَّنَّ بِمَا ذَكَرَهُ الْمَنْطِقِيُّونَ وَقَرَّرُوا إثْبَاتَ الْعِلْمِ بِمُوجَبِ النُّبُوآتِ بِهِ . أَمَّا الْأَوَّلُ : فَإِنَّهُ جَعَلَ عُلُومَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْعُلُومِ الْحَدْسِيَّةِ لِقُوَّةِ صَفَاءِ تِلْكَ النُّفُوسِ الْقُدْسِيَّةِ وَطَهَارَتِهَا وَأَنَّ قُوَى النُّفُوسِ فِي الْحَدْسِ لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ . وَلَا بُدَّ لِلْعَالَمِ مِنْ نِظَامٍ يَنْصِبُهُ حَكِيمٌ فَيُعْطِي النُّفُوسَ الْمُؤَيِّدَةَ مِنْ الْقُوَّةِ مَا تَعْلَمُ بِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهَا بِطَرِيقِ الْحَدْسِ وَيَتَمَثَّلُ لَهَا مَا تَسْمَعُهُ وَتَرَاهُ فِي نَفْسِهَا مِنْ الْكَلَامِ وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ مَا لَا يَسْمَعُهُ غَيْرُهَا وَيَكُونُ لَهَا مِنْ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي تُطِيعُهَا بِهَا هَيُولَى الْعَالَمِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهَا فَهَذِهِ الْخَوَارِقُ فِي قُوَى الْعِلْمِ مَعَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَقُوَّةِ الْعَمَلِ وَالْقُدْرَةِ : هِيَ النُّبُوَّةُ عِنْدَهُمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَدْسَ رَاجِعٌ إلَى قِيَاسِ التَّمْثِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَأَمَّا مَا يَسْمَعُ وَيَرَى فِي نَفْسِهِ فَهُوَ مَنْ جِنْسِ الرُّؤْيَا وَهَذَا الْقَدْرُ يَحْصُلُ مِثْلُهُ لِكَثِيرِ مِنْ عَوَامِّ النَّاسِ وَكُفَّارِهِمْ فَضْلًا عَنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ . فَكَيْفَ يُجْعَلُ ذَلِكَ هُوَ غَايَةَ النُّبُوَّةِ ؟ وَإِنْ كَانَ الَّذِي يُثْبِتُونَهُ لِلْأَنْبِيَاءِ أَكْمَلَ وَأَشْرَفَ فَهُوَ كَمَلِكِ أَقْوَى مِنْ مَلِكٍ . وَلِهَذَا صَارُوا يَقُولُونَ : النُّبُوَّةُ مُكْتَسَبَةٌ وَلَمْ يُثْبِتُوا نُزُولَ

مَلَائِكَةٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إلَى مَنْ يَخْتَارُهُ وَيَصْطَفِيهِ مِنْ عِبَادِهِ . وَلَا قَصْدَ إلَى تَكْلِيمِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ مِنْ رُسُلِهِ ؛ كَمَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ قُدَمَائِهِمْ أَنَّهُ قَالَ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ : أَنَا أُصَدِّقُك فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي أَنَّ عِلَّةَ الْعِلَلِ كَلَّمَك مَا أَقْدِرُ أَنْ أُصَدِّقَك فِي هَذَا . وَلِهَذَا صَارَ مَنْ ضَلَّ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ يَدَّعِي مُسَاوَاةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ أَوْ التَّقَدُّمَ عَلَيْهِمْ ؛ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَكْمَلُ النَّوْعِ وَهُمْ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ وَأَظْلَمِهِمْ وَأَكْفَرِهِمْ وَأَعْظَمِهِمْ نِفَاقًا . وَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُونَ الْمَنْطِقِيُّونَ فَيَقُولُونَ : يُعْلَمُ بِهَذَا الْقِيَاسِ ثُبُوتُ الصَّانِعِ وَقُدْرَتُهُ وَجَوَازُ إرْسَالِ الرُّسُلِ ؛ وَتَأْيِيدُ اللَّهِ لَهُمْ بِمَا يُوجِبُ تَصْدِيقَهُمْ فِيمَا يَقُولُونَهُ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَقْرَبُ إلَى طَرِيقَةِ الْعُلَمَاءِ الْمُؤْمِنِينَ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا أَنْوَاعٌ مِنْ الْبَاطِلِ : تَارَةً مِنْ جِهَةِ مَا تَقَلَّدُوهُ عَنْ الْمَنْطِقِيِّينَ ؛ وَتَارَةً مِنْ جِهَةِ مَا ابْتَدَعُوهُ هُمْ مِمَّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَمَنْطِقِيَّةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ ؛ لَكِنَّ الْهُدَى وَالْعِلْمَ وَالْبَيَانَ فِي فَلَاسِفَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمُتَكَلِّمِيهِمْ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ ؛ لِمَا فِي تينك الْمِلَّتَيْنِ مِنْ الْفَسَادِ . وَلَكِنَّ الْغَرَضَ تَقْرِيرُ جِنْسِ النُّبُوَّاتِ . فَإِنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهَا لَكِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى آمَنُوا بِبَعْضِ الرُّسُلِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ . وَالصَّابِئَةَ الْفَلَاسِفَةَ وَنَحْوَهُمْ آمَنُوا بِبَعْضِ صِفَاتِ الرِّسَالَةِ دُونَ بَعْضٍ . فَإِذَا اتَّفَقَ مُتَفَلْسِفٌ مِنْ أَهْلِ

الْكِتَابِ جَمَعَ الكفرين : الْكُفْرَ بِخَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ . وَالْكُفْرَ بِحَقَائِقِ صِفَاتِ الرِّسَالَةِ فِي جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ فَهَذَا هَذَا . فَيُقَالُ لَهُمْ - مَعَ عِلْمِهِمْ بِتَفَاوُتِ قُوَى بَنِي آدَمَ فِي الْإِدْرَاكِ - : مَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ يُخْرَقَ سَمْعُ أَحَدِهِمْ وَبَصَرُهُ حَتَّى يَسْمَعَ وَيَرَى مِنْ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ مَا لَا يَرَاهُ غَيْرُهُ ؟ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إلَّا وَمَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ قَاعِدٌ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ } " فَهَذَا إحْسَاسٌ بِالظَّاهِرِ أَوْ بِالْبَاطِنِ لِمَا هُوَ فِي الْخَارِجِ . وَكَذَلِكَ الْعُلُومُ الْكُلِّيَّةُ الْبَدِيهِيَّةُ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا حَدٌّ فِي بَنِي آدَمَ فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ بَعْضَ النُّفُوسِ يَكُونُ لَهَا مِنْ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ مَا يَخْتَصُّ بِهَا وَحْدَهَا أَوْ بِهَا وَبِأَمْثَالِهَا مَا لَا يَكُونُ مِنْ الْبَدِيهِيَّاتِ عِنْدَكُمْ ؟ وَإِذَا كَانَ هَذَا مُمْكِنًا - وَعَامَّةُ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ - دَعْ الْأَنْبِيَاءَ - فَمِثْلَ هَذِهِ الْعُلُومِ لَيْسَ فِي مَنْطِقِكُمْ طَرِيقٌ إلَيْهَا إذْ لَيْسَتْ مِنْ الْمَشْهُورَاتِ وَلَا الْجَدَلِيَّاتِ وَلَا مَوَادُّهَا عِنْدَكُمْ يَقِينِيَّةٌ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ نَفْيَهَا وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين عَلَى إثْبَاتِهَا . فَإِنْ كَذَّبْتُمْ بِهَا كُنْتُمْ - مَعَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ وَخَسَارَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ - تَارِكِينَ لِمَنْطِقِكُمْ أَيْضًا وَخَارِجِينَ عَمَّا أَوْجَبْتُمُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ : أَنَّكُمْ لَا تَقُولُونَ إلَّا بِمُوجَبِ الْقِيَاسِ إذْ لَيْسَ لَكُمْ بِهَذَا النَّفْيِ قِيَاسٌ

وَلَا حُجَّةَ تُذْكَرُ . وَلِهَذَا لَمْ تَذْكُرُوا عَلَيْهِ حُجَّةً وَإِنَّمَا انْدَرَجَ هَذَا النَّفْيُ فِي كَلَامِكُمْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ . وَإِنْ قُلْتُمْ : بَلْ هِيَ حَقٌّ اعْتَرَفْتُمْ بِأَنَّ مِنْ الْحَقِّ مَا لَا يُوزَنُ بِمِيزَانِ مَنْطِقِكُمْ . وَإِنْ قُلْتُمْ : لَا نَدْرِي أَحَقٌّ هِيَ أَمْ بَاطِلٌ ؟ اعْتَرَفْتُمْ بِأَنَّ أَعْظَمَ الْمَطَالِبِ وَأَجَلَّهَا لَا يُوزَنُ بِمِيزَانِ الْمَنْطِقِ . فَإِنْ صَدَّقْتُمْ لَمْ يُوَافِقْكُمْ الْمَنْطِقُ . وَإِنْ كَذَّبْتُمْ لَمْ يُوَافِقْكُمْ الْمَنْطِقُ . وَإِنْ ارْتَبْتُمْ لَمْ يَنْفَعْكُمْ الْمَنْطِقُ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ : أَنَّ مَوَازِينَ الْأَمْوَالِ لَا يُقْصَدُ أَنْ يُوزَنَ بِهَا الْحَطَبُ وَالرَّصَاصُ دُونَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ . وَأَمْرُ النُّبُوَّاتِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ أَعْظَمُ فِي الْعُلُومِ مِنْ الذَّهَبِ فِي الْأَمْوَالِ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَنْطِقِكُمْ مِيزَانٌ لَهُ كَانَ الْمِيزَانُ - مَعَ أَنَّهُ مِيزَانٌ - عَائِلًا جَائِرًا وَهُوَ أَيْضًا عَاجِزٌ . فَهُوَ مِيزَانٌ جَاهِلٌ ظَالِمٌ إذْ هُوَ إمَّا أَنْ يَرُدَّ الْحَقَّ وَيَدْفَعَهُ فَيَكُونُ ظَالِمًا أَوْ لَا يَزِنُهُ وَلَا يُبَيِّنُ أَمْرَهُ فَيَكُونُ جَاهِلًا أَوْ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَمْرَانِ فَيَرُدُّ الْحَقَّ وَيَدْفَعُهُ - وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَيْسَ لِلنُّفُوسِ عَنْهُ عِوَضٌ وَلَا لَهَا عَنْهُ مَنْدُوحَةٌ وَلَيْسَتْ سَعَادَتُهَا إلَّا فِيهِ وَلَا هَلَاكُهَا إلَّا بِتَرْكِهِ - فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ - مَعَ هَذَا - أَنْ تَقُولُوا : إنَّهُ وَمَا وَزَنْتُمُوهُ بِهِ مِنْ الْمَتَاعِ الْخَسِيسِ الَّذِي أَنْتُمْ فِي وَزْنِكُمْ إيَّاهُ بِهِ ظَالِمُونَ عَائِلُونَ لَمْ تَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَمْ تَسْتَدِلُّوا بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ : هُوَ مِعْيَارُ الْعُلُومِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْحِكْمَةُ الْيَقِينِيَّةُ

الَّتِي فَازَ بِالسَّعَادَةِ عَالِمُهَا وَخَابَ بِالشَّقَاوَةِ جَاهِلُهَا وَرَأْسُ مَالِ السَّادَةِ وَغَايَةُ الْعَالِمِ الْمُنْصِفِ مِنْكُمْ : أَنْ يَعْتَرِفَ بِعَجْزِ مِيزَانِكُمْ عَنْهُ . وَأَمَّا عَوَامُّ عُلَمَائِكُمْ فَيُكَذِّبُونَ بِهِ وَيَرُدُّونَهُ وَإِنْ كَانَ مَنْطِقُكُمْ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ فَلَسْتُمْ بِتَحْرِيفِ أَمْرِ مَنْطِقِكُمْ أَحْسَنَ حَالًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي تَحْرِيفِ كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ فِي الْأَصْلِ حَقٌّ هَادٍ ؛ لَا رَيْبَ فِيهِ ، فَهَذَا هَذَا وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ .
وَأَيْضًا هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا أُمُورًا كُلِّيَّةً مُقَدَّرَةً فِي الذِّهْنِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِشَيْءِ مَوْجُودٍ مُحَقَّقٍ فِي الْخَارِجِ إلَّا بِتَوَسُّطِ شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِهِ . وَالْأُمُورُ الْكُلِّيَّةُ الذِّهْنِيَّةُ لَيْسَتْ هِيَ الْحَقَائِقَ الْخَارِجِيَّةَ وَلَا هِيَ أَيْضًا عِلْمًا بِالْحَقَائِقِ الْخَارِجِيَّةِ إذْ لِكُلِّ مَوْجُودٍ حَقِيقَةٌ يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ ، هُوَ بِهَا هُوَ ، وَتِلْكَ لَيْسَتْ كُلِّيَّةً فَالْعِلْمُ بِالْأَمْرِ الْمُشْتَرَكِ لَا يَكُونُ عِلْمًا بِهَا فَلَا يَكُونُ فِي الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ عِلْمَ تَحْقِيقِ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
وَأَيْضًا هُمْ يَطْعَنُونَ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ . أَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ وَرُبَّمَا تَكَلَّمُوا عَلَى بَعْضِ الْأَقْيِسَةِ الْفَرْعِيَّةِ أَوْ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي تَكُونُ مُقَدِّمَاتُهَا ضَعِيفَةً أَوْ مَظْنُونَةً مِثْلَ كَلَامِ السهروردي الْمَقْتُولِ عَلَى الزَّنْدَقَةِ صَاحِبِ " التَّلْوِيحَاتُ " و " الْأَلْوَاحُ " و " حِكْمَةُ الْإِشْرَاقِ " . وَكَانَ فِي فَلْسَفَتِهِ مُسْتَمِدًّا مِنْ الرُّومِ الصَّابِئِينَ وَالْفُرْسِ

الْمَجُوس . وَهَاتَانِ الْمَادَّتَانِ : هُمَا مَادَّتَا الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَمَنْ دَخَلَ وَيَدْخُلُ فِيهِمْ مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالْنُصَيْرِيَّة وَأَمْثَالِهِمْ وَهُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { لَتَأْخُذُنَّ مَأْخَذَ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ قَالُوا : فَارِسُ وَالرُّومُ ؟ قَالَ : فَمَنْ } " . وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ ذِكْرَ كَلَامِ السهروردي هَذَا عَلَى قِيَاسِ ضَرْبِهِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : السَّمَاءُ مُحْدَثَةٌ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْتِ بِجَامِعِ مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنْ التَّأْلِيفِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ عِلَّةَ حُدُوثِ الْبِنَاءِ هُوَ التَّأْلِيفُ وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْفَرْعِ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ " قِيَاسَ التَّمْثِيلِ " أَبْلَغُ فِي إفَادَةِ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ مِنْ " قِيَاسِ الشُّمُولِ " وَإِنْ كَانَ عِلْمُ قِيَاسِ الشُّمُولِ أَكْثَرَ فَذَاكَ أَكْبَرُ فَقِيَاسُ التَّمْثِيلِ فِي الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ كَالْبَصَرِ فِي الْعِلْمِ الْحِسِّيِّ وَقِيَاسُ الشُّمُولِ : كَالسَّمْعِ فِي الْعِلْمِ الْحِسِّيِّ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْبَصَرَ أَعْظَمُ وَأَكْمَلُ وَالسَّمْعَ أَوْسَعُ وَأَشْمَلُ فَقِيَاسُ التَّمْثِيلِ : بِمَنْزِلَةِ الْبَصَرِ كَمَا قِيلَ : مَنْ قَاسَ مَا لَمْ يَرَهُ بِمَا رَأَى (1) . وَقِيَاسُ الشُّمُولِ يُشَابِهُ السَّمْعَ مِنْ جِهَةِ الْعُمُومِ . ثُمَّ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِيَاسَيْنِ - فِي كَوْنِهِ عِلْمِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا - يَتْبَعُ مُقَدِّمَاتِهِ

فَقِيَاسُ التَّمْثِيلِ فِي الْحِسِّيَّاتِ وَكُلُّ شَيْءٍ : إذَا عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا مِثْلَ هَذَا عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُهُ وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ عِلَّةَ الْحُكْمِ وَإِنْ عَلِمْنَا عِلَّةَ الْحُكْمِ اسْتَدْلَلْنَا بِثُبُوتِهَا عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فَبِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِلْمِ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَقِيَاسِ التَّعْلِيلِ يُعْلَمُ الْحُكْمُ . وَقِيَاسُ التَّعْلِيلِ : هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ نَوْعِ قِيَاسِ الشُّمُولِ لَكِنَّهُ امْتَازَ عَنْهُ بِأَنَّ الْحَدَّ الْأَوْسَطَ - الَّذِي هُوَ الدَّلِيلُ فِيهِ - هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ وَيُسَمَّى قِيَاسَ الْعِلَّةِ وَبُرْهَانَ الْعِلَّةِ . وَذَلِكَ يُسَمَّى قِيَاسَ الدِّلَالَةِ وَبُرْهَانَ الدِّلَالَةِ وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ التَّمَاثُلَ وَالْعِلَّةَ بَلْ ظَنَنَّاهَا ظَنًّا كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ . وَهَكَذَا الْأَمْرُ فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ : إنْ كَانَتْ الْمُقَدِّمَتَانِ مَعْلُومَتَيْنِ كَانَتْ النَّتِيجَةُ مَعْلُومَةً وَإِلَّا فَالنَّتِيجَةُ تَتْبَعُ أَضْعَفَ الْمُقَدِّمَاتِ . فَأَمَّا دَعْوَاهُمْ : أَنَّ هَذَا لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ فَهُوَ غَلَطٌ مَحْضٌ مَحْسُوسٌ بَلْ عَامَّةُ عُلُومِ بَنِي آدَمَ الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ هِيَ مِنْ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ عُلُومَهُمْ الَّتِي جَعَلُوا هَذِهِ الصِّنَاعَةَ مِيزَانًا لَهَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ : لَا يَكَادُ يَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ إلَّا قَلِيلًا . فَإِنَّ الْعُلُومَ الرِّيَاضِيَّةَ : مِنْ حِسَابِ الْعَدَدِ وَحِسَابِ الْمِقْدَارِ الذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْخَائِضِينَ فِيهَا مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين مُسْتَقِلُّونَ بِهَا مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إلَى هَذِهِ

الصِّنَاعَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ وَاصْطِلَاحِ أَهْلِهَا . وَكَذَلِكَ مَا يَصِحُّ مِنْ الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ وَالطِّبِّيَّةِ تَجِدُ الْحَاذِقِينَ فِيهَا لَمْ يَسْتَعِينُوا عَلَيْهَا بِشَيْءِ مِنْ صِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ بَلْ إمَامُ صِنَاعَةِ الطِّبِّ بقراط : لَهُ فِيهَا مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي تَلَقَّاهُ أَهْلُ الطِّبِّ بِالْقَبُولِ وَوَجَدُوا مِصْدَاقَهُ بِالتَّجَارِبِ وَلَهُ فِيهَا مِنْ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ الَّتِي هِيَ عِنْدَ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ هُوَ مُسْتَعِينًا بِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ بَلْ كَانَ قَبْلُ وَاضِعَهَا . وَهُمْ وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ الطَّبِيعِيُّ عِنْدَهُمْ أَعْلَمَ وَأَعْلَى مِنْ عِلْمِ الطِّبِّ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهِ . فَبِالْعِلْمِ بِطَبَائِعِ الْأَجْسَامِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَحْسُوسَةِ تُعْلَمُ طَبَائِعُ سَائِرِ الْأَجْسَامِ وَمَبْدَأُ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ الَّذِي فِي الْجِسْمِ . وَيُسْتَدَلُّ بِالْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يَتَنَاظَرُونَ فِي مَسَائِلَ وَيَتَنَازَعُ فِيهَا هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كَتَنَاظُرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ تَتَّفِقُ فِيهَا الصِّنَاعَتَانِ وَأُولَئِكَ يَدَّعُونَ عُمُومَ النَّظَرِ وَلَكِنَّ الْخَطَأَ وَالْغَلَطَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ والمتفلسفة أَكْثَرُ مِمَّا هُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالْأَطِبَّاءِ وَكَلَامُهُمْ وَعِلْمُهُمْ أَنْفَعُ وَأُولَئِكَ أَكْثَرُ ضَلَالًا وَأَقَلُّ نَفْعًا لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا بِالْقِيَاسِ مَا لَا يُعْلَمُ بِالْقِيَاسِ وَزَاحَمُوا الْفِطْرَةَ وَالنُّبُوَّةَ مُزَاحَمَةً أَوْجَبَتْ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ لِلْفِطْرَةِ وَالنُّبُوَّةِ مَا صَارُوا بِهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الَّذِينَ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا بِخِلَافِ الطِّبِّ الْمَحْضِ فَإِنَّهُ عِلْمٌ نَافِعٌ وَكَذَلِكَ الْفِقْهُ الْمَحْضُ .
وَأَمَّا عِلْمُ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ - وَإِنْ كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ وَيَقُولُونَ : هُوَ الْفَلْسَفَةُ الْأُولَى وَهُوَ الْعِلْمُ الْكُلِّيُّ النَّاظِرُ فِي الْوُجُودِ وَلَوَاحِقِهِ وَيُسَمِّيهِ مُتَأَخِّرُوهُمْ الْعِلْمَ

الْإِلَهِيَّ وَزَعَمَ الْمُعَلِّمُ الْأَوَّلُ لَهُمْ : أَنَّهُ غَايَةُ فَلْسَفَتِهِمْ وَنِهَايَةُ حِكْمَتِهِمْ - فَالْحَقُّ فِيهِ مِنْ الْمَسَائِلِ قَلِيلٌ نَزْرٌ وَغَالِبُهُ عِلْمٌ بِأَحْكَامِ ذِهْنِيَّةٍ لَا حَقَائِقَ خَارِجِيَّةٍ . وَلَيْسَ عَلَى أَكْثَرِهِ قِيَاسٌ مَنْطِقِيٌّ . فَإِنَّ الْوُجُودَ الْمُجَرَّدَ وَالْوُجُوبَ وَالْإِمْكَانَ وَالْعِلَّةَ الْمُجَرَّدَةَ وَالْمَعْلُولَ وَانْقِسَامَ ذَلِكَ إلَى جُزْءِ الْمَاهِيَّةِ وَهُوَ الْمَادَّةُ وَالصُّورَةُ ؛ وَإِلَى عِلَّتَيْ وُجُودِهَا . وَهُمَا الْفَاعِلُ وَالْغَايَةُ ؛ وَالْكَلَامُ فِي انْقِسَامِ الْوُجُودِ إلَى الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ التِّسْعَةِ ؛ الَّتِي هِيَ : الْكَمُّ وَالْكَيْفُ وَالْإِضَافَةُ وَالْأَيْنُ وَمَتَى وَالْوَضْعُ وَالْمِلْكُ ؛ وَأَنْ يُفْعَلَ وَأَنْ يَنْفَعِلَ ؛ كَمَا أَنْشَدَ بَعْضهمْ فِيهَا :
زَيْدُ الطَّوِيلُ الْأَسْوَدُ بْنُ مَالِكِ * * * فِي دَارِهِ بِالْأَمْسِ كَانَ يتكي
فِي يَدِهِ سَيْفٌ نَضَاهُ فَانْتَضَى * * * فَهَذِهِ عَشْرُ مَقُولَاتٍ سواء
لَيْسَ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى أَقْسَامِهَا قِيَاسٌ مَنْطِقِيٌّ ؛ بَلْ غَالِبُهَا مُجَرَّدُ اسْتِقْرَاءٍ قَدْ نُوزِعَ صَاحِبُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ .
فَإِذَا كَانَتْ صِنَاعَتُهُمْ بَيْنَ عُلُومٍ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ . وَبَيْنَ مَا لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَسْتَعْمِلُوا فِيهِ الْقِيَاسَ الْمَنْطِقِيَّ : كَانَ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ فِي عُلُومِهِمْ بَلْ كَانَ فِيهِ مِنْ شَغْلِ الْقَلْبِ عَنْ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ مَا ضَرَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ

كَمَا سَدَّ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ طَرِيقَ الْعِلْمِ وَأَوْقَعَهُمْ فِي أَوْدِيَةِ الضَّلَالِ وَالْجَهْلِ فَمَا الظَّنُّ بِغَيْرِ عُلُومِهِمْ مِنْ الْعُلُومِ الَّتِي لَا تُحَدُّ لِلْأَوَّلِينَ والآخرين . وَأَيْضًا لَا تَجِدُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ حَقَّقَ عِلْمًا مِنْ الْعُلُومِ وَصَارَ إمَامًا فِيهِ مُسْتَعِينًا بِصِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ لَا مِنْ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَلَا غَيْرِهَا فَالْأَطِبَّاءُ والحساب وَالْكُتَّابُ وَنَحْوُهُمْ يُحَقِّقُونَ مَا يُحَقِّقُونَ مِنْ عُلُومِهِمْ وَصِنَاعَاتِهِمْ بِغَيْرِ صِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ . وَقَدْ صُنِّفَ فِي الْإِسْلَامِ عُلُومُ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالْعَرُوضِ وَالْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَلَيْسَ فِي أَئِمَّةِ هَذِهِ الْفُنُونِ مَنْ كَانَ يَلْتَفِتُ إلَى الْمَنْطِقِ بَلْ عَامَّتُهُمْ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُعَرَّبَ هَذَا الْمَنْطِقُ الْيُونَانِيُّ . وَأَمَّا الْعُلُومُ الْمَوْرُوثَةُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ صِرْفًا وَإِنْ كَانَ الْفِقْهُ وَأُصُولُهُ مُتَّصِلًا بِذَلِكَ فَهِيَ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ لِأَهْلِهَا الْتِفَاتاً إلَى الْمَنْطِقِ إذْ لَيْسَ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ - الَّتِي هِيَ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ - وَأَفْضَلُهَا الْقُرُونُ الثَّلَاثَةُ : مَنْ كَانَ يَلْتَفِتُ إلَى الْمَنْطِقِ أَوْ يُعَرِّجُ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُمْ فِي تَحْقِيقِ الْعُلُومِ وَكَمَالِهَا بِالْغَايَةِ الَّتِي لَا يُدْرِكُ أَحَدٌ شَأْوَهَا كَانُوا أَعْمَقَ النَّاسِ عِلْمًا وَأَقَلَّهُمْ تَكَلُّفًا وَأَبَرَّهُمْ قُلُوبًا . وَلَا يُوجَدُ لِغَيْرِهِمْ كَلَامٌ فِيمَا تَكَلَّمُوا فِيهِ إلَّا وَجَدْت بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ مِنْ الْفَرْقِ أَعْظَمَ مِمَّا بَيْنَ الْقِدَمِ وَالْفَرَقِ بَلْ الَّذِي وَجَدْنَاهُ بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ : أَنَّ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي الْعُلُومِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ

الصِّنَاعَةِ أَكْثَرُ النَّاسِ شَكًّا وَاضْطِرَابًا وَأَقَلُّهُمْ عِلْمًا وَتَحْقِيقًا وَأَبْعَدُهُمْ عَنْ تَحْقِيقِ عِلْمٍ مَوْزُونٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ قَدْ يُحَقِّقُ شَيْئًا مِنْ الْعِلْمِ . فَذَلِكَ لِصِحَّةِ الْمَادَّةِ وَالْأَدِلَّةِ الَّتِي يَنْظُرُ فِيهَا وَصِحَّةِ ذِهْنِهِ وَإِدْرَاكِهِ لَا لِأَجْلِ الْمَنْطِقِ . بَلْ إدْخَالُ صِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ فِي الْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ يُطَوِّلُ الْعِبَارَةَ وَيُبْعِدُ الْإِشَارَةَ وَيَجْعَلُ الْقَرِيبَ مِنْ الْعِلْمِ بَعِيدًا وَالْيَسِيرَ مِنْهُ عَسِيرًا . وَلِهَذَا تَجِدُ مَنْ أَدْخَلَهُ فِي الْخِلَافِ وَالْكَلَامِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُفِدْ إلَّا كَثْرَةَ الْكَلَامِ وَالتَّشْقِيقِ ؛ مَعَ قِلَّةِ الْعِلْمِ وَالتَّحْقِيقِ . فَعُلِمَ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ حَشْوِ الْكَلَامِ وَأَبْعَدِ الْأَشْيَاءِ عَنْ طَرِيقَةِ ذَوِي الْأَحْلَامِ . نَعَمْ لَا يُنْكَرُ أَنَّ فِي الْمَنْطِقِ مَا قَدْ يَسْتَفِيدُ بِبَعْضِهِ مَنْ كَانَ فِي كُفْرٍ وَضَلَالٍ وَتَقْلِيدٍ مِمَّنْ نَشَأَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْجُهَّالِ كَعَوَامِّ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ فَأَوْرَثَهُمْ الْمَنْطِقُ تَرْكَ مَا عَلَيْهِ أُولَئِكَ مِنْ تِلْكَ الْعَقَائِدِ . وَلَكِنْ يَصِيرُ غَالِبُ هَؤُلَاءِ مُدَاهِنِينَ لِعَوَامِّهِمْ مُضِلِّينَ لَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ يَصِيرُونَ مُنَافِقِينَ زَنَادِقَةً لَا يُقِرُّونَ بِحَقِّ وَلَا بِبَاطِلِ بَلْ يَتْرُكُونَ الْحَقَّ كَمَا تَرَكُوا الْبَاطِلَ . فَأَذْكِيَاءُ طَوَائِفِ الضَّلَالِ إمَّا مُضَلِّلُونَ مُدَاهِنُونَ وَإِمَّا زَنَادِقَةٌ مُنَافِقُونَ لَا يَكَادُ يَخْلُو أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ هَذَيْنِ

فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَنْطِقُ وَقَفَهُمْ عَلَى حَقٍّ يَهْتَدُونَ بِهِ : فَهَذَا لَا يَقَعُ بِالْمَنْطِقِ . فَفِي الْجُمْلَةِ : مَا يَحْصُلُ بِهِ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ شَحْذِ ذِهْنٍ أَوْ رُجُوعٍ عَنْ بَاطِلٍ أَوْ تَعْبِيرٍ عَنْ حَقٍّ : فَإِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ كَانَ فِي أَسْوَأِ حَالٍ لَا لِمَا فِي صِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ مِنْ الْكَمَالِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ : أَنَّ الْمُشْرِكَ إذَا تَمَجَّسَ وَالْمَجُوسِيَّ إذَا تَهَوَّدَ : حَسُنَتْ حَالُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا كَانَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ . لَكِنْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ عُمْدَةً لِأَهْلِ الْحَقِّ الْمُبِينِ . وَهَذَا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِهِ . بَلْ هَذَا شَأْنُ كُلِّ مَنْ نَظَرَ فِي الْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا دِقَّةٌ وَلَهَا نَوْعُ إحَاطَةٍ كَمَا تَجِدُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ . فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ لِأَهْلِهِ مِنْ التَّحْقِيقِ وَالتَّدْقِيقِ وَالتَّقْسِيمِ وَالتَّحْدِيدِ مَا لَيْسَ لِأَهْلِ الْمَنْطِقِ وَأَنَّ أَهْلَهُ يَتَكَلَّمُونَ فِي صُورَةِ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ عَلَى أَكْمَلِ الْقَوَاعِدِ . فَالْمَعَانِي فِطْرِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى وَضْعٍ خَاصٍّ بِخِلَافِ قَوَالِبِهَا الَّتِي هِيَ الْأَلْفَاظُ فَإِنَّهَا تَتَنَوَّعُ فَمَتَى تَعَلَّمُوا أَكْمَلَ الصُّوَرِ وَالْقَوَالِبِ لِلْمَعَانِي مَعَ الْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ كَانَ ذَلِكَ أَكْمَلَ وَأَنْفَعَ وَأَعْوَنَ عَلَى تَحْقِيقِ الْعُلُومِ مِنْ صِنَاعَةٍ اصْطِلَاحِيَّةٍ فِي أُمُورٍ فِطْرِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى اصْطِلَاحٍ خَاصٍّ . هَذَا لَعَمْرِي عَنْ مَنْفَعَتِهِ فِي سَائِرِ الْعُلُومِ .

وَأَمَّا مَنْفَعَتُهُ فِي عِلْمِ الْإِسْلَامِ خُصُوصًا : فَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى بَيَانٍ وَلِهَذَا تَجِدُ الَّذِينَ اتَّصَلَتْ إلَيْهِمْ عُلُومُ الْأَوَائِلِ فَصَاغُوهَا بِالصِّيغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِعُقُولِ الْمُسْلِمِينَ جَاءَ فِيهَا مِنْ الْكَمَالِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْإِحَاطَةِ وَالِاخْتِصَارِ مَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْأَوَائِلِ وَإِنْ كَانَ فِي هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ فِيهِ نِفَاقٌ وَضَلَالٌ لَكِنْ عَادَتْ عَلَيْهِمْ فِي الْجُمْلَةِ بَرَكَةُ مَا بُعِثَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ وَمَا أُوتِيَتْهُ أُمَّتُهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ الَّذِي لَمْ يُشْرِكْهَا فِيهِ أَحَدٌ ، وَأَيْضًا فَإِنَّ صِنَاعَةَ الْمَنْطِقِ وَضَعَهَا مُعَلِّمُهُمْ الْأَوَّلُ : أَرِسْطُو صَاحِبُ التَّعَالِيمِ الَّتِي لِمُبْتَدَعَةِ الصَّابِئَةِ يَزِنُ بِهَا مَا كَانَ هُوَ وَأَمْثَالُهُ يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ مِنْ حِكْمَتِهِمْ وَفَلْسَفَتِهِمْ الَّتِي هِيَ غَايَةُ كَمَالِهِمْ . وَهِيَ قِسْمَانِ : نَظَرِيَّةٌ وَعَمَلِيَّةٌ . فَأَصَحُّ النَّظَرِيَّةِ - وَهِيَ الْمَدْخَلُ إلَى الْحَقِّ - هِيَ الْأُمُورُ الْحِسَابِيَّةُ الرِّيَاضِيَّةُ . وَأَمَّا الْعَمَلِيَّةُ : فَإِصْلَاحُ الْخُلُقِ وَالْمَنْزِلِ وَالْمَدِينَةِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ الَّذِي يَتَمَيَّزُونَ بِهَا عَنْ جُهَّالِ بَنِي آدَمَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ التَّقَدُّمَ عَلَى ذَلِكَ . وَفِيهِ مِنْ مَنْفَعَةِ صَلَاحِ الدُّنْيَا وَعِمَارَتِهَا مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي ضِمْنِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ . وَفِيهَا أَيْضًا مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ وَالْأَمْرِ بِالْعَدْلِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْفَسَادِ : مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي ضِمْنِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ .

فَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى جُهَّالِ الْأُمَمِ كَبَادِيَةِ التُّرْكِ وَنَحْوِهِمْ أَمْثَلُ إذَا خَلَوْا عَنْ ضَلَالِهِمْ فَأَمَّا مَعَ ضَلَالِهِمْ فَقَدْ يَكُونُ الْبَاقُونَ عَلَى الْفِطْرَةِ مِنْ جُهَّالِ بَنِي آدَمَ أَمْثَلَ مِنْهُمْ . فَأَمَّا أَضَلُّ أَهْلِ الْمِلَلِ - مِثْلُ جُهَّالِ النَّصَارَى وَسَامِرَةِ الْيَهُودِ - فَهُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ وَأَهْدَى وَأَحْكَمُ وَأَتْبَعُ لِلْحَقِّ . وَهَذَا قَدْ بَسَطْته بَسْطًا كَثِيرًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا : بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الصِّنَاعَةَ قَلِيلَةُ الْمَنْفَعَةِ عَظِيمَةُ الْحَشْوِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمُورَ الْعَمَلِيَّةَ الْخِلْقِيَّةَ قَلَّ أَنْ يُنْتَفَعَ فِيهَا بِصِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ . إذْ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةُ الْمُوجَبَةُ - وَإِنْ كَانَتْ تُوجَدُ فِي الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ - لَكِنَّ أَهْلَ السِّيَاسَةِ لِنُفُوسِهِمْ وَلِأَهْلِهِمْ وَلِمُلْكِهِمْ إنَّمَا يَنَالُونَ تِلْكَ الْآرَاءَ الْكُلِّيَّةَ مِنْ أُمُورٍ لَا يَحْتَاجُونَ فِيهَا إلَى الْمَنْطِقِ وَمَتَى حَصَلَ ذَلِكَ الرَّأْيُ كَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِالْعَمَلِ . ثُمَّ الْأُمُورُ الْعَمَلِيَّةُ لَا تَقِفُ عَلَى رَأْيٍ كُلِّيٍّ بَلْ مَتَى عَلِمَ الْإِنْسَانُ انْتِفَاعَهُ بِعَمَلِ عَمَلِهِ وَأَيُّ عَمَلٍ تَضَرَّرَ بِهِ تَرَكَهُ . وَهَذَا قَدْ يَعْلَمُهُ بِالْحِسِّ الظَّاهِرِ أَوْ الْبَاطِنِ لَا يَقِفُ ذَلِكَ عَلَى رَأْيٍ كُلِّيٍّ . فَعُلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ لَا يَصِحُّ اسْتِعْمَالُ الْمَنْطِقِ فِيهَا . وَلِهَذَا كَانَ

الْمُؤَدِّبُونَ لِنُفُوسِهِمْ وَلِأَهْلِهِمْ السَّائِسُونَ لِمُلْكِهِمْ لَا يَزِنُونَ آرَاءَهُمْ بِالصِّنَاعَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا وَالْغَالِبُ عَلَى مَنْ يَسْلُكُهُ : التَّوَقُّفُ وَالتَّعْطِيلُ . وَلَوْ كَانَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْآرَاءِ تَقِفُ مَعْرِفَتُهُمْ بِهَا وَاسْتِعْمَالُهُمْ لَهَا عَلَى وَزْنِهَا بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ لَكَانَ تَضَرُّرُهُمْ بِذَلِكَ أَضْعَافَ انْتِفَاعِهِمْ بِهِ مَعَ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ لَا تَكْفِي فِي النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُحَصِّلًا لِنَعِيمِ الْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى : { حَتَّى إذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ } كَذَلِكَ قَالَ : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } - إلَى قَوْلِهِ - { الْكَافِرُونَ } . فأخبر هُنَا بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي الْأَعْرَافِ : أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُعْرِضِينَ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَ اللَّهِ وَحَّدُوا اللَّهَ وَتَرَكُوا الشِّرْكَ فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ عَنْ فِرْعَوْنَ - وَهُوَ كَافِرٌ بِالتَّوْحِيدِ وَبِالرِّسَالَةِ - أَنَّهُ لَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ : { آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ } قَالَ اللَّهُ : { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ

الْمُفْسِدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } { أَوْ تَقُولُوا إنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إلَيْهِ مُرِيبٍ } { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إنْ أَنْتُمْ إلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } . وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ : يُبَيِّنُ فِيهَا أَنَّ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ أُمِرُوا بِالتَّوْحِيدِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنُهُوا عَنْ عِبَادَةِ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ سِوَاهُ أَوْ اتِّخَاذِهِ إلَهًا ؛ وَيُخْبِرُ أَنَّ أَهْلَ السَّعَادَةِ هُمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ هُمْ أَهْلُ الشَّقَاوَةِ . وَذَكَرَ هَذَا عَنْ عَامَّةِ الرُّسُلِ وَيُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالرُّسُلِ مُشْرِكُونَ . فَعُلِمَ أَنَّ التَّوْحِيدَ وَالْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ مُتَلَازِمَانِ . وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ هُوَ وَالْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ مُتَلَازِمَانِ . فَالثَّلَاثَةُ مُتَلَازِمَةٌ . وَلِهَذَا يَجْمَعُ بَيْنَهَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ

وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } وَلِهَذَا أَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مُشْرِكُونَ فَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ } . وَأَخْبَرَ عَنْ جَمِيعِ الْأَشْقِيَاءِ : أَنَّ الرُّسُلَ أَنْذَرَتْهُمْ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } { قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } فَأَخْبَرَ أَنَّ الرُّسُلَ أَنْذَرَتْهُمْ وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالرِّسَالَةِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } الْآيَةُ . فَأَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ : أَنَّهُمْ قَدْ جَاءَتْهُمْ الرِّسَالَةُ وَأُنْذِرُوا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ } الْآيَةُ . فَأَخْبَرَ عَنْ جَمِيعِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ : أَنَّ الرُّسُلَ بَلَّغَتْهُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ وَهِيَ آيَاتُهُ

وَأَنَّهُمْ أَنْذَرُوهُمْ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَكَذَلِكَ قَالَ : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا } { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } - إلَى قَوْلِهِ - { أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ } . فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِهِ وَهِيَ رِسَالَتُهُ وَبِلِقَائِهِ وَهُوَ الْيَوْمُ الْآخِرُ . وَقَدْ أَخْبَرَ أَيْضًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِأَنَّ الرِّسَالَةَ عَمَّتْ بَنِي آدَمَ وَأَنَّ الرُّسُلَ جَاءُوا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } . فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ آمَنَ بِالرُّسُلِ وَأَصْلَحَ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . وَقَالَ تَعَالَى { قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا } - إلَى قَوْلِهِ - { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } الْآيَةُ . فَذَكَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ النَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ وَذَكَرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ الْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ وَفِي هَذِهِ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ لِأَنَّهُمَا

مُتَلَازِمَانِ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ كُلُّهُمْ مُتَلَازِمٌ . فَمَنْ آمَنَ بِوَاحِدِ مِنْهُمْ فَقَدْ آمَنَ بِهِمْ كُلِّهِمْ وَمَنْ كَفَرَ بِوَاحِدِ مِنْهُمْ فَقَدْ كَفَرَ بِهِمْ كُلِّهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } - إلَى قَوْلِهِ - { أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا } الْآيَةُ وَاَلَّتِي بَعْدَهَا . فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ هُمْ أَهْلُ السَّعَادَةِ وَأَنَّ الْمُفَرِّقِينَ بَيْنَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا . وَقَالَ تَعَالَى : { وَكُلَّ إنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا } { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } { مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } . فَهَذِهِ الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ : تَوْحِيدُ اللَّهِ وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ - هِيَ أُمُورٌ مُتَلَازِمَةٌ . وَالْحَاصِلُ : أَنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ وَالْإِيمَانَ بِرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ هِيَ أُمُورٌ مُتَلَازِمَةٌ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ . فَأَهْلُ هَذَا الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ : هُمْ أَهْلُ السَّعَادَةِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَالْخَارِجُونَ عَنْ هَذَا الْإِيمَانِ : مُشْرِكُونَ أَشْقِيَاءُ . فَكُلُّ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَلَنْ يَكُونَ إلَّا مُشْرِكًا وَكُلُّ مُشْرِكٍ مُكَذِّبٌ لِلرُّسُلِ وَكُلُّ مُشْرِكٍ وَكَافِرٍ بِالرُّسُلِ فَهُوَ كَافِرٌ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَكُلُّ مَنْ كَفَرَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ فَهُوَ كَافِرٌ بِالرُّسُلِ وَهُوَ مُشْرِكٌ ؛ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ

عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } { وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ } . فَأَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ لَهُمْ أَعْدَاءٌ وَهُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ الْمُزَخْرَفَ وَهُوَ الْمُزَيَّنُ الْمُحَسَّنُ يُغَرِّرُونَ بِهِ . وَالْغُرُورُ : هُوَ التَّلْبِيسُ وَالتَّمْوِيهُ . وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ كَلَامٍ وَكُلِّ عَمَلٍ يُخَالِفُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أَمْرِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين ثُمَّ قَالَ : { وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ } فَأَخْبَرَ أَنَّ كَلَامَ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ تَصْغَى إلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ . فَعُلِمَ أَنَّ مُخَالَفَةَ الرُّسُلِ وَتَرْكَ الْإِيمَانِ بِالْآخِرَةِ مُتَلَازِمَانِ فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْآخِرَةِ أَصْغَى إلَى زُخْرُفِ أَعْدَائِهِمْ فَخَالَفَ الرُّسُلَ كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي أَصْنَافِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا } - الْآيَةُ . فَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ تَرَكُوا اتِّبَاعَ الْكِتَابِ - وَهُوَ الرِّسَالَةُ - يَقُولُونَ إذَا جَاءَ تَأْوِيلُهُ - وَهُوَ مَا أَخْبَرَ بِهِ - : جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا } { قَالَ كَذَلِكَ

أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } أَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ تَرَكُوا اتِّبَاعَ آيَاتِهِ يُصِيبُهُمْ مَا ذَكَرْنَا . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ أَصْلَ السَّعَادَةِ وَأَصْلَ النَّجَاةِ مِنْ الْعَذَابِ هُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْإِيمَانِ بِرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَيْسَتْ فِي حِكْمَتِهِمْ وَفَلْسَفَتِهِمْ الْمُبْتَدَعَةِ لَيْسَ فِيهَا الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالنَّهْيُ عَنْ عِبَادَةِ الْمَخْلُوقَاتِ . بَلْ كُلُّ شِرْكٍ فِي الْعَالَمِ إنَّمَا حَدَثَ بِرَأْيِ جِنْسِهِمْ إذْ بَنَوْهُ عَلَى مَا فِي الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ مِنْ الْقُوَى وَالطَّبَائِعِ وَإِنَّ صِنَاعَةَ الطَّلَاسِمِ وَالْأَصْنَامِ وَالتَّعَبُّدَ لَهَا يُورِثُ مَنَافِعَ وَيَدْفَعُ مَضَارَّ . فَهُمْ الْآمِرُونَ بِالشِّرْكِ وَالْفَاعِلُونَ لَهُ . وَمَنْ لَمْ يَأْمُرْ بِالشِّرْكِ مِنْهُمْ فَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ بَلْ يُقِرُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ رَجَحَ الْمُوَحِّدُونَ تَرْجِيحًا مَا . فَقَدْ يُرَجِّحُ غَيْرُهُ الْمُشْرِكِينَ . وَقَدْ يُعْرِضُ عَنْ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا . فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ نَافِعٌ جِدًّا . وَلِهَذَا كَانَ رُءُوسُهُمْ الْمُتَقَدِّمُونَ والمتأخرون يَأْمُرُونَ بِالشِّرْكِ . فَالْأَوَّلُونَ يُسَمُّونَ الْكَوَاكِبَ الْآلِهَةَ الصُّغْرَى وَيَعْبُدُونَهَا بِأَصْنَافِ الْعِبَادَاتِ . كَذَلِكَ كَانُوا فِي مِلَّةِ الْإِسْلَامِ لَا يَنْهَوْنَ عَنْ الشِّرْكِ وَيُوجِبُونَ التَّوْحِيدَ ؛ بَلْ يُسَوِّغُونَ الشِّرْكَ أَوْ يَأْمُرُونَ بِهِ أَوْ لَا يُوجِبُونَ التَّوْحِيدَ .

وَقَدْ رَأَيْت مِنْ مُصَنَّفَاتِهِمْ فِي عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْمَلَائِكَةِ وَعِبَادَةِ الْأَنْفُسِ الْمُفَارِقَةِ - أَنْفُسِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ - مَا هُوَ أَصْلُ الشِّرْكِ . وَهُمْ إذَا ادَّعَوْا التَّوْحِيدَ فَإِنَّمَا تَوْحِيدُهُمْ بِالْقَوْلِ ؛ لَا بِالْعِبَادَةِ وَالْعَمَلِ . وَالتَّوْحِيدُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّوْحِيدِ بِإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ . وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَعْرِفُونَهُ . وَالتَّوْحِيدُ الَّذِي يَدَّعُونَهُ : إنَّمَا هُوَ تَعْطِيلُ حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَفِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْإِشْرَاكِ . فَلَوْ كَانُوا مُوَحِّدِينَ بِالْقَوْلِ وَالْكَلَامِ - وَهُوَ أَنْ يَصِفُوا اللَّهَ بِمَا وَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ - لَكَانَ مَعَهُمْ التَّوْحِيدُ دُونَ الْعَمَلِ . وَذَلِكَ لَا يَكْفِي فِي السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ وَيُتَّخَذَ إلَهًا ؛ دُونَ مَا سِوَاهُ . وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ : " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " فَكَيْفَ وَهُمْ فِي الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ مُعَطِّلُونَ جَاحِدُونَ ؛ لَا مُوَحِّدُونَ وَلَا مُخْلِصُونَ ؟ . وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ : فَلَيْسَ فِيهِ لِلْمُعَلِّمِ الْأَوَّلِ وَذَوِيهِ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ . وَاَلَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْمِلَلِ مِنْهُمْ آمَنُوا بِبَعْضِ صِفَاتِ الرُّسُلِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ . وَأَمَّا الْيَوْمُ الْآخِرُ : فَأَحْسَنَهُمْ حَالًا مَنْ يُقِرُّ بِمَعَادِ الْأَرْوَاحِ دُونَ الْأَجْسَادِ .

وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ الْمَعَادَيْنِ جَمِيعًا . وَمِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِمَعَادِ الْأَرْوَاحِ الْعَالِمَةِ دُونَ الْجَاهِلَةِ . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ لِمُعَلِّمِهِمْ الثَّانِي أَبِي نَصْرٍ الْفَارَابِيِّ . وَلَهُمْ فِيهِ مِنْ الِاضْطِرَابِ مَا يُعْلَمُ بِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا فِيهِ إلَى الصَّوَابِ .
وَقَدْ أَضَلُّوا بِشُبُهَاتِهِمْ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمِلَلِ مَنْ لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللَّهُ . فَإِذَا كَانَ مَا بِهِ تَحْصُلُ السَّعَادَةُ وَالنَّجَاةُ مِنْ الشَّقَاوَةِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ أَصْلًا كَانَ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ مِنْ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالسِّيَاسَاتِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } .
وَأَمَّا مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ : فَالصَّوَابُ مِنْهَا مَنْفَعَتُهُ فِي الدُّنْيَا . وَأَمَّا " الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ " فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ مَا تَحْصُلُ بِهِ النَّجَاةُ وَالسَّعَادَةُ بَلْ وَغَالِبُ مَا عِنْدَهُمْ مِنْهُ لَيْسَ بِمُتَيَقَّنِ مَعْلُومٍ بَلْ قَدْ صَرَّحَ أَسَاطِينُ الْفَلْسَفَةِ : أَنَّ الْعُلُومَ الْإِلَهِيَّةَ لَا سَبِيلَ فِيهَا إلَى الْيَقِينِ وَإِنَّمَا يُتَكَلَّمُ فِيهَا بِالْأَحْرَى وَالْأَخْلَقِ ؛ فَلَيْسَ مَعَهُمْ فِيهَا إلَّا الظَّنُّ { وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } وَلِهَذَا يُوجَدُ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِلرُّسُلِ أَمْرٌ عَظِيمٌ بَاهِرٌ حَتَّى قِيلَ مَرَّةً لِبَعْضِ الْأَشْيَاخِ الْكِبَارِ مِمَّنْ يَعْرِفُ الْكَلَامَ وَالْفَلْسَفَةَ وَالْحَدِيثَ وَغَيْرَ ذَلِكَ : مَا الْفَرْقُ الَّذِي بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْفَلَاسِفَةِ ؟ فَقَالَ : السَّيْفُ الْأَحْمَرُ . يُرِيدُ أَنَّ الَّذِي يَسْلُكُ طَرِيقَتَهُمْ يُرِيدُ أَنْ يُوَفِّقَ بَيْنَ مَا يَقُولُونَهُ وَبَيْنَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَيَدْخُلُ مِنْ السَّفْسَطَةِ وَالْقَرْمَطَةِ فِي أَنْوَاعٍ مِنْ الْمُحَالِ الَّذِي لَا يَرْضَاهُ عَاقِلٌ كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُ رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا وَأَمْثَالُهُمْ . وَمِنْ هُنَا

ضَلَّتْ الْقَرَامِطَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ وَمَنْ شَارَكَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ . وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ وَصْفُهُ لَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا ذِكْرُهُ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنَّ مُعَلِّمَهُمْ وَضَعَ مَنْطِقَهُمْ لِيَزِنَ بِهِ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يَخُوضُونَ فِيهَا وَاَلَّتِي هِيَ قَلِيلَةُ الْمَنْفَعَةِ.
وَأَكْثَرُ مَنْفَعَتِهَا : إنَّمَا هِيَ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَقَدْ يُسْتَغْنَى عَنْهَا فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَيْضًا . فَأَمَّا أَنْ يُوزَنَ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ مَا لَيْسَ مِنْ عُلُومِهِمْ وَمَا هُوَ فَوْقَ قَدْرِهِمْ أَوْ يُوزَنَ بِهَا مَا يُوجِبُ السَّعَادَةَ وَالنَّعِيمَ وَالنَّجَاةَ مِنْ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ : فَهَذَا أَمْرٌ لَيْسَ هُوَ فِيهَا وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا . وَالْقَوْمُ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ ذَكَاءٌ وَفِطْنَةٌ ؛ وَفِيهِمْ زُهْدٌ وَأَخْلَاقٌ - فَهَذَا الْقَدْرُ لَا يُوجِبُ السَّعَادَةَ وَالنَّجَاةَ مِنْ الْعَذَابِ إلَّا بِالْأُصُولِ الْمُتَقَدِّمَةِ : مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ وَإِخْلَاصِ عِبَادَتِهِ ؛ وَالْإِيمَانِ بِرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ؛ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ . وَإِنَّمَا قُوَّةُ الذَّكَاءِ بِمَنْزِلَةِ قُوَّةِ الْبَدَنِ وَقُوَّةِ الْإِرَادَةِ . فَاَلَّذِي يُؤْتَى فَضَائِلَ عِلْمِيَّةً وَإِرَادِيَّةً بِدُونِ هَذِهِ الْأُصُولِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُؤْتَى قُوَّةً فِي جِسْمِهِ وَبَدَنِهِ بِدُونِ هَذِهِ الْأُصُولِ . وَأَهْلُ الرَّأْيِ وَالْعِلْمِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْمُلْكِ وَالْإِمَارَةِ وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ

وَهَؤُلَاءِ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ؛ وَيُؤْمِنَ بِرُسُلِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ مُتَلَازِمَةٌ . فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَزِمَ أَنْ يُؤْمِنَ بِرُسُلِهِ وَيُؤْمِنَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ؛ فَيَسْتَحِقَّ الثَّوَابَ وَإِلَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ يَخْلُدُ فِي الْعَذَابِ هَذَا إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِالرُّسُلِ . وَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمُلْكِ وَالْعِلْمِ قَدْ يُعَارِضُونَ الرُّسُلَ وَقَدْ يُتَابِعُونَهُمْ ؛ ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . فَذَكَرَ فِرْعَوْنَ ؛ وَاَلَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ لَمَّا آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْمَلَأَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْتَكْبِرِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ وَذَكَرَ قَوْلَ عُلَمَائِهِمْ كَقَوْلِهِ : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ } { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } - إلَى قَوْلِهِ - { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } وَالسُّلْطَانُ هُوَ الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ

مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ : { أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ } وَقَوْلِهِ : { مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ " كُلُّ سُلْطَانٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ الْحُجَّةُ " ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ . وَقَدْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ " سُورَةَ حم غَافِر " مِنْ حَالِ مُخَالِفِي الرُّسُلِ مِنْ الْمُلُوكِ وَالْعُلَمَاءِ مِثْلَ مَقُولِ الْفَلَاسِفَةِ وَعُلَمَائِهِمْ وَمُجَادَلَتِهِمْ وَاسْتِكْبَارِهِمْ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ : مِثْلُ قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ } { الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } { إذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ } { فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } - إلَى قَوْلِهِ - { ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ } وَخَتَمَ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } . وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَعَامَّةِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَطَائِفَةٍ مِنْ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ فَإِنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى خِطَابِ هَؤُلَاءِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ وَالْمَقَايِيسِ لَهُمْ وَذِكْرِ قِصَصِهِمْ وَقِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ مَعَهُمْ . فَقَالَ سُبْحَانَهُ : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ

سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } فَأَخْبَرَ بِمَا مَكَّنَهُمْ فِيهِ مِنْ أَصْنَافِ الْإِدْرَاكَاتِ وَالْحَرَكَاتِ . وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ حَيْثُ جَحَدُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَهِيَ الرِّسَالَةُ الَّتِي بَعَثَ بِهَا رُسُلَهُ . وَلِهَذَا حَدَّثَنِي ابْنُ الشَّيْخِ الحصيري عَنْ وَالِدِهِ الشَّيْخِ الحصيري (*) - شَيْخِ الْحَنَفِيَّةِ فِي زَمَنِهِ - قَالَ : كَانَ فُقَهَاءُ بخارى يَقُولُونَ فِي ابْنِ سِينَا : كَانَ كَافِرًا ذَكِيًّا . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ } الْآيَةُ وَالْقُوَّةُ تَعُمُّ قُوَّةَ الْإِدْرَاكِ النَّظَرِيَّةَ وَقُوَّةَ الْحَرَكَةِ الْعَمَلِيَّةَ . وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ } فَأَخْبَرَ بِفَضْلِهِمْ فِي الْكَمِّ وَالْكَيْفِ وَأَنَّهُمْ أَشَدَّ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي آثَارِهِمْ فِي الْأَرْضِ . وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } - إلَى قَوْلِهِ - { اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ } .

وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ عَنْ أَتْبَاعِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْمُلْكِ وَالْعِلْمِ الْمُخَالِفِينَ لِلرُّسُلِ { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ } { وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } { رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ } - إلَى قَوْلِهِ - { إنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } . وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ يُذْكَرُ فِيهِ مِنْ أَقْوَالِ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ وَأَفْعَالِهِمْ وَمَا أُوتُوهُ مِنْ قُوَى الْإِدْرَاكَاتِ وَالْحَرَكَاتِ الَّتِي لَمْ تَنْفَعْهُمْ لَمَّا خَالَفُوا الرُّسُلَ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعِبَادِ وَالْمُلُوكِ مِنْ النِّفَاقِ وَالضَّلَالِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } . { وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا يُقَالُ : صَدَّ صُدُودًا أَيْ أَعْرَضَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } وَيُقَالُ : صَدَّ غَيْرَهُ يَصُدُّهُ وَالْوَصْفَانِ يَجْتَمِعَانِ فِيهِمْ وَمِثْلَ قَوْلِهِ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ

يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ : طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ : طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ : رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْحَنْظَلَةِ : طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا } " فَبَيَّنَ أَنَّ فِي الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ : مُؤْمِنِينَ وَمُنَافِقِينَ .
فَصْلٌ :
وَهَذَا الْمَقَامُ لَا أَذْكُرُ فِيهِ مَوَارِدَ النِّزَاعِ فَيُقَالُ : هُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْمُخْتَلِفِ بِالْمُخْتَلِفِ ؛ لَكِنْ أَنَا أَصِفُ جِنْسَ كَلَامِهِمْ فَأَقُولُ : لَا رَيْبَ أَنَّ كَلَامَهُمْ كُلَّهُ مُنْحَصِرٌ فِي الْحُدُودِ الَّتِي تُفِيدُ التَّصَوُّرَاتِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْحُدُودُ حَقِيقِيَّةً أَوْ رَسْمِيَّةً أَوْ لَفْظِيَّةً وَفِي الْأَقْيِسَةِ الَّتِي تُفِيدُ التَّصْدِيقَاتِ سَوَاءٌ كَانَتْ أَقْيِسَةَ عُمُومٍ وَشُمُولٍ أَوْ شِبْهٍ وَتَمْثِيلٍ أَوْ اسْتِقْرَاءٍ وَتَتَبُّعٍ . وَكَلَامُهُمْ غَالِبُهُ لَا يَخْلُو مِنْ تَكَلُّفٍ : إمَّا فِي الْعِلْمِ وَإِمَّا فِي الْقَوْلِ فَإِمَّا

أَنْ يَتَكَلَّفُوا عِلْمَ مَا لَا يَعْلَمُونَهُ : فَيَتَكَلَّمُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَوْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَعْلُومًا لَهُمْ فَيَتَكَلَّفُونَ مِنْ بَيَانِهِ مَا هُوَ زِيَادَةٌ وَحَشْوٌ وَعَنَاءٌ وَتَطْوِيلُ طَرِيقٍ وَهَذَا مِنْ الْمُنْكَرِ الْمَذْمُومِ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : " أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَلِمَ عِلْمًا فَلْيَقُلْ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ : لَا أَعْلَمُ فَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِمَا لَا يَعْلَمُ : لَا أَعْلَمُ " . وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الْقَوْلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فِي كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } لَا سِيَّمَا الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَكَذَلِكَ ذَمَّ الْكَلَامَ الْكَثِيرَ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَأَمَرَ بِأَنْ نَقُولَ الْقَوْلَ السَّدِيدَ وَالْقَوْلَ الْبَلِيغَ . وَهَؤُلَاءِ كَلَامُهُمْ فِي الْحُدُودِ غَالِبُهُ مِنْ الْكَلَامِ الْكَثِيرِ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ بَلْ قَدْ يَكْثُرُ كَلَامُهُمْ فِي الْأَقْيِسَةِ وَالْحُجَجِ كَثِيرٌ مِنْهُ كَذَلِكَ وَكَثِيرٌ مِنْهُ بَاطِلٌ وَهُوَ قَوْلٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَقَوْلٌ بِخِلَافِ الْحَقِّ . أَمَّا ( الْأَوَّلُ : فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْحُدُودَ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا يُفِيدُونَ بِهَا تَصَوُّرَ الْحَقَائِقِ وَأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَتِمُّ بِذِكْرِ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْمُمَيِّزَةِ حَتَّى يُرَكَّبَ الْحَدُّ مِنْ الْجِنْسِ الْمُشْتَرَكِ وَالْفَصْلِ الْمُمَيَّزِ . وَقَدْ يَقُولُونَ : إنَّ التَّصَوُّرَاتِ

لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْحُدُودِ وَيَقُولُونَ : الْحُدُودُ الْمُرَكَّبَةُ لَا تَكُونُ إلَّا لِلْأَنْوَاعِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ دُونَ الْأَنْوَاعِ الْبَسِيطَةِ .
وَقَدْ ذَكَرْت فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مُلَخَّصَ الْمَنْطِقِ وَمَضْمُونَهُ وَأَشَرْت إلَى بَعْضِ مَا دَخَلَ بِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ الْخَطَأِ وَالضَّلَالِ . وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ لَكِنْ نَذْكُرُ هُنَا وُجُوهًا :
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : قَوْلُهُمْ : " إنَّ التَّصَوُّرَ الَّذِي لَيْسَ بِبَدِيهِيِّ لَا يُنَالُ إلَّا بِالْحَدِّ " بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ هُوَ قَوْلُ الْحَادِّ . فَإِنَّ الْحَدَّ هُنَا هُوَ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى مَاهِيَّةِ الْمَحْدُودِ . فَالْمَعْرِفَةُ بِالْحَدِّ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْحَدِّ ؛ فَإِنَّ الْحَادَّ الَّذِي ذَكَرَ الْحَدَّ إنْ كَانَ عَرَفَ الْمَحْدُودَ بِغَيْرِ حَدٍّ بَطَلَ قَوْلُهُمْ : " لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْحَدِّ " وَإِنْ كَانَ عَرَفَهُ بِحَدِّ آخَرَ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْأَوَّلِ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَادُّ عَرَفَهُ بَعْدَ الْحَدِّ الْأَوَّلِ لَزِمَ الدَّوْرُ وَإِنْ كَانَ تَأَخَّرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ.

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ إلَى الْآنَ لَمْ يَسْلَمْ لَهُمْ حَدٌّ لِشَيْءِ مِنْ الْأَشْيَاءِ إلَّا مَا يَدَّعِيهِ بَعْضُهُمْ وَيُنَازِعُهُ فِيهِ آخَرُونَ . فَإِنْ كَانَتْ الْأُصُولُ لَا تُتَصَوَّرُ إلَّا بِالْحُدُودِ لَزِمَ أَلَّا يَكُونَ إلَى الْآنَ أَحَدٌ عَرَفَ شَيْئًا مِنْ الْأُمُورِ وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يَنْتَظِرُ صِحَّتَهُ ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَذْكُرُهُ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةٍ بِغَيْرِ حَدٍّ وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ فَلَا يَكُونُ لِبَنِي آدَمَ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَهَذِهِ سَفْسَطَةٌ وَمُغَالَطَةٌ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ بِالْحُدُودِ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ فِي بَنِي آدَمَ لَا سِيَّمَا الصِّنَاعَةُ الْمَنْطِقِيَّةُ . فَإِنَّ وَاضِعَهَا هُوَ أَرِسْطُو وَسَلَكَ خَلْفَهُ فِيهَا طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي آدَمَ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ عُلُومَ بَنِي آدَمَ - عَامَّتِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ - حَاصِلَةٌ بِدُونِ ذَلِكَ . فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ " إنَّ الْمَعْرِفَةَ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَيْهَا " أَمَّا الْأَنْبِيَاءُ فَلَا رَيْبَ فِي اسْتِغْنَائِهِمْ عَنْهَا وَكَذَلِكَ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعَامَّةِ . فَإِنَّ الْقُرُونَ الثَّلَاثَةَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ - الَّذِينَ كَانُوا أَعْلَمَ بَنِي آدَمَ عُلُومًا وَمَعَارِفَ - لَمْ يَكُنْ تَكَلُّفُ

هَذِهِ الْحُدُودِ مَنْ عَادَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَبْتَدِعُوهَا وَلَمْ تَكُنْ الْكُتُبُ الْأَعْجَمِيَّةُ الرُّومِيَّةُ عُرِّبَتْ لَهُمْ . وَإِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَهُمْ مِنْ مُبْتَدِعَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ وَمِنْ حِينِ حَدَثَتْ صَارَ بَيْنَهُمْ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالْجَهْلِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَكَذَلِكَ عِلْمُ " الطِّبِّ " و " الْحِسَابِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا تَجِدُ أَئِمَّةَ هَذِهِ الْعُلُومِ يَتَكَلَّفُونَ هَذِهِ الْحُدُودَ الْمُرَكَّبَةَ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ إلَّا مَنْ خَلَطَ ذَلِكَ بِصِنَاعَتِهِمْ مَنْ أَهْلِ الْمَنْطِقِ . وَكَذَلِكَ " النُّحَاةُ " مِثْلُ سِيبَوَيْهِ الَّذِي لَيْسَ فِي الْعَالَمِ مِثْلُ كِتَابِهِ وَفِيهِ حِكْمَةُ لِسَانِ الْعَرَبِ : لَمْ يَتَكَلَّفْ فِيهِ حَدَّ الِاسْمِ وَالْفَاعِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ غَيْرُهُ . وَلَمَّا تَكَلَّفَ النُّحَاةُ حَدَّ الِاسْمِ ذَكَرُوا حُدُودًا كَثِيرَةً كُلُّهَا مَطْعُونٌ فِيهَا عِنْدَهُمْ . وَكَذَلِكَ مَا تَكَلَّفَ مُتَأَخِّرُوهُمْ مِنْ حَدِّ الْفَاعِلِ وَالْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا عِنْدَهُمْ مَنْ هُوَ إمَامٌ فِي الصِّنَاعَةِ وَلَا حَاذِقٌ فِيهَا . وَكَذَلِكَ الْحُدُودُ الَّتِي يَتَكَلَّفُهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِلطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الْمُتَدَاوَلَةِ بَيْنَهُمْ وَكَذَلِكَ الْحُدُودُ الَّتِي يَتَكَلَّفُهَا النَّاظِرُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِمِثْلِ الْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ وَالْعِلْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا إلَّا مَنْ لَيْسَ بِإِمَامِ فِي الْفَنِّ . وَإِلَى السَّاعَةِ لَمْ يَسْلَمْ لَهُمْ حَدٌّ . وَكَذَلِكَ حُدُودُ أَهْلِ الْكَلَامِ .

فَإِذَا كَانَ حُذَّاقُ بَنِي آدَمَ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنْ الْعِلْمِ أَحَكَمُوهُ بِدُونِ هَذِهِ الْحُدُودِ الْمُتَكَلَّفَةِ : بَطَلَ دَعْوَى تَوَقُّفِ الْمَعْرِفَةِ عَلَيْهَا . وَأَمَّا عُلُومُ بَنِي آدَمَ الَّذِينَ لَا يُصَنِّفُونَ الْكُتُبَ : فَهِيَ مِمَّا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ وَلَهُمْ مِنْ الْبَصَائِرِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْمَعَارِفِ مَا لَيْسَ لِأَهْلِ هَذِهِ الْحُدُودِ الْمُتَكَلَّفَةِ . فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْرِفَةُ الْأَشْيَاءِ مُتَوَقِّفَةً عَلَيْهَا ؟ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِابْنِ آدَمَ مِنْ الْحِسِّ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَا يُحِسُّ بِهِ الْأَشْيَاءَ وَيَعْرِفُهَا ؛ فَيَعْرِفُ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَشَمِّهِ وَذَوْقِهِ وَلَمْسِهِ الظَّاهِرِ مَا يَعْرِفُ وَيَعْرِفُ أَيْضًا بِمَا يَشْهَدُهُ وَيُحِسُّهُ بِنَفْسِهِ وَقَلْبِهِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ . فَهَذِهِ هِيَ الطُّرُقُ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا الْأَشْيَاءُ فَأَمَّا الْكَلَامُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعْرَفَ بِمُجَرَّدِهِ مُفْرَدَاتُ الْأَشْيَاءِ إلَّا بِقِيَاسِ تَمْثِيلٍ أَوْ تَرْكِيبِ أَلْفَاظٍ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يُفِيدُ تَصَوُّرَ الْحَقِيقَةِ . فَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ : إنْ تَصَوَّرَهَا بِبَاطِنِهِ أَوْ ظَاهِرِهِ اسْتَغْنَى عَنْ الْحَدِّ الْقَوْلِيِّ وَإِنْ لَمْ يَتَصَوَّرْهَا بِذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَتَصَوَّرَ حَقِيقَتَهَا بِالْحَدِّ الْقَوْلِيِّ . وَهَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ . فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ الْمَحْسُوسَاتِ الْمَذُوقَةَ

- مَثَلًا - كَالْعَسَلِ : لَمْ يُفِدْهُ الْحَدُّ تَصَوُّرَهَا . وَمَنْ لَمْ يَذُقْ ذَلِكَ كَمَنْ أُخْبِرَ عَنْ السُّكَّرِ - وَهُوَ لَمْ يَذُقْهُ - لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَتَصَوَّرَ حَقِيقَتَهُ بِالْكَلَامِ وَالْحَدِّ بَلْ يُمَثَّلُ لَهُ وَيُقَرَّبُ إلَيْهِ وَيُقَالُ لَهُ : طَعْمُهُ يُشْبِهُ كَذَا أَوْ يُشْبِهُ كَذَا وَكَذَا وَهَذَا التَّشْبِيهُ وَالتَّمْثِيلُ لَيْسَ هُوَ الْحَدَّ الَّذِي يَدَّعُونَهُ . وَكَذَلِكَ الْمَحْسُوسَاتُ الْبَاطِنَةُ مِثْلُ الْغَضَبِ وَالْفَرَحِ وَالْحُزْنِ وَالْغَمِّ وَالْعِلْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَنْ وَجَدَهَا فَقَدْ تَصَوَّرَهَا . وَمَنْ لَمْ يَجِدْهَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَتَصَوَّرَهَا بِالْحَدِّ وَلِهَذَا لَا يَتَصَوَّرُ الْأَكْمَهُ الْأَلْوَانَ بِالْحَدِّ وَلَا الْعِنِّينُ الْوِقَاعَ بِالْحَدِّ . فَإِذَنْ الْقَائِلُ : بِأَنَّ الْحُدُودَ هِيَ الَّتِي تُفِيدُ تَصَوُّرَ الْحَقَائِقِ قَائِلٌ لِلْبَاطِلِ الْمَعْلُومِ بِالْحِسِّ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّ الْحُدُودَ إنَّمَا هِيَ أَقْوَالٌ كُلِّيَّةٌ كَقَوْلِنَا : " حَيَوَانٌ نَاطِقٌ " وَ " لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى " وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَتَصَوُّرُ مَعْنَاهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ الشَّرِكَةُ مُمْتَنِعَةً لِسَبَبِ آخَرَ فَهِيَ إذَنْ لَا تَدُلُّ عَلَى حَقِيقَةٍ مُعَيَّنَةٍ بِخُصُوصِهَا وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى كُلِّيٍّ . وَالْمَعَانِي الْكُلِّيَّةُ وُجُودُهَا فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ . فَمَا فِي الْخَارِجِ لَا يَتَعَيَّنُ وَلَا يُعْرَفُ بِمُجَرَّدِ الْحَدِّ وَمَا فِي الذِّهْنِ لَيْسَ هُوَ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ . فَالْحَدُّ لَا يُفِيدُ تَصَوُّرَ حَقِيقَةٍ أَصْلًا .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131