الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

الْمَوْصُوفِ وَحَقِيقَةُ صِفَاتِهِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ وَهَذَا مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ كَمَا قَرَّرْت ذَلِكَ فِي قَاعِدَةٍ مُفْرَدَةٍ ذَكَرْتهَا فِي " التَّأْوِيلِ وَالْمَعْنَى " وَالْفَرْقُ بَيْنَ عِلْمِنَا بِمَعْنَى الْكَلَامِ وَبَيْنَ عِلْمِنَا بِتَأْوِيلِهِ . وَكَذَلِكَ التَّمْثِيلُ مَنْفِيٌّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ مَعَ دَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى نَفْيِهِ وَنَفْيِ التَّكْيِيفِ ؛ إذْ كُنْهُ الْبَارِي غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْبَشَرِ . وَذَكَرْت فِي ضِمْنِ ذَلِكَ كَلَامَ الخطابي الَّذِي نَقَلَ أَنَّهُ مَذْهَبُ السَّلَفِ : وَهُوَ " إجْرَاءُ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا ؛ إذْ الْكَلَامُ فِي الصِّفَاتِ فَرْعُ الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ : يُحْتَذَى حَذْوُهُ وَيُتَّبَعُ فِيهِ مِثَالُهُ فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ الذَّاتِ إثْبَاتَ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ تَكْيِيفٍ ؛ فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتُ تَكْيِيفٍ " . فَقَالَ أَحَدُ كُبَرَاءِ الْمُخَالِفِينَ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هُوَ جِسْمٌ ؛ لَا كَالْأَجْسَامِ . فَقَلَتْ لَهُ أَنَا وَبَعْضُ الْفُضَلَاءِ إنَّمَا قِيلَ : إنَّهُ يُوصَفُ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ حَتَّى يَلْزَمَ هَذَا . وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ جِسْمٌ : هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ الرافضي . وَأَمَّا قَوْلُنَا : فَهُمْ الْوَسَطُ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ كَمَا أَنَّ الْأُمَّةَ هِيَ الْوَسَطُ فِي الْأُمَمِ . فَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللَّهِ بَيْنَ أَهْلِ التَّعْطِيلِ الْجَهْمِيَّة وَأَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَةِ فَقِيلَ لِي أَنْتَ صَنَّفْت اعْتِقَادَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَرَادُوا قَطْعَ النِّزَاعِ لِكَوْنِهِ مَذْهَبًا مَتْبُوعًا .

فَقُلْت : مَا خَرَجَتْ إلَّا عَقِيدَةُ السَّلَفِ الصَّالِحِ جَمِيعِهِمْ ؛ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ اخْتِصَاصٌ بِهَذَا . وَقُلْت : قَدْ أَمْهَلْت مَنْ خَالَفَنِي فِي شَيْءٍ مِنْهَا ثَلَاثَ سِنِينَ فَإِنْ جَاءَ بِحَرْفِ وَاحِدٍ عَنْ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ يُخَالِفُ مَا ذَكَرْته فَأَنَا أَرْجِعُ عَنْ ذَلِكَ وَعَلَيَّ أَنْ آتِيَ بِنُقُولِ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ عَنْ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ يُوَافِقُ مَا ذَكَرْته مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ . ثُمَّ طَلَبَ الْمُنَازِعُ الْكَلَامَ فِي ( مَسْأَلَةِ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ فَقُلْت : هَذَا الَّذِي يُحْكَى عَنْ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ صَوْتَ الْقَارِئِينَ وَمِدَادَ الْمَصَاحِفِ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ كَذِبٌ مُفْتَرًى لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحْمَدُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَخْرَجْت كُرَّاسًا وَفِيهِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَا جَمَعَهُ صَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ المروذي مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ وَكَلَامِ أَئِمَّةِ زَمَانِهِ فِي أَنَّ مَنْ قَالَ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ : غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ . قُلْت : فَكَيْفَ بِمَنْ يَقُولُ لَفْظِي أَزَلِيٌّ ؟ فَكَيْفَ بِمَنْ يَقُولُ صَوْتِي قَدِيمٌ فَقَالَ الْمُنَازِعُ : إنَّهُ انْتَسَبَ إلَى أَحْمَدَ أُنَاسٌ مِنْ الْحَشْوِيَّةِ وَالْمُشَبِّهَةِ وَنَحْوِ هَذَا الْكَلَامِ فَقُلْت : الْمُشَبِّهَةُ وَالْمُجَسِّمَةُ فِي غَيْرِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فِيهِمْ : فَهَؤُلَاءِ أَصْنَافُ الْأَكْرَادِ كُلُّهُمْ شَافِعِيَّةٌ وَفِيهِمْ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ مَا لَا يُوجَدُ فِي صِنْفٍ آخَرَ ، وَأَهْلُ جِيلَانَ فِيهِمْ شَافِعِيَّةٌ وَحَنْبَلِيَّةٌ ؛ وَأَمَّا الْحَنْبَلِيَّةُ الْمَحْضَةُ فَلَيْسَ فِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ مَا فِي غَيْرِهِمْ والكَرَّامِيَة الْمُجَسِّمَةُ كُلُّهُمْ حَنَفِيَّةٌ .

وَقُلْت لَهُ : مَنْ فِي أَصْحَابِنَا حَشْوِيٌّ بِالْمَعْنَى الَّذِي تُرِيدُهُ ؟ الْأَثْرَمُ أَبُو دَاوُد المروذي الْخَلَّالُ ، أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ بْنُ حَامِدٍ الْقَاضِي ، أَبُو يَعْلَى أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ عَقِيلٍ ؛ وَرَفَعْت صَوْتِي وَقُلْت : سَمِّهِمْ قُلْ لِي مَنْ مِنْهُمْ ؟ . أَبِكَذِبِ ابْنِ الْخَطِيبِ وَافْتِرَائِهِ عَلَى النَّاسِ فِي مَذَاهِبِهِمْ تَبْطُلُ الشَّرِيعَةُ وَتَنْدَرِسُ مَعَالِمُ الدِّينِ كَمَا نَقَلَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : الْقُرْآنُ الْقَدِيمُ هُوَ أَصْوَاتُ الْقَارِئِينَ وَمِدَادُ الْكَاتِبِينَ ؛ وَأَنَّ الصَّوْتَ وَالْمِدَادَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ . مَنْ قَالَ هَذَا ؟ وَفِي أَيِّ كِتَابٍ وُجِدَ عَنْهُمْ هَذَا ؟ قُلْ : لِي . وَكَمَا نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ بِاللُّزُومِ الَّذِي ادَّعَاهُ وَالْمُقَدِّمَةِ الَّتِي نَقَلَهَا عَنْهُمْ .
وَلَمَّا جَاءَتْ " مَسْأَلَةُ الْقُرْآنِ " وَأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ : نَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي كَوْنِهِ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ وَطَلَبُوا تَفْسِيرَ ذَلِكَ فَقُلْت : أَمَّا هَذَا الْقَوْلُ : فَهُوَ الْمَأْثُورُ وَالثَّابِتُ عَنْ السَّلَفِ . مِثْلُ مَا نَقَلَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ : أَدْرَكْت النَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَقُولُونَ : اللَّهُ الْخَالِقُ وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ ؛ إلَّا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ . وَمَعْنَى مِنْهُ بَدَأَ أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ مِنْ لَدُنْهُ لَيْسَ هُوَ كَمَا تَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة أَنَّهُ خُلِقَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِ وَبَدَأَ مِنْ غَيْرِهِ . وَأَمَّا إلَيْهِ يَعُودُ : فَإِنَّهُ يَسْرِي بِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِنْ الْمَصَاحِفِ وَالصُّدُورِ

فَلَا يَبْقَى فِي الصُّدُورِ مِنْهُ كَلِمَةٌ وَلَا فِي الْمَصَاحِفِ مِنْهُ حَرْفٌ . وَوَافَقَ عَلَى ذَلِكَ غَالِبُ الْحَاضِرِينَ . فَقُلْت : هَكَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ } " : يَعْنِي الْقُرْآنَ . وَقَالَ خباب بْنُ الْأَرَتِّ : يَا هَنَتَاهُ تَقَرَّبْ إلَى اللَّهِ بِمَا اسْتَطَعْت ؛ فَلَنْ يُتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِشَيْءِ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ . وَقُلْت : وَأَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً ، وَأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً ؛ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ وَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ عِبَارَةٌ ؛ بَلْ إذَا قَرَأَ النَّاسُ الْقُرْآنَ أَوْ كَتَبُوهُ فِي الْمَصَاحِفِ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً . فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يُضَافُ حَقِيقَةً إلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا . لَا إلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا . فَامْتَعَضَ بَعْضُهُمْ مِنْ إثْبَاتِ كَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ حَقِيقَةً بَعْدَ تَسْلِيمِهِ أَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً ثُمَّ إنَّهُ سَلَّمَ ذَلِكَ لَمَّا بَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْمَجَازَ يَصِحُّ نَفْيُهُ ؛ وَهَذَا لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ وَأَنَّ أَقْوَالَ الْمُتَقَدِّمِينَ الْمَأْثُورَةَ عَنْهُمْ وَشِعْرَ الشُّعَرَاءِ الْمُضَافَ إلَيْهِمْ هُوَ كَلَامُهُمْ حَقِيقَةً . وَلَمَّا ذَكَرْت فِيهَا أَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يُضَافُ حَقِيقَةً إلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا إلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا اسْتَحْسَنُوا هَذَا الْكَلَامَ وَعَظَّمُوهُ . وَذَكَرْت مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَعَنَا حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ ؛ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَحْرِيفٍ وَلَكِنْ يُصَانُ عَنْ الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ

وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ فَإِنَّ هَذَا لَا تُوجِبُهُ اللُّغَةُ وَهُوَ خِلَافُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَخِلَافُ مَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْخَلْقَ بَلْ الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مِنْ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ ؛ وَهُوَ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ وَهُوَ مَعَ الْمُسَافِرِ أَيْنَمَا كَانَ .
وَلَمَّا ذَكَرْت : أَنَّ جَمِيعَ أَسْمَاءِ اللَّهِ الَّتِي يُسَمَّى بِهَا الْمَخْلُوقُ - كَلَفْظِ " الْوُجُودِ " : الَّذِي هُوَ مَقُولٌ بِالْحَقِيقَةِ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ : تَنَازَعَ كَبِيرَانِ هَلْ هُوَ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ أَوْ بِالتَّوَاطُؤِ ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمَا هُوَ مُتَوَاطِئٌ . وَقَالَ آخَرُ هُوَ مُشْتَرَكٌ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّرْكِيبُ . وَقَالَ هَذَا : قَدْ ذَكَرَ فَخْرُ الدِّينِ أَنَّ هَذَا النِّزَاعَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ وُجُودَهُ هَلْ هُوَ عَيْنُ مَاهِيَّتِه أَمْ لَا ؟ فَمَنْ قَالَ : إنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ قَالَ : إنَّهُ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ وَمَنْ قَالَ إنَّ وُجُودَهُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ قَالَ : إنَّهُ مَقُولٌ بِالتَّوَاطُؤِ فَأَخْذُ الْأَوَّلِ يُرَجِّحُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْوُجُودَ زَائِدٌ عَلَى الْمَاهِيَّةِ لِيَنْصُرَ أَنَّهُ مَقُولٌ بِالتَّوَاطُؤِ فَقَالَ الثَّانِي : مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ وَأَهْلِ السُّنَّة أَنَّ وُجُودَهُ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ ؛ فَأَنْكَرَ الْأَوَّلُ ذَلِكَ . فَقُلْت : أَمَّا مُتَكَلِّمُو أَهْلِ السُّنَّة فَعِنْدَهُمْ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ عَيْنُ مَاهِيَّتِه ؛ وَأَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ : فَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ : أَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ . وَكُلٌّ مِنْهُمَا أَصَابَ مِنْ وَجْهٍ ؛ فَإِنَّ الصَّوَابَ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مَقُولَةٌ بِالتَّوَاطُؤِ . كَمَا قَدْ قَرَّرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .

وَأَمَّا بِنَاءُ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ وُجُودِ الشَّيْءِ عَيْنَ مَاهِيَّتِه أَوْ لَيْسَ عَيْنَ وُجُودِ مَاهِيَّتِهِ فَهُوَ مِنْ الْغَلَطِ الْمُضَافِ إلَى ابْنِ الْخَطِيبِ ؛ فَإِنَّا وَإِنْ قُلْنَا إنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ : لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ مَقُولًا عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَقَطْ ؛ كَمَا فِي جَمِيعِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ : فَإِنَّ اسْمَ السَّوَادِ مَقُولٌ عَلَى هَذَا السَّوَادِ وَهَذَا السَّوَادُ بِالتَّوَاطُؤِ وَلَيْسَ عَيْنُ هَذَا السَّوَادِ هُوَ عَيْنَ هَذَا السَّوَادِ ؛ إذْ الِاسْمُ دَالٌّ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْمُطْلَقُ الْكُلِّيُّ ؛ لَكِنَّهُ لَا يُوجَدُ مُطْلَقًا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ إلَّا فِي الذِّهْنِ . وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ فَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ تَنْتَفِي " الْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ " وَهِيَ جُمْهُورُ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي اللُّغَاتِ وَهِيَ " أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ اللُّغَوِيَّةِ " وَهُوَ الِاسْمُ الْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّيْءِ وَمَا أَشْبَهَهُ - سَوَاءٌ كَانَ اسْمَ عَيْنٍ أَوْ اسْمَ صِفَةٍ جَامِدًا أَوْ مُشْتَقًّا وَسَوَاءٌ كَانَ جِنْسًا مَنْطِقِيًّا أَوْ فِقْهِيًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ . بَلْ اسْمُ الْجِنْسِ فِي اللُّغَةِ تَدْخُلُ فِيهِ الْأَجْنَاسُ وَالْأَصْنَافُ وَالْأَنْوَاعُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَكُلُّهَا أَسْمَاءٌ مُتَوَاطِئَةٌ وَأَعْيَانُ مُسَمَّيَاتِهَا فِي الْخَارِجِ مُتَمَيِّزَةٌ . قَالَ الذَّهَبِيُّ : ثُمَّ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ هَذَا مُعْتَقَدٌ سَلَفِيٌّ جَيِّدٌ (*) .

وَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ تَيْمِيَّة لِأَخِيهِ زَيْنِ الدِّينِ :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ أَخِيهِ " عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ تَيْمِيَّة " إلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَالِمِ الْفَاضِلِ الصَّدْرِ الْكَبِيرِ " زَيْنِ الدِّينِ " زَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحِلْيَةِ أَوْلِيَائِهِ وَأَكْرَمَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِكَرَامَةِ أَصْفِيَائِهِ وَجَعَلَ لَهُ الْبُشْرَى بِالنَّصْرِ الْأَكْبَرِ عَلَى أَعْدَائِهِ وَأَوْزَعَهُ شُكْرَ النَّعْمَاءِ ؛ خُصُوصًا أَفْضَلَ نَعْمَائِهِ : بِمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ النَّصْرِ الْعَزِيزِ لِلْإِسْلَامِ وَلِلسُّنَّةِ وَأَهْلِهَا عَلَى حِزْبِ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَائِهِ . أَمَّا بَعْدُ : فَإِنِّي أَحْمَدُ إلَيْك اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهُوَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ ، وَأُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ . وَأُعَرِّفُهُ بِمَا مَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ بِالنَّصْرِ الْأَكْبَرِ وَالْفَتْحِ الْمُبِينِ . وَهُوَ وَإِنْ كَانَتْ الْعُقُولُ تَعْجِزُ عَنْ دَرْكِهِ عَلَى التَّفْضِيلِ وَالْأَلْسُنِ عَنْ وَصْفِهِ عَنْ التَّكْمِيلِ . لَكِنْ نَذْكُرُ مِنْهُ مَا يَسَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُلَخَّصًا خَالِيًا عَنْ التَّطْوِيلِ .

وَهُوَ أَنَّهُ - لَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ الثَّامِنُ مِنْ رَجَبٍ - جَمَعَ نَائِبُ السُّلْطَانِ الْقُضَاةَ الْأَرْبَعَةَ وَنُوَّابَهُمْ وَالْمُفْتِينَ وَالْمَشَايِخَ : نَجْمَ الدِّينِ ، وَشَمْسَ الدِّينِ وَتَقِيَّ الدِّينِ ، وَجَمَالَ الدِّينِ ، وَجَلَالَ الدِّينِ : نَائِبَ نَجْمِ الدِّينِ ، وَشَمْسَ الدِّينِ بْنَ الْعِزِّ : نَائِبَ شَمْسِ الدِّينِ ، وَعِزَّ الدِّينِ : نَائِبَ تَقِيِّ الدِّينِ ، وَنَجْمَ الدِّينِ : نَائِبَ جَمَالِ الدِّينِ ، وَالشَّيْخَ كَمَالَ الدِّينِ بْنَ الزملكاني ، وَالشَّيْخَ كَمَالَ الدِّينِ بْنَ الشرشي ، وَابْنَ الْوَكِيلِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ ، وَالشَّيْخَ بُرْهَانَ الدِّينِ بْنَ عَبْدِ الْحَقِّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ ، وَالشَّيْخَ شَمْسَ الدِّينِ الْحَرِيرِيَّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ ، وَالشَّيْخَ شِهَابَ الدِّينِ الْمَجْدَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ ، وَالشَّيْخَ مُحَمَّدَ بْنَ قَوَّامٍ ، وَالشَّيْخَ مُحَمَّدَ بْنَ إبْرَاهِيمَ الأرموي . ثُمَّ سَأَلَ نَائِبُ السُّلْطَانِ عَنْ الِاعْتِقَادِ . فَقَالَ : لَيْسَ الِاعْتِقَادُ لِي وَلَا لِمَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنِّي ؛ بَلْ الِاعْتِقَادُ يُؤْخَذُ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ . يُؤْخَذُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمِنْ أَحَادِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَعْرُوفَةِ وَمَا ثَبَتَ عَنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ . فَقَالَ الْأَمِيرُ نُرِيدُ أَنْ تَكْتُبَ لَنَا صُورَةَ الِاعْتِقَادِ فَقَالَ الشَّيْخُ : إذَا قُلْت السَّاعَةَ شَيْئًا مِنْ حِفْظِي : قَدْ يَقُولُ الْكَذَّابُونَ قَدْ كَتَمَ بَعْضَهُ أَوْ دَاهَنَ . بَلْ أَنَا أُحْضِرُ مَا كَتَبْته قَبْلَ هَذَا الْمَجْلِسِ بِسِنِينَ مُتَعَدِّدَةٍ قَبْلَ مَجِيءِ التَّتَارِ . فَأَحْضَرْت " الواسطية " وَسَبَبُ تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ : أَنَّ الَّذِي طَلَبَهَا مِنْ الشَّيْخِ رَجُلٌ مِنْ قُضَاةِ وَاسِطٍ - مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - قَدِمَ حَاجًّا مِنْ نَحْوِ عَشْرِ سِنِينَ وَكَانَ فِيهِ صَلَاحٌ كَبِيرٌ وَدِيَانَةٌ كَبِيرَةٌ فَالْتَمَسَ مِنْ الشَّيْخِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ عَقِيدَةً فَقَالَ لَهُ

الشَّيْخُ : النَّاسُ قَدْ كَتَبُوا فِي هَذَا الْبَابِ شَيْئًا كَثِيرًا فَخُذْ بَعْضَ عَقَائِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَقَالَ : أُحِبُّ أَنْ تَكْتُبَ لِي أَنْتَ . فَكَتَبَ لَهُ - وَهُوَ قَاعِدٌ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الْعَصْرِ هَذِهِ " الْعَقِيدَةَ " . ذَكَرَ الشَّيْخُ لِلْأَمِيرِ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ ثُمَّ قُرِئَتْ عَلَى الْحَاضِرِينَ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا كَلِمَةً كَلِمَةً وَبَحَثَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا ، وَفِيهِمْ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِنْ الشَّيْخِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَكَانَ ظَنُّهُمْ أَنَّهُمْ إذَا تَكَلَّمُوا مَعَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَظْهَرُوا أَنَّهُ يُخَالِفُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . وَأَوْرَدُوا ثَلَاثَةَ أَسْئِلَةٍ - فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ - وَهِيَ " تَسْمِيَتُهَا بِاعْتِقَادِ أَهْلِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ " وَقَوْلُ : " اسْتَوَى حَقِيقَةً " وَقَوْلُ : " فَوْقَ السَّمَوَاتِ " فَقَالَ الشَّيْخُ لِلْكَاتِبِ الَّذِي أَقْعَدَهُ نَائِبُ السُّلْطَانِ وَهُوَ الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الزملكاني : اُكْتُبْ جَوَابَهَا - وَكَانَ الْمَجْلِسُ قَدْ طَالَ مِنْ الضُّحَى إلَى قَرِيبِ الْعَصْرِ - فَأَشَارُوا بِتَأْخِيرِ ذَلِكَ إلَى مَجْلِسٍ ثَانٍ - وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ثَانِي عَشَرَ رَجَبٍ - فَاجْتَمَعُوا هُمْ وَحَضَرَ مَعَهُمْ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَحَضَرْت أَنَا الْمَجْلِسَ الثَّانِيَ ؛ وَمَا عَلِمْت بِالْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ حِينَ حَضَرُوا - وَقَدْ كَانُوا بَحَثُوا فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ بِالْفُصُوصِ وَطَالَعُوهُ - وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُبْقُوا مُمْكِنًا . فَلَمَّا حَضَرْت بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَاسْتَقَرَّ الْمَجْلِسُ : أَثْنَى النَّاسُ عَلَى الصَّفِيِّ الْهِنْدِيِّ وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ هُوَ شَيْخُ الْجَمَاعَةِ وَكَبِيرُهُمْ فِي هَذَا ؛ وَعَلَيْهِ اشْتَغَلَ النَّاسُ فِي هَذَا الْفَنِّ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَعَ الشَّيْخِ وَحْدَهُ فَإِذَا فَرَغَ تَكَلَّمَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ .

فَخَطَبَ الشَّيْخُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِخُطْبَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف ، وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ وَرَبُّنَا وَاحِدٌ ، وَرَسُولُنَا وَاحِدٌ ، وَكِتَابُنَا وَاحِدٌ وَدِينُنَا وَاحِدٌ ؛ وَأُصُولُ الدِّينِ لَيْسَ بَيْنَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فِيهَا خِلَافٌ ؛ وَلَا يَحِلُّ فِيهَا الِافْتِرَاقُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } وَيَقُولُ : { إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } . وَهَذَا الْبَابُ قَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ ؛ وَيَقُولُ هَذَا : أَنَا حَنْبَلِيٌّ وَيَقُولُ هَذَا : أَنَا أَشْعَرِيٌّ وَقَدْ أَحْضَرْت كُتُبَ الْأَشْعَرِيِّ وَكُتُبَ أَكَابِرِ أَصْحَابِهِ : مِثْلَ كُتُبِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَانِي وَأَحْضَرْت أَيْضًا مِنْ نَقْلِ مَذَاهِبِ السَّلَفِ : مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَشُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ وَأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى اعْتِقَادٍ وَاحِدٍ . وَكَذَلِكَ أَحْضَرَ نَقْلَ شُيُوخِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ : مِثْلَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ والطَّحَاوِي وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَغَيْرِهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ وَقَرَأَ فَصْلًا مِمَّا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ " الْإِبَانَةِ " وَأَنَّهُ يَقُولُ بِقَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ . وَأَحْضَرَ " كِتَابَ التَّمْهِيدِ " لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَانِي . وَأَحْضَرَ " النُّقُولَ " عَنْ مَالِكٍ وَأَكَابِرِ أَصْحَابِهِ : مِثْلَ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ مَالِكٍ بِتَصْرِيحِهِمْ أَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ بِذَاتِهِ عَلَى الْعَرْشِ . وَقَالَ أَمَّا الَّذِي أَذْكُرُهُ فَهُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَأَحْضَرَ أَلْفَاظَهُمْ وَأَلْفَاظَ مَنْ

نَقَلَ مَذَاهِبَهُمْ مِنْ الطَّوَائِفِ الْأَرْبَعَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَالصُّوفِيَّةِ وَأَذْكُرُ مُوَافَقَةَ ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَنْفِيهِ الْعَقْلُ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَجْمَعُ قُلُوبَ الْجَمَاعَةِ عَلَى ذَلِكَ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؛ وَإِنْ خَالَفَ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ كَانَ فِي كَلَامِ الْآخَرِ مَا أَقُولُهُ وَأَكْشِفُ الْأَسْرَارَ وَأَهْتِكُ الْأَسْتَارَ وَأُبَيِّنُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بَيَانُهُ وَأَجْتَمِعُ بِالسُّلْطَانِ وَأَقُولُ لَهُ كَلَامًا آخَرَ . وَكَانَ يَوْمًا عَظِيمًا مَشْهُودًا بُيِّنَ فِيهِ لِلْحَاضِرِينَ مِنْ الْبَحْثِ وَالنَّقْلِ أَمْرًا عَظِيمًا وَبَحَثَ عَنْ أَشْيَاءَ خَارِجَةٍ عَنْ " الْعَقِيدَةِ الواسطية " لَمَّا أَحْضَرَ لَهُمْ جَوَابَهُ : فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَمَسْأَلَةِ الِاسْتِوَاءِ - لَمَّا سُئِلَ عَنْهَا قَدِيمًا مِنْ نَحْوِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً - وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْجَوَابِ وَسَأَلُوهُ عَنْ أَلْفَاظٍ فِي الْمَسْأَلَةِ " الحموية " وَأَوْرَدُوا عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الْأَجْوِبَةِ وَقَالُوا هَذَا سُؤَالُنَا وَمَا بَقِيَ فِي أَنْفُسِنَا شَيْءٌ فَلَمَّا أَجَابَ الشَّيْخُ عَنْ أَسْئِلَتِهِمْ وَافَقُوهُ وَانْفَصَلَ الْمَجْلِسُ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ قَالَ لَهُمْ كُلُّ مَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِمَّا قُلْته فَلْيَكْتُبْ بِخَطِّهِ خِلَافَهُ وَلْيَنْقُلْ فِيمَا خَالَفَ فِي ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ ؛ أَوْ يَكْتُبُ كُلُّ شَخْصٍ عَقِيدَةً وَتُعْرَضُ هَذِهِ الْعَقَائِدُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ وَيُعْرَفُ أَيُّهَا الْمُوَافِقُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَقَالَ أَيْضًا مَنْ جَاءَ بِحَرْفِ وَاحِدٍ عَنْ السَّلَفِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْت فَأَنَا أَصِيرُ إلَيْهِ وَأَنَا أُحْضِرُ نَقْلَ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا مَذْهَبَ السَّلَفِ كَمَا وَضَعْته وَأَنَا مُوَافِقُ السَّلَفِ

وَمُنَاظِرٌ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَجَمِيعُ أَئِمَّةِ الطَّوَائِفِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ مُوَافِقُونَ مَا أَقُولُهُ . وَسَأَلُوهُ عَنْ الظَّاهِرِ هَلْ هُوَ مُوَافِقٌ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ هَذَا لَيْسَ فِي " الْعَقِيدَةِ " وَأَنَا أَتَبَرَّعُ بِالْجَوَابِ عَنْ أَكْثَرِ مَنْ حَكَى مَذْهَبَ السَّلَفِ - كالخطابي وَأَبِي بَكْرٍ الْخَطِيبِ والبغوي وَأَبِي بَكْرٍ وأبي الْقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ الْبَاقِلَانِي وَأَبِي عُثْمَانَ الصَّابُونِيِّ وَأَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَالسَّيْفِ الآمدي وَغَيْرِهِمْ فِي نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا وَأَنَّ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ : يُحْتَذَى فِيهِ حَذْوُهُ وَيُتَّبَعُ فِيهِ مِثَالُهُ ؛ فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ الذَّاتِ إثْبَاتَ وُجُودٍ لِإِثْبَاتِ كَيْفِيَّةٍ ؛ فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ : إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتُ كَيْفِيَّةٍ.
وَقَدْ نَقَلَ طَائِفَةٌ . . . (1) (*) أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ أَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ . قَالَ : وَالْجَمْعُ بَيْنَ النَّقْلَيْنِ أَنَّ الظَّاهِرَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ ؛ فَالظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَلِيقُ إلَّا بِالْمَخْلُوقِ غَيْرُ مُرَادٍ وَأَمَّا الظَّاهِرُ اللَّائِقُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ فَهُوَ مُرَادٌ : أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَصِفَاتِهِ مِثْلَ الْحَيِّ وَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ ؛ وَجَرَتْ بُحُوثٌ دَقِيقَةٌ لَا يَفْهَمُهَا إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ . وَبُيِّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوْقَ عَرْشِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِهِ ؛ وَلَا أَقُولُ

فَوْقَهُ كَالْمَخْلُوقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ كَمَا تَقُولُهُ الْمُشَبِّهَةُ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ لَا فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَلَا عَلَى الْعَرْشِ رَبٌّ كَمَا تَقُولُهُ الْمُعَطِّلَةُ الْجَهْمِيَّة بَلْ يُقَالُ إنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ . وَتَكَلَّمَ عَلَى لَفْظِ الْجِهَةِ ؛ وَأَنَّهُ مَعْنًى مُشْتَرَكٌ وَعَلَى لَفْظِ الْحَقِيقَةِ . وَسُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَالصَّوْتِ فَأَجَابَ بِالتَّفْصِيلِ وَكَانَ أَجَابَ بِهِ قَدِيمًا - فَقَالَ : مَنْ قَالَ إنَّ صَوْتَ الْعَبْدِ بِالْقُرْآنِ وَمِدَادَ الْمُصْحَفِ قَدِيمٌ فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ وَلَمْ يَقُلْ بِهَذَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَلَا غَيْرِهِمْ . وَمَا نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَيْسَ الْقُرْآنُ إلَّا الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ مِنْ الْقَارِئِ وَالْمِدَادُ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَدِيمٌ فَهَذَا كَذِبٌ مُفْتَرًى . مَا قَالَهُ أَحْمَدُ وَأَحْضَرَ نُصُوصَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ : أَنَّ مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَقُولُ صَوْتِي بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ يَقُولُ صَوْتِي بِهِ قَدِيمٌ وَحَرَّرَ الْكَلَامَ فِيهَا وَإِنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِنَفْيِ الْحَرْفِ بِدْعَةٌ : لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ . بَلْ مَذْهَبُ السَّلَفِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ : حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ ؛ وَالْكَلَامُ يُضَافُ حَقِيقَةً إلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا ؛ لَا إلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا وَأَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِصَوْتِ وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ . فَأَخَذَ نَائِبُ

الْمَالِكِيِّ يَقُولُ : أَنْتَ تَقُولُ : إنَّ اللَّهَ يُنَادِي بِصَوْتِ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ : هَكَذَا قَالَ نَبِيُّك إنْ كُنْت مُؤْمِنًا بِهِ ، وَهَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إنْ كَانَ رَسُولًا عِنْدَك . وَجَعَلَ نَائِبُ السُّلْطَانِ كُلَّمَا ذَكَرَ حَدِيثًا وَعَزَاهُ إلَى الصَّحِيحَيْنِ يَقُولُ لَهُمْ : هَكَذَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ نَعَمْ . فَيَقُولُ فَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ شَيْءٍ يُقَالُ لَهُ . وَقَالَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ قُلْته مِنْ عِنْدِك قُلْته ؟ فَقَالَ بَلْ أَنْقُلُهُ جَمِيعًا عَنْ نَبِيِّ الْأُمَّةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُبَيِّنُ أَنَّ طَوَائِفَ الْإِسْلَامِ تَنْقُلُهُ عَنْ السَّلَفِ كَمَا نَقَلْته وَأَنَّ أَئِمَّةَ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ وَأَنَا أُنَاظِرُ عَلَيْهِ وَأَعْلَمُ كُلَّ مَنْ يُخَالِفُنِي بِمَذْهَبِهِ . وَانْزَعَجَ الشَّيْخُ انْزِعَاجًا عَظِيمًا عَلَى نَائِبِ الْمَالِكِيِّ وَالصَّفِيِّ الْهِنْدِيِّ وَأَسْكَتَهُمَا سُكُوتًا لَمْ يَتَكَلَّمَا بَعْدَهُ بِمَا يُذْكَرُ . وَجُزْئِيَّاتُ الْأُمُورِ لَا يَتَّسِعُ لَهَا هَذَا الْوَرَقُ ، وَبَعْدَ الْمَجْلِسِ حَمَلَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ النَّقْلَ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ بِأَنَّ السَّلَفَ لَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ حَقِيقَةً وَأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِنَفْيِ الْجِهَةِ وَلَا يَنْطِقُونَ إلَّا بِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ ، وَخُصَّ الْعَرْشُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنَّمَا جَهِلُوا كَيْفِيَّةَ الِاسْتِوَاءِ وَأَنَّهُ لَا تُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ ؛ كَمَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ - يَعْنِي فِي اللُّغَةِ - وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ فَقَالَ الْمَالِكِيُّ مَا كُنَّا نَعْرِفُ هَذَا .

وَبَعْدَ الْمَجْلِسِ حَصَلَ مِنْ ابْنِ الْوَكِيلِ وَغَيْرِهِ : مِنْ الْكَذِبِ وَالِاخْتِلَاقِ وَالتَّنَاقُضِ بِمَا عَلَيْهِ الْحَالُ مَا لَا يُوصَفُ . فَجَمِيعُ مَا يَرِدُ إلَيْك مِمَّا يُنَاقِضُ مَا ذَكَرْت : مِنْ الْأَكَاذِيبِ ؛ وَالِاخْتِلَاقَاتِ فَتَعْلَمُ ذَلِكَ . وَلَمْ نَدْرِ إلَى الْآنَ كَيْفَ وَقَعَ الْأَمْرُ فِي مِصْرَ ؛ إلَّا مَا فِي كِتَابِ السُّلْطَانِ أَنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّ الشَّيْخَ فُلَانًا كَتَبَ عَقِيدَةً يَدْعُو إلَيْهَا وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ أَنْكَرَهَا فَلْيُعْقَدْ لَهُ مَجْلِسٌ لِذَلِكَ وَلْتُطَالِعْ مَا يَقَعُ وَتَكْشِفُ أَنْتَ ذَلِكَ كَشْفًا شَافِيًا وَتُعَرِّفُنَا بِهِ . وَالسَّلَامُ عَلَيْك وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَعَلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْكَبِيرِ الْعَالِمِ الْفَاضِلِ قُرَّةِ الْعَيْنِ عِزِّ الدِّينِ أَفْضَلُ السَّلَامِ وَكَذَلِكَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ الْأَهْلِ وَالْأَصْحَابِ وَالْمَعَارِفِ وَالسَّلَامُ .

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ : أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة فِي " جَوَابِ " . وَرَقَةٍ أُرْسِلَتْ إلَيْهِ فِي السِّجْنِ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِمِائَةٍ .
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا . مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ : أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ؛ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . أَمَّا بَعْدُ قَدْ وَصَلَتْ " الْوَرَقَةُ " الَّتِي فِيهَا رِسَالَةُ الشَّيْخَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ الْعَالِمَيْنِ النَّاسِكَيْنِ الْقُدْوَتَيْنِ . أَيَّدَهُمَا اللَّهُ وَسَائِرَ الْإِخْوَانِ بِرُوحِ مِنْهُ وَكَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَدْخَلَهُمْ مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرَجَهُمْ مُخْرَجَ صِدْقٍ وَجَعَلَهُمْ مِمَّنْ يُنْصَرُ بِهِ السُّلْطَانُ : سُلْطَانُ الْعِلْمِ وَالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ . وَسُلْطَانُ الْقُدْرَةِ وَالنَّصْرِ بِالسِّنَانِ وَالْأَعْوَانِ . وَجَعَلَهُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ : لِمَنْ نَاوَأَهُمْ مِنْ الْأَقْرَانِ وَمِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ : الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الصَّبْرِ

وَالْإِيقَانِ ؛ وَاَللَّهُ مُحَقِّقٌ ذَلِكَ وَمُنْجِزٌ وَعْدَهُ فِي السِّرِّ وَالْإِعْلَانِ ؛ وَمُنْتَقِمٌ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ : لِعِبَادِ الرَّحْمَنِ . لَكِنْ بِمَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ وَمَضَتْ بِهِ سُنَّتُهُ . مِنْ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ . الَّذِي يُخَلِّصُ اللَّهُ بِهِ أَهْلَ الصِّدْقِ وَالْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالْبُهْتَانِ ؛ إذْ قَدْ دَلَّ كِتَابُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْفِتْنَةِ لِكُلِّ مِنْ الدَّاعِي إلَى الْإِيمَانِ وَالْعُقُوبَةِ لِذَوِي السَّيِّئَاتِ وَالطُّغْيَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الم } { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } . { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } . فَأَنْكَرَ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّ أَهْلَ السَّيِّئَاتِ يُفَوِّتُونَ الطَّالِبَ وَأَنَّ مُدَّعِي الْإِيمَانِ يُتْرَكُونَ بِلَا فِتْنَةٍ تُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ ، وَأَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّ الصِّدْقَ فِي الْإِيمَانِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ فَقَالَ تَعَالَى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } إلَى قَوْلِهِ { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } . وَأَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ بِخُسْرَانِ الْمُنْقَلَبِ عَلَى وَجْهِهِ عِنْدَ الْفِتْنَةِ الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهَا عَلَى حَرْفٍ وَهُوَ الْجَانِبُ وَالطَّرْفُ الَّذِي لَا يَسْتَقِرُّ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ بَلْ لَا يَثْبُتُ الْإِيمَانُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ مَا يَهْوَاهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ

عَلَى حَرْفٍ } الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } . وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرْتَدِّينَ ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمُحِبِّينَ الْمَحْبُوبِينَ الْمُجَاهِدِينَ فَقَالَ { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } الْآيَةَ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الشَّاكِرُونَ لِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ الصَّابِرُونَ عَلَى الِامْتِحَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ } { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } { فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } . فَإِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ : كَانَ جَمِيعُ مَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ مِنْ الْقَضَاءِ خَيْرًا لَهُ ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ قَضَاءٍ إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ : إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ

فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ } " وَالصَّابِرُ الشَّكُورُ هُوَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ . وَمَنْ لَمْ يُنْعِمْ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ فَهُوَ بِشَرِّ حَالٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ فِي حَقِّهِ يُفْضِي إلَى قَبِيحِ الْمَآلِ ؛ فَكَيْفَ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ مِحَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَفِيهَا تَثْبِيتُ أُصُولِ الدِّينِ ، وَحِفْظُ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ مِنْ كَيْدِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالْإِلْحَادِ وَالْبُهْتَانِ . فَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى وَكَمَا يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ وَعِزِّ جَلَالِهِ . وَاَللَّهُ هُوَ الْمَسْئُولُ أَنْ يُثَبِّتَكُمْ وَسَائِرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُتِمَّ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ الْبَاطِنَةَ وَالظَّاهِرَةَ وَيَنْصُرَ دِينَهُ وَكِتَابَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ : الَّذِي أُمِرْنَا بِجِهَادِهِمْ وَالْإِغْلَاظِ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ . وَأَنْتُمْ فَابْشُرُوا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَالسُّرُورِ بِمَا لَمْ يَخْطِرْ فِي الصُّدُورِ . وَشَأْنُ هَذِهِ " الْقَضِيَّةِ " وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَكْبَرُ مِمَّا يَظُنُّهُ مَنْ لَا يُرَاعِي إلَّا جُزْئِيَّاتِ الْأُمُورِ . وَلِهَذَا كَانَ فِيمَا خَاطَبْت بِهِ أَمِينَ الرَّسُولِ عَلَاءَ الدِّينِ الطيبرسي أَنْ قُلْت : هَذِهِ " الْقَضِيَّةُ " لَيْسَ الْحَقُّ فِيهَا لِي بَلْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ شَرْقِ الْأَرْضِ إلَى مَغْرِبِهَا ؛ وَأَنَا لَا يُمْكِنُنِي أَنْ أُبَدِّلَ الدِّينَ وَلَا أُنَكِّسَ رَايَةَ الْمُسْلِمِينَ . وَلَا أَرْتَدَّ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ .

نَعَمْ يُمْكِنُنِي أَنْ لَا أَنْتَصِرَ لِنَفْسِي وَلَا أُجَازِيَ مَنْ أَسَاءَ إلَيَّ وَافْتَرَى عَلَيَّ وَلَا أَطْلُبُ حَظِّي وَلَا أَقْصِدُ إيذَاءَ أَحَدٍ بِحَقِّي وَهَذَا كُلُّهُ مَبْذُولٌ مِنِّي وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَنَفْسِي طَيِّبَةٌ بِذَلِكَ وَكُنْت قَدْ قُلْت لَهُ الضَّرَرُ فِي هَذِهِ " الْقَضِيَّةِ " لَيْسَ عَلَيَّ ؛ بَلْ عَلَيْكُمْ . فَإِنَّ الَّذِينَ أَثَارُوهَا مِنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ : الَّذِينَ يُبْغِضُونَهُ وَيُبْغِضُونَ أَوْلِيَاءَهُ وَالْمُجَاهِدِينَ عَنْهُ وَيَخْتَارُونَ انْتِصَارَ أَعْدَائِهِ مِنْ التَّتَارِ وَنَحْوِهِمْ . وَهُمْ دَبَّرُوا عَلَيْكُمْ حِيلَةً يُفْسِدُونَ بِهَا مِلَّتَكُمْ وَدَوْلَتَكُمْ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى بُلْدَانِ التَّتَارِ وَبَعْضُهُمْ مُقِيمٌ بِالشَّامِ وَغَيْرِهِ ؛ وَلِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَسْرَارٌ لَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَذْكُرَهَا وَلَا أُسَمِّيَ مَنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ حَتَّى تُشَاوِرُوا نَائِبَ السُّلْطَانِ فَإِنْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ ذَكَرْت لَك ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا يُقَالُ ذَلِكَ لَهُ وَمَا أَقُولُهُ فَاكْشِفُوهُ أَنْتُمْ فَاسْتَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ يَا مَوْلَانَا : أَلَا تُسَمِّي لِي أَنْتَ أَحَدًا ؟ فَقُلْت : وَأَنَا لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ . لَكِنْ تَعْرِفُونَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ أَنَّهُمْ قَصَدُوا فَسَادَ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ . وَجَعَلُونِي إمَامًا تَسَتُّرًا ؛ لِعِلْمِهِمْ بِأَنِّي أُوَالِيكُمْ وَأَسْعَى فِي صَلَاحِ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ وَسَوْفَ إنْ شَاءَ اللَّهُ يَنْكَشِفُ الْأَمْرُ . قُلْت لَهُ وَإِلَّا فَأَنَا عَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَخَافُ إنْ قُتِلْت كُنْت مِنْ أَفْضَلِ الشُّهَدَاءِ وَكَانَ عَلَيَّ الرَّحْمَةُ وَالرِّضْوَانُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَانَ عَلَى مَنْ قَتَلَنِي اللَّعْنَةُ الدَّائِمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ لِيَعْلَمَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنِّي إنْ قُتِلْت

لِأَجْلِ دِينِ اللَّهِ وَإِنْ حُبِسْت فَالْحَبْسُ فِي حَقِّي مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيَّ ووالله مَا أُطِيقُ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيَّ فِي هَذَا الْحَبْسِ وَلَيْسَ لِي مَا أَخَافُ النَّاسَ عَلَيْهِ لَا أَقْطَاعِي وَلَا مَدْرَسَتِي وَلَا مَالِي وَلَا رِيَاسَتِي وَجَاهِي . وَإِنَّمَا الْخَوْفُ عَلَيْكُمْ إذَا ذَهَبَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ وَفَسَدَ دِينُكُمْ الَّذِي تَنَالُونَ بِهِ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَذَا كَانَ مَقْصُودُ الْعَدُوِّ الَّذِي أَثَارَ هَذِهِ الْفِتْنَةَ . وَقُلْت : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بِمِصْرِ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْمَشَايِخِ : إخْوَانِي وَأَصْحَابِي ؛ أَنَا مَا أَسَأْت إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ قَطُّ وَمَازِلْت مُحْسِنًا إلَيْهِمْ فَأَيُّ شَيْءٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ وَلَكِنْ لَبَّسَ عَلَيْهِمْ الْمُنَافِقُونَ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ . وَأَنَا أَقُولُ لَكُمْ - لَكِنْ لَمْ يَتَّفِقْ أَنِّي قُلْت هَذَا لَهُ - إنَّ فِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَسْمَعُ كَلَامَ الْمُنَافِقِينَ وَيُطِيعُهُمْ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ } . وَالنِّفَاقُ لَهُ شُعَبٌ وَدَعَائِمُ ؛ كَمَا أَنَّ لِلْإِيمَانِ شُعَبًا وَدَعَائِمَ ؛ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا ائتمن خَانَ } وَفِيهِمَا أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : " { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ وَإِذَا ائتمن خَانَ } ".

وَقُلْت لَهُ : هَذِهِ الْقَضِيَّةُ أَكْبَرُ مِمَّا فِي نُفُوسِكُمْ ؛ فَإِنَّ طَائِفَةً مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءِ ذَهَبُوا إلَى بِلَادِ التتر . فَقَالَ : إلَى بِلَادِ التتر ؟ فَقُلْت نَعَمْ . هُمْ مِنْ أَحْرَصِ النَّاسِ عَلَى تَحْرِيكِ الشَّرِّ عَلَيْكُمْ إلَى أُمُورٍ أُخْرَى لَا يَصْلُحُ أَنْ أَذْكُرَهَا لَك . وَكَانَ قَدْ قَالَ لِي : فَأَنْتَ تُخَالِفُ الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ ؛ وَذَكَرَ حُكْمَ الْقُضَاةِ الْأَرْبَعَةِ فَقُلْت لَهُ : بَلْ الَّذِي قُلْته عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ الْمَذَاهِبُ وَقَدْ أَحْضَرْت فِي الشَّامِ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ كِتَابًا : مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ ، وَالْمُتَكَلِّمِين وَالصُّوفِيَّةِ كُلُّهَا تُوَافِقُ مَا قُلْته بِأَلْفَاظِهِ ؛ وَفِي ذَلِكَ نُصُوصُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا . وَلَمْ يَسْتَطِعْ الْمُنَازِعُونَ مَعَ طُولِ تَفْتِيشِهِمْ كُتُبَ الْبَلَدِ وَخَزَائِنَهُ أَنْ يُخْرِجُوا مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَسَلَفِهِ . وَكَانَ لَمَّا أَعْطَانِي الدُّرْجَ . فَتَأَمَّلْته فَقُلْت لَهُ : هَذَا كُلُّهُ كَذِبٌ ؛ إلَّا كَلِمَةً وَاحِدَةً . وَهِيَ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ حَقِيقَةً ؛ لَكِنْ بِلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ . قُلْت وَهَذَا هُوَ فِي " الْعَقِيدَةِ " بِهَذَا اللَّفْظِ بِلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ . فَقَالَ : فَاكْتُبْ خَطَّك بِهَذَا . قُلْت : هَذَا مَكْتُوبٌ قَبْلَ ذَلِكَ فِي " الْعَقِيدَةِ " وَلَمْ أَقُلْ : بِمَا يُنَاقِضُهُ ؛ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَجْدِيدِ الْخَطِّ . وَقُلْت : هَذَا اللَّفْظُ قَدْ حَكَى إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ : الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ ؛ وَمَا فِي عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ إلَّا هَؤُلَاءِ الْخُصُومُ .

قُلْت : فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : مَا فَوْقَ الْعَرْشِ رَبٌّ يُدْعَى وَلَا فَوْقَ السَّمَاءِ إلَهٌ يُعْبَدُ ؛ وَمَا هُنَاكَ إلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ وَالنَّفْيُ الصِّرْفُ وَأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ؛ وَلَكِنْ صَعِدَ إلَى السَّمَاءِ وَنَزَلَ . وَأَنَّ الدَّاعِيَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَى اللَّهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ هُوَ هَذَا الْوُجُودُ ؛ وَأَنَا اللَّهُ ؛ وَأَنْتَ اللَّهُ ؛ وَالْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَالْعَذِرَةُ وَيَقُولُ : إنَّ اللَّهَ حَالٌّ فِي ذَلِكَ . فَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ وَهَالَهُ أَنَّ أَحَدًا يَقُولُ هَذَا . فَقَالَ " هَؤُلَاءِ " يَعْنِي ابْنَ مَخْلُوفٍ وَذَوِيهِ فَقُلْت : هَؤُلَاءِ مَا سَمِعْت كَلَامَهُمْ وَلَا خَاطَبُونِي بِشَيْءِ ؛ فَمَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَقُولَ عَنْهُمْ مَا لَمْ أَعْلَمْهُ ؛ وَلَكِنَّ هَذَا قَوْلُ الَّذِينَ نَازَعُونِي بِالشَّامِ وَنَاظَرُونِي وَصَرَّحُوا لِي بِذَلِكَ وَصَرَّحَ أَحَدُهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقُولُهُ فِي هَذَا الْبَابِ مِمَّا يُخَالِفُهُمْ . وَجَعَلَ الرَّجُلُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ يُصْغِي لِمَا أَقُولُهُ وَيَعِيهِ : لَمَّا رَأَى غَضَبِي وَلِهَذَا بَلَغَنِي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ خَرَجَ فَرِحًا مَسْرُورًا بِمَا سَمِعَهُ مِنِّي . وَقَالَ : هَذَا عَلَى الْحَقِّ وَهَؤُلَاءِ قَدْ ضَيَّعُوا اللَّهَ وَإِلَّا فَأَيْنَ هُوَ اللَّهُ ؟ وَهَكَذَا يَقُولُ كُلُّ ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ . كَمَا قَالَهُ : جَمَالُ الدِّينِ الْأَخْرَمُ لِلْمَلِكِ الْكَامِلِ لَمَّا خَاطَبَهُ الْمَلِكُ الْكَامِلُ فِي أَمْرِ هَؤُلَاءِ فَقَالَ لَهُ الْأَخْرَمُ : هَؤُلَاءِ قَدْ ضَيَّعُوا إلَهَك فَاطْلُبْ لَك إلَهًا تَعْبُدْهُ ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللَّهَ حَيٌّ حَقِيقَةً عَلِيمٌ حَقِيقَةً قَدِيرٌ حَقِيقَةً سَمِيعٌ حَقِيقَةً بَصِيرٌ حَقِيقَةً إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُ ذَلِكَ

الْفَلَاسِفَةُ الْبَاطِنِيَّةُ . فَيَقُولُونَ : نُطْلِقُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَلَا نَقُولُ إنَّهَا حَقِيقَةٌ . وَغَرَضُهُمْ بِذَلِكَ جَوَازُ نَفْيِهَا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : لَا حَيَّ حَقِيقَةً وَلَا مَيِّتَ حَقِيقَةً وَلَا عَالِمَ وَلَا جَاهِلَ وَلَا قَادِرَ وَلَا عَاجِزَ وَلَا سَمِيعَ وَلَا أَصَمَّ . فَإِذَا قَالُوا إنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مَجَازٌ : أَمْكَنَهُمْ نَفْيُ ذَلِكَ لِأَنَّ عَلَامَةَ الْمَجَازِ صِحَّةُ نَفْيِهِ . فَكُلُّ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً لَزِمَهُ جَوَازُ إطْلَاقِ نَفْيِهِ فَمَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ حَقِيقَةً فَإِنَّهُ يَقُولُ لَيْسَ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى كَمَا أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ لَفْظَ الْأَسَدِ لِلرَّجُلِ الشُّجَاعِ وَالْحِمَارِ لِلْبَلِيدِ لَيْسَ بِحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ صِحَّةُ نَفْيِهِ . فَيَقُولُ : هَذَا لَيْسَ بِأَسَدِ وَلَا بِحِمَارِ وَلَكِنَّهُ آدَمِيٌّ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَهُمْ لَا يَسْتَوِي اللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ . كَقَوْلِ إخْوَانِهِمْ لَيْسَ هُوَ بِسَمِيعِ وَلَا بَصِيرٍ وَلَا مُتَكَلِّمٍ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عِنْدَهُمْ مَجَازٌ . فَيَأْتُونَ إلَى مَحْضِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يُقَابِلُونَهُ بِالنَّفْيِ وَالرَّدِّ ؛ كَمَا يُقَابِلُهُ الْمُشْرِكُونَ بِالتَّكْذِيبِ ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَنْفُونَ اللَّفْظَ مُطْلَقًا . وَقَالَ الطلمنكي أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ - قَبْلَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ والباجي وَطْبِ قتهما - فِي " كِتَابِ الْوُصُولِ إلَى مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ " : أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْقُرْآنِ : أَنَّ ذَلِكَ عِلْمُهُ وَأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ بِذَاتِهِ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ كَيْفَ شَاءَ . وَقَالَ أَيْضًا : قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ : فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ

اسْتَوَى } إنَّ الِاسْتِوَاءَ مِنْ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ الْمَجِيدِ عَلَى الْحَقِيقَةِ ؛ لَا عَلَى الْمَجَازِ . وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّمْهِيدِ " - شَرْحِ الْمُوَطَّأِ وَهُوَ أَشْرَفُ كِتَابٍ صُنِّفَ فِي فَنِّهِ - لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى حَدِيثِ النُّزُولِ قَالَ : هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي صِحَّتِهِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ كَمَا قَالَتْ الْجَمَاعَةُ وَهُوَ مِنْ حُجَّتِهِمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ ؛ وَلَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ . قَالَ : وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ : أَهْلُ الْحَقِّ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَقَالَ : { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وَقَالَ { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ } وَقَالَ { يَا عِيسَى إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ } وَذَكَرَ آيَاتٍ . إلَى أَنْ قَالَ : وَهَذَا أَشْهَرُ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى أَكْثَرَ مِنْ حِكَايَتِهِ لِأَنَّهُ اضْطِرَارٌ لَمْ يُوقِفْهُمْ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا خَالَفَهُمْ فِيهِ مُسْلِمٌ . وَهَذَا مِثْلُ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الهمداني أَنَّهُ حَضَرَ مَجْلِسَ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَقَالَ : " كَانَ اللَّهُ وَلَا عَرْشَ " فَقَالَ : يَا أُسْتَاذُ دَعْنَا مِنْ ذِكْرِ الْعَرْشِ . أَخْبِرْنَا عَنْ هَذِهِ الضَّرُورَاتِ الَّتِي نَجِدْهَا فِي قُلُوبِنَا مَا قَالَ عَارِفٌ قَطُّ يَا اللَّهُ إلَّا وَجَدَ فِي قَلْبِهِ ضَرُورَةً تَطْلُبُ الْعُلُوَّ لَا تَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً . فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ : حَيَّرَنِي الهمداني ، حَيَّرَنِي الهمداني : أَرَادَ الشَّيْخُ أَنَّ إقْرَارَ

الْفِطَرِ بِأَنَّ مَعْبُودَهَا وَمَدْعُوَّهَا فَوْقَ : هُوَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ عَقْلِيٌّ فِطْرِيٌّ لَمْ تَسْتَفِدْهُ مِنْ مُجَرَّدِ السَّمْعِ بِخِلَافِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ - بَعْدَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ - فَإِنَّ هَذَا عُلِمَ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ . وَلِهَذَا لَا تُعْرَفُ أَيَّامُ الْأُسْبُوعِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّينَ بِالنُّبُوَّاتِ فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ كَالتُّرْكِ الْمُشْرِكِينَ فَلَيْسَ فِي لُغَتِهِمْ أَسْمَاءُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ . وَهَذَا مِنْ حِكْمَةِ اجْتِمَاعِ أَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فِي الْأُسْبُوعِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْيَوْمَ لَنَا ، وَغَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَد لِلنَّصَارَى } " . وَبَسَطَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ . إلَى أَنْ قَالَ : وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ } فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لَهُمْ ؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ قَالُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ : هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَمَا خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ : قَالَ أَبُو عُمَرَ : أَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ كُلِّهَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِيمَانِ بِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ ؛ لَا عَلَى الْمَجَازِ ؛ إلَّا أَنَّهُمْ لَا يُكَيِّفُونَ شَيْئًا وَلَا يَحُدُّونَ فِيهِ صِفَةً مَحْصُورَةً . وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ : الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ فَكُلُّهُمْ يُنْكِرُهَا ؛ وَلَا يَحْمِلُ شَيْئًا مِنْهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِهَا مُشَبِّهٌ وَهُمْ - عِنْدَ مَنْ أَقَرَّ بِهَا - نَافُونَ لِلْمَعْبُودِ وَالْحَقُّ مَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ أَئِمَّةُ الْجَمَاعَةِ .

وَقَالَ أَيْضًا الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةُ الْفِقْهِ وَالْأَثَرِ : فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا : الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ وَالتَّصْدِيقُ بِذَلِكَ وَتَرْكُ التَّحْدِيدِ وَالْكَيْفِيَّةُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ . وَقَالَ السجزي فِي " الْإِبَانَةِ " وَأَئِمَّتُنَا كَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَابْنِ عُيَيْنَة ، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ والْفُضَيْل وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ : مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّ عِلْمَهُ بِكُلِّ مَكَانٍ وَأَنَّهُ يُرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْأَبْصَارِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَأَنَّهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى وَيَتَكَلَّمُ بِمَا شَاءَ . فَمَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْهُمْ بَرِيءٌ وَهُمْ مِنْهُ بُرَآءُ . وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ فِي " الغنية " أَمَّا مَعْرِفَةُ الصَّانِعِ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ - عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ - فَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ وَيَتَيَقَّنَ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ أَحَدٌ صَمَدٌ . إلَى أَنْ قَالَ : وَهُوَ بِجِهَةِ الْعُلُوِّ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ مُحْتَوٍ عَلَى الْمُلْكِ مُحِيطٌ عِلْمُهُ بِالْأَشْيَاءِ . قَالَ : وَلَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ ؛ بَلْ يُقَالُ : إنَّهُ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ . إلَى أَنْ قَالَ : وَيَنْبَغِي إطْلَاقُ صِفَةِ الِاسْتِوَاءِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَأَنَّهُ اسْتِوَاءُ الذَّاتِ عَلَى الْعَرْشِ . قَالَ : وَكَوْنُهُ عَلَى الْعَرْشِ فِي كُلِّ كِتَابٍ أُنْزِلَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أُرْسِلَ بِلَا تَكْيِيفٍ . وَذَكَرَ الشَّيْخُ " نَصْرٌ المقدسي " فِي " كِتَابِ الْحُجَّةِ " عَنْ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ : سَأَلْت أَبِي وَأَبَا زُرْعَةَ عَنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ ؟ فَقَالَا أَدْرَكْنَا الْعُلَمَاءَ فِي جَمِيعِ

الْأَمْصَارِ : حِجَازًا وَعِرَاقًا وَمِصْرَ وَشَامًا ويَمَنًا ؛ فَكَانَ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ : أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ . وَالْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ ؛ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بِجَمِيعِ جِهَاتِهِ إلَى أَنْ قَالَ : وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا كَيْفٍ . أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا . وَقَالَ الشَّيْخُ نَصْرٌ فِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ إنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ ذَكَرْت مَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ : مِنْ اتِّبَاعِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ وَالْعُلَمَاءُ . فَاذْكُرْ مَذْهَبَهُمْ وَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ . فَالْجَوَابُ : أَنَّ الَّذِي أَدْرَكْنَا عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ وَمَنْ بَلَغَنِي قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِهِمْ . فَذَكَرَ مُجْمَلَ " اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّة " وَفِيهِ : وَأَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ . كَمَا قَالَ : فِي كِتَابِهِ . وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الكرجي الشَّافِعِيُّ فِي " قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي السُّنَّةِ " :
عَقِيدَتُهُمْ أَنَّ الْإِلَهَ بِذَاتِهِ * * * عَلَى عَرْشِهِ مَعَ عِلْمِهِ بالغوائب
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ - صَاحِبُ التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ - فِي قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } قَالَ هَذِهِ " مَسْأَلَةُ الِاسْتِوَاءِ " وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا كَلَامٌ . فَذَكَرَ قَوْلَ الْمُتَكَلِّمِينَ . ثُمَّ قَالَ : كَانَ السَّلَفُ الْأَوَّلُ لَا يَقُولُونَ بِنَفْيِ الْجِهَةِ وَلَا يَنْطِقُونَ بِذَلِكَ . بَلْ نَطَقُوا هُمْ وَالْكَافَّةُ بِإِثْبَاتِهَا لِلَّهِ ، كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُهُ وَأَخْبَرَتْ

بِهِ رُسُلُهُ . قَالَ : وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا جَهِلُوا كَيْفِيَّةَ الِاسْتِوَاءِ . فَإِنَّهُ لَا تُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ . ثُمَّ قَالَ : بَعْدَ أَنْ حَكَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا - وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ مَا تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ الْآيُ وَالْأَخْبَارُ وَالْفُضَلَاءُ الْأَخْيَارُ : أَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ بِلَا كَيْفٍ . بَائِنٌ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ . هَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِيمَا نَقَلَهُ الثِّقَاتُ عَنْهُمْ . وَلَمَّا اجْتَمَعْنَا بِدِمَشْقَ وَأَحْضَرَ فِيمَا أَحْضَرَ كُتُبَ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ : مِثْلَ " الْمَقَالَاتِ " وَ " الْإِبَانَةِ " وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ فورك وَالْبَيْهَقِي وَغَيْرِهِمْ . وَأَحْضَرَ كِتَابَ " الْإِبَانَةِ " وَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِ " تَبْيِينِ كَذِبِ الْمُفْتَرِي فِيمَا نُسِبَ إلَى الْأَشْعَرِيِّ " وَقَدْ نَقَلَهُ بِخَطِّهِ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ . وَقَالَ فِيهِ : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ أَنْكَرْتُمْ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة والحرورية وَالرَّافِضَةِ وَالْمُرْجِئَةِ : فَعِّ رفونا قَوْلَكُمْ الَّذِي بِهِ تَقُولُونَ . قِيلَ لَهُ : قَوْلُنَا : التَّمَسُّكُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ . وَنَحْنُ بِذَلِكَ مُعْتَصِمُونَ وَبِمَا كَانَ يَقُولُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَرَفَعَ دَرَجَتَهُ وَأَجْزَلَ مَثُوبَتَهُ قَائِلُونَ وَلِمَا خَالَفَ قَوْلَهُ مُجَانِبُونَ ، لِأَنَّهُ الْإِمَامُ الْفَاضِلُ الَّذِي أَبَانَ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ عِنْدَ ظُهُورِ الضَّلَالِ وَأَوْضَحَ بِهِ الْمِنْهَاجَ وَقَمَعَ بِهِ بِدَعَ الْمُبْتَدِعِينَ وَزَيْغَ الزَّائِغِينَ وَشَكَّ الشَّاكِّينَ .

وَذَكَرَ الِاعْتِقَادَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي " الْمَقَالَاتِ " عَنْ أَهْلِ السُّنَّة ثُمَّ احْتَجَّ عَلَى أَبْوَابِ الْأُصُولِ مِثْلَ " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ " " وَالرُّؤْيَةِ " " وَالصِّفَاتِ "
ثُمَّ قَالَ : بَابُ ذِكْرِ الِاسْتِوَاءِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا تَقُولُونَ فِي الِاسْتِوَاءِ : قِيلَ بِأَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ . كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَقَالَ : { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ } وَقَالَ فِرْعَوْنُ : { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ } { أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } كَذَّبَ مُوسَى فِي قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ . وَقَالَ : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ } وَالسَّمَوَاتُ فَوْقَهَا الْعَرْشُ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْعَرْشَ الَّذِي هُوَ عَلَى السَّمَوَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ السَّمَوَاتِ فَقَالَ : { وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا } لَمْ يُرِدْ أَنَّ الْقَمَرَ يَمْلَؤُهُنَّ جَمِيعًا وَأَنَّهُ فِيهِنَّ جَمِيعًا . وَرَأَيْنَا الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إذَا دَعَوْا نَحْوَ الْعَرْشِ . قَالَ وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ : مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة والحرورية إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } أَيْ اسْتَوْلَى وَمَلَكَ وَقَهَرَ . وَاَللَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ ، وَجَحَدُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَهُ أَهْلُ الْحَقِّ . قَالَ : وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا : كَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَرْشِ وَبَيْنَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَقَدَّرَ ذَلِكَ .

وَسَاقَ الْكَلَامَ إلَى أَنْ قَالَ : وَمِمَّا يُؤَكِّدُ لَكُمْ أَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ دُونَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا مَا نَقَلَهُ أَهْلُ الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ " { يَنْزِلُ اللَّهُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ فَيَقُولُ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيهِ ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرُ لَهُ ؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ } " ثُمَّ ذَكَرَ الْأَحَادِيثَ . وَقَالَ تَعَالَى { يَا عِيسَى إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } قَالَ : وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ رَفَعَ عِيسَى إلَى السَّمَاءِ . وَذَكَرَ دَلَائِلَ . إلَى أَنْ قَالَ : كُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ فِي خَلْقِهِ وَلَا خَلْقُهُ فِيهِ وَأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ جَلَّ وَعَزَّ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا . جَلَّ عَمَّا يَقُولُ الَّذِينَ لَمْ يُثْبِتُوا لَهُ فِي وَصْفِهِمْ لَهُ حَقِيقَةً وَلَا أَوْجَبُوا لَهُ بِذِكْرِهِمْ إيَّاهُ وَحْدَانِيَّةً ، إذَا كَانَ كَلَامُهُمْ يُؤَوَّلُ إلَى التَّعْطِيلِ وَجَمِيعُ أَوْصَافِهِمْ عَلَى النَّفْيِ فِي التَّأْوِيلِ : يُرِيدُونَ بِذَلِكَ فِيمَا زَعَمُوا التَّنْزِيهَ وَنَفْيَ التَّشْبِيهِ ، فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ تَنْزِيهٍ يُوجِبُ النَّفْيَ وَالتَّعْطِيلَ ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَا يُحْصَرُ فِيهِ كَلَامُ الْعُلَمَاءِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ وَمَا يُعَارِضُ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ حُجَجِ الْنُّفَاةِ وَالْجَوَابِ عَنْهَا ، وَقَدْ كَتَبْت فِي هَذَا مَا يَجِيءُ عِدَّةَ مُجَلَّدَاتٍ وَذَكَرْت فِيهَا مَقَالَاتِ الطَّوَائِفِ جَمِيعِهَا ، وَحُجَجَهَا الشَّرْعِيَّةَ وَالْعَقْلِيَّةَ وَاسْتَوْعَبْت مَا ذَكَرَهُ الرَّازِي فِي كِتَابِ " تَأْسِيسِ التَّقْدِيسِ " " وَنِهَايَةِ الْعُقُولِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ ، حَتَّى أَتَيْت عَلَى مَذَاهِبِ

الْفَلَاسِفَةِ الْمَشَّائِينَ أَصْحَابِ أَرِسْطُو وَغَيْرِ الْمَشَّائِينَ مُتَقَدِّمِيهِمْ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ : كَأَفْضَلِ مُتَأَخِّرِيهِمْ " ابْنِ سِينَا " وَأَوْحَدِهِمْ فِي زَمَانِهِ " أَبِي الْبَرَكَاتِ " وَذَكَرْت حُجَجَهُمْ . فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْبَابَ قَدْ كَثُرَ فِيهِ الِاضْطِرَابُ وَحَارَ فِيهِ طَوَائِفُ مِنْ الْفُضَلَاءِ الْأَذْكِيَاءِ ؛ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُمْ . وَقَرَّرْت الْأَدِلَّةَ اللَّفْظِيَّةَ الصَّحِيحَةَ وَمَيَّزْت بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشُّبُهَاتِ الْفَاسِدَةِ ، مَعَ مَا يَجِيءُ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ مِنْ أُصُولٍ عَظِيمَةٍ وَقَوَاعِدَ جَسِيمَةٍ . مِنْ أَوَّلِهَا - وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الْأُمُورِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ - مِنْ تَقْرِيرِ اسْتِدَارَةِ الْأَفْلَاكِ . فَإِنِّي قَرَّرْت ذَلِكَ وَذَكَرْت كَلَامَ مَنْ ذَكَرَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ : مِثْلُ ابْنِ الْمُنَادِي وَابْنِ حَزْمٍ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْحِسَابِيَّةِ السَّمْعِيَّةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ وَصْفُهُ . وَأَيْضًا لَمَّا كُنْت فِي الْبُرْجِ ذُكِرَ لِي أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ عَلَّقَ مُؤَاخَذَةً عَلَى الْفُتْيَا " الحموية " وَأُرْسِلَتْ إلَيَّ وَقَدْ كَتَبْت فِيمَا بَلَغَ مُجَلَّدَاتٍ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْحَنْبَلِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَحْشَةٌ وَمُنَافَرَةٌ . وَأَنَا كُنْت مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ تَأْلِيفًا لِقُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَطَلَبًا لِاتِّفَاقِ كَلِمَتِهِمْ وَاتِّبَاعًا لِمَا أُمِرْنَا بِهِ مِنْ الِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ وَأَزَلْت عَامَّةَ مَا كَانَ فِي النُّفُوسِ مِنْ الْوَحْشَةِ وَبَيَّنْت لَهُمْ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ كَانَ مِنْ أَجَلِّ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ

إلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَنَحْوِهِ الْمُنْتَصِرِينَ لِطَرِيقِهِ كَمَا يَذْكُرُ الْأَشْعَرِيُّ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِ . وَكَمَا قَالَ أَبُو إسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ : إنَّمَا نَفَقَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ عِنْدَ النَّاسِ بِانْتِسَابِهِمْ إلَى الْحَنَابِلَةِ وَكَانَ أَئِمَّةُ الْحَنَابِلَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَنَحْوِهِمَا يَذْكُرُونَ كَلَامَهُ فِي كُتُبِهِمْ بَلْ كَانَ عِنْدَ مُتَقَدِّمِيهِمْ كَابْنِ عَقِيلٍ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ ، لَكِنَّ ابْنَ عَقِيلٍ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِمَعْرِفَةِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى أُصُولِ أَحْمَدَ مِنْ ابْنِ عَقِيلٍ وَأَتْبَعُ لَهَا فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ عَهْدُ الْإِنْسَانِ بِالسَّلَفِ أَقْرَبَ كَانَ أَعْلَمَ بِالْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ . وَكُنْت أُقَرِّرُ هَذَا لِلْحَنْبَلِيَّةِ - وَأُبَيِّنُ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ تَلَامِذَةِ الْمُعْتَزِلَةِ ثُمَّ تَابَ ، فَإِنَّهُ كَانَ تِلْمِيذَ الجبائي وَمَالَ إلَى طَرِيقَةِ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَخَذَ عَنْ زَكَرِيَّا الساجي أُصُولَ الْحَدِيثِ بِالْبَصْرَةِ ، ثُمَّ لَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ أَخَذَ عَنْ حَنْبَلِيَّةِ بَغْدَادَ أُمُورًا أُخْرَى ، وَذَلِكَ آخِرُ أَمْرِهِ كَمَا ذَكَرَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي كُتُبِهِمْ . وَكَذَلِكَ ابْنُ عَقِيلٍ كَانَ تِلْمِيذَ ابْنِ الْوَلِيدِ وَابْنِ التَّبَّانِ الْمُعْتَزِلِيَّيْن ثُمَّ تَابَ مِنْ ذَلِكَ ، وَتَوْبَتُهُ مَشْهُورَةٌ بِحَضْرَةِ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ . وَكَمَا أَنَّ فِي أَصْحَابِ أَحْمَدَ مَنْ يُبْغِضُ ابْنَ عَقِيلٍ وَيَذُمُّهُ : فَاَلَّذِينَ يَذُمُّونَ الْأَشْعَرِيَّ لَيْسُوا مُخْتَصِّينَ بِأَصْحَابِ أَحْمَدَ بَلْ فِي جَمْعِ الطَّوَائِفِ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ . وَلَمَّا أَظْهَرْت كَلَامَ الْأَشْعَرِيِّ - وَرَآهُ الْحَنْبَلِيَّةُ - قَالُوا : هَذَا خَيْرٌ مِنْ

كَلَامِ الشَّيْخِ الْمُوَفَّقِ وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِاتِّفَاقِ الْكَلِمَةِ . وَأَظْهَرْت مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي مَنَاقِبِهِ أَنَّهُ لَمْ تَزَلْ الْحَنَابِلَةُ وَالْأَشَاعِرَةُ مُتَّفِقِينَ إلَى زَمَنِ القشيري فَإِنَّهُ لَمَّا جَرَتْ تِلْكَ الْفِتْنَةُ بِبَغْدَادَ تَفَرَّقَتْ الْكَلِمَةُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي جَمِيعِ الطَّوَائِفِ مَنْ هُوَ زَائِغٌ وَمُسْتَقِيمٌ . مَعَ أَنِّي فِي عُمْرِي إلَى سَاعَتِي هَذِهِ لَمْ أَدْعُ أَحَدًا قَطُّ فِي أُصُولِ الدِّينِ إلَى مَذْهَبٍ حَنْبَلِيٍّ وَغَيْرِ حَنْبَلِيٍّ ، وَلَا انْتَصَرْت لِذَلِكَ ، وَلَا أَذْكُرُهُ فِي كَلَامِي ، وَلَا أَذْكُرُ إلَّا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا . وَقَدْ قُلْت لَهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ : أَنَا أُمْهِلُ مَنْ يُخَالِفُنِي ثَلَاثَ سِنِينَ إنْ جَاءَ بِحَرْفِ وَاحِدٍ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ يُخَالِفُ مَا قُلْته فَأَنَا أُقِرُّ بِذَلِكَ . وَأَمَّا مَا أَذْكُرُهُ فَأَذْكُرُهُ عَنْ أَئِمَّةِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ بِأَلْفَاظِهِمْ وَبِأَلْفَاظِ مِنْ نَقْلِ إجْمَاعِهِمْ مِنْ عَامَّةِ الطَّوَائِفِ . هَذَا مَعَ أَنِّي دَائِمًا وَمَنْ جَالَسَنِي يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنِّي : أَنِّي مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ نَهْيًا عَنْ أَنْ يُنْسَبَ مُعَيَّنٌ إلَى تَكْفِيرٍ وَتَفْسِيقٍ وَمَعْصِيَةٍ ، إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الرسالية الَّتِي مَنْ خَالَفَهَا كَانَ كَافِرًا تَارَةً وَفَاسِقًا أُخْرَى وَعَاصِيًا أُخْرَى وَإِنِّي أُقَرِّرُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ خَطَأَهَا : وَذَلِكَ يَعُمُّ الْخَطَأَ فِي الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ . وَمَا زَالَ السَّلَفُ يَتَنَازَعُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ لَا بِكُفْرِ وَلَا بِفِسْقِ وَلَا مَعْصِيَةٍ كَمَا أَنْكَرَ شريح قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يَعْجَبُ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي

فَقَالَ إنَّمَا شريح شَاعِرٌ يُعْجِبُهُ عِلْمُهُ . كَانَ عَبْدُ اللَّهِ أَعْلَمَ مِنْهُ وَكَانَ يَقْرَأُ { بَلْ عَجِبْتَ } . وَكَمَا نَازَعَتْ عَائِشَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الصَّحَابَةِ فِي رُؤْيَةِ مُحَمَّدٍ رَبَّهُ وَقَالَتْ : مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ وَمَعَ هَذَا لَا نَقُولُ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمُنَازِعِينَ لَهَا : إنَّهُ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ . وَكَمَا نَازَعَتْ فِي سَمَاعِ الْمَيِّتِ كَلَامَ الْحَيِّ وَفِي تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَقَدْ آلَ الشَّرُّ بَيْنَ السَّلَفِ إلَى الِاقْتِتَالِ . مَعَ اتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّة عَلَى أَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا مُؤْمِنَتَانِ ، وَأَنَّ الِاقْتِتَالَ لَا يَمْنَعُ الْعَدَالَةَ الثَّابِتَةَ لَهُمْ ، لِأَنَّ الْمُقَاتِلَ وَإِنْ كَانَ بَاغِيًا فَهُوَ مُتَأَوِّلٌ وَالتَّأْوِيلُ يَمْنَعُ الْفُسُوقَ . وَكُنْت أُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّمَا نُقِلَ لَهُمْ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِ مَنْ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ أَيْضًا حَقٌّ ، لَكِنْ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّعْيِينِ . وَهَذِهِ أَوَّلُ مَسْأَلَةٍ تَنَازَعَتْ فِيهَا الْأُمَّةُ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ الْكِبَارِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ " الْوَعِيدِ " فَإِنَّ نُصُوصَ الْقُرْآنِ فِي الْوَعِيدِ مُطْلَقَةٌ كَقَوْلِهِ { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } الْآيَةَ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا وَرَدَ : مَنْ فَعَلَ كَذَا فَلَهُ كَذَا . فَإِنَّ هَذِهِ مُطْلَقَةٌ عَامَّةٌ . وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ مَنْ قَالَ كَذَا : فَهُوَ كَذَا . ثُمَّ الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ يلتغي حُكْمُ الْوَعِيدِ فِيهِ : بِتَوْبَةِ أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ أَوْ مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ أَوْ شَفَاعَةٍ مَقْبُولَةٍ .

وَالتَّكْفِيرُ هُوَ مِنْ الْوَعِيدِ . فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ تَكْذِيبًا لِمَا قَالَهُ الرَّسُولُ ، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِإِسْلَامِ أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةِ بَعِيدَةٍ . وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكْفُرُ بِجَحْدِ مَا يَجْحَدُهُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ . وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ لَا يَسْمَعُ تِلْكَ النُّصُوصَ أَوْ سَمِعَهَا وَلَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ أَوْ عَارَضَهَا عِنْدَهُ مُعَارِضٌ آخَرُ أَوْجَبَ تَأْوِيلَهَا ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا ، وَكُنْت دَائِمًا أَذْكُرُ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ : " { إذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ، ثُمَّ ذروني فِي الْيَمِّ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ ، فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ : مَا حَمَلَك عَلَى مَا فَعَلْت . قَالَ خَشْيَتُك : فَغَفَرَ لَهُ } " . فَهَذَا رَجُلٌ شَكَّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَفِي إعَادَتِهِ إذَا ذُرِّيَ ، بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يُعَادُ ، وَهَذَا كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، لَكِنْ كَانَ جَاهِلًا لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ وَكَانَ مُؤْمِنًا يَخَافُ اللَّهَ أَنْ يُعَاقِبَهُ فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ . وَالْمُتَأَوِّلُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْحَرِيصُ عَلَى مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ أَوْلَى بِالْمَغْفِرَةِ مِنْ مِثْلِ هَذَا .

فَصْلٌ :
مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ لِينِ الْكَلَامِ وَالْمُخَاطَبَةِ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ : فَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ اسْتِعْمَالًا لِهَذَا ، لَكِنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ حَسَنٌ ، وَحَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالْإِغْلَاظِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ لِبَغْيِهِ وَعُدْوَانِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ : فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِمُقَابَلَتِهِ ، لَمْ نَكُنْ مَأْمُورِينَ أَنْ نُخَاطِبَهُ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَإِنَّهُ الْأَعْلَى بِنَصِّ الْقُرْآنِ . وَقَالَ : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ } { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } وَاَللَّهُ مُحَقِّقٌ وَعْدَهُ لِمَنْ هُوَ كَذَلِكَ كَائِنًا مَنْ كَانَ . وَمِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَسُوغُ فِي الْعَقْلِ وَلَا الدِّينِ طَلَبُ رِضَا الْمَخْلُوقِينَ لِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ . كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِضَا النَّاسِ غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ . فَعَلَيْك بِالْأَمْرِ الَّذِي يُصْلِحُك فَالْزَمْهُ وَدَعْ مَا سِوَاهُ وَلَا تُعَانِهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّا مَأْمُورُونَ بِأَنْ نَتَحَرَّى رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى :

{ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ } وَعَلَيْنَا أَنْ نَخَافَ اللَّهَ فَلَا نَخَافُ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } . وَقَالَ : { فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } وَقَالَ : { فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } { وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } . فَعَلَيْنَا أَنْ نَخَافَ اللَّهَ وَنَتَّقِيَهُ فِي النَّاسِ ، فَلَا نَظْلِمَهُمْ بِقُلُوبِنَا وَلَا جَوَارِحِنَا وَنُؤَدِّيَ إلَيْهِمْ حُقُوقَهُمْ بِقُلُوبِنَا وَجَوَارِحِنَا ، وَلَا نَخَافَهُمْ فِي اللَّهِ فَنَتْرُكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ خِيفَةً مِنْهُمْ . وَمَنْ لَزِمَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ كَانَتْ الْعَاقِبَةُ لَهُ كَمَا كَتَبَتْ عَائِشَةُ إلَى مُعَاوِيَةَ : " أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّهُ مَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ وَعَادَ حَامِدُهُ مِنْ النَّاسِ ذَامًّا ، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ " . فَالْمُؤْمِنُ لَا تَكُونُ فِكْرَتُهُ وَقَصْدُهُ إلَّا رِضَا رَبِّهِ وَاجْتِنَابَ سَخَطِهِ وَالْعَاقِبَةُ لَهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . هَذَا مَعَ أَنَّ الْمُرْسَلَ فَرِحَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ جَوَّانِيَّهُ فِي الْبَاطِنِ وَكُلُّ مَا يُظْهِرُهُ فَإِنَّهُ مُرَاءَاةٌ لِقَرِينِهِ ، وَإِلَّا فَهُمَا فِي الْبَاطِنِ مُتَبَايِنَانِ . وَثَمَّ أُمُورٌ تَعْرِفُهَا خَاصَّتُهُمْ ، وَيَكْفِيك الطيبرسي قَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ الْفَرَحُ وَالِاسْتِبْشَارُ بِمَا جَرَى مَعَ أَنَّهُ الْمُخَاصِمُ الْمُغَلَّظُ عَلَيْهِ . وَهَذَا سَوَاءٌ كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ . الْأَصْلُ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ هُوَ الْأَوَّلُ وَقَوْلُ النَّبِيِّ " { لَا تَبْدَءُوهُمْ بِقِتَالِ وَإِنْ أكثبوكم فَارْمُوهُمْ بِالنَّبْلِ } " . عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَلَمْ نَرْمِ إلَّا بَعْدَ أَنْ قَصَدُوا شَرَّنَا وَبَعْدَ أَنْ أكثبونا وَلِهَذَا نَفَعَ اللَّهُ بِذَلِكَ .

فَصْلٌ :
مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنِّي أَطْلُبُ تَفْوِيضَ الْحُكْمِ إلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ " فَهَذَا لَا يَصْلُحُ ، بَلْ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ وَعَلَيَّ وَفَسَادٌ عَامٌّ ، وَذَلِكَ أَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ عَنْ الْقَاضِي " بَدْرِ الدِّينِ " أَنِّي كُنْت مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ مُوَالَاةً لَهُ وَمُنَاصَرَةً وَمُعَاوَنَةً لَهُ وَمُدَافَعَةً لِأَعْدَائِهِ عَنْهُ فِي أُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ ، بَلْ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَكْثَرَ فِي مُخَالَصَةٍ لَهُ وَمُعَاوَنَةٍ . وَذَلِكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا لِرَغْبَةِ ، وَلَا لِرَهْبَةِ مِنِّي . وَقِطْعَةٍ قَوِيَّةٍ مِمَّا حَصَلَ لِي مِنْ الْأَذَى - بِدِمَشْقَ وَبِمِصْرِ أَيْضًا - إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ انْتِصَارِي لَهُ وَلِنُوَّابِهِ : مِثْلَ الزرعي وَالتَّبْرِيزِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَاشِيَتِهِ وَتَنْوِيهِي بِمَحَاسِنِهِ فِي مِصْرَ أَيْضًا قَدْ عُرِفْت بِذَلِكَ فَإِنَّهُ حِزْبُ الرَّدَى وَغَيْرُهُ يُعَادُونِي عَلَى ذَلِكَ . وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْزِلَتَهُ عِنْدِي وَمَكَانَتَهُ مِنْ قَلْبِي لَيْسَتْ قَرِيبَةً مِنْ مَنْزِلَةِ غَيْرِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهَا . وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يُشَبَّهَ بَدْرُ الدِّينِ بِمَنْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ زَائِدَةٍ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ } " .

وَعِنْدِي مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ مَنْ يُقْرِنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ بِالشَّامِ أَوْ بِمِصْرِ وَمَا زَالَ بَدْرُ الدِّينِ مَظْلُومًا بِمِثْلِ هَذَا مِنْ الْإِقْرَانِ وَأَنَا أَعْتَقِدُ مِنْ أَعْظَمِ مَا أَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ نَصْرُهُ وَمُوَالَاتُهُ وَمُعَاوَنَتُهُ . . . (1) أَنْتُمْ تَعْرِفُونَ فِي هَذَا خُصُوصًا بِهَذِهِ الدِّيَارِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُعَاوَنَةً لَهُ وَمُنَاصَرَةً لَهُ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ بِالشَّامِ ، لِأَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ النُّفْرَةِ عَنْهُ وَالْكَذِبِ وَالْفُجُورِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِمْ . فَأَنَا أُحِبُّ وَأَخْتَارُ كُلَّ مَا فِيهِ عُلُوُّ قَدْرِهِ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ . وَلَا أُحِبُّ أَنْ أَجْعَلَهُ غَرَضًا لِسِهَامِ الْأَعْدَاءِ . بَلْ مَا عَمِلْت مَعَهُ وَمَعَ غَيْرِهِ وَمَا أَعْمَلُ مَعَهُمْ فَأَجْرِي فِيهِ عَلَى اللَّهِ الَّذِي يَقُولُ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } . وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الطيبرسي الْقُضَاةَ وَأَجْمَلَهُمْ : قُلْت لَهُ إنَّمَا دَخَلَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ " ابْنُ مَخْلُوفٍ " وَذَاكَ رَجُلٌ كَذَّابٌ فَاجِرٌ قَلِيلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ ، فَجَعَلَ يَتَبَسَّمُ لَمَّا جَعَلْت أَقُولُ هَذَا كَأَنَّهُ يَعْرِفُهُ وَكَأَنَّهُ مَشْهُورٌ بِقُبْحِ السِّيرَةِ . وَقُلْت مَا لِابْنِ مَخْلُوفٍ وَالدُّخُولُ فِي هَذَا ؟ هَلْ ادَّعَى أَحَدٌ عَلَيَّ دَعْوَى مِمَّا يَحْكُمُ بِهِ ؟ أَمْ هَذَا الَّذِي تَكَلَّمْت فِيهِ هُوَ مِنْ أَمْرِ الْعِلْمِ الْعَامِّ ؟ : مِثْلَ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَمَعَانِي الْأَحَادِيثِ وَالْكَلَامِ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِ الدِّينِ . وَهَذِهِ الْمَرْجِعُ فِيهَا

إلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا وَالتَّقْوَى لِلَّهِ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ وَالْحَاكِمُ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ تَكَلَّمَ فِيهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَإِذْ عُزِلَ الْحَاكِمُ لَمْ يَنْعَزِلْ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ذَلِكَ كَالْإِفْتَاءِ وَنَحْوِهِ وَلَمْ يُقَيَّدْ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ بِالْوِلَايَةِ . وَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ وَالْحَاكِمُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَلَا التَّقْوَى فِيهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْكَلَامُ فِيهِ ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا . وَابْنُ مَخْلُوفٍ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَلَا التَّقْوَى فِيهِ . قُلْت : فَأَمَّا الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ فَحَاشَا لِلَّهِ . ذَاكَ فِيهِ مِنْ الْفَضِيلَةِ وَالدِّيَانَةِ مَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي هَذَا الْحُكْمِ الْمُخَالِفِ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَجْهًا . قُلْت وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ ابْنُ مَخْلُوفٍ هُوَ حُكْمُ شَرْعِ مُحَمَّدٍ : فَهُوَ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ كَافِرٌ . فَإِنَّ صِبْيَانَ الْمُسْلِمِينَ يَعْلَمُونَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا يَرْضَى بِهِ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى ، فَضْلًا عَنْ الْمُسْلِمِينَ . وَذَكَرْت لَهُ بَعْضَ الْوُجُوهِ الَّذِي يُعْلَمُ بِهَا فَسَادُ هَذَا الْحُكْمِ ، وَهِيَ مَكْتُوبَةٌ مَعَ " الشَّرَفُ مُحَمَّدٌ " . وَكَذَلِكَ نَزَّهْت الْقَاضِيَ " شَمْسَ الدِّينِ السروجي " عَنْ الدُّخُولِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ . وَقُلْت لَهُ أَنْتُمْ مَا كَانَ مَقْصُودُكُمْ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ ، وَإِنَّمَا كَانَ مَقْصُودُكُمْ دَفْعَ

مَا سَمِعْتُمُوهُ مِنْ تُهْمَةِ الْمَلِكِ ، وَلَمَّا عَلِمَتْ الْحُكَّامُ أَنَّ فِي الْقَضِيَّةِ أَمْرَ الْمَلِكِ أَحْجَمُوا وَخَافُوا مِنْ الْكَلَامِ خَوْفًا يَعْذُرُهُمْ اللَّهُ فِيهِ أَوْ لَا يَعْذُرُهُمْ . لَكِنْ لَوْلَا هَذَا لَتَكَلَّمُوا بِأَشْيَاءَ . وَلَوْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ شَاذًّا أَوْ فِيهِ غَرَضٌ لِذِي سَيْفٍ لَكَانَ عَجَائِبَ . فَقَالُوا يَا مَوْلَانَا مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْمَلِكِ . نَحْنُ مَا نَتَكَلَّمُ . دَعْنَا مِنْ الْكَلَامِ فِي الْمَلِكِ . فَقُلْت : أَيُّهَا النَّائِمُ أُخَلِّيكُمْ مِنْ الْمَلِكِ وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتِي قَدْ مَلَأْتُمْ بِهَا الدُّنْيَا هَلْ أَثَارَهَا إلَّا ذَلِكَ وَنَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا هَذَا بِدِمَشْقَ . لَكِنْ مَا اعْتَقَدْنَا أَنَّ عَاقِلًا يُصَدِّقُ بِذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ تُهْمَةُ الْمَلِكِ إذَا ذَكَرَ لَهُمْ بَعْضَ مَا يَقُولُهُ الْمُنَازِعُونَ لِي يَسْتَعْظِمُونَهُ جِدًّا وَيَرَوْنَ مُقَابَلَةَ قَائِلِهَا بِأَعْظَمِ الْعُقُوبَةِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } . فَيَعْلَمُ أَنِّي لَوْ أَطْلُبُ هَذَا ذَهَبَتْ الطُّيُورُ بِي وَبِبَدْرِ الدِّينِ كُلَّ مَذْهَبٍ ، وَقِيلَ إنَّ بَيْنَنَا فِي الْبَاطِنِ اتِّفَاقَاتٍ . فَأَنَا أَعْمَلُ مَعَهُ مَا أَرْجُو جَزَاءَهُ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ يَعْمَلُ بِمُوجِبِ دِينِهِ . وَأَيْضًا " فَبَدْرُ الدِّينِ " لَا يَحْتَمِلُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَأَذَاهُمْ - مَا يَفْعَلُهُ مِثْلُ هَؤُلَاءِ - رَجُلٌ لَهُ مَنْصِبٌ وَلَهُ أَعْدَاءٌ وَأَنَا - وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ - فَقَدْ فَعَلُوا غَايَةَ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ وَمَا بَقِيَ إلَّا نَصْرُ اللَّهِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ رَسُولَهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْم يَقُومُ الْأَشْهَادُ .

وَأَيْضًا فَيَعْلَمُ أَنَّ هَذَا إمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْحُكْمِ أَوْ لَا فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْخَصْمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ حُكْمَ حَاكِمٍ مُعَيَّنٍ ، بَلْ يَجِبُ إلَى مَنْ يَحْكُمُ بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْحَاكِمِ فَذَاكَ أَبْعَدُ . وَأَيْضًا فَأَنَا لَمْ يُدَّعَ عَلَيَّ دَعْوَى يَخْتَصُّ بِهَا الْحَاكِمُ مِنْ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ : مِثْلَ قَتْلٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ مَالٍ وَنَحْوِهِ ، بَلْ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ الْكُلِّيَّةِ : مِثْلَ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَذَا فِيهِ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ وَفِيهِ مَا تَنَازَعَتْ فِيهِ . وَالْأُمَّةُ إذَا تَنَازَعَتْ - فِي مَعْنَى آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ أَوْ حُكْمٍ خَبَرِيٍّ أَوْ طَلَبِيٍّ - لَمْ يَكُنْ صِحَّةُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَفَسَادُ الْآخَرِ ثَابِتًا بِمُجَرَّدِ حُكْمِ حَاكِمٍ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُنَفَّذُ حُكْمُهُ فِي الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ دُونَ الْعَامَّةِ . وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ يَحْكُمَ حَاكِمٌ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } هُوَ الْحَيْضُ وَالْأَطْهَارُ وَيَكُونُ هَذَا حُكْمًا يُلْزِمُ جَمِيعَ النَّاسِ ، قَوْلَهُ أَوْ يَحْكُمُ بِأَنَّ اللَّمْسَ فِي قَوْله تَعَالَى { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } هُوَ الْوَطْءُ ، وَالْمُبَاشَرَةُ فِيمَا دُونَهُ أَوْ بِأَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ أَوْ الْأَبُ وَالسَّيِّدُ . وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ . وَكَذَلِكَ النَّاسُ إذَا تَنَازَعُوا فِي قَوْلِهِ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } فَقَالَ : هُوَ اسْتِوَاؤُهُ بِنَفْسِهِ وَذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ مَعْلُومٌ وَلَكِنَّ كَيْفِيَّتَهُ مَجْهُولَةٌ . وَقَالَ قَوْمٌ : لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ رَبٌّ وَلَا هُنَاكَ شَيْءٌ أَصْلًا . وَلَكِنَّ

مَعْنَى الْآيَةِ : أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْعَرْشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . لَمْ يَكُنْ حُكْمُ الْحَاكِمِ لِصِحَّةِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَفَسَادِ الْآخَرِ مِمَّا فِيهِ فَائِدَةٌ . وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مَنْ يَنْصُرُ الْقَوْلَ الْآخَرَ يَحْكُمُ بِصِحَّتِهِ إذْ يَقُولُ : وَكَذَلِكَ بَابُ الْعِبَادَاتِ : مِثْلُ كَوْنِ مَسِّ الذَّكَرِ يَنْقُضُ أَوْ لَا ، وَكَوْنِ الْعَصْرِ يُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا أَوْ تَأْخِيرُهَا وَالْفَجْرُ يُقْنَتُ فِيهِ دَائِمًا أَوْ لَا أَوْ يُقْنَتُ عِنْدَ النَّوَازِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَاَلَّذِي عَلَى السُّلْطَانِ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ . إمَّا أَنْ يَحْمِلَهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ . لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } . وَإِذَا تَنَازَعُوا فُهِمَ كَلَامُهُمْ : إنْ كَانَ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ فَهْمُ الْحَقِّ فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ دَعَا النَّاسَ إلَيْهِ وَأَنْ يُقِرَّ النَّاسَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ . كَمَا يُقِرَّهُمْ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ الْعَمَلِيَّةِ . فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْبِدْعَةُ ظَاهِرَةً - تَعْرِفُ الْعَامَّةُ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلشَّرِيعَةِ - كَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة . فَهَذِهِ عَلَى السُّلْطَانِ إنْكَارُهَا ؛ لِأَنَّ عِلْمَهَا عَامٌّ ، كَمَا عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ يَسْتَحِلُّ الْفَوَاحِشَ وَالْخَمْرَ وَتَرْكَ الصَّلَاةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَمَعَ هَذَا فَقَدَ يَكْثُرُ أَهْلُ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ حَتَّى

يَصِيرَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ كَلَامِهِمْ مُكَافِئًا - عِنْدَ الْجُهَّالِ - لِكَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى يَشْتَبِهَ الْأَمْرُ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَ هَؤُلَاءِ فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إلَى مَنْ يَقُومُ بِإِظْهَارِ حُجَّةِ اللَّهِ وَتَبْيِينِهَا حَتَّى تَكُونَ الْعُقُوبَةُ بَعْدَ الْحُجَّةِ . وَإِلَّا فَالْعُقُوبَةُ قَبْلَ الْحُجَّةِ لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً : قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي الْبُغَاةِ إنَّ الْإِمَامَ يُرَاسِلُهُمْ فَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً بَيَّنَهَا وَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلِمَةً أَزَالَهَا كَمَا أَرْسَلَ عَلِيٌّ ابْنَ عَبَّاسٍ إلَى الْخَوَارِجِ فَنَاظَرَهُمْ حَتَّى رَجَعَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَكَمَا طَلَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ دُعَاةَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ فَنَاظَرَهُمْ حَتَّى ظَهَرَ لَهُمْ الْحَقُّ وَأَقَرُّوا بِهِ ، ثُمَّ بَعْدَ مَوْتِهِ نَقَضَ غَيْلَانُ الْقَدَرِيُّ التَّوْبَةَ فَصُلِبَ . وَأَمَّا إلْزَامُ السُّلْطَانِ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ بِالْتِزَامِ قَوْلٍ بِلَا حُجَّةٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ : فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُفِيدُ حُكْمُ حَاكِمٍ بِصِحَّةِ قَوْلٍ دُونَ قَوْلٍ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ، إلَّا إذَا كَانَ مَعَهُ حُجَّةٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا فَيَكُونُ كَلَامُهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا سَوَاءً وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْكُتُبِ الَّتِي يُصَنِّفُهَا فِي الْعِلْمِ . نَعَمْ الْوِلَايَةُ قَدْ تُمَكِّنُهُ مِنْ قَوْلِ حَقٍّ وَنَشْرِ عِلْمٍ قَدْ كَانَ يَعْجِزُ عَنْهُ بِدُونِهَا ، وَبَابُ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ غَيْرُ بَابِ الِاسْتِحْقَاقِ وَعَدَمِهِ . نَعَمْ لِلْحَاكِمِ إثْبَاتُ مَا قَالَهُ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مُخْتَصًّا بِهِ كَانَ مِمَّا يَحْكُمُ فِيهِ الْحُكَّامُ ،

وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْعَامَّةِ كَانَ مِنْ بَابِ مَذَاهِبِ النَّاسِ . فَأَمَّا كَوْنُ هَذَا الْقَوْلِ ثَابِتًا عِنْدَ زَيْدٍ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ أَوْ خَطٍّ : فَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكَّامِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ مِثْلَ " بَدْرِ الدِّينِ " مِنْ أَعْدَلِ النَّاسِ وَأَحَبِّهِمْ فِي أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَمِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بُغْضًا لِشُهُودِ الزُّورِ وَلَوْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُمْ لَعَمِلَ أَشْيَاءَ فَهَذَا لَوْ اُحْتِيجَ فِيهِ إلَى مِثْلِ " بَدْرِ الدِّينِ " لَكَانَ هُوَ الْحَاكِمَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّاهُ ، دُونَ مَنْ هُوَ مَشْهُورٌ بِالْفُجُورِ . لَكِنَّ هَذِهِ الْمَحَاضِرَ الَّتِي عِنْدَهُمْ مَا تُسَاوِي مِدَادَهَا وَهُمْ يَعْرِفُونَ كَذِبَهَا وَبُطْلَانَهَا وَأَنَا لَا أَكْرَهُ الْمُحَاقَّةَ عَلَيْهَا عِنْدَهُ لِيَثْبُتَ عِنْدَهُ الْحَقُّ دُونَ الْبَاطِلِ ، فَإِنْ كَانَ يُجِيبُ إلَى ذَلِكَ فَيَا حَبَّذَا لَكِنِّي أَخَافُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ أَذًى فِيَّ بِالْقَدْحِ فِي بَعْضِ النَّاسِ . فَهُوَ يَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيمَا يَفْعَلُهُ وَاَللَّهُ يُخَيِّرُ لَهُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ . بَلْ أَخْتَارُ أَنَا وَغَيْرِي الْمُحَاقَّةَ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِ نُوَّابِهِ كَالْقَاضِي " جَمَالِ الدِّينِ الزرعي " فَإِنَّهُ مِنْ عُدُولِ الْقُضَاةِ وَإِلَّا " فَبَدْرُ الدِّينِ " أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يُكَلَّفَ ذَلِكَ لَوْ كُنْت مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ . فَأَمَّا : وَالْأَمْرُ ظَهَرَ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ كَمَا قُلْت " للطيبرسي " : الْكِتَابُ مِنْ السُّلْطَانِ الَّذِي كَتَبَ عَلَى لِسَانِ السُّلْطَانِ وَأَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ بِجَمِيعِ مَا أَخْبَرَ مِنْ الْكَذِبِ وَمُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ : أُمُورٌ عَظِيمَةٌ بِنَحْوِ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ وَالْكِتَابُ الَّذِي كُتِبَ عَلَى لِسَانِ " غازان " كَانَ أَقْرَبَ إلَى الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي كُتِبَ عَلَى لِسَانِ السُّلْطَانِ . وَسَوَاءٌ

بِأَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَإِنِّي أَعْتَقِدُ وَأَدِينُ اللَّهَ بِأَنَّ نَصْرَهُ وَمُعَاوَنَتَهُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَعَلَى نُفُوذِ صِدْقِهِ وَعَدْلِهِ دُونَ كَذِبِ الْغَيْرِ وَظُلْمِهِ ، وَعَلَى رَفْعِ قَدْرِهِ عَلَى الْغَيْرِ مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . وَقَدْ أَرْسَلَ إلَيَّ الشَّيْخُ " نَصْرٌ " يَعْرِضُ عَلَيَّ إنْ كُنْت أَخْتَارُ إحْضَارَ الْمَحَاضِرِ لِأَتَمَكَّنَ مِنْ الْقَدْحِ فِيهَا . فَقُلْت لَهُ فِي الْجَوَابِ : هِيَ أَحْقَرُ وَأَقَلُّ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ دَفْعُهَا إلَى حُضُورِهَا فَإِنِّي قَدْ بَيَّنْت بِضْعَةً وَعِشْرِينَ وَجْهًا أَنَّ هَذَا الْحَاكِمَ خَارِجٌ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ : أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ .

فَصْلٌ :
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَهُ : أَنَّ الْقَوْمَ مُسْتَضْعَفُونَ عَنْ الْمُحَاقَّةِ إلَى الْغَايَةِ - ابْنَ مَخْلُوفٍ وَغَيْرَهُ - وَقَدْ أَدَارُوا الرَّأْيَ بَيْنَهُمْ وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ عِنْدَ الْمُحَاقَّةِ مَقْهُورُونَ مُتَهَوِّكُونَ . والطيبرسي طَلَبَ مِنِّي غَيْرَ مَرَّةٍ تَرْكَ الْمُحَاقَّةِ . فَقُلْت لَهُ : أَنَا مَا بَغَيْت عَلَى أَحَدٍ وَلَا قُلْت لِأَحَدِ : وَافِقْنِي عَلَى اعْتِقَادِي وَإِلَّا فَعَلْت بِك وَلَا أَكْرَهْت أَحَدًا بِقَوْلِ وَلَا عَمَلٍ ، بَلْ مَا كَتَبْت فِي ذَلِكَ شَيْئًا قَطُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَوَابَ اسْتِفْتَاءٍ بَعْدَ إلْحَاحِ السَّائِلِ وَاحْتِرَاقِهِ وَكَثْرَةِ مُرَاجَعَتِهِ وَلَا عَادَتِي مُخَاطَبَةُ النَّاسِ فِي هَذَا ابْتِدَاءً . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ دَعَوْا النَّاسَ إلَى مَا دَعَوْهُمْ إلَيْهِ وَأَكْرَمُوهُمْ عَلَيْهِ : فَيُبَيِّنُونَ لِلنَّاسِ مَا الَّذِي أَمَرُوهُمْ بِهِ وَمَا الَّذِي نَهَوْهُمْ عَنْهُ . فَإِنْ كَانُوا أَمَرُوهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ : فَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِمَنْ أَمَرَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ . وَإِنْ كَانُوا أَمَرُوا بِحَقِّ وَبَاطِلٍ وَنَهَوْا عَنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَأَمَرُوا وَنَهَوْا عَنْ أُمُورٍ لَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَتَهَا . كَانُوا بِذَلِكَ مِنْ الْجَاهِلِينَ الظَّالِمِينَ وَكَانَ الْحَاكِمُ بِذَلِكَ مِنْ الْقَاضِيَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي النَّارِ وَلَمْ تَجُزْ طَاعَتُهُمْ فِي ذَلِكَ بَلْ تَحْرُمُ .

وَأَنَا لَوْ شِئْت الْمُحَاقَّةَ كَانَتْ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ ، لَكِنْ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِمَّا قُلْته فَلْيَقُلْ : إنِّي أُنْكِرُ كَذَا وَيَكْتُبُ خَطَّهُ بِمَا أَنْكَرَهُ وَيُوَجَّهُ إنْكَارُهُ لَهُ وَأَنَا أَكْتُبُ خَطِّي بِالْجَوَابِ وَيُعْرَضُ الْكَلَامَانِ عَلَى جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ - شَرْقًا وَغَرْبًا - وَأَنَا قَائِلٌ ذَلِكَ . وَقَدْ قُلْت قَبْلَ ذَلِكَ بِدِمَشْقَ : هَذِهِ الْإِنْكَارَاتُ الْمُجْمَلَةُ لَا تُفِيدُ شَيْئًا بَلْ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا فَلْيَكْتُبْ خَطَّهُ بِمَا أَنْكَرَهُ وَبِحُجَّتِهِ وَأَنَا أَكْتُبُ خَطِّي بِجَوَابِ ذَلِكَ وَيَرَى أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ الْكَلَامَيْنِ فَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ . وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي لَا تُكْتَبُ فَيَكْثُرُ فِيهَا التَّخْلِيطُ وَالزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ كَمَا قَدْ وَقَعَ وَقَدْ قُلْت فِيمَا قُلْته للطيبرسي : هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي عَمِلْتُمُوهُ فَسَادٌ فِي مِلَّتِكُمْ وَدَوْلَتِكُمْ وَشَرِيعَتِكُمْ وَالْكِتَابُ " السُّلْطَانِيُّ " الَّذِي كُتِبَ عَلَى لِسَانِ السُّلْطَانِ فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ عَلَيْكُمْ وَمُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ تَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ أَوْجُهٍ . وَكِتَابُ " غازان " الَّذِي قُرِئَ عَلَى مِنْبَرِ الشَّامِ أَقْرَبُ إلَى شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذَا الَّذِي كُتِبَ عَلَى لِسَانِ سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ وَقُرِئَ عَلَى مَنَابِرِ الْإِسْلَامِ ، فَإِذَا كَانَ بِحُضُورِهِمْ يُكْتَبُ عَلَى الْكَذِبِ عَلَيْكُمْ وَعَلَى الْقُضَاةِ وَيُبَدَّلُ دِينُ الْإِسْلَامِ فَكَيْفَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا غَابَ عَنْكُمْ ؟ وَكَذَلِكَ أَرْسَلْت مَعَ الْفَتَّاحِ إلَى نَائِبِ السُّلْطَانِ أَقُولُ هَذَا الِاعْتِقَادُ عِنْدَكُمْ وَهُوَ الَّذِي بَحَثَهُ عُلَمَاءُ الشَّامِ فَمَنْ كَانَ مُنْكِرًا مِنْهُ شَيْئًا فَلْيُبَيِّنْهُ .

وَمِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى النَّاسِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ إلَّا بِحُجَّةِ وَبَيَانٍ ، إذْ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَ أَحَدًا بِشَيْءِ وَلَا يَحْظُرَ عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا بِلَا حُجَّةٍ خَاصَّةٍ ، إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ . الَّذِي أَوْجَبَ عَلَى الْخَلْقِ طَاعَتَهُ فِيمَا أَدْرَكَتْهُ عُقُولُهُمْ وَمَا لَمْ تُدْرِكْهُ وَخَبَرُهُ مُصَدَّقٌ فِيمَا عَلِمْنَاهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْهُ وَأَمَّا غَيْرُهُ إذَا قَالَ هَذَا صَوَابٌ أَوْ خَطَأٌ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ بِمَا يَجِبُ بِهِ اتِّبَاعُهُ فَأَوَّلُ دَرَجَاتِ الْإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ الْمُنْكِرُ عَالِمًا بِمَا يُنْكِرُهُ وَمَا يَقْدِرُ النَّاسُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ أَنْ يُبْطِلَ قَوْلًا أَوْ يُحَرِّمَ فِعْلًا إلَّا بِسُلْطَانِ الْحُجَّةِ وَإِلَّا كَانَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } وَقَالَ فِيهِ : { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } . هَذَا وَأَنَا فِي سِعَةِ صَدْرٍ لِمَنْ يُخَالِفُنِي فَإِنَّهُ وَإِنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فِيَّ بِتَكْفِيرِ أَوْ تَفْسِيقٍ أَوْ افْتِرَاءٍ أَوْ عَصَبِيَّةٍ جَاهِلِيَّةٍ . فَأَنَا لَا أَتَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فِيهِ . بَلْ أَضْبُطُ مَا أَقُولُهُ وَأَفْعَلُهُ وَأَزِنُهُ بِمِيزَانِ الْعَدْلِ وَأَجْعَلُهُ مُؤْتَمًّا بِالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ هُدًى لِلنَّاسِ حَاكِمًا فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ

وَالرَّسُولِ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } . وَذَلِكَ أَنَّك مَا جَزَيْت مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيك بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ { إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يُنْكِرُوا بِمَا شَاءُوا مِنْ حُجَجٍ عَقْلِيَّةٍ أَوْ سَمْعِيَّةٍ فَأَنَا أُجِيبُهُمْ إلَى ذَلِكَ كُلِّهِ وَأُبَيِّنُهُ بَيَانًا يَفْهَمُهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ أَنَّ الَّذِي أَقُولُهُ : هُوَ الْمُوَافِقُ لِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ وَأَنَّهُ الْمُوَافِقُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَنَّ الْمُخَالِفَ لِذَلِكَ هُوَ الْمُخَالِفُ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ ، فَلَوْ كُنْت أَنَا الْمُبْتَدِئُ بِالْإِنْكَارِ وَالتَّحْدِيثِ بِمِثْلِ هَذَا : لَكَانَتْ الْحُجَّةُ مُتَوَجِّهَةً عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْغَيْرُ هُوَ الْمُبْتَدِئَ بِالْإِنْكَارِ { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } الْآيَتَيْنِ { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } { إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ } { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } . وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَعَلَى سَائِرِ الْجَمَاعَةِ وَتَخُصُّ " بَدْرَ الدِّينِ " بِأَكْرَمِ تَحِيَّةٍ وَسَلَامٍ وَتُوقِفُهُ عَلَى هَذِهِ الْأَوْرَاقِ إنْ شِئْت ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ : مَا عَنْ الْمَحْبُوبِ . سِرٌّ مَحْجُوبٌ وَبَشِّرْ بِكُلِّ

مَا يَسَّرَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَيَنْتَقِمُ بِهِ مِنْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ، فَإِنِّي أَعْرِفُ جُمَلًا مِمَّا يَتَجَرَّعُهُ هُوَ وَذَوُوه مِنْ أَهْلِ التَّرَؤُّسِ بِالْبَاطِلِ مِنْ ذَوِي الْكَذِبِ وَالْمُحَالِ . وَاَللَّهُ نَاصِرٌ دِينَهُ وَنَاصِرٌ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مُنَاوِئِيهِمْ بِالْبَاطِلِ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْإِخْبَارِ بِتَفَاصِيلَ سَارَّةٍ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا . مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . أَمَّا بَعْدُ : فَقَدْ وَصَلَتْ وَرَقَتُك الَّتِي ذَكَرْت فِيهَا إخْبَارَك الشَّيْخَ بِاجْتِمَاعِ الرَّسُولِ بِي وَمَا أَخْبَرْته مِنْ الْكَلَامِ وَأَنَّ الشَّيْخَ قَالَ : " اعْلَمْ أَنِّي وَاَللَّهِ قَدْ عَظُمَ عِنْدِي كَيْفَ وَقَعَتْ الصُّورَةُ عَلَى هَذَا إلَى آخِرِهِ . وَأَنَّهُ قَالَ : تَجْتَمِعُ بِالشَّيْخِ وَتَتَّفِقُ مَعَهُ - عَلَى مَا يَرَاهُ هُوَ وَيَخْتَارُهُ . إنْ يَكُنْ كَمَا قُلْت أَوْ غَيْرَهُ - فَتُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَتَقُولُ لَهُ : أَمَّا هَذِهِ الْقَضِيَّةُ لَيْسَ لِي فِيهَا غَرَضٌ مُعَيَّنٌ أَصْلًا وَلَسْت فِيهَا إلَّا وَاحِدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ . لِي مَا لَهُمْ وَعَلَيَّ مَا عَلَيْهِمْ ،

وَلَيْسَ لِي وَلِلَّهِ الْحَمْدُ حَاجَةٌ إلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ يُطْلَبُ مِنْ الْمَخْلُوقِ وَلَا فِيَّ ضَرَرٌ يُطْلَبُ زَوَالُهُ مِنْ الْمَخْلُوقِ بَلْ أَنَا فِي نِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ سَابِغَةٍ وَرَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ أَعْجِزُ عَنْ شُكْرِهَا . وَلَكِنْ عَلَيَّ أَنْ أُطِيعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَأُطِيعَ أُولِي الْأَمْرِ إذَا أَمَرُونِي بِطَاعَةِ اللَّهِ ، فَإِذَا أَمَرُونِي بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ . هَكَذَا دَلَّ عَلَيْهِ " الْكِتَابُ " وَ " السُّنَّةُ " وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ " أَئِمَّةُ الْأُمَّةِ " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ } " " { إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ } " وَأَنْ أَصْبِرَ عَلَى جَوْرِ الْأَئِمَّةِ وَأَنْ لَا أَخْرُجَ عَلَيْهِمْ فِي فِتْنَةٍ ؛ لِمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ } " . وَمَأْمُورٌ أَيْضًا مَعَ ذَلِكَ أَنْ أَقُولَ : أَوْ أَقُومَ : بِالْحَقِّ حَيْثُ مَا كُنْت ، لَا أَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ كَمَا أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : " { بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي يُسْرِنَا وَعُسْرِنَا وَمَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا ، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ ، وَأَنْ

نَقُولَ - أَوْ نَقُومَ - بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ } " . فَبَايَعَهُمْ عَلَى هَذِهِ " الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ الْجَامِعَةِ " وَهِيَ الطَّاعَةُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ ، وَإِنْ كَانَ الْآمِرُ ظَالِمًا ، وَتَرْكُ مُنَازَعَةِ الْأَمْرِ أَهْلَهُ ، وَالْقِيَامُ بِالْحَقِّ بِلَا مَخَافَةٍ مِنْ الْخَلْقِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَ فِي كِتَابِهِ عِنْدَ تَنَازُعِ الْأُمَّةِ بِالرَّدِّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، لَمْ يَأْمُرْ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ أَصْلًا . وَقَدْ قَالَ الْأَئِمَّةُ : إنَّ أُولِي الْأَمْرِ صِنْفَانِ الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ . وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَشَايِخُ الدِّينِ وَمُلُوكُ الْمُسْلِمِينَ : كُلٌّ مِنْهُمْ يُطَاعُ فِيمَا إلَيْهِ مِنْ الْأَمْرِ . كَمَا يُطَاعُ هَؤُلَاءِ بِمَا يُؤْمَرُونَ بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَيَرْجِعُ إلَيْهِمْ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ ، وَالْإِخْبَارِ عَنْ اللَّهِ ، وَكَمَا يُطَاعُ هَؤُلَاءِ فِي الْجِهَادِ وَإِقَامَةِ الْحَدِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ : مِمَّا يُبَاشِرُونَهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهَا . وَإِذَا اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَمْرٍ فَإِجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ فَإِنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَإِنْ تَنَازَعُوا فَالْمَرَدُّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ قَدْ جَرَى فِيهَا مَا جَرَى مِمَّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ . وَكُنْت تُبَلِّغُنِي بِخِطَابِك وَكِتَابِك عَنْ الشَّيْخِ مَا تُبَلِّغُنِي . وَقَدْ رَأَيْت وَسَمِعْت مُوَافَقَتِي عَلَى كُلِّ مَا فِيهِ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَعَدَمَ الْتِفَاتِي إلَى الْمُطَالَبَةِ بِحُظُوظِي أَوْ مُقَابَلَةَ مَنْ يُؤْذِينِي وَتَيَقَّنْت هَذَا مِنِّي فَمَا الَّذِي يُطْلَبُ مِنْ الْمُسْلِمِ فَوْقَ هَذَا وَأَشَرْت بِتَرْكِ الْمَخَافَةِ وَلِينِ الْجَانِبِ وَأَنَا مُجِيبٌ إلَى هَذَا كُلِّهِ . فَجَاءَ الْفَتَّاحُ أَوَّلًا فَقَالَ : يُسَلِّمُ عَلَيْك النَّائِبُ . وَقَالَ : إلَى مَتَى يَكُونُ الْمُقَامُ

فِي الْحَبْسِ ؟ . أَمَا تَخْرُجُ ؟ هَلْ أَنْتَ مُقِيمٌ عَلَى تِلْكَ الْكَلِمَةِ أَمْ لَا ؟ . وَعَلِمْت أَنَّ الْفَتَّاحَ لَيْسَ فِي اسْتِقْلَالِهِ بِالرِّسَالَةِ مَصْلَحَةٌ لِأُمُورِ لَا تَخْفَى . فَقُلْت لَهُ : سَلِّمْ عَلَى النَّائِبِ وَقُلْ لَهُ أَنَا مَا أَدْرِي مَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ ؟ وَإِلَى السَّاعَةِ لَمْ أَدْرِ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ حُبِسْت ؟ وَلَا عَلِمْت ذَنْبِي ؟ . وَأَنَّ جَوَابَ هَذِهِ الرِّسَالَةِ لَا يَكُونُ مَعَ خِدْمَتِك ، بَلْ يُرْسِلُ مِنْ ثِقَاتِهِ - الَّذِينَ يَفْهَمُونَ وَيُصَدِّقُونَ - أَرْبَعَةَ أُمَرَاءَ ؛ لِيَكُونَ الْكَلَامُ مَعَهُمْ مَضْبُوطًا عَنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ . فَأَنَا قَدْ عَلِمْت مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ الْأَكَاذِيبِ . فَجَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتَّاحُ وَمَعَهُ شَخْصٌ مَا عَرَفْته لَكِنْ ذَكَرَ لِي أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ عَلَاءُ الدِّينِ الطيبرسي وَرَأَيْت الَّذِينَ عَرَفُوهُ أَثْنَوْا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ خَيْرًا وَذَكَرُوهُ بِالْحُسْنَى ، لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ ابْتِدَاءً مِنْ الْكَلَامِ : مَا يَحْتَمِلُ الْجَوَابَ بِالْحُسْنَى فَلَمْ يَقُلْ الْكَلِمَةَ الَّتِي أَنْكَرْت : كَيْت وَكَيْت وَلَا اسْتَفْهَمَ هَلْ أَنْتَ مُجِيبٌ إلَى كَيْت وَكَيْت . وَلَوْ قَالَ مَا قَالَ : - مِنْ الْكَذِبِ عَلَيَّ وَالْكُفْرِ وَالْمُجَادَلَةِ - عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِي الْجَوَابَ بِالْحُسْنَى لَفَعَلْت ذَلِكَ فَإِنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ أَنِّي مِنْ أَطْوَلِ النَّاسِ رُوحًا وَصَبْرًا عَلَى مُرِّ الْكَلَامِ وَأَعْظَمِ النَّاسِ عَدْلًا فِي الْمُخَاطَبَةِ لِأَقَلِّ النَّاسِ ، دَعْ ( لِوُلَاةِ الْأُمُورِ لَكِنَّهُ جَاءَ مَجِيءَ الْمُكْرَهِ عَلَى أَنْ أُوَافِقَ إلَى مَا دَعَا إلَيْهِ وَأَخْرَجَ دُرْجًا فِيهِ

مِنْ الْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَالدُّعَاءِ إلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالنَّهْيِ عَنْ طَاعَتِهِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ وَجَعَلْت كُلَّمَا أَرَدْت أَنْ أُجِيبَهُ وَأُحَمِّلَهُ رِسَالَةً يُبَلِّغُهَا لَا يُرِيدُ أَنْ يَسْمَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَيُبَلِّغَهُ بَلْ لَا يُرِيدُ إلَّا مَا مَضْمُونُهُ الْإِقْرَارُ بِمَا ذَكَرَ وَالْتِزَامُ عَدَمِ الْعَوْدِ إلَيْهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } . فَمَتَى ظَلَمَ الْمُخَاطَبُ لَمْ نَكُنْ مَأْمُورِينَ أَنْ نُجِيبَهُ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بَلْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِعُرْوَةِ بْنِ مَسْعُودٍ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ : إنِّي لَأَرَى أَوْبَاشًا مِنْ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوك - اُمْصُصْ بَظْرَ اللَّاتِ أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانُوا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } . فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَهُوَ الْأَعْلَى كَائِنًا مَنْ كَانَ . وَمَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ } . وَأَنَا أَوْ غَيْرِي مِنْ أَيِّ الْقِسْمَيْنِ كُنْت فَإِنَّ اللَّهَ يُعَامِلُنِي وَغَيْرِي بِمَا وَعَدَهُ فَإِنَّ قَوْلَهُ الْحَقُّ { وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ } فَقُلْت لَهُ فِي ضِمْنِ الْكَلَامِ : الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ لَيْسَ لِي ، وَلَكِنْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ شَرْقِ الْأَرْضِ إلَى غَرْبِهَا . وَأَنَا لَا أَعْنِي تَبْدِيلَ الدِّينِ وَتَغْيِيرَهُ ، وَلَيْسَ لِأَجْلِك ، أَوْ أَجْلِ غَيْرِك أَرْتَدُّ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ : وَأُقِرُّ بِالْكُفْرِ وَالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ . رَاجِعًا عَنْهُ أَوْ مُوَافِقًا عَلَيْهِ .

وَلَمَّا رَأَيْته يُلِحُّ فِي الْأَمْرِ بِذَلِكَ أَغْلَظْت عَلَيْهِ فِي الْكَلَامِ . وَقُلْت دَعْ هَذَا الْفُشَارَ وَقُمْ رُحْ فِي شُغْلِك . فَأَنَا مَا طَلَبْت مِنْكُمْ أَنْ تُخْرِجُونِي - وَكَانُوا قَدْ أَغْلَقُوا الْبَابَ الْقَائِمَ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ إلَى الْبَابِ الْمُطْبِقِ - فَقُلْت أَنَا افْتَحُوا لِي الْبَابَ حَتَّى أَنْزِلَ يَعْنِي فَرَغَ الْكَلَامُ . وَجَعَلَ غَيْرَ مَرَّةٍ يَقُولُ لِي : أَتُخَالِفُ الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ فَقُلْت : أَنَا مَا قُلْت : إلَّا مَا يُوَافِقُ الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ ، وَلَمْ يَحْكُمْ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنْ الْحُكَّامِ إلَّا ابْنُ مَخْلُوفٍ وَأَنْتَ كُنْت ذَلِكَ الْيَوْمَ حَاضِرًا . وَقُلْت لَهُ أَنْتَ وَحْدَك تَحْكُمُ أَوْ أَنْتَ وَهَؤُلَاءِ . فَقَالَ : بَلْ أَنَا وَحْدِي فَقُلْت لَهُ : أَنْتَ خَصْمِي ، فَكَيْفَ تَحْكُمُ عَلَيَّ ؟ فَقَالَ : كَذَا وَمَدَّ صَوْتَهُ وَانْزَوَى إلَى الزَّاوِيَةِ . وَقَالَ : قُمْ ، قُمْ . فَأَقَامُونِي وَأَمَرُوا بِي إلَى الْحَبْسِ ثُمَّ جَعَلْت أَقُولُ : أَنَا وَإِخْوَتِي غَيْرَ مَرَّةٍ : أَنَا أَرْجِعُ وَأُجِيبُ وَإِنْ كُنْت أَنْتَ الْحَاكِمُ وَحْدَك . فَلَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنِّي . فَلَمَّا ذَهَبُوا بِي إلَى الْحَبْسِ حَكَمَ بِمَا حَكَمَ بِهِ وَأَثْبَتَ مَا أَثْبَتَ وَأَمَرَ فِي الْكِتَابِ السُّلْطَانِيِّ بِمَا أَمَرَ بِهِ فَهَلْ يَقُولُ أَحَدٌ مِنْ الْيَهُودِ أَوْ النَّصَارَى دَعْ الْمُسْلِمِينَ إنَّ هَذَا حُبِسَ بِالشَّرْعِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ : شَرْعُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ . وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ الصِّبْيَانُ الصِّغَارُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِشَرْعِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ . وَهَذَا الْحَاكِمُ هُوَ وَذَوُوه دَائِمًا يَقُولُونَ فَعَلْنَا مَا فَعَلْنَا بِشَرْعِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ .

وَهَذَا الْحُكْمُ مُخَالِفٌ لِشَرْعِ اللَّهِ - الَّذِي أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ - مِنْ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ وَجْهًا . ثُمَّ النَّصَارَى فِي حَبْسٍ حَسَنٍ : يُشْرِكُونَ فِيهِ بِاَللَّهِ وَيَتَّخِذُونَ فِيهِ الْكَنَائِسَ فَيَا لَيْتَ حَبْسُنَا كَانَ مِنْ جِنْسِ حَبْسِ النَّصَارَى وَيَا لَيْتَنَا سُوِّينَا بِالْمُشْرِكِينَ وَعُبَّادِ الْأَوْثَانِ بَلْ لِأُولَئِكَ الْكَرَامَةُ وَلَنَا الْهَوَانُ . فَهَلْ يَقُولُ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهَذَا . وَبِأَيِّ ذَنْبٍ حَبَسَ إخْوَتِي فِي دِينِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ وَمَنْ قَالَ : إنَّ ذَلِكَ فُعِلَ بِالشَّرْعِ فَقَدْ كَفَرَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَقُلْت لَهُ فِي ضِمْنِ الْكَلَامِ أَنْتَ لَوْ ادَّعَى عَلَيْك رَجُلٌ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَأَنْتَ حَاضِرٌ فِي الْبَلَدِ ، غَيْرُ مُمْتَنِعٍ مِنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ لَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْك فِي غَيْبَتِك هَذَا فِي الْحُقُوقِ فَكَيْفَ بِالْعُقُوبَاتِ الَّتِي يَحْرُمُ فِيهَا ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . ثُمَّ هَذَا الرَّجُلُ قَدْ ظَهَرَ كَذِبُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ . ذَلِكَ الْيَوْمُ كَذَبَ عَلَيَّ فِي أَكْثَرِ مَا قَالَهُ وَهَذِهِ الْوَرَقَةُ الَّتِي أَمَرَ بِكِتَابَتِهَا أَكْثَرُهَا كَذِبٌ وَالْكِتَابُ السُّلْطَانِيُّ الَّذِي كُتِبَ بِأَمْرِهِ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ مِنْ نَحْوِ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ وَفِيهِ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى الْمَجْلِسِ الَّذِي عُقِدَ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ قَدْ عَلِمَهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ . فَإِذَا كَانَ الْكِتَابُ

الَّذِي كُتِبَ عَلَى لِسَانِ السُّلْطَانِ وَقُرِئَ عَلَى مَنَابِرِ الْإِسْلَامِ أَخْبَرَ فِيهِ عَنْ أَهْلِ الْمَجْلِسِ : مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ بِمَا هُوَ مِنْ أَظْهَرِ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ ، فَكَيْفَ فِيمَا غَابَ عَنْهُمْ . قُلْت وَهُوَ دَائِمًا يَقُولُ عَنِّي : إنِّي أَقُولُ إنَّ اللَّهَ فِي زَاوِيَةٍ وَلَدَ وَلَدًا وَهَذَا كُلُّهُ كَذِبٌ . وَشُهْرَتُهُ بِالْكَذِبِ وَالْفُجُورِ يَعْلَمُهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ . فَهَلْ يَصْلُحُ مِثْلُ هَذَا أَنْ يُحَكَّمَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَمَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ وَرَأَيْته هُنَا يَتَبَسَّمُ تَبَسُّمَ الْعَارِفِ بِصِحَّةِ مَا قُلْته فَكَأَنَّ سِيرَةَ هَذَا الْحَاكِمِ مَشْهُورَةٌ بِالشَّرِّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . وَأَخَذَ يَقُولُ لِي : هَذِهِ الْمَحَاضِرُ وَوَجَدُوا بِخَطِّك فَقُلْت أَنْتَ كُنْت حَاضِرًا ذَلِكَ الْيَوْمَ . هَلْ أَرَانِي أَحَدٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ خَطَأً أَوْ مَحْضَرًا ؟ أَوْ قِيلَ لِي شَهِدَ عَلَيْك بِكَذَا أَوْ سُمِعَ لِي كَلَامٌ ، بَلْ حِينَ شَرَعْت أَحْمَدُ اللَّهَ وَأُثْنِي عَلَيْهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بالحمد لِلَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ } " مَنَعُونِي مِنْ حَمْدِ اللَّهِ . وَقَالُوا : لَا تَحْمَدْ اللَّهَ بَلْ أَجِبْ . فَقُلْت لِابْنِ مَخْلُوفٍ : أَلَكَ أُجِيبُ أَوْ لِهَذَا الْمُدَّعِي ؟ وَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ ذَكَرَ كَلَامًا أَكْثَرُهُ كَذِبٌ . فَقَالَ : أَجِبْ الْمُدَّعِيَ . فَقُلْت : فَأَنْتَ وَحْدَك تَحْكُمُ أَوْ أَنْتَ وَهَؤُلَاءِ الْقُضَاةُ فَقَالَ : بَلْ أَنَا وَحْدِي . فَقُلْت : فَأَنْتَ خَصْمِي فَكَيْفَ يَصِحُّ حُكْمُك عَلَيَّ فَلَمْ تَطْلُبْ مِنِّي الِاسْتِفْسَارَ عَنْ وَجْهِ الْمُخَاصَمَةِ ؟ ، فَإِنَّ هَذَا كَانَ

خَصْمًا : مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ مَعْرُوفَةٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ . ثُمَّ قُلْت : أَمَّا مَا كَانَ بِخَطِّي فَأَنَا مُقِيمٌ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الْمَحَاضِرُ : فَالشُّهُودُ فِيهَا فِيهِمْ مِنْ الْأُمُورِ الْقَادِحَةِ فِي شَهَادَتِهِمْ وُجُوهٌ مُتَعَدِّدَةٌ تَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَتِهِمْ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَاَلَّذِي شَهِدُوا بِهِ فَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ خَاصَّتُهُمْ وَعَامَّتُهُمْ بِالشَّامِ وَغَيْرِهِ ضِدَّ مَا شَهِدُوا بِهِ . وَهَذَا الْقَاضِي " شَرَفُ الدِّينِ " بْنُ المقدسي قَدْ سَمِعَ مِنْهُ النَّاسُ الْعُدُولُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَنَا عَلَى عَقِيدَةِ فُلَانٍ حَتَّى قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثِ دَخَلْت عَلَيْهِ فِيمَا يُرَى مَعَ طَائِفَةٍ فَقَالَ قُدَّامَهُمْ : أَنَا أَمُوتُ عَلَى عَقِيدَتِك يَا فُلَانُ ، لَسْت عَلَى عَقِيدَةِ هَؤُلَاءِ يَعْنِي الْخُصُومَ ، وَكَذَلِكَ الْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ الخولي غَيْرَ مَرَّةٍ يَقُولُ : فِي قَفَاك أَنَا عَلَى عَقِيدَتِهِ . وَالْقَاضِي " إمَامُ الدِّينِ " قَدْ شَهِدَ عَلَى الْعُدُولِ أَنَّهُ قَالَ مَا ظَهَرَ فِي كَلَامِهِ شَيْءٌ وَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ عَزَّرْته . وَقَالَ لِي فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ : فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْقُضَاةِ : أَنَّهُمْ أَنْزَلُوك عَنْ الْكُرْسِيِّ . فَقُلْت : هَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْكَذِبِ الَّذِي يَعْلَمُهُ جَمِيعُ النَّاسِ مَا أُنْزِلْت مِنْ الْكُرْسِيِّ قَطُّ وَلَا اسْتَتَابَنِي أَحَدٌ قَطُّ عَنْ شَيْءٍ وَلَا اسْتَرْجَعَنِي . وَقُلْت قَدْ وَصَلَ إلَيْكُمْ الْمَحْضَرُ الَّذِي فِيهِ خُطُوطُ مَشَايِخِ الشَّامِ وَسَادَاتِ الْإِسْلَامِ - وَالْكِتَابُ الَّذِي فِيهِ كَلَامُ الْحُكَّامِ : الَّذِينَ هُمْ خُصُومِي كَجَمَالِ الدِّينِ الْمَالِكِيِّ ، وَجَلَالِ الدِّينِ الْحَنَفِيِّ وَمَا ذَكَرُوا فِيهِ مِمَّا يُنَاقِضُ

هَذِهِ الْمَحَاضِرَ . وَقَوْلُ الْمَالِكِيِّ مَا بَلَغَنِي قَطُّ أَنَّهُ اُسْتُتِيبَ وَلَا مُنِعَ مِنْ فُتْيَا وَلَا أُنْزِلَ وَلَا كَذَا وَلَا كَذَا . وَلَا ثَبَتَ عَلَيْهِ عِنْدِي قَطُّ شَيْءٌ يَقْدَحُ فِي دِينِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَّامِ فِي غَيْبَتِي . وَأَمَّا الشَّهَادَاتُ فَفِيهَا أُمُورٌ عَظِيمَةٌ فَتَدَبَّرُوهَا فَكَيْفَ وَشُهُودُ الْمَحْضَرِ فِيهِمْ مِنْ مَوَانِعِ الشَّهَادَةِ أُمُورٌ تُقَالُ عِنْدَ الْحَاجَةِ.

فَصْلٌ مُعْتَرَضٌ :
ذَكَرْت فِي وَرَقَتِك أَنَّك قُلْت لِلشَّيْخِ : فِي نَفْسِي أَنْ تَطْلُبَ لِي الْمَحَاضِرَ حَتَّى يَنْظُرَ هُوَ فِيهَا . فَإِنْ كَانَ لَهُ دَافِعٌ وَإِلَّا فَالْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ مَعْذُورُونَ ، وَهَذَا مِمَّا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ أَصْلًا وَهَذِهِ الْمَحَاضِرُ أَقَلُّ وَأَحْقَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ الرَّدُّ عَلَيْهَا إلَى حَضْرَتِهَا فَإِنِّي قَدْ بَيَّنْت - بِبِضْعِ وَعِشْرِينَ وَجْهًا : أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ خَارِجٌ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ : الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الدِّينِ . وَقُلْت لِلرَّسُولِ : مَا لِابْنِ مَخْلُوفٍ وَنَحْوِهِ فِي أَنْ يَتَعَرَّضَ إلَى عِلْمِ الدِّينِ الَّذِي غَيْرُهُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ : مِثْلَ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَأَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَقَالَاتِ السَّلَفِ وَأُصُولِ الدِّينِ الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا وَهَذِهِ الْأُمُورُ إنَّمَا يُرْجَعُ فِيهَا إلَى مَنْ يَعْرِفُهَا فَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ ، أَوْ نَائِبُهُ الْحَاكِمُ يَعْرِفُهَا كَانَ فِي ذَلِكَ كَسَائِرِ الْعَارِفِينَ بِهَا وَإِلَّا فَلَا أَمْرَ لَهُمْ فِيهَا ، كَمَا لَا يُرَاجَعُ فِي الِاسْتِفْتَاءِ إلَّا مَنْ يُحْسِنُ الْفُتْيَا . وَقُلْت لَهُ أَنَا لَمْ يَصْدُرْ مِنِّي قَطُّ إلَّا جَوَابُ مَسَائِلَ ، وَإِفْتَاءُ مُسْتَفْتٍ مِمَّا كَاتَبْت أَحَدًا أَبَدًا وَلَا خَاطَبْته فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا ، بَلْ يَجِيئُنِي الرَّجُلُ الْمُسْتَرْشِدُ الْمُسْتَفْتِي بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ، فَيَسْأَلُنِي مَعَ بُعْدِهِ ، وَهُوَ مُحْتَرِقٌ عَلَى طَلَبِ الْهُدَى

أَفَيَسَعُنِي فِي دِينِي أَنْ أَكْتُمَهُ الْعِلْمَ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامِ مِنْ نَارٍ } " . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } أَفَعَلَى أَمْرِك أَمْتَنِعُ عَنْ جَوَابِ الْمُسْتَرْشِدِ لِأَكُونَ كَذَلِكَ ؟ وَهَلْ يَأْمُرُنِي بِهَذَا السُّلْطَانُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؟ . وَلَكِنْ أَنْتُمْ مَا كَانَ مَقْصُودُكُمْ إلَّا دَفْعَ أَمْرِ الْمَلِكِ لِمَ بَلَغَكُمْ مِنْ الْأَكَاذِيبِ فَقَالَ يَا مَوْلَانَا : دَعْ أَمْرَ الْمَلِكِ . أَحَدٌ مَا يَتَكَلَّمُ فِي الْمَلِكِ . فَقُلْت : " إيه " السَّاعَةُ مَا بَقِيَ أَحَدٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْمَلِكِ وَهَلْ قَامَتْ هَذِهِ الْفِتْنَةُ إلَّا لِأَجْلِ ذَلِكَ ؟ وَنَحْنُ سَمِعْنَا - بِهَذَا - وَنَحْنُ بِالشَّامِ أَنَّ الْمُثِيرَ لَهَا تُهْمَةُ الْمَلِكِ لَكِنْ مَا اعْتَقَدْنَا أَنَّ أَحَدًا يُصَدِّقُ هَذَا . وَذَكَرْت لَهُ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ لَيْسَ ضَرَرُهَا عَلَيَّ فَإِنِّي أَنَا مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَخَافُ إنْ قُتِلْت كُنْت مِنْ أَفْضَلِ الشُّهَدَاءِ وَكَانَ ذَلِكَ سَعَادَةً فِي حَقِّي : يَتَرَضَّى بِهَا عَلَيَّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَلْعَنُ السَّاعِي فِي ذَلِكَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ جَمْعَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُونَ أَنِّي أُقْتَلُ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ . وَإِنْ حُبِسْت فَوَاَللَّهِ إنَّ حَبْسِي لَمِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيَّ وَلَيْسَ لِي مَا أَخَافُ النَّاسَ عَلَيْهِ : لَا مَدْرَسَةَ وَلَا إقْطَاعَ وَلَا مَالَ وَلَا رِئَاسَةَ وَلَا شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ .

وَلَكِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ ضَرَرُهَا يَعُودُ عَلَيْكُمْ : فَإِنَّ الَّذِينَ سَعَوْا فِيهَا مِنْ الشَّامِ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ قَصْدَهُمْ فِيهَا كَيْدُكُمْ وَفَسَادُ مِلَّتِكُمْ وَدَوْلَتِكُمْ . وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى بِلَادِ التتر وَبَعْضُهُمْ مُقِيمٌ هُنَاكَ . فَهُمْ الَّذِينَ قَصَدُوا فَسَادَ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ وَجَعَلُونِي إمَامًا بِالتَّسَتُّرِ ، لِعِلْمِهِمْ بِأَنِّي أُوَالِيكُمْ وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأُرِيدُ لَكُمْ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَالْقَضِيَّةُ لَهَا أَسْرَارٌ كُلَّمَا جَاءَتْ تَنْكَشِفُ ، وَإِلَّا فَأَنَا لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَدٍ بِمِصْرِ عَدَاوَةٌ وَلَا بُغْضٌ وَمَازِلْت مُحِبًّا لَهُمْ ، مُوَالِيًا لَهُمْ : أُمَرَائِهِمْ وَمَشَايِخِهِمْ وَقُضَاتِهِمْ . فَقَالَ لِي فَمَا الَّذِي أَقُولُهُ لِنَائِبِ السُّلْطَانِ ؟ فَقُلْت : سَلِّمْ عَلَيْهِ وَبَلِّغْهُ كُلَّ مَا سَمِعْتَ . فَقَالَ : هَذَا كَثِيرٌ . فَقُلْتُ : مُلَخَّصُهُ أَنَّ الَّذِي فِي هَذَا الدُّرْجِ أَكْثَرُهُ كَذِبٌ . وَأَمَّا هَذِهِ الْكَلِمَةُ " اسْتَوَى حَقِيقَةً " فَهَذِهِ قَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الطَّوَائِفِ - الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ - أَنَّهُ أَجْمَعَ عَلَيْهَا أَهْلُ السُّنَّة وَالْجَمَاعَةِ ، وَمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا أَئِمَّتِهَا . بَلْ مَا عَلِمْت عَالِمًا أَنْكَرَ ذَلِكَ ، فَكَيْفَ أَتْرُكُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَأَشَرْت بِذَلِكَ إلَى أُمُورٍ : مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ " أَبُو عُمَرَ الطلمنكي " وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ قَبْلَ الباجي وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَهَذِهِ الطَّبَقَةِ . قَالَ : وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ مَعْنَى { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْقُرْآنِ : أَنَّ ذَلِكَ عِلْمُهُ وَأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ بِذَاتِهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَيْفَ شَاءَ . وَقَالَ

أَيْضًا : قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي قَوْلِ اللَّهِ { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } إنَّ الِاسْتِوَاءَ مِنْ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ الْمَجِيدِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ صَاحِبُ التَّفْسِيرِ الْمَشْهُورِ فِي قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } قَالَ : هَذِهِ " مَسْأَلَةُ الِاسْتِوَاءِ " لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا كَلَامٌ وَأَجْزَاءٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا فِي كِتَابِ " الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى " وَذَكَرْنَا فِيهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا . إلَى أَنْ قَالَ : وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الْأَوَّلُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يَقُولُونَ بِنَفْيِ الْجِهَةِ وَلَا يَنْطِقُونَ بِذَلِكَ بَلْ نَطَقُوا هُمْ وَالْكَافَّةُ بِإِثْبَاتِهَا لِلَّهِ تَعَالَى . كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُهُ وَأَخْبَرَتْ رُسُلُهُ . قَالَ : وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ حَقِيقَةً . وَخُصَّ الْعَرْشُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَخْلُوقَاتِهِ ، وَإِنَّمَا جَهِلُوا كَيْفِيَّةَ الِاسْتِوَاءِ : فَإِنَّهُ لَا تُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ . كَمَا قَالَ مَالِكٌ " الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ " يَعْنِي فِي اللُّغَةِ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالسُّؤَالُ عَنْ هَذَا بِدْعَةٌ . وَكَذَا قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا . وَقَالَ هَذَا الشَّيْخُ الْمَشْهُورُ بِمِصْرِ وَغَيْرِهَا فِي كِتَابِ " شَرْحِ الْأَسْمَاءِ " قَالَ : وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَضْرَمِيُّ الْقَيْرَوَانِيُّ الَّذِي لَهُ الرِّسَالَةُ الَّتِي سَمَّاهَا " بِرِسَالَةِ الْأَسْمَاءِ إلَى مَسْأَلَةِ الِاسْتِوَاءِ " لَمَّا ذَكَرَ اخْتِلَافَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الِاسْتِوَاءِ - قَوْلَ " الطبري يَعْنِي أَبَا جَعْفَرٍ صَاحِبَ التَّفْسِيرِ الْكَبِير وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ ، وَالْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ شُيُوخِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ . قَالَ : وَهُوَ ظَاهِرُ بَعْضِ كُتُبِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ " وَأَبِي الْحَسَنِ يَعْنِي

الْأَشْعَرِيَّ وَحَكَاهُ عَنْهُ يَعْنِي الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ أَيْضًا : وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ بِذَاتِهِ . وَأَطْلَقُوا فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ فَوْقَ عَرْشِهِ . قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي أَقُولُ بِهِ ، مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَلَا تَمَكُّنٍ فِي مَكَانٍ وَلَا كَوْنٍ فِيهِ وَلَا مُمَاسَّةٍ . قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ فِي " كِتَابِ تَمْهِيدِ الْأَوَائِلِ " لَهُ وَقَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ بْنُ فورك فِي " شَرْحِ أَوَائِلِ الْأَدِلَّةِ " لَهُ . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ والطلمنكي وَغَيْرِهِمَا مِنْ الأندلسيين ، وَقَوْلِ الخطابي فِي " شِعَارِ الدِّينِ " ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَنْ حَكَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا : وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ مَا تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ الْآيُ وَالْأَخْبَارُ وَالْفُضَلَاءُ الْأَخْيَارُ . إنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ، بِلَا كَيْفٍ بَائِنٍ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ هَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ الثِّقَاتُ . هَذَا كُلُّهُ لَفْظُهُ . وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ السجزي فِي كِتَابِ " الْإِبَانَةِ " لَهُ : وَأَئِمَّتُنَا - كَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ ، وفضيل بْنِ عِيَاضٍ ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه - مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّ عِلْمَهُ بِكُلِّ مَكَانٍ وَأَنَّهُ يُرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْأَبْصَارِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَأَنَّهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى وَيَتَكَلَّمُ بِمَا شَاءَ . فَمَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْهُمْ بَرِيءٌ وَهُمْ مِنْهُ بَرَاءٌ .

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " كِتَابِ التَّمْهِيدِ " فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ - وَهُوَ أَجَلُّ مَا صُنِّفَ فِي فَنِّهِ : لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى حَدِيثِ النُّزُولِ قَالَ : هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي صِحَّتِهِ وَهُوَ حَدِيثٌ مَنْقُولٌ مِنْ طُرُقٍ سِوَى هَذِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْعُدُولِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ كَمَا قَالَتْ : الْجَمَاعَةُ . وَهُوَ مِنْ حُجَّتِهِمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ مَكَانٍ وَلَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ . قَالَ فِي الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ أَهْلُ الْحَقِّ قَوْلُ اللَّهِ { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَقَالَ { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } وَقَالَ { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ } وَقَالَ لِعِيسَى { إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ } وَذَكَرَ آيَاتٍ . إلَى أَنْ قَالَ : وَهَذَا أَشْهَرُ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى أَكْثَرَ مِنْ حِكَايَتِهِ ، لِأَنَّهُ اضْطِرَارٌ لَمْ يُوقِفْهُمْ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا خَالَفَهُمْ فِيهِ مُسْلِمٌ وَبُسِطَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ . إلَى أَنْ قَالَ : وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ ، لِأَنَّ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - الَّذِينَ حُمِلَ عَنْهُمْ التَّأْوِيلُ - قَالُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ : هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ ، وَمَا خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ .

وَذَكَرَ عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ } قَالَ : هُوَ عَلَى عَرْشِهِ وَعِلْمُهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا . وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : اللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ . قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ كُلِّهَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِيمَانِ بِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ ، إلَّا أَنَّهُمْ لَا يُكَيِّفُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَحُدُّونَ فِيهِ صِفَةً مَحْصُورَةً ، وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ كُلُّهَا وَالْخَوَارِجُ فَكُلُّهُمْ يُنْكِرُهَا وَلَا يَحْمِلُ شَيْئًا مِنْهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِهَا مُشَبِّهٌ وَهُمْ عِنْدَ مَنْ أَقَرَّ بِهَا نَافُونَ لِلْمَعْبُودِ وَالْحَقُّ فِيهَا مَا قَالَ الْقَائِلُونَ : بِمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ أَئِمَّةُ الْجَمَاعَةِ وَقَالَ أَبُو عُمَرَ : الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةُ الْفِقْهِ وَالْأَثَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا وَالتَّصْدِيقُ بِذَلِكَ وَتَرْكُ التَّحْدِيدِ وَالْكَيْفِيَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ . وَقَالَ الشَّيْخُ الْعَارِفُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ أَبِي صَالِحٍ الكيلاني فِي كِتَابِ " الغنية " لَهُ : أَمَّا مَعْرِفَةُ الصَّانِعِ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ - عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ - فَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ وَيَتَيَقَّنَ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ أَحَدٌ . إلَى أَنْ قَالَ وَهُوَ بِجِهَةِ الْعُلُوِّ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ مُحْتَوٍ عَلَى الْمُلْكِ مُحِيطٌ عِلْمُهُ بِالْأَشْيَاءِ . قَالَ : وَلَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ ، بَلْ يُقَالُ إنَّهُ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ . كَمَا قَالَ { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَذَكَرَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ إلَى أَنْ قَالَ : وَيَنْبَغِي إطْلَاقُ صِفَةِ الِاسْتِوَاءِ

مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَأَنَّهُ اسْتِوَاءُ الذَّاتِ عَلَى الْعَرْشِ . قَالَ وَكَوْنُهُ عَلَى الْعَرْشِ مَذْكُورٌ فِي كُلِّ كِتَابٍ أُنْزِلَ عَلَى نَبِيٍّ أُرْسِلَ بِلَا كَيْفٍ . وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا . وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الكرجي الشَّافِعِيُّ فِي مُقَدِّمَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي " اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ " وَهِيَ مَنْقُولَةٌ مِنْ خَطِّ الشَّيْخِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الصَّلَاحِ :
عَقِيدَتُهُمْ أَنَّ الْإِلَهَ بِذَاتِهِ * * * عَلَى عَرْشِهِ مَعَ عِلْمِهِ بالغوائب
وَهَذِهِ الْآثَارُ لَمْ أَذْكُرْهَا كُلَّهَا لِلرَّسُولِ لَكِنْ هِيَ مِمَّا أَشَرْت إلَيْهِ بِقَوْلِي : إنِّي لَمْ أَقُلْ شَيْئًا مِنْ نَفْسِي وَإِنَّمَا قُلْت مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَهَذَا الْمَوْضِعُ يَضِيقُ بِهَا فِي ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْأُمَّةِ فَقَالَ لِي : نَعَمْ هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ حَقِيقَةً بِذَاتِهِ بِلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ . قُلْت نَعَمْ وَهَذَا هُوَ فِي " الْعَقِيدَةِ " فَقَالَ فَاكْتُبْ هَذِهِ السَّاعَةَ أَوْ قَالَ اُكْتُبْ هَذَا أَوْ نَحْوَ هَذَا فَقُلْت هَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي الْعَقِيدَةِ الَّتِي عِنْدَكُمْ الَّتِي بُحِثَتْ بِدِمَشْقَ وَاتَّفَقَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ فَأَيُّ شَيْءٍ هُوَ الَّذِي أُرِيدُهُ ؟ وَقُلْت لَهُ : أَنَا قَدْ أَحْضَرْت أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ كِتَابًا - مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْمُتَكَلِمِينَ وَالْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ : الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ - تُوَافِقُ مَا قُلْت . وَقُلْت : أَنَا أُمْهِلُ مَنْ خَالَفَنِي ثَلَاثَ سِنِينَ أَنْ يَجِيءَ بِحَرْفِ وَاحِدٍ عَنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ يُخَالِفُ مَا قُلْته . فَمَا الَّذِي أَصْنَعُهُ ؟ فَلَمَّا خَرَجَ الطيبرسي وَالْفَتَّاحُ عَادَ الْفَتَّاحُ بَعْدَ سَاعَةٍ فَقَالَ : يُسَلِّمُ عَلَيْك

نَائِبُ السُّلْطَانِ وَقَالَ : فَاكْتُبْ لَنَا الْآنَ " عَقِيدَةً " بِخَطِّك فَقُلْت : سَلِّمْ عَلَى نَائِبِ السُّلْطَانِ ، وَقُلْ لَهُ : لَوْ كَتَبْت السَّاعَةَ شَيْئًا لَقَالَ الْقَائِلُ : قَدْ زَادَ وَنَقَصَ أَوْ غَيَّرَ الِاعْتِقَادَ وَهَكَذَا بِدِمَشْقَ لَمَّا طَلَبُوا الِاعْتِقَادَ لَمْ أُتَّهَمْ إلَّا بِشَيْءِ قَدْ كُتِبَ مُتَقَدِّمًا . قُلْت : وَهَذَا الِاعْتِقَادُ هُوَ الَّذِي قُرِئَ بِالشَّامِ فِي الْمَجَالِسِ الثَّلَاثَةِ وَقَدْ أَرْسَلَهُ إلَيْكُمْ نَائِبُكُمْ مَعَ الْبَرِيدِ وَالْجَمِيعُ عِنْدَكُمْ ثُمَّ أَرْسَلَ لَكُمْ مَعَ الْعُمَرِيِّ ثَانِيًا لَمَّا جَاءَ الْكِتَابُ الثَّانِي مَا قَالَهُ : الْقُضَاةُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْمَحْضَرُ وَكِتَابُ الْبُخَارِيِّ الَّذِي قَرَأَهُ المزي ، وَالِاعْتِقَادُ لَيْسَ هُوَ شَيْئًا أَبْتَدِئُهُ مِنْ عِنْدِي حَتَّى يَكُونَ كُلَّ يَوْمٍ لِي اعْتِقَادٌ وَهُوَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ بِعَيْنِهِ وَالنُّسْخَةُ بِعَيْنِهَا . فَانْظُرُوا فِيهَا فَرَاحَ ، ثُمَّ عَادَ ، وَطَلَبَ أَنْ أَكْتُبَ بِخَطِّي أَيَّ شَيْءٍ كَانَ . فَقُلْت فَمَا الَّذِي أَكْتُبُهُ قَالَ مِثْلَ الْعَفْوِ وَأَلَّا تَتَعَرَّضَ لِأَحَدِ . فَقُلْت : نَعَمْ هَذَا أَنَا مُجِيبٌ إلَيْهِ ، لَيْسَ غَرَضِي فِي إيذَاءِ أَحَدٍ ، وَلَا الِانْتِقَامَ مِنْهُ وَلَا مُؤَاخَذَتَهُ . وَأَنَا عَافٍ عَمَّنْ ظَلَمَنِي . وَأَرَدْت أَنْ أَكْتُبَ هَذَا ثُمَّ قُلْت مِثْلَ هَذَا مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِكِتَابَتِهِ فَإِنَّ عَفْوَ الْإِنْسَانِ عَنْ حَقِّهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا . وَتَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ لَمَّا جَرَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَادَ بَعْضُ الْقُلُوبِ يَتَغَيَّرُ عَلَى الشَّيْخِ وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا الدُّرْجَ قَدْ أَقَرَّ بِهِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُنَاقِضُ مَا كَانَ يَقُولُهُ وَيُرْسِلُ بِهِ . فَجَعَلْت أَنَا وَأَخِي نَدْفَعُ ذَلِكَ . وَنَقُولُ : هَذَا مِنْ فِعْلِ ابْنِ مَخْلُوفٍ وَقَدْ تَحَقَّقْت أَنَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ ابْنِ مَخْلُوفٍ . وَيَعْرِفُ الشَّيْخُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الَّتِي قَدْ اُشْتُهِرَتْ وَانْتَشَرَتْ لَا تَنْدَفِعُ

عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، فَأَنَا أَبْذُلُ غَايَةَ مَا وَسِعَنِي مِنْ الْإِحْسَانِ ، وَتَرْكِ الِانْتِقَامِ ، وَتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ ، لَكِنْ هُوَ يَعْرِفُ خَلْقًا كَثِيرًا مِمَّنْ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْجُو مِنْ شَرِّهِمْ وَظُلْمِهِمْ إلَّا بِأَخْذِ طَرِيقَيْنِ : أَحَدُهُمَا مُسْتَقِرٌّ ، وَالْآخَرُ مُتَقَلِّبٌ . ( الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ اللَّهِ تَأْيِيدٌ وَسُلْطَانٌ وَالْتِجَاءٌ إلَيْهِ وَاسْتِعَانَةٌ بِهِ وَتَوَكُّلٌ عَلَيْهِ وَاسْتِغْفَارٌ لَهُ وَطَاعَةٌ لَهُ : يَدْفَعُ بِهِ عَنْهُ شَرَّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ الثَّابِتَةُ الْبَاقِيَةُ . وَالطَّرِيقُ الثَّانِي : إنْ جَاءَ مِنْ ذِي جَاهٍ ، فَإِنَّهُمْ يُرَاعُونَ ذَا الْجَاهِ مَا دَامَ جَاهُهُ قَائِمًا فَإِذَا انْقَلَبَ جَاهُهُ كَانُوا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ قِيَامًا عَلَيْهِ هُمْ بِأَعْيَانِهِمْ ، حَتَّى إنَّهُمْ قَدْ يَضْرِبُونَ الْقَاضِي بِالْمَقَارِعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكَادُ يُعْرَفُ لِغَيْرِهِمْ أَعْدَاؤُهُ وَمُبْغِضُوهُ كَثِيرُونَ وَقَدْ دَخَلَ فِي إثْبَاتَاتٍ وَأَمْلَاكٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مُتَعَلِّقَةٍ بِالدَّوْلَةِ وَغَيْرِ الدَّوْلَةِ . فَلَوْ حَصَلَ مِنْ ذَوِي الْجَاهِ مَنْ لَهُ غَرَضٌ فِي نَقْضِ أَحْكَامِهِ وَنَقْلِ الْأَمْلَاكِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَيْسَرِ الْأُمُورِ عَلَيْهِ : أَمَّا أَنْ يَكْتُبَ رِدَّتَهُ ، وَأَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ لَا تَنْفُذُ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مِنْهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ أَنَّهُ جَعَلَ مَا فَعَلَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ شَرْعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْإِنْسَانُ مَتَى حَلَّلَ الْحَرَامَ - الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ - أَوْ حَرَّمَ الْحَلَالَ - الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ - أَوْ بَدَّلَ الشَّرْعَ - الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ - كَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . وَفِي مِثْلِ هَذَا

نَزَلَ قَوْلُهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } أَيْ هُوَ الْمُسْتَحِلُّ لِلْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ، وَلَفْظُ الشَّرْعِ يُقَالُ فِي عُرْفِ النَّاسِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ : " الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ " وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهَذَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَمَنْ خَالَفَهُ وَجَبَتْ عُقُوبَتُهُ . وَالثَّانِي " الشَّرْعُ الْمُؤَوَّلُ " وَهُوَ آرَاءُ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهَا كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَنَحْوِهِ . فَهَذَا يَسُوغُ اتِّبَاعُهُ وَلَا يَجِبُ وَلَا يَحْرُمُ ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَ عُمُومَ النَّاسِ بِهِ وَلَا يَمْنَعَ عُمُومَ النَّاسِ مِنْهُ . وَالثَّالِثُ " الشَّرْعُ الْمُبَدَّلُ " وَهُوَ الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَلَى النَّاسِ بِشَهَادَاتِ الزُّورِ وَنَحْوِهَا وَالظُّلْمِ الْبَيِّنِ فَمَنْ قَالَ إنَّ هَذَا مِنْ شَرْعِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ بِلَا نِزَاعٍ . كَمَنْ قَالَ : إنَّ الدَّمَ وَالْمَيْتَةَ حَلَالٌ - وَلَوْ قَالَ هَذَا مَذْهَبِي وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَلَوْ كَانَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ ابْنُ مَخْلُوفٍ هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَوْ الْأَشْعَرِيِّ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ جَمِيعَ النَّاسِ بِهِ وَيُعَاقِبَ مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ ، فَكَيْفَ وَالْقَوْلُ الَّذِي يَقُولُهُ وَيُلْزِمُ بِهِ هُوَ خِلَافَ نَصِّ مَالِكٍ وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ وَخِلَافَ نَصِّ الْأَشْعَرِيِّ وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ : كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْحَسَنِ الطبري،

وَأَبِي بَكْرِ بْنِ فورك وَأَبِي الْقَاسِمِ القشيري وَأَبِي بَكْرٍ البيهقي ؟ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ ، كُلُّهُمْ مُصَرِّحُونَ بِمِثْلِ مَا قُلْنَاهُ ، وَبِنَقِيضِ مَا قَالَهُ . وَلِهَذَا اصْطَلَحَتْ الْحَنْبَلِيَّةُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَاتَّفَقَ النَّاسُ كُلُّهُمْ . وَلَمَّا رَأَى الْحَنْبَلِيَّةُ كَلَامَ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ قَالُوا : هَذَا خَيْرٌ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ الْمُوَفَّقِ وَزَالَ مَا كَانَ فِي الْقُلُوبِ مِنْ الْأَضْغَانِ وَصَارَ الْفُقَهَاءُ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ : يَقُولُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى اتِّفَاقِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ . ثُمَّ لَوْ فُرِضَ أَنَّ هَذَا الَّذِي حَكَمَ فِيهِ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ : لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَ غَيْرِهِ فَكَيْفَ إذَا نُقِضَ حُكْمُ حُكَّامِ الشَّامِ جَمِيعِهِمْ بِلَا شُبْهَةٍ ، بَلْ بِمَا يُخَالِفُ دِينَ الْمُسْلِمِينَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّ حُكَّامَ الشَّامِ مُكْرَهُونَ ، فَفِيهِمْ مَنْ يُصَرِّحُ بِعَدَمِ الْإِكْرَاهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَهَؤُلَاءِ بِمِصْرِ كَانُوا أَظْهَرَ إكْرَاهًا لِمَا اُشْتُهِرَ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَجْلِ غَرَضِ الدَّوْلَةِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُلْكِ وَأَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَتَكَلَّمَ الْحُكَّامُ بِأَشْيَاءَ وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ حُكَّامِ مِصْرَ . فَكَيْفَ وَهَذَا الْحُكْمُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ مُخَالِفٌ لِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ بِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَجْهًا ؟ وَعَامَّتُهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْوُجُوهُ مَكْتُوبَةٌ مَعَ الشَّرَفِ مُحَمَّدٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَرَّفَ الشَّيْخُ " نَصْرٌ " بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَبَاطِنِ الْقَضِيَّةِ لِيَطِبَّهَا بِتَدْبِيرِهِ . فَأَنَا لَيْسَ مُرَادِي إلَّا طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا يُخَافُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ إلَّا مِنْ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ : كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ . وَقَدْ سَمِعْتُمْ مَا جَرَى بِدِمَشْقَ - مَعَ أَنَّ

أُولَئِكَ أَقْرَبُ إلَى الِاتِّفَاقِ - مِنْ تَجْدِيدِ الْقَاضِي الْمَذْكُورِ إسْلَامُهُ عِنْدَ الْقَاضِي الْآخَرِ . وَأَنَا لَمَّا كُنْت هُنَاكَ كَانَ هَذَا الْآذِنُ " يَحْيَى الْحَنَفِيُّ " فَذَهَبَ إلَى الْقَاضِي تَقِيِّ الدِّينِ الْحَنْبَلِيِّ وَجَدَّدَ إسْلَامَهُ وَحَكَمَ بِحَقْنِ دَمِهِ لَمَّا قَامَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِمْ فِي أَشْيَاءَ . وَكَانَ مِنْ مُدَّةٍ لَمَّا كَانَ الْقَاضِي حُسَامُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ مُبَاشِرًا لِقَضَاءِ الشَّامِ : أَرَادَ أَنْ يَحْلِقَ لِحْيَةَ هَذَا الأذرعي وَأَحْضَرَ الْمُوسَى وَالْحِمَارَ لِيَرْكَبَهُ وَيَطُوفَ بِهِ فَجَاءَ أَخُوهُ عَرَّفَنِي ذَلِكَ فَقُمْت إلَيْهِ وَلَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى كَفَّ عَنْ ذَلِكَ . وَجَرَتْ أُمُورٌ لَمْ أَزَلْ فِيهَا مُحْسِنًا إلَيْهِمْ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَيْسَتْ مِنْ فِعْلِي وَلَا فِعْلِ أَمْثَالِي . نَحْنُ إنَّمَا نَدْخُلُ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ، لَيْسَ لَنَا غَرَضٌ مَعَ أَحَدٍ ، بَلْ نَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ وَنَعْفُو وَنَغْفِرُ . وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ قَدْ انْتَشَرَتْ وَظَهَرَ مَا فَعَلَ فِيهَا وَعِلْمُهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ . فَلَوْ تَغَيَّرَتْ الْأَحْوَالُ حَتَّى جَاءَ أَمِيرٌ أَوْ وَزِيرٌ لَهُ فِي نَقْلِ مِلْكٍ قَدْ أَثْبَتَهُ أَوْ حَكَمَ بِهِ : لَكَانَ هَذَا عِنْدَ الْمِصْرِيِّينَ مِنْ أَسْهَلِ مَا يَكُونُ . فَيُثْبِتُونَ رِدَّتَهُ وَالْمُرْتَدُّ أَحْكَامُهُ مَرْدُودَةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَيَعُودُ ضَرَرُهُ عَلَى الَّذِينَ أَعَانُوهُ وَنَصَرُوهُ بِالْبَاطِلِ مِنْ أَهْلِ الدَّوْلَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَهَذَا أَمْرٌ كَبِيرٌ لَا يَنْبَغِي إهْمَالُهُ . فَالشَّيْخُ خَبِيرٌ يَعْرِفُ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ .

وَأَنَا وَاَللَّهِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ مُعَاوَنَةً عَلَى إطْفَاءِ كُلِّ شَرٍّ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا وَإِقَامَةِ كُلِّ خَيْرٍ ، وَابْنُ مَخْلُوفٍ لَوْ عَمِلَ مَهْمَا عَمِلَ وَاَللَّهِ مَا أَقْدِرُ عَلَى خَيْرٍ إلَّا وَأَعْمَلُهُ مَعَهُ وَلَا أُعِينُ عَلَيْهِ عَدُوَّهُ قَطُّ . وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . هَذِهِ نِيَّتِي وَعَزْمِي ، مَعَ عِلْمِي بِجَمِيعِ الْأُمُورِ . فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَنْ أَكُونَ عَوْنًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى إخْوَانِي الْمُسْلِمِينَ . وَلَوْ كُنْت خَارِجًا لَكُنْت أَعْلَمُ بِمَاذَا أُعَاوِنُهُ ، لَكِنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدْ فَعَلُوهَا زُورًا وَاَللَّهُ يَخْتَارُ لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعِهِمْ مَا فِيهِ الْخِيَرَةُ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ . وَلَنْ يَنْقَطِعَ الدَّوْرُ وَتَزُولَ الْحَيْرَةُ إلَّا بِالْإِنَابَةِ إلَى اللَّهِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ وَصِدْقِ الِالْتِجَاءِ . فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا مَلْجَأَ مِنْهُ إلَّا إلَيْهِ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ .
وَأَمَّا مَا ذَكَرْت عَنْ الشَّيْخِ " نَصْرٍ " أَنَّهُ قَالَ : كُنْت أوثر أَنْ لَا يُحِسُّوا بِهِ إلَّا وَقَدْ خَرَجَ خَشْيَةَ أَنْ يَعْلَمَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَيَطَّلِعُوا وَيَتَكَلَّمُوا . فَتَكْثُرَ الْغَوْغَاءُ وَالْكَلَامُ فَعَرَّفَهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ حَقًّا : فَأَنَا أَحَقُّ مَنْ سَمِعَ الْحَقَّ وَالْتَزَمَهُ وَقَبِلَهُ . سَوَاءٌ كَانَ حُلْوًا أَوْ مُرًّا وَأَنَا أَحَقُّ أَنْ يَتُوبَ مِنْ ذُنُوبِهِ الَّتِي صَدَرَتْ مِنْهُ ، بَلْ وَأَحَقُّ بِالْعُقُوبَةِ إذَا كُنْت أُضِلُّ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ . وَقَدْ قُلْت فِيمَا مَضَى : مَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَحْمِلَهُ تَحَنُّنُهُ لِشَخْصِ وَمُوَالَاتُهُ لَهُ عَلَى أَنْ يَتَعَصَّبَ مَعَهُ بِالْبَاطِلِ أَوْ يُعَطِّلَ لِأَجْلِهِ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى ، بَلْ قَدْ قَالَ

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدَ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ } " . وَهَذَا الَّذِي يَخَافُهُ - مِنْ قِيَامِ " الْعَدُوِّ " وَنَحْوِهِ فِي الْمَحْضَرِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ مِنْ الشَّامِ إلَى ابْنِ مَخْلُوفٍ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِغَاثَةِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ أَظْهَرُوهُ كَانَ وَبَالُهُ عَلَيْهِمْ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَدِينِ النَّصَارَى . فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا عَلِمُوهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْبُدَ وَلَا يَدْعُوَ وَلَا يَسْتَغِيثَ وَلَا يَتَوَكَّلَ إلَّا عَلَى اللَّهِ ، وَأَنَّ مَنْ عَبَدَ مَلَكًا مُقَرَّبًا أَوْ نَبِيًّا مُرْسَلًا أَوْ دَعَاهُ أَوْ اسْتَغَاثَ بِهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ . فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ يَا جبرائيل أَوْ يَا ميكائيل أَوْ يَا إبْرَاهِيمُ أَوْ يَا مُوسَى أَوْ يَا رَسُولَ اللَّهِ اغْفِرْ لِي أَوْ ارْحَمْنِي أَوْ اُرْزُقْنِي أَوْ اُنْصُرْنِي أَوْ أَغِثْنِي أَوْ أَجِرْنِي مِنْ عَدُوِّي أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ، بَلْ هَذَا كُلُّهُ مِنْ خَصَائِصِ الْإِلَهِيَّةِ . وَهَذِهِ مَسَائِلُ شَرِيفَةٌ مَعْرُوفَةٌ قَدْ بَيَّنَهَا الْعُلَمَاءُ وَذَكَرُوا الْفَرْقَ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا [ دُونَ ] (1) الرُّسُلِ . وَالْحُقُوقِ الَّتِي لَهُ وَلِرُسُلِهِ ، كَمَا يُمَيِّزُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ ذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } فَالتَّعْزِيرُ وَالتَّوْقِيرُ لِلرَّسُولِ ، وَالتَّسْبِيحُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا لِلَّهِ .

وَكَمَا قَالَ : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } . فَالطَّاعَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَالْخَشْيَةُ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ وَكَمَا يَقُولُ الْمُرْسَلُونَ : { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } فَيَجْعَلُونَ الْعِبَادَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ وَيَجْعَلُونَ لَهُمْ الطَّاعَةَ قَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } { قُلْ إنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا } { قُلْ إنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا } { قُلْ إنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } وَقَالَ تَعَالَى . { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ

تَدْرُسُونَ } { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } فَمَنْ اتَّخَذَ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا فَقَدْ كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلِأَجْلِ هَذَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَعَنْ أَنْ يُجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا فِي خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ : فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } " يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا } " . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ } " . { وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت ، فَقَالَ : أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا ؟ قُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ } " . وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ : مَنْ زَارَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلِمُهُ وَلَا يُقَبِّلُهُ وَلَا يُشَبِّهُ بَيْتَ الْمَخْلُوقِ بِبَيْتِ الْخَالِقِ : الَّذِي يُسْتَلَمُ وَيُقَبَّلُ مِنْهُ الرُّكْنُ الْأَسْوَدُ وَيُسْتَلَمُ الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ تَقْبِيلُ شَيْءٍ مِنْ الْأَحْجَارِ وَلَا اسْتِلَامُهُ - إلَّا الرُّكْنَانِ الْيَمَانِيَّانِ - حَتَّى " مَقَامَ إبْرَاهِيمَ " الَّذِي بِمَكَّةَ لَا يُقَبَّلُ وَلَا يُتَمَسَّحُ بِهِ فَكَيْفَ بِمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَقَامَاتِ وَالْمَشَاهِدِ

وَأَنْتَ لَمَّا ذَكَرْت فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ هَذَا قُلْت لَك هَذَا مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ . فَإِذَا كَانَ الْقَاضِي لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ دِينِ الْإِسْلَامِ وَدِينِ النَّصَارَى الَّذِينَ يَدْعُونَ الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ فَكَيْفَ أَصْنَعُ أَنَا ؟ .
وَلَكِنْ مَنْ يَتَّخِذُ نَفِيسَةً رِبًا وَيَقُولُ : إنَّهَا تُجِيرُ الْخَائِفَ وَتُغِيثُ الْمَلْهُوفَ وَأَنَا فِي حَسَبِهَا وَيَسْجُدُ لَهَا وَيَتَضَرَّعُ فِي دُعَائِهَا مِثْلَ مَا يُتَضَرَّعُ فِي دُعَاءِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ وَيُتَوَكَّلُ عَلَى حَيٍّ قَدْ مَاتَ وَلَا يَتَوَكَّلُ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ إشْرَاكَهُ بِمَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا يَكُونُ أَقْوَى . قَالَ تَعَالَى : { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } . وَحَدِيثُ { مُعَاذٍ لَمَّا رَجَعَ مِنْ الشَّامِ فَسَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا هَذَا يَا مُعَاذُ فَقَالَ : رَأَيْتهمْ فِي الشَّامِ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ عَنْ أَنْبِيَائِهِمْ فَقَالَ يَا مُعَاذُ : أَرَأَيْت لَوْ مَرَرْت بِقَبْرِي أَكُنْت سَاجِدًا لَهُ ؟ قَالَ لَا قَالَ : فَلَا تَسْجُدْ لِي ، فَلَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا } . فَمَنْ لَا يَنْهَى الضَّالِّينَ عَنْ مِثْلِ هَذَا الشِّرْكِ الْمُحَرَّمِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . كَيْفَ يَنْهَى عَمَّا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ ؟ وَمَنْ دَعَا رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَهُوَ مُضَاهٍ لِمَنْ اتَّخَذَ الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَنَّهُ قَالَ : " { لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ } " . بَلْ مَنْ سَوَّغَ أَنْ يُدْعَى الْمَخْلُوقُ وَمَنَعَ مِنْ دُعَاءِ الْخَالِقِ الَّذِي فِيهِ تَحْقِيقُ صَمَدِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ فَقَدْ نَاقَضَ " الْإِسْلَامَ " فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ : وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . وَأَمَّا حُقُوقُ رَسُولِ اللَّهِ - بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي - مِثْلُ تَقْدِيمِ مَحَبَّتِهِ عَلَى النَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ ، وَتَعْزِيرُهُ وَتَوْقِيرُهُ وَإِجْلَالُهُ وَطَاعَتُهُ وَاتِّبَاعُ سُنَّتِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ فَعَظِيمَةٌ جِدًّا . [ وَكَذَلِكَ مِمَّا يُشْرَعُ التَّوَسُّلُ بِهِ فِي الدُّعَاءِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ شَخْصًا أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَتَوَسَّلُ بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي لِيَقْضِيَهَا اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِي } " فَهَذَا التَّوَسُّلُ بِهِ حَسَنٌ ] (*) . وَأَمَّا دُعَاؤُهُ وَالِاسْتِغَاثَةُ بِهِ : فَحَرَامٌ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . الْمُتَوَسِّلُ إنَّمَا يَدْعُو اللَّهَ وَيُخَاطِبُهُ وَيَطْلُبُ مِنْهُ لَا يَدْعُو غَيْرَهُ إلَّا عَلَى سَبِيلِ اسْتِحْضَارِهِ ، لَا عَلَى سَبِيلِ الطَّلَبِ مِنْهُ وَأَمَّا الدَّاعِي وَالْمُسْتَغِيثُ فَهُوَ الَّذِي يَسْأَلُ الْمَدْعُوَّ وَيَطْلُبُ مِنْهُ وَيَسْتَغِيثُهُ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ

وَمَالِكُ الْمُلْكِ وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الَّذِي يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَهُوَ الْقَرِيبُ الَّذِي يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إذَا دَعَاهُ وَهُوَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا . وَأَنَا قَدْ صَنَّفْت كِتَابًا كَبِيرًا سَمَّيْته " الصَّارِمَ الْمَسْلُولَ عَلَى شَاتِمِ الرَّسُولِ " وَذَكَرْت فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا لَمْ أَعْرِفْ أَحَدًا سَبَقَ إلَيْهِ . وَكَذَلِكَ هَذِهِ " الْقَوَاعِدُ الْإِيمَانِيَّةُ " قَدْ كَتَبْت فِيهَا فُصُولًا هِيَ مِنْ أَنْفَعِ الْأَشْيَاءِ فِي أَمْرِ الدِّينِ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ بِهِ الشَّيْخُ أَنِّي أَخَافُ أَنَّ الْقَضِيَّةَ تَخْرُجُ عَنْ أَمْرِهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَكُونُ فِيهَا مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ وَعَلَى ابْنِ مَخْلُوفٍ وَنَحْوِهِمَا ، فَإِنَّهُ قَدْ طَلَبَ مِنِّي مَا يَجْعَلُ سَبَبًا لِذَلِكَ وَلَمْ أُجِبْ إلَيْهِ فَإِنِّي إنَّمَا أَنَا لَوْنٌ وَاحِدٌ وَاَللَّهُ مَا غَشَشْتُهُمَا قَطُّ وَلَوْ غَشَشْتُهُمَا كَتَمْت ذَلِكَ . وَأَنَا مُسَاعِدٌ لَهُمَا عَلَى كُلِّ بِرٍّ وَتَقْوَى . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي تَصْلُحُ عَلَيْهِ الْأُمُورُ رُجُوعُ كُلِّ شَخْصٍ إلَى اللَّهِ وَتَوْبَتُهُ إلَيْهِ فِي هَذَا الْعَشْرِ الْمُبَارَكِ . فَإِذَا حَسُنَتْ السَّرَائِرُ أَصْلَحَ اللَّهُ الظَّوَاهِرَ . فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ كَبِيرَةٌ كُلَّمَا كَانَتْ تَزْدَادُ ظُهُورًا تَزْدَادُ انْتِشَارًا . وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ : تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ { فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } { وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .

وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي أمامة الْبَاهِلِيِّ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَوَارِجِ أَنَّهُمْ كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ } وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارِجِ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ ، وَقَدْ خَرَّجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ طَائِفَةً مِنْهَا . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ . يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمْيَةِ - وَفِي رِوَايَةٍ - يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ } ".
وَالْخَوَارِجُ هُمْ أَوَّلُ مَنْ كَفَّرَ الْمُسْلِمِينَ يُكَفِّرُونَ بِالذُّنُوبِ ، وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي بِدْعَتِهِمْ وَيَسْتَحِلُّونَ دَمَهُ وَمَالَهُ . وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ يَبْتَدِعُونَ بِدْعَةً وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا . وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَتَّبِعُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَيَتَّبِعُونَ الْحَقَّ وَيَرْحَمُونَ الْخَلْقَ .
وَأَوَّلُ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةُ الْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ حَدَثَتَا فِي أَثْنَاءِ خِلَافَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَعَاقَبَ الطَّائِفَتَيْنِ . أَمَّا الْخَوَارِجُ فَقَاتَلُوهُ فَقَتَلَهُمْ وَأَمَّا الشِّيعَةُ فَحَرَّقَ غَالِيَتَهُمْ بِالنَّارِ وَطَلَبَ قَتْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ فَهَرَبَ مِنْهُ وَأَمَرَ بِجَلْدِ مَنْ يُفَضِّلُهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ . وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ قَالَ : خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ، وَرَوَاهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ .

فَصْلٌ :
وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ الْجُمَعَ وَالْأَعْيَادَ وَالْجَمَاعَاتِ لَا يَدَعُونَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْبِدَعِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مَسْتُورًا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ بِدْعَةٌ وَلَا فُجُورٌ صَلَّى خَلْفَهُ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ إلَّا خَلْفَ مَنْ عُلِمَ بَاطِنُ أَمْرِهِ بَلْ مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ بَعْدِ نَبِيِّهِمْ يُصَلُّونَ خَلْفَ الْمُسْلِمِ الْمَسْتُورِ وَلَكِنْ إذَا ظَهَرَ مِنْ الْمُصَلِّي بِدْعَةٌ أَوْ فُجُورٌ وَأَمْكَنَ الصَّلَاةُ خَلْفَ مَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ أَوْ فَاسِقٌ مَعَ إمْكَانِ الصَّلَاةِ خَلْفَ غَيْرِهِ فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يُصَحِّحُونَ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْ الصَّلَاةُ إلَّا خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ أَوْ الْفَاجِرِ كَالْجُمُعَةِ الَّتِي إمَامُهَا مُبْتَدِعٌ أَوْ فَاجِرٌ وَلَيْسَ هُنَاكَ جُمُعَةٌ أُخْرَى فَهَذِهِ تُصَلَّى خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ وَالْفَاجِرِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَهُمْ . وَكَانَ بَعْضُ النَّاسِ إذَا كَثُرَتْ الْأَهْوَاءُ يُحِبُّ أَنْ لَا يُصَلِّيَ إلَّا خَلْفَ مَنْ يَعْرِفُهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِمَنْ سَأَلَهُ . وَلَمْ يَقُلْ أَحْمَدُ إنَّهُ لَا تَصِحُّ إلَّا خَلْفَ مَنْ أَعْرِفُ حَالَهُ .

وَلَمَّا قَدِمَ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ مَرْزُوقٍ إلَى دِيَارِ مِصْرَ وَكَانَ مُلُوكُهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مُظْهِرِينَ لِلتَّشَيُّعِ وَكَانُوا بَاطِنِيَّةً مَلَاحِدَةً وَكَانَ بِسَبَبِ ذَلِكَ قَدْ كَثُرَتْ الْبِدَعُ وَظَهَرَتْ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ - أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ لَا يُصَلُّوا إلَّا خَلْفَ مَنْ يَعْرِفُونَهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ ثُمَّ بَعْدَ مَوْتِهِ فَتَحَهَا مُلُوكُ السُّنَّة مِثْلُ صَلَاحِ الدِّينِ وَظَهَرَتْ فِيهَا كَلِمَةُ السُّنَّةِ الْمُخَالِفَةُ لِلرَّافِضَةِ ثُمَّ صَارَ الْعِلْمُ وَالسُّنَّةُ يَكْثُرُ بِهَا وَيَظْهَرُ . فَالصَّلَاةُ خَلْفَ الْمَسْتُورِ جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ قَالَ إنَّ الصَّلَاةَ مُحَرَّمَةٌ أَوْ بَاطِلَةٌ خَلْفَ مَنْ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يُصَلُّونَ خَلْفَ مَنْ يَعْرِفُونَ فُجُورَهُ كَمَا صَلَّى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ خَلْفَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي معيط وَكَانَ قَدْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَصَلَّى مَرَّةً الصُّبْحَ أَرْبَعًا وَجَلَدَهُ عُثْمَانُ بْنُ عفان عَلَى ذَلِكَ . وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ يُصَلُّونَ خَلْفَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ . وَكَانَ الصَّحَابَةُ وَالَتَا بعون يُصَلُّونَ خَلْفَ ابْنِ أَبِي عُبَيْدٍ وَكَانَ مُتَّهَمًا بِالْإِلْحَادِ وَدَاعِيًا إلَى الضَّلَالِ .

فَصْلٌ :
وَلَا يَجُوزُ تَكْفِيرُ الْمُسْلِمِ بِذَنْبِ فَعَلَهُ وَلَا بِخَطَأِ أَخْطَأَ فِيهِ كَالْمَسَائِلِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ الْقِبْلَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ وَغَفَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ خَطَأَهُمْ . وَالْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ الَّذِينَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ . وَاتَّفَقَ عَلَى قِتَالِهِمْ أَئِمَّةُ الدِّينِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ . وَلَمْ يُكَفِّرْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ بَلْ جَعَلُوهُمْ مُسْلِمِينَ مَعَ قِتَالِهِمْ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ عَلِيٌّ حَتَّى سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ وَأَغَارُوا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَقَاتَلَهُمْ لِدَفْعِ ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ لَا لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ . وَلِهَذَا لَمْ يَسْبِ حَرِيمَهُمْ وَلَمْ يَغْنَمْ أَمْوَالَهُمْ . وَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ثَبَتَ ضَلَالُهُمْ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لَمْ يُكَفَّرُوا مَعَ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِقِتَالِهِمْ فَكَيْفَ بِالطَّوَائِفِ الْمُخْتَلِفِينَ الَّذِينَ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ الْحَقُّ فِي مَسَائِلَ غَلِطَ فِيهَا مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ ؟ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ مِنْ هَذِهِ

الطَّوَائِفِ أَنْ تُكَفِّرَ الْأُخْرَى وَلَا تَسْتَحِلَّ دَمَهَا وَمَالَهَا وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا بِدْعَةٌ مُحَقَّقَةٌ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الْمُكَفِّرَةُ لَهَا مُبْتَدِعَةً أَيْضًا ؟ وَقَدْ تَكُونُ بِدْعَةُ هَؤُلَاءِ أَغْلَظَ وَالْغَالِبُ أَنَّهُمْ جَمِيعًا جُهَّالٌ بِحَقَائِقِ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ . وَالْأَصْلُ أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ مُحَرَّمَةٌ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَا تَحِلُّ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَطَبَهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ " { إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا } " وَقَالَ " { كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ : دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ } " . وَقَالَ " { مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } " وَقَالَ " { إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ ؟ قَالَ : إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ } " وَقَالَ : " { لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ } " وَقَالَ " { إذَا قَالَ الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا } " وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا فِي الصِّحَاحِ . وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ مُتَأَوِّلًا فِي الْقِتَالِ أَوْ التَّكْفِيرِ لَمْ يُكَفَّرْ بِذَلِكَ كَمَا { قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بلتعة : يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ

عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ ؟ } وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَفِيهِمَا أَيْضًا : مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ : { أَنَّ أسيد بْنَ الحضير . قَالَ لِسَعْدِ بْنِ عبادة : إنَّك مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ وَاخْتَصَمَ الْفَرِيقَانِ فَأَصْلَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ } . فَهَؤُلَاءِ الْبَدْرِيُّونَ فِيهِمْ مَنْ قَالَ لِآخَرَ مِنْهُمْ : إنَّك مُنَافِقٌ وَلَمْ يُكَفِّرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا هَذَا وَلَا هَذَا بَلْ شَهِدَ لِلْجَمِيعِ بِالْجَنَّةِ . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَتَلَ رَجُلًا بَعْدَ مَا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَعَظَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لَمَّا أَخْبَرَهُ وَقَالَ يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْته بَعْدَ مَا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ وَكَرَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ أُسَامَةُ : تَمَنَّيْت أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْت إلَّا يَوْمَئِذٍ } . وَمَعَ هَذَا لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ قَوَدًا وَلَا دِيَةً وَلَا كَفَّارَةً لِأَنَّهُ كَانَ مُتَأَوِّلًا ظَنَّ جَوَازَ قَتْلِ ذَلِكَ الْقَائِلِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ قَالَهَا تَعَوُّذًا . فَهَكَذَا السَّلَفُ قَاتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين وَنَحْوِهِمْ وَكُلُّهُمْ مُسْلِمُونَ مُؤْمِنُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ اقْتِتَالِهِمْ وَبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إخْوَةٌ مُؤْمِنُونَ وَأَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ .

وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ مَعَ الِاقْتِتَالِ يُوَالِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا مُوَالَاةَ الدِّينِ ، لَا يُعَادُونَ كَمُعَادَاةِ الْكُفَّارِ فَيَقْبَلُ بَعْضُهُمْ شَهَادَةَ بَعْضٍ وَيَأْخُذُ بَعْضُهُمْ الْعِلْمَ عَنْ بَعْضٍ وَيَتَوَارَثُونَ وَيَتَنَاكَحُونَ وَيَتَعَامَلُونَ بِمُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ ، مَعَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْقِتَالِ وَالتَّلَاعُنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتَهُ بِسَنَةِ عَامَّةٍ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ وَسَأَلَهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ وَسَأَلَهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَلَمْ يُعْطَ ذَلِكَ } " وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ يَغْلِبُهُمْ كُلَّهُمْ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا وَبَعْضُهُمْ يَسْبِي بَعْضًا . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } قَالَ أَعُوذُ بِوَجْهِك { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قَالَ أَعُوذُ بِوَجْهِك { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قَالَ هَاتَانِ أَهْوَنُ } " . هَذَا مَعَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف وَنَهَى عَنْ الْبِدْعَةِ وَالِاخْتِلَافِ وَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ } " وَقَالَ : " { الشَّيْطَانُ

مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ } " وَقَالَ : " { الشَّيْطَانُ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ وَالذِّئْبُ إنَّمَا يَأْخُذُ الْقَاصِيَةَ وَالنَّائِيَةَ مِنْ الْغَنَمِ } " . فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا صَارَ فِي مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُمْ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَيُوَالِيَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يُعَادِيَهُمْ وَإِنْ رَأَى بَعْضَهُمْ ضَالًّا أَوْ غَاوِيًا وَأَمْكَنَ أَنْ يَهْدِيَهُ وَيُرْشِدَهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُوَلِّيَ فِي إمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَفْضَلَ وَلَّاهُ وَإِنْ قَدَرَ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يُظْهِرُ الْبِدَعَ وَالْفُجُورَ مَنَعَهُ . وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ فَالصَّلَاةُ خَلْفَ الْأَعْلَمِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ الْأَسْبَقِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَفْضَلُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً . فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا } " . وَإِنْ كَانَ فِي هَجْرِهِ لِمُظْهِرِ الْبِدْعَةِ وَالْفُجُورِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ هَجَرَهُ كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ . وَأَمَّا إذَا وَلَّى غَيْرَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَيْسَ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ كَانَ تَفْوِيتُ هَذِهِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ جَهْلًا وَضَلَالًا وَكَانَ قَدْ رَدَّ بِدْعَةً بِبِدْعَةِ . حَتَّى إنَّ الْمُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ خَلْفَ الْفَاجِرِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي إعَادَتِهِ الصَّلَاةَ وَكَرِهَهَا أَكْثَرُهُمْ حَتَّى قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ عبدوس : مَنْ أَعَادَهَا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ . وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يُعِيدُونَ الصَّلَاةَ إذَا صَلَّوْا خَلْفَ

أَهْلِ الْفُجُورِ وَالْبِدَعِ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ أَحَدًا إذَا صَلَّى كَمَا أَمَرَ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ . وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ صَلَّى بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ لَا يُعِيدَ حَتَّى الْمُتَيَمِّمَ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ وَمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ إذَا صَلَّى بِحَسَبِ حَالِهِ وَالْمَحْبُوسُ وذووا الْأَعْذَارِ النَّادِرَةِ وَالْمُعْتَادَةِ وَالْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْقَطِعَةِ لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ إذَا صَلَّى الْأُولَى بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الصَّحَابَةَ صَلَّوْا بِغَيْرِ مَاءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ لَمَّا فَقَدَتْ عَائِشَةُ عِقْدَهَا وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعَادَةِ بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ جَهْلًا بِوُجُوبِهَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ فَعَمْرٌ وَعَمَّارٌ لَمَّا أَجْنَبَا وَعَمْرٌ لَمْ يُصَلِّ وَعَمَّارٌ تَمَرَّغَ كَمَا تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ لَمْ يَأْمُرْهُمَا بِالْقَضَاءِ وَأَبُو ذَرٍّ لَمَّا كَانَ يُجْنِبُ وَلَا يُصَلِّي لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ وَالْمُسْتَحَاضَةُ لَمَّا اسْتَحَاضَتْ حَيْضَةً شَدِيدَةً مُنْكَرَةً مَنَعَتْهَا الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ لَمْ يَأْمُرْهَا بِالْقَضَاءِ . وَاَلَّذِينَ أَكَلُوا فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِأَحَدِهِمْ الْحَبْلُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْحَبْلِ الْأَسْوَدِ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقَضَاءِ وَكَانُوا قَدْ غَلِطُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَظَنُّوا أَنَّ قَوْله تَعَالَى { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } هُوَ الْحَبْلُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ } " وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقَضَاءِ ، وَالْمُسِيءُ فِي صَلَاتِهِ لَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الصَّلَوَاتِ وَاَلَّذِينَ صَلَّوْا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِمَكَّةَ وَالْحَبَشَةِ وَغَيْرِهِمَا بَعْدَ أَنْ نُسِخَتْ ( بِالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ وَصَارُوا يُصَلُّونَ إلَى الصَّخْرَةِ حَتَّى بَلَغَهُمْ

النَّسْخُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ مَا صَلَّوْا وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ أَعْذَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ لِتَمَسُّكِهِمْ بِشَرْعِ مَنْسُوخٍ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي خِطَابِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ هَلْ يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْعَبِيدِ قَبْلَ الْبَلَاغِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . قِيلَ يَثْبُتُ وَقِيلَ لَا يَثْبُتُ وَقِيلَ يَثْبُتُ الْمُبْتَدَأُ دُونَ النَّاسِخِ . وَالصَّحِيحُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } وَقَوْلِهِ { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَا أَحَدٌ أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } " . فَالْمُتَأَوِّلُ وَالْجَاهِلُ الْمَعْذُورُ لَيْسَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُعَانِدِ وَالْفَاجِرِ بَلْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا .

فَصْلٌ :
أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ يَجْزِمُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَقْطَعُونَ بِهِ وَلَا يَرْتَابُونَ وَكُلُّ مَا عَلِمَهُ الْمُسْلِمُ وَجَزَمَ بِهِ فَهُوَ يَقْطَعُ بِهِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَادِرًا عَلَى تَغْيِيرِهِ فَالْمُسْلِمُ يَقْطَعُ بِمَا يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ وَيَقْطَعُ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ وَإِذَا قَالَ الْمُسْلِمُ أَنَا أَقْطَعُ بِذَلِكَ فَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَغْيِيرِهِ بَلْ مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ إمَاتَةِ الْخَلْقِ وَإِحْيَائِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَعَلَى تَسْيِيرِ الْجِبَالِ وَتَبْدِيلِ الْأَرْضِ غَيْرِ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَاَلَّذِينَ يَكْرَهُونَ لَفْظَ الْقَطْعِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ هُمْ قَوْمٌ أَحْدَثُوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الشَّيْخُ يُنْكِرُ هَذَا ، وَلَكِنْ أَصْلُ هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَيَسْتَثْنُونَ فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ . صَلَّيْت إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَمُرَادُ السَّلَفِ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ إمَّا لِكَوْنِهِ لَا يَقْطَعُ بِأَنَّهُ فَعَلَ الْوَاجِبَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَيَشُكُّ فِي قَبُولِ اللَّهِ لِذَلِكَ فَاسْتَثْنَى ذَلِكَ أَوْ لِلشَّكِّ فِي الْعَاقِبَةِ أَوْ يَسْتَثْنِي لِأَنَّ الْأُمُورَ جَمِيعَهَا إنَّمَا تَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَتَدْخُلُنَّ

الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ } مَعَ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ بِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ أَوْ لِئَلَّا يُزَكِّيَ أَحَدُهُمْ نَفْسَهُ . وَكَانَ أُولَئِكَ يَمْتَنِعُونَ عَنْ الْقَطْعِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ جُهَّالٌ فَكَرِهُوا لَفْظَ الْقَطْعِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ مَكْذُوبَةً وَكُلُّ مَنْ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَنْ أَصْحَابِهِ أَوْ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ كَرِهَ لَفْظَ الْقَطْعِ فِي الْأُمُورِ الْمَجْزُومِ بِهَا فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ . وَصَارَ الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَظُنُّ أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ فَقَدْ أَقَرَّ بِأَمْرِ عَظِيمٍ فِي الدِّينِ وَهَذَا جَهْلٌ وَضَلَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ لَمْ يَسْبِقْهُمْ إلَى هَذَا أَحَدٌ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا كَانَ شَيْخُهُمْ أَبُو عَمْرِو بْنُ مَرْزُوقٍ وَلَا أَصْحَابُهُ فِي حَيَاتِهِ وَلَا خِيَارُ أَصْحَابِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ يَمْتَنِعُونَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ مُطْلَقًا بَلْ إنَّمَا فَعَلَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ جُهَّالِهِمْ . كَمَا أَنَّ طَائِفَةً أُخْرَى زَعَمُوا أَنَّ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَتَهُ وَإِنْ تَابَ وَرَوَوْا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " { سَبُّ أَصْحَابِي ذَنْبٌ لَا يُغْفَرُ } " وَهَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الْمُعْتَمَدَةِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } هَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَتُبْ . وَقَالَ فِي حَقِّ التَّائِبِينَ { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا

مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } فَثَبَتَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ سَبَّ الرَّسُولَ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُحَارَبِينَ ، وَقَالَ : هُوَ سَاحِرٌ أَوْ شَاعِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ مُعَلَّمٌ أَوْ مُفْتَرٍ وَتَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَقَدْ كَانَ طَائِفَةٌ يَسُبُّونَ النَّبِيَّ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَسْلَمُوا وَحَسُنَ إسْلَامُهُمْ وَقَبِلَ النَّبِيُّ مِنْهُمْ : مِنْهُمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَمِّ النَّبِيِّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ وَكَانَ قَدْ ارْتَدَّ وَكَانَ يَكْذِبُ عَلَى النَّبِيِّ وَيَقُولُ : أَنَا كُنْت أُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ ثُمَّ تَابَ وَأَسْلَمَ وَبَايَعَهُ النَّبِيُّ عَلَى ذَلِكَ . وَإِذَا قِيلَ : سَبُّ الصَّحَابَةِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ . قِيلَ : الْمُسْتَحِلُّ لِسَبِّهِمْ كالرافضي يَعْتَقِدُ ذَلِكَ دِينًا كَمَا يَعْتَقِدُ الْكَافِرُ سَبَّ النَّبِيِّ دِينًا . فَإِذَا تَابَ وَصَارَ يُحِبُّهُمْ وَيُثْنِي عَلَيْهِمْ وَيَدْعُو لَهُمْ مَحَا اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ بِالْحَسَنَاتِ . وَمَنْ ظَلَمَ إنْسَانًا فَقَذَفَهُ أَوْ اغْتَابَهُ أَوْ شَتَمَهُ ثُمَّ تَابَ قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ . لَكِنْ إنْ عَرَفَ الْمَظْلُومُ مَكَّنَهُ مِنْ أَخْذِ حَقِّهِ وَإِنْ قَذَفَهُ أَوْ اغْتَابَهُ وَلَمْ يَبْلُغْهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ : أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يُعْلِمُهُ أَنِّي اغْتَبْتُك وَقَدْ قِيلَ بَلْ يُحْسِنُ إلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ كَمَا أَسَاءَ إلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ . كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : كَفَّارَةُ الْغَيْبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْته . فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ قَدْ سَبَّ الصَّحَابَةَ أَوْ غَيْرَ الصَّحَابَةِ وَتَابَ فَإِنَّهُ يُحْسِنُ إلَيْهِمْ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ

مَا أَسَاءَ إلَيْهِمْ وَالْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ . كَمَا أَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي كَانَ يَسُبُّ النَّبِيَّ وَيَقُولُ إنَّهُ كَذَّابٌ إذَا تَابَ وَشَهِدَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ وَصَارَ يُحِبُّهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُصَلِّي عَلَيْهِ : كَانَتْ حَسَنَاتُهُ مَاحِيَةً لِسَيِّئَاتِهِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى { يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { حم } { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ إلَيْهِ الْمَصِيرُ } وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - : (*)
هَلْ يَجُوزُ الْخَوْضُ فِيمَا تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ مَسَائِلَ فِي أُصُولِ الدِّينِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا كَلَامٌ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قِيلَ بِالْجَوَازِ : فَمَا وَجْهُهُ ؟ وَقَدْ فَهِمْنَا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّهْيَ عَنْ الْكَلَامِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ . وَإِذَا قِيلَ بِالْجَوَازِ : فَهَلْ يَجِبُ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ نُقِلَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يَقْتَضِي وُجُوبَهُ ؟ وَهَلْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ مَا يَصِلُ إلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ مِنْ غَلَبَةِ الظَّنِّ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْقَطْعِ ؟ وَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى الْقَطْعِ فَهَلْ يُعْذَرُ فِي ذَلِكَ أَوْ يَكُونُ مُكَلَّفًا بِهِ ؟ وَهَلْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا قِيلَ بِالْوُجُوبِ : فَمَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ مِنْ الشَّارِعِ نَصٌّ يَعْصِمُ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْمَهَالِكِ - وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَرِيصًا عَلَى هَدْيِ أُمَّتِهِ ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فَقَوْلُ السَّائِلِ - هَلْ يَجُوزُ الْخَوْضُ فِيمَا تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ مَسَائِلَ فِي أُصُولِ الدِّينِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ فِيهَا كَلَامٌ أَمْ لَا ؟ - سُؤَالٌ وَرَدَ بِحَسَبِ مَا عُهِدَ مِنْ الْأَوْضَاعِ الْمُبْتَدَعَةِ الْبَاطِلَةِ . فَإِنَّ الْمَسَائِلَ الَّتِي هِيَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ - الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ تُسَمَّى أُصُولَ الدِّينِ - أَعْنِي الدِّينَ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ فِيهَا كَلَامٌ ؛ بَلْ هَذَا كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ إذْ كَوْنُهَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ ؛ وَأَنَّهَا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الدِّينُ ، ثُمَّ نَفْيُ نَقْلِ الْكَلَامِ فِيهَا عَنْ الرَّسُولِ يُوجِبُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ . إمَّا أَنَّ الرَّسُولَ أَهْمَلَ الْأُمُورَ الْمُهِمَّةَ الَّتِي يَحْتَاجُ الدِّينُ إلَيْهَا فَلَمْ يُبَيِّنْهَا ، أَوْ أَنَّهُ بَيَّنَهَا فَلَمْ تَنْقُلْهَا الْأُمَّةُ ، وَكِلَا هَذَيْنِ بَاطِلٌ قَطْعًا . وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَطَاعِنِ الْمُنَافِقِينَ فِي الدِّينِ ؛ وَإِنَّمَا يَظُنُّ هَذَا وَأَمْثَالُهُ مَنْ هُوَ جَاهِلٌ بِحَقَائِقِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ أَوْ جَاهِلٌ بِمَا يَعْقِلُهُ النَّاسُ بِقُلُوبِهِمْ أَوْ جَاهِلٌ بِهِمَا جَمِيعًا . فَإِنَّ جَهْلَهُ بِالْأَوَّلِ : يُوجِبُ عَدَمَ عِلْمِهِ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ . وَجَهْلَهُ بِالثَّانِي : يُوجِبُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْحَقَائِقِ الْمَعْقُولَةِ مَا يُسَمِّيهِ هُوَ

وَأَشْكَالُهُ عَقْلِيَّاتٍ ؛ وَإِنَّمَا هِيَ جهليات . وَجَهْلُهُ بِالْأَمْرَيْنِ : يُوجِبُ أَنْ يَظُنَّ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهَا مِنْ الْمَسَائِلِ وَالْوَسَائِلِ الْبَاطِلَةِ وَأَنْ يَظُنَّ عَدَمَ بَيَانِ الرَّسُولِ لِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَقِدَ فِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ لِطَوَائِفَ مِنْ أَصْنَافِ النَّاسِ حُذَّاقِهِمْ فَضْلًا عَنْ عَامَّتِهِمْ . وَذَلِكَ أَنَّ أُصُولَ الدِّينِ إمَّا أَنْ تَكُونَ مَسَائِلَ يَجِبُ اعْتِقَادُهَا قَوْلًا أَوْ قَوْلًا وَعَمَلًا كَمَسَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمُعَادِ . أَوْ دَلَائِلَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ .
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : فَكُلُّ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَاعْتِقَادِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَقَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيَانًا شَافِيًا قَاطِعًا لِلْعُذْرِ . إذْ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا بَلَّغَهُ الرَّسُولُ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ ، وَبَيَّنَهُ لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَا أَقَامَ اللَّهُ بِهِ الْحُجَّةَ عَلَى عِبَادِهِ فِيهِ بِالرُّسُلِ الَّذِينَ بَيَّنُوهُ وَبَلَّغُوهُ . وَكِتَابُ اللَّهِ الَّذِي نَقَلَ الصَّحَابَةُ ثُمَّ التَّابِعُونَ عَنْ الرَّسُولِ لَفْظَهُ وَمَعَانِيَهُ ، وَالْحِكْمَةُ الَّتِي هِيَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ الَّتِي نَقَلُوهَا أَيْضًا عَنْ الرَّسُولِ مُشْتَمِلَةٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى غَايَةِ الْمُرَادِ وَتَمَامِ الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَعَثَ إلَيْنَا رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِنَا يَتْلُو عَلَيْنَا آيَاتِهِ وَيُزَكِّينَا وَيُعَلِّمُنَا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ؛ الَّذِي أَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ وَأَتَمَّ عَلَيْنَا النِّعْمَةَ وَرَضِيَ لَنَا الْإِسْلَامَ دِينًا ؛ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى

لِلْمُسْلِمِينَ { مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } . وَإِنَّمَا يَظُنُّ عَدَمَ اشْتِمَالِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ عَلَى بَيَانِ ذَلِكَ مَنْ كَانَ نَاقِصًا فِي عَقْلِهِ وَسَمْعِهِ وَمَنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ النَّارِ الَّذِينَ قَالُوا : { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ وَجُهَّالِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ دَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ " فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَظُنُّ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ والمتفلسفة أَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا يَدُلُّ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ الصَّادِقِ . فَدَلَالَتُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ وَيَجْعَلُونَ مَا يُبْنَى عَلَيْهِ صِدْقُ الْمُخْبِرِ مَعْقُولَاتٍ مَحْضَةً . فَقَدْ غَلِطُوا فِي ذَلِكَ غَلَطًا عَظِيمًا ؛ بَلْ ضَلُّوا ضَلَالًا مُبِينًا فِي ظَنِّهِمْ : أَنَّ دَلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إنَّمَا هِيَ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ الْمُجَرَّدِ ؛ بَلْ الْأَمْرُ مَا عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا - أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ - مِنْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ مَا لَا يُقَدِّرُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْرَهُ . وَنِهَايَةُ مَا يَذْكُرُونَهُ جَاءَ الْقُرْآنُ بِخُلَاصَتِهِ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ وَذَلِكَ كَالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ الَّتِي يَذْكُرُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الَّتِي قَالَ فِيهَا { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ } فَإِنَّ الْأَمْثَالَ الْمَضْرُوبَةَ هِيَ " الْأَقْيِسَةُ الْعَقْلِيَّةُ " سَوَاءٌ كَانَتْ قِيَاسَ شُمُولٍ أَوْ قِيَاسَ تَمْثِيلٍ . وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا يُسَمُّونَهُ بَرَاهِينَ وَهُوَ

الْقِيَاسُ الشُّمُولِيُّ الْمُؤَلَّفُ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ الْيَقِينِيَّةِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْبُرْهَانِ فِي اللُّغَةِ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا سَمَّى اللَّهُ آيَتَيْ مُوسَى بُرْهَانَيْنِ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ الْعِلْمَ الْإِلَهِيَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ فِيهِ بِقِيَاسِ تَمْثِيلٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ وَلَا بِقِيَاسِ شُمُولِيٍّ تَسْتَوِي أَفْرَادُهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَثِّلَ بِغَيْرِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ هُوَ وَغَيْرُهُ تَحْتَ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ تَسْتَوِي أَفْرَادُهَا - وَلِهَذَا لَمَّا سَلَكَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ مِثْلَ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ فِي الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ لَمْ يَصِلُوا بِهَا إلَى يَقِينٍ بَلْ تَنَاقَضَتْ أَدِلَّتُهُمْ وَغَلَبَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ التَّنَاهِي الْحَيْرَةُ وَالِاضْطِرَابُ ؛ لِمَا يَرَوْنَهُ مِنْ فَسَادِ أَدِلَّتِهِمْ أَوْ تَكَافُئِهَا . وَلَكِنْ يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ قِيَاسُ الْأَوْلَى سَوَاءٌ كَانَ تَمْثِيلًا أَوْ شُمُولًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } مِثْلَ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِلْمُمْكِنِ أَوْ الْمُحْدِثِ لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ : وَهُوَ مَا كَانَ كَمَالًا لِلْمَوْجُودِ غَيْرِ مُسْتَلْزِمٍ لِلْعَدَمِ فَالْوَاجِبُ الْقَدِيمُ أَوْلَى بِهِ . وَكُلُّ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ ثَبَتَ نَوْعُهُ لِلْمَخْلُوقِ - الْمَرْبُوبِ الْمَعْلُولِ الْمُدَبِّرِ فَإِنَّمَا اسْتَفَادَهُ مِنْ خَالِقِهِ وَرَبِّهِ وَمُدَبِّرِهِ - فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ . وَأَنَّ كُلَّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ فِي نَفْسِهِ - وَهُوَ مَا تَضَمَّنَ سَلْبَ هَذَا الْكَمَالِ إذَا وَجَبَ نَفْيُهُ عَنْ شَيْءٍ مَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْمُحْدَثَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ - فَإِنَّهُ يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَأَنَّهُ أَحَقُّ بِالْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ مِنْ كُلِّ مَوْجُودٍ وَأَمَّا الْأُمُورُ الْعَدَمِيَّةُ فَالْمُمْكِنُ بِهَا أَحَقُّ وَنَحْوُ ذَلِكَ .

وَمِثْلُ هَذِهِ الطُّرُقِ هِيَ الَّتِي كَانَ يَسْتَعْمِلُهَا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ كَمَا اسْتَعْمَلَ نَحْوَهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ . وَمَنْ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَبِمِثْلِ ذَلِكَ جَاءَ الْقُرْآنُ فِي تَقْرِيرِ " أُصُولِ الدِّينِ " مِنْ مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَالْمُعَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَخْبَرَ بِالْمُعَادِ ؛ وَالْعِلْمُ بِهِ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ بِإِمْكَانِهِ فَإِنَّ الْمُمْتَنِعَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ إمْكَانَهُ أَتَمَّ بَيَانٍ ؛ وَلَمْ يَسْلُكْ فِي ذَلِكَ مَا يَسْلُكُهُ " طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ " حَيْثُ يُثْبِتُونَ الْإِمْكَانَ الْخَارِجِيَّ بِمُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ الذِّهْنِيِّ فَيَقُولُونَ : هَذَا مُمْكِنٌ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَّرَ وُجُودَهُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ تَقْدِيرِ وُجُودِهِ مُحَالٌ فَإِنَّ الشَّأْنَ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَقْدِيرِ وُجُودِهِ مُحَالٌ . وَالْمُحَالُ هُنَا أَعَمُّ مِنْ الْمُحَالِ لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَالْإِمْكَانُ الذِّهْنِيُّ حَقِيقَتُهُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالِامْتِنَاعِ . وَعَدَمُ الْعِلْمِ بِالِامْتِنَاعِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِالْإِمْكَانِ الْخَارِجِيِّ ؛ بَلْ يَبْقَى الشَّيْءُ فِي الذِّهْنِ غَيْرَ مَعْلُومِ الِامْتِنَاعِ . وَلَا مَعْلُومِ الْإِمْكَانِ الْخَارِجِيِّ وَهَذَا هُوَ الْإِمْكَانُ الذِّهْنِيُّ . فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَكْتَفِ فِي بَيَانِ إمْكَانِ الْمُعَادِ بِهَذَا . إذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُمْتَنِعًا وَلَوْ لِغَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الذِّهْنُ امْتِنَاعَهُ ؛ بِخِلَافِ الْإِمْكَانِ الْخَارِجِيِّ . فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا . وَالْإِنْسَانُ يَعْلَمُ الْإِمْكَانَ الْخَارِجِيَّ : تَارَةً بِعِلْمِهِ بِوُجُودِ الشَّيْءِ وَتَارَةً بِعِلْمِهِ بِوُجُودِ نَظِيرِهِ وَتَارَةً بِعِلْمِهِ بِوُجُودِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ فَإِنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا هُوَ دُونَهُ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ مِنْهُ .

ثُمَّ إنَّهُ إذَا بَيَّنَ كَوْنَ الشَّيْءِ مُمْكِنًا فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ قُدْرَةِ الرَّبِّ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْعِلْمِ بِإِمْكَانِهِ لَا يَكْفِي فِي إمْكَانِ وُقُوعِهِ إنْ لَمْ تُعْلَمْ قُدْرَةُ الرَّبِّ عَلَى ذَلِكَ . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ هَذَا كُلَّهُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إلَّا كُفُورًا } وَقَوْلِهِ { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } وَقَوْلِهِ { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . وَقَوْلِهِ { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِبَدَاهَةِ الْعُقُولِ أَنَّ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ أَمْثَالِ بَنِي آدَمَ وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ أَبْلَغُ - وَأَنَّ هَذَا الْأَيْسَرَ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ وَالْقُدْرَةِ مِنْ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ اسْتِدْلَالُهُ عَلَى ذَلِكَ بِالنَّشْأَةِ الْأُولَى فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَقَالَ : { إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ } الْآيَةَ . وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } الْآيَاتِ . فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى { مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } قِيَاسٌ حُذِفَتْ إحْدَى مُقَدِّمَتَيْهِ لِظُهُورِهَا وَالْأُخْرَى سَالِبَةٌ كُلِّيَّةٌ قُرِنَ مَعَهَا دَلِيلُهَا وَهُوَ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ :

{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ مُتَضَمِّنٌ لِلنَّفْيِ : أَيْ لَا أَحَدَ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ . فَإِنَّ كَوْنَهَا رَمِيمًا يَمْنَعُ عِنْدَهُ إحْيَاءَهَا لِمَصِيرِهَا إلَى حَالِ الْيُبْسِ وَالْبُرُودَةِ : الْمُنَافِيَةِ لِلْحَيَاةِ الَّتِي مَبْنَاهَا عَلَى الْحَرَارَةِ وَالرُّطُوبَةِ وَلِتَفَرُّقِ أَجْزَائِهَا وَاخْتِلَاطِهَا بِغَيْرِهَا وَلِنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الشُّبُهَاتِ . وَالتَّقْدِيرُ هَذِهِ الْعِظَامُ رَمِيمٌ وَلَا أَحَدَ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ فَلَا أَحَدَ يُحْيِيهَا وَلَكِنَّ هَذِهِ السَّالِبَةَ كَاذِبَةٌ وَمَضْمُونُهَا امْتِنَاعُ الْإِحْيَاءِ . وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ إمْكَانَهُ مِنْ وُجُوهٍ بِبَيَانِ إمْكَانِ مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ وَقُدْرَتُهُ عَلَيْهِ فَقَالَ { يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } وَقَدْ أَنْشَأَهَا مِنْ التُّرَابِ ثُمَّ قَالَ : { وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } لِيُبَيِّنَ عِلْمَهُ بِمَا تَفَرَّقَ مِنْ الْأَجْزَاءِ وَاسْتَحَالَ . ثُمَّ قَالَ : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا } فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْرَجَ النَّارَ الْحَارَّةَ الْيَابِسَةَ مِنْ الْبَارِدِ الرَّطْبِ وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْمُنَافَاةِ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْحَرَارَةِ وَالرُّطُوبَةِ أَيْسَرُ مِنْ اجْتِمَاعِ الْحَرَارَةِ وَالْيُبُوسَةِ ؛ فَالرُّطُوبَةُ تَقْبَلُ مِنْ الِانْفِعَالِ مَا لَا تَقْبَلُهُ الْيُبُوسَةُ . ثُمَّ قَالَ : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } وَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ مَعْلُومَةٌ بِالْبَدِيهَةِ - وَلِهَذَا جَاءَ فِيهَا بِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَقِرٌّ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ { وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } ثُمَّ بَيَّنَ قُدْرَتَهُ الْعَامَّةَ بِقَوْلِهِ { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } .

وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ الْأَسْرَارِ وَبَيَانِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى الْمَطَالِبِ الدِّينِيَّةِ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ . وَكَذَلِكَ مَا اسْتَعْمَلَهُ سُبْحَانَهُ فِي تَنْزِيهِهِ وَتَقْدِيسِهِ عَمَّا أَضَافُوهُ إلَيْهِ مِنْ الْوِلَادَةِ سَوَاءٌ سَمَّوْهَا حِسِّيَّةً أَوْ عَقْلِيَّةً كَمَا تَزْعُمُهُ النَّصَارَى مِنْ تَوَلُّدِ الْكَلِمَةِ - الَّتِي جَعَلُوهَا جَوْهَرَ الِابْنِ - مِنْهُ وَكَمَا تَزْعُمُهُ الْفَلَاسِفَةُ الصَّابِئُونَ مِنْ تَوَلُّدِ الْعُقُولِ الْعَشَرَةِ وَالنُّفُوسِ الْفَلَكِيَّةِ التِّسْعَةِ : الَّتِي هُمْ مُضْطَرِبُونَ فِيهَا هَلْ هِيَ جَوَاهِرُ أَوْ أَعْرَاضٌ ؟ وَقَدْ يَجْعَلُونَ الْعُقُولَ بِمَنْزِلَةِ الذُّكُورِ ، وَالنُّفُوسَ بِمَنْزِلَةِ الْإِنَاثِ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ آبَاءَهُمْ وأمهاتهم وَآلِهَتَهُمْ وَأَرْبَابَهُمْ الْقَرِيبَةَ ، وَعِلْمُهُمْ بِالنُّفُوسِ أَظْهَرُ لِوُجُودِ الْحَرَكَةِ الدَّوْرِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى النَّفْسِ الْمُحَرِّكَةِ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْعَلُونَ النَّفْسَ الْفَلَكِيَّةَ عَرَضًا لَا جَوْهَرًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَذَلِكَ شَبِيهٌ بِقَوْلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ : الَّذِينَ جَعَلُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ . قَالَ تَعَالَى { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { أَلَا إنَّهُمْ مِنْ إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ } { وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } وَكَانُوا يَقُولُونَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ كَمَا يَزْعُمُ هَؤُلَاءِ : أَنَّ الْعُقُولَ أَوْ الْعُقُولَ وَالنُّفُوسَ " هِيَ الْمَلَائِكَةُ " وَهِيَ مُتَوَلِّدَةٌ عَنْ اللَّهِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ } { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ } { يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } { لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ

الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } إلَى قَوْلِهِ { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ } { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ } { أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } { وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } إلَى قَوْلِهِ { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى } { تِلْكَ إذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } أَيْ جَائِرَةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ أَوْلَى بِأَنْ يُنَزَّهُ عَنْ الْأُمُورِ النَّاقِصَةِ مِنْكُمْ فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ لَهُ مَا تَكْرَهُونَ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ وَتَسْتَخِفُّونَ مِنْ إضَافَتِهِ إلَيْكُمْ مَعَ أَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَلَا تُنَزِّهُونَهُ عَنْ ذَلِكَ وَتَنْفُونَهُ عَنْهُ وَهُوَ أَحَقُّ بِنَفْيِ الْمَكْرُوهَاتِ الْمُنْقِصَاتِ مِنْكُمْ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي التَّوْحِيدِ { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } أَيْ كَخِيفَةِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ { ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ } وَفِي قَوْلِهِ { لَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا } وَفِي قَوْلِهِ { وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } وَفِي قَوْلِهِ { فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } وَفِي قَوْلِهِ { وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } إلَى قَوْلِهِ { ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ } فَإِنَّ الْمُرَادَ فِي هَذَا كُلِّهِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَكُونُ مَمْلُوكُهُ شَرِيكَهُ فِيمَا لَهُ حَتَّى يَخَافَ مَمْلُوكُهُ كَمَا يَخَافُ نَظِيرُهُ

بَلْ تَمْتَنِعُونَ أَنْ يَكُونَ الْمَمْلُوكُ لَكُمْ نَظِيرًا فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ لِي أَنْ تَجْعَلُوا مَا هُوَ مَخْلُوقِي وَمَمْلُوكِي شَرِيكًا لِي : يُدْعَى وَيُعْبَدُ - كَمَا أُدْعَى وَأُعْبَدَ - كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك إلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ - وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ عَظِيمٌ جِدًّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ .
وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةِ النَّبَوِيَّةِ عَامَّةَ أُصُولِ الدِّينِ مِنْ الْمَسَائِلِ وَالدَّلَائِلِ : الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ تَكُونَ أُصُولَ الدِّينِ . وَأَمَّا مَا يُدْخِلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الْمُسَمَّى مِنْ الْبَاطِلِ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ ؛ وَإِنْ أَدْخَلَهُ فِيهِ مِثْلُ " الْمَسَائِلِ " وَالدَّلَائِلِ " الْفَاسِدَةِ : مِثْلُ نَفْيِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ . وَمِثْلُ " الِاسْتِدْلَالِ " عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ بِحُدُوثِ " الْأَعْرَاضِ " الَّتِي هِيَ صِفَاتُ الْأَجْسَامِ الْقَائِمَةِ بِهَا : إمَّا الْأَكْوَانُ وَإِمَّا غَيْرُهَا وَتَقْرِيرُ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا هَذَا الدَّلِيلُ : مِنْ إثْبَاتِ " الْأَعْرَاضِ " الَّتِي هِيَ الصِّفَاتُ أَوَّلًا أَوْ إثْبَاتُ " بَعْضِهَا " كَالْأَكْوَانِ الَّتِي هِيَ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ وَالِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ " وَإِثْبَاتُ حُدُوثِهَا " ثَانِيًا بِإِبْطَالِ ظُهُورِهَا بَعْدَ اُلْكُمُونِ ، وَإِبْطَالُ انْتِقَالِهَا مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ - ثُمَّ إثْبَاتُ " امْتِنَاعِ خُلُوِّ الْجِسْمِ " ثَالِثًا ؛ إمَّا عَنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَعْرَاضِ : بِإِثْبَاتِ أَنَّ الْجِسْمَ قَابِلٌ لَهَا وَأَنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ ؛ وَإِمَّا عَنْ الْأَكْوَانِ - وَإِثْبَاتِ " امْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا " رَابِعًا وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ :

إحْدَاهُمَا : أَنَّ الْجِسْمَ لَا يَخْلُو عَنْ " الْأَعْرَاضِ " الَّتِي هِيَ الصِّفَاتُ ( وَالثَّانِيَةُ أَنَّ مَا لَا يَخْلُو عَنْ " الصِّفَاتِ " الَّتِي هِيَ الْأَعْرَاضُ فَهُوَ مُحْدَثٌ لِأَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ الْأَعْرَاضُ لَا تَكُونُ إلَّا مُحْدَثَةً وَقَدْ يَفْرِضُونَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ الْأَعْرَاضُ كَالْأَكْوَانِ وَمَا لَا يَخْلُو عَنْ جِنْسِ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا تَتَنَاهَى . فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَدْعُ النَّاسَ بِهَا إلَى الْإِقْرَارِ بِالْخَالِقِ وَنُبُوَّةِ أَنْبِيَائِهِ وَلِهَذَا قَدْ اعْتَرَفَ حُذَّاقُ " أَهْلِ الْكَلَامِ " كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ طَرِيقَةَ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَلَا سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَذَكَرُوا أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عِنْدَهُمْ . بَلْ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهَا طَرِيقَةٌ بَاطِلَةٌ وَأَنَّ مُقَدِّمَاتِهَا فِيهَا تَفْصِيلٌ وَتَقْسِيمٌ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمُدَّعِي بِهَا مُطْلَقًا . وَلِهَذَا تَجِدُ مَنْ اعْتَمَدَ عَلَيْهَا فِي أُصُولِ دِينِهِ فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَهُ لَازِمٌ ؛ إمَّا أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى ضَعْفِهَا ، وَيُقَابِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ فَتَتَكَافَأُ عِنْدَهُ الْأَدِلَّةُ أَوْ يُرَجَّحُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً . كَمَا هُوَ حَالُ طَوَائِفَ مِنْهُمْ . وَإِمَّا أَنْ يُلْتَزَمَ لِأَجْلِهَا لَوَازِمُ مَعْلُومَةُ الْفَسَادِ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ . كَمَا الْتَزَمَ جَهْمٌ لِأَجْلِهَا فَنَاءَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْتَزَمَ أَبُو الهذيل لِأَجْلِهَا انْقِطَاعَ حَرَكَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ . وَالْتَزَمَ قَوْمٌ لِأَجْلِهَا - كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ - أَنَّ الْمَاءَ وَالْهَوَاءَ وَالنَّارَ لَهُ طَعْمٌ وَلَوْنٌ وَرِيحٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَالْتَزَمَ قَوْمٌ لِأَجْلِهَا وَأَجْلِ غَيْرِهَا : أَنَّ جَمِيعَ " الْأَعْرَاضِ " كَالطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَغَيْرِهِمَا لَا يَجُوزُ بَقَاؤُهَا بِحَالِ لِأَنَّهُمْ احْتَاجُوا إلَى جَوَابِ النَّقْضِ

الْوَارِدِ عَلَيْهِمْ لَمَّا أَثْبَتُوا الصِّفَاتِ لِلَّهِ مَعَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ بِصِفَاتِهَا . فَقَالُوا : صِفَاتُ " الْأَجْسَامِ " أَعْرَاضٌ أَيْ أَنَّهَا تَعْرِضُ وَتَزُولُ فَلَا تَبْقَى بِحَالِ بِخِلَافِ صِفَاتِ اللَّهِ فَإِنَّهَا بَاقِيَةٌ . وَأَمَّا جُمْهُورُ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ فَقَالُوا : هَذِهِ مُخَالِفَةٌ لِلْمَعْلُومِ بِالْحِسِّ . وَالْتَزَمَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ لِأَجْلِهَا نَفْيَ صِفَاتِ الرَّبِّ مُطْلَقًا أَوْ نَفْيَ بَعْضِهَا لِأَنَّ الدَّالَّ عِنْدَهُمْ عَلَى حُدُوثِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ هُوَ قِيَامُ الصِّفَاتِ بِهَا وَالدَّلِيلُ يَجِبُ طَرْدُهُ . وَالْتَزَمُوا حُدُوثَ كُلِّ مَوْصُوفٍ بِصِفَةِ قَائِمَةٍ بِهِ وَهُوَ أَيْضًا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَالضَّلَالِ . وَلِهَذَا الْتَزَمُوا الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَإِنْكَارِ رُؤْيَةِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ وَعُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ . إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ اللَّوَازِمِ الَّتِي الْتَزَمَهَا مَنْ طَرَدَ مُقَدِّمَاتِ هَذِهِ الْحُجَّةِ الَّتِي جَعَلَهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ أَصْلَ دِينِهِمْ فَهَذِهِ دَاخِلَةٌ فِيمَا سَمَّاهُ هَؤُلَاءِ أُصُولَ الدِّينِ وَلَكِنْ لَيْسَتْ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ . وَأَمَّا الدِّينُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } فَذَاكَ لَهُ أُصُولٌ وَفُرُوعٌ بِحَسَبِهِ . وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ مُسَمَّى أُصُولِ الدِّينِ فِي عُرْفِ النَّاطِقِينَ بِهَذَا الِاسْمِ فِيهِ إجْمَالٌ وَإِبْهَامٌ - لِمَا فِيهِ مِنْ الِاشْتِرَاكِ بِحَسَبِ الْأَوْضَاعِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ - تَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي هُوَ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أُصُولُ الدِّينِ فَهُوَ مَوْرُوثٌ عَنْ

الرَّسُولِ . وَأَمَّا مَنْ شَرَعَ دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ فَمَعْلُومٌ أَنَّ أُصُولَهُ الْمُسْتَلْزِمَةَ لَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْقُولَةً عَنْ النَّبِيِّ إذْ هُوَ بَاطِلٌ وَمَلْزُومُ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ كَمَا أَنَّ لَازِمَ الْحَقِّ حَقٌّ . وَهَذَا التَّقْسِيمُ يُنَبِّهُ أَيْضًا عَلَى مُرَادِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ بِذَمِّ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ : إذْ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ لِمَنْ اسْتَدَلَّ بِالْأَدِلَّةِ الْفَاسِدَةِ أَوْ اسْتَدَلَّ عَلَى الْمَقَالَاتِ الْبَاطِلَةِ . فَأَمَّا مَنْ قَالَ الْحَقَّ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ حُكْمًا وَدَلِيلًا فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ . وَاَللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ .
وَأَمَّا مُخَاطَبَةُ أَهْلِ اصْطِلَاحٍ بِاصْطِلَاحِهِمْ وَلُغَتِهِمْ فَلَيْسَ بِمَكْرُوهِ - إذَا اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ وَكَانَتْ الْمَعَانِي صَحِيحَةً - كَمُخَاطَبَةِ الْعَجَمِ : مِنْ الرُّومِ وَالْفُرْسِ وَالتُّرْكِ بِلُغَتِهِمْ وَعُرْفِهِمْ فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ حَسَنٌ لِلْحَاجَةِ . وَإِنَّمَا كَرِهَهُ الْأَئِمَّةُ إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ لِأُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ العاص - وَكَانَتْ صَغِيرَةً وُلِدَتْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ لِأَنَّ أَبَاهَا كَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهَا فَقَالَ لَهَا - { يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَا } وَالسَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْحَسَنُ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ . وَكَذَلِكَ يُتَرْجَمُ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَى تَفْهِيمِهِ إيَّاهُ بِالتَّرْجَمَةِ وَكَذَلِكَ يَقْرَأُ الْمُسْلِمُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ كُتُبِ الْأُمَمِ وَكَلَامِهِمْ بِلُغَتِهِمْ . وَيُتَرْجِمُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ . كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ لِيَقْرَأَ لَهُ وَيَكْتُبَ لَهُ ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ الْيَهُودِ عَلَيْهِ .

فَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ لَمْ يَكْرَهُوا الْكَلَامَ لِمُجَرَّدِ مَا فِيهِ مِنْ الِاصْطِلَاحَاتِ الْمُوَلَّدَةِ كَلَفْظِ " الْجَوْهَرِ " وَ " الْعَرَضِ " وَ " الْجِسْمِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ بَلْ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِهَذِهِ الْعِبَارَاتِ فِيهَا مِنْ الْبَاطِلِ الْمَذْمُومِ فِي الْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ مَا يَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُ لِاشْتِمَالِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَعَانٍ مُجْمَلَةٍ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ . كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي وَصْفِهِ لِأَهْلِ الْبِدَعِ فَقَالَ : هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَيَلْبِسُونَ عَلَى جُهَّالِ النَّاسِ بِمَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ . فَإِذَا عُرِفَتْ الْمَعَانِي الَّتِي يَقْصِدُونَهَا بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ وَوُزِنَتْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ : بِحَيْثُ يُثْبِتُ الْحَقَّ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَيَنْفِي الْبَاطِلَ الَّذِي نَفَاهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْحَقَّ ؛ بِخِلَافِ مَا سَلَكَهُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ مِنْ التَّكَلُّمِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ : نَفْيًا وَإِثْبَاتًا : فِي الْوَسَائِلِ وَالْمَسَائِلِ ؛ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ التَّفْصِيلِ وَالتَّقْسِيمِ الَّذِي هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ . وَهَذَا مِنْ مُثَارَاتِ الشُّبْهَةِ ، فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ وَلَا أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ : أَنَّهُ عَلَّقَ بِمُسَمَّى لَفْظِ " الْجَوْهَرِ " " وَالْجِسْمِ " " وَالتَّحَيُّزِ " وَالْعَرَضِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ : لَا الدَّلَائِلِ وَلَا الْمَسَائِلِ ؛ والمتكلمون بِهَذِهِ الْعِبَارَاتِ يَخْتَلِفُ مُرَادُهُمْ بِهَا ، تَارَةً لِاخْتِلَافِ الْوَضْعِ ، وَتَارَةً لِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ كَمَنْ يَقُولُ " الْجِسْمُ " هُوَ الْمُؤَلَّفُ ثُمَّ يَتَنَازَعُونَ هَلْ هُوَ الْجَوْهَرُ الْوَاحِدُ بِشَرْطِ تَأْلِيفِهِ ؟

أَوْ الْجَوْهَرَانِ فَصَاعِدًا ؟ أَوْ السِّتَّةُ ؟ أَوْ الثَّمَانِيَةُ ؟ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ ؟ وَمَنْ يَقُولُ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ فَرْضُ الْأَبْعَادِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ وَأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ ، وَمَنْ يَقُولُ هُوَ الْمَوْجُودُ أَوْ الْمَوْجُودُ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ ؛ وَأَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَكُونُ إلَّا كَذَلِكَ . وَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ - الَّذِينَ ذَمُّوا وَبَدَعُوا الْكَلَامَ فِي الْجَوْهَرِ وَالْجِسْمِ وَالْعَرَضِ تَضَمَّنَ كَلَامُهُمْ ذَمَّ مَنْ يُدْخِلُ الْمَعَانِيَ الَّتِي يَقْصِدُهَا هَؤُلَاءِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي أُصُولِ الدِّينِ : فِي دَلَائِلِهِ وَفِي مَسَائِلِهِ : نَفْيًا وَإِثْبَاتًا . فَأَمَّا إذَا عَرَفَ الْمَعَانِيَ الصَّحِيحَةَ الثَّابِتَةَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَعَبَّرَ عَنْهَا لِمَنْ يَفْهَمُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ ؛ لِيَتَبَيَّنَ مَا وَافَقَ الْحَقَّ مِنْ مَعَانِي هَؤُلَاءِ وَمَا خَالَفَهُ ، فَهَذَا عَظِيمُ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ مِنْ الْحُكْمِ بِالْكِتَابِ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } وَهُوَ مِثْلُ الْحُكْمِ بَيْنَ سَائِرِ الْأُمَمِ بِالْكِتَابِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِوَضْعِهِمْ وَعُرْفِهِمْ . وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَمَعْرِفَةِ مَعَانِي هَؤُلَاءِ بِأَلْفَاظِهِمْ ، ثُمَّ اعْتِبَارِ هَذِهِ الْمَعَانِي بِهَذِهِ الْمَعَانِي لِيَظْهَرَ الْمُوَافِقُ وَالْمُخَالِفُ .
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ فَإِنْ قِيلَ بِالْجَوَازِ : فَمَا وَجْهُهُ وَقَدْ فَهِمْنَا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّهْيَ عَنْ الْكَلَامِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ ؟ فَيُقَالُ قَدْ تَقَدَّمَ الِاسْتِفْسَارُ وَالتَّفْصِيلُ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ وَأَنَّ مَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أُصُولُ الدِّينِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ

فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْهَى عَنْهَا بِحَالِ بِخِلَافِ مَا سُمِّيَ أُصُولَ الدِّينِ وَلَيْسَ هُوَ أُصُولًا فِي الْحَقِيقَةِ . لَا دَلَائِلَ وَلَا مَسَائِلَ ، أَوْ هُوَ أُصُولٌ لِدِينِ لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ بَلْ شَرَعَهُ مَنْ شَرَعَ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ .
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ مِنْ نَهْيِهِ فَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ النَّهْيُ عَنْ أُمُورٍ مِنْهَا الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ كَقَوْلِهِ { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَقَوْلُهُ { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } . وَمِنْهَا أَنْ يُقَالَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ } وَقَوْلِهِ { لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ } وَمِنْهَا الْجَدَلُ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَقَوْلِهِ { هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } وَمِنْهَا الْجَدَلُ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ كَقَوْلِهِ { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ } . وَمِنْهَا الْجَدَلُ بِالْبَاطِلِ كَقَوْلِهِ { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } . وَمِنْهَا الْجَدَلُ فِي آيَاتِهِ كَقَوْلِهِ { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } وَقَوْلِهِ { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا } وَقَوْلِهِ { إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } وَقَوْلِهِ { وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ } وَنَحْوُ ذَلِكَ قَوْلُهُ { وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ

لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ } وَقَوْلُهُ { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } وَقَوْلُهُ { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ } . وَمِنْ الْأُمُورِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا فِي كِتَابِهِ التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ كَقَوْلِهِ : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } إلَى قَوْلِهِ { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ ، وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ { وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا } وَقَدْ ذَمَّ أَهْلَ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } { إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } . وَكَذَلِكَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ تُوَافِقُ كِتَابَ اللَّهِ كَالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ الَّذِي رَوَى مُسْلِمٌ بَعْضَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَسَائِرُهُ مَعْرُوفٌ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ { أَنَّ رَسُولَ

اللَّهِ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ - وَهُمْ يَتَنَاظَرُونَ فِي الْقَدَرِ - وَرَجُلٌ يَقُولُ : أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ : كَذَا وَرَجُلٌ يَقُولُ : أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ : كَذَا فَكَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ فَقَالَ أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا : ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ وَإِنَّمَا نَزَلَ كِتَابُ اللَّهِ لِيُصَدِّقَ بَعْضُهُ بَعْضًا لَا لِيُكَذِّبَ بَعْضُهُ بَعْضًا اُنْظُرُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَافْعَلُوهُ وَمَا نُهِيتُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ } هَذَا الْحَدِيثُ أَوْ نَحْوُهُ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { الْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ } وَكَذَلِكَ مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ قَرَأَ قَوْلَهُ : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } فَقَالَ النَّبِيُّ : إذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ } . وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ أَوْ السُّنَّةُ نَهَى عَنْ مَعْرِفَةِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيمَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أُصُولِ دِينِ اللَّهِ فَهَذَا لَا يَكُونُ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ نَنْهَى عَنْ بَعْضِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِثْلَ مُخَاطَبَةِ شَخْصٍ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ فَهْمُهُ فَيَضِلُّ ، كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ " مَا مِنْ رَجُلٍ يُحَدِّثُ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ " وَكَقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ " . أَوْ مِثْلِ قَوْلِ حَقٍّ يَسْتَلْزِمُ فَسَادًا

أَعْظَمَ مِنْ تَرْكِهِ فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ إذَا قِيلَ بِالْجَوَازِ فَهَلْ يَجِبُ ؟ وَهَلْ نُقِلَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يَقْتَضِي وُجُوبَهُ . فَيُقَالُ : لَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إيمَانًا عَامًّا مُجْمَلًا وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَعْرِفَةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَى التَّفْصِيلِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي تَبْلِيغِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ ، وَدَاخِلٌ فِي تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَعَقْلِهِ وَفَهْمِهِ وَعِلْمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ، وَحِفْظِ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ إلَى سَبِيلِ الرَّبِّ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَالْمُجَادَلَةِ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَنَحْوِ ذَلِكَ - مِمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ - فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ مِنْهُمْ .
وَأَمَّا مَا يَجِبُ عَلَى أَعْيَانِهِمْ فَهَذَا يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ قَدْرِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ ، وَمَا أُمِرَ بِهِ أَعْيَانُهُمْ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْ سَمَاعِ بَعْضِ الْعِلْمِ أَوْ عَنْ فَهْمِ دَقِيقِهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى ذَلِكَ وَيَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النُّصُوصَ وَفَهِمَهَا مِنْ عِلْمِ التَّفْصِيلِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا وَيَجِبُ عَلَى الْمُفْتِي وَالْمُحَدِّثِ وَالْمُجَادِلِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ هَلْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ مَا يَصِلُ إلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ مِنْ غَلَبَةِ الظَّنِّ أَوْ لَا بُدَّ

مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْقَطْعِ ؟ فَيُقَالُ : الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ التَّفْصِيلُ .
فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَسَائِلَ الْخَبَرِيَّةَ الَّتِي قَدْ يُسَمُّونَهَا مَسَائِلَ الْأُصُولِ يَجِبُ الْقَطْعُ فِيهَا جَمِيعِهَا وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ فِيهَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ يُفِيدُ الْيَقِينَ ، وَقَدْ يُوجِبُونَ الْقَطْعَ فِيهَا كُلِّهَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ ، فَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ عَلَى إطْلَاقِهِ وَعُمُومِهِ : خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا . ثُمَّ هُمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَمَّا أَوْجَبُوهُ فَإِنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يَحْتَجُّونَ فِيهَا بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي يَزْعُمُونَهَا قَطْعِيَّاتٍ وَتَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ الْأُغْلُوطَاتِ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ الظَّنِّيَّاتِ ؛ حَتَّى إنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَثِيرًا مَا يَقْطَعُ بِصِحَّةِ حُجَّةٍ فِي مَوْضِعٍ وَيَقْطَعُ بِبُطْلَانِهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ غَايَةُ كَلَامِهِ كَذَلِكَ ؛ وَحَتَّى قَدْ يَدَّعِي كُلٌّ مِنْ الْمُتَنَاظِرَيْنِ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِنَقِيضِ مَا ادَّعَاهُ الْآخَرُ . وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ فِيهِ الْعِلْمَ وَالْيَقِينَ وَجَبَ فِيهِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَوْلِهِ { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } وَكَذَلِكَ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ الْإِيمَانَ بِهِ . وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْوُجُوبَ مُعَلَّقٌ بِاسْتِطَاعَةِ الْعَبْدِ كَقَوْلِهِ { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ .

فَإِذَا كَانَ كَثِيرٌ مِمَّا تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ - مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الدَّقِيقَةِ - قَدْ يَكُونُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مُشْتَبَهًا لَا يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى دَلِيلٍ يُفِيدُهُ الْيَقِينُ ؛ لَا شَرْعِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ لَمْ يَجِبْ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي ذَلِكَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ اعْتِقَادٍ قَوِيٍّ غَالِبٍ عَلَى ظَنِّهِ لِعَجْزِهِ عَنْ تَمَامِ الْيَقِينِ ؛ بَلْ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ . لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مُطَابِقًا لِلْحَقِّ . فَالِاعْتِقَادُ الْمُطَابِقُ لِلْحَقِّ يَنْفَعُ صَاحِبَهُ وَيُثَابُ عَلَيْهِ وَيَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ . لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ عَامَّةَ مَنْ ضَلَّ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْ عَجَزَ فِيهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ : فَإِنَّمَا هُوَ لِتَفْرِيطِهِ فِي اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَتَرَكَ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ الْمُوَصِّلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَلَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ ضَلُّوا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَنْ لَا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ . وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ { سَتَكُونُ فِتَنٌ قُلْتُ فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَهُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ

الْأَلْسُنُ وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ وَلَا تَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ وَفِي رِوَايَةٍ وَلَا تَخْتَلِفُ بِهِ الْآرَاءُ وَهُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إذْ سَمِعَتْهُ أَنْ قَالُوا : { إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا } { يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ } مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ وَمَنْ دَعَا إلَيْهِ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . قَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { المص } { كِتَابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ } إلَى قَوْلِهِ : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } { أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } { أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ } . فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ سَيَجْزِي الصَّادِفَ عَنْ آيَاتِهِ مُطْلَقًا - سَوَاءٌ كَانَ مُكَذِّبًا أَوْ لَمْ يَكُنْ - سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ : يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَهُوَ كَافِرٌ ، سَوَاءٌ اعْتَقَدَ كَذِبَهُ أَوْ اسْتَكْبَرَ عَنْ الْإِيمَانِ بِهِ أَوْ أَعْرَضَ عَنْهُ اتِّبَاعًا لِمَا يَهْوَاهُ أَوْ ارْتَابَ فِيمَا جَاءَ بِهِ فَكُلُّ مُكَذِّبٍ بِمَا جَاءَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ . وَقَدْ يَكُونُ كَافِرًا مَنْ لَا يُكَذِّبُهُ إذَا لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ . وَلِهَذَا أَخْبَرَ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ بِالضَّلَالِ وَالْعَذَابِ لِمَنْ تَرَكَ اتِّبَاعَ مَا أَنْزَلَهُ وَإِنْ كَانَ لَهُ نَظَرٌ وَجَدَلٌ وَاجْتِهَادٌ فِي عَقْلِيَّاتٍ وَأُمُورٍ غَيْرِ ذَلِكَ وَجَعَلَ

ذَلِكَ مِنْ نُعُوتِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } وَالسُّلْطَانُ هُوَ الْحُجَّةُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ } { فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ هِيَ إلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } . وَقَدْ طَالَبَ سُبْحَانَهُ مَنْ اتَّخَذَ دِينًا بِقَوْلِهِ { ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } . فَالْكِتَابُ : الْكِتَابُ ، وَالْأَثَارَةُ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : هِيَ الرِّوَايَةُ وَالْإِسْنَادُ . وَقَالُوا : هِيَ الْخَطُّ أَيْضًا . إذْ الرِّوَايَةُ وَالْإِسْنَادُ يُكْتَبُ بِالْخَطِّ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَثَارَةَ مِنْ الْأَثَرِ ، فَالْعِلْمُ الَّذِي يَقُولُهُ مَنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ يُؤْثَرُ بِالْإِسْنَادِ وَيُقَيَّدُ بِالْخَطِّ فَيَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ آثَارِهِ .

وَقَالَ تَعَالَى فِي نَعْتِ الْمُنَافِقِينَ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } { فَكَيْفَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنْ أَرَدْنَا إلَّا إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا } . وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنْوَاعٌ مِنْ الْعِبَرِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى ضَلَالِ مَنْ يُحَاكِمُ إلَى غَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَلَى نِفَاقِهِ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّوْفِيقَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَبَيْنَ مَا يُسَمِّيهِ هُوَ " عَقْلِيَّاتٍ " مِنْ الْأُمُورِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ بَعْضِ الطَّوَاغِيتِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الِاعْتِبَارِ . فَمَنْ كَانَ خَطَؤُهُ لِتَفْرِيطِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ مَثَلًا أَوْ لِتَعَدِّيهِ حُدُودَ اللَّهِ بِسُلُوكِ السُّبُلِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا أَوْ لِاتِّبَاعِ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ : فَهُوَ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ ؛ بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا الَّذِي يَطْلُبُ الْحَقَّ بِاجْتِهَادِهِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ فَهَذَا مَغْفُورٌ لَهُ خَطَؤُهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } إلَى قَوْلِهِ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131