الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

بِمِثْلِهَا إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ أَمَةِ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ شَرْعِيٌّ وَإِلَّا فَمُوجَبُ الْقِيَاسِ التَّسْوِيَةُ وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فَهَذَا النَّهْيُ عَنْ إكْرَاهِهِنَّ عَلَى كَسْبِ الْمَالِ بِالْبِغَاءِ كَمَا نُقِلَ أَنَّ ابْنَ أَبِي الْمُنَافِقِ كَانَ لَهُ مِنْ الْإِمَاءِ مَا يُكْرِهُهُنَّ عَلَى الْبِغَاءِ وَلَيْسَ هُوَ اسْتِكْرَاهًا لِلْأَمَةِ عَلَى أَنْ يَزْنِيَ هُوَ بِهَا فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّمْثِيلِ بِهَا وَذَاكَ إلْزَامٌ لَهَا بِأَنْ تَذْهَبَ فَتَزْنِي بِنَفْسِهَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : الْعِتْقُ بِالْمُثْلَةِ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ ثُمَّ شُرِعَ بَعْدَ ذَلِكَ . وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَدَقِّ الْأُمُورِ فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فَهَذَا الَّذِي ظَهَرَ فِي تَوْجِيهِهِ وَتَخَرُّجِهِ عَلَى الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَلَا يُحْتَاجُ إلَى الْكَلَامِ عَلَيْهِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا عَرَفْت حَدِيثًا صَحِيحًا إلَّا وَيُمْكِنُ تَخَرُّجُهُ عَلَى الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ وَقَدْ تَدَبَّرْت مَا أَمْكَنَنِي مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَمَا رَأَيْت قِيَاسًا صَحِيحًا يُخَالِفُ حَدِيثًا صَحِيحًا كَمَا أَنَّ الْمَعْقُولَ الصَّرِيحَ لَا يُخَالِفُ الْمَنْقُولَ الصَّحِيحَ ؛ بَلْ مَتَى رَأَيْت قِيَاسًا يُخَالِفُ أَثَرًا فَلَا بُدَّ مِنْ ضَعْفِ أَحَدِهِمَا لَكِنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ صَحِيحِ الْقِيَاسِ وَفَاسِدِهِ مِمَّا يَخْفَى كَثِيرٌ مِنْهُ عَلَى أَفَاضِلِ الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ دُونَهُمْ ؛ فَإِنَّ إدْرَاكَ الصِّفَاتِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْأَحْكَامِ عَلَى وَجْهِهَا

وَمَعْرِفَةَ الْحُكْمِ وَالْمَعَانِي الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الشَّرِيعَةُ مِنْ أَشْرَفِ الْعُلُومِ فَمِنْهُ الْجَلِيُّ الَّذِي يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَمِنْهُ الدَّقِيقُ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ إلَّا خَوَّاصُهُمْ ؛ فَلِهَذَا صَارَ قِيَاسُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ يُرَدُّ مُخَالِفًا لِلنُّصُوصِ ؛ لِخَفَاءِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ عَلَيْهِمْ كَمَا يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مَا فِي النُّصُوصِ مِنْ الدَّلَائِلِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْأَحْكَامِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ الْمُضِيَّ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَعَلَى مَنْ شَرَعَ فِيهِمَا أَنْ يَمْضِيَ فِيهِمَا وَإِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِالدُّخُولِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَهُمْ مُتَنَازِعُونَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ : هَلْ تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ ؟ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ أَنْ يَمْضِيَ إلَى حِينِ يَتَحَلَّلُ وَأَنْ لَا يَطَأَ فِي الْحَجِّ فَإِذَا وَطِئَ فِي الْحَجِّ لَمْ يَمْنَعْ وَطْؤُهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ إتْمَامِ الْحَجِّ . وَنَظِيرُ هَذَا الصِّيَامُ فِي رَمَضَانَ لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ بِقَوْلِهِ : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } فَإِذَا أَفْطَرَ لَمْ يُسْقِطُ عَنْهُ فِطْرُهُ مَا وَجَبَ مِنْ الْإِتْمَامِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إتْمَامُ صَوْمِ رَمَضَانَ وَإِنْ أَفْسَدَهُ وَهَذَا لِأَنَّ الصِّيَامَ لَهُ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَهُوَ غُرُوبُ الشَّمْسِ كَمَا لِلْحَجِّ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ

وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَمَا بَعْدَهُ وَمَكَانٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ عَرَفَةُ وَمُزْدَلِفَةُ وَمِنًى فَلَا يُمْكِنُهُ إحْلَالُ الْحَجِّ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَى مَكَانِهِ كَمَا لَا يُمْكِنُهُ إحْلَالُ الصِّيَامِ اللَّهُمَّ إلَّا إذَا كَانَ مَعْذُورًا كَالْمُحْصَرِ فَهَذَا كَالْمَعْذُورِ فِي الْفِطْرِ وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ إذَا أَفْسَدَهَا فَإِنَّهُ يَبْتَدِيهَا ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ يُمْكِنُهُ فِعْلُهَا فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ وَالْحَجُّ لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُهُ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْأَكْلُ نَاسِيًا ؛ فَاَلَّذِينَ قَالُوا : هُوَ خِلَافُ الْقِيَاسِ قَالُوا : هُوَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمَأْمُورِ وَمَنْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ نَاسِيًا لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ كَمَا لَوْ تَرَكَ الصَّلَاةَ نَاسِيًا أَوْ تَرَكَ نِيَّةَ الصِّيَامِ نَاسِيًا لَمْ تَبْطُلْ عِبَادَتُهُ إلَّا مِنْ فِعْلِ مَحْظُورٍ وَلَكِنْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ يَقُولُ : الْقِيَاسُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَحْظُورًا نَاسِيًا لَمْ تَبْطُلْ عِبَادَتُهُ ؛ لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ مَحْظُورًا نَاسِيًا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ { قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ : قَدْ فَعَلْت } وَهَذَا مِمَّا لَا يَتَنَازَعُ فِيهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ النَّاسِيَ لَا يَأْثَمُ . لَكِنْ يَتَنَازَعُونَ فِي بُطْلَانِ عِبَادَتِهِ فَيَقُولُ الْقَائِلُ إذَا لَمْ يَأْثَمْ لَمْ يَكُنْ قَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ مُحَرَّمًا لَمْ تَبْطُلْ عِبَادَتُهُ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ إنَّمَا تَبْطُلُ بِتَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ فَإِذَا كَانَ مَا فَعَلَهُ مِنْ بَابِ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ نَاسٍ فِيهِ لَمْ تَبْطُلْ عِبَادَتُهُ . وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ : الْقِيَاسُ أَنْ

لَا تَبْطُلَ الصَّلَاةُ بِالْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا وَكَذَلِكَ يَقُولُ : الْقِيَاسُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ نَاسِيًا لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ . وَقِيلَ : الصَّيْدُ هُوَ مِنْ بَابِ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ كَدِيَةِ الْمَقْتُولِ ؛ بِخِلَافِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّرَفُّهِ وَكَذَلِكَ الْحَلْقُ وَالتَّقْلِيمُ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ بَابِ التَّرَفُّهِ لَا مِنْ بَابِ مُتْلَفٍ لَهُ قِيمَةٌ فَإِنَّهُ لَا قِيمَةَ لِذَلِكَ ؛ فَلِهَذَا كَانَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ أَنْ لَا كَفَّارَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ . وَطَرْدُ هَذَا أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا لَا يَحْنَثُ ؛ سَوَاءٌ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ أَوْ غَيْرِهِمَا لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نَاسِيًا لَمْ يَعْصِ وَلَمْ يُخَالِفْ وَالْحِنْثُ فِي الْأَيْمَانِ كَالْمَعْصِيَةِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . وَكَذَلِكَ مَنْ بَاشَرَ النَّجَاسَةَ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ فِعْلِ الْمَحْظُورِ ؛ بِخِلَافِ تَرْكِ طَهَارَةِ الْحَدَثِ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَأْمُورِ . فَإِنْ قِيلَ : التَّرْكُ فِي الصَّوْمِ مَأْمُورٌ بِهِ ؛ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِيهِ النِّيَّةُ ؛ بِخِلَافِ التَّرْكِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ النِّيَّةُ . قِيلَ : لَا رَيْبَ أَنَّ النِّيَّةَ فِي الصَّوْمِ وَاجِبَةٌ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا أُثِيبَ ؛

لِأَنَّ الثَّوَابَ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ النِّيَّةِ وَتِلْكَ الْأُمُورُ إذَا قَصَدَ تَرْكَهَا لِلَّهِ أُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَخْطِرْ بِقَلْبِهِ قَصْدُ تَرْكِهَا لَمْ يُثَبْ وَلَمْ يُعَاقَبْ وَلَوْ كَانَ نَاوِيًا تَرْكَهَا لِلَّهِ وَفَعَلَهُ نَاسِيًا لَمْ يَقْدَحْ نِسْيَانُهُ فِي أَجْرِهِ بَلْ يُثَابُ عَلَى قَصْدِ تَرْكِهَا لِلَّهِ وَإِنْ فَعَلَهَا نَاسِيًا كَذَلِكَ الصَّوْمُ فَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ النَّاسِي لَا يُضَافُ إلَيْهِ بَلْ فَعَلَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ } فَأَضَافَ إطْعَامَهُ وَإِسْقَاءَهُ إلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ وَلَمْ يَقْصِدْهُ وَمَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى اللَّهِ لَا يُنْهَى عَنْهُ الْعَبْدُ فَإِنَّمَا يُنْهَى عَنْ فِعْلِهِ وَالْأَفْعَالُ الَّتِي لَيْسَتْ اخْتِيَارِيَّةً لَا تَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ فَفِعْلُ النَّاسِي كَفِعْلِ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّائِمَ إذَا احْتَلَمَ فِي مَنَامِهِ لَمْ يُفْطِرْ ؛ وَلَوْ اسْتَمْنَى بِاخْتِيَارِهِ أَفْطَرَ وَلَوْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْ وَلَوْ اسْتَدْعَى الْقَيْءَ أَفْطَرَ . فَلَوْ كَانَ مَا يُوجَدُ بِغَيْرِ قَصْدِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا يُوجَدُ بِقَصْدِهِ لَأَفْطَرَ بِهَذَا وَهَذَا . فَإِنْ قِيلَ : فَالْمُخْطِئُ يُفْطِرُ مِثْلَ مَنْ يَأْكُلُ يَظُنُّ بَقَاءَ اللَّيْلِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ طَلَعَ الْفَجْرُ ؛ أَوْ يَأْكُلُ يَظُنُّ غُرُوبَ الشَّمْسِ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَغْرُبْ .

قِيلَ : هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ قَالُوا : هَذَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ بِخِلَافِ النِّسْيَانِ وَقَاسُوا ذَلِكَ عَلَى مَا إذَا أَفْطَرَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ يَقْضِي فِي مَسْأَلَةِ الْغُرُوبِ دُونَ الطُّلُوعِ ؛ كَمَا لَوْ اسْتَمَرَّ الشَّكُّ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : لَا يُفْطِرُ فِي الْجَمِيعِ قَالُوا : حُجَّتُنَا أَقْوَى وَدَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى قَوْلِنَا أَظْهَرُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } فَجَمَعَ بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ ؛ وَلِأَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمَحْظُورَاتِ الْحَجَّ وَالصَّلَاةَ مُخْطِئًا كَمَنْ فَعَلَهَا نَاسِيًا وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ أَفْطَرُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْقَضَاءِ وَلَكِنَّ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ قَالَ : لَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ وَأَبُوهُ أَعْلَمُ مِنْهُ وَكَانَ يَقُولُ : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الصَّحَابَةِ { كَانُوا يَأْكُلُونَ حَتَّى يَظْهَرَ لِأَحَدِهِمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدِهِمْ : إنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ إنَّمَا ذَلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ } وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِقَضَاءِ وَهَؤُلَاءِ جَهِلُوا الْحُكْمَ فَكَانُوا مُخْطِئِينَ . وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَفْطَرَ ثُمَّ تَبَيَّنَ النَّهَارُ فَقَالَ : لَا نَقْضِي فَإِنَّا لَمْ نَتَجَانَفْ لِإِثْمِ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : نَقْضِي ؛ وَلَكِنَّ

إسْنَادَ الْأَوَّلِ أَثْبَتُ وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْخَطْبُ يَسِيرٌ . فَتَأَوَّلَ ذَلِكَ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ خِفَّةَ أَمْرِ الْقَضَاءِ لَكِنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . وَفِي الْجُمْلَةِ فَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى أَثَرًا وَنَظَرًا وَأَشْبَهُ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي النَّاسِي أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ وَالْأَصْلُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَحْظُورًا نَاسِيًا لَمْ يَكُنْ قَدْ فَعَلَ مَنْهِيًّا عَنْهُ ؛ فَلَا يَبْطُلُ بِذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَطْءِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي إحْرَامٍ أَوْ صِيَامٍ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِيمَا يُرْوَى عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَاَلَّذِي يَلْتَزِمُهُ إنَّمَا كَانَ مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِخِلَافِهِمْ فَقَدْ يَكُونُ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ الصَّحِيحِ بَلْ وَلِلنَّصِّ الصَّرِيحِ . وَاَلَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّهُ حُجَّةٌ مَا كَانَ مِنْ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الَّذِي سَنُّوهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ خَالَفَهُمْ فِيهِ فَهَذَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ حُجَّةٌ بَلْ إجْمَاعٌ . وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ

الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . مِثَالُ ذَلِكَ حَبْسُ عُمْرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا للأرضين الْمَفْتُوحَةِ وَتَرْكُ قِسْمَتِهَا عَلَى الْغَانِمِينَ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ قَالَ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ خَيْبَرَ وَقَالَ : إنَّ الْإِمَامَ إذَا حَبَسَهَا نُقِضَ حُكْمُهُ لِأَجْلِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ فَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ وَجُرْأَةٌ عَلَى الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ؛ فَإِنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَيْبَرَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مَا فَعَلَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ ذَلِكَ لَكَانَ فِعْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ ؛ فَكَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ فَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً كَمَا اسْتَفَاضَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ ؛ بَلْ تَوَاتَرَ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَغَازِي وَالسِّيَرِ ؟ فَإِنَّهُ قَدِمَ حِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَنَزَلَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُصَالِحُهُ وَلَا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ أَحَدًا يُصَالِحُهُمْ بَلْ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ يَتَجَسَّسُ الْأَخْبَارَ فَأَخَذَهُ الْعَبَّاسُ وَقَدِمَ بِهِ كَالْأَسِيرِ وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْعَبَّاسُ أَمَّنَهُ فَصَارَ مُسْتَأْمَنًا ثُمَّ أَسْلَمَ فَصَارَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعْقِدَ عَقْدَ صُلْحِ الْكُفَّارِ بَعْدَ إسْلَامِهِ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْهُمْ ؟ مِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ الْأَمَانَ بِأَسْبَابِ كَقَوْلِهِ : { مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ

فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ } فَأَمَّنَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْهُ فَلَوْ كَانُوا مُعَاهَدِينَ لَمْ يَحْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ وَأَيْضًا فَسَمَّاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طُلَقَاءَ ؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَهُمْ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ كَمَا يُطْلَقُ الْأَسِيرُ فَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَطْلَقَهُمْ مِنْ الْأَسْرِ كثمامة بْنِ أَثَالٍ وَغَيْرِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ أَذِنَ فِي قَتْلِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ : { إنَّ مَكَّةَ لَمْ تَحِلّ لِأَحَدِ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدِ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } وَدَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ لَمْ يَدْخُلْهَا بِإِحْرَامِ فَلَوْ كَانُوا قَدْ صَالَحُوهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُحِلَّ لَهُ شَيْءٌ كَمَا لَوْ صَالَحَ مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِ الْحِلِّ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُحِلَّتْ فَكَيْفَ يَحِلُّ لَهُ الْبَلَدُ الْحَرَامُ وَأَهْلُهُ مُسَالِمُونَ لَهُ صُلْحٌ مَعَهُ ؟ وَأَيْضًا فَقَدْ قَاتَلُوا خَالِدًا وَقَتَلَ طَائِفَة مِنْهُمْ . وَفِي الْجُمْلَةِ : مَنْ تَدَبَّرَ الْآثَارَ الْمَنْقُولَةَ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَمَعَ هَذَا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقَسِّمْ أَرْضَهَا كَمَا لَمْ يَسْتَرِقّ رِجَالَهَا فَفَتَحَ خَيْبَرَ عَنْوَةً وَقَسَمَهَا وَفَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً وَلَمْ يَقْسِمْهَا فَعُلِمَ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ . وَالْأَقْوَالُ فِي هَذَا الْبَابِ ثَلَاثَةٌ : إمَّا وُجُوبُ قَسْمِ الْعَقَارِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ ؛ وَإِمَّا تَحْرِيمُ قَسْمِهِ وَوُجُوبُ تَحْبِيسِهِ كَقَوْلِ مَالِكٍ ؛ وَإِمَّا التَّخْيِيرُ

بَيْنَهُمَا كَقَوْلِ الْأَكْثَرِينَ : الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَأَبِي عُبَيْدٍ . وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَعَنْهُ كَالْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ . وَمِنْ أَشْكَلِ مَا أَشْكَلَ عَلَى الْفُقَهَاءِ مِنْ أَحْكَامِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ : امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَمَّا أَجَّلَ امْرَأَتَهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَأَمَرَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ ثُمَّ قَدِمَ الْمَفْقُودُ خَيَّرَهُ عُمَرُ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ مَهْرِهَا وَهَذَا مِمَّا اتَّبَعَهُ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ . وَأَمَّا طَائِفَة مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ فَقَالُوا : هَذَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ وَالْقِيَاسُ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى نِكَاحِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنْ نَقُولَ : الْفُرْقَةُ تَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَهِيَ زَوْجَةُ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالثَّانِي قَوْلُ مَالِكٍ . وَآخَرُونَ أَسْرَفُوا فِي إنْكَارِ هَذَا حَتَّى قَالُوا : لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِقَوْلِ عُمَرَ لَنُقِضَ حُكْمُهُ ؛ لِبُعْدِهِ عَنْ الْقِيَاسِ . وَآخَرُونَ أَخَذُوا بِبَعْضِ قَوْلِ عُمَرَ وَتَرَكُوا بَعْضَهُ فَقَالُوا : إذَا تَزَوَّجَتْ فَهِيَ زَوْجَةُ الثَّانِي وَإِذَا دَخَلَ بِهَا الثَّانِي فَهِيَ زَوْجَتُهُ وَلَا تُرَدُّ إلَى الْأَوَّلِ . وَمَنْ خَالَفَ عُمَرَ لَمْ يَهْتَدِ إلَى مَا اهْتَدَى إلَيْهِ عُمَرُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ الْخِبْرَةِ بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ مِثْلُ خِبْرَةِ عُمَرَ ؛ فَإِنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى

أَصْلٍ وَهُوَ وَقْفُ الْعُقُودِ إذَا تَصَرَّفَ الرَّجُلُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ : هَلْ يَقَعُ تَصَرُّفُهُ مَرْدُودًا أَوْ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : أَحَدُهُمَا : الرَّدُّ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى تَفْصِيلٍ عَنْهُ وَالرَّدُّ مُطْلَقًا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَوْقُوفٌ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَهَذَا فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ إذَا كَانَ مَعْذُورًا لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِئْذَانِ وَحَاجَتِهِ إلَى التَّصَرُّفِ وَقَفَ عَلَى الْإِجَازَةِ بِلَا نِزَاعٍ وَإِنْ أَمْكَنَهُ الِاسْتِئْذَانُ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَى التَّصَرُّفِ فَفِيهِ النِّزَاعُ فَالْأَوَّلُ مِثْلُ مَنْ عِنْدَهُ أَمْوَالٌ لَا يَعْرِفُ أَصْحَابَهَا كالغصوب وَالْعَوَارِيِّ وَنَحْوِهِمَا إذَا تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَيَئِسَ مِنْهَا ؛ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِك وَأَحْمَد أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَنْهُمْ فَإِنْ ظَهَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ كَانُوا مُخَيَّرِينَ بَيْنَ الْإِمْضَاءِ وَبَيْنَ التَّضْمِينِ وَهَذَا مِمَّا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي اللُّقْطَةِ ؛ فَإِنَّ الْمُلْتَقِطَ يَأْخُذُهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا ثُمَّ إنْ جَاءَ صَاحِبُهَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ إمْضَاءِ تَصَرُّفِهِ وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِهَا فَهُوَ تَصَرُّفٌ مَوْقُوفٌ ؛ لَكِنْ تَعَذَّرَ الِاسْتِئْذَانُ وَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّصَرُّفِ . وَكَذَلِكَ الْمُوصِي بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَصِيَّتُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ

عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَإِنَّمَا يُخَيَّرُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ فَفِي الْمَفْقُودِ الْمُنْقَطِعِ خَبَرُهُ إنْ قِيلَ : إنَّ امْرَأَتَهُ تَبْقَى إلَى أَنْ يُعْلَمَ خَبَرُهُ : بَقِيَتْ لَا أَيِّمًا وَلَا ذَاتَ زَوْجٍ إلَى أَنْ تَصِيرَ عَجُوزًا وَتَمُوتَ وَلَمْ تَعْلَمْ خَبَرَهُ وَالشَّرِيعَةُ لَمْ تَأْتِ بِمِثْلِ هَذَا . فَلَمَّا أُجِّلَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ وَلَمْ يَنْكَشِفْ خَبَرُهُ حُكِمَ بِمَوْتِهِ ظَاهِرًا . وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ يَسُوغُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا لِلْحَاجَةِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِ مَوْتَهُ وَإِلَّا فَلَوْ عَلِمَ حَيَاتَهُ لَمْ يَكُنْ مَفْقُودًا كَمَا سَاغَ التَّصَرُّفُ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ أَصْحَابِهَا فَإِذَا قَدِمَ الرَّجُلُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ حَيًّا كَمَا إذَا ظَهَرَ صَاحِبُ الْمَالِ وَالْإِمَامُ قَدْ تَصَرَّفَ فِي زَوْجَتِهِ بِالتَّفْرِيقِ فَيَبْقَى هَذَا التَّفْرِيقُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ فَإِنْ شَاءَ أَجَازَ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ وَإِذَا أَجَازَهُ صَارَ كَالتَّفْرِيقِ الْمَأْذُونِ فِيهِ . وَلَوْ أَذِنَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فَفَرَّقَ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِلَا رَيْبٍ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ نِكَاحُ الْأَوَّلِ صَحِيحًا . وَإِنْ لَمْ يُجِزْ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ كَانَ التَّفْرِيقُ بَاطِلًا مِنْ حِينِ اخْتَارَ امْرَأَتَهُ لَا مَا قَبْلَ ذَلِكَ بَلْ الْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ كَمَا فِي اللُّقْطَةِ فَإِنَّهُ إذَا ظَهَرَ مَالِكُهَا لَمْ يُبْطِلْ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ وَتَكُونُ بَاقِيَةً عَلَى نِكَاحِهِ مِنْ حِينِ اخْتَارَهَا ؛ فَتَكُونُ زَوْجَتَهُ فَيَكُونُ الْقَادِمُ مُخَيَّرًا بَيْنَ إجَازَةِ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ وَرَدِّهِ وَإِذَا أَجَازَهُ فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُضْعَ عَنْ مِلْكِهِ .
وَخُرُوجُ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ كَمَالِكِ

وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَنَصِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْمُسَمَّى كَمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ : هُوَ مَضْمُونٌ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَالنِّزَاعُ بَيْنَهُمْ فِيمَا إذَا شَهِدَ شُهُودٌ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَرَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ فَقِيلَ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ : بِنَاءً عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ اخْتَارَهَا مُتَأَخِّرُو أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَصْحَابِهِ وَقِيلَ : عَلَيْهِمْ مَهْرُ الْمِثْلِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَقِيلَ : عَلَيْهِمْ الْمُسَمَّى وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَهُوَ أَشْهَرُ فِي نُصُوصِ أَحْمَد وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا إذَا أَفْسَدَ نِكَاحَ امْرَأَتِهِ بِرَضَاعِ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالْمُسَمَّى وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ دَلَّا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا } وَقَوْلِهِ : { فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا } وَهَذَا الْمُسَمَّى دُونَ مَهْرِ الْمِثْلِ وَكَذَلِكَ { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوْجَ الْمُخْتَلَعَةِ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَعْطَاهَا } وَلَمْ يَأْمُرْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَهُوَ إنَّمَا يَأْمُرُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ بِالْعَدْلِ وَهُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَقِصَّةُ عُمَرَ تَنْبَنِي عَلَى هَذَا . وَالْقَوْلُ بِوَقْفِ الْعُقُودِ عِنْدَ الْحَاجَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ثَبَتَ

ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَ ذَلِكَ مِثْلَ قِصَّةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي صَدَقَتِهِ عَنْ سَيِّدِ الْجَارِيَةِ الَّتِي ابْتَاعَهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ لَمَّا تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ مَعْرِفَتُهُ وَكَتَصَدُّقِ الْغَالِّ بِالْمَالِ الْمَغْلُولِ لَمَّا تَعَذَّرَ قِسْمَتُهُ بَيْنَ الْجَيْشِ ؛ وَإِقْرَارِ مُعَاوِيَةَ عَلَى ذَلِكَ . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقَضَايَا مَعَ أَنَّ الْقَوْلَ بِوَقْفِ الْعُقُودِ مُطْلَقًا هُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْحُجَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إضْرَارًا أَصْلًا بَلْ صَلَاحٌ بِلَا فَسَادٍ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَرَى أَنْ يَشْتَرِيَ لِغَيْرِهِ أَوْ يَبِيعَ لَهُ أَوْ يَسْتَأْجِرَ لَهُ أَوْ يُوجِبَ لَهُ ثُمَّ يُشَاوِرَهُ فَإِنْ رَضِيَ وَإِلَّا فَلَمْ يُصِبْهُ مَا يَضُرُّهُ وَكَذَلِكَ فِي تَزْوِيجِ مُوَلِّيَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَمَّا مَعَ الْحَاجَةِ فَالْقَوْلُ بِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ فَمَسْأَلَةُ الْمَفْقُودِ هِيَ مِمَّا يَقِفُ فِيهَا تَعْرِيفُ الْإِمَامِ عَلَى إذْنِ الزَّوْجِ إذَا جَاءَ كَمَا يَقِفُ تَصَرُّفُ الْمُلْتَقِطِ عَلَى إذْنِ الْمَالِكِ إذَا جَاءَ وَالْقَوْلُ بِرَدِّ الْمَهْرِ إلَيْهِ لِخُرُوجِ امْرَأَتِهِ مِنْ مِلْكِهِ وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي الْمَهْرِ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ : هَلْ هُوَ مَا أَعْطَاهَا هُوَ أَوْ مَا أَعْطَاهَا الثَّانِي ؟ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَالصَّوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ بِمَهْرِهِ هُوَ ؛ فَإِنَّهُ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ وَأَمَّا الْمَهْرُ الَّذِي أَصْدَقَهَا الثَّانِي فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ . وَإِذَا ضَمِنَ الْأَوَّلُ لِلثَّانِيَ الْمَهْرَ فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ :

إحْدَاهُمَا : يَرْجِعُ لِأَنَّهَا الَّتِي أَخَذَتْهُ وَالثَّانِي قَدْ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ الَّذِي عَلَيْهِ فَلَا يَضْمَنُ مَهْرَيْنِ ؛ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا لَمَّا اخْتَارَتْ فِرَاقَ الْأَوَّلِ وَنِكَاحَ الثَّانِي فَعَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ الْمَهْرَ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْهَا . وَالثَّانِيَةُ : لَا يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا وَالْأَوَّلُ يَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ لِخُرُوجِ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِهِ فَكَانَ عَلَى الثَّانِي مَهْرَانِ . وَهَذَا الْمَأْثُورُ عَنْ عُمَرَ فِي " مَسْأَلَةِ الْمَفْقُودِ " هُوَ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَبْعَدِ الْأَقْوَالِ عَنْ الْقِيَاسِ حَتَّى قَالَ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ فِيهِ مَا قَالَ وَهُوَ مَعَ هَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَأَجْرَاهَا عَلَى الْقِيَاسِ وَكُلُّ قَوْلٍ قِيلَ سِوَاهُ فَهُوَ خَطَأٌ فَمَنْ قَالَ : إنَّهَا تُعَادُ إلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ لَا يَخْتَارُهَا وَلَا يُرِيدُهَا وَقَدْ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا تَفْرِيقًا سَائِغًا فِي الشَّرْعِ وَأَجَازَ هُوَ ذَلِكَ التَّفْرِيقَ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا اعْتَقَدَهُ فَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ لِلزَّوْجِ فَإِذَا أَجَازَ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ زَالَ الْمَحْذُورُ . وَأَمَّا كَوْنُهَا زَوْجَةَ الثَّانِي بِكُلِّ حَالٍ مَعَ ظُهُورِ زَوْجِهَا وَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا فَعَلَ فَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَمْ يُفَارِقْ امْرَأَتَهُ وَإِنَّمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَهُوَ يَطْلُبُ امْرَأَتَهُ فَكَيْفَ يُحَالُ بَيْنَهُمَا ؟ وَهُوَ لَوْ طَلَبَ مَالَهُ أَوْ بَدَلَهُ رُدَّ إلَيْهِ فَكَيْفَ لَا تُرَدُّ إلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَأَهْلُهُ

أَعَزُّ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ ؟ وَإِنْ قِيلَ : تَعَلَّقَ حَقُّ الثَّانِي بِهَا قِيلَ : حَقُّهُ سَابِقٌ عَلَى حَقِّ الثَّانِي وَقَدْ ظَهَرَ انْتِقَاضُ السَّبَبِ الَّذِي بِهِ اسْتَحَقَّ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ وَمَا الْمُوجِبُ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الثَّانِي دُونَ حَقِّ الْأَوَّلِ . فَالصَّوَابُ مَا قَضَى بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَإِذَا ظَهَرَ صَوَابُ الصَّحَابَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُشْكِلَاتِ الَّتِي خَالَفَهُمْ فِيهَا مِثْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فَلَأَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ مَعَهُمْ فِيمَا وَافَقَهُمْ فِيهِ هَؤُلَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَقَدْ تَأَمَّلْت مِنْ هَذَا الْبَابِ مَا شَاءَ اللَّهُ فَرَأَيْت الصَّحَابَةَ أَفْقَهَ الْأُمَّةِ وَأَعْلَمَهَا وَاعْتُبِرَ هَذَا بِمَسَائِلِ الْأَيْمَانِ بِالنَّذْرِ وَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمَسَائِلِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشُّرُوطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنْت فِيمَا كَتَبْته أَنَّ الْمَنْقُولَ فِيهَا عَنْ الصَّحَابَةِ هُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ قَضَاءً وَقِيَاسًا وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ وَكُلُّ قَوْلٍ سِوَى ذَلِكَ تَنَاقُضٌ فِي الْقِيَاسِ مُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ . وَكَذَلِكَ فِي مَسَائِلِ غَيْرِ هَذِهِ مِثْلَ مَسْأَلَةِ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ وَمَسْأَلَةِ مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ . وَمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْمَسَائِلِ لَمْ أَجِدْ أَجْوَدَ الْأَقْوَالِ فِيهَا إلَّا الْأَقْوَالَ الْمَنْقُولَةَ عَنْ الصَّحَابَةِ .

وَإِلَى سَاعَتِي هَذِهِ مَا عَلِمْت قَوْلًا قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ إلَّا وَكَانَ الْقِيَاسُ مَعَهُ لَكِنَّ الْعِلْمَ بِصَحِيحِ الْقِيَاسِ وَفَاسِدِهِ مِنْ أَجَلِّ الْعُلُومِ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ خَبِيرًا بِأَسْرَارِ الشَّرْعِ وَمَقَاصِدِهِ ؛ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمَحَاسِنِ الَّتِي تَفُوقُ التَّعْدَادَ ؛ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ ؛ وَمَا فِيهَا مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالرَّحْمَةِ السَّابِغَةِ ؛ وَالْعَدْلِ التَّامِّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : (*)
هَلْ يَسُوغُ تَقْلِيدُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ : كَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَقَدْ قَالَ عَنْهُمْ رَجُلٌ - أَعْنِي هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةَ الْمَذْكُورِينَ - هَؤُلَاءِ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِمْ . فَصَاحِبُ هَذَا الْكَلَامِ مَا حُكْمُهُ ؟ .
فَأَجَابَ : وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ الْمَذْكُورُونَ فَمِنْ سَادَاتِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ الثَّوْرِيَّ إمَامُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَهُوَ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ أَجَلّ مِنْ أَقْرَانِهِ كَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَلَهُ مَذْهَبٌ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ بِأَرْضِ خُرَاسَانَ . وَالْأَوْزَاعِيُّ إمَامُ أَهْلِ الشَّامِ وَمَا زَالُوا عَلَى مَذْهَبِهِ إلَى الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ بَلْ أَهْلُ الْمَغْرِبِ كَانُوا عَلَى مَذْهَبِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ إلَيْهِمْ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ هُوَ شَيْخُ أَبِي حَنِيفَةَ .

وَمَعَ هَذَا فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِمَا . وَمَذْهَبُهُ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ . وَمَذْهَبُهُمْ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ فَلَمْ يَجْمَعْ النَّاسُ الْيَوْمَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ ؛ بَلْ الْقَائِلُونَ بِهِ كَثِيرٌ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَرْقٌ فِي الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ بَيْنَ شَخْصٍ وَشَخْصٍ . فَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِي وَالثَّوْرِيُّ : هَؤُلَاءِ أَئِمَّةٌ فِي زَمَانِهِمْ وَتَقْلِيدُ كُلٍّ مِنْهُمْ كَتَقْلِيدِ الْآخَرِ ؛ لَا يَقُولُ مُسْلِمٌ إنَّهُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ هَذَا دُونَ هَذَا وَلَكِنْ مَنْ مَنَعَ مِنْ تَقْلِيدِ أَحَدِ هَؤُلَاءِ فِي زَمَانِنَا فَإِنَّمَا يَمْنَعُهُ لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَنْ يَعْرِفُ مَذَاهِبَهُمْ وَتَقْلِيدُ الْمَيِّتِ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ . فَمَنْ مَنَعَهُ قَالَ هَؤُلَاءِ مَوْتَى وَمَنْ سَوَّغَهُ قَالَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَحْيَاءِ مَنْ يَعْرِفُ قَوْلَ الْمَيِّتِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَقُولَ : الْإِجْمَاعُ الْيَوْمَ قَدْ انْعَقَدَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ وَيَنْبَنِي ذَلِكَ عَلَى مَسْأَلَةٍ مَعْرُوفَةٍ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَهِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ مَثَلًا أَوْ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ إذَا اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ ثُمَّ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ أَوْ أَهْلُ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى أَحَدِهِمَا فَهَلْ يَكُونُ هَذَا إجْمَاعًا يَرْفَعُ ذَلِكَ الْخِلَافَ ؟ وَفِي الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ مَعَ إجْمَاعِ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي لَا يَسُوغُ الْأَخْذُ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ وَاعْتَقَدَ أَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ يُرَكَّبُ مِنْ هَذَيْنِ

الِاعْتِقَادَيْنِ الْمَنْعُ . وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْخِلَافَ الْقَدِيمَ حُكْمُهُ بَاقٍ ؛ لِأَنَّ الْأَقْوَالَ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ قَائِلِهَا : فَإِنَّهُ يَسُوغُ الذَّهَابُ إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ لِلْمُجْتَهِدِ الَّذِي وَافَقَ اجْتِهَادَهُ وَأَمَّا التَّقْلِيدُ فَيَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةِ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ وَفِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ أَيْضًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَوْلُ الَّذِي يَقُولُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ أَوْ غَيْرُهُمْ قَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْبَاقِيَةُ مَذَاهِبُهُمْ فَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَهُ مُؤَيَّدٌ بِمُوَافَقَةِ هَؤُلَاءِ وَيَعْتَضِدُ بِهِ وَيُقَابِلُ بِهَؤُلَاءِ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ أَقْرَانِهِمْ : فَيُقَابِلُ بِالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي أَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا ؛ إذْ الْأُمَّةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِي وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ قَوْلُ هَذَا هُوَ صَوَابٌ دُونَ هَذَا إلَّا بِحُجَّةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
__________
آخِرُ الْمُجَلَّدِ الْعِشْرْينَ

الْجُزْءُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ
كِتَابُ الْفِقْهِ
الْجُزْءُ الْأَوَّلُ : الْطَّهَارَةُ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بَابُ الْمِيَاهِ
وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الْقُدْوَةُ رَبَّانِيُّ الْأُمَّةِ وَمُحْيِي السُّنَّةِ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ ؛ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامِ الْمُهْتَدِينَ وَعَلَى آلِهِ أَجْمَعِينَ .
فَصْلٌ :
أَمَّا الْعِبَادَاتُ : فَأَعْظَمُهَا الصَّلَاةُ . وَالنَّاسُ : إمَّا أَنْ يَبْتَدِئُوا مَسَائِلَهَا بِالطُّهُورِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ } كَمَا رَتَّبَهُ أَكْثَرُهُمْ وَإِمَّا بِالْمَوَاقِيتِ الَّتِي تَجِبُ بِهَا الصَّلَاةُ كَمَا فَعَلَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ .

فَأَمَّا الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ فَنَوْعَانِ : مِنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ - فِي اللِّبَاسِ وَنَحْوِهِ - تَابِعَانِ لِلْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ . وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ الْجَامِعِ : وَسَطٌ بَيْنَ مَذْهَبِ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْحِجَازِيِّينَ فَإِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ - مَالِكًا وَغَيْرَهُ - يُحَرِّمُونَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ كُلَّ مُسْكِرٍ كَمَا صَحَّتْ بِذَلِكَ النُّصُوصُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَلَيْسُوا فِي الْأَطْعِمَةِ كَذَلِكَ بَلْ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ فِيهَا عَدَمُ التَّحْرِيمِ فَيُبِيحُونَ الطُّيُورَ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَاتِ الْمَخَالِبِ وَيَكْرَهُونَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَفِي تَحْرِيمِهَا عَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ . وَكَذَلِكَ فِي الْحَشَرَاتِ عَنْهُ : هَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ ؟ رِوَايَتَانِ . وَكَذَلِكَ الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ وَرُوِيَ عَنْهُ : أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ أَشَدَّ مِنْ كَرَاهَةِ السِّبَاعِ وَرُوِيَ عَنْهُ : أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ بِالسُّنَّةِ دُونَ تَحْرِيمِ الْحَمِيرِ وَالْخَيْلُ أَيْضًا يَكْرَهُهَا لَكِنْ دُونَ كَرَاهَةِ السِّبَاعِ . وَأَهْلُ الْكُوفَةِ فِي بَاب الْأَشْرِبَةِ مُخَالِفُونَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلِسَائِرِ النَّاسِ لَيْسَتْ الْخَمْرُ عِنْدَهُمْ إلَّا مِنْ الْعِنَبِ وَلَا يُحَرِّمُونَ الْقَلِيلَ مِنْ الْمُسْكِرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ خَمْرًا مِنْ الْعِنَبِ أَوْ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ أَوْ الزَّبِيبِ النِّيءِ أَوْ يَكُونَ مِنْ مَطْبُوخِ عَصِيرِ الْعِنَبِ إذَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلْثَاهُ . وَهُمْ فِي

الْأَطْعِمَةِ فِي غَايَةِ التَّحْرِيمِ حَتَّى حَرَّمُوا الْخَيْلَ وَالضِّبَابَ وَقِيلَ : إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَكْرَهُ الضَّبَّ وَالضِّبَاعَ وَنَحْوَهَا . فَأَخَذَ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي الْأَشْرِبَةِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ مُوَافَقَةً لِلسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي التَّحْرِيمِ وَزَادُوا عَلَيْهِمْ فِي مُتَابَعَةِ السُّنَّةِ . وَصَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَد كِتَابًا كَبِيرًا فِي الْأَشْرِبَةِ مَا عَلِمْت أَحَدًا صَنَّفَ أَكْبَرَ مِنْهُ وَكِتَابًا أَصْغَرَ مِنْهُ . وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ فِي الْعِرَاقِ هَذِهِ السُّنَّةَ حَتَّى إنَّهُ دَخَلَ بَعْضُهُمْ بَغْدَادَ فَقَالَ : هَلْ فِيهَا مَنْ يُحَرِّمُ النَّبِيذَ ؟ فَقَالُوا : لَا إلَّا أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَأَخَذَ فِيهِ بِعَامَّةِ السُّنَّةِ حَتَّى إنَّهُ حَرَّمَ الْعَصِيرَ وَالنَّبِيذَ بَعْدَ ثَلَاثٍ . وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ شِدَّةُ مُتَابَعَةٍ لِلسُّنَّةِ الْمَأْثُورَةِ فِي ذَلِكَ . لِأَنَّ الثَّلَاثَ مَظِنَّةُ ظُهُورِ الشِّدَّةِ غَالِبًا . وَالْحِكْمَةُ هُنَا : مِمَّا تَخْفَى فَأُقِيمَتْ الْمَظِنَّةُ مَقَامَ الْحِكْمَةِ حَتَّى إنَّهُ كَرِهَ الْخَلِيطَيْنِ إمَّا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ أَوْ تَحْرِيمٍ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَحَتَّى اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ : هَلْ هُوَ مُبَاحٌ ؛ أَوْ مُحَرَّمٌ ؛ أَوْ مَكْرُوهٌ ؟ لِأَنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَأَحَادِيثَ النَّسْخِ قَلِيلَةٌ . فَاخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ : هَلْ تُنْسَخُ تِلْكَ الْأَخْبَارُ الْمُسْتَفِيضَةُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا أَخْبَارُ آحَادٍ وَلَمْ يُخَرِّجْ الْبُخَارِيُّ مِنْهَا شَيْئًا ؟

وَأَخَذُوا فِي الْأَطْعِمَةِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ ؛ لِصِحَّةِ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ ؛ وَتَحْرِيمِ لُحُومِ الْحُمُرِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ تَمَسَّكَ فِي هَذَا الْبَابِ بِعَدَمِ وُجُودِ نَصِّ التَّحْرِيمِ فِي الْقُرْآنِ حَيْثُ قَالَ : { لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْت بِهِ أَوْ نَهَيْت عَنْهُ فَيَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هَذَا الْقُرْآنُ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ أَحْلَلْنَاهُ ؛ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ . أَلَا وَإِنِّي أُوتِيت الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى } وَهَذَا الْمَعْنَى مَحْفُوظٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ .
وَعَلِمُوا أَنَّ مَا حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هُوَ زِيَادَةُ تَحْرِيمٍ لَيْسَ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ إنَّمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ إلَّا الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَعَدَمُ التَّحْرِيمِ لَيْسَ تَحْلِيلًا وَإِنَّمَا هُوَ بَقَاءٌ لِلْأَمْرِ عَلَى مَا كَانَ وَهَذَا قَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي هِيَ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ كَمَا ظَنَّهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهَا مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا وَإِنَّمَا سُورَةُ الْمَائِدَةِ هِيَ الْمُتَأَخِّرَةُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِيهَا : { أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } فَعُلِمَ أَنَّ عَدَمَ التَّحْرِيمِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ لَيْسَ تَحْلِيلًا وَإِنَّمَا هُوَ عَفْوٌ . فَتَحْرِيمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَافِعٌ

لِلْعَفْوِ لَيْسَ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ . لَكِنْ لَمْ يُوَافِقْ أَهْلُ الْحَدِيثِ الْكُوفِيِّينَ عَلَى جَمِيعِ مَا حَرَّمُوهُ بَلْ أَحَلُّوا الْخَيْلَ لِصِحَّةِ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْلِيلِهَا يَوْمَ خَيْبَرَ وَبِأَنَّهُمْ ذَبَحُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا وَأَكَلُوا لَحْمَهُ . وَأَحَلُّوا الضَّبَّ لِصِحَّةِ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ قَالَ : { لَا أُحَرِّمُهُ } وَبِأَنَّهُ أُكِلَ عَلَى مَائِدَتِهِ وَهُوَ يَنْظُرُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ أَكَلَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ فِيهِ الرُّخْصَةُ . فَنَقَصُوا عَمَّا حَرَّمَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ كَمَا زَادُوا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْأَشْرِبَةِ ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ أَكْثَرُ مِنْ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَطْعِمَةِ . وَلِأَهْلِ الْمَدِينَةِ سَلَفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي اسْتِحْلَالِ مَا أَحَلُّوهُ أَكْثَرُ مِنْ سَلَفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي اسْتِحْلَالِ الْمُسْكِرِ . وَالْمَفَاسِدُ النَّاشِئَةُ مِنْ الْمُسْكِرِ : أَعْظَمُ مِنْ مَفَاسِدِ خَبَائِثِ الْأَطْعِمَةِ ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ الْخَمْرُ " أُمَّ الْخَبَائِثِ " كَمَا سَمَّاهَا عُثْمَانُ بْنُ عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَلْدِ شَارِبِهَا وَفَعَلَهُ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ دُونَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَحُدَّ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا مَا بَلَغَنَا عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بَلْ قَدْ أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

بِقَتْلِ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ . وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا صَحَّ عَنْهُ - عَنْ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ وَأَمَرَ بِشَقِّ ظُرُوفِهَا وَكَسْرِ دِنَانِهَا وَإِنْ كَانَ قَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ مِنْ أَحْمَد : هَلْ هَذَا بَاقٍ أَوْ مَنْسُوخٌ ؟ وَلَمَّا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا حَرَّمَ الْخَبَائِثَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْفَسَادِ : إمَّا فِي الْعُقُولِ ؛ أَوْ الْأَخْلَاقِ ؛ أَوْ غَيْرِهَا : ظَهَرَ عَلَى الَّذِينَ اسْتَحَلُّوا بَعْضَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ أَوْ الْأَشْرِبَةِ مِنْ النَّقْصِ بِقَدْرِ مَا فِيهَا مِنْ الْمَفْسَدَةِ وَلَوْلَا التَّأْوِيلُ لَاسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ .
ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد وَغَيْرَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ زَادُوا فِي مُتَابَعَةِ السُّنَّةِ عَلَى غَيْرِهِمْ ؛ بِأَنْ أَمَرُوا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِمَّا يُزِيلُ ضَرَرَ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ مِثْلَ : لُحُومِ الْإِبِلِ فَإِنَّهَا حَلَالٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَكِنْ فِيهَا مِنْ الْقُوَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { إنَّهَا جِنٌّ خُلِقَتْ مِنْ جِنٍّ } " وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد : { الْغَضَبُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مِنْ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ } فَأَمَرَ بِالتَّوَضُّؤِ مِنْ الْأَمْرِ الْعَارِضِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَأَكْلُ لَحْمِهَا يُورِثُ قُوَّةً شَيْطَانِيَّةً تَزُولُ بِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوُضُوءِ مِنْ لَحْمِهَا كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَالْبَرَاءِ بْنِ

عَازِبٍ وأسيد بْنِ الحضير وَذِي الْغُرَّةِ وَغَيْرِهِمْ فَقَالَ مَرَّةً : { تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَلَا تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ وَصَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ } فَمَنْ تَوَضَّأَ مِنْ لُحُومِهَا انْدَفَعَ عَنْهُ مَا يُصِيبُ الْمُدْمِنِينَ لِأَكْلِهَا مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ كَالْأَعْرَابِ : مِنْ الْحِقْدِ وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ ؛ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ الْمُخَرَّجِ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ : { إنَّ الْغِلْظَةَ وَقَسْوَةَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ أَصْحَابِ الْإِبِلِ وَإِنَّ السَّكِينَةَ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ } . وَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَد : هَلْ يُتَوَضَّأُ مِنْ سَائِرِ اللُّحُومِ الْمُحَرَّمَةِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مُخْتَصٌّ بِهَا أَوْ أَنَّ الْمُحَرَّمَ أَوْلَى بِالتَّوَضُّؤِ مِنْهُ مِنْ الْمُبَاحِ الَّذِي فِيهِ نَوْعُ مَضَرَّةٍ . وَسَائِرُ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَافَقُوا أَحْمَد عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَعَلِمُوا أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِتَرْكِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ فَقَدْ أَبْعَدَ ؛ لِأَنَّهُ فَرَّقَ فِي الْحَدِيثِ بَيْنَ اللَّحْمَيْنِ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَهُمَا لَا الْجَامِعُ . وَكَذَلِكَ قَالُوا بِمَا اقْتَضَاهُ الْحَدِيثُ : مِنْ أَنَّهُ يُتَوَضَّأُ مِنْهُ نِيئًا وَمَطْبُوخًا وَلِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ كَانَ بَعْدَ النَّسْخِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي لَحْمِ الْغَنَمِ : { وَإِنْ شِئْت فَلَا تَتَوَضَّأْ } وَلِأَنَّ النَّسْخَ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِالتَّرْكِ

مِنْ لَحْمِ غَنَمٍ فَلَا عُمُومَ لَهُ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ جَابِرٍ : { كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ : تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ } فَإِنَّهُ رَآهُ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ رَآهُ أَكَلَ لَحْمَ غَنَمٍ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِيغَةٌ عَامَّةٌ فِي ذَلِكَ وَلَوْ نَقَلَهَا لَكَانَ فِيهِ نَسْخٌ لِلْخَاصِّ بِالْعَامِّ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ شُمُولُهُ لِذَلِكَ الْخَاصِّ عَيْنًا وَهُوَ أَصْلٌ لَا يَقُولُ بِهِ أَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ . هَذَا مَعَ أَنَّ أَحَادِيثَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بَلْ قَدْ قِيلَ : إنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ وَلَكِنَّ أَحَدَ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْهَا مُسْتَحَبٌّ ؛ لَيْسَ بِوَاجِبِ . وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : لَا يُسْتَحَبُّ .
فَلَمَّا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِتَجَنُّبِ الْخَبَائِثِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالتَّطَهُّرِ مِنْهَا : كَذَلِكَ جَاءَتْ بِتَجَنُّبِ الْخَبَائِثِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالتَّطَهُّرِ مِنْهَا . حَتَّى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخَرَيْهِ مِنْ الْمَاءِ ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ } وَقَالَ : { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ ؟ } فَعَلَّلَ الْأَمْرَ بِالْغَسْلِ بِمَبِيتِ الشَّيْطَانِ عَلَى خَيْشُومِهِ فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلطَّهَارَةِ مِنْ غَيْرِ النَّجَاسَةِ الظَّاهِرَةِ فَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّبَبَ لِغَسْلِ يَدِ الْقَائِمِ مَنْ نَوْمِ اللَّيْلِ .

وَكَذَلِكَ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ ؛ وَقَالَ : " إنَّهَا جِنٌّ خُلِقَتْ مِنْ جِنٍّ " كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ } وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ : { أَنَّ الْحَمَّامَ بَيْتُ الشَّيْطَانِ } وَثَبَتَ عَنْهُ : أَنَّهُ لَمَّا ارْتَحَلَ عَنْ الْمَكَانِ الَّذِي نَامُوا فِيهِ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ قَالَ : { إنَّهُ مَكَانٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ } . فَعَلَّلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمَاكِنَ بِالْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ كَمَا يُعَلَّلُ بِالْأَجْسَامِ الْخَبِيثَةِ وَبِهَذَا يَقُولُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَمَذْهَبُهُ الظَّاهِرُ عَنْهُ : أَنَّ مَا كَانَ مَأْوًى لِلشَّيَاطِينِ - كَالْمَعَاطِنِ وَالْحَمَّامَاتِ - حَرُمَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ . وَمَا عَرَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ - كَالْمَكَانِ الَّذِي نَامُوا فِيهِ عَنْ الصَّلَاةِ - كُرِهَتْ فِيهِ الصَّلَاةُ . وَالْفُقَهَاءُ الَّذِينَ لَمْ يَنْهَوْا عَنْ ذَلِكَ : إمَّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا هَذِهِ النُّصُوصَ سَمَاعًا تَثْبُتُ بِهِ عِنْدَهُمْ ؛ أَوْ سَمِعُوهَا وَلَمْ يَعْرِفُوا الْعِلَّةَ : فَاسْتَبْعَدُوا ذَلِكَ عَنْ الْقِيَاسِ فَتَأَوَّلُوهُ . وَأَمَّا مَنْ نَقَلَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَوْ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ خِلَافَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ؛ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَوَضَّئُونَ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ : فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِمْ وَإِنَّمَا تَوَهَّمَ ذَلِكَ لِمَا نُقِلَ عَنْهُمْ : " أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَوَضَّئُونَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ " وَإِنَّمَا الْمُرَادُ : أَنَّ أَكْلَ مَا مَسَّ النَّارَ لَيْسَ هُوَ سَبَبًا عِنْدَهُمْ لِوُجُوبِ

الْوُضُوءِ وَاَلَّذِي أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ لَيْسَ سَبَبُهُ مَسَّ النَّارِ كَمَا يُقَالُ : كَانَ فُلَانٌ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ . وَإِنْ كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ إذَا خَرَجَ مِنْهُ مَذْيٌ . وَمِنْ تَمَامِ هَذَا : أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَجَاءَ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِمَا : أَنَّهُ { يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ وَالْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ } وَفَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ : بِأَنَّ { الْأَسْوَدَ شَيْطَانٌ } وَصَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الشَّيْطَانَ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ صَلَاتِي فَأَخَذْته فَأَرَدْت أَنْ أَرْبُطَهُ إلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ } - الْحَدِيثَ فَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ . فَهَذَا أَيْضًا يَقْتَضِي أَنَّ مُرُورَ الشَّيْطَانِ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ ؛ فَلِذَلِكَ أَخَذَ أَحْمَد بِذَلِكَ فِي الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ ؛ وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ ؛ لِأَنَّهُ عَارَضَ هَذَا الْحَدِيثَ حَدِيثُ عَائِشَةَ لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهِيَ فِي قِبْلَتِهِ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا اجْتَازَ عَلَى أَتَانِهِ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ بِمِنًى مَعَ أَنَّ الْمُتَوَجَّهَ : أَنَّ الْجَمِيعَ يَقْطَعُ وَأَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَارِّ وَاللَّابِثِ كَمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي الرَّجُلِ فِي كَرَاهَةِ مُرُورِهِ دُونَ لُبْثِهِ فِي الْقِبْلَةِ إذَا اسْتَدْبَرَهُ الْمُصَلِّي وَلَمْ يَكُنْ مُتَحَدِّثًا

وَأَنَّ مُرُورَهُ يُنْقِصُ ثَوَابَ الصَّلَاةِ دُونَ اللُّبْثِ . وَاخْتَلَفَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فِي الشَّيْطَانِ الْجِنِّيِّ إذَا عُلِمَ بِمُرُورِهِ : هَلْ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ ؟ وَالْأَوْجَهُ : أَنَّهُ يَقْطَعُهَا بِتَعْلِيلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِظَاهِرِ قَوْلِهِ : { يَقْطَعَ صَلَاتِي } لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ فِي الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ مِنْ الْجِنِّ وَشَيَاطِينِ الدَّوَابِّ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ فِي أَمْكِنَتِهِمْ وَمَمَرِّهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ : قَوِيَّةٌ فِي الدَّلِيلِ نَصًّا وَقِيَاسًا وَلِذَلِكَ أَخَذَ بِهَا فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ وَلَكِنَّ مَدْرَكَ عِلْمِهَا أَثَرًا هُوَ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ . وَمُدْرِكُهُ قِيَاسًا : هُوَ فِي بَاطِنِ الشَّرِيعَةِ وَظَاهِرِهَا دُونَ التَّفَقُّهِ فِي ظَاهِرِهَا فَقَطْ . وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَئِمَّةِ مَنْ اسْتَعْمَلَ هَذِهِ السُّنَنَ الصَّحِيحَةَ النَّافِعَةَ لَكَانَ وَصْمَةً عَلَى الْأُمَّةِ تَرْكُ مِثْلِ ذَلِكَ وَالْأَخْذُ بِمَا لَيْسَ بِمِثْلِهِ لَا أَثَرًا وَلَا رَأْيًا . وَلَقَدْ كَانَ أَحْمَد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْجَبُ مِمَّنْ يَدَعُ حَدِيثَ { الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ } مَعَ صِحَّتِهِ الَّتِي لَا شَكَّ فِيهَا وَعَدَمِ الْمُعَارِضِ لَهُ وَيَتَوَضَّأُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ مَعَ تَعَارُضِ الْأَحَادِيثِ فِيهِ وَأَنَّ أَسَانِيدَهَا لَيْسَتْ كَأَحَادِيثِ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَلِذَلِكَ أَعْرَضَ عَنْهَا الشَّيْخَانِ : الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ . وَإِنْ كَانَ أَحْمَد عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْهُ يُرَجِّحُ أَحَادِيثَ الْوُضُوءِ

مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ لَكِنَّ غَرَضَهُ : أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ أَقْوَى فِي الْحُجَّةِ مِنْ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ . وَقَدْ ذَكَرْت مَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أَظْهَرُ فِي الْقِيَاسِ مِنْهُ فَإِنَّ تَأْثِيرَ الْمُخَالَطَةِ أَعْظَمُ مِنْ تَأْثِيرِ الْمُلَامَسَةِ وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ نَجِسٍ مُحَرَّمَ الْأَكْلِ وَلَيْسَ كُلُّ مُحَرَّمِ الْأَكْلِ نَجِسًا . وَكَانَ أَحْمَد يَعْجَبُ أَيْضًا مِمَّنْ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَيَتَوَضَّأُ مِنْ الضَّحِكِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ الْقِيَاسِ وَالْأَثَرِ وَالْأَثَرُ فِيهِ مُرْسَلٌ قَدْ ضَعَّفَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَقَدْ صَحَّ عَنْ الصَّحَابَةِ مَا يُخَالِفُهُ . وَاَلَّذِينَ خَالَفُوا أَحَادِيثَ الْقَطْعِ لِلصَّلَاةِ لَمْ يُعَارِضُوهَا إلَّا بِتَضْعِيفِ بَعْضِهِمْ وَهُوَ تَضْعِيفُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْحَدِيثَ كَمَا ذَكَرَ أَصْحَابُهُ أَوْ بِأَنْ عَارَضُوهَا بِرِوَايَاتِ ضَعِيفَةٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ } أَوْ بِمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ مُخْتَلِفِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . أَوْ بِرَأْيٍ ضَعِيفٍ لَوْ صَحَّ لَمْ يُقَاوِمْ هَذِهِ الْحُجَّةَ خُصُوصًا مَذْهَبُ أَحْمَد . فَهَذَا أَصْلٌ فِي الْخَبَائِثِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّةِ .
وَأَصْلٌ آخَرُ وَهُوَ : أَنَّ الْكُوفِيِّينَ قَدْ عُرِفَ تَخْفِيفُهُمْ فِي الْعَفْوِ

عَنْ النَّجَاسَةِ فَيَعْفُونَ مِنْ الْمُغَلَّظَةِ : عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ البغلي وَمِنْ الْمُخَفَّفَةِ : عَنْ رُبُعِ الْمَحَلِّ الْمُتَنَجِّسِ . وَالشَّافِعِيُّ بِإِزَائِهِمْ فِي ذَلِكَ فَلَا يَعْفُو عَنْ النَّجَاسَاتِ إلَّا عَنْ أَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ ؛ وَوَنِيمِ الذُّبَابِ وَنَحْوِهِ وَلَا يَعْفُو عَنْ دَمٍ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ إلَّا عَنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ وَنَحْوِهِ مَعَ أَنَّهُ يُنَجِّسُ أَرْوَاثَ الْبَهَائِمِ وَأَبْوَالَهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ فِي النَّجَاسَاتِ نَوْعًا وَقَدْرًا أَشَدُّ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَمَالِكٌ مُتَوَسِّطٌ فِي نَوْعِ النَّجَاسَةِ وَفِي قَدْرِهَا ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ بِنَجَاسَةِ الْأَرْوَاثِ وَالْأَبْوَالِ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَيَعْفُو عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ وَغَيْرِهِ . وَأَحْمَد كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ مُتَوَسِّطٌ فِي النَّجَاسَاتِ فَلَا يُنَجِّسُ الْأَرْوَاثَ وَالْأَبْوَالَ وَيَعْفُو عَنْ الْيَسِيرِ مِنْ النَّجَاسَاتِ الَّتِي يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا حَتَّى إنَّهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ يَعْفُو عَنْ يَسِيرِ رَوْثِ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَبَوْلِ الْخُفَّاشِ ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بَلْ يَعْفُو فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْيَسِيرِ مِنْ الرَّوْثِ وَالْبَوْلِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُوجِبُ اجْتِنَابَ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ عَنْهُ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ كَمَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَلَوْ صَلَّى بِهَا جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ ؛ كَقَوْلِ مَالِكٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَلَعَ نَعْلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْأَذَى الَّذِي فِيهِمَا وَلَمْ يَسْتَقْبِلْ الصَّلَاةَ وَلَمَّا صَلَّى الْفَجْرَ فَوَجَدَ فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةً أَمَرَ بِغَسْلِهَا وَلَمْ يُعِدْ الصَّلَاةَ . وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى : تَجِبُ الْإِعَادَةُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَأَصْلٌ آخَرُ فِي إزَالَتِهَا فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : تُزَالُ بِكُلِّ مُزِيلٍ مِنْ الْمَائِعَاتِ وَالْجَامِدَاتِ . وَالشَّافِعِيُّ لَا يَرَى إزَالَتَهَا إلَّا بِالْمَاءِ حَتَّى مَا يُصِيبُ أَسْفَلَ الْخُفِّ وَالْحِذَاءِ وَالذَّيْلِ : لَا يُجْزِئُ فِيهِ إلَّا الْغَسْلُ بِالْمَاءِ ؛ وَحَتَّى نَجَاسَةَ الْأَرْضِ . وَمَذْهَبُ أَحْمَد فِيهِ مُتَوَسِّطٌ ؛ فَكُلُّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ قَالَ بِهِ : يَجُوزُ - فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - مَسْحُهَا بِالتُّرَابِ وَنَحْوِهِ مِنْ النَّعْلِ وَنَحْوِهِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ . كَمَا يَجُوزُ مَسْحُهَا مِنْ السَّبِيلَيْنِ ؛ فَإِنَّ السَّبِيلَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ كَأَسْفَلِ الْخُفِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الثِّيَابِ فِي تَكَرُّرِ النَّجَاسَةِ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي أَسْفَلِ الذَّيْلِ : هَلْ هُوَ كَأَسْفَلِ الْخُفِّ ؟ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَاسْتِوَاؤُهَا لِلْأَثَرِ فِي ذَلِكَ . وَالْقِيَاسُ : إزَالَتُهَا عَنْ الْأَرْضِ بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ . . . (1) يَجِبُ التَّوَسُّطُ فِيهِ . فَإِنَّ التَّشْدِيدَ فِي النَّجَاسَاتِ جِنْسًا وَقَدَرًا هُوَ دِينُ الْيَهُودِ وَالتَّسَاهُلُ

هُوَ دِينُ النَّصَارَى وَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ الْوَسَطُ . فَكُلُّ قَوْلٍ يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْبَابِ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى دِينِ الْإِسْلَامِ . وَأَصْلٌ آخَرُ : وَهُوَ اخْتِلَاطُ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ كَاخْتِلَاطِ الْمَائِعِ الطَّاهِرِ بِالنَّجِسِ فَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ فِيهِ مِنْ الشِّدَّةِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ . وَسِرُّ قَوْلِهِمْ : إلْحَاقُ الْمَاءِ بِسَائِرِ الْمَائِعَاتِ ؛ وَأَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي مَائِعٍ لَمْ يَكُنْ اسْتِعْمَالُهُ إلَّا بِاسْتِعْمَالِ الْخَبَثِ فَيَحْرُمُ الْجَمِيعُ مَعَ أَنَّ تَنْجِيسَ الْمَائِعِ غَيْرَ الْمَاءِ الْآثَارُ فِيهِ قَلِيلَةٌ . وَبِإِزَائِهِمْ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ؛ فَإِنَّهُمْ - فِي الْمَشْهُورِ - لَا يُنَجِّسُونَ الْمَاءَ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ وَلَا يَمْنَعُونَ مِنْ الْمُسْتَعْمَلِ وَلَا غَيْرِهِ مُبَالَغَةً فِي طَهُورِيَّةِ الْمَاءِ مَعَ فَرْقِهِمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْمَائِعَاتِ . وَلِأَحْمَدَ قَوْلٌ كَمَذْهَبِهِمْ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ التَّوَسُّطُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ .

وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْمَائِعَاتِ غَيْرَ الْمَاءِ : هَلْ يَلْحَقُ بِالْمَاءِ ؛ أَوْ لَا يَلْحَقُ بِهِ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَاءِ وَغَيْرِ الْمَاءِ كَخَلِّ الْعِنَبِ ؟ عَلَى ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ .
وَفِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ مِنْ التَّوَسُّطِ - أَثَرًا وَنَظَرًا - مَا لَا خَفَاءَ بِهِ مَعَ أَنَّ قَوْلَ أَحْمَد الْمُوَافِقَ لِقَوْلِ مَالِكٍ رَاجِحٌ فِي الدَّلِيلِ .
وَأَصْلٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ لِلنَّاسِ فِي أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ الَّتِي لَا رُطُوبَةَ فِيهَا - كَالشَّعْرِ وَالظُّفْرِ وَالرِّيشِ - مَذَاهِبُ : هَلْ هُوَ طَاهِرٌ ؛ أَوْ نَجِسٌ ؟ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : نَجَاسَتُهَا مُطْلَقًا . كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَد ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ الْمَيْتَةِ . وَالثَّانِي : طَهَارَتُهَا مُطْلَقًا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِلنَّجَاسَةِ هُوَ الرُّطُوبَاتُ وَهِيَ إنَّمَا تَكُونُ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ الدَّمُ ؛ وَلِهَذَا حُكِمَ بِطِهَارَةِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ فَمَا لَا رُطُوبَةَ فِيهِ مِنْ الْأَجْزَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ . وَالثَّالِثُ : نَجَاسَةُ مَا كَانَ فِيهِ حِسٌّ كَالْعَظْمِ ؛ إلْحَاقًا لَهُ بِاللَّحْمِ الْيَابِسِ وَعَدَمُ نَجَاسَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا النَّمَاءُ كَالشَّعْرِ ؛ إلْحَاقًا لَهُ بِالنَّبَاتِ .
وَأَصْلٌ آخَرُ : وَهُوَ طَهَارَةُ الْأَحْدَاثِ الَّتِي هِيَ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ . فَإِنَّ مَذْهَبَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ . اسْتَعْمَلُوا فِيهَا مِنْ السُّنَنِ مَا لَا يُوجَدُ لِغَيْرِهِمْ

وَيَكْفِي الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ اللِّبَاسِ وَالْحَوَائِلِ . فَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَد " كِتَابَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ " وَذَكَرَ فِيهِ مِنْ النُّصُوصِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْجَوْرَبَيْنِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ بَلْ عَلَى خُمُرِ النِّسَاءِ - كَمَا كَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُهَا تَفْعَلُهُ . وَعَلَى الْقَلَانِسِ - كَمَا كَانَ أَبُو مُوسَى وَأَنَسٌ يَفْعَلَانِهِ : مَا إذَا تَأَمَّلَهُ الْعَالِمُ عَلِمَ فَضْلَ عِلْمِ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى غَيْرِهِمْ مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي ذَلِكَ اقْتِضَاءً ظَاهِرًا وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ عَنْهُ مَنْ تَوَقَّفَ مِنْ الْفُقَهَاءِ : لِأَنَّهُمْ قَالُوا بِمَا بَلَغَهُمْ مِنْ الْأَثَرِ وَجَبُنُوا عَنْ الْقِيَاسِ وَرَعًا . وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ أَحْمَد فِيمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَحَادِيثِ الْمَسْحِ عَلَى الْعَمَائِمِ وَالْجَوْرَبَيْنِ وَالتَّوْقِيتِ فِي الْمَسْحِ . وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيمَا جَاءَ عَنْ الصَّحَابَةِ كَخُمُرِ النِّسَاءِ وَكَالْقَلَانِسِ الدَّنِيَّاتِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الرُّخْصَةِ الَّتِي تُشْبِهُ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ وَتُوَافِقُ الْآثَارَ الثَّابِتَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَأَوَّلَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ تَأْوِيلًا - مِثْلُ كَوْنِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ مَعَ بَعْضِ الرَّأْسِ هُوَ الْمُجْزِئَ وَنَحْوِ ذَلِكَ - لَمْ يَقِفْ عَلَى مَجْمُوعِ الْأَخْبَارِ وَإِلَّا فَمَنْ وَقَفَ عَلَى مَجْمُوعِهَا أَفَادَتْهُ عِلْمًا يَقِينًا بِخِلَافِ ذَلِكَ .

وَأَصْلٌ آخَرُ فِي التَّيَمُّمِ : فَإِنَّ أَصَحَّ حَدِيثٍ فِيهِ : حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمُصَرِّحُ بِأَنَّهُ يُجْزِئُ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَلَيْسَ فِي الْبَابِ حَدِيثٌ يُعَارِضُهُ مِنْ جِنْسِهِ وَقَدْ أَخَذَ بِهِ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ . وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ : يَجِبُ ضَرْبَتَانِ وَإِلَى الْمَرْفِقَيْنِ ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ أَوْ ضَرْبَتَانِ إلَى الْكُوعَيْنِ . وَأَصْلٌ آخَرُ : فِي الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ فَإِنَّ مَسَائِلَ الِاسْتِحَاضَةِ مِنْ أَشْكَلِ أَبْوَابِ الطَّهَارَةِ . وَفِي الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثُ سُنَنٍ : سُنَّةٌ فِي الْمُعْتَادَةِ : أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى عَادَتِهَا وَسُنَّةٌ فِي الْمُمَيِّزَةِ : أَنَّهَا تَعْمَلُ بِالتَّمْيِيزِ وَسُنَّةٌ فِي الْمُتَحَيِّرَةِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا عَادَةٌ وَلَا تُمَيِّزُ : بِأَنَّهَا تَتَحَيَّضُ غَالِبَ عَادَاتِ النِّسَاءِ : سِتًّا أَوْ سَبْعًا وَأَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إنْ شَاءَتْ . فَأَمَّا السُّنَّتَانِ الأولتان فَفِي الصَّحِيحِ وَأَمَّا الثَّالِثَةُ : فَحَدِيثُ حمنة بِنْتِ جَحْشٍ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ : وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ . وَكَذَلِكَ قَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ فِي سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ بَعْضَ مَعْنَاهُ . وَقَدْ اسْتَعْمَلَ أَحْمَد هَذِهِ السُّنَنَ الثَّلَاثَ فِي الْمُعْتَادَةِ الْمُمَيِّزَةِ وَالْمُتَحَيِّرَةِ . فَإِنْ اجْتَمَعَتْ الْعَادَةُ وَالتَّمْيِيزُ قُدِّمَ الْعَادَةُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ كَمَا جَاءَ فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ .

فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَعْتَبِرُ الْعَادَةَ إنْ كَانَتْ وَلَا يَعْتَبِرُ التَّمْيِيزَ وَلَا الْغَالِبَ . بَلْ إنْ لَمْ تَكُنْ عَادَةٌ إنْ كَانَتْ مُبْتَدِئَةً حَيَّضَهَا حَيْضَةَ الْأَكْثَرِ وَإِلَّا حَيْضَةَ الْأَقَلِّ . وَمَالِكٌ يَعْتَبِرُ التَّمْيِيزَ وَلَا يَعْتَبِرُ الْعَادَةَ وَلَا الْأَغْلَبَ فَإِنْ لَمْ يَعْتَبِرْ الْعَادَةَ وَلَا الْأَغْلَبَ فَلَا يُحَيِّضُهَا بَلْ تُصَلِّي أَبَدًا إلَّا فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَهَلْ تُحَيَّضُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ ؛ أَوْ عَادَتَهَا وَتَسْتَظْهِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَالشَّافِعِيُّ يَسْتَعْمِلُ التَّمْيِيزَ وَالْعَادَةَ دُونَ الْأَغْلَبِ ؛ فَإِنْ اجْتَمَعَ قَدَّمَ التَّمْيِيزَ وَإِنْ عَدِمَ صَلَّتْ أَبَدًا . وَاسْتَعْمَلَ مِنْ الِاحْتِيَاطِ فِي الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ عِلْمًا وَعَمَلًا . فَالسُّنَنُ الثَّلَاثُ الَّتِي جَاءَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ الْفِقْهِيَّةِ : اسْتَعْمَلَهَا فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ وَوَافَقَهُمْ فِي كُلٍّ مِنْهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ .

وَسُئِلَ :
عَنْ مَسَائِلَ كَثِيرٍ وُقُوعُهَا ؛ وَيَحْصُلُ الِابْتِلَاءُ بِهَا ؛ وَيَحْصُلُ الضِّيقُ وَالْحَرَجُ وَالْعَمَلُ بِهَا عَلَى رَأْيِ إمَامٍ بِعَيْنِهِ ؟ : مِنْهَا مَسْأَلَةُ الْمِيَاهِ الْيَسِيرَةِ وَوُقُوعُ النَّجَاسَةِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ وَتَغْيِيرُهَا بِالطَّاهِرَاتِ ؟ .
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . أَمَّا مَسْأَلَةُ تَغَيُّرِ الْمَاءِ الْيَسِيرِ أَوْ الْكَثِيرِ بِالطَّاهِرَاتِ : كَالْأُشْنَانِ وَالصَّابُونِ وَالسِّدْرِ والخطمي وَالتُّرَابِ وَالْعَجِينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يُغَيِّرُ الْمَاءَ مِثْلَ الْإِنَاءِ إذَا كَانَ فِيهِ أَثَرُ سِدْرٍ أَوْ خطمي وَوُضِعَ فِيهِ مَاءٌ فَتَغَيَّرَ بِهِ مَعَ بَقَاءِ اسْمِ الْمَاءِ : فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْعُلَمَاءِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّطْهِيرُ بِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ الَّتِي اخْتَارَهَا الخرقي وَالْقَاضِي وَأَكْثَرُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَاءِ مُطْلَقٍ فَلَا يَدْخُلُ فِي قَوْله تَعَالَى { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } . ثُمَّ إنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْقَوْلِ اسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا أَنْوَاعًا بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَمَا كَانَ مِنْ التَّغَيُّرِ حَاصِلًا بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ أَوْ بِمَا يَشُقُّ صَوْنُ الْمَاءِ عَنْهُ : فَهُوَ طَهُورٌ

بِاتِّفَاقِهِمْ . وَمَا تَغَيَّرَ بِالْأَدْهَانِ وَالْكَافُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَفِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَمَا كَانَ تَغَيُّرُهُ يَسِيرًا : فَهَلْ يُعْفَى عَنْهُ أَوْ لَا يُعْفَى عَنْهُ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الرَّائِحَةِ وَغَيْرِهَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُتَغَيِّرِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَغَيْرِهِ وَلَا بِمَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ ؛ وَلَا بِمَا لَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَمَا دَامَ يُسَمَّى مَاءً وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ أَجْزَاءُ غَيْرِهِ كَانَ طَهُورًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ وَهِيَ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا فِي أَكْثَرِ أَجْوِبَتِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } وَقَوْلُهُ : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ كُلَّ مَا هُوَ مَاءٌ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّ الْمُتَغَيِّرَ لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْمَاءِ ؟ . قِيلَ : تَنَاوُلُ الِاسْمِ لِمُسَمَّاهُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ التَّغَيُّرِ الْأَصْلِيِّ وَالطَّارِئِ وَلَا بَيْنَ التَّغَيُّرِ الَّذِي يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَاَلَّذِي لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى

اسْتِعْمَالِ هَذَا الْمُتَغَيِّرِ دُونَ هَذَا فَأَمَّا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ وَعُمُومِ الِاسْمِ وَخُصُوصِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ؟ وَلِهَذَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ مَاءٍ أَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَاءً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ : لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ؛ بَلْ إنْ دَخَلَ هَذَا دَخَلَ هَذَا وَإِنْ خَرَجَ هَذَا خَرَجَ هَذَا فَلَمَّا حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى دُخُولِ الْمُتَغَيِّرِ تَغَيُّرًا أَصْلِيًّا أَوْ حَادِثًا بِمَا يَشُقُّ صَوْنُهُ عَنْهُ : عُلِمَ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْآيَةِ . وَقَدْ ثَبَتَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ : { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } وَالْبَحْرُ مُتَغَيِّرُ الطَّعْمِ تَغَيُّرًا شَدِيدًا لِشِدَّةِ مُلُوحَتِهِ . فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ مَاءَهُ طَهُورٌ - مَعَ هَذَا التَّغَيُّرِ - كَانَ مَا هُوَ أَخَفُّ مُلُوحَةً مِنْهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ طَهُورًا وَإِنْ كَانَ الْمِلْحُ وُضِعَ فِيهِ قَصْدًا ؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْمِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ ضَعْفُ حُجَّةِ الْمَانِعِينَ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَقَى مَاءً أَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ مَاءٍ لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ مَاءَ الْبَحْرِ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْآيَةِ فَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِثْلَهُ فِي الصِّفَةِ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَرَ بِغَسْلِ الْمُحَرَّمِ بِمَاءِ وَسِدْرٍ } { وَأَمَرَ بِغَسْلِ ابْنَتِهِ بِمَاءِ وَسِدْرٍ } { وَأَمَرَ الَّذِي أَسْلَمَ أَنْ يَغْتَسِلَ بِمَاءِ وَسِدْرٍ } وَمِنْ الْمَعْلُومِ : أَنَّ السِّدْرَ لَا بُدَّ أَنْ يُغَيِّرَ الْمَاءَ فَلَوْ كَانَ التَّغَيُّرُ يُفْسِدُ الْمَاءَ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ .

وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ هَذَا تَغَيُّرٌ فِي مَحَلِّ الِاسْتِعْمَالِ فَلَا يُؤَثِّرُ : تَفْرِيقٌ بِوَصْفِ غَيْرِ مُؤَثِّرٍ لَا فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ ؛ فَإِنَّ الْمُتَغَيِّرَ إنْ كَانَ يُسَمَّى مَاءً مُطْلَقًا وَهُوَ عَلَى الْبَدَنِ فَيُسَمَّى مَاءً مُطْلَقًا وَهُوَ فِي الْإِنَاءِ . وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ مَاءً مُطْلَقًا فِي أَحَدِهِمَا لَمْ يُسَمَّ مُطْلَقًا فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يُفَرِّقُونَ فِي التَّسْمِيَةِ بَيْنَ مَحَلٍّ وَمَحَلٍّ . وَأَمَّا الشَّرْعُ : فَإِنَّ هَذَا فَرْقٌ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ . وَالْقِيَاسُ عَلَيْهِ إذَا جُمِعَ أَوْ فُرِّقَ : أَنْ يُبَيَّنَ أَنَّ مَا جَعَلَهُ مَنَاطَ الْحُكْمِ جَمْعًا أَوْ فَرْقًا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ وَإِلَّا فَمَنْ عَلَّقَ الْأَحْكَامَ بِأَوْصَافِ جَمْعًا وَفَرْقًا بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ : كَانَ وَاضِعًا لِشَرْعِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ شَارِعًا فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ . وَلِهَذَا كَانَ عَلَى الْقَائِسِ أَنْ يُبَيِّنَ تَأْثِيرَ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي جَعَلَهُ مَنَاطَ الْحُكْمِ بِطَرِيقِ مِنْ الطُّرُقِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ هُوَ عِلَّةَ الْحُكْمِ . وَكَذَلِكَ فِي الْوَصْفِ الَّذِي فُرِّقَ فِيهِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ تَأْثِيرَهُ بِطَرِيقِ مِنْ الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَوَضَّأَ مِنْ قَصْعَةٍ فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ } وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ : لَا بُدَّ فِي الْعَادَةِ مِنْ تَغَيُّرِ الْمَاءِ بِذَلِكَ لَا سِيَّمَا فِي

آخِرِ الْأَمْرِ إذَا قَلَّ الْمَاءُ وَانْحَلَّ الْعَجِينُ . فَإِنْ قِيلَ : ذَلِكَ التَّغَيُّرُ كَانَ يَسِيرًا ؟ قِيلَ : وَهَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ ؛ فَإِنَّهُ إنْ سَوَّى بَيْنِ التَّغَيُّرِ الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ مُطْلَقًا كَانَ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ ؛ وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا حَدٌّ مُنْضَبِطٌ لَا بُلْغَةٌ وَلَا شَرْعٌ وَلَا عَقْلٌ وَلَا عُرْفٌ وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِفَرْقِ غَيْرِ مَعْلُومٍ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ صَحِيحًا . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْمَانِعِينَ مُضْطَرِبُونَ اضْطِرَابًا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ أَصْلِ قَوْلِهِمْ مِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْكَافُورِ وَالدُّهْنِ وَغَيْرِهِ وَيَقُولُ : إنَّ هَذَا التَّغَيُّرَ عَنْ مُجَاوَرَةٍ لَا عَنْ مُخَالَطَةٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ نَحْنُ نَجِدُ فِي الْمَاءِ أَثَرَ ذَلِكَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْوَرَقِ الرَّبِيعِيِّ وَالْخَرِيفِيِّ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الْمِلْحَيْنِ : الْجَبَلِيِّ وَالْمَائِيِّ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا . وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ دَلِيلٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ لَا مِنْ نَصٍّ وَلَا قِيَاسٍ وَلَا إجْمَاعٍ ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ الْأَصْلُ الَّذِي تَفَرَّعَتْ عَلَيْهِ مَأْخُوذًا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } وَهَذَا بِخِلَافِ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ

اللَّهِ فَإِنَّهُ مَحْفُوظٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الْقَوْلِ . وَأَيْضًا . فَإِنَّ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ مُوَافِقٌ لِلْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ ؛ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِالظَّوَاهِرِ وَالْمَعَانِي ؛ فَإِنَّ تَنَاوُلَ اسْمِ الْمَاءِ لِمَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ كَتَنَاوُلِهِ لِمَوَارِدِ النِّزَاعِ فِي اللُّغَةِ وَصِفَاتُ هَذَا كَصِفَاتِ هَذَا فِي الْجِنْسِ فَتَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ . وَأَيْضًا . فَإِنَّهُ عَلَى قَوْلِ الْمَانِعِينَ : يَلْزَمُ مُخَالَفَةُ الْأَصْلِ وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ لِمُعَارِضِ رَاجِحٍ ؛ إذْ كَانَ يَقْتَضِي الْقِيَاسُ عِنْدَهُمْ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ شَيْءٍ مِنْ الْمُتَغَيِّرَاتِ فِي طَهَارَتَيْ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ لَكِنْ اُسْتُثْنِيَ الْمُتَغَيِّرُ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَبِمَا يَشُقُّ صَوْنُ الْمَاءِ عَنْهُ لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ فَكَانَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِحْسَانٍ تُرِكَ لَهُ الْقِيَاسُ وَتَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ . وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ : يَكُونُ رُخْصَةً ثَابِتَةً عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ تَعَارُضٍ بَيْنَ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ ؛ فَيَكُونُ هَذَا أَقْوَى .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْمَاءُ إذَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَاتِ : فَإِنَّهُ يَنْجُسُ بِالِاتِّفَاقِ . وَأَمَّا مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فَفِيهِ أَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ : أَحَدُهَا : لَا يَنْجُسُ . وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَرِوَايَةُ الْمَدَنِيِّينَ عَنْ مَالِكٍ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَنَصَرَهَا ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْمُفْرَدَاتِ ؛ وَابْنُ الْبَنَّاءِ وَغَيْرُهُمَا . وَالثَّانِي : يَنْجُسُ قَلِيلُ الْمَاءِ بِقَلِيلِ النَّجَاسَةِ . وَهِيَ رِوَايَةُ الْبَصْرِيِّينَ عَنْ مَالِكٍ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى - اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ - الْفَرْقُ بَيْنَ الْقُلَّتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا . فَمَالِكٌ لَا يَحُدُّ الْكَثِيرَ بِالْقُلَّتَيْنِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد يَحُدَّانِ الْكَثِيرَ بِالْقُلَّتَيْنِ . وَالرَّابِعُ : الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ الْمَائِعَةِ وَغَيْرِهِمَا فَالْأَوَّلُ يُنَجِّسُ

مِنْهُ مَا أَمْكَنَ نَزْحُهُ دُونَ مَا لَمْ يُمْكِنْ نَزْحُهُ بِخِلَافِ الثَّانِي ؛ فَإِنَّهُ لَا يُنَجِّسُ الْقُلَّتَيْنِ فَصَاعِدًا . وَهَذَا أَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد وَاخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ . وَالْخَامِسُ : أَنَّ الْمَاءَ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا ؛ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ لَكِنْ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ لَا يُنَجِّسُهُ . ثُمَّ حَدُّوا مَا لَا يَصِلُ إلَيْهِ : بِمَا لَا يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ بِتَحْرِيكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ . ثُمَّ تَنَازَعُوا : هَلْ يُحَدُّ بِحَرَكَةِ الْمُتَوَضِّئِ أَوْ الْمُغْتَسِلِ ؟ وَقَدَّرَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِمَسْجِدِهِ فَوَجَدُوهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةِ أَذْرُعٍ . وَتَنَازَعُوا فِي الْآبَارِ إذَا وَقَعَتْ فِيهَا نَجَاسَةٌ : هَلْ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهَا ؟ فَزَعَمَ المزني : أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ . يُمْكِنُ تَطْهِيرُهَا بِالنَّزْحِ وَلَهُمْ فِي تَقْدِيرِ الدِّلَاءِ أَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ . وَالسَّادِسُ : قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ الَّذِينَ يُنَجِّسُونَ مَا بَالَ فِيهِ الْبَائِلُ دُونَ مَا أُلْقِيَ فِيهِ الْبَوْلُ وَلَا يُنَجِّسُونَ مَا سِوَى ذَلِكَ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ .

وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى : أَنَّ اخْتِلَاطَ الْخَبِيثِ وَهُوَ النَّجَاسَةُ بِالْمَاءِ : هَلْ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْجَمِيعِ أَمْ يُقَالُ : بَلْ قَدْ اسْتَحَالَ فِي الْمَاءِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حُكْمٌ ؟ فَالْمُنَجِّسُونَ ذَهَبُوا إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ؛ ثُمَّ مَنْ اسْتَثْنَى الْكَثِيرَ قَالَ : هَذَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ فَجَعَلُوا ذَلِكَ مَوْضِعَ اسْتِحْسَانٍ كَمَا ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَأَمَّا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فَبَنَوْا الْأَمْرَ عَلَى وُصُولِ النَّجَاسَةِ وَعَدَمِ وُصُولِهَا وَقَدَّرُوهُ بِالْحَرَكَةِ أَوْ بِالْمِسَاحَةِ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ دُونَ الْعُمْقِ . وَالصَّوَابُ : هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَأَنَّهُ متى عُلِمَ أَنَّ النَّجَاسَةَ قَدْ اسْتَحَالَتْ فَالْمَاءُ طَاهِرٌ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَكَذَلِكَ فِي الْمَائِعَاتِ كُلِّهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثِ وَالْخَبِيثُ مُتَمَيِّزٌ عَنْ الطَّيِّبِ بِصِفَاتِهِ فَإِذَا كَانَتْ صِفَاتُ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ صِفَاتِ الطَّيِّبِ دُونَ الْخَبِيثِ : وَجَبَ دُخُولُهُ فِي الْحَلَالِ دُونَ الْحَرَامِ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ : أَنَتَوَضَّأُ مَنْ بِئْرِ بضاعة ؟ وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ

وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ فَقَالَ : الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } قَالَ أَحْمَد : حَدِيثُ بِئْرِ بضاعة صَحِيحٌ . وَهُوَ فِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } وَهَذَا اللَّفْظُ عَامٌّ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّجَاسَاتِ . وَأَمَّا إذَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ فَإِنَّمَا حُرِّمَ اسْتِعْمَالُهُ لِأَنَّ جِرْمَ النَّجَاسَةِ بَاقٍ فَفِي اسْتِعْمَالِهِ اسْتِعْمَالُهَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَالَتْ النَّجَاسَةُ فَإِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ وَلَيْسَ هُنَاكَ نَجَاسَةٌ قَائِمَةٌ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ : أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ خَمْرٌ فِي مَاءٍ وَاسْتَحَالَتْ ثُمَّ شَرِبَهَا شَارِبٌ لَمْ يَكُنْ شَارِبًا لِلْخَمْرِ ؛ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدُّ الْخَمْرِ ؛ إذْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ طَعْمِهَا وَلَوْنِهَا وَرِيحِهَا وَلَوْ صُبَّ لَبَنُ امْرَأَةٍ فِي مَاءٍ وَاسْتَحَالَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ وَشَرِبَ طِفْلٌ ذَلِكَ الْمَاءَ : لَمْ يَصِرْ ابْنَهَا مِنْ الرِّضَاعَةِ بِذَلِكَ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ هَذَا بَاقٍ عَلَى أَوْصَافِ خِلْقَتِهِ ؛ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ لَا طَعْمُهُ وَلَا لَوْنُهُ وَلَا رِيحُهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ { نَهَى عَنْ الْبَوْلِ

فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَعَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ } ؟ قِيلَ : نَهْيُهُ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْجُسُ بِمُجَرَّدِ الْبَوْلِ ؛ إذْ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ قَدْ يَكُونُ نَهْيُهُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَوْلَ ذَرِيعَةٌ إلَى تَنْجِيسِهِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا بَالَ هَذَا ثُمَّ بَالَ هَذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِالْبَوْلِ فَكَانَ نَهْيُهُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ . أَوْ يُقَالُ : إنَّهُ مَكْرُوهٌ بِمُجَرَّدِ الطَّبْعِ لَا لِأَجْلِ أَنَّهُ يُنَجِّسُهُ . وَأَيْضًا فَيَدُلُّ نَهْيُهُ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ أَنَّهُ يَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ فَيُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُلَّتَيْنِ : أَتُجَوِّزُ بَوْلَهُ فِيمَا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ ؟ إنْ جَوَّزْته فَقَدْ خَالَفْت ظَاهِرَ النَّصِّ ؛ وَإِنْ حَرَّمْته فَقَدْ نَقَضْت دَلِيلَك . وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ وَمَا لَا يُمْكِنُ : أَتُسَوِّغُ لِلْحُجَّاجِ أَنْ يَبُولُوا فِي الْمَصَانِعِ الْمَبْنِيَّةِ بِطَرِيقِ مَكَّةَ ؟ إنْ جَوَّزْته خَالَفْت ظَاهِرَ النَّصِّ ؛ فَإِنَّ هَذَا مَاءٌ دَائِمٌ وَالْحَدِيثُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَإِلَّا نَقَضْت قَوْلَك . وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِلْمُقَدَّرِ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ : إذَا كَانَ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ غَدِيرٌ مُسْتَطِيلٌ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ رَقِيقٍ أَتُسَوِّغُ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ الْبَوْلَ فِيهِ ؟ فَإِنْ سَوَّغْته خَالَفْت ظَاهِرَ النَّصِّ ؛ وَإِلَّا نَقَضْت قَوْلَك فَإِذَا كَانَ النَّصُّ

بَلْ وَالْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْبَوْلِ فِيمَا يُنَجِّسُهُ الْبَوْلُ ؛ بَلْ تَقْدِيرُ الْمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ : كَانَ هَذَا الْوَصْفُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مُسْتَقِلًّا بِالنَّهْيِ فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيلُ النَّهْيِ بِالنَّجَاسَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا نَهَى عَنْ الْبَوْلِ فِيهِ لِأَنَّ الْبَوْلَ يُنَجِّسُهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْبَوْلِ فِيهِ وَبَيْنَ صَبِّ الْبَوْلِ فَقَوْلُهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ ؛ فَإِنَّ صَبَّ الْبَوْلِ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ مِنْ مُجَرَّدِ الْبَوْلِ ؛ إذْ الْإِنْسَانُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَبُولَ وَأَمَّا صَبُّ الْأَبْوَالِ فِي الْمِيَاهِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَفِي حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بِأَرْضِ الْفَلَاةِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ فَقَالَ : { إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ } وَفِي لَفْظٍ { لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ } ؟ قِيلَ : حَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ فِيهِ كَلَامٌ قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ وَبُيِّنَ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ لَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْمَاءِ الْكَثِيرِ إذَا تَغَيَّرَ لَوْنُهُ بِمُكْثِهِ ؛ أَوْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَطَعْمُهُ لَا الرَّائِحَةُ : فَهَلْ يَكُونُ طَهُورًا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا مَا تَغَيَّرَ بِمُكْثِهِ وَمَقَرِّهِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا النَّهْرُ الْجَارِي : فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ بِنَجَاسَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ نَجِسًا فَإِنْ خَالَطَهُ مَا يُغَيِّرُهُ مِنْ طَاهِرٍ وَنَجِسٍ وَشَكَّ فِي التَّغَيُّرِ : هَلْ هُوَ بِطَاهِرِ أَوْ نَجِسٍ ؟ لَمْ يُحْكَمْ بِنَجَاسَتِهِ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ . وَالْأَغْلَبُ أَنَّ هَذِهِ الْأَنْهَارَ الْكِبَارَ لَا تَتَغَيَّرُ بِهَذِهِ الْقِنَى الَّتِي عَلَيْهَا لَكِنْ إذَا تَبَيَّنَ تَغَيُّرُهُ بِالنَّجَاسَةِ فَهُوَ نَجِسٌ وَإِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا بِغَيْرِ نَجِسٍ فَفِي طَهُورِيَّتِهِ الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ بِئْرٍ كَثِيرِ الْمَاءِ وَقَعَ فِيهِ كَلْبٌ وَمَاتَ وَبَقِيَ فِيهِ حَتَّى انهرى جِلْدُهُ وَشَعْرُهُ وَلَمْ يُغَيِّرْ مِنْ الْمَاءِ وَصْفًا قَطُّ لَا طَعْمٌ وَلَا لَوْنٌ وَلَا رَائِحَةٌ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هُوَ طَاهِرٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ - كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد - إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ ؛ وَهُمَا نَحْوُ الْقِرْبَتَيْنِ ؛ فَكَيْفَ إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ؟ وَشَعْرُ الْكَلْبِ فِي طَهَارَتِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ؛ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ ؛ وَنَجِسٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ . فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ فِي الدَّلْوِ الصَّاعِدِ شَيْئًا مِنْ شَعْرِهِ لَمْ يُحْكَمْ بِنَجَاسَتِهِ بِلَا رَيْبٍ . وَقَدْ ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك تَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بضاعة وَهِيَ بِئْرٌ تُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ ؛ وَلُحُومُ الْكِلَابِ ؛ وَعُذَرُ النَّاسِ ؟ فَقَالَ : الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } وَبِئْرُ بضاعة وَاقِعَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي شَرْقِيِّ الْمَدِينَةِ ؛ بَاقِيَةٌ إلَى الْيَوْمِ وَمَنْ قَالَ :

إنَّهَا كَانَتْ جَارِيَةً : فَقَدْ أَخْطَأَ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ عَيْنٌ جَارِيَةٌ بَلْ الزَّرْقَاءُ وَعُيُونُ حَمْزَةَ حَدَّثَتَا بَعْدَ مَوْتِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ بِئْرٍ وَقَعَ فِيهِ كَلْبٌ أَوْ خِنْزِيرٌ أَوْ جَمَلٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ ثُمَّ مَاتَ فِيهَا ؛ وَذَهَبَ شَعْرُهُ وَجِلْدُهُ وَلَحْمُهُ ؛ وَهُوَ فَوْقُ الْقُلَّتَيْنِ ؛ فَكَيْفَ يُصْنَعُ بِهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَيُّ بِئْرٍ وَقَعَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ أَوْ غَيْرُهُ إنْ كَانَ الْمَاءُ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ فَهُوَ طَاهِرٌ ؛ فَإِنْ كانت عَيْنُ النَّجَاسَةِ بَاقِيَةً نُزِحَتْ مِنْهُ وَأُلْقِيَتْ وَسَائِرُ الْمَاءِ طَاهِرٌ وَشَعْرُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ إذَا بَقِيَ فِي الْمَاءِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ : فَإِنَّهُ طَاهِرٌ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِمْ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ أَحْمَد وَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ فِي الدَّلِيلِ ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الشَّعْرِ وَالرِّيشِ وَالْوَبَرِ وَالصُّوفِ طَاهِرٌ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى جِلْدِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ جِلْدِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَسَوَاءٌ كَانَ عَلَى حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ . هَذَا

أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ لِلْعُلَمَاءِ ؛ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَاءُ قَدْ تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ يُنْزَحُ مِنْهُ حَتَّى يَطِيبَ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْمَاءُ لَمْ يُنْزَحْ مِنْهُ شَيْءٌ ؛ فَإِنَّهُ { قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّك تَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بضاعة وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ ؛ وَلُحُومُ الْكِلَابِ ؛ وَالنَّتْنُ ؟ فَقَالَ : الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ بِئْرٍ سَقَطَتْ فِيهِ دَجَاجَةٌ ثُمَّ مَاتَتْ : هَلْ يَنْجُسُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ الْمَاءُ لَمْ يَنْجُسْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْبِئْرِ تَكُونُ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ فَيَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ بِالزِّبْلِ ؛ فَيَصِيرُ أَصْفَرَ ؛

وَهُوَ رَوْثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ وَرُبَّمَا صَارَ فِيهِ اللُّحْمَةُ : هَلْ يَنْجُسُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إنْ كَانَ الزِّبْلُ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَهُوَ طَاهِرٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الدَّلَائِلُ الشَّرْعِيَّةُ الْكَثِيرَةُ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ وَذُكِرَ فِيهِ بِضْعَةَ عَشَرَ حُجَّةً . وَأَمَّا مَا تَيَقَّنَ أَنَّ تَغَيُّرَهُ بِالنَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ يَنْجُسُ وَإِنْ شَكَّ : هَلْ الرَّوْثُ رَوْثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ رَوْثُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْمَاءِ الْجَارِي إذَا كَانَ مُزَبَّلًا : هَلْ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا لَمْ يُتَيَقَّنْ أَنَّهُ مُزَبَّلٌ بِزِبْلِ نَجَّسَ جَازَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا وَجَازَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا فَجَازَ الْوُضُوءُ بِهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْقُلَّتَيْنِ : هَلْ حَدِيثُهُ صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟ وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ قُلَّةُ الْجَبَلِ ؛ وَفِي سُؤْرِ الْهِرَّةِ إذَا أَكَلَتْ نَجَاسَةً ثُمَّ شَرِبَتْ مِنْ مَاءٍ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ : هَلْ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَدْ صَحَّ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : إنَّك تَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بضاعة وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ ؛ وَلُحُومُ الْكِلَابِ ؛ وَالنَّتْنُ ؟ فَقَالَ : الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } وَبِئْرُ بضاعة بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا هِيَ بِئْرٌ لَيْسَتْ جَارِيَةً وَمَا يُذْكَرُ عَنْ الواقدي مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ : أَمْرٌ بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ الواقدي لَا يُحْتَجُّ بِهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاءٌ جَارٍ وَعَيْنُ الزَّرْقَاءِ وَعُيُونُ حَمْزَةَ مُحْدَثَةٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِئْرُ بضاعة بَاقِيَةٌ إلَى الْيَوْمِ فِي شَرْقِيِّ الْمَدِينَةِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ . وَأَمَّا حَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ يُحْتَجُّ بِهِ وَقَدْ أَجَابُوا عَنْ كَلَامِ مَنْ طَعَنَ فِيهِ وَصَنَّفَ أَبُو عَبْدِ

اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ المقدسي جُزْءًا رَدَّ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ . وَأَمَّا لَفْظُ الْقُلَّةِ فَإِنَّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ الْجَرَّةُ الْكَبِيرَةُ كَالْحَبِّ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمَثِّلُ بِهِمَا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ فِي سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى : { وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ وَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ } وَهِيَ قِلَالٌ مَعْرُوفَةُ الصِّفَةِ وَالْمِقْدَارِ ؛ فَإِنَّ التَّمْثِيلَ لَا يَكُونُ بِمُخْتَلِفِ مُتَفَاوِتٍ . وَهَذَا مِمَّا يُبْطِلُ كَوْنَ الْمُرَادِ قُلَّةَ الْجَبَلِ لِأَنَّ قِلَالَ الْجِبَالِ فِيهَا الْكِبَارُ وَالصِّغَارُ وَفِيهَا الْمُرْتَفِعُ كَثِيرًا وَفِيهَا مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ مَاءٌ يَصِلُ إلَى قِلَالِ الْجَبَلِ إلَّا مَاءُ الطُّوفَانِ فَحَمْلُ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِثْلِ هَذَا يُشْبِهُ الِاسْتِهْزَاءَ بِكَلَامِهِ . وَمِنْ عَادَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُقَدِّرُ الْمُقَدَّرَاتِ بِأَوْعِيَتِهَا كَمَا قَالَ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ } وَالْوَسْقُ حِمْلُ الْجَمَلِ وَكَمَا كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ وَذَلِكَ مِنْ أَوْعِيَةِ الْمَاءِ وَهَكَذَا تَقْدِيرُ الْمَاءِ بِالْقِلَالِ مُنَاسِبٌ فَإِنَّ الْقُلَّةَ وِعَاءُ الْمَاءِ . وَأَمَّا الْهِرَّةُ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ } .

وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا أَكَلَتْ فَأْرَةً وَنَحْوَهَا ثُمَّ وَلَغَتْ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قِيلَ : إنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ مُطْلَقًا . وَقِيلَ نَجِسٌ مُطْلَقًا حَتَّى تُعْلَمَ طَهَارَةُ فَمِهَا . وَقِيلَ : إنْ غَابَتْ غَيْبَةً يُمْكِنُ فِيهَا وُرُودُهَا عَلَى مَا يُطَهِّرُ فَمَهَا كَانَ طَاهِرًا وَإِلَّا فَلَا . وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَقِيلَ إنْ طَالَ الْفَصْلُ كَانَ طَاهِرًا جَعْلًا لِرِيقِهَا مُطَهِّرًا لِفَمِهَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَهُوَ أَقْوَى الْأَقْوَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ غَمَسَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا مِنْ قِيَامِهِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ : فَهَلْ هَذَا الْمَاءُ يَكُونُ طَهُورًا ؟ وَمَا الْحِكْمَةُ فِي غَسْلِ الْيَدِ إذَا بَاتَتْ طَاهِرَةً ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا مَصِيرُهُ مُسْتَعْمَلًا لَا يُتَوَضَّأُ بِهِ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَ كُلَّ وَاحِدَةٍ طَائِفَة مِنْ أَصْحَابِهِ فَالْمَنْعُ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي وَأَكْثَرِ أَتْبَاعِهِ وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ . وَالثَّانِيَةُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا وَهِيَ اخْتِيَارُ الخرقي وَأَبِي مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ

قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فِي غَسْلِ الْيَدِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا أَنَّهُ خَوْفَ نَجَاسَةٍ تَكُونُ عَلَى الْيَدِ ؛ مِثْلَ مُرُورِ يَدِهِ مَوْضِعَ الِاسْتِجْمَارِ مَعَ الْعَرَقِ ؛ أَوْ عَلَى زَبْلَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ تَعَبُّدٌ وَلَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مِنْ مَبِيتِ يَدِهِ مُلَامِسَةً لِلشَّيْطَانِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنْ الْمَاءِ ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ } فَأَمَرَ بِالْغَسْلِ مُعَلِّلًا بِمَبِيتِ الشَّيْطَانِ عَلَى خَيْشُومِهِ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلْغَسْلِ عَنْ النَّجَاسَةِ وَالْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ . وَقَوْلُهُ : { فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ ؟ } " يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذَلِكَ ؛ فَتَكُونُ هَذِهِ الْعِلَّةُ مِنْ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ الَّتِي شَهِدَ لَهَا النَّصُّ بِالِاعْتِبَارِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْ يَغْمِسَ الْقَائِمُ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا } فَهُوَ لَا يَقْتَضِي تَنْجِيسَ الْمَاءِ بِالِاتِّفَاقِ بَلْ قَدْ يَكُونُ لِأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْمَاءِ أَثَرًا وَأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى التَّأْثِيرِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَعْظَمَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّنْجِيسِ . وَأَيْضًا فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : { إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَسْتَنْثِرْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنْ الْمَاءِ ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ } فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْغَسْلَ لَيْسَ مُسَبَّبًا عَنْ النَّجَاسَةِ بَلْ هُوَ مُعَلَّلٌ بِمَبِيتِ الشَّيْطَانِ عَلَى خَيْشُومِهِ . وَالْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ : { فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ } يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذَلِكَ فَتَكُونُ هَذِهِ الْعِلَّةُ مِنْ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ الَّتِي شَهِدَ لَهَا النَّصُّ بِالِاعْتِبَارِ . وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ بَعْدَ الْبَوْلِ فَهَذَا إنْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَنَهْيِهِ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمُسْتَحَمِّ وَقَوْلُهُ : { فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ } فَإِنَّهُ إذَا بَالَ فِي الْمُسْتَحَمِّ ثُمَّ اغْتَسَلَ حَصَلَ لَهُ وَسْوَاسٌ وَرُبَّمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَوْلِ فَعَادَ عَلَيْهِ رَشَاشُهُ وَكَذَلِكَ إذَا بَالَ فِي الْمَاءِ ثُمَّ اغْتَسَلَ فِيهِ فَقَدْ يَغْتَسِلُ قَبْلَ الِاسْتِحَالَةِ مَعَ بَقَاءِ أَجْزَاءِ الْبَوْلِ ؛ فَنُهِيَ عَنْهُ لِذَلِكَ . وَنَهْيُهُ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ إنْ صَحَّ يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَهَذَا قَدْ يَكُونُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْذِيرِ الْمَاءِ عَلَى غَيْرِهِ ؛ لَا لِأَجْلِ نَجَاسَتِهِ وَلَا لِصَيْرُورَتِهِ مُسْتَعْمَلًا ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْمَاءَ لَا يَجْنُبُ } .
وَسُئِلَ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْمَاءِ إذَا غَمَسَ الرَّجُلُ يَدَهُ فِيهِ : هَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَنْجُسُ بِذَلِكَ بَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ؛ كَمَالِكِ ؛ وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَالشَّافِعِيِّ ؛ وَأَحْمَد ؛ وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى : أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ الرَّجُلِ يَغْتَسِلُ إلَى جَانِبِ الْحَوْضِ أَوْ الْجُرْنِ فِي الْحَمَّامِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ نَاقِصٌ ؛ ثُمَّ يَرْجِعُ بَعْضُ الْمَاءِ مِنْ عَلَى بَدَنِهِ إلَى الْجُرْنِ : هَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا أَمْ لَا ؟ وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ إذَا وَضَعَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ أَوْ الْجُرْنِ : هَلْ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا أَمْ لَا ؟ وَعَنْ مِقْدَارِ الْمَاءِ الَّذِي إذَا اغْتَسَلَ فِيهِ الْجُنُبُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا ؟ وَعَنْ الطَّاسَةِ الَّتِي تُحَطُّ عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ جَارٍ عَلَيْهَا ؛ ثُمَّ يَغْتَرِفُ بِهَا مِنْ الْجُرْنِ النَّاقِصِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُغْسَلَ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَا يَطِيرُ مِنْ بَدَنِ الْمُغْتَسِلِ أَوْ الْمُتَوَضِّئِ مِنْ الرَّشَاشِ فِي إنَاءِ الطَّهَارَةِ لَا يَجْعَلُهُ مُسْتَعْمَلًا . وَكَذَلِكَ غَمْسُ الْجُنُبِ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ وَالْجُرْنِ النَّاقِصِ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا . وَأَمَّا مِقْدَارُ الْمَاءِ الَّذِي إذَا اغْتَسَلَ فِيهِ الْجُنُبُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا : إذَا كَانَ كَثِيرًا مِقْدَارَ قُلَّتَيْنِ .

وَأَمَّا الطَّاسَةُ الَّتِي تُوضَعُ عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ فَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ طَاهِرٌ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ ؛ فَالْأَصْلُ فِي الْأَرْضِ الطَّهَارَةُ حَتَّى تُعْلَمَ نَجَاسَتُهَا ؛ لَا سِيَّمَا مَا بَيْنَ يَدَيْ الْحِيَاضِ الْفَائِضَةِ فِي الْحَمَّامَاتِ ؛ فَإِنَّ الْمَاءَ يَجْرِي عَلَيْهَا كَثِيرًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ تُدْرِكُهُ الصَّلَاةُ وَهُوَ فِي مَدْرَسَةٍ ؛ فَيَجِدُ فِي الْمَدَارِسِ بِرَكًا فِيهَا مَاءٌ لَهُ مُدَّةٌ كَثِيرَةٌ وَمِثْلُ مَاءِ الْحَمَّامِ الَّذِي فِي الْحَوْضِ : فَهَلْ يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ وَالطَّهَارَةُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ ؛ وَأُمِّ سَلَمَةَ ؛ وَمَيْمُونَةَ ؛ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَزَوْجَتُهُ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَقُولَ لَهَا : أَبْقِي لِي وَتَقُولَ هِيَ : أَبْقِ لِي } . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ { قَالَ : كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَغْتَسِلُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ وَلَمْ

يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاءٌ جَارٍ وَلَا حَمَّامٌ } . فَإِذَا كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ جَمِيعًا وَيَغْتَسِلُونَ جَمِيعًا مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ بِقَدْرِ الْفَرْقِ وَهُوَ بِضْعَةَ عَشَرَ رِطْلًا بِالْمِصْرِيِّ أَوْ أَقَلُّ وَلَيْسَ لَهُمْ يَنْبُوعٌ وَلَا أُنْبُوبٌ فَتَوَضُّؤُهُمْ وَاغْتِسَالُهُمْ جَمِيعًا مِنْ حَوْضِ الْحَمَّامِ أَوْلَى وَأَحْرَى فَيَجُوزُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْحَوْضُ نَاقِصًا وَالْأُنْبُوبُ مَسْدُودًا ؛ فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْأُنْبُوبُ مَفْتُوحًا ؟ وَسَوَاءٌ فَاضَ أَوْ لَمْ يَفِضْ . وَكَذَلِكَ بِرَكُ الْمَدَارِسِ وَمَنْ مَنَعَ غَيْرَهُ حَتَّى يَنْفَرِدَ وَحْدَهُ بِالِاغْتِسَالِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لَلسُّنَّةِ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَعْبُرُونَ إلَى الْحَمَّامِ ؛ فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَغْتَسِلُوا مِنْ الْجَنَابَةِ وَقَفَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى الطَّهُورِ وَحْدَهُ ؛ وَلَا يَغْتَسِلُ أَحَدٌ مَعَهُ حَتَّى يَفْرُغَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ؛ فَهَلْ إذَا اغْتَسَلَ مَعَهُ غَيْرُهُ لَا يَطْهُرُ ؟ وَإِنْ تَطَهَّرَ مِنْ بَقِيَّةِ أَحْوَاضِ الْحَمَّامِ فَهَلْ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ بَائِنًا فِيهَا ؟ وَهَلْ الْمَاءُ الَّذِي يَتَقَاطَرُ مِنْ عَلَى بَدَنِ الْجُنُبِ مِنْ الْجِمَاعِ طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ ؟ وَهَلْ مَاءُ الْحَمَّامِ عِنْدَ كَوْنِهِ مُسْخَنًا بِالنَّجَاسَةِ نَجِسٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ الزُّنْبُورُ الَّذِي

يَكُونُ فِي الْحَمَّامِ أَيَّامَ الشِّتَاءِ هُوَ مِنْ دُخَانِ النَّجَاسَةِ يَتَنَجَّسُ بِهِ الرَّجُلُ إذَا اغْتَسَلَ وَجَسَدُهُ مَبْلُولٌ أَمْ لَا ؟ وَالْمَاءُ الَّذِي يَجْرِي فِي أَرْضِ الْحَمَّامِ مِنْ اغْتِسَالِ النَّاسِ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ ؟ أَفْتُونَا لِيَزُولَ الْوَسْوَاسُ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ يَغْتَرِفَانِ جَمِيعًا } . وَفِي رِوَايَةٍ : إنَّهَا { كَانَتْ تَقُولُ : دَعْ لِي وَيَقُولُ هُوَ : دَعِي لِي } مِنْ قِلَّةِ الْمَاءِ . وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَغَيْرُ عَائِشَةَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ مِثْلَ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ وَأُمِّ سَلَمَةَ } . وَثَبَتَ عَنْ { عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ قَدْرَ الْفَرَقِ } . وَالْفَرَقُ بِالرِّطْلِ الْعِرَاقِيِّ الْقَدِيمِ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا ؛ وَبِالرِّطْلِ الْمِصْرِيِّ أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ رِطْلًا . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ } . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ { قَالَ : كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّئُونَ مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ } . وَهَذِهِ السُّنَنُ الثَّابِتَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا بِمَدِينَتِهِ عَلَى عَهْدِهِ دَلَّتْ عَلَى أُمُورٍ .

أَحَدُهَا هُوَ اشْتِرَاكُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الِاغْتِسَالِ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَغْتَسِلُ بِسُؤْرِ الْآخَرِ . وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنِهِمْ أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ أَوْ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ إذَا تَوَضَّئُوا وَاغْتَسَلُوا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ جَاز كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالسُّنَنِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ . وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا انْفَرَدَتْ الْمَرْأَةُ بِالِاغْتِسَالِ أَوْ خَلَتْ بِهِ : هَلْ يُنْهَى الرَّجُلُ عَنْ التَّطَهُّرِ بِسُؤْرِهَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : أَحَدُهَا : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ مُطْلَقًا . وَالثَّانِي : يُكْرَهُ مُطْلَقًا . وَالثَّالِثُ : يُنْهَى عَنْهُ إذَا خَلَتْ بِهِ ؛ دُونَ مَا انْفَرَدَتْ بِهِ وَلَمْ تَخْلُ بِهِ . وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ فِي السُّنَنِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . فَأَمَّا اغْتِسَالُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يَتَنَازَعْ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِهِ وَإِذَا جَازَ اغْتِسَالُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا فَاغْتِسَالُ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ جَمِيعًا أَوْ النِّسَاءُ دُونَ الرِّجَالِ جَمِيعًا : أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ . فَمَنْ كَرِهَ أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَهُ غَيْرُهُ ؛ أَوْ رَأَى أَنَّ طُهْرَهُ لَا يَتِمُّ حَتَّى يَغْتَسِلَ وَحْدَهُ : فَقَدْ خَرَجَ عَنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَفَارَقَ جَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ .

يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْآنِيَةَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجُهُ وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَغْتَسِلُونَ مِنْهَا كَانَتْ آنِيَةً صَغِيرَةً وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَادَّةٌ لَا أُنْبُوبٌ وَلَا غَيْرُهُ وَلَمْ يَكُنْ يَفِيضُ . فَإِذَا كَانَ تَطَهُّرُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا مِنْ تِلْكَ الْآنِيَةِ جَائِزًا فَكَيْفَ بِهَذِهِ الْحِيَاضِ الَّتِي فِي الْحَمَّامَاتِ وَغَيْرِ الْحَمَّامَاتِ ؛ الَّتِي يَكُونُ الْحَوْضُ أَكْبَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ ؟ فَإِنَّ الْقُلَّتَيْنِ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيهِمَا عَلَى الصَّحِيحِ : أَنَّهُمَا خَمْسُمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ الْقَدِيمِ فَيَكُونُ هَذَا الرِّطْلُ الْمِصْرِيُّ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِعَشَرَاتِ مِنْ الْأَرْطَالِ ؛ فَإِنَّ الرِّطْلَ الْعِرَاقِيَّ الْقَدِيمَ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَهَذَا الرِّطْلُ الْمِصْرِيُّ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بخمسة عَشَرَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةِ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أُوقِيَّةٍ وَرُبْعٍ مِصْرِيَّةً فَالْخَمْسُمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ؛ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ ؛ وَخَمْسَةٌ وَثَمَانُونَ دِرْهَمًا ؛ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ ؛ وَذَلِكَ بِالرِّطْلِ الدِّمَشْقِيِّ الَّذِي هُوَ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ : مِائَةٌ وَسَبْعَةُ أَرْطَالٍ وَسُبْعُ رِطْلٍ . وَهَذَا الرِّطْلُ الْمِصْرِيُّ أَرْبَعُمِائَةِ رِطْلٍ وَسِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ رِطْلًا وَكَسْرُ أُوقِيَّةٍ وَمِسَاحَةُ الْقُلَّتَيْنِ ذِرَاعٌ وَرُبْعٌ فِي ذِرَاعٍ وَرُبْعٍ طُولًا وَعَرْضًا وَعُمْقًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَالِبَ هَذِهِ الْحِيَاضِ الَّتِي فِي الْحَمَّامَاتِ الْمِصْرِيَّةِ وَغَيْرِ الْحَمَّامَاتِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا الْمِقْدَارِ بِكَثِيرِ ؛ فَإِنَّ الْقُلَّةَ نَحْوٌ مِنْ هَذِهِ الْقِرَبِ الْكَائِنَةِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ بِالشَّامِ وَمِصْرَ فَالْقُلَّتَانِ قِرْبَتَانِ بِهَذِهِ الْقِرَبِ وَهَذَا كُلُّهُ تَقْرِيبٌ بِلَا رَيْبٍ فَإِنَّ تَحْدِيدَ الْقُلَّتَيْنِ إنَّمَا هُوَ بِالتَّقْرِيبِ عَلَى أَصْوَبِ الْقَوْلَيْنِ

وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْحِيَاضَ فِيهَا أَضْعَافُ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَطَهَّرُ هُوَ وَأَزْوَاجُهُ مِنْ تِلْكَ الْآنِيَةِ : فَكَيْفَ بِالتَّطَهُّرِ مِنْ هَذِهِ الْحِيَاضِ ؟ .
الْأَمْرُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَهُّرُ مِنْ هَذِهِ الْحِيَاضِ سَوَاءٌ كَانَتْ فَائِضَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْأُنْبُوبُ تَصُبُّ فِيهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ ؛ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَاءُ بَائِنًا فِيهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ فَإِنَّهَا طَاهِرَةٌ وَالْأَصْلُ بَقَاءُ طَهَارَتِهَا وَهِيَ بِكُلِّ حَالٍ أَكْثَرُ مَاءً مِنْ تِلْكَ الْآنِيَةِ الصِّغَارِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَتَطَهَّرُونَ مِنْهَا ؛ وَلَمْ تَكُنْ فَائِضَةً وَلَا كَانَ بِهَا مَادَّةٌ مِنْ أُنْبُوبٍ وَلَا غَيْرِهِ . وَمَنْ انْتَظَرَ الْحَوْضَ حَتَّى يَفِيضَ ؛ وَلَمْ يَغْتَسِلْ إلَّا وَحْدَهُ ؛ وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ دِينًا : فَهُوَ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ ؛ مُسْتَحِقٌّ لِلتَّعْزِيرِ الَّذِي يُرْدِعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ أَنْ يُشَرِّعُوا فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَيَعْبُدُونَ اللَّهَ بِاعْتِقَادَاتِ فَاسِدَةٍ وَأَعْمَالٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ وَلَا مُسْتَحَبَّةٍ . الْأَمْرُ الثَّالِثُ : الِاقْتِصَادُ فِي صَبِّ الْمَاءِ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ } وَالصَّاعُ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيهِ : إنَّهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ وَأَمَّا أَهْلُ الْحِجَازِ وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ - كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ

فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ . وَحِكَايَةُ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ مِقْدَارِ الصَّاعِ وَالْمُدِّ ؟ فَأَمَرَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَنْ يَأْتُوهُ بِصِيعَانِهِمْ حَتَّى اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ فَلَمَّا حَضَرَ أَبُو يُوسُفَ قَالَ مَالِكٌ لِوَاحِدِ مِنْهُمْ : مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا الصَّاعُ ؟ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُؤَدِّي بِهِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ الْآخَرُ : حَدَّثَتْنِي أُمِّي عَنْ أُمِّهَا أَنَّهَا كَانَتْ تُؤَدِّي بِهِ يَعْنِي : صَدَقَةَ حَدِيقَتِهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ الْآخَرُ نَحْوَ ذَلِكَ . وَقَالَ الْآخَرُ نَحْوَ ذَلِكَ . فَقَالَ مَالِكٌ لَأَبَى يُوسُفَ : أَتَرَى هَؤُلَاءِ يَكْذِبُونَ ؟ قَالَ : لَا وَاَللَّهِ مَا يَكْذِبُ هَؤُلَاءِ قَالَ مَالِكٌ : فَأَنَا حَرَّرْت هَذَا بِرِطْلِكُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ فَوَجَدْته خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلْثًا فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لِمَالِكِ : قَدْ رَجَعْت إلَى قَوْلِك يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَلَوْ رَأَى صَاحِبِي مَا رَأَيْت لَرَجَعَ كَمَا رَجَعْت . فَهَذَا النَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِمِقْدَارِ الصَّاعِ وَالْمُدِّ . وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ - كَابْنِ قُتَيْبَةَ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي تَعْلِيقِهِ ؛ وَجَدِّي أَبِي الْبَرَكَاتِ - إلَى أَنَّ صَاعَ الطَّعَامِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ ؛ وَصَاعَ الْمَاءِ ثَمَانِيَةٌ : وَاحْتَجُّوا بِحُجَجِ : مِنْهَا خَبَرُ { عَائِشَةَ : أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَرَقِ } وَالْفَرَقُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا بِالْعِرَاقِيِّ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الصَّاعَ وَالْمُدَّ فِي الطَّعَامِ وَالْمَاءِ

وَاحِدٌ وَهُوَ أَظْهَرُ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ مِقْدَارَ طَهُورِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَسْلِ مَا بَيْنَ ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ عِرَاقِيَّةٍ إلَى خَمْسَةٍ وَثُلُثٍ وَالْوُضُوءُ رُبُعُ ذَلِكَ وَهَذَا بِالرِّطْلِ الْمِصْرِيِّ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاَلَّذِي يُكْثِرُ صَبَّ الْمَاءِ حَتَّى يَغْتَسِلَ بِقِنْطَارِ مَاءٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ : مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لَلسُّنَّةِ وَمَنْ تَدَيَّنَ بِهِ عُوقِبَ عُقُوبَةً تَزْجُرُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ ذَلِكَ كَسَائِرِ الْمُتَدَيِّنِينَ بِالْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لَلسُّنَّةِ وَهَذَا كُلُّهُ بَيِّنٌ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا يُفْعَلُ نَحْوُ هَذَا لِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ يَكُونُ نَجِسًا أَوْ مُسْتَعْمَلًا ؛ بِأَنْ تَكُونَ الْآنِيَةُ مِثْلَ الطَّاسَةِ اللَّاصِقَةِ بِالْأَرْضِ قَدْ تَنَجَّسَتْ بِمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ النَّجَاسَةِ ؛ ثُمَّ غُرِفَ بِهَا مِنْهُ أَوْ بِأَنَّ الْجُنُبَ غَمَسَ يَدَهُ فِيهِ فَصَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا أَوْ قَطَرَ عَلَيْهِ مِنْ عَرَقِ سَقْفِ الْحَمَّامِ النَّجِسِ . أَوْ الْمُحْتَمِلِ لِلنَّجَاسَةِ أَوْ غَمَسَ بَعْضُ الدَّاخِلِينَ أَعْضَاءَهُ فِيهِ وَهِيَ نَجِسَةٌ فَنَجَّسَتْهُ ؛ فَلِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ نَجِسًا أَوْ مُسْتَعْمَلًا احْتَطْنَا لِدِينِنَا وَعَدَلْنَا إلَى الْمَاءِ الطَّهُورِ بِيَقِينِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك } وَلِقَوْلِهِ : { مَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ } .

قِيلَ : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الِاحْتِيَاطَ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ فِي أُمُورِ الْمِيَاهِ لَيْسَ مُسْتَحَبًّا وَلَا مَشْرُوعًا بَلْ وَلَا يُسْتَحَبُّ السُّؤَالُ عَنْ ذَلِكَ بَلْ الْمَشْرُوعُ أَنْ يُبْنَى الْأَمْرُ عَلَى الِاسْتِصْحَابِ فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى النَّجَاسَةِ نَجَّسْنَاهُ ؛ وَإِلَّا فَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْتَنَبَ اسْتِعْمَالُهُ بِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ النَّجَاسَةِ وَأَمَّا إذَا قَامَتْ أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ فَذَاكَ مَقَامٌ آخَرُ . وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ : أَنَّهُ مَا زَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ يَتَوَضَّئُونَ وَيَغْتَسِلُونَ وَيَشْرَبُونَ مِنْ الْمِيَاهِ الَّتِي فِي الْآنِيَةِ وَالدِّلَاءِ الصِّغَارِ وَالْحِيَاضِ وَغَيْرِهَا مَعَ وُجُودِ هَذَا الِاحْتِمَالِ بَلْ كُلُّ احْتِمَالٍ لَا يَسْتَنِدُ إلَى أَمَارَةٍ شَرْعِيَّةٍ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ نَوْعَانِ : مُحَرَّمٌ لِوَصْفِهِ ؛ وَمُحَرَّمٌ لِكَسْبِهِ . فَالْمُحَرَّمُ لِكَسْبِهِ كَالظُّلْمِ وَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ ؛ وَالْمُحَرَّمُ لِوَصْفِهِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ . وَالْأَوَّلُ أَشَدُّ تَحْرِيمًا وَالتَّوَرُّعَ فِيهِ مَشْهُورٌ ؛ وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَحْتَرِزُونَ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالثِّيَابِ مِنْ الشُّبُهَاتِ النَّاشِئَةِ مِنْ الْمَكَاسِبِ الْخَبِيثَةِ . وَأَمَّا الثَّانِي : فَإِنَّمَا حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ وَصْفِ الْخَبَثِ وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ لَنَا طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ إمْكَانِ أَنْ لَا يُذَكُّوهُ التَّذْكِيَةَ الشَّرْعِيَّةَ أَوْ يُسَمُّوا عَلَيْهِ غَيْرَ اللَّهِ وَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُمْ سَمَّوْا عَلَيْهِ غَيْرَ اللَّهِ حُرِّمَ ذَلِكَ

فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ قَوْمٍ يَأْتُونَ بِاللَّحْمِ وَلَا يُدْرَى أَسَمَّوْا عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ : سَمُّوا أَنْتُمْ وَكُلُوا }
وَأَمَّا الْمَاءُ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ طَهُورٌ وَلَكِنْ إذَا خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ وَظَهَرَتْ فِيهِ صَارَ اسْتِعْمَالُهُ اسْتِعْمَالًا لِذَلِكَ الْخَبِيثِ فَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ لِمَا خَالَطَهُ مِنْ الْخَبِيثِ لَا لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ خَبِيثٌ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَا أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى مُخَالَطَةِ الْخَبِيثِ لَهُ كَانَ هَذَا التَّقْدِيرُ وَالِاحْتِمَالُ مَعَ طِيبِ الْمَاءِ وَعَدَمِ التَّغْيِيرِ فِيهِ : مِنْ بَابِ الْحَرَجِ الَّذِي نَفَاهُ اللَّهُ عَنْ شَرِيعَتِنَا وَمِنْ بَابِ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الْمَرْفُوعَةِ عَنَّا . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَوَضَّأَ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ مَعَ قِيَامِ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَمَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَصَاحِبٌ لَهُ بِمِيزَابِ فَقَالَ صَاحِبُهُ : يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ مَاؤُك طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ لَا تُخْبِرْهُ . فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ . وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إذَا سَقَطَ عَلَيْهِ مَاءٌ مِنْ مِيزَابٍ وَنَحْوِهِ وَلَا أَمَارَةَ تَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ لَمْ يَلْزَمْ السُّؤَالُ عَنْهُ بَلْ يُكْرَهُ وَإِنْ سَأَلَ : فَهَلْ يَلْزَمُ رَدُّ الْجَوَابِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَقَدْ اسْتَحَبَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ السُّؤَالَ وَهُوَ ضَعِيفٌ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ : هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ هُنَا مُنْتَفِيَةٌ ؛ أَوْ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا وَالِالْتِفَاتُ إلَيْهَا حَرَجٌ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ وَوَسْوَسَةٌ يَأْتِي بِهَا الشَّيْطَانُ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الطَّاسَاتِ وَغَيْرَهَا مِنْ الْآنِيَةِ الَّتِي يَدْخُلُ بِهَا النَّاسُ الْحَمَّامَاتِ : طَاهِرَةٌ فِي الْأَصْلِ وَاحْتِمَالُ نَجَاسَتِهَا أَضْعَفُ مِنْ احْتِمَالِ نَجَاسَةِ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي فِي حَوَانِيتِ الْبَاعَةِ فَإِذَا كَانَتْ آنِيَةُ الْأَدْهَانِ وَالْأَلْبَانِ وَالْخُلُولِ وَالْعَجِينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَائِعَاتِ وَالْجَامِدَاتِ وَالرَّطْبَةِ : مَحْكُومًا بِطَهَارَتِهَا ؛ غَيْرُ مُلْتَفَتٍ فِيهَا إلَى هَذَا الْوَسْوَاسِ : فَكَيْفَ بِطَاسَاتِ النَّاسِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهَا تَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ : فَنَعَمْ . وَمَا عِنْدَ الْحِيَاضِ مِنْ الْأَرْضِ طَاهِرٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الطَّهَارَةُ وَمَا يَقَعُ عَلَيْهِ مِنْ الْمِيَاهِ وَالسِّدْرِ والخطمي وَالْأُشْنَانِ وَالصَّابُونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : طَاهِرٌ وَأَبْدَانُ الْجُنُبِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ طَاهِرَةٌ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ { أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ ؛ قَالَ : فَانْخَنَسْت مِنْهُ ؛ فَاغْتَسَلْت ثُمَّ أَتَيْته فَقَالَ : أَيْنَ كُنْت ؟ فَقُلْت : إنِّي كُنْت جُنُبًا ؛ فَكَرِهْت أَنْ أُجَالِسَك وَأَنَا جُنُبٌ فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ } . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ : أَنَّ بَدَنَ الْجُنُبِ طَاهِرٌ وَعَرَقُهُ طَاهِرٌ وَالثَّوْبَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ عَرَقُهُ طَاهِرٌ ؛ وَلَوْ سَقَطَ الْجُنُبُ

فِي دُهْنٍ أَوْ مَائِعٍ لَمْ يُنَجِّسْهُ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ بَلْ وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ عَرَقُهَا طَاهِرٌ وَثَوْبُهَا الَّذِي يَكُونُ فِيهِ عَرَقُهَا طَاهِرٌ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَذِنَ لِلْحَائِضِ أَنْ تُصَلِّيَ فِي ثَوْبِهَا الَّذِي تَحِيضُ فِيهِ وَأَنَّهَا إذَا رَأَتْ فِيهِ دَمًا أَزَالَتْهُ وَصَلَّتْ فِيهِ } . فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : فَمِنْ أَيْنَ يَنْجُسُ ذَلِكَ الْبَلَاطُ ؟ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ إنَّهُ قَدْ يَبُولُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُغْتَسِلِينَ ؛ أَوْ يَبْقَى عَلَيْهِ ؛ أَوْ يَكُونُ عَلَى بَدَنِ بَعْضِ الْمُغْتَسِلِينَ نَجَاسَةٌ يَطَأُ بِهَا الْأَرْضَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَجَوَابُ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا قَلِيلٌ نَادِرٌ ؛ وَلَيْسَ هَذَا الْمُتَيَقَّنُ مِنْ كُلِّ بُقْعَةٍ . الثَّانِي : أَنَّ غَالِبَ مَنْ تَقَعُ مِنْهُ نَجَاسَةٌ يَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ الَّذِي يُزِيلُهَا . الثَّالِثُ : أَنَّهُ إذَا أَصَابَ ذَلِكَ الْبَلَاطَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا : فَإِنَّ الْمَاءَ الَّذِي يَفِيضُ مِنْ الْحَوْضِ وَاَلَّذِي يَصُبُّهُ النَّاسُ : يُطَهِّرُ تِلْكَ الْبُقْعَةَ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ تَطْهِيرَهَا ؛ فَإِنَّ الْقَصْدَ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ لَيْسَ بِشَرْطِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَكِنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ذَكَرُوا وَجْهًا ضَعِيفًا فِي ذَلِكَ ؛ لِيَطْرُدُوا قِيَاسَهُمْ فِي مُنَاظَرَةِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ . كَمَا أَنَّ زُفَرَ نَفَى وُجُوبَ النِّيَّةِ فِي

التَّيَمُّمِ طَرْدًا لِقِيَاسِهِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مُطْرَحٌ . وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَاءَ الْمَطَرِ يُطَهِّرُ الْأَرْضَ الَّتِي يُصِيبُهَا وَغَالِبُ الْمَاءِ الَّذِي يُصَبُّ عَلَى الْأَرْضِ لَيْسَ بِمُسْتَعْمَلِ ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمَاءِ الَّذِي يَصُبُّهُ النَّاسُ لَا يَكُونُ عَنْ جَنَابَةٍ وَلَا يَكُونُ مُتَغَيِّرًا . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ : هَبْ أَنَّ الْحَوْضَ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ مُحَقَّقَةٌ ؛ أَوْ انْغَمَسَ فِيهِ جُنُبٌ : فَهَذَا مَاءٌ كَثِيرٌ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك تَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بضاعة وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ ؛ وَلُحُومُ الْكَلْبِ ؛ وَالنَّتْنُ ؟ فَقَالَ : الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : حَدِيثُ بِئْرِ بضاعة صَحِيحٌ . وَفِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بِأَرْضِ الْفَلَاةِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ ؟ فَقَالَ : إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ } وَفِي لَفْظٍ { لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ } . وَبِئْرُ بضاعة بِئْرٌ كَسَائِرِ الْآبَارِ وَهِيَ بَاقِيَةٌ إلَى الْآنَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ النَّاحِيَةِ الشَّرْقِيَّةِ وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا كَانَتْ عَيْنًا جَارِيَةً فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا بَيِّنًا ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ عَيْنٌ جَارِيَةٌ أَصْلًا وَلَمْ يَكُنْ بِهَا إلَّا الْآبَارُ مِنْهَا يَتَوَضَّؤُونَ وَيَغْتَسِلُونَ

وَيَشْرَبُونَ مِثْلُ بِئْرِ أَرِيسَ الَّتِي بقُبَاء ؛ أَوْ الْبِئْرُ الَّتِي ببيرحاء حَدِيقَةُ أَبِي طَلْحَةَ وَالْبِئْرُ الَّتِي اشْتَرَاهَا عُثْمَانُ وَحَبَسَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرُ هَذِهِ الْآبَارِ وَكَانَ سَقْيُهُمْ لِلنَّخْلِ وَالزَّرْعِ مِنْ الْآبَارِ بِالنَّوَاضِحِ وَالسَّوَانِي وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَمَا يَأْتِي مِنْ السُّيُولِ فَأَمَّا عَيْنٌ جَارِيَةٌ فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ . وَهَذِهِ الْعُيُونُ الَّتِي تُسَمَّى عُيُونَ حَمْزَةَ إنَّمَا أَحْدَثَهَا مُعَاوِيَةُ فِي خِلَافَتِهِ وَأَمَرَ النَّاسَ بِنَقْلِ الشُّهَدَاءِ مِنْ مَوْضِعِهَا فَصَارُوا ينبشونهم وَهُمْ رِطَابٌ لَمْ يُنْتِنُوا حَتَّى أَصَابَتْ الْمِسْحَاةُ رِجْلَ أَحَدِهِمْ فَانْبَعَثَتْ دَمًا وَكَذَلِكَ عَيْنُ الزَّرْقَاءِ مُحْدَثَةٌ ؛ لَكِنْ لَا أَدْرِي مَتَى حَدَثَتْ ؟ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْعَالِمِينَ بِالْمَدِينَةِ وَأَحْوَالِهَا وَإِنَّمَا يُنَازِعُ فِي مِثْلِ هَذَا بَعْضُ أَتْبَاعِ عُلَمَاءِ الْعِرَاقِ ؛ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ خِبْرَةٌ بِأَحْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَدِينَتِهِ وَسِيرَتِهِ . وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ مِنْ تِلْكَ الْبِئْرِ الَّتِي يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ : فَكَيْفَ يُشْرَعُ لَنَا أَنْ نَتَنَزَّهَ عَنْ أَمْرٍ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ يَتَنَزَّهُ عَمَّا يَفْعَلُهُ وَقَالَ : { مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ أَشْيَاءَ أَتَرَخَّصُ فِيهَا ؟ وَاَللَّهِ إنِّي لِأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ } .

وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : نَتَنَزَّهُ عَنْ هَذَا لِأَجْلِ الْخِلَافِ فِيهِ ؛ فَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَنْ يَقُولُ الْمَاءُ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ نَجَّسَتْهُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا تَبْلُغُهُ النَّجَاسَةُ ؛ وَيُقَدِّرُونَهُ بِمَا لَا يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ بِتَحَرُّكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ وَهَلْ الْعِبْرَةُ بِحَرَكَةِ الْمُتَوَضِّئِ أَوْ بِحَرَكَةِ الْمُغْتَسِلِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةِ أَذْرُعٍ . وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ } ثُمَّ يَقُولُونَ : إذَا تَنَجَّسَتْ الْبِئْرُ فَإِنَّهُ يُنْزَحُ مِنْهَا دِلَاءٌ مُقَدَّرَةٌ فِي بَعْضِ النَّجَاسَاتِ وَفِي بَعْضِهَا تُنْزَحُ الْبِئْرُ كُلُّهَا . وَذَهَبَ بَعْضُ مُتَكَلِّمِيهِمْ إلَى أَنَّ الْبِئْرَ تُطَمُّ فَهَذَا الِاخْتِلَافُ يُورِثُ شُبْهَةً فِي الْمَاءِ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ ؟ قِيلَ لِهَذَا الْقَائِلِ : الِاخْتِلَافُ إنَّمَا يُورِثُ شُبْهَةً إذَا لَمْ تَتَبَيَّنْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ فِي شَيْءٍ ؛ وَقَدْ كَرِهَ أَنْ نَتَنَزَّهَ عَمَّا تَرَخَّصَ فِيهِ ؛ وَقَالَ لَنَا : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ } رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ خُزَيْمَة فِي صَحِيحِهِ : فَإِنْ تَنَزَّهْنَا عَنْهُ عَصَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ نُرْضِيَهُ وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُغْضِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشُبْهَةِ وَقَعَتْ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ كَمَا كَانَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَوْ فَتَحْنَا هَذَا الْبَابَ لَكُنَّا نَكْرَهُ لِمَنْ أَرْسَلَ هَدْيًا أَنْ يَسْتَبِيحَ

مَا يَسْتَبِيحُهُ الْحَلَّالُ لِخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَلَكِنَّا نَسْتَحِبُّ لِلْجُنُبِ إذَا صَامَ أَنْ يَغْتَسِلَ لِخِلَافِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَلَكِنَّا نَكْرَهُ تَطَيُّبُ الْمُحْرِمِ قَبْلَ الطَّوَافِ لِخِلَافِ عُمَرَ وَابْنِهِ وَمَالِكٍ . وَكُنَّا نَكْرَهُ لَهُ أَنْ يُلَبِّيَ إلَى أَنْ يَرْمِيَ الْجَمْرَةَ بَعْدَ التَّعْرِيفِ لِخِلَافِ مَالِك وَغَيْرِهِ . وَمِثْلُ هَذَا وَاسِعٌ لَا يَنْضَبِطُ . وَأَمَّا مَنْ خَالَفَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَهُمْ مُجْتَهِدُونَ قَالُوا بِمَبْلَغِ عِلْمِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ وَهُمْ إذَا أَصَابُوا فَلَهُمْ أَجْرَانِ وَإِذَا أَخْطَئُوا فَلَهُمْ أَجْرٌ وَالْخَطَأُ مَحْطُوطٌ عَنْهُمْ فَهُمْ مَعْذُورُونَ لِاجْتِهَادِهِمْ ؛ وَلِأَنَّ السُّنَّةَ الْبَيِّنَةَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ وَمَنْ انْتَهَى إلَى مَا عُلِمَ فَقَدْ أَحْسَنَ . فَأَمَّا مَنْ تَبْلُغُهُ السُّنَّةُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَتَبَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةُ الْحَالِ : فَلَمْ يَبْقَ لَهُ عُذْرٌ فِي أَنْ يَتَنَزَّهَ عَمَّا تَرَخَّصَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَرْغَبُ عَنْ سُنَّتِهِ لِأَجْلِ اجْتِهَادِ غَيْرِهِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَقْوَامًا يَقُولُ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ لَا أُفْطِرُ . وَيَقُولُ الْآخَرُ : فَأَنَا أَقُومُ وَلَا أَنَامُ . وَيَقُولُ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ . وَيَقُولُ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ فَقَالَ : بَلْ أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَنَامُ ؛ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } .

وَمَعْلُومٌ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ يَرَوْنَ أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ وَتَرْكِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ مِنْ الطَّيِّبَاتِ : أَفْضَلُ مِنْ هَذَا وَهُمْ فِي هَذَا إذَا كَانُوا مُجْتَهِدِينَ مَعْذُورُونَ . وَمَنْ عَلِمَ السُّنَّةَ فَرَغِبَ عَنْهَا لِأَجْلِ اعْتِقَادِ : أَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ إلَى هَذَا أَفْضَلُ ؛ وَأَنَّ هَذَا الْهَدْيَ أَفْضَلُ مِنْ هَدْيِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا بَلْ هُوَ تَحْتَ الْوَعِيدِ النَّبَوِيِّ بِقَوْلِهِ : { مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } . وَفِي الْجُمْلَةِ ( بَابٌ الِاجْتِهَادُ وَالتَّأْوِيلُ بَابٌ وَاسِعٌ يَئُولُ بِصَاحِبِهِ إلَى أَنْ يَعْتَقِدَ الْحَرَامَ حَلَالًا كَمَنْ تَأَوَّلَ فِي رِبَا الْفَضْلِ وَالْأَنْبِذَةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا وَحُشُوشِ النِّسَاءِ وَإِلَى أَنْ يَعْتَقِدَ الْحَلَالَ حَرَامًا مِثْلُ بَعْضِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ صُوَرِ النِّزَاعِ مِثْلُ الضَّبِّ وَغَيْرِهِ بَلْ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ قَتْلِ الْمَعْصُومِ أَوْ بِالْعَكْسِ . فَأَصْحَابُ الِاجْتِهَادِ وَإِنْ عُذِرُوا وَعُرِفَتْ مَرَاتِبُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ : فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا تَبَيَّنَ مِنْ السُّنَّةِ وَالْهَدْيِ لِأَجْلِ تَأْوِيلِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إنَّهُ قَدْ يَغْمِسُ يَدَهُ فِيهِ أَوْ يَنْغَمِسُ فِيهِ الْجُنُبُ . فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ أَنَّ هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ النَّجَاسَةُ : فَكَيْفَ تُؤَثِّرُ فِيهِ الْجَنَابَةُ ؟ وَقَدْ أَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ { نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يَبُولَ الرَّجُلُ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ } بِأَجْوِبَةِ .

أَحَدُهَا : أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الِاغْتِسَالِ وَعَنْ الْبَوْلِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُفْضِي إلَى الْإِكْثَارِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَتَغَيَّرَ الْمَاءُ وَإِذَا بَالَ ثُمَّ اغْتَسَلَ فَقَدْ يُصِيبُهُ الْبَوْلُ قَبْلَ اسْتِحَالَتِهِ . وَهَذَا جَوَابُ مَنْ يَقُولُ : الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ ؛ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ اخْتَارَهَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ صَاحِبُ التَّعْلِيقَةِ . الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ ؛ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ . وَهَذَا جَوَابُ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . الثَّالِثُ : أَنَّ النَّصَّ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْبَوْلِ وَالْبَوْلُ أَغْلَظُ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ ؛ وَصِيَانَةُ الْمَاءِ مِنْهُ مُمْكِنَةٌ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ فَلَمَّا غَلُظَ - وَصِيَانَةُ الْمَاءِ عَنْهُ مُمْكِنَةٌ - فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَعْسُرُ صِيَانَةُ الْمَاءِ عَنْهُ ؛ وَهُوَ دُونُهُ . وَهَذَا جَوَابُ أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ ؛ وَاخْتِيَارُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ . الْجَوَابُ الرَّابِعُ : أَنَّا نَفْرِضُ أَنَّ الْمَاءَ قَلِيلٌ ؛ وَأَنَّ الْمُغْتَسِلِينَ غَمَسُوا فِيهِ أَيْدِيَهُمْ : فَهَذَا بِعَيْنِهِ صُورَةُ النُّصُوصِ الَّتِي وَرَدَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَزْوَاجِهِ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ .
وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَنَّ الْمَاءَ الْمُتَطَهَّرَ بِهِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إذَا غَمَسَ الْجُنُبُ يَدَهُ فِيهِ : هَلْ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ .

وَهُوَ نَظِيرُ غَمْسِ الْمُتَوَضِّئِ يَدَهُ بَعْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُ التَّرْتِيبَ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ : الْفَرْقُ بِهِ بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ الْغُسْلَ أَوْ لَا يَنْوِيَهُ ؛ فَإِنْ نَوَى مُجَرَّدَ الْغُسْلِ صَارَ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ نَوَى مُجَرَّدَ الِاغْتِرَافِ لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ أَطْلَقَ لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا عَلَى الصَّحِيحِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اغْتَرَفَ مِنْ الْإِنَاءِ بَعْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ } كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ اغْتَرَفَ مِنْهُ فِي الْجَنَابَةِ وَلَمْ يُحَرِّجْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَلْ قَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّ أَكْثَرَ تَوَضُّؤِ الْمُسْلِمِينَ وَاغْتِسَالِهِمْ عَلَى عَهْدِهِ كَانَ مِنْ الْآنِيَةِ الصِّغَارِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَغْمِسُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ جَمِيعًا فَمَنْ جَعَلَ الْمَاءَ مُسْتَعْمَلًا بِذَلِكَ فَقَدْ ضَيَّقَ مَا وَسَّعَهُ اللَّهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَنَحْنُ نَحْتَرِزُ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ قَوْلِ مَنْ يُنَجِّسُ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ . قِيلَ : هَذَا أَبْعَدُ عَنْ السُّنَّةِ ؛ فَإِنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ نَجَاسَةٌ حِسِّيَّةٌ كَنَجَاسَةِ الدَّمِ وَنَحْوِهِ - وَإِنْ كَانَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - فَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا ؛ مُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَدِلَّةِ الْجَلِيَّةِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَوَارِدِ الظُّنُونِ بَلْ هِيَ قَطْعِيَّةٌ بِلَا رَيْبٍ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَصَبَّ وَضُوءَهُ عَلَى جَابِرٍ } وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ كَمَا يَأْخُذُونَ

نُخَامَتَهُ وَكَمَا اقْتَسَمُوا شَعْرَهُ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ . فَمَنْ نَجَّسَ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ نَجَّسَ شُعُورَ الْآدَمِيِّينَ بَلْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ نَجَّسَ الْبُصَاقَ كَمَا يُرْوَى عَنْ سَلْمَانَ . وَأَيْضًا فَبَدَنُ الْجُنُبِ طَاهِرٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَاءُ الطَّاهِرُ إذَا لَاقَى مَحَلًّا طَاهِرًا لَمْ يَنْجُسْ بِالْإِجْمَاعِ . وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِتَسْمِيَةِ ذَلِكَ طَهَارَةً ؛ وَأَنَّهَا ضِدُّ النَّجَاسَةِ : فَضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ أَنَّ كُلَّ طَهَارَةٍ فَضِدُّهَا النَّجَاسَةُ ؛ فَإِنَّ الطَّهَارَةَ تَنْقَسِمُ إلَى : طَهَارَةِ خَبَثٍ وَحَدَثٍ طَهَارَةً عَيْنِيَّةً وَحُكْمِيَّةً . الثَّانِي : أَنَّا نُسَلِّمُ ذَلِكَ وَنَقُولُ : النَّجَاسَةُ أَنْوَاعٌ كَالطَّهَارَةِ فَيُرَادُ بِالطَّهَارَةِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ كَمَا يُرَادُ بِالنَّجَاسَةِ ضِدُّ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } وَهَذِهِ النَّجَاسَةُ لَا تُفْسِدُ الْمَاءَ بِدَلِيلِ أَنَّ سُؤْرَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ طَاهِرٌ وَآنِيَتُهُمْ الَّتِي يَصْنَعُونَ فِيهَا الْمَائِعَاتِ وَيَغْمِسُونَ فِيهَا أَيْدِيَهُمْ طَاهِرَةٌ وَقَدْ { أَهْدَى الْيَهُودِيُّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً مَشْوِيَّةً وَأَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً } مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ بَاشَرُوهَا . { وَقَدْ أَجَابَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودِيًّا إلَى خُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ } .

وَالثَّانِي : يُرَادُ بِالطَّهَارَةِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْحَدَثِ وَضِدُّ هَذِهِ نَجَاسَةُ الْحَدَثِ كَمَا قَالَ أَحْمَد فِي بَعْضِ أَجْوِبَتِهِ لَمَّا سُئِلَ عَنْ نَحْوِ ذَلِكَ : إنَّهُ أَنْجَسُ الْمَاءِ . فَظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ أَرَادَ نَجَاسَةَ الْجُنُبِ ؛ فَذَكَرَ ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْهُ . وَإِنَّمَا أَرَادَ أَحْمَد نَجَاسَةَ الْحَدَثِ وَأَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يُخَالِفُ سُنَّةً ظَاهِرَةً مَعْلُومَةً لَهُ قَطُّ وَالسُّنَّةُ فِي ذَلِكَ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ تَخْفَى عَلَى أَقَلِّ أَتْبَاعِهِ لَكِنْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : اغْسِلْ بَدَنَك مِنْهُ . وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ ؛ فَإِنَّ غَسْلَ الْبَدَنِ مِنْ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ لَا يَجِبُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَكِنْ ذَكَرُوا عَنْ أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ فِي اسْتِحْبَابِ غَسْلِ الْبَدَنِ مِنْهُ : رِوَايَتَيْنِ . الرِّوَايَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ وَلَا يُسْتَحَبُّ ؛ لِأَنَّ هَذَا عَمَلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُونُوا يَغْسِلُونَ ثِيَابَهُمْ بِمَا يُصِيبُهُمْ مِنْ الْوُضُوءِ . الثَّالِثُ : يُرَادُ بِالطَّهَارَةِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْأَعْيَانِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي هِيَ نَجِسَةٌ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ النَّجَاسَةِ بِالْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ الْخَبِيثَةِ ؛ كَالدَّمِ وَالْمَاءِ الْمُنَجَّسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّتْ النُّصُوصُ وَالْإِجْمَاعُ الْقَدِيمُ وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ عَلَى بُطْلَانِهِ . وَعَلَى هَذَا فَجَمِيعُ هَذِهِ الْمِيَاهِ الَّتِي فِي الْحِيَاضِ ؛ وَالْبِرَكِ الَّتِي فِي الْحَمَّامَاتِ وَالطُّرُقَاتِ وَعَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَفِي الْمَدَارِسِ ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ : لَا يُكْرَهُ التَّطَهُّرُ بِشَيْءِ مِنْهَا وَإِنْ سَقَطَ فِيهَا

الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْ أَمْرٍ ثَبَتَتْ فِيهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّخْصَةِ لِأَجْلِ شُبْهَةٍ وَقَعَتْ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ . وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ جَوَابُ السَّائِلِ عَنْ الْمَاءِ الَّذِي يَقْطُرُ مِنْ بَدَنِ الْجُنُبِ بِجِمَاعِ أَوْ غَيْرِهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ وَأَنَّ التَّنَزُّهَ عَنْهُ أَوْ عَنْ مُلَامَسَتِهِ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي فِي ذَلِكَ بِدْعَةٌ مُخَالِفَةٌ لَلسُّنَّةِ وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْجُنُبَ لَوْ مَسَّ مُغْتَسِلًا لَمْ يُقْدَحْ فِي صِحَّةِ غُسْلِهِ .
وَأَمَّا الْمُسْخَنُ بِالنَّجَاسَةِ فَلَيْسَ بِنَجِسِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ إذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا يُنَجِّسُهُ وَأَمَّا كَرَاهَتُهُ فَفِيهَا نِزَاعٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُمَا . وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ لَهَا مَأْخَذَانِ : أَحَدُهُمَا : احْتِمَالُ وُصُولِ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ إلَى الْمَاءِ ؛ فَيَبْقَى مَشْكُوكًا فِي طِهَارَتِهِ شَكًّا مُسْتَنِدًا إلَى أَمَارَةٍ ظَاهِرَةٍ فَعَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ مَتَى كَانَ بَيْنَ الْوَقُودِ وَالْمَاءِ حَاجِزٌ حَصِينٌ كَمِيَاهِ الْحَمَّامَاتِ لَمْ يُكْرَهْ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَيَقَّنَ أَنَّ الْمَاءَ لَمْ تَصِلْ إلَيْهِ النَّجَاسَةُ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد كَالشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمَا .

وَالثَّانِي : أَنَّ سَبَبَ الْكَرَاهَةِ كَوْنُهُ سُخِّنَ بِإِيقَادِ النَّجَاسَةِ ؛ وَاسْتِعْمَالُ النَّجَاسَةِ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُمْ ؛ وَالْحَاصِلُ بِالْمَكْرُوهِ مَكْرُوهٌ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ . فَعَلَى هَذَا إنَّمَا الْكَرَاهَةُ إذَا كَانَ التَّسْخِينُ حَصَلَ بِالنَّجَاسَةِ . فَأَمَّا إذَا كَانَ غَالِبُ الْوَقُودِ طَاهِرًا أَوْ شَكَّ فِيهِ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ . وَأَمَّا دُخَانُ النَّجَاسَةِ : فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْعَيْنَ النَّجِسَةَ الْخَبِيثَةَ إذَا اسْتَحَالَتْ حَتَّى صَارَتْ طَيِّبَةً كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَعْيَانِ الطَّيِّبَةِ - مِثْلَ أَنْ يَصِيرَ مَا يَقَعُ فِي الْمَلَّاحَةِ مِنْ دَمٍ وَمَيْتَةٍ وَخِنْزِيرٍ مِلْحًا طَيِّبًا كَغَيْرِهَا مِنْ الْمِلْحِ أَوْ يَصِيرُ الْوَقُودُ رَمَادًا وخرسفا وقصرملا وَنَحْوَ ذَلِكَ - فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَطْهُرُ . كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ ؛ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِ أَحْمَد ؛ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ؛ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى : أَنَّهُ طَاهِرٌ ؛ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ؛ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَمَذْهَبِ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَغَيْرِهِمْ : أَنَّهَا تَطْهُرُ . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَمْ تَتَنَاوَلْهَا نُصُوصُ التَّحْرِيمِ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى ؛ فَلَيْسَتْ مُحَرَّمَةً وَلَا فِي مَعْنَى الْمُحَرَّمِ فَلَا وَجْهَ لِتَحْرِيمِهَا بَلْ تَتَنَاوَلُهَا نُصُوصُ الْحِلِّ ؛ فَإِنَّهَا مِنْ الطَّيِّبَاتِ . وَهِيَ أَيْضًا فِي مَعْنَى مَا اتَّفَقَ عَلَى حِلِّهِ

فَالنَّصُّ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي تَحْلِيلَهَا .
وَأَيْضًا فَقَدْ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى الْخَمْرِ إذَا صَارَتْ خَلًّا بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى صَارَتْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاسْتِحَالَةُ هَذِهِ الْأَعْيَانِ أَعْظَمُ مِنْ اسْتِحَالَةِ الْخَمْرِ وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا قَالُوا : الْخَمْرُ نُجِّسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَطَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ بِخِلَافِ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ . وَهَذَا الْفَرْقُ ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ نُجِّسَتْ أَيْضًا بِالِاسْتِحَالَةِ . فَإِنَّ الدَّمَ مُسْتَحِيلٌ عَنْ أَعْيَانٍ طَاهِرَةٍ وَكَذَلِكَ الْعَذِرَةُ وَالْبَوْلُ وَالْحَيَوَانُ النَّجِسُ مُسْتَحِيلٌ عَنْ مَادَّةٍ طَاهِرَةٍ مَخْلُوقَةٍ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَبَائِثَ لِمَا قَامَ بِهَا مِنْ وَصْفِ الْخَبَثِ كَمَا أَنَّهُ أَبَاحَ الطَّيِّبَاتِ لِمَا قَامَ بِهَا مِنْ وَصْفِ الطِّيبِ وَهَذِهِ الْأَعْيَانُ الْمُتَنَازَعُ فِيهَا لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ وَصْفِ الْخَبَثِ وَإِنَّمَا فِيهَا وَصْفُ الطِّيبِ . فَإِذَا عُرِفَ هَذَا : فَعَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فَالدُّخَانُ وَالْبُخَارُ الْمُسْتَحِيلُ عَنْ النَّجَاسَةِ طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ أَجْزَاءٌ هَوَائِيَّةٌ وَنَارِيَّةٌ وَمَائِيَّةٌ ؛ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ وَصْفِ الْخَبَثِ . وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْفَى مِنْ ذَلِكَ عَمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ كَمَا يُعْفَى عَمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ . وَمَنْ حَكَمَ بِنَجَاسَةِ

ذَلِكَ وَلَمْ يَعْفُ عَمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَقَوْلُهُ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ . هَذَا إذَا كَانَ الْوَقُودُ نَجِسًا . فَأَمَّا الطَّاهِرُ كَالْخَشَبِ وَالْقَصَبِ وَالشَّوْكِ فَلَا يُؤَثِّرُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ أَرْوَاثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ ؛ فَإِنَّهَا طَاهِرَةٌ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الْمَاءُ الَّذِي يَجْرِي عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ مِمَّا يَفِيضُ وَيَنْزِلُ مِنْ أَبْدَانِ الْمُغْتَسِلِينَ غُسْلَ النَّظَافَةِ وَغُسْلَ الْجَنَابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِنْ الْغُسْلِ كَالسِّدْرِ والخطمي وَالْأُشْنَانِ مَا فِيهِ إلَّا إذَا عُلِمَ فِي بَعْضِهِ بَوْلٌ أَوْ قَيْءٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النَّجَاسَاتِ : فَذَلِكَ الْمَاءُ الَّذِي خَالَطَتْهُ هَذِهِ النَّجَاسَاتُ لَهُ حُكْمُهُ . وَأَمَّا مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُهُ بِلَا نِزَاعٍ لَا سِيَّمَا وَهَذِهِ الْمِيَاهُ جَارِيَةٌ بِلَا رَيْبٍ بَلْ مَاءُ الْحَمَّامِ الَّذِي هُوَ فِيهِ إذَا كَانَ الْحَوْضُ فَائِضًا فَإِنَّهُ جَارٍ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا يَكُونُ فِي الْأَنْهَارِ مِنْ حُفْرَةٍ وَنَحْوِهَا ؛ فَإِنَّ هَذَا الْمَاءَ وَإِنْ كَانَ الْجَرَيَانُ عَلَى وَجْهِهِ فَإِنَّهُ يُسْتَخْلَفُ شَيْئًا فَشَيْئًا ؛ وَيَذْهَبُ وَيَأْتِي مَا بَعْدَهُ ؛ لَكِنْ يُبْطِئُ ذَهَابُهُ بِخِلَافِ الَّذِي يَجْرِي جَمِيعُهُ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَاءِ الْجَارِي عَلَى قَوْلَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ . وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ تَشْدِيدِهِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَنَصُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَاخْتِيَارُ مُحَقِّقِي أَصْحَابِهِ . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ ؛ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد : أَنَّهُ كَالدَّائِمِ فَتُعْتَبَرُ الْجَرْيَةُ . وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ الدَّائِمِ وَالْجَارِي فِي نَهْيِهِ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ وَالْبَوْلِ فِيهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَلِأَنَّ الْجَارِيَ إذَا لَمْ تُغَيِّرْهُ النَّجَاسَةُ فَلَا وَجْهَ لِنَجَاسَتِهِ . وَقَوْلُهُ : { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ } إنَّمَا دَلَّ عَلَى مَا دُونَهُمَا بِالْمَفْهُومِ وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا دُونُ الْقُلَّتَيْنِ يَحْمِلُ الْخَبَثَ بَلْ إذَا فُرِّقَ فِيهِ بَيْنَ دَائِمٍ وَجَارٍ أَوْ إذَا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ يَحْمِلُ الْخَبَثَ كَانَ الْحَدَثُ مَعْمُولًا بِهِ . فَإِذَا كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينِ وَلَيْسَ فِي نَجَاسَتِهِ نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ وَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَى طَهَارَتِهِ مَعَ بَقَاءِ صِفَاتِهِ وَإِذَا كَانَ حَوْضُ الْحَمَّامِ الْفَائِضِ إذَا كَانَ قَلِيلًا وَوَقَعَ فِيهِ بَوْلٌ أَوْ دَمٌ أَوْ عَذِرَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ : لِمَ يُنَجِّسْهُ عَلَى الصَّحِيحِ فَكَيْفَ بِالْمَاءِ الَّذِي جَمِيعُهُ يَجْرِي عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ ؟ فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ لَمْ يَنْجُسْ .

وَهَذَا يَتَّضِحُ بِمَسْأَلَةِ أُخْرَى ؛ وَهُوَ : أَنَّ الْأَرْضَ وَإِنْ كَانَتْ تُرَابًا أَوْ غَيْرَ تُرَابٍ إذَا وَقَعَتْ عَلَيْهَا نَجَاسَةٌ مِنْ بَوْلٍ أَوْ عَذِرَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا : فَإِنَّهُ إذَا صُبَّ الْمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى زَالَتْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ : فَالْمَاءُ وَالْأَرْضُ طَاهِرَانِ وَإِنْ لَمْ يَنْفَصِلْ الْمَاءُ فِي مَذْهَبِ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ فَكَيْفَ بِالْبَلَاطِ ؟ وَلِهَذَا قَالُوا : إنَّ السَّطْحَ إذَا كَانَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ وَأَصَابَهُ مَاءُ الْمَطَرِ حَتَّى أَزَالَ عَيْنَهَا كَانَ مَا يَنْزِلُ مِنْ الميازيب طَاهِرًا ؛ فَكَيْفَ بِأَرْضِ الْحَمَّامِ ؟ فَإِذَا كَانَ بِهَا بَوْلٌ أَوْ قَيْءٌ فَصُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ حَتَّى ذَهَبَتْ عَيْنُهُ : كَانَ الْمَاءُ وَالْأَرْضُ طَاهِرَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ الْمَاءُ ؛ فَكَيْفَ إذَا جَرَى وَزَالَ عَنْ مَكَانِهِ ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ وَذَكَرْنَا بِضْعَةَ عَشَرَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا عَلَى طَهَارَةِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثِهِ فَإِذَا كَانَتْ طَاهِرَةً فَكَيْفَ بِالْمُسْتَحِيلِ مِنْهَا أَيْضًا ؟ وَطَهَارَةُ هَذِهِ الْأَرْوَاثِ بَيِّنَةٌ فِي السُّنَّةِ فَلَا يُجْعَلُ الْخِلَافُ فِيهَا شُبْهَةً يُسْتَحَبُّ لِأَجْلِهِ اتِّقَاءُ مَا خَالَطَتْهُ ؛ إذْ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُلَابِسُونَهَا . وَأَمَّا رَوْثُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ : فَهَذِهِ نَجِسَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى طَهَارَتِهَا ؛ وَأَنَّهُ لَا يُنَجِّسُ مِنْ الْأَرْوَاثِ وَالْأَبْوَالِ إلَّا بَوْلُ الْآدَمِيِّ وَعَذِرَتُهُ ؛ لَكِنْ عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ قَوْلُ الْجُمْهُورِ إذَا شَكَّ فِي الرَّوْثَةِ : هَلْ هِيَ مِنْ رَوْثِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ

مِنْ رَوْثِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ؟ فَفِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : أَحَدُهُمَا : يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَرْوَاثِ النَّجَاسَةُ . وَالثَّانِي : وَهُوَ الْأَصَحُّ : يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ . وَدَعْوَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَرْوَاثِ النَّجَاسَةُ مَمْنُوعٌ ؛ فَلَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ لَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَمَنْ ادَّعَى أَصْلًا بِلَا نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ فَقَدْ أَبْطَلَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا الْقِيَاسُ فَرَوْثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ ؛ فَكَيْفَ يُدَّعَى أَنَّ الْأَصْلَ نَجَاسَةُ الْأَرْوَاثِ ؟ إذَا عُرِفَ ذَلِكَ . فَإِنَّ تَيَقُّنَ أَنَّ الْوَقُودَ نَجِسٌ فَالدُّخَانُ مِنْ مَسَائِلِ الِاسْتِحَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَأَمَّا إذَا تَيَقَّنَ طَهَارَتَهُ فَلَا نِزَاعَ فِيهِ . وَإِنْ شَكَّ : هَلْ فِيهِ نَجَسٌ ؟ فَالْأَصْلُ الطَّهَارَةُ وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّ فِيهِ رَوْثًا وَشَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ فَالصَّحِيحُ الْحُكْمُ بِطَهَارَتِهِ . وَإِنْ عَلِمَ اشْتِمَالَهُ عَلَى طَاهِرٍ وَنَجِسٍ وَقُلْنَا بِنَجَاسَةِ الْمُسْتَحِيلِ عَنْهُ : كَانَ لَهُ حُكْمُهُ فِيمَا يُصِيبُ بَدَنَ الْمُغْتَسِلِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الطَّاهِرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ النَّجِسِ فَلَا يَنْجُسُ بِالشَّكِّ كَمَا لَوْ أَصَابَهُ بَعْضُ رَمَادٍ مِثْلَ هَذَا الْوَقُودِ فَإِنَّا لَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَةِ الْبَدَنِ بِذَلِكَ وَإِنْ تَيَقَّنَّا أَنَّ فِي الْوَقُودِ نَجَسًا ؛ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الرَّمَادُ غَيْرَ نَجِسٍ وَالْبَدَنُ طَاهِرٌ بِيَقِينِ فَلَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ . وَهَذَا إذَا لَمْ يَخْتَلِطْ الرَّمَادُ النَّجِسُ بِالطَّاهِرِ ؛ أَوْ الْبُخَارُ النَّجِسُ بِالطَّاهِرِ .

فَأَمَّا إذَا اخْتَلَطَا بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ : فَمَا أَصَابَ الْإِنْسَانَ يَكُونُ مِنْهُمَا جَمِيعًا ؛ وَلَكِنَّ الْوَقُودَ فِي مَقَرِّهِ لَا يَكُونُ مُخْتَلِطًا بَلْ رَمَادُ كُلِّ نَجَاسَةٍ يَبْقَى فِي حَيِّزِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ اشْتَبَهَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ كَاشْتِبَاهِ أُخْتِهِ بِأَجْنَبِيَّةٍ أَوْ الْمَيْتَةِ بِالْمُذَكَّاةِ اجْتَنَبَهُمَا جَمِيعًا . وَلَوْ اشْتَبَهَ الْمَاءُ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ : فَقِيلَ : يَتَحَرَّى لِلطَّهَارَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ النَّجِسُ نَجِسَ الْأَصْلِ بِأَنْ يَكُونَ بَوْلًا كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ . وَقِيلَ : لَا يَتَحَرَّى ؛ بَلْ يَجْتَنِبُهُمَا كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بَوْلًا وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ . وَقِيلَ : يَتَحَرَّى إذَا كَانَتْ الْآنِيَةُ أَكْبَرَ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَفِي تَقْدِيرِ الْكَبِيرِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ فَهُنَا أَيْضًا اشْتَبَهَتْ الْأَعْيَانُ النَّجِسَةُ بِالطَّاهِرَةِ فَاشْتَبَهَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ . قِيلَ : هَذَا صَحِيحٌ وَلَكِنَّ مَسْأَلَتَنَا لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّهُ إذَا اشْتَبَهَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ اجْتَنَبَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا اسْتَعْمَلَهُمَا لَزِمَ اسْتِعْمَالُ الْحَرَامِ قَطْعًا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَاطِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ كَالنَّجَاسَةِ إذَا ظَهَرَتْ فِي الْمَاءِ وَإِنْ اسْتَعْمَلَ أَحَدَهُمَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ كَانَ تَرْجِيحًا بِلَا مُرَجِّحٍ ؛ وَهُمَا مُسْتَوَيَانِ فِي الْحُكْمِ فَلَيْسَ اسْتِعْمَالُ هَذَا بِأَوْلَى مِنْ هَذَا ؛ فَيُجْتَنَبَانِ جَمِيعًا .

وَأَمَّا اشْتِبَاهُ الْمَاءِ الطَّاهِرِ بِالنَّجِسِ فَإِنَّمَا نَشَأَ فِيهِ النِّزَاعُ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ بِالطَّهُورِ وَاجِبَةٌ ؛ وَبِالنَّجِسِ حَرَامٌ فَقَدْ اشْتَبَهَ وَاجِبٌ بِحَرَامِ . وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا التَّحَرِّيَ قَالُوا : اسْتِعْمَالُ النَّجِسِ حَرَامٌ . وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الطَّهُورِ فَإِنَّمَا يَجِبُ مَعَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ ؛ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ هُنَا ؛ وَلِهَذَا تَنَازَعُوا : هَلْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُعْدَمَ الطَّهُورُ بِخَلْطٍ أَوْ إِرَاقَةٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ ؛ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ كَالْعَجْزِ . وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا جَوَّزَ التَّحَرِّيَ إذَا كَانَ الْأَصْلُ فِيهِمَا الطَّهَارَةَ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ قَدْ اسْتَعْمَلَ مَا أَصْلُهُ طَاهِرٌ وَقَدْ شَكَّ فِي تَنَجُّسِهِ فَيَبْقَى الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ . وَاَلَّذِينَ نَازَعُوهُ قَالُوا : مَا صَارَ نَجِسًا بِالتَّغَيُّرِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ نَجِسِ الْأَصْلِ ؛ وَقَدْ زَالَ الِاسْتِصْحَابُ بِيَقِينِ النَّجَاسَةِ كَمَا لَوْ حَرُمَتْ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ بِرِضَاعِ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ؛ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَكُونُ مُحَرَّمَةَ الْأَصْلِ عِنْدَهُ وَمَسْأَلَةُ اشْتِبَاهِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ ذَاتُ فُرُوعٍ مُتَعَدِّدَةٍ . وَأَمَّا إذَا اشْتَبَهَ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ وَقُلْنَا : يَتَحَرَّى ؛ أَوْ لَا يَتَحَرَّى : فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ عَلَى بَدَنِ الْإِنْسَانِ أَوْ ثَوْبِهِ أَوْ طَعَامِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحَدِهِمَا لَا يُنَجِّسُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ وَمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مَشْكُوكٌ فِي نَجَاسَتِهِ وَنَحْنُ مُنِعْنَا مِنْ اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ . فَأَمَّا تَنَجُّسُ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ نَعَمْ لَوْ أَصَابَا ثَوْبَيْنِ حُكِمَ بِنَجَاسَةِ أَحَدِهِمَا وَلَوْ أَصَابَا بَدَنَيْنِ فَهَلْ يُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ أَحَدِهِمَا ؟

هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا إذَا تَيَقَّنَ الرَّجُلَانِ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَحْدَثَ أَوْ أَنَّ أَحَدَهُمَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَهَارَةٌ وَلَا طَلَاقٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ فِي رَجُلَيْنِ لَا فِي وَاحِدٍ ؛ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ حُكْمَ الْأَصْلِ فِي نَفْسِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَهُوَ أَقْوَى ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِيجَابِ أَوْ التَّحْرِيمِ يَثْبُتُ قَطْعًا فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا فَلَا وَجْهَ لِرَفْعِهِ عَنْهُمَا جَمِيعًا . وَسِرُّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ إذَا اشْتَبَهَ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ فَاجْتِنَابُهُمَا جَمِيعًا وَاجِبٌ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ لِفِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَاجْتِنَابُ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ تَحْلِيلَهُ دُونَ الْآخَرِ تَحَكُّمٌ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا رَخَّصَ مَنْ رَخَّصَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ عَضَّدَهُ بِالتَّحَرِّي ؛ أَوْ بِهِ وَاسْتِصْحَابِهِ الْحَلَالَ . فَأَمَّا مَا كَانَ حَلَالًا بِيَقِينِ وَلَمْ يُخَالِطْهُ مَا حُكِمَ بِأَنَّهُ نَجِسٌ فَكَيْفَ يَنْجُسُ ؟ وَلِهَذَا لَوْ تَيَقَّنَ أَنَّ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ بُقْعَةٌ نَجِسَةٌ وَلَمْ يَعْلَمْ عَيْنَهَا ؛ وَصَلَّى فِي مَكَانٍ مِنْهُ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ الْمُتَنَجِّسُ : صَحَّتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ نَجِسٌ . وَكَذَلِكَ لَوْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ طِينِ الشَّوَارِعِ لَمْ يُحْكَمْ بِنَجَاسَتِهِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَ طِينِ الشَّوَارِعِ

نَجِسٌ ، وَلَا يُفَرَّقُ فِي هَذَا بَيْنَ الْعَدَدِ الْمُنْحَصِرِ وَغَيْرِ الْمُنْحَصِرِ ؛ وَبَيْنَ الْقُلَّتَيْنِ وَالْكَثِيرِ ؛ كَمَا قِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي اشْتِبَاهِ الْأُخْتِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ اشْتَبَهَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ وَهُنَا شَكَّ فِي طريان التَّحْرِيمِ عَلَى الْحَلَالِ . وَإِذَا شَكَّ فِي النَّجَاسَةِ : هَلْ أَصَابَتْ الثَّوْبَ أَوْ الْبَدَنَ ؟ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَأْمُرُ بِنَضَحِهِ ؛ وَيَجْعَلُ حُكْمَ الْمَشْكُوكِ فِيهِ النَّضْحَ ؛ كَمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ . فَإِذَا احْتَاطَ وَنَضَحَ الْمَشْكُوكَ فِيهِ كَانَ حَسَنًا كَمَا رُوِيَ فِي نَضْحِ أَنَسٍ لِلْحَصِيرِ الَّذِي اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ وَنَضْحِ عُمَرَ ثَوْبَهُ ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ أُنَاسٍ فِي مَفَازَةٍ وَمَعَهُمْ قَلِيلُ مَاءٍ فَوَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ وَهُمْ فِي مَفَازَةٍ مُعْطِشَةٍ فَمَا الْحُكْمُ فِيهِ ؟
فَأَجَابَ : يَجُوزُ لَهُمْ حَبْسُهُ لِأَجْلِ شُرْبِهِ إذَا عَطِشُوا وَلَمْ يَجِدُوا مَاءً طَيِّبًا ؛ فَإِنَّ الْخَبَائِثَ جَمِيعًا تُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَلَهُ أَنْ يَشْرَبَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ مَا يَرْوِيهِ كَالْمِيَاهِ النَّجِسَةِ وَالْأَبْوَالِ الَّتِي تَرْوِيهِ وَإِنَّمَا مَنَعَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَنْ شُرْبِ

الْخَمْرِ ؛ قَالُوا : لِأَنَّهَا تَزِيدُهُ عَطَشًا . وَأَمَّا التَّوَضُّؤُ بِمَاءِ الْوُلُوغِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ بَلْ يَعْدِلُ عَنْهُ إلَى التَّيَمُّمِ . وَيَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ مَا يُقِيمُ بِهِ نَفْسَهُ فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ أَوْ الْمَاءِ النَّجِسِ فَلَمْ يَشْرَبْ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ : دَخَلَ النَّارَ وَلَوْ وَجَدَ غَيْرَهُ مُضْطَرًّا إلَى مَا مَعَهُ مِنْ الْمَاءِ الطَّيِّبِ أَوْ النَّجِسِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْقِيَهُ إيَّاهُ وَيَعْدِلَ إلَى التَّيَمُّمِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ أَوْ حَدَثٌ صَغِيرٌ وَمَنْ اغْتَسَلَ وَتَوَضَّأَ وَهُنَاكَ مُضْطَرٌّ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ أَوْ الذِّمَّةِ أَوْ دَوَابِّهِمْ الْمَعْصُومَةِ فَلَمْ يَسْقِهِ : كَانَ آثِمًا عَاصِيًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابٌ الْآنِيَةُ
سُئِلَ عَنْ أَوَانِي النُّحَاسِ الْمُطَعَّمَةِ بِالْفِضَّةِ - كَالطَّاسَاتِ وَغَيْرِهَا - هَلْ حُكْمُهَا حُكْمُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَمْ لَا ؟.
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا الْمُضَبَّبُ بِالْفِضَّةِ مِنْ الْآنِيَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا مِنْ الْآلَاتِ - سَوَاءٌ سُمِّيَ الْوَاحِدُ مِنْ ذَلِكَ إنَاءً أَوْ لَمْ يُسَمَّ - وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُضَبَّبِ كَالْمَبَاخِرِ وَالْمَجَامِرِ وَالطُّشُوتِ والشمعدانات وَأَمْثَالِ ذَلِكَ : فَإِنْ كَانَتْ الضَّبَّةُ يَسِيرَةً لِحَاجَةِ مِثْلَ تَشْعِيبِ الْقَدَحِ وَشُعَيْرَةِ السِّكِّينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُبَاشَرُ بِالِاسْتِعْمَالِ : فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ . وَمُرَادُ الْفُقَهَاءِ بِالْحَاجَةِ هنا : أَنْ يَحْتَاجَ إلَى تِلْكَ الصُّورَةِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّشْعِيبِ وَالشُّعَيْرَةِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى كَوْنِهَا مِنْ فِضَّةٍ بَلْ هَذَا يُسَمُّونَهُ فِي مِثْلِ هَذَا ضَرُورَةً وَالضَّرُورَةُ تُبِيحُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مُفْرَدًا وَتَبَعًا حَتَّى لَوْ احْتَاجَ إلَى شَدِّ أَسْنَانِهِ بِالذَّهَبِ ؛ أَوْ اتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ : جَازَ - كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ - مَعَ أَنَّهُ ذَهَبٌ وَمَعَ أَنَّهُ مُفْرَدٌ . وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَجِدْ مَا يَشْرَبُهُ إلَّا فِي إنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ جَاز لَهُ

شُرْبُهُ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا يَقِيهِ الْبَرْدَ أَوْ يَقِيهِ السِّلَاحَ أَوْ يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ إلَّا ثَوْبًا مِنْ حَرِيرٍ مَنْسُوجٍ بِذَهَبِ أَوْ فِضَّةٍ جَاز لَهُ لُبْسُهُ ؛ فَإِنَّ الضَّرُورَةَ تُبِيحُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مَعَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَطَاعِمِ أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَلَابِسِ ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْخَبَائِثِ بِالْمُمَازَجَةِ وَالْمُخَالَطَةِ لِلْبَدَنِ أَعْظَمُ مِنْ تَأْثِيرِهَا بِالْمُلَابَسَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ لِلظَّاهِرِ وَلِهَذَا كَانَتْ النَّجَاسَاتُ الَّتِي تَحْرُمُ مُلَابَسَتُهَا يَحْرُمُ أَكْلُهَا وَيَحْرُمُ مِنْ أَكْلِ السُّمُومِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمَضَرَّاتِ مَا لَيْسَ بِنَجِسِ وَلَا يَحْرُمُ مُبَاشَرَتُهَا .
ثُمَّ مَا حُرِّمَ لِخُبْثِ جِنْسِهِ أَشَدُّ مِمَّا حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ السَّرَفِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ ؛ فَإِنَّ هَذَا يُحَرِّمُ الْقَدْرَ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْهُ وَيُبَاحُ لِلْحَاجَةِ ؛ كَمَا أُبِيحَ لِلنِّسَاءِ لُبْسُ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ لِحَاجَتِهِنَّ إلَى التَّزَيُّنِ ؛ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ وَأُبِيحَ لِلرَّجُلِ مِنْ ذَلِكَ الْيَسِيرُ كَالْعِلْمِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ جَوَازُ التَّدَاوِي بِهَذَا الضَّرْبِ دُونَ الْأَوَّلِ كَمَا { رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ وَطَلْحَةَ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ مِنْ حَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا } . وَنَهَى عَنْ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ وَقَالَ : { إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ } وَنَهَى عَنْ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ ؛ وَنَهَى عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ لِأَجْلِ التَّدَاوِي بِهَا وَقَالَ : { إنَّ نَقْنَقَتَهَا تَسْبِيحٌ } وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا } وَلِهَذَا اُسْتُدِلَّ بِإِذْنِهِ للعرنيين فِي التَّدَاوِي بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْخَبَائِثِ الْمُحَرَّمَةِ النَّجِسَةِ ؛ لِنَهْيِهِ عَنْ التَّدَاوِي بِمِثْلِ

ذَلِكَ ؛ وَلِكَوْنِهِ لَمْ يَأْمُرْ بِغَسْلِ مَا يُصِيبُ الْأَبْدَانَ وَالثِّيَابَ وَالْآنِيَةَ مِنْ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ الْقَائِلُونَ بِطَهَارَةِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ شُرْبِهَا لِغَيْرِ الضَّرُورَةِ ؛ وَفِيهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ : فَذَاكَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْقَذَارَةِ الْمُلْحَقِ لَهَا بِالْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْمَنِيِّ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْتَقْذَرَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ الَّتِي يُشْرَعُ النَّظَافَةُ مِنْهَا كَمَا يُشْرَعُ نَتْفُ الْإِبِطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ ؛ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ ؛ وَإِحْفَاءُ الشَّارِبِ . وَلِهَذَا أَيْضًا كَانَ هَذَا الضَّرْبُ مُحَرَّمًا فِي بَابِ الْآنِيَةِ وَالْمَنْقُولَاتِ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَآنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ عَلَى الصِّنْفَيْنِ بِخِلَافِ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَلِبَاسِ الْحَرِيرِ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لِلنِّسَاءِ . وَبَابُ الْخَبَائِثِ بِالْعَكْسِ ؛ فَإِنَّهُ يُرَخَّصُ فِي اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ فِيمَا يَنْفَصِلُ عَنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مَا لَا يُبَاحُ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ كَمَا يُبَاحُ إطْفَاءُ الْحَرِيقِ بِالْخَمْرِ وَإِطْعَامُ الْمَيْتَةِ لِلْبُزَاةِ وَالصُّقُورِ ؛ وَإِلْبَاسُ الدَّابَّةِ الثَّوْبَ النَّجِسَ ؛ وَكَذَلِكَ الِاسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَهَذَا لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْخَبَائِثِ فِيهَا يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ وَكَذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْمُنْفَصِلَةِ بِخِلَافِ اسْتِعْمَالِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ فَإِنَّ هَذَا غَايَةُ السَّرَفِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ غَلَطُ مَنْ رَخَّصَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِي إلْبَاسِ دَابَّتِهِ الثَّوْبَ الْحَرِيرَ ؛ قِيَاسًا عَلَى إلْبَاسِ الثَّوْبِ النَّجِسِ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُجَوِّزُ افْتِرَاشَ الْحَرِيرِ وَوَطْأَهُ قِيَاسًا عَلَى الْمُصَوَّرَاتِ ؛ أَوْ

مَنْ يُبِيحُ تَحْلِيَةَ دَابَّتِهِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قِيَاسًا عَلَى مَنْ يُبِيحُ إلْبَاسَهَا الثَّوْبَ النَّجِسَ فَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ تَحْرِيمُ افْتِرَاشِ الْحَرِيرِ كَمَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ لِبَاسِهِ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ حَرَّمَ افْتِرَاشَهُ عَلَى النِّسَاءِ - كَمَا هُوَ قَوْلُ المراوزة مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ مِنْ قَوْلِ مَنْ أَبَاحَهُ لِلرِّجَالِ ؛ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ . وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الِافْتِرَاشَ كَاللِّبَاسِ يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّ الِافْتِرَاشَ لِبَاسٌ كَمَا قَالَ أَنَسٌ : فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ . إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ إبَاحَةِ التَّزَيُّنِ عَلَى الْبَدَنِ إبَاحَةُ الْمُنْفَصِلِ ؛ كَمَا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ : الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى . وَإِذَا تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ حَاجَةً وَمَا يُسَمُّونَهُ ضَرُورَةً : فَيَسِيرُ الْفِضَّةِ التَّابِعُ يُبَاحُ عِنْدَهُمْ لِلْحَاجَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ : { إنَّ قَدَحَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا انْكَسَرَ شُعِّبَ بِالْفِضَّةِ } سَوَاءٌ كَانَ الشَّاعِبُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ كَانَ هُوَ أَنَسًا . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْيَسِيرُ لِلزِّينَةِ فَفِيهِ أَقْوَالٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : التَّحْرِيمُ وَالْإِبَاحَةُ وَالْكَرَاهَةُ . قِيلَ : وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ يُبَاحُ مِنْ ذَلِكَ

مَا لَا يُبَاشَرُ بِالِاسْتِعْمَالِ وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فَيُنْهَى عَنْ الضَّبَّةِ فِي مَوْضِعِ الشُّرْبِ دُونَ غَيْرِهِ وَلِهَذَا كُرِهَ حَلْقَةُ الذَّهَبِ فِي الْإِنَاءِ اتِّبَاعًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ وَهُوَ أَوْلَى مَا اُتُّبِعَ فِي ذَلِكَ . وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْهُ مَرْفُوعًا : { مِنْ شُرْبٍ فِي إنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ إنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ } فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَلِهَذَا كَانَ الْمُبَاحُ مِنْ الضَّبَّةِ إنَّمَا يُبَاحُ لَنَا اسْتِعْمَالُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ ؟ قِيلَ : يُكْرَهُ . وَقِيلَ : يَحْرُمُ ؛ وَلِذَلِكَ كَرِهَ أَحْمَد الْحَلْقَةَ فِي الْإِنَاءِ اتِّبَاعًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ . وَالْكَرَاهَةُ مِنْهُ : هَلْ تُحْمَلُ عَلَى التَّنْزِيهِ أَوْ التَّحْرِيمِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِهِ . وَهَذَا الْمَنْعُ هُوَ مُقْتَضَى النَّصِّ وَالْقِيَاسِ فَإِنَّ تَحْرِيمَ الشَّيْءِ مُطْلَقًا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ كَمَا أَنَّ تَحْرِيمَ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ اقْتَضَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ أَبْعَاضِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ اقْتَضَى النَّهْيَ عَنْ أَبْعَاضِ ذَلِكَ لَوْلَا مَا وَرَدَ مِنْ اسْتِثْنَاءِ مَوْضِعِ إصْبَعَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَلِهَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامِ سَائِرِ النَّاسِ بَيْنَ بَابِ النَّهْيِ وَالتَّحْرِيمِ وَبَابِ الْأَمْرِ وَالْإِيجَابِ فَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ نَهَى عَنْ بَعْضِهِ وَإِذَا أَمَرَ بِشَيْءِ كَانَ أَمْرًا بِجَمِيعِهِ .

وَلِهَذَا كَانَ النِّكَاحُ حَيْثُ أَمَرَ بِهِ كَانَ أَمْرًا بِمَجْمُوعِهِ وَهُوَ الْعَقْدُ وَالْوَطْءُ وَكَذَلِكَ إذَا أُبِيحَ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } { يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ } . وَحَيْثُ حُرِّمَ النِّكَاحُ كَانَ تَحْرِيمًا لِأَبْعَاضِهِ حَتَّى يَحْرُمَ الْعَقْدُ مُفْرَدًا وَالْوَطْءُ مُفْرَدًا كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } وَكَمَا فِي قَوْلِهِ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } الْآيَةَ إلَى آخِرِهَا وَكَمَا فِي قَوْلِهِ : { لَا يَنْكِحْ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ } وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَلِهَذَا فَرَّقَ مَالِكٌ وَأَحْمَد - فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ - بَيْنَ مَنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا فَفَعَلَ بَعْضَهُ : أَنَّهُ لَا يَبَرُّ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَ بَعْضَهُ : أَنَّهُ يَحْنَثُ . وَإِذَا كَانَ تَحْرِيمُ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ وَآنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَى الزَّوْجَيْنِ يَقْتَضِي شُمُولَ التَّحْرِيمِ لِأَبْعَاضِ ذَلِكَ : بَقِيَ اتِّخَاذُ الْيَسِيرِ لِحَاجَةِ أَوْ مُطْلَقًا فَالِاتِّخَاذُ الْيَسِيرُ فِيهِ تَفْصِيلٌ ؛ وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ اتِّخَاذِ الْآنِيَةِ بِدُونِ اسْتِعْمَالِهَا فَرَخَّصَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي قَوْلٍ ؛ وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْهُمَا تَحْرِيمَهُ ؛ إذْ الْأَصْلُ أَنَّ مَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ حَرُمَ اتِّخَاذُهُ كَآلَاتِ الْمَلَاهِي .

وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ التَّابِعَةُ كَثِيرَةً فَفِيهَا أَيْضًا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَفِي تَحْدِيدِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَثِيرِ وَالْيَسِيرِ ؛ وَالتَّرْخِيصِ فِي لُبْسِ خَاتَمِ الْفِضَّةِ أَوْ تَحْلِيَةِ السِّلَاحِ مِنْ الْفِضَّةِ ؛ وَهَذَا فِيهِ إبَاحَةُ يَسِيرِ الْفِضَّةِ مُفْرَدًا ؛ لَكِنْ فِي اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي وَذَلِكَ يُبَاحُ فِيهِ مَا لَا يُبَاحُ فِي بَاب الْآنِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا غَلِطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد ؛ حَيْثُ حَكَى قَوْلًا بِإِبَاحَةِ يَسِيرِ الذَّهَبِ تَبَعًا فِي الْآنِيَةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو بَكْرٍ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي بَابِ اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي ؛ كَعَلَمِ الذَّهَبِ وَنَحْوِهِ . وَفِي يَسِيرِ الذَّهَبِ فِي ( بَابِ اللِّبَاسِ ) عَنْ أَحْمَد أَقْوَالٌ : أَحَدُهَا : الرُّخْصَةُ مُطْلَقًا ؛ لِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ { نَهَى عَنْ الذَّهَبِ إلَّا مُقَطَّعًا } وَلَعَلَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ . وَالثَّانِي : الرُّخْصَةُ فِي السِّلَاحِ فَقَطْ . وَالثَّالِثُ : فِي السَّيْفِ خَاصَّةً وَفِيهِ وَجْهٌ بِتَحْرِيمِهِ مُطْلَقًا ؛ لِحَدِيثِ أَسْمَاءَ { لَا يُبَاحُ الذَّهَبُ وَلَا خَرِيصَةٌ } وَالْخَرِيصَةُ عَيْنُ الْجَرَادَةِ لَكِنَّ هَذَا قَدْ يُحْمَلُ عَلَى الذَّهَبِ الْمُفْرَدِ دُونَ التَّابِعِ ؛ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا

مُحَرَّمٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ لَبِسَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ . وَلِهَذَا فَرَّقَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ بَيْنَ يَسِيرِ الْحَرِيرِ مُفْرَدًا كَالتِّكَّةِ فَنَهَى عَنْهُ ؛ وَبَيَّنَ يَسِيرَهُ تَبَعًا كَالْعَلَمِ ؛ إذْ الِاسْتِثْنَاءُ وَقَعَ فِي هَذَا النَّوْعِ فَقَطْ . فَكَمَا يُفَرَّقُ فِي الرُّخْصَةِ بَيْنَ الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ : فَيُفَرَّقُ بَيْنَ التَّابِعِ وَالْمُفْرَدِ وَيُحْمَلُ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ " إلَّا مُقَطَّعًا " عَلَى التَّابِعِ لِغَيْرِهِ وَإِذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ قَدْ رُخِّصَ مِنْهَا فِي بَابِ اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي فِي الْيَسِيرِ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا : فَاَلَّذِينَ رَخَّصُوا فِي الْيَسِيرِ أَوْ الْكَثِيرِ التَّابِعِ فِي الْآنِيَةِ أَلْحَقُوهَا بِالْحَرِيرِ الَّذِي أُبِيحَ يَسِيرُهُ تَبَعًا لِلرِّجَالِ فِي الْفِضَّةِ الَّتِي أُبِيحَ يَسِيرُهَا مُفْرَدًا أَوَّلًا ؛ وَلِهَذَا أُبِيحَ - فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد - حِلْيَةُ الْمِنْطَقَةِ مِنْ الْفِضَّةِ وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِنْ لِبَاسِ الْحَرْبِ كَالْخُوذَةِ ؛ وَالْجَوْشَنِ ؛ وَالرَّانّ ؛ وَحَمَائِلِ السَّيْفِ . وَأَمَّا تَحْلِيَةُ السَّيْفِ بِالْفِضَّةِ فَلَيْسَ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا قَالُوا : الرُّخْصَةُ وَقَعَتْ فِي بَابِ اللِّبَاسِ دُونَ بَاب الْآنِيَةِ ؛ وَبَابُ اللِّبَاسِ أَوْسَعُ كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ هَذَا أَقْوَى ؛ إذْ لَا أَثَرَ فِي هَذِهِ الرُّخْصَةِ وَالْقِيَاسُ كَمَا تَرَى .

وَأَمَّا الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ فَهَذَا دَاخِلٌ فِي النَّهْيِ ؛ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَالْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْفِضَّةِ مُنْتَفٍ هَاهُنَا لَكِنْ فِي يَسِيرِ الذَّهَبِ فِي الْآنِيَةِ وَجْهٌ لِلرُّخْصَةِ فِيهِ . وَأَمَّا التَّوَضُّؤُ وَالِاغْتِسَالُ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ : فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد لَكِنَّهُ مُرَكَّبٌ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بَلْ أَشْهُرُهُمَا عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ ؛ وَاللِّبَاسِ الْمُحَرَّمِ كَالْحَرِيرِ وَالْمَغْصُوبِ وَالْحَجِّ بِالْمَالِ الْحَرَامِ ؛ وَذَبْحِ الشَّاةِ بِالسِّكِّينِ الْمُحَرَّمَةِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ أَدَاءُ وَاجِبٍ وَاسْتِحْلَالُ مَحْظُورٍ فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يُصَحِّحُ فِيهَا الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ وَيُبِيحَ الذَّبْحَ : فَإِنَّهُ يُصَحِّحُ الطَّهَارَةَ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ . وَأَمَّا عَلَى الْمَنْعِ فَلِأَصْحَابِهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : الصِّحَّةُ . كَمَا هُوَ قَوْلُ الخرقي وَغَيْرِهِ .وَالثَّانِي : الْبُطْلَانُ . كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ ؛ طَرْدًا لِقِيَاسِ الْبَابِ . وَاَلَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ الخرقي أَكْثَرُ أَصْحَابِ أَحْمَد : فَرَّقُوا بِفَرْقَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَا مُنْفَصِلٌ عَنْ الْعِبَادَةِ ؛ فَإِنَّ الْإِنَاءَ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْمُتَطَهِّرِ بِخِلَافِ لَابِسِ الْمُحَرَّمِ وَآكِلِهِ وَالْجَالِسِ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ مُبَاشِرٌ لَهُ قَالُوا : فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ذَهَبَ إلَى الْجُمْعَةِ بِدَابَّةٍ مَغْصُوبَةٍ . وَضَعَّفَ آخَرُونَ هَذَا الْفَرْقَ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَغْمِسَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ الْمُحَرَّمِ وَبَيْنَ أَنْ

يَغْتَرِفَ مِنْهُ وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الشَّارِبَ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ وَهُوَ حِينَ انْصِبَابِ الْمَاءِ فِي بَطْنِهِ يَكُونُ قَدْ انْفَصَلَ عَنْ الْإِنَاءِ . وَالْفَرْقُ الثَّانِي - وَهُوَ أَفْقَهُ - : قَالُوا : التَّحْرِيمُ إذَا كَانَ فِي رُكْنِ الْعِبَادَةِ وَشَرْطِهَا أَثَّرَ فِيهَا كَمَا إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فِي اللِّبَاسِ أَوْ الْبُقْعَةِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي أَجْنَبِيٍّ عَنْهَا لَمْ يُؤَثِّرْ وَالْإِنَاءُ فِي الطَّهَارَةِ أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا فَلِهَذَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ جُلُودِ الْحُمُرِ ؛ وَجِلْدِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَالْمَيْتَةِ : هَلْ تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا طَهَارَةُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ فَفِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي الْجُمْلَةِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ . وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .

وَالثَّانِي : لَا تَطْهُرُ . وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَلِهَذَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْمَدْبُوغِ فِي الْمَاءِ دُونَ الْمَائِعَاتِ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ بِذَلِكَ وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد أَيْضًا اخْتَارَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى هِيَ آخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ كَمَا نَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَد بْنِ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ ابْنِ عكيم ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ بِآخِرَةٍ . وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ قَالُوا : هِيَ مِنْ الْمَيْتَةِ وَلَمْ يَصِحَّ فِي الدِّبَاغِ شَيْءٌ وَلِهَذَا لَمْ يَرْوِ الْبُخَارِيُّ ذِكْرَ الدِّبَاغِ فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَطَعَنَ هَؤُلَاءِ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ إذْ كَانُوا أَئِمَّةً لَهُمْ فِي الْحَدِيثِ اجْتِهَادٌ . وَقَالُوا : رَوَى ابْنُ عُيَيْنَة الدِّبَاغَ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَالزُّهْرِيُّ كَانَ يُجَوِّزُ اسْتِعْمَالَ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِلَا دِبَاغٍ وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ ذِكْرُ الدِّبَاغِ وَتَكَلَّمُوا فِي ابْنِ وَعْلَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ قَالُوا : أَحَادِيثُ الدِّبَاغِ مَنْسُوخَةٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عكيم وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا كَتَبَ إلَى جُهَيْنَةَ : { كُنْت رَخَّصْت فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ فَإِذَا أَتَاكُمْ كِتَابِي هَذَا فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابِ وَلَا عَصَبٍ } . فَكِلَا هَاتَيْنِ الْحُجَّتَيْنِ مَأْثُورَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد نَفْسِهِ فِي جَوَابِهِ وَمُنَاظَرَاتِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى الْمَشْهُورَةِ.

وَقَدْ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالدِّبَاغِ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِشَاةِ مَيِّتَةٍ فَقَالَ : هَلَّا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا مَيِّتَةٌ . قَالَ : إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا } . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ : { أَلَا أَخَذُوا إهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ } . وَعَنْ { سَوْدَةَ بِنْتِ زمعة زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ فَدَبَغْنَا مِسْكَهَا فَمَا زِلْنَا نَنْبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا } . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ } . قُلْت : وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ { عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ : إنَّا نَكُونُ بِالْمَغْرِبِ وَمَعَنَا الْبَرْبَرُ وَالْمَجُوسُ نُؤْتَى بِالْكَبْشِ قَدْ ذَبَحُوهُ وَنَحْنُ لَا نَأْكُلُ ذَبَائِحَهُمْ وَنُؤْتَى بِالسِّقَاءِ يَجْعَلُونَ فِيهِ الدَّلُوكَ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَدْ سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : دِبَاغُهُ طَهُورُهُ } . وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يُسْتَمْتَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَتْ } . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنِّسَائِيّ . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ ؟ فَقَالَ : دِبَاغُهَا طَهُورُهَا } . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَالنَّسَائِي . وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِبَيْتِ بِفِنَائِهِ قِرْبَةٌ مُعَلَّقَةٌ فَاسْتَقَى فَقِيلَ : إنَّهَا

مَيْتَةٌ فَقَالَ : ذَكَاةُ الْأَدِيمِ دِبَاغُهُ } . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي . وَأَمَّا حَدِيثُ بْنِ عكيم فَقَدْ طَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ بِكَوْنِ حَامِلِهِ مَجْهُولًا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَسُوغُ رَدُّ الْحَدِيثِ بِهِ . قَالَ { عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عكيم : أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشَهْرِ أَوْ شَهْرَيْنِ : أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابِ وَلَا عَصَبٍ } . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد . وَقَالَ : مَا أَصْلَحَ إسْنَادَهُ . وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي . وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ بِأَنَّ الْإِهَابَ اسْمٌ لِلْجِلْدِ قَبْلَ الدِّبَاغِ كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ النَّضْرُ بْنُ شميل وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ . وَأَمَّا بَعْدَ الدَّبْغِ فَإِنَّمَا هُوَ أَدِيمٌ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْ اسْتِعْمَالِهَا قَبْلَ الدَّبْغِ . فَقَالَ الْمَانِعُونَ : هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ : { كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي أَرْضِ جُهَيْنَةَ إنِّي كُنْت رَخَّصْت لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابِ وَلَا عَصَبٍ } . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ مِنْ رِوَايَةِ فَضَالَةَ بْنِ مُفَضَّلِ بْنِ فَضَالَةَ الْمِصْرِيِّ . وَقَدْ ضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيَّ لَكِنْ هُوَ شَدِيدٌ فِي التَّزْكِيَةِ . وَإِذَا كَانَ النَّهْيُ بَعْدَ الرُّخْصَةِ فَالرُّخْصَةُ إنَّمَا كَانَتْ فِي الْمَدْبُوغِ . وَتَحْقِيقُ الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ : حَدِيثُ ابْنِ عكيم لَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَدْبُوغِ . وَأَمَّا الرُّخْصَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَقَدْ قِيلَ : إنَّهَا كَانَتْ لِلْمَدْبُوغِ

وَغَيْرِهِ وَلِهَذَا ذَهَبَ طَائِفَةٌ - مِنْهُمْ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ - إلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ الْمُطْلَقِ فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ وَقَوْلِهِ : { إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا } فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ ثُمَّ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْجِلْدَ . وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : مَاتَتْ شَاةٌ لِسَوْدَةِ بِنْتِ زمعة فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك وَسَلَّمَ مَاتَتْ فُلَانَةُ . تَعْنِي : الشَّاةَ . فَقَالَ : فَلَوْلَا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا فَقَالَتْ : آخُذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قَالَ : { لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ } وَإِنَّكُمْ لَا تَطْعَمُونَهُ إنْ تَدْبُغُوهُ تَنْتَفِعُوا بِهِ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهَا فَسَلَخَتْ مَسْكَهَا فَدَبَغَتْهُ فَاِتَّخَذَتْ مِنْهُ قِرْبَةً حَتَّى تَخَرَّقَتْ عِنْدَهَا } . فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْجِلْدَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الدِّبَاغَ لِإِبْقَاءِ الْجِلْدِ وَحِفْظِهِ لَا لِكَوْنِهِ شَرْطًا فِي الْحِلِّ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَكُونُ الرُّخْصَةُ لِجُهَيْنَةَ فِي هَذَا وَالنَّسْخُ عَنْ هَذَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ فِي سُورَتَيْنِ مَكِّيَّتَيْنِ : الْأَنْعَامِ وَالنَّحْلِ . ثُمَّ فِي سُورَتَيْنِ مَدَنِيَّتَيْنِ : الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ وَالْمَائِدَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا كَمَا رُوِيَ { الْمَائِدَةُ آخِرُ الْقُرْآنِ نُزُولًا فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا } وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا مِنْ التَّحْرِيمِ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي غَيْرِهَا وَحَرَّمَ النَّبِيُّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْيَاءَ مِثْلَ : أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ . وَإِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا فِي السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي اسْتَنَدَتْ إلَيْهَا الرُّخْصَةُ الْمُطْلَقَةُ : فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ الِانْتِفَاعِ بِالْعَصَبِ وَالْإِهَابِ قَبْلَ الدِّبَاغِ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْمُتَأَخِّرَةِ وَأَمَّا بَعْدَ الدِّبَاغِ فَلَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ قَطُّ بَلْ بَيَّنَ أَنَّ دِبَاغَهُ طَهُورُهُ وَذَكَاتُهُ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ بِدُونِ الدِّبَاغِ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلِلنَّاسِ فِيمَا يُطَهِّرُهُ الدِّبَاغُ أَقْوَالٌ : قِيلَ : إنَّهُ يُطَهِّرُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْحَمِيرَ . كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ودَاوُد . وَقِيلَ : يُطَهِّرُ كُلَّ شَيْءٍ سِوَى الْحَمِيرِ . كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ : يُطَهِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الْكَلْبَ وَالْحَمِيرَ . كَمَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد عَلَى الْقَوْلِ بِتَطْهِيرِ الدِّبَاغِ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِهِ - وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ - أَنَّهُ إنَّمَا يُطَهِّرُ مَا يُبَاحُ بِالذَّكَاةِ فَلَا يُطَهِّرُ جُلُودَ السِّبَاعِ . وَمَأْخَذُ التَّرَدُّدِ : أَنَّ الدِّبَاغَ هَلْ هُوَ كَالْحَيَاةِ فَيُطَهِّرُ مَا كَانَ طَاهِرًا . فِي الْحَيَاةِ أَوْ هُوَ كَالذَّكَاةِ فَيُطَهِّرُ مَا طَهُرَ بِالذَّكَاةِ ؟ وَالثَّانِي أَرْجَحُ .

وَدَلِيلُ ذَلِكَ : نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ كَمَا رُوِيَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ عُمَيْرٍ الذهلي أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ } . رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي . زَادَ التِّرْمِذِيُّ " أَنْ تُفْرَشَ " . وَعَنْ خَالِدِ بْنِ معدان قَالَ : { وَفَدَ الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كرب عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ : أَنْشُدُك بِاَللَّهِ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي . وَهَذَا لَفْظُهُ . وَعَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رُكُوبِ النُّمُورِ } . رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي عَنْ مُعَاوِيَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جِلْدُ نَمِرٍ } . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَفِي هَذَا الْقَوْلِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ عِظَامِ الْمَيْتَةِ وَحَافِرِهَا ؛ وَقَرْنِهَا ؛ وَظُفْرِهَا ؛ وَشَعْرِهَا ؛ وَرِيشِهَا ؛ وَإِنْفَحَتِهَا : هَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ نَجِسٌ أَمْ طَاهِرٌ أَمْ الْبَعْضُ مِنْهُ طَاهِرٌ وَالْبَعْضُ نَجِسٌ ؟
فَأَجَابَ : أَمَّا عَظْمُ الْمَيْتَةِ وَقَرْنُهَا ؛ وَظُفْرُهَا ؛ وَمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ

ذَلِكَ كَالْحَافِرِ وَنَحْوِهِ وَشَعْرِهَا وَرِيشِهَا ؛ وَوَبَرِهَا : فَفِي هَذَيْنَ النَّوْعَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : نَجَاسَةُ الْجَمِيعِ . كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ ؛ وَذَلِكَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد . وَالثَّانِي : أَنَّ الْعِظَامَ وَنَحْوَهَا نَجِسَةٌ وَالشُّعُورَ وَنَحْوَهَا طَاهِرَةٌ . وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْجَمِيعَ طَاهِرٌ . كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الطَّهَارَةُ ؛ وَلَا دَلِيلَ عَلَى النَّجَاسَةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ هِيَ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَيْسَتْ مِنْ الْخَبَائِثِ فَتَدْخُلُ فِي آيَةِ التَّحْلِيلِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ الْخَبَائِثِ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَهَذِهِ الْأَعْيَانُ لَا تَدْخُلُ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى : أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } لَا يَدْخُلُ فِيهَا الشُّعُورُ وَمَا أَشْبَهَهَا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَيِّتَ ضِدُّ الْحَيِّ وَالْحَيَاةُ نَوْعَانِ :

حَيَاةُ الْحَيَوَانِ وَحَيَاةُ النَّبَاتِ فَحَيَاةُ الْحَيَوَانِ خَاصَّتُهَا الْحِسُّ وَالْحَرَكَةُ الْإِرَادِيَّةُ وَحَيَاةُ النَّبَاتِ خَاصَّتُهَا النُّمُوُّ وَالِاغْتِذَاءُ . وَقَوْلُهُ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } إنَّمَا هُوَ بِمَا فَارَقَتْهُ الْحَيَاةُ الْحَيَوَانِيَّةُ دُونَ النَّبَاتِيَّةِ ؛ فَإِنَّ الشَّجَرَ وَالزَّرْعَ إذَا يَبِسَ لَمْ يَنْجُسْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } وَقَالَ : { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } فَمَوْتُ الْأَرْضِ لَا يُوجِبُ نَجَاسَتَهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا الْمَيْتَةُ الْمُحَرَّمَةُ : مَا فَارَقَهَا الْحِسُّ وَالْحَرَكَةُ الْإِرَادِيَّةُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالشَّعْرُ حَيَاتُهُ مَنْ جِنْسِ حَيَاةِ النَّبَاتِ ؛ لَا مِنْ جِنْسِ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ ؛ فَإِنَّهُ يَنْمُو وَيَغْتَذِي وَيَطُولُ كَالزَّرْعِ وَلَيْسَ فِيهِ حِسٌّ وَلَا يَتَحَرَّكُ بِإِرَادَتِهِ فَلَا تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ الْحَيَوَانِيَّةُ حَتَّى يَمُوتَ بِمُفَارَقَتِهَا فَلَا وَجْهَ لِتَنْجِيسِهِ . وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الشَّعْرُ جُزْءًا مِنْ الْحَيَوَانِ لَمَا أُبِيحَ أَخْذُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ قَوْمٍ يُحِبُّونَ أَسْنِمَةَ الْإِبِلِ وَأَلْيَاتِ الْغَنَمِ ؟ فَقَالَ مَا أُبِينَ مِنْ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيِّتٌ } . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَلَوْ كَانَ حُكْمُ الشَّعْرِ حُكْمَ السَّنَامِ وَالْأَلْيَةِ لَمَا جَازَ قَطْعُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَلَا كَانَ طَاهِرًا حَلَالًا . فَلَمَّا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّعْرَ وَالصُّوفَ إذَا جُزَّ مِنْ الْحَيَوَانِ كَانَ طَاهِرًا حَلَالًا : عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَ اللَّحْمِ .

وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى شَعْرَهُ لَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ لِلْمُسْلِمِينَ } { وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَنْجِي وَيَسْتَجْمِرُ } . فَمَنْ سَوَّى بَيْنَ الشَّعْرِ وَالْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً بَيِّنًا . وَأَمَّا الْعِظَامُ وَنَحْوُهَا : فَإِذَا قِيلَ : إنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْمَيْتَةِ لِأَنَّهَا تُحِسُّ وَتَأْلَمُ . قِيلَ لِمَنْ قَالَ ذَلِكَ : أَنْتُمْ لَمْ تَأْخُذُوا بِعُمُومِ اللَّفْظِ ؛ فَإِنَّ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ كَالذُّبَابِ وَالْعَقْرَبِ وَالْخُنْفُسَاءِ لَا يُنَجِّسُ عِنْدَكُمْ وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مَعَ أَنَّهَا مَيِّتَةٌ مَوْتًا حَيَوَانِيًّا . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ ؛ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءٌ وَفِي الْآخَرِ شِفَاءٌ } . وَمَنْ نَجَّسَ هَذَا قَالَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ : إنَّهُ لَا يُنَجِّسُ الْمَائِعَاتِ الْوَاقِعَ فِيهَا لِهَذَا الْحَدِيثِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : عُلِمَ أَنَّ عِلَّةَ نَجَاسَةِ الْمَيْتَةِ إنَّمَا هُوَ احْتِبَاسُ الدَّمِ فِيهَا فَمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ لَيْسَ فِيهِ دَمٌ سَائِلٌ فَإِذَا مَاتَ لَمْ يَحْتَبِسْ فِيهِ الدَّمُ ؛ فَلَا يُنَجِّسُ . فَالْعَظْمُ وَنَحْوُهُ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنْجِيسِ مِنْ هَذَا ؛ فَإِنَّ الْعَظْمَ لَيْسَ فِيهِ دَمٌ سَائِلٌ وَلَا كَانَ مُتَحَرِّكًا بِالْإِرَادَةِ إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ . فَإِذَا كَانَ الْحَيَوَانُ الْكَامِلُ الْحَسَّاسُ الْمُتَحَرِّكُ بِالْإِرَادَةِ لَا يُنَجِّسُ لِكَوْنِهِ لَيْسَ فِيهِ دَمٌ سَائِلٌ : فَكَيْفَ يُنَجِّسُ الْعَظْمُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ دَمٌ سَائِلٌ ؟

وَمِمَّا يُبَيِّنُ صِحَّةَ قَوْلِ الْجُمْهُورِ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا الدَّمَ الْمَسْفُوحَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } فَإِذَا عُفِيَ عَنْ الدَّمِ غَيْرِ الْمَسْفُوحِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الدَّمِ : عُلِمَ أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - فَرَّقَ بَيْنَ الدَّمِ الَّذِي يَسِيلُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَضَعُونَ اللَّحْمَ فِي الْمَرَقِ وَخُطُوطُ الدَّمِ فِي الْقُدُورِ بَيِّنٌ وَيَأْكُلُونَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةُ وَلَوْلَا هَذَا لَاسْتَخْرَجُوا الدَّمَ مِنْ الْعُرُوقِ كَمَا يَفْعَلُ الْيَهُودُ وَاَللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ بِسَبَبِ غَيْرِ جَارِحٍ مُحَدَّدٍ فَحَرَّمَ الْمُنْخَنِقَةَ وَالْمَوْقُوذَةَ وَالْمُتَرَدِّيَةَ وَالنَّطِيحَةَ { وَحَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صِيدَ بِعَرْضِ الْمِعْرَاضِ وَقَالَ : إنَّهُ وَقِيذٌ } دُونَ مَا صِيدَ بِحَدِّهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إنَّمَا هُوَ سَفْحُ الدَّمِ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ التَّنْجِيسِ هُوَ احْتِقَانُ الدَّمِ وَاحْتِبَاسُهُ وَإِذَا سُفِحَ بِوَجْهِ خَبِيثٍ بِأَنْ يُذْكَرَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ كَانَ الْخُبْثُ هُنَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ التَّحْرِيمَ يَكُونُ تَارَةً لِوُجُودِ الدَّمِ وَتَارَةً لِفَسَادِ التَّذْكِيَةِ كَذَكَاةِ الْمَجُوسِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَالذَّكَاةِ فِي غَيْرِ الْمَحَلِّ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْعَظْمُ وَالْقَرْنُ وَالظُّفْرُ وَالظِّلْفُ وَغَيْرُ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ دَمٌ مَسْفُوحٌ فَلَا وَجْهَ لِتَنْجِيسِهِ وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ قَالَ الزُّهْرِيُّ كَانَ خِيَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَمْتَشِطُونَ بِأَمْشَاطِ مِنْ عِظَامِ الْفِيلِ وَقَدْ

رُوِيَ فِي الْعَاجِ حَدِيثٌ مَعْرُوفٌ لَكِنْ فِيهِ نَظَرٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ ؛ فَإِنَّا لَا نَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ : هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ قَالُوا : إنَّهَا مَيِّتَةٌ ؟ قَالَ : إنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا } . وَلَيْسَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ذِكْرُ الدِّبَاغِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ عَامَّةُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ وَلَكِنْ ذَكَرَهُ ابْنُ عُيَيْنَة وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَقَدْ طَعَنَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي ذَلِكَ وَأَشَارَ إلَى غَلَطِ ابْنِ عُيَيْنَة فِيهِ وَذَكَرَ أَنَّ الزُّهْرِيَّ وَغَيْرَهُ كَانُوا يُبِيحُونَ الِانْتِفَاعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ بِلَا دِبَاغٍ لِأَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَحِينَئِذٍ فَهَذَا النَّصُّ يَقْتَضِي جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ الدَّبْغِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لَكِنْ إذَا قِيلَ : إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ الِانْتِفَاعَ بِالْجُلُودِ حَتَّى تُدْبَغَ أَوْ قِيلَ : إنَّهَا لَا تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ : لَمْ يَلْزَمْ تَحْرِيمُ الْعِظَامِ وَنَحْوُهَا لِأَنَّ الْجِلْدَ جُزْءٌ مِنْ الْمَيْتَةِ فِيهِ الدَّمُ كَمَا فِي سَائِرِ أَجْزَائِهَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ دِبَاغَهُ ذَكَاتَهُ ؛ لِأَنَّ الدِّبَاغَ يُنَشِّفُ رُطُوبَاتِهِ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ التَّنْجِيسِ هُوَ الرُّطُوبَاتُ وَالْعَظْمُ لَيْسَ فِيهِ رُطُوبَةٌ سَائِلَةٌ وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْهَا فَإِنَّهُ يَجِفُّ وَيَيْبَسُ وَهُوَ يَبْقَى وَيُحْفَظُ أَكْثَرَ مِنْ الْجِلْدِ فَهُوَ أَوْلَى بِالطَّهَارَةِ مِنْ الْجِلْدِ . وَالْعُلَمَاءُ تَنَازَعُوا فِي الدِّبَاغِ : هَلْ يَطْهُرُ ؟

فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا : أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ : أَنَّهُ يَطْهُرُ . وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ رَجَعَ أَحْمَد كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَد بْنِ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ . وَحَدِيثُ ابْنِ عكيم يَدُلُّ عَلَى أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُمْ أَنْ يَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابِ أَوْ عَصَبٍ } بَعْدَ أَنْ كَانَ أَذِنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لَكِنَّ هَذَا قَدْ يَكُونُ قَبْلَ الدِّبَاغِ فَيَكُونُ قَدْ أَرْخَصَ فَإِنَّ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ الصَّحِيحَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ رَخَّصَ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ فَيَكُونُ قَدْ أَرْخَصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ ثُمَّ لَمَّا نَهَى عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا قَبْلَ الدِّبَاغِ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ : إنَّ الْإِهَابَ اسْمٌ لِمَا لَمْ يُدْبَغْ وَلِهَذَا قَرَنَ مَعَهُ الْعَصَبَ وَالْعَصَبُ لَا يُدْبَغُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا لَبَنُ الْمَيْتَةِ وَإِنْفَحَتِهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ طَاهِرٌ . كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ نَجِسٌ . كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد . وَعَلَى هَذَا النِّزَاعِ انْبَنَى نِزَاعُهُمْ فِي جُبْنِ الْمَجُوسِ فَإِنَّ ذَبَائِحَ الْمَجُوسِ حَرَامٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَقَدْ قِيلَ : إنَّ ذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَإِذَا صَنَعُوا جُبْنًا - وَالْجُبْنُ يُصْنَعُ بِالْإِنْفَحَةِ - كَانَ فِيهِ هَذَانِ الْقَوْلَانِ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّ جُبْنَهُمْ حَلَالٌ وَأَنَّ إنْفَحَةَ الْمَيْتَةِ وَلَبَنَهَا طَاهِرٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا فَتَحُوا بِلَادَ الْعِرَاقِ أَكَلُوا جُبْنَ الْمَجُوسِ وَكَانَ هَذَا ظَاهِرًا شَائِعًا بَيْنَهُمْ وَمَا يُنْقَلُ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ كَرَاهَةِ ذَلِكَ فَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ مِنْ نَقْلِ بَعْضِ الْحِجَازِيِّينَ وَفِيهِ نَظَرٌ . وَأَهْلُ الْعِرَاقِ كَانُوا أَعْلَمَ بِهَذَا فَإِنَّ الْمَجُوسَ كَانُوا بِبِلَادِهِمْ وَلَمْ يَكُونُوا بِأَرْضِ الْحِجَازِ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ كَانَ هُوَ نَائِبَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى الْمَدَائِنِ وَكَانَ يَدْعُو الْفُرْسَ إلَى الْإِسْلَامِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ : أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ ؟ فَقَالَ : الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عفى عَنْهُ . وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ السُّؤَالُ عَنْ جُبْنِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ

بَيِّنٌ وَإِنَّمَا كَانَ السُّؤَالُ عَنْ جُبْنِ الْمَجُوسِ : فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَلْمَانَ كَانَ يُفْتِي بِحِلِّهَا وَإِذَا كَانَ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْقَطَعَ النِّزَاعُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَيْضًا فَاللَّبَنُ وَالْإِنْفَحَةُ لَمْ يَمُوتَا وَإِنَّمَا نَجَّسَهُمَا مَنْ نَجَّسَهُمَا لِكَوْنِهِمَا فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ فَيَكُونُ مَائِعًا فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ فَالتَّنْجِيسُ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمَائِعَ لَاقَى وِعَاءً نَجِسًا وَعَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ نَجِسًا . فَيُقَالُ أَوَّلًا : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَائِعَ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السُّنَّةَ دَلَّتْ عَلَى طَهَارَتِهِ لَا عَلَى نَجَاسَتِهِ . وَيُقَالُ ثَانِيًا : إنَّ الْمُلَاقَاةَ فِي الْبَاطِنِ لَا حُكْمَ لَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } وَلِهَذَا يَجُوزُ حَمْلُ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ مَا فِي بَطْنِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابٌ الِاسْتِنْجَاءُ
سُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّنْ قَالَ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { غَرِّبُوا وَلَا تُشَرِّقُوا } وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : { شَرِّقُوا وَلَا تُغَرِّبُوا } ؟ .
فَأَجَابَ : الْحَدِيثَانِ كَذِبٌ وَلَكِنْ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطِ وَلَا بَوْلٍ وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا } . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ } وَهَذَا خِطَابٌ مِنْهُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ كَأَهْلِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْعِرَاقِ وَأَمَّا مِصْرُ فَقِبْلَتُهُمْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْجَنُوبِ مِنْ مَطْلِعِ الشَّمْسِ فِي الشِّتَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ عَنْ :
الِاسْتِنْجَاءِ هَلْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ وَيَمْشِيَ وَيَتَنَحْنَحَ وَيَسْتَجْمِرَ بِالْأَحْجَارِ وَغَيْرِهَا بَعْدَ كُلِّ قَلِيلٍ فِي ذَهَابِهِ وَمَجِيئِهِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ : فَهَلْ فَعَلَ هَذَا السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . أَوْ هُوَ بِدْعَةٌ أَوْ هُوَ مُبَاحٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، التَّنَحْنُحُ بَعْدَ الْبَوْلِ وَالْمَشْيُ وَالطَّفْرُ إلَى فَوْقٍ وَالصُّعُودُ فِي السُّلَّمِ وَالتَّعَلُّقُ فِي الْحَبْلِ وَتَفْتِيشُ الذَّكَرِ بِإِسَالَتِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ : كُلُّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ وَكَذَلِكَ نَتْرُ الذَّكَرِ بِدْعَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ لَمْ يُشَرِّعْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَذَلِكَ سَلْتُ الْبَوْلِ بِدْعَةٌ لَمْ يُشَرِّعْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ ضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ وَالْبَوْلُ يَخْرُجُ بِطَبْعِهِ وَإِذَا فَرَغَ انْقَطَعَ بِطَبْعِهِ وَهُوَ كَمَا قِيلَ : كَالضَّرْعِ إنْ تَرَكْته قَرَّ وَإِنْ حَلَبْته دَرَّ .

وَكُلَّمَا فَتَحَ الْإِنْسَانُ ذَكَرَهُ فَقَدْ يَخْرُجُ مِنْهُ وَلَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ . وَقَدْ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ وَهُوَ وَسْوَاسٌ وَقَدْ يُحِسُّ مَنْ يَجِدُهُ بَرْدًا لِمُلَاقَاةِ رَأْسِ الذَّكَرِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَمْ يَخْرُجْ . وَالْبَوْلُ يَكُونُ وَاقِفًا مَحْبُوسًا فِي رَأْسِ الْإِحْلِيلِ لَا يَقْطُرُ فَإِذَا عَصَرَ الذَّكَرَ أَوْ الْفَرْجَ أَوْ الثُّقْبَ بِحَجَرِ أَوْ أُصْبُعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ خَرَجَتْ الرُّطُوبَةُ فَهَذَا أَيْضًا بِدْعَةٌ وَذَلِكَ الْبَوْلُ الْوَاقِفُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاجٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لَا بِحَجَرِ وَلَا أُصْبُعٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ بَلْ كُلَّمَا أَخْرَجَهُ جَاءَ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ يَرْشَحُ دَائِمًا . وَالِاسْتِجْمَارُ بِالْحَجَرِ كَافٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى غَسْلِ الذَّكَرِ بِالْمَاءِ وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ اسْتَنْجَى أَنْ يَنْضَحَ عَلَى فَرْجِهِ مَاءً فَإِذَا أَحَسَّ بِرُطُوبَتِهِ قَالَ : هَذَا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ . وَأَمَّا مَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ - وَهُوَ أَنْ يَجْرِيَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لَا يَنْقَطِعُ - فَهَذَا يَتَّخِذُ حِفَاظًا يَمْنَعُهُ فَإِنْ كَانَ الْبَوْلُ يَنْقَطِعُ مِقْدَارَ مَا يَتَطَهَّرُ وَيُصَلِّي وَإِلَّا صَلَّى وَإِنْ جَرَى الْبَوْلُ - كَالْمُسْتَحَاضَةِ - تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابٌ السِّوَاكُ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ السِّوَاكِ ، هَلْ هُوَ بِالْيَدِ الْيُسْرَى أَوْلَى مِنْهُ بِالْيَدِ الْيُمْنَى أَوْ بِالْعَكْسِ ؟ وَهَلْ يَسُوغُ الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ يَسْتَاكُ بِالْيُسْرَى ؟ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الْأَفْضَلُ أَنْ يُسْتَاكَ بِالْيُسْرَى ؛ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ الْكَوْسَجِ ذَكَرَهُ عَنْهُ فِي مَسَائِلِهِ وَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ خَالَفَ فِي ذَلِكَ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِيَاكَ مِنْ بَابِ إمَاطَةِ الْأَذَى فَهُوَ كَالِاسْتِنْثَارِ وَالِامْتِخَاطِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ إزَالَةُ الْأَذَى وَذَلِكَ بِالْيُسْرَى كَمَا أَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَاتِ كَالِاسْتِجْمَارِ وَنَحْوِهِ بِالْيُسْرَى وَإِزَالَةُ الْأَذَى وَاجِبُهَا وَمُسْتَحَبُّهَا بِالْيُسْرَى . وَالْأَفْعَالُ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْعُضْوَيْنِ . وَالثَّانِي : مُخْتَصٌّ بِأَحَدِهِمَا . وَقَدْ اسْتَقَرَّتْ قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ الَّتِي تَشْتَرِكُ فِيهَا

الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى : تُقَدَّمُ فِيهَا الْيُمْنَى إذَا كَانَتْ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ ؛ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالِابْتِدَاءِ بِالشِّقِّ الْأَيْمَنِ فِي السِّوَاكِ ؛ وَنَتْفِ الْإِبِطِ ؛ وَكَاللِّبَاسِ ؛ وَالِانْتِعَالِ وَالتَّرَجُّلِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْمَنْزِلِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْخَلَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَتُقَدَّمُ الْيُسْرَى فِي ضِدِّ ذَلِكَ كَدُخُولِ الْخَلَاءِ وَخَلْعِ النَّعْلِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا : إنْ كَانَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ كَانَ بِالْيَمِينِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمُصَافَحَةِ ؛ وَمُنَاوَلَةِ الْكُتُبِ وَتَنَاوُلِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ ضِدَّ ذَلِكَ كَانَ بِالْيُسْرَى كَالِاسْتِجْمَارِ وَمَسِّ الذَّكَرِ وَالِاسْتِنْثَارِ وَالِامْتِخَاطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : السِّوَاكُ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ تُشْرَعُ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَسَخٌ وَمَا كَانَ عِبَادَةً مَقْصُودَةً كَانَ بِالْيَمِينِ . قِيلَ : كُلٌّ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ مَمْنُوعٌ ؛ فَإِنَّ الِاسْتِيَاكَ إنَّمَا شُرِعَ لِإِزَالَةِ مَا فِي دَاخِلِ الْفَمِ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلِهَذَا شُرِعَ عِنْدَ الْأَسْبَابِ الْمُغَيِّرَةِ لَهُ كَالنَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ وَعِنْدَ الْعِبَادَةِ الَّتِي يُشْرَعُ لَهَا تَطْهِيرٌ كَالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَلَمَّا كَانَ الْفَمُ فِي مَظِنَّةِ التَّغَيُّرِ شُرِعَ عِنْدَ

الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ كَمَا شُرِعَ غَسْلُ الْيَدِ لِلْمُتَوَضِّئِ قَبْلَ وُضُوئِهِ ؛ لِأَنَّهَا آلَةٌ لِصَبِّ الْمَاءِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا تَحَقَّقَ نَظَافَتُهَا : هَلْ يُسْتَحَبُّ غَسْلُهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ . وَمَنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ - كَالْمَعْرُوفِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد - يُسْتَحَبُّ عَلَى النَّادِرِ بَلْ الْغَالِبِ وَإِزَالَةِ الشَّكِّ بِالْيَقِينِ . وَقَدْ يُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي السِّوَاكِ إذَا قِيلَ بِاسْتِحْبَابِهِ مَعَ نَظَافَةِ الْفَمِ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّ غَسْلَ الْيَدِ قَبْلَ الْمَضْمَضَةِ الْمَقْصُودُ بِهَا النَّظَافَةُ فَهَذَا تَوْجِيهُ الْمَنْعِ لِلْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى . وَأَمَّا الثَّانِيَةُ : فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ بِالْيُمْنَى ؟ وَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا بَلْ قَدْ يُقَالُ : الْعِبَادَاتُ تُفْعَلُ بِمَا يُنَاسِبُهَا وَيُقَدَّمُ فِيهَا مَا يُنَاسِبُهَا . ثُمَّ قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ : إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ لَا تُعْقَلُ عِلَّتُهُ : فَلَيْسَ هَذَا بِصَوَابِ لِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ السِّوَاكَ مَعْقُولٌ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ رَمْيِ الْجِمَارِ . وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ النِّيَّةِ كَالطَّهَارَةِ وَأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ مَعَ تَيَقُّنِ النَّظَافَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَهَذَا الْوَصْفُ إذَا سَلِمَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ كَوْنَهَا بِالْيُمْنَى إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ كَوْنَهَا مَنَوِيَّةً أَوْ مَشْرُوعَةً مَعَ تَيَقُّنِ النَّظَافَةِ

لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ تَخْتَصُّ بِهَا الْيُمْنَى بَلْ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهَا مَعَ هَذَا الْوَصْفِ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ مِنْ أَجْلِ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودَةِ ؟ وَيُسْتَحَبُّ الْقُرْبُ فِيهِ مِنْ الْبَيْتِ ؛ وَمَعَ هَذَا فَالْجَانِبُ الْأَيْسَرُ فِيهِ أَقْرَبُ إلَى الْبَيْتِ لِكَوْنِ الْحَرَكَةِ الدَّوْرِيَّةِ تَعْتَمِدُ فِيهَا الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فَلَمَّا كَانَ الْإِكْرَامُ فِي ذَلِكَ لِلْخَارِجِ جُعِلَ لِلْيَمِينِ وَلَمْ يُنْقَلْ إذَا كَانَتْ مَقْصُودَةً فَيَنْبَغِي تَقْدِيمُ الْيُمْنَى فِيهَا إلَى الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّ إكْرَامَ الْيَمِينِ فِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْخَارِجَةَ . وَكَذَلِكَ الِاسْتِنْثَارُ جَعْلُهُ بِالْيُسْرَى إكْرَامٌ لِلْيَمِينِ وَصِيَانَةٌ لَهَا وَكَذَلِكَ السِّوَاكُ . ثُمَّ إذَا قِيلَ : هُوَ فِي الْأَصْلِ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْأَذَى وَإِذَا قِيلَ : إنَّهُ مَشْرُوعٌ فِيهِ الْعُدُولُ عَنْ الْيُمْنَى إلَى الْيُسْرَى أَعْظَمُ فِي إكْرَامِ الْيَمِينِ بِدُونِ ذَلِكَ : لَمْ يُمْنَعْ أَنْ يَكُونَ إزَالَةُ الْأَذَى فِيهِ ثَابِتَةً مَقْصُودَةً كَالِاسْتِجْمَارِ بِالثَّلَاثِ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُهُ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْحَجَرَ الثَّالِثَ مَعَ حُصُولِ الْإِنْقَاءِ بِمَا دُونَهُ . وَكَذَلِكَ التَّثْلِيثُ وَالتَّسْبِيعُ فِي غَسْلِ النَّجَاسَاتِ حَيْثُ وَجَبَ وَعِنْدَ مَنْ يُوجِبُهُ يَأْمُرُ بِهِ وَإِنْ حَصَلَتْ الْإِزَالَةُ بِمَا دُونَهُ . وَكَذَلِكَ التَّثْلِيثُ فِي الْوُضُوءِ مُسْتَحَبٌّ وَإِنْ تَنَظَّفَ الْعُضْوُ بِمَا دُونَهُ مَعَ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ مَقْصُودَةٌ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ وَالْحَجَرِ .

فَكَذَلِكَ إمَاطَةُ الْأَذَى مِنْ الْفَمِ مَقْصُودَةٌ بِالسِّوَاكِ قَطْعًا وَإِنْ شُرِعَ مَعَ عَدَمِهِ تَحْقِيقًا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ؛ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ بِالْيُسْرَى كَمَا أَنَّ الْحَجَرَ الثَّالِثَ فِي الِاسْتِجْمَارِ يَكُونُ بِالْيُسْرَى وَالْمَرَّةَ السَّابِعَةَ فِي وُلُوغِ الْكَلْبِ تَكُونُ بِالْيُسْرَى وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ فِي الْأَصْلِ إزَالَةَ الْأَذَى وَإِنْ قِيلَ : يُشْرَعُ مَعَ عَدَمِهِ تَكْمِيلًا لِلْمَقْصُودِ بِهِ وَإِزَالَةً لِلشَّكِّ بِالْيَقِينِ إلْحَاقًا لِلنَّادِرِ بِالْغَالِبِ ؛ وَلِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ قَدْ تَكُونُ خَفِيَّةً فَعُلِّقَ الْحُكْمُ فِيهَا بِالْمَظِنَّةِ إذْ زَوَالُ الْأَذَى بِالْكُلِّيَّةِ قَدْ يَظُنُّهُ الظَّانُّ مِنْ غَيْرِ تَيَقُّنٍ وَيَعْسُرُ الْيَقِينُ فِي ذَلِكَ فَأُقِيمَتْ الْمَظِنَّةُ فِيهِ مَقَامَ الْحِكْمَةِ فَجُعِلَ مَشْرُوعًا لِلْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ مَعَ عَدَمِ النَّظَرِ إلَى التَّغَيُّرِ وَعَدَمِهِ ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ حُصُولُ التَّغَيُّرِ . فَهَذَا إذَا قِيلَ بِهِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَذَلِكَ لَا يُخْرِجُ جِنْسَ هَذَا الْفِعْلِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْأَذَى وَإِنْ كَانَ عِبَادَةً مَقْصُودَةً تُشْرَعُ فِيهَا النِّيَّةُ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ بِالْيُسْرَى كَالِاسْتِنْثَارِ وَالِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ وَمُبَاشَرَةِ مَحَلِّ الْوُلُوغِ بِالدَّلْكِ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ صَبِّ الْمَاءِ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ وَلِهَذَا كَانَ الْمُتَوَضِّئُ يَسْتَنْشِقُ بِالْيُمْنَى وَيَسْتَنْثِرُ بِالْيُسْرَى وَالْمُسْتَنْجِي يَصُبُّ الْمَاءَ بِالْيَمِينِ وَيُدَلِّكُ بِالْيُسْرَى . وَكَذَلِكَ الْمُغْتَسِلُ وَالْمُتَوَضِّئُ مِنْ الْمَاءِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فِي الْإِنَاءِ فَيَصُبُّ بِهَا عَلَى الْيُسْرَى مَعَ أَنَّ

مُبَاشَرَةَ الْعَوْرَةِ فِي الْغُسْلِ بِالْيُسْرَى وَهَكَذَا غَاسِلُ مَوْرِدِ النَّجَاسَةِ يَصُبُّ بِالْيُمْنَى وَإِذَا احْتَاجَ إلَى مُبَاشَرَةِ الْمَحَلِّ بَاشَرَهُ بِالْيُسْرَى وَشَوَاهِدُ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولِهَا عَلَى ذَلِكَ مُتَظَاهِرَةٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الْخِتَانِ : مَتَى يَكُونُ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْخِتَانُ فَمَتَى شَاءَ اخْتَتَنَ لَكِنْ إذَا رَاهَقَ الْبُلُوغَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَتِنَ كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُ لِئَلَّا يَبْلُغَ إلَّا وَهُوَ مَخْتُونٌ . وَأَمَّا الْخِتَانُ فِي السَّابِعِ فَفِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : قِيلَ : لَا يُكْرَهُ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ خَتَنَ إسْحَاقَ فِي السَّابِعِ . وَقِيلَ : يُكْرَهُ لِأَنَّهُ عَمَلُ الْيَهُودِ فَيُكْرَهُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَهُوَ غَيْرُ مَخْتُونٍ وَلَيْسَ مُطَهَّرًا هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ وَمَنْ تَرَكَ الْخِتَانَ كَيْفَ حُكْمُهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ يَخَفْ عَلَيْهِ ضَرَرَ الْخِتَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَتِنَ فَإِنَّ

ذَلِكَ مَشْرُوعٌ مُؤَكَّدٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَقَدْ اخْتَتَنَ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ ثَمَانِينَ مِنْ عُمْرِهِ وَيُرْجَعُ فِي الضَّرَرِ إلَى الْأَطِبَّاءِ الثِّقَاتِ وَإِذَا كَانَ يَضُرُّهُ فِي الصَّيْفِ أَخَّرَهُ إلَى زَمَانِ الْخَرِيفِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ :
هَلْ تَخْتَتِنُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ تَخْتَتِنُ وَخِتَانُهَا أَنْ تَقْطَعَ أَعْلَى الْجِلْدَةِ الَّتِي كَعُرْفِ الدِّيكِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْخَافِضَةِ - وَهِيَ الْخَاتِنَةُ - : { أَشِمِّي وَلَا تُنْهِكِي فَإِنَّهُ أَبْهَى لِلْوَجْهِ وَأَحْظَى لَهَا عِنْدَ الزَّوْجِ } يَعْنِي : لَا تُبَالِغِي فِي الْقَطْعِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِخِتَانِ الرَّجُلِ تَطْهِيرُهُ مِنْ النَّجَاسَةِ الْمُحْتَقِنَةِ فِي الْقُلْفَةِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ خِتَانِ الْمَرْأَةِ تَعْدِيلُ شَهْوَتِهَا فَإِنَّهَا إذَا كَانَتْ قلفاء كَانَتْ مُغْتَلِمَةً شَدِيدَةَ الشَّهْوَةِ . وَلِهَذَا يُقَالُ فِي الْمُشَاتَمَةِ : يَا ابْنَ القلفاء فَإِنَّ القلفاء تَتَطَلَّعُ إلَى الرِّجَالِ أَكْثَرَ وَلِهَذَا يُوجَدُ مِنْ الْفَوَاحِشِ فِي نِسَاءِ التتر وَنِسَاءِ الْإِفْرِنْجِ مَا لَا يُوجَدُ فِي نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَإِذَا حَصَلَتْ الْمُبَالَغَةُ فِي الْخِتَانِ ضَعُفَتْ الشَّهْوَةُ فَلَا يَكْمُلُ مَقْصُودُ الرَّجُلِ فَإِذَا قُطِعَ مِنْ غَيْرِ مُبَالِغَةٍ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِاعْتِدَالِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
إذَا مَاتَ الصَّبِيُّ وَهُوَ غَيْرُ مَخْتُونٍ : هَلْ يُخْتَنُ بَعْدَ مَوْتِهِ ؟ .
فَأَجَابَ : وَلَا يُخْتَنُ أَحَدٌ بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَسُئِلَ :
كَمْ مِقْدَارُ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ حَتَّى يَحْلِقَ عَانَتَهُ ؟ .
فَأَجَابَ : عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لَهُمْ فِي حَلْقِ الْعَانَةِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : أَلَّا يَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا } وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ؟ .
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فِي أَقْوَامٍ يَحْلِقُونَ رُءُوسَهُمْ عَلَى أَيْدِي الْأَشْيَاخِ ؛ وَعِنْدَ الْقُبُورِ الَّتِي

يُعَظِّمُونَهَا وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ قُرْبَةً وَعِبَادَةً : فَهَلْ هَذَا سُنَّةٌ أَوْ بِدْعَةٌ ؟ وَهَلْ حَلْقُ الرَّأْسِ مُطْلَقًا سُنَّةٌ أَوْ بِدْعَةٌ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ ؟ .
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، حَلْقُ الرَّأْسِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ : أَحَدُهُمَا : حَلْقُهُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَهَذَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَهُوَ مَشْرُوعٌ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ قَالَ تَعَالَى : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ } وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَلَقَ رَأْسَهُ فِي حَجِّهِ وَفِي عُمَرِهِ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ مِنْهُمْ مَنْ حَلَقَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَصَّرَ . وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ مِنْ التَّقْصِيرِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ ؟ قَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ ؟ قَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ ؟ قَالَ : وَالْمُقَصِّرِينَ } . وَقَدْ أَمَرَ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ لَمْ يَسُوقُوا الْهَدْيَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنْ يُقَصِّرُوا رُءُوسَهُمْ لِلْعُمْرَةِ إذَا طَافُوا بِالْبَيْتِ ؛ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ؛ ثُمَّ يَحْلِقُوا إذَا قَضَوْا الْحَجَّ . فَجَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ التَّقْصِيرِ أَوَّلًا وَبَيْنَ الْحَلْقِ ثَانِيًا .

وَالنَّوْعُ الثَّانِي : حَلْقُ الرَّأْسِ لِلْحَاجَةِ مِثْلُ أَنْ يَحْلِقَهُ لِلتَّدَاوِي فَهَذَا أَيْضًا جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ رَخَّصَ لِلْمُحْرِمِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لَهُ حَلْقُ رَأْسِهِ أَنْ يَحْلِقَهُ إذَا كَانَ بِهِ أَذًى كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } وَقَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ حَدِيثُ { كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ لَمَّا مَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ - وَالْقُمَّلُ يَنْهَالُ مِنْ رَأْسِهِ - فَقَالَ : أَيُؤْذِيك هَوَامُّك ؟ قَالَ : نَعَمْ فَقَالَ : احْلِقْ رَأْسَك وَانْسُكْ شَاةً ؛ أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ؛ أَوْ أَطْعِمْ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ } وَهَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ ؛ مُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ . النَّوْعُ الثَّالِثُ : حَلْقُهُ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ وَالتَّدَيُّنِ وَالزُّهْدِ ؛ مِنْ غَيْرِ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ مِثْلَ مَا يَأْمُرُ بَعْضُ النَّاسِ التَّائِبَ إذَا تَابَ بِحَلْقِ رَأْسِهِ وَمِثْلَ أَنْ يُجْعَلَ حَلْقُ الرَّأْسِ شِعَارَ أَهْلِ النُّسُكِ وَالدِّينِ ؛ أَوْ مِنْ تَمَامِ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ أَوْ يُجْعَلَ مَنْ يَحْلِقُ رَأْسَهُ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَمْ يَحْلِقْهُ أَوْ أدين أَوْ أَزْهَدَ أَوْ أَنْ يُقَصَّرَ مِنْ شِعْرِ التَّائِبِ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمَشْيَخَةِ إذَا توب أَحَدًا : أَنْ يَقُصَّ بَعْضَ شَعْرِهِ وَيُعَيِّنُ الشَّيْخُ صَاحِبَ مِقَصٍّ وَسَجَّادَةٍ ؛ فَيَجْعَلُ صَلَاتَهُ عَلَى السَّجَّادَةِ وَقَصَّهُ رُءُوسَ النَّاسِ مِنْ تَمَامِ الْمَشْيَخَةِ الَّتِي يَصْلُحُ بِهَا أَنْ يَكُونَ قُدْوَةً يتوب

التَّائِبِينَ : فَهَذَا بِدْعَةٌ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهَا وَلَا رَسُولُهُ ؛ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ ؛ وَلَا فَعَلَهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا شُيُوخِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ لَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِيهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِثْلُ الْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ ؛ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ ؛ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي وَأَحْمَد بْنِ أَبِي الْحِوَارِيِّ ؛ وَالسَّرِيِّ السقطي ؛ والْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ يَقُصُّونَ شَعْرَ أَحَدٍ إذَا تَابَ وَلَا يَأْمُرُونَ التَّائِبَ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ . وَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَمْ يَكُنْ يَأْمُرُهُمْ بِحَلْقِ رُءُوسِهِمْ إذَا أَسْلَمُوا وَلَا قَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَ أَحَدٍ . وَلَا كَانَ يُصَلِّي عَلَى سَجَّادَةٍ بَلْ كَانَ يُصَلِّي إمَامًا بِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ يُصَلِّي عَلَى مَا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَيَقْعُدُ عَلَى مَا يَقْعُدُونَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَيِّزًا عَنْهُمْ بِشَيْءِ يَقْعُدُ عَلَيْهِ لَا سَجَّادَةٍ وَلَا غَيْرِهِ وَلَكِنْ يَسْجُدُ أَحْيَانًا عَلَى الْخَمِيرَةِ - وَهِيَ شَيْءٌ يُصْنَعُ مِنْ الْخُوصِ صَغِيرٌ - يَسْجُدُ عَلَيْهَا أَحْيَانًا لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَمْ يَكُنْ مَفْرُوشًا بَلْ كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى الرَّمْلِ وَالْحَصَى وَكَانَ أَكْثَرَ الْأَوْقَاتِ يَسْجُدُ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى يَبِينَ الطِّينُ فِي جَبْهَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . وَمَنْ اعْتَقَدَ الْبِدَعَ الَّتِي لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً : قُرْبَةً وَطَاعَةً

وَطَرِيقًا إلَى اللَّهِ وَجَعَلَهَا مِنْ تَمَامِ الدِّينِ وَمِمَّا يُؤْمَرُ بِهِ التَّائِبُ وَالزَّاهِدُ وَالْعَابِدُ فَهُوَ ضَالٌّ خَارِجٌ عَنْ سَبِيلِ الرَّحْمَنِ مُتَّبِعٌ لِخُطُوَاتِ الشَّيَاطِينِ . وَالنَّوْعُ الرَّابِعُ : أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ فِي غَيْرِ النُّسُكِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ وَالتَّدَيُّنِ : فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَكْرُوهٌ . وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُبَاحٌ . وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى غُلَامًا قَدْ حَلَقَ بَعْضَ رَأْسِهِ فَقَالَ : احْلِقُوهُ كُلَّهُ أَوْ دَعُوهُ كُلَّهُ } { وَأُتِيَ بِأَوْلَادِ صِغَارٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ فَحَلَقَ رُءُوسَهُمْ } . وَلِأَنَّهُ نَهَى عَنْ الْقَزَعِ وَالْقَزَعُ : حَلْقُ الْبَعْضِ : فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ حَلْقِ الْجَمِيعِ . وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ : حَلْقُ الرَّأْسِ شِعَارُ أَهْلِ الْبِدَعِ فَإِنَّ الْخَوَارِجَ كَانُوا يَحْلِقُونَ رُءُوسَهُمْ وَبَعْضُ الْخَوَارِجِ يَعُدُّونَ حَلْقَ الرَّأْسِ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ وَالنُّسُكِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ يَقْسِمُ جَاءَهُ رَجُلٌ عَامَ الْفَتْحِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقُ } .

وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ جُنْدِيٍّ يُقَلِّعُ بَيَاضَ لِحْيَتِهِ : فَهَلْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إثْمٌ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نَتْفُ الشَّيْبِ مَكْرُوهٌ لِلْجُنْدِيِّ وَغَيْرِهِ فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ نَتْفِ الشَّيْبِ وَقَالَ : إنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ } .
وَسُئِلَ :
عَنْ الرَّجُلِ إذَا كَانَ جُنُبًا وَقَصَّ ظُفْرَهُ أَوْ شَارِبَهُ أَوْ مَشَطَ رَأْسَهُ هَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ ؟ فَقَدْ أَشَارَ بَعْضُهُمْ إلَى هَذَا وَقَالَ : إذَا قَصَّ الْجُنُبُ شَعْرَهُ أَوْ ظُفْرَهُ فَإِنَّهُ تَعُودُ إلَيْهِ أَجْزَاؤُهُ فِي الْآخِرَةِ فَيَقُومُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهِ قِسْطٌ مِنْ الْجَنَابَةِ بِحَسَبِ مَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ وَعَلَى كُلِّ شَعْرَةٍ قِسْطٌ مِنْ الْجَنَابَةِ : فَهَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ

وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { : أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ الْجُنُبَ قَالَ : إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ } . وَفِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ : { حَيًّا وَلَا مَيِّتًا } . وَمَا أَعْلَمُ عَلَى كَرَاهِيَةِ إزَالَةِ شَعْرِ الْجُنُبِ وَظُفْرِهِ دَلِيلًا شَرْعِيًّا بَلْ قَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي أَسْلَمَ : أَلْقِ عَنْك شَعْرَ الْكُفْرِ وَاخْتَتِنْ } فَأَمَرَ الَّذِي أَسْلَمَ أَنْ يَغْتَسِلَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِتَأْخِيرِ الِاخْتِتَانِ . وَإِزَالَةِ الشَّعْرِ عَنْ الِاغْتِسَالِ فَإِطْلَاقُ كَلَامِهِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْأَمْرَيْنِ . وَكَذَلِكَ تُؤْمَرُ الْحَائِضُ بِالِامْتِشَاطِ فِي غُسْلِهَا مَعَ أَنَّ الِامْتِشَاطَ يَذْهَبُ بِبَعْضِ الشَّعْرِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابٌ الْوُضُوءُ
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ : مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَوْجَبَ جَمِيعَ الرَّأْسِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ رُبُعَ الرَّأْسِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَعْضُ شَعْرِهِ يُجْزِئُ : فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ ؟ بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالْحَسَنَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الَّذِينَ نَقَلُوا وُضُوءَهُ لَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ بَعْضِ رَأْسِهِ وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ - كالقدوري فِي أَوَّلِ مُخْتَصَرِهِ وَغَيْرِهِ - أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ : إنَّمَا هُوَ بَعْضُ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ عَامَ تَبُوكَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ } . وَلِهَذَا ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى جَوَازِ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ وَهُوَ

مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد . وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى وُجُوبِ مَسْحِ جَمِيعِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ نَظِيرُ قَوْلِهِ : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } لَفْظُ الْمَسْحِ فِي الْآيَتَيْنِ وَحَرْفُ الْبَاءِ فِي الْآيَتَيْنِ : فَإِذَا كَانَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ لَا تَدُلُّ عَلَى مَسْحِ الْبَعْضِ مَعَ أَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ وَهُوَ مَسْحٌ بِالتُّرَابِ لَا يُشْرَعُ فِيهِ تَكْرَارٌ : فَكَيْفَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ آيَةُ الْوُضُوءِ مَعَ كَوْنِ الْوُضُوءِ هُوَ الْأَصْلَ وَالْمَسْحُ فِيهِ بِالْمَاءِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ التَّكْرَارُ ؟ هَذَا لَا يَقُولُهُ مَنْ يَعْقِلُ مَا يَقُولُ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ مَنْ قَالَ بِإِجْزَاءِ الْبَعْضِ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلتَّبْعِيضِ أَوْ دَالَّةٌ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ : فَهُوَ خَطَأٌ أَخْطَأَهُ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَعَلَى اللُّغَةِ وَعَلَى دَلَالَةِ الْقُرْآنِ . وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ وَهِيَ لَا تَدْخُلُ إلَّا لِفَائِدَةٍ : فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ أَفَادَتْ قَدْرًا زَائِدًا كَمَا فِي قَوْلِهِ : { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ : يَشْرَبُ مِنْهَا لَمْ تَدُلَّ عَلَى الرِّيِّ فَضُمِّنَ يَشْرَبُ مَعْنَى يُرْوَى فَقِيلَ : { يَشْرَبُ بِهَا } فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّهُ شُرْبٌ يَحْصُلُ مَعَهُ الرِّيُّ . وَبَابُ تَضْمِينِ الْفِعْلِ مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ حَتَّى يَتَعَدَّى بِتَعْدِيَتِهِ - كَقَوْلِهِ : { لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ } وَقَوْلِهِ { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ

الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } وَقَوْلِهِ : { وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ - كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ يُغْنِي عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ النُّحَاةِ عَمَّا يَتَكَلَّفُهُ الْكُوفِيُّونَ مِنْ دَعْوَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْحُرُوفِ . وَكَذَلِكَ الْمَسْحُ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ لَوْ قَالَ : فَامْسَحُوا رُءُوسَكُمْ أَوْ وُجُوهَكُمْ : لَمْ تَدُلَّ عَلَى مَا يَلْتَصِقُ بِالْمَسْحِ فَإِنَّك تَقُولُ : مَسَحْت رَأْسَ فُلَانٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِك بَلَلٌ . فَإِذَا قِيلَ : فَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَبِوُجُوهِكُمْ ضُمِّنَ الْمَسْحُ مَعْنَى الْإِلْصَاقِ فَأَفَادَ أَنَّكُمْ تُلْصِقُونَ بِرُءُوسِكُمْ وَبِوُجُوهِكُمْ شَيْئًا بِهَذَا الْمَسْحِ وَهَذَا يُفِيدُ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَلْتَصِقَ الصَّعِيدُ بِالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَلِهَذَا قَالَ : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } . وَإِنَّمَا مَأْخَذُ مَنْ جَوَّزَ الْبَعْضُ : الْحَدِيثَ . ثُمَّ تَنَازَعُوا : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُجْزِئُ قَدْرُ النَّاصِيَةِ كَرِوَايَةِ عَنْ أَحْمَد وَقَوْلِ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُجْزِئُ الْأَكْثَرُ . كَرِوَايَةِ عَنْ أَحْمَد وَقَوْلِ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُجْزِئُ الرُّبْعُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : قَدْرُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ . وَهُمَا قَوْلَانِ لِلْحَنَفِيَّةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ أَوْ بَعْضُهَا . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : شَعْرَةٌ أَوْ بَعْضُهَا . وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ . وَأَمَّا الَّذِينَ أَوْجَبُوا الِاسْتِيعَابَ - كَمَالِكِ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ مِنْ

مَذْهَبِهِمَا - فَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ . وَإِذَا سَلَّمَ لَهُمْ مُنَازِعُوهُمْ وُجُوبَ الِاسْتِيعَابِ فِي مَسْحِ التَّيَمُّمِ : كَانَ فِي مَسْحِ الْوُضُوءِ أَوْلَى وَأَحْرَى لَفْظًا وَمَعْنًى وَلَا يُقَالُ : التَّيَمُّمُ وَجَبَ فِيهِ الِاسْتِيعَابُ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ غَسْلِ الْوَجْهِ وَاسْتِيعَابُهُ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ إنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ فِي حُكْمِهِ لَا فِي وَصْفِهِ ؛ وَلِهَذَا الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَدَلٌ عَنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَلَا يَجِبُ فِيهِ الِاسْتِيعَابُ مَعَ وُجُوبِهِ فِي الرِّجْلَيْنِ وَأَيْضًا لِلسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ مِنْ عَمَلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فَعِنْدَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الثَّابِتَةِ فِي ذَلِكَ وَإِذَا مَسَحَ عِنْدَهُ بِنَاصِيَتِهِ وَكَمَّلَ الْبَاقِيَ بِعِمَامَتِهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِلَا رَيْبٍ . وَأَمَّا مَالِكٌ فَلَا جَوَابَ لَهُ عَنْ الْحَدِيثِ إلَّا أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْذُورًا لَا يُمْكِنُهُ كَشْفُ الرَّأْسِ فَتَيَمَّمَ عَلَى الْعِمَامَةِ لِلْعُذْرِ . وَمَنْ فَعَلَ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ الْمَسْحِ بِنَاصِيَتِهِ وَعِمَامَتِهِ أَجْزَأَهُ مَعَ الْعُذْرِ بِلَا نِزَاعٍ وَأَجْزَأَهُ بِدُونِ الْعُذْرِ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ وَمَسْحُ الرَّأْسِ مَرَّةً مَرَّةً يَكْفِي بِالِاتِّفَاقِ كَمَا يَكْفِي تَطْهِيرُ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ مَرَّةً .
وَتَنَازَعُوا فِي مَسْحِهِ ثَلَاثًا : هَلْ يُسْتَحَبُّ ؟ فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ .

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ : يُسْتَحَبُّ ؛ لِمَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَهَذَا عَامٌّ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد : أَنَّهُ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَسُنَّ فِيهِ الثَّلَاثُ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ رَأْسَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلِهَذَا قَالَ أَبُو دَاوُد السجستاني : أَحَادِيثُ عُثْمَانَ الصِّحَاحُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَسَحَ مَرَّةً وَاحِدَةً . وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا رَوَاهُ مِنْ مَسْحِهِ ثَلَاثًا فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ مَرَّةً وَهَذَا الْمُفَصَّلُ يَقْضِي عَلَى الْمُجْمَلِ وَهُوَ قَوْلُهُ : { تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا } كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ : { إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا : مِثْلَ مَا يَقُولُ } كَانَ هَذَا مُجْمَلًا وَفَسَّرَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّهُ يَقُولُ عِنْدَ الْحَيْعَلَةِ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ } فَإِنَّ الْخَاصَّ الْمُفَسَّرَ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ الْمُجْمَلِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا مَسْحٌ وَالْمَسْحُ لَا يُسَنُّ فِيهِ التَّكْرَارُ كَمَسْحِ الْخُفِّ وَالْمَسْحِ فِي التَّيَمُّمِ وَمَسْحِ الْجَبِيرَةِ وَإِلْحَاقُ الْمَسْحِ بِالْمَسْحِ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْغَسْلِ ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ إذَا كُرِّرَ كَانَ كَالْغَسْلِ . وَمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ مِنْ أَنَّهُ يَمْسَحُ بَعْضَ رَأْسِهِ بَلْ بَعْضَ شَعْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ : خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ جِهَةِ مَسْحِهِ بَعْضَ رَأْسِهِ فَإِنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَمِنْ جِهَةِ تَكْرَارِهِ فَإِنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ وَمَنْ يَسْتَحِبُّ التَّكْرَارَ - كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي قَوْلٍ - لَا يَقُولُونَ :

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131