الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

فِيمَنْ نَزَلَتْ وَأَيْنَ نَزَلَتْ وَلَوْ أَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تناوله الْمَطَايَا لَأَتَيْته وَقَالَ الْأَعْمَشُ أَيْضًا عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ مَعَانِيَهُنَّ وَالْعَمَلَ بِهِنَّ . وَمِنْهُمْ الْحَبْرُ الْبَحْرُ " عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ " ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ حَيْثُ قَالَ : { اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ } " وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ : نِعْمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ . ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ دَاوُد عَنْ إسْحَاقَ الْأَزْرَقِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : نِعْمَ التُّرْجُمَانُ لِلْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ الْأَعْمَشِ بِهِ كَذَلِكَ فَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْعِبَارَةُ وَقَدْ مَاتَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ عَلَى الصَّحِيحِ وَعَمَّرَ بَعْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَمَا ظَنُّك بِمَا كَسَبَهُ مِنْ الْعُلُومِ بَعْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ ؟ . وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ اسْتَخْلَفَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْمَوْسِمِ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَرَأَ فِي خُطْبَتِهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ - وَفِي

رِوَايَةِ سُورَةِ النُّورِ - فَفَسَّرَهَا تَفْسِيرًا لَوْ سَمِعَتْهُ الرُّومُ وَالتُّرْكُ وَالدَّيْلَمُ لَأَسْلَمُوا . وَلِهَذَا غَالِبُ مَا يَرْوِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السدي الْكَبِيرُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ : ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَلَكِنْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ يَنْقُلُ عَنْهُمْ مَا يَحْكُونَهُ مِنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي أَبَاحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : " { بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ؛ وَلِهَذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَدْ أَصَابَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ زَامِلَتَيْنِ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْهُمَا بِمَا فَهِمَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْإِذْنِ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الإسرائيلية تُذْكَرُ لِلِاسْتِشْهَادِ لَا لِلِاعْتِقَادِ فَإِنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : " أَحَدُهَا " مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ مِمَّا بِأَيْدِينَا مِمَّا يَشْهَدُ لَهُ بِالصِّدْقِ فَذَاكَ صَحِيحٌ . و " الثَّانِي " مَا عَلِمْنَا كَذِبَهُ بِمَا عِنْدَنَا مِمَّا يُخَالِفُهُ . و " الثَّالِثُ " مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَلَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَلَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُكَذِّبُهُ وَتَجُوزُ حِكَايَتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ

وَغَالِبُ ذَلِكَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ تَعُودُ إلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرًا وَيَأْتِي عَنْ الْمُفَسِّرِينَ خِلَافٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَمَا يَذْكُرُونَ فِي مِثْلِ هَذَا أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَلَوْنَ كَلْبِهِمْ وَعِدَّتَهُمْ وَعَصَا مُوسَى مِنْ أَيِّ الشَّجَرِ كَانَتْ ؟ وَأَسْمَاءَ الطُّيُورِ الَّتِي أَحْيَاهَا اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ وَتَعْيِينَ الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ مِنْ الْبَقَرَةِ وَنَوْعَ الشَّجَرَةِ الَّتِي كَلَّمَ اللَّهُ مِنْهَا مُوسَى إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَبْهَمَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِهِ تَعُودُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فِي دُنْيَاهُمْ وَلَا دِينِهِمْ وَلَكِنَّ نَقْلَ الْخِلَافِ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا } . فَقَدْ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الْأَدَبِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَتَعْلِيمِ مَا يَنْبَغِي فِي مِثْلِ هَذَا . فَإِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ضَعَّفَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثِ فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ ؛ إذْ لَوْ كَانَ بَاطِلًا لَرَدَّهُ كَمَا رَدَّهُمَا ثُمَّ أَرْشَدَ إلَى أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى عِدَّتِهِمْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فَيُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا : { قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ } فَإِنَّهُ مَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ؛ فَلِهَذَا قَالَ : { فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا } أَيْ لَا تُجْهِدْ نَفْسَك فِيمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا تَسْأَلْهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ

لَا يَعْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا رَجْمَ الْغَيْبِ . فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يَكُونُ فِي حِكَايَةِ الْخِلَافِ : أَنْ تُسْتَوْعَبَ الْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ وَأَنْ يُنَبَّهَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهَا وَيُبْطَلَ الْبَاطِلُ وَتُذْكَرَ فَائِدَةُ الْخِلَافِ وَثَمَرَتُهُ ؛ لِئَلَّا يَطُولَ النِّزَاعُ وَالْخِلَافُ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ فَيَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ الْأَهَمِّ فَأَمَّا مَنْ حَكَى خِلَافًا فِي مَسْأَلَةٍ وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ أَقْوَالَ النَّاسِ فِيهَا فَهُوَ نَاقِصٌ ؛ إذْ قَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ فِي الَّذِي تَرَكَهُ أَوْ يَحْكِي الْخِلَافَ وَيُطْلِقُهُ وَلَا يُنَبِّهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ أَيْضًا فَإِنْ صَحَّحَ غَيْرَ الصَّحِيحِ عَامِدًا فَقَدْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ أَوْ جَاهِلًا فَقَدْ أَخْطَأَ كَذَلِكَ مَنْ نَصَبَ الْخِلَافَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ أَوْ حَكَى أَقْوَالًا مُتَعَدِّدَةً لَفْظًا وَيَرْجِعُ حَاصِلُهَا إلَى قَوْلٍ أَوْ قَوْلَيْنِ مَعْنًى فَقَدْ ضَيَّعَ الزَّمَانَ وَتَكَثَّرَ بِمَا لَيْسَ بِصَحِيحِ فَهُوَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .
فَصْلٌ :
إذَا لَمْ تَجِدْ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا وَجَدْته عَنْ الصَّحَابَةِ فَقَدْ رَجَعَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ التَّابِعِينَ " كَمُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ " فَإِنَّهُ كَانَ آيَةً فِي التَّفْسِيرِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ : حَدَّثَنَا

أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَ عرضات مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا وَبِهِ إلَى التِّرْمِذِيِّ قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَهْدِيٍّ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مُعَمَّرٍ عَنْ قتادة قَالَ : مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ إلَّا وَقَدْ سَمِعْت فِيهَا شَيْئًا وَبِهِ إلَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ : قَالَ مُجَاهِدٌ : لَوْ كُنْت قَرَأْت قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمْ أَحْتَجْ أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْقُرْآنِ مِمَّا سَأَلْت . وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا أَبُو كريب قَالَ : حَدَّثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ عَنْ عُثْمَانَ الْمَكِّيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ : رَأَيْت مُجَاهِدًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَمَعَهُ أَلْوَاحُهُ قَالَ : فَيَقُولُ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ اُكْتُبْ حَتَّى سَأَلَهُ عَنْ التَّفْسِيرِ كُلِّهِ وَلِهَذَا كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ : إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ . وَكَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وقتادة وَالضِّحَاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَتُذْكَرُ أَقْوَالُهُمْ فِي الْآيَةِ فَيَقَعُ فِي عِبَارَاتِهِمْ تَبَايُنٌ فِي الْأَلْفَاظِ يَحْسَبُهَا مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ اخْتِلَافًا فَيَحْكِيهَا أَقْوَالًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ الشَّيْءِ بِلَازِمِهِ أَوْ نَظِيرِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ

يَنُصُّ عَلَى الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ وَالْكُلُّ بِمَعْنَى وَاحِدٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمَاكِنِ فَلْيَتَفَطَّنْ اللَّبِيبُ لِذَلِكَ وَاَللَّهُ الْهَادِي . وَقَالَ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَغَيْرُهُ أَقْوَالُ التَّابِعِينَ فِي الْفُرُوعِ لَيْسَتْ حُجَّةً فَكَيْفَ تَكُونُ حُجَّةً فِي التَّفْسِيرِ ؟ يَعْنِي أَنَّهَا لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ خَالَفَهُمْ وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا إذَا أَجْمَعُوا عَلَى الشَّيْءِ فَلَا يُرْتَابُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً فَإِنْ اخْتَلَفُوا فَلَا يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ وَلَا عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى لُغَةِ الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ عُمُومِ لُغَةِ الْعَرَبِ أَوْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ .
[ فَأَمَّا " تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ فَحَرَامٌ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } " . حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى الثَّعْلَبِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنٍ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } " وَبِهِ إلَى التِّرْمِذِيِّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حميد حَدَّثَنِي حَسَّانُ بْنُ هِلَالٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ أَخُو حَزْمٍ القطعي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الجوني عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ } " قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَقَدْ

تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي سُهَيْلِ بْنِ أَبِي حَزْمٍ ] (*) .
وَهَكَذَا رَوَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ شَدَّدُوا فِي أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَأَمَّا الَّذِي رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وقتادة وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ فَلَيْسَ الظَّنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْقُرْآنِ وَفَسَّرُوهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَوْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَقَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ وَسَلَكَ غَيْرَ مَا أُمِرَ بِهِ فَلَوْ أَنَّهُ أَصَابَ الْمَعْنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكَانَ قَدْ أَخْطَأَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ الْأَمْرُ مِنْ بَابِهِ كَمَنْ حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ وَإِنْ وَافَقَ حُكْمُهُ الصَّوَابَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ؛ لَكِنْ يَكُونُ أَخَفَّ جُرْمًا مِمَّنْ أَخْطَأَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَهَكَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْقَذَفَةَ كَاذِبِينَ فَقَالَ : { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } فَالْقَاذِفُ كَاذِبٌ وَلَوْ كَانَ قَدْ قَذَفَ مَنْ زَنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِخْبَارُ بِهِ وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَلِهَذَا تَحَرَّجَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ عَنْ تَفْسِيرِ مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ كَمَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ : أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إذَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَمْ أَعْلَمْ ؟ : وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ : حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ يَزِيدَ

عَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حوشب عَنْ إبْرَاهِيمَ التيمي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ : { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } فَقَالَ : أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إنْ أَنَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ ؟ - مُنْقَطِعٌ - وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَيْضًا حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ حميد عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ : { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } فَقَالَ هَذِهِ الْفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا الْأَبُّ ؟ ثُمَّ رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ : إنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ يَا عُمَرُ وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حميد حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَفِي ظَهْرِ قَمِيصِهِ أَرْبَعُ رِقَاعٍ فَقَرَأَ : { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } فَقَالَ مَا الْأَبُّ ؟ ثُمَّ قَالَ : إنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ فَمَا عَلَيْك أَنْ لَا تَدْرِيهِ . وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إنَّمَا أَرَادَا اسْتِكْشَافَ عِلْمِ كَيْفِيَّةِ الْأَبِّ وَإِلَّا فَكَوْنُهُ نَبْتًا مِنْ الْأَرْضِ ظَاهِرٌ لَا يُجْهَلُ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى تَعَالَى : { فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا } { وَعِنَبًا وَقَضْبًا } { وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا } { وَحَدَائِقَ غُلْبًا } . وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ لَوْ سُئِلَ عَنْهَا بَعْضُكُمْ لَقَالَ فِيهَا فَأَبَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا . إسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ : { يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } فَقَالَ لَهُ

ابْنُ عَبَّاسٍ فَمَا : { يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ إنَّمَا سَأَلْتُك لِتُحَدِّثَنِي فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُمَا يَوْمَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمَا فَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ يَعْنِي ابْنَ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ : جَاءَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ إلَى جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلَهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ . فَقَالَ أُحَرِّجُ عَلَيْك إنْ كُنْت مُسْلِمًا لَمَا قُمْت عَنِّي أَوْ قَالَ : أَنْ تُجَالِسَنِي وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ : إنَّا لَا نَقُولُ فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا . وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ إنَّهُ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ إلَّا فِي الْمَعْلُومِ مِنْ الْقُرْآنِ . وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَالَ : لَا تَسْأَلْنِي عَنْ الْقُرْآنِ وَسَلْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ يَعْنِي عِكْرِمَةَ وَقَالَ ابْنُ شوذب : حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ قَالَ : كُنَّا نَسْأَلُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ فَإِذَا سَأَلْنَاهُ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ سَكَتَ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْ . وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنِي أَحْمَد بْنُ عبدة الضبي حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ : لَقَدْ أَدْرَكْت فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ وَإِنَّهُمْ

لَيُعَظِّمُونَ الْقَوْلَ فِي التَّفْسِيرِ مِنْهُمْ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَنَافِعٌ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ : مَا سَمِعْت أَبِي تَأَوَّلَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ قَطُّ وَقَالَ أَيُّوبُ وَابْنُ عَوْنٍ وَهُشَامٌ الدستوائي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين قَالَ سَأَلْت عُبَيْدَةَ السلماني عَنْ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَالَ : ذَهَبَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ فَاتَّقِ اللَّهَ وَعَلَيْك بِالسَّدَادِ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا مُعَاذٌ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : إذَا حَدَّثْت عَنْ اللَّهِ فَقِفْ حَتَّى تَنْظُرَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ حَدَّثَنَا هشيم عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ : كَانَ أَصْحَابُنَا يَتَّقُونَ التَّفْسِيرَ وَيَهَابُونَهُ وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ قَالَ : قَالَ الشَّعْبِيُّ وَاَللَّهِ مَا مِنْ آيَةٍ إلَّا وَقَدْ سَأَلْت عَنْهَا وَلَكِنَّهَا الرِّوَايَةُ عَنْ اللَّهِ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : حَدَّثَنَا هشيم أَنْبَأَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : اتَّقُوا التَّفْسِيرَ فَإِنَّمَا هُوَ الرِّوَايَةُ عَنْ اللَّهِ . فَهَذِهِ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ وَمَا شَاكَلَهَا عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ مَحْمُولَةٌ عَلَى تَحَرُّجِهِمْ عَنْ الْكَلَامِ فِي التَّفْسِيرِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ فَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ لُغَةً وَشَرْعًا فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَقْوَالٌ فِي التَّفْسِيرِ وَلَا مُنَافَاةَ ؛ لِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيمَا عَلِمُوهُ وَسَكَتُوا عَمَّا جَهِلُوهُ وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّهُ كَمَا يَجِبُ السُّكُوتُ عَمَّا

لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ الْقَوْلُ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ مِمَّا يَعْلَمُهُ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } وَلِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ : " { مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامِ مِنْ نَارٍ } " . وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : وَجْهٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابِهِ الَّذِي هُوَ الْهُدَى وَالشِّفَاءُ وَالنُّورُ وَجَعَلَهُ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وَأَحْسَنُ الْقَصَصِ وَجَعَلَهُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ لِأَهْلِ الْعَقْلِ وَالتَّدَبُّرِ وَلِأَهْلِ التِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ وَلِأَهْلِ الِاسْتِمَاعِ وَالْحَالِ : فَالْمُعْتَصِمُونَ بِهِ عِلْمًا وَحَالًا وَتِلَاوَةً وَسَمْعًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا هُمْ الْمُسْلِمُونَ حَقًّا خَاصَّةً أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَمَّا انْحَرَفَ مَنْ انْحَرَفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحُرُوفِ إلَى كَلَامٍ غَيْرِهِ وَمِنْ أَهْلِ السَّمَاعِ وَالصَّوْتِ إلَى سَمَاعِ غَيْرِهِ كَانَ الِانْحِرَافُ فِي أَرْبَعِ طَوَائِفَ مُتَجَانِسَةٍ :
قَوْمٌ تَرَكُوا التَّعَلُّمَ مِنْهُ وَالنَّظَرَ فِيهِ وَالتَّدَبُّرَ لَهُ إلَى كَلَامٍ غَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ الصَّابِئَةِ أَوْ الْيَهُودِ أَوْ مَا هُوَ مُوَلَّدٌ مِنْ ذَلِكَ أَوْ مُجَانِسٌ لَهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ . وَهُمْ مُنْحَرِفَةُ الْمُتَكَلِّمَةِ .
وَبِإِزَائِهِمْ قَوْمٌ أَقَامُوا حُرُوفَهُ وَحَفِظُوهُ وَتَلَوْهُ مِنْ غَيْرِ فِقْهٍ فِيهِ وَلَا

فَهْمٍ لِمَعَانِيهِ وَلَا مَعْرِفَةٍ لِلْمَقَالَاتِ الَّتِي تُوَافِقُهُ أَوْ تُخَالِفُهُ وَوَجْهِ بَيَانِهِ لِمَسَائِلِهَا وَدَلَائِلِهَا وَهُمْ ظَاهِرِيَّةُ الْقُرَّاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَنَحْوِهِمْ وَهَذَانِ الصِّنْفَانِ نَظِيرُ مُتَفَقِّهٍ لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ أَوْ صَاحِبِ حَدِيثٍ لَا يَتَفَقَّهُ فِيهِ . وَكَذَلِكَ مُتَكَلِّمٌ لَا يَتَدَبَّرُ الْقُرْآنَ أَوْ قَارِئٌ لَا يَعْرِفُ مِنْ الْقُرْآنِ أَنْوَاعَ الْكَلَامِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَهَاتَانِ فِرْقَتَانِ عِلْمِيَّتَانِ . و " الثَّالِثَةُ " قَوْمٌ تَرَكُوا اسْتِمَاعَ الْقُلُوبِ لَهُ وَالتَّنَعُّمَ بِهِ وَتَحَرُّكَ الْقَلْبِ عَنْ مُحَرِّكَاتِهِ وَذَوْقَ حَلَاوَتِهِ وَوُجُودَ طَعْمِهِ إلَى سَمَاعِ أَصْوَاتٍ غَيْرِهِ مِنْ شِعْرٍ أَوْ مَلَاهِي مِنْ أَصْوَاتِ الصَّابِئَةِ أَوْ النَّصَارَى أَوْ مَا هُوَ مُوَلَّدٌ عَنْ ذَلِكَ وَمُجَانِسٌ لَهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ وَهُمْ مُنْحَرِفَةُ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ . وَبِإِزَائِهِمْ قَوْمٌ يُصَوِّتُونَ بِهِ وَيَسْمَعُونَ قِرَاءَتَهُ مِنْ غَيْرِ تَحَرُّكٍ عَنْهُ وَلَا وَجْدٍ فِيهِ وَلَا ذَوْقٍ لِحَقَائِقِهِ وَمَعَانِيهِ وَهُمْ ظَاهِرِيَّةُ الْعُبَّادِ وَالْمُتَطَوِّعَةُ وَالْمُتَقَرِّئَةُ . فَهَذَانِ الصِّنْفَانِ صَاحِبُ حَالٍ تُحَرِّكُ الْأَصْوَاتُ حَالَهُ وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْحَرَكَةُ وَالْحَالُ عَنْ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ وَصَاحِبُ مَقَالٍ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَقْوَالِ وَيَنْظُرُ فِيهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ النَّظَرُ وَالْمَقَالُ عَنْ الْقُرْآنِ وَبِإِزَائِهِمَا صَاحِبُ عِبَادَةٍ ظَاهِرَةٍ مَعَهُ اسْتِمَاعُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتُهُ وَصَاحِبُ عِلْمٍ ظَاهِرٍ مَعَهُ حِفْظُ حُرُوفِ الْقُرْآنِ أَوْ تَفْسِيرُ حُرُوفِهِ مِنْ غَرِيبِهِ وَإِعْرَابِهِ وَأَسْبَابِ نُزُولِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ وَقَفُوا مَعَ ظَاهِرِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْمَشْرُوعَيْنِ وَاَلَّذِينَ خَاضُوا فِي بَاطِنِ الْعِلْمِ

وَالْعَمَلِ ؛ لَكِنَّ غَيْرَ الْمَشْرُوعَيْنِ جَاءَ التَّفْرِيطُ وَالِاعْتِدَاءُ مِنْهُمْ . وَلِهَذَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ التَّعَادِي فَالْأَوَّلُونَ يَرْمُونَ الْآخَرِينَ بِالْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ وَقَدْ صَدَقُوا . وَالْآخَرُونَ يَنْسُبُونَ الْأَوَّلِينَ إلَى الْجَهَالَةِ وَالْعَجْزِ وَقَدْ صَدَقُوا . ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مَعَ بَعْضِ الْأَوَّلِينَ كَثِيرٌ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْمَشْرُوعِ كَمَا قَدْ يَكُونُ مَعَ بَعْضِ الْآخَرِينَ كَثِيرٌ مِنْ الْعِلْمِ الْبَاطِنِ وَالْحَالِ الْكَامِنِ كَمَا قَدْ رَوَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { الْعِلْمُ عِلْمَانِ : عِلْمٌ فِي الْقَلْبِ وَعِلْمٌ فِي اللِّسَانِ . فَعِلْمُ الْقَلْبِ هُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَعِلْمُ اللِّسَانِ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ } " وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ التيمي أَبُو حَيَّانَ فِيمَا رَوَاهُ الْخَلَّالُ فِي جَامِعِهِ عَنْ الثَّوْرِيِّ : " الْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ : فَعَالِمٌ بِاَللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِأَمْرِ اللَّهِ وَعَالِمٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِاَللَّهِ وَعَالِمٌ بِاَللَّهِ وَبِأَمْرِ اللَّهِ " .

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا سُؤَالُهُ عَنْ : " إجْرَاءِ الْقُرْآنِ عَلَى ظَاهِرِهِ " فَإِنَّهُ إذَا آمَنَ بِمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَكْيِيفٍ فَقَدْ اتَّبَعَ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ . وَلَفْظُ " الظَّاهِرِ " فِي عُرْفِ الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ صَارَ فِيهِ اشْتِرَاكٌ فَإِنْ أَرَادَ بِإِجْرَائِهِ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ حَتَّى يُشَبِّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَهَذَا ضَالٌّ ؛ بَلْ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ . فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ . يَعْنِي أَنَّ مَوْعُودَ اللَّهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَالْخَمْرِ وَاللَّبَنِ تُخَالِفُ حَقَائِقُهُ حَقَائِقَ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فِي الدُّنْيَا ؛ فَاَللَّهُ تَعَالَى أَبْعَدُ عَنْ مُشَابَهَةِ مَخْلُوقَاتِهِ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الْعِبَادُ

لَيْسَتْ حَقِيقَتُهُ كَحَقِيقَةِ شَيْءٍ مِنْهَا . وَأَمَّا إنْ أَرَادَ بِإِجْرَائِهِ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي هُوَ الظَّاهِرُ فِي عُرْفِ سَلَفِ الْأُمَّةِ لَا يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَلَا يُلْحِدُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ بِمَا يُخَالِفُ تَفْسِيرَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ ؛ بَلْ يَجْرِي ذَلِكَ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ النُّصُوصُ وَتَطَابَقَ عَلَيْهِ دَلَائِلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ فَهَذَا مُصِيبٌ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْحَقُّ . وَهَذِهِ جُمْلَةٌ لَا يَسَعُ هَذَا الْمَوْضِعُ تَفْصِيلَهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ فَسَّرَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } " فَاخْتِلَافُ الْمُفَسِّرِينَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ إنْ كَانَ بِالرَّأْيِ فَكَيْفَ النَّجَاةُ ؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالرَّأْيِ فَكَيْفَ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ وَالْحَقُّ لَا يَكُونُ فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ أَفْتُونَا . ؟
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْوَاقِعَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " لَيْسَ فِيهِ تَضَادٌّ وَتَنَاقُضٌ ؛ بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا حَقًّا وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ أَوْ اخْتِلَافٌ فِي الصِّفَاتِ أَوْ الْعِبَارَاتِ وَعَامَّةُ الِاخْتِلَافِ الثَّابِتِ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إذَا ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ اسْمًا مِثْلَ قَوْلِهِ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } فَكُلٌّ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ يُعَبِّرُ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بِعِبَارَةِ يَدُلُّ بِهَا عَلَى بَعْضِ صِفَاتِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ بِمَنْزِلَةِ مَا يُسَمَّى اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَكِتَابُهُ بِأَسْمَاءِ كُلُّ اسْمٍ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ : { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } كِتَابُ اللَّهِ أَوْ اتِّبَاعُ كِتَابِ اللَّهِ

وَيَقُولُ الْآخَرُ : { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } هُوَ الْإِسْلَامُ أَوْ دِينُ الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ الْآخَرُ : { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } هُوَ السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ وَيَقُولُ الْآخَرُ : { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ أَوْ طَرِيقُ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالْحُبِّ وَامْتِثَالِ الْمَأْمُورِ وَاجْتِنَابِ الْمَحْظُورِ أَوْ مُتَابَعَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ الْعَمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ أَوْ نَحْوُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالْعِبَارَاتِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسَمَّى هُوَ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ صِفَاتُهُ وَتَعَدَّدَتْ أَسْمَاؤُهُ وَعِبَارَاتُهُ كَمَا إذَا قِيلَ : مُحَمَّدٌ هُوَ أَحْمَد وَهُوَ الْحَاشِرُ وَهُوَ الْمَاحِي وَهُوَ الْعَاقِبُ وَهُوَ خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ وَهُوَ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَهُوَ نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : الْقُرْآنُ هُوَ الْفُرْقَانُ وَالنُّورُ وَالشِّفَاءُ وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَالْكِتَابُ الَّذِي أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ . وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ اللَّهِ الْحُسْنَى { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وَهُوَ { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } { وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } { فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى } { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ } { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ }

وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ صَمَدٌ وَأَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى تَدُلُّ كُلُّهَا عَلَى ذَاتِهِ وَيَدُلُّ هَذَا مِنْ صِفَاتِهِ عَلَى مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْآخَرُ فَهِيَ مُتَّفِقَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الذَّاتِ مُتَنَوِّعَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصِّفَاتِ ؛ فَالِاسْمُ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالصِّفَةِ الْمُعَيَّنَةِ بِالْمُطَابَقَةِ وَيَدُلُّ عَلَى أَحَدِهِمَا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ وَكُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا بِالِالْتِزَامِ ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ الْمُتَكَنَّى بِهِ جَمِيعُ الصِّفَاتِ فَكَثِيرٌ مِنْ التَّفْسِيرِ وَالتَّرْجَمَةِ تَكُونُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَمِنْهُ " قِسْمٌ آخَرُ " وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ الْمُفَسِّرُ وَالْمُتَرْجِمُ مَعْنَى اللَّفْظِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ وَالتَّمْثِيلِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَدِّ وَالْحَصْرِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مِنْ الْعَجَمِ : مَا مَعْنَى الْخُبْزِ ؟ فَيُشَارُ لَهُ إلَى رَغِيفٍ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مُجَرَّدَ عَيْنِهِ وَإِنَّمَا الْإِشَارَةُ إلَى تَعْيِينِ هَذَا الشَّخْصِ . وَهَذَا كَمَا إذَا سُئِلُوا عَنْ قَوْلِهِ : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } أَوْ عَنْ قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } أَوْ عَنْ الصَّالِحِينَ أَوْ الظَّالِمِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ الْجَامِعَةِ الَّتِي قَدْ يَتَعَسَّرُ أَوْ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمُسْتَمِعِ أَوْ الْمُتَكَلِّمِ ضَبْطُ مَجْمُوعِ مَعْنَاهُ ؛ إذْ لَا يَكُونُ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ فَيَذْكُرُ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِهِ وَأَشْخَاصِهِ مَا يَحْصُلُ بِهِ غَرَضُهُ وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى نَظَائِرِهِ . فَإِنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ : هُوَ تَارِكُ الْمَأْمُورِ فَاعِلُ الْمَحْظُورِ و " الْمُقْتَصِدُ "

هُوَ فَاعِلُ الْوَاجِبِ وَتَارِكُ الْمُحَرَّمِ و " السَّابِقُ " هُوَ فَاعِلُ الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ وَتَارِكُ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ . فَيَقُولُ الْمُجِيبُ بِحَسَبِ حَاجَةِ السَّائِلِ : " الظَّالِمُ " الَّذِي يُفَوِّتُ الصَّلَاةَ وَاَلَّذِي لَا يُسْبِغُ الْوُضُوءَ أَوْ الَّذِي لَا يُتِمُّ الْأَرْكَانَ وَنَحْوُ ذَلِكَ و " الْمُقْتَصِدُ " الَّذِي يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ كَمَا أُمِرَ و " السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ " الَّذِي يُصَلِّي الصَّلَاةَ بِوَاجِبَاتِهَا ومستحباتها وَيَأْتِي بِالنَّوَافِلِ الْمُسْتَحَبَّةِ مَعَهَا وَكَذَلِكَ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا فِي الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ فَمَنْ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ . وَالصَّحَابَةُ أَخَذُوا عَنْ الرَّسُولِ لَفْظَ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ كَمَا أَخَذُوا عَنْهُ السُّنَّةَ وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ غَيَّرَ السُّنَّةَ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ غَيَّرَ بَعْضَ مَعَانِي الْقُرْآنِ ؛ إذْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَغْيِيرِ لَفْظِهِ . و " أَيْضًا " : فَقَدْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ بَعْضُ مَعَانِي الْقُرْآنِ كَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ السُّنَّةِ ؛ فَيَقَعُ خَطَأُ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ جُنْدِيٍّ نَسَخَ بِيَدِهِ صَحِيحَ مُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ وَالْقُرْآنَ وَهُوَ نَاوٍ كِتَابَةَ الْحَدِيثِ وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ . وَإِنْ سَمِعَ بِوَرَقِ أَوْ أَقْلَامٍ اشْتَرَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَ : أَنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ أَكْتُبُ فِي جَمِيعِ هَذَا الْوَرَقِ أَحَادِيثَ الرَّسُولِ وَالْقُرْآنِ وَيُؤَمِّلُ آمَالًا بَعِيدَةً فَهَلْ يَأْثَمُ أَوْ لَا ؟ وَأَيُّ التَّفَاسِيرِ أَقْرَبُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؟ الزمخشري ؟ أَمْ الْقُرْطُبِيُّ ؟ أَمْ البغوي ؟ أَوْ غَيْرُ هَؤُلَاءِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ عَلَيْهِ إثْمٌ فِيمَا يَنْوِيهِ وَيَفْعَلُهُ مِنْ كِتَابَةِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّ كِتَابَةَ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالتَّفَاسِيرِ الْمَوْجُودَةِ الثَّابِتَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ وَالطَّاعَاتِ . وَأَمَّا " التَّفَاسِيرُ " الَّتِي فِي أَيْدِي النَّاسِ فَأَصَحُّهَا " تَفْسِيرُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري " فَإِنَّهُ يَذْكُرُ مَقَالَاتِ السَّلَفِ بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ وَلَيْسَ فِيهِ بِدْعَةٌ وَلَا يَنْقُلُ عَنْ الْمُتَّهَمِينَ كَمُقَاتِلِ بْنِ بَكِيرٍ وَالْكَلْبِيِّ وَالتَّفَاسِيرُ غَيْرُ الْمَأْثُورَةِ بِالْأَسَانِيدِ كَثِيرَةٌ كَتَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَعَبْدِ بْنِ حميد وَوَكِيعٍ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه .

وَأَمَّا " التَّفَاسِيرُ الثَّلَاثَةُ " الْمَسْئُولُ عَنْهَا فَأَسْلَمُهَا مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ " البغوي " لَكِنَّهُ مُخْتَصَرٌ مِنْ " تَفْسِيرِ الثَّعْلَبِيِّ " وَحَذَفَ مِنْهُ الْأَحَادِيثَ الْمَوْضُوعَةَ وَالْبِدَعَ الَّتِي فِيهِ وَحَذَفَ أَشْيَاءَ غَيْرَ ذَلِكَ . وَأَمَّا " الْوَاحِدِيُّ " فَإِنَّهُ تِلْمِيذُ الثَّعْلَبِيِّ وَهُوَ أَخْبَرُ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ ؛ لَكِنَّ الثَّعْلَبِيَّ فِيهِ سَلَامَةٌ مِنْ الْبِدَعِ وَإِنْ ذِكْرَهَا تَقْلِيدًا لِغَيْرِهِ . وَتَفْسِيرُهُ و " تَفْسِيرُ الْوَاحِدِيِّ الْبَسِيطُ وَالْوَسِيطُ وَالْوَجِيزُ " فِيهَا فَوَائِدُ جَلِيلَةٌ وَفِيهَا غَثٌّ كَثِيرٌ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ الْبَاطِلَةِ وَغَيْرِهَا . وَأَمَّا " الزمخشري " فَتَفْسِيرُهُ مَحْشُوٌّ بِالْبِدْعَةِ وَعَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ إنْكَارِ الصِّفَاتِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَأَنْكَرَ أَنَّ اللَّهَ مُرِيدٌ لِلْكَائِنَاتِ وَخَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ . و " أُصُولُهُمْ خَمْسَةٌ " يُسَمُّونَهَا التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ وَالْمَنْزِلَةَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَإِنْفَاذَ الْوَعِيدِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ . لَكِنَّ مَعْنَى " التَّوْحِيدِ " عِنْدَهُمْ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الصِّفَاتِ ؛ وَلِهَذَا سَمَّى ابْنُ التومرت أَصْحَابَهُ الْمُوَحِّدِينَ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ إلْحَادٌ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ .

وَمَعْنَى " الْعَدْلِ " عِنْدَهُمْ يَتَضَمَّنُ التَّكْذِيبَ بِالْقَدَرِ وَهُوَ خَلْقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَإِرَادَةُ الْكَائِنَاتِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى شَيْءٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ تَقَدُّمَ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ ؛ لَكِنَّ هَذَا قَوْلُ أَئِمَّتِهِمْ ؛ وَهَؤُلَاءِ مُنْصَبُّ الزمخشري فَإِنَّ مَذْهَبَهُ مَذْهَبُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَأَتْبَاعِهِمْ . وَمَذْهَبُ أَبِي الْحُسَيْنِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ عَلَى طَرِيقَتِهِ نَوْعَانِ : مسايخية وَخَشَبِيَّةٌ . وَأَمَّا " الْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ " فَهِيَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ كَمَا لَا يُسَمَّى كَافِرًا فَنَزَّلُوهُ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ . و " إنْفَاذُ الْوَعِيدِ " عِنْدَهُمْ مَعْنَاهُ أَنَّ فُسَّاقَ الْمِلَّةِ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ . و " الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ " يَتَضَمَّنُ عِنْدَهُمْ جَوَازَ الْخُرُوجِ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَقِتَالِهِمْ بِالسَّيْفِ . وَهَذِهِ الْأُصُولُ حَشَا بِهَا كِتَابَهُ بِعِبَارَةِ لَا يَهْتَدِي أَكْثَرُ النَّاسِ إلَيْهَا وَلَا لِمَقَاصِدِهِ فِيهَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ وَمِنْ قِلَّةِ النَّقْلِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . و " تَفْسِيرُ الْقُرْطُبِيِّ " خَيْرٌ مِنْهُ بِكَثِيرِ وَأَقْرَبُ إلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَبْعَدُ مِنْ الْبِدَعِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَا يُنْقَدُ ؛ لَكِنْ يَجِبُ الْعَدْلُ بَيْنَهَا

وَإِعْطَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ . و " تَفْسِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ " خَيْرٌ مِنْ تَفْسِيرِ الزمخشري وَأَصَحُّ نَقْلًا وَبَحْثًا وَأَبْعَدُ عَنْ الْبِدَعِ وَإِنْ اشْتَمَلَ عَلَى بَعْضِهَا ؛ بَلْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ بِكَثِيرِ ؛ بَلْ لَعَلَّهُ أَرْجَحُ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ ؛ لَكِنَّ تَفْسِيرَ ابْنِ جَرِيرٍ أَصَحُّ مِنْ هَذِهِ كُلِّهَا . وَثَمَّ تَفَاسِيرُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ جِدًّا كَتَفْسِيرِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ والماوردي .

وَسُئِلَ :
عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ } " مَا الْمُرَادُ بِهَذِهِ السَّبْعَةِ ؟ وَهَلْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ الْمَنْسُوبَةُ إلَى نَافِعٍ وَعَاصِمٍ وَغَيْرِهِمَا هِيَ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ أَوْ وَاحِدٌ مِنْهَا ؟ وَمَا السَّبَبُ الَّذِي أَوْجَبَ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْقُرَّاءِ فِيمَا احْتَمَلَهُ خَطُّ الْمُصْحَفِ ؟ وَهَلْ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ وَابْنِ محيصن وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا جَازَتْ الْقِرَاءَةُ بِهَا فَهَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِهَا أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذِهِ " مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ " قَدْ تَكَلَّمَ فِيهَا أَصْنَافُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْكَلَامِ وَشَرْحِ الْغَرِيبِ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى صُنِّفَ فِيهَا التَّصْنِيفُ الْمُفْرَدُ وَمِنْ آخِرِ مَا أُفْرِدَ فِي ذَلِكَ مَا صَنَّفَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الشَّافِعِيُّ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي شَامَةَ صَاحِبُ " شَرْحِ الشاطبية " .

فَأَمَّا ذِكْرُ أَقَاوِيلِ النَّاسِ وَأَدِلَّتِهِمْ وَتَقْرِيرُ الْحَقِّ فِيهَا مَبْسُوطًا فَيَحْتَاجُ مِنْ ذِكْرِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَذِكْرِ أَلْفَاظِهَا وَسَائِرِ الْأَدِلَّةِ إلَى مَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَكَانُ وَلَا يَلِيقُ بِمِثْلِ هَذَا الْجَوَابِ ؛ وَلَكِنْ نَذْكُرُ النُّكَتَ الْجَامِعَةَ الَّتِي تُنَبِّهُ عَلَى الْمَقْصُودِ بِالْجَوَابِ . فَنَقُولُ : لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ أَنَّ " الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ " الَّتِي ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَيْهَا لَيْسَتْ هِيَ " قِرَاءَاتِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورَةَ " بَلْ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ قِرَاءَاتِ هَؤُلَاءِ هُوَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ وَكَانَ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ بِبَغْدَادَ فَإِنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَجْمَعَ الْمَشْهُورَ مِنْ قِرَاءَاتِ الْحَرَمَيْنِ وَالْعِرَاقَيْنِ وَالشَّامِ ؛ إذْ هَذِهِ الْأَمْصَارُ الْخَمْسَةُ هِيَ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا عِلْمُ النُّبُوَّةِ مِنْ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ فَلَمَّا أَرَادَ ذَلِكَ جَمَعَ قِرَاءَاتِ سَبْعَةِ مَشَاهِيرَ مِنْ أَئِمَّةِ قُرَّاءِ هَذِهِ الْأَمْصَارِ ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِعَدَدِ الْحُرُوفِ الَّتِي أُنْزِلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ لَا لِاعْتِقَادِهِ أَوْ اعْتِقَادِ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةَ هِيَ الْحُرُوفُ السَّبْعَةُ أَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ الْمُعَيَّنِينَ هُمْ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِغَيْرِ قِرَاءَتِهِمْ . وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ : لَوْلَا أَنَّ ابْنَ مُجَاهِدٍ سَبَقَنِي إلَى حَمْزَةَ لَجَعَلْت مَكَانَهُ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيَّ إمَامَ جَامِعِ الْبَصْرَةِ وَإِمَامَ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ فِي زَمَانِهِ فِي رَأْسِ الْمِائَتَيْنِ .

وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْحُرُوفَ السَّبْعَةَ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا لَا تَتَضَمَّنُ تَنَاقُضَ الْمَعْنَى وَتَضَادَّهُ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ مَعْنَاهَا مُتَّفِقًا أَوْ مُتَقَارِبًا كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : إنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ أَقْبِلْ وَهَلُمَّ وَتَعَالَ . وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَى أَحَدِهِمَا لَيْسَ هُوَ مَعْنَى الْآخَرِ ؛ لَكِنْ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ حَقٌّ وَهَذَا اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ وَتَغَايُرٍ لَا اخْتِلَافُ تَضَادٍّ وَتَنَاقُضٍ وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا حَدِيثِ : { أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ إنْ قُلْت : غَفُورًا رَحِيمًا أَوْ قُلْت : عَزِيزًا حَكِيمًا فَاَللَّهُ كَذَلِكَ مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِآيَةِ عَذَابٍ أَوْ آيَةَ عَذَابٍ بِآيَةِ رَحْمَةٍ } " . وَهَذَا كَمَا فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ ( رَبَّنَا بَاعَدْ ) ( وَبَاعِدْ ) ، { إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا } . و ( إلَّا أَنْ يُخَافَا أَلَّا يُقِيمَا ) ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ ) . ( وَلِيَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) و ( بَلْ عَجِبْتَ ) . ( وَبَلْ عَجِبْتُ ) وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَمِنْ الْقِرَاءَاتِ مَا يَكُونُ الْمَعْنَى فِيهَا مُتَّفِقًا مِنْ وَجْهٍ مُتَبَايِنًا مِنْ وَجْهٍ كَقَوْلِهِ : ( يَخْدَعُونَ وَيُخَادِعُونَ ( وَيَكْذِبُونَ وَيُكَذِّبُونَ ( وَلَمَسْتُمْ وَلَامَسْتُمْ ) و ( حَتَّى يَطْهُرْنَ ) ( وَيَطَّهَّرْنَ ) وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ الَّتِي يَتَغَايَرُ فِيهَا الْمَعْنَى كُلُّهَا حَقٌّ وَكُلُّ قِرَاءَةٍ مِنْهَا مَعَ الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ مَعَ الْآيَةِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا كُلِّهَا وَاتِّبَاعُ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْمَعْنَى عِلْمًا وَعَمَلًا لَا يَجُوزُ تَرْكُ مُوجِبِ إحْدَاهُمَا لِأَجْلِ الْأُخْرَى ظَنًّا أَنَّ ذَلِكَ

تَعَارُضٌ بَلْ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ كَفَرَ بِحَرْفِ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلِّهِ . وَأَمَّا مَا اتَّحَدَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ وَإِنَّمَا يَتَنَوَّعُ صِفَةُ النُّطْقِ بِهِ كَالْهَمَزَاتِ وَالْمَدَّاتِ وَالْإِمَالَاتِ وَنَقْلِ الْحَرَكَاتِ وَالْإِظْهَارِ وَالْإِدْغَامِ وَالِاخْتِلَاسِ وَتَرْقِيقِ اللَّامَاتِ وَالرَّاءَاتِ : أَوْ تَغْلِيظِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُسَمَّى الْقِرَاءَاتِ الْأُصُولَ فَهَذَا أَظْهَرُ وَأَبْيَنُ فِي أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَنَاقُضٌ وَلَا تَضَادٌّ مِمَّا تَنَوَّعَ فِيهِ اللَّفْظُ أَوْ الْمَعْنَى ؛ إذْ هَذِهِ الصِّفَاتُ الْمُتَنَوِّعَةُ فِي أَدَاءِ اللَّفْظِ لَا تُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَفْظًا وَاحِدًا وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ فِيمَا اخْتَلَفَ لَفْظُهُ وَاتَّحَدَ مَعْنَاهُ أَوْ اخْتَلَفَ مَعْنَاهُ مِنْ الْمُتَرَادِفِ وَنَحْوِهِ وَلِهَذَا كَانَ دُخُولُ هَذَا فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا مِنْ أَوْلَى مَا يَتَنَوَّعُ فِيهِ اللَّفْظُ أَوْ الْمَعْنَى وَإِنْ وَافَقَ رَسْمَ الْمُصْحَفِ وَهُوَ مَا يَخْتَلِفُ فِيهِ النَّقْطُ أَوْ الشَّكْلُ . وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَنَازَعْ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ الْمَتْبُوعِينَ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَقْرَأَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الْمُعَيَّنَةِ فِي جَمِيعِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ شَيْخِ حَمْزَةَ أَوْ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحَاقَ الْحَضْرَمِيِّ وَنَحْوِهِمَا كَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ فَلَهُ أَنْ يَقْرَأَ

بِهَا بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ الْمَعْدُودِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ ؛ بَلْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا قِرَاءَةَ حَمْزَةَ كَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَغَيْرِهِمْ يَخْتَارُونَ قِرَاءَةَ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْقَعْقَاعِ وَشَيْبَةَ بْنِ نِصَاحٍ الْمَدَنِيَّيْنِ وَقِرَاءَةَ الْبَصْرِيِّينَ كَشُيُوخِ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى قُرَّاءِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ . وَلِلْعُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ ثَبَتَتْ عِنْدَهُمْ قِرَاءَاتُ الْعَشَرَةِ أَوْ الْأَحَدَ عَشَرَ كَثُبُوتِ هَذِهِ السَّبْعَةِ يَجْمَعُونَ ذَلِكَ فِي الْكُتُبِ وَيَقْرَءُونَهُ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ . وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَمَنْ نَقَلَ مِنْ كَلَامِهِ مِنْ الْإِنْكَارِ عَلَى ابْنِ شنبوذ الَّذِي كَانَ يَقْرَأُ بِالشَّوَاذِّ فِي الصَّلَاةِ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ وَجَرَتْ لَهُ قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْمُصْحَفِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ . وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ قِرَاءَةَ الْعَشَرَةِ وَلَكِنْ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا أَوْ لَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ كَمَنْ يَكُونُ فِي بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِالْمَغْرِبِ أَوْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ بَعْضُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ فَإِنَّ

الْقِرَاءَةَ كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ سُنَّةٌ يَأْخُذُهَا الْآخِرُ عَنْ الْأَوَّلِ كَمَا أَنَّ مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِفْتَاحَاتِ فِي الصَّلَاةِ وَمِنْ أَنْوَاعِ صِفَةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَصِفَةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلُّهُ حَسَنٌ يُشْرَعُ الْعَمَلُ بِهِ لِمَنْ عَلِمَهُ وَأَمَّا مَنْ عَلِمَ نَوْعًا وَلَمْ يَعْلَمْ غَيْرَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَمَّا عَلِمَهُ إلَى مَا لَمْ يَعْلَمْهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى مَنْ عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَنْ يُخَالِفَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا } " .
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ الْخَارِجَةُ عَنْ رَسْمِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ مِثْلَ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ( وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إذَا تَجَلَّى وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ) كَمَا قَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَمِثْلَ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ ( فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ ) وَكَقِرَاءَتِهِ : ( إنْ كَانَتْ إلَّا زَقْيَة وَاحِدَةً ) وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ إذَا ثَبَتَتْ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ مَشْهُورَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَرِوَايَتَانِ عَنْ مَالِكٍ . " إحْدَاهُمَا " يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يَقْرَءُونَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ فِي الصَّلَاةِ . " وَالثَّانِيَةُ " لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ

الْقِرَاءَاتِ لَمْ تَثْبُتْ مُتَوَاتِرَةً عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ ثَبَتَتْ فَإِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بالعرضة الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ { عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُعَارِضُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عَارَضَهُ بِهِ مَرَّتَيْنِ والعرضة الْآخِرَةُ هِيَ قِرَاءَةُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِ } وَهِيَ الَّتِي أَمَرَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ بِكِتَابَتِهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَكَتَبَهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ فِي صُحُفٍ أُمِرَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بِكِتَابَتِهَا ثُمَّ أَمَرَ عُثْمَانُ فِي خِلَافَتِهِ بِكِتَابَتِهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَإِرْسَالِهَا إلَى الْأَمْصَارِ وَجَمْعِ النَّاسِ عَلَيْهَا بِاتِّفَاقِ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ . وَهَذَا النِّزَاعُ لَا بُدَّ أَنْ يُبْنَى عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي سَأَلَ عَنْهُ السَّائِلُ وَهُوَ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةَ هَلْ هِيَ حَرْفٌ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ أَمْ لَا ؟ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّهَا حَرْفٌ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ ؛ بَلْ يَقُولُونَ : إنَّ مُصْحَفَ عُثْمَانَ هُوَ أَحَدُ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ للعرضة الْآخِرَةِ الَّتِي عَرَضَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِبْرِيلَ وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ الْمَشْهُورَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ . وَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ إلَى أَنَّ هَذَا الْمُصْحَفَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ وَقَرَّرَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ

كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَانِي وَغَيْرِهِ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تُهْمِلَ نَقْلَ شَيْءٍ مِنْ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى نَقْلِ هَذَا الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ الْعُثْمَانِيِّ وَتَرْكِ مَا سِوَاهُ حَيْثُ أَمَرَ عُثْمَانُ بِنَقْلِ الْقُرْآنِ مِنْ الصُّحُفِ الَّتِي كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَتَبَا الْقُرْآنَ فِيهَا ثُمَّ أَرْسَلَ عُثْمَانُ بِمُشَاوَرَةِ الصَّحَابَةِ إلَى كُلِّ مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ بِمُصْحَفِ وَأَمَرَ بِتَرْكِ مَا سِوَى ذَلِكَ . قَالَ هَؤُلَاءِ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنْ الْقِرَاءَةِ بِبَعْضِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ . وَمَنْ نَصَرَ قَوْلَ الْأَوَّلِينَ يُجِيبُ تَارَةً بِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَى الْأُمَّةِ وَإِنَّمَا كَانَ جَائِزًا لَهُمْ مُرَخَّصًا لَهُمْ فِيهِ وَقَدْ جُعِلَ إلَيْهِمْ الِاخْتِيَارُ فِي أَيِّ حَرْفٍ اخْتَارُوهُ كَمَا أَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ مَنْصُوصًا ؛ بَلْ مُفَوَّضًا إلَى اجْتِهَادِهِمْ ؛ وَلِهَذَا كَانَ تَرْتِيبُ مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبِ مُصْحَفِ زَيْدٍ وَكَذَلِكَ مُصْحَفُ غَيْرِهِ .
وَأَمَّا تَرْتِيبُ آيَاتِ السُّوَرِ فَهُوَ مُنَزَّلٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُقَدِّمُوا آيَةً عَلَى آيَةٍ فِي الرَّسْمِ كَمَا قَدَّمُوا سُورَةً عَلَى سُورَةٍ لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْآيَاتِ مَأْمُورٌ بِهِ نَصًّا وَأَمَّا تَرْتِيبُ السُّوَرِ فَمُفَوَّضٌ إلَى اجْتِهَادِهِمْ . قَالُوا : فَكَذَلِكَ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ فَلَمَّا رَأَى الصَّحَابَةُ أَنَّ الْأُمَّةَ تَفْتَرِقُ وَتَخْتَلِفُ وَتَتَقَاتَلُ إذَا لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ اجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ

اجْتِمَاعًا سَائِغًا وَهُمْ مَعْصُومُونَ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلَالَةٍ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَرْكٌ لِوَاجِبِ وَلَا فِعْلٌ لِمَحْظُورِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ التَّرْخِيصَ فِي الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ؛ لِمَا فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا فَلَمَّا تَذَلَّلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ وَكَانَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ يَسِيرًا عَلَيْهِمْ وَهُوَ أَرْفَقُ بِهِمْ أَجْمَعُوا عَلَى الْحَرْفِ الَّذِي كَانَ فِي العرضة الْآخِرَةِ . وَيَقُولُونَ : إنَّهُ نُسِخَ مَا سِوَى ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ يُوَافِقُ قَوْلُهُمْ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ حُرُوفَ أبي بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُخَالِفُ رَسْمَ هَذَا الْمُصْحَفِ مَنْسُوخَةٌ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِالْمَعْنَى فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا قَالَ : قَدْ نَظَرْت إلَى الْقُرَّاءِ فَرَأَيْت قِرَاءَتَهُمْ مُتَقَارِبَةً وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ : أَقْبِلْ وَهَلُمَّ وَتَعَالَ فَاقْرَؤُوا كَمَا عَلِمْتُمْ أَوْ كَمَا قَالَ . ثُمَّ مَنْ جَوَّزَ الْقِرَاءَةَ بِمَا يَخْرُجُ عَنْ الْمُصْحَفِ مِمَّا ثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَةِ قَالَ يَجُوزُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْهُ فَلَهُ ثَلَاثَةُ مَآخِذَ : تَارَةً يَقُولُ لَيْسَ هُوَ مِنْ الْحُرُوفِ

السَّبْعَةِ وَتَارَةً يَقُولُ : هُوَ مِنْ الْحُرُوفِ الْمَنْسُوخَةِ وَتَارَةً يَقُولُ : هُوَ مِمَّا انْعَقَدَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَتَارَةً يَقُولُ : لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا نَقْلًا يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ الْقُرْآنُ . وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين . وَلِهَذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ " قَوْلٌ ثَالِثٌ " وَهُوَ اخْتِيَارُ جَدِّي أَبِي الْبَرَكَاتِ أَنَّهُ إنْ قَرَأَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فِي الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ - وَهِيَ الْفَاتِحَةُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا - لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ مِنْ الْقِرَاءَةِ لِعَدَمِ ثُبُوتِ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ وَإِنْ قَرَأَ بِهَا فِيمَا لَا يَجِبُ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّهُ أَتَى فِي الصَّلَاةِ بِمُبْطِلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ عَلَيْهَا . وَهَذَا الْقَوْلُ يَنْبَنِي عَلَى " أَصْلٍ " وَهُوَ أَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ فَهَلْ يَجِبُ الْقَطْعُ بِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْهَا ؟ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ إذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا أَوْجَبَ عَلَيْنَا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِهِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ قَطْعِيًّا . وَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ بِنَفْيِهِ حَتَّى قَطَعَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ - كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ - بِخَطَأِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ أَثْبَتَ الْبَسْمَلَةَ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ سُورَةِ النَّمْلِ لِزَعْمِهِمْ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِنَفْيِهِ وَالصَّوَابُ

الْقَطْعُ بِخَطَأِ هَؤُلَاءِ وَأَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ حَيْثُ كَتَبَهَا الصَّحَابَةُ فِي الْمُصْحَفِ إذْ لَمْ يَكْتُبُوا فِيهِ إلَّا الْقُرْآنَ وَجَرَّدُوهُ عَمَّا لَيْسَ مِنْهُ كَالتَّخْمِيسِ وَالتَّعْشِيرِ وَأَسْمَاءِ السُّوَرِ ؛ وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ هِيَ مِنْ السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا ؛ بَلْ هِيَ كَمَا كُتِبَتْ آيَةٌ أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ السُّورَةِ وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَسَوَاءٌ قِيلَ بِالْقَطْعِ فِي النَّفْيِ أَوْ الْإِثْبَاتِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهَا مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَا تَكْفِيرَ وَلَا تَفْسِيقَ فِيهَا لِلنَّافِي وَلَا لِلْمُثْبِتِ ؛ بَلْ قَدْ يُقَالُ مَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ وَإِنَّهَا آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الَّذِينَ يَفْصِلُونَ بِهَا بَيْنَ السُّورَتَيْنِ وَلَيْسَتْ آيَةً فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ ؛ وَهِيَ قِرَاءَةُ الَّذِينَ يَصِلُونَ وَلَا يَفْصِلُونَ بِهَا بَيْنَ السُّورَتَيْنِ .
وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : مَا السَّبَبُ الَّذِي أَوْجَبَ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْقُرَّاءِ فِيمَا احْتَمَلَهُ خَطُّ الْمُصْحَفِ ؟ فَهَذَا مَرْجِعُهُ إلَى النَّقْلِ وَاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لِتَسْوِيغِ الشَّارِعِ لَهُمْ الْقِرَاءَةَ بِذَلِكَ كُلِّهِ إذْ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَقْرَأَ قِرَاءَةً بِمُجَرَّدِ رَأْيِهِ ؛ بَلْ الْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ وَهُمْ إذَا اتَّفَقُوا عَلَى اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ الْمَكْتُوبِ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِيِّ وَقَدْ قَرَأَ بَعْضُهُمْ بِالْيَاءِ وَبَعْضُهُمْ بِالتَّاءِ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا خَارِجًا عَنْ الْمُصْحَفِ . وَمِمَّا

يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَتَّفِقُونَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَلَى يَاءٍ أَوْ تَاءٍ وَيَتَنَوَّعُونَ فِي بَعْضٍ كَمَا اتَّفَقُوا فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } فِي مَوْضِعٍ وَتَنَوَّعُوا فِي مَوْضِعَيْنِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالْآيَتَيْنِ فَزِيَادَةُ الْقِرَاءَاتِ كَزِيَادَةِ الْآيَاتِ ؛ لَكِنْ إذَا كَانَ الْخَطُّ وَاحِدًا وَاللَّفْظُ مُحْتَمَلًا كَانَ ذَلِكَ أَخْصَرَ فِي الرَّسْمِ . وَالِاعْتِمَادُ فِي نَقْلِ الْقُرْآنِ عَلَى حِفْظِ الْقُلُوبِ لَا عَلَى الْمَصَاحِفِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ رَبِّي قَالَ لِي أَنْ قُمْ فِي قُرَيْشٍ فَأَنْذِرْهُمْ . فَقُلْت : أَيْ رَبِّ إذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي - أَيْ يَشْدَخُوا - فَقَالَ : إنِّي مُبْتَلِيك وَمُبْتَلٍ بِك وَمُنْزِلٌ عَلَيْك كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا ويقظانا فَابْعَثْ جُنْدًا أَبْعَثْ مِثْلَيْهِمْ وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَك مَنْ عَصَاك وَأَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْك } " فَأَخْبَرَ أَنَّ كِتَابَهُ لَا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إلَى صَحِيفَةٍ تُغْسَلُ بِالْمَاءِ ؛ بَلْ يَقْرَؤُهُ فِي كُلِّ حَالٍ كَمَا جَاءَ فِي نَعْتِ أُمَّتِهِ : " أَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ " بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَا يَحْفَظُونَهُ إلَّا فِي الْكُتُبِ وَلَا يَقْرَءُونَهُ كُلَّهُ إلَّا نَظَرًا لَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ جَمَعَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ كَالْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ وَكَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمَنْسُوبَةَ إلَى

نَافِعٍ وَعَاصِمٍ لَيْسَتْ هِيَ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . وَكَذَلِكَ لَيْسَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعَةُ هِيَ مَجْمُوعَ حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ ؛ بَلْ الْقِرَاءَاتُ الثَّابِتَةُ عَنْ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ - كَالْأَعْمَشِ وَيَعْقُوبَ وَخَلَفٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ يَزِيدَ بْنِ الْقَعْقَاعِ وَشَيْبَةَ بْنِ نِصَاحٍ وَنَحْوِهِمْ - هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْقِرَاءَاتِ الثَّابِتَةِ عَنْ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ عِنْدَ مَنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ . وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهِ الْأَئِمَّةُ الْمَتْبُوعُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا تَنَازَعَ النَّاسُ مِنْ الْخَلَفِ فِي الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ الْإِمَامِ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَالْأُمَّةُ بَعْدَهُمْ هَلْ هُوَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ وَتَمَامِ الْعَشَرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ هَلْ هُوَ حَرْفٌ مِنْ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا ؟ أَوْ هُوَ مَجْمُوعُ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ . وَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ وَالثَّانِي قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْقُرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ لَا يُخَالِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا خِلَافًا يتضاد فِيهِ الْمَعْنَى وَيَتَنَاقَضُ ؛ بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَمَا تُصَدِّقُ الْآيَاتُ بَعْضُهَا بَعْضًا .

وَسَبَبُ تَنَوُّعِ الْقِرَاءَاتِ فِيمَا احْتَمَلَهُ خَطُّ الْمُصْحَفِ هُوَ تَجْوِيزُ الشَّارِعِ وَتَسْوِيغُهُ ذَلِكَ لَهُمْ ؛ إذْ مَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى السُّنَّةِ وَالِاتِّبَاعِ لَا إلَى الرَّأْيِ وَالِابْتِدَاعِ . أَمَّا إذَا قِيلَ : إنَّ ذَلِكَ هِيَ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ فَظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى إذَا قِيلَ : إنَّ ذَلِكَ حَرْفٌ مِنْ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ قَدْ سُوِّغَ لَهُمْ أَنْ يَقْرَءُوهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلُّهَا شَافٍ كَافٍ مَعَ تَنَوُّعِ الْأَحْرُفِ فِي الرَّسْمِ ؛ فَلَأَنْ يُسَوَّغَ ذَلِكَ مَعَ اتِّفَاقِ ذَلِكَ فِي الرَّسْمِ وَتَنَوُّعِهِ فِي اللَّفْظِ أَوْلَى وَأَحْرَى وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ تَرْكِهِمْ الْمَصَاحِفَ أَوَّلَ مَا كُتِبَتْ غَيْرَ مَشْكُولَةٍ وَلَا مَنْقُوطَةٍ ؛ لِتَكُونَ صُورَةُ الرَّسْمِ مُحْتَمِلَةً لِلْأَمْرَيْنِ كَالتَّاءِ وَالْيَاءِ وَالْفَتْحِ وَالضَّمِّ وَهُمْ يَضْبِطُونَ بِاللَّفْظِ كِلَا الْأَمْرَيْنِ وَيَكُونُ دَلَالَةُ الْخَطِّ الْوَاحِدِ عَلَى كِلَا اللَّفْظَيْنِ الْمَنْقُولَيْنِ الْمَسْمُوعَيْنِ الْمَتْلُوَّيْنِ شَبِيهًا بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ الْمَنْقُولَيْنِ الْمَعْقُولَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ ؛ فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَقَّوْا عَنْهُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِتَبْلِيغِهِ إلَيْهِمْ مِنْ الْقُرْآنِ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ جَمِيعًا كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي - وَهُوَ الَّذِي رَوَى عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ } " كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَكَانَ يُقْرِئُ الْقُرْآنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً . قَالَ - حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا عُثْمَانُ بْنُ عفان وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا : أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى

يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ . قَالُوا : فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا . وَلِهَذَا دَخَلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : " { خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ } " تَعْلِيمُ حُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ جَمِيعًا ؛ بَلْ تَعَلُّمُ مَعَانِيهِ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ بِتَعْلِيمِ حُرُوفِهِ وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَزِيدُ الْإِيمَانَ كَمَا قَالَ جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمَا : تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا إيمَانًا وَأَنْتُمْ تَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ ثُمَّ تَتَعَلَّمُونَ الْإِيمَانَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ رَأَيْت أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ حَدَّثَنَا " { أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ } " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَلَا تَتَّسِعُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ لِذِكْرِ ذَلِكَ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا بَلَّغَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى النَّاسِ . وَبَلَّغَنَا أَصْحَابُهُ عَنْهُ الْإِيمَانَ وَالْقُرْآنَ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ وَذَلِكَ مِمَّا أَوْحَاهُ اللَّهُ إلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } وَتَجُوزُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا بِالْقِرَاءَاتِ الثَّابِتَةِ الْمُوَافَقَةِ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ كَمَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ وَلَيْسَتْ شَاذَّةً حِينَئِذٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ أَيْضًا :
عَنْ " جَمْعِ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ " هَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَمْ بِدْعَةٌ ؟ وَهَلْ جُمِعَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ لِجَامِعِهَا مَزِيَّةُ ثَوَابٍ عَلَى مَنْ قَرَأَ بِرِوَايَةِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا نَفْسُ مَعْرِفَةِ الْقِرَاءَةِ وَحِفْظِهَا فَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ يَأْخُذُهَا الْآخِرُ عَنْ الْأَوَّلِ فَمَعْرِفَةُ الْقِرَاءَةِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا أَوْ يُقِرُّهُمْ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِهَا أَوْ يَأْذَنُ لَهُمْ وَقَدْ أَقَرُّوا بِهَا سُنَّةٌ . وَالْعَارِفُ فِي الْقِرَاءَاتِ الْحَافِظُ لَهَا لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ وَلَا يَعْرِفْ إلَّا قِرَاءَةً وَاحِدَةً . وَأَمَّا جَمْعُهَا فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي التِّلَاوَةِ فَهُوَ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَأَمَّا جَمْعُهَا لِأَجْلِ الْحِفْظِ وَالدَّرْسِ فَهُوَ مِنْ الِاجْتِهَادِ الَّذِي فَعَلَهُ طَوَائِفُ فِي الْقِرَاءَةِ . وَأَمَّا الصَّحَابَةُ . . . (1) .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ :
فِي " تَحْزِيبِ الْقُرْآنِ " وَفِي " كَمْ يُقْرَأُ " وَفِي " مِقْدَارِ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ الْمَشْرُوعِ " .
عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : أَنْكَحَنِي أَبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ فَكَانَ يَتَعَاهَدُ ابْنَتَهُ فَيَسْأَلَهَا عَنْ بَعْلِهَا فَتَقُولَ : نِعْمَ الرَّجُلُ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُذْ أَتَيْنَاهُ فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : الْقَنِ بِهِ فَلَقِيته بَعْدُ فَقَالَ : كَيْفَ تَصُومُ ؟ قُلْت : كُلَّ يَوْمٍ . قَالَ : مَتَى - أَوْ كَيْفَ - تَخْتِمُ ؟ قُلْت : كُلَّ لَيْلَةٍ . قَالَ : صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَاقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ . قُلْت : إنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ : صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ جُمُعَةٍ . قُلْت : إنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ : أَفْطِرْ يَوْمَيْنِ وَصُمْ يَوْمًا قَالَ : قُلْت إنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ : صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُد صِيَامُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ وَاقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً . قَالَ : فَلَيْتَنِي قَبِلْت رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ أَنِّي كَبِرْت وَضَعُفْت } " فَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى

بَعْضِ أَهْلِهِ السَّبْعَ مِنْ الْقُرْآنِ بِالنَّهَارِ وَاَلَّذِي يَقْرَؤُهُ يَعْرِضُهُ مِنْ النَّهَارِ لِيَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ بِاللَّيْلِ ؛ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَقَوَّى أَفْطَرَ أَيَّامًا وَأَحْصَى وَصَامَ مِثْلَهُنَّ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا فَارَقَ عَلَيْهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : فِي ثَلَاثٍ وَفِي خَمْسٍ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى سَبْعٍ . وَفِي لَفْظٍ : " { اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي شَهْرٍ قُلْت : إنِّي أَجِدُ قُوَّةً . قَالَ : فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ } " رَوَاهُ بِكَمَالِهِ الْبُخَارِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ . وَرَوَى مُسْلِمٌ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ وَاللَّفْظُ الْآخَرُ مِثْلُهُ . وَفِي رِوَايَةٍ { أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّك تَصُومُ الدَّهْرَ وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ فَقُلْت : نَعَمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ . وَفِيهِ قَالَ : اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ قَالَ : قُلْت يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشْرٍ قَالَ : قُلْت يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ : فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ . قَالَ : فَشَدَّدْت فَشُدِّدَ عَلَيَّ وَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّك لَا تَدْرِي لَعَلَّك يَطُولُ بِك عُمْرُك قَالَ : فَصِرْت إلَى الَّذِي قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } " وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ } " رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد . قُلْت هَذِهِ الرِّوَايَةُ نَبَّهَ عَلَيْهَا الْبُخَارِيُّ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : فِي ثَلَاثٍ وَهُوَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ { سَعْدِ بْنِ الْمُنْذِرِ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي ثَلَاثٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ وَكَانَ يَقْرَؤُهُ حَتَّى تُوُفِّيَ }

رَوَاهُ أَحْمَد مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ . وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ : فِي خَمْسٍ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى سَبْعٍ فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ انْتَهَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى سَبْعٍ كَمَا أَنَّهُ أَمَرَهُ ابْتِدَاءً بِقِرَاءَتِهِ فِي الشَّهْرِ فَجَعَلَ الْحَدَّ مَا بَيْنَ الشَّهْرِ إلَى الْأُسْبُوعِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَهُ ابْتِدَاءً أَنْ يَقْرَأَهُ فِي أَرْبَعِينَ وَهَذَا فِي طَرَفِ السَّعَةِ يُنَاظِرُ التَّثْلِيثَ فِي طَرَفِ الِاجْتِهَادِ . وَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى : " { مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ لَمْ يَفْقَهْ } " فَلَا تُنَافِي رِوَايَةَ التَّسْبِيعِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ أَمْرًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَلَا فِيهِ أَنَّهُ جَعَلَ قِرَاءَتَهُ فِي ثَلَاثٍ دَائِمًا سُنَّةً مَشْرُوعَةً وَإِنَّمَا فِيهِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ مَنْ قَرَأَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ لَمْ يَفْقَهْ وَمَفْهُومُهُ مَفْهُومُ الْعَدَدِ وَهُوَ مَفْهُومٌ صَحِيحٌ أَنَّ مَنْ قَرَأَهُ فِي ثَلَاثٍ فَصَاعِدًا فَحُكْمُهُ نَقِيضُ ذَلِكَ وَالتَّنَاقُضُ يَكُونُ بِالْمُخَالَفَةِ وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ . فَإِذَا كَانَ مَنْ يَقْرَؤُهُ فِي ثَلَاثٍ أَحْيَانًا قَدْ يَفْقَهُهُ حَصَلَ مَقْصُودُ الْحَدِيثِ وَلَا يَلْزَمُ إذَا شُرِعَ فِعْلُ ذَلِكَ أَحْيَانًا لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْ يَكُونَ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَحَبَّةً ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُعْلَمْ فِي الصَّحَابَةِ عَلَى عَهْدِهِ مَنْ دَاوَمَ عَلَى ذَلِكَ أَعْنِي عَلَى قِرَاءَتِهِ دَائِمًا فِيمَا دُونَ السَّبْعِ وَلِهَذَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقْرَؤُهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ .

وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ إذَا كَانَ التَّحْزِيبُ الْمُسْتَحَبُّ مَا بَيْنَ أُسْبُوعٍ إلَى شَهْرٍ - وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ مَا بَيْنَ ثَلَاثٍ إلَى أَرْبَعِينَ - فَالصَّحَابَةُ إنَّمَا كَانُوا يحزبونه سُوَرًا تَامَّةً لَا يحزبون السُّورَةَ الْوَاحِدَةَ كَمَا رَوَى { أَوْسُ بْنُ حُذَيْفَةَ قَالَ : قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ قَالَ : فَنَزَلَتْ الْأَحْلَافُ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي مَالِكٍ فِي قُبَّةٍ لَهُ قَالَ : وَكَانَ كُلَّ لَيْلَةٍ يَأْتِينَا بَعْدَ الْعِشَاءِ يُحَدِّثُنَا قَائِمًا عَلَى رِجْلَيْهِ حَتَّى يُرَاوِحَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ وَأَكْثَرُ مَا يُحَدِّثُنَا مَا لَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ . ثُمَّ يَقُولُ : لَا سَوَاءَ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ مُسْتَذَلِّينَ بِمَكَّةَ فَلَمَّا خَرَجْنَا إلَى الْمَدِينَةِ كَانَتْ سِجَالُ الْحَرْبِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ نُدَالَ عَلَيْهِمْ وَيُدَالَوْنَ عَلَيْنَا فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةً أَبْطَأَ عَنْ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَأْتِينَا فِيهِ فَقُلْنَا : لَقَدْ أَبْطَأْت عَنَّا اللَّيْلَةَ قَالَ : إنَّهُ طَرَأَ عَلَيَّ حِزْبِي مِنْ الْقُرْآنِ فَكَرِهْت أَنْ أَجِيءَ حَتَّى أُتِمَّهُ . } { قَالَ أَوْسٌ : سَأَلْت أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ تحزبون الْقُرْآنَ ؟ قَالُوا : ثَلَاثٌ وَخَمْسٌ وَسَبْعٌ وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ وَاحِدٌ } . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَهَذَا لَفْظُهُ وَأَحْمَد وَابْنُ مَاجَه وَفِي رِوَايَةٍ لِلْإِمَامِ أَحْمَد قَالُوا : نحزبه ثَلَاثَ سُوَرٍ وَخَمْسَ سُوَرٍ وَسَبْعَ سُوَرٍ وَتِسْعَ سُوَرٍ وَإِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ مِنْ ( ق ) حَتَّى يَخْتِمَ . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِي

فِي مُعْجَمِهِ فَسَأَلْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَزِّبُ الْقُرْآنَ ؟ فَقَالُوا : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَزِّبُهُ ثَلَاثًا وَخَمْسًا فَذَكَرَهُ . وَهَذَا الْحَدِيثُ يُوَافِقُ مَعْنَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي أَنَّ الْمَسْنُونَ كَانَ عِنْدَهُمْ قِرَاءَتَهُ فِي سَبْعٍ ؛ وَلِهَذَا جَعَلُوهُ سَبْعَةَ أَحْزَابٍ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ ثَلَاثَةً وَلَا خَمْسَةً وَفِيهِ أَنَّهُمْ حزبوه بِالسُّورِ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ أَوَّلَ مَا جُزِّئَ الْقُرْآنُ بِالْحُرُوفِ تَجْزِئَةُ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّينَ . هَذِهِ الَّتِي تَكُونُ رُءُوسُ الْأَجْزَاءِ وَالْأَحْزَابِ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ وَأَثْنَاءِ الْقِصَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ فِي زَمَنِ الْحَجَّاجِ وَمَا بَعْدَهُ وَرُوِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ أَمَرَ بِذَلِكَ . وَمِنْ الْعِرَاقِ فَشَا ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَتْ التَّجْزِئَةُ بِالْحُرُوفِ مُحْدَثَةً مِنْ عَهْدِ الْحَجَّاجِ بِالْعِرَاقِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَهُ كَانَ لَهُمْ تَحْزِيبٌ آخَرُ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُقَدِّرُونَ تَارَةً بِالْآيَاتِ فَيَقُولُونَ : خَمْسُونَ آيَةً سِتُّونَ آيَةً . وَتَارَةً بِالسُّوَرِ لَكِنَّ تَسْبِيعَهُ بِالْآيَاتِ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ وَلَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ فَتَعَيَّنَ التَّحْزِيبُ بِالسُّوَرِ . فَإِنْ قِيلَ : فَتَرْتِيبُ سُوَرِ الْقُرْآنِ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا وَاجِبًا مَنْصُوصًا

عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَوْكُولٌ إلَى النَّاسِ ؛ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ تَرْتِيبُ مَصَاحِفِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلِهَذَا فِي كَرَاهَةِ تَنْكِيسِ السُّوَرِ رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد " إحْدَاهُمَا " يُكْرَهُ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ . و " الثَّانِيَةُ " لَا يُكْرَهُ كَمَا يُلَقَّنُهُ الصِّبْيَانُ ؛ إذْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ بِالْبَقَرَةِ ثُمَّ النِّسَاءِ ثُمَّ آلِ عِمْرَانَ . قِيلَ : لَا رَيْبَ أَنَّ قِرَاءَةَ سُورَةٍ بَعْدَ سُورَةٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا ، أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ التَّرْتِيبَ يَكُونُ أَنْوَاعًا كَمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى أَحْرُفٍ وَعَلَى هَذَا فَهَذَا التَّحْزِيبُ يَكُونُ تَابِعًا لِهَذَا التَّرْتِيبِ . وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّحْزِيبُ مَعَ كُلِّ تَرْتِيبٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَعْيِينُ السُّوَرِ . وَهَذَا الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ هُوَ الْأَحْسَنُ ؛ لِوُجُوهِ : " أَحَدُهَا " أَنَّ هَذِهِ التحزيبات الْمُحْدَثَةَ تَتَضَمَّنُ دَائِمًا الْوُقُوفَ عَلَى بَعْضِ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ بِمَا بَعْدَهُ حَتَّى يَتَضَمَّنَ الْوَقْفَ عَلَى الْمَعْطُوفِ دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَيَحْصُلَ الْقَارِئُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مُبْتَدِئًا بِمَعْطُوفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَيَتَضَمَّنُ الْوَقْفَ عَلَى بَعْضِ الْقِصَّةِ دُونَ بَعْضٍ - حَتَّى كَلَامُ الْمُتَخَاطِبَيْنِ - حَتَّى يَحْصُلَ الِابْتِدَاءُ

فِي الْيَوْمِ الثَّانِي بِكَلَامِ الْمُجِيبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } . وَمِثْلُ هَذِهِ الْوُقُوفِ لَا يَسُوغُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ إذَا طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِأَجْنَبِيِّ ؛ وَلِهَذَا لَوْ أُلْحِقَ بِالْكَلَامِ عَطْفٌ أَوْ اسْتِثْنَاءٌ أَوْ شَرْطٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ بَعْدَ طُولِ الْفَصْلِ بِأَجْنَبِيٍّ لَمْ يَسُغْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ تَأَخَّرَ الْقَبُولُ عَنْ الْإِيجَابِ بِمِثْلِ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُتَخَاطِبَيْنِ لَمْ يَسُغْ ذَلِكَ بِلَا نِزَاعٍ وَمَنْ حَكَى عَنْ أَحْمَد خِلَافَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ كَمَا أَخْطَأَ مَنْ نَقَلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْأَوَّلِ خِلَافَ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُتَعَاقِدَانِ غَائِبَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا غَائِبًا وَالْآخَرُ حَاضِرًا فَيَنْقُلُ الْإِيجَابَ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فَيَقْبَلُ فِي مَجْلِسِ الْبَلَاغِ وَهَذَا جَائِزٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا حَاضِرَيْنِ وَاَلَّذِي فِي الْقُرْآنِ نَقْلُ كَلَامِ حَاضِرَيْنِ مُتَجَاوِرَيْنِ فَكَيْفَ يَسُوغُ أَنْ يُفَرَّقَ هَذَا التَّفْرِيقُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ؟ بِخِلَافِ مَا إذَا فَرَّقَ فِي التَّلْقِينِ لِعَدَمِ حِفْظِ الْمُتَلَقِّنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . " الثَّانِي " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ عَادَتُهُ الْغَالِبَةُ وَعَادَةُ أَصْحَابِهِ أَنْ يَقْرَأَ فِي الصَّلَاةِ بِسُورَةِ ك ( ق وَنَحْوِهَا وَكَمَا كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ " بِيُونُسَ " و " يُوسُفَ " و " النَّحْلِ " { وَلَمَّا قَرَأَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْفَجْرِ أَدْرَكَتْهُ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ فِي أَثْنَائِهَا . وَقَالَ : إنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطِيلَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأُخَفِّفُ لِمَا أَعْلَمُ مِنْ وَجْدِ أُمِّهِ بِهِ } " .

وَأَمَّا " الْقِرَاءَةُ بِأَوَاخِرِ السُّوَرِ وَأَوْسَاطِهَا " فَلَمْ يَكُنْ غَالِبًا عَلَيْهِمْ ؛ وَلِهَذَا يُتَوَرَّعُ فِي كَرَاهَةٍ ذَلِكَ وَفِيهِ النِّزَاعُ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَمِنْ أَعْدَلِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ قَالَ يُكْرَهُ اعْتِيَادُ ذَلِكَ دُونَ فِعْلِهِ أَحْيَانًا ؛ لِئَلَّا يَخْرُجَ عَمَّا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ . وَعَادَةُ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا التَّحْزِيبَ وَالتَّجْزِئَةَ فِيهِ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي قِرَاءَةِ آخِرِ السُّورَةِ وَوَسَطِهَا فِي الصَّلَاةِ وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَا رَيْبَ أَنَّ التَّجْزِئَةَ وَالتَّحْزِيبَ الْمُوَافِقَ لَمَّا كَانَ هُوَ الْغَالِبَ عَلَى تِلَاوَتِهِمْ أَحْسَنُ . و " الْمَقْصُودُ " أَنَّ التَّحْزِيبَ بِالسُّورَةِ التَّامَّةِ أَوْلَى مِنْ التَّحْزِيبِ بِالتَّجْزِئَةِ . " الثَّالِثُ " أَنَّ التَّجْزِئَةَ الْمُحْدَثَةَ لَا سَبِيلَ فِيهَا إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ حُرُوفِ الْأَجْزَاءِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُرُوفَ فِي النُّطْقِ تُخَالِفُ الْحُرُوفَ فِي الْخَطِّ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ يَزِيدُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَتَخْتَلِفُ الْحُرُوفُ مِنْ وَجْهٍ وَبَيَانُ ذَلِكَ بِأُمُورِ : " أَحَدُهَا " أَنَّ أَلِفَاتِ الْوَصْلِ ثَابِتَةٌ فِي الْخَطِّ وَهِيَ فِي اللَّفْظِ تَثْبُتُ فِي الْقَطْعِ وَتُحْذَفُ فِي الْوَصْلِ فَالْعَادُّ إنْ حَسَبَهَا انْتَقَضَ عَلَيْهِ حَالُ الْقَارِئِ إذَا وَصَلَ وَهُوَ الْغَالِبُ فِيهَا وَإِنْ أَسْقَطَهَا انْتَقَضَ عَلَيْهِ بِحَالِ الْقَارِئِ الْقَاطِعِ وَبِالْخَطِّ .

" الثَّانِي " أَنَّ الْحَرْفَ الْمُشَدَّدَ حَرْفَانِ فِي اللَّفْظِ أَوَّلُهُمَا سَاكِنٌ وَهَذَا مَعْرُوفٌ بِالْحِسِّ وَاتِّفَاقِ النَّاسِ وَهُمَا مُتَمَاثِلَانِ فِي اللَّفْظِ وَأَمَّا فِي الْخَطِّ فَقَدْ يَكُونَانِ حَرْفًا وَاحِدًا مِثْلَ ( { إيَّاكَ } و ( { إيَّاكَ } وَقَدْ يَكُونَانِ حَرْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِثْلَ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } و { حِينَئِذٍ } - و { قَدْ سَمِعَ } - فَالْعَادُّ إنْ حَسَبَ اللَّفْظَ فَالْإِدْغَامُ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَالِ الْوَصْلِ دُونَ حَالِ الْقَطْعِ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَ الْأَوَّلَ مِنْ جِنْسِ الثَّانِي وَهَذَا مُخَالِفٌ لِهَذَا الْحَرْفِ الْمُعَادِ بِهَا . وَإِنْ حَسَبَ الْخَطَّ كَانَ الْأَمْرُ أَعْظَمَ اضْطِرَابًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ تَارَةً حَرْفًا وَتَارَةً حَرْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يُتَهَجَّى فَالنُّطْقُ بِخِلَافِهِ . " الثَّالِثُ " أَنَّ تَقْطِيعَ حُرُوفِ النُّطْقِ مِنْ جِنْسِ تَقْطِيعِ الْعَرُوضِيِّينَ وَأَمَّا حُرُوفُ الْخَطِّ فَيُخَالِفُ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَالنَّاسُ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَتَهَجَّوْنَ الْحُرُوفَ مَكْتُوبَةً لَا مَنْطُوقَةً وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ عَظِيمٌ . " الرَّابِعُ " أَنَّ النُّطْقَ بِالْحُرُوفِ يَنْقَسِمُ إلَى تَرْتِيلٍ وَغَيْرِ تَرْتِيلٍ وَمَقَادِيرُ الْمَدَّاتِ وَالْأَصْوَاتِ مِنْ الْقُرَّاءِ غَيْرُ مُنْضَبِطَةٍ وَقَدْ يَكُونُ فِي أَحَدِ الْحِزْبَيْنِ مِنْ حُرُوفِ الْمَدِّ أُكْثِرَ مِمَّا فِي الْآخَرِ فَلَا يُمْكِنُ مُرَاعَاةُ التَّسْوِيَةِ فِي النُّطْقِ وَمُرَاعَاةُ مُجَرَّدِ الْخَطِّ لَا فَائِدَةَ فِيهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَسْوِيَةَ زَمَانِ الْقِرَاءَةِ .

وَإِذَا كَانَ تَحْزِيبُهُ بِالْحُرُوفِ إنَّمَا هُوَ تَقْرِيبٌ لَا تَحْدِيدٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ تَجْزِئَتِهِ بِالسُّوَرِ هُوَ أَيْضًا تَقْرِيبٌ فَإِنَّ بَعْضَ الْأَسْبَاعِ قَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ فِي الْحُرُوفِ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الْعَظِيمَةِ بِقِرَاءَةِ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ بَعْضِهِ بِبَعْضِ وَالِافْتِتَاحِ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ بِهِ السُّورَةَ وَالِاخْتِتَامِ بِمَا خَتَمَ بِهِ وَتَكْمِيلِ الْمَقْصُودِ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ مَا لَيْسَ فِي ذَلِكَ التَّحْزِيبِ . وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ زَوَالِ الْمَفَاسِدِ الَّذِي فِي ذَلِكَ التَّحْزِيبِ مَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى بَعْضِهَا فَصَارَ رَاجِحًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ طُولَ الْعِبَادَةِ وَقِصَرَهَا يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الْمَصَالِحِ فَتُسْتَحَبُّ إطَالَةُ الْقِيَامِ تَارَةً وَتَخْفِيفُهُ أُخْرَى فِي الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ بِحَسَبِ الْوُجُوهِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوعُ هُوَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ مَقَادِيرِ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ فَعُلِمَ أَنَّ التَّسْوِيَةَ فِي مَقَادِيرِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ فِي الظَّاهِرِ لَا اعْتِبَارَ بِهِ إذَا قَارَنَهُ مَصْلَحَةٌ مُعْتَبَرَةٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّسَاوِي فِي الْقَدْرِ التَّسَاوِي فِي الْفَضْلِ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ آيَةَ الْكُرْسِيِّ أَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ ؛ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ . فَإِذَا قَرَأَ الْقَارِئُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ

بِكَمَالِهَا وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي إلَى آخِرِ بَرَاءَةَ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ إلَى آخِرِ النَّمْلِ : كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إلَى قَوْلِهِ : { بَلِيغًا } وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي إلَى قَوْلِهِ : { إنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ } فَعَلَى هَذَا إذَا قَرَأَهُ كُلَّ شَهْرٍ كَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَوَّلًا عَمَلًا عَلَى قِيَاسِ تَحْزِيبِ الصَّحَابَةِ ؛ فَالسُّورَةُ الَّتِي تَكُونُ نَحْوَ جُزْءٍ أَوْ أَكْثَرَ بِنَحْوِ نِصْفٍ أَوْ أَقَلَّ بِيَسِيرِ يَجْعَلُهَا حِزْبًا كَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ . وَأَمَّا الْبَقَرَةُ فَقَدْ يُقَالُ : يَجْعَلُهَا حِزْبًا وَإِنْ كَانَتْ بِقَدْرِ حِزْبَيْنِ وَثُلُثٍ ؛ لَكِنَّ الْأَشْبَهَ أَنَّهُ يُقَسِّمُهَا حِزْبَيْنِ لِلْحَاجَةِ ؛ لِأَنَّ التَّحْزِيبَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَقَارِبًا ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ الْحِزْبُ مِثْلَ الْأَجْزَاءِ وَمِثْلَهُ مَرَّةً وَدُونَ النِّصْفِ وَأَمَّا إذَا كَانَ مَرَّتَيْنِ وَشَيْئًا فَهَذَا تَضْعِيفٌ وَزِيَادَةٌ . وَعَلَى هَذَا فَإِلَى الْأَعْرَافِ سَبْعَةُ أَجْزَاءٍ وَالْأَنْفَالُ جُزْءٌ وَبَرَاءَةُ جُزْءٌ فَإِنَّ هَذَا أَوْلَى مِنْ جَعْلِهَا جُزْءًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى أَنْ يَكُونَ نَحْوَ الثُّلُثِ فِي ثَمَانِيَةٍ وَاَلَّذِي رَجَّحْنَاهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَحْوَ الثُّلُثِ فِي تِسْعَةٍ وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ . وَتَحْزِيبُ الصَّحَابَةِ أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحِزْبُ الْأَوَّلُ أَكْثَرَ وَيَكُونُ إلَى آخِرِ الْعَنْكَبُوتِ الْعُشْرُ الثَّانِي سُورَتَيْنِ سُورَتَيْنِ . وَأَمَّا يُونُسُ وَهُودٌ فَجُزْءَانِ أَيْضًا أَوْ جُزْءٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُمَا أَوَّلُ

ذَوَاتِ { الر } وَيَكُونُ عَلَى هَذَا الثُّلُثُ الْأَوَّلُ سُورَةً سُورَةً وَالثَّانِي سُورَتَيْنِ سُورَتَيْنِ ؛ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَقْرَبُ إلَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبَ الثُّلُثِ الْأَوَّلِ فِي الْعُشْرِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ بِسُورَةِ أَقْرَبُ مِنْ الزِّيَادَةِ بِسُورَتَيْنِ وَأَيْضًا فَيَكُونُ عَشَرَةُ أَحْزَابٍ سُورَةً سُورَةً وَهَذَا أَشْبَهُ بِفِعْلِ الصَّحَابَةِ وَيُوسُفُ وَالرَّعْدُ جُزْءٌ وَكَذَلِكَ إبْرَاهِيمُ وَالْحِجْرُ وَكَذَلِكَ النَّحْلُ وَسُبْحَانَ وَكَذَلِكَ الْكَهْفُ وَمَرْيَمُ وَكَذَلِكَ طَه وَالْأَنْبِيَاءُ وَكَذَلِكَ الْحَجُّ وَالْمُؤْمِنُونَ وَكَذَلِكَ النُّورُ وَالْفُرْقَانُ وَكَذَلِكَ ذَاتُ { طس } الشُّعَرَاءُ وَالنَّمْلُ وَالْقَصَصُ وَذَاتُ { الم } الْعَنْكَبُوتُ وَالرُّومُ وَلُقْمَانُ وَالسَّجْدَةُ جُزْءٌ وَالْأَحْزَابُ وَسَبَأٌ وَفَاطِرٌ جُزْءٌ و يس وَالصَّافَّاتُ وَصِّ جُزْءٌ وَالزُّمَرُ وَغَافِرٌ و حم السَّجْدَةُ جُزْءٌ وَالْخَمْسُ الْبَوَاقِي مِنْ آلِ حم جُزْءٌ . وَالثُّلُثُ الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِتَشَابُهِ أَوَائِلِ السُّوَرِ وَالثَّانِي أَشْبَهُ بِمِقْدَارِ جُزْءٍ مِنْ تَجْزِئَةِ الْحُرُوفِ وَهُوَ الْمُرَجَّحُ . ثُمَّ " الْقِتَالُ " و " الْفَتْحُ " و " الْحُجُرَاتُ " و " ق " و " الذَّارِيَاتُ " جُزْءٌ ثُمَّ الْأَرْبَعَةُ الْأَجْزَاءُ الْمَعْرُوفَةُ وَهَذَا تَحْزِيبٌ مُنَاسِبٌ مُشَابِهٌ لِتَحْزِيبِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ مُقَارِبٌ لِتَحْزِيبِ الْحُرُوفِ وَإِحْدَى عَشْرَةَ سُورَةً حِزْبٌ حِزْبٌ ؛ إذْ الْبَقَرَةُ كَسُورَتَيْنِ ؛ فَيَكُونُ إحْدَى عَشْرَةَ سُورَةً وَهِيَ نَصِيبُ إحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ جَمَاعَةٍ اجْتَمَعُوا فِي خَتْمَةٍ وَهُمْ يَقْرَءُونَ لِعَاصِمِ وَأَبِي عَمْرٍو فَإِذَا وَصَلُوا إلَى سُورَةِ الضُّحَى لَمْ يُهَلِّلُوا وَلَمْ يُكَبِّرُوا إلَى آخِرِ الْخَتْمَةِ فَفِعْلُهُمْ ذَلِكَ هُوَ الْأَفْضَلُ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ الْحَدِيثُ الَّذِي وَرَدَ فِي التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ صَحِيحٌ بِالتَّوَاتُرِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ إذَا قَرَءُوا بِغَيْرِ حَرْفِ ابْنِ كَثِيرٍ كَانَ تَرْكُهُمْ لِذَلِكَ هُوَ الْأَفْضَلَ ؛ بَلْ الْمَشْرُوعَ الْمَسْنُونَ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةَ مِنْ الْقُرَّاءِ لَمْ يَكُونُوا يُكَبِّرُونَ لَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَلَا فِي أَوَاخِرِهَا . فَإِنْ جَازَ لِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ : إنَّ ابْنَ كَثِيرٍ نَقَلَ التَّكْبِيرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقُولَ : إنَّ هَؤُلَاءِ نَقَلُوا تَرْكَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ مِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ الَّتِي نَقَلَهَا أَكْثَرُ مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ قَدْ أَضَاعُوا فِيهَا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ أَهْلَ التَّوَاتُرِ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ كِتْمَانُ مَا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي إلَى نَقْلِهِ فَمَنْ جَوَّزَ عَلَى جَمَاهِيرِ الْقُرَّاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَهُمْ بِتَكْبِيرِ زَائِدٍ فَعَصَوْا لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،

وَتَرَكُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ الَّتِي تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ . وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ الْبَسْمَلَةُ ؛ فَإِنَّ مِنْ الْقُرَّاءِ مَنْ يَفْصِلُ بِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَفْصِلُ بِهَا وَهِيَ مَكْتُوبَةٌ فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ بِحَرْفِ مَنْ لَا يُبَسْمِلُ لَا يُبَسْمِلُونَ وَلِهَذَا لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ تَرْكَ الْبَسْمَلَةِ إخْوَانُهُمْ مِنْ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ يُبَسْمِلُونَ فَكَيْفَ يُنْكَرُ تَرْكُ التَّكْبِيرِ عَلَى مَنْ يَقْرَأُ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ ؟ وَلَيْسَ التَّكْبِيرُ مَكْتُوبًا فِي الْمَصَاحِفِ وَلَيْسَ هُوَ فِي الْقُرْآنِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ التَّكْبِيرَ مِنْ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . بِخِلَافِ الْبَسْمَلَةِ ؛ فَإِنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ حَيْثُ كُتِبَتْ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد الْمَنْصُوصِ عَنْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ ؛ لَكِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ حَيْثُ كُتِبَتْ الْبَسْمَلَةُ وَلَيْسَتْ مِنْ السُّورَةِ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا فِي سُورَةِ النَّمْلِ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد . وَمَعَ هَذَا فَالنِّزَاعُ فِيهَا مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ فَمَنْ قَالَ : هِيَ مِنْ الْقُرْآنِ حَيْثُ كُتِبَتْ أَوْ قَالَ : لَيْسَتْ هِيَ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا فِي سُورَةِ

النَّمْلِ كَانَ قَوْلُهُ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي سَاغَ فِيهَا الِاجْتِهَادُ . وَأَمَّا التَّكْبِيرُ : فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ ضَالٌّ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَالْوَاجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ فَكَيْفَ مَعَ هَذَا يُنْكَرُ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ وَمَنْ جَعَلَ تَارِكَ التَّكْبِيرِ مُبْتَدِعًا أَوْ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ أَوْ عَاصِيًا فَإِنَّهُ إلَى الْكُفْرِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَالْوَاجِبُ عُقُوبَتُهُ ؛ بَلْ إنْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ وُضُوحِ الْحُجَّةِ وَجَبَ قَتْلُهُ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالتَّكْبِيرِ لِبَعْضِ مَنْ أَقْرَأَهُ كَانَ غَايَةُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ أَوْ اسْتِحْبَابِهِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا أَهْمَلَهُ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ وَلَمْ يَتَّفِقْ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَنَّ التَّكْبِيرَ وَاجِبٌ وَإِنَّمَا غَايَةُ مَنْ يَقْرَأُ بِحَرْفِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَهَذَا خِلَافُ الْبَسْمَلَةِ فَإِنَّ قِرَاءَتَهَا وَاجِبَةٌ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَمَعَ هَذَا فَالْقُرَّاءُ يُسَوِّغُونَ تَرْكَ قِرَاءَتِهَا لِمَنْ لَمْ يَرَ الْفَصْلَ بِهَا فَكَيْفَ لَا يَسُوغُ تَرْكُ التَّكْبِيرِ لِمَنْ لَيْسَ دَاخِلًا فِي قِرَاءَتِهِ . وَأَمَّا مَا يَدَّعِيهِ بَعْضُ الْقُرَّاءِ مِنْ التَّوَاتُرِ فِي جُزْئِيَّاتِ الْأُمُورِ فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِهِ .

وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَقُولُ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ كَتَبَ مُصْحَفًا عَلَى غَيْرِ رَسْمِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ فَقَدْ أَثِمَ أَوْ قَالَ : كَفَرَ . فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ ؟ وَأَكْثَرُ الْمَصَاحِفِ الْيَوْمَ عَلَى غَيْرِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ فَهَلْ يَحِلُّ لِأَحَدِ كِتَابَته عَلَى غَيْرِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ بِشَرْطِ أَلَّا يُبَدِّلَ لَفْظًا وَلَا يُغَيِّرَ مَعْنَى أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا هَذَا النَّقْلُ عَنْ مَالِكٍ فِي تَكْفِيرِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ كَذِبٌ عَلَى مَالِكٍ سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ رَسْمُ الْخَطِّ أَوْ رَسْمُ اللَّفْظِ فَإِنَّ مَالِكًا كَانَ يَقُولُ عَنْ أَهْلِ الشُّورَى إنَّ لِكُلِّ مِنْهُمْ مُصْحَفًا يُخَالِفُ رَسْمَ مُصْحَفِ عُثْمَانَ وَهُمْ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ وَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ وَسَعْدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ مَعَ عُثْمَانَ . وَأَيْضًا فَلَوْ قَرَأَ رَجُلٌ بِحَرْفِ مِنْ حُرُوفِهِمْ الَّتِي تَخْرُجُ عَنْ مُصْحَفٍ عُثْمَانِيٍّ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَحْتَجُّونَ بِمَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَكَيْفَ يَكْفُرُ فَاعِلُ ذَلِكَ .

وَأَمَّا اتِّبَاعُ رَسْمِ الْخَطِّ بِحَيْثُ يَكْتُبُهُ بِالْكُوفِيِّ فَلَا يَجِبُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ اتِّبَاعُهُ فِيمَا كَتَبَهُ بِالْوَاوِ وَالْأَلِفِ هُوَ حُسْنُ لَفْظِ رَسْمِ خَطِّ الصَّحَابَةِ . وَأَمَّا تَكْفِيرُ مَنْ كَتَبَ أَلْفَاظَ الْمُصْحَفِ بِالْخَطِّ الَّذِي اعْتَادَهُ فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِتَكْفِيرِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ؛ لَكِنَّ مُتَابَعَةَ خَطِّهِمْ أَحْسَنُ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ قَوْمٍ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ وَيَلْحَنُونَ فِيهِ ؛ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ . فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ : كُلُّ لحنة بِعَشْرِ حَسَنَاتٍ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا قَدَرُوا عَلَى تَصْحِيحٍ صَحَّحُوا وَإِنْ عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ حَسَبَ اسْتِطَاعَتِهِمْ .

وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يَتْلُو الْقُرْآنَ مَخَافَةَ النِّسْيَانِ وَرَجَاءَ الثَّوَابِ فَهَلْ يُؤْجَرُ عَلَى قِرَاءَتِهِ لِلدِّرَاسَةِ وَمَخَافَةَ النِّسْيَانِ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ ذَكَرَ رَجُلٌ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ أَنَّ الْقَارِئَ إذَا قَرَأَ لِلدِّرَاسَةِ مَخَافَةَ النِّسْيَانِ أَنَّهُ لَا يُؤْجَرُ فَهَلْ قَوْلُهُ صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
بَلْ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ حَالٍ وَلَوْ قَصَدَ بِقِرَاءَتِهِ أَنَّهُ يَقْرَؤُهُ لِئَلَّا يَنْسَاهُ فَإِنَّ نِسْيَانَ الْقُرْآنِ مِنْ الذُّنُوبِ فَإِذَا قَصَدَ بِالْقُرْآنِ أَدَاءَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ مِنْ دَوَامِ حِفْظِهِ لِلْقُرْآنِ وَاجْتِنَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ إهْمَالِهِ حَتَّى يَنْسَاهُ فَقَدْ قَصَدَ طَاعَةَ اللَّهِ فَكَيْفَ لَا يُثَابُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ مِنْ عُقُلِهَا } " وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { عُرِضَتْ عَلَيَّ سَيِّئَاتُ أُمَّتِي فَرَأَيْت مِنْ مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا الرَّجُلَ يُؤْتِيهِ اللَّهُ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ فَيَنَامُ عَنْهَا حَتَّى يَنْسَاهَا } " وَفِي

صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ إلَّا غَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَحَفَّتْ بِهِمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ } " . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
__________
آخِرُ الْمُجَلَّدِ الثَالِثِ عَشَرَ

الْجُزْءُ الْرَّابِعِ عَشَرَ
كِتَابُ الْتَفْسِيرِ
الْجُزْءُ الْأَوَّلُ
مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ إِلَى سُورَةِ الْأَعْرَافِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ - :
فَصْلٌ :
أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ
الْقُرْآنُ الْفُرْقَانُ الْكِتَابُ الْهُدَى النُّورُ الشِّفَاءُ الْبَيَانُ الْمَوْعِظَةُ الرَّحْمَةُ بَصَائِرُ الْبَلَاغُ الْكَرِيمُ الْمَجِيدُ الْعَزِيزُ الْمُبَارَكُ التَّنْزِيلُ الْمُنَزَّلُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ حَبْلُ اللَّهِ الذِّكْرُ الذِّكْرَى تَذْكِرَةٌ { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ } { إنَّهُ تَذْكِرَةٌ } { فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } { مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } و { تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } الْمُهَيْمِنُ عَلَيْهِ { وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ } { تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } الْمُتَشَابِهُ الْمَثَانِي الْحَكِيمُ { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ

الْحَكِيمِ } مُحْكَمٌ الْمُفَصَّلُ { وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا } الْبُرْهَانُ { قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا } عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ الْحَقُّ { قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ } عَرَبِيٌّ مُبِينٌ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ أَحْسَنَ الْقَصَصِ عَلَى قَوْلٍ كَلَامُ اللَّهِ { فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } الْعِلْمُ { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } الْعَلِيُّ الْحَكِيمُ { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } الْقَيِّمُ { يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً } { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } { أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا } { قِيَمًا } وَحَيٌّ فِي قَوْلِهِ : { إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } حِكْمَةٌ فِي قَوْلِهِ : { وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } وَحُكْمًا فِي قَوْلِهِ : { أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا } وَنَبَأٌ عَلَى قَوْلٍ فِي قَوْلِهِ : { عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ } وَنَذِيرٌ عَلَى قَوْلٍ { هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى } فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى شَافِعًا مُشَفَّعًا وَشَاهِدًا مُصَدِّقًا وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " حُجَّةٌ لَك أَوْ عَلَيْك " وَفِي حَدِيثِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ { عِصْمَةٌ لِمَنْ اسْتَمْسَكَ بِهِ } . وَأَمَّا وَصْفُهُ بِأَنَّهُ يَقُصُّ وَيَنْطِقُ وَيَحْكُمُ وَيُفْتِي وَيُبَشِّرُ وَيَهْدِي فَقَالَ : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ } { هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ } { قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ } أَيْ يُفْتِيكُمْ أَيْضًا { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ } .

فَصْلٌ :
فِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ . { قَوْلُهُ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } فَإِنَّهُ فِي التَّفْسِيرِ الْمَرْفُوعِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابَ اللَّهِ } . . . (1) .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أَحَادِيثَ هَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ وَهَلْ رَوَاهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُعْتَبَرِينَ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ ؟ إلَخْ فَقَالَ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا حَدِيثُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ اللَّهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ اللَّهُ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قَالَ اللَّهُ : مَجَّدَنِي عَبْدِي . وَإِذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ : هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } قَالَ : هَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ } .

وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ : هَذَا بَابٌ مِنْ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ وَلَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إلَّا الْيَوْمَ فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَقَالَ : هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إلَى الْأَرْضِ وَلَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إلَّا الْيَوْمَ فَسَلَّمَ وَقَالَ : أَبْشِرْ بنورين أُوتِيتهمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَك : فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفِ مِنْهَا إلَّا أُعْطِيته } وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ : { إنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ أُعْطِيَهَا مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ . }
فَصْلٌ :
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فِي أُمِّ الْقُرْآنِ وَالسَّبْعِ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَهَذِهِ السُّورَةُ هِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ وَهِيَ الشَّافِيَةُ وَهِيَ الْوَاجِبَةُ فِي الصَّلَوَاتِ لَا صَلَاةَ إلَّا بِهَا وَهِيَ الْكَافِيَةُ تَكْفِي مِنْ غَيْرِهَا وَلَا يَكْفِي غَيْرُهَا عَنْهَا . وَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَهِيَ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ كَلِمٍ طَيِّبٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ ؛ أَفْضَلُ كَلِمِهَا الطَّيِّبِ وَأَوْجَبُهُ الْقُرْآنُ وَأَفْضَلُ عَمَلِهَا الصَّالِحِ وَأَوْجَبُهُ السُّجُودُ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي أَوَّلِ سُورَةٍ أَنْزَلَهَا عَلَى رَسُولِهِ حَيْثُ افْتَتَحَهَا

بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ : { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } فَوُضِعَتْ الصَّلَاةُ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلُهَا الْقِرَاءَةُ وَآخِرُهَا السُّجُودُ . وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ : { فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ } وَالْمُرَادُ بِالسُّجُودِ الرَّكْعَةُ الَّتِي يَفْعَلُونَهَا وَحْدَهُمْ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِمْ لِلْإِمَامِ وَمَا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ مِنْ تَكْبِيرٍ وَاسْتِفْتَاحٍ وَاسْتِعَاذَةٍ هِيَ تَحْرِيمٌ لِلصَّلَاةِ وَمُقَدِّمَةٌ لِمَا بَعْدَهُ أَوَّلُ مَا يَبْتَدِئُ بِهِ كالتقدمة وَمَا يُفْعَلُ بَعْدَ السُّجُودِ مِنْ قُعُودٍ وَتَشَهُّدٍ فِيهِ التَّحِيَّةُ لِلَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَالدُّعَاءُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْحَاضِرِينَ فَهُوَ تَحْلِيلٌ لِلصَّلَاةِ ومعقبة لِمَا قَبْلَهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ . } وَلِهَذَا لَمَّا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ أَيُّمَا أَفْضَلُ كَثْرَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَوْ طُولُ الْقِيَامِ أَوْ هُمَا سَوَاءٌ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ الْقِيَامُ فِيهِ أَفْضَلُ الْأَذْكَارِ وَالسُّجُودُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ فَاعْتَدَلَا ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَدِلَةً يَجْعَلُ الْأَرْكَانَ قَرِيبًا مِنْ السِّوَاءِ وَإِذَا أَطَالَ الْقِيَامَ طُولًا كَثِيرًا - كَمَا كَانَ يَفْعَلُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ - أَطَالَ مَعَهُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَإِذَا اقْتَصَدَ فِيهِ اقْتَصَدَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَأُمُّ الْكِتَابِ كَمَا أَنَّهَا الْقِرَاءَةُ الْوَاجِبَةُ فَهِيَ أَفْضَلُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا الْإِنْجِيلِ وَلَا الزَّبُورِ وَلَا الْقُرْآنِ مِثْلُهَا وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيته } وَفَضَائِلُهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا . وَقَدْ جَاءَ مَأْثُورًا عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ جَمَعَ عِلْمَهَا فِي الْأَرْبَعَةِ وَجَمَعَ عِلْمَ الْأَرْبَعَةِ فِي الْقُرْآنِ وَجَمَعَ عِلْمَ الْقُرْآنِ فِي الْمُفَصَّلِ وَجَمَعَ عِلْمَ الْمُفَصَّلِ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ وَجَمَعَ عِلْمَ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ الْجَامِعَتَيْنِ { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَإِنَّ عِلْمَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ السَّمَاءِ اجْتَمَعَ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ الْجَامِعَتَيْنِ . وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ : نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ . فَإِذَا قَالَ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ اللَّهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ اللَّهُ أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : مَجَّدَنِي عَبْدِي وَفِي رِوَايَةٍ : فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ : فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } قَالَ : فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ }

فَقَدْ ثَبَتَ بِهَذَا النَّصِّ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُنْقَسِمَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عَبْدِهِ وَأَنَّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ مُقْتَسَمُ السُّورَةِ ف { إيَّاكَ نَعْبُدُ } مَعَ مَا قَبْلَهُ لِلَّهِ { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } مَعَ مَا بَعْدَهُ لِلْعَبْدِ وَلَهُ مَا سَأَلَ . وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : نِصْفُهَا ثَنَاءٌ وَنِصْفُهَا مَسْأَلَةٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ دُعَاءٌ . وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ فَرَضَ عَلَيْنَا أَنْ نُنَاجِيَهُ وَنَدْعُوَهُ بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَيْنَا أَنْ نَعْبُدَهُ وَأَنْ نَسْتَعِينَهُ ؛ إذْ إيجَابُ الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ إقْرَارٌ وَاعْتِرَافٌ وَدُعَاءٌ وَسُؤَالٌ هُوَ إيجَابٌ لِمَعْنَاهُ لَيْسَ إيجَابًا لِمُجَرَّدِ لَفْظٍ لَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ ؛ بَلْ إيجَابُ ذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ إيجَابِ مُجَرَّدِ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَحْصُلُ أَصْلُهُ بِمُجَرَّدِ الْقَلْبِ أَوْ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ بَلْ أَوْجَبَ دُعَاءَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُنَاجَاتَهُ وَتَكْلِيمَهُ وَمُخَاطَبَتَهُ بِذَلِكَ لِيَكُونَ الْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ كَامِلًا صُورَةً وَمَعْنًى بِالْقَلْبِ وَبِسَائِرِ الْجَسَدِ . وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ الْجَامِعَيْنِ إيجَابًا وَغَيْرَ إيجَابٍ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ هُودٍ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ شُعَيْبٍ : { وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَقَوْلِ إبْرَاهِيمَ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ : { رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ إذْ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَ : { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَهُمْ

يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } . فَأَمَرَ نَبِيَّهُ بِأَنْ يَقُولَ : عَلَى الرَّحْمَنِ تَوَكَّلْت وَإِلَيْهِ مَتَابِ كَمَا أَمَرَهُ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَالْأَمْرُ لَهُ أَمْرٌ لِأُمَّتِهِ وَأَمْرُهُ بِذَلِكَ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ وَفِي غَيْرِهَا لِأُمَّتِهِ لِيَكُونَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ طَاعَةً لِلَّهِ وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَلَا يَتَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ مَا يَفْعَلُهُ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَالِصُونَ مَنْ أُمَّتِهِ مِنْ الْأَدْعِيَةِ وَالْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا إنَّمَا هُوَ بِأَمْرِ مِنْ اللَّهِ ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَفْعَلُ مَا لَمْ يُؤْمَرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ حَسَنًا أَوْ عَفْوًا وَهَذَا أَحَدُ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِفَضْلِهِ وَفَضْلِ أُمَّتِهِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَفَضْلِ الْخَالِصِينَ مَنْ أُمَّتِهِ عَلَى الْمُشَوِّبِينَ الَّذِينَ شَابُوا مَا جَاءَ بِهِ بِغَيْرِهِ كَالْمُنْحَرِفِينَ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . وَإِلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْصِدُ فِي عِبَادَاتِهِ وَأَذْكَارِهِ وَمُنَاجَاتِهِ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْأُضْحِيَّةِ : { اللَّهُمَّ هَذَا مِنْك وَلَك } فَإِنَّ قَوْلَهُ : " مِنْك " هُوَ مَعْنَى التَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَقَوْلَهُ : " لَك " هُوَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي قِيَامِهِ مِنْ اللَّيْلِ : { لَك أَسْلَمْت وَبِك آمَنْت وَعَلَيْك تَوَكَّلْت وَإِلَيْك أَنَبْت وَبِك خَاصَمْت وَإِلَيْك حَاكَمْت أَعُوذُ بِعِزَّتِك لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا تَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ } إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ .

إذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ فَالْإِنْسَانُ فِي هَذَيْنِ الْوَاجِبَيْنِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحْوَالٍ أَرْبَعَةٍ هِيَ الْقِسْمَةُ الْمُمْكِنَةُ إمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِهِمَا وَإِمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِالْعِبَادَةِ فَقَطْ وَإِمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِالِاسْتِعَانَةِ فَقَطْ وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَهُمَا جَمِيعًا . وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ ؛ بَلْ أَهْلُ الدِّيَانَاتِ هُمْ أَهْلُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَهُمْ الْمَقْصُودُونَ هُنَا بِالْكَلَامِ . قِسْمٌ يَغْلِبُ عَلَيْهِ قَصْدُ التَّأَلُّهِ لِلَّهِ وَمُتَابَعَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى وَاتِّبَاعُ الشَّرِيعَةِ فِي الْخُضُوعِ لِأَوَامِرِهِ وَزَوَاجِرِهِ وَكَلِمَاتِهِ الْكَوْنِيَّاتِ ؛ لَكِنْ يَكُونُ مَنْقُوصًا مِنْ جَانِبِ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ فَيَكُونُ إمَّا عَاجِزًا وَإِمَّا مُفَرِّطًا وَهُوَ مَغْلُوبٌ إمَّا مَعَ عَدُوِّهِ الْبَاطِنِ وَإِمَّا مَعَ عَدُوِّهِ الظَّاهِرِ وَرُبَّمَا يَكْثُرُ مِنْهُ الْجَزَعُ مِمَّا يُصِيبُهُ وَالْحُزْنُ لِمَا يَفُوتُهُ وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَعْرِفُ شَرِيعَةَ اللَّهِ وَأَمْرَهُ وَيَرَى أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلشَّرِيعَةِ وَلِلْعِبَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا يَعْرِفُ قَضَاءَهُ وَقَدَرَهُ وَهُوَ حَسَنُ الْقَصْدِ طَالِبٌ لِلْحَقِّ لَكِنَّهُ غَيْرُ عَارِفٍ بِالسَّبِيلِ الْمُوَصِّلَةِ وَالطَّرِيقِ الْمُفْضِيَةِ . وَقِسْمٌ يَغْلِبُ عَلَيْهِ قَصْدُ الِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَإِظْهَارِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْخُضُوعِ لِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَكَلِمَاتِهِ الْكَوْنِيَّاتِ ؛ لَكِنْ يَكُونُ مَنْقُوصًا مِنْ جَانِبِ الْعِبَادَةِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ فَلَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ

أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لِشَرِيعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمِنْهَاجِهِ ؛ بَلْ قَصْدُهُ نَوْعُ سُلْطَانٍ فِي الْعَالَمِ إمَّا سُلْطَانُ قُدْرَةٍ وَتَأْثِيرٍ وَإِمَّا سُلْطَانُ كَشْفٍ وَإِخْبَارٍ أَوْ قَصْدُهُ طَلَبُ مَا يُرِيدُهُ وَدَفْعُ مَا يَكْرَهُهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ أَوْ مَقْصُودُهُ نَوْعُ عِبَادَةٍ وَتَأَلُّهٍ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ هِمَّتُهُ فِي الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ الْمُعِينَةُ لَهُ عَلَى مَقْصُودِهِ فَيَكُونُ إمَّا جَاهِلًا وَإِمَّا ظَالِمًا تَارِكًا لِبَعْضِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ رَاكِبًا لِبَعْضِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَتَأَلَّهُ وَيَتَصَوَّفُ وَيَتَفَقَّرُ وَيَشْهَدُ قَدَرَ اللَّهِ وَقَضَاءَهُ وَلَا يَشْهَدُ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ وَيَشْهَدُ قِيَامَ الْأَكْوَانِ بِاَللَّهِ وَفَقْرَهَا إلَيْهِ وَإِقَامَتَهُ لَهَا وَلَا يَشْهَدُ مَا أَمَرَ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ وَمَا الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْهُ وَيَرْضَاهُ وَمَا الَّذِي يَكْرَهُهُ مِنْهُ وَيَسْخَطُهُ . وَلِهَذَا يَكْثُرُ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ لَهُ كَشْفٌ وَتَأْثِيرٌ وَخَرْقُ عَادَةٍ مَعَ انْحِلَالٍ عَنْ بَعْضِ الشَّرِيعَةِ وَمُخَالَفَةٍ لِبَعْضِ الْأَمْرِ وَإِذَا أَوْغَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ دَخَلَ فِي الْإِبَاحِيَّةِ وَالِانْحِلَالِ وَرُبَّمَا صَعِدَ إلَى فَسَادِ التَّوْحِيدِ فَيَخْرُجُ إلَى الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ الْمُقَيَّدِ كَمَا قَدْ وَقَعَ لِكَثِيرِ مِنْ الشُّيُوخِ وَيُوجَدُ فِي كَلَامِ صَاحِبِ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " وَغَيْرِهِ مَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ . وَقَدْ يَدْخُلُ بَعْضُهُمْ فِي " الِاتِّحَادِ الْمُطْلَقِ وَالْقَوْلِ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ " فَيَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ " الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ " فِي أَوَّلِهَا :

الرَّبُّ حَقٌّ وَالْعَبْدُ حَقٌّ * * * يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ المكلف
إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ ميت * * * أَوْ قُلْت رَبٌّ أَنَّى يُكَلَّفْ
وَقِسْمٌ ثَالِثٌ مُعْرِضُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَعَنْ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ جَمِيعًا . وَهُمْ فَرِيقَانِ : أَهْلُ دُنْيَا وَأَهْلُ دِينٍ فَأَهْلُ الدِّينِ مِنْهُمْ هُمْ أَهْلُ الدِّينِ الْفَاسِدِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَيَسْتَعِينُونَ غَيْرَ اللَّهِ بِظَنِّهِمْ وَهَوَاهُمْ { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } وَأَهْلُ الدُّنْيَا مِنْهُمْ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ مَا يَشْتَهُونَهُ مِنْ الْعَاجِلَةِ بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ . وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ مَنْ قَدْ يُعْرِضُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَبَيْنَ مَنْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ وَيَسْتَعِينُ بِسِوَاهُ .
فَصْلٌ :
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فَبَدَأَ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ : اللَّهِ وَالرَّبِّ . و " اللَّهُ " هُوَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ فَهَذَا الِاسْمُ أَحَقُّ بِالْعِبَادَةِ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ : اللَّهُ أَكْبَرُ . الْحَمْدُ لِلَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ

لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ و " الرَّبُّ " هُوَ الْمُرَبِّي الْخَالِقُ الرَّازِقُ النَّاصِرُ الْهَادِي وَهَذَا الِاسْمُ أَحَقُّ بِاسْمِ الِاسْتِعَانَةِ وَالْمَسْأَلَةِ . وَلِهَذَا يُقَالُ : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } . فَعَامَّةُ الْمَسْأَلَةِ وَالِاسْتِعَانَةُ الْمَشْرُوعَةُ بِاسْمِ الرَّبِّ . فَالِاسْمُ الْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ غَايَةَ الْعَبْدِ وَمَصِيرَهُ وَمُنْتَهَاهُ وَمَا خُلِقَ لَهُ وَمَا فِيهِ صَلَاحُهُ وَكَمَالُهُ وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَالِاسْمُ الثَّانِي يَتَضَمَّنُ خَلْقَ الْعَبْدِ وَمُبْتَدَاهُ وَهُوَ أَنَّهُ يُرَبِّهِ وَيَتَوَلَّاهُ مَعَ أَنَّ الثَّانِيَ يَدْخُلُ فِي الْأَوَّلِ دُخُولَ الرُّبُوبِيَّةِ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْأُلُوهِيَّةَ أَيْضًا . وَالِاسْمُ " الرَّحْمَنِ " يَتَضَمَّنُ كَمَالَ التَّعْلِيقَيْنِ وَبِوَصْفِ الْحَالَيْنِ فِيهِ تَتِمُّ سَعَادَتُهُ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } فَذَكَرَ هُنَا الْأَسْمَاءَ الثَّلَاثَةَ : ( الرَّحْمَنَ و ( رَبِّي و ( الْإِلَهَ وَقَالَ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } كَمَا ذَكَرَ الْأَسْمَاءَ الثَّلَاثَةَ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ ؛ لَكِنْ بَدَأَ هُنَاكَ بِاسْمِ اللَّهِ ؛ وَلِهَذَا بَدَأَ فِي السُّورَةِ بـ ( إيَّاكَ نَعْبُدُ فَقَدَّمَ الِاسْمَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْعِبَادَةِ ؛ لِأَنَّ

تِلْكَ السُّورَةَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَأُمُّ الْقُرْآنِ فَقَدَّمَ فِيهَا الْمَقْصُودَ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ الغائية فَإِنَّهَا عِلَّةٌ فَاعِلِيَّةٌ لِلْعِلَّةِ الغائية . وَقَدْ بَسَطْت هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ ؛ فِي أَوَّلِ " التَّفْسِيرِ " وَفِي " قَاعِدَةِ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ " وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ .
فَصْلٌ :
وَلَمَّا كَانَ عِلْمُ النُّفُوسِ بِحَاجَتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ إلَى الرَّبِّ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِحَاجَتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ إلَى الْإِلَهِ الْمَعْبُودِ وَقَصْدِهِمْ لِدَفْعِ حَاجَاتِهِمْ الْعَاجِلَةِ قَبْلَ الْآجِلَةِ كَانَ إقْرَارُهُمْ بِاَللَّهِ مِنْ جِهَةِ رُبُوبِيَّتِهِ أَسْبَقَ مِنْ إقْرَارِهِمْ بِهِ مِنْ جِهَةِ أُلُوهِيَّتِهِ وَكَانَ الدُّعَاءُ لَهُ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ فِيهِمْ أَكْثَرَ مِنْ الْعِبَادَةِ لَهُ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ . وَلِهَذَا إنَّمَا بَعَثَ الرُّسُلَ يَدْعُونَهُمْ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْإِقْرَارِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } وَأَنَّهُمْ إذَا مَسَّهُمْ الضُّرُّ ضَلَّ مَنْ يَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ وَقَالَ : { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَأَنَّهُمْ مُخْلِصُونَ لَهُ الدِّينَ إذَا مَسَّهُمْ

الضُّرُّ فِي دُعَائِهِمْ وَاسْتِعَانَتِهِمْ ثُمَّ يُعْرِضُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ فِي حَالِ حُصُولِ أَغْرَاضِهِمْ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّمَا يُقَرِّرُونَ الْوَحْدَانِيَّةَ مِنْ جِهَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَمَّا الرُّسُلُ فَهُمْ دَعَوْا إلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْأُلُوهِيَّةِ وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ الْمُتَعَبِّدَةِ وَأَرْبَابِ الْأَحْوَالِ إنَّمَا تَوَجُّهُهُمْ إلَى اللَّهِ مِنْ جِهَةِ رُبُوبِيَّتِهِ ؛ لِمَا يَمُدُّهُمْ بِهِ فِي الْبَاطِنِ مِنْ الْأَحْوَالِ الَّتِي بِهَا يَتَصَرَّفُونَ وَهَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ الْمُلُوكِ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ هَذَا الصِّنْفَ كَثِيرًا فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ تَنْكَشِفُ بِهِ أَحْوَالُ قَوْمٍ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْحَقَائِقِ وَيَعْمَلُونَ عَلَيْهَا وَهُمْ لَعَمْرِي فِي نَوْعٍ مِنْ الْحَقَائِقِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ لَا فِي الْحَقَائِقِ الدِّينِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ وَقَدْ تَكَلَّمْت عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ وَهُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ بَلْ وَجَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ عِبَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى فُقَرَاءُ إلَيْهِ مَمَالِيكُ لَهُ وَهُوَ رَبُّهُمْ وَمَلِيكُهُمْ وَإِلَهُهُمْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَالْمَخْلُوقُ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ أَصْلًا ؛ بَلْ نَفْسُهُ وَصِفَاتُهُ وَأَفْعَالُهُ وَمَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَوْ يَسْتَحِقُّهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَبُّ

ذَلِكَ كُلِّهِ وَمَلِيكُهُ وَبَارِئُهُ وَخَالِقُهُ وَمُصَوِّرُهُ . وَإِذَا قُلْنَا لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ إلَّا الْعَدَمُ فَالْعَدَمُ لَيْسَ هُوَ شَيْئًا يَفْتَقِرُ إلَى فَاعِلٍ مَوْجُودٍ ؛ بَلْ الْعَدَمُ لَيْسَ بِشَيْءِ وَبَقَاؤُهُ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ فِعْلِ الْفَاعِلِ لَا أَنَّ عَدَمَ الْفَاعِلِ يُوجِبُهُ وَيَقْتَضِيهِ كَمَا يُوجِبُ الْفَاعِلُ الْمَفْعُولَ الْمَوْجُودَ ؛ بَلْ قَدْ يُضَافُ عَدَمُ الْمَعْلُولِ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمَوْجُودَ إنَّمَا خَلَقَهُ وَأَبْدَعَهُ الْفَاعِلُ وَلَيْسَ الْمَعْدُومُ أَبْدَعَهُ عَدَمُ الْفَاعِلِ فَإِنَّهُ يُفْضِي إلَى التَّسَلْسُلِ وَالدَّوْرِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ اقْتِضَاءُ أَحَدِ العدمين لِلْآخَرِ بِأَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدُ العدمين مُمَيِّزًا لِحَقِيقَةِ اسْتَوْجَبَ بِهَا أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ أَنَّ عَدَمَ الْمُقْتَضِي أَوْلَى بِعَدَمِ الْأَثَرِ مِنْ الْعَكْسِ فَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ وُجُودُ الْمُقْتَضِي هُوَ الْمُفِيدُ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي صَارَ الْعَقْلُ يُضِيفُ عَدَمَهُ إلَى عَدَمِهِ إضَافَةً لُزُومِيَّةً ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الشَّيْءِ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي أَوْ لِوُجُودِ الْمَانِعِ . وَبَعْدَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْعَدَمُ إلَّا لِأَجْلِ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ أَوْ الْحَالَتَيْنِ ؛ فَلَمَّا كَانَ الشَّيْءُ الَّذِي انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُودِهِ يَعُوقُهُ وَيَمْنَعُهُ الْمَانِعُ الْمُنَافِي وَهُوَ أَمْرٌ مَوْجُودٌ وَتَارَةً لَا يَكُونُ سَبَبُهُ قَدْ انْعَقَدَ صَارَ عَدَمُهُ تَارَةً يُنْسَبُ إلَى عَدَمِ مُقْتَضِيهِ وَتَارَةً إلَى وُجُودِ مَانِعِهِ وَمُنَافِيهِ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ : مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ؛ إذْ

مَشِيئَتُهُ هِيَ الْمُوجِبَةُ وَحْدَهَا لَا غَيْرُهَا فَيَلْزَمُ مِنْ انْتِفَائِهَا انْتِفَاؤُهُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ حَتَّى تَكُونَ مَشِيئَتُهُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ بِدُونِهَا بِحَالِ فَلَيْسَ لَنَا سَبَبٌ يَقْتَضِي وُجُودَ شَيْءٍ حَتَّى تَكُونَ مَشِيئَتُهُ مَانِعَةً مِنْ وُجُودِهِ بَلْ مَشِيئَتُهُ هِيَ السَّبَبُ الْكَامِلُ فَمَعَ وُجُودِهَا لَا مَانِعَ وَمَعَ عَدَمِهَا لَا مُقْتَضًى { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ } { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } . وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ خَيْرٌ أَصْلًا ؛ بَلْ مَا بِنَا مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَإِذَا مَسَّنَا الضُّرُّ فَإِلَيْهِ نَجْأَرُ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْهِ كَمَا قَالَ : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } وَقَالَ : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ الَّذِي فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ : { اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ خَلَقْتنِي وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ } وَقَالَ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ :

{ لَبَّيْكَ وسعديك وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك تَبَارَكْت رَبَّنَا وَتَعَالَيْت } . وَذَلِكَ أَنَّ الشَّرَّ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا فَالْمَعْدُومُ سَوَاءٌ كَانَ عَدَمَ ذَاتٍ أَوْ عَدَمَ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهَا أَوْ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهَا مِثْلَ عَدَمِ الْحَيَاةِ أَوْ الْعِلْمِ أَوْ السَّمْعِ أَوْ الْبَصَرِ أَوْ الْكَلَامِ أَوْ الْعَقْلِ أَوْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى تَنَوُّعِ أَصْنَافِهِ مِثْلُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَرَجَائِهِ وَخَشْيَتِهِ وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمَحْمُودَةِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ . فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ كُلَّهَا خَيْرَاتٌ وَحَسَنَاتٌ وَعَدَمَهَا شَرٌّ وَسَيِّئَاتٌ ؛ لَكِنَّ هَذَا الْعَدَمَ لَيْسَ بِشَيْءِ أَصْلًا حَتَّى يَكُونَ لَهُ بَارِئٌ وَفَاعِلٌ فَيُضَافُ إلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمَ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ الْإِنْسَانِ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ وَبَعْدَ أَنْ خُلِقَتْ ؛ فَإِنَّهَا قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ عَدَمٌ مُسْتَلْزِمٌ لِهَذَا الْعَدَمِ وَبَعْدَ أَنْ خُلِقَتْ - وَقَدْ خُلِقَتْ ضَعِيفَةً نَاقِصَةً - فِيهَا النَّقْصُ وَالضَّعْفُ وَالْعَجْزُ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ عَدَمِيَّةٌ فَأُضِيفَ إلَى النَّفْسِ مِنْ بَابِ إضَافَةِ عَدَمِ الْمَعْلُولِ إلَى عَدَمِ عِلَّتِهِ وَعَدَمِ مُقْتَضِيهِ وَقَدْ تَكُونُ مِنْ بَابِ إضَافَتِهِ إلَى وُجُودِ مُنَافِيهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . و " نُكْتَةُ الْأَمْرِ " أَنَّ هَذَا الشَّرَّ وَالسَّيِّئَاتِ الْعَدَمِيَّةَ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ خَالِقَهَا فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ .

وَالْمَعْدُومَاتُ تُنْسَبُ تَارَةً إلَى عَدَمِ فَاعِلِهَا وَتَارَةً إلَى وُجُودِ مَانِعِهَا فَلَا تُنْسَبُ إلَيْهِ هَذِهِ الشُّرُورُ الْعَدَمِيَّةُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ :
أَمَّا " الْأَوَّلُ " فَلِأَنَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ فَلَا يُقَالُ عُدِمَتْ لِعَدَمِ فَاعِلهَا وَمُقْتَضِيهَا . وَأَمَّا " الثَّانِي " - وَهُوَ وُجُودُ الْمَانِعِ - فَلِأَنَّ الْمَانِعَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ إذَا وُجِدَ الْمُقْتَضِي وَلَوْ شَاءَ فِعْلَهَا لَمَا مَنَعَهُ مَانِعٌ وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - لَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ مَا شَاءَ فِعْلَهُ ؛ بَلْ هُوَ فَعَّالٌ لِمَا يَشَاءُ ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَدْ يَخْلُقُ هَذَا سَبَبًا وَمُقْتَضِيًا وَمَانِعًا فَإِنْ جَعَلَ السَّبَبَ تَامًّا لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ تَامًّا مَنَعَهُ الْمَانِعُ لِضِعْفِ السَّبَبِ وَعَدَمِ إعَانَةِ اللَّهِ لَهُ فَلَا يُعْدَمُ أَمْرٌ إلَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَشَأْهُ كَمَا لَا يُوجَدُ أَمْرٌ إلَّا لِأَنَّهُ يَشَاؤُهُ وَإِنَّمَا تُضَافُ هَذِهِ السَّيِّئَاتُ الْعَدَمِيَّةُ إلَى الْعَبْدِ لِعَدَمِ السَّبَبُ مِنْهُ تَارَةً وَلِوُجُودِ الْمَانِعِ مِنْهُ أُخْرَى . أَمَّا عَدَمُ السَّبَبِ فَظَاهِرٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ قُوَّةٌ وَلَا حَوْلٌ وَلَا خَيْرٌ وَلَا سَبَبُ خَيْرٍ أَصَالَةً وَلَوْ كَانَ مِنْهُ شَيْءٌ لَكَانَ سَبَبًا فَأُضِيفَ إلَيْهِ لِعَدَمِ السَّبَبِ ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ صَدَرَتْ مِنْهُ أَفْعَالٌ كَانَ سَبَبًا لَهَا بِإِعَانَةِ اللَّهِ لَهُ فَمَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ كَانَ لِعَدَمِ السَّبَبِ .

وَأَمَّا وُجُودُ الْمَانِعِ الْمُضَادِّ لَهُ الْمُنَافِي فَلِأَنَّ نَفْسَهُ قَدْ تَضِيقُ وَتَضْعُفُ وَتَعْجِزُ أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ أَفْعَالٍ مُمْكِنَةٍ فِي نَفْسِهَا مُتَنَافِيَةٍ فِي حَقِّهِ فَإِذَا اشْتَغَلَ بِسَمْعِ شَيْءٍ أَوْ بَصَرِهِ أَوْ الْكَلَامِ فِي شَيْءٍ أَوْ النَّظَرِ فِيهِ أَوْ إرَادَتِهِ أَوْ اشْتَغَلَتْ جَوَارِحُهُ بِعَمَلِ كَثِيرٍ اشْتَغَلَتْ عَنْ عَمَلٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لِضِيقِهِ وَعَجْزِهِ ؛ فَصَارَ قِيَامُ إحْدَى الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ بِهِ مَانِعًا وَصَادًّا عَنْ آخَرَ . وَالضِّيقُ وَالْعَجْزُ يَعُودُ إلَى عَدَمِ قُدْرَتِهِ فَعَادَ إلَى الْعَدَمِ الَّذِي هُوَ مِنْهُ وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَيْسَ بِشَيْءِ حَتَّى يُضَافَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا إنْ كَانَ الشَّيْءُ مَوْجُودًا كَالْأَلَمِ وَسَبَبِ الْأَلَمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الشَّرَّ الْمَوْجُودَ لَيْسَ شَرًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَا شَرًّا مَحْضًا وَإِنَّمَا هُوَ شَرٌّ فِي حَقِّ مَنْ تَأَلَّمَ بِهِ وَقَدْ تَكُونُ مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدَ . وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ مُسَلْسَلًا { آمَنْت بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ } وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد : { لَوْ أَنْفَقْت مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَمَا قَبِلَهُ مِنْك حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَك لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَك وَمَا أَخْطَأَك لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَك } فَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ هُمَا بِحَسَبِ الْعَبْدِ الْمُضَافِ إلَيْهِ كَالْحُلْوِ وَالْمُرِّ سَوَاءٌ وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَأَلَّمْ بِالشَّيْءِ لَيْسَ فِي حَقِّهِ شَرًّا وَمَنْ تَنَعَّمَ بِهِ فَهُوَ فِي حَقِّهِ خَيْرٌ كَمَا { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ مَنْ قَصَّ عَلَيْهِ أَخُوهُ رُؤْيَا أَنْ

يَقُولَ : خَيْرًا تَلَقَّاهُ وَشَرًّا تَوَقَّاهُ خَيْرًا لَنَا وَشَرًّا لِأَعْدَائِنَا } فَإِنَّهُ إذَا أَصَابَ الْعَبْدَ شَرٌّ سُرَّ قَلْبُ عَدُوِّهِ ؛ فَهُوَ خَيْرٌ لِهَذَا وَشَرٌّ لِهَذَا ؛ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيًّا وَلَا عَدُوًّا فَلَيْسَ فِي حَقِّهِ خَيْرًا وَلَا شَرًّا وَلَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ مَا يُؤْلِمُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ دَائِمًا وَلَا مَا يُؤْلِمُ جُمْهُورَهُمْ دَائِمًا ؛ بَلْ مَخْلُوقَاتُهُ إمَّا مُنْعِمَةٌ لَهُمْ أَوْ لِجُمْهُورِهِمْ فِي أَغْلَبِ الْأَوْقَاتِ كَالشَّمْسِ وَالْعَافِيَةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ مَا هُوَ شَرٌّ مُطْلَقًا عَامًّا . فَعُلِمَ أَنَّ الشَّرَّ الْمَخْلُوقَ الْمَوْجُودَ شَرٌّ مُقَيَّدٌ خَاصٌّ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ هُوَ بِهِ خَيْرٌ وَحُسْنٌ وَهُوَ أَغْلَبُ وَجْهَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ } وَقَالَ : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا } . وَقَدْ عَلَم الْمُسْلِمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا مَا إلَّا لِحِكْمَةِ ؛ فَتِلْكَ الْحِكْمَةُ وَجْهُ حُسْنِهِ وَخَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ شَرٌّ مَحْضٌ لَا خَيْرَ فِيهِ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ ؛ وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَعْنَى قَوْلِهِ : { وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك } وَكَوْنُ الشَّرِّ لَمْ يُضَفْ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ ؛ بَلْ إمَّا بِطْرِيقِ الْعُمُوم أَوْ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ أَوْ يُحْذَفُ فَاعِلُهُ .

فَهَذَا الشَّرُّ الْمَوْجُودُ الْخَاصُّ الْمُقَيَّدُ سَبَبُهُ : إمَّا عَدَمٌ وَإِمَّا وُجُودٌ ؛ فَالْعَدَمُ مِثْلُ عَدَمِ شَرْطٍ أَوْ جُزْءِ سَبَبٍ إذْ لَا يَكُونُ سَبَبُهُ عَدَمًا مَحْضًا فَإِنَّ الْعَدَمَ الْمَحْضَ لَا يَكُونُ سَبَبًا تَامًّا لِوُجُودِ ؛ وَلَكِنْ يَكُونُ سَبَبُ الْخَيْرِ وَاللَّذَّةِ قَدْ انْعَقَدَ وَلَا يَحْصُلُ الشَّرْطُ فَيَقَعُ الْأَلَمُ ؛ وَذَلِكَ مِثْلُ عَدَمِ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ وَمِثْلُ عَدَمِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ أَلَمِ الْجَهْلِ وَعَدَمِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالنُّطْقِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْأَلَمِ بِالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَالْبُكْمِ وَعَدَمِ الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْأَلَمِ وَالْمَرَضِ وَالضَّعْفِ . فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ وَنَحْوِهَا يَكُونُ الشَّرُّ أَيْضًا مُضَافًا إلَى الْعَدَمِ الْمُضَافِ إلَى الْعَبْدِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ قَوْلُ الْخَلِيلِ : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } فَإِنَّ الْمَرَضَ وَإِنْ كَانَ أَلَمًا مَوْجُودًا فَسَبَبُهُ ضَعْفُ الْقُوَّةِ وَانْتِفَاءُ الصِّحَّةِ الْمَوْجُودَةِ وَذَلِكَ عَدَمٌ هُوَ مِنْ الْإِنْسَانِ الْمَعْدُومِ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ قَوْلُ الْحَقِّ { وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } وَقَوْلُهُ : { قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } وَنَحْوُ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ سَبَبُهُ عَدَمَ فِعْلِ الْوَاجِبِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ : وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ .
يُبَيِّن ذَلِكَ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ جَمِيعَهَا مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ إنَّمَا يَفْعَلُهَا الْعَبْدُ لِجَهْلِهِ أَوْ لِحَاجَتِهِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ عَالِمًا بِمَضَرَّتِهَا وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهَا امْتَنَعَ أَنْ يَفْعَلَهَا وَالْجَهْلُ أَصْلُهُ عَدَمٌ وَالْحَاجَةُ أَصْلُهَا الْعَدَمُ .

فَأَصْلُ وُقُوعِ السَّيِّئَاتِ مِنْهُ عَدَمُ الْعِلْمِ وَالْغِنَى وَلِهَذَا يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ : { مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ } { أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } ؟ { إنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ } { فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } إلَى نَحْوِ هَذِهِ الْمَعَانِي . وَأَمَّا الْمَوْجُودُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الشَّرِّ الْمَوْجُودِ الَّذِي هُوَ خَاصٌّ كَالْآلَامِ مِثْلُ الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ تَكْذِيبٌ أَوْ اسْتِكْبَارٌ وَالْفُسُوقِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْمُحَرَّمَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبُ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ وَكَذَلِكَ تَنَاوُلُ الْأَغْذِيَةِ الضَّارَّةِ وَكَذَلِكَ الْحَرَكَاتُ الشَّدِيدَةُ الْمُوَرِّثَةُ لِلْأَلَمِ فَهَذَا الْوُجُودُ لَا يَكُونُ وُجُودًا تَامًّا مَحْضًا ؛ إذْ الْوُجُودُ التَّامُّ الْمَحْضُ لَا يُوَرِّثُ إلَّا خَيْرًا كَمَا قُلْنَا إنَّ الْعَدَمَ الْمَحْضَ لَا يَقْتَضِي وُجُودًا ؛ بَلْ يَكُونُ وُجُودًا نَاقِصًا إمَّا فِي السَّبَبِ وَإِمَّا فِي الْمَحَلِّ كَمَا يَكُونُ سَبَبُ التَّكْذِيبِ عَدَمَ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْإِقْرَارِ بِهِ وَسَبَبُ عَدَمِ هَذَا الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ عَدَمُ أَسْبَابِهِ مِنْ النَّظَرِ التَّامِّ وَالِاسْتِمَاعِ التَّامِّ لِآيَاتِ الْحَقِّ وَأَعْلَامِهِ . وَسَبَبُ عَدَمِ النَّظَرِ وَالِاسْتِمَاعِ : إمَّا عَدَمُ الْمُقْتَضِي فَيَكُونُ عَدَمًا مَحْضًا وَإِمَّا وُجُودُ مَانِعٍ مِنْ الْكِبْرِ أَوْ الْحَسَدِ فِي النَّفْسِ { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } وَهُوَ تَصَوُّرٌ بَاطِلٌ وَسَبَبُهُ عَدَمُ غِنَى النَّفْسِ بِالْحَقِّ فَتَعْتَاضُ عَنْهُ بِالْخَيَالِ الْبَاطِلِ .

وَ " الْحَسَدُ " أَيْضًا سَبَبُهُ عَدَمُ النِّعْمَةِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا مِثْلَ الْمَحْسُودِ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ كَرَاهَةَ الْحَاسِدِ لَأَنْ يُكَافِئَهُ الْمَحْسُودُ أَوْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ الْفُسُوقُ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَسَائِرِ الْقَبَائِحِ إنَّمَا سَبَبُهَا حَاجَةُ النَّفْسِ إلَى الِاشْتِفَاءِ بِالْقَتْلِ وَالِالْتِذَاذِ بِالزِّنَا وَإِلَّا فَمَنْ حَصَلَ غَرَضُهُ بِلَا قَتْلٍ أَوْ نَالَ اللَّذَّةَ بِلَا زِنًا لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ وَالْحَاجَةُ مَصْدَرُهَا الْعَدَمُ وَهَذَا يُبَيِّنُ - إذَا تَدَبَّرَهُ الْإِنْسَانُ - أَنَّ الشَّرَّ الْمَوْجُودَ إذَا أُضِيفَ إلَى عَدَمٍ أَوْ وُجُودٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وُجُودًا نَاقِصًا فَتَارَةً يُضَافُ إلَى عَدَمِ كَمَالِ السَّبَبِ أَوْ فَوَاتِ الشَّرْطِ وَتَارَةً يُضَافُ إلَى وُجُودٍ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ تَارَةً بِالسَّبَبِ النَّاقِصِ وَالْمَحَلِّ النَّاقِصِ وَسَبَبُ ذَلِكَ إمَّا عَدَمُ شَرْطٍ أَوْ وُجُودُ مَانِعٍ وَالْمَانِعُ لَا يَكُونُ مَانِعًا إلَّا لِضِعْفِ الْمُقْتَضِي وَكُلُّ مَا ذَكَرْته وَاضِحٌ بَيِّنٌ إلَّا هَذَا الْمَوْضِعَ فَفِيهِ غُمُوضٌ يَتَبَيَّنُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ وَلَهُ طَرَفَانِ : " أَحَدُهُمَا " أَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَكُونُ سَبَبُهُ عَدَمًا مَحْضًا . و " الثَّانِي " أَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْعَدَمِ الْمَحْضِ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْبَدِيهَةِ أَنَّ الْكَائِنَاتِ الْمَوْجُودَةَ لَا تَصْدُرُ إلَّا عَنْ حَقٍّ مَوْجُودٍ .

وَلِهَذَا كَانَ مَعْلُومًا بِالْفِطْرَةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ مَصْنُوعٍ مِنْ صَانِعٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } يَقُولُ : أَخُلِقُوا مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ خَلَقَهُمْ أَمْ هُمْ خَلَقُوا أَنْفُسَهُمْ ؟ . وَمِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ بِالْقِيَاسِ وَضَرْبُ الْمِثَالِ . وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ مُمْكِنٌ وَدَلَائِلُهُ كَثِيرَةٌ . وَالْفِطْرَةُ عِنْدَ صِحَّتِهَا أَشَدُّ إقْرَارًا بِهِ وَهُوَ لَهَا أَبْدَهُ وَهِيَ إلَيْهِ أَشَدُّ اضْطِرَارًا مِنْ الْمِثَالِ الَّذِي يُقَاسُ بِهِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْأُصُولِ فِي الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ هَلْ يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوُجُودِيُّ بِالْوَصْفِ الْعَدَمِيِّ فِيهَا مَعَ قَوْلِهِمْ : إنَّ الْعَدَمِيَّ يُعَلَّلُ بِالْعَدَمِيِّ ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُعَلَّلُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْوُجُودِ فِي قِيَاسِ الْعِلَّةِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّتُهُ لَهُ فِي قِيَاسِ الدَّلَالَةِ فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ فِي قِيَاسِ الدَّلَالَةِ وَهَذَا فَصْلُ الْخِطَابِ وَهُوَ أَنَّ قِيَاسَ الدَّلَالَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَدَمُ فِيهِ عِلَّةً وَجُزْءًا مِنْ عِلَّةٍ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْوَصْفِ قَدْ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى وَصْفٍ وُجُودِيٍّ يَقْتَضِي الْحُكْمَ . وَأَمَّا " قِيَاسُ الْعِلَّةِ " فَلَا يَكُونُ الْعَدَمُ فِيهِ عِلَّةً تَامَّةً ؛ لَكِنْ يَكُونُ جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ وَشَرْطًا لِلْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِتَامَّةِ وَقُلْنَا : جُزْءٌ مِنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ . وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ شَرْطًا فِي اقْتِضَاءِ الْعِلَّةِ الْوُجُودِيَّةِ

وَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ فَإِذَا حُقِّقَتْ الْمَعَانِي ارْتَفَعَ . فَهَذَا فِي بَيَانِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَهُوَ أَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَكُونُ سَبَبُهُ عَدَمًا مَحْضًا . وَأَمَّا " الطَّرَفُ الثَّانِي " وَهُوَ أَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُودِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمًا فَلِأَنَّ الْعَدَمَ الْمَحْضَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ مَوْجُودٍ بَلْ يَكْفِي فِيهِ عَدَمُ السَّبَبِ الْمَوْجُودِ ؛ وَلِأَنَّ السَّبَبَ الْمَوْجُودَ إذَا أَثَّرَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ شَيْئًا وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَيْسَ بِشَيْءِ فَالْأَثَرُ الَّذِي هُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِ الْأَثَرِ ؛ بَلْ إذَا أَثَّرَ الْإِعْدَامُ فَالْإِعْدَامُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ فِيهِ عَدَمٌ فَإِنَّ جَعْلَ الْمَوْجُودِ مَعْدُومًا وَالْمَعْدُومِ مَوْجُودًا أَمْرٌ مَعْقُولٌ أَمَّا جَعْلُ الْمَعْدُومِ مَعْدُومًا فَلَا يُعْقَلُ إلَّا بِمَعْنَى الْإِبْقَاءِ عَلَى الْعَدَمِ وَالْإِبْقَاءُ عَلَى الْعَدَمِ يَكْفِي فِيهِ عَدَمُ الْفَاعِلِ وَالْفَرْقُ مَعْلُومٌ بَيْنَ عَدَمِ الْفَاعِلِ وَعَدَمِ الْمُوجِبِ فِي عَدَمِ الْعِلَّةِ وَبَيْنَ فَاعِلِ الْعَدَمِ وَمُوجِبِ الْعَدَمِ وَعِلَّةُ الْعَدَمِ . وَالْعَدَمُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الثَّانِي ؛ بَلْ يَكْفِي فِيهِ الْأَوَّلُ . فَتَبَيَّنَّ بِذَلِكَ الطَّرَفَانِ وَهُوَ أَنَّ الْعَدَمَ الْمَحْضَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَوْبُ وُجُودٍ لَا يَكُونُ وُجُودًا مَا : لَا سَبَبًا وَلَا مُسَبِّبًا وَلَا فَاعِلًا وَلَا مَفْعُولًا أَصْلًا فَالْوُجُودُ الْمَحْضُ التَّامُّ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَوْبُ عَدَمٍ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِعَدَمِ أَصْلًا وَلَا مُسَبَّبًا عَنْهُ وَلَا فَاعِلًا لَهُ وَلَا مَفْعُولًا أَمَّا كَوْنُهُ لَيْسَ مُسَبَّبًا عَنْهُ وَلَا مَفْعُولًا لَهُ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا كَوْنُهُ لَيْسَ سَبَبًا لَهُ فَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِعَدَمِ مَحْضٍ فَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ مَوْجُودٍ وَإِنْ كَانَ لِعَدَمِ

فِيهِ وُجُودٌ فَذَاكَ الْوُجُودُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ وَلَوْ كَانَ سَبَبُهُ تَامًّا وَهُوَ قَابِلٌ لَمَا دَخَلَ فِيهِ عَدَمٌ ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ السَّبَبُ تَامًّا وَالْمَحَلُّ قَابِلًا وَجَبَ وُجُودُ الْمُسَبِّبِ فَحَيْثُ كَانَ فِيهِ عَدَمٌ فَلِعَدَمِ مَا فِي السَّبَبِ أَوْ فِي الْمَحَلِّ فَلَا يَكُونُ وُجُودًا مَحْضًا . فَظَهَرَ أَنَّ السَّبَبَ حَيْثُ تَخَلَّفَ حُكْمُهُ إنْ كَانَ لِفَوَاتِ شَرْطٍ فَهُوَ عَدَمٌ وَإِنْ كَانَ لِوُجُودِ مَانِعٍ فَإِنَّمَا صَارَ مَانِعًا لِضِعْفِ السَّبَبِ وَهُوَ أَيْضًا عَدَمُ قُوَّتِهِ وَكَمَالِهِ فَظَهَرَ أَنَّ الْوُجُودَ لَيْسَ سَبَبَ الْعَدَمِ الْمَحْضِ وَظَهَرَ بِذَلِكَ الْقِسْمَةُ الرُّبَاعِيَّةُ وَهِيَ أَنَّ الْوُجُودَ الْمَحْضَ لَا يَكُونُ إلَّا خَيْرًا . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ شَرًّ فِي الْعَالَمِ لَا يَخْرُجُ عَنْ قِسْمَيْنِ إمَّا أَلَمٌ وَإِمَّا سَبَبُ الْأَلَمِ وَسَبَبُ الْأَلَمِ مِثْلُ الْأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْعَذَابِ وَالْأَلَمِ الْمَوْجُودِ لَا يَكُونُ إلَّا لِنَوْعِ عَدَمٍ فَكَمَا يَكُونُ سَبَبُهُ تَفَرُّقُ الِاتِّصَالِ ؛ وَتَفَرُّقُ الِاتِّصَالِ هُوَ عَدَمُ التَّأْلِيفِ وَالِاتِّصَالِ الَّذِي بَيْنَهُمَا وَهُوَ الشَّرُّ وَالْفَسَادُ . وَأَمَّا سَبَبُ الْأَلَمِ فَقَدْ قَرَّرْت فِي " قَاعِدَةٍ كَبِيرَةٍ " أَنَّ أَصْلَ الذُّنُوبِ هُوَ عَدَمُ الْوَاجِبَاتِ لَا فِعْلَ الْمُحَرَّمَات وَأَنَّ فِعْلَ الْمُحَرَّمَاتِ إنَّمَا وَقَعَ لِعَدَمِ الْوَاجِبَاتِ فَصَارَ أَصْلُ الذُّنُوبِ عَدَمَ الْوَاجِبَاتِ وَأَصْلُ الْأَلَمِ

عَدَمَ الصِّحَّةِ ؛ وَلِهَذَا { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُمْ فِي خُطْبَةِ الْحَاجَةِ أَنْ يَقُولُوا : وَنَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا } فَيَسْتَعِيذُ مِنْ شَرِّ النَّفْسِ الَّذِي نَشَأَ عَنْهَا مِنْ ذُنُوبِهَا وَخَطَايَاهَا وَيَسْتَعِيذُ مِنْ سَيِّئَاتِ الْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ عُقُوبَاتُهَا وَآلَامُهَا ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ : { وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا } قَدْ يُرَادُ بِهِ السَّيِّئَاتُ فِي الْأَعْمَالِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْعُقُوبَاتُ ؛ فَإِنَّ لَفْظَ السَّيِّئَاتِ فِي كِتَابِ اللَّهِ يُرَادُ بِهِ مَا يَسُوءُ الْإِنْسَانَ مِنْ الشَّرِّ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ قَالَ تَعَالَى : { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَرَّ النَّفْسِ هُوَ الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ فَتَكُونُ سَيِّئَاتُ الْأَعْمَالِ هِيَ الشَّرُّ وَالْعُقُوبَاتُ الْحَاصِلَةُ بِهَا فَيَكُونُ مُسْتَعِيذًا مِنْ نَوْعَيْ السَّيِّئَاتِ : الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ وَعُقُوبَاتِهَا كَمَا فِي الِاسْتِعَاذَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي الصَّلَاةِ : { أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ } فَأَمَرَنَا بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ الْعَذَابِ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَعَذَابِ الْبَرْزَخِ وَمِنْ سَبَبِ الْعَذَابِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَفِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَذَكَرَ الْفِتْنَةَ الْخَاصَّةَ بَعْدَ الْفِتْنَةِ الْعَامَّةِ فِتْنَةِ الْمَسِيح الدَّجَّالِ فَإِنَّهَا أَعْظَمُ الْفِتَنِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَا مِنْ خَلْقِ آدَمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ فِتْنَةٍ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ } .

فَصْلٌ :
إذَا ظَهَرَ أَنَّ الْعَبْدَ وَكُلَّ مَخْلُوقٍ فَقِيرٌ إلَى اللَّهِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لَيْسَ فَقِيرًا إلَى سِوَاهُ فَلَيْسَ هُوَ مُسْتَغْنِيًا بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِ رَبِّهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ فَقِيرٌ أَيْضًا مُحْتَاجٌ إلَى اللَّهِ وَمِنْ الْمَأْثُورِ عَنْ أَبِي يَزِيدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ : اسْتِغَاثَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ كَاسْتِغَاثَةِ الْغَرِيقِ بِالْغَرِيقِ . وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ أَنَّهُ قَالَ : اسْتِغَاثَةُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ كَاسْتِغَاثَةِ الْمَسْجُونِ بِالْمَسْجُونِ . وَهَذَا تَقْرِيبٌ وَإِلَّا فَهُوَ كَاسْتِغَاثَةِ الْعَدَمِ بِالْعَدَمِ ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَغَاثَ بِهِ إنْ لَمْ يَخْلُقْ الْحَقُّ فِيهِ قُوَّةً وَحَوْلًا وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ قَالَ سُبْحَانَهُ : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ }.
وَاسْمُ الْعَبْدِ يَتَنَاوَلُ مَعْنَيَيْنِ . " أَحَدَهُمَا " بِمَعْنَى الْعَابِدِ كَرْهًا كَمَا قَالَ : { إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } وَقَالَ : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } وَقَالَ : { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } { كُلٌّ

لَهُ قَانِتُونَ } وَقَالَ : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } . و " الثَّانِي " بِمَعْنَى الْعَابِدِ طَوْعًا وَهُوَ الَّذِي يَعْبُدُهُ وَيَسْتَعِينُهُ وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } وَقَوْلِهِ : { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } وَقَوْلِهِ : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وَقَوْلِهِ : { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } وَقَوْلِهِ : { يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ } وَقَوْلِهِ : { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } وَقَوْلِهِ : { فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } وَقَوْلِهِ : { نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ } وَقَوْلِهِ : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } وَقَوْلِهِ : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } . وَهَذِهِ الْعُبُودِيَّةُ قَدْ يَخْلُو الْإِنْسَانُ مِنْهَا تَارَةً وَأَمَّا الْأُولَى فَوَصْفٌ لَازِمٌ إذَا أُرِيدَ بِهَا جَرَيَانُ الْقَدَرِ عَلَيْهِ وَتَصْرِيفُ الْخَالِقِ لَهُ قَالَ تَعَالَى : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } وَعَامَّةُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِسْلَامِ اسْتِسْلَامُهُمْ لَهُ بِالْخُضُوعِ وَالذُّلِّ لَا مُجَرَّدَ تَصْرِيفِ الرَّبِّ لَهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } وَهَذَا الْخُضُوعُ وَالذُّلُّ هُوَ أَيْضًا لَازِمٌ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ

كَانَ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ أَحْيَانًا الْإِعْرَاضُ عَنْ رَبِّهِ وَالِاسْتِكْبَارُ فَلَا بُدَّ لَهُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ مِنْ الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ لَهُ ؛ لَكِنَّ الْمُؤْمِنَ يُسَلِّمُ لَهُ طَوْعًا فَيُحِبُّهُ وَيُطِيعُ أَمْرَهُ وَالْكَافِرَ إنَّمَا يَخْضَعُ لَهُ عِنْدَ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ فَإِذَا زَالَ عَنْهُ ذَلِكَ أَعْرَضَ عَنْ رَبِّهِ كَمَا قَالَ : { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } وَقَالَ : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا } . وَفَقْرُ الْمَخْلُوقِ وَعُبُودِيَّتُهُ أَمْرٌ ذَاتِيٌّ لَهُ لَا وُجُودَ لَهُ بِدُونِ ذَلِكَ وَالْحَاجَةُ ضَرُورِيَّةٌ لِكُلِّ الْمَصْنُوعَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ وَبِذَلِكَ هِيَ أَنَّهَا لِخَالِقِهَا وَفَاطِرِهَا إذْ لَا قِيَامَ لَهَا بِدُونِهِ وَإِنَّمَا يَفْتَرِقُ النَّاسُ فِي شُهُودِ هَذَا الْفَقْرِ وَالِاضْطِرَارِ وَعُزُوبِهِ عَنْ قُلُوبِهِمْ . و " أَيْضًا " فَالْعَبْدُ يَفْتَقِرُ إلَى اللَّهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَعْبُودُهُ الَّذِي يُحِبُّهُ حُبَّ إجْلَالٍ وَتَعْظِيمٍ فَهُوَ غَايَةُ مَطْلُوبِهِ وَمُرَادِهِ وَمُنْتَهَى هِمَّتِهِ وَلَا صَلَاحَ لَهُ إلَّا بِهَذَا وَأَصْلُ الْحَرَكَاتِ الْحُبُّ وَاَلَّذِي يَسْتَحِقُّ الْمَحَبَّةَ لِذَاتِهِ هُوَ اللَّهُ فَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ مَعَ اللَّهِ شَيْئًا فَهُوَ مُشْرِكٌ وَحُبُّهُ فَسَادٌ ؛ وَإِنَّمَا الْحُبُّ الصَّالِحُ النَّافِعُ حُبُّ اللَّهِ وَالْحَبُّ لِلَّهِ وَالْإِنْسَانُ فَقِيرٌ إلَى اللَّهِ مِنْ جِهَةِ عِبَادَتِهِ لَهُ وَمِنْ جِهَةِ اسْتِعَانَتِهِ بِهِ لِلِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ لِمَنْ أَنْتَ إلَيْهِ فَقِيرٌ وَهُوَ رَبُّك وَإِلَهُك .

وَهَذَا الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ أَمْرٌ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ تَعْلَمُ فَقْرَهَا إلَى خَالِقِهَا وَتَذِلُّ لِمَنْ افْتَقَرَتْ إلَيْهِ وَغِنَاهُ مِنْ الصَّمَدِيَّةِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا فَإِنَّهُ { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَهُوَ شُهُودُ الرُّبُوبِيَّةِ بِالِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ ثُمَّ هَذَا لَا يَكْفِيهَا حَتَّى تَعْلَمَ مَا يُصْلِحُهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَذَلِكَ هُوَ عِبَادَتُهُ وَالْإِنَابَةُ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا خُلِقَ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ فَصَلَاحُهُ وَكَمَالُهُ وَلَذَّتُهُ وَفَرَحُهُ وَسُرُورُهُ فِي أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ وَيُنِيبَ إلَيْهِ وَذَلِكَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَسْأَلَتِهِ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ حَادِثَةٌ بِمَشِيئَتِهِ قَائِمَةٌ بِقُدْرَتِهِ وَكَلِمَتِهِ مُحْتَاجَةٌ إلَيْهِ فَقِيرَةٌ إلَيْهِ مُسَلِّمَةٌ لَهُ طَوْعًا وَكَرْهًا فَإِذَا شَهِدَ الْعَبْدُ ذَلِكَ وَأَسْلَمَ لَهُ وَخَضَعَ فَقَدْ آمَنَ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَرَأَى حَاجَتَهُ وَفَقْرَهُ إلَيْهِ صَارَ سَائِلًا لَهُ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ مُسْتَعِينًا بِهِ إمَّا بِحَالِهِ أَوْ بِقَالِهِ بِخِلَافِ الْمُسْتَكْبِرِ عَنْهُ الْمُعْرِضِ عَنْ مَسْأَلَتِهِ . ثُمَّ هَذَا الْمُسْتَعِينُ بِهِ السَّائِلُ لَهُ إمَّا أَنْ يَسْأَلَ مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ أَوْ مَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَوْ مَا هُوَ مُبَاحٌ لَهُ ؛ ف " الْأَوَّلُ " حَالُ الْمُؤْمِنِينَ السُّعَدَاءِ الَّذِينَ حَالُهُمْ { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } و " الثَّانِي " حَالُ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ وَالْعُصَاةِ الَّذِينَ فِيهِمْ إيمَانٌ بِهِ وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا كَمَا قَالَ : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } فَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِرُبُوبِيَّتِهِ مُشْرِكُونَ فِي عِبَادَتِهِ كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُصَيْنٍ الخزاعي :

يَا حُصَيْنُ كَمْ تَعْبُدُ ؟ قَالَ : سَبْعَةَ آلِهَةٍ : سِتَّةً فِي الْأَرْضِ وَوَاحِدًا فِي السَّمَاءِ قَالَ : فَمَنْ الَّذِي تَعُدُّ لِرَغْبَتِك وَرَهْبَتِك ؟ قَالَ : الَّذِي فِي السَّمَاءِ قَالَ : أَسْلِمْ حَتَّى أُعَلِّمَك كَلِمَةً يَنْفَعُك اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فَأَسْلَمَ فَقَالَ : قُلْ : اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَقِنِّي شَرَّ نَفْسِي } رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ . وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إذَا دَعَاهُ فَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ رُبُوبِيَّتِهِ لَهُمْ وَإِعْطَائِهِ سُؤْلَهُمْ وَإِجَابَةِ دُعَائِهِمْ ؛ فَإِنَّهُمْ إذَا دَعَوْهُ فَقَدْ آمَنُوا بِرُبُوبِيَّتِهِ لَهُمْ وَإِنْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ كُفَّارًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَفُسَّاقًا أَوْ عُصَاةً قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وَنَظَائِرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَمْرَيْنِ فَقَالَ : { فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } فـ " الْأَوَّلُ " أَنْ يُطِيعُوهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ و " الثَّانِي " الْإِيمَانُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَأَنَّهُ رَبُّهُمْ وَإِلَهُهُمْ . وَلِهَذَا قِيلَ : إجَابَةُ الدُّعَاءِ تَكُونُ عَنْ صِحَّةِ الِاعْتِقَادِ وَعَنْ كَمَالِ الطَّاعَةِ ؛

لِأَنَّهُ عَقَّبَ آيَةَ الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ : { فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي } وَالطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ هِيَ مَصْلَحَةُ الْعَبْدِ الَّتِي فِيهَا سَعَادَتُهُ وَنَجَاتُهُ وَأَمَّا إجَابَةُ دُعَائِهِ وَإِعْطَاءُ سُؤَالِهِ فَقَدْ يَكُونُ مَنْفَعَةً وَقَدْ يَكُونُ مَضَرَّةً قَالَ تَعَالَى : { وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُشْرِكِينَ : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وَقَالَ : { إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } وَقَالَ : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } وَقَالَ : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } الْآيَةَ وَقَالَ : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } { وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى أَهْلِ جَابِرٍ فَقَالَ : لَا تَدْعُوَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إلَّا بِخَيْرِ ؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ } .

فَصْلٌ :
فَالْعَبْدُ كَمَا أَنَّهُ فَقِيرٌ إلَى اللَّهِ دَائِمًا فِي إعَانَتِهِ وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ وَإِعْطَاءِ سُؤَالِهِ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِ فَهُوَ فَقِيرٌ إلَيْهِ فِي أَنْ يَعْلَمَ مَا يُصْلِحُهُ وَمَا هُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ وَيُرِيدُهُ وَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالشَّرِيعَةُ وَإِلَّا فَإِذَا قُضِيَتْ حَاجَتُهُ الَّتِي طَلَبَهَا وَأَرَادَهَا وَلَمْ تَكُنْ مَصْلَحَةً لَهُ كَانَ ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ لَهُ فِيهِ لَذَّةٌ وَمَنْفَعَةٌ فَالِاعْتِبَارُ بِالْمَنْفَعَةِ الْخَالِصَةِ أَوْ الرَّاجِحَةِ وَهَذَا قَدْ عَرَّفَهُ اللَّهُ عِبَادَهُ بِرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ : عَلَّمُوهُمْ وَزَكَّوْهُمْ وَأَمَرُوهُمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَنَهَوْهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ وَبَيَّنُوا لَهُمْ أَنَّ مَطْلُوبَهُمْ وَمَقْصُودَهُمْ وَمَعْبُودَهُمْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ؛ كَمَا أَنَّهُ هُوَ رَبُّهُمْ وَخَالِقُهُمْ وَأَنَّهُمْ إنْ تَرَكُوا عِبَادَتَهُ أَوْ أَشْرَكُوا بِهِ غَيْرَهُ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا وَضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا وَكَانَ مَا أُوتُوهُ مِنْ قُوَّةٍ وَمَعْرِفَةٍ وَجَاهٍ وَمَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ - وَإِنْ كَانُوا فِيهِ فُقَرَاءَ إلَى اللَّهِ مُسْتَعِينِينَ بِهِ عَلَيْهِ مُقِرِّينَ بِرُبُوبِيَّتِهِ - فَإِنَّهُ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ وَلَهُمْ بِئْسَ الْمَصِيرُ وَسُوءُ الدَّارِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْأَمْرُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ وَالْإِرَادَةُ الدِّينِيَّةُ

الشَّرْعِيَّةُ كَمَا تَعَلَّقَ بِالْأَوَّلِ الْأَمْرُ الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ وَالْإِرَادَةُ الْكَوْنِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَنْعَمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِعَانَةِ وَالْهِدَايَةِ ؛ فَإِنَّهُ بَيَّنَ لَهُمْ هُدَاهُمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَأَعَانَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ ذَلِكَ عِلْمًا وَعَمَلًا كَمَا مَنَّ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ بِأَنْ خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ وَعَافَاهُمْ وَمَنَّ عَلَى أَكْثَرِ الْخَلْقِ بِأَنْ عَرَّفَهُمْ رُبُوبِيَّتَهُ لَهُمْ وَحَاجَتَهُمْ إلَيْهِ وَأَعْطَاهُمْ سُؤْلَهُمْ وَأَجَابَ دُعَاءَهُمْ قَالَ تَعَالَى : { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } فَكُلُّ أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَسْأَلُونَهُ فَصَارَتْ الدَّرَجَاتُ أَرْبَعَةً . " قَوْمٌ " لَمْ يَعْبُدُوهُ وَلَمْ يَسْتَعِينُوهُ وَقَدْ خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ وَعَافَاهُمْ . و " قَوْمٌ " اسْتَعَانُوهُ فَأَعَانَهُمْ وَلَمْ يَعْبُدُوهُ . و " قَوْمٌ " طَلَبُوا عِبَادَتَهُ وَطَاعَتَهُ وَلَمْ يَسْتَعِينُوهُ وَلَمْ يَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ . و " الصِّنْفُ الرَّابِعُ " الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَاسْتَعَانُوهُ فَأَعَانَهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا خَصَّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ : { حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ } . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى أَفْضَلِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ :
وَالْعَبْدُ مُضْطَرٌّ دَائِمًا إلَى أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ فَهُوَ مُضْطَرٌّ إلَى مَقْصُودِ هَذَا الدُّعَاءِ ؛ فَإِنَّهُ لَا نَجَاةَ مِنْ الْعَذَابِ وَلَا وُصُولَ إلَى السَّعَادَةِ إلَّا بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ فَمَنْ فَاتَهُ فَهُوَ إمَّا مِنْ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَإِمَّا مِنْ الضَّالِّينَ وَهَذَا الْهُدَى لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهُدَى اللَّهِ وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا يُبَيِّنُ فَسَادَ مَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ . وَأَمَّا سُؤَالُ مَنْ يَقُولُ فَقَدْ هَدَاهُمْ فَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَى السُّؤَالِ وَجَوَابُ مَنْ أَجَابَهُ بِأَنَّ الْمَطْلُوبَ دَوَامُهَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ الْأَسْبَابِ وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ؛ فَإِنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ أَنْ يَفْعَلَ الْعَبْدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا أُمِرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَلَا يَفْعَلُ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَهَذَا يَحْتَاجُ فِي كُلِّ وَقْتٍ إلَى أَنْ يَعْلَمَ وَيَعْمَلَ مَا أُمِرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ

وَمَا نُهِيَ عَنْهُ وَإِلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ إرَادَةٌ جَازِمَةٌ لِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَكَرَاهَةٌ جَازِمَةٌ لِتَرْكِ الْمَحْظُورِ فَهَذَا الْعِلْمُ الْمُفَصَّلُ وَالْإِرَادَةُ الْمُفَصَّلَةُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَحْصُلَ لِلْعَبْدِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَلْ كُلُّ وَقْتٍ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْإِرَادَاتِ مَا يَهْتَدِي بِهِ فِي ذَلِكَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . نَعَمْ حَصَلَ لَهُ هُدًى مُجْمَلٌ بِأَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ وَالرَّسُولَ حَقٌّ وَدِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَذَلِكَ حَقٌّ ؛ وَلَكِنَّ هَذَا الْمُجْمَلَ لَا يُغْنِيهِ إنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هُدًى مُفَصَّلٌ فِي كُلِّ مَا يَأْتِيهِ وَيَذْرُهُ مِنْ الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي يَحَارُ فِيهَا أَكْثَرُ عُقُولِ الْخَلْقِ وَيَغْلِبُ الْهَوَى وَالشَّهَوَاتُ أَكْثَرَ عُقُولِهِمْ لِغَلَبَةِ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ عَلَيْهِمْ . وَالْإِنْسَانُ خُلِقَ ظَلُومًا جَهُولًا فَالْأَصْلُ فِيهِ عَدَمُ الْعِلْمِ وَمَيْلُهُ إلَى مَا يَهْوَاهُ مِنْ الشَّرِّ فَيَحْتَاجُ دَائِمًا إلَى عِلْمٍ مُفَصَّلٍ يَزُولُ بِهِ جَهْلُهُ وَعَدْلٍ فِي مَحَبَّتِهِ وَبُغْضِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَفِعْلِهِ وَتَرْكِهِ وَإِعْطَائِهِ وَمَنْعِهِ وَأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَنَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ فَكُلُّ مَا يَقُولُهُ وَيَعْمَلُهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى عِلْمٍ يُنَافِي جَهْلَهُ وَعَدْلٍ يُنَافِي ظُلْمَهُ فَإِنْ لَمْ يَمُنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ الْمُفَصَّلِ وَالْعَدْلِ الْمُفَصَّلِ كَانَ فِيهِ مِنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ مَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ : { إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا

مُسْتَقِيمًا } فَإِذَا كَانَ هَذِهِ حَالُهُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا فَكَيْفَ حَالُ غَيْرِهِ .
و الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمِ قَدْ فُسِّرَ بِالْقُرْآنِ وَبِالْإِسْلَامِ وَطَرِيقِ الْعُبُودِيَّةِ وَكُلُّ هَذَا حَقٌّ .
فَهُوَ مَوْصُوفٌ بِهَذَا وَبِغَيْرِهِ فـ " الْقُرْآنُ " مُشْتَمِلٌ عَلَى مُهِمَّاتٍ وَأُمُورٍ دَقِيقَةٍ وَنَوَاهٍ وَأَخْبَارٍ وَقَصَصٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَهْدِ اللَّهُ الْعَبْدَ إلَيْهَا فَهُوَ جَاهِلٌ بِهَا ضَالٌّ عَنْهَا وَكَذَلِكَ " الْإِسْلَامُ " وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَكَارِمِ وَالطَّاعَاتِ وَالْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ وَكَذَلِكَ " الْعِبَادَةُ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ " . فَحَاجَةُ الْعَبْدِ إلَى سُؤَالِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ ضَرُورِيَّةٌ فِي سَعَادَتِهِ وَنَجَاتِهِ وَفَلَاحِهِ ؛ بِخِلَافِ حَاجَتِهِ إلَى الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ فَإِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُهُ فَإِذَا انْقَطَعَ رِزْقُهُ مَاتَ وَالْمَوْتُ لَا بُدَّ مِنْهُ فَإِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْهُدَى بِهِ كَانَ سَعِيدًا قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ وَكَانَ الْمَوْتُ مُوَصِّلًا إلَى السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ وَكَذَلِكَ النَّصْرُ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ غُلِبَ حَتَّى قُتِلَ فَإِنَّهُ يَمُوتُ شَهِيدًا وَكَانَ الْقَتْلُ مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْهُدَى أَعْظَمُ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى النَّصْرِ وَالرِّزْقِ ؛ بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا هُدِيَ كَانَ مِنْ الْمُتَّقِينَ { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } وَكَانَ مِمَّنْ يَنْصُرُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ نَصَرَ اللَّهَ نَصَرَهُ اللَّهُ وَكَانَ مِنْ جُنْدِ اللَّهِ وَهُمْ الْغَالِبُونَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ هَذَا الدُّعَاءُ هُوَ الْمَفْرُوضُ .

وَ" أَيْضًا " فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الرِّزْقَ وَالنَّصْرَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا هُدِيَ ثُمَّ أَمَرَ وَهَدَى غَيْرَهُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَرُؤْيَتِهِ فَالْهُدَى التَّامُّ أَعْظَمُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الرِّزْقُ وَالنَّصْرُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ جَامِعٌ لِكُلِّ مَطْلُوبٍ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ لَا يَقُومُ مَقَامَهَا وَأَنَّ فَضْلَهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْكَلَامِ أَعْظَمُ مِنْ فَضْلِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى سَائِرِ أَفْعَالِ الْخُضُوعِ فَإِذَا تَعَيَّنَتْ الْأَفْعَالُ فَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَقَدْ ذَكَرْت فِي مَوَاضِعَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ " سُورَةُ الْبَقَرَةِ " مِنْ تَقْرِيرِ أُصُولِ الْعِلْمِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَتَحَهَا بِذِكْرِ كِتَابِهِ الْهَادِي لِلْمُتَّقِينَ فَوَصَفَ حَالَ أَهْلِ الْهُدَى ثُمَّ الْكَافِرِينَ ثُمَّ الْمُنَافِقِينَ . فَهَذِهِ " جُمَلٌ خَبَرِيَّةٌ " ثُمَّ ذَكَرَ " الْجُمَلَ الطَّلَبِيَّةَ " فَدَعَا النَّاسُ إلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلَائِلَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ فَرْشِ الْأَرْضِ وَبِنَاءِ السَّمَاءِ وَإِنْزَالِ الْمَاءِ وَإِخْرَاجِ الثِّمَارِ رِزْقًا لِلْعِبَادِ ثُمَّ قَرَّرَ " الرِّسَالَةَ " وَذَكَرَ " الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ " ثُمَّ ذَكَرَ مَبْدَأَ " النُّبُوَّةِ وَالْهُدَى " وَمَا بَثَّهُ فِي الْعَالَمِ مِنْ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ ثُمَّ ذَكَرَ تَعْلِيمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ وَإِسْجَادَ الْمَلَائِكَةِ لَهُ لِمَا شَرَّفَهُ مِنْ الْعِلْمِ ؛ فَإِنَّ هَذَا تَقْرِيرٌ لِجِنْسِ مَا بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ فَقَصَّ جِنْسَ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ . ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى خِطَابِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَقِصَّةِ مُوسَى مَعَهُمْ وَضَمَّنَ ذَلِكَ تَقْرِيرَ نُبُوَّتِهِ إذْ هُوَ قَرِينُ مُحَمَّدٍ فَذَكَرَ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ ،

وَمُوسَى الَّذِي هُوَ نَظِيرُهُ وَهُمَا اللَّذَانِ احْتَجَّا وَمُوسَى قَتَلَ نَفْسًا فَغَفَرَ لَهُ وَآدَمُ أَكَلَ مِنْ الشَّجَرَةِ فَتَابَ عَلَيْهِ وَكَانَ فِي قِصَّةِ مُوسَى رَدٌّ عَلَى الصَّابِئَةِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يُقِرُّ بِجِنْسِ النُّبُوَّاتِ وَلَا يُوجِبُ اتِّبَاعَ مَا جَاءُوا بِهِ وَقَدْ يَتَأَوَّلُونَ أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَا تَضَمَّنَهُ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْرِيرِ نُبُوَّتِهِ وَذَكَرَ حَالَ مَنْ عَدَلَ عَنْ النُّبُوَّةِ إلَى السِّحْرِ وَذَكَرَ النَّسْخَ الَّذِي يُنْكِرُهُ بَعْضُهُمْ وَذَكَرَ النَّصَارَى وَأَنَّ الْأُمَّتَيْنِ لَنْ يَرْضَوْا عَنْهُ حَتَّى يَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ . كُلُّ هَذَا فِي تَقْرِيرِ أُصُولِ الدِّينِ مِنْ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ . ثُمَّ أَخَذَ سُبْحَانَهُ فِي بَيَانِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الَّتِي عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ فَذَكَرَ إبْرَاهِيمَ الَّذِي هُوَ إمَامٌ وَبِنَاءَ الْبَيْتِ الَّذِي بِتَعْظِيمِهِ يَتَمَيَّزُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ عَمَّا سِوَاهُمْ وَذَكَرَ اسْتِقْبَالَهُ وَقَرَّرَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ شِعَارُ الْمِلَّةِ بَيْنَ أَهْلِهَا وَغَيْرِهِمْ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ : أَهْلُ الْقِبْلَةِ كَمَا يُقَالُ : { مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ } . وَذَكَرَ مِنْ " الْمَنَاسِكِ " مَا يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ لَهُ مَكَانٌ وَزَمَانٌ و " الْعُمْرَةَ " لَهَا مَكَانٌ فَقَطْ وَالْعُكُوفُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ شُرِعَ فِيهِ ؛ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِهِ وَلَا بِمَكَانِ وَلَا بِزَمَانِ ؛ لَكِنَّ الصَّلَاةَ تَتَقَيَّدُ بِاسْتِقْبَالِهِ فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْخَمْسَةَ : مِنْ الْعُكُوفِ

وَالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ وَالطَّوَافُ يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ فَقَطْ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَيْتِ مِنْ الطَّوَافِ بِالْجَبَلَيْنِ وَأَنَّهُ لَا جُنَاحَ فِيهِ جَوَابًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَنْصَارُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ كَرَاهَةِ الطَّوَافِ بِهِمَا لِأَجْلِ إهْلَالِهِمْ لِمَنَاةَ وَجَوَابًا لِقَوْمِ تَوَقَّفُوا عَنْ الطَّوَافِ بِهِمَا . وَجَاءَ ذِكْرُ الطَّوَافِ بَعْدَ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبَيْتِ - بَلْ وَبِالْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ - بَعْدَ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ اللَّذَيْنِ لَا يَقُومُ الدِّينُ إلَّا بِهِمَا وَكَانَ ذَلِكَ مِفْتَاحَ الْجِهَادِ الْمُؤَسَّسِ عَلَى الصَّبْرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ أَمْرِ الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ لَا يُخَالِفُونَ فِيهِ فَلَا يَقُومُ أَمْرُ الْبَيْتِ إلَّا بِالْجِهَادِ عَنْهُ وَذَكَرَ الصَّبْرَ عَلَى الْمَشْرُوعِ وَالْمَقْدُورِ وَبَيَّنَّ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ الْبُشْرَى لِلصَّابِرِينَ فَإِنَّهَا أُعْطِيَتْ مَا لَمْ تُعْطَ الْأُمَمُ قَبْلَهَا فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهَا وَشَعَائِرِهَا كَالْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبَيْتِ ؛ وَلِهَذَا يَقْرِنُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ لِدُخُولِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَمَّا الْجِهَادُ فَهُوَ أَعْظَمُ سَبِيلِ اللَّهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَكَذَلِكَ الْحَجُّ فِي الْأَصَحِّ كَمَا قَالَ : { الْحَجُّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ } . وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِذَمِّهِ لِكَاتِمِ الْعِلْمِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ دِينًا غَيْرَ ذَلِكَ . فَفِي أَوَّلِهَا : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } وَفِي أَثْنَائِهَا . { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا } فـ " الْأَوَّلُ " نَهْيٌ عَامٌّ و " الثَّانِي " نَهْيٌ خَاصٌّ وَذَكَرَهَا بَعْدَ الْبَيْتِ لَيُنْتَهَى عَنْ قَصْدِ

الْأَنْدَادِ الْمُضَاهِيَةِ لَهُ وَلِبَيْتِهِ مِنْ الْأَصْنَامِ وَالْمَقَابِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَوَحَّدَ نَفْسَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ { لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَوْحِيدِهِ مِنْ الْآيَاتِ . ثُمَّ ذَكَرَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَأَطْلَقَ الْأَمْرَ فِي الْمَطَاعِمِ ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ بُعِثَ بِالْحَنِيفِيَّةِ وَشِعَارُهَا وَهُوَ الْبَيْتُ وَذَكَرَ سَمَاحَتَهَا فِي الْأَحْوَالِ الْمُبَاحَةِ وَفِي الدِّمَاءِ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ الْقِصَاصِ وَمِنْ أَخْذِ الدِّيَةِ ثُمَّ ذَكَرَ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالزَّمَانِ فَذَكَرَ الْوَصِيَّةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْمَوْتِ ثُمَّ الصِّيَامَ الْمُتَعَلِّقَ بِرَمَضَانَ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الِاعْتِكَافِ ذَكَرَهُ فِي عِبَادَاتِ الْمَكَانِ وَعِبَادَاتِ الزَّمَانِ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ وَبِالزَّمَانِ اسْتِحْبَابًا أَوْ وُجُوبًا بِوَقْتِ الصِّيَامِ وَوَسَّطَهُ أَوَّلًا بَيْنَ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالصَّلَاةُ تُشْرَعُ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ وَالْعُكُوفُ بَيْنَهُمَا . ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُحَرَّمَ " نَوْعَانِ " : نَوْعٌ لِعَيْنِهِ كَالْمَيِّتَةِ وَنَوْعٌ لِكَسْبِهِ كَالرِّبَا وَالْمَغْصُوبِ فَأَتْبَعَ الْمَعْنَى الثَّابِتَ بِالْمُحَرَّمِ الثَّابِتِ تَحْرِيمُهُ لِعَيْنِهِ وَذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ عِبَادَاتِ الزَّمَانِ الْمُنْتَقِلِ الْحَرَامَ الْمُنْتَقِلَ ؛ وَلِهَذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ } الْآيَةَ وَهِيَ أَعْلَامُ الْعِبَادَاتِ الزَّمَنِيَّةِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَهَا مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَلِلْحَجِّ لِأَنَّ الْبَيْتَ تَحُجُّهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ فَكَانَ هَذَا أَيْضًا

فِي أَنَّ الْحَجَّ مُوَقَّتٌ بِالزَّمَانِ كَأَنَّهُ مُوَقَّتٌ بِالْبَيْتِ الْمَكَانِيِّ ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْحَجِّ مَا يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ مَعَ أَنَّ الْمَكَانَ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ . وَذَكَرَ " الْمُحْصَرَ " وَذَكَرَ تَقْدِيمَ الْإِحْلَالِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَالِ وَهُوَ الْهَدْيُ عَنْ الْإِحْلَالِ الْمُتَعَلِّقِ بِالنَّفْسِ وَهُوَ الْحَلْقُ وَأَنَّ الْمُتَحَلِّلَ يَخْرُجُ مِنْ إحْرَامِهِ فَيَحِلُّ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ آخِرُ مَا يَحِلُّ عَيْنَ الْوَطْءِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ الْمَحْظُورَاتِ وَلَا يَفْسُدُ النُّسُكُ بِمَحْظُورِ سِوَاهُ . وَذَكَرَ " التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ " لِتَعَلُّقِهِ بِالزَّمَانِ مَعَ الْمَكَانِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا حَتَّى يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَتَّى لَا يَكُونَ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ - وَهُوَ الْأُفُقِيُّ - فَإِنَّهُ الَّذِي يَظْهَرُ التَّمَتُّعُ فِي حَقِّهِ لِتَرَفُّهِهِ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ عَنْهُ أَمَّا الَّذِي هُوَ حَاضِرٌ فسيان عِنْدَهُ تَمَتَّعَ أَوْ اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ ذَكَرَ وَقْتَ الْحَجِّ وَأَنَّهُ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ وَذَكَرَ الْإِحْرَامَ وَالْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ ؛ فَإِنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِزَمَانِ وَمَكَانٍ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } وَلَمْ يَقُلْ : وَالْعُمْرَةَ لِأَنَّهَا تُفْرَضُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَلَا رَيْبَ أَنَّ السُّنَّةَ فَرْضُ الْحَجِّ فِي أَشْهُرِهِ وَمَنْ فَرَضَ قَبْلَهُ خَالَفَ السُّنَّةَ فَإِمَّا أَنْ يَلْزَمَهُ مَا الْتَزَمَهُ كَالنَّذْرِ - إذْ لَيْسَ فِيهِ نَقْضٌ لِلْمَشْرُوعِ وَلَيْسَ كَمَنْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ - وَإِمَّا أَنْ يَلْزَمَ

الْإِحْرَامَ وَيَسْقُطُ الْحَجُّ وَيَكُونُ مُعْتَمِرًا وَهَذَانِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ . ثُمَّ أَمَرَ عِنْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ بِذِكْرِهِ وَقَضَاؤُهَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - قَضَاءُ التَّفَثِ وَالْإِحْلَالِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } وَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْعِبَادَاتِ الزَّمَانِيَّةِ الْمَكَانِيَّةِ . وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ رَمْيِ الْجِمَارِ وَمَعَ الصَّلَوَاتِ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَكَانِيٌّ قَوْلُهُ : { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } الْآيَةَ وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّعْجِيلُ وَالتَّأْخِيرُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْمَكَانِ ؛ وَلِهَذَا تُضَافُ هَذِهِ الْأَيَّامُ إلَى مَكَانِهَا فَيُقَالُ : أَيَّامُ مِنًى وَإِلَى عَمَلِهَا فَيُقَالُ : أَيَّامُ التَّشْرِيقِ كَمَا يُقَالُ : لَيْلَةَ جَمْعٍ وَلَيْلَةَ مُزْدَلِفَةَ وَيَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَيَوْمَ الْعِيدِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ فَتُضَافُ إلَى الْأَعْمَالِ وَأَمَاكِنِ الْأَعْمَالِ ؛ إذْ الزَّمَانُ تَابِعٌ لِلْحَرَكَةِ وَالْحَرَكَةُ تَابِعَةٌ لِلْمَكَانِ . فَتَدَبَّرْ تَنَاسُبَ الْقُرْآنِ وَارْتِبَاطَ بَعْضِهِ بِبَعْضِ وَكَيْفَ ذَكَرَ أَحْكَامَ الْحَجِّ فِيهَا فِي مَوْضِعَيْنِ : مَعَ ذَكَرِ بَيْتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِمَكَانِهِ وَمَوْضِعٍ ذَكَرَ فِيهِ الْأَهِلَّةَ فَذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانِهِ وَذَكَرَ أَيْضًا الْقِتَالَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمُقَاصَّةَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالزَّمَانِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَكَانِ ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ سُبْحَانَهُ ذِكْرَ كَوْنِ الْأَهِلَّةِ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ . وَذَكَرَ أَنَّ " الْبِرَّ " لَيْسَ أَنْ يُشْقِيَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ وَيَفْعَلَ مَا لَا فَائِدَةَ

فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ يَبْرُزُ لِلسَّمَاءِ فَلَا يَسْتَظِلُّ بِسَقْفِ بَيْتِهِ حَتَّى إذَا أَرَادَ دُخُولَ بَيْتِهِ لَا يَأْتِيهِ إلَّا مِنْ ظَهْرِهِ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْهِلَالَ الَّذِي جُعِلَ مِيقَاتًا لِلْحَجِّ شَرْعٌ مِثْلُ هَذَا وَإِنَّمَا تَضَمَّنَ شَرْعَ التَّقْوَى ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ النِّكَاحِ وَالْوَالِدَاتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْوَالِ وَالصَّدَقَاتِ وَالرِّبَا وَالدُّيُونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ خَتَمَهَا بِالدُّعَاءِ الْعَظِيمِ الْمُتَضَمِّنِ وَضْعَ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ وَالْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ وَطَلَبَ النَّصْرِ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ هُمْ أَعْدَاءُ مَا شَرَعَهُ مِنْ الدِّينِ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
هَذَا تَفْسِيرُ آيَاتٍ أُشْكِلَتْ حَتَّى لَا يُوجَدُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ " كُتُبِ التَّفْسِيرِ " إلَّا مَا هُوَ خَطَأٌ .
مِنْهَا قَوْلُهُ : { بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } الْآيَةَ ، ذَكَرَ أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ السَّيِّئَةَ الشِّرْكُ وَقِيلَ الْكَبِيرَةُ يَمُوتُ عَلَيْهَا قَالَهُ عِكْرِمَةُ قَالَ مُجَاهِدٌ : هِيَ الذُّنُوبُ تُحِيطُ بِالْقَلْبِ . قُلْت : الصَّوَابُ ذِكْرُ أَقْوَالِ السَّلَفِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا ضَعِيفٌ فَالْحُجَّةُ تُبَيِّنُ ضَعْفَهُ فَلَا يُعْدَلُ عَنْ ذِكْرِ أَقْوَالِهِمْ لِمُوَافَقَتِهَا قَوْلَ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُبْتَدَعَةِ وَهُمْ يَنْقُلُونَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَخْطَأَ فِيهَا الْكَاتِبُ كَمَا قِيلَ فِي غَيْرِهَا وَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ بَعْدَ تَوَاتُرِهِ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَأَمَّا قَبْلُ تَوَاتُرِهِ عِنْدَهُ فَلَا يُسْتَتَابُ ؛ لَكِنْ يُبَيَّنُ لَهُ وَكَذَلِكَ الْأَقْوَالُ الَّتِي جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ بِخِلَافِهَا : فِقْهًا وَتَصَوُّفًا وَاعْتِقَادًا وَغَيْرَ ذَلِكَ . وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ صَحِيحٌ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ

نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ } إلَخْ وَاَلَّذِي يَغْشَى الْقَلْبَ يُسَمَّى " رَيْنًا " و " طَبْعًا " و " خَتْمًا " و " قَفْلًا " وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا مَا أَصَرَّ عَلَيْهِ . و " إحَاطَةُ الْخَطِيئَةِ " إحْدَاقُهَا بِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ وَهَذَا هُوَ الْبَسْلُ بِمَا كَسَبَتْ نَفْسُهُ أَيْ : تُحْبَسُ عَمَّا فِيهِ نَجَاتُهَا فِي الدَّارَيْنِ ؛ فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ قَيْدٌ وَحَبْسٌ لِصَاحِبِهَا عَنْ الْجَوَلَانِ فِي فَضَاءِ التَّوْحِيدِ وَعَنْ جَنْيِ ثِمَارِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ . وَمِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ يُعَذَّبُ مُطْلَقًا وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِهِ وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَزِنُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَعَلَى هَذَا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ مَعْنَى الْوَزْنِ ؛ لَكِنَّ تَفْسِيرَ السَّيِّئَةِ بِالشِّرْكِ هُوَ الْأَظْهَرُ ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ غَايَرَ بَيْنَ الْمَكْسُوبِ وَالْمُحِيطِ فَلَوْ كَانَ وَاحِدًا لَمْ يُغَايِرْ وَالْمُشْرِكُ لَهُ خَطَايَا غَيْرُ الشِّرْكِ أَحَاطَتْ بِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا . و " أَيْضًا " قَوْلُهُ ( سَيِّئَةً نَكِرَةٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ جِنْسَ السَّيِّئَاتِ بِالِاتِّفَاقِ . و " أَيْضًا " لَفْظُ ( السَّيِّئَةِ قَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مُرَادًا بِهِ الشِّرْكَ وَقَوْلُهُ : ( سَيِّئَةً أَيْ حَالٌ سَيِّئَةٌ أَوْ مَكَانٌ سَيِّئَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } أَيْ حَالًا حَسَنَةً تَعَمٍّ الْخَيْرَ كُلَّهُ وَهَذَا اللَّفْظُ يَكُونُ صِفَةً وَقَدْ يُنْقَلُ مِنْ الْوَصْفِيَّةِ إلَى الِاسْمِيَّةِ وَيُسْتَعْمَلُ لَازِمًا أَوْ

مُتَعَدِّيًا يُقَالُ : سَاءَ هَذَا الْأَمْرُ أَيْ قَبُحَ وَيُقَالُ : سَاءَنِي هَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا } عَمِلُوا الشِّرْكَ ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِهَذَا فَقَطْ وَلَوْ آمَنُوا لَكَانَ لَهُمْ حَسَنَاتٌ وَكَذَا لَمَّا قَالَ : ( كَسَبَ سَيِّئَةً ) لَمْ يَذْكُرْ حَسَنَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى } أَيْ فَعَلُوا الْحُسْنَى وَهُوَ مَا أُمِرُوا بِهِ كَذَلِكَ ( السَّيِّئَةُ ) تَتَنَاوَلُ الْمَحْظُورَ فَيَدْخُلُ فِيهَا الشِّرْكُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -
فَصْلٌ :
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : " الْغَيْبُ " هُوَ اللَّهُ أَوْ مِنْ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ . فَفِي مَوْضِعٍ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ غَائِبًا وَفِي مَوْضِعٍ جَعَلَهُ نَفْسَهُ غَيْبًا . وَلِهَذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ - كَالْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الزَّاغُونِي - يَقُولُونَ : بِقِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ وَيُرِيدُونَ بِالْغَائِبِ اللَّهَ وَيَقُولُونَ : قِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ ثَابِتٌ بِالْحَدِّ وَالْعِلَّةِ وَالدَّلِيلِ وَالشَّرْطِ ، كَمَا يَقُولُونَ

فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ فِي إثْبَاتِ الْعِلْمِ وَالْخِبْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَهْلِ رَأْسِ الْعَيْنِ وَقَالَ : لَا يُسَمَّى اللَّهُ غَائِبًا وَاسْتَدَلَّ بِمَا ذُكِرَ . وَفَصْلُ الْخِطَابِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّ اسْمَ " الْغَيْبِ وَالْغَائِبِ " مِنْ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ يُرَادُ بِهِ مَا غَابَ عَنَّا فَلَمْ نُدْرِكْهُ وَيُرَادُ بِهِ مَا غَابَ عَنَّا فَلَمْ يُدْرِكْنَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا إذَا غَابَ عَنْ الْآخَرِ مَغِيبًا مُطْلَقًا لَمْ يُدْرِكْ هَذَا هَذَا وَلَا هَذَا هَذَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ شَهِيدٌ عَلَى الْعِبَادِ رَقِيبٌ عَلَيْهِمْ مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ فَلَيْسَ هُوَ غَائِبًا وَإِنَّمَا لَمَّا لَمْ يَرَهُ الْعِبَادُ كَانَ غَيْبًا ؛ وَلِهَذَا يَدْخُلُ فِي الْغَيْبِ الَّذِي يُؤْمَنُ بِهِ وَلَيْسَ هُوَ بِغَائِبِ ؛ فَإِنَّ " الْغَائِبَ " اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَوْلِك غَابَ يَغِيبُ فَهُوَ غَائِبٌ وَاَللَّهُ شَاهِدٌ غَيْرُ غَائِبٍ وَأَمَّا " الْغَيْبُ " فَهُوَ مَصْدَرُ غَابَ يَغِيبُ غَيْبًا وَكَثِيرًا مَا يُوضَعُ الْمَصْدَرُ مَوْضِعَ الْفَاعِلِ كَالْعَدْلِ وَالصَّوْمِ وَالزُّورِ وَمَوْضِعَ الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَدِرْهَمٍ ضَرْبِ الْأَمِيرِ . وَلِهَذَا يَقْرِنُ الْغَيْبَ بِالشَّهَادَةِ وَهِيَ أَيْضًا مَصْدَرٌ فَالشَّهَادَةُ هِيَ الْمَشْهُودُ أَوْ الشَّاهِدُ وَالْغَيْبُ هُوَ إمَّا الْمَغِيبُ عَنْهُ فَهُوَ الَّذِي لَا يَشْهَدُ نَقِيضَ الشَّهَادَةِ وَإِمَّا بِمَعْنَى الْغَائِبِ الَّذِي غَابَ عَنَّا فَلَمْ نَشْهَدْهُ فَتَسْمِيَتُهُ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ فِيهِ تَنْبِيهٌ

عَلَى النِّسْبَةِ إلَى الْغَيْرِ أَيْ لَيْسَ هُوَ بِنَفْسِهِ غَائِبًا وَإِنَّمَا غَابَ عَنْ الْغَيْرِ أَوْ غَابَ الْغَيْرُ عَنْهُ . وَقَدْ يُقَالُ اسْمُ " الشَّهَادَةِ وَالْغَيْبِ " يَجْمَعُ النِّسْبَتَيْنِ فَالشَّهَادَةُ مَا شَهِدْنَا وَشَهِدْنَاهُ وَالْغَيْبُ مَا غَابَ عَنَّا وَغِبْنَا عَنْهُ فَلَمْ نَشْهَدْهُ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْمَعْنَى فِي كَوْنِهِ غَيْبًا هُوَ انْتِفَاءُ شُهُودِنَا لَهُ وَهَذِهِ تَسْمِيَةٌ قُرْآنِيَّةٌ صَحِيحَةٌ فَلَوْ قَالُوا : قِيَاسُ الْغَيْبِ عَلَى الشَّهَادَةِ لَكَانَتْ الْعِبَارَةُ مُوَافَقَةً وَأَمَّا قِيَاسُ الْغَائِبِ فَفِيهِ مُخَالَفَةٌ فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَلَكِنْ مُوَافَقَةٌ فِي الْمَعْنَى ؛ فَلِهَذَا حَصَلَ فِي إطْلَاقِهِ التَّنَازُعُ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
الْمَثَلُ فِي الْأَصْلِ هُوَ الشَّبِيهُ وَهُوَ نَوْعَانِ لِأَنَّ الْقَضِيَّةَ الْمُعَيَّنَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ شَبَهًا مُعَيَّنًا أَوْ عَامًّا كُلِّيًّا فَإِنَّ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةَ الَّتِي تُعْلَمُ وَتُقَالُ هِيَ مُطَابِقَةٌ مُمَاثِلَةٌ لِكُلِّ مَا يَنْدَرِجُ فِيهَا وَهَذَا يُسَمَّى قِيَاسًا فِي لُغَةِ السَّلَفِ وَاصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّينَ وَتَمْثِيلُ الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ بِشَيْءِ مُعَيَّنٍ هُوَ أَيْضًا يُسَمَّى قِيَاسًا فِي لُغَةِ السَّلَفِ وَاصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى قِيَاسَ التَّمْثِيلِ . ثُمَّ مِنْ مُتَأَخَّرِي الْعُلَمَاءِ - كَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ - مَنْ ادَّعَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْقِيَاسِ إنَّمَا يُقَالُ عَلَى هَذَا وَمَا يُسَمِّيهِ تَأْلِيفَ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ قِيَاسًا فَمَجَازٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يُشَبَّهْ فِيهِ شَيْءٌ بِشَيْءِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ عُمُومِ الْحُكْمِ تَسَاوِي أَفْرَادِهِ فِيهِ وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ فَإِنَّهُ زَعَمَ

أَنَّ لَفْظَ الْقِيَاسِ إنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ وَهُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ . وَالصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ اللُّغَةِ الْمُوَافِقَةِ لِمَا فِي الْقُرْآنِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ أَنَّ كِلَيْهِمَا قِيَاسٌ وَتَمْثِيلٌ وَاعْتِبَارٌ وَهُوَ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ ظَاهِرٌ وَأَمَّا قِيَاسُ التَّكْلِيلِ وَالشُّمُولِ فَلِأَنَّهُ يُقَاسُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ بِذَلِكَ الْمِقْيَاسِ الْعَامِّ الثَّابِتِ فِي الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ وَهُوَ الْأَصْلُ كَمَا يُقَاسُ الْوَاحِدُ بِالْأَصْلِ الَّذِي يُشْبِهُهُ فَالْأَصْلُ فِيهِمَا هُوَ الْمَثَلُ وَالْقِيَاسُ هُوَ ضَرْبُ الْمَثَلِ وَأَصْلُهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - تَقْدِيرُهُ فَضَرْبُ الْمِثْلِ لِلشَّيْءِ تَقْدِيرُهُ لَهُ كَمَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَصْلُهُ تَقْدِيرُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ وَمِنْهُ ضَرْبُ الدِّرْهَمِ وَهُوَ تَقْدِيرُهُ وَضَرْبُ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَهُوَ تَقْدِيرُهُمَا وَالضَّرِيبَةُ الْمَقْدِرَةُ وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ أَثَرُ الْمَاشِي بِقَدْرِهِ وَكَذَلِكَ الضَّرْبُ بِالْعَصَا لِأَنَّهُ تَقْدِيرُ الْأَلَمِ بِالْآلَةِ وَهُوَ جَمْعُهُ وَتَأْلِيفُهُ وَتَقْدِيرُهُ كَمَا أَنَّ الضَّرِيبَةَ هِيَ الْمَالُ الْمَجْمُوعُ وَالضَّرِيبَةُ الْخَلْقُ وَضَرَبَ الدِّرْهَمَ جَمَعَ فِضَّةٍ مُؤَلِّفَةً مُقَدَّرَةً وَضَرَبَ الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ إذَا فَرَضَهُ وَقَدَّرَهُ عَلَى مَرِّ السِّنِينَ وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ الْحَرَكَاتُ الْمُقَدَّرَةُ الْمَجْمُوعَةُ إلَى غَايَةٍ مَحْدُودَةٍ وَمِنْهُ تَضْرِيبُ الثَّوْبِ الْمَحْشُوِّ وَهُوَ تَأْلِيفُ خُلَلِهِ طَرَائِقَ طَرَائِقَ . وَلِهَذَا يُسَمُّونَ الصُّورَةَ الْقِيَاسِيَّةَ الضَّرْبَ كَمَا يُقَالُ لِلنَّوْعِ الْوَاحِدِ ضَرْبٌ لِتَأَلُّفِهِ وَاتِّفَاقِهِ وَضَرْبُ الْمَثَلِ لَمَّا كَانَ جَمْعًا بَيْنَ عِلْمَيْنِ يُطْلَبُ مِنْهُمَا عِلْمٌ

ثَالِثٌ كَانَ بِمَنْزِلَةِ ضِرَابِ الْفَحْلِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ عَنْهُ الْوَلَدُ وَلِهَذَا يُقَسِّمُونَ الضَّرْبَ إلَى نَاتِجٍ وَعَقِيمٍ كَمَا يَنْقَسِمُ ضَرْبُ الْفَحْلِ لِلْأُنْثَى إلَى نَاتِجٍ وَعَقِيمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ نَوْعَيْ ضَرْبِ الْمَثَلِ - وَهُوَ الْقِيَاسُ - تَارَةً يُرَادُ بِهِ التَّصْوِيرُ وَتَفْهِيمُ الْمَعْنَى وَتَارَةً يُرَادُ بِهِ الدَّلَالَةُ عَلَى ثُبُوتِهِ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ فَقِيَاسُ تَصَوُّرٍ وَقِيَاسُ تَصْدِيقٍ فَتَدَبَّرْ هَذَا . وَكَثِيرًا مَا يُقْصَدُ كِلَاهُمَا فَإِنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ يُوَضِّحُ صُورَةَ الْمَقْصُودِ وَحُكْمَهُ .
وَضَرْبُ الْأَمْثَالِ فِي الْمَعَانِي نَوْعَانِ هُمَا نَوْعَا الْقِيَاسِ : " أَحَدُهُمَا " الْأَمْثَالُ الْمُعَيَّنَةُ الَّتِي يُقَاسُ فِيهَا الْفَرْعُ بِأَصْلِ مُعَيَّنٍ مَوْجُودٍ أَوْ مُقَدَّرٍ وَهِيَ فِي الْقُرْآنِ بِضْعٌ وَأَرْبَعُونَ مَثَلًا كَقَوْلِهِ : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } إلَى آخِرِهِ وَقَوْلِهِ : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ } وَقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ } الْآيَةَ { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ } . فَإِنَّ التَّمْثِيلَ بَيْنَ الْمَوْصُوفَيْنِ اللَّذَيْنِ يَذْكُرُهُمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنْفِقِينَ الْمُخْلَصِينَ مِنْهُمْ وَالْمُرَائِينَ وَبَيْنَ مَا يَذْكُرُهُ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْأَمْثَالِ

هُوَ مِنْ جِنْسِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ : مَثَلُ الَّذِي يَقْتُلُ بكودين الْقَصَّارِ كَمَثَلِ الَّذِي يَقْتُلُ بِالسَّيْفِ وَمَثَلُ الْهِرَّةِ تَقَعُ فِي الزَّيْتِ كَمَثَلِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ وَمَبْنَاهُ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ؛ وَالْفَرْقُ فِي الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْحُكْمِ الْمَقْصُودِ إثْبَاتَهُ أَوْ نَفْيَهُ وَقَوْلُهُ : مَثَلُهُ كَمَثَلِ كَذَا . تَشْبِيهٌ لِلْمَثَلِ الْعِلْمِيِّ بِالْمَثَلِ الْعِلْمِيِّ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بِتَوَسُّطِهِ يَحْصُلُ الْقِيَاسُ فَإِنَّ الْمُعْتَبِرَ يُنْظَرُ فِي أَحَدِهِمَا فَيَتَمَثَّلُ فِي عِلْمِهِ وَيَنْظُرُ فِي الْآخَرِ فَيَتَمَثَّلُ فِي عِلْمِهِ ثُمَّ يَعْتَبِرُ أَحَدَ الْمَثَلَيْنِ بِالْآخَرِ فَيَجِدُهُمَا سَوَاءً فَيَعْلَمُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي أَنْفُسِهِمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْعِلْمِ وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَتَمَثَّلَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْعِلْمِ فَإِنَّ الْحُكْمَ عَلَى الشَّيْءِ فَرْعٌ عَلَى تَصَوُّرِهِ ؛ وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ يُقَالُ مَثَلُ هَذَا كَمَثَلِ . . . (1)
وَبَعْضُ الْمَوَاضِعِ يَذْكُرُ سُبْحَانَهُ الْأَصْلَ الْمُعْتَبَرَ بِهِ لِيُسْتَفَادَ حُكْمُ الْفَرْعِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِذِكْرِ الْفَرْعِ كَقَوْلِهِ : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ } إلَى قَوْلِهِ : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } فَإِنَّ هَذَا يَحْتَاجُ إلَى تَفَكُّرٍ ؛ وَلِهَذَا سَأَلَ عُمَرُ عَنْهَا مَنْ حَضَرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَأَجَابَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْجَوَابِ الَّذِي أَرْضَاهُ . وَنَظِيرُ ذَلِكَ ذِكْرُ الْقَصَصِ ؛ فَإِنَّهَا كُلَّهَا أَمْثَالٌ هِيَ أُصُولُ قِيَاسٍ

وَاعْتِبَارٍ وَلَا يُمْكِنُ هُنَاكَ تَعْدِيدُ مَا يُعْتَبَرُ بِهَا لِأَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ لَهُ فِي حَالَةٍ مِنْهَا نَصِيبٌ فَيُقَالُ فِيهَا : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } وَيُقَالُ عَقِبَ حِكَايَتِهَا : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } وَيُقَالُ : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } وَالِاعْتِبَارُ هُوَ الْقِيَاسُ بِعَيْنِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا سُئِلَ عَنْ دِيَةِ الْأَصَابِعِ فَقَالَ هِيَ سَوَاءٌ وَاعْتَبِرُوا ذَلِكَ بِالْأَسْنَانِ أَيْ قِيسُوهَا بِهَا فَإِنَّ الْأَسْنَانَ مُسْتَوِيَةُ الدِّيَةِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَنَافِعِ فَكَذَلِكَ الْأَصَابِعُ وَيُقَالُ : اعْتَبَرْت الدَّرَاهِمَ بِالصَّنْجَةِ إذَا قَدَّرْتهَا بِهَا . " النَّوْعُ الثَّانِي " الْأَمْثَالُ الْكُلِّيَّةُ وَهَذِهِ الَّتِي أُشْكِلَ تَسْمِيَتُهَا أَمْثَالًا كَمَا أُشْكِلَ تَسْمِيَتُهَا قِيَاسًا حَتَّى اعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ } فَقَالَ : أَيْنَ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ ؟ وَكَذَلِكَ إذَا سَمِعُوا قَوْلَهُ : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ } يَبْقَوْنَ حَيَارَى لَا يَدْرُونَ مَا هَذِهِ الْأَمْثَالُ وَقَدْ رَأَوْا عَدَدَ مَا فِيهِ مِنْ تِلْكَ الْأَمْثَالِ الْمُعَيَّنَةِ بِضْعًا وَأَرْبَعِينَ مَثَلًا . وَهَذِهِ " الْأَمْثَالُ " تَارَةً تَكُونُ صِفَاتٍ وَتَارَةً تَكُونُ أَقْيِسَةً فَإِذَا كَانَتْ أَقْيِسَةً فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ خَبَرَيْنِ هُمَا قَضِيَّتَانِ وَحُكْمَانِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا كُلِّيًّا ؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ الَّتِي هِيَ الْقَضَايَا لَمَّا انْقَسَمَتْ إلَى مُعَيَّنَةٍ وَمُطْلَقَةٍ وَكُلِّيَّةٍ وَجُزْئِيَّةٍ وَكُلٌّ مِنْ ذَلِكَ انْقَسَمَ إلَى خَبَرٍ عَنْ إثْبَاتٍ

وَخَبَرٍ عَنْ نَفْيٍ فَضَرْبُ الْمَثَلِ الَّذِي هُوَ الْقِيَاسُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى خَبَرٍ عَامٍّ وَقَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ وَذَلِكَ هُوَ الْمَثَلُ الثَّابِتُ فِي الْعَقْلِ الَّذِي تُقَاسُ بِهِ الْأَعْيَانُ الْمَقْصُودُ حُكْمُهَا فَلَوْلَا عُمُومُهُ لَمَا أَمْكَنَ الِاعْتِبَارُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ حُكْمُهُ خَارِجًا عَنْ الْعُمُومِ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ : لَا قِيَاسَ عَنْ قَضِيَّتَيْنِ جُزْئِيَّتَيْنِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا كُلِّيَّةً وَلَا قِيَاسَ أَيْضًا عَنْ سَالِبَتَيْنِ ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا مُوجَبَةً وَإِلَّا فَالسَّلِبَانِ لَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ خَبَرٍ يَعُمُّ . وَجُمْلَةُ مَا يُضْرَبُ مِنْ الْأَمْثَالِ سِتَّةَ عَشَرَ ؛ لِأَنَّ الْأُولَى إمَّا جُزْئِيَّةٌ وَإِمَّا كُلِّيَّةٌ مُثْبَتَةٌ أَوْ نَافِيَةٌ فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ إذَا ضَرَبْتهَا فِي أَرْبَعَةٍ صَارَتْ سِتَّةَ عَشَرَ تُحْذَفُ مِنْهُمَا الْجُزْئِيَّتَانِ سَوَاءٌ كَانَتَا مُوجَبَتَيْنِ أَوْ سَالِبَتَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا سَالِبَةٌ وَالْأُخْرَى مُوجَبَةٌ فَهَذِهِ سِتٌّ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ وَالسَّالِبَتَانِ سَوَاءٌ كَانَتَا جُزْئِيَّتَيْنِ أَوْ كُلِّيَّتَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى ؛ لَكِنْ إذَا كَانَتَا جُزْئِيَّتَيْنِ سَالِبَتَيْنِ فَقَدْ دَخَلَتْ فِي الْأَوَّلِ يَبْقَى ضَرْبَانِ مَحْذُوفَيْنِ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ . وَيُحْذَفُ مِنْهُمَا السَّالِبَةُ الْكُلِّيَّةُ الصُّغْرَى مَعَ الْكُبْرَى الْمُوجَبَةِ الْجُزْئِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْكُبْرَى إذَا كَانَتْ جُزْئِيَّةً لَمْ يَجِبْ أَنْ يُلَاقِيَهَا السَّلْبُ ؛ بِخِلَافِ الْإِيجَابِ فَإِنَّ الْإِيجَابَيْنِ الْجُزْئِيَّيْنِ يَلْتَقِيَانِ وَكَذَلِكَ الْإِيجَابُ الْجُزْئِيُّ مَعَ السَّلْبِ الْكُلِّيِّ يَلْتَقِيَانِ لِانْدِرَاجِ ذَلِكَ الْمُوجَبِ تَحْتَ السَّلْبِ الْعَامِّ .

يَبْقَى مِنْ السِّتَّةَ عَشَرَ سِتَّةُ أَضْرُبٍ فَإِذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا مُوجَبَةً كُلِّيَّةً جَازَ فِي الْأُخْرَى الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ وَإِذَا كَانَتْ سَالِبَةً كُلِّيَّةً جَازَ أَنْ تُقَارِنَهَا الْمُوجَبَتَانِ لَكِنْ تُقَدَّمُ مُقَارَنَةُ الْكُلِّيَّةِ لَهَا وَلَا بُدَّ فِي الْجُزْئِيَّةِ أَنْ تَكُونَ صُغْرَى وَإِذَا كَانَتْ مُوجَبَةً جُزْئِيَّةً جَازَ أَنْ تُقَارِنَهَا الْكُلِّيَّتَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَتَا وَإِذَا كَانَتْ سَالِبَةً جُزْئِيَّةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَارِنَهَا إلَّا مُوجَبَةً كُلِّيَّةً وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فَيُقِرُّ النَّاتِجُ سِتَّةً وَالْمُلْغَى عَشْرَةً وبالاعتبارين تَصِيرُ ثَمَانِيَةً . فَهَذِهِ الضُّرُوبُ الْعَشَرَةُ مَدَارُ ثَمَانِيَةٍ مِنْهَا عَلَى الْإِيجَابِ الْعَامِّ وَلَا بُدَّ فِي جَمِيعِ ضُرُوبِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا إيجَابٌ وَعُمُومٌ وَإِمَّا سَلْبٌ وَخُصُوصٌ فَنَقِيضَانِ لَا يُفِيدُ اجْتِمَاعُهُمَا فَائِدَةً ؛ بَلْ إذَا اجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ مِنْ نَوْعَيْنِ كَسَالِبَةٍ كُلِّيَّةٍ وَمُوجَبَةٍ جُزْئِيَّةٍ فَتُفِيدُ بِشَرْطِ كَوْنِ الْكُبْرَى هِيَ الْعَامَّةَ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ قِيَاسٍ مِنْ ثُبُوتٍ وَعُمُومٍ إمَّا مُجْتَمَعَيْنِ فِي مُقَدِّمَةٍ وَإِمَّا مُفْتَرِقَيْنِ فِي الْمُقَدَّمَتَيْنِ . وَأَيْضًا مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ غَالِبَ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ وَالْأَقْيِسَةِ إنَّمَا يَكُونُ الْخَفِيُّ فِيهَا إحْدَى الْقَضِيَّتَيْنِ وَأَمَّا الْأُخْرَى فَجَلِيَّةٌ مَعْلُومَةٌ فَضَارِبُ الْمَثَلِ وَنَاصِبُ الْقِيَاسِ إنَّمَا يَحْتَاجُ أَنْ يُبَيِّنَ تِلْكَ الْقَضِيَّةَ الْخَفِيَّةَ فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ الْمَقْصُودُ لِمَا قَارَبَهَا فِي الْفِعْلِ مِنْ الْقَضِيَّةِ السَّلْبِيَّةِ وَالْجَلِيَّةُ هِيَ الْكُبْرَى الَّتِي هِيَ أَعَمُّ .

فَإِنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا كَانَ أَعَمَّ كَانَ أَعْرَفَ فِي الْعَقْلِ لِكَثْرَةِ مُرُورِ مُفْرَدَاتِهِ فِي الْعَقْلِ وَخَيْرُ الْكَلَامِ مَا قَلَّ وَدَلَّ ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ الْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ فِي الْقُرْآنِ تُحْذَفُ مِنْهَا الْقَضِيَّةُ الْجَلِيَّةُ لِأَنَّ فِي ذِكْرِهَا تَطْوِيلًا وَعَيًّا وَكَذَلِكَ ذِكْرُ النَّتِيجَةِ الْمَقْصُودَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ يُعَدُّ تَطْوِيلًا . وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } مَا أَحْسَنَ هَذَا الْبُرْهَانَ فَلَوْ قِيلَ بَعْدَهُ : وَمَا فَسَدَتَا فَلَيْسَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَكَانَ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الْغَثِّ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ بَلَاغَةَ التَّنْزِيلِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ تَأْلِيفِ الْمَعَانِي فِي الْعَقْلِ مِثْلُ تَأْلِيفِ الْأَسْمَاءِ مِنْ الْحُرُوفِ فِي الْهِجَاءِ وَالْخَطِّ إذَا عَلَّمْنَا الصَّبِيَّ الْخَطَّ نَقُولُ : " با " " سِين " " مِيم " صَارَتْ ( بِسْمِ ) فَإِذَا عَقَلَ لَمْ يَصْلُحْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَقْرَأَهُ تَهَجِّيًا فَيَذْهَبُ بِبَهْجَةِ الْكَلَامِ ؛ بَلْ قَدْ صَارَ التَّأْلِيفُ مُسْتَقِرًّا وَكَذَلِكَ النَّحْوِيُّ إذَا عَرَفَ أَنَّ " مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ " مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ لَمْ يُلْفِ كُلَّمَا رَفَعَ مِثْلَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ : لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ . فَتَأْلِيفُ الْأَسْمَاءِ مِنْ الْحُرُوفِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَتَأْلِيفُ الْكَلِمِ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَتَأْلِيفُ الْأَمْثَالِ مِنْ الْكَلِمِ جِنْسٌ وَاحِدٌ . وَلِهَذَا كَانَ الْمُؤَلِّفُونَ لِلْأَقْيِسَةِ يَتَكَلَّمُونَ أَوَّلًا فِي مُفْرَدَاتِ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي الَّتِي هِيَ الْأَسْمَاءُ ثُمَّ يَتَكَلَّمُونَ فِي تَأْلِيفِ الْكَلِمَاتِ مِنْ الْأَسْمَاءِ الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ وَالْقِصَّةُ وَالْحُكْمُ ثُمَّ يَتَكَلَّمُونَ فِي تَأْلِيفِ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ الَّذِي هُوَ " الْقِيَاسُ " و " الْبُرْهَانُ " و " الدَّلِيلُ " و " الْآيَةُ "

و " الْعَلَامَةُ " . فَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُتَفَطَّنَ لَهُ فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ كَمَالِ الْقُرْآنِ تَرْكَهُ فِي أَمْثَالِهِ الْمَضْرُوبَةِ وَأَقْيِسَتِهِ الْمَنْصُوبَةِ لِذِكْرِ الْمُقَدِّمَةِ الْجَلِيَّةِ الْوَاضِحَةِ الْمَعْلُومَةِ ثُمَّ اتِّبَاعُ ذَلِكَ بِالْإِخْبَارِ عَنْ النَّتِيجَةِ الَّتِي قَدْ عُلِمَ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ أَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودُ ؛ بَلْ إنَّمَا يَكُونُ ضَرْبُ الْمَثَلِ بِذِكْرِ مَا يُسْتَفَادُ ذِكْرُهُ وَيُنْتَفَعُ بِمَعْرِفَتِهِ فَذَلِكَ هُوَ الْبَيَانُ وَهُوَ الْبُرْهَانُ وَأَمَّا مَا لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهِ فَذِكْرُهُ عَيٌّ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَك خَطَأُ قَوْمٍ مِنْ البيانيين الْجُهَّالِ والمنطقيين الضُّلَّالِ حَيْثُ قَالَ بَعْضُ أُولَئِكَ : الطَّرِيقَةُ الْكَلَامِيَّةُ الْبُرْهَانِيَّةُ فِي أَسَالِيبِ الْبَيَانِ لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ إلَّا قَلِيلًا وَقَالَ الثَّانِي : إنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ بُرْهَانٌ تَامٌّ فَهَؤُلَاءِ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إلَّا الطَّرِيقَةُ الْبُرْهَانِيَّةُ الْمُسْتَقِيمَةُ لِمَنْ عَقَلَ وَتَدَبَّرَ . و " أَيْضًا " فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ مَدَارَ ضَرْبِ الْمَثَلِ وَنَصْبَ الْقِيَاسِ عَلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ ؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ خَبَرٍ إلَّا وَهُوَ إمَّا عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ : سَالِبٌ أَوْ مُوجَبٌ فَالْمُعَيَّنُ خَاصٌّ مَحْصُورٌ وَالْجُزْئِيُّ أَيْضًا خَاصٌّ غَيْرُ مَحْصُورٍ وَالْمُطْلَقُ إمَّا عَامٌّ وَإِمَّا فِي مَعْنَى الْخَاصِّ . فَيَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ هَذَا الْبَابِ أَنْ يَعْرِفَ " صِيَغَ النَّفْيِ وَالْعُمُومِ " فَإِنَّ ذَلِكَ يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَبْلَغِ نِظَامٍ .

مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ " صِيغَةَ الِاسْتِفْهَامِ " يَحْسَبُ مَنْ أَخَذَ بِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي الْقِيَاسِ الْمَضْرُوبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا الْقَضَايَا الْخَبَرِيَّةُ وَهَذِهِ طَلَبِيَّةٌ فَإِذَا تَأَمَّلَ وَعَلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ اسْتِفْهَامَاتِ الْقُرْآنِ أَوْ كَثِيرًا مِنْهَا إنَّمَا هِيَ اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ مَعْنَاهُ الذَّمُّ وَالنَّهْيُ إنْ كَانَ إنْكَارًا شَرْعِيًّا أَوْ مَعْنَاهُ النَّفْيُ وَالسَّلْبُ إنْ كَانَ إنْكَارَ وُجُودٍ وَوُقُوعٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ } الْآيَةَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ } وَقَوْلُهُ فِي تَعْدِيدِ الْآيَاتِ : { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } أَيْ أَفَعَلَ هَذِهِ إلَهٌ مَعَ اللَّهِ وَالْمَعْنَى مَا فَعَلَهَا إلَّا اللَّهُ وَقَوْلُهُ : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } وَمَا مَعَهَا . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَقَدْ يُعَبَّرُ فِي اللُّغَةِ بِضَرْبِ الْمَثَلِ أَوْ بِالْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ عَنْ نَوْعٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ التَّعْبِيرُ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ اللُّغَةِ ؛ لَكِنْ لَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ الدَّلِيلُ عَلَى الْحُكْمِ كَأَمْثَالِ الْقُرْآنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَدْ قَالَ كَلِمَةً مَنْظُومَةً أَوْ مَنْثُورَةً لِسَبَبِ اقْتَضَاهُ فَشَاعَتْ فِي الِاسْتِعْمَالِ حَتَّى يُصَارَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ كُلِّ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ فِي الْأَصْلِ غَيْرَ مَوْضُوعٍ لَهَا فَكَأَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ المثلية نُقِلَتْ بِالْعُرْفِ مِنْ الْمَعْنَى الْخَاصِّ إلَى

الْعَامِّ كَمَا تُنْقَلُ الْأَلْفَاظُ الْمُفْرَدَةُ فَهَذَا نَقْلٌ فِي الْجُمْلَةِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ : " يَدَاك أَوْكَتَا وَفُوك نَفَخَ " هُوَ مُوَازٍ لِقَوْلِهِمْ : " أَنْتَ جَنَيْت هَذَا " لِأَنَّ هَذَا الْمَثَلَ قِيلَ ابْتِدَاءً لِمَنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ بِالْإِيكَاءِ وَالنَّفْخِ ثُمَّ صَارَ مَثَلًا عَامًّا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ : " الصَّيْفَ ضَيَّعْت اللَّبَنَ " مِثْلُ قَوْلِك " فَرَّطْت وَتَرَكْت الْحَزْمَ وَتَرَكْت مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَقْتَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ حَتَّى فَاتَ " وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ قِيلَتْ لِلْمَعْنَى الْخَاصِّ . وَكَذَلِكَ " عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا " أَيْ أَتَخَافُ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الظَّاهِرِ الْحَسَنِ بَاطِنٌ رَدِيءٌ ؟ فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْبَيَانِ يَدْخُلُ فِي اللُّغَةِ وَالْخِطَابِ فَالْمُتَكَلِّمُ بِهِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُبَيِّنِ بِالْعِبَارَةِ الدَّالَّةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْنَى فِي نَفْسِهِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا إذْ قَدْ يَتَمَثَّلُ بِهِ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَهَذَا تَطَلُّبُهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ جِنْسِ تَطَلُّبِ الْأَلْفَاظِ الْعُرْفِيَّةِ فَهُوَ نَظَرٌ فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى لَا نَظَرٌ فِي صِحَّةِ الْمَعْنَى وَدَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ } فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ يَجْلُو عَنْك شُبْهَةً لَفْظِيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً . وَهَذِهِ الْأَمْثَالُ اللُّغَوِيَّةُ أَنْوَاعٌ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا أَجْنَاسُهَا وَهِيَ مُعْلِنَةٌ بِبَلَاغَةِ لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَبَرَاعَةِ بَيَانِهِ اللَّفْظِيِّ وَاَلَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ وَإِعْجَازِ الْقُرْآنِ يَتَكَلَّمُونَ فِي مِثْلِ هَذَا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ أَوَّلُ مَا يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ صَارَتْ مَثَلًا وَمِنْهُمْ مَنْ لَا تَصِيرُ الْكَلِمَةُ مَثَلًا

حَتَّى يَتَمَثَّلَ بِهَا الضَّارِبُ فَيَكُونُ هَذَا أَوَّلَ مَنْ تَمَثَّلَ بِهَا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ } وَكَقَوْلِهِ : { مُسَعِّرُ حَرْبٍ } وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لَكِنَّ النَّفْيَ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمُضَمَّنِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ هُوَ نَفْيٌ مُضَمَّنٌ دَلِيلَ النَّفْيِ ؛ فَلَا يُمْكِنُ مُقَابَلَتُهُ بِمَنْعِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَنْفِي بِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ إلَّا مَا ظَهَرَ بَيَانُهُ أَوْ اُدُّعِيَ ظُهُورُ بَيَانِهِ فَيَكُونُ ضَارِبُهُ إمَّا كَامِلًا فِي اسْتِدْلَالِهِ وَقِيَاسِهِ وَإِمَّا جَاهِلًا كَاَلَّذِي قَالَ : { مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } . إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَالْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا مَا يُصَرِّحُ فِيهِ بِتَسْمِيَتِهِ مَثَلًا وَمِنْهَا مَا لَا يُسَمَّى بِذَلِكَ . . . (1) { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ } وَاَلَّذِي يَلِيهِ { إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ } { وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } { لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ } الْآيَةَ { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } . وَاَلَّذِي بَعْدَهُ لَيْسَ فِيهِ لَفْظٌ مِثْلُ { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } فِي الثَّلَاثَةِ { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ } { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وَقَوْلُهُ : { أَرَأَيْتُمْ إنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ } .

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ : { وَلَا أَقُولُ لَكُمْ } الْآيَةَ وَيُسَمَّى جِدَالًا { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ } - إلَى قَوْلِهِ - { ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } { إنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ } الْآيَةَ { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ } { إلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلَى الْمَاءِ } وَقَوْلُ يُوسُفَ { أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ } { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } الْآيَةَ { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } إلَى قَوْلِهِ : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ } { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ } { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً } إلَى آخِرِهِ { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ } { لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } { فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ } { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا } وَاَلَّذِي بَعْدَهُ { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً } { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ } فِي مَوْضِعَيْنِ { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إلَّا كُفُورًا } بَعْدَ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالتَّحَدِّي بِالْقُرْآنِ { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ } الْقِصَّةَ { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا } يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّهَا بَرَاهِينُ وَحُجَجٌ تُفِيدُ تَصَوُّرًا أَوْ تَصْدِيقًا { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ } { وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } { مَثَلُ نُورِهِ } - إلَى

قَوْلِهِ - { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ } الْمَثَلَيْنِ مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَسَاجِدِ وَأُولَئِكَ فِي الظُّلُمَاتِ { وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } - ف " التَّفْسِيرُ " يَعُمُّ التَّصْوِيرَ وَيَعُمُّ التَّحْقِيقَ بِالدَّلِيلِ كَمَا فِي تَفْسِيرِ الْكَلَامِ الْمَشْرُوحِ - { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ } الْآيَةَ { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ } { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ } { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ } الْآيَةَ { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ } { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ } { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ } وَقَوْلُهُ : { إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ } إلَى قَوْلِهِ { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا } { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا } إلَى آخِرِهِ لَمَّا أَوْرَدُوهُ نَقْضًا عَلَى قَوْلِهِ : { إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } فَهُمْ الَّذِينَ ضَرَبُوهُ جَدَلًا { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا } إلَى قَوْلِهِ : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } { كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا } { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ } { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ } { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا } الْآيَةَ { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا } و لِلَّذِينَ آمَنُوا { وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا } { كَأَنَّهُمْ إلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } { كَالْفَرَاشِ } و { كَالْعِهْنِ } .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
هَذَا تَفْسِيرُ آيَاتٍ أُشْكِلَتْ حَتَّى لَا يُوجَدُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ " كُتُبٍ فِي التَّفْسِيرِ " إلَّا مَا هُوَ خَطَأٌ فِيهَا .
مِنْهَا قَوْلُهُ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا } الْآيَتَانِ ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَصَفَ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَيُعْرَفُ بِهِ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ تَنَاقُضٍ وَمُنَاسِبَةٍ لِمَا قَبْلهَا وَلِمَا بَعْدَهَا وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ السَّلَفِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ سَبَبِ نُزُولِهَا بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ { قَالَ سَلْمَانُ : سَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَهْلِ دِينٍ كُنْت مَعَهُمْ فَذَكَرَ مِنْ عِبَادَتِهِمْ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ } . وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ كَمَا رُوِيَ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا فِي مُسْلِمٍ { إلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُجِيبُ بِمَا لَا عِلْمَ عِنْدِهِ وَقَدْ

ثَبَتَ أَنَّهُ أَثْنَى عَلَى مَنْ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ كَزَيْدِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ خِلَافًا عَنْ السَّلَفِ ؛ لَكِنْ ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا } الْآيَةَ وَمُرَادُهُ أَنَّ اللَّهَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إلَّا الْإِسْلَامَ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَكَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ يُرِيدُ بِلَفْظِ النَّسْخِ رَفْعَ مَا يُظَنُّ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ كَذَّبَ رَسُولًا وَاحِدًا فَهُوَ كَافِرٌ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ قَوْلُهُ : { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } إلَخْ . وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ : أَنَّ الْآيَةَ فِيمَنْ بُعِثَ إلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً فَغَلِطُوا ثُمَّ افْتَرَقُوا عَلَى أَقْوَالٍ مُتَنَاقِضَةٍ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
قَسَّمَ اللَّهُ مَنْ ذَمَّهُ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ إلَى مُحَرِّفِينَ وَأُمِّيِّينَ حَيْثُ يَقُولُ : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } { أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ } { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } . وَفِي هَذَا عِبْرَةٌ لِمَنْ رَكِبَ سَنَنَهُمْ مِنْ أُمَّتِنَا ؛ فَإِنَّ الْمُنْحَرِفِينَ فِي

نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَالصِّفَاتِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِر : " قَوْمٌ " يُحَرِّفُونَهُ إمَّا لَفْظًا وَإِمَّا مَعْنًى وَهُمْ النَّافُونَ لِمَا أَثْبَتَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُحُودًا وَتَعْطِيلًا وَيَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا مُوجَبُ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ الْقَاضِي عَلَى السَّمْعِ . و " قَوْمٌ " لَا يَزِيدُونَ عَلَى تِلَاوَةِ النُّصُوصِ لَا يَفْقَهُونَ مَعْنَاهَا وَيَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا مُوجَبُ السَّمْعِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ مِنْ عِبَادِهِ فَهْمَ هَذِهِ النُّصُوصِ فَهُمْ { لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ } أَيْ تِلَاوَةً { وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ } . ثُمَّ يُصَنِّفُ أَقْوَامٌ عُلُومًا يَقُولُونَ : إنَّهَا دِينِيَّةٌ وَأَنَّ النُّصُوصَ دَلَّتْ عَلَيْهَا وَالْعَقْلَ وَهِيَ دِينُ اللَّهِ ؛ مَعَ مُخَالَفَتِهَا لِكِتَابِ اللَّهِ فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ . فَتَدَبَّرْ كَيْفَ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ وَقَوْلُهُ فِي صِفَةِ أُولَئِكَ : { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } حَالُ مَنْ يَكْتُمُ النُّصُوصَ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا مُنَازِعُهُ حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ أَمْكَنَهُمْ كِتْمَانُ الْقُرْآنِ لَكَتَمُوهُ لَكِنَّهُمْ يَكْتُمُونَ مِنْهُ وُجُوهَ دَلَالَتِهِ مِنْ الْعُلُومِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْهُ وَيُعَوِّضُونَ النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يَكْتُبُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ وَيُضِيفُونَهُ إلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ .

وَسُئِلَ :
عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا قَوْلُهُ : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } فَفِيهَا قِرَاءَتَانِ أَشْهَرُهُمَا : ( أَوْ نُنْسِهَا ) أَيْ نُنْسِيكُمْ إيَّاهَا : أَيْ نَسَخْنَا مَا أَنْزَلْنَاهُ أَوْ اخْتَرْنَا تَنْزِيلَ مَا نُرِيدُ أَنْ نُنَزِّلُهُ نَأْتِكُمْ بِخَيْرِ مِنْهُ أَوْ مَثَلِهِ وَالثَّانِيَةُ : ( أَوْ نَنْسَأْهَا ) بِالْهَمْزِ أَيْ نُؤَخِّرُهَا وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ نَنْسَاهَا فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ مَعْنَى نَنْسَأَهَا بِمَعْنَى نَنْسَاهَا فَهُوَ جَاهِلٌ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالتَّفْسِيرِ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ { عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى } و " النِّسْيَانُ " مُضَافٌ إلَى الْعَبْدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى } { إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } وَلِهَذَا قَرَأَهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ : ( أَوْ تَنْسَاهَا ) أَيْ تَنْسَاهَا يَا مُحَمَّدُ وَهَذَا وَاضِحٌ لَا يَخْفَى إلَّا عَلَى جَاهِلٍ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ نَنْسَأَهَا بِالْهَمْزِ وَبَيْنَ نَنْسَاهَا بِلَا هَمْزٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فِي قَوْله تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } الْآيَةَ وَفِيهَا قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقِصَاصَ هُوَ الْقَوَدُ وَهُوَ أَخْذُ الدِّيَةِ بَدَلُ الْقَتْلِ كَمَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ الدِّيَةُ فَجَعَلَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الدِّيَةَ فَقَالَ : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } وَالْعَفُوُّ هُوَ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } مِمَّا كَانَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يُقْتَلَ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى . قَالَ قتادة : إنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ فِيهِمْ بَغْيٌ وَكَانَ الْحَيُّ إذَا كَانَ فِيهِمْ عَدَدٌ وَعُدَّةٌ فَقَتَلَ عَبْدُهُمْ عَبْدَ قَوْمٍ آخَرِينَ قَالُوا : لَنْ يُقْتَلَ بِهِ إلَّا حُرٌّ تَعَزُّزًا عَلَى غَيْرِهِمْ وَإِنْ قَتَلَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ امْرَأَةً مِنْ آخَرِينَ قَالُوا لَنْ يُقْتَلَ بِهَا إلَّا رَجُلًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ .

وَيَحْتَجُّ بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ لِقَوْلِهِ : { وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ } فَيَنْقُض ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ قَالَ : { وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ لَمْ يَذْكُرُوا إلَّا هَذَا الْقَوْلَ . " الْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّ الْقِصَاصَ فِي الْقَتْلَى يَكُونُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْن قِتَالَ عَصَبِيَّةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ فَيُقْتَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ أَحْرَارٌ وَعَبِيدٌ وَنِسَاءٌ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَدْلِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ بِأَنْ يُقَاصَّ دِيَةُ حُرٍّ بِدِيَةِ حُرٍّ وَدِيَةُ امْرَأَةٍ بِدِيَةِ امْرَأَةٍ وَعَبْدٍ بِعَبْدِ فَإِنْ فَضَلَ لِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ شَيْءٌ بَعْدَ الْمُقَاصَّةِ فَلْتُتْبَعْ الْأُخْرَى بِمَعْرُوفِ وَلْتُؤَدِّ الْأُخْرَى إلَيْهَا بِإِحْسَانِ وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِ وَقَدْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبري وَغَيْرُهُ و عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّهُ إذَا جَعَلَ ظَاهِرَ الْآيَةِ لَزِمَتْهُ إشْكَالَاتٌ ؛ لَكِنَّ الْمَعْنَى الثَّانِي هُوَ مَدْلُولُ الْآيَةِ وَمُقْتَضَاهُ وَلَا إشْكَالَ عَلَيْهِ ؛ بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يُسْتَفَادُ مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا ذَكَرْنَاهُ يَظْهَرُ مِنْ وُجُوهٍ .
أَحَدُهَا أَنَّهُ قَالَ : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } و " الْقِصَاصُ " مَصْدَرُ قَاصَّهُ يُقَاصُّهُ مُقَاصَّةً وَقِصَاصًا وَمِنْهُ مُقَاصَّةُ الدَّيْنَيْنِ أَحَدُهُمَا بِالْآخِرِ وَالْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ الْجَمِيعُ قَتْلَى كَمَا ذَكَرَ الشَّعْبِيُّ فَيُقَاصُّ هَؤُلَاءِ الْقَتْلَى بِهَؤُلَاءِ الْقَتْلَى أَمَّا إذَا قَتَلَ

رَجُلٌ رَجُلًا فَالْمَقْتُولُ مَيِّتٌ فَهُنَا الْمَقْتُولُ لَا مُقَاصَّةَ فِيهِ وَلَكِنَّ الْقِصَاصَ أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ قَتْلِ الْقَاتِلِ لَا غَيْرِهِ وَفِي اعْتِبَارِ الْمُكَافَآتِ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ قِيلَ : تُعْتَبَرُ الْمُكَافَآتُ فَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِذِمِّيِّ وَلَا حُرٌّ بِعَبْدِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَقِيل لَا تُعْتَبَرُ الْمُكَافَآتُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُكَافَآتُ لَا تُسَمَّى قِصَاصًا . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ } وَإِنْ أُرِيدَ بِالْقِصَاصِ الْمُكَافَآتُ فَتِلْكَ لَمْ تُكْتَبْ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ فَذَلِكَ مُبَاحٌ لِلْوَلِيِّ إنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْتَصَّ فَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ الِاقْتِصَاصُ وَقَدْ أَوْرَدَ هَذَا السُّؤَالَ بَعْضُهُمْ وَقَالَ : هُوَ مَكْتُوبٌ عَلَى الْقَاتِلِ أَنْ يُمَكِّنَ مِنْ نَفْسِهِ فَيُقَالُ لَهُ : هُوَ تَعَالَى قَالَ : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } وَلَيْسَ هَذَا خِطَابًا لِلْقَاتِلِ وَحْدَهُ بَلْ هُوَ خِطَابٌ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } ثُمَّ لَا يُقَالُ لِلْقَاتِلِ : كُتِبَ عَلَيْك الْقِصَاصُ فِي الْمَقْتُولِ فَإِنَّ الْمَقْتُولَ لَا قِصَاصَ فِيهِ . و " أَيْضًا " فَنَفْسُ انْقِيَادِ الْقَاتِلِ لِلْوَلِيِّ لَيْسَ هُوَ قِصَاصًا ؛ بَلْ الْوَلِيُّ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ وَلَهُ أَنْ لَا يَقْتَصَّ وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا قَوْدًا لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَقُودُهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَسْلِيمِ السِّلْعَةِ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { الْحُرُّ بِالْحُرِّ } فَكَيْفَ يُقَالُ مِثْلُ هَذَا قَصَدَهُ الْقَاتِلُ ؛ بَلْ هَذَا خِطَابٌ لِلْأُمَّةِ

بِالْمُقَاصَّةِ وَالْمُعَادَلَةِ فِي الْقَتْلِ . { وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قَالَ : كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ لَمَّا كَسَرَتْ الربيع سِنَّ جَارِيَةٍ وَامْتَنَعُوا مِنْ أَخْذِ الْأَرْشِ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ : لَا وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الربيع فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فَرَضِيَ الْقَوْمُ بِالْأَرْشِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ } كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } يَعْنِي " كِتَابُ اللَّهِ " أَنْ يُؤْخَذَ الْعُضْوُ بِنَظِيرِهِ فَهَذَا قِصَاصٌ لِأَنَّهُ مُسَاوَاةٌ وَلِهَذَا كَانَتْ الْمُكَافَآتُ فِي الْأَعْضَاءِ وَالْجُرُوحِ مُعْتَبَرَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ قِيلَ الْقِصَاصُ هُوَ أَنْ يُقْتَلَ قَاتِلُهُ لَا غَيْرُهُ فَهُوَ خِلَافُ الِاعْتِدَاءِ قِيلَ : نَعَمْ وَهَذَا قِصَاصٌ فِي الْأَحْيَاءِ لَا فِي الْقَتْلَى . ( الثَّانِي أَنَّهُ قَالَ : { فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } وَمَعْلُومٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ الْعَبْدَ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ وَبِالْحُرِّ وَالْأُنْثَى تُقْتَلُ بِالْأُنْثَى وَبِالذَّكَرِ وَالْحَرُّ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ وَبِالْأُنْثَى أَيْضًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقِيلَ : يُشْتَرَطُ أَنْ تُؤَدَّى تَمَامُ دِيَتِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ : { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مُقَاصَّةِ الْحُرِّ بِالْحُرِّ وَمُعَادَلَتِهِ بِهِ وَمُقَابَلَتِهِ بِهِ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانُوا مَقْتُولِينَ فَيُقَابِلُ كُلَّ وَاحِدٍ بِالْآخَرِ وَيَنْظُرُ أَيَتَعَادَلَانِ أَمْ يُفَضَّلُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَضْلٌ أَمَّا فِي الْقَتْلَى فَلَا يَخْتَصُّ هَذَا بِهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . ( الثَّالِثُ أَنَّهُ قَالَ : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } لَفْظُ ( عُفِيَ )

هُنَا قَدْ اُسْتُعْمِلَ مُتَعَدِّيًا ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : ( عُفِيَ ) ( شَيْءٌ ) وَلَمْ يَقُلْ : ( عَفَا ) ( شَيْئًا ) وَهَذَا إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْفِعْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } وَأَمَّا الْعَفْوُ عَنْ الْقَتْلِ فَذَاكَ يُقَالُ فِيهِ عَفَوْت عَنْ الْقَاتِلِ فَوَلِيُّ الْمَقْتُولِ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ : بَيْنَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ الْقَتْلِ وَيَأْخُذَ الدِّيَةَ فَلَمْ يُعْفَ لَهُ شَيْءٌ ؛ بَلْ هُوَ عَفَا عَنْ الْقَتْلِ وَإِذَا عَفَا فَإِمَّا أَنْ يَسْتَحِقَّ الدِّيَةَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : { مِنْ أَخِيهِ } أَيْ مِنْ دَمِ أَخِيهِ أَيْ تَرَكَ لَهُ الْقَتْلَ وَرَضِيَ بِالدِّيَةِ ؛ وَالْمُرَادُ الْقَاتِلُ يَعْنِي أَنَّ الْقَاتِلَ عُفِيَ لَهُ مِنْ دَمِ أَخِيهِ الْمَقْتُولِ أَيْ تَرَكَ لَهُ الْقَتْلَ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَنَّ الْوَلِيَّ عَفَا لِلْقَاتِلِ مِنْ دَمِ الْمَقْتُولِ شَيْئًا وَهَذَا كَلَامٌ لَا يُعْرَفُ لَا يُقَالُ : عَفَوْت لَك شَيْئًا وَلَا يُقَالُ : عَفَوْت مِنْ دَمِ الْقَاتِلِ وَإِنَّمَا الَّذِي يُقَالُ : إنَّهُ عَفَا عَنْ الْقَاتِلِ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا ؟ . وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالْمُتَقَاصَّانِ إذَا تَعَادَّا الْقَتْلَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ أَيْ فَضَلَ لَهُ مِنْ مُقَاصَّةِ أَخِيهِ مُقَاصَّةٌ أُخْرَى أَيْ هَذَا الَّذِي فَضَلَ لَهُ فَضْلٌ كَمَا يُقَالُ : أَبَقِيَ لَهُ مِنْ جِهَةِ أَخِيهِ بَقِيَّةٌ { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } فَهَذَا الْمُسْتَحِقّ لِلْفَضْلِ يَتَّبِعُ الْمُقَاصَّ الْآخَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى هَذَا بِإِحْسَانِ { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } أَيْ مِنْ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تُؤَدِّي قَتْلَى الْأُخْرَى فَإِنَّ فِي هَذَا تَثْقِيلًا عَظِيمًا لَهُ { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } فَإِنَّهُمْ

إذَا تَعَادُّوا الْقَتْلَى وَتَقَاصُّوا وَتَعَادَلُوا لَمْ يَبْقَ وَاحِدَةٌ تَطْلُبُ الْأُخْرَى بِشَيْءِ فَحَيِيَ هَؤُلَاءِ وَحَيِيَ هَؤُلَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَتَقَاصُّوا فَإِنَّهُمْ يَتَقَاتَلُونَ وَتَقُومُ بَيْنَهُمْ الْفِتَنُ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا خَلَائِقُ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي فِتَنِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ إنَّمَا تَقَعُ الْفِتَنُ لِعَدَمِ الْمُعَادَلَةِ وَالتَّنَاصُفِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ وَإِلَّا فَمَعَ التَّعَادُلِ وَالتَّنَاصُفِ الَّذِي يَرْضَى بِهِ أُولُو الْأَلْبَابِ لَا تَبْقَى فِتْنَةٌ . وَقَوْلُهُ : { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } فَطَلَب مِنْ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى مَالًا أَوْ قَوْمًا أَوْ آذَاهُمْ بِسَبَبِ مَا بَيْنَهُمْ مِنْ الدَّمِ { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } و " الْأُخُوَّةُ " هُنَا كَالْأُخُوَّةِ هُنَاكَ وَهَذَا فِي قَتْلَى الْفِتَنِ . وَأَمَّا إذَا قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ فِتْنَةٍ فَهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ الْقَاتِلَ يُقْتَلُ لَكِنْ كَانَتْ الطَّائِفَةُ الْقَوِيَّةُ تَطْلُبُ أَنْ تَقْتُلَ غَيْرَ الْقَاتِلِ أَوْ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ الْقَاتِلِ أَوْ اثْنَيْنِ بِوَاحِدِ وَإِذَا كَانَ الْقَاتِلُ مِنْهَا لَمْ تَقْتُلْ بِهِ مَنْ هُوَ دُونَهُ كَمَا قِيلَ : إنَّهُ كَانَ بَيْنَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ لَكِنَّ هَذَا لَمْ تَثُرْ بِهِ الْفِتَنُ بَلْ فِيهِ ظُلْمُ الطَّائِفَةِ الْقَوِيَّةِ لِلضَّعِيفَةِ وَلَمْ

يَكُنْ فِي الْأُمَمِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقَاتِلَ الظَّالِمَ الْمُتَعَدِّي مُطْلَقًا لَا يُقْتَلُ فَهَذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ ؛ بَلْ كُلُّ بَنِي آدَمَ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ فِي الْجُمْلَةِ يُقْتَلُ لَكِنَّ الظَّلَمَةَ الْأَقْوِيَاءَ يُفَرِّقُونَ بَيْن قَتِيلٍ وَقَتِيلٍ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ قَوْلَهُ : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } مَعْنَاهُ أَنَّ الْقَاتِلَ إذَا عَرَفَ أَنَّهُ يُقْتَلُ كَفَّ فَكَانَ فِي ذَلِكَ حَيَاةٌ لَهُ وَلِلْمَقْتُولِ يُقَالُ لَهُ : هَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ ؛ وَلَكِنَّ هَذَا مِمَّا يَعْرِفُهُ جَمِيعُ النَّاسِ وَهُوَ مَغْرُوزٌ فِي جِبِلَّتِهِمْ وَلَيْسَ فِي الْآدَمِيِّينَ مَنْ يُبِيحُ قَتْلَ أَحَدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْتَلَ قَاتِلُهُ ؛ بَلْ كُلُّهُمْ مَعَ التَّسَاوِي يُجَوِّزُونَ قَتْلَ الْقَاتِلِ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ النَّاسَ . . . (1) إذَا كَانَ كُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَى غَيْرِهِ قَتَلَهُ وَهُوَ لَا يُقْتَلُ يَرْضَى بِمَالِ وَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ أَوَائِلِ مَا يَعْرِفُهُ الْآدَمِيُّونَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَعِيشُونَ بِدُونِهِ صَارَ هَذَا مِثْلُ حَاجَتِهِمْ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالسُّكْنَى فَالْقُرْآنُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ التَّعْرِيفَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْبَدِيهِيَّةِ ؛ بَلْ هَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَتَبَ عَلَيْهِمْ الْقِصَاصَ فِي الْمَقْتُولِينَ أَنَّهُ يَسْقُطُ حُرٌّ بِحُرِّ وَعَبْدٌ بِعَبْدِ وَأُنْثَى بِأُنْثَى فَجَعَلَ دِيَةَ هَذَا كَدِيَةِ هَذَا وَدَمَ هَذَا كَدَمِ هَذَا مُتَضَمِّنٌ لِمُسَاوَاتِهِمْ فِي الدِّمَاءِ وَالدِّيَاتِ وَكَانَ بِهَذِهِ الْمُقَاصَّةِ لَهُمْ حَيَاةٌ مِنْ الْفِتَنِ الَّتِي تُوجِبُ هَلَاكَهُمْ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَعُلِمَ أَنَّ دَمَ الْحُرِّ وَدِيَتَهُ كَدَمِ الْحُرِّ وَدِيَتِهِ فَيُقْتَلُ بِهِ وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ التَّقَاصَّ يَقَعُ لِلتَّسَاوِي فِي الدِّيَاتِ عَلِمَ أَنَّ لِلْمَقْتُولِ دِيَةً .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131