الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

فَيَأْتِي رَبَّهُ فَيَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ وَيَسْجُدُ لَهُ فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ شَفَعَ لَهُمْ } . فَهَذِهِ حَالُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ ؛ فَكَيْفَ غَيْرُهُمْ ؟ فَلَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُونُوا يَدَعُونَهُ وَلَا يَسْتَغِيثُونَ بِهِ وَلَا يَطْلُبُونَ مِنْهُ شَيْئًا لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا بَعِيدًا مِنْ قَبْرِهِ ؛ بَلْ وَلَا يُصَلُّونَ عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا قَبْرِ غَيْرِهِ لَكِنْ يُصَلُّونَ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَيُطِيعُونَ أَمْرَهُ وَيَتَّبِعُونَ شَرِيعَتَهُ وَيَقُومُونَ بِمَا أَحَبَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَقِّ نَفْسِهِ وَحَقِّ رَسُولِهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ . فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا : عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ } وَقَالَ : { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ } وَقَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا . وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُ كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } وَقَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا } { وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت فَقَالَ : أَجَعَلْتِنِي لِلَّهِ نِدًّا ؟ قُلْ : مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ } وَقَالَ : { لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ } . وَفِي الْمُسْنَدِ { أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ سَجَدَ لَهُ . فَقَالَ : مَا هَذَا يَا مُعَاذُ ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتهمْ فِي الشَّامِ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ عَنْ أَنْبِيَائِهِمْ فَقَالَ : يَا مُعَاذُ لَوْ أَمَرْت أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا } وَقَالَ : { يَا

مُعَاذُ أَرَأَيْت لَوْ مَرَرْت بِقَبْرِي أَكُنْت سَاجِدًا لِقَبْرِي قَالَ : لَا قَالَ : فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ السُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ } أَوْ كَمَا قَالَ . فَإِذَا كَانَ السُّجُودُ لَا يَجُوزُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا وَلَا لِقَبْرِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ السُّجُودُ لِغَيْرِهِ ؟ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا } فَقَدْ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ إلَيْهَا كَمَا نَهَى عَنْ اتِّخَاذِهَا مَسَاجِدَ وَلِهَذَا لَمَّا أَدْخَلُوا حُجْرَتَهُ فِي الْمَسْجِدِ لَمَّا وَسَّعُوهُ جَعَلُوا مُؤَخَّرَهَا مُسَنَّمًا مُنْحَرِفًا عَنْ سَمْتِ الْقِبْلَةِ لِئَلَّا يُصَلِّيَ أَحَدٌ إلَى الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ فَمَا الظَّنُّ بِالسُّجُودِ إلَى جِهَةِ غَيْرِهِ . كَائِنًا مَنْ كَانَ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : هَذَا السُّجُودُ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي ذَلِكَ فَكَفَى بِالْكَذِبِ خِزْيًا وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ فَإِنَّ السُّجُودَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ وَهُوَ السُّجُودُ فِي الصَّلَاةِ وَسُجُودُ السَّهْوِ وَسُجُودُ التِّلَاوَةِ وَسُجُودُ الشُّكْرِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا السُّجُودُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ بِلَا سَبَبٍ فَقَدْ كَرِهَهُ الْعُلَمَاءُ وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ مِنْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ بَلَغَهُمْ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو مُوسَى الَّذِي فِي الْوَظَائِفِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ

يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ } فَفَعَلُوا (1) الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْوِتْرِ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ وَلَمْ يُدَاوِمْ عَلَى ذَلِكَ } فَسُمِّيَتْ الرَّكْعَتَانِ سَجْدَتَيْنِ . كَمَا فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ . فَهَذَا هُوَ أَصْلُ ذَلِكَ . وَالْكَلَامُ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَمَّا السَّجْدَتَانِ فَلَا أَصْلَ لَهُمَا وَلَا لِلسُّجُودِ الْمُجَرَّدِ بِلَا سَبَبٍ وَقَالُوا هُوَ بِدْعَةٌ فَكَيْفَ بِالسُّجُودِ إلَى جِهَةِ مَخْلُوقٍ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَهَذَا يُشَابِهُ مَنْ يَسْجُدُ لِلشَّرْقِ فِي الْكَنِيسَةِ مَعَ النَّصَارَى وَيَقُولُ : لِلَّهِ أَوْ يَسْجُدُ مَعَ الْيَهُودِ إلَى الصَّخْرَةِ وَيَقُولُ : لِلَّهِ ؛ بَلْ سُجُودُ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ لِلَّهِ وَإِنْ كَانَ إلَى غَيْرِ قِبْلَةِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ . بَلْ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَسْجُدُ لِلشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا وَيَسْجُدُ لِبَعْضِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ وَيَقُولُونَ : لِلَّهِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا فَسَادُ الْأَوْلَادِ : بِحَيْثُ يُعَلِّمُهُ الشِّحَاذَةَ وَيَمْنَعُهُ مِنْ الْكَسْبِ الْحَلَالِ أَوْ يُخْرِجُهُ بِبِلَادِهِ مَكْشُوفَ الشَّعَرِ . . . (2) فِي النَّاسِ ، فَهَذَا يَسْتَحِقُّ

صَاحِبُهُ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ الَّتِي تَزْجُرُهُ عَنْ هَذَا الْإِفْسَادِ لَا سِيَّمَا إنْ أَدْخَلُوهُمْ فِي الْفَوَاحِشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ ؛ وَيَجِبُ تَعْلِيمُ أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِتَعْلِيمِهِمْ إيَّاهُ وَتَرْبِيَتِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ }
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " النَّذْرُ لِلْمَوْتَى " مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ : أَوْ لِقُبُورِهِمْ أَوْ الْمُقِيمِينَ عِنْدَ قُبُورِهِمْ . فَهُوَ نَذْرُ شِرْكٍ وَمَعْصِيَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى . سَوَاءٌ كَانَ النَّذْرُ نَفَقَةً أَوْ ذَهَبًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَهُوَ شَبِيهٌ بِمَنْ يُنْذِرُ لِلْكَنَائِسِ ؛ وَالرُّهْبَانِ وَبُيُوتِ الْأَصْنَامِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } " وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ نَذْرَ الْمَعْصِيَةِ لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ ؛ بَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا إذَا كَانَ النَّذْرُ لِلَّهِ وَأَمَّا إذَا كَانَ النَّذْرُ لِغَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ كَمَنْ يَحْلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ وَهَذَا شِرْكٌ . فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهُ وَلَيْسَ فِي هَذَا وَفَاءٌ وَلَا كَفَّارَةٌ . وَمَنْ تَصَدَّقَ بِالنُّقُودِ عَلَى أَهْلِ الْفَقْرِ وَالدِّينِ فَأَجْرُهُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ .

وَأَصْلُ عَقْدِ النَّذْرِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ : " { إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرِ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ } " وَإِذَا نَذَرَ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ ؛ دُونَ مَا لَمْ يَكُنْ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى .
فَصْلٌ :
فَأَمَّا مُؤَاخَاةُ الرِّجَالِ النِّسَاءَ الْأَجَانِبَ وَخُلُوُّهُمْ بِهِنَّ وَنَظَرُهُمْ إلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ مِنْهُنَّ : فَهَذَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الدِّينِ فَهُوَ مِنْ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَخْلُوَن رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ } وَقَالَ : { إيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَرَأَيْت الْحَمْوَ ؟ قَالَ : الْحَمْوُ الْمَوْتُ } " وَمَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ ذَلِكَ عُوقِبَ عُقُوبَةً بَلِيغَةً تَزْجُرُهُ وَأَمْثَالَهُ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ وَالْعِنَادِ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَالْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَلَمْ يُنَازِعُوا إلَّا فِي الْحَلِفِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً . وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ لَا بِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } وَقَالَ : { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } فَمَنْ حَلَفَ بِشَيْخِهِ أَوْ بِتُرْبَتِهِ أَوْ بِحَيَاتِهِ أَوْ بِحَقِّهِ عَلَى اللَّهِ أَوْ بِالْمُلُوكِ أَوْ بِنِعْمَةِ السُّلْطَانِ أَوْ بِالسَّيْفِ أَوْ بِالْكَعْبَةِ أَوْ أَبِيهِ أَوْ تُرْبَةِ أَبِيهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : لِمَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَنْتَ شَرْعِيٌّ . فَكَلَامٌ صَحِيحٌ فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الشَّرْعَ لَا يَتَّبِعُهُ أَوْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ وَأَنَا خَارِجٌ عَنْ اتِّبَاعِهِ فَلَفْظُ الشَّرْعِ قَدْ صَارَ لَهُ فِي عُرْفِ النَّاسِ " ثَلَاثُ مَعَانٍ " الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ وَالشَّرْعُ الْمُؤَوَّلُ وَالشَّرْعُ الْمُبَدَّلُ .

فَأَمَّا الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ : فَهُوَ مَا ثَبَتَ عَنْ الرَّسُولِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهَذَا الشَّرْعُ يَجِبُ عَلَى الْأَوَّلِينَ والآخرين اتِّبَاعُهُ وَأَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ أَكْمَلُهُمْ اتِّبَاعًا لَهُ وَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمْ هَذَا الشَّرْعَ أَوْ طَعَنَ فِيهِ أَوْ جَوَّزَ لِأَحَدِ الْخُرُوجُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَأَمَّا الْمُؤَوَّلُ فَهُوَ مَا اجْتَهَدَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ الْأَحْكَامِ فَهَذَا مَنْ قَلَّدَ فِيهِ إمَامًا مِنْ الْأَئِمَّةِ سَاغَ ذَلِكَ لَهُ وَلَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ الْتِزَامُ قَوْلِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ . وَأَمَّا الشَّرْعُ الْمُبَدَّلُ فَهُوَ الْأَحَادِيثُ الْمَكْذُوبَةُ وَالتَّفَاسِيرُ الْمَقْلُوبَةُ وَالْبِدَعُ الْمُضِلَّةُ الَّتِي أُدْخِلَتْ فِي الشَّرْعِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ وَالْحُكْمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ . فَهَذَا وَنَحْوُهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدِ اتِّبَاعُهُ . وَإِنَّمَا حُكْمُ الْحُكَّامِ بِالظَّاهِرِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ وَحُكْمُ الْحَاكِمِ لَا يُحِيلُ الْأَشْيَاءَ عَنْ حَقَائِقِهَا . فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ . وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } فَهَذَا قَوْلُ إمَامِ الْحُكَّامِ وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ .

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ : فَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } " وَقَالَ { الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ : قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ . رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ بِجَهْلِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ } " . وَمَنْ خَرَجَ عَنْ الشَّرْعِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَانًّا أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلْحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ مُضَاهٍ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ وَلَفْظُ " الْحَقِيقَةِ " يُقَالُ : عَلَى " حَقِيقَةٍ كَوْنِيَّةٍ " وَ " حَقِيقَةٍ بِدْعِيَّةٍ " وَ " حَقِيقَةٍ شَرْعِيَّةٍ " . فَ " الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ " مَضْمُونُهَا الْإِيمَانُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ . وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ بَلْ لِلَّهِ عَلَيْنَا الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَمَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ فَحُجَّتُهُ دَاحِضَةٌ وَمَنْ اعْتَذَرَ بِالْقَدَرِ عَنْ الْمَعَاصِي فَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ . وَأَمَّا " الْحَقِيقَةُ الْبِدْعِيَّةُ " فَهِيَ سُلُوكُ طَرِيقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِمَّا يَقَعُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ مِنْ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْهَوَى مِنْ غَيْرِ اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . كَطَرِيقِ النَّصَارَى فَهُمْ تَارَةً يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَتَارَةً يَعْبُدُونَ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ . كَالنَّصَارَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ

وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مَنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ فَأَشْرَكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَشَرَعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ . وَأَمَّا دِينُ الْمُسْلِمِينَ فَكَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالُوا : وَمَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ . قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا . وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : " اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا " . وَأَمَّا " الْحَقِيقَةُ الدِّينِيَّةُ " وَهِيَ تَحْقِيقُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِثْلُ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَالْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ وَالشُّكْرِ لِلَّهِ وَالصَّبْرِ لِحُكْمِ اللَّهِ وَالْحَبِّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْبُغْضِ فِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . فَهَذَا حَقَائِقُ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَطَرِيقُ أَهْلِ الْعِرْفَانِ .

فَصْلٌ :
وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ . وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهُوَ مَا خَالَفَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ بَلْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ وَأَفْضَلِ الطَّاعَاتِ ؛ بَلْ هُوَ طَرِيقُ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَمَشَايِخِ الدِّينِ نَقْتَدِي بِهِمْ فِيهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وَهَذِهِ الْآيَةُ بِهَا اسْتَدَلَّ الْمُسْتَدِلُّونَ عَلَى أَنَّ شُيُوخَ الدِّينِ يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الدِّينِ فَمَنْ لَمْ يَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ لَمْ يَكُنْ مِنْ شُيُوخِ الدِّينِ وَلَا مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا لِبَاسُ الْخِرْقَةِ الَّتِي يُلْبِسُهَا بَعْضُ الْمَشَايِخِ الْمُرِيدِينَ : فَهَذِهِ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا الدَّلَالَةَ الْمُعْتَبَرَةَ مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا كَانَ الْمَشَايِخُ الْمُتَقَدِّمُونَ وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ يُلْبِسُونَهَا الْمُرِيدِينَ . وَلَكِنْ طَائِفَةٌ مِنْ

الْمُتَأَخِّرِينَ رَأَوْا ذَلِكَ وَاسْتَحَبُّوهُ وَقَدْ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْبَسَ أُمَّ خَالِدِ بِنْتَ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ العاص ثَوْبًا وَقَالَ لَهَا : سِنًّا } وَالسِّنَّا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْحَسَنُ . وَكَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فَلِهَذَا خَاطَبَهَا بِذَلِكَ اللِّسَانِ وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ { الْبُرْدَةِ الَّتِي نَسَجَتْهَا امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ إيَّاهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ فَأَعْطَاهُ إيَّاهَا وَقَالَ : أَرَدْت أَنْ تَكُونَ كَفَنًا لِي } . وَلَيْسَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ . فَإِنَّ إعْطَاءَ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ مَا يَلْبَسُهُ كَإِعْطَائِهِ إيَّاهُ مَا يَنْفَعُهُ وَأَخْذُ ثَوْبٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ الْبَرَكَةِ كَأَخْذِ شَعَرِهِ عَلَى وَجْهِ الْبَرَكَةِ وَلَيْسَ هَذَا كَلِبَاسِ ثَوْبٍ أَوْ قَلَنْسُوَةٍ عَلَى وَجْهِ الْمُتَابَعَةِ وَالِاقْتِدَاءِ ؛ وَلَكِنْ يُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ خُلَعُ الْمُلُوكِ الَّتِي يَخْلَعُونَهَا عَلَى مَنْ يُوَلُّونَهُ كَأَنَّهَا شِعَارٌ وَعَلَامَةٌ عَلَى الْوِلَايَةِ وَالْكَرَامَةِ ؛ وَلِهَذَا يُسَمُّونَهَا تَشْرِيفًا . وَهَذَا وَنَحْوُهُ غَايَتُهُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ جِنْسِ الْمُبَاحَاتِ ؛ فَإِنْ اقْتَرَنَ بِهِ نِيَّةٌ صَالِحَةٌ كَانَ حَسَنًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَأَمَّا جَعْلُ ذَلِكَ سُنَّةً وَطَرِيقًا إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . وَأَمَّا انْتِسَابُ الطَّائِفَةِ إلَى شَيْخٍ مُعَيَّنٍ : فَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ مَنْ يَتَلَقَّوْنَ عَنْهُ الْإِيمَانَ وَالْقُرْآنَ . كَمَا تَلَقَّى الصَّحَابَةُ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَلَقَّاهُ عَنْهُمْ التَّابِعُونَ ؛ وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ اتِّبَاعُ السَّابِقِينَ

الْأَوَّلِينَ بِإِحْسَانِ فَكَمَا أَنَّ الْمَرْءَ لَهُ مَنْ يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ وَنَحْوَهُ فَكَذَلِكَ لَهُ مَنْ يُعْلَمُهُ الدِّينَ الْبَاطِنَ وَالظَّاهِرَ . وَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ ؛ وَلَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَنْتَسِبَ إلَى شَيْخٍ مُعَيَّنٍ كُلُّ مَنْ أَفَادَ غَيْرَهُ إفَادَةً دِينِيَّةً هُوَ شَيْخُهُ فِيهَا ؛ وَكُلُّ مَيِّتٍ وَصَلَ إلَى الْإِنْسَانِ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَآثَارِهِ مَا انْتَفَعَ بِهِ فِي دِينِهِ فَهُوَ شَيْخُهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ؛ فَسَلَفُ الْأُمَّةِ شُيُوخُ الْخُلَفَاءِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ ؛ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَنْتَسِبَ إلَى شَيْخٍ يُوَالِي عَلَى مُتَابَعَتِهِ وَيُعَادِي عَلَى ذَلِكَ ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُوَالِيَ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَمَنْ عُرِفَ مِنْهُ التَّقْوَى مِنْ جَمِيعِ الشُّيُوخِ وَغَيْرِهِمْ وَلَا يَخُصُّ أَحَدًا بِمَزِيدِ مُوَالَاةٍ إلَّا إذَا ظَهَرَ لَهُ مَزِيدُ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ فَيُقَدِّمُ مَنْ قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ عَلَيْهِ وَيُفَضِّلُ مَنْ فَضَّلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ؛ وَلَا لِعَجَمِيِّ عَلَى عَرَبِيٍّ ؛ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ ؛ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ إلَّا بِالتَّقْوَى } .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : أَنْتَ لِلشَّيْخِ فُلَانٍ وَهُوَ شَيْخُك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . فَهَذِهِ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ قَوْلَهُ : شَيْخُك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَلَامٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَكُونُ مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ فَهَذَا إلَى اللَّهِ لَا إلَيْهِ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُشَفَّعُ فِيهِ فَلَا يَشْفَعُ أَحَدٌ لِأَحَدِ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُشَفَّعَ فِيهِ وَإِلَّا لَمْ يُشَفَّعْ ؛ وَلَيْسَ بِقَوْلِهِ : أَنْتَ شَيْخِي فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ شَافِعًا لَهُ - هَذَا إنْ كَانَ الشَّيْخُ مِمَّنْ لَهُ شَفَاعَةٌ - فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ وَالْخَلْقِ لَا يَشْفَعُ حَتَّى يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ بَعْدَ امْتِنَاعِ غَيْرِهِ مِنْهَا . وَكَمْ مِنْ مُدَّعٍ لِلْمَشْيَخَةِ وَفِيهِ نَقْصٌ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : " لَوْ أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ ظَنَّهُ بِحَجَرِ لَنَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ " هُوَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْبُهْتَانِ فَإِنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ أَحْسَنُوا ظَنَّهُمْ بِهَا فَكَانُوا هُمْ وَإِيَّاهَا مِنْ حَصَبِ جَهَنَّمَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّكُمْ وَمَا

تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } . لَكِنْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً } وَمَنْ أَمْكَنَهُ الْهُدَى مِنْ غَيْرِ انْتِسَابٍ إلَى شَيْخٍ مُعَيَّنٍ فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى ذَلِكَ وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يُكْرَهُ لَهُ . وَأَمَّا إنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ بِمَا أَمَرَهُ إلَّا بِذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانٍ يَضْعُفُ فِيهِ الْهُدَى وَالْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ وَالدِّينُ يُعَلِّمُونَهُ وَيُؤَدِّبُونَهُ لَا يَبْذُلُونَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِانْتِسَابِ إلَى شَيْخِهِمْ أَوْ يَكُونُ انْتِسَابُهُ إلَى شَيْخٍ يَزِيدُ فِي دِينِهِ وَعِلْمِهِ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ الْأَصْلَحَ لِدِينِهِ . وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ إلَّا لِتَفْرِيطِهِ وَإِلَّا فَلَوْ طَلَبَ الْهُدَى عَلَى وَجْهِهِ لَوَجَدَهُ . فَأَمَّا الِانْتِسَابُ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِ خُرُوجٌ عَنْ الْجَمَاعَةِ والائتلاف إلَى الْفُرْقَةِ وَسُلُوكِ طَرِيقِ الِابْتِدَاعِ وَمُفَارَقَةِ السُّنَّةِ وَالِاتِّبَاعِ فَهَذَا مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ وَيَأْثَمُ فَاعِلُهُ وَيَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لِرِضَا الْمَشَايِخِ وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِمْ . فَهَذَا الْحُكْمُ لَيْسَ هُوَ لِجَمِيعِ الْمَشَايِخِ وَلَا مُخْتَصٌّ بِالْمَشَايِخِ بَلْ كُلُّ مَنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلَّهِ : يَرْضَى مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ وَيَسْخَطُ مَا يَسْخَطُ اللَّهُ كَانَ اللَّهُ يَرْضَى لِرِضَاهُ وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِ مِنْ الْمَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ مِنْ الْمَشَايِخِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ . وَمِنْهُ { قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ قَدْ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ صهيب وخباب وَبِلَالٍ وَغَيْرِهِمْ كَلَامٌ فِي أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ ؛ فَإِنَّهُ مَرَّ بِهِمْ فَقَالُوا : مَا أَخَذَتْ السُّيُوفُ مِنْ عَدُوِّ اللَّهِ مَأْخَذَهَا . فَقَالَ أَتَقُولُونَ هَذَا لِكَبِيرِ قُرَيْشٍ ؟ وَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ : لَعَلَّك أَغْضَبْتهمْ يَا أَبَا بَكْرٍ لَئِنْ كُنْت أَغْضَبْتهمْ لَقَدْ أَغْضَبْت رَبَّك أَوْ كَمَا قَالَ . قَالَ : فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُمْ : يَا إخْوَانِي أَغْضَبْتُكُمْ ؟ قَالُوا : لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَك يَا أَبَا بَكْرٍ } . فَهَؤُلَاءِ كَانَ غَضَبُهُمْ لِلَّهِ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَقُولُ

اللَّهُ تَعَالَى مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ . وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } . فَهَذَا الْمُؤْمِنُ الَّذِي تَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَحَبَّهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } وَفِي الْحَقِيقَةِ فَالْعَبْدُ الَّذِي يَرْضَى اللَّهُ لِرِضَاهُ وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِ هُوَ يَرْضَى لِرِضَا اللَّهِ وَيَغْضَبُ لِغَضَبِ اللَّهِ وَلْيَكُنْ هَذَانِ مِثَالَانِ : فَمَنْ أَحَبَّ مَا أَحَبَّ اللَّهُ وَأَبْغَضَ مَا أَبْغَضَ اللَّهُ وَرَضِيَ مَا رَضِيَ اللَّهُ لِمَا يُرْضِي اللَّهَ وَيَغْضَبُ لِمَا يَغْضَبُ ؛ لَكِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ لِلْبَشَرِ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ بَلْ لَا بُدَّ لِأَكْمَلِ الْخَلْقِ أَنْ يَغْضَبَ أَحْيَانًا غَضَبَ الْبَشَرِ وَيَرْضَى رِضَا الْبَشَرِ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { : اللَّهُمَّ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ فَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَبَبْته أَوْ لَعَنْته وَلَيْسَ لِذَلِكَ بِأَهْلِ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ إلَيْك يَوْمَ الْقِيَامَةِ }

وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ : لَئِنْ كُنْت أَغْضَبْتهمْ لَقَدْ أَغْضَبْت رَبَّك فِي قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لِكَوْنِ غَضَبِهِ لِأَجْلِ أَبِي سُفْيَانَ وَهُمْ كَانُوا يَغْضَبُونَ لِلَّهِ وَإِلَّا فَأَبُو بَكْرٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ فَالشُّيُوخُ وَالْمُلُوكُ وَغَيْرُهُمْ إذَا أَمَرُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أُطِيعُوا وَإِنْ أَمَرُوا بِخِلَافِ ذَلِكَ لَمْ يُطَاعُوا ؛ فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَلَيْسَ أَحَدٌ مَعْصُومًا إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا فِي الشَّيْخِ الَّذِي ثَبَتَ مَعْرِفَتُهُ بِالدِّينِ وَعَمَلُهُ بِهِ . وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُبْتَدِعًا بِدْعَةً ظَاهِرَةً أَوْ فَاجِرًا فُجُورًا ظَاهِرًا . فَهَذَا إلَى أَنْ تُنْكِرَ عَلَيْهِ بِدْعَتَهُ وَفُجُورَهُ أَحْوَجُ مِنْهُ إلَى أَنْ يُطَاعَ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ ؛ لَكِنْ إنْ أَمَرَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَجَبَتْ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ ؛ وَلَوْ كَانَ الْآمِرُ بِهَا كَائِنًا مَنْ كَانَ .
فَصْلٌ : (*)
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ } " فَهُوَ مِنْ أَصَحِّ الْأَحَادِيثِ . وَقَالَ أَنَسٌ : فَمَا فَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِشَيْءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحَهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَأَنَا أُحِبُّ رَسُولَ اللَّهِ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَرْجُو أَنْ أُحْشَرَ

مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ مِثْلَ أَعْمَالِهِمْ . وَكَذَلِكَ " { أَوْثَقُ عُرَى الْإِسْلَامِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ } " لَكِنَّ هَذَا بِحَيْثُ أَنْ يُحِبُّ الْمَرْءَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمَنْ يُحِبُّ اللَّهَ فَيُحِبُّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ كُلَّهُمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَاَللَّهُ يُحِبُّهُمْ كَاَلَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَأَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ . فَمَنْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ شَهِدْنَا لَهُ بِالْجَنَّةِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ بِالْجَنَّةِ . فَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : لَا نَشْهَدُ لَهُ بِالْجَنَّةِ وَلَا نَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ وَقَالَ طَائِفَةٌ : بَلْ مَنْ استفشى مِنْ بَيْنِ النَّاسِ إيمَانُهُ وَتَقْوَاهُ وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِ كَعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد والْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَغَيْرِهِمْ . شَهِدْنَا لَهُمْ بِالْجَنَّةِ ؛ لِأَنَّ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةِ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ : وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَمُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةِ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا . فَقَالَ : وَجَبَتْ وَجَبَتْ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قَوْلُك : وَجَبَتْ وَجَبَتْ ؟ قَالَ : هَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقُلْت : وَجَبَتْ لَهَا الْجَنَّةُ وَهَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا شَرًّا فَقُلْت وَجَبَتْ لَهَا النَّارُ . قِيلَ :

بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ وَالثَّنَاءِ السَّيِّئِ } . وَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَكَثِيرٌ مِنْ الْمَشْهُورِينَ بِالْمَشْيَخَةِ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ قَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مِنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ مَا يَمْنَعُ شَهَادَةَ النَّاسِ لَهُمْ بِذَلِكَ بَلْ قَدْ يَكُونُ فِيهِمْ الْمُنَافِقُ وَالْفَاسِقُ كَمَا أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَحِزْبِ اللَّهِ الْمُفْلِحِينَ كَمَا أَنَّ غَيْرَ الْمَشَايِخِ فِيهِمْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَالتُّجَّارُ وَالْفَلَّاحُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ . إذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ طَلَبَ أَنْ يُحْشَرَ مَعَ شَيْخٍ لَمْ يَعْلَمْ عَاقِبَتَهُ كَانَ ضَالًّا ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ بِمَا يَعْلَمُ ؛ فَيَطْلُبُ أَنْ يَحْشُرَهُ اللَّهُ مَعَ نَبِيِّهِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } وَعَلَى هَذَا فَمَنْ أَحَبَّ شَيْخًا مُخَالِفًا لِلشَّرِيعَةِ كَانَ مَعَهُ ؛ فَإِذَا دَخَلَ الشَّيْخُ النَّارَ كَانَ مَعَهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشُّيُوخَ الْمُخَالِفِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْجَهَالَةِ فَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ كَانَ مَصِيرُهُ مَصِيرَ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْجَهَالَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ : كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ

وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَمَحَبَّةُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الْإِيمَانِ ؛ وَأَعْظَمِ حَسَنَاتِ الْمُتَّقِينَ . وَلَوْ أَحَبَّ الرَّجُلَ لِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَثَابَهُ اللَّهُ عَلَى مَحَبَّةِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَةَ بَاطِنِهِ فَإِنَّ الْأَصْلَ هُوَ حُبُّ اللَّهِ وَحُبُّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ فَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ وَأَحَبَّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَدَّعِي الْمَحَبَّةَ مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : ادَّعَى قَوْمٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَمَحَبَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ تَقْتَضِي فِعْلَ مَحْبُوبَاتِهِ وَتَرْكَ مَكْرُوهَاتِهِ وَالنَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِي هَذَا تَفَاضُلًا عَظِيمًا فَمَنْ كَانَ أَعْظَمَ نَصِيبًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ أَعْظَمَ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ . وَأَمَّا مَنْ أَحَبَّ شَخْصًا لِهَوَاهُ مِثْلُ أَنْ يُحِبَّهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا مِنْهُ أَوْ لِحَاجَةِ يَقُومُ لَهُ بِهَا أَوْ لِمَالِ يتآكله بِهِ . أَوْ بِعَصَبِيَّةٍ فِيهِ . وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَهَذِهِ لَيْسَتْ مَحَبَّةً لِلَّهِ ؛ بَلْ هَذِهِ مَحَبَّةٌ لِهَوَى النَّفْسِ وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ الَّتِي تُوقِعُ أَصْحَابَهَا فِي الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ . وَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَدَّعِي حُبَّ مَشَايِخَ لِلَّهِ وَلَوْ كَانَ يُحِبُّهُمْ لِلَّهِ لَأَطَاعَ اللَّهَ الَّذِي

أَحَبَّهُمْ لِأَجْلِهِ فَإِنَّ الْمَحْبُوبَ لِأَجْلِ غَيْرِهِ تَكُونُ مَحَبَّتُهُ تَابِعَةً لِمَحَبَّةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ . وَكَيْفَ يُحِبُّ شَخْصًا لِلَّهِ مَنْ لَا يَكُونُ مُحِبًّا لِلَّهِ وَكَيْفَ يَكُونُ مُحِبًّا لِلَّهِ مَنْ يَكُونُ مُعْرِضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَبِيلِ اللَّهِ . وَمَا أَكْثَرَ مَنْ يُحِبُّ شُيُوخًا أَوْ مُلُوكًا أَوْ غَيْرَهُمْ فَيَتَّخِذُهُمْ أَنْدَادًا يُحِبُّهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ وَالْمَحَبَّةِ مَعَ اللَّهِ ظَاهِرٌ فَأَهْلُ الشِّرْكِ يَتَّخِذُونَ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَأَهْلُ الْإِيمَانِ يُحِبُّونَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ أَصْلُ حُبِّهِمْ هُوَ حُبُّ اللَّهِ وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَحَبَّ مَنْ يُحِبُّهُ وَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ فَمَحْبُوبُ الْمَحْبُوبِ مَحْبُوبٌ وَمَحْبُوبُ اللَّهِ يُحِبُّ اللَّهَ فَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ فَيُحِبُّهُ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ . وَأَمَّا أَهْلُ الشِّرْكِ فَيَتَّخِذُونَ أَنْدَادًا أَوْ شُفَعَاءَ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } { أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ } { إنِّي إذًا

لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } { إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . وَاَللَّهُ تَعَالَى بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ ؛ لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " { إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ } " فَالدِّينُ وَاحِدٌ وَإِنْ تَفَرَّقَتْ الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } . وَمِنْ حِينِ بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ إلَّا الدِّينَ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَسْمَعُ بِي مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ

بِي إلَّا دَخَلَ النَّارَ } " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } . فَعَلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمْ اتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ وَيَعْبُدُونَهُ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بِغَيْرِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } { إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَتَفَرَّقُونَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا : أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ } " وَعِبَادَةُ اللَّهِ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَكَمَالَ الذُّلِّ لِلَّهِ فَأَصْلُ الدِّينِ وَقَاعِدَتُهُ يَتَضَمَّنُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ

هُوَ الْمَعْبُودَ الَّذِي تُحِبُّهُ الْقُلُوبُ وَتَخْشَاهُ وَلَا يَكُونُ لَهَا إلَهٌ سِوَاهُ وَالْإِلَهُ مَا تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ بِالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ وَالْإِجْلَالِ وَالْإِعْظَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَتَخْلُو الْقُلُوبُ عَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ بِمَحَبَّتِهِ وَعَنْ رَجَاءِ مَا سِوَاهُ بِرَجَائِهِ وَعَنْ سُؤَالِ مَا سِوَاهُ بِسُؤَالِهِ وَعَنْ الْعَمَلِ لِمَا سِوَاهُ بِالْعَمَلِ لَهُ وَعَنْ الِاسْتِعَانَةِ بِمَا سِوَاهُ بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ وَسَطُ الْفَاتِحَةِ { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَإِذَا قَالَ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ : اللَّهُ حَمِدَنِي عَبْدِي . فإذا قَالَ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قَالَ : مَجَّدَنِي عَبْدِي . وَإِذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ : هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ وَإِذَا قَالَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } قَالَ : هَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ } " . فَوَسَطُ السُّورَةِ { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فَالدِّينُ أَنْ لَا يُعْبَدُ إلَّا اللَّهُ وَلَا يُسْتَعَانُ إلَّا إيَّاهُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَغَيْرُهُمْ عِبَادُ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ

يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا } { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } فَالْحُبُّ لِغَيْرِ اللَّهِ كَحُبِّ النَّصَارَى لِلْمَسِيحِ وَحُبِّ الْيَهُودِ لِمُوسَى وَحُبِّ الرَّافِضَةِ لِعَلِيِّ وَحُبِّ الْغُلَاةِ لِشُيُوخِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ : مِثْلُ مَنْ يُوَالِي شَيْخًا أَوْ إمَامًا وَيَنْفِرُ عَنْ نَظِيرِهِ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ أَوْ مُتَسَاوِيَانِ فِي الرُّتْبَةِ فَهَذَا مِنْ جِنْسِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بِبَعْضِ الرُّسُلِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ وَحَالِ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يُوَالُونَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ وَيُعَادُونَ بَعْضَهُمْ وَحَالِ أَهْلِ الْعَصَبِيَّةِ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى فِقْهٍ وَزُهْدٍ : الَّذِينَ يُوَالُونَ بَعْضَ الشُّيُوخِ وَالْأَئِمَّةِ دُونَ الْبَعْضِ . وَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ مَنْ يُوَالِي جَمِيعَ أَهْلِ الْإِيمَانِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ } - وَقَالَ { : مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ } . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا تَقَاطَعُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا } . وَمِمَّا يُبَيِّنُ الْحُبَّ لِلَّهِ وَالْحُبَّ لِغَيْرِ اللَّهِ : أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْلِصًا لِلَّهِ وَأَبُو طَالِبٍ عَمُّهُ كَانَ يُحِبُّهُ وَيَنْصُرُهُ لِهَوَاهُ لَا لِلَّهِ . فَتَقَبَّلَ اللَّهُ عَمَلَ أَبِي بَكْرٍ وَأَنْزَلَ فِيهِ : { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى } { الَّذِي

يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } { وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى } { إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } { وَلَسَوْفَ يَرْضَى } وَأَمَّا أَبُو طَالِبٍ فَلَمْ يُتَقَبَّلْ عَمَلُهُ ؛ بَلْ أَدْخَلَهُ النَّارَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُشْرِكًا عَامِلًا لِغَيْرِ اللَّهِ . وَأَبُو بَكْرٍ لَمْ يَطْلُبْ أَجْرَهُ مِنْ الْخَلْقِ لَا مِنْ النَّبِيِّ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ ؛ بَلْ آمَنَ بِهِ وَأَحَبَّهُ وَكَلَأَهُ وَأَعَانَهُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ مُتَقَرِّبًا بِذَلِكَ إلَى اللَّهِ وَطَالِبًا الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ . وَرَسُولُهُ يُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } . وَاَللَّهُ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ . وَالْأَسْبَابُ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْعِبَادُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَبَاحَهُ فَهَذَا يَسْلُكُ وَأَمَّا مَا يُنْهَى عَنْهُ نَهْيًا خَالِصًا أَوْ كَانَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِهَا فَهَذَا لَا يَسْلُكُ . قَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } بَيَّنَ سُبْحَانَهُ ضَلَالَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الْمَخْلُوقَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ الْمُبَيَّنِ أَنَّ الْمَخْلُوقِينَ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ لَهُمْ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا عَوْنَ لَهُ وَلَا ظَهِيرَ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ يُشَبِّهُونَ الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ . كَمَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ : إذَا كَانَتْ

لَك حَاجَةٌ اسْتَوْصِي الشَّيْخَ فُلَانٍ فَإِنَّك تَجِدُهُ أَوْ تَوَجَّهْ إلَى ضَرِيحِهِ خُطُوَاتٍ وَنَادِهِ يَا شَيْخُ يَقْضِي حَاجَتَك وَهَذَا غَلَطٌ لَا يَحِلُّ فِعْلُهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ الدَّاعِينَ لِغَيْرِ اللَّهِ مَنْ يَرَى صُورَةَ الْمَدْعُوِّ أَحْيَانًا فَذَلِكَ شَيْطَانٌ تَمَثَّلَ لَهُ . كَمَا وَقَعَ مِثْلُ هَذَا لِعَدَدِ كَثِيرٍ . وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْجُهَّالِ مِنْ أَتْبَاعِ الشَّيْخِ عَدِيٍّ وَغَيْرِهِ كُلُّ رِزْقٍ لَا يَجِيءُ عَلَى يَدِ الشَّيْخِ لَا أُرِيدُهُ . وَالْعَجَبُ مِنْ ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ يَسْتَوْصِي مَنْ هُوَ مَيِّتٌ يَسْتَغِيثُ بِهِ وَلَا يَسْتَغِيثُ بِالْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَيَقْوَى الْوَهْمُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَوْلَا اسْتِغَاثَتُهُ بِالشَّيْخِ الْمَيِّتِ لَمَا قُضِيَتْ حَاجَتُهُ . فَهَذَا حَرَامٌ فِعْلُهُ .
وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ إذَا كَانَتْ لَك حَاجَةٌ إلَى مَلِكٍ تَوَسَّلْت إلَيْهِ بِأَعْوَانِهِ فَهَكَذَا يُتَوَسَّلُ إلَيْهِ بِالشُّيُوخِ . وَهَذَا كَلَامُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ فَإِنَّ الْمَلِكَ لَا يَعْلَمُ حَوَائِجَ رَعِيَّتِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا وَحْدَهُ وَلَا يُرِيدُ ذَلِكَ إلَّا لِغَرَضِ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِكُلِّ شَيْءٍ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . فَالْأَسْبَابُ مِنْهُ وَإِلَيْهِ وَمَا مِنْ سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ إلَّا دَائِرٌ مَوْقُوفٌ عَلَى أَسْبَابٍ أُخْرَى وَلَهُ مُعَارَضَاتٌ . فَالنَّارُ لَا تُحْرِقُ إلَّا إذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا فَلَا تُحْرِقُ السمندل وَإِذَا شَاءَ اللَّهُ مَنَعَ أَثَرَهَا كَمَا فُعِلَ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ .

وَأَمَّا مَشِيئَةُ الرَّبِّ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ وَلَا مَانِعَ لَهَا بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَرْحَمُ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا : يُحْسِنُ إلَيْهِمْ وَيَرْحَمُهُمْ وَيَكْشِفُ ضُرَّهُمْ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُمْ وَافْتِقَارِهِمْ إلَيْهِ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } . فَنَفَى الرَّبُّ هَذَا كُلَّهُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الشَّفَاعَةُ . فَقَالَ : { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } وَقَالَ : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } فَهُوَ الَّذِي يَأْذَنُ فِي الشَّفَاعَةِ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُهَا فَالْجَمِيعُ مِنْهُ وَحْدَهُ وَكُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَعْظَمَ إخْلَاصًا : كَانَتْ شَفَاعَةُ الرَّسُولِ أَقْرَبَ إلَيْهِ . { قَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ : مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِك يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ } " . وَأَمَّا الَّذِينَ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى فُلَانٍ لِيَشْفَعَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتَعَلَّقُونَ بِفُلَانِ فَهَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا شُفَعَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ } { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ } وَقَالَ : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ

إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } . قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : كَانَ قَوْمٌ يَدْعُونَ الْمَسِيحَ وَالْعُزَيْرَ وَالْمَلَائِكَةَ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ عِبَادُهُ كَمَا أَنَّ هَؤُلَاءِ عِبَادُهُ وَهَؤُلَاءِ يَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يَخَافُونَ عَذَابَ اللَّهِ . فَالْمُشْرِكُونَ اتَّخَذُوا مَعَ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ؛ وَاِتَّخَذُوا شُفَعَاءَ يَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فَفِيهِمْ مَحَبَّةٌ لَهُمْ وَإِشْرَاكٌ بِهِمْ وَفِيهِمْ مِنْ جِنْسِ مَا فِي النَّصَارَى مِنْ حُبِّ الْمَسِيحِ وَإِشْرَاكٌ بِهِ ؛ وَالْمُؤْمِنُونَ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ : فَلَا يَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا يَجْعَلُونَ مَعَهُ شَيْئًا يُحِبُّونَهُ كَمَحَبَّتِهِ لَا أَنْبِيَائِهِ وَلَا غَيْرِهِمْ ؛ بَلْ أَحَبُّوا مَا أَحَبَّهُ بِمَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ ؛ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ وَعَلِمُوا أَنَّ أَحَدًا لَا يَشْفَعُ لَهُمْ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ؛ فَأَحَبُّوا عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُبِّ اللَّهِ وَعَلِمُوا أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ الْمُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ فَأَطَاعُوهُ فِيمَا أَمَرَ وَصَدَّقُوهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَلَمْ يَرْجُوا إلَّا اللَّهَ ؛ وَلَمْ يَخَافُوا إلَّا اللَّهَ وَلَمْ يَسْأَلُوا إلَّا اللَّهَ وَشَفَاعَتُهُ لِمَنْ يَشْفَعُ لَهُ هُوَ بِإِذْنِ اللَّهِ فَلَا يَنْفَعُ رَجَاؤُنَا لِلشَّفِيعِ وَلَا مَخَافَتُنَا لَهُ وَإِنَّمَا يَنْفَعُ تَوْحِيدُنَا وَإِخْلَاصُنَا لِلَّهِ وَتَوَكُّلُنَا عَلَيْهِ فَهُوَ الَّذِي يَأْذَنُ لِلشَّفِيعِ فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَدِينِهِمْ وَمَحَبَّةِ النَّصَارَى

وَالْمُشْرِكِينَ وَدِينِهِمْ وَيَتَّبِعُ أَهْلَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ . وَيَخْرُجُ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الصُّلْبَانِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } . وَقَالَ تَعَالَى { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَدِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَالْقُرْآنُ يَدُورُ عَلَيْهِ .

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ جَمَاعَةٍ اجْتَمَعُوا عَلَى أُمُورٍ مُتَنَوِّعَةٍ فِي الْفَسَادِ ؛ وَتَعَلَّقَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِسَبَبِ ؛ وَاسْتَنَدَ إلَى قَوْلٍ قِيلَ . فَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُكِبٌّ عَلَى حُضُورِ السَّمَّاعَاتِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي تَعْمَلُ بِالدُّفُوفِ الَّتِي بِالْجَلَاجِلِ وَالشَّبَّابَاتِ الْمَعْرُوفَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ . وَيَحْضُرُهَا المردان والنسوان وَيَسْتَنِدُ فِي ذَلِكَ إلَى دَعْوَى جَوَازِ حُضُورِ السَّمَاعِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا السَّمَّاعَاتُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْغِنَاءِ وَالصَّفَّارَاتِ وَالدُّفُوفِ المصلصلات : فَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الدِّينِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ بَلْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى ذَلِكَ كَالْغِنَاءِ وَالتَّصْفِيقِ بِالْيَدِ وَالضَّرْبِ بِالْقَضِيبِ وَالرَّقْصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا هُوَ مُبَاحٌ وَفِيهِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ وَفِيهِ مَا هُوَ مَحْظُورٌ أَوْ مُبَاحٌ لِلنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ . فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مَشَايِخِ الدِّينِ

يَحْضُرُونَ مِثْلَ هَذَا السَّمَاعِ لَا بِالْحِجَازِ وَلَا مِصْرَ وَلَا الشَّامِ وَلَا الْعِرَاقِ وَلَا خُرَاسَانَ . لَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِيهِمْ . لَكِنْ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ : فَكَانَ طَائِفَةٌ يَجْتَمِعُونَ عَلَى ذَلِكَ وَيُسَمُّونَ الضَّرْبَ بِالْقَضِيبِ عَلَى جَلَاجِلَ وَنَحْوِهِ " التَّغْبِيرَ " .
قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْحَرَّانِي : سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : خَلَّفْت بِبَغْدَادَ شَيْئًا أَحْدَثَتْهُ الزَّنَادِقَةُ يُسَمُّونَهُ التَّغْبِيرَ يَصُدُّونَ بِهِ النَّاسَ عَنْ الْقُرْآنِ وَهَذَا مِنْ كَمَالِ مَعْرِفَةِ الشَّافِعِيِّ وَعِلْمِهِ بِالدِّينِ فَإِنَّ الْقَلْبَ إذَا تَعَوَّدَ سَمَاعَ الْقَصَائِدِ وَالْأَبْيَاتِ وَالْتَذَّ بِهَا حَصَلَ لَهُ نُفُورٌ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالْآيَاتِ فَيَسْتَغْنِي بِسَمَاعِ الشَّيْطَانِ عَنْ سَمَاعِ الرَّحْمَنِ . وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ } " وَقَدْ فَسَّرَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّهُ مِنْ الصَّوْتِ فَيُحْسِنُهُ بِصَوْتِهِ وَيَتَرَنَّمُ بِهِ بِدُونِ التَّلْحِينِ الْمَكْرُوهِ وَفَسَّرَهُ ابْنُ عُيَيْنَة وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّهُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ فَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ فَإِنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ } " وَفِي الْأَثَرِ : " إنَّ الْعَبْدَ إذَا رَكِبَ الدَّابَّةَ أَتَاهُ الشَّيْطَانُ وَقَالَ لَهُ : تَغَنَّ فَإِنْ لَمْ يَتَغَنَّ . قَالَ لَهُ : تَمَنَّ " فَإِنَّ

النَّفْسَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ شَيْءٍ فِي الْغَالِبِ تَتَرَنَّمُ بِهِ . فَمَنْ لَمْ يَتَرَنَّمْ بِالْقُرْآنِ تَرَنَّمَ بِالشِّعْرِ . وَسَمَاعُ الْقُرْآنِ هُوَ سَمَاعُ النَّبِيِّينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْعَارِفِينَ وَالْعَالِمِينَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } الْآيَةَ . وَقَالَ : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ } الْآيَتَيْنِ وَقَالَ : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } الْآيَةَ . وَقَالَ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } الْآيَةَ . وَهَذَا " السَّمَاعُ " هُوَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اجْتَمَعُوا أَمَرُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ وَالنَّاسُ يَسْتَمِعُونَ . { وَمَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي مُوسَى وَهُوَ يَقْرَأُ . فَجَعَلَ يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ . وَقَالَ : مَرَرْت بِك الْبَارِحَةَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ . فَجَعَلْت أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِك فَقَالَ : لَوْ عَلِمْت أَنَّك تَسْمَعُ لَحَبَّرْته لَك تَحْبِيرًا . } أَيْ : لَحَسَّنْته تَحْسِينًا " . وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِأَبِي مُوسَى : ذَكِّرْنَا رَبَّنَا فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ لِقِرَاءَتِهِ . { وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ مَسْعُودٍ : اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ . فَقَالَ : أَقْرَأُ عَلَيْك وَعَلَيْك أُنْزِلَ قَالَ :

إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي . فَقَرَأْت عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى إذَا بَلَغْت هَذِهِ الْآيَةَ : { فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } ؟ فَقَالَ : حَسْبُك فَنَظَرْت فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ بِالدَّمْعِ } فَهَذَا هُوَ السَّمَاعُ الَّذِي يَسْمَعُهُ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَقُرُونُهَا الْمُفَضَّلَةُ . وَخِيَارُ الشُّيُوخِ إنَّمَا يَقُولُونَ بِهَذَا السَّمَاعِ . وَأَمَّا الِاسْتِمَاعُ إلَى الْقَصَائِدِ الْمُلَحَّنَةِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَيْهَا . فَأَكَابِرُ الشُّيُوخِ لَمْ يَحْضُرُوا هَذَا السَّمَاعَ كالْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي وَالسَّرِيِّ السقطي وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ : كَالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَالشَّيْخِ عَدِيِّ بْنِ مُسَافِرٍ وَالشَّيْخِ أَبِي مَدْيَنَ وَالشَّيْخِ أَبِي الْبَيَانِ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ : فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَحْضُرُونَ هَذَا السَّمَاعَ وَقَدْ حَضَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الشُّيُوخِ وَأَكَابِرِهِمْ ثُمَّ تَابُوا مِنْهُ وَرَجَعُوا عَنْهُ . وَكَانَ الْجُنَيْد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَحْضُرُهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ . وَيَقُولُ : مَنْ تَكَلَّفَ السَّمَاعَ فُتِنَ بِهِ وَمَنْ صَادَفَهُ السَّمَاعَ اسْتَرَاحَ بِهِ أَيْ مَنْ قَصَدَ السَّمَاعَ صَارَ مَفْتُونًا وَأَمَّا مَنْ سَمِعَ بَيْتًا يُنَاسِبُ حَالَهُ بِلَا اقْتِصَادٍ فَهَذَا يَسْتَرِيحُ بِهِ . وَاَلَّذِينَ حَضَرُوا السَّمَاعَ الْمُحْدَثَ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ إحْدَاثِ الزَّنَادِقَةِ لَمْ يَكُونُوا يَجْتَمِعُونَ مَعَ مردان ونسوان وَلَا مَعَ مصلصلات وَشَبَّابَاتٍ وَكَانَتْ أَشْعَارُهُمْ مُزَهَّدَاتٍ مُرَقَّقَاتٍ .

فَأَمَّا " السَّمَاعُ " الْمُشْتَمِلُ عَلَى مُنْكَرَاتِ الدِّينِ فَمَنْ عَدَّهُ مِنْ الْقُرُبَاتِ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا جَاهِلًا بَيَّنَ لَهُ خَطَأَ تَأْوِيلِهِ وَبَيَّنَ لَهُ الْعِلْمَ الَّذِي يُزِيلُ الْجَهْلَ . هَذَا مِنْ كَوْنِهِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ . وَأَمَّا كَوْنُهُ مُحَرَّمًا عَلَى مَنْ يَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ لَا عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ فَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ فَأَمَّا الْمُشْتَمِلُ عَلَى الشَّبَّابَاتِ وَالدُّفُوفِ المصلصلة فَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ تَحْرِيمُهُ . وَذَكَرَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ خِلَافٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا حُكِيَ فِي الْيَرَاعِ الْمُجَرَّدِ مَعَ أَنَّ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لَمْ يَذْكُرُوا فِي ذَلِكَ نِزَاعًا وَلَا مُتَقَدِّمَةُ الْخُرَاسَانِيِّين وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مُتَأَخِّرُو الْخُرَاسَانِيِّين . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ لَهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُعَاقِبُهُمْ . فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَعَازِفِ . وَالْمَعَازِفُ هِيَ آلَاتُ اللَّهْوِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَهَذَا اسْمٌ يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْآلَاتِ كُلَّهَا . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : أَنَّ مَنْ أَتْلَفَهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا أَزَالَ التَّالِفَ

الْمُحَرَّمَ وَإِنْ أَتْلَفَ الْمَالِيَّةَ فَفِيهِ نِزَاعٌ وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ . وَمَالِكٌ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ أَيْضًا وَكَذَلِكَ إذَا أَتْلَفَ دِنَانَ الْخَمْرِ وَشَقَّ ظُرُوفَهُ وَأَتْلَفَ الْأَصْنَامَ الْمُتَّخَذَةَ مِنْ الذَّهَبِ كَمَا أَتْلَفَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْعِجْلَ الْمَصْنُوعَ مِنْ الذَّهَبِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ .

وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يُؤَاخِي الْنِسْوَانَ وَيُظْهِرُ شَيْئًا مِنْ جِنْسِ الشَّعْبَذَةِ ؛ كَنَقْشِ شَيْءٍ مِنْ الْقُطْنِ أَوْ الْخِرْقَةِ بِاللَّاذَنِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ أَوْ يُمْسِكُ النَّارَ مُبَاشَرَةً بِكَفِّهِ أَوْ بِأَصَابِعِهِ بِلَا حَائِلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا . إلَخْ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا مُؤَاخَاةُ النِّسَاءِ وَإِظْهَارُ الْإِشَارَاتِ الْمَذْكُورَةِ ؛ فَهِيَ مِنْ أَحْوَالِ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ وَأَصْحَابِ هَذِهِ الْإِشَارَاتِ لَيْسَ فِيهِمْ وَلِيٌّ لِلَّهِ بَلْ هُمْ بَيْنَ حَالٍ شَيْطَانِيٍّ وَمُحَالٍ بهتاني مِنْ حَالِ إبْلِيسَ وَمَحَالِّ تَلْبِيسٍ . وَهَؤُلَاءِ أَصْلُ حَالِهِمْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْزِلُ عَلَى مَنْ يَعْمَلُ مَا يُحِبُّهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْكَذِبِ وَالْفُجُورِ فَإِذَا خَرَجَ أَحَدُهُمْ عَنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَصَارَ مِنْ الْمُتَهَوِّكِينَ - الَّذِينَ يُطِيعُونَ الشَّيْطَانَ وَيَعْصُونَ الرَّحْمَنَ . وَلَهُ شَخِيرٌ وَنَخِيرٌ كَأَصْوَاتِ الْحَمِيرِ يَحْضُرُ أَحَدُهُمْ السَّمَاعَ وَيُؤَاخُونَ النسوان وَيَتَّخِذُونَ الْجِيرَانَ وَيَرْقُصُونَ كَالْقُرُودِ وَيَنْقُرُونَ فِي صَلَاتِهِمْ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ . يَبْغُضُونَ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَاتِّبَاعَ شَرِيعَةِ الرَّحْمَنِ - تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ الَّتِي تَنْزِلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ تَرْفَعُهُ

فِي الْهَوَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ تُدْخِلُهُ النَّارَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي وَمَعَهُ ضَوْءٌ يُرِيه أَنَّ ذَلِكَ كَرَامَاتٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِالشَّيْخِ وَيُخَاطِبُ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِالشَّيْخِ حَتَّى يَرَى أَنَّ ذَلِكَ كَرَامَةٌ لِلشَّيْخِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْضِرُ طَعَامًا وَفَاكِهَةً وَحَلْوَى إلَى أُمُورٍ أُخْرَى قَدْ عَرَفْنَاهَا وَعَرَفْنَا مَنْ وَقَعَتْ لَهُ هَذِهِ الْأُمُورُ وَأَضْعَافُهَا . فَإِذَا تَابَ الرَّجُلُ وَالْتَزَمَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَصَلَّى صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ وَتَابَ عَمَّا حَرَّمَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَاعْتَاضَ بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ عَنْ سَمَاعِ الشَّيْطَانِ ذَهَبَتْ تِلْكَ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ فَإِنْ قَوِيَ إيمَانُهُ حَصَلَتْ لَهُ مَقَامَاتُ الصَّالِحِينَ وَإِلَّا كَفَاهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَهَذَا بَيِّنٌ يَعْرِفُ الْمُسْلِمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ شَيْطَانِيَّةٌ لَا كَرَامَاتٌ إيمَانِيَّةٌ .

وَسُئِلَ :
عَنْ جَمَاعَةٍ اجْتَمَعُوا عَلَى أُمُورٍ مُتَنَوِّعَةٍ مِنْ الْفَسَادِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ غَايَةَ التَّحْقِيقِ وَكَمَالَ سُلُوكِ الطَّرِيقِ تَرْكَ التَّكْلِيفِ . بِحَيْثُ أَنَّهُ إذَا أُلْزِمَ بِالصَّلَاةِ يَقُومُ وَيَقُولُ : خَرَجْنَا مِنْ الْحَضْرَةِ وَوَقَفْنَا بِالْبَابِ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا مَنْ جَعَلَ كَمَالَ التَّحْقِيقِ الْخُرُوجَ مَنْ التَّكْلِيفِ . فَهَذَا مَذْهَبُ الْمَلَاحِدَةِ مَنْ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ مَنْ الْمَلَاحِدَةِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى عِلْمٍ أَوْ زُهْدٍ أَوْ تَصَوُّفٍ أَوْ تَزَهُّدٍ يَقُولُ : أَحَدُهُمْ إنَّ الْعَبْدَ يَعْمَلُ حَتَّى تَحْصُلَ لَهُ الْمَعْرِفَةُ فَإِذَا حَصَلَتْ زَالَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ وَمَنْ قَالَ : هَذَا فَإِنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ جَارٍ عَلَى كُلِّ بَالِغٍ عَاقِلٍ إلَى أَنْ يَمُوتَ قَالَ تَعَالَى : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } . قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِ غَايَةً دُونَ الْمَوْتِ ؛ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ . وَ " الْيَقِينُ " هُنَا مَا بَعْدَ الْمَوْتِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ } { حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي

الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ : أَمَّا عُثْمَانُ فَإِنَّهُ أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ } وَقَدْ سُئِلَ الْجُنَيْد بْنُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَمَّنْ يَقُولُ : إنَّهُ وَصَلَ مِنْ طَرِيقِ الْبِرِّ إلَى أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُ الْأَعْمَالُ . فَقَالَ : الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَلَقَدْ صَدَقَ الْجُنَيْد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ هَذِهِ كَبَائِرُ وَهَذَا كُفْرٌ وَنِفَاقٌ وَالْكَبَائِرُ خَيْرٌ مَنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ . وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ : خَرَجْنَا مِنْ الْحَضْرَةِ إلَى الْبَابِ كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ فَإِنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ حَضْرَةِ الشَّيْطَانِ إلَى بَابِ الرَّحْمَنِ كَمَا يُحْكَى عَنْ بَعْضِ شُيُوخِ هَؤُلَاءِ : أَنَّهُمْ كَانُوا فِي سَمَاعٍ فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ فَقَامَ إلَى الصَّلَاةِ . فَقَالَ : كُنَّا فِي الْحَضْرَةِ فَصِرْنَا إلَى الْبَابِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ كَانَ فِي حَضْرَةِ الشَّيْطَانِ فَصَارَ عَلَى بَابِ الرَّحْمَنِ أَمَّا كَوْنُهُ أَنَّهُ كَانَ فِي حَضْرَةِ اللَّهِ فَصَارَ عَلَى بَابِهِ ؛ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ عِنْدَ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بِأَنَّ الْعَبْدَ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ } " وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إلَّا مُؤْمِنٌ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ . عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ

سُئِلَ : أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الصَّلَاةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا } وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ } وَآخِرُ شَيْءٍ وَصَّى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ الصَّلَاةُ وَكَانَ يَقُولُ { جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ } " وَكَانَ يَقُولُ : { أَرِحْنَا يَا بِلَالُ بِالصَّلَاةِ } " وَلَمْ يَقُلْ أَرِحْنَا مِنْهَا فَمَنْ لَمْ يَجِدْ قُرَّةَ عَيْنِهِ وَرَاحَةَ قَلْبِهِ فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ مَنْقُوصُ الْإِيمَانِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَا يُنْكِرُهُ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ .

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّا أَحْدَثَهُ الْفُقَرَاءُ الْمُجَرَّدُونَ وَالْمُطَوَّعُونَ مِنْ صُحْبَةِ الشَّبَابِ وَمُؤَاخَاةِ النِّسْوَانِ والماجريات وَحَطِّ رُءُوسِهِمْ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَأَكْلِهِمْ مَالَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَمَنْ جَنَى يُشَالُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ وَيُضْرَبُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَوُقُوفِهِمْ مَكْشُوفِي الرُّءُوسِ مُنْحَنِينَ كَالرَّاكِعِينَ وَوَضْعِ النِّعَالِ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَلِبَاسِهِمْ الصُّوفَ وَالرُّقَعَ وَالسَّجَّادَةَ وَالسُّبْحَةَ وَأَكْلِ الْحَشِيشَةِ . وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرَدُ فَرَضُوا عَلَيْهِ أَنْ يَصْحَبَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَيَطْلُبُوا مِنْهُ الصُّحْبَةَ هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ أَوْ نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا صُحْبَةُ المردان عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَاصِ بِأَحَدِهِمْ - كَمَا يَفْعَلُونَهُ - مَعَ مَا يَنْضَمُّ إلَى ذَلِكَ مِنْ الْخَلْوَةِ بِالْأَمْرَدِ الْحَسَنِ وَمَبِيتِهِ مَعَ الرَّجُلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذَا مِنْ أَفْحَشِ الْمُنْكَرَاتِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَعِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَدِينِ سَائِرِ الْأُمَمِ بَعْدَ قَوْمِ لُوطٍ : تَحْرِيمُ الْفَاحِشَةِ اللُّوطِيَّةِ وَلِهَذَا بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهَا قَبْلَ قَوْمِ لُوطٍ أَحَدٌ مِنْ الْعَالَمِينَ وَقَدْ عَذَّبَ اللَّهُ

الْمُسْتَحِلِّينَ لَهَا بِعَذَابِ مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْأُمَمِ حَيْثُ طَمَسَ أَبْصَارَهُمْ وَقَلَّبَ مَدَائِنَهُمْ فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَتْبَعَهُمْ بِالْحِجَارَةِ مِنْ السَّمَاءِ . وَلِهَذَا جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِأَنَّ الْفَاحِشَةَ الَّتِي فِيهَا الْقَتْلُ : يُقْتَلُ صَاحِبُهَا بِالرَّجْمِ بِالْحِجَارَةِ . كَمَا رَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودِيَّيْنِ وَمَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ الأسلمي والغامدية وَغَيْرَهُمْ وَرَجَمَ بَعْدَهُ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ . وَالرَّجْمُ شَرَعَهُ اللَّهُ لِأَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ } " . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَتْلِهِمَا جَمِيعًا ؛ لَكِنْ تَنَوَّعُوا فِي صِفَةِ الْقَتْلِ : فَبَعْضُهُمْ قَالَ : يُرْجَمُ وَبَعْضُهُمْ قَالَ : يُرْمَى مِنْ أَعْلَى جِدَارٍ فِي الْقَرْيَةِ وَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ وَبَعْضُهُمْ قَالَ : يُحَرَّقُ بِالنَّارِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ أَنَّهُمَا يُرْجَمَانِ بِكْرَيْنِ كَانَا أَوْ ثَيِّبَيْنِ حُرَّيْنِ كَانَا أَوْ مَمْلُوكَيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا لِلْآخَرِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَحَلَّهَا بِمَمْلُوكِ أَوْ غَيْرِ مَمْلُوكٍ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ . وَكَذَلِكَ مُقَدِّمَاتُ الْفَاحِشَةِ عِنْدَ التَّلَذُّذِ بِقُبْلَةِ الْأَمْرَدِ وَلَمْسِهِ وَالنَّظَرِ إلَيْهِ هُوَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . كَمَا هُوَ كَذَلِكَ فِي الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْعَيْنَانِ

تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا السَّمْعُ وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْمَشْيُ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } . فَإِذَا كَانَ الْمُسْتَحِلُّ لِمَا حَرَّمَ اللَّهُ كَافِرًا فَكَيْفَ بِمَنْ يَجْعَلُهُ قُرْبَةً وَطَرِيقًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ غَيْرَ الْحُمْسِ مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً فَجَعَلَ اللَّهُ كَشْفَ عَوْرَاتِهِمْ فَاحِشَةً وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَلِهَذَا { لَمَّا حَجَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ نَادَى بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ يَحُجُّ الْمُسْلِمُ وَالْمُشْرِكُ - لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ } . فَكَيْفَ بِمَنْ يَسْتَحِلُّ إتْيَانَ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى ؟ أَوْ مَا دُونَهَا ؟ وَيَجْعَلُ ذَلِكَ عِبَادَةً وَطَرِيقًا . وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ ضُلَّالِ الْمُتَنَكِّسَةِ جَعَلُوا عِشْقَ الصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ مِنْ جُمْلَةِ الطَّرِيقِ الَّتِي تُزَكَّى بِهَا النُّفُوسُ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا الْيَهُودِ وَلَا النَّصَارَى . وَإِنَّمَا هُوَ دِينُ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ شَرَعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ .

وَإِنْ كَانَ أَتْبَاعُ هَؤُلَاءِ زَادُوا عَلَى مَا شَرَعَهُ سَادَاتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ زِيَادَاتٍ مِنْ الْفَوَاحِشِ الَّتِي لَا تَرْضَاهَا الْقُرُودُ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { أَنَّ أَبَا عِمْرَانَ رَأَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدًا زَنَى بِقِرْدَةِ فَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرُودُ فَرَجَمَتْهُ } . وَمِثْلُ ذَلِكَ قَدْ شَاهَدَهُ النَّاسُ فِي زَمَانِنَا فِي غَيْرِ الْقُرُودِ حَتَّى الطُّيُورِ . فَلَوْ كَانَتْ صُحْبَةُ " المردان " الْمَذْكُورَةُ خَالِيَةً عَنْ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ فَهِيَ مَظِنَّةٌ لِذَلِكَ وَسَبَبٌ لَهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمَشَايِخُ الْعَارِفُونَ بِطَرِيقِ اللَّهِ يُحَذِّرُونَ مِنْ ذَلِكَ . كَمَا قَالَ فَتْحِ الموصلي : أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ الْأَبْدَالِ كَلٌّ يَنْهَانِي عِنْدَ مُفَارَقَتِي إيَّاهُ عَنْ صُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ . وَقَالَ مَعْرُوفٌ الْكَرْخِي : كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ . وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ : مَا أَنَا عَلَى الشَّابِّ النَّاسِكِ مِنْ سَبْعٍ يَجْلِسُ إلَيْهِ بِأَخْوَفَ مِنِّي عَلَيْهِ مِنْ حَدَثٍ يَجْلِسُ إلَيْهِ . وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَبِشْرٌ الْحَافِي : إنَّ مَعَ الْمَرْأَةِ شَيْطَانًا وَمَعَ الْحَدَثِ شَيْطَانَيْنِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَا سَقَطَ عَبْدٌ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ إلَّا ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِصُحْبَةِ هَؤُلَاءِ الْأَحْدَاثِ . وَقَدْ دَخَلَ مِنْ فِتْنَةِ الصُّوَرِ وَالْأَصْوَاتِ عَلَى النُّسَّاكِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ حَتَّى اعْتَرَفَ أَكَابِرُ الشُّيُوخُ بِذَلِكَ . وَتَابَ مِنْهُمْ مَنْ تَدَارَكَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ اتِّبَاعِ الْهَوَى بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ . { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } وَمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ أَوْ

اتَّخَذَهُ دِينًا كَانَ ضَالًّا مُضَاهِيًا لِلْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى وَمَنْ فَعَلَهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ ذَنْبٌ أَوْ مَعْصِيَةٌ كَانَ عَاصِيًا أَوْ فَاسِقًا . وَكَذَلِكَ مُؤَاخَاةُ " الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ " بِحَيْثُ يَخْلُو بِهَا وَيَنْظُرُ مِنْهَا مَا لَيْسَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَنْظُرَهُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَاِتِّخَاذُ ذَلِكَ دِينًا وَطَرِيقًا كُفْرٌ وَضَلَالٌ . وَالْمَالُ الَّذِي يُؤْخَذُ لِأَجْلِ إقْرَارِهِمْ وَمَعُونَةً عَلَى مُحَادَثَةِ الرَّجُلِ الْأَمْرَدِ هِيَ مِنْ جِنْسِ جُعْلِ القوادة وَمُطَالَبَتِهِمْ لَهُ بِالصُّحْبَةِ مِنْ جِنْسِ الْعُرْسِ عَلَى الْبَغْيِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ النِّكَاحَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ فَالْمَرْأَةُ الْمُسَافِحَةُ تَزْنِي بِمَنْ اتَّفَقَ لَهَا وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ الْمُسَافِحُ : الَّذِي يَزْنِي مَعَ مَنْ اتَّفَقَ لَهُ . وَأَمَّا الْمُتَّخِذُ الْخِدْنَ فَهُوَ الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ صَدِيقَةٌ وَالْمَرْأَةُ يَكُونُ لَهَا صَدِيقٌ فَالْأَمْرَدُ الْمُخَادِنُ لِلْوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ الْمَرْأَةِ الْمُتَّخَذَةِ خِدْنًا . وَكَذَلِكَ الْجُعْلُ وَالْمَالُ الَّذِي يُؤْخَذُ عَلَى هَذَا مِنْ جِنْسِ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَجُعْلِ القوادة وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَمَّا " الماجريات " فَإِذَا اخْتَصَمَ رَجُلَانِ بِقَوْلِ أَوْ فِعْلٍ وَجَبَ أَنْ يُقَامَ فِي أَمْرِهِمَا بِالْقِسْطِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ } . وَقَالَ { كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ } وَقَالَ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ } الْآيَةَ .

وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّ اقْتِتَالَهُمَا كَانَ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } الْآيَةَ . وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } . وَقَالَ : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } . وَقَالَ : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } الْآيَةَ . فَإِنْ كَانَ الشَّخْصَانِ قَدْ اخْتَصَمَا نَظَرَ أَمْرَهُمَا فَإِنْ تَبَيَّنَ ظُلْمُ أَحَدِهِمَا كَانَ الْمَظْلُومُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الِاسْتِيفَاءِ وَالْعَفْوِ وَالْعَفْوُ أَفْضَلُ فَإِنْ كَانَ ظُلْمُهُ بِضَرْبِ أَوْ لَطْمٍ فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ أَوْ يَلْطِمَهُ كَمَا فَعَلَ بِهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَبِذَلِكَ جَاءَتْ السُّنَّةُ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ يُؤَدَّبُ وَلَا قِصَاصَ فِي ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَّهُ فَلَهُ أَنْ يَسُبَّهُ مِثْلَ مَا سَبَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عُدْوَانٌ عَلَى حَقٍّ مَحْضٍ لِلَّهِ أَوْ عَلَى غَيْرِ الظَّالِمِ . فَإِذَا لَعَنَهُ أَوْ سَمَّاهُ بِاسْمِ كَلْبٍ وَنَحْوِهِ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَإِذَا لَعَنَ أَبَاهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَلْعَنَ أَبَاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْلِمْهُ . وَإِنْ افْتَرَى عَلَيْهِ كَذِبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَيْهِ كَذِبًا ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ حَرَامٌ لِحَقِّ اللَّهِ . كَمَا قَالَ كَثِيرٌ

مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي الْقِصَاصِ فِي الْبَدَنِ : أَنَّهُ إذَا جَرَحَهُ أَوْ خَنَقَهُ أَوْ ضَرَبَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ يَفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ . فَهَذَا أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُحَرَّمًا لِحَقِّ اللَّهِ كَفِعْلِ الْفَاحِشَةِ أَوْ تَجْرِيعِهِ الْخَمْرَ فَقَدْ نَهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا أَكْثَرُهُمْ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ سَوَّغَهُ بِنَظِيرِ ذَلِكَ . وَإِذَا اعْتَرَفَ الظَّالِمُ بِظُلْمِهِ وَطَلَبَ مِنْ الْمَظْلُومِ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ وَيَسْتَغْفِرَ اللَّهَ لَهُ فَهَذَا حَسَنٌ مَشْرُوعٌ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ : { أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَلَامٌ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ طَلَبَ مِنْ عُمَرَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَأَبَى عُمَرُ ثُمَّ نَدِمَ . فَطَلَبَ أَبَا بَكْرٍ فَوَجَدَهُ قَدْ سَبَقَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَك يَا أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ؛ إنِّي قَدْ جِئْت إلَيْكُمْ فَقُلْت : إنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَقُلْتُمْ : كَذَبْت ؛ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : صَدَقْت فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي } ؟ " . وَإِذَا طَلَبَ مِنْ الْمَظْلُومِ الْعَفْوَ بَعْدَ اعْتِرَافِ الظَّالِمِ فَأَجَابَ : كَانَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ أَجْرُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَإِنْ أَبَى إلَّا طَلَبَ حَقِّهِ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا . لَكِنْ يَكُونُ قَدْ تَرَكَ الْأَفْضَلَ الْأَحْسَنَ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ كَمَا قَدْ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } { إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ

أَلِيمٌ } فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ تَرْكِ الْإِحْسَانِ الَّذِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِ يُحْسَبُ خَارِجًا عَنْ الطَّرِيقِ خَرَجَ عَنْهُ جُمْهُورُ أَهْلِهِ . وَ " أَوْلِيَاءُ اللَّهِ " عَلَى صِنْفَيْنِ : مُقَرَّبِينَ سَابِقِينَ وَأَصْحَابِ يَمِينٍ مُقْتَصِدِينَ . كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ . وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } " . ثُمَّ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَذُمُّونَ تَارِكَ الْعَفْوِ إنَّمَا يَذُمُّونَهُ لِأَهْوَائِهِمْ لِكَوْنِ الظَّالِمِ صَدِيقَ أَحَدِهِمْ أَوْ وَرِيثَهُ أَوْ قَرِينَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ عَلَى عِبَادِهِ الْعَدْلَ فِي الصُّلْحِ كَمَا أَوْجَبَهُ فِي الْحُكْمِ . فَقَالَ تَعَالَى : { فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } . وَقَيَّدَ الْإِصْلَاحَ الَّذِي يُثِيبُ عَلَيْهِ بِالْإِخْلَاصِ فَقَالَ

تَعَالَى : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } . إذْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقْصِدُونَ الْإِصْلَاحَ : إمَّا لِسُمْعَةِ وَإِمَّا لِرِيَاءِ . وَمِنْ الْعَدْلِ أَنْ يُمَكَّنَ الْمَظْلُومُ مِنْ الِانْتِصَافِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّفَاعَةُ إلَى الْمَظْلُومِ فِي الْعَفْوِ وَيُصَالِحُهُ الظَّالِمُ وَتَرْغِيبُهُ فِي ذَلِكَ . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ حُقُوقَ الْعِبَادِ الَّتِي فِيهَا وِزْرُ الظَّالِمِ نَدَبَ فِيهَا إلَى الْعَفْوِ . كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } . وَقَوْلُهُ : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } . وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : { مَا رُفِعَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ فِي الْقِصَاصِ إلَّا أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ } " وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ طَلَبِ الْعَفْوِ مِنْ الْمَظْلُومِ أَنَّ الظَّالِمَ يَقُومُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَلَا يَضَعُ نَعْلَيْهِ عَلَى رَأْسِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَلْتَزِمُهُ بَعْضُ النَّاسِ . وَإِنَّمَا شَرْطُهُ التَّمْكِينُ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى يُسْتَوْفَى مِنْهُ الْحَقُّ . فَإِذَا أَمْكَنَ الْمَظْلُومُ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَقَدْ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ . ثُمَّ الْمُسْتَحِقُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ عَفَا وَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى . وَلِلْمَظْلُومِ أَنْ يَهْجُرَهُ ثَلَاثًا وَأَمَّا بَعْدَ الثَّلَاثِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْجُرَهُ عَلَى ظُلْمِهِ إيَّاهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ

يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ } . وَأَمَّا إذَا كَانَ الذَّنْبُ لِحَقِّ اللَّهِ كَالْكَذِبِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ إضَاعَةِ الصَّلَاةِ بِالتَّفْرِيطِ وَوَاجِبَاتِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّوْبَةِ . وَهَلْ يُشْتَرَطُ مَعَ التَّوْبَةِ إظْهَارُ الْإِصْلَاحِ فِي الْعَمَلِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ . وَإِذَا كَانَ لَهُمْ شَيْخٌ مُطَاعٌ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعَزِّرَ الْعَاصِيَ بِحَسَبِ ذَنْبِهِ تَعْزِيرًا يَلِيقُ بِمِثْلِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ بِمِثْلِهِ مِثْلِ هَجْرِهِ مُدَّةً كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّلَاثَةَ الْمُخَلَّفِينَ . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ : يَسُوسُونَ النَّاسَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَفَرَّقَتْ الْأُمُورُ فَصَارَ أُمَرَاءُ الْحَرْبِ يَسُوسُونَ النَّاسَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ الظَّاهِرِ وَشُيُوخِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ يَسُوسُونَ النَّاسَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ . وَهَؤُلَاءِ أُولُو أَمْرٍ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ الَّتِي هُمْ أُولُو أَمْرِهَا . وَهُوَ كَذَلِكَ فَسَّرَ أُولُو الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } بِأُمَرَاءِ الْحَرْبِ : مِنْ الْمُلُوكِ وَنُوَّابِهِمْ وَبِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ دِينَهُمْ وَيَأْمُرُونَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَإِنَّ قِوَامَ الدِّينِ بِالْكِتَابِ وَالْحَدِيدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى :

{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } . وَإِذَا كَانَ وُلَاةُ الْحَرْبِ عَاجِزِينَ وَمُفَرِّطِينَ عَنْ تَقْوِيمِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الطَّرِيقِ كَانَ تَقْوِيمُهُمْ عَلَى رُؤَسَائِهِمْ وَكَانَ لَهُمْ مِنْ تَعْزِيرِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ مَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْهُ إذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُمْ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ . وَهُوَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } " . وَقَدْ يَكُونُ تَعْزِيرُهُ بِنَفْيِهِ عَنْ وَطَنِهِ مُدَّةً كَمَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَنْفِي مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ . وَكَمَا نُفِيَ نَصْرُ بْنُ حَجَّاجٍ إلَى الْبَصْرَةِ لِخَوْفِ فِتْنَةِ النِّسَاءِ بِهِ وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّفْيِ فِي الزِّنَا وَنَفْيِ الْمُخَنَّثِ وَأَمْرِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ لِلْمُسِيءِ بِالسَّفَرِ هَذَا أَصْلُهُ . وَهَذِهِ جُمْلَةٌ تَحْتَاجُ إلَى تَفْصِيلٍ طَوِيلٍ بِبَيَانِ الذُّنُوبِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهَا وَشُرُوطِ التَّوْبَةِ وَهُوَ حَالٌ مُسْتَصْحِبٌ لِلْعَبْدِ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِ إلَى آخِرِ عُمْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } الْآيَةَ . وَإِذَا تَابَ الْعَبْدُ وَأَخْرَجَ مِنْ مَالِهِ صَدَقَةً لِلتَّطَهُّرِ مِنْ ذَنْبِهِ : كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا مَشْرُوعًا . قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ

عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ . وَالْحَسَدُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ } " وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ } { وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ : إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْسِكْ عَلَيْك بَعْضَ مَالِك . فَهُوَ خَيْرٌ لَك } . لَكِنْ لَا يَجُوزُ إلْزَامُهُ بِصَدَقَةِ . وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ لَا بِإِخْرَاجِ ثِيَابِهِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ مُطَالَبَتَهُ بِالتَّوْبَةِ أَنْ يُؤْكَلَ مَالُهُ لَا سِيَّمَا إذَا أَعْنَتَ فَجُعِلَ لَهُ ذَنْبٌ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا يَبْقَى كَذِبًا وَظُلْمًا وَأَكْلًا لِلْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا يُخْرِجُهُ صَدَقَةً مَصْرُوفًا فِي طَعَامٍ يَأْكُلُونَهُ ؛ بَلْ الْخِيَرَةُ إلَيْهِ بِوَضْعِهِ حَيْثُ يَكُونُ أَصْلَحَ وَأَطْوَعَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ . وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ أَحَقُّ النَّاسِ بِتِلْكَ الصَّدَقَةِ فَتُدْفَعُ إلَيْهِ وَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَ مِنْ جُمْلَةِ التَّوْبَةِ صَنْعَةَ طَعَامٍ وَدَعْوَةً فَهَذَا بِدْعَةٌ . فَمَا زَالَ النَّاسُ يَتُوبُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ .

وَأَمَّا الشُّكْرُ الَّذِي فِيهِ إخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ : كَمَلْبُوسِ أَوْ غَيْرِهِ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ إمَّا مِنْ تَوْبَةٍ وَإِمَّا إصْلَاحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهُوَ حَسَنٌ مَشْرُوعٌ ؛ فَإِنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ لَمَّا جَاءَهُ الْمُبَشِّرُ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ : أَعْطَاهُ ثَوْبَهُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَاسْتَعَارَ ثَوْبًا ذَهَبَ فِيهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّ تَعْيِينَ اللِّبَاسِ وَغَيْرِهِ فِي الشُّكْرِ بِدْعَةٌ أَيْضًا . فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحْيَانًا فَهُوَ حَسَنٌ فَلَا يُجْعَلُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا إلَّا مَا جَعَلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا وَلَا يُنْكَرُ إلَّا مَا كَرِهَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . فَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَ اللَّهُ وَلَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ . وَضَرْبُ الرَّجُلِ تَحْتَ رِجْلَيْهِ هُوَ مِنْ التَّعْزِيرِ ؛ فَإِنْ كَانَ لَهُ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ دِينِ اللَّهِ وَالْمُؤَدِّبُ لَهُ مِمَّنْ لَهُ أَهْلِيَّةٌ ذَلِكَ فَهُوَ حَقٌّ . وَأَمَّا كَشْفُ الرُّءُوسِ وَالِانْحِنَاءُ فَلَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ . إنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ عَادَاتِ بَعْضِ الْمُلُوكِ وَالْجَاهِلِيَّةِ وَالْمَخْلُوقُ لَا يَسْأَلُ كَشْفَ رَأْسٍ وَلَا رُكُوعَ لَهُ . وَإِنَّمَا يَرْكَعُ لِلَّهِ فِي الصَّلَاةِ وَكَشْفُ الرُّءُوسِ لِلَّهِ فِي الْإِحْرَامِ . وَأَمَّا " لِبَاسُ الصُّوفِ " فَقَدْ لَبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُبَّةَ الصُّوفِ فِي السَّفَرِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الأوزاعي : لِبَاسُ الصُّوفِ فِي السَّفَرِ سُنَّةٌ وَفِي الْحَضَرِ بِدْعَةٌ .

وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ فِي الْحَضَرِ بِدْعَةٌ كَمَا رَوَيْنَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين : أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَقْوَامًا يَتَحَرَّوْنَ لِبَاسَ الصُّوفِ . قَالَ : أَظُنُّ هَؤُلَاءِ بَلَغَهُمْ أَنَّ الْمَسِيحَ كَانَ يَلْبَسُ الصُّوفَ فَلَبِسُوهُ لِذَلِكَ وَهَدْيُ نَبِيِّنَا أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ هَدْيِ غَيْرِهِ . وَفِي السُّنَنِ { أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَشْهَدُونَ الْجُمْعَةَ وَلِبَاسُهُمْ الصُّوفُ } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ " { قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ } " وَالنِّمَارُ مِنْ الصُّوفِ . وَقَدْ لَبِسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُطْنَ وَغَيْرَهُ . وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ اتِّخَاذَ لُبْسِ الصُّوفِ عِبَادَةً وَطَرِيقًا إلَى اللَّهِ بِدْعَةٌ . وَأَمَّا لُبْسُهُ لِلْحَاجَةِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ لِلْفَقِيرِ لِعَدَمِ غَيْرِهِ أَوْ لِعَدَمِ لُبْسِ غَيْرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ حَسَنٌ مَشْرُوعٌ . وَالِامْتِنَاعُ مِنْ لُبْسِهِ مُطْلَقًا مَذْمُومٌ لَا سِيَّمَا مَنْ يَدَّعِي لُبْسَهُ كِبْرًا وَخُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ جَرَّ إزَارَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ : { بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إزَارَهُ خُيَلَاءَ إذْ خُسِفَتْ بِهِ الْأَرْضُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } " وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الشهرتين مِنْ الثِّيَابِ : الْمُرْتَفِعَ وَالْمُنْخَفِضَ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ الدِّينِ وَمِنْ طَرِيقِ اللَّهِ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ التَّقْيِيدُ فِيهِ فَسَادُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا . فَإِنَّ

لُبْسَ الصُّوفِ وَتَرْقِيعَ الثَّوْبِ عِنْدَ الْحَاجَةِ حَسَنٌ مِنْ أَفْعَالِ السَّلَفِ . وَالِامْتِنَاعُ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا مَذْمُومٌ . فَأَمَّا مَنْ عَمَدَ إلَى ثَوْبٍ صَحِيحٍ فَمَزَّقَهُ ثُمَّ يُرَقِّعُهُ بِفَضَلَاتِ وَيَلْبَسُ الصُّوفَ الرَّفِيعَ الَّذِي هُوَ أَعْلَى مِنْ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ . فَهَذَا جَمْعُ فَسَادَيْنِ : أَمَّا مِنْ جِهَةِ الدِّينِ فَإِنَّهُ يَظُنُّ التَّقْيِيدَ بِلُبْسِ الْمُرَقَّعِ وَالصُّوفِ مِنْ الدِّينِ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُظْهِرَ صُورَةَ ذَلِكَ دُونَ حَقِيقَتِهِ فَيَكُونُ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى ذَلِكَ أَعْظَمَ مِمَّا يُنْفَقُ عَلَى الْقُطْنِ الصَّحِيحِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلزُّهْدِ . وَفَسَادُ الْمَالِ بِإِتْلَافِهِ وَإِنْفَاقِهِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ لَا فِي الدِّينِ وَلَا فِي الدُّنْيَا .

مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْأَعْلَامُ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ فِي صِفَةِ " سَمَاعِ الصَّالِحِينَ " مَا هُوَ ؟ وَهَلْ سَمَاعُ الْقَصَائِدِ الْمُلَحَّنَةِ بِالْآلَاتِ الْمُطْرِبَةِ هُوَ مِنْ الْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ . أَمْ لَا ؟ وَهَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . أَصْلُ هَذِهِ " الْمَسْأَلَةِ " أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ السَّمَاعِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الدِّينِ وَبَيْنَ مَا يُرَخَّصُ فِيهِ رَفْعًا لِلْحَرَجِ بَيْنَ سَمَاعِ الْمُتَقَرِّبِينَ وَبَيْنَ سَمَاعِ الْمُتَلَعِّبِينَ . فَأَمَّا السَّمَاعُ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ وَكَانَ سَلَفُ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ لِصَلَاحِ قُلُوبِهِمْ وَزَكَاةِ

نُفُوسِهِمْ - فَهُوَ سَمَاعُ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ سَمَاعُ النَّبِيِّينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فِي قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } وَقَالَ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا } { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } . وَبِهَذَا السَّمَاعِ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وَعَلَى أَهْلِهِ أَثْنَى كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَبَشِّرْ عِبَادِ } { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } . وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ } فَالْقَوْلُ الَّذِي أُمِرُوا بِتَدَبُّرِهِ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي أُمِرُوا بِاسْتِمَاعِهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ

أَقْفَالُهَا } . وَقَالَ تَعَالَى : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ } . وَكَمَا أَثْنَى عَلَى هَذَا السَّمَاعِ ذَمَّ الْمُعْرِضِينَ عَنْ هَذَا السَّمَاعِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ } { فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا } { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } . وَهَذَا هُوَ السَّمَاعُ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَعَلَى هَذَا السَّمَاعِ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَمِعُونَ وَكَانُوا إذَا اجْتَمَعُوا أَمَرُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ أَنْ يَقْرَأَ وَالْبَاقُونَ يَسْتَمِعُونَ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لِأَبِي مُوسَى :

يَا أَبَا مُوسَى ؛ ذَكِّرْنَا رَبَّنَا فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ . وَهَذَا هُوَ السَّمَاعُ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْهَدُهُ مَعَ أَصْحَابِهِ وَيَسْتَدْعِيه مِنْهُمْ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ قُلْت : أَقْرَؤُهُ عَلَيْك وَعَلَيْك أُنْزِلَ فَقَالَ : إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي فَقَرَأْت عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى وَصَلْت إلَى هَذِهِ الْآيَةِ . { فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } قَالَ : حَسْبُك فَنَظَرْت فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ } وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } وَ " الْحِكْمَةُ " هِيَ السُّنَّةُ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } { وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ } وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الرُّسُلِ قَالَ تَعَالَى : { يَا بَنِي آدَمَ إمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . وَبِذَلِكَ يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ

وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } . وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْمُعْتَصِمَ بِهَذَا السَّمَاعِ مُهْتَدٍ مُفْلِحٌ وَالْمُعْرِضُ عَنْهُ ضَالٌّ شَقِيٌّ . قَالَ تَعَالَى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا } { قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } . وَ " ذِكْرُ اللَّهِ " يُرَادُ بِهِ تَارَةً : ذِكْرُ الْعَبْدِ رَبَّهُ وَيُرَادُ بِهِ الذِّكْرُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ } . وَقَالَ نُوحٌ : { أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ } وَقَالَ : { وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لَمَجْنُونٌ } . وَقَالَ : { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إلَّا اسْتَمَعُوهُ } . وَقَالَ : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ } . وَقَالَ : { إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } { لِمَنْ شَاءَ

مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } وَقَالَ : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ } . وَهَذَا " السَّمَاعُ " لَهُ آثَارٌ إيمَانِيَّةٌ مِنْ الْمَعَارِفِ الْقُدْسِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الزَّكِيَّةِ يَطُولُ شَرْحُهَا وَوَصْفُهَا وَلَهُ فِي الْجَسَدِ آثَارٌ مَحْمُودَةٌ مِنْ خُشُوعِ الْقَلْبِ وَدُمُوعِ الْعَيْنِ وَاقْشِعْرَارِ الْجِلْدِ وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ . وَهَذِهِ الصِّفَاتُ مَوْجُودَةٌ فِي الصَّحَابَةِ وَوُجِدَتْ بَعْدَهُمْ آثَارٌ ثَلَاثَةٌ : الِاضْطِرَابُ وَالصُّرَاخُ وَالْإِغْمَاءُ وَالْمَوْتُ فِي التَّابِعِينَ . وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَهَذَا السَّمَاعُ هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ لِيُبَلِّغَهُمْ رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ فَمَنْ سَمِعَ مَا بَلَّغَهُ الرَّسُولُ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ اهْتَدَى وَأَفْلَحَ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ ضَلَّ وَشَقِيَ .
وَأَمَّا " سَمَاعُ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ " وَهُوَ التَّصْفِيقُ بِالْأَيْدِي وَالْمُكَّاءِ مِثْلُ الصَّفِيرِ وَنَحْوِهِ فَهَذَا هُوَ سَمَاعُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً } فَأَخْبَرَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ التَّصْفِيقَ بِالْيَدِ وَالتَّصْوِيتَ بِالْفَمِ قُرْبَةً وَدِينًا . وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ يَجْتَمِعُونَ عَلَى مِثْلِ هَذَا السَّمَاعِ وَلَا حَضَرُوهُ قَطُّ وَمَنْ قَالَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَضَرَ ذَلِكَ فَقَدْ كَذَبَ

عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِحَدِيثِهِ وَسُنَّتِهِ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ المقدسي فِي " مَسْأَلَةِ السَّمَاعِ " وَ " فِي صِفَةِ التَّصَوُّفِ " وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ السهروردي صَاحِبُ عَوَارِفِ الْمَعَارِفِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْشَدَهُ أَعْرَابِيٌّ :
قَدْ لَسَعَتْ حَيَّةُ الْهَوَى كَبِدِي * * * فَلَا طَبِيبَ لَهَا وَلَا رَاقِي
إلَّا الْحَبِيبُ الَّذِي شُغِفْت بِهِ * * * فَعِنْدَهُ رُقْيَتِي وَتِرْيَاقِي
وَأَنَّهُ تَوَاجَدَ حَتَّى سَقَطَتْ الْبُرْدَةُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ : مَا أَحْسَنَ لَهْوُكُمْ فَقَالَ لَهُ : مَهْلًا يَا مُعَاوِيَةُ لَيْسَ بِكَرِيمِ مَنْ لَمْ يَتَوَاجَدْ عِنْدَ ذِكْرِ الْحَبِيبِ } " فَهُوَ حَدِيثٌ مَكْذُوبٌ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَذَا الشَّأْنِ . وَأَظْهَرُ مِنْهُ كَذِبًا حَدِيثٌ آخَرُ يَذْكُرُونَ فِيهِ : { أَنَّهُ لَمَّا بَشَّرَ الْفُقَرَاءُ بِسَبْقِهِمْ الْأَغْنِيَاءَ إلَى الْجَنَّةِ تَوَاجَدُوا وَخَرَقُوا ثِيَابَهُمْ وَأَنَّ جبرائيل نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ إنَّ رَبَّك يَطْلُبُ نَصِيبَهُ مِنْ هَذِهِ الْخِرَقِ فَأَخَذَ مِنْهَا خِرْقَةً فَعَلَّقَهَا بِالْعَرْشِ وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ زِيقُ الْفُقَرَاءِ } وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ إنَّمَا يَرْوِيه مَنْ هُوَ مِنْ أَجْهَلْ النَّاسِ بِحَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَمَعْرِفَةِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ .

وَهُوَ يُشْبِهُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى : " أَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ قَاتَلُوا مَعَ الْكُفَّارِ لَمَّا انْكَسَرَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ حنين أَوْ غَيْرَ يَوْمِ حنين وَأَنَّهُمْ قَالُوا نَحْنُ مَعَ اللَّهِ مَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ كُنَّا مَعَهُ " وَمَنْ رَوَى : { أَنَّ صَبِيحَةَ الْمِعْرَاجَ وَجَدَ أَهْلُ الصُّفَّةِ يَتَحَدَّثُونَ بِسِرِّ كَانَ اللَّهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَكْتُمَهُ فَقَالَ لَهُمْ : مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا ؟ قَالُوا : اللَّهُ عَلَّمَنَا إيَّاهُ فَقَالَ : يَا رَبِّ أَلَمْ تَأْمُرْنِي أَلَّا أُفْشِيَهُ ؟ فَقَالَ : أَمَرْتُك أَنْتَ أَلَّا تُفْشِيَهُ وَلَكِنِّي أَنَا أَخْبَرْتهمْ بِهِ } وَنَحْوُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَرْوِيهَا طَوَائِفُ مُنْتَسِبُونَ إلَى الدِّينِ مَعَ فَرْطِ جَهْلِهِمْ بِدِينِ الْإِسْلَامِ فَيَبْنُونَ عَلَيْهَا مِنْ النِّفَاقِ وَالْبِدَعِ مَا يُنَاسِبُهَا . تَارَةً يُسْقِطُونَ التَّوَسُّطَ بِالرَّسُولِ وَأَنَّهُمْ يَصِلُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الرُّسُلِ مُطْلَقًا . فَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ أَسْقَطُوا وَسَاطَةَ رَسُولٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُسْقِطُوا وَسَاطَةَ الرُّسُلِ مُطْلَقًا . وَهَؤُلَاءِ إذَا أَسْقَطُوا وَسَاطَةَ الرُّسُلِ مُطْلَقًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ كَانَ هَذَا أَغْلَظَ مِنْ كُفْرِ أُولَئِكَ ؛ لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ : لَا تَسْقُطُ الْوَسَاطَةُ إلَّا عَنْ الْخَاصَّةِ لَا عَنْ الْعَامَّةِ فَيَكُونُونَ أَكْفَرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ جِهَةِ إسْقَاطِ السِّفَارَةِ مُطْلَقًا عَنْهُمْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ أَكْفَرُ مِنْ جِهَةِ إسْقَاطِ سِفَارَةِ مُحَمَّدٍ مُطْلَقًا بَلْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ رَسُولٌ إلَى الْأُمِّيِّينَ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ أُولَئِكَ أَخْرَجُوا عَنْ رِسَالَتِهِ مَنْ لَهُ كِتَابٌ وَهَؤُلَاءِ يَخْرُجُونَ عَنْ رِسَالَتِهِ مَنْ لَا يَبْقَى مَعَهُ إلَّا خَيَالَاتٌ

وَوَسَاوِسُ وَظُنُونٌ أَلْقَاهَا إلَيْهِ الشَّيْطَانُ مَعَ ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ أَشَدِّ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَتَارَةً يَجْعَلُوا هَذِهِ الْآثَارَ الْمُخْتَلَقَةَ حُجَّةً فِيمَا يَفْتَرُونَهُ مِنْ أُمُورٍ تُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ وَيَدَّعُونَ أَنَّهَا مِنْ أَسْرَارِ الْخَوَاصِّ كَمَا يَفْعَلُ الْمَلَاحِدَةُ وَالْقَرَامِطَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ وَتَارَةً يَجْعَلُونَهَا حُجَّةً فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ إلَى مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ اتِّخَاذِ دِينِهِمْ لَهْوًا وَلَعِبًا . وَبِالْجُمْلَةِ قَدْ عُرِفَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْرَعْ لِصَالِحِي أُمَّتِهِ وَعُبَّادِهِمْ وَزُهَّادِهِمْ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى اسْتِمَاعِ الْأَبْيَاتِ الْمُلَحَّنَةِ مَعَ ضَرْبٍ بِالْكَفِّ أَوْ ضَرْبٍ بِالْقَضِيبِ أَوْ الدُّفِّ . كَمَا لَمْ يُبَحْ لِأَحَدِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ وَاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ لَا فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ وَلَا فِي ظَاهِرِهِ وَلَا لِعَامِّيِّ وَلَا لِخَاصِّيِّ وَلَكِنْ رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْوَاعٍ مِنْ اللَّهْوِ فِي الْعُرْسِ وَنَحْوِهِ كَمَا رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ أَنْ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ فِي الْأَعْرَاسِ وَالْأَفْرَاحِ . وَأَمَّا الرِّجَالُ عَلَى عَهْدِهِ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَضْرِبُ بِدُفِّ وَلَا يُصَفِّقُ بِكَفِّ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ وَالتَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ } { . وَلَعَنَ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ . والمتشبهين مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ } " . وَلَمَّا كَانَ الْغِنَاءُ وَالضَّرْبُ بِالدُّفِّ وَالْكَفِّ مِنْ عَمَلِ النِّسَاءِ كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ الرِّجَالِ مُخَنَّثًا وَيُسَمُّونَ الرِّجَالَ

الْمُغَنِّينَ مَخَانِيث وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي كَلَامِهِمْ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا أَبُوهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَيَّامِ الْعِيدِ وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبِمِزْمَارِ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْرِضًا بِوَجْهِهِ عَنْهُمَا مُقْبِلًا بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ إلَى الْحَائِطِ . فَقَالَ : دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ } فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ : أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا سَمَّاهُ الصِّدِّيقُ مِزْمَارَ الشَّيْطَانِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ الْجَوَارِيَ عَلَيْهِ مُعَلِّلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ وَالصِّغَارُ يُرَخَّصُ لَهُمْ فِي اللَّعِبِ فِي الْأَعْيَادِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { لِيَعْلَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً } " وَكَانَ لِعَائِشَةَ لُعَبٌ تَلْعَبُ بِهِنَّ وَيَجِئْنَ صَوَاحِبَاتُهَا مِنْ صِغَارِ النِّسْوَةِ يَلْعَبْنَ مَعَهَا وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الْجَارِيَتَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَمَعَ إلَى ذَلِكَ . وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِمَاعِ ؛ لَا بِمُجَرَّدِ السَّمَاعِ . كَمَا فِي الرُّؤْيَةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِقَصْدِ الرُّؤْيَةِ لَا بِمَا يَحْصُلُ مِنْهَا بِغَيْرِ الِاخْتِيَارِ . وَكَذَلِكَ فِي اشْتِمَامِ الطَّيِّبِ إنَّمَا يُنْهَى الْمُحْرِمُ عَنْ قَصْدِ الشَّمِّ فَأَمَّا إذَا شَمَّ مَا لَمْ يَقْصِدْهُ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ فِي مُبَاشَرَةِ الْمُحَرَّمَاتِ كَالْحَوَاسِّ

الْخَمْسِ : مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَاللَّمْسِ . إنَّمَا يَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا لِلْعَبْدِ فِيهِ قَصْدٌ وَعَمَلٌ وَأَمَّا مَا يَحْصُلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَا أَمْرَ فِيهِ وَلَا نَهْيَ . وَهَذَا مِمَّا وُجِّهَ بِهِ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ { ابْنَ عُمَر أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعَ صَوْتَ زَمَّارَةِ رَاعٍ فَعَدَلَ عَنْ الطَّرِيقِ وَقَالَ : هَلْ تَسْمَعُ ؟ هَلْ تَسْمَعُ ؟ حَتَّى انْقَطَعَ الصَّوْتُ } فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : بِتَقْدِيرِ صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَأْمُرْ ابْنُ عُمَرَ بِسَدِّ أُذُنَيْهِ فَيُجَابُ بِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا أَوْ يُجَابُ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْتَمِعُ وَإِنَّمَا كَانَ يَسْمَعُ . وَهَذَا لَا إثْمَ فِيهِ . وَإِنَّمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ طَلَبًا لِلْأَفْضَلِ وَالْأَكْمَلِ كَمَنْ اجْتَازَ بِطَرِيقٍ فَسَمِعَ قَوْمًا يَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامٍ مُحَرَّمٍ فَسَدَّ أُذُنَيْهِ كَيْلَا يَسْمَعَهُ فَهَذَا حَسَنٌ وَلَوْ لَمْ يَسُدَّ أُذُنَيْهِ لَمْ يَأْثَمْ بِذَلِكَ . اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي سَمَاعِهِ ضَرَرٌ دِينِيٌّ لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِالسَّدِّ . و " بِالْجُمْلَةِ " فَهَذِهِ ( مَسْأَلَةُ السَّمَاعِ تَكَلَّمَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي السَّمَاعِ : هَلْ هُوَ مَحْظُورٌ ؟ أَوْ مَكْرُوهٌ ؟ أَوْ مُبَاحٌ ؟ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ مُجَرَّدَ رَفْعِ الْحَرَجِ بَلْ مَقْصُودُهُمْ بِذَلِكَ أَنْ يَتَّخِذَ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ الدِّيَانَاتِ لِصَلَاحِ الْقُلُوبِ وَالتَّشْوِيقِ إلَى الْمَحْبُوبِ

وَالتَّخْوِيفِ مِنْ الْمَرْهُوبِ وَالتَّحْزِينِ عَلَى فَوَاتِ الْمَطْلُوبِ فَتُسْتَنْزَلُ بِهِ الرَّحْمَةُ وَتُسْتَجْلَبُ بِهِ النِّعْمَةُ وَتُحَرَّكُ بِهِ مَوَاجِيدُ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَتُسْتَجْلَى بِهِ مَشَاهِدُ أَهْلِ الْعِرْفَانِ حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ أَفْضَلُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَوْ لِلْخَاصَّةِ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ ؛ حَتَّى يَجْعَلُونَهُ قُوتًا لِلْقُلُوبِ وَغِذَاءً لِلْأَرْوَاحِ وَحَادِيًا لِلنُّفُوسِ يَحْدُوهَا إلَى السَّيْرِ إلَى اللَّهِ وَيَحُثُّهَا عَلَى الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ . وَلِهَذَا يُوجَدُ مَنْ اعْتَادَهُ وَاغْتَذَى بِهِ لَا يَحِنُّ إلَى الْقُرْآنِ وَلَا يَفْرَحُ بِهِ وَلَا يَجِدُ فِي سَمَاعِ الْآيَاتِ كَمَا يَجِدُ فِي سَمَاعِ الْأَبْيَاتِ ؛ بَلْ إذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ سَمِعُوهُ بِقُلُوبٍ لَاهِيَةٍ وَأَلْسُنٍ لَاغِيَةٍ وَإِذَا سَمِعُوا سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ خَشَعَتْ الْأَصْوَاتُ وَسَكَنَتْ الْحَرَكَاتُ وَأَصْغَتْ الْقُلُوبُ وَتَعَاطَتْ الْمَشْرُوبَ . فَمَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذَا : هَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ أَوْ مُبَاحٌ ؟ وَشِبْهِهِ بِمَا كَانَ النِّسَاءُ يُغَنِّينَ بِهِ فِي الْأَعْيَادِ وَالْأَفْرَاحِ لَمْ يَكُنْ قَدْ اهْتَدَى إلَى الْفَرْقِ بَيْن طَرِيقِ أَهْلِ الْخَسَارَةِ وَالْفَلَاحِ وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذَا : هَلْ هُوَ مِنْ الدِّينِ ؟ وَمِنْ سَمَاعِ الْمُتَّقِينَ ؟ وَمِنْ أَحْوَالِ الْمُقَرَّبِينَ ؟ وَالْمُقْتَصِدِينَ ؟ وَمِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْيَقِينِ ؟ وَمِنْ طَرِيقِ الْمُحِبِّينَ الْمَحْبُوبِينَ ؟ وَمِنْ أَفْعَالِ السَّالِكِينَ إلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ؟ كَانَ كَلَامُهُ فِيهِ مِنْ وَرَاءِ وَرَاءٍ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ : هَلْ هُوَ مَحْمُودٌ ؟ أَوْ مَذْمُومٌ ؟ فَأَخَذَ

يَتَكَلَّمُ فِي جِنْسِ الْكَلَامِ وَانْقِسَامِهِ : إلَى الِاسْمِ . وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ أَوْ يَتَكَلَّمُ فِي مَدْحِ الصَّمْتِ أَوْ فِي أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ الْكَلَامَ وَالنُّطْقَ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَمَسُّ الْمَحَلَّ الْمُشْتَبَهَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ . فَإِذَا عُرِفَ هَذَا : فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عُنْفُوَانِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمُفَضَّلَةِ لَا بِالْحِجَازِ وَلَا بِالشَّامِ وَلَا بِالْيَمَنِ وَلَا مِصْرَ وَلَا الْمَغْرِبِ وَلَا الْعِرَاقِ وَلَا خُرَاسَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ مَنْ يَجْتَمِعُ عَلَى مِثْلِ سَمَاعِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ لَا بِدُفِّ وَلَا بِكَفِّ وَلَا بِقَضِيبِ وَإِنَّمَا أُحْدِثَ هَذَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرَ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ فَلَمَّا رَآهُ الْأَئِمَّةُ أَنْكَرُوهُ .
فَقَالَ : الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَلَّفَتْ بِبَغْدَادَ شَيْئًا أَحْدَثَتْهُ الزَّنَادِقَةُ يُسَمُّونَهُ " التَّغْبِيرَ " يَصُدُّونَ بِهِ النَّاسَ عَنْ الْقُرْآنِ . وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ : مَا يُغَبِّرُ إلَّا الْفَاسِقُ وَمَتَى كَانَ التَّغْبِيرُ . وَسُئِلَ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَقَالَ : أَكْرَهُهُ هُوَ مُحْدَثٌ . قِيلَ : أَنَجْلِسُ مَعَهُمْ ؟ قَالَ : لَا وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَئِمَّةِ الدِّينِ كَرِهُوهُ وَأَكَابِرُ الشُّيُوخِ الصَّالِحِينَ لَمْ يَحْضُرُوهُ فَلَمْ يَحْضُرْهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ وَلَا الْفَضِيلُ بْنُ عِيَاضٍ وَلَا مَعْرُوفٌ الْكَرْخِي وَلَا أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني وَلَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحِوَارِيِّ وَالسَّرِيُّ السقطي وَأَمْثَالُهُمْ . وَاَلَّذِينَ حَضَرُوهُ مِنْ

الشُّيُوخِ الْمَحْمُودِينَ تَرَكُوهُ فِي آخِرِ أَمْرِهِمْ . وَأَعْيَانُ الْمَشَايِخِ عَابُوا أَهْلَهُ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ عَبْدُ الْقَادِرِ وَالشَّيْخُ أَبُو الْبَيَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمَشَايِخِ . وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَنَّهُ مِنْ إحْدَاثِ الزَّنَادِقَةِ كَلَامُ إمَامٍ خَبِيرٍ بِأُصُولِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ هَذَا السَّمَاعَ لَمْ يَرْغَبْ فِيهِ وَيَدْعُو إلَيْهِ فِي الْأَصْلِ إلَّا مَنْ هُوَ مُتَّهَمٌ بِالزَّنْدَقَةِ : كَابْنِ الراوندي وَالْفَارَابِيِّ وَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِمْ : كَمَا ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي - فِي مَسْأَلَةِ السَّمَاعِ - عَنْ ابْنِ الراوندي . قَالَ : إنَّهُ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي السَّمَاعِ : فَأَبَاحَهُ قَوْمٌ وَكَرِهَهُ قَوْمٌ . وَأَنَا أُوجِبُهُ - أَوْ قَالَ - وَأَنَا آمُرُ بِهِ . فَخَالَفَ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَمْرِ بِهِ . و " الْفَارَابِيُّ " كَانَ بَارِعًا فِي الْغِنَاءِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ " الْمُوسِيقَا " وَلَهُ فِيهِ طَرِيقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ صِنَاعَةِ الْغِنَاءِ وَحِكَايَتِهِ مَعَ ابْنِ حَمْدَانَ مَشْهُورَةٌ . لَمَّا ضَرَبَ فَأَبْكَاهُمْ ثُمَّ أَضْحَكَهُمْ ثُمَّ نَوَّمَهُمْ ثُمَّ خَرَجَ . و " ابْنُ سِينَا " ذَكَرَ فِي إشَارَاتِهِ فِي " مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ " فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ وَفِي عِشْقِ الصُّوَرِ مَا يُنَاسِبُ طَرِيقَةَ أَسْلَافِهِ الْفَلَاسِفَةِ وَالصَّابِئِينَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ كَأَرِسْطُو وَشِيعَتِهِ مِنْ الْيُونَانِ - وَمَنْ اتَّبَعَهُ كبرقلس وثامسطيوس وَالْإِسْكَنْدَرِ الأفروديسي وَكَانَ أَرِسْطُو وَزِيرَ الْإِسْكَنْدَرِ بْنِ فيلبس الْمَقْدُونِيَّ

الَّذِي تُؤَرِّخُ لَهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَكَانَ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِنَحْوِ ثَلَاثمِائَةِ سَنَةٍ . وَأَمَّا " ذُو الْقَرْنَيْنِ " الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي بَنَى " السَّدَّ " فَكَانَ قَبْلَ هَؤُلَاءِ بِزَمَنِ طَوِيلٍ وَأَمَّا الْإِسْكَنْدَرُ الَّذِي وَزَرَ لَهُ أَرِسْطُو : فَإِنَّهُ إنَّمَا بَلَغَ بِلَادَ خُرَاسَانَ وَنَحْوَهَا فِي دَوْلَةِ الْفُرْسِ لَمْ يَصِلْ إلَى السَّدِّ وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . و " ابْنُ سِينَا " أَحْدَثَ فَلْسَفَةً رَكِبَهَا مِنْ كَلَامِ سَلَفِهِ الْيُونَانِ وَمِمَّا أَخَذَهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدِعِينَ الْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ . وَسَلَكَ طَرِيقَ الْمَلَاحِدَةِ الْإِسْمَاعِيلِيَّة فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِمْ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ وَمَزَجَهُ بِشَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ وَحَقِيقَتُهُ تَعُودُ إلَى كَلَامِ إخْوَانِهِ الْإِسْمَاعِيلِيَّة الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ ؛ فَإِنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ كَانُوا مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة : اتِّبَاعِ الْحَاكِمِ الَّذِي كَانَ بِمِصْرِ وَكَانُوا فِي زَمَنِهِ وَدِينُهُمْ دِينُ أَصْحَابِ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ مُنَافِقِي الْأُمَمِ الَّذِينَ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ وَلَا يَهُودَ وَلَا نَصَارَى . وَكَانَ الْفَارَابِيُّ قَدْ حَذَقَ فِي حُرُوفِ الْيُونَانِ الَّتِي هِيَ تَعَالِيمُ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الْمَشَّائِينَ وَفِي أَصْوَاتِهِمْ صِنَاعَةُ الْغِنَاءِ فَفِي هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ مَنْ يَرْغَبُ فِيهِ وَيَجْعَلُهُ مِمَّا تَزْكُو بِهِ النُّفُوسُ وَتَرْتَاضُ بِهِ وَتُهَذَّبُ بِهِ الْأَخْلَاقُ .

وَأَمَّا " الْحُنَفَاءُ " أَهْلُ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ إمَامًا وَأَهْلُ دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا غَيْرَهُ الْمُتَّبِعُونَ لِشَرِيعَةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَؤُلَاءِ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَرْغَبُ فِي ذَلِكَ وَلَا يَدْعُو إلَيْهِ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ وَالْهُدَى وَالسَّعْدِ وَالرَّشَادِ وَالنُّورِ وَالْفَلَّاحِ وَأَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ وَالْيَقِينِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْخَشْيَةِ لَهُ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ . وَلَكِنْ قَدْ حَضَرَهُ أَقْوَامٌ مِنْ أَهْلِ الْإِرَادَةِ وَمِمَّنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ الْمَحَبَّةِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّحْرِيكِ لَهُمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا غَائِلَتَهُ وَلَا عَرَفُوا مَغَبَّتَهُ كَمَا دَخَلَ قَوْمٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فِي أَنْوَاعٍ مِنْ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ الْمُخَالِفِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ حَقٌّ مُوَافِقٌ وَلَمْ يَعْلَمُوا غَائِلَتَهُ وَلَا عَرَفُوا مَغَبَّتَهُ فَإِنَّ الْقِيَامَ بِحَقَائِقِ الدِّينِ عِلْمًا وَحَالًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا وَمَعْرِفَةً وَذَوْقًا وَخِبْرَةً لَا يَسْتَقِلُّ بِهَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَكِنَّ الدَّلِيلَ الْجَامِعَ هُوَ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي

مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } . قَالَ { عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطًّا وَخَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ . ثُمَّ قَالَ : هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إلَيْهِ . ثُمَّ قَرَأَ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } } فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ السَّابِقِينَ رِضًا مُطْلَقًا وَرَضِيَ عَمَّنْ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانِ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قَلْبِ مُحَمَّدٍ فَوَجَدَ قَلْبَهُ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاصْطَفَاهُ لِرِسَالَتِهِ ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ بَعْدَ قَلْبِهِ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَمَا رَأَوْهُ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ . وَمَنْ كَانَ لَهُ خِبْرَةٌ بِحَقَائِقِ الدِّينِ وَأَحْوَالِ الْقُلُوبِ وَمَعَارِفهَا وَأَذْوَاقِهَا وَمَوَاجِيدِهَا عَرَفَ أَنَّ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ لَا يَجْلِبُ لِلْقُلُوبِ مَنْفَعَةً وَلَا مَصْلَحَةً إلَّا وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ

وَالْمَفْسَدَةِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فَهُوَ لِلرُّوحِ كَالْخَمْرِ لِلْجَسَدِ يَفْعَلُ فِي النُّفُوسِ فِعْلَ حُمَّيَا الْكُؤُوسِ . وَلِهَذَا يُوَرِّثُ أَصْحَابَهُ سُكْرًا أَعْظَمَ مِنْ سُكْرِ الْخَمْرِ فَيَجِدُونَ لَذَّةً بِلَا تَمْيِيزٍ كَمَا يَجِدُ شَارِبُ الْخَمْرِ ؛ بَلْ يَحْصُلُ لَهُمْ أَكْثَرُ وَأَكْبَرُ مِمَّا يَحْصُلُ لِشَارِبِ الْخَمْرِ وَيَصُدُّهُمْ ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ أَعْظَمَ مِمَّا يَصُدُّهُمْ الْخَمْرُ وَيُوقِعُ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ أَعْظَمَ مِنْ الْخَمْرِ حَتَّى يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ غَيْرِ مَسٍّ بِيَدِ بَلْ بِمَا يَقْتَرِنُ بِهِمْ مِنْ الشَّيَاطِينِ ؛ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ أَحْوَالٌ شَيْطَانِيَّةٌ بِحَيْثُ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَيَتَكَلَّمُونَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ كَمَا يَتَكَلَّمُ الْجِنِّيُّ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ : إمَّا بِكَلَامٍ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ الْأَعَاجِمِ الَّذِينَ لَا يُفْقَهُ كَلَامُهُمْ كَلِسَانِ التُّرْكِ أَوْ الْفُرْسِ أَوْ غَيْرِهِمْ وَيَكُونُ الْإِنْسَانُ الَّذِي لَبِسَهُ الشَّيْطَانُ عَرَبِيًّا لَا يُحْسِنُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِذَلِكَ بَلْ يَكُونُ الْكَلَامُ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ مَنْ تَكُونُ تِلْكَ الشَّيَاطِينُ مِنْ إخْوَانِهِمْ . وَإِمَّا بِكَلَامٍ لَا يُعْقَلُ وَلَا يُفْهَمُ لَهُ مَعْنًى وَهَذَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْمُكَاشَفَةِ " شُهُودًا وَعِيَانًا " . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ مَعَ خُرُوجِهِمْ عَنْ الشَّرِيعَةِ هُمْ مِنْ هَذَا النَّمَطِ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تُلَابِسُ أَحَدَهُمْ بِحَيْثُ يَسْقُطُ إحْسَاسُ بَدَنِهِ حَتَّى إنَّ الْمَصْرُوعَ يُضْرَبُ ضَرْبًا عَظِيمًا وَهُوَ لَا يُحِسُّ بِذَلِكَ وَلَا

يُؤَثِّرُ فِي جِلْدِهِ فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ تَلْبِسُهُمْ الشَّيَاطِينُ وَتَدْخُلُ بِهِمْ النَّارَ وَقَدْ تَطَيَّرَ بِهِمْ فِي الْهَوَاءِ وَإِنَّمَا يَلْبَسُ أَحَدُهُمْ الشَّيْطَانَ مَعَ تَغَيُّبِ عَقْلِهِ كَمَا يَلْبَسُ الشَّيْطَانُ الْمَصْرُوعَ . وَبِأَرْضِ الْهِنْدِ وَالْمَغْرِبِ ضَرْبٌ مِنْ الزُّطِّ يُقَالُ لِأَحَدِهِمْ : الْمُصْلَى فَإِنَّهُ يَصْلَى النَّارَ كَمَا يَصْلَى هَؤُلَاءِ وَتَلْبَسُهُ وَيُدْخِلُهَا وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَيَقِفُ عَلَى رَأْسِ الزَّجِّ وَيَفْعَلُ أَشْيَاءَ أَبْلَغَ مِمَّا يَفْعَلُهُ هَؤُلَاءِ وَهُمْ مِنْ الزُّطِّ الَّذِينَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ وَالْجِنُّ تَخْطَفُ كَثِيرًا مِنْ الْإِنْسِ وَتُغَيِّبُهُ عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ وَتَطِيرُ بِهِمْ فِي الْهَوَاءِ وَقَدْ بَاشَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ هَذَا هَؤُلَاءِ الْمُتَوَلِّهُونَ وَالْمُنْتَسِبُونَ إلَى بَعْضِ الْمَشَايِخِ إذَا حَصَلَ لَهُ وَجْدٌ سَمَاعِيٌّ وَعِنْدَ سَمَاعِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ مِنْهُمْ مَنْ يَصْعَدُ فِي الْهَوَاءِ وَيَقِفُ عَلَى زَجِّ الرُّمْحِ وَيَدْخُلُ النَّارَ وَيَأْخُذُ الْحَدِيدَ الْمُحْمَى بِالنَّارِ ثُمَّ يَضَعُهُ عَلَى بَدَنِهِ . وَأَنْوَاعٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَلَا تَحْصُلُ لَهُ هَذِهِ الْحَالُ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَلَا عِنْدَ الذِّكْرِ وَلَا عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَادَاتٌ شَرْعِيَّةٌ إيمَانِيَّةٌ إسْلَامِيَّةٌ نَبَوِيَّةٌ مُحَمَّدِيَّةٌ تَطْرُدُ الشَّيَاطِينَ وَتِلْكَ عِبَادَاتٌ بِدْعِيَّةٌ شَرِكِيَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ فَلْسَفِيَّةٌ تَسْتَجْلِبُ الشَّيَاطِينَ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إلَّا

غَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السِّكِّينَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ } " وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَنَّ أسيد بْنَ حضير لَمَّا قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ تَنَزَّلَتْ الْمَلَائِكَةُ لِسَمَاعِهَا كَالظُّلَّةِ فِيهَا السُّرُجُ . } وَلِهَذَا كَانَ الْمُكَاءُ وَالتَّصْدِيَةُ يَدْعُو إلَى الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَيَصُدُّ عَنْ حَقِيقَةِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةِ كَمَا يَفْعَلُ الْخَمْرُ وَالسَّلَفُ يُسَمُّونَهُ تَغْبِيرًا ؛ لِأَنَّ التَّغْبِيرَ هُوَ الضَّرْبُ بِالْقَضِيبِ عَلَى جِلْدٍ مِنْ الْجُلُودِ وَهُوَ مَا يُغَبِّرُ صَوْتَ الْإِنْسَانِ عَلَى التَّلْحِينِ فَقَدْ يُضَمُّ إلَى صَوْتِ الْإِنْسَانِ . إمَّا التَّصْفِيقُ بِأَحَدِ الْيَدَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى وَإِمَّا الضَّرْبُ بِقَضِيبٍ عَلَى فَخِذٍ وَجِلْدٍ وَإِمَّا الضَّرْبُ بِالْيَدِ عَلَى أُخْتِهَا أَوْ غَيْرِهَا عَلَى دُفٍّ أَوْ طَبْلٍ كَنَاقُوسِ النَّصَارَى وَالنَّفْخِ فِي صَفَّارَةٍ كَبُوقِ الْيَهُودِ . فَمَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْمَلَاهِي عَلَى وَجْهِ الدِّيَانَةِ وَالتَّقَرُّبِ فَلَا رَيْبَ فِي ضَلَالَتِهِ وَجَهَالَتِهِ . وَأَمَّا إذَا فَعَلَهَا عَلَى وَجْهِ التَّمَتُّعِ وَالتَّلَعُّبِ فَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ : أَنَّ آلَاتِ اللَّهْوِ كُلَّهَا حَرَامٌ فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ أُمَّتِهِ مَنْ يَسْتَحِلُّ الْحَرَّ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَذَكَرَ أَنَّهُمْ يُمْسَخُونَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ } . و " الْمَعَازِفُ " هِيَ الْمَلَاهِي كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَهْلُ اللُّغَةِ . جَمْعُ مِعْزَفَةٍ وَهِيَ الْآلَةُ الَّتِي يُعْزَفُ بِهَا : أَيْ يُصَوَّتُ بِهَا . وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ

أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ فِي آلَاتِ اللَّهْوِ نِزَاعًا . إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ذَكَرَ فِي الْيَرَاعِ وَجْهَيْنِ بِخِلَافِ الْأَوْتَارِ وَنَحْوِهَا ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا نِزَاعًا . وَأَمَّا الْعِرَاقِيُّونَ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ بِمَذْهَبِهِ وَأَتْبَعُ لَهُ فَلَمْ يَذْكُرُوا نِزَاعًا لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا بَلْ صَنَّفَ أَفْضَلُهُمْ فِي وَقْتِهِ أَبُو الطَّيِّبِ الطبري شَيْخُ أَبِي إسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا مَعْرُوفًا . وَلَكِنْ تَكَلَّمُوا فِي الْغَنَاءِ الْمُجَرَّدِ عَنْ آلَاتِ اللَّهْوِ : هَلْ هُوَ حَرَامٌ ؟ أَوْ مَكْرُوهٌ ؟ أَوْ مُبَاحٌ ؟ وَذَكَرَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ وَذَكَرُوا عَنْ الشَّافِعِيِّ قَوْلَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرُوا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي ذَلِكَ نِزَاعًا . وَذَكَرَ زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الساجي - وَهُوَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ الْمَائِلِينَ إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - أَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ إلَّا إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي وَأَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِي وَغَيْرُهُمَا : عَنْ مَالِكٌ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ فَغَلِطَ . وَإِنَّمَا وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ فِيهِ لِأَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَانَ يَحْضُرُ السَّمَاعَ إلَّا أَنَّ هَذَا لَيْسَ قَوْلَ أَئِمَّتِهِمْ وَفُقَهَائِهِمْ ؛ بَلْ قَالَ إسْحَاقُ بْنُ عِيسَى الطِّبَاعُ : سَأَلْت مَالِكًا عَمَّا يَتَرَخَّصُ فِيهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ الْغِنَاءِ فَقَالَ : إنَّمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَنَا الْفُسَّاقُ وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي كُتَّابِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَهُمْ أَعْلَمُ بِمَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ طَائِفَةٍ فِي

الْمَشْرِقِ لَا عِلْمَ لَهَا بِمَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ وَمَنْ ذَكَرَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ ضَرَبَ بِعُودِ فَقَدْ افْتَرَى عَلَيْهِ وَإِنَّمَا نَبَّهْت عَلَى هَذَا ؛ لِأَنَّ فِيمَا جَمَعَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي وَمُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ المقدسي فِي ذَلِكَ حِكَايَاتٌ وَآثَارٌ يَظُنُّ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِالْعِلْمِ وَأَحْوَالِ السَّلَفِ أَنَّهَا صِدْقٌ . وَكَانَ " الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ وَالزُّهْدِ وَالدِّينِ وَالتَّصَوُّفِ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَجْمَعَ مِنْ كَلَامِ الشُّيُوخِ وَالْآثَارِ الَّتِي تُوَافِقُ مَقْصُودَهُ كُلَّ مَا يَجِدُهُ ؛ فَلِهَذَا يُوجَدُ فِي كُتُبِهِ مِنْ الْآثَارِ الصَّحِيحَةِ وَالْكَلَامِ الْمَنْقُولِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الدِّينِ . وَيُوجَدُ فِيهَا مِنْ الْآثَارِ السَّقِيمَةِ وَالْكَلَامِ الْمَرْدُودِ مَا يَضُرُّ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ . وَبَعْضُ النَّاسِ تَوَقَّفَ فِي رِوَايَتِهِ . حَتَّى أَنَّ البيهقي كَانَ إذَا رَوَى عَنْهُ يَقُولُ : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ أَصْلِ سَمَاعِهِ . وَأَكْثَرُ الْحِكَايَاتِ الَّتِي يَرْوِيهَا أَبُو الْقَاسِم القشيري صَاحِبُ الرِّسَالَةِ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ أَجْمَعَ شُيُوخِهِ لِكَلَامِ الصُّوفِيَّةِ . و " مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ " لَهُ فَضِيلَةٌ جَيِّدَةٌ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَرِجَالِهِ وَهُوَ مِنْ حُفَّاظِ وَقْتِهِ لَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ : أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الزُّهْدِ وَأَهْلِ الْفِقْهِ وَغَيْرِهِمْ إذَا صَنَّفُوا فِي بَابٍ ذَكَرُوا مَا رُوِيَ فِيهِ مِنْ غَثٍّ وَسَمِينٍ وَلَمْ يُمَيِّزُوا ذَلِكَ كَمَا يُوجَدُ مِمَّنْ يُصَنِّفُ فِي الْأَبْوَابِ مِثْلَ الْمُصَنِّفِينَ : فِي فَضَائِلِ الشُّهُورِ وَالْأَوْقَاتِ وَفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ

وَالْعِبَادَاتِ وَفَضَائِلِ الْأَشْخَاصِ وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَبْوَابِ مِثْلَ مَا صَنَّفَ بَعْضُهُمْ فِي فَضَائِلِ رَجَبٍ وَغَيْرِهِمْ فِي فَضَائِلِ صَلَوَاتِ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي وَصَلَاةِ يَوْمِ الْأَحَدِ وَصَلَاةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَصَلَاةِ يَوْمِ الثُّلَاثَاءَ وَصَلَاةِ أَوَّلِ جُمُعَةٍ فِي رَجَبٍ وَأَلْفِيَّةِ رَجَبٍ وَأَوَّلِ رَجَبٍ وَأَلْفِيَّةِ نِصْفِ شَعْبَانَ وَإِحْيَاءِ لَيْلَتَيْ الْعِيدَيْنِ وَصَلَاةِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ . وَأَجْوَدُ مَا يُرْوَى مِنْ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ حَدِيثُ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي . وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ بَلْ أَحْمَدُ ضَعَّفَ الْحَدِيثَ وَلَمْ يَسْتَحِبَّ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ . وَأَمَّا ابْنُ الْمُبَارَكِ فَالْمَنْقُولُ عَنْهُ لَيْسَ مِثْلَ الصَّلَاةِ الْمَرْفُوعَةِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الصَّلَاةَ الْمَرْفُوعَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيهَا قَعْدَةٌ طَوِيلَةٌ بَعْدَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ وَهَذَا يُخَالِفُ الْأُصُولَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ . وَمَنْ تَدَبَّرَ الْأُصُولَ عَلِمَ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ . وَأَمْثَالِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهَا كُلَّهَا أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ مَكْذُوبَةٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مَعَ أَنَّهَا تُوجَدُ فِي مِثْلِ كُتَّابِ أَبِي طَالِبٍ وَكِتَابِ أَبِي حَامِدٍ وَكِتَابِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ ؛ وَتُوجَدُ فِي مِثْلِ أَمَالِي أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَسَاكِرَ وَفِيمَا صَنَّفَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ بْنُ البنا وَأَبُو الْفَضْلِ بْنُ نَاصِرٍ وَغَيْرُهُمْ . وَكَذَلِكَ

أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ : يَذْكُرُ مِثْلَ هَذَا فِي فَضَائِلِ الشُّهُورِ وَيَذْكُرُ فِي الْمَوْضُوعَاتِ أَنَّهُ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ . وَاَلَّذِينَ جَمَعُوا الْأَحَادِيثَ فِي " الزُّهْدِ وَالرَّقَائِقَ " يَذْكُرُونَ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ وَمِنْ أَجَلِّ مَا صُنِّفَ فِي ذَلِكَ وَأَنْدَرِهِ " كِتَابُ الزُّهْدِ " لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ . وَفِيهِ أَحَادِيثُ وَاهِيَةٌ كَذَلِكَ " كِتَابُ الزُّهْدِ " لِهَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ وَلِأَسَدِ بْنِ مُوسَى وَغَيْرِهِمَا . وَأَجْوَدُ مَا صُنِّفَ فِي ذَلِكَ : " الزُّهْدُ " لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ لَكِنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَى الْأَسْمَاءِ وَزُهْدُ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَلَى الْأَبْوَابِ . وَهَذِهِ الْكُتُبُ يُذْكَرُ فِيهَا زُهْدُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . ثُمَّ إنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى صِنْفَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ زُهْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين . كَأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ فِي " صِفَةِ الصَّفْوَةِ " . وَمِنْهُمْ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ حِينِ حَدَثَ اسْمُ الصُّوفِيَّةِ كَمَا فَعَلَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي فِي " طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ " وَصَاحِبُهُ أَبُو الْقَاسِمِ القشيري فِي الرِّسَالَةِ ثُمَّ الْحِكَايَاتُ الَّتِي يَذْكُرُهَا هَؤُلَاءِ بِمُجَرَّدِهَا مِثْلُ ابْنِ خَمِيسٍ وَأَمْثَالِهِ فَيَذْكُرُونَ حِكَايَاتٍ مُرْسَلَةً بَعْضُهَا صَحِيحٌ وَبَعْضُهَا بَاطِلٌ .

مِثْلُ ذِكْرِهِمْ : أَنْ الْحَسَنَ صَحِبَ عَلِيًّا . وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ عَلَى أَنَّ " الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ " لَمْ يَلْقَ عَلِيًّا وَلَا أَخَذَ عَنْهُ شَيْئًا وَإِنَّمَا أَخَذَ عَنْ أَصْحَابِهِ : كَالْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ وَقَيْسِ بْنِ مُعَاذٍ وَغَيْرِهِمَا . وَكَذَلِكَ حِكَايَاتُهُمْ : أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ اجْتَمَعَا لشيبان الرَّاعِي وَسَأَلَاهُ عَنْ سُجُودِ السَّهْوِ وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ لَمْ يَلْقَيَا شيبان الرَّاعِيَ بَلْ وَلَا أَدْرَكَاهُ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي " حَقَائِقِ التَّفْسِيرِ " عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمَأْثُورَةِ مَا يَعْلَمُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ أَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَإِنَّ جَعْفَرًا كَذَبَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكْذِبْ عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مَا مَيَّزَهُ اللَّهُ بِهِ وَكَانَ هُوَ وَأَبُوهُ - أَبُو جَعْفَرٍ - وَجَدُّهُ - عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ - مِنْ أَعْيَانِ الْأَئِمَّةِ عِلْمًا وَدِينًا وَلِمَ يَجِئْ بَعْدَ جَعْفَرٍ مِثْلُهُ وَفِي أَهْلِ الْبَيْتِ . فَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالْبِدَعِ يَنْسُبُ مَقَالَتَهُ إلَيْهِ حَتَّى أَصْحَابِ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " يَنْسُبُونَهَا إلَيْهِ . وَهَذِهِ الرَّسَائِلُ صُنِّفَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ صُنِّفَتْ عِنْدَ ظُهُورِ مَذْهَبِ الْإِسْمَاعِيلِيَّة العبيديين الَّذِينَ بَنَوْا الْقَاهِرَةَ وَصُنِّفَتْ عَلَى مَذْهَبِهِمْ الَّذِي رَكِبُوهُ مِنْ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ الْيُونَانِ وَمَجُوسِ الْفُرْسِ وَالشِّيعَةِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِهِمْ الرَّفْضُ وَبَاطِنَهُ الْكُفْرُ الْمَحْضُ .

وَنَسَبُوا إلَى جَعْفَرٍ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي تَقَدُّمِ الْمَعْرِفَةِ عَنْ حَوَادِثِ الْكَوْنِ : مِثْلَ اخْتِلَاجِ الْأَعْضَاءِ وَالرُّعُودِ وَالْبَرْوَقِ وَالْهَفْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نَزَّهَ اللَّهُ جَعْفَرًا وَأَئِمَّةَ أَهْلِ بَيْتِهِ عَنْ الْكَلَامِ فِيهِ . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . و ( الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْمَذْكُورَ عَنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مِنْ الْمَنْقُولَاتِ : يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُمَيِّزَ بَيْن صَحِيحِهِ وَضَعِيفِهِ كَمَا يَنْبَغِي مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَعْقُولَاتِ وَالنَّظَرِيَّاتِ وَكَذَلِكَ فِي الْأَذْوَاقِ وَالْمَوَاجِيدِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُخَاطِبَاتِ فَإِنَّ كُلَّ صِنْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ فِيهَا حَقٌّ وَبَاطِلٌ وَلَا بُدَّ مِنْ التَّمْيِيزِ فِي هَذَا وَهَذَا . وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّ مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ الثَّابِتَةَ عَنْهُ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ فَهُوَ حَقٌّ وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ . فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى . { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ

الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : كَانَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَقُولُ : اللَّهُمَّ رَبَّ جبرائيل وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى كَلَامِ الْمَشَايِخِ فِي السَّمَاعِ وَمَا ذَكَرَهُ القشيري فِي رِسَالَتِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْهُمْ وَشَرَحْنَا ذَلِكَ كَلِمَةً كَلِمَةً لَكِنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ لَا يَتَّسِعُ لِذَلِكَ . وَجِمَاعُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْكَلَامُ فِي السَّمَاعِ وَغَيْرِهِ هَلْ هُوَ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ ؟ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ : هَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ ؟ أَوْ غَيْرُ مُحَرَّمٍ ؟ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . إذْ لَيْسَ الْحَرَامُ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَمَّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنَّهُمْ ابْتَدَعُوا دِينًا لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ لَهُمْ وَأَنَّهُمْ حَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ تَعَالَى . فَقَالَ تَعَالَى :

{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَفْعَلُ فِي السَّمَاعِ وَغَيْرِهِ : مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْفَوَاحِشِ الْمُحَرَّمَةِ وَمَا يَدْعُو إلَيْهَا وَزَعْمُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ يُصْلِحُ الْقُلُوبَ فَهُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ؛ فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ . قَالَ تَعَالَى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } . وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحَرِّمُونَ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ أَشْيَاءَ وَيَتَّخِذُونَ ذَلِكَ دِينًا وَكَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ قَدْ عَزَمُوا عَلَى التَّرَهُّبِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } { وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا } الْآيَةَ .

وَجِمَاعُ الدِّينِ أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نَعْبُدُهُ إلَّا بِمَا شَرَعَ وَلَا نَعْبُدُهُ بِالْبِدَعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } . قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ : أَخْلَصَهُ وَأَصْوَبَهُ قَالُوا : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ؟ . قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ . وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ . حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ : أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْفُضَيْل مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمَشَايِخِ كَمَا قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني : إنَّهُ لَتَمُرُّ بِقَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ اثْنَيْنِ : الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَيْضًا : لَيْسَ لِمَنْ أُلْهِمُ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ أَنْ يَفْعَلَهُ حَتَّى يَسْمَعَ فِيهِ بِأَثَرِ فَإِذَا سَمِعَ بِأَثَرٍ كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ . وَقَالَ الْجُنَيْد : عِلْمُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَكْتُبْ الْحَدِيثَ لَمْ يَصِحَّ لَهُ أَنَّ يَتَكَلَّمَ فِي عِلْمِنَا هَذَا وَقَالَ سَهْلٌ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري : كُلُّ وَجْدٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ وَقَالَ : كُلُّ عَمَلٍ عَلَى ابْتِدَاعٍ فَإِنَّهُ عَذَابٌ عَلَى النَّفْسِ وَكُلُّ عَمَلٍ بِلَا اقْتِدَاءٍ فَهُوَ غِشُّ النَّفْسِ .

وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ : مَنْ أَمَرَّ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ وَمَنْ أَمَرَّ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْلُكَ إلَى اللَّهِ إلَّا بِمَا شَرَعَهُ الرَّسُولُ لِأُمَّتِهِ فَهُوَ الدَّاعِي إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ الْهَادِي إلَى صِرَاطِهِ الَّذِي مَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ فَهُوَ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ . آخِرَهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ " السَّمَاعِ "
فَأَجَابَ :
" السَّمَاعُ " الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَمَشَايِخُ الطَّرِيقِ : هُوَ سَمَاعُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ سَمَاعُ النَّبِيِّينَ وَسَمَاعُ الْعَالَمِينَ وَسَمَاعُ الْعَارِفِينَ وَسَمَاعُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا } { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ

قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } . وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . وَكَمَا أَثْنَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى هَذَا السَّمَاعِ فَقَدْ ذَمَّ الْمُعْرِضِينَ عَنْهُ كَمَا قَالَ : { لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } وَقَالَ : { وَالَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } وَقَالَ : { إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ } { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ

آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } . وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ يَمْدَحُونَ مَنْ يُقْبِلُ عَلَى هَذَا السَّمَاعِ وَيُحِبُّهُ وَيَرْغَبُ فِيهِ وَيَذُمُّونَ مَنْ يُعْرِضُ عَنْهُ وَيُبْغِضُهُ ؛ وَلِهَذَا شَرَعَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي صَلَاتِهِمْ وَلَطَسَّهُمْ (1) شَرَعَ سَمَاعَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخَرِ . وَأَعْظَمُ سَمَاعٍ فِي الصَّلَوَاتِ سَمَاعُ الْفَجْرِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَمْدَحُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ * * * إذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنْ الْفَجْرِ سَاطِعُ
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ * * * إذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ
أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا * * * بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ
وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لَهُمْ خَارِجَ الصَّلَوَاتِ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ وَفِيهِمْ وَاحِدٌ يَقْرَأُ وَهُمْ

يَسْتَمِعُونَ فَجَلَسَ مَعَهُمْ } " . وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اجْتَمَعُوا أَمَرُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ وَالْبَاقُونَ يَسْتَمِعُونَ . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : يَا أَبَا مُوسَى ذَكِّرْنَا رَبَّنَا فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ { وَمَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي مُوسَى وَهُوَ يَقْرَأُ : فَجَعَلَ يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ وَقَالَ : لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ دَاوُد وَقَالَ : يَا أَبَا مُوسَى لَقَدْ مَرَرْت بِك الْبَارِحَةَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ فَجَعَلْت أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِك فَقَالَ : لَوْ عَلِمْت أَنَّك تَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِي لَحَبَّرْته لَك تَحْبِيرًا } أَيْ : حَسَّنْته لَك تَحْسِينًا . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ . } { زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } " وَقَالَ : " { لَلَّهُ أَشَدُّ أُذُنًا لِلرَّجُلِ حَسَنِ الصَّوْتِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ } " وَقَوْلِهِ : " مَا أَذِنَ اللَّهُ إذْنًا " أَيْ سَمِعَ سَمْعًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } أَيْ سَمِعَتْ وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ . وَهَذَا سَمَاعٌ لَهُ آثَارٌ إيمَانِيَّةٌ مِنْ الْمَعَارِفِ الْقُدْسِيَّةِ . وَالْأَحْوَالِ الزَّكِيَّةِ يَطُولُ شَرْحُهَا وَوَصْفُهَا . وَلَهُ فِي الْجَسَدِ آثَارٌ مَحْمُودَةٌ . مِنْ خُشُوعِ الْقَلْبِ وَدُمُوعِ الْعَيْنِ وَاقْشِعْرَارِ الْجِلْدِ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ فِي الْقُرْآنِ . وَكَانَتْ مَوْجُودَةً فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسلم الَّذِينَ أَثْنَى عَلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَوُجِدَ بَعْدَهُمْ فِي التَّابِعِينَ آثَارٌ ثَلَاثَةٌ : الِاضْطِرَابُ وَالِاخْتِلَاجُ وَالْإِغْمَاءُ - أَوْ الْمَوْتُ وَالْهُيَامُ ؛ فَأَنْكَرَ بَعْضُ السَّلَفِ ذَلِكَ - إمَّا لِبِدْعَتِهِمْ وَإِمَّا لِحُبِّهِمْ . وَأَمَّا جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَفِ فَلَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ السَّبَبَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا كَانَ صَاحِبُهُ فِيمَا تَوَلَّدَ عَنْهُ مَعْذُورًا . لَكِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ قُوَّةُ الْوَارِدِ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَضَعْفُ قُلُوبِهِمْ عَنْ حَمْلِهِ فَلَوْ لَمْ يُؤَثِّرْ السَّمَاعُ لِقَسْوَتِهِمْ كَانُوا مَذْمُومِينَ كَمَا ذَمَّ اللَّهُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } وَقَالَ : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } وَلَوْ أَثَّرَ فِيهِمْ آثَارًا مَحْمُودَةً لَمْ يَجْذِبْهُمْ عَنْ حَدِّ الْعَقْلِ . لَكَانُوا كَمَنْ أَخْرَجَهُمْ إلَى حَدِّ الْغَلَبَةِ كَانُوا مَحْمُودِينَ أَيْضًا وَمَعْذُورِينَ .
فَأَمَّا سَمَاعُ الْقَاصِدِينَ لِصَلَاحِ الْقُلُوبِ فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى ذَلِكَ : إمَّا نَشِيدٌ مُجَرَّدٌ نَظِيرَ الْغُبَارِ . وَإِمَّا بِالتَّصْفِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهُوَ السَّمَاعُ الْمُحْدَثُ فِي الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ أُحْدِثَ بَعْدَ ذَهَابِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَثْنَى عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ : { خَيْرُ الْقُرُونِ : الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } وَقَدْ كَرِهَهُ أَعْيَانُ الْأُمَّةِ وَلَمْ يَحْضُرْهُ أَكَابِرُ الْمَشَايِخِ .

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : خَلَّفْت بِبَغْدَادَ شَيْئًا أَحْدَثَتْهُ الزَّنَادِقَةُ يُسَمُّونَهُ التَّغْبِيرَ يَصُدُّونَ بِهِ النَّاسَ عَنْ الْقُرْآنِ . وَسُئِلَ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فَقَالَ : هُوَ مُحْدَثٌ أَكْرَهُهُ قِيلَ لَهُ : إنَّهُ يَرِقُّ عَلَيْهِ الْقَلْبُ . فَقَالَ : لَا تَجْلِسُوا مَعَهُمْ . قِيلَ لَهُ : أَيَهْجُرُونَ ؟ فَقَالَ : لَا يَبْلُغُ بِهِمْ هَذَا كُلَّهُ . فَبَيَّنَ أَنَّهُ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا الْقُرُونُ الْفَاضِلَةُ لَا فِي الْحِجَازِ وَلَا فِي الشَّامِ وَلَا فِي الْيَمَنِ وَلَا فِي مِصْرَ وَلَا فِي الْعِرَاقِ وَلَا خُرَاسَانَ . وَلَوْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ مَنْفَعَةٌ فِي دِينِهِمْ لَفَعَلَهُ السَّلَفُ . وَلَمْ يَحْضُرْهُ مِثْلُ : إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَلَا الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ وَلَا مَعْرُوفٌ الْكَرْخِي وَلَا السَّرِيّ السقطي وَلَا أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني وَلَا مِثْلُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَالشَّيْخِ عَدِيٍّ وَالشَّيْخِ أَبِي الْبَيَانِ وَلَا الشَّيْخِ حَيَاةَ وَغَيْرِهِمْ ؛ بَلْ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ - كَالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَغَيْرِهِ - النَّهْيُ عَنْهُ . وَكَذَلِكَ أَعْيَانُ الْمَشَايِخِ . وَقَدْ حَضَرَهُ مِنْ الْمَشَايِخِ طَائِفَةٌ وَشَرَطُوا لَهُ الْمَكَانَ وَالْإِمْكَانَ وَالْخُلَّانَ وَالشَّيْخَ الَّذِي يَحْرُسُ مِنْ الشَّيْطَانِ . وَأَكْثَرُ الَّذِينَ حَضَرُوهُ مِنْ الْمَشَايِخِ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ رَجَعُوا عَنْهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِمْ . كالْجُنَيْد فَإِنَّهُ حَضَرَهُ وَهُوَ شَابٌّ وَتَرَكَهُمْ فِي آخِرِ عُمْرِهِ . وَكَانَ يَقُولُ : مَنْ تَكَلَّفَ السَّمَاعَ

فُتِنَ بِهِ وَمَنْ صَادَفَهُ السَّمَاعُ اسْتَرَاحَ بِهِ . فَقَدْ ذَمَّ مَنْ يَجْتَمِعُ لَهُ وَرَخَّصَ فِيمَنْ يُصَادِفُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ . وَلَا اعْتِمَادَ لِلْجُلُوسِ لَهُ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ مُجْمَلٌ لَيْسَ فِيهِ تَفْصِيلٌ . فَإِنَّ الْأَبْيَاتَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِذِكْرِ الْحُبِّ وَالْوَصْلِ وَالْهَجْرِ وَالْقَطِيعَةِ وَالشَّوْقِ والتتيم وَالصَّبْرِ عَلَى الْعَذْلِ وَاللَّوْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ قَوْلٌ مُجْمَلٌ يَشْتَرِكُ فِيهِ مُحِبُّ الرَّحْمَنِ وَمُحِبُّ الْأَوْثَانِ وَمُحِبُّ الْإِخْوَانِ وَمُحِبُّ الْأَوْطَانِ وَمُحِبُّ النِّسْوَانِ وَمُحِبُّ المردان . فَقَدْ يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ إذَا هَيَّجَ الْقَاطِنَ وَأَثَارَ السَّاكِنَ وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . لَكِنْ فِيَة مَضَرَّةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى مَنْفَعَتِهِ : كَمَا فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فَإِنَّ فِيهِمَا إثْمًا كَبِيرًا وَمَنَافِعَ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا . فَلِهَذَا لَمْ تَأْتِ بِهِ الشَّرِيعَةُ لَمْ تَأْتِ إلَّا بِالْمَصْلَحَةِ الْخَالِصَةِ أَوْ الرَّاجِحَةِ وَأَمَّا مَا تَكُونُ مَفْسَدَتُهُ غَالِبَةً عَلَى مَصْلَحَتِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَأْخُذُ دِرْهَمًا بِدِينَارِ أَوْ يَسْرِقُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَيَتَصَدَّقُ مِنْهَا بِدِرْهَمَيْنِ . وَذَلِكَ أَنَّهُ يُهَيِّجُ الْوَجْدَ الْمُشْتَرَكَ فَيُثِيرُ مِنْ النَّفْسِ كَوَامِنَ تَضُرُّهُ آثَارُهَا وَيُغَذِّي النَّفْسَ وَيَفْتِنُهَا فَتَعْتَاضُ بِهِ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهَا مَحَبَّةٌ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَلَا الْتِذَاذَ بِهِ وَلَا اسْتِطَابَةَ لَهُ . بَلْ

يَبْقَى فِي النَّفْسِ بُغْضٌ لِذَلِكَ وَاشْتِغَالٌ عَنْهُ . كَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِتَعَلُّمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَعُلُومِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالصَّابِئِينَ وَاسْتِفَادَتِهِ الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ مِنْهَا فَأَعْرَضَ بِذَلِكَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ إلَى أَشْيَاءَ أُخْرَى تَطُولُ . فَلَمَّا كَانَ هَذَا السَّمَاعُ لَا يُعْطِي بِنَفْسِهِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْأَحْوَالِ وَالْمَعَارِفِ بَلْ قَدْ يَصُدُّ عَنْ ذَلِكَ وَيُعْطِي مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ وَلَا سَلَفُ الْأُمَّةِ وَلَا أَعْيَانُ مَشَايِخهَا . وَمِنْ نُكَتِهِ أَنَّ الصَّوْتَ يُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ بِحُسْنِهِ : فَتَارَةً يَفْرَحُ وَتَارَةً يَحْزَنُ وَتَارَةً يَغْضَبُ وَتَارَةً يَرْضَى وَإِذَا قَوِيَ أَسْكَرَ الرُّوحَ فَتَصِيرُ فِي لَذَّةٍ مُطْرِبَةٍ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ . كَمَا يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ إذَا سَكِرَتْ بِالرَّقْصِ وَلِلْجَسَدِ أَيْضًا إذَا سَكِرَ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَإِنَّ السُّكْرَ هُوَ الطَّرَبُ الَّذِي يُؤَثِّرُ لَذَّةً بِلَا عَقْلٍ فَلَا تَقُومُ مَنْفَعَتُهُ بِتِلْكَ اللَّذَّةِ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْبَةِ الْعَقْلِ الَّتِي صَدَّتْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَأَوْقَعَتْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ . وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَعْلَمَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا يُقَرِّبُ إلَى الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثَ بِهِ وَلَا شَيْئًا يُبْعِدُ عَنْ

النَّارِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثَ بِهِ وَأَنَّ هَذَا السَّمَاعَ لَوْ كَانَ مَصْلَحَةً لَشَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } وَإِذَا وَجَدَ فِيهِ مَنْفَعَةً لِقَلْبِهِ وَلَمْ يَجِدْ شَاهِدَ ذَلِكَ لَا مِنْ الْكِتَابِ وَلَا مِنْ السُّنَّةِ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ . قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري : كُلُّ وَجْدٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ . وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني : إنَّهُ لَتَلُمُّ بِقَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ : الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ أَيْضًا : لَيْسَ لِمَنْ أُلْهِمَ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ أَنْ يَفْعَلَهُ حَتَّى يَجِدَ فِيهِ أَثَرًا فَإِذَا وَجَدَ فِيهِ أَثَرًا كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ . وَقَالَ الْجُنَيْد بْنُ مُحَمَّدٍ : عِلْمُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَكْتُبْ الْحَدِيثَ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي عِلْمِنَا . وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي الْكِتَابِ { وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً } قَالَ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ : " الْمُكَاءُ " كَالصَّفِيرِ وَنَحْوِهِ مِنْ التَّصْوِيتِ مِثْلِ الْغِنَاءِ . وَ " التَّصْدِيَةِ " : التَّصْفِيقُ بِالْيَدِ . فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ التَّصْدِيَةَ

وَالْغِنَاءَ لَهُمْ صَلَاةً وَعِبَادَةً وَقُرْبَةً يعتاضون بِهِ عَنْ الصَّلَاةِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ : فَصَلَاتُهُمْ وَعِبَادَتُهُمْ الْقُرْآنُ وَاسْتِمَاعُهُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَذِكْرُ اللَّهِ وَدُعَاؤُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَمَنْ اتَّخَذَ الْغِنَاءَ وَالتَّصْفِيقَ عِبَادَةً وَقُرْبَةً فَقَدْ ضَاهَى الْمُشْرِكِينَ فِي ذَلِكَ وَشَابَهَهُمْ فِيمَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْمُؤْمِنِينَ : الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ . فَإِنْ كَانَ يَفْعَلُهُ فِي بُيُوتِ اللَّهِ فَقَدْ زَادَ فِي مُشَابَهَتِهِ أَكْبَرَ وَأَكْبَرَ وَاشْتَغَلَ بِهِ عَنْ الصَّلَاةِ وَذِكْرِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ فَقَدْ عَظُمَتْ مُشَابَهَتُهُ لَهُمْ . وَصَارَ لَهُ كِفْلٌ عَظِيمٌ مِنْ الذَّمِّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً } لَكِنْ قَدْ يُغْفَرُ لَهُ ذَلِكَ لِاجْتِهَادِهِ أَوْ لِحَسَنَاتِ مَاحِيَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . فِيمَا يُفَرِّقُ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ . لَكِنْ مُفَارَقَتُهُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي غَيْرِ هَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَذْمُومًا خَارِجًا عَنْ الشَّرِيعَةِ دَاخِلًا فِي الْبِدْعَةِ الَّتِي ضَاهَى بِهَا الْمُشْرِكِينَ فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَفَطَّنَ لَهُ لِهَذَا وَيُفَرِّقَ بَيْنَ سَمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَسَمَاعِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ .

وَيَعْلَمَ أَنَّ هَذَا السَّمَاعَ الْمُحْدَثَ هُوَ مِنْ جِنْسِ سَمَاعِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ إلَيْهِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى سَمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنْ كَانَ قَدْ غَلِطَ فِيهِ قَوْمٌ مِنْ صَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَهُمْ وَصَلَاحَهُمْ لِمَا وَقَعَ مِنْ خَطَئِهِمْ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ } " وَهَذَا كَمَا أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ السَّلَفِ قَاتَلُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا بِتَأْوِيلِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابُهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْهُمْ وَقَدْ قَالَ فِيهِمْ : مَنْ قَصَدَ اللَّهَ فَلَهُ الْجَنَّةُ . وَجَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ اسْتَحَلُّوا بَعْضَ الْأَشْرِبَةِ بِتَأْوِيلِ - وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَحْرِيمُ مَا اسْتَحَلُّوهُ - وَإِنْ كَانَ خَطَؤُهُمْ مَغْفُورًا لَهُمْ . وَاَلَّذِينَ حَضَرُوا هَذَا السَّمَاعَ مِنْ الْمَشَايِخِ الصَّالِحِينَ شَرَطُوا لَهُ شُرُوطًا لَا تُوجَدُ إلَّا نَادِرًا فَعَامَّةُ هَذِهِ السَّمَّاعَاتِ خَارِجَةٌ عَنْ إجْمَاعِ الْمَشَايِخِ وَمَعَ هَذَا فَأَخْطَئُوا - وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ خَطَأَهُمْ فِيمَا خَرَجُوا بِهِ عَنْ السُّنَّةِ - وَإِنْ كَانُوا مَعْذُورِينَ . وَالسَّبَبُ الَّذِي أَخْطَئُوا فِيهِ أَوْقَعَ أُمَمًا كَثِيرَةً فِي الْمُنْكَرِ الَّذِي نَهَوْا

عَنْهُ وَلَيْسَ لِلْعَالَمِينَ شِرْعَةٌ وَلَا مِنْهَاجٌ وَلَا شَرِيعَةٌ وَلَا طَرِيقَةٌ أَكْمَلُ مِنْ الشَّرِيعَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : { خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } " وَمِنْ غَلَطِ بَعْضِهِمْ تَوَهُّمُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ حَضَرُوا هَذَا السَّمَاعَ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ وَالْغَنَاءِ وَالتَّصْفِيقِ بِالْأَكُفِّ حَتَّى رَوَى بَعْضُ الْكَاذِبِينَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْشَدَهُ أَعْرَابِيٌّ شِعْرًا ، قَوْلُهُ :
قَدْ لَسَعَتْ حَيَّةُ الْهَوَى كَبِدِي * * * فَلَا طَبِيبَ لَهَا وَلَا رَاقِي
سِوَى الْحَبِيبِ الَّذِي شُغِفْت بِهِ * * * فَمِنْهُ دَائِي وَمِنْهُ تِرْيَاقِي
وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَاجَدَ حَتَّى سَقَطَتْ الْبُرْدَةُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ . وَقَالَ : لَيْسَ بِكَرِيمِ مَنْ لَمْ يَتَوَاجَدْ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ } " . وهذا الْحَدِيثُ كَذِبٌ بِإِجْمَاعِ الْعَارِفِينَ بِسِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ وَأَحْوَالِهِ . كَمَا كَذَبَ بَعْضُ الْكَذَّابِينَ : أَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ قَاتَلُوا الْمُؤْمِنِينَ مَعَ

الْمُشْرِكِينَ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَكْذُوبَةِ إنَّمَا يَكْذِبُهَا مَنْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِ طَوَائِفُ مِنْ الْجَاهِلِينَ بِأَحْوَالِ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ ؛ بَلْ بِأُصُولِ الْإِسْلَامِ . وَأَمَّا " الرَّقْصُ " فَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ بَلْ قَدْ قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ : { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } وَقَالَ فِي كِتَابِهِ : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } أَيْ : بِسَكِينَةِ وَوَقَارٍ . وَإِنَّمَا عِبَادَةُ الْمُسْلِمِينَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ ؛ بَلْ الدُّفُّ وَالرَّقْصُ فِي الطَّابَقِ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ ؛ بَلْ أَمَرُوا بِالْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَالسَّكِينَةِ . وَلَوْ وَرَدَ عَلَى الْإِنْسَانِ حَالٌ يَغْلِبُ فِيهَا حَتَّى يَخْرُجَ إلَى حَالَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ الْمَشْرُوعِ وَكَانَ ذَلِكَ الْحَالُ بِسَبَبِ مَشْرُوعٍ . كَسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ سَلِمَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْحَالُ كَمَا تَقَدَّمَ فَأَمَّا إذَا تَكَلَّفَ مِنْ الْأَسْبَابِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ يُوقِعُهُ فِيمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ : مِثْلُ شُرْبِ الْخَمْرِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهَا تُسْكِرُهُ وَإِذَا قَالَ : وَرَدَ عَلَيَّ الْحَالُ وَأَنَا سَكْرَانُ قِيلَ لَهُ : إذَا كَانَ السَّبَبُ مَحْظُورًا لَمْ يَكُنْ السَّكْرَانُ مَعْذُورًا . فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ الْفَاسِدَةُ مَنْ كَانَ فِيهَا صَادِقًا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ مِنْ جِنْسِ خُفَرَاءِ الْعَدُوِّ وَأَعْوَانِ الظَّلَمَةِ مِنْ ذَوِي الْأَحْوَالِ الْفَاسِدَةِ الَّذِينَ ضَارَعُوا عُبَّادَ النَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئِينَ . فِي بَعْضِ مَا لَهُمْ مِنْ الْأَحْوَالِ ،

وَمَنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ مُنَافِقٌ ضَالٌّ . قَالَ سَيِّدُ الْمُسْلِمِينَ فِي وَقْتِهِ - الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ - فِي قَوْله تَعَالَى { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ . قِيلَ لَهُ : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ ؟ وَأَصْوَبُهُ ؟ . قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا . وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ . وَكَانَ يَقُولُ : مَنْ وَقَّرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ وَمَنْ زَوَّجَ كَرِيمَتَهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ فَقَدْ قَطَعَ رَحِمَهَا وَمَنْ انْتَهَرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا . وَأَكْثَرُ إشَارَتِهِ وَإِشَارَاتُ غَيْرِهِ مِنْ الْمَشَايِخِ بِالْبِدْعَةِ إنَّمَا هِيَ إلَى الْبِدَعِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْأَحْوَالِ كَمَا قَالَ عَنْ النَّصَارَى { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : " عَلَيْكُمْ بِالسَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّهُ مَا مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ إلَّا تَحَاتَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا يتحات الْوَرَقُ الْيَابِسُ عَنْ الشَّجَرَةِ وَمَا مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ إلَّا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ أَبَدًا وَإِنْ اقْتِصَادًا فِي سَبِيلٍ وَسُنَّةٌ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فِي خِلَافِ سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ . فَاحْرِصُوا أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُكُمْ - إنْ كَانَتْ اجْتِهَادًا أَوْ اقْتِصَادًا - عَلَى مِنْهَاجِ الْأَنْبِيَاءِ وَسُنَّتِهِمْ " .

وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : هَذِهِ شَبَكَةٌ يُصَادُ بِهَا الْعَوَامُّ . فَقَدْ صَدَقَ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ إنَّمَا يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ شَبَكَةً لِأَجْلِ الطَّعَامِ والتوانس عَلَى الطَّعَامِ . كَمَا قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } وَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الضَّلَالِ الَّذِينَ قِيلَ فِي رُءُوسِهِمْ : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا } { وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } { رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } . وَأَمَّا الصَّادِقُونَ مِنْهُمْ : فَهُمْ يَتَّخِذُونَهُ شَبَكَةً لَكِنْ هِيَ شَبَكَةٌ مُخَرَّقَةٌ يَخْرُجُ مِنْهَا الصَّيْدُ إذَا دَخَلَ فِيهَا كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ كَثِيرًا ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي السَّمَاعِ الْمُبْتَدَعِ فِي الطَّرِيقِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ أَصْلٌ شَرْعِيٌّ شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْرَثَتْهُمْ أَحْوَالًا فَاسِدَةً . وَإِلَى عِبَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ وَالتَّبَتُّلِ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ أَحْسَنُ مِنْ (1) الْإِسْلَامِيَّةِ وَالشَّرِيعَةِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْمَنَاهِجِ (2) الْمُوَصِّلَةِ الْحَقِيقَةَ الْجَامِعَةَ لِمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة .

وَإِذَا كَانَ غَيْرَ مَشْرُوعٍ وَلَا مَأْمُورٍ بِهِ فَالتَّطَهُّرُ أَوْ الْإِنْصَاتُ لَهُ وَاسْتِفْتَاحُ بَابِ الرَّحْمَةِ هُوَ مِنْ جِنْسِ عَادَةِ الرُّهْبَانِ لَيْسَ مِنْ عِبَادَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَلَا عِبَادَةِ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَلَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْإِحْسَانِ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ .

سُئِلَ :
عَمَّنْ قَالَ إنَّ السَّمَاعَ عَلَى النَّاسِ حَرَامٌ وَعَلَيَّ حَلَالٌ هَلْ يَفْسُقُ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
مَنْ ادَّعَى أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ تَحْرِيمًا عَامًّا : كَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَالْمَلَاهِي حَرَامٌ عَلَى النَّاسِ حَلَالٌ لَهُ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَمَنْ ادَّعَى فِي الدُّفُوفِ وَالشَّبَّابِ أَنَّهُمَا حَرَامٌ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ فَهَذَا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ وَهُوَ ضَالٌّ مِنْ الضُّلَّالِ . وَمِنْ ثَمَّ مُصِرًّا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ كَانَ فَاسِقًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُئِلَ :
عَنْ أَقْوَامٍ يَرْقُصُونَ عَلَى الْغِنَاءِ بِالدُّفِّ ثُمَّ يَسْجُدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ عَلَى وَجْهِ التَّوَاضُعِ . هَلْ هَذَا سُنَّةٌ ؟ أَوْ فَعَلَهُ الشُّيُوخُ الصَّالِحُونَ ؟ .
الْجَوَابُ :
لَا يَجُوزُ السُّجُودُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَاِتِّخَاذُ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ وَالْغِنَاءِ وَالرَّقْصِ عِبَادَةٌ هُوَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَفْعَلْهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ وَلَا أَكَابِرُ شُيُوخِهَا : كالْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي وَالسَّرِيّ السقطي وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ . وَكَذَلِكَ أَكَابِرُ الشُّيُوخِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِثْلِ : الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَالشَّيْخِ عَدِيٍّ وَالشَّيْخِ أَبِي مَدْيَنَ وَالشَّيْخِ أَبِي الْبَيَانِ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَحْضُرُوا " السَّمَاعَ الْبِدْعِيَّ " بَلْ كَانُوا يَحْضُرُونَ " السَّمَاعَ الشَّرْعِيَّ " سَمَاعَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعَهُمْ كَسَمَاعِ الْقُرْآنِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ رَجُلٍ يُحِبُّ السَّمَاعَ وَالرَّقْصَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ رَجُلٌ ، فَقَالَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ :
أَنْكَرُوا رَقْصًا وَقَالُوا حَرَامُ * * * فَعَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ ذَاكَ سَلَامُ
اُعْبُدْ اللَّهَ يَا فَقِيهُ وَصَلِّ * * * وَالْزَمْ الشَّرْعَ فَالسَّمَاعُ حَرَامُ
بَلْ حَرَامٌ عَلَيْك ثُمَّ حَلَالٌ * * * عِنْدَ قَوْمٍ أَحْوَالُهُمْ لَا تُلَامُ
مِثْلُ قَوْمٍ صَفَوْا وَبَانَ لَهُمْ مِنْ * * * جَانِبِ الطُّورِ جَذْوَةٌ وَكَلَامُ
فَإِذَا قُوبِلَ السَّمَاعُ بِلَهْوِ * * * فَحَرَامٌ عَلَى الْجَمِيعِ حَرَامُ
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . هَذَا الشِّعْرُ يَتَضَمَّنُ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا ؛ بَلْ أَوَّلُهُ يَتَضَمَّنُ مُخَالَفَةَ الشَّرِيعَةِ وَآخِرُهُ يَفْتَحُ بَابَ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ وَالْمُخَالَفَةِ لِلْحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ الدِّينِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ . وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : مِثْلُ قَوْمٍ صَفَوْا وَبَانَ لَهُمْ مِنْ * * * جَانِبِ الطُّورِ جَذْوَةٌ وَكَلَامُ

يَتَضَمَّنُ تَمْثِيلَ هَؤُلَاءِ بِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ الَّذِي نُودِيَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ وَلَمَّا رَأَى النَّارَ { قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } . وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ النَّاسِ يَسْلُكُونَ طَرِيقَ الرِّيَاضَةِ وَالتَّصْفِيَةِ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ بِذَلِكَ يَصِلُونَ إلَى أَنْ يُخَاطِبَهُمْ اللَّهُ كَمَا خَاطَبَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ وَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : " صِنْفٌ " يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُخَاطَبُونَ بِأَعْظَمَ مِمَّا خُوطِبَ بِهِ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ . كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَهْلِ الْوَحْدَةِ وَالِاتِّحَادِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ . كَصَاحِبِ " الْفُصُوصِ " وَأَمْثَالِهِ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَعْلَى مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّ الْخِطَابَ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ أَعْلَى مِمَّا يَحْصُلُ لِإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْكُفْرَ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ يُفَضِّلُونَ الْأَنْبِيَاءَ عَلَى غَيْرِهِمْ لَكِنْ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضِ . وَ " النَّوْعُ الثَّانِي " مَنْ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ يُكَلِّمُهُ مِثْلَ كَلَامِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ الَّذِينَ

يَقُولُونَ : إنَّ تَكْلِيمَ مُوسَى فَيْضٌ فَاضَ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَيَقُولُونَ : إنَّ النُّبُوَّةَ مُكْتَسَبَةٌ . وَ " النَّوْعُ الثَّالِثُ " : الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ مُوسَى أَفْضَلُ لَكِنَّ صَاحِبَ الرِّيَاضَةِ قَدْ يَسْمَعُ الْخِطَابَ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى ؛ وَلَكِنْ مُوسَى مَقْصُودًا بِالتَّكْلِيمِ دُونَ هَذَا كَمَا يُوجَدُ هَذَا فِي أَخْبَارِ صَاحِبِ " مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ " وَكَذَلِكَ سَلَكَ مَسْلَكَهُ صَاحِبُ " خَلْعِ النَّعْلَيْنِ " وَأَمْثَالِهِمَا . وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الشِّعْرِ لِمَنْ يُخَاطِبُهُ : " الْزَمْ الشَّرْعَ يَا فَقِيهُ وَصَلِّ " يُشْعِرُ بِأَنَّك أَنْتَ تَبَعُ الشَّرْعِ وَأَمَّا نَحْنُ فَلَنَا إلَى اللَّهِ طَرِيقٌ غَيْرُ الشَّرْعِ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ لَهُ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ يُوصِلُهُ إلَى رِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ وَثَوَابِهِ غَيْرِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ فَإِنَّهُ أَيْضًا كَافِرٌ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ : كَطَائِفَةٍ أَسْقَطُوا التَّكْلِيفَ وَزَعَمُوا أَنَّ الْعَبْدَ يَصِلُ إلَى اللَّهِ بِلَا مُتَابَعَةِ الرُّسُلِ . وَ " طَائِفَةٍ " يَظُنُّونَ أَنَّ الْخَوَاصَّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ يَسْتَغْنُونَ عَنْ مُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا اسْتَغْنَى الْخَضِرُ عَنْ مُتَابَعَةِ مُوسَى وَجَهِلَ هَؤُلَاءِ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَى الْخَضِرِ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولٌ إلَى كُلِّ أَحَدٍ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مَعَ أَنَّ قَضِيَّةَ الْخَضِرِ لَمْ تُخَالِفْ شَرِيعَةَ مُوسَى ؛ بَلْ وَافَقَتْهَا وَلَكِنَّ الْأَسْبَابَ الْمُبِيحَةَ لِلْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ مُوسَى عَلِمَهَا فَلَمَّا عَلِمَهَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَفْعَالَ تُوَافِقُ شَرِيعَتَهُ لَا تُخَالِفُهَا .

وَسُئِلَ :
عَنْ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ النَّارَ وَالْإِشَارَاتِ مِثْلَ النَّبْلِ وَالزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ " الْإِشَارَاتِ " كَالنَّبْلِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْمِسْكِ وَالنَّارِ وَالْجُبَّةِ . فَلَيْسُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ؛ بَلْ هُمْ مِنْ أَحْزَابِ الشَّيَاطِينِ وَأَحْوَالُهُمْ شَيْطَانِيَّةٌ لَيْسَتْ مِنْ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ وَهُمْ يُفْسِدُونَ الْعُقُولَ وَالْأَدْيَانَ وَالْأَعْرَاضَ وَالنِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ . وَلَا يُحْسِنُ الظَّنَّ بِهِمْ إلَّا جَاهِلٌ عَظِيمُ الْجَهَالَةِ أَوْ عَدُوٌّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُمْ مِنْ جِنْسِ التتر الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُئِلَ :
عَنْ رِجْلٍ فَلَّاحٍ لَمْ يُعْلَمْ دِينُهُ وَلَا صَلَاتُهُ وَإِنَّ فِي بَلَدِهِ شَيْخًا أَعْطَاهُ إجَازَةً وَبَقِيَ يَأْكُلُ الثَّعَابِينَ وَالْعَقَارِبَ وَنَزَلَ عَنْ فِلَاحَتِهِ وَيَطْلُبُ رِزْقَهُ . فَهَلْ تَجُوزُ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَكْلُ الْخَبَائِثِ وَأَكْلُ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . فَمَنْ أَكَلَهَا مُسْتَحِلًّا لِذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَمَنْ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ وَأَكَلَهَا فَإِنَّهُ فَاسِقٌ عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ رَجُلًا صَالِحًا وَلَوْ ذَكَّى الْحَيَّةَ لَكَانَ أَكْلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ حَرَامًا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : { خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ : الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْحِدَأَةُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ . } فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ ذَلِكَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَسَمَّاهُنَّ فَوَاسِقَ ؛ لِأَنَّهُنَّ يَفْسُقْنَ : أَيْ يَخْرُجْنَ عَلَى النَّاسِ وَيَعْتَدِينَ عَلَيْهِمْ فَلَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُنَّ كَمَا لَا يُحْتَرَزُ مِنْ السِّبَاعِ الْعَادِيَةِ فَيَكُونُ

عُدْوَانُ هَذَا أَعْظَمَ مِنْ عُدْوَانِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَهُنَّ أَخْبَثُ وأحرم . وَأَمَّا الَّذِينَ يَأْكُلُونَ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ " كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ " فَهُمْ أَشَرُّ حَالًا مِمَّنْ يَأْكُلُهَا مِنْ الْفُسَّاقِ ؛ لِأَنَّ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ لَا تَكُونُ بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ مِنْ أَكْلِ الْخَبَائِثِ كَمَا لَا تَكُونُ بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَإِنَّمَا هَذِهِ المخاريق الَّتِي يَفْعَلُهَا هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعُونَ : مِنْ الدُّخُولِ فِي النَّارِ وَأَخْذِ الْحَيَّاتِ وَإِخْرَاجِ اللَّاذَنِ وَالسُّكَّرِ وَالدَّمِ وَمَاءِ الْوَرْدِ . هِيَ نَوْعَانِ : " أَحَدُهُمَا " أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ بِحِيَلِ طَبْعِيَّةٍ . مِثْلِ أَدْهَانٍ مَعْرُوفَةٍ يَذْهَبُونَ وَيَمْشُونَ فِي النَّارِ وَمِثْلُ مَا يَشْرَبُهُ أَحَدُهُمْ مِمَّا يَمْنَعُ سُمَّ الْحَيَّةِ : مِثْلُ أَنْ يُمْسِكَهَا بعنقصتها حَتَّى لَا تَضُرَّهُ وَمِثْلُ أَنْ يُمْسِكَ الْحَيَّةَ الْمَائِيَّةَ وَمِثْلُ أَنْ يَسْلُخَ جِلْدَ الْحَيَّةِ وَيَحْشُوَهُ طَعَامًا وَكَمْ قَتَلَتْ الْحَيَّاتُ مِنْ أَتْبَاعِ هَؤُلَاءِ وَمِثْلُ أَنْ يَمْسَحَ جِلْدَهُ بِدَمِ أَخَوَيْنِ ؛ فَإِذَا عَرِقَ فِي السَّمَاعِ ظَهَرَ مِنْهُ مَا يُشْبِهُ الدَّمَ وَيَصْنَعُ لَهُمْ أَنْوَاعًا مِنْ الْحِيَلِ وَالْمُخَادَعَاتِ . " النَّوْعُ الثَّانِي " وَهُمْ أَعْظَمُ : عِنْدَهُمْ أَحْوَالٌ شَيْطَانِيَّةٌ تَعْتَرِيهِمْ عِنْدَ السَّمَاعِ الشَّيْطَانِيِّ فَتَنْزِلُ الشَّيَاطِينُ عَلَيْهِمْ كَمَا تَدْخُلُ فِي بَدَنِ الْمَصْرُوعِ وَيَزِيدُ أَحَدُهُمْ كَمَا يَزِيدُ الْمَصْرُوعُ وَحِينَئِذٍ يُبَاشِرُ النَّارَ وَالْحَيَّاتِ

وَالْعَقَارِبَ وَيَكُونُ الشَّيْطَانُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ تَقْتَرِنُ بِهِمْ الشَّيَاطِينُ مِنْ إخْوَانِهِمْ الَّذِينَ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ الطَّائِفَةِ الَّتِي تَطْلُبُهُمْ النَّاسُ لِعِلَاجِ الْمَصْرُوعِ وَهُمْ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ عِنْدَ النَّاسِ فَإِذَا طَلَبُوا تَحَلَّوْا بِحِلْيَةِ الْمُقَاتِلَةِ وَيَدْخُلُ فِيهِمْ الْجِنُّ فَيُحَارِبُ مِثْلَ الْجِنِّ الدَّاخِلِ فِي الْمَصْرُوعِ وَيَسْمَعُ النَّاسُ أَصْوَاتًا وَيَرَوْنَ حِجَارَةً يُرْمَى بِهَا وَلَا يَرَوْنَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَيَرَى الْإِنْسِيَّ وَاقِفًا عَلَى رَأْسِ الرُّمْحِ الطَّوِيلِ . وَإِنَّمَا الْوَاقِفُ هُوَ الشَّيْطَانُ وَيَرَى النَّاسُ نَارًا تُحْمَى . وَيَضَعُ فِيهَا الْفُؤُوسَ وَالْمَسَاحِيَ ثُمَّ إنَّ الْإِنْسِيَّ يَلْحَسُهَا بِلِسَانِهِ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ وَيَرَى النَّاسُ هَؤُلَاءِ يُبَاشِرُونَ الْحَيَّاتِ وَالْأَفَاعِيَ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَيَفْعَلُونَ مِنْ الْأُمُورِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِمَّا يَفْعَلُهُ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعُونَ الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ الْمُلَبِّسُونَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَإِنَّمَا هُمْ مِنْ أَعَادِيهِ الْمُضَيِّعِينَ لِفَرَائِضِهِ الْمُتَعَدِّينَ لِحُدُودِهِ . وَالْجُهَّالِ لِأَجْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ يَظُنُّوهُمْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ ؛ وَإِنَّمَا هَذِهِ الْأَحْوَالُ مِنْ جِنْسِ أَحْوَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ الْكَافِرِينَ وَالْفَاسِقِينَ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ وَلَا فِعْلِ الْمَحْظُورِ وَلَا إقَامَةِ مَشْيَخَةٍ تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَلَا أَنْ يُعْطِيَ رِزْقَهُ عَلَى مَشْيَخَةٍ يَخْرُجُ بِهَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنَّمَا يُعَانُ بِالْأَرْزَاقِ مَنْ قَامَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَدَعَا إلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ مُنْقَطِعٍ فِي بَيْتِهِ لَا يَخْرُجُ وَلَا يَدْخُلُ وَيُصَلِّي فِي بَيْتِهِ وَلَا يَشْهَدُ الْجَمَاعَةَ وَإِذَا خَرَجَ إلَى الْجُمْعَةِ يَخْرُجُ مُغَطَّى الْوَجْهِ ثُمَّ إنَّهُ يَخْتَرِعُ الْعِيَاطَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ وَتَجْتَمِعُ عِنْدَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ . فَهَلْ يُسَلَّمُ لَهُ حَالُهُ ؟ أَوْ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الطَّرِيقَةُ طَرِيقَةٌ بِدْعِيَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ . وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا يُعْبَدُ بِمَا شَرَعَ لَا يُعْبَدُ بِالْبِدَعِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } فَإِنَّ التَّعَبُّدَ بِتَرْكِ الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ بِحَيْثُ يَرَى أَنَّ تَرْكَهُمَا أَفْضَلُ مِنْ شُهُودِهِمَا مُطْلَقًا كُفْرٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ صَاحِبُهُ مِنْهُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يُعْبَدَ بِتَرْكِ الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ بَلْ يُعْبَدُ بِفِعْلِ الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَمَنْ جَعَلَ الِانْقِطَاعَ عَنْ ذَلِكَ دِينًا لَمْ يَكُنْ عَلَى دِينِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الرُّهْبَانِ الَّذِينَ يَتَخَلَّوْنَ بِالصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ وَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ الرِّيَاضَةِ أَوْ الشَّيَاطِينِ - بِتَقْرِيبِهِ إلَيْهِمْ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - نَوْعُ كَشْفٍ وَذَلِكَ لَا يُفِيدُهُ ؛ بَلْ هُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْخَلْقَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا

وَيَعْبُدُوهُ بِمَا شَرَعَ وَأَمَرَ أَنْ لَا يَعْبُدُوهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ . قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } . فَالسَّالِكُ طَرِيقَ الزَّهَادَةِ وَالْعِبَادَةِ إذَا كَانَ مُتَّبِعًا لِلشَّرِيعَةِ فِي الظَّاهِرِ وَقَصَدَ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ وَتَعْظِيمَ النَّاسِ لَهُ كَانَ عَمَلُهُ بَاطِلًا لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ . وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ } " . وَإِنْ كَانَ خَالِصًا فِي نِيَّتِهِ لَكِنَّهُ يَتَعَبَّدُ بِغَيْرِ الْعِبَادَاتِ الْمَشْرُوعَةِ : مِثْلُ الَّذِي يَصْمُتُ دَائِمًا أَوْ يَقُومُ فِي الشَّمْسِ أَوْ عَلَى السَّطْحِ دَائِمًا أَوْ يَتَعَرَّى مِنْ الثِّيَابِ دَائِمًا وَيُلَازِمُ لُبْسَ الصُّوفِ أَوْ لُبْسَ اللِّيفِ وَنَحْوِهِ أَوْ يُغَطِّي وَجْهَهُ أَوْ يَمْتَنِعُ مِنْ أَكْلِ الْخُبْزِ أَوْ اللَّحْمِ أَوْ شُرْبِ الْمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - كَانَتْ هَذِهِ الْعِبَادَاتُ بَاطِلَةً وَمَرْدُودَةً كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ } " . وَفِي رِوَايَةٍ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا أَبُو إسْرَائِيلَ نَذَرَ الصَّمْتَ وَالْقِيَامَ وَالْبُرُوزَ

لِلشَّمْسِ مَعَ الصَّوْمِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالصَّوْمِ وَحْدَهُ } لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ يُحِبُّهَا اللَّهُ تَعَالَى وَمَا عَدَاهُ لَيْسَ بِعِبَادَةِ وَإِنْ ظَنَّهَا الظَّانُّ تُقَرِّبُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : { إنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِهِ قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ وَلَا أَنَامُ وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَالُ رِجَالٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ : كَيْت وَكَيْت لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } " . فَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَا هُوَ جِنْسُهُ عِبَادَةً ؛ فَإِنَّ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ جِنْسُهُمَا عِبَادَةٌ وَتَرْكَ اللَّحْمِ وَالتَّزْوِيجِ جَائِزٌ لَكِنْ لَمَّا خَرَجَ فِي ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ فَالْتَزَمَ الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى الْمَشْرُوعِ وَالْتَزَمَ هَذَا تَرْكَ الْمُبَاحِ كَمَا يَفْعَلُ الرُّهْبَانُ تَبَرَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ فَعَلَ ذَلِكَ حَيْثُ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِ إلَى خِلَافِهَا وَقَالَ : { لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ } " فَكَيْفَ بِمَنْ يَرْغَبُ عَمَّا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الصَّلَاةُ فِي الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ غَيْرَ مَرَّةٍ : عَمَّنْ يَصُومُ

النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ وَلَا يَشْهَدُ جُمْعَةً وَلَا جَمَاعَةً . فَقَالَ : " هُوَ فِي النَّارِ " . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيَنْتَهِيَن أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَطْبَعَن اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لِيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ } وَقَالَ : { مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ } وَفِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ : " { إنَّ أَعْمَى قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي قَائِدًا لَا يُلَائِمُنِي فَهَلْ تَجِدُ لِي رُخْصَةً أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي قَالَ : هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَأَجِبْ . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : لَا أَجِدُ لَك رُخْصَةً } . وَ " الْجُمْعَةُ " فَرِيضَةٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَ " الْجَمَاعَةُ " وَاجِبَةٌ أَيْضًا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ بَلْ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَهَلْ هِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَقْوَاهُمَا كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَا صَلَاةَ لَهُ } . وَعِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ : أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ . وَ " أَحَدُ الْأَقْوَالِ " أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ صَلَاةَ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا

كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ أَنَّ مَنْ جَعَلَ صَلَاتَهُ وَحْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي جَمَاعَةٍ فَإِنَّهُ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِدِينِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذِهِ الْبِدَعُ يُذَمُّ أَصْحَابُهَا وَيُعْرَفُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَقَبَّلُهَا وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ بِهَا الْعِبَادَةَ كَمَا أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ عِبَادَةَ الرُّهْبَانِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يَجْتَهِدُونَ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُ بِمَا شَرَعَ ؛ بَلْ بِبِدْعَةِ ابْتَدَعُوهَا كَمَا قَالَ : { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا } فَإِنَّ الْمُتَعَبِّدَ بِهَذِهِ الْبِدَعِ قَصْدُهُ أَنْ يُعَظَّمَ وَيُزَارَ وَهَذَا عَمَلُهُ لَيْسَ خَالِصًا لِلَّهِ وَلَا صَوَابًا عَلَى السُّنَّةِ ؛ بَلْ هُوَ كَمَا يُقَالُ : زَغَلٌ وَنَاقِصٌ بِمَنْزِلَةِ لَحْمِ خِنْزِيرٍ مَيِّتٍ ؛ حَرَامٌ مِنْ وَجْهَيْنِ . وَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ الْتِزَامُ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَالْأَمْرِ بِذَلِكَ لِكُلِّ أَحَدٍ وَالنَّهْيِ عَنْ ضِدِّ ذَلِكَ لِكُلِّ أَحَدٍ وَالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ وَلَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ وَمَشَى عَلَى الْمَاءِ وَلَيْسَ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَحَدٌ يُقِرُّ عَلَى خِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ إنْ كَانَ مُقِرًّا بِالْإِسْلَامِ أَلْزَمَهُ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ الْوَاجِبَةِ وَشَرِيعَتِهِ الْهَادِيَةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُقِرٍّ بِالْإِسْلَامِ كَانَ كَافِرًا وَلَوْ كَانَ لَهُ مِنْ الزُّهْدِ وَالرُّهْبَانِ مَاذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ .

وَالْكَافِرُ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَلَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَلَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ وَيَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَى هَذَا الْمُبْتَدِعِ وَأَمْثَالِهِ بِحُسْنِ قَصْدٍ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَقْصُودُ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ لَا اتِّبَاعَ هَوًى وَلَا مُنَافَسَةَ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } . فَالْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً . فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } " فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ عُلُوَّ كَلِمَةِ اللَّهِ وَظُهُورَ دِينِ اللَّهِ . وَأَنْ يَعْلَمَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ أَنَّ مَا عَلَيْهِ الْمُبْتَدِعُونَ الْمُرَاءُونَ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ وَلَا مِنْ فِعْلِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ؛ بَلْ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَنْ تَوْحِيدِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَعَنْ طَاعَةِ رُسُلِهِ . وَ " أَصْلُ الْإِسْلَامِ " : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . فَمَنْ طَلَبَ بِعِبَادَاتِهِ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ فَلَمْ يُحَقِّقْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ

وَمَنْ خَرَجَ عَمَّا أَمَرَهُ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَتَعَبَّدَ بِالْبِدْعَةِ فَلَمْ يُحَقِّقْ شَهَادَةَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . وَإِنَّمَا يُحَقِّقُ هَذَيْنِ " الْأَصْلَيْنِ " مَنْ لَمْ يَعْبُدْ إلَّا اللَّهَ وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي بَلَّغَهَا عَنْ اللَّهِ فَإِنَّهُ قَالَ : { تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلِهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إلَّا هَالِكٌ } " وَقَالَ : " { مَا تَرَكْت مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ إلَى الْجَنَّةِ إلَّا قَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ وَلَا مِنْ شَيْءٍ يُبْعِدُكُمْ عَنْ النَّارِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ } " وَقَالَ { ابْنُ مَسْعُودٍ : خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا وَخَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَشَمَالِهِ ثُمَّ قَالَ : هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إلَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } } . فَالْعِبَادَاتُ والزهادات وَالْمَقَالَات والتورعات الْخَارِجَةُ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ - وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ : الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَسْأَلَهُ هِدَايَتَهُ وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ السُّنَّةُ - هِيَ سُبُلُ الشَّيْطَانِ وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ مِنْ الْخَوَارِقِ مَا كَانَ فَلَيْسَ أَحَدُهُمْ بِأَعْظَمَ مِنْ مُقَدَّمِهِمْ الدَّجَّالِ الَّذِي يَقُولُ لِلسَّمَاءِ : أَمْطِرِي فَتُمْطِرُ وَلِلْأَرْضِ أَنْبِتِي فَتُنْبِتُ وَلِلْخَرِبَةِ أَظْهِرِي كُنُوزَك فَتُخْرِجُ مَعَهُ كُنُوزَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ . وَهُوَ مَعَ هَذَا عَدُوُّ اللَّهِ كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ

يَحْزَنُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } فَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ وَالتَّقْوَى فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَمَنْ تَرَكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ وَاِتَّخَذَ عِبَادَةً نَهَى اللَّهُ عَنْهَا . كَيْفَ يَكُونُ مِنْ هَؤُلَاءِ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا } " الْحَدِيثَ . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إلَى اللَّهِ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ . وَالتَّقَرُّبُ بِالْوَاجِبَاتِ فَقَطْ طَرِيقُ الْمُقْتَصِدِينَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ثُمَّ التَّقَرُّبُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا أَحَبَّهُ اللَّهُ مِنْ النَّوَافِلِ هُوَ طَرِيقُ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ وَالْمَحْبُوبَاتُ هِيَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ : أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ دُونَ مَا اسْتَحَبَّهُ الرَّجُلُ بِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَّامَةُ الزَّمَانِ ، تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
عَنْ " جَمَاعَةٍ " يَجْتَمِعُونَ عَلَى قَصْدِ الْكَبَائِرِ : مِنْ الْقَتْلِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . ثُمَّ إنَّ شَيْخًا مِنْ الْمَشَايِخِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْخَيْرِ وَاتِّبَاعِ السُّنَّةِ قَصَدَ مَنْعَ الْمَذْكُورِينَ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ لَهُمْ سَمَاعًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ وَهُوَ بِدُفِّ بِلَا صَلَاصِلَ وَغِنَاءِ الْمُغَنِّي بِشِعْرِ مُبَاحٍ بِغَيْرِ شَبَّابَةٍ فَلَمَّا فَعَلَ هَذَا تَابَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ وَأَصْبَحَ مَنْ لَا يُصَلِّي وَيَسْرِقُ وَلَا يُزَكِّي يَتَوَرَّعُ عَنْ الشُّبُهَاتِ وَيُؤَدِّي الْمَفْرُوضَاتِ وَيَجْتَنِبُ الْمُحَرَّمَاتِ . فَهَلْ يُبَاحُ فِعْلُ هَذَا السَّمَاعِ لِهَذَا الشَّيْخِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَصَالِحِ ؟ مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ دَعْوَتُهُمْ إلَّا بِهَذَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَصْلُ جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا : أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا . وَأَنَّهُ أَكْمَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الدِّينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } . وَأَنَّهُ بَشَّرَ بِالسَّعَادَةِ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَالشَّقَاوَةِ لِمَنْ عَصَاهُ فَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } . وَأَمَرَ الْخَلْقَ أَنْ يَرُدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ مِنْ دِينِهِمْ إلَى مَا بَعَثَهُ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَدْعُو إلَى اللَّهِ وَإِلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } { صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } . وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ الْخَبَائِثَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا

لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَنَهَى عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ . وَأَحَلَّ كُلَّ طَيِّبٍ . وَحَرَّمَ كُلَّ خَبِيثٍ . وَثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : " { مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ } " وَثَبَتَ عَنْ { العرباض بْنِ سَارِيَةَ قَالَ : وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ . قَالَ : فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةَ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إلَيْنَا فَقَالَ : أُوصِيكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا . فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ . فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَا تَرَكْت مِنْ شَيْءٍ يُبْعِدُكُمْ عَنْ النَّارِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ } " . وَقَالَ : { تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلِهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ } " .

وَشَوَاهِدُ هَذَا " الْأَصْلِ الْعَظِيمِ الْجَامِعِ " مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْكُتُبِ . " كِتَابُ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ " كَمَا تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ والبغوي وَغَيْرُهُمَا فَمَنْ اعْتَصَمَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ وَكَانَ السَّلَفُ - كَمَالِكِ وَغَيْرِهِ - : يَقُولُونَ السُّنَّةُ كَسَفِينَةِ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ عُلَمَائِنَا يَقُولُونَ : الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ . إذَا عُرِفَ هَذَا فَمَعْلُومٌ أَنَّمَا يَهْدِي اللَّهُ بِهِ الضَّالِّينَ وَيُرْشِدُ بِهِ الْغَاوِينَ وَيَتُوبُ بِهِ عَلَى الْعَاصِينَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِلَّا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَكْفِي فِي ذَلِكَ لَكَانَ دِينُ الرَّسُولِ نَاقِصًا مُحْتَاجًا تَتِمَّةً . وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ . وَالْأَعْمَالُ الْفَاسِدَةُ نَهَى اللَّهُ عَنْهَا . وَالْعَمَلُ إذْ اشْتَمَلَ عَلَى مَصْلَحَةٍ وَمَفْسَدَةٍ فَإِنَّ الشَّارِعَ حَكِيمٌ . فَإِنْ غَلَبَتْ مَصْلَحَتُهُ عَلَى مَفْسَدَتِهِ شَرَعَهُ وَإِنْ غَلَبَتْ مَفْسَدَتُهُ عَلَى مَصْلَحَتِهِ لَمْ يُشَرِّعْهُ ؛ بَلْ نَهَى عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ

عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } وَلِهَذَا حَرَّمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ . وَهَكَذَا مَا يَرَاهُ النَّاسُ مِنْ الْأَعْمَالِ مُقَرِّبًا إلَى اللَّهِ وَلَمْ يُشَرِّعْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ضَرَرُهُ أَعْظَمَ مِنْ نَفْعِهِ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ نَفْعُهُ أَعْظَمَ غَالِبًا عَلَى ضَرَرِهِ لَمْ يُهْمِلْهُ الشَّارِعُ ؛ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكِيمٌ لَا يُهْمِلُ مَصَالِحَ الدِّينِ وَلَا يُفَوِّتُ الْمُؤْمِنِينَ مَا يُقَرِّبُهُمْ إلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ . إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَنَقُولُ لِلسَّائِلِ : إنَّ الشَّيْخَ الْمَذْكُورَ قَصَدَ أَنْ يتوب الْمُجْتَمِعِينَ عَلَى الْكَبَائِرِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ إلَّا بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْبِدْعِيِّ . يَدُلُّ أَنَّ الشَّيْخَ جَاهِلٌ بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي بِهَا تَتُوبُ الْعُصَاةُ أَوْ عَاجِزٌ عَنْهَا فَإِنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يَدْعُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي أَغْنَاهُمْ اللَّهُ بِهَا عَنْ الطُّرُقِ الْبِدْعِيَّةِ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ لَيْسَ فِي الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا نَبِيَّهُ مَا يَتُوبُ بِهِ الْعُصَاةُ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ وَالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّهُ قَدْ تَابَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ مَنْ لَا يُحْصِيه إلَّا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْأُمَمِ بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَا ذُكِرَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ الْبِدْعِيِّ ؛

بَلْ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ - وَهُمْ خَيْرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ - تَابُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ لَا بِهَذِهِ الطُّرُقِ الْبِدْعِيَّةِ . وَأَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ وَقُرَاهُمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مَمْلُوءَةٌ مِمَّنْ تَابَ إلَى اللَّهِ وَاتَّقَاهُ وَفَعَلَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ لَا بِهَذِهِ الطُّرُقِ الْبِدْعِيَّةِ . فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالُ : إنَّ الْعُصَاةَ لَا تُمْكِنُ تَوْبَتُهُمْ إلَّا بِهَذِهِ الطُّرُقِ الْبِدْعِيَّةِ بَلْ قَدْ يُقَالُ : إنَّ فِي الشُّيُوخِ مَنْ يَكُونُ جَاهِلًا بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ عَاجِزًا عَنْهَا لَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا يُخَاطِبُ بِهِ النَّاسَ وَيُسْمِعُهُمْ إيَّاهُ مِمَّا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَيَعْدِلُ هَذَا الشَّيْخُ عَنْ الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ إلَى الطُّرُقِ الْبِدْعِيَّةِ . إمَّا مَعَ حُسْنِ الْقَصْدِ . إنْ كَانَ لَهُ دِينٌ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُ التَّرَؤُّسَ عَلَيْهِمْ وَأَخْذَ أَمْوَالِهِمْ بِالْبَاطِلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } فَلَا يَعْدِلُ أَحَدٌ عَنْ الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ إلَى الْبِدْعِيَّةِ إلَّا لِجَهْلِ أَوْ عَجْزٍ أَوْ غَرَضٍ فَاسِدٍ . وَإِلَّا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ سَمَاعَ الْقُرْآنِ هُوَ سَمَاعُ النَّبِيِّينَ وَالْعَارِفِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ . قَالَ تَعَالَى فِي النَّبِيِّينَ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } .

وَقَالَ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ أَهْلِ الْعِلْمِ : { إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا } { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } . وَقَالَ فِي الْمُؤْمِنِينَ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ } . وَبِهَذَا السَّمَاعِ هَدَى اللَّهُ الْعِبَادَ وَأَصْلَحَ لَهُمْ أَمْرَ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَبِهِ بُعِثَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهِ أَمَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ . وَعَلَيْهِ كَانَ يَجْتَمِعُ السَّلَفُ كَمَا كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ اجْتَمَعُوا أَمَرُوا رَجُلًا مِنْهُمْ أَنْ يَقْرَأَ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ لِأَبِي مُوسَى : ذَكِّرْنَا رَبَّنَا فَيَقْرَأُ أَبُو مُوسَى وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَرَّ بِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ يَقْرَأُ فَجَعَلَ يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ . وَقَالَ : لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا

مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد . وَقَالَ : مَرَرْت بِك الْبَارِحَةَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ فَجَعَلْت أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِك فَقَالَ : لَوْ عَلِمْت أَنَّك تَسْمَعُنِي لَحَبَّرْته لَك تَحْبِيرًا } . أَيْ لَحَسَّنْته لَك تَحْسِينًا . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ : اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ فَقَالَ : أَقْرَأُ عَلَيْك الْقُرْآنَ وَعَلَيْك أُنْزِلَ ؟ فَقَالَ : إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي . قَالَ : فَقَرَأْت عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى وَصَلْت إلَى هَذِهِ الْآيَةِ : { فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } قَالَ لِي : حَسْبُك فَنَظَرْت إلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ مِنْ الْبُكَاءِ } " وَعَلَى هَذَا السَّمَاعِ كَانَ يَجْتَمِعُ الْقُرُونُ الَّذِينَ أَثْنَى عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { خَيْرُ الْقُرُونِ الَّذِينَ بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } . وَلَمْ يَكُنْ فِي السَّلَفِ الْأَوَّلِ سَمَاعٌ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْخَيْرِ إلَّا هَذَا . لَا بِالْحِجَازِ وَلَا بِالْيَمَنِ وَلَا بِالشَّامِ وَلَا بِمِصْرِ ؛ وَالْعِرَاقِ ؛ وَخُرَاسَانَ وَالْمَغْرِبِ . وَإِنَّمَا حَدَثَ السَّمَاعُ الْمُبْتَدَعُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ أَهْلَ هَذَا السَّمَاعِ الْمُقْبِلِينَ عَلَيْهِ . وَذَمَّ الْمُعْرِضِينَ عَنْهُ . وَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَبَبُ الرَّحْمَةِ . فَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ

قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ } { فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا } { قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } . وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ يَأْمُرُ النَّاسَ بِاتِّبَاعِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَيَأْمُرُهُمْ بِسَمَاعِ ذَلِكَ . وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى السَّمَاعَ لِلْمُسْلِمِينَ : فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ . قَالَ تَعَالَى : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } وَبِهَذَا مَدَحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ النَّبِيَّ حَيْثُ قَالَ :
وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ * * * إذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنْ الْفَجْرِ سَاطِعُ
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ * * * إذْ اسْتَثْقَلَتْ بِالْكَافِرِينَ الْمَضَاجِعُ

أَتَى بِالْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّمَا قَالَ وَاقِعُ وَأَحْوَالُ أَهْلِ هَذَا السَّمَاعِ مَذْكُورَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ وَجِلِ الْقُلُوبِ وَدَمْعِ الْعُيُونِ وَاقْشِعْرَارِ الْجُلُودِ . وَإِنَّمَا حَدَثَ سَمَاعُ الْأَبْيَاتِ بَعْدَ هَذِهِ الْقُرُونِ فَأَنْكَرَهُ الْأَئِمَّةُ حَتَّى قَالَ : الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خَلَّفْت بِبَغْدَادَ شَيْئًا أَحْدَثَتْهُ الزَّنَادِقَةُ يُسَمُّونَهُ التَّغْبِيرَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُرَقِّقُ الْقُلُوبَ يَصُدُّونَ بِهِ النَّاسَ عَنْ الْقُرْآنِ . وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْهُ فَقَالَ : مُحْدَثٌ فَقِيلَ لَهُ : أَنَجْلِسُ مَعَهُمْ فِيهِ ؟ فَقَالَ : لَا يَجْلِسُ مَعَهُمْ . وَالتَّغْبِيرُ هُوَ الضَّرْبُ بِالْقَضِيبِ عَلَى جُلُودِهِمْ مِنْ أَمْثَلِ أَنْوَاعِ السَّمَاعِ . وَقَدْ كَرِهَهُ الْأَئِمَّةُ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ وَالْأَئِمَّةُ الْمَشَايِخُ الْكِبَارُ لَمْ يَحْضُرُوا هَذَا السَّمَاعَ الْمُحْدَثَ مِثْلُ الْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي وَالسَّرِيّ السقطي وَأَمْثَالِهِمْ . وَلَا أَكَابِرُ الشُّيُوخِ الْمُتَأَخِّرِينَ : مِثْلُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَالشَّيْخِ عَدِيٍّ وَالشَّيْخِ أَبِي مَدْيَنَ وَالشَّيْخِ أَبِي الْبَيَانِ وَالشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ الحوفي وَالشَّيْخِ عَلِيِّ بْنِ وَهْبٍ وَالشَّيْخِ حَيَاةَ وَأَمْثَالِهِمْ . وَطَائِفَةٌ مِنْ الشُّيُوخِ حَضَرُوهُ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْهُ . وَسُئِلَ الْجُنَيْد عَنْهُ فَقَالَ : مَنْ تَكَلَّفَ السَّمَاعَ فُتِنَ بِهِ وَمَنْ صَادَفَهُ السَّمَاعُ اسْتَرَاحَ بِهِ . فَبَيَّنَ

الْجُنَيْد أَنَّ قَاصِدَ هَذَا السَّمَاعِ صَارَ مَفْتُونًا وَأَمَّا مَنْ سَمِعَ مَا يُنَاسِبُهُ بِغَيْرِ قَصْدٍ فَلَا بَأْسَ . فَإِنَّ النَّهْيَ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ إلَى الِاسْتِمَاعِ دُونَ السَّمَاعِ وَلِهَذَا لَوْ مَرَّ الرَّجُلُ بِقَوْمِ يَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامِ مُحَرَّمٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ سَدُّ أُذُنَيْهِ ؛ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَمِعَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ عُمَرَ بِسَدِّ أُذُنَيْهِ لَمَّا سَمِعَ زَمَّارَةَ الرَّاعِي ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَمِعًا بَلْ سَامِعًا .
وَقَوْلُ السَّائِلِ وَغَيْرِهِ : هَلْ هُوَ حَلَالٌ ؟ أَوْ حَرَامٌ ؟ لَفْظٌ مُجْمَلٌ فِيهِ تَلْبِيسٌ يَشْتَبِهُ الْحُكْمُ فِيهِ حَتَّى لَا يُحْسِنَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفْتِينَ تَحْرِيرَ الْجَوَابِ فِيهِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي السَّمَاعِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ هَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ ؟ أَوْ غَيْرُ مُحَرَّمٍ ؟ بَلْ يَفْعَلُ كَمَا يَفْعَلُ سَائِرَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَلْتَذُّ بِهَا النُّفُوسُ وَإِنْ كَانَ فِيهَا نَوْعٌ مِنْ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ كَسَمَاعِ الْأَعْرَاسِ وَغَيْرِهَا . مِمَّا يَفْعَلُهُ النَّاسُ لِقَصْدِ اللَّذَّةِ وَاللَّهْوِ لَا لِقَصْدِ الْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي أَنْ يَفْعَلَ عَلَى وَجْهِ الدِّيَانَةِ وَالْعِبَادَةِ وَصَلَاحِ الْقُلُوبِ وَتَجْرِيدِ حُبِّ الْعِبَادِ لِرَبِّهِمْ وَتَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ وَتَطْهِيرِ قُلُوبِهِمْ

وَأَنْ تُحَرَّكَ مِنْ الْقُلُوبِ الْخَشْيَةُ وَالْإِنَابَةُ وَالْحُبُّ وَرِقَّةُ الْقُلُوبِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ لَا مِنْ جِنْسِ اللَّعِب وَالْمُلْهِيَاتِ . فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ سَمَاعِ الْمُتَقَرِّبِينَ وَسَمَاعِ الْمُتَلَعِّبِينَ وَبَيْنَ السَّمَاعِ الَّذِي يَفْعَلُهُ النَّاسُ فِي الْأَعْرَاسِ وَالْأَفْرَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْعَادَاتِ وَبَيْن السَّمَاعِ الَّذِي يُفْعَلُ لِصَلَاحِ الْقُلُوبِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى رَبِّ السَّمَوَاتِ فَإِنَّ هَذَا يُسْأَلُ عَنْهُ : هَلْ هُوَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ ؟ وَهَلْ هُوَ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ ؟ وَهَلْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَفْعَلُوهُ لِمَا فِيهِ مِنْ رِقَّةِ قُلُوبِهِمْ وَتَحْرِيكِ وَجْدِهِمْ لِمَحْبُوبِهِمْ وَتَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ وَإِزَالَةِ الْقَسْوَةِ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الَّتِي تُقْصَدُ بِالسَّمَاعِ ؟ كَمَا أَنَّ النَّصَارَى يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا السَّمَاعِ فِي كَنَائِسِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ لَا عَلَى وَجْهِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ . إذَا عُرِفَ هَذَا فَحَقِيقَةُ السُّؤَالِ : هَلْ يُبَاحُ لِلشَّيْخِ أَنْ يَجْعَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي هِيَ : إمَّا مُحَرَّمَةٌ ؟ أَوْ مَكْرُوهَةٌ ؟ أَوْ مُبَاحَةٌ ؟ قُرْبَةً وَعِبَادَةً وَطَاعَةً وَطَرِيقَةً إلَى اللَّهِ يَدْعُو بِهَا إلَى اللَّهِ ويتوب الْعَاصِينَ وَيُرْشِدُ بِهِ الْغَاوِينَ وَيَهْدِي بِهِ الضَّالِّينَ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الدِّينَ لَهُ " أَصْلَانِ " فَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَ اللَّهُ وَلَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى عَابَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَشَرَعُوا دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ .

وَلَوْ سُئِلَ الْعَالِمُ عَمَّنْ يَعْدُو بَيْنَ جَبَلَيْنِ : هَلْ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ فَإِذَا قِيلَ : إنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ كَمَا يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا والمروة قَالَ : إنَّ فِعْلَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَرَامٌ مُنْكَرٌ يُسْتَتَابُ فَاعِلُهُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَلَوْ سُئِلَ : عَنْ كَشْفِ الرَّأْسِ وَلُبْسِ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ : أَفْتَى بِأَنَّ هَذَا جَائِزٌ فَإِذَا قِيلَ : إنَّهُ يَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِحْرَامِ . كَمَا يُحْرِمُ الْحَاجُّ . قَالَ : إنَّ هَذَا حَرَامٌ مُنْكَرٌ . وَلَوْ سُئِلَ : عَمَّنْ يَقُومُ فِي الشَّمْسِ . قَالَ : هَذَا جَائِزٌ . فَإِذَا قِيلَ : إنَّهُ يَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ . قَالَ : هَذَا مُنْكَرٌ كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ . فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا أَبُو إسْرَائِيلَ يُرِيدُ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ وَلَا يَقْعُدَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَجْلِسْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ } " فَهَذَا لَوْ فَعَلَهُ لِرَاحَةِ أَوْ غَرَضٍ مُبَاحٍ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ ؛ لَكِنْ لَمَّا فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ نُهِيَ عَنْهُ . وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ الرَّجُلُ إلَى بَيْتِهِ مِنْ خَلْفِ الْبَيْتِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَكِنْ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عِبَادَةٌ ، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ :

كَانَ أَحَدُهُمْ إذَا أَحْرَمَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ سَقْفٍ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِبِرٍّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا فَمَنْ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ كَانَ عَاصِيًا مَذْمُومًا مُبْتَدِعًا وَالْبِدْعَةُ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَاصِيَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَاصٍ فَيَتُوبُ وَالْمُبْتَدِعُ يَحْسَبُ أَنَّ الَّذِي يَفْعَلُهُ طَاعَةٌ فَلَا يَتُوبُ . وَلِهَذَا مَنْ حَضَرَ السَّمَاعَ لِلَّعِبِ وَاللَّهْوِ لَا يَعُدُّهُ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ وَلَا يَرْجُو بِهِ الثَّوَابَ وَأَمَّا مَنْ فَعَلَهُ عَلَى أَنَّهُ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَتَّخِذُهُ دِينًا وَإِذَا نَهَى عَنْهُ كَانَ كَمَنْ نَهَى عَنْ دِينِهِ وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ انْقَطَعَ عَنْ اللَّهِ وَحَرُمَ نَصِيبُهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إذَا تَرَكَهُ . فَهَؤُلَاءِ ضُلَّالٌ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ : إنَّ اتِّخَاذَ هَذَا دِينًا وَطَرِيقًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَمْرٌ مُبَاحٌ ؛ بَلْ مَنْ جَعَلَ هَذَا دِينًا وَطَرِيقًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ ضَالٌّ مُفْتَرٍ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ نَظَرَ إلَى ظَاهِرِ الْعَمَلِ وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْظُرْ إلَى فِعْلِ الْعَامِلِ وَنِيَّتِهِ كَانَ جَاهِلًا مُتَكَلِّمًا فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ . فَالسُّؤَالُ عَنْ مِثْلِ هَذَا أَنْ يُقَالَ : هَلْ مَا يَفْعَلُهُ هَؤُلَاءِ طَرِيقٌ وَقُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُثَابُونَ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا قُرْبَةً وَطَاعَةً وَعِبَادَةً لِلَّهِ فَفَعَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ قُرْبَةٌ

وَطَاعَةٌ وَعِبَادَةٌ وَطَرِيقٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . هَلْ يَحِلُّ لَهُمْ هَذَا الِاعْتِقَادُ ؟ وَهَذَا الْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ؟ وَإِذَا كَانَ السُّؤَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَكُنْ لِلْعَالِمِ الْمُتَّبِعِ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقُولَ : إنَّ هَذَا مِنْ الْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ وَأَنَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ وَأَنَّهُ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَرِيقِهِ الَّذِي يَدْعُو بِهِ هَؤُلَاءِ إلَيْهِ وَلَا أَنَّهُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عِبَادَهُ : لَا أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْوَاجِبَاتِ والمستحبات فَلَيْسَ هُوَ مَحْمُودًا وَلَا حَسَنَةً وَلَا طَاعَةً وَلَا عِبَادَةً بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . فَمَنْ فَعَلَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْوَاجِبِ أَوْ الْمُسْتَحَبِّ فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ وَفِعْلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَرَامٌ بِلَا رَيْبٍ . لَا سِيَّمَا كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ هَذَا السَّمَاعَ الْمُحْدَثَ طَرِيقًا يُقَدِّمُونَهُ عَلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَجْدًا وَذَوْقًا . وَرُبَّمَا قَدَّمُوهُ عَلَيْهِ اعْتِقَادًا فَتَجِدُهُمْ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ بِقُلُوبِ لَاهِيَةٍ وَأَلْسُنٍ لَاغِيَةٍ وَحَرَكَاتٍ مُضْطَرِبَةٍ وَأَصْوَاتٍ لَا تُقْبِلُ عَلَيْهِ قُلُوبُهُمْ وَلَا تَرْتَاحُ إلَيْهِ نُفُوسُهُمْ فَإِذَا سَمِعُوا " الْمُكَاءَ " وَ " التَّصْدِيَةَ " أَصْغَتْ الْقُلُوبُ وَاتَّصَلَ الْمَحْبُوبُ بِالْمُحِبِّ وَخَشَعَتْ الْأَصْوَاتُ وَسَكَنَتْ الْحَرَكَاتُ فَلَا سَعْلَةَ وَلَا عُطَاسَ وَلَا لَغَطَ وَلَا صِيَاحَ وَإِنْ قَرَءُوا شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ سَمِعُوهُ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّكَلُّفِ وَالسُّخْرَةِ كَمَا لَا يَسْمَعُ الْإِنْسَانُ مَا لَا حَاجَةَ لَهُ بِهِ

وَلَا فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ حَتَّى إذَا مَا سَمِعُوا مِزْمَارَ الشَّيْطَانِ أَحَبُّوا ذَلِكَ وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ وَعَكَفَتْ أَرْوَاحُهُمْ عَلَيْهِ . فَهَؤُلَاءِ جُنْدُ الشَّيْطَانِ وَأَعْدَاءُ الرَّحْمَنِ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَحَالُهُمْ أَشْبَهُ بِحَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ الْمُنَافِقِينَ ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يُحِبُّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُبْغِضُ مَا أَبْغَضَ اللَّهُ تَعَالَى وَيُوَالِي أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُعَادِي أَعْدَاءَ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ مَا أَبْغَضَ اللَّهُ وَيُبْغِضُونَ مَا أَحَبَّ اللَّهُ وَيُوَالُونَ أَعْدَاءَ اللَّهِ وَيُعَادُونَ أَوْلِيَاءَهُ ؛ وَلِهَذَا يَحْصُلُ لَهُمْ تنزلات شَيْطَانِيَّةٌ بِحَسَبِ مَا فَعَلُوهُ مِنْ مَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ وَكُلَّمَا بَعُدُوا عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَطَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ قَرُبُوا مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجُنْدِ الشَّيْطَانِ . فِيهِمْ مَنْ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَالشَّيْطَانُ طَائِرٌ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَصْرَعُ الْحَاضِرِينَ وَشَيَاطِينُهُ تَصْرَعُهُمْ وَفِيهِمْ مَنْ يُحْضِرُ طَعَامًا وَإِدَامًا . وَيَمْلَأُ الْإِبْرِيقَ مِنْ الْهَوَاءِ وَالشَّيَاطِينِ فَعَلَتْ ذَلِكَ . فَيَحْسَبُ الْجَاهِلُونَ أَنَّ هَذِهِ مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ جِنْسِ أَحْوَالِ الْكَهَنَةِ وَالسَّحَرَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الشَّيَاطِينِ وَمَنْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ والنفسانية والشيطانية لَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى " مَسْأَلَةِ السَّمَاعِ " وَذَكَرْنَا كَلَامَ الْمَشَايِخِ فِيهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
قَدْ كَتَبْت فِيمَا تَقَدَّمَ : الْكَلَامَ فِي " الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ " وَأَنَّهَا عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ " فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ . وَكَذَلِكَ " السَّمَاعُ وَالْمُخَاطَبَاتُ وَالْمُحَادَثَاتُ " ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ . فَإِنَّ " السَّامِعَ " إمَّا أَنْ يَسْمَعَ نَفْسَ الصَّوْتِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ الصَّوْتِيُّ أَوْ غَيْرُ كَلَامِهِ . كَمَا تَرَى عَيْنُهُ وَإِمَّا أَنْ يَسْمَعَ صَدَى الصَّوْتِ وَرَجْعَهُ كَمَا يَرَى تِمْثَالَهُ فِي مَاءٍ أَوْ مِرْآةٍ فَهَذِهِ رُؤْيَةٌ مُقَيَّدَةٌ وَسَمَاعٌ مُقَيَّدٌ كَمَا يُقَالُ : رَأَيْته فِي الْمِرْآةِ لَكِنَّ السَّمْعَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ . وَإِمَّا أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ : يَعْنِي كَلَامَهُ فِي أَصْوَاتٍ مَسْمُوعَةٍ كَمَا يَتَمَثَّلُ لَهُ فِي صُورَةٍ فَيَرَاهَا . مِثْلُ أَنْ يَنْقُرَ بِيَدِهِ نَقَرَاتٍ أَوْ يَضْرِبَ بِيَدِهِ أَوْتَارًا أَوْ يُظْهِرَ أَصْوَاتًا مُنْفَصِلَةً عَنْهُ يُبَيِّنُ فِيهَا مَقْصُودَهُ .

وَكَذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ : إمَّا أَنْ يَسْمَعَ فِي الْمَنَامِ أَوْ فِي الْيَقَظَةِ نَفْسَ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ . مِثْلُ الْمَلَائِكَةِ مَثَلًا كَمَا يَرَى بِقَلْبِهِ عَيْنَ مَا يُكْشَفُ لَهُ فِي الْمَنَامِ وَالْيَقَظَةِ . وَإِمَّا أَنْ يَسْمَعَ مِثَالَ كَلَامِهِ فِي نَفْسِهِ كَمَا يَرَى مِثَالَهُ فِي نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ الرُّؤْيَا الَّتِي يَكُونُ تَعْبِيرُهَا عَيْنَ مَا رُئِيَ وَإِمَّا أَنْ تَتَمَثَّلَ لَهُ الْمَعَانِي فِي صُورَةِ كَلَامٍ مَسْمُوعٍ يَحْتَاجُ إلَى تَعْبِيرٍ . كَمَا تَتَمَثَّلُ لَهُ الْأَعْيَانُ فِي صُورَةِ أَشْخَاصٍ مَرْئِيَّةٍ تَحْتَاجُ إلَى تَعْبِيرٍ . وَهَذَا غَالِبُ مَا يُرَى وَيُسْمَعُ فِي الْمَنَامِ . فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِعَارَةِ وَالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ . فَهَذَا هَذَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
فِي الْكَوْنِ يَقَظَةً وَمَنَامًا : لَمَّا كَانَتْ الرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ لِلْأَشْيَاءِ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : رُؤْيَةُ الْعَيْنِ الشَّيْءَ بِلَا وَاسِطَةٍ وَهِيَ الرُّؤْيَةُ الْمُطْلَقَةُ . مِثْلُ رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } " وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ هَلْ الرُّؤْيَةُ انْطِبَاعُ الْمَرْئِيِّ فِي الْعَيْنِ أَوْ لِانْعِكَاسِ شُعَاعِ الْبَصَرِ أَوْ لَا لِوَاحِدِ مِنْهُمَا . عَلَى أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131