كتاب :روضة الطالبين وعمدة المفتين
المؤلف : أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي

ولبسه ففيه الوجهان لكن الأصح هنا لا يحنث كما سيأتي في نظائره إن شاء الله تعال
فإن قلنا لا يحنث فأعاد الهيئة الأولى ففي الحنث الوجهان في الدار تعاد بعد الانهدام بذلك النقص
ولو كان قال في يمينه لا ألبس هذا القميص أو الثوب قميصا أو هذا الثوب أو الرداء رداء فإن تقمص بالقميص أو ارتدى بالرداء حنث وإن اتزر بالقميص أو تعمم بالرداء لم يحنث
وكذا لو اتخذ من القميص غير قميص ومن الرداء غير رداء ثم لبسهما ولو قال لا ألبسه وهو قميص فارتدى به أو تعمم أو اتزر حنث لأنه لبس وهو قميص وإن اتخذ منه غير القميص ولبسه لم يحنث

فرع الوجهان فيمن قال لا ألبس هذا القميص فاتخذ منه غيره ولبسه
يجريان في صور
منها لو أشار إلى صبرة حنطة وقال لا آكل هذه حنث بأكلها على هيئتها وبأكلها بعد الطحن والعجن والخبز والطبخ
ولو قال لا آكل حنطة لم يحنث بالخبز والعجين والدقيق والسويق ويحنث بأكل الحنطة نيئة ومقلية ومطبوخة ومبلولة
ولو قال لا آكل هذه الحنطة حنث بأكلها نيئة فقط ومطبوخة وهل يحنث بأكل دقيقها وسويقها وعجينها وخبزها وجهان
أصحهما لا وبه قطع بعضهم لزوال اسم الحنطة فصار كما لو زرعها وأكل حشيشها
أو قال لا آكل هذا البيض فصار فرخا فأكله فلو قال لا آكل من هذه الحنطة فكذلك الحكم إلا أن هنا يحنث بأكل بعضها
وحكي وجه أنه إذا قال من هذه الحنطة حنث بأكل كل ما يتخذ منها
ولو قال لا آكل هذا الدقيق فأكل عجينه أو خبزه أو هذا العجين فأكل خبزه فعلى الخلاف

ومنها لو قال لا آكل هذا الحيوان فذبحه وأكله حنث لأن الحيوان هكذا يؤكل وهو كما لو حلف لا يلبس هذا الغزل فلبس ثوبا نسج منه حنث
ولو قال لا آكل لحم هذه السخلة أو الخروف فصار كبشا فذبحه وأكله فمن قال في مسألة الحنطة يحنث قال هنا يحنث ومن قال هناك لا يحنث قال هنا وجهان أصحهما لا يحنث ويجري الوجهان فيما لو قال لا أكلم هذا الصبي فكلمه بعد مصيره شابا أو هذا الشاب فكلمه بعد مصيره شيخا
ومنها لو قال لا أكلم هذا وأشار إلى عبد فعتق ثم كلمه حنث ولو قال لا أكلم هذا العبد فعتق فهو كمسألة السخلة
ومنها لو قال لا آكل هذا الرطب فصار تمرا أو هذا البسر فصار رطبا أو العنب فصار زبيبا أو لا أشرب هذا العصير فصار خمرا أو هذا الخمر فصار خلا أو لا آكل هذا التمر فاتخذ منه عصيدة ثم أكل أو شرب ففيه هذا الخلاف وذكر الصيدلاني أن الشافعي رحمه الله نص على عدم الحنث في مسألة الحنطة والتمر وعلى الحنث في الصبي والسخلة
فقيل قولان وقيل بتقرير النصين
والفرق من وجهين أحدهما أن مسألة الحنطة والتمر تبدل الاسم وفي السخلة والصبي تبدل الصفة وتبدل الصفة لا يسقط الحنث والثاني أن التبدل في الأول بمعالجة بخلاف الثاني

فرع حلف لا يلبس الخاتم فجعله في غير الخنصر من أصابعه فعن
في الجامع أنه لا يحنث وتابعه البغوي وقاسه على ما لو حلف لا يلبس القلنسوة فجعلها في رجله والذي حكاه الروياني عن الأصحاب أنه يحنث
الثامنة حلف لا يخرج فلان إلا بإذنه فأذن بحيث لم

يسمح المأذون له ولم يعلم وخرج فطريقان المذهب والمنصوص والذي قطع به الجمهور لا يحنث لأن الإذن والرضى قد حصل
وقيل وجهان وقيل قولان منصوص ومخرج انه يحنث وهو مخرج من مسألة عزل الوكيل
وعلى هذا الخلاف ما لو قال لزوجته إن خرجت بغير إذني فأنت طالق فأذن وخرجت وهي جاهلة بالإذن فينبغي أن يشهد على الإذن ليثبته عند التنازع
فإن لم تكن بينة فهي المصدقة بيمينها في إنكار الإذن
وفي كتاب ابن كج أن الزوج هو المصدق كما لو أنكر أصل التعليق
ثم قال الشافعي رحمه الله الورع أن يحنث نفسه وليس معناه أن يعدها مطلقة من غير أن يطلقها لأنا حكمنا بأنها زوجته فكيف تنكح غيره بل إن كان علق الطلاق الثلاث فالورع أن يطلقها ثلاثا وإن كان المعلق طلقة رجعية وأراد إمساكها راجعها وإلا طلقها لتحل للأزواج فإن راجعها ثم طلقها طلقتين فالورع أن لا ينكحها إلا بعد زوج وإذا نكحها بعد زوج كانت عنده بطلقة فإن طلقها لم تحل إلا بزوج لأنه لم يقع عليها بالخروج شىء وقد طلقها بعده ثلاثا والزوج الثاني قبل استيفاء الثلاث لا أثر له

فرع حلف لا يخرج فلان بغير إذنه أو إلا بإذنه فخرج بغير
وإن خرج بإذنه لم يحنث
وعلى التقديرين تنحل اليمين حتى لو خرج بعد ذلك بإذن أو بغير إذن لم يحنث
وكذا لو قال لزوجته إن خرجت بغير إذني أو إلا بإذني فأنت طالق إن خرجت بغير إذنه طلقت وإن خرجت بالإذن لم تطلق وتنحل اليمين

على التقديرين
وكذا الحكم لو قال إن خرجت حتى آذن لك أو إلى أن آذن لك أو إلا أن آذن لك فأنت طالق
وحكي قول أو وجه وهو اختيار المزني والقفال أنه لا تنحل اليمين بخروجها بالإذن كما لو قال إن خرجت لابسة للحرير فأنت طالق فخرجت غير لابسة لا تنحل اليمين حتى لو خرجت بعده لابسة طلقت والمذهب الأول وهو المنصوص لأن اليمين تعلقت بخرجة واحدة وهي الأولى
قال البغوي ومقتضى هذا أنه لو قال إن خرجت غير لابسة للحرير أو لابسة فأنت طالق فخرجت لابسة تنحل اليمين وهذه يخالف قول الغزالي لو قال إن خرجت بلا خف فأنت طالق فخرجت بخف لا تنحل اليمين وفرق بينه وبين مسألة الإذن بفرق ضعيف فالوجه التسوية بين الصورتين كما ذكره البغوي
ولو قال كلما خرجت أو كل وقت خرجت بغير إذني فأنت طالق فخرجت مرة بالإذن لم تنحل اليمين لأنها صيغة تكرار
فلو قال أذنت لك في الخروج كلما أردت أغناه ذلك عن تجديد الإذن لكل خرجة
ولو قال متى خرجت أو متى ما أو مهما أو أي وقت أو أي حين فالحكم كما لو قال إن خرجت لأن هذه الصيغ لا تقتضي التكرار
وفي الرقم للعبادي إلحاق متى ما ومهما ب كلما وهو خلاف نصه في الأم
ولو قال إن خرجت أبدا إلا بإذني فأنت طالق لم يلزم التكرار أيضا بل معناه في أي وقت خرجت قريب أم بعيد وإذا علق الطلاق كما صورنا ثم أذن لها في الخروج ثم رجع عن الإذن وخرجت بعده نص في الأم أنها لا تطلق لأن الإذن قد وجد فزال حكم اليمين والمنع بعده لا يفيد
ورأى أبو بكر الفارسي والمحققون تنزيل النص على ما إذا قال في التعليق حتى آذن لك لأنه جعل إذنه غاية اليمين وقد حصل الإذن فأما إذا قال بغير إذني أو إلا بإذني

فإذا رجع ثم خرجت فهذا خروج بغير إذن وهو أول ما وجد بعد اليمين فيقع الطلاق
ومنهم من قال قوله إلا بإذني محتمل أيضا للغاية فيحمل عليها
ولو قال إن خرجت بغير إذني لغير عيادة فأنت طالق فخرجت لعيادة ثم عرضت حاجة فاشتغلت بها لم تطلق
وإن خرجت لعيادة وغيرها
فالمذكور في الشامل منسوبا إلى نصه في الأم أنه لا يحنث وذكر البغوي أنه الأصح
ويشبه أن يقال إن كان المقصود بقوله لغير عيادة ما هو بمعزل عنها لم يحنث وهذا هو السابق إلى الفهم منه وإن كان المقصود ما يغايره في الحقيقة فمجموع العيادة والحاجة الأخرى يغاير مجرد العيادة
قلت الصواب الجزم بأنه لا يحنث
والله أعلم
وإن قال إن خرجت إلا لعيادة فينبغي أن يحنث لأنه يصدق أن يقال لم تخرج للعيادة بل لها ولغيرها
النوع الخامس في الكلام وفيه مسائل إحداها إذا قال والله لا أكلمك فتنح عني أو قم أو اخرج أو شتمه أو زجره حنث سواء عقب هذا لليمين متصلا أم فصله لأنه كلمه
وقيل لا يحنث إذا وصله لأن المقصود به تأكيد اليمين والصحيح الأول
ولو كتب إليه كتابا أو أرسل رسولا فقولان الجديد لا يحنث ومنهم من قطع به وقيل القديم إنما هو إذا نوى بيمينه المكاتبة
وقيل القولان في الغائب فإن كان معه في المجلس لم يحنث قطعا والمذهب طردهما في كل الأحوال
ويجريان في الإشارة بالرأس والعين ولا فرق على الجديد بين إشارة الأخرس والناطق وإنما أقيمت إشارة الأخرس في المعاملات مقام النطق للضرورة

فرع هجران المسلم فوق ثلاثة أيام فلو كاتبه أو راسله فهل
نظر إن كانت مواصلتهما قبل الهجران بالمكاتبة أو المراسلة ارتفع الإثم وإلا فإن تعذر الكلام لغيبة أحدهما فكذلك وإلا فوجهان بناء على القولين الجديد والقديم حتى لو حلف أن يهاجره فهل يحنث بالمكاتبة والمراسلة فيه هذا الخلاف
وأطلق ابن أبي هريرة أنه يرتفع الإثم بالمكاتبة والمراسلة ثم لا يخفى أن المكاتبة إنما ترفع الإثم إذا خلت عن الإيذاء والإيحاش وإلا فهو كما لو كلمه بالشتم والإيذاء فإنه لا تزول به المهاجرة بل هو زيادة وحشة وتأكيد للمهاجرة ولا وحنث بمثل هذه المكاتبة إذا حلف على المهاجرة
قلت تحريم المهاجرة فوق ثلاثة أيام إنما هو فيما إذا كانت المهاجرة لحظوظ النفوس وتعنتات أهل الدنيا فأما إذا كان المهجور مبتدعا أو مجاهرا بالظلم والفسوق فلا تحرم مهاجرته أبدا وكذا إذا كان في المهاجرة مصلحة دينية فلا تحريم وعلى هذا يحمل ما جرى للسلف من هذا النوع والأصح أنه لا يزول التحريم بالمكاتبة والمراسلة قال صاحب البيان وينبغي أن تكون الإشارة والرمز كالمكاتبة كما قلنا في الحنث
والله أعلم
فرع حلف لا يكلمه ثم سلم عليه حنث لأن السلام كلام وأن
قوم هو فيهم فإن قصده بالسلام حنث
قال في البيان ويجيء أن لا يحنث على قول من قال إذا حلف لا يأكل السمن فأكله مع غيره لا يحنث وإن استثنى لفظا لم يحنث وإن استثناه بالنية

لم يحنث أيضا على المذهب
وإن أطلق حنث على الأظهر
ولو سلم من صلاته والمحلوف عليه من المأمومين ففيه هذا التفصيل
ولو صلى الحالف خلف المحلوف عليه فسبح لسهوه أو فتح عليه القراءة لم يحنث ولو قرأ آية فهم المحلوف عليه منها مقصوده فإن قصد القراءة لم يحنث وإلا فيحنث
المسألة الثانية حلف لا يتكلم حنث بترديد الشعر مع نفسه لأن الشعر كلام ولا يحنث بالتسبيح والتهليل والتكبير والدعاء على الصحيح لأن اسم الكلام عند الإطلاق ينصرف إلى كلام الادميين في محاوراتهم
وقيل يحنث لأنه يباح للجنب فهو كسائر الكلام ولا يحنث بقراءة القرآن
قلت قال القفال في شرح التلخيص لو قرأ التوراة الموجودة اليوم لم يحنث لأنا نشك أن الذي قرأه مبدل أم لا
والله أعلم
الثالثة حلف ليثنين على الله أحسن الثناء فطريق البر أن يقول لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك زاد ابرهيم المروزي في آخره فلك الحمد حتى ترضى فصور المتولي المسألة فيما لو قال لأثنين على الله تعالى بأجل الثناء أو أعظمه وزاد في أول الذكر سبحانك ولو قال لأحمدن الله بمجامع الحمد وقال المتولي بأجل التحاميد فطريق البر أن يقول الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافىء مزيده ولو قال لأصلين على النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة عليه فطريق البر أن يقول اللهم صل على الله محمد وعلى آل محمد كلما ذكره الذاكرون وكلما سها عن ذكره الغافلون
ذكره ابرهيم المروذي

قلت أما الصورتان الأوليان فذكرهما جماعة من متأخري الخراسانيين وليس لهما دليل يعتمد
ومعنى يوافي نعمه أي يلاقيها فتحصل معه ويكافىء مزيده بهمزة في آخره أي يساوي مزيد نعمه ومعناه يقوم لشكر ما زاد من النعم والإحسان
وأما مسألة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقد ذكرها عن ابرهيم المروزي وحده وقد يستأنس لذلك بأن الشافعي رحمه الله كان يستعمل هذه العبارة ولعله أول من استعملها ولكن الصواب والذي ينبغي أن يجزم به أن أفضل ما يقال عقيب التشهد في الصلاة اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبرهيم إلى آخره فقد ثبت في الصحيح أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك فقال قولوا اللهم صل على محمد إلى آخره
والله أعلم

فصل حلف لا يصلي فهل يحنث بالتحرم بالصلاة أم لا يحنث حتى
أم حتى يفرغ من الصلاة فيه أوجه أصحها الأول
ولو أفسدها بعد الشروع حنث على الأول ولا يحنث على الثالث ولا على الثاني إن لم يكن ركع ولا يجيء الثاني إذا صلى على جنازة
ولو أحرم مع إخلاله ببعض الشروط لم يحنث لأنه لم يصل لعدم انعقادها
ولو حلف ما صليت وقد أتى بصورة صلاة فاسدة لم يحنث ولو لم يجد ماء ولا ترابا وصلى حنث لأنها صلاة إلا أن يريد الصلاة المجزئة
ولو قال لا أصلي صلاة لا يحنث حتى يفرغ
قلت وينبغي أن لا يحنث بسجود الشكر والتلاوة والطواف ويحنث بالصلاة بالإيماء حيث يحكم بصحتها
والله أعلم

ولو حلف لا يصوم فهل يحنث بأن يصبح صائما أو بأن ينوي صوم التطوع قبل الزوال أم لا يحنث حتى يتم فيه الخلاف
وإذا قلنا لا يحنث إلا بالفراغ فهل نتبين استناد الحنث إلى الأول فيه وجهان
النوع السادس في تأخير الحنث وتقديمه وفيه مسائل إحداها حلف ليأكلن هذا الطعام غدا فلا يخفى البر إن أكل غدا والحنث إن أخره عن الغد مع الإمكان
فلو تلف الطعام قبل الغد بنفسه أو بإتلاف أجنبي فقد فات البر بغير اختياره فيخرج حنثه على قولي المكره والأظهر أنه لا يحنث
ويقال إنه المنصوص فإن قلنا يحنث فهل يحنث في الحال الحصول اليأس أم بعد مجيء الغد فيه قولان أو وجهان فقطع ابن كج بالثاني
قال المتولي وفائدة الخلاف أنه لو كان معسرا يكفر بالصوم جاز أن ينوي صوم الغد عن كفارته إن قلنا يحنث قبل الغد
لت ومن فوائده لو مات الحالف قبل مجيء الغد أو أعسر وقلنا يعتبر في الكفارة حال الوجوب
والله أعلم

فإن قلنا لا يحنث قبل مجيء الغد فهل يحنث إذا مضى من الغد زمن إمكان الأكل أم قبيل غروب الشمس وجهان
قال البغوي أصحهما الأول
ولو مات الحالف قبل مجيء الغد فقيل هو كتلف الطعام فيكون على الخلاف والمذهب القطع بأن لا حنث وهو الذي يقتضي كلام ابن كج والبغوي وغيرهما لأنه لم يبلغ زمن البر والحنث
ولو مات بعد مجيء الغد وقبل امكان الأكل فهو كتلف الطعام بعد مجيء الغد على ما سنذكره إن شاء الله تعالى من التفصيل وقطع المتولي بأن لا حنث
أما إذا تلف الطعام أو بعضه بعد مجيء الغد فينظر إن كان قبل التمكن من الأكل فهو كتلف الطعام قبل الغد وفيه الخلاف
وإن تلف بعد التمكن أو مات الحالف بعد التمكن فالمذهب الحنث لأنه تمكن من البر فصار كما لو قال لآكلن هذا الطعام وتمكن من أكله ولم يأكله حتى تلف فإنه يحنث قطعا
فعلى هذا هل يحنث في الحال أم قبل غروب الشمس فيه الوجهان
ولو أتلف الحالف الطعام قبل الغد بأكله أو بغيره أو أتلف بعضه حنث وهل يحنث في الحال أم بعد مجيء الغد فيه الخلاف هما لو تلف
ولو قال لآكلن هذا الطعام قبل غد فتلف قبل الغد وبعد التمكن حنث
وهل يكون حنثه في الحال أم إذا جاء أول الغد وجهان حكاهما الصيدلاني
ولو قال لآكلنه اليوم فيقاس بما ذكرناه في الغد

الثانية قال والله لأقضين حقك ومات قبل القضاء نظر إن تمكن من القضاء فلم يفعل حنث
وإن مات قبل التمكن فعلى قولي الإكراه كذا نقله البغوي والمروزي وغيرهما وقطع المتولي بأنه لا يحنث
ولوقال لأقضين حقك غدا ومات قبل مجيء الغد أو بعد مجيئه وقبل التمكن فمن أثبت القولين إذا لم يقيد بالغد أثبتهما هنا ومن قطع بالمنع قطع بالمنع هنا أيضا
ولو مات بعد التمكن جاء الطريقان المذكوران في مسألة الطعام وموت صاحب الحق لا يقتضي الحنث لا عند الإطلاق ولا عند التقييد بالغد لإمكان القضاء بالدفع إلى الورثة
ولو قال لأقضينك حقك غدا فهو كقوله لآكلن هذا الطعام غدا فطريق البر والحنث ظاهر وموت صاحب الحق هنا كتلف الطعام
فإن مات قبل مجيء الغد أو بعده وقبل التمكن من القضاء فعلى قولي الإكراه وإن مات بعد التمكن ففيه الطريقان السابقان
فإن حنثناه فهل يحنث في الحال أم بعد مجيء الغد فيه القولان
وموت الحالف والحالة هذه قبل مجيء الغد وبعده على ما ذكرنا في مسألة الطعام
فإن حنثناه فلا يستبعد كون وقت الحنث دخل وهو ميت لأن السبب هو اليمين وكانت في الحياة وهو كما لوحفر بئرا متعديا فتلف بها إنسان بعد موته يجب الضمان والكفارة في ماله
وإن قضاه قبل مجيء الغد فقد فوت البر فيحنث إلا أن يريد أنه لا يؤخر القضاء عن الغد وهو كإتلاف الطعام قبل الغد ولو أبرأه صاحب الحق في هذه الصور
فإن قلنا الإبراء يحتاج إلى القبول فقبل حنث لتفويته البر باختياره إلا أن يريد باليمين لا يمضي الغد وحقه باق عليه
وإن لم يقبل

لم يحنث لبقاء الحق عليه وإمكان قضائه
وإن قلنا لا يحتاج الإبراء إلى قبول سقط الدين
وفي الحنث قولا الإكراه لفوات البر بغير اختياره
والهبة في العين والصلح عن الدين كالإبراء إذا قلنا إنه يحتاج إلى القبول
ولو قال لأقضينك حقك غدا إلا أن تشاء أن أؤخره فإن قضاه غدا بر سواء شاء صاحب الحق أم لا
وإن لم يقضه في الغد فإن شاء صاحبه تأخيره قبل مضي الغد لم يحنث وإن لم يشأ حنث
وكذا لو قال إلا أن يشاء زيد أن أؤخره إلا أنه إذا مات صاحب الحق قبل مجيء الغد فالحنث على قولي الإكراه وإن مات بعده وبعد التمكن ففيه الطريقان
وإن مات زيد قبل الغد أو في أثنائه ولم يعلم مشيئته لم يحنث في الحال لإمكان القضاء بعد موته فإذا غربت الشمس ولم يقض حنث حينئذ
ولو قال لأقضينك حقك إلى الغد إلا أن تشاء تأخيره فينبغي أن يقدم القضاء على طلوع الفجر من الغد فإن لم يفعل ولم يشأ صاحب الحق تأخيره حنث

فرع حلف ليطلقن زوجته غدا فطلقها اليوم نظر إن لم يستوف الثلاث
فالبر ممكن وإن استوفاه فقد فوت البر فيحنث وكذا لو كان عليه صلاة عن نذر فحلف ليصلينها غدا فصلاها اليوم حنث
الثالثة قال لأقضين حقك عند رأس الهلال أو مع رأس الهلال أو عند الاستهلال أو مع رأس الشهر فهذه الألفاظ تقع على أول جزء من الليلة الأولى من الشهر ولفظتا عند و مع تقتضيان المقارنة
فإن قضاه قبل ذلك أو بعده حنث فينبغي أن

يعد المال ويترصد ذلك الوقت فيقضيه فيه وحكى الإمام والغزالي وجها أن له فسخه في الليلة الأولى ويومها لأن اسم رأس الهلال والشهر يقع عليهما والصحيح الأول
وإذا أخذ في الكيل أو الوزن عند رؤية الهلال وتأخر الفراغ لكثرة المال لم يحنث وبمثله أجيب فيما لو ابتدأ حينئذ بأسباب القضاء ومقدماته كحمل الميزان
ولو أخر القضاء عن اليلة الأولى للشك في الهلال فبان كونها من الشهر ففي الحنث قولا حنث الناسي والجاهل
ولو قال لأقضين حقك أول الشهر فهوكقوله عند رأس الشهر
ولو قال أول اليوم فينبغي أن يشتغل بالقضاء عند طلوع الفجر
ولو قال لأقضين حقك إلى رأس الشهر أو إلى رمضان فالأصح أنه يشترط تقديم القضاء على رأس الشهر وعلى رمضان
وقيل هو كقوله عند رأس الشهر

فرع لو قال لأقضين حقك إلى حين لم يختص ذلك بزمان مقدر
القليل والكثير كما سبق في كتاب الطلاق فيكون كقوله لأقضين حقك فمتى قضاه بر وإنما يحنث إذا مات قبل القضاء مع التمكن
ولو قال إلى زمان أو دهر أو حقب أو أحقاب فكذلك وجميع العمر مهلة له
ولو قال لا أكلمك حينا أو دهرا أو زمانا أو حقبا بر بأدنى زمان ولو قال أنت طالق بعد حين طلقت إذا مضى لحظة
والفرق أن قوله طالق بعد حين تعليق فيتعلق بأول ما يسمى حينا
وقوله لأقضين حقك وعد والوعد لا يختص بأول ما يقع عليه الاسم ولو قال لأقضين حقك إلى مدة قريبة أو بعيدة لم يتقدر أيضا وهو كالحين
فلو قال إلى أيام فوجهان
قال القاضي أبو الطيب والصيدلاني والبغوي وغيرهم يحمل على ثلاثة أيام إذا لم يكن نية

وقال آخرون منهم المحاملي هو كالحين لأنه يقع على القليل والكثير
يقال أيام العدل وأيام الفتنة فلا يتقدر
قلت الأول أصح لأنه المفهوم عند الإطلاق
وأما أيام الفتنة ونحوه فتخرج بالقرينة
والله أعلم
النوع السابع في الخصومات ونحوها فيه مسائل إحداها حلف لا يرى منكرا إلا رفعه إلى القاضي فله أحوال
إحداها أن يعين القاضي فيقول إلى القاضي فلان فإذا رأى منكرا لا يلزمه المبادرة بالدفع إليه بل له مهلة مدة عمره وعمر القاضي فمتى رفعه إليه بر ولا يشترط في الرفع أن يذهب إليه مع صاحب المنكر بل يكفي أن يحضر وحده عند القاضي ويخبره أو يكتب إليه بذلك أو يرسل رسولا بذلك فيخبره أو يكتب به كتابا ( إليه ) فإن لم يرفعه إليه حتى مات أحدهما بعد التمكن حنث فإن لم يتمكن من الرفع لمرض أو حبس أو جاء إلى باب القاضي فحجب ففيه قولا حنث المكره
ولو بادر بالرفع فمات القاضي قبل وصوله إليه فطريقان
قال الشيخ أبو حامد فيه القولان وقال أبو إسحق والقاضي أبو الطيب لا يحنث قطعا وهو المذهب لأنه لم يتمكن
ولو مات الحالف في صورة المبادرة قبل وصوله إلى القاضي قال المتولي لا كفارة بلا خلاف
فلو عزل ذلك القاضي فإن كان نيته أن يرفع إليه وهو قاض أو تلفظ به لم يبر بالرفع إليه وهو معزول ولا يحنث
وإن كان تمكن لأنه ربما ولي ثانيا واليمين على التراخي
فإن مات أحدهما قبل أن يولى تبينا الحنث وإن نوى غير ذلك القاضي وذكر القضاء تعريفا له بر بالرفع إليه وهو معزول
وإن أطلق فهل يبر بالرفع إليه وهو معزول وجهان أصحهما نعم كما لو قال

لا أدخل دار زيد هذه فباعها فإنه يحنث به تغليبا للعين فلا يحنث هنا تغليبا للعين
الثانية أن يقول إلا رفعته إلى قاض فيبر بالرفع إلى أي قاض كان في ذلك البلد وغيره
الثالثة يقول إلا رفعته إلى القاضي ولا يعين أحدا بلفظه ولا بنيته فهل يختص بقاضي البلد وجهان أحدهما لا بل يبر بالرفع إلى أي قاض كان والصحيح اختصاصه بقاضي البلتد حملا له على المعهود
وهل يتعين قاضي البلد في الحال لأنه المعهود أم يقوم مقامه من ينصب بعده وجهان ويقال قولان أصحهما الثاني حتى لو عزل الأول وولي غيره يبر بالرفع إلى الثاني دون الأول
فإذا قلنا يتعين قاضي البلد في الحال فالحكم كما ذكرنا في الحالة الأولى وعلى هذا الوجه هل الاعتبار بحال اليمين أم بحال رؤية المنكر وجهان أصحهما الأول
ولو كان في ا لبلد قاضيان وجوزناه فيرفع إلى من شاء منهما
ولو رأى المنكر بين يدي القاضي المرفوع إليه قال في الوسيط لا معنى للرفع إليه وهو يشاهده
وقال المتولي إنما يحصل البر بأن يخبره به
ولو رأى المنكر بعد اطلاع القاضي عليه فوجهان أحدهما أنه فات البر بغير اختياره فيكون على القولين وأصحهما وبه أجاب البغوي أنه يبر بالإخبار وصورة الرفع في الأحوال الثلاث
ولو لم ير الحالف منكرا حتى مات فلا شىء عليه وفي حال تعيين القاضي
ولو لم ير منكرا حتى مات القاضي فكذلك لا شىء عليه
ولو رآه بعد عزله فإن نوى الرفع إليه في حال القضاء فلا شىء عليه
وإن قصد عينه فليخبره
ولو حلف لا يرفع منكرا إلى القاضي فلان حنث بالرفع إليه وهو قاض
فلو رفع بعد العزل عاد التفصيل المذكور
وإن قال إلى القاضي فهل يحمل

على قاضي البلد حينئذ أم يحنث بالرفع إلى من ينصب بعد عزله فيه الخلاف السابق
المسألة الثانية حلف لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه منه ففي المسألة نظران أحدهما في حقيقة المفارقة والقول فيها على ما سبق في افتراق المتبايعين عن المجلس والرجوع إلى العادة
فإن فارقه الحالف قبل الاستيفاء مختارا حنث وإن كان ناسيا أو مكرها فعلى القولين في الناسي والمكره
ولو فارقه الغريم وفر منه فقيل قولان كالمكره والمذهب القطع بأنه لد يحنث سواء تمكن من التعلق به ومنعه أو من متابعته أم لا بل لو كانت مفارقته بإذن الحالف لم يحنث لأنه حلف على فعل نفسه فلا يحنث بفعل الغريم
وقال ابن كج يحنث إن أذن له
وقال الصيدلاني يحنث إن أمكنه منعه فلم يفعل
وقال القاضي حسين يحنث إن أمكنه متابعته لأنه بالمقام مفارق والصحيح الأول ولو كانا يتماشيان فمشى الغريم ووقف الحالف فذكر الغزالي أنه لا يحنث لأن الفارقة حصلت بحركة الغرم لا بسكون الحالف والصحيح الذي أجاب به القاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي أنه إذا مضى أحدهما في مشيه ووقف الآخر حنث الحالف لأنه إن وقف الغريم فقد فارقه الحالف بمشيه وإن وقف الحالف فقد فارقه بالوقوف لأن الحادث هو الوقوف فنسب المفارقة إليه بخلاف ما إذا كانا ساكنين فابتدأ الغريم بالمشي لأن الحادث هناك المشي وحيث قلنا لا حنث بمفارقة الغريم
فلو فارق الحالف مكانه بعد ذلك لم يحنث
أما إذا قال لا تفارقني حتى استوفي منك حقي أو حتى توفيني حقي فاليمين منعقدة على فعل الغريم
فإن فارقه الغريم مختارا حنث الحالف سواء كانت مفارقته بإذنه أم دون إذنه
وقيل إن فر منه ففي حنثه القولان في

المكره والمذهب الأول لأن اليمين على فعله وهو مختار في الفرار
فإن فارقه ناسيا أو مكرها خرج الحنث على القولين
ونقل البغوي طريقا قاطعا بالحنث وأن الاختيار إنما يعتبر في فعل الحالف والمذهب الأول
ولو فر الحالف من الغريم لم يحنث ويجيء وجه أنه إن أمكن الغريم متابعته فلم يفعل حنث
ولو قال لا افترقت أنا وأنت حتى أستوفي أو لا تفترق لا أنا ولا أنت حتى أستوفي فاليمين على فعل كل منهما فأيهما فارق الآخر مختارا حنث الحالف
فإن فارق ناسيا أو مكرها ففيه الخلاف
ولو قال لا افترقنا حتى أستوفي أو لا نفترق فوجهان أحدهما لا يحنث حتى يفارق كل واحد منهما الآخر
وأصحهما يحنث بمفارقة أحدهما الآخر لأنه يقال افترقا

فرع النظر الثاني في استيفاء الحق فإذا قال لا أفارقك حتى أستوفي
حقي منك ثم أبرأه وفارقه حنث لأنه فوت البر باختياره وهل يحكم بالحنث بنفس الإبراء أم بعد المفارقة يجيء فيه الخلاف السابق في نظائره
ولو أفلس الغريم فمنعه الحاكم من ملازمته ففارقه ففيه قولا حنث المكره
وإن فارقه باختياره حنث
وإن كان تركه واجبا كما لو قال لا أصلي الفرض حنث
ولو أحاله الغريم على رجل أو أحال هو على الغريم غريما له عليه دين ثم فارقه فطريقان أحدهما البناء على أن الحوالة استيفاء أم اعتياض إن قلنا استيفاء لم يحنث والمذهب القطع بالحنث بكل حال لأنه ليس استيفاء حقيقة وحيث جعلناها استيفاء فمعناه أنها كالاستيفاء في الحكم

لكن لو نوى أنه لا يفارقه وعليه حق لم يحنث
ولو أخذ عوضا عن حقه وفارقه حنث إلا أن ينوي ما ذكرنا وسواء كانت قيمة العوض مثل حقه أو أقل أو أكثر لأنه لم يستوف حقه وإنما استوى بدله
وإن استوفى حقه من وكيل الغريم أو من أجنبي تبرع به وفارقه حنث إن كان قال حتى أستوفي حقي منك ولا يحنث إن اقتصر على قوله حتى أستوفي حقي
ولو استوفى ثم فارقه ثم وجد ما إستوفاه ناقصا لم يحنث إن كان من جنس حقه فإن لم يكن من جنسه بأن كان حقه الدراهم فخرج المأخوذ نحاسا أو مغشوشا فإن كان عالما بالحال حنث وإلا فعلى قولي الناسي والجاهل

فرع حلف الغريم ليقضين حقه قبل أن يفارقه أو لا يفارقه حتى
حقه فالقول في مفارقته مختارا أو مكرها وفي الحوالة والمصالحة وغيرها على قياس ما سبق
ولو حلف لا يعطيه حقه فأعطاه مكرها أو ناسيا فهو على الخلاف
ولو قال لا يأخذ ولا يستوفي فأخذ حنث سواء كان المعطي مكرها أو مختارا
فلو كان الآخذ مكرها ففيه الخلاف
المسألة الثالثة حلف على الضرب تعلقت اليمين بما يسمى ضربا ولا يكفي وضع اليد والسوط ورفعهما ولا العض والقرص ونتف الشعر
وفي الوكز واللكز واللطم وجهان أصحهما أنه

ضرب ولا يشترط الإيلام ولهذا يقال ضربه ولم يؤلمه بخلاف الحد والتعزير فإنه يعتبر فيهما الإيلام لأن المقصود بهما الزجر ولا يحصل إلا بإيلام واليمين تتعلق بالاسم
وحكي وجه ضعيف أنه يشترط الإيلام وقد سبق في كتاب الطلاق
قلت ولو ضرب ميتا لم يحنث ولو ضرب مغمى عليه أو مجنونا أو سكران حنث لأنه محل للضرب بخلاف الميت ذكره المتولي
والله أعلم

فرع حلف ليضربن عبده مائة خشبة أو ليجلدنه مائة سوط فإن شد
سوط وضربه بها فقد وفى بموجب اللفظ وإن ضربه بعثكال عليه مائة شمراخ ضربة واحدة حصل البر إن تحقق أن الجميع أصاب بدنه
وفي المراد بإصابة الجميع وجهان أصحهما أنه لا يشترط أن يلاقي جميع القضبان بدنه أو ملبوسه بل يكفي أن ينكبس بعضها على بعض بحيث يناله ثقل الجميع ولا يضر كون البعض حائلا بين بدنه وبين البعض كالثياب وغيرها مما لا يمنع تأثر البشرة بالضرب
والثاني لا يكفي الانكباس بل يشترط ملاقاة الجميع بدنه أو ملبوسه وإن تيقن أنه لم يصبه الجميع لم يبر
وإن شك في ذلك فالنص أنه لا يحنث
ونص أنه لو حلف ليدخلن الدار اليوم إلا أن يشاء زيد فلم يدخل ومات زيد ولم يعلم هل شاء أم لا أنه يحنث فقيل بتقرير النصين والفرق أن

الضرب سبب ظاهر في الانكباس وفي مسألة المشيئة لا أمارة لها والأصل عدمها
وقيل فيهما قولان
والمذهب أنه لا يحنث هنا ويحنث في مسألة المشيئة
قلت هكذا صور الجمهور مسألة الخلاف فيما إذا شك وذكر الدارمي وابن الصباغ والمتولي أنه إذا شك حنث وإنما لا يحنث على المنصوص إذا غلب على ظنه إصابة الجميع وهذا حسن لكن الأول أصح لأن بعد هذا الضرب شك في الحنث والأصل عدمه قال أصحابنا وإذا قلنا لا يحنث فالورع أن يحنث نفسه فيكفر عن يمينه
والله أعلم
ولو حلف ليضربنه مائة مرة فضربه مرة بالعثكال أو بالمائة المشدودة لم يبر لأنه لم يضربه إلا مرة
ولو حلف ليضربنه مائة ضربة لم يبر أيضا على الأصح
ولو حلف ليضربنه بالسوط لم يبر بالعصا والشماريخ لأنه ليس بسوط
ولو قال مائة سوط فالصحيح أنه لا يبر بعثكال عليه مائة شمراخ وإنما يبر بأن يجمع مائة سوط ويشدها ويضربه بها دفعة أو خمسين ويضربه دفعتين أو سوطين ويضربه بهما خمسين مرة بشرط أن يعلم إصابة الجميع على ما سبق وقيل يبر بالعثكال كما في لفظ الخشبة

فصل في حنث الناسي والجاهل والمكره

فإذا وجد القول أو الفعل المحلوف عليه على وجه الإكراه أو النسيان أو الجهل سواء كان الحلف

بالله تعالى أو بالطلاق فهل يحنث قولان أظهرهما لا يحنث
وممن صححه أبو حامد القاضي والشيخ وابن كج والروياني وغيرهم
وقال ابن سلمة لا حنث قطعا
وقيل الناسي أولى بالحنث من المكره
وقيل عكسه
وقيل الجاهل أولى بالحنث من الناسي
وقال القفال يحنث في الطلاق دون اليمين وهو ضعيف فالمذهب ما سبق
فإذا قلنا لا حنث لمتنحل اليمين على الأصح
ولو حلف لا يدخل الدار طائعا ولا مكرها ولا ناسيا حنث مع الإكراه والنسيان
ولو حلف لا يدخل فانقلب في نومه وحصل في الدار لم يحنث ولو حمل قهرا وأدخل فقيل قولان كالمكره والمذهب القطع بأنه لا يحنث لأن اليمين على دخوله ولم يدخل وإنما أدخل ولهذا لا تنحل اليمين والحالة هذه بلا خلاف
ولو حمل بغير إذنه لكن قدر على الامتناع فلم يمتنع لم يحنث على الصحيح لأنه لم يدخل بل أدخل
ولو حمل بأمره
حنث كما لو ركب دابة ودخل
واعلم أنه لا فرق في أصل المسألة بين أن يعلق على فعله أو فعل غيره فإذا وجد بالإكراه أو النسيان ففيه الخلاف هذا هو المذهب وفيه شىء سبق في مسألة الحلف على مفارقة الغريم
ومن صور الفعل جاهلا أن يدخل دارا لا يعرف أنها المحلوف عليها أو حلف لا يسلم على زيد فسلم عليه في ظلمة ولا يعلم أنه زيد

فصل حلف لا يسلم على زيد فسلم على قوم هو فيهم ولم
ففي الحنث قولا حنث الناسي والجاهل وإن علم أنه فيهم

ونوى السلام عليه معهم حنث وفيه ما حكينا عن البيان فيما لو حلف لا يكلمه فسلم على قوم هو فيهم وقصده فأما إستثناه بلفظه فقال السلام عليكم إلا على زيد فلا يحنث
وإن استثناه بنيته لم يحنث أيضا على المذهب
وإن أطلق حنث على الأظهر
ولو حلف لا يدخل على زيد فدخل على قوم هو فيهم فاستثناه بقلبه وقصد الدخول على غيره حنث على المذهب
والفرق بينه وبين السلام أن الدخول فعل لا يدخله الاستثناء فلا ينتظم أن يقول دخلت عليكم إلا على فلان ويصح أن يقول سلام عليكم إلا على فلان
ولو دخل بيتا فيه زيد ولم يعلم أنه فيه ففي حنثه قولا الجاهل والناسي
ولو كان في جماعة ولم يعلم به فأولى بعدم الحنث وإن دخل لشغل ولم يعلم أنه في البيت فأولى بعدم الحنث لانضمام قصد الشغل إلى الجهل
قال الإمام نص الشافعي رحمه الله في هذه الصورة أنه لا يحنث وخرج الربيع قولا وجعله كالناسي
ولو علم أنه في البيت وقصد الدخول لشغل فقيل يحنث قطعا
وقيل هو كما لو دخل على قوم هو فيهم واستثناه بقلبه
ولو كان الحالف في بيت فدخل عليه زيد فإن خرج الحالف في الحال لم يحنث وإلا فقيل لا يحنث وقيل فيه خلاف بناء على أن استدامة الدخول هل هي دخول وأجاب ابن الصباغ عن هذا بأن الاستدامة إن جعلت دخولا كانا كالداخلين معا فلا يكون أحدهما داخلا على الآخر
قلت الذي قاله ابن الصباغ حسن والمذهب أنه لا يحنث
قال القاضي أبو الطيب ونص عليه في الأم
والله أعلم

فصل في أصول تتعلق بالكتاب لا تنعقد يمين صبي
ولا مجنون ولا مكره وفي السكران الخلاف في طلاقه وتنعقد يمين الكافر
ومن حلف لا يدخل الدار ثم قال أردت شهرا أو يوما
فإن كانت اليمين بطلاق أو عتاق لم تقبل في الحكم ويدين ويلحق بهما الإيلاء لتعلق حق الآدمي به
وإن كانت بالله تعالى ولم يتعلق بها حق آدمي قبل قوله ظاهرا وباطنا لأنه أمين في حقوق الله تعالى
ولو حلف لا يكلم أحدا ثم قال أردت زيدا أو من سوى زيد أو لا يأكل طعاما ونوى طعاما بعينه تخصصت اليمين بما نوى فلا يحنث بغيره
فرع قال الشيخ أبو زيد رحمه الله لا أدري على ماذا بنى
رحمه الله مسائل الأيمان إن اتبع اللغة فمن حلف لا يأكل الرؤوس ينبغي أن يحنث برؤوس الطير والسمك وإن اتبع العرف فأهل القرى لا يعدون الخيام بيوتا
وقد قال الشافعي لا فرق بين القروي والبدوي
واعلم أن الشافعي تتبع مقتضى اللغة تارة وذلك عند ظهورها وشمولها وهو الأصل وتارة يتبع العرف إذا استمر واطرد
فرع اللفظ الخاص في اليمين لا يعمم بالسبب والنية والعام وقد يتخصص

مثال الأول إذا من عليه رجل بما نال منه فقال والله لا أشرب لك ماء من عطش انعقدت اليمين على الماء من عطش خاصة
فلا يحنث بطعامه وثيابه وإن نوى أنه لا ينتفع بشيء منه وإن كانت المنازعة بينهما تقتضي ما نواه
وإنما تؤثر النية إذا احتمل اللفظ ما نوى

بجهة يتجوز بها وعند مالك رحمه الله يحنث بكل ما ينتفع به من ماله
قال الشيخ أبو حامد وسبب الخلاف أن الاعتبار عندنا باللفظ ويراعى عمومه وإن كان السبب خاصا وخصوصه وإن كان السبب عاما وعنده الاعتبار بالسبب دون اللفظ
وأما تخصيص العام فتارة يكون بالنية كما ذكرنا فيما إذا قال والله لا أكلم أحدا ونوى زيدا
وتارة بعرف الاستعمال كما في قوله لا آكل الرؤوس وتارة بعرف الشرع كما يحمل قوله لا أصلي على الصلاة الشرعية

فرع يعتبر اللفظ بحقيقته وقد يصرف إلى المجاز بالنية كما لو قال
لا أدخل دار زيد وقال أردت ما يسكنه دون ما يملكه فيقبل في اليمين بالله تعالى ولا يقبل في الحكم إذا حلف بطلاق وعتاق ذكره ابن الصباغ وغيره وتارة لكون المجاز متعارفا وكون الحقيقة بعيدة ومثله القاضي حسين بما إذا حلف لا يأكل من هذه الشجرة تحمل اليمين على الأكل من ثمرها دون الورق والأغصان وإن كانت الحقيقة متعارفة مثل أن يقول لا آكل من هذه الشاة يحمل على لحمها فلا يحنث بلبنها ولحم ولدها
فرع قال ابن كج لو قال والله لا دخلت الدار والله لا
ونوى التأكيد فهو يمين واحدة وإن نوى بالثاني يمينا أخرى أو أطلق فهل يلزمه بالحنث كفارة أم كفارتان وجهان
قلت الأصح كفارة
والله أعلم

وإن قال والله لا دخلت الدار لا دخلت الدار لا دخلت الدار فإن نوى التأكيد فيمين واحدة وكذا إن أطلق أو نوى الاستئناف على المذهب

فرع قال الحليمي اليمين المعقودة على المملوك المضاف يعتمد المالك دون المملوك
المضاف إليه فإذا حلف لا يكلم عبيد فلان ولا عبد له ثم ملك عبيدا وكلمهم حنث
ولو حلف لا يكلم بنيه ولا ابن له ثم ولد له بنون فكلمهم لم يحنث لأنهم لم يكونوا موجودين وقت اليمين
فرع حلف لا يكلم الناس ذكر ابن الصباغ وغيره أنه يحنث إذا
كما إذا قال لا آكل الخبز يحنث بما أكل منه
ولو حلف لا يكلم ناسا حمل على ثلاثة
فرع في كتب أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله أن المعرفة لا تدخل
النكرة لمغايرتهما فإذا قال لا يدخل داري أحد أو لا يلبس ثوبي أحد دخل في اليمين غير الحالف ولم يدخل الحالف لأنه صار معرفا بإضافة الدار أو القميص إليه قالوا لو عرف نفسه بإضافة الفعل بأن قال لا ألبس هذا القميص أحدا أو عرف غيره بالإضافة إليه فقال لا يدخل دار فلان أحد أو لا يلبس قميصه أحد لم يدخل المضاف إليه لأنه صار معرفا
وكذا لو قال لا يقطع هذه اليد أحد وأشار إلى يده لم يدخل هو وقد يتوقف في هذه الصورة الأخيرة والسابق إلى الفهم في غيرها ما ذكروه ويجوز أن تخرج

الصورة الأولى على الخلاف في أن المخاطب هل يندرج تحت الخطاب
قلت الوجه الجزم بكل ما ذكروه
والله أعلم
وفي كتبهم أن كلمة أو إذا دخلت بين نفيين اقتضت انتفاءهما كما قال الله تعالى { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } وإذا دخلت بين إثباتين اقتضت ثبوت أحدهما فإذا قال لا أدخل هذه الدار أو هذه فأيتهما دخلها حنث وإن قال لأدخلن هذه الدار اليوم أو هذه بر بدخول إحداهما
ويشبه أن يقال إذا دخلت بين نفيين كفى للبر أن لا يدخل واحدة منهما ولا يضر دخول الأخرى كما أنها إذا دخلت بين إثباتين كفى للبر أن يدخل إحداهما ولا يضر أن لا يدخل الأخرى
ولو قال لا أدخل هذه الدار أبدا ولأدخلن الدار الأخرى اليوم فإن دخل الأخرى اليوم بر وإن لم يدخلها اليوم ولم يدخل الأخرى بر أيضا
وفي الإقناع للماوردي أنه لو قال 0 إن أكلت خبزا أو لحما يرجع إلى مراده منهما فيتعلق اليمين به

فصل في مسائل منثورة

حلف لا يدخل هذه وأشار إلى دار فانهدمت حنث بدخوله عرصتها
ولو قال لا أدخل هذه الدار فانهدمت نظر إن بقيت أصول الحيطان والرسوم حنث وإن صارت فضاء فدخلها لم يحنث على المذهب وبه قطع الأكثرون وجعله الإمام على الوجهين فيمن قال لا آكل هذه الحنطة فأكل دقيقها

وكذالو حلف لا يدخل دارا أو بيتا فدخل عرصة كانت دارا أو بيتا
ولو جعلت الدار مسجدا أو بستانا أو حماما لم يحنث بدخوله ولو أعيدت الدار بغير الآلة الأولى فدخلها لم يحنث وإن أعيدت بتلك الآلة فوجهان
قلت أصحهما الحنث
والله أعلم
ولو حلف لا يشم الريحان حنث بشم الضيمران دون الورد والبنفسج والياسمن والنرجس والمرزنجوش والزعفران ويمكن أن يقال هذا فيما إذا ذكر الريحان معرفا فأما إذا نكره فقال لا أشم ريحانا فيحنث بها كلها
قلت الظاهر من حيث الدليل ومن مقتضى كلام الأصحاب أنه لا فرق ولا يحنث مطلقا بما بعد الضيمران
والله أعلم
ولو حلف لا يشم مشموما حنث بشم جميع ذلك ولا يحنث بشم المسك والكافور والعود والصندل
ولو حلف لا يشم الورد والبنفسج فشمهما بعد الجفاف فوجهان ولا يحنث بشم دهنهما
ولو حلف لا يستخدم زيدا فخدمه من غير أن يطلب الحالف ذلك لم يحنث سواء فيه عبده وغيره
ولو حلف لا يتسرى فثلاثة أوجه الأصح المنصوص أن التسري إنما يحصل بثلاثة أشياء ستر الجارية عن أعين الناس والوطء والإنزال والثاني يكفي الستر والوطء والثالث يكفي الوطء
ولو حلف لا يقرأ القرآن فقرأ جنبا

حنث
وإن حلف ليقرأن فقرأه جنبا بر بخلاف ما لو نذر أن يقرأ فقرأ جنبا لا يجزئه لأن المقصود من النذر التقرب والمعصية لا يتقرب بها
ولو حلف ليقرأن جنبا بر بالقراءة جنبا وإن عصى ولو نذر أن يقرأ جنبا لغا نذره

فرع في فتاوى القفال أنه لو قال لا أصلي على هذا المصلى
ثوبا وصلى عليه فإن نوى أنه لا يباشره بقدميه وجبهته وثيابه لم يحنث وإلا فيحنث كما لو قال لا أصلي في هذا المسجد فصلى على حصير فيه وإن علق به الطلاق ثم قال أردت أني لا أباشره دين ولم يقبل في الحكم وأنه لو حلف لا يكلم زيدا شهرا فولاه ظهره ثم قال يا زيد إفعل كذا حنث ولو أقبل على الجدار وقال يا جدار إفعل كذا لم يحنث وإن كان غرضه إفهام زيد
وكذا لو أقبل على الجدار وتكلم ولم يقل يا زيد ولا يا جدار لم يحنث وأنه لو حلف لا يلبس ثوبا من غزلها فرقع ثوبه برقعة كرباس من غزلها حنث وقال أبو عاصم العبادي لا يحنث وتلك الرقعة تبع
قلت قول أبي عاصم هو الصحيح لأنه لا يسمى لابسا ثوبا من غزلها
والله أعلم
ولو تعمم بعمامة نسجت من غزلها حنث إن حلف بالعربية وإن حلف بالفارسية فلا وإن التحف بلحاف من غزلها لم يحنث
قلت يجيء فيه الخلاف السابق في التدثر
والله أعلم
وأنه لو حلف لآ يفعل كذا ففعله في حال جنونه ففي الحنث قولان

فرع في المبتدأ في الفقه للقاضي الروياني أنه لو قال لا
فلان فدخل الحانوت الذي يعمل فيه وهو ملك غيره لم يحنث نص عليه الشافعي رحمه الله قال والفتوى أنه يحنث لأنه لا يراد به إلا الذي يسكنه ويعمل فيه
ولو قيل له كلم زيدا اليوم فقال والله لا كلمته انعقدت اليمين على الأبد إلا أن ينوي اليوم فإن كان ذلك في طلاق وقال أردت اليوم لم يقبل في الحكم
قلت الصواب قبوله في الحكم كما سبق في نظائره في كتاب الطلاق
والله أعلم
فرع في كتب أصحاب أبي حنيف رضي الله عنه أنه لو قال
فهو بيمين إن أراد القدرة وإن أراد المقدور فلا وبه نقول نحن
وأنه لو قال ورحمة الله وغضبه فليس بيمين ويشبه أن يقال إن أراد إرادة النعمة والعقوبة فيمين وإن أراد الفعل فلا
وأنه لو حلف ليضربن زوجته حتى يغشى عليها أو تبول حمل على الحقيقة
ولو قال حتى أقتلها أو ترفع ميتة حمل على أشد الضرب ويظهر على أصلنا الحمل على الحقيقة أيضا
وأنه لو حلف لا يدخل هذه الخيمة فقلعت ونصبت في موضع آخر فدخلها حنث ولو حلف لا يجلس على هذه الأسطوانة أو الحائط فأعيد بناؤهما بعد النقض فجلس على المعاد لم يحنث وكذا لو حلف على مقص أو سيف أو سكين فكسر وأعيدت الصنعة لم يحنث
وإن نزع مسمار المقص ونصاب السكين وأعيد مسمار آخر ونصاب آخر حنث
ولو حلف لا يقرأ

في المصحف فجعل بين يديه وقلبت أوراقه فقرأ فيه حنث ولو حلف لا يدخل هذا المسجد فزيد فيه فدخل الزيادة حنث ولو حلف لا يكتب بهذا القلم فكسره ثم براه وكتب به لم يحنث وبجميع هذه الأجوبة نقول إلا في مسألة القلم
قلت في موافقتهم في مسألة زيادة المسجد نظر وينبغي أن لا يحنث بدخولها لأن اليمين لم يتناولها حالة الحلف
وأما قول الإمام الرافعي إنا نخالفهم في مسألة القلم فليس كما قال بل مذهبنا فيها كما ذكروه قال القاضي أبو الطيب في كتاب الصلح من تعليقه ولو حلف لا يكتب بهذا القلم وهو مبري فكسره ثم براه وكتب به لم يحنث وإن كانت الأنبوبة واحدة لأن القلم اسم للمبري دون القصبة وإنما تسمى القصبة قبل البري قلما مجازا لأنها ستصير قلما قال وكذا إذا قال لا أقطع بهذا السكين فأبطل حدها وجعله في ظهرها وقطع بها لم يحنث
قال ولو حلف لا يستند إلى هذا الحائط فهدم ثم بني واستند إن بني بتلك الآلة حنث وإن أعيد بغيرها أو ببعضها لم يحنث
والله أعلم
وأنه لو حلف لا يأكل من كسب زيد فكسبه ما يتملكه من المباحثات العقود دون ما يرثه
ولو كسب شيئا ومات فورثه الحالف وأكله حنث ولو انتقل إلى غيره بشراء أو وصية لم يحنث
ولك أن لا تفرق ويشترط لكسبه أن يكون باقيا في ملكه
وأن الحلواء كل حلو ليس من جنسه حامض كالخبيص والعسل والسكر دون العنب والإجاص والرمان والأشبه أن يشترط في إطلاق الحلو أن يكون معمولا وأن يخرج منه العسل والسكر فالحلواء غير الحلو

قلت هذا الذي اختاره الرافعي رحمه الله هو الصواب وفي الحديث الصحيح كان يحب الحلواء والعسل
والله أعلم
قال العبادي من أصحابنا في الرقم لو حلف على الحلواء دخل فيه المتخذ من الفانيذ والسكر والعسل والدبس والقند وفي اللوزينج والجوزينج وجهان وأن الشواء يقع على اللحم خاصة دون السمك المشوي وأن الطبيخ يقع على اللحم يجعل في الماء ويطبخ وعلى مرقتها وعن بعضهم أنه يقع على الشحم ولو طبخ عدس أو أرز بودك فهو طبيخ وإن طبخ بزيت أو سمن فليس بطبيخ
قلت الصواب أن الكل طبيخ
والله أعلم
وذكر العبادي في الرقم أنه لو حلف لا يأكل المرق فهو ما يطبخ باللحم أي لحم كان وفيما يطبخ بالكرش والبطون والشحم وجهان
وإذا حلف لا يأكل المطبوخ حنث بما طبخ بالنار أو أغلي ولا يحنث بالمشوي
والطباهجة مشوية ويحتمل غيره وذكروا أن الغداء من طلوع الفجر إلى الزوال والعشاء من الزوال إلى نصف الليل والسحور ما بين نصف الليل وطلوع الفجر
ومقدار الغداء والعشاء أن يأكل أكثر من نصف شبعه
ولو حلف ليأتينه غدوة فهي ما بين طلوع الفجر إلى نصف النهار والضحوة بعد طلوع الشمس من حين تزول كراهة الصلاة إلى نصف النهار والصباح

ما بعد طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى وقد يتوقف في كون العشاء من الزوال وفي مقدار الغداء والعشاء وفي امتداد الغدوة إلى نصف النهار وفي أن الضحوة من الساعة التي تحل فيها الصلاة
وأنه لو حلف لا يكلمه فنبهه من النوم حنث وإن لم ينتبه وهذا غير مقبول
ولو دق المحلوف عليه الباب فقال من هذا حنث وينبغي أن يفرق بين علمه به وجهله وأنه لو قال لا أكلمه اليوم ولا غدا لم تدخل الليلة المتخللة في اليمين ولو قال لا أكلمه اليوم وغدا دخلت والصواب التسوية
قلت يعني في عدم الدخول وهذا إذا لم ينو مواصلة الهجران
والله أعلم
ولو قال لا أكلمه يوما ولا يومين فاليمين على يومين فلو كلمه في الثالث لم يحنث وهكذا ذكره أبو الحسن العبادي من أصحابنا
ولو قال يوما ويومين فاليمين على ثلاثة وأنه لو حلف ليهدمن هذه الدار فهدم سقوفها بر ويجوز أن يقال يشترط أن لا يبقى ما يسمى دارا
ولو حلف ليهدمن هذا الحائط اليوم أو لينقضنه اشترط هدمه حتى لا يبقى منه ما يسمى حائطا
ولو حلف ليكسرنه لم يشترط ما يزيل اسم الحائط

فرع حلف لا يزوره حيا ولا ميتا فشيع جنازته لم يحنث
وفي فتاوى الغزالي أنه لو حلف لا يدخل داره صوفا فأدخل داره كبشا عليه صوف أو لا يدخلها بيضا فأدخلها دجاجة فباضت في الحال

لم يحنث
وأنه لو حلف لا يقعد معه تحت سقف فقعدا تحت أزج حنث وأنه لو حلف لا يفطر فمطلق هذا ينصرف إلى الأكل والجماع ونحوهما ولا يحنث بالردة والجنون والحيض ودخول الليل
وبالله التوفيق

كتاب القضاء
فيه ثلاثة أبواب الأول في التولية وفيه طرفان الأول في التولية وفيه مسائل الأولى القضاء والإمامة فرض كفاية بالإجماع فإن قام به من يصلح سقط الفرض عن الباقين وإن امتنع الجميع أثموا وأجبر الإمام أحدهم على القضاء وقيل لا يجبر والصحيح الأول ثم من لا يصلح للقضاء تحرم توليته ويحرم عليه التولي والطلب وأما من يصلح فله حالان أحدهما أن يتعين للقضاء فيجب عليه القبول ويلزمه أن يطلبه ويشهر نفسه عند الإمام إن كان خاملا ولا يعذر بأن يخاف ميل نفسه وخيانتها بل يلزمه أن يقبل ويحترز فإن امتنع عصا وهل يجبر وجهان الصحيح نعم وبه قال الأكثرون كما يجبر على القيام بسائر فروض الكفاية عند التعين فإن قيل امتناعه من هذا الواجب المتعين المتعلق بالمصالح العامة ويشبه أن تكون كبيرة فيفسق به ويخرج عن الأهلية فكيف يولى ويجبر فالجواب أنه يمكن أن يقال إنه يؤمر بالتوبة أولا فإذا تاب ولي
قلت وينبغي أن يقال لا يفسق لأنه لا يمتنع غالبا إلا متأولا وهذا ليس بعاص قطعا وإن كان مخطئا
والله أعلم
الحال الثاني أن يكون هناك غيره ممن يصلح فذلك الغير إما أن يكون أصلح وأولى منه وإما مثله وإما دونه فإن كان أصلح منه بني على أن الإمامة العظمى هل تنعقد للمفضول مع وجود الفاضل وفيه خلاف للمتكلمين والفقهاء والأصح الانعقاد لأن تلك الزيادة خارجة عن شرط الإمامة
وفي القضاء خلاف مرتب وأولى

بالانعقاد فإن لم نجوز للمفضول القضاء حرمت توليته وحرم عليه الطلب والقبول وإن جوزناه جاز القبول
وأما الطلب فمكروه وقيل حرام وإن كان الأصلح لا يتولى فهو كالمعدوم وأما إذا كان هناك مثله فله القبول ولا يلزمه على الأصح فربما قام به غيره وأما الطلب فإن كان خامل الذكر ولو تولى اشتهر وانتفع الناس بعلمه استحب له الطلب على الصحيح وقال القفال لا يستحب
وإن كان مشهورا ينتفع الناس بعلمه فإن لم يكن له كفاية ولو ولي حصلت كفايته من بيت المال قال الأكثرون يستحب وقيل لا يستحب ولا يكره وإن كان له كفاية فالصحيح أن الطلب مكروه وقيل الأولى تركه ثم كما يكره الطلب والحالة هذه يكره القبول ولو ولي بلا طلب وعلى هذا حمل امتناع السلف
وإن كان هناك من هو دونه فإن لم نجوز تولية المفضول فقد تعين عليه وإن جوزناها استحب له القبول
وفي الوجوب الوجهان ويستحب له الطلب إذا وثق بنفسه وهكذا حيث استحببنا الطلب والتولي أو أبحناهما فذلك عند الوثوق وغلبة الظن بقوة النفس وأما عند الخوف فيحترز

فرع التفصيل الذي ذكرنا فيما إذا لم يكن هناك قاض متول فإن
نظر إن كان غير مستحق لجور أو جهل فهو كما لو لم يكن وإن كان مستحقا والطالب يروم عزله فالطلب حرام والطالب مجروح ذكره الماوردي
قلت وسواء كان فاضلا أو مفضولا إذا صححنا تولية المفضول
والله أعلم

فرع ما ذكرناه هو حكم الطلب بلا بذل فلو بذل مالا
ابن القاص وآخرون أنه حرام وقضاؤه مردود والصحيح تفصيل ذكره الروياني وهو أنه إن تعين عليه القضاء أو كان ممن يستحب له فله بذل المال ولكن الأخذ ظالم بالأخذ وهذا كما إذا تعذر الأمر بالمعروف إلا ببذل مال وإن لم يتعين ولم يكن مستحبا جاز له بذل المال ليتولى ويجوز له البذل بعد التولية لئلا يعزل والآخذ ظالم بالأخذ وأما بذل المال لعزل قاض فإن لم يكن بصفة القضاة فمستحب لما فيه من تخليص الناس منه ولكن أخذه حرام على الآخذ وإن كان بصفتهم فحرام
فإن فعل وعزل الأول وولي الباذل قال ابن القاص توليته باطلة والمعزول على قضائه لأن العزل بالرشوة حرام وتولية المرشي والراشي حرام وليكن هذا عند تمهد الأصول الشرعية فأما عند الضرورات وظهور الفتن فلا بد من تنفيذ العزل والتولية جميعا كتولية البغاة
فرع طرق الأصحاب متفقة على أن النظر في تعين الشخص للقضاء وعدم
تعينه إلى البلد والناحية لا غير ومقتضاه أنه لا يجب على من يصلح للقضاء طلب القضاء ببلدة أخرى ليس بها صالح ولا قبوله إذا ولي ويجوز أن يفرق بينه وبين القيام بسائر فروض الكفاية المحوجة إلى السفر كالجهاد وتعلم العلم ونحوهما فإن تلك يمكن القيام بها والعود إلى الوطن وعمل القضاء لا غاية له
المسألة الثانية في صفات القاضي والمفتي وفيها فصلان الأول في صفات القاضي وله ثمانية شروط أحدها الحرية

والثاني الذكورة والثالث الاجتهاد فلا يجوز تولية جاهل بالأحكام الشرعية وطرقها المحتاج إلى تقليد غيره فيها وإنما يحصل أهلية الاجتهاد لمن علم أمورا أحدها كتاب الله تعالى ولا يشترط العلم بجميعه بل مما يتعلق بالأحكام ولا يشترط حفظه عن ظهر القلب ومن الأصحاب من ينازع ظاهر كلامه فيه
الثاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا جميعها بل ما يتعلق منها بالأحكام ويشترط أن يعرف منها العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ ومن السنة المتواتر والآحاد والمرسل والمتصل وحال الرواة جرحا وتعديلا
الثالث أقاويل علماء الصحابة ومن بعدهم رضي الله عنهم إجماعا واختلافا
الرابع القياس فيعرف جليه وخفيه وتمييز الصحيح من الفاسد
الخامس لسان العرب لغة وإعرابا لأن الشرع ورد بالعربية وبهذه الجهة يعرف عموم اللفظ وخصوصه وإطلاقه وتقييده وإجماله وبيانه
قال أصحابنا ولا يشترط التبحر في هذه العلوم بل يكفي معرفة جمل منها وزاد الغزالي تخفيفات ذكرها في أصول الفقه منها أنه لا حاجة إلى تتبع الأحاديث على تفرقها وانتشارها بل يكفي أن يكون له أصل مصحح وقعت العناية فيه بجميع أحاديث الأحكام كسنن أبي داود ويكفي أن يعرف مواقع كل باب فيراجعه إذا احتاج إلى العمل بذلك الباب
قلت لا يصح التمثيل بسنن أبي داود فإنه لم يستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام ولا معظمه وذلك ظاهر بل معرفته ضرورية لمن له أدنى اطلاع
وكم في صحيح البخاري ومسلم من حديث حكمي ليس في سنن أبي داود
وأما ما في كتابي الترمذي والنسائي وغيرهما من الكتب المعتمدة فكثرته وشهرته غنية عن التصريح بها
والله أعلم
ومنها أنه لا يشترط ضبط جميع مواضع الإجماع والاختلاف

بل يكفي أن يعرف في المسألة التي يفتي فيها أن قوله لا يخالف الإجماع بأن يعلم أنه وافق بعض المتقدمين أو يغلب على ظنه أن المسألة لم يتكلم فيها الأولون بل تولدت في عصره وعلى قياس معرفة الناسخ والمنسوخ
ومنها أن كل حديث أجمع السلف على قبوله أو تواترت عدالة رواته فلا حاجة إلى البحث عن عدالة رواته وما عدا ذلك ينبغي أن يكتفي في عدالة رواته بتعديل إمام مشهور عرفت صحة مذهبه في الجرح والتعديل
قلت هذه المسألة مما أطبق جمهور الأصحاب عليه وشذ من شرط في التعديل اثنين وقوله تواترت عدالة رواته يعني مع ضبطهم
ولو قال أهلية رواته كان أولى ليشمل العدالة والضبط
وقوله أجمع السلف على قبوله يعني على العمل به ولا يكفي عملهم على وفقه فقد يعملون على وفقه بغيره
والله أعلم
ومنها أن اجتماع هذه العلوم إنما يشترط في المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الشرع ويجوز أن يكون للعالم منصب الاجتهاد في باب دون باب وعد الأصحاب من شروط الاجتهاد معرفة أصول الاعتقاد
قال الغزالي وعندي أنه يكفي اعتقاد جازم ولا يشترط معرفتها على طرق المتكلمين وبأدلتهم التي يحررونها
الشرط الرابع البصر فلا يصح تولية أعمى وفي جمع الجوامع للروياني وجه أنه يجوز والصحيح الأول وبه قطع الجمهور لأنه لا يعرف الخصوم والشهود
الخامس التكليف فلا يصح تولية الصبي
السادس العدالة فلا يصح تولية فاسق ولا كافر ولو على الكفار قال الماوردي وما جرت به عادة الولادة من نصب حاكم بين أهل

الذمة فهو تقليد رئاسة وزعامة لا تقليد حكم وقضاء ولا يلزمهم حكمه بالزامه بل بالتزامهم
السابع أن يكون ناطقا سميعا فلا يجوز تقليد أخرس لا تعقل إشارته وكذا إن عقلت على الصحيح ولا أصم لا يسمع أصلا فإن كان يسمع إذا صيح به جاز تقليده
الثامن الكفاية فلا يصح قضاء مغفل اختل رأيه ونظره بكبر أو مرض ونحوهما
ولا يشترط أن يحسن الكتابة على الأصح
ويستحب أن يكون وافر العقل حليما متثبتا ذا فطنة وتيقظ كامل الحواس والأعضاء عالما بلغة الذين يقضي بينهم بريئا من الشحناء والطمع صدوق اللهجة ذا رأي ووفاء وسكينة ووقار وأن لا يكون جبارا يهابه الخصوم فلا يتمكنون من استيفاء الحجة ولا ضعيفا يستخفون به ويطمعون فيه وأن يكون قرشيا ورعاية العلم والتقى أولى من رعاية النسب

فرع إن عرف الإمام أهليته ولاه وإلا فيبحث عن حاله فلو ولى
تجتمع فيه الشروط مع العلم بحاله أثم المولي والمتولي ولم ينفذ قضاؤه وإن أصاب هذا هو الأصل في الباب
قال في الوسيط لكن اجتماع هذه الشروط متعذر في عصرنا لخلو العصر عن المجتهد المستقل فالوجه تنفيذ قضاء كل من ولاه سلطان ذو شوكة وإن كان جاهلا أو فاسقا لئلا تتعطل مصالح الناس ويؤيده أنا ننفذ قضاء قاضي البغاة لمثل هذه الضرورة وهذا حسن لكن في بعض الشروح أن قاضي البغاة إذا كان منهم وبغيهم لا يوجب فسقا كبغي أصحاب

معاوية رضي الله عنه جاز قضاؤه وإن أوجب الفسق كبغي أهل النهروان لم يجز
قلت هذا المنقول عن بعض الشروح مشهور قد ذكره صاحب المهذب وغيره ففي المهذب ان قاضي البغاة إن كان من يستبيح دم أهل العدل ومالهم لم ينفذ حكمه لأن شرطه العدالة والاجتهاد وهذا ليس بعدل ولا مجتهد وقد جزم الرافعي في المحرر بما ذكره الغزالي فقال إن تعذر اجتماع هذه الشروط فولى سلطان ذو شوكة فاسقا أو مقلدا نفذ قضاؤه للضرورة
والله أعلم
وذكر أن القاضي العادل إذا استقضاه أمير باغ أجابه إليه ونفذ قضاؤه فقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن ذلك لمن استقضاه زياد فقالت إن لم يقض لهم خياركم قضى شراركم

فرع من لا تقبل شهادته من أهل البدع لا يصح تقليده القضاء
وكذا لا يجوز تقليد من لا يقول بالإجماع أو لا يقول بأخبار الآحاد وكذا حكم نفاة القياس الذين لا يقولون بالاجتهاد أصلا بل يتبعون النصوص فإن لم يجدوا أخذوا بقول سلفهم كالشيعة فإن كانوا مجتهدين في فحوى الكلام ويبنون الأحكام على عموم النصوص وإشاراتها جاز تقليدهم على الأصح
الفصل الثاني في المفتي ومتى لم يكن في الموضع إلا واحد يصلح للفتوى تعين عليه أن يفتي وإن كان هناك غيره فهو من فروض الكفايات ومع هذا فلا يحل التسارع إليه فقد كانت الصحابة رضي الله عنهم مع مشاهدتهم الوحي يحيل بعضهم على بعض في الفتوى ويحرزون عن استعمال الرأي والقياس ما أمكن
ثم نتكلم في ثلاث

جمل إحداها في المفتي فيشترط إسلامه وبلوغه وعدالته فالفاسق لا تقبل فتواه ويلزمه أن يعمل لنفسه باجتهاده ويشترط في المفتي أيضا التيقظ وقوة الضبط فلا يقبل ممن تغلب عليه الغفلة والسهو ويشترط فيه أهلية الاجتهاد فلو عرف العامي مسألة أو مسائل بدليلها لم يكن له أن يفتي بها ولا لغيره أن يقلده ويأخذ بقوله فيها وقيل يجوز وقيل إن كان نقليا جاز وإن كان قياسيا فلا والصحيح الأول
والعالم الذي لم يبلغ غاية الاجتهاد كالعامي في أنه لا يجوز تقليده على الصحيح
وموت المجتهد هل يخرجه عن أن يقلد ويؤخذ بقوله وجهان الصحيح أنه لا يخرج بل يجوز تقليده كما يعمل بشهادة الشاهد بعد موته ولأنه لو بطل قوله بموته لبطل الإجماع بموت المجمعين ولصارت المسألة اجتهادية ولأن الناس اليوم كالمجمعين على أنه لا مجتهد اليوم فلو منعنا تقليد الماضين لتركنا الناس حيارى وبنوا على هذين الوجهين أن من عرف مذهب مجتهد وتبحر فيه لكن لم يبلغ رتبة الاجتهاد هل له أن يفتي ويأخذ بقول ذلك المجتهد فعلى الصحيح يجوز هكذا صوروا الفرع ولك أن تقول إذا كان المأخذ ما ذكرنا فسواء المتبحر وغيره بل العامي إذا عرف حكم تلك المسألة عند ذلك المجتهد فأخبر به وأخذ غيره به تقليدا للميت وجب أن يجوز على الصحيح
قلت هذا الاعتراض ضعيف أو باطل لأنه إذا لم يكن متبحرا ربما ظن ما ليس مذهبا له مذهبه لقصور فهمه وقلة اطلاعه على مظان المسألة واختلاف نصوص ذلك المجتهد والمتأخر منها والراجح وغير ذلك لاسيما مذهب الشافعي رحمه الله الذي لا يكاد يعرف ما يفتى به منه إلا أفراد لكثرة انتشاره واختلاف ناقليه في النقل والترجيح
فإن فرض هذا في مسائل صارت كالمعلومة علما قطعيا عن ذلك المذهب كوجوب النية في الوضوء والفاتحة في الصلاة ووجوب الزكاة في

مال الصبي والمجنون ووجوب تبييت النية في صوم الفرض وصحة الاعتكاف بلا صوم وعدم وجوب نفقة البائن الحامل ووجوب القصاص في القتل بالمثقل وغير ذلك عند الشافعي رضي الله عنه فهذا حسن محتمل
والله أعلم
وإذا جوزنا الفتوى إخبارا عن مذهب الميت فإن علم من حاله أنه يفتي على مذهب إمام معين كفى إطلاق الجواب وإلا فلا بد من إضافته إلى صاحب المذهب

فرع ليس لمجتهد أن يقلد مجتهدا لا ليعمل به ولا ليفتي به
كان قاضيا ليقضي به سواء خاف الفوت لضيق وقت أم لا
وقال ابن سريج له التقليد إذا ضاق الوقت ليعمل به لا ليفتي وقياسه أن لا يجوز للقضاء وأولى
وفي الشامل و التهذيب طرد قول ابن سريج في القضاء وصورة الضيف فيه أن يتحاكم مسافران والقافلة ترتحل ومن قال به فقياسه طرده في الفتوى
فرع هل يلزم المجتهد تجديد الاجتهاد إذا وقعت الحادثة مرة أخرى أو
القبلة
قلت أصحهما لزوم التجديد وهذا إذا لم يكن ذاكرا لدليل الأولى ولم يتجدد ما قد يوجب رجوعه فإن كان ذاكرا لم يلزمه قطعا وإن تجدد ما يوجب الرجوع لزمه قطعا
والله أعلم

فرع المنسوب إلى مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك ثلاثة أصناف

أحدها العوام وتقليدهم الشافعي مثلا مفرع على تقليد الميت وقد سبق
والثاني البالغون لرتبة الاجتهاد وقد ذكرنا أن المجتهد لا يقلد مجتهدا وإنما ينسب هؤلاء إلى الشافعي لأنهم جروا على طريقته في الاجتهاد واستعمال الأدلة وترتيب بعضها على بعض ووافق اجتهادهم اجتهاده وإذا خالف أحيانا لم يبالوا بالمخالفة
والصنف الثالث المتوسطون وهم الذين لم يبلغوا رتبة الاجتهاد في أصول الشرع
لكنهم وقفوا على أصول الإمام في الأبواب وتمكنوا من قياس ما لم يجدوه منصوصا له على ما نص عليه وهؤلاء مقلدون له تفريعا على تقليد الميت وهكذا من يأخذ بقولهم من العوام تقليدا له والمعروف للأصحاب أنه لا يقلدهم في أنفسهم لأنهم مقلدون وقد نجد ما يخالف هذا فإن أبا الفتح الهروي وهو من أصحاب الإمام يقول في الأصول مذهب عامة أصحابنا أن العامي لا مذهب له فإن وجد مجتهدا قلده
وإن لم يجده ووجد متبحرا في مذهب فإنه يفتيه على مذهب نفسه وإن كان العامي لا يعتقد مذهبه
وهذا تصريح بأنه يقلد المتبحر في نفسه
وإذا اختلف متبحران في نفسه وإذا اختلف متبحران في مذهب لاختلافهما في قياس أصل مذهب إمامهما ومن هذا يتولد وجوه الأصحاب فنقول أيهما يأخذ العامي فيه ما سنذكره في اختلاف المجتهدين إن شاء الله تعالى وإذا نص صاحب المذهب على الحكم والعلة ألحق بتلك العلة غير المنصوص بالمنصوص وإن اقتصر على الحكم فهل يستنبط المتبحر العلة ويعدي الحكم بها قال محمد بن يحيى لا والأشبه

بفعل الأصحاب جوازه لأنهم ينقلون الحكم ثم يختلفون في علته وكل منهم يطرد الحكم في فروع علته

فرع ذكر الشيخ أبو إسحاق أنه إذا نص الإمام في واقعة على
أخرى شبهها على خلافه لا يجوز نقل قوله من إحداهما إلى الأخرى وتخريجهما على قولين وأن ما يقتضيه قوله لا يجعل قولا له إلا إذا لم يحتمل كقوله ثبتت الشفعة في الشقص من الدار فيقال قوله في الحانوت كذلك والمعروف في المذهب خلاف ما قاله لكن الأولى أن يقال إنه قياس أصله أو قياس قوله ولا يقال هو قوله
فرع للمفتي أن يشدد في الجواب بلفظ متأول عنده زجرا وتهديدا في
مواضع الحاجة
قلت المراد ما ذكره الصيمري وغيره قالوا إذا رأى المفتي المصلحة أن يقول للعامي ما فيه تغليظ وهو لا يعتقد ظاهره وله فيه تأويل جاز زجرا كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن توبة القاتل فقال لا توبة له وسأله آخر فقال له توبة ثم قال أما الأول فرأيت في عينيه إرادة القتل فمنعته أما الثاني فجاء

مسكينا قد قتل فلم أقنطه قال الصيمري وكذا إن سأله فقال إن قتلت عبدي فهل علي قصاص فواسع أن يقال إن قتلته قتلناك فعن النبي صلى الله عليه وسلم من قتل عبده قتلناه ولأن القتل له معان وهذا كله إذا لم يترتب على إطلاقه مفسدة
والله أعلم
الجملة الثانية في المستفتي فيلزمه سؤال المفتي عند حدوث مسألته وإنما يسأل من عرف علمه وعدالته فإن لم يعرف العلم بحث عنه بسؤال الناس وإن لم يعرف العدالة فقد ذكر الغزالي فيه احتمالين أحدهما أن الحكم كذلك وأشبههما الاكتفاء لأن الغالب من حال العلماء العدالة بخلاف البحث عن العلم فليس الغالب من الناس العلم ثم ذكر احتمالين في أنه إذا وجب البحث يفتقر إلى عدد التواتر أم يكفي إخبار عدل أو عدلين أصحهما الثاني
قلت الاحتمالان فيما إذا لم تعرف العدالة هما فيمن كان مستورا وهو الذي ظاهره العدالة ولم يختبر باطنه وهما وجهان ذكرهما غيره أصحهما الاكتفاء لأن العدالة الباطنة يعسر معرفتها على غير القضاة فيعسر على العوام تكليفهم بها وهذا الخلاف كالخلاف في صحة النكاح بحضور المستورين
أما الاحتمالان في اشتراط عدد التواتر والاكتفاء بعدل فهما محتملان ولكن المنقول خلافهما فالذي قاله الاصحاب أنه يجوز استفتاء من استفاضت أهليته وقيل لا يكفي الاستفاضة ولا التواتر بل إنما يعتمد قوله أنا أهل للفتوى لأن الاستفاضة والشهرة بين العامة لا وثوق بها فقد يكون أصلها التلبيس وأما التواتر فلا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس والصحيح الأول لأن إقدامه عليها إخبار منه بأهليته

لأن الصورة فيمن وثق بدينه
ويجوز استفتاء من أخبر المشهور المذكور بأهليته قال الشيخ أبو إسحاق وغيره نقبل في أهليته خبر عدل واحد وهذا محمول على من عنده معرفة يميز بها الملتبس من غيره ولا يعتمد في ذلك خبر آحاد العامة لكثرة ما يتطرق إليهم من التلبيس في ذلك
والله أعلم

فرع إذا وجد مفتيين فأكثر هل يلزمه أن يجتهد فيسأل أعلمهم وجهان
قال ابن سريج نعم واختاره ابن كج والقفال لأنه يسهل عليه وأصحهما عند الجمهور أنه يتخير فيسأل من شاء لأن الأولين كانوا يسألون علماء الصحابة رضي الله عنهم مع تفاوتهم في العلم والفضل ويعملون بقول من سألوه من غير إنكار قال الغزالي فإن اعتقد أن أحدهم أعلم لم يجز أن يقلد غيره وإن كان لا يلزمه البحث عن الأعلم إذا لم يعتقد اختصاص أحدهم بزيادة علم
قلت هذا الذي قاله الغزالي قد قاله غيره أيضا وهو وإن كان ظاهرا ففيه نظر لما ذكرنا من سؤال آحاد الصحابة رضي الله عنهم مع وجود أفاضلهم الذين فضلهم متواتر وقد يمنع هذا وعلى الجملة المختار ما ذكره الغزالي
فعلى هذا يلزمه تقليد أورع العالمين وأعلم الورعين فإن تعارضا قدم الأعلم على الأصح
والله أعلم
فرع وإذا استفتى وأجيب فحدثت له تلك الحادثة ثانيا فإن عرف استناد
الجواب إلى نص أو اجماع فلا حاجة إلى السؤال ثانيا وكذا لو كان المقلد ميتا وجوزناه وإن عرف استناده إلى الرأي والقياس

أو شك والمقلد حي فوجهان أحدهما لا يحتاج إلى السؤال ثانيا لأن الظاهر استمراره على جوابه وأصحهما يلزمه السؤال ثانيا

فرع لو اختلف عليه جواب مفتيين فإن أوجبنا البحث وتقليد الأعلم اعتمده
بأغلظ الجوابين والثالث بأخفهما والرابع بقول من يبني قوله على الأثر دون الرأي والخامس بقول من سأله أولا
قلت وحكي وجه سادس أنه يسأل ثالثا فيأخذ بفتوى من وافقه
وهذا الذي صححه من التخيير هو الذي صححه الجمهور ونقله المحاملي في أول المجموع عن أكثر أصحابنا لأن فرضه أن يقلد عالما وقد حصل
والله أعلم
ونقل الروياني وجهين في أن من سأل مفتيا ولم تسكن نفسه إلى فتواه هل يلزمه أن يسأل ثانيا وثالثا لتسكن نفسه أم له الاقتصار على جواب الأول والقياس في وجه الثاني
الجملة الثالثة فيما يتعلق بهما فيجوز للمستفتي أن يسأل بنفسه ويجوز أن يكتفي برسول ثقة يبعثه وبالرقعة ويكفي ترجمان واحد إذا لم يعرف لغته
قلت له اعتماد خط المفتي إذا أخبره من يقبل خبره أنه خطه أو كان يعرف خطه ولم يشك فيه
والله أعلم

ومن آداب المستفتي أن لا يسأل المفتي وهو قائم أو مشغول بما يمنعه من تمام الفكر وأن لا يقول إذا أجابه هكذا قلت أنا وأن لا يطالب بالدليل فإن أراد معرفته سأل عنه في وقت آخر
وإذا سأل في رقعة فليكن كاتبها حاذقا ليبين مواضع السؤال وينقط مواضع الاشتباه وليتأمل المفتي الرقعة كلمة كلمة وليكن اعتناؤه بآخر الكلام أشد لأنه موضع السؤال وليتثبت في الجواب وإن كانت المسألة واضحة وأن يشاور من في مجلسه ممن يصلح لذلك إلا أن يكون فيها ما لا يحسن إظهاره
وله أن ينقط من الرقعة مواضع الإشكال وأن يصلح ما فيها من خطأ ولحن فاحش وإذا رأى في آخر بعض السطور بياضا شغله بخطه لئلآ يلحق فيه بعد جوابه شيء وليبين المفتي بخطه وليكن قلمه بين قلمين
ولو كتب مع الجواب حجة من آية أو حديث فلا بأس ولا يعتاد ذكر القياس وطرق الاجتهاد
فإن تعلقت الفتوى بقاض فحسن أن يومىء إلى الطريق للاجتهاد وإذا رأى في الفتوى جواب من لا يصلح للفتوى لم يفت معه
قال الصيمري وله أن يضرب عليه بإذن صاحب الرقعة وبغير إذنه ولا يحبسها إلا بإذنه واستحبوا أن يكون السؤال بخط غير المفتي

فرع متى تغير اجتهاد المجتهد دار المقلد معه وعمل في المستقبل بقوله
الثاني ولا ينقض ما مضى ولو نكح المجتهد امرأة ثم خالعها ثلاثا لأنه رأى الخلع فسخا ثم تغير اجتهاده قال الغزالي يلزمه مفارقتها وأبدى ترددا فيما لو فعل المقلد مثل ذلك ثم تغير اجتهاد مقلده قال والصحيح أن الجواب كذلك كما لو تغير اجتهاد المقلد في الصلاة فإنه يتحول
ولو قال مجتهد للمقلد والصورة هذه

أخطأ بك من قلدته فإن كان الذي قلده أعلم من الثاني أو استويا فلا أثر لقوله وإن كان الثاني أعلم فالقياس أنا إن أوجبنا تقليد الأعلم فهو كما لو تغير اجتهاد مقلده وإلا فلا أثر له
قلت هذا الذي زعم الإمام الرافعي رحمه الله أنه القياس ليس بشيء بل الوجه الجزم بأنه لا يلزمه شيء ولا أثر لقول الثاني وهذا كله إذا كانت المسألة اجتهادية وقد لخص الصيمري والخطيب البغدادي وغيرهما من أصحابنا هذه المسألة بتفصيل حسن فقالوا إذا أفتى ثم رجع فإن علم المستفتي رجوعه ولم يكن عمل بالأول لم يجز له العمل به وكذا إذا نكح بفتواه أو استمر على نكاح بفتواه ثم رجع لزمه فراقها كنظيره في القبلة
وإن كان عمل به قبل الرجوع فإن كان مخالفا لدليل قاطع لزم المستفتي نقض عمله وإن كان في محل الاجتهاد فلا لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد ولا يعمل خلاف هذا لأصحابنا وما ذكره صاحبا المستصفى و المحصول فليس فيه تصريح بمخالفة هذا
قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله وإن كان المفتي إنما يفتي على مذهب إمام معين فرجع لكونه تيقن مخالفة نص إمامه وجب نقضه وإن كان اجتهاديا لأن نص إمامه في حقه كنص الشارع في حق المستقل وأما إذا لم يعلم المستفتي برجوعه
فكأنه لم يرجع في حقه ويلزم المفتي إعلامه برجوعه قبل العمل وكذا بعده حيث يجب النقض وإذا عمل بفتواه في إتلاف ثم بإن أنه أخطأ وخالف القاطع فقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني إن كان أهلا للفتوي ضمن وإلا فلا لأن المستفتي مقصر وهذا الذي قاله فيه نظر وينبغي أن يخرج على

قولي الغرور أو يقطع بعدم الضمان مطلقا إذا لم يوجد منه الإتلاف ولا ألجأ إليه بإلزام
والله أعلم

فرع لا يشترط أن يكون للمجتهد مذهب مدون وإذا دونت المذاهب فهل
يجوز للمقلد أن ينتقل من مذهب إلى مذهب إن قلنا يلزمه الاجتهاد في طلب الأعلم وغلب على ظنه أن الثاني أعلم ينبغي أن يجوز بل يجب وإن خيرناه فينبغي أن يجوز أيضا كما لو قلد في القبلة هذا أياما وهذا أياما
ولو قلد مجتهدا في مسائل وآخر في مسائل أخرى واستوى المجتهدان عنده أو خيرناه فالذي يقتضيه فعل الأولين الجواز وكما أن الأعمى إذا قلنا لا يجتهد في الأواني والثياب له أن يقلد في الثياب واحدا وفي الأواني آخر لكن الأصوليون منعوا منه لمصلحة
وحكى الحناطي وغيره عن أبي إسحق فيما إذا اختار من كل مذهب ما هو أهون عليه أن يفسق به وعن ابن أبي هريرة أنه لا يفسق وبالله التوفيق
قلت قد استقصى الإمام الرافعي رحمه الله هذا الباب فاستوعب وأجاد وقد استوعبت أنا هذا الباب في أول شرح المهذب وجمعت فيه من مجموعات كلام الأئمة ومتفرقاتها هذا المذكور هنا مع مثله أو أمثاله وأنا أذكر منه هنا نبذا أشير إليها ولا ألتزم ترتيبه
فيستحب للمعلم والمفتي الرفق بالمتعلم والمستفتي ليتمكن من الفهم عنه وقد استوعبت آداب العالم والمعلم في أول شرح المهذب وذكرت فيه ما لا ينبغي لطالب علم أن يخفى عليه شىء منه قال الخطيب الحافظ أبو بكر البغدادي ينبغي للإمام أن يتفقد أحوال المفتين فمن صلح لها أقره ومن لم يصلح منعه وأمره أن لا يعود ويواعده على

العود وطريقه في ذلك أن يسأل العلماء المشهورين من أهل عصره عن حاله ويعتمد خبرهم وينبغي أن يكون المفتي مع شروطه السابقة متنزها عن خوارم المروءة فقيه النفس سليم الذهن رصين الفكر حسن التصرف والاستنباط وسواء الحر والعبد والمرأة والأعمى والأخرس إذا كتب أو فهمت إشارته
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله وينبغي أن يكون المفتي كالراوي في أنه لا تؤثر فيه القرابة والعداوة وجر النفع ودفع الضر لأنه في حكم من يخبر عن الشرع بما لا اختصاص له بشخص فكان كالراوي لا كالشاهد وفتواه لا يرتبط بها إلزام بخلاف حكم القاضي
قال ووجدت عن صاحب الحاوي إن المفتي إذا نابذ في فتواه شخصا معينا صار خصما معاندا ترد فتواه على من عاداه كما ترد شهادته
قال الصيمري ويقبل فتاوى أهل الأهواء والخوارج ومن لا يكفر ببدعته ولا بفسقه وذكر الخطيب هذا ثم قال وأما الشراة وهم بضم الشين المعجمة والرافضة الذين يسبون السلف ففتاويهم مردودة وأقاويلهم ساقطة
ومن كان من أهل الفتوى وهو قاض فهو كغيره فلا يكره له الفتوى هذا هو الصحيح الذي عليه الجمهور وقيل له أن يفتي في العبادات وغيرها مما لا يتعلق بالأحكام وفي الأحكام وجهان
وقال ابن المنذر يكره فتواه في الأحكام دون غيرها وهل يشترط في المفتي أن يعرف من الحساب ما يصح به المسائل الحسابية الفقهية وجهان حكاهما الأستاذ أبو إسحق الإسفراييني وصاحبه أبو منصور البغدادي
ويشترط في المفتي المنتسب إلى مذهب إمام كما سبق أن يكون فقيه النفس حافظا مذهب إمامه ذا خبرة بقواعده وأساليبه ونصوصه وقد قطع إمام الحرمين وغيره بأن الأصولي الماهر المتصرف في الفقه لا يحل له الفتوى لأبمجرد ذلك ولو وقعت له واقعة لزمه أن

يستفتي فيها ويلتحق به المتصرف البحاث في الفقه من أئمة الخلاف وفحول المناظرين لأنه ليس أهلا لإدراك حكم الواقعة استقلالا لقصور آلته ولا من مذهب إمام لعدم حفظه له على الوجه المعتبر
وإذا استفتى العامي عما لم يقع لم يجب جوابه ولا يجوز للمفتي أن يتساهل في فتواه ومن عرف بذلك لم يجز أن يستفتى وتساهله قد يكون بأن لا يتثبت ويسرع بالجواب قبل استيفاء الفكر والنظر فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه فلا بأس بالإسراع وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من المسارعة وقد يكون تساهله بأن تحمله أغراض فاسدة على تتبع الحيل المحرمة المكروهة والتمسك بالشبهة طلبا للترخيص على من يروم نفعه أو التغليظ على من يروم ضره ومن فعل هذا فلا وثوق به
وأما إذا صح قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها ولا تجر إلى مفسدة ليخلص بها المستفتي من وريطة يمين ونحوها فذلك حسن وعله يحمل ما جاء عن بعض السلف من هذا
وينبغي أن لا يفتي في كل حال تغير خلقه وتشغل قلبه وتمنعه التثبت والتأمل كحالة الغضب أو الجوع أو العطش والحزن والفرح الغالب والنعاس والملالة والمرض المقلق والحر المزعج ومدافعة الأخبثين ونحو ذلك ومتى أحس بشغل قلبه وخروجه عن الاعتدال لم يفت فإن أفتى في شىء من هذه الأحوال وهو يعتقد أن ذلك لم يمنعه من إدراك الصواب صحت فتواه وإن كان مخاطرا
والأولى للمتصدي للفتوى أن يتبرع بذلك ويجوز أن يأخذ عليه رزقا من بيت المال إلا إذا تعين عليه وله كفاية فالصحيح أنه لا يجوز
ثم إن كان له رزق لا يجوز له أخذ أجرة وإن لم يكن له رزق لم يجز له أخذ أجرة

من أعيان المستفتين كالحاكم
واحتال الشيخ أبو حاتم القزويني في حيلة فقال يقول للمستفتي يلزمني أن أفتيك قولا ولا يلزمني أن أكتب لك فإن استأجره على الكتابة جاز وهذا الذي ذكره وإن كان مكروها فينبغي أن لا يأخذ من الأجرة إلا قدر أجرة كتابة ذلك القدر ولو لم يكن فتوى لئلا يكون آخذا زيادة بسبب الإفتاء
قال الصيمري والخطيب وغيرهما ولو اجتمع أهل البلد على أن جعلوا له رزقا من أموالهم ليتفرغ لفتاويهم جاز
وأما الهدية فقال أبو المظفر السمعاني من أصحابنا ويجوز له قبولها بخلاف الحاكم لأنه يلزمه حكمه قال الشيخ أبو عمرو وينبغي أن يحرم قبولها إن كانت رشوة على أن يفتيه بما يريد كما في الحاكم وسائر ما لا يقابل بالأعواض
قال الخطيب وعلى الإمام أن يفرض من بيت المال لمن نصب نفسه لتدريس العلم أو للفتوى في الأحكام ما يغنيه عن التكسب ولا يجوز أن يفتي فيما يتعلق بالألفاظ كالأيمان والإقرار والوصايا ونحوها إلا إذا كان من أهل بلد اللافظ أو نازلا منزلتهم في الخبرة بمرادهم في العادة وليس للمفتي والعامل على مذهب الإمام الشافعي في المسألة ذات الوجهين أو القولين أن يفتي أو يعمل بما شاء منهما من غير نظر وهذا لا خلاف فيه بل عليه في القولين أن يعمل بالمتأخر منهما إن علمه وإلا فبالذي رجحه الشافعي فإن لم يكن رجح أحدهما ولا علم السابق لزمه البحث عن أرجحهما فيعمل به فإن كان أهلا للترجيح اشتغل به متعرفا ذلك من نصوص الشافعي ومآخذه وقواعده وإلا فلينقله عن الأصحاب الموصوفين بهذه الصفة فإن لم يحصل له ترجيح بطريق توقف
وأما الوجهان فيتعرف أرجحهما بما سبق إلا أنه لا اعتبار بالتأخر إلا إذا وقعا من شخص واحد وإذا كان أحدهما منصوصا للشافعي والآخر مخرجا فالمنصوص هو

الراجح المعمول به غالبا كما إذا رجح الشافعي في أحد القولين بل هذا أولى
ولو وجد من ليس أهلا لترجيح خلافا للأصحاب في الأرجح من القولين أو الوجهين فليعتمد ما صححه الأكثر والأعلم والأورع فإن تعارض أعلم وأورع قدم الأعلم فإن لم يبلغه عن أحد ترجيح اعتبر صفات الناقلين للقولين والقائلين للوجهين فما رواه البويطي والمزني والربيع المرادي مقدم عند أصحابنا على ما رواه الربيع الجيزي وحرملة كذا نقله الخطابي من أصحابنا عن أصحابنا إلا أنه لم يذكر البويطي وزدته أنا لكونه أجل من الربيع وأقدم من المزني وأخص بالشافعي منه
قال الشيخ أبو عمرو ويترجح أيضا ما وافق أكثر أئمة المذاهب
وحكى القاضي حسين فيما إذا كان للشافعي قولان أحدهما كقول أبي حنيفة رضي الله عنه وجهين قال الشيخ أبو حامد المخالف لأبي حنيفة رضي الله عنه أرجح فلو لم يطلع الشافعي على معنى مخالف لما خالفه والصحيح أن الموافق أولى وبه قال القفال وهذا إذا لم نجد مرجحا مما سبق
ولو تعارض جزم مصنفين فهو كتعارض الوجهين فيرجع إلى البحث كما سبق ويرجح أيضا بالكثرة فإذا جزم مصنفان بشىء وجزم ثالث مساو لأحدهما بخلافهما رجحناهما عليه
واعلم أن نقل أصحابنا العراقيين لنصوص الشافعي وقواعد مذهبه ووجوه المتقدمين من أصحابنا أتقن وأثبت من نقل أصحابنا الخراسانيين غالبا إن لم يكن دائما وهذا مما يتعلق بما نحن فيه
ومما ينبغي أن يرجح به أحد القولين أن يكون الشافعي رحمه الله ذكره في بابه ومظنته والآخر جاء مستطردا في باب آخر
واعلم أن هذا الكتاب الذي اختصرته وهذبته محصل لك جميع

ما ذكرته ولا أقول هذا تبجحا بل نصيحة للمسلمين ومناصحة للدين وهما واجبان علي وعلى سائر المكلفين
واعلم أنه يكره للمفتي أن يقتصر في جوابه على قوله فيه قولان أو وجهان أو خلاف ونحو ذلك فإن هذا ليس جوابا صحيحا للمستفتي ولا يحصل به مقصوده وهو بيان ما يعمل به لما ذكرنا بل ينبغي أن يجزم بما هو الراجح فإن لم يظهر له الراجح انتظر ظهوره أو امتنع من الافتاء في المسألة كما فعله كثير من أصحابنا وغيرهم
واعلم أنه متى كان قولان قديم وجديد فالعمل على الجديد إلا في نحو عشرين أو ثلاثين مسألة قد أوضحتها مفصلة في أول شرح المهذب مع ما يتعلق بها ويترتب بها ويترتب عليها وبالله التوفيق وإذا كان في رقعة الاستفتاء مسائل فحسن أن يرتب الجواب على ترتيب الأسئلة وإذا كان في المسألة تفصيل لم يطلق الجواب فإنه خطأ بالاتفاق وليس له أن يكتب الجواب على ما يعلمه من صورة الواقعة إذا لم يكن في الرقعة تعرض له بل يذكر جواب ما في الرقعة فإن أراد الجواب على خلاف ما فيها فليقل وإن كان الأمر كذا فجوابه كذا وإذا كتب الجواب أعاد نظره فيه وتأمله وإذا كان هو المبتدىء بالإفتاء في الرقعة قال الصيمري وغيره فالعادة قديما وحديثا أن يكتب في الناحية اليسرى لأنه أمكن
قال الصيمري وغيره ولو كتب وسط الرقعة أو في حاشيتها فلا عتب عليه ولا يكتب فوق البسملة بحال
ويستحب عند إرادة الإفتاء أن يستعيذ من الشيطان ويسمي الله تعالى ويحمده ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول

لا حول ولا قوة إلا بالله ويقول رب اشرح لي صدري الآية ويستحب أن يكتب في أول فتواه الحمد لله أو الله الموفق أوحسبنا الله أو حسبي الله ونحو ذلك نقل ذلك الصيمري عن كثيرين قال وحذفه آخرون
قال ولا يدع أن يختم جوابه بقوله والله أعلم أو وبالله التوفيق ونحوه
قال ولا يقبح أن يقول الجواب عندنا أو الذي عندنا أو الذي نذهب إليه كذا لأنه من أهله قال وإذا كان السائل قد أغفل الدعاء للمجيب أو الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الفتوى ألحق المفتي ذلك بخطه فإن العادة جارية به ويكتب بعد والله أعلم ونحوه كتبه فلان أو فلان بن فلان الفلاني فينتسب إلى ما يعرف به من قبيلة أو بلد أو غيرهما ثم ينتسب إلى المذهب فيقول الشافعي أو الحنفي ونحوهما قال الصيمري وإن كانت الفتوى تتعلق بالسلطان دعا له فقال وعلى السلطان أو على ولي الأمر وفقه الله أو أصلحه أو سدده أو شد أزره ولا يقول أطال الله بقاءه فإنه ليس من ألفاظ السلف
وقد نقل النحاس اتفاق العلماء على كراهية أطال الله بقاءك
وقد أوضحت هذه اللفظة وما يتعلق بها ويشبهها في آخر كتاب الأذكار
وينبغي أن يختصر جوابه ويكون بحيث يفهم للعامة فهما جليا قال الصيمري والخطيب وغيرهما وإذا سئل عمن قال أنا أصدق من محمد بن عبد الله أو الصلاة لغو ونحو هذه العبارات فلا يبادر بقوله هذا

حلال الدم أو عليه القتل بل يقول إن ثبت هذا بإقراره أو ببينة استتابه السلطان فإن تاب قبلت توبته وإلا فعل كذا وكذا وأشبع القول فيه وإن سئل عن شىء يحتمل وجوها يكفر ببعضها دون بعض قال يسأل القائل فإن قال أردت كذا فالجواب كذا وإن قال أرددت كذا فالجواب كذا
وإذا سئل عمن قتل أو قلع سنا أو عينا احتاط في الجواب فيذكر الشروط التي يجب باجتماعها القصاص وإذا سئل عمن فعل ما يقتضي تعزيره ذكر ما يعزر به فيقول ضربه السلطان ما بين كذا وكذا ولا يزاد على كذا وينبغي أن يلصق الجواب بآخر الاستفتاء ولا يدع بينهما فرجة مخافة أن يزيد السائل شيئا يفسد الجواب
وإذا كان موضع الجواب ورقة ملصفة كتب على موضع الإلصاق وإذا ضاق آخر الورقة عن الجواب لم يكتبه في ورقة أخرى بل في ظهر هذه أو حاشيتها وأيهما أولى فيه ثلاثة أوجه ثالثها هما سواء والراجح أن حاشيتها أولى وبه قطع الصيمري وغيره وليحذر أن يميل في فتواه مع المستفتي أو خصمه ووجوه الميل معروفة
ومنها أن يكتب ما له دون ما عليه وليس له أن يعلم أحدهما ما يدفع به حجة صاحبه وإذا ظهر له أن الجواب خلاف غرض المستفتي وأنه لا يرضى بكتابته في ورقته اقتصر على مشافهته بالجواب ويجب عليه عند اجتماع الرقاع أن يقدم الأسبق فالأسبق كالقاضي وهذا فيما يجب فيه الإفتاء فإن تساووا وجهل السابق أقرع والصحيح أنه يجوز تقديم المرأة والمسافر الذي شد رحله ويتضرر بتخلفه عن رفقته إلا إذا كثر المسافرون والنساء بحيث يتضرر غيرهم تضررا ظاهرا فيقدم حينئذ بالسبق ثم القرعة ثم لا

يقدم أحدا إلا في فتيا واحدة
قال الصيمري وغيره إذا سئل عن ميراث فالعادة أن لا يشترط في الورثة عدم الرق والكفر والقتل وغيرهما مما يمنع الإرث بل المطلق محمول على ذلك بخلاف ما إذا أطلق الاخوة والاخوات ولا بد أن يقول في الجواب من أبوين أو أب أو أم وإذا سئل عن المنبرية وهي زوجة وأبوان وبنتان لا يقول للزوجة الثمن ولا التسع لأنه لم يطلقه أحد من السلف بل يقول لها الثمن عائلا وهو ثلاثة أسهم من سبعة وعشرين سهما أولها ثلاثة أسهم من سبعة وعشرين وإذا كان في المذكورين من لا يرث أفصح بسقوطه فقال وسقط فلان فإن كان سقوطه في حال دون حال قال وسقط فلان في هذه الحالة ونحو ذلك لئلا يتوهم أنه لا يرث بحال
قال وينبغي أن يكون شديد الاحتراز في جواب المناسخات
قال الصميري وغيره وحسن أن يقول تقسم التركة بعد إخراج ما يجب تقديمه من دين أو وصية إن كانا
قالوا وإذا رأى في الرقعة فتوى غيره ممن هو أهل للإفتاء وخطه موافق لما عنده كتب تحته الجواب صحيح أو جوابي مثل هذا أو بهذا أقول وله أن يكتب الجواب بعبارة أخصر من عبارة السابق
وإن كان فيها خط من ليس بأهل قال الصيمري وغيره لم يفت معه لأن ذلك تقرير للخطأ بل يضرب عليه وينهر المستفتي ويعرفه قبح ما فعله وأنه كان واجبا عليه البحث عن أهل الفتوى
وإن رأى فيها اسم من لا يعرفه سأل عنه فإن لم يعرفه فله الامتناع خوفا مما قلناه
والأولى أن يأمر صاحبها بإبدالها فإن أبى أجابه شفاها وإذا خاف فتنة من الضرب عليها ولم تكن فتياه خطأ امتنع من الإفتاء معه

وهل يجوز للعامي أن يتخير ويقلد أي مذهب شاء نظر إن كان منتسبا إلى مذهب بني على وجهين حكاهما القاضي حسين في أن العامي هل له مذهب أم لا أحدهما لا لأن المذهب لعارف الأدلة فعلى هذا له أن يستفتي من شاء وأصحهما عند القفال له مذهب فلا تجوز مخالفته
وإن لم يكن منتسبا بني على وجهين حكاهما ابن برهان بفتح الباء من أصحابنا في أن العامي هل يلزمه التقيد بمذهب معين أحدهما لا فعلى هذا هل له أن يقلد من شاء أم يبحث عن أسد المذاهب فيقلد أهله وجهان كالبحث عن الأعلم
والثاني وبه قطع أبو الحسن إلكيا يلزمه
وهو جار في كل من يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء وأصحاب سائر العلوم لئلا يتلقط رخص المذاهب بخلاف العصر الأول ولم تكن مذاهب مدونة فيتلقط رخصها
فعلى هذا يلزمه أن يختار مذهبا يقلده في كل شىء وليس له التمذهب بمجرد التشهي ولا بما وجد عليه أبده هذا كلام الأصحاب
والذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزمه التمذهب بمذهب بل يستفتي من شاء أو من اتفق لكن من غير تلقط للرخص
ولعل من منعه لم يثق بعدم تلقطه
وإذا استفتى وأفتاه المفتي فقال أبو المظفر السمعاني لا يلزمه العمل به إلا بإلزامه قال ويجوز أن يقال يلزمه إذا أخذ في العمل

به وقيل يلزمه إذا وقع في نفسه صحته قال وهذا أولى الأوجه والمختار ما نقله الخطيب وغيره أنه إذا لم يكن هناك مفت آخر لزمه بمجرد فتواه وإن لم تسكن نفسه وإن كان هناك آخر لم يلزمه بمجرد إفتائه إذ له أن يسأل غيره وحينئذ فقد يخالفه فيجيء فيه الخلاف السابق في اختلاف المفتيين وينبغي للمستفتي أن يبدأ من المفتين بالأسن الأعلم وبالأولى فالأولى فإن أراد جمعهم في رقعة وإن أراد إفرادهم في رقاع بدأ بمن شاء وتكون رقعة الاستفتاء واسعة ويدعو في الورقة لمن يستفتيه ويدفع الورقة إلى المفتي منشورة ويأخذها منشورة فيريحه من نشرها وطيها
وإذا لم يجد صاحب الواقعة مفتيا في بلده ولا غيره ولا من ينقل حكمها قال الشيخ أبو عمرو هذه مسألة فترة الشريعة الأصولية وحكمها حكم ما قبل ورود الشرع والصحيح في كل ذلك أن لا تكليف ولا حكم في حقه أصلا فلا يؤاخذ إذا صاحب الواقعة شىء بصنعه
فهذا آخر النبذ التي يسر الله الكريم إلحاقها وهي وإن كانت طويلة بالنسبة إلى هذا المختصر فهي قصيرة بالنسبة إلى ما ذكرته في شرح المهذب وموضع بسطها والزيادات والفروع هناك
وهذا الفصل مما يكثر الاحتياج إليه فلهذا بسطناه أدنى بسط
والله أعلم
المسألة الثالثة يستحب للإمام أن يأذن للقاضي في الاستخلاف فإن لم يأذن فله حالان أحدهما أن يطلق التولية ولا ينهاه عن الاستخلاف فإن أمكنه القيام بما تولاه كقضاء بلدة صغيرة فليس له الاستخلاف على الأصح وإن لم يمكنه كقضاء بلدتين أو بلد كبير فله الاستخلاف في القدر الزائد على ما يمكنه وليس له الاستخلاف في الممكن على الأصح والقياس فيما إذا أذن له أن يكون في القدر

المستخلف فيه هذان الوجهان إلا أن يصرح بالاستخلاف في الجميع وقطع ابن كج بالجواز في الكل عند مطلق الإذن
الحال الثاني أن ينهاه عن الاستخلاف فلا يجوز الاستخلاف فإن كان ما فوضه إليه لا يمكنه القيام به فقال القاضي أبو الطيب هذا النهي كالعدم والأقرب أحد أمرين إما بطلان التولية وبه قال ابن القطان وإما اقتصاره على الممكن وترك الاستخلاف
قلت هذا أرجحهما
والله أعلم
وجميع ما ذكرناه في الاستخلاف العام أما في الأمور الخاصة كتخليف وسماع بينة فقطع القفال بجوازه للضرورة وقال غيره هو على الخلاف وهو مقتضى إطلاق الأكثرين
فروع أحدها يشترط في الذي يستخلفه ما يشترط في القاضي قال الشيخ أبو محمد وغيره فإن فوض إليه أمرا خاصا كفاه من العلم ما يحتاج إليه في ذلك الباب حتى إن نائب القاضي في القرى إذا كان المفوض إليه سماع البينة ونقلها دون الحكم كفاه العلم بشروط سماع البينة ولا يشترط فيه رتبة الاجتهاد
الثاني قال الروياني في التجربة نص الشافعي رحمه الله في المبسوط يدل على أن الحاكم الشافعي لا يجوز أن يستخلف من يخالفه والمعروف في المذهب خلافه لأن الحاكم يعمل باجتهاده حتى لو شرط على النائب أن يخالف اجتهاده ويحكم باجتهاد المنيب لم يجز وكذا إذا جوزنا تولية المقلد للضرورة فاعتقاد المقلد في حقه كاجتهاد المجتهد فلا يجوز أن يشرط عليه الحكم بخلاف اعتقاد مقلده

فلو خالف وشرط القاضي الحنفي على النائب الشافعي الحكم بمذهب أبي حنيفة قال في الوسيط له الحكم في المسائل التي اتفق عليها الإمامان دون المختلف فيها وهذا حكم منه بصحة الاستخلاف لكن قال الماوردي وصاحبا المهذب و التهذيب وغيرهم لو قلد الإمام رجلا القضاء على أن يقضي بمذهب عينه بطل التقليد
ومقتضى هذا بطلان الاستخلاف هناك وفي فتاوى القاضي حسين أن الإمام الحنفي لو ولى شافعيا بشرط أن لا يقضي بشاهد ويمين ولا على غائب صحت التولية ولغا الشرط فيقضي بما أدى إليه اجتهاده ومقتضى هذا أن لا يراعى الشرط هناك قال الماوردي ولو لم تجر صيغة الشرط بل قال الإمام قلدتك القضاء فاحكم بمذهب الشافعي ولا تحكم بمذهب أبي حنيفة صح التقليد ولغا الأمر والنهي وفيه احتمال قال ولو قال لا تحكم في قتل المسلم بالكافر والحر بالعبد جاز وقد قصر عمله على باقي الحوادث وحكى وجهين فيما لو قال لا تقض فيهما بقصاص أنه يلغو أم يكون منعا له في الحكم في القصاص نفيا وإثباتا
الثالث حيث منعنا الاستخلاف فاستخلف فحكم الخليفة باطل لكن لو تراضى خصمان بحكمه كان كالمحكم وليس للقاضي إنفاذ حكمه بل يستأنف الحكم بينهما وإذا جوزنا الاستخلاف فاستخلف من لا يصلح للقضاء فحكمه باطل أيضا ولا يجوز إنفاذه
المسألة الرابعة إذا نصب الإمام قاضيين في بلد واحد نظر إن خص كل واحد بطرف منه أو بزمان أو جعل أحدهما قاضيا في الأموال والآخر في الدماء والفروج جاز قال ابن كج وكذا لو ولاهما على أن يحكم كل واحد منهما في الواقعة التي يرفعها المتخاصمان إليه وإن عمم ولا يتهما مكانا وزمانا وحادثة فإن شرط عليهما الاجتماع

في الحكم لم يجز لأن الخلاف يكثر في محل الاجتهاد فتتعطل الحكومات وإن أثبت لكل واحد الاستقلال فوجهان أحدهما لا يجوز كالإمامة العظمى فعلى هذا إن ولاهما معا بطلت توليتهما وإن ولاهما متعاقبين صحت تولية الأول دون الثاني وأصحهما الجواز الوكيلين والوصيين
فعلى هذا لو تنازع الخصمان في إجابة داعي القاضيين يجاب من سبق داعيه فإن جاءا معا أقرع وإن تنازعا في اختيار القاضيين فقد أطلق الغزالي أنه يقرع وقال الماوردي القول قول الطالب دون المطلوب فإن تساويا حضرا عند أقرب القاضيين إليهما فإن استويا في القرب فالأصح أنه يقرع وقيل يمنعان من التخاصم حتى يتفقا على أحدهما وإن أطلق نصب قاضيين ولم يشرط اجتماعهما ولا استقلالهما قال صاحب التقريب يحمل على إثبات الاستقلال تنزيلا للمطلق على ما يجوز وقال غيره التولية باطلة حتى يصرح بالاستقلال
قلت قول صاحب التقريبأصح وبه قطع الرافعي في المحرر
والله أعلم
الخامسة هل يجوز أن يحكم الخصمان رجلا غير القاضي وهل لحكمه بينهما اعتبار قولان أظهرهما عند الجمهور نعم وخالفهم الإمام والغزالي فرجحا المنع وقيل القولان في الأموال فقط فأما النكاح واللعان والقصاص وحد القذف وغيرها فلا يجوز فيها التحكيم قطعا والمذهب طرد القولين في الجميع وبه قطع الأكثرون ولا يجزىء في حدود الله تعالى على المذهب إذ ليس لها طالب معين وفي التهذيب وغيره ما يقضي ذهاب بعضهم إلى طرد الخلاف فيها وليس بشىء وقيل القولان في التحكيم في حقوق الآدميين مخصوصان بما إذا لم يكن في البلد قاض فإن كان لم يجز وقيل هما إذا كان

قاض وإلا فيجوز قطعا والمذهب طردهما في الحالين فإذا جوزنا التحكيم اشترط في المحكم صفات القاضي ولا ينفذ حكمه إلا على من رضي بحكمه حتى لا تضرب دية الخطأ على العاقلة إذا لم يرضوا بحكمه ولا يكفي رضى القاتل وقيل يكفي والعاقلة تبع له والصحيح الأول
قال السرخسي الخلاف مخصوص بقولنا تجب الدية على الجاني ثم تحملها العاقلة فإن قلنا تجب عليها ابتداء لم تضرب عليهم إلا برضاهم قطعا وهذا حسن
قال السرخسي وإنما يشترط رضا المتحاكمين إذا لم يكن أحدهما القاضي نفسه فإن كان فهل يشترط رضا الآخر فيه اختلاف نص والمذهب أنه لا يشترط وليكن هذا مبنيا على جواز الاستخلاف إن جاز فالمرجوع إليه نائب القاضي
قال ويشترط على أحد الوجهين كون المتحاكمين بحيث يجوز للمحكم أن يحكم لكل واحد منهما فإن كان أحدهما ابنه أو أباه لم يجز
وليس للمحكم الحبس بل غايته الإثبات والحكم وقيل يحبس وهو شاذ وهل يلزم حكمهما بنفس الحكم كحكم القاضي أم لا يلزمه إلا بتراضيهما بعد الحكم فيه قولان ويقال وجهان أظهرهما الأول ومتى رجع أحدهما قبل الحكم امتنع الحكم حتى لو أقام المدعي شاهدين فقال المدعى عليه عزلتك لم يكن له أن يحكم
وقال الاصطخري إن أحسن المدعى عليه بالحكم فرجع ففي تمكينه من الرجوع وجهان خرجهما والمذهب الأول وإذا جوزنا التحكيم في غير الأموال فخطب امرأة وحكما رجلا في التزويج كان له أن يزوج قال الروياني وهذا هو الأصح واختيار الاستاذين أبي إسحق الإسفراييني وأبي طاهر الزيادي وغيرهما من المشايخ وإنما يجوز فيه التحكيم إذا لم يكن لها ولي

خاص من نسيب أو معتق وشرط في بعض الشروح أن لا يكون هناك قاض وحكى صاحب العدة القاضي أبو المكارم الطبري ابن أخت الروياني وجهين في اشتراطه
وليكن هذا مبنيا على الخلاف في أنه هل يفرق في التحكيم بين أن يكون في البلد قاض أم لا وإذا رفع حكم المحكم إلى القاضي لم ينقضه إلا بما ينقض قضاء غيره
المسألة السادسة في أحكام منثورة تتعلق بالتولية
يجب على الإمام نصب القاضي في كل بلدة وناحية خالية عن قاض فإن عرف حال من يوليه عدالة وعلما فذاك وإلا أحضره وجمع بينه وبين العلماء ليعرف علمه ويسأل عن سيرته جيرانه وخلطاءه فلو ولى من لا يعرف حاله لم تنعقد توليته وإن علم بعد ذلك كونه بصفة القضاة ويجوز ان يجعل الإمام نصب القاضي إلى والي الإقليم وأمير البلدة وإن لم يكن المجعول إليه صالحا للقضاء لأنه وكيل محض وكذا لو فوض إلى واحد من المسلمين اختيار قاض ثم ليس له أن يختار والده ولا ولده كما لا يختار نفسه
ولو قال لأهل بلد اختاروا رجلا منكم وقلدوه القضاء قال ابن كج جاز على الأصح
ويشترط في التولية تعيين محل ولايتههن قرية أو بلدة أو ناحية ويشترط تعيين المولى فلو قال وليت أحد هذين أو من رغب في القضاء ببلدة كذا من علمائها لم يجز
ولو قال فوضت القضاء إلى فلان وفلان فهذا نصب قاضيين
وفي الأحكام السلطانية للقاضي الماوردي إن تولية القضاء تنعقد بما تنعقد به الوكالة وهو المشافهة باللفظ والمراسلة والمكاتبة عند الغيبة ويجيء في المراسلة والمكاتبة خلاف كما سبق في الوكالة وإن كان المذهب الصحة كما ذكره
وفيه أن صريح اللفظ وليتك القضاء واستخلفتك واستنبتك ولم يذكر التفويض بصيغة الأمر كقوله اقض بين الناس أو احكم ببلدة كذا وهو

ملحق بالصرائح كما في الوكالة
وفيه أن الكنايات اعتمدت عليك في القضاء أو رددته إليك أو اعتمدت أو فوضت أو وكلت أو أسندت وينبغي أن يقترن بها ما يلحقها بالصرائح ولا يكاد يتضح فرق بين وليتك القضاء وفوضته إليك
قلت الفرق واضح فإن قوله وليتك متعين لجعله قاضيا وفوضت إليك محتمل أن يراد توكيله في نصب قاض
والله أعلم
وفيه أن عند المشافهة يشترط القبول على الفور وفي المراسلة والمكاتبة لا يشترط الور وقد سبق في الوكالة خلاف في اشتراط القبول وأنه إذا اشترط فالأصح أنه لا يعتبر الفور فليكن هكذا هنا

فرع يجوز تعميم التولية وتخصيصها إما في الأشخاص بأن يوليه القضاء بين
بين من يأتيه في داره أو في مسجده من الخصوم وإما في الحوادث بأن يوليه القضاء في الأنكحة دون الأموال أو عكسه أو في قدر معين من المال وإما في طرف الحكم بأن يوليه القضاء بالإقرار دون البينة أو عكسه وإما في الأمكنة وهو ظاهر وإما في الأزمنة بأن يوليه سنة أو يوما معينا أو يوما سماه من كل اسبوع
وحكى ابن كج وجها أنه إذا قال وليتك سنة بطلت التولية كما في الإمامة

والمذهب الأول كالوكالة ولو كان كالإمامة لما جاز باقي التخصيصات
ومن ولي القضاء مطلقا استفاد سماع البينة والتحليف وفصل الخصومات بحكم بات أو إصلاح عن تراض واستيفاء الحقوق والحبس عند الحاجة والتعزير وإقامة الحدود وتزويج من ليس لها ولي حاضر والولاية في مال الصغار والمجانين والسفهاء والنظر في الضوال وفي الوقف حفظا للأصول وإيصالا للغلات إلى مصارفها بالفحص عن حال المتولي إذا كان لها متول وبالقيام به إذا لم يكن
قال الماوردي ويعم نظره في الوقوف العامة والخاصة لأن الخاصة ستنتهي إلى العموم والنظر في الوصايا وتعيين المصروف إليه إن كانت لجهة عامة بالقيام بها إن لم يكن وصي وبالفحص عن حاله إن كان والنظر في الطرق والمنع من التعدي فيها بالأبنية وإشراع ما لا يجوز إشراعه قال القاضي أبو سعد الهروي ونصب المفتين والمحتسبين وأخذ الزكوات
وفصل الماوردي أمر الزكوات فقال إذا أقام الإمام لها ناظرا خرجت عن عموم ولاية القاضي وإلا فوجهان ويشبه أن يطرد هذا التفصيل في المحتسبين وكذا القول في إقامة صلاة الجمعة والعيد ويقرب من هذه الأمور نصب الأئمة في المساجد وليس للقاضي جباية الجزية والخراج بالتولية المطلقة على الأصح
الطرف الثاني في العزل والانعزال وفيه مسائل الأولى إذا جن أو أغمي عليه أو عمي أو خرس أو خرج عن أهلية الضبط والاجتهاد لغفله أو نسيان لم ينفذ حكمه وكذا لو

فسق على الأصح فلو زالت هذه الأحوال ففي عود ولايته من غير تولية مستأنفة وجهان سبقا في كتاب الوصايا الأصح لا يعود وقطع السرخسي بعودها في صورة الإغماء
ولو أخبر الإمام بموت القاضي أو فسقه فولى قاضيا ثم بان خلافه لم يقدح في تولية الثاني
الثانية في الحال الذي يجوز فيه عزله فإن ظهر منه خلل فللإمام عزله قال في الوسيط ويكفي فيه غلبة الظن
وإن لم يظهر خلل نظر إن لم يكن من يصلح للقضاء لم يجز عزله ولو عزله لم ينعزل وإن كان هناك صالح نظر إن كان أفضل منه جاز عزله وانعزل المفضول بالعزل وإن كان مثله أو دونه فإن كان في العزل به مصلحة من تسكين فتنة ونحوها فللإمام عزله به وإن لم يكن فيه مصلحة لم يجز فلو عزله نفذ على الأصح مراعاة لطاعة السلطان ومتى كان العزل في محل النظر واحتمل أن يكون فيه مصلحة فلا اعتراض على الإمام فيه ويحكم بنفوذه وفي بعض الشروح أن تولية قاض بعد قاض هل هي عزل للأول وجهان وليكونا مبنيين على أنه هل يجوز أن يكون في بلد قاضيان

فرع هل ينعزل القاضي قبل أن يبلغه خبر العزل قيل قولان كالوكيل
والمذهب القطع بأنه لا ينعزل قبله لعظم الضرر في نقض أقضيته ثم الخلاف فيما إذا عزله لفظا أو كتب إليه أنت معزول أو عزلتك فأما إذا كتب إليه إذا أتاك كتابي هذا فأنت معزول فلا ينعزل قبل أن يصله الكتاب قطعا وإن كتب إذا قرأت كتابي فأنت

معزول لم ينعزل قبل القراءة ثم إن قرأ بنفسه انعزل وكذا إن قرىء عليه على الأصح لأن الغرض إعلامه بصورة الحال
ولو كان القاضي أميا وجوزناه فقرىء عليه فالانعزال أولى

فرع للقاضي أن يعزل نفسه كالوكيل وفي الإقناع للماوردي أنه إذا عزل نفسه لا ينعزل

المسألة الثالثة فيمن ينعزل بموت القاضي وانعزاله فينعزل به كل مأذون له في شغل معين كبيع على ميت أو غائب وسماع شهادة في حادثة معينة وأما من استخلفه في القضاء ففيه ثلاثة أوجه أحدها ينعزل كالوكيل والثاني لا للحاجة وأصحها ينعزل إن لم يكن القاضي مأذونا له في الاستخلاف لأن الاستخلاف في هذا لحاجته وقد زالت بزوال ولايته وإن كان مأذونا له فيه لم ينعزل إن كان قال استخلف عني فامتثل وإن قال استخلف عن نفسك أو أطلق انعزل ولو نصبه الإمام نائبا عن القاضي قال السرخسي لا ينعزل بموت القاضي وانعزاله لأنه مأذون له من جهة الإمام وفيه احتمال ويتخرج على هذا الخلاف أن القاضي هل له عزل خليفته
فرع القوام على الأيتام والأوقاف جعلهم الغزالي كالخلفاء والمذهب الذي
لئلا تتعطل أبواب المصالح وهم كالمتولي من جهة الواقف
فرع القضاة والولاة لا ينعزلون بموت الإمام الأعظم وانعزاله لشدة

الضرر في تعطيل الحوادث 0
المسألة الرابعة إذا قال القاضي بعد الانعزال كنت حكمت لفلان بكذا لم يقبل إلا ببينة وهل تقبل شهادته بذلك مع آخر وجهان قال الاصطخري نعم والصحيح باتفاق الأصحاب المنع لأنه يشهد على فعل نفسه فعلى هذا لو شهد مع غيره أن حاكما جائز الحكم حكم بكذا ولم يضف إلى نفسه قبلت شهادته على الأصح كما لو شهدت المرضعة برضاع محرم ولم يذكر فعلها
ووجه المنع أنه قد يريد نفسه فوجب البيان ليزول اللبس والوجهان مفرعان على أنه لو قامت البينة على حكم حاكم قبلت ولا يشترط تعيينه وهذا هو المذهب والمعروف وأشار بعضهم إلى وجه آخر فعلى هذا الوجه لا تقبل شهادة واحد منهما
ثم يجوز أن يقال الوجهان فيما إذا لم يعلم القاضي أنه يشهد على فعل نفسه فإن علم فهو كما لو أضاف
ويجوز أن يقال هما إذا علم فإن لم يعلم قبل قطعا لجواز إرادة غيره
وعلى هذا الاحتمال لو شهد العزول أن حاكما حكم بكذا وشهد معه آخر أن المعزول حكم به وجب أن نقبل لأنا على هذا التقدير لا نعتني إلا بتصحيح الصيغة
قلت الاحتمال الأول هو الصحيح
والله أعلم
ولو شهد المعزول أنه ملك فلان أو أن فلانا أقر في مجلس حكمي بكذا قبلت شهادته لأنه لم يشهد على فعله وقول القاضي في غير محل ولايته حكمت لفلان بكذا كقول المعزول
وأما إذا قال قبل العزل حكمت بكذا فيقبل لقدرته على الانشاء في الحال وحتى لو قال على سبيل الحكم نساء القرية طوالق من أزواجهن قبل قوله ولا حاجة إلى حجة

فرعان ذكرهما الهروي أحدهما قال القاضي المعزول المال الذي في يد هذا الأمين دفعته إليه أيام قضائي ليحفظه لزيد وقال الأمين إنه لعمرو وما قبضته منك فالقول قول الأمين وإن وافقه على القبض منه فالقول قول القاضي
والثاني يجوز أن يكون الشاهدان بحكم القاضي هما اللذان شهدا عنده وحكم بشهادتهما لأنهما يشهدان على فعل القاضي
قال الأستاذ أبو طاهر وعلى هذا تفقهت وأدركت القضاة
الخامسة ليس على القاضي تتبع أحكام القاضي قبله لأن الظاهر منها السداد وله التتبع على أحد الوجهين واختاره الشيخ أبو حامد احتياطا
وإذا جاءه متظلم على القاضي المعزول وطلب إحضاره لم يسارع إلى إجابته فقد يقصد ابتذاله بل يسأله عما يريد منه فإن ذكر أنه يدعي عليه عينا أو دين معاملة أو إتلاف أو غصب أحضره وفصل خصومتهما كغيرهما
ولو قال أخذ مني كذا على سبيل الرشوة المحرمة أو أخذ مني مالا بشهادة عبدين أو غيرهما ممن لا تقبل شهادته ودفعه إلى فلان فكذلك الجواب لأن هذا الأخذ كالغصب وأما فلان الذي ادعى الدفع إليه فإن قال أخذته بحكم المعزول لي لم يقبل قوله ولا قول المعزول له بل يحتاج إلى بينة تشهد على حكم المعزول له أيام قضائه وإن لم يكن بينة انتزع منه المال وإن اقتصر على أنه لي ولم يتعرض الآخذ من المدعي لحكم المعزول فالقول قوله بيمينه ولو لم يتعرض المتظلم للآخذ بل قال حكم علي بشهادة عبدين ونحوهما فقد حكى الغزالي وجها أن دعواه لا تسمع ولا يصغى إليه وهذا الوجه خطأ لا نعرفه لأحد من الأصحاب بل اتفق الأصحاب على أن دعواه مسموعة وبينته محكوم بها ولكن هل يحضر المعزول بمجرد دعواه وجهان أصحهما

نعم كغيره والثاني لا يحضره إلا ببينة تقوم بما بدعيه أو على إقرار المعزول بما يدعيه لأن الظاهر جريان أحكامه على الصواب فيكفي هذا الظاهر حتى تقوم بينة بخلافه وعلى هذا فليس المراد أن البينة تقام في غيبته ويحكم بها لكن الغرض أن يكون إحضاره ثبت فيقيم المدعي شهودا يعرف القاضي بهم أن لدعواه أصلا وحقيقة ثم إذا حضر المعزول ادعى المدعي وشهد الشهود في وجهه فإن أحضر بعد البينة أو من غير بينة فأقر طولب بمقتضاه وإن أنكر صدق بيمينه على الأصح عند العراقيين والروياني كالمودع وسائر الأمناء وقيل يصدق بلا يمين وبه قال ابن القاص والاصطخري وصاحب التقريب والماوردي وصححه الشيخ أبو عاصم والبغوي
ولا فرق في ذلك بين أن يدعي عليه الحكم في مال أو دم حتى إذا ادعى عليه أنه قتل ظلما بالحكم جرى الخلاف في أن إحضاره هل يتوقف على بينة وأنه إذا أنكر هل يحلف ولو ادعى على نائب المعزول في القضاء فهو كالدعوى على المعزول وأما أمناؤه الذين يجوز لهم أخذ الأجرة فلو حوسب بعضهم فبقي عليه شىء فقال أخذت هذا المال أجرة عملي فصدقه المعزول لم ينفعه تصديقه بل يسترد منه ما يزيد على أجرة المثل وهل يصدق بيمينه في أجرة المثل وجهان أحدهما لا بل عليه البينة بجريان ذكر الأجرة
والثاني نعم لأن الظاهر أنه لا يعمل مجانا
قال الإمام والخلاف مبني على أن من عمل لغيره ولم يسم أجرة هل يستحقها فرع لو ادعى رجل على القاضي الباقي على قضائه نظر إن ادعى ما لا يتعلق بالحكم حكم بينهما خليفته أو قاض آخر وإن ادعى ظلما في الحكم وأراد تغريمه لم يمكن ولا يحلف القاضي ولا تغني

إلا البينة وكذا لو ادعى على الشاهد أنه شهد بالزور وأراد تغريمه لأنهما أمينان شرعا
ولو فتح باب تحليفهما لتعطل القضاء وأداء الشهادة وكذا الحكم لو قال للقاضي قد عزلت فأنكر وعن الشيخ أبي حامد أن قياس المذهب التحليف في جميع هذا كسائر الأمناء إذا ادعيت خيانتهم

الباب الثاني في جامع آداب القضاء
فيه أطراف الأول في آداب متفرقة وهي عشرة الأول أن يكتب الإمام كتاب العهد لمن ولاه القضاء ويذكر فيه ما يحتاج القاضي إلى القيام به ويعظه فيه فإن كان يبعثه إلى بلد آخر نظر إن كان بعيدا لا ينتشر الخبر إليه فليشهد شاهدين على التولية على الوجه الذي تضمنه الكتاب ويقرآنه أو يقرؤه الإمام عليهما فإن قرأ غير الإمام فالأحوط أن ينظر الشاهدان فيه ثم يخرج الشاهدان معه فيخبران بالحال هناك قال الأصحاب وليس هذا على قواعد الشهادات إذ ليس هناك قاض يؤدي عنده الشهادة
ولو أشهد ولم يكتب كفى فإن الاعتماد على الشهود وإن كان البلد قريبا ينتشر الخبر إليه ويستفيض فإن أشهد شاهدين يخرجان معه كما ذكرنا فذاك وإلا ففي الاكتفاء بالاستفاضة وجهان أحدهما المنع وبه قال أبو إسحق لأن العقود لا تثبت بالاستفاضة كالوكالة والإجارة وأصحهما الاكتفاء وبه قال الاصطخري إذ لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن الخلفاء الإشهاد ومن الأصحاب من أطلق الوجهين ولم يفرق بين البلد البعيد والقريب ويشبه أن لا يكون خلاف ويكو التعويل على الاستفاضة ولا يجوز اعتماد مجرد الكتابة بغير استفاضة ولا إشهاد هذا هو المذهب والمفهوم من كلام الجمهور
وذكر الغزالي في اعتماده وجهين

الأدب الثاني إذا أراد الخروج إلى بلد قضائه سأل عن حال من فيه العدول والعلماء فإن لم يتيسر سأل في الطريق حتى يدخل على علم بحال البلد فإن لم يتيسر سأل حين يدخل ويستحب أن يدخل يوم الاثنين
قلت قال الأصحاب فإن تعسر يوم الاثنين فالخميس وإلا فالسبت
والله أعلم
وأن يكون عليه عمامة سوداء فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء وأن ينزل في وسط البلد أو الناحية لئلا يطول الطريق على بعضهم وإذا دخل فإن رأى أن يشتغل في الحال بقراءة العهد فعل وإن رأى أن ينزل منزله ويأمر مناديا ينادي يوما فأكثر أو أقل على حسب صغر البلد أو كبره أن فلانا جاء قاضيا وأنه يخرج يوم كذا لقراءة العهد فمن أحب فليحضر فإذا اجتمعوا قرأ عليهم العهد وإن كان معه شهود شهدوا ثم ينصرف إلى منزله ويستحضر الناس ويسألهم عن الشهود والمزكين سرا وعلانية
قال الأصحاب ويتسلم ديوان الحكم وهو ما كان عند القاضي قبله من المحاضر والسجلات وحجج الأيتام والأوقاف وحجج غيرهم المودعة في الديوان لأنها كانت في يد الأول بحكم الولاية وقد انتقلت الولاية إليه ثم إذا أراد النظر في الأمور نظر أولا في المحبوسين هل يستحقونه أم لا ويأمر قبل أن يجلس للنظر فيهم من ينادي يوما فأكثر على حسب الحاجة أن القاضي ينظر في المحبوسين يوم كذا فمن له محبوس فليحضر ويبعث إلى الحبس أمينا ليكتب اسم كل محبوس وما حبس به ومن حبس له في رقعة
وذكر القاضي أبو الطيب أنه يبعث أمينين وهو أحوط
فإذا جلس في اليوم الموعود وحضر الناس صبت الرقاع بين يديه فيأخذ رقعة

وينظر في الاسم المثبت فيها ويسأل عن خصمه فمن قال أنا خصمه بعث معه ثقة إلى الحبس ليأخذ بيده ويحضره وهكذا يحضر من المحبوسين من يعرف أن المجلس يحتمل النظر في أمرهم وفي أمالي السرخسي أنه يقرع بينهم للابتداء
وإذا اجتمع عنده المحبوس وخصمه سأل المحبوس عن سبب حبسه وجوابه يفرض على وجوه منها أن يعترف أنه حبس بحق فإن كان ما حبس به مالا أمر بأدائه فإن قال أنا معسر فعلى ما سبق في التفليس فإن لم يؤد ولم يثبت إعساره رد إلى الحبس وإن أدى أو ثبت إعساره نودي عليه فلعل له خصما آخر فإن لم يحضر أحد خلي وإن كان ما حبس به حدا أقيم عليه وخلي كما ذكرناه
ومنها أن يقول شهدت على بينة فحبسني القاضي ليبحث عن حال الشهود ففي جواز الحبس بهذا السبب خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى فإن قلنا لا يحبس به أطلقه وإلا رده وبحث عن حال الشهود ومنها أن يقول حبست بخمر أو كلب أتلفته على ذمي وهذا القاضي لا يعتقد التغريم بذلك فالأظهر أنه يمضيه والثاني يتوقف ويسعى في اصطلاحهما على شىء
ومنها أن يقول حبست ظلما فإن كان الخصم معه فعلى الخصم البينة ويصدق المحبوس بيمينه فإن ذكر خصما غائبا فقيل يطلق قطعا والأصح أنه على وجهين فإن قلنا لا يطلق حبس أو يؤخذ منه كفيل ويكتب إلى خصمه في الحضور فإن لم يفعل أطلق حينئذ وإن قال لا خصم لي أصلا أو قال لا أدري فيم حبست نودي عليه لطلب الخصم فإن لم يحضر أحد حلف وأطلق قال في الوسيط وفي مدة المناداة لا يحبس ولا يخلى بالكلية بل يرتقب وحيث أطلق الذي ادعى أنه مظلوم لا يطالب بكفيل على الأصح

فرع لو كان قد حبسه الأول تعزيرا قال الغزالي أطلقه الثاني
يتعرض الجمهور لهذا فإن بانت جنايته عند الثاني ورأى إدامة حبسه فالقياس الجواز
فرع فإذا فرغ من المحبوسين نظر في الأوصياء فإذا حضر من ادعى
وصي بحث الحاكم عن شيئين أحدهما أصل الوصاية فإن أقام بينة أن القاضي المعزول نفذ وصايته وأطلق تصرفه قرره ولم يعزله إلا أن يطرأ فسقه ونحوه وينعزل فينزع المال منه وإن شك في عدالته فوجهان قال الاصطخري يقر المال في يده لأن الظاهر الأمانة وقال أبو إسحق ينتزعه حتى تثبت عدالته وإن وجده ضعيفا أو كان المال كثيرا لا يمكنه القيام بحفظه والتصرف فيه ضم إليه من يعينه والثاني تصرفه في المال فإن قال فرقت ما أوصى به نظر إن كانت الوصية لمعينين لم يتعرض له لأنهم يطالبون إن لم يكن وصلهم وإن كانت لجهة عامة فإن كان عدلا أمضى تصرفه ولم يضمنه وإن كان فاسقا ضمنه لتعديه بالتفريق بغير ولاية صحيحة ولو فرق الثلث الموصى به غير الوصي خوفا عليه من أن يضيع نظر إن كانت الوصاية لمعينين وقع الموقع لأن لهم أن يأخذوه بلا واسطة وإلا فيضمن على الأصح
فرع ثم بعد الأوصياء ينظر في أمناء القاضي المنصوبين على الأطفال

ومن لم يتغير حاله أقره قال الروياني وله أن يعزله ويولي غيره بخلاف الأوصياء لأن الأمين يولى من جهة القاضي بخلاف الوصي
فرع ثم ينظر في الأوقاف العامة والمتولين لها وفي اللقط والضوال فما
على صاحبه أو باعه وحفظ ثمنه لمصلحة المالك وله أن يحفظ هذه الأموال معزولة عن أمثالها في بيت المال وله أن يخلطها بمثلها فإذا ظهر المالك غرم له من بيت المال
فرع ليقدم من كل نوع من ذلك الأهم فالأهم وإن عرضت حادثة
بهذه المهمات استخلف من ينظر في تلك الحالة أو فيما هو فيه
الأدب الثالث يرتب القاضي بعد المذكورات أمر الكتاب والمزكين والمترجمين أما الكتاب فللحاجة إلى كتابة المحاضر والسجلات والكتب الحكمية لأن القاضي لا يتفرغ لها غالبا
ويشترط في الكاتب أن يكون عارفا بما يكتبه من المحاضر وغيرها وأن يكون مسلما عدلا
وفي المهذب وجه أن الإسلام والعدالة ليسا بشرط بل مستحبان لأن القاضي لا يمضي ما كتبه حتى يقف عليه وليس بشىء
ويستحب أن يكون فقيها وافر العقل عفيفا عن الأطماع جيد الخط

ضابطا للحروف وأن يجلسه القاضي بين يديه ليملي عليه ويشاهد ما يكتبه
وأما المزكون فسيأتي فيهم فصل مفرد إن شاء الله تعالى
وأما المترجمون فللحاجة إلى معرفة كلام من لا يعرف القاضي لغته من خصم أو شاهد ويشترط في المترجم التكليف والحرية والعدالة لأنه ينقل إلى القاضي قولا لا يعرفه فأشبه الشاهد والمزكي بخلاف الكاتب ولهذه العلة شرطنا العدد فيه وفي المزكي
قال الأصحاب فإن كان الحق مما يثبت برجل وامرأتين قبلت الترجمة من رجلين أو من رجل وامرأتين وانفرد الإمام باشتراط رجلين واختاره البغوي لنفسه
وأما النكاح والعتق وسائر ما لا يثبت إلا برجلين فيشترط في ترجمته رجلان وفي الزنا هل يكفي رجلان أم يشترط أربعة قولان كالشهادة على الإقرار بالزنا وقيل يكفي رجلان قطعا ولو كان الشاهدان أعجميين فهل يكفي لهما مترجمان أم يشترط لكل مترجمان قولان كشهود الفرع وبالأول قطع العبادي في الرقم ويجوز أن يكون المترجم أعمى على الأصح لأنه يفسر اللفظ ولا يحتاج إلى معاينة وإشارة بخلاف الشهادة وإذا كان بالقاضي صمم واحتاج إلى من يسمعه فثلاثة أوجه أصحها يشترط العدد كالمترجم والثاني لا لأن المسمع لو غير أنكر عليه الخصم والحاضرون بخلاف المترجم
والثالث إن كان الخصمان أصمين اشترط لأن غيرهما لا يعتني اعتناءهما وإن كانا سميعين فلا
فأما إسماع الخصم ما يقوله القاضي وما يقوله الخصم فحكى الروياني عن القفال أنه لا يشترط فيه العدد وإذا شرطنا العدد
اشترط لفظ الشهادة على الأصح فيقول أشهد أنه يقول كذا ومن منع قال ليست بشهادة محققة وإذا لم يشترط العدد اشترطت الحرية على الأصح كهلال رمضان

ولا يسلك به مسلك الروايات وليجري الخلاف في لفظ الشهادة والحرية مع بعده من المترجم ويشبه أن يكون الاكتفاء بإسماع رجل وامرأتين في المال على ما ذكرنا في المترجم

فرع إذا لم يجد القاضي كفاية فله أن يأخذ رزقا من بيت
للقضاء وإن وجدها وتعين عليه لم يجز أخذ شىء وإلا فيجوز
ويستحب ترك الأخذ ولا يجوز عقد الإجارة على القضاء وفي فتاوي القاضي حسين وجه أنه يجوز والمذهب الأول وبه قطع الجمهور وينبغي للإمام أن يجعل من بيت المال شيئا مع رزق القاضي لثمن ورق المحاضر والسجلات ولأجرة الكاتب فإن لم يكن في بيت المال شىء أو احتيج إليه لما هو أهم فإن أتى المدعي بورقة تثبت فيها خصومته وشهادة الشهود وبأجرة الكاتب فذاك وإلا فلا يجبر عليه لكن يعلمه القاضي أنه إذا لم يثبت ما جرى فقد تنسى شهادة الشهود وحكم نفسه وليكن رزق القاضي بقدر كفايته وكفاية عياله على ما يليق بحالهم من النفقة والكسوة وغيرهما وكذا الإمام يأخذ لنفسه ما يليق به من الخيل والغلمان الدار الواسعة ولا يلزمه الاقتصار على ما اقتصر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم لأنه قد بعد العهد بزمن النبوة التي كانت سبب النصر وإلقاء الرعب والهيبة في القلوب فلو اقتصر الإمام اليوم على ذلك لم يطع وتعطلت الأمور
ولو رزق الإمام القاضي من مال نفسه أو رزقه أهل ولايته أو واحد منهم فالذي خرجه صاحب التلخيص أنه لا يجوز له قبوله وقد سبق في الأذان أنه يجوز أن يكون رزق المؤذن

من مال الإمام أو أحد الرعية ويجوز أن يفرق بأن ذلك لا يورث تهمة وميلا في المؤذن بخلاف القاضي وكما يرزق الإمام القاضي من بيت المال يرزق أيضا من يرجع مصلحة عمله إلى عامة المسلمين كالأمير والمفتي والمحتسب وإمام الصلاة والمؤذن ومن يعلم الناس القرآن ومن يقيم الحدود والقاسم وكاتب الصكوك فإن لم يكن في بيت المال شىء لم يعين قاسما ولا كاتبا لئلا يغالي بالأجرة وألحق بهؤلاء المقوم وفي المترجم وجهان أصحهما يرزق من بيت المال كهؤلاء والثاني لا كالوكيل قاله ابن القاص وأبو زيد وعلى هذا فمؤنة ما يترجم به للمدعى عليه على المدعى عليه والمسمع كالمترجم ففي مؤنته الوجهان وهما جاريان في المزكي والقول في الشاهد يأتي في الشهادات إن شاء الله تعالى
الأدب الرابع يستحب أن يكون مجلس القضاء فسيحا بارزا نزها لا يؤذي فيه حر ولا برد وريح وغبار ودخان فيجلس في الصيف حيث يليق به وكذا في الشتاء وزمن الرياح واستحب أبو عبيد بن حربويه وغيره من الأصحاب أن يكون موضع جلوسه مرتفعا كدكة ونحوها ليسهل عليه النظر إلى الناس وعليهم المطالبة وحسن أن يوطأ له الفراش وموضع الوسادة ليعرفه الداخل يكون أهيب عند الخصوم وأرفق بالقاضي لئلا يمل والمستحب أن يكون مستقبل القبلة ولا يتكىء ويستحب أن لا يتخذ المسجد مجلسا للقضاء فإن اتخذ كره على الأصح لأنه ينزه عن رفع الأصوات وحضور الحيض والكفار والمجانين وغيرهم ممن يحضرون مجلس القضاء والثاني لا يكره كما لا يكره الجلوس فيه لتعليم القرآن وسائر العلوم والإفتاء وإذا أثبتنا الكراهة فهي في إقامة الحد أشد وكراهة اتخاذه مجلسا للقضاة كراهة تنزيه فإن ارتكبها لم يمكن الخصوم من

الاجتماع فيه والمشاتمة ونحوها بل يقعدون خارجه وينصب من يدخل خصمين خصمين ولو اتفقت قضية أو قضايا وقت حضوره في المسجد لصلاة أو غيرها فلا بأس بفصلها وإذا جلس للقضاء ولا زحمة كره أن يتخذ حاجبا على الأصح ولا كراهة فيه في أوقات حلوته على الصحيح
الأدب الخامس يكره أن يقضي في كل حال يتغير فيه خلقه وكمال عقله لغضب أو جوع أو شبع مفرطين أو مرض مؤلم وخوف مزعج وحزن وفرح شديدين وغلبة نعاس أو ملال أو مدافعة أحد الأخبثين أو حضور طعام يتوق إليه ثم قال الإمام والبغوي وغيرهما الكراهة فيما إذا لم يكن الغضب لله تعالى وظاهر كلام آخرين أنه لا فرق ولو قضى في هذه الحال نفذ

فصل إذا أقر المدعى عليه أو نكل فحلف المدعي ثم يسأل المدعي
أن يشهد على أنه أقر عنده أو نكل وحلف المدعي لزمه إجابته
ولو أقام بينة بما ادعاه وسأل القاضي الإشهاد عليه لزمه أيضا في الأصح ولو حلف المدعى عليه وإن سأله الإشهاد ليكون حجة له فلا يطالبه مرة أخرى لزمه إجابته وسأله أحد المتداعيين أن يكتب له محضرا بما جرى ليحتج به إذا احتاج نظر إن لم يكن عنده قرطاس من بيت المال ولم يأت به الطالب لم يلزمه إجابته وإن كان فهل يجب أم يستحب وجهان أصحهما الاستحباب لأن الحق يثبت بالشهود لا بالكتاب وإن طلب أن يحكم له بما ثبت لزمه الحكم فيقول حكمت له به أو أنفذت الحكم به أو ألزمت خصمه الحق وإذا حكم فطلب الإشهاد على حكمه لزمه الإشهاد وإن طلب أن يكتب له به سجلا فعلى التفصيل والخلاف المذكور في كتابة

المحضر ونقل ابن كج وجها ثالثا أنه يجب التسجيل في الدين المؤجل الوقوف وأموال المصالح فلا يجب في الحال والحقوق الخاصة وسواء أوجبنا الكتابة أم استحببناها فيحتاج إلى بيان المكتوب وأنه كيف يضبط ويحفظ أما الأول فالمكتوب محضر وسجل أما المحضر فصورته بسم الله الرحمن الرحيم حضر القاضي فلان ابن فلان وأحضر معه فلان ابن فلان ويرفع في نسبهما ما يفيد التمييز وهذا إذا عرفهما القاضي ويستحب مع ذلك التعرض لحليتهما طولا وقصرا في القد وسمرة وشقرة في الوجه ويصف منهما الحاجب والعين والفم والأنف
وإن لم يعرفهما كتب حضر رجل ذكر أنه فلان ابن فلان وأحضر معه رجلا ذكر هذا المحضر أنه فلان ابن فلان ابن فلان ولا بد والحالة هذه من التعرض لحليتهما ثم يكتب وادعى عليه كذا من عين أو دين بصفتهما فأقر المدعى عليه بما ادعى فإن أنكر وأقام المدعي بينة كتب فأحضر امدعي فلانا وفلانا شاهدين وسأل القاضي استماع شهادتهما فسمعها في مجلس حكمه وثبت عنده عدالتهما وسأله أن يكتب محضرا بما جرى فأجابه إليه وذلك في تاريخ كذا ويثبت على رأس المحضر علامته من الحمدلة وغيرها ويجوز أن يبهم الشاهدين فيكتب وأحضر عدلين شهدا له بما ادعاه ولو كان مع المدعي كتاب فيه خط الشاهدين كتب تحت خطهما شهد عندي بذلك وأثبت علامته في رأس الكتاب واكتفى به عن المحضر جاز وإن كتب المحضر وضمنه ذلك الكتاب جاز وعلى هذا قياس محضر يذكر تحليف المدعى عليه أو المدعي

بعد نكول المدعى عليه
وأما السجل فصورته بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أشهد عليه فلان القاضي بموضع كذا في تاريخ كذا أنه ثبت عنده كذا فأقر فلان لفلان أو بشهادة فلان وفلان وقد ثبتت عدالتهما عنده أو بيمينه بعد نكول المدعى عليه وأنه حكم بذلك لفلان على فلان وأنفذه بسؤال المحكوم له
ويجوز أن يكتب ثبت عنده ما في كتاب هذه نسخته وينسخ الكتاب إلى آخره ثم يكتب وإنه حكم بذلك وكيفية التعرض لنسب المتداعيين وحليتهما على ما ذكرنا في المحضر
وفي تعليق الشيخ أبي حامد أن ابن خيران لم يجوز للقاضي التسجيل إذا لم يعرف المتداعيين والصحيح الأول وإذا كان المتداعيان أو أحدهما امرأة واحتاج إلى إثبات الحلية فليكن النظر لذلك كالتحمل للشهادة وأما أنه كيف يضبط ويحفظ فينبغي للقاضي أن يجعل المحاضر والسجلات نسختين يدفع إلى صاحب الحق إحداهما غير مختومة وتحفظ الأخرى في ديوان القضاء مختومة ويكتب على رأسها اسم الخصمين ويضعها في خريطة أو قمطر وهو السفط الذي يجمع فيه المحاضر والسجلات ويكون بين يديه إلى آخر المجلس فإذا أراد أن يقوم ختمه بنفسه أو ختمه أمين وهو ينظر ثم أمر بحمله إلى موضعه ثم يدعو به في اليوم الثاني وينظر في الختم ويفكه بنفسه أو يفكه أمينه وهو ينظر ويضع فيه كتب اليوم الثاني كما ذكرنا وهكذا يفعل حتى يمضي الأسبوع فإن كثرت جعلها إضبارة وكتب عليها خصومات أسبوع كذا من شهر كذا من سنة كذا وسجلاته ويعزلها
وإن لم يكتب تركها حتى يمضي شهر ثم بعزلها فإذا مضت سنة جمعها وكتب عليها كتب سنة كذا ليسهل الوقوف عليها عند الحاجة ويجعلها في موضع لا يعلمه غيره وإذا احتاج إلى شىء منها تولى أخذه بنفسه ونظر أولا إلى ختمه وعلاماته

فرع قال الهروي إن أوجبنا التسجيل على القاضي لم يجز له أخذ

الأجرة عليه وإلا فيجوز
وأطلق بعضهم القول بالجواز وهو موافق لمنع الوجوب وهو الأصح وكذا استئجار المفتي ليكتب الفتوى
الأدب السادس يستحب للقاضي المشاورة وإنما يشاور العلماء الأمناء ويستحب أن يجمع أصحاب المذاهب المختلفة ليذكر كل واحد دليله فيتأملها القاضي ويأخذ بأرجحها عنده ثم الذين يشاورهم إن شاء أقعدهم عنده وإن شاء أقعدهم ناحية فإذا احتاج استدعاهم
قلت الأول أولى
والله أعلم
ثم المشاورة تكون عند اختلاف وجوه النظر وتعارض الآراء فأما الحكم المعلوم بنص أو إجماع أو قياس جلي فلا مشاورة فيه وإذا حضر المستشارون فإنما يذكرون ما عندهم إذا سألهم ولا يبتدئون بالاعتراض والرد على حكمه إلا إذا كان حكما يجب نقضه كما سيأتي إن شاء الله تعالى وذكر الغزالي أنهم يحضرون قبل خروجه وهذا وإن كان لم يتعرض له الجمهور يوجه بأنهم بانتظاره أولى كما في الصلاة
الأدب السابع يكره للقاضي أن يتولى البيع والشراء بنفسه بل يوكل من لا يعرفه الناس فإن عرفوه بوكالته أبدله فإن لم يجد من يوكله عقد بنفسه للضرورة فإن وقعت خصومة لمعاملة أناب من يحكم بينه وبين خصمه خوفا من أن يميل إليه ولا يختص هذا الحكم بالبيع والشراء بل يعم الإجارة وسائر المعاملات بل نص في الأم أنه لا ينظر في نفقة عياله ولا أمر ضيعته ويكل إلى غيره ليتفر قلبه

فصل يحرم على القاضي الرشوة ثم إن كان له رزق في بيت
أخذ عوض من الخصوم فإن لم يكن فقال الشيخ أبو حامد

لو قال للخصمين لا أقضي بينكما حتى تجعلا لي رزقا جاز ومثله عن القاضي أبي الطيب وغيره وهذا نحو ما نقل الهروي أن القاضي إذا لم يكن له رزق من بيت المال وهو محتاج ولم يتعين عليه القضاء فله أن يأخذ من الخصم أجرة مثل عمله وإن تعين قال أصحابنا لا يجوز الأخذ وجوزه صاحب التقريب وأما باذل الرشوة فإن بذلها ليحكم له بغير الحق أو بترك الحكم بحق حرم عليه البذل وإن كان ليصل إلى حقه فلا يحرم كفداء الأسير
قلت وأما المتوسط بين المرتشي والراشي فله حكم موكله منهما فإن وكلا حرم عليه لأنه وكيل للآخذ وهو محرم عليه
والله أعلم
وأما الهدية فالأولى أن يسد بابها ولا يقبلها ثم إن كان للمهدي خصومة في الحال حرم قبول هديته في محل ولايته وهديته في غير محل ولايته كهدية من عادته أن يهدى له قبل الولاية لقرابة أو صداقة ولا يحرم قبولها على الصحيح وحكى ابن الصباغ في تحريمها وجها وهو مقتضى إطلاق الماوردي وإن لم يكن له عادة بالهدية قبل الولاية فإن زاد المهدي على القدر المعهود صارت هديته كهدية من لم يعهد منه الهدية وحيث حكمنا بأن القبول ليس بحرام فله الأخذ والتملك والأولى أن يثبت عليها أو يضعها في بيت المال وحيث قلنا بالتحريم فقبلها لم يملكها على الأصح فعلى هذا لو أخذها قيل يضعها في بيت المال والصحيح أنه يردها على مالكها فإن لم يعرفه جعلها في بيت المال

فرع قد ذكرنا أن الرشوة حرام مطلقا والهدية جائزة في بعض
فيطلب الفرق بين حقيقتيهما مع أن الباذل راض فيهما والفرق من وجهين أحدهما ذكره ابن كج أن الرشوة هي التي يشرط على قابلها الحكم بغير الحق أو الامتناع عن الحكم بحق والهدية هي العطية المطلقة
والثاني قال الغزالي في الإحياء المال إما يبذل لغرض آجل فهو قربة وصدقة وإما لعاجل وهو إما مال فهو هبة بشرط ثواب أو لتوقع ثواب وإما عمل فإن كان عملا محرما أو واجبا متعينا فهو رشوة وإن كان مباحا فإجارة أو جعالة وإما للتقرب والتودد إلى المبذول له فإن كان بمجرد نفسه فهدية وإن كان ليتوسل بجاهه إلى أغراض ومقاصد فإن كان جاهه بالعلم أو النسب فهو هدية وإن كان بالقضاء والعمل فهو رشوة
الأدب الثامن في تأديبه المسيئين عمن أساء الأدب في مجلسه من الخصوم بأن صرح بتكذيب الشهود أو ظهر منه مع خصمه لدد أو مجاوزة حد زجره ونهاه فإن عاد هدده وصاح عليه فإن لم ينزجر عزره بما يقتضيه اجتهاده من توبيخ وإغلاظ القول أو ضرب وحبس ولا يحبسه بمجرد ظهور اللدد وعن الاصطخري أنه على قولين
وفي يتيمة اليتيمة أنه إنما يضربه بالدرة دون السياط إذ الضرب بالسياط من شأنه الحدود
وهذا الذي ادعاه غير مقبول بل الضرب بالسياط جائز في غير الحدود ألا ترى أن لفظ الشافعي رحمه الله في تعزير القاضي شاهد الزور حيث قال عزره ولم يبلغ بالتعزير أربعين سوطا
ومثال اللدد أن تتوجه اليمين على الخصم فيطلب يمينه ثم يقطعها عليه ويزعم أن له بينة ثم يحضره ثانيا وثالثا ويفعل كذلك وكذا

لو أحضر رجلا وادعى عليه وقال لي بينة وسأحضرها ثم فعل ذلك ثانيا وثالثا إيذاء وتعنتا
ولو اجترأ خصم على القاضي وقال أنت تجور أو تميل أو ظالم جاز أن يعزره وأن يعفو والعفو أولى إن لم يحمل على ضعفه والتعزير أولى إن حمل عليه

فرع شهادة الزور من أكبر الكبائر ومن ثبت أنه شهد بزور عزره
بما يراه من توبيخ وضرب وحبس وشهر حاله وأمر بالنداء عليه في سوقه إن كان من أهل السوق أو قبيلته إن كانت له قبيلة أو مسجده تحذيرا للناس منه وتأكيدا لأمره وإنما تثبت شهادة الزور بإقرار الشاهد إن تيقن القاضي بأن شهد أن فلانا زنى بالكوفة يوم كذا وقد رآه القاضي ذلك اليوم ببغداد
هكذا أطلقه الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى ولم يخرجوه على أن القاضي هل يحكم بعلمه ولا يكفي قيام البينة بأنه شاهد زور فقد تكون هذه بينة زور
الأدب التاسع لا ينفذ قضاء القاضي لنفسه ولا لمملوكه القن وغيره القن ولا لشريكه فيما له فيه شرك ولا لشريك مكاتبه فيما له فيه شرك ولا يقضي لأحد من أصوله وإن علوا
ولا فروعه وإن نزلوا ولا لمملوك أحدهم ولا لشريكه فإن فعل لم ينفذ على الصحيح
ولو أراد أن يقضي لهم بعلمه لم ينفذ قطعا وإن جوزنا قضاءه بعلمه للأجانب ويجوز أن يقضي على أصوله وفروعه كما يشهد عليهم
وفصل البغوي الحكم للولد وعليه فقال له أن يحلف ابنه على نفي ما يدعى عليه لأنه قطع للخصومة لا حكم له وله أن يسمع بينة المدعي

على ابنه ولا يسمع بينة الدفع من ابنه وهل له أن يحكم بشهادة ابنه وجهان لأنه يتضمن تعديله فإن عدله شاهدان فالمتجه أنه يقضي ولو تحاكم إليه أبوه وابنه هل له الحكم لأحدهما وجهان في المهذب أصحهما لا وبه قطع البغوي
ومتى وقعت له خصومة أو لأحد هؤلاء الذين يمنع حكمه لهم قضى فيها الإمام أو قاضي بلدة أخرى أو نائبه وفي النائب وجه ضعيف
قلت قال البغوي وللقاضي أن يستخلف أباه أو ابنه لأنهما كنفسه
قال ولو جعل الإمام إلى رجل أن يختار قاضيا لم يجز أن يختار والده ولا ولده كما لا يختار نفسه وسيأتي قريبا في مسائل التزكية أنه لا يصح تزكية ولد ولا والد على الصحيح
والله أعلم

فرع لا يقضي على عدوه على الصحيح وبه قطع الجمهور كالشهادة عليه
وجوزه الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية لأن أسباب الحكم ظاهرة بخلاف الشهادة
فرع تولى وصي اليتيم القضاء هل له أن يسمع البينة ويحكم له
أصحهما نعم وبه قال القفال ومنعه ابن الحداد
الأدب العاشر فيما ينقض من قضائه وقضاء غيره وذلك يتعلق بقواعد إحداها الأصول التي يقضي بها القاضي ويفتي بها المفتي كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والإجماع والقياس وقد يقتصر على الكتاب والسنة ويقال الإجماع يصدر عن أحدهما والقياس يرد إلى إحدهما
وأما قول الواحد من الصحابة رضي الله عنهم
فإن لم ينتشر فيهم فقولان القديم أنه حجة والجديد

ليس بحجة ثم قال أبو بكر الصيرفي والقفال القولان إذا لم يكن معه قياس فإن كان معه قياس ولو ضعيف احتج به قطعا ورجح على القياس القوي وقال الأكثرون في الجميع القولان فإن قلنا بالقديم وجب الأخذ به وترك القياس وفي تخصيص العموم به وجهان وإن قلنا بالجديد فهو كقول آحاد المجتهدين لكن لو تعارض قياسان أحدهما وافق قول صحابي قال الغزالي قد تميل نفس المجتهد إلى الموافق ويرجح عنده
قلت قد صرح الشيخ أبو إسحق في اللمع وغيره من الأصحاب بالجزم بالأخذ بالموافق
والله أعلم
وإن انتشر قول الصحابي فله ثلاثة أحوال أحدها أن يخالفه غيره فعلى الجديد هو كاختلاف سائر المجتهدين وعلى القديم هما حجتان تعارضتا فإن اختص أحد الطرفين بكثرة عدد أو بموافقة أحد الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ترجح نص عليه في القديم في غير علي وألحق الجمهور بهم عليا ومنهم من لم يلحقه لأن الثلاثة كانوا في دار الهجرة والصحابة متوافرون وكانوا في حكمهم وفتواهم يتشاورون وعلي رضي الله عنه انتقل إلى الكوفة وتفرقت الصحابة
وإن لم يوجد واحد من الأمرين في واحد من الصرفين أو وجد في أحدهما أحدهما وفي الآخر الآخر فهما سواء
ولو كان في أحدهما أبو بكر أو عمر وفي الآخر عثمان أو علي رضي الله عنهم فهل يستويان أم يرجح طرف الشيخين وجهان
ويشبه أن يجيء مثلهما في تعارض الشيخين فيستويان في وجه ويقدم طرف أبي بكر رضي الله عنه في وجه
الحال الثاني أن يوافقه سائر الصحابة رضي الله عنهم ويقولوا بما قاله فهذا إجماع منهم على الحكم ولا يشترط فيه انقراض عصر

المجمعين على الأصح ولا يتمكن أحدهم من الرجوع بل يكون قوله الأول مع قول سائر المجتمعين حجة عليهم كما هو حجة على غيرهم
الحال الثالث أن يسكتوا فلا يصرحوا بموافقته ولا مخالفته فاختار الغزالي في المستصفى أنه ليس بحجة
والصحيح الذي عليه جماهير الأصحاب أنه حجة لأنهم لو خالفوه لاعترضوا عليه لكن هل هو إجماع أم حجة غير إجماع وجهان قال الروياني هذا إذا لم يظهر أمارات الرضى ممن سكت فإن ظهرت فإجماع بلا خلاف قالوا والأصح هنا اشتراط انقراض العصر في كونه حجة أو إجماعا وهل يفرق في كونه حجة وإجماعا بين أن يكون ذلك القول مجرد فتوى أو حكما من إمام أو قاض فيه طرق قال ابن أبي هريرة فإن كان فتوى فحجة وإن كان حكما فلا لأن الاعتراض على الإمام ليس من الأدب ولعل السكوت لذلك
وقال أبو إسحق عكسه لأن الحكم يصدر عن مشاورة ومراجعة وقال الأكثرون لا فرق وكانوا يعترضون على الإمام كغيره فقد خالفوا أبا بكر رضي الله عنه في الحد وعمر رضي الله عنه في المشركة
ومختصر هذا الاختلاف أوجه الصحيح أنه حجة والثاني حجة وإجماع والثالث ليس بحجة والرابع من المفتي حجة ومن الحاكم لا الخامس عكسه هذا إذا نقل السكوت أما إذا لم ينقل قول ولا سكوت فيجوز أن لا يلحق بهذا ويجوز أن يستدل به على السكوت
قلت المختار أن عدم النقل كنقل السكوت لأنه الأصل والظاهر
والله أعلم

القاعدة الثانية اختلفت عبارات الأصحاب في تفسير القياس والأقرب إلى كلام الشافعي رحمه الله أن القياس نوعان جلي وغيره وأما الجلي فهو الذي يعرف به موافقة الفرع للأصل بحيث ينتفي احتمال مفارقتهما أو يبعد وذلك كظهور التحاق الضرب بالتأفيف في قوله تعالى { فلا تقل لهما أف } وما فوق الذرة بالذرة في قوله تعالى { فمن يعمل مثقال ذرة } الآية وما فوق النقير بالنقير في قوله تعالى { ولا يظلمون نقيرا } ونظائره فإن فروع هذه الأحكام أولى من الأصول وبعض الأصحاب لا يسمي هذا قياسا ويقول هذه الإلحاقات مفهومة من النص ويقرب من هذا إلحاق العمياء بالعوراء في حديث النهي عن التضحية بالعوراء وسائر الميتات بالفأرة وغير السمن بالسمن في حديث الفأرة تقع بالسمن إن كان مائعا فأريقوه وإن كان جامدا فألقوها وما حولها والغائط بالبول في قوله صلى الله عليه وسلم لا يبولن أجدكم في الماء الدائم ومن الجلي ما ورد النص فيه على العلة كحديث إنما نهيتكم من أجل الدافة وكذا قوله تعالى { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض } وأما غير الجلي فما لا يزيل احتمال المفارقة ولا يبعده كل البعد فمنه ما العلة فيه مستنبطة كقياس الأرز على البر بعلة الطعم وقال ابن القاص هو من الجلي والصحيح الأول ومنه قياس الشبه وهو أن يشبه الحادثة أصلين إما في الأوصاف بأن يشارك كل واحد من الأصلين في بعض المعاني والأوصاف الموجودة فيه وإما في الأحكام كالعبد يشارك الحر في بعض الأحكام والمال في بعضها فيلحق بما المشاركة فيه أكثر وربما سمي قياس الشبه خفيا والذي قبله غير الجلي واضحا وربما خص الجلي ببعض الأول وهو ما كان الفرع فيه أولى بحكم الأصل
قلت واختلف أصحابنا في صحة قياس الشبه وأنه هل هو حجة
والله أعلم

القاعدة الثالثة المسائل الفروعية الاجتهادية إذا اختلف المجتهدون فيها طريقان أشهرهما قولان أظهرهما المحق فيها واحد والمجتهد مأمور بإصابته والذاهب إلى غيره مخطىء والثاني أن كل مجتهد مصيب والطريق الثاني القطع بالقول الأول وبه قال أبو إسحق والقاضي أبو الطيب فإن قلنا المصيب واحد فالمخطىء مغدور غير آثم بل مأجور لقوله صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر وقال الشيخ أبو إسحق في اللمع قال ابن أبي هريرة يأثم والصواب الأول وفيما يؤجر عليه وجهان عن أبي إسحق أحدهما وهو ظاهر النص واختيار المزني يؤجر على قصده الصواب ولا يؤجر على الاجتهاد لأنه أفضى به إلى الخطأ وكأنه لم يسلك الطريق المأمور به والثاني يؤجر عليه وعلى الاجتهاد جميعا
وإذا قلنا كل مجتهد مصيب فهل نقول الحكم والحق في حق كل واحد من المجتهدين ما ظنه أم الحق واحد وهو أشبه مطلوب إلا أن كلا منهم مكلف بما ظنه لا بإصابة الأشبه وجهان اختار الغزالي الأول وبالثاني قطع أصحابنا العراقيون وحكوه عن القاضي أبي حامد والداركي

فرع متى حكم القاضي بالاجتهاد ثم بان له الخطأ في حكمه فله
أحدهما إن تبين أنه خالف قطعيا كنص كتاب أو سنة متواترة أو إجماع أو ظنا محكما بخبر الواحد أو بالقياس الجلي فيلزمه نقض حكمه
وهل يلزم القاضي تعريف الخصمين صورة الحال ليترافعا إليه فينقض الحكم وجهان قال ابن سريج لا يلزمه إن علما أنه بان له الخطأ فإن ترافعا إليه نقض وقال سائر الأصحاب يلزمه وإن علما أنه بان له الخطأ وهذا هو الصحيح لأنهما

قد يتوهمان أنه لا ينقض وإن بان الخطأ
هذا في حقوق الآدميين وأما ما يتعلق بحدود الله تعالى فيبادر إلى تداركه إذا بان له الخطأ وما لا يمكن تداركه سبق حكم ضمانه
الحال الثاني إن تبين له بقياس خفي رآه أرجح مما حكم به وأنه الصواب فليحكم فيما يحدث بعد ذلك من أخوات الحادثة بما رآه ثانيا ولا ينقض ما حكم به أولا بل يمضيه ثم ما نقض به قضاء نفسه نقض به قضاء غيره وما لا فلا
ولا فرق بينهما إلا أنه لا يتبع قضاء غيره وإنما ينقضه إذا رفع إليه وله تتبع قضاء نفسه لينقضه ولو كان المنصوب للقضاء قبله لا يصلح للقضاء نقض أحكامه كلها وإن أصاب فيها لأنها صدرت ممن لا ينفذ حكمه هذا هو القول الجملي فيما ينقض ولا ينقض
ثم تكلموا في صور منها لو قضى قاض بصحة نكاح المفقود زوجها بعد مضي أربع سنين ومدة العدة فوجهان أشهرهما وظاهر النص نقضه لمخالفة القياس الجلي لأنه يجعل حيا في المال فلا يقسم بين ورثته فلا يجعل ميتا في النكاح
والثاني لا ينقض كغيره من الاجتهاديات قال الروياني هذا هو الصحيح
وقرب من هذا الخلاف الخلاف في نقض حكم من قضى بحصول الفرقة في اللعان بأكثر الكلمات الخمس أو بسقوط الحد عمن نكح أمه ووطئها ومنها حكم الحنفي ببطلان خيار المجلس والعرايا بالتقييد الذي يجوزه وفي ذكاة الجنين ومنع القصاص في القتل بالمثقل وصحة النكاح بلا ولي أو بشهادة فاسقين أو حكم غيره بصحة بيع أم الولد وثبوت حرمة الرضاع بعد حولين وصحة نكاح الشغار والمتعة وقتل المسلم بالذمي وبأنه لا قصاص بين الرجل والمرأة في الأطراف وجريان التوارث بين المسلم والكافر ورد الزوائد مع الأصل في الرد بالعيب على ما قاله ابن أبي ليلى وفي نقض هذه

الأحكام وجهان قال الروياني الأصح لا نقض لأنها اجتهادية والأدلة متقاربة ومن نقض قال فيها نصوص وأقيسة جلية وينقض قضاء من حكم بالاستحسان الفاسد

فرع ما ينقض من الأحكام لو كتب به إليه لا يخفى أنه
ينفذه وأما ما لا ينقض ويرى غيره أصوب منه فنقل ابن كج عن الشافعي رضي الله عنه أنه يعرض عنه ولا ينفذه لأنه إعانة على ما يعتقده خطأ
وقال ابن القاص لا أحب تنفيذه
وفي هذا إشعار بتجويز التنفيذ وقد صرح السرخسي بنقل الخلاف فقال إذا رفع إليه حكم قاض قبله فلم ير فيه ما يقتضي النقض لكن أدى اجتهاده إلى غيره فوجهان أحدهما يعرض عنه وأصحهما ينفذه وعلى هذا العمل كما لو حكم بنفسه ثم تغير اجتهاده تغيرا لا يقتضي النقض وترافع خصماء الحادثة إليه فيها فإنه يمضي حكمه الأول وإن أدى اجتهاده إلى أن غيره أصوب منه
فرع إذا استقضي مقلد للضرورة فحكم بمذهب غير مقلده قال الغزالي في
نقض حكمه وإن قلنا له تقليد من شاء لم ينقض
فصل حكم القاضي ضربان أحدهما مما ليس بإنشاء وإنما هو تنفيذ لما
قامت به حجة فينفذ ظاهرا لا باطنا فلو حكم بشهادة زور بظاهري العدالة لم يحصل بحكمه الحل باطنا سواء كان المحكوم به

مالا أو نكاحا أو غيرهما فإن كان نكاحا لم يحل للمحكوم له الاستمتاع ويلزمها الهرب والامتناع ما أمكنها فإن أكرهت فلا إثم عليها فإن وطىء قال الشيخ أبو حامد هو زان ويحد وخالفه ابن الصباغ والروياني لأن أبا حنيفة رحمه اللهيجعلها منكوحة بالحكم وذلك شبهة للخلاف في الإباحة وإن كان المحكوم به الطلاق حل للمحكوم عليه وطؤها إن تمكن لكن يكره لأنه يعرض نفسه للتهمة والحد ويبقى التوارث بينهما ولا تبقى النفقة للحيلولة ولو تزوجت لآخر فالحل مستمر للأول فإن وطئها الثاني جاهلا بالحال فهو وطء شبهة ويحرم على الأول في العدة وإن كان الثاني عالما أو نكحها أحد الشاهدين ووطىء فوجهان أحدهما يحد ولا يحرم على الأول في العدة والأشبه أنه وطء شبهة لما سبق
الضرب الثاني الانشاءات كالتفريق بين المتلاعنين وفسخ النكاح بالعيب والتسليط على الأخذ بالشفعة ونحو ذلك فإن ترتبت على أصل كاذب بأن فسخ بعيب قامت بشهادة زور فهو كالضرب الأول وإن ترتبت على أصل صادق فإن لم تكن في محل اختلاف المجتهدين نفذ ظاهرا وباطنا وإن كان مختلفا فيه نفذ ظاهرا وفي الباطن أوجه أصحها عند جماعة منهم البغوي والشيخ أبو عاصم النفوذ مطلقا لتتفق الكلمة ويتم الانتفاع والثاني المنع وبه قال الأستاذ أبو إسحق واختاره الغزالي
والثالث إن اعتقده الخصم أيضا نفذ باطنا وإلا فلا هذه الأوجه تشبه الأوجه في اقتداء الشافعي بالحنفي وعكسه فإن منعنا النفوذ باطنا مطلقا أو في حق من لا يعتقده

لم يحل للشافعي الأخذ بحكم الحنفي بشفعة أو بالتوريث بالرحم إذا لم نقل به نحن وعلى هذا هل يمنعه القاضي لاعتقاد المحكوم له أم لا لاعتقاد نفسه وجهان أصحهما الثاني
ومن قال بالمنع فقد يقول لا ينفذ القضاء في حقه لا ظاهرا ولا باطنا

فرع هل تقبل شهادته بما لا يعتقده كشافعي بشفعة الجوار وجهان في
التهذيب
قلت الأصح القبول
والله أعلم
فرع قال للقاضي رجلان كانت بيننا خصومة في كذا فحكم القاضي فلان
بيننا بكذا ونحن نريد أن تستأنف الحكم بيننا باجتهادك ونرضى يحكمك فهل يجيبهما أم يتعين إمضاء الحكم الأول ولا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد وجهان حكاهما ابن كج الصحيح الثاني
فصل في آداب منثورة

يستحب أن يدعو أصدقاءه الأمناء ويلتمس منهم أن يطلعوه على عيوبه ليسعى في إزالتها ويستحب أن يكون راكبا في مسيره إلى مجلس حكمه وأن يسلم على الناس في طريقه وعلى القوم إذا دخل وأن يدعو إذا جلس ويسأل الله تعالى التوفيق والتسديد وأن يقوم على رأسه أمين ينادي هل من خصم ويرتب الناس ويقدم الأول فالأول قال ابن المنذر يستحب أن يكون حصينا لمكان النساء ويجوز أن يعين للقضاء يوما أو يومين على حسب حاجة الناس ودعاويهم وأن يعين وقتا من النهار فإن حضر خصمان في غير الوقت المعين سمع كلامهما إلا أن يكون في صلاة أو حمام أو على

طعام ونحوه فيؤخره قدر ما يفرغ
ويستحب أن يكون للقاضي درة يؤدب بها إذا احتاج ويتخذ سجنا للحاجة إليه في التعزير واستيفاء الحق من المماطل
وهذه فروع تتعلق بالحبس قال ابن القاص إذا استشعر القاضي من المحبوس الفرار من الحبس فله نقله إلى حبس الجرائم ولو دعا المحبوس زوجته أو أمته إلى فراشه فيه لم يمنع إن كان في الحبس موضع خال فإن امتنعت أجبرت الأمة ولا تجبر الزوجة الحرة لأنه لا يصلح للسكنى والزوجة الأمة تجبر إن رضي سيدها
ولو قال مستحق الدين أنا ألازمه بدلا عن الحبس مكن لأنه أخف إلا أن يقول الغريم تشق علي الطهارة والصلاة بسبب ملازمته فاحبسني فيحبس
وسبق الخلاف في أن الأب هل يحبس بدين ولده وقياس حبسه أن يحبس المريض والمخدرة وابن السبيل منعا لهم من الظلم
وعن أبي عاصم العبادي أنهم لا يحبسون بل يوكل بهم ليترددوا ويتمحلوا
قال ولا يحبس أبو الطفل ولا الوكيل والقيم في دين لم يجب بمعاملتهم ولا يحبس الصبي ولا المجنون ولا المكاتب بالنجوم ولا العبد الجاني ولا سيده ليؤدي أو يبيع بل يباع عليه إذا وجد راغب وامتنع من البيع والفداء ونقل الهروي وجهين في حبس كل غريم قدرنا على ماله وتمكنا من بيعه
وأجرة السجان على المحبوس وأجرة الوكيل على من وكل به إذا لم يكن في بيت المال مال وصرف إلى جهة أهم من هذه
قلت وقد ألحقت في كتاب التفليس مسائل كثيرة تتعلق بالحبس
والله أعلم

الطرف الثاني في مستند قضائه وفيه مسائل إحداها يقضي بالحجة بلا شك فلو لم يكن حجة وعلم صدق المدعي فهل يقضي بعلمه طريقان أحدهما نعم قطعا وأشهرهما قولان أظهرهما عند الجمهور نعم لأنه يقضي بشهادة شاهدين وهو يفيد ظنا فالقضاء بالعلم أولى والجواب عما احتج به المانع من التهمة أن القاضي لو قال ثبت عندي وصح لدي كذا لزمه قبوله بلا خلاف ولم يبحث عما ثبت به وصح والتهمة قائمة وسواء على القولين ما علمه في زمن ولايته ومكانها وما علمه في غيرهما فإن قلنا لا يقضي بعلمه فذلك إذا كان مستنده مجرد العلم أما إذا شهد رجلان تعرف عدالتهما فله أن يقضي ويغنيه علمه بها عن تزكيتهما وفيه وجه ضعيف للتهمة
ولو أقر بالمدعى في مجلس قضائه
قضى وذلك قضاء بإقرار لا بعلمه وإن أقر عنده سرا فعلى القولين وقيل يقضي قطعا
ولو شهد عنده واحد فهل يغنيه علمه عن الشاهد الآخر على قول المنع وجهان
أصحهما لا
وإذا قلنا يقضي بعلمه فذلك في المال قطعا وكذا في القصاص وحد القذف على الأظهر ولا يجوز في حدود الله تعالى على المذهب وقيل قولان ولا يقضي بخلاف علمه بلا خلاف بل إذا علم أن المدعي أبرأه عما ادعاه وأقام به بينة أو أن المدعي قبله حي أو رآه قبله غير المدعى عليه أو سمع مدعي الرق بعتقه ومدعي النكاح يطلقها ثلاثا وتحقق كذب الشهود امتنع من القضاء قطعا
وكذا إذا علم فسق الشهود ثم إن الأصحاب مثلوا القضاء بالعلم الذي هو محل القولين بما ادعى عليه مالا وقد رآه القاضي أقرضه ذلك أو سمع المدعى عليه أقر بذلك ومعلوم أن

رؤية الإقراض وسماع الإقرار لا يفيد اليقين بثبوت المحكوم به وقت القضاء فيدل أنهم أرادوا بالعلم الظن المؤكد لا اليقين
الثانية إذا رأى القاضي ورقة فيها ذكر حكمه لرجل وطلب منه إمضاءه والعمل به نظر إن تذكره أمضاه على المذهب وبه قطع الجمهور وفي أمالي أبي الفرج الزاز إنه على القولين في القضاء بعلمه وإن لم يتذكره لم يعتمده قطعا لإمكان التزوير وكذا الشاهد لا يشهد بمضمون خطه إذا لم يتذكر فلو كان الكتاب محفوظا عنده وبعد احتمال التزوير والتحريف كالمحضر والسجل الذي يحتاط فيه القاضي على ما سبق فالصحيح والمنصوص والذي عليه الجمهور أنه لا يقضي به أيضا ما لم يتذكر لاحتمال التحريف وكذا الشاهد في مثل هذه الحالة لا يشهد وفيهما وجه حكاه الشيخ أبو محمد وغيره أنه يجوز إذا لم يتداخله ريبة
وفي جواز رواية الحديث اعتمادا على الخط المحفوظ عنده وجهان أحدهما المنع ولا تكفيه رواية السماع بخطه أو خط ثقة والصحيح الجواز لعمل العلماء به سلفا وخلفا وباب الرواية على التوسعة ولو كتب إليه شيخ بالإجازة وعرف خطه جاز له أن يروي عنه تفريعا على اعتماد الخط فيقول أخبرني فلان كتابة أو في كتابة أو كتب إلي وهذا على تجويز الرواية بالإجازة وهو الصحيح ومنعها القاضي حسين
قلت وقد منعها أيضا الماوردي في الحاوي ونقل هو منعها عن الفقهاء وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله ولكن أظهر قوليه والمشهور من مذاهب السلف والخلف والذي عليه العمل صحة الإجازة وجواز الرواية بها ووجوب العمل بها
ثم هي سبعة أنواع قد لخصتها بفروعها وأمثلتها وما يتعلق بها في الإرشاد في مختصر علوم الحديث وأنا أذكر منها هنا رموزا إلى مقاصدها تفريعا على الصحيح

وهو جوازها
الأول إجازة معين لمعين كأجزتك رواية صحيح البخاري أو ما اشتملت عليه فهرستي وهذه أعلى أنواعها
الثاني إجازة غير معين لمعين كأجزتك مسموعاتي أو مروياتي والجمهور على أنه كالأول فتصح الرواية به ويجب العمل بها وقيل بمنعه مع قبول الأول
الثالث أن يجيز لغير معين بوصف العموم كأجزت المسلمين أو كل أحد أو من أدرك زماني ونحوه فالأصح أيضا جوازها وبه قطع القاضي أبو الطيب وصاحبه الخطيب البغدادي وغيرهما من أصحابنا وغيرهم من الحفاظ
ونقل الحافظ أبو بكر الحازمي المتأخر من أصحابنا أن الذين أدركهم من الحفاظ كانوا يميلون إلى جوازها
الرابع إجازة مجهول أو لمجهول كأجرتك كتاب السنن وهو يروي كتبا من السنن أو أجزت لزيد بن محمد وهناك جماعة كذلك فهذه باطلة
فإن أجاز لمسمين معينين لا يعرف أعيانهم ولا أنسابهم ولا عددهم صحت كما لو سمعوا منه في مجلسه في مثل هذا الحال
الخامس الإجازة لمعدوم كأجزت لمن يولد لفلان أو لفلان ومن يولد له فالصحيح بطلانها وبه قطع القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وجوزه الخطيب وغيره
والإجازة للطفل الذي لا يميز صحيحة على الصحيح وبه قطع القاضي أبو الطيب ونقله الخطيب عن شيوخه كافة
السادس إجازة ما لم يسمعه المجيز ولم يتحمله بوجه ليرويه المجاز له إذا تحمله المجيز وهي باطلة قطعا
السابع إجازة المجاز وهي صحيحة عند أصحابنا وهو الصواب الذي قطع به الحفاظ الأعلام من أصحابنا وغيرهم منهم الدارقطني

وأبو نعيم الأصفهاني والشيخ أبو الفتح نصر المقدسي وغيرهم من أصحابنا
وإذا كتب الإجازة استحب أن يتلفظ بها ولو اقتصر على الكتابة مع قصد الإجازة صحت كالقراءة عليه مع سكوته
والله أعلم

فرع إذا رأى بخط أبيه أن لي على فلان كذا أو أديت
قال الأصحاب فله أن يحلف على الاستحقاق والأداء اعتمادا على خط أبيه إذا وثق بخطه وأمانته
قال القفال وضابط وثوقه أن يكون بحيث لو وجد في تلك التذكرة لفلان علي كذا لا يجد من نفسه أن يحلف على نفي العلم به بل يؤديه من التركة وفرقوا بينه وبين القضاء والشهادة بأن خطرهما عظيم وعام ولأنهما يتعلقان به ويمكن التذكر فيهما وخط المورث لا يتوقع فيه يقين فجاز اعتماد الظن فيه حتى لو وجد بخط نفسه أن لي على فلان كذا أو أديت إلى فلان دينه لم يجز الحلف حتى يتذكر قاله في الشامل
فرع قال الصيمري ينبغي للشاهد أن يثبت حلية المقر إذا لم يعرفه
بعد الشهادة ليستعين بها على التذكر ويقرب من هذا ذكر التاريخ وموضع التحمل ومن كان معه حينئذ ونحو ذلك
الثالثة شهد عنده عدلان أنك حكمت لزيد بكذا وهو لا يذكره لم يحكم بقولهما إلا أن يشهدا بالحق بعد تجديد دعوى وعن ابن القاضي تخريج قول إنه يمضي الحكم الأول بشهادتهما والمذهب الأول ولو شهد أنك تحملت الشهادة في واقعة كذا ولم يتذكر لم

يجز أن يشهد وهذا بخلاف رواية الحديث فإن الراوي لو نسي جاز له أن يقبل الرواية ممن سمعها منه على الصحيح وفيها وجه حكاه ابن كج وعلى الصحيح الفرق ما سبق أن باب الرواية على التوسعة ولهذا يقبل من العبد والمرأة ومن الفرع مع وجود الأصل وغير ذلك وإذا لم يتذكر القاضي فحقه أن يتوقف ولا يقول لم أحكم
وهل للمدعي والحالة هذه تحليف الخصم أنه لا يعرف حكم القاضي قال صاحب التهذيب يحتمل وجهين
ولو شهد الشاهدان على حكمه عند قاض آخر قبل شهادتهما وأمضى حكم الأول إلا إذا قامت بينة بأن الأول أنكر حكمه وكذبهما فإن قامت بينة بأنه توقف فوجهان أوفقهما لكلام الأكثرين أنه يقبل شهادتهما وقال الأودني وصاحب المهذب لا تقبل لأن توقفه يورث تهمة وعلى هذا لو شهد عدلان أن شاهدي الأصل توقفا في الشهادة لم يجز الحكم بشهادة الفروع
الرابعة ادعى على القاضي أنك حكمت لي بكذا
قال الأصحاب ليس له أن يرفعه إلى قاض آخر ويحلفه كما لا يحلف الشاهد إذا أنكر الشهادة
وعن القاضي حسين أنا إن قلنا اليمين المردودة كالإقرار فله تحليفه ليحلف المدعي إن نكل هذا إذا ادعى عليه وهو قاض فإن ادعى عليه بعد عزله أو في غير محل ولايته عند قاض فنقل الإمام أنه يجوز سماع البينة ولا يقبل إقراره
ولا يحلف إن قلنا اليمين المردودة كالإقرار وإن قلنا كالبينة حلف ولك أن تقول سماع الدعوى على القاضي معزولا كان أو غيره بأنه حكم ليس على قواعد الدعاوى الملزمة وإنما يقصد بها التدرج إلى إلزام الخصم فإن كان له بينة

فليقمها في وجه الخصم وينبغي أن لا يسمع على القاضي بينة ولا يطالب بيمين كما لو ادعى على رجل أنك شاهدي
الطرف الثالث في التسوية وفيه مسائل الأولى ليسو القاضي بين الخصمين في دخولهما عليه وفي القيام لهما والنظر فيهما والاستماع وطلاقة الوجه وسائر أنواع الإكرام فلا يخص أحدهما بشىء من ذلك ويسوي في جواب سلامهما فإن سلما أجابهما معا وإن سلم أحدهما قال الأصحاب يصبر حتى يسلم الآخر فيجيبهما وقد يتوقف في هذا إذا طال الفصل وذكروا أنه لا بأس أن يقول للآخر سلم فإذا سلم أجابهما وكأنهم احتملوا هذا الفصل محافظة على التسوية وحكى الإمام أنهم جوزوا له ترك الجواب مطلقا واستبعده
ويسوي بينهما في المجلس فيجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله إن كانا شريفين أو بين يديه وهو الأولى على الإطلاق فلو كان أحدهما مسلما والآخر كافرا فالصحيح وبه قطع العراقيون أنه يرفع المسلم في المجلس والثاني يسوي
ويشبه أن يجري الوجهان في سائر وجوه الإكرام ثم التسوية بين الخصمين في الأمور المذكورة واجبة على الصحيح وبه قطع الأكثرون واقتصر ابن الصباغ على الإستحباب
الثانية ليقبل عليهما بمجامع قلبه وعليه السكينة ولا يمازح أحدهما ولا يضاحكه ولا يشير إليه ولا يساره ولا ينهرهما ولا يصيح عليهما إذا لم يفعلا ما يقتضي التأديب ولا يتعنت الشهود بأن يقول لم تشهدون وما هذه الشهادة ولا يلقن المدعي الدعوى بأن يقول ادع عليه كذا ولا المدعى عليه الإقرار والإنكار ولا يجري المسائل إلى النكول على اليمين وكذا لا يلقن الشاهد الشهادة ولا يجرئه إذا مال إلى التوقف ولا يشككه ولا يمنعه إذا أراد الشهادة هذا في حقوق الآدميين وأما في حدود الله تعالى فالقاضي

يرشد إلى الإنكار على ما هو موضح في موضعه وإذا كان يدعي دعوى غير محررة قال الاصطخري يجوز أن تبين له كيفية الدعوى الصحيحة وقال غيره لا يجوز وتعريف الشاهد كيفية أداء الشهادة على هذين الوجهين قال في العدة أصحهما الجواز ولا بأس بالإستفسار بأن يدعي دراهم فيقول أهي صحاح أم مكسورة ويستحب إذا أراد الحكم أن يجلس المحكوم عليه ويقول قامت البينة عليك بكذا ورأيت الحكم عليك ليكون أطيب لقلبه وأبعد عن التهمة ونص في الأم أنه يندبهما إلى الصلح بعد ظهور وجه الحكم ويؤخر الحكم اليوم واليومين إذا سألهما فجعلاه في حل من التأخير فإن لم يجتمعا على التحليل لم يؤخر
الثالثة إذا جلسا بين يديه فله أن يسكت حتى يتكلما وله أن يقول ليتكلم المدعي منكما وأن يقول للمدعي إذا عرفه تكلم ولو خاطبهما بذلك الأمين الواقف على رأسه كان أولى فإذا ادعى المدعي طالب خصمه بالجواب وقال ما تقول وفيه وجه ضعيف أنه لا يطالبه بالجواب حتى يسأله المدعي ثم ينظر في الجواب إن أقر بالمدعى فللمدعي أن يطلب من القاضي الحكم عليه وحينئذ يحكم بأن يقول له اخرج من حقه أو كلفتك الخروج من حقه أو ألزمتك وما أشبههما
وهل يثبت المدعى بمجرد الإقرار أم يفتقر ثبوته إلى قضاء القاضي وجهان أحدهما يفتقر كالثبوت بالبينة وأصحهما لا لأن دلالة الإقرار على وجوب الحق جلية والبينة تحتاج إلى نظر واجتهاد هكذا ذكرت المسألة ولا يظهر الخلاف فيها لأنه إن كان الكلام في ثبوت المدعى به في نفسه فمعلوم لأنه لا يتوقف على الإقرار فكيف على الحكم بعد الإقرار وإن كان المراد المطالبة والإلزام فلا خلاف أن للمدعي الطلب بعد الإقرار وللقاضي الإلزام وإن أنكر المدعى عليه فللقاضي أن يسكت وله أن يقال للمدعي ألك بينة

وقيل لا يقول ذلك لأنه كالتلقين والصحيح الأول فإن قال المدعي لي بينة وأقامها فذاك وإن قال لا أقيمها وأريد يمينه مكن منه وإن قال ليس لي بينة حاضرة فحلف القاضي المدعى عليه ثم جاء ببينة سمعت وإن قال لا بينة لي حاضرة ولا غائبة سمعت أيضا على الأصح لأنه ربما لم يعرف أو نسي ثم عرف أو تذكر وقيل لا يسمع للمناقضة إلا أن يذكر لكلامه تأويلا ككنت ناسيا أو جاهلا
ولو قال لا بينة لي واقتصر عليه فقال البغوي هو كقوله لا بينة لي حاضرة وقيل كقوله لا حاضرة ولا غائبة فيكون فيه الوجهان ولو قال شهودي عبيد أو فسقة ثم أتى بعدول قبلنا شهادتهم إن مضى زمان يمكن فيه العتق والاستبراء

فرع حكى الهروي وجهين في أن الحق يجب بفراغ المدعي من اليمين
أم لا بد من حكم الحاكم أو أشار إلى بنائهما على أن اليمين المردودة كالبينة أم كالإقرار
الرابعة إذا ازدحم جماعة مدعين فإن عرف السبق قدم الأسبق فالأسبق والاعتبار سبق المدعي دون المدعى عليه وإن جاؤوا معا أو جهل السبق أقرع فإن كثروا وعسر الإقراع كتب أسماءهم في رقاع وصبت بين يدي القاضي ليأخذها واحدة واحدة ويسمع دعوى من خرج اسمه في كل مرة ويستحب أن يرتب ثقة يكتب أسماءه يوم قضائه ليعرف ترتيبهم ولو قدم الأسبق غيره على نفسه جاز والمفتي والمدرس يقدمان عند الازدحام أيضا بالسبق أو بالقرعة ولو كان الذي يعلمه ليس من فروض الكفاية فالإختيار إليه في تقديم من شاء
ولا يقدم القاضي مدعيا بشرف ولا غيره إلا في موضعين

أحدهما إذا كان في المدعين مسافرون مستوفزون وقد شدوا الرحال ليخرجوا ولو أخروا لتخلفوا عن رفقتهم فإن قلوا قدموا على الصحيح وإلا فلا بل يعتبر السبق بالقرعة
والثاني لو كان في الحاضرين نسوة ورأى القاضي تقديمهن لينصرفن قدمهن على الصحيح بشرط أن لا يكثرن
وينبغي أن لا يفرق بين أن يكون المسافر والمرأة مدعيا أو مدعى عليه
ثم تقديم المسافر والمرأة ليس بمستحق على الصحيح بل هو رخصة لجواز الأخذ به وهذا ظاهر نصه في المختصر ومنهم من يشعر كلامه بالاستحقاق
قلت المختار أنه مستحب لا يقتصر به على الإباحة
والله أعلم
ثم لا يخفى أن المراد تقديم المسافر على المقيمين والمرأة على الرجال فأما المسافرون بعضهم مع بعض وكذا النسوة فالرجوع فيهم إلى السبق أو القرعة

فرع المقدم بالسبق أو القرعة لا يقدم إلا في دعوى واحدة لئلا
على الباقين فإن كان له دعوى أخرى فليحضر في مجلس آخر أو ينتظر فراغ القاضي من حكومات سائر الحاضرين وحينئذ تسمع دعواه الثانية إن لم يضجر القاضي ولا فرق بين أن تكون الدعوى الثانية والثالثة على الذي ادعى عليه الدعوى الأولى أو على غيره وفيه وجه ضعيف أن الزيادة على الأولى مسموعة إذا اتحد المدعى عليه وعلى هذا قال في الوسيط تسمع إلى ثلاث دعاوى ومنهم من

أطلق ولا خلاف أنه يسمع على المدعى عليه دعوى ثان وثالث لأن الدعوى للمدعي وقد تعدد ونقل ابن كج هنا وجهين غريبين ضعيفين أحدهما أن المقدم بدعوى لا تسمع منه الثانية إلا في مجلس آخر وإن فرغ القاضي من دعاوي الحاضرين وعليهم بعد ذلك ترفيهه
الثاني لا يسمع على الواحد إلا دعوى شخص واحد
وأما المقدم بالسفر فيحتمل أن لا يقدم إلا بدعوى ويحتمل أن يقدم بجميع دعاويه لأن سبب تقديمه أن لا يتخلف عن رفقته ويحتمل أن يقال إذا عرف أن له دعاوى فهو كالمقيمين لأن تقديمه بالجميع يضر غيره وتقديمه بدعوى لا يحصل الغرض
قلت الأرجح أن دعاويه إن كانت قليلة أو ضعيفة بحيث لا يضر بالباقين إضرارا بينا قدم بجميعها وإلا فيقدم بواحدة لأنها مأذون فيها وقد يقنع بواحدة ويؤخر الباقي إلى أن يخصه
والله أعلم
الخامسة تنازع الخصمان وزعم كل واحد أنه هو المدعي نظر إن سبق أحدهما إلى الدعوى لم يلتفت إلى قول الآخر إني كنت المدعي بل عليه أن يجيب ثم يدعي إن شاء
وإن لم يسبق وتنازعا سأل العون فمن أحضره العون فهو المدعى عليه فيدعي الآخر عليه وكذا لو قامت بينة لأحدهما أنه أحضر الآخر ليدعي عليه وإن استوى الطرفان أقرع فمن خرجت قرعته ادعى وقيل يقدم القاضي أحدهما باجتهاده
السادسة قد سبق في باب الوليمة الخلاف في أن الإجابة إليها واجبة أم مستحبة وذلك في غير القاضي
أما القاضي فلا يحضر وليمة أحد الخصمين في حال خصومتهما ولا وليمتهما لأنه قد يزيد أحدهما في إكرامه فيميل إليه قلبه وأما وليمة غير الخصمين فثلاثة أوجه أحدها تحرم عليه الإجابة إليها والثاني تجب إذا أوجبناها على غيره والثالث وهو الصحيح لا تحرم ولا تجب بل تستحب بشرط التعميم فإن كثرت وقطعته عن الحكم تركها في حق

الجميع ولا يخص بعض الناس لكن لو كان يخص بعض الناس قبل الولاية بإجابة وليمة فنقل ابن كج عن نص الشافعي رحمه الله أنه لا بأس بالاستمرار وتكره إجابته إلى دعوة اتخذت لأجل القاضي خاصة أو للأغنياء ودعي فيهم ولا يكره إلى ما اتخذ للجيران وهو منهم أو للعلماء ودعي فيهم
واعلم أن إجابة غير وليمة العرس من الدعوات مستحبة وظاهر ما أطلقه الأصحاب ثبوت الاستحباب في حق القاضي أيضا وإن كان الاستحباب في الوليمة آكد ومنهم من خص الاستحباب بالوليمة وبه قال ابن القاص

فرع لا يضيف القاضي أحد الخصمين دون الآخر ويجوز أن يضيفهما معا
على الصحيح ومنعه أبو إسحق لأنه قد يتوهم كل واحد أن المقصود بالضيافة صاحبه وأنه تبع وهذا يشكل بسائر وجوه التسوية
السابعة له أن يشفع لأحدهما وأن يؤدي المال عمن عليه لأنه ينفعهما
الثامنة يعود المرضى ويشهد الجنائز ويزور القادمين وإذا لم يمكنه الاستيعاب فعل الممكن من كل نوع ويخص به من عرفه وقرب منه
قال القاضي أبو حامد هو كإجابة الوليمة يعم الجميع أو يترك الجميع والصحيح الأول وبه قطع الجمهور لأن معظم المراد بهذه الأنواع الثواب ولا فرق في هذه الأنواع بين المتخاصمين وغيرهما هكذا قاله الأكثرون
وفي أمالي أبي الفرج أنه لا يعود الخصم ولا يزوره إذا قدم لكن يشهد جنازته
الطرف الرابع في البحث عن حال الشهود وتزكيتهم وفيه مسائل

الأولى لا يجوز للقاضي أن يتخذ شهودا معينين لا يقبل شهادة غيرهم لما فيه من التضييق على الناس
الثانية إذا شهد عنده شهود نظر إن عرف فسقهم رد شهادتهم ولم يحتج إلى بحث وإن عرف عدالتهم قبل شهادتهم ولا حاجة إلى التعديل وإن طلبه الخصم وفيه وجه سبق في القضاء بالعلم وإن لم يعرف حالهم لم يجز قبول شهادتهم والحكم بها إلا بعد الاستزكاء والتعديل سواء طعن الخصم فيهم أو سكت ولو أقر الخصم بعدالتهما ولكن قال أخطأ في هذه الشهادة فوجهان أحدهما يحكم بشهادتهما بلا بحث عنهما لأن البحث لحقه وقد اعترف بعدالتهما وأصحهما لا بد من البحث والتعديل لحق الله تعالى ولهذا لا يجوز الحكم بشهادة فاسق وإن رضي الخصم ولأن الحكم بشهادته يتضمن تعديله والتعديل لا يثبت بقول واحد
وإن صدقهما فيما شهدا به قضى القاضي بإقراره بالحق واستغنى عن البحث عن حالهما وكذا لو شهد واحد فصدقه ولو شهد معلوما العدالة ثم أقر المشهود عليه بما شهدا به قبل حكم القاضي فهل يستند الحكم إلى الإقرار دون الشهادة أم إليهما جميعا وجهان حكاهما الهروي قال والصحيح منهما الأول والثاني حكاه الفوراني في المناظرة وذكر الهروي أنه لو بعد الحكم بشهادتهما فقد مضى الحكم مستندا إلى الشهادة سواء وقع إقراره بعد تسليم المال إلى المشهود له أم قبله وفيما قبل التسليم وجه ضعيف وأنه لو قال الخصم للشاهد قبل أداء الشهادة ما تشهد به علي فأنت عدل صادق لم يكن ذلك إقرارا لكنه تعديل للشاهد إن كان من أهل التعديل

فرع إذا جهل القاضي إسلام الشاهد لم يقنع بظاهر الدار بل
ويكفي فيه قول الشاهد
ولو جهل حريته بحث أيضا ولا يكفي فيه قوله على الأصح لأنه لا يستقل بها بخلاف الإسلام وحكى ابن كج وجها أن الاستزكاء لا يجب مطلقا إلا إذا طلبه الخصم وليس بشىء
فرع قال في العدة إذا استفاض فسق الشاهد بين الناس فلا حاجة
البحث والسؤال ويجعل المستفيض كالمعلوم
الثالثة ينبغي أن يكون للقاضي مزكون وأصحاب مسائل فالمزكون هم المرجوع إليهم ليبينوا حال الشهود وأصحاب المسائل هم الذين يبعثهم إلى المزكين ليبحثوا ويسألوا وربما فسر أصحاب المسائل في لفظ الشافعي بالمزكين ثم المخبرون عن فسق الشهود وعدالتهم ضربان أحدهما من نصبه الحاكم للجرح والتعديل مطلقا أو في واقعة خاصة فيسمع الشهادة عليهما وما ثبت عنده أنهاه إلى القاضي
والثاني من يشهد بالعدالة أو الفسق ثم من هؤلاء من يشهد أصالة ومنهم من يشهد على شهادة غيره والأول قد يعرف الحال فيشهد وقد لا يعرف فيأمره القاضي بالبحث ليعرف فيشهد كما يوكل القاضي بالغريب الذي يدعي الإفلاس من يبحث عنه ويخالطه ليعرف إفلاسه فيشهد وأما الثاني فهو شاهد فرع والقياس أنه لا يشهد إلا عند غيبة الأصل أو تعذر حضوره وكذا ذكره الهروي وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ينازع فيه
وإذا أراد الحاكم البحث عن حال الشهود كتب اسم الشاهد وكنيته إن اشتهر بها وولاءه إن كان عليه ولاء واسم أبيه وجده وحليته وحرفته وسوقه ومسجده لئلا يشتبه بغيره

فإن كان مشهودا وحصل التمييز ببعض هذه الأوصاف كفى ويكتب أيضا اسم المشهود له والمشهود عليه فقد يكون بينهما ما يمنع شهادته له أو عليه من قرابة أو عداوة
وفي قدر المال وجهان أحدهما لا يكتبه لأنه العدالة لا تتجزأ والصحيح المنصوص أنه يذكره لأنه قد يغلب على الظن صدق الشاهد في القليل دون الكثير وأما دعوى الأول أن العدالة لا تتجزأ فقد حكى أبو العباس الروياني في ذلك وجهين وبنى عليهما أنه لو عدل وقد شهد بمال قليل ثم شهد في الحال بمال كثير هل يحتاج إلى تجديد تزكية ويكتب إلى كل مزك كتابا ويدفعه إلى صاحب مسألة ويخفي كل كتاب عن غير من دفعه إليه وغير من بعثه إليه احتياطا ثم إذا وقف القاضي على ما عند المزكين فإن كان جرحا لم يظهره وقال للمدعي زدني في الشهود وإن كان تعديلا عمل بمقتضاه ثم حكى الأصحاب والحالة هذه وجهين في أن الحكم بقول المزكين أم بقول أصحاب المسائل قال أبو إسحق بقول المزكين لأن أصحاب المسائل شهود على شهادة فكيف تقبل مع حضور الأصل وإنما هم رسل وعلى هذا يجوز أن يكون صاحب المسألة واحدا فإن عاد بالجرح توقف القاضي وإن عاد بالتعديل دعا مزكيين ليشهدا عنده بعدالة الشاهد ويشيرا إليه ويأمن بذلك من الغلط من شخص إلى شخص
قال الاصطخري إنما يحكم بقول أصحاب المسائل ويبنى على ها ثبت عندهم بقول المزكين
قال ابن الصباغ وهذا وإن كان شهادة على شهادة تقبل للحاجة لأن المزكي لا يكلف الحضور وقول الاصطخري أصح عند الشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب وغيرهما
قالوا وعلى هذا إنما يعتمد القاضي قول اثنين من أصحاب المسائل فإن وصفاه بالفسق فعلى ما سبق وإن وصفاه بالعدالة أحضر الشاهدين ليشهدا بعدالته ويشيرا إليه

وإذا تأملت كلام الأصحاب فقد تقول ينبغي أن لا يكون في هذا خلاف محقق بل إن ولي صاحب المسألة الجرح والتعديل فحكم القاضي مبني على قوله ولا يعتبر العدد لأنه حاكم وإن أمره بالبحث بحث ووقف على حال الشاهد وشهد بما وقف عليه فالحكم أيضا مبني على قوله لكن يعتبر العدد لأنه شاهد وإن أمره بمراجعة مزكيين فصاعدا وبأن يعلمه بما عندهما فهو رسول محض والاعتماد على قولهما فليحضرا ويشهدا
وكذا لو شهد على شهادتهما لأن الشاهد الفرع لا يقبل مع حضور الأصل

فرع من نصب حاكما في الجرح والتعديل اعتبر فيه صفات القضاة ومن
شهر بالعدالة أو الفسق اشترط فيه صفات الشهود ويشترط مع ذلك العلم بالعدالة والفسق وأسبابهما وأن يكون المعدل خبيرا بباطن حال من يعدله لصحبة أو جوار أو معاملة ونحوها قال في الوسيط ويلزم القاضي أن يعرف أن المزكي خبير بباطن الشاهد في كل تزكية إلا إذا علم من عادته أنه لا يزكي إلا بعد الخبرة ثم ظاهر لفظ الشافعي رحمه الله اعتبار التقادم في المعرفة الباطنة لأنه لا يمكن الاختبار في يوم أو يومين ويشبه أن يقال شدة الفحص والإمعان تقوم مقام التقادم في المعرفة الباطنة
ويمكن الاختبار في مدة يسيرة وليس ذكر التقادم على سبيل الاشتراط بل لأن الغالب أن المعرفة الباطنة لا تحصل إلا بذلك ويوضح هذا ما ذكرنا أن القاضي يأمر بالبحث ليعرف حال الشاهد فيزكيه ولو اعتبرنا التقادم لطالت المدة وتضرر المتداعيان بالتأخير الطويل
أما الجرح فيعتمد فيه المعاينة أو السماع فالمعاينة أن يراه يزني أن يشرب الخمر والسماع بأن يسمعه يقذف أو يقر على نفسه بزنا أو شرب خمر فإن سمع من

غيره نظر إن بلغ المخبرون حد التواتر جاز الجرح لحصول العلم وكذا إن لم يبلغ التواتر لكن استفاض جاز الجرح أيضا صرح به ابن الصباغ والبغوي وغيرهما
ولا يجوز الجرح بناء على خبر عدد يسير لكن يشهد على شهادتهم بشرط الشهادة على الشهادة وذكر البغوي تفريعا على قول الاصطخري في أن الحكم بقول أصحاب المسائل أنه يجوز أن يعتمد فيه أصحاب المسائل خبر واحد من الجيران إذا وقع في نفوسهم صدقه وهل يشترط ذكر سبب رؤية الجرح أو سماعه وجهان أحدهما نعم فيقول مثلا رأيته يزني وسمعته يقذف
وعلى هذا القياس يقول في الاستفاضة استفاض عندي
والثاني هو المذكور في الشامل لا حاجة إليه وليس للحاكم أن يقول من أين عرفت حاله وعلى أي شىء بنيت شهادتك كما في سائر الشهادات وهذا أقيس ويحكى عن ابن أبي هريرة والأول أشهر
ولا يجعل الجارح بذكر الزنى قاذفا للحاجة كما لا يجعل الشاهد قاذفا فإن لم يوافقه غيره فليكن كما لو شهد ثلاثة بالزنى هل يجعلون قذفة فيه القولان
قلت المختار أو الصواب أنه لا يجعل قاذفا وإن لم يوافقه غيره لأنه معذور في شهادته بالجرح فإنه مسؤول عنهما وهي في حقه فرض كفاية أو متعينة فهو معذور بخلاف شهود الزنى فإنهم مندوبون إلى الستر فهم مقصرون
والله أعلم
ولو أخبره بعدالته من يحصل بخبره الاستفاضة وهم من أهل الخبرة بباطن من يعدلون لم يبعد أن يجوز له تعديله بذلك وتقام خبرتهم مقام خبرته كما أقيم في الجرح رؤيتهم مقام رؤيته

فرع وينبغي أن يكون المزكون وافري العقول لئلا يخدعوا وبرآء من
الشحناء والعصبية في النسب والمذهب ويجتهد في إخفاء أمرهم لئلا يشهروا في الناس بالتزكية وهل يشترط لفظ الشهادة من المزكي وجهان أصحهما نعم فيقول أشهد أنه عدل
فرع لا يجوز أن يزكي أحد الشاهدين الآخر وفيه وجه ضعيف
وعن كتاب حرملة أنه لو شهد اثنان وعدلهما آخران لا يعرفهما القاضي وزكى الآخرين مزكيان للقاضي جاز
ولو زكى ولده أو والده لم يقبل على الصحيح وبه قطع العبادي وغيره
فرع لا تثبت العدالة بمجرد رقعة المزكي على الصحيح لأن الخط لا
يعتمد في الشهادة كما سبق وجوزه القاضي حسين للإعتماد على الرقعة قال في الوسيط تفريعا على الأول يكفي رسولان مع الرقعة وأن الصحيح وجوب المشافهة وهذا ظاهر إن كان القاضي يحكم بشهادة المزكين فأما إن ولي بعضهم الحكم بالعدالة والجرح فليكن كتابه ككتاب القاضي إلى القاضي وليكن الرسولان كالشاهدين على كتاب القاضي
فرع لا يقبل الجرح المطلق بل لا بد من بيان سببه ولا
سبب التعديل لأن أسبابه غير منحصرة وفيه وجه ضعيف حكاه في

العدة وليس بشىء والأصح أنه يكفي أن يقول هو عدل
وقيل ويشترط أن يقول عدل علي ولي وهو ظاهر نصه في الأم و المختصر لكن تأوله الأولون أو جعلوه تأكيدا لا شرطا
ولا يحصل التعديل بقوله لا أعلم منه إلا خيرا أو لا أعلم منه ما ترد به الشهادة
المسألة الرابعة إذا ارتاب القاضي بالشهود أو توهم غلطهم لخفة عقل وجدها فيهم فينبغي أن يفرقهم ويسأل كل واحد منهم عن وقت تحمل الشهادة عاما وشهرا ويوما وغدوة أو عشية ومكان محلة وسكة ودار وصفة ويسأل أتحمل وحده أم مع غيره وأنه كتب شهادته أم لا وأنه كتب قبل فلان أم بعده وكتبوا بحبر أم بمداد ونحو ذلك ليستدل على صدقهم إن اتفقت كلمتهم ويقف إن لم تتفق
وإذا أجابه أحدهم لم يدعه يرجع إلى الباقين حتى يسألهم القاضي لئلا يخبرهم بجوابه ومتى اتفقوا على الجواب أو لم يتعرضوا للتفصيل ورأى أن يعظهم ويحذرهم عقوبة شهادة الزور فعل فإن أصروا وجب القضاء إذا وجد شروطه ولا عبرة بما يبقى من ريبة وإن لم يجد فيهم خفة ولا ريبة فالصحيح الذي عليه الجمهور أنه لا يفرقهم لأن فيه غضا منهم
وقال الروياني يفرقهم وقال البغوي إن فرقهم بمسألة الخصم فلا بأس ثم إن التفريق والاستفصال جعله الغزالي بعد التزكية والصحيح الذي علله العراقيون وغيرهم أنه قبل الاستزكاء فإن اطلع على عورة استغنى عن الاستزكاء والبحث عن حالهم وإن لم يطلع فإن عرفهم بالعدالة حكم وإلا فحينئذ يستزكي وهل هذا التفريق والاستفصال واجب أم مستحب فيه أوجه الصحيح الذي ذكره ابن كج والبغوي وعامة الأصحاب وهو الموافق للفظ المختصر أنه مستحب والثاني واجب

قاله الإمام والغزالي
قالا ولو تركه وقضى مع الارتياب لم ينفذ
والثالث إن سأل الخصم وجب وإلا فلا
الخامسة تقدم بينة الجرح على بينة التعديل لزيادة علم الجارح فلو انعكس الأمر بأن قال المعدل قد عرفت السبب الذي ذكره الجارح لكنه تاب منه وحسنت حاله قدمت بينة التعديل لأن مع المعدل هنا زيادة علم كذا ذكره جماعة منهم صاحب الشامل وقول الواحد لا يقبل في الجرح فضلا عن تقديمه
السادسة عدل الشاهد ثم شهد في واقعة أخرى فإن لم يطل الزمان حكم بشهادته ولا يطلب تعديله ثانيا وإن طال فوجهان أصحهما يطلب تعديله ثانيا لأن طول الزمان يغير الأحوال ثم يجتهد الحاكم في طوله وقصره
السابعة شهادات المسافرين والمجتازين من القوافل كشهادة غيرهم في الحاجة إلى التعديل فإن عدلهما مزكيان في البلد أو عدل مزكيان اثنين من القافلة ثم هما عدلا الشاهدين قبلت شهادتهما وإلا فلا
الثامنة سأل القاضي عن الشهود في غير محل ولايته فعدلوا ثم عاد إلى محل ولايته قال ابن القاص له الحكم بشهادتهم إن جوزنا القضاء بالعلم وخالفه أبو عاصم وآخرون وقالوا القياس منعه كما لو سمع البينة خارج ولايته
التاسعة عدل شاهد والقاضي يتحقق فسقه بالتسامع قال الإمام الذي يجب القطع به أنه يتوقف ولا يقضي
العاشرة تقبل شهادة الحسبة على العدالة والفسق لأن البحث عن حال الشهود ومنع الحكم بشهادة الفاسق حق لله تعالى

الباب الثالث في القضاء على الغائب
هو جائز في الجملة وحكى صاحب التقريب قولا عن رواية حرملة أنه لا يجوز إلا إذا كان للدعوى اتصال بحاضر والمشهور الأول وبه قطع الأصحاب وفي الباب أطراف الأول في الدعوى ويشترط في الدعوى على الغائب ما يشترط فيها على الحاضر من بيان المدعى وقدره وصفته وقوله إني مطالب بالمال
ولا يكفي الاقتصار على قوله لي عليك كذا ويشترط أن يكون للمدعي بينة وإلا فلا فائدة وأن يدعي جحوده فإن قال هو مقر لم تسمع بينته ولغت دعواه وإن لم يتعرض لجحوده ولا إقراره فهل تسمع بينته وجهان أصحهما نعم لأنه قد لا يعلم جحوده في غيبته ويحتاج إلى الإثبات فجعلت الغيبة كالسكوت
وفي فتاوي القفال أن هذا كله فيما إذا أراد إقامة البينة على ما يدعيه ليكتب القاضي به إلى حاكم بلد الغائب فأما إذا كان للغائب مال حاضر وأراد إقامة البينة على دينه ليوفيه القاضي تسمع بينته ويوفيه سواء قال هو مقر أو جاحد وهل على القاضي لسماع الدعوى على الغائب أن ينصب مسخرا ينكر على الغائب وجهان أحدهما نعم لتكون البينة على إنكار منكر وأصحهما ما ذكره البغوي لأن الغائب قد يكون مقرا فيكون إنكار المسخر كذبا
ومقتضى هذا التوجيه أن لا يجوز نصب المسخر لكن الذي ذكره أبو الحسن العبادي وغيره أن القاضي مخير إن شاء نصب وإلا فلا

الطرف الثاني في التحليف فيحلف القاضي المدعي على الغائب بعد قيام البينة وتعديلها أنه ما أبرأه من الدين الذي يدعيه ولا من شىء منه ولا اعتاض ولا استوفى ولا أحال عليه هو ولا أخذ من جهته بل هو ثابت في ذمة المدعى عليه يلزمه أداؤه ويجوز أن يقتصر فيحلفه على ثبوت المال في ذمته ووجوب تسليمه وكذا يحلف مع البينة الوارث إذا كان المدعى عليه صبيا أو مجنونا أو ميتا ليس له وارث حاضر فإن كان حلف بسؤال الوارث وحكى أبو الحسين الطرسوسي من أصحابنا قولا أنه لا يحلف في الدعوى مع البينة وهو مذهب المزني والمشهور الدول لكن هذا التحليف واجب أم مستحب وجهان ويقال قولان أصحهما الوجوب ومنهم من قطع به
ومن قال بالاستحباب قال لأن تدارك التحليف باق والوجوب في الميت والصبي والمجنون أولى لعجزهم عن التدارك لكن الخلاف مطرد فيهم حكاه أبو الحسن العبادي وجماعة وبنى على هذا ما لو أقام قيم طفل بينة على قيم طفل فإن أوجبنا التحليف انتظرنا حتى يبلغ المدعى له فيحلف وإن قلنا بالاستحباب قضى بها ولا يشترط في اليمين هنا التعرض لصدق الشهود بخلاف اليمين مع الشاهد لأن البينة هنا كاملة وقيل يشترط
إذا لم يدع بنفسه بل ادعى وكيله على غائب لا يحلف بل يعطى المال إن كان المدعى عليه هناك مال ولو كان المدعى عليه حاضرا وقال للمدعي بالوكالة بعد أقام البينة عليه أبرأني موكلك الغائب وأراد التأخير إلى أن يحضر الموكل فيحلف لم يمكن منه بل عليه تسليم الحق ثم يثبت الإبراء من بعد إن كانت له حجة وكذا لو ادعى ولي الصبي دينا للصبي فقال المدعى عليه إنه أتلف علي من

جنس ما تدعيه قدر دينه لم ينفعه بل عليه أداء ما أثبته الولي فإذا بلغ الصبي حلفه
ولو قال المدعى عليه في مسألة التوكيل أبرأني موكلك الغائب فاحلف أنك لا تعلم ذلك قال الشيخ أبو حامد له تحليفه على نفي العلم ومن الأصحاب من يخالفه ولا يحلف الوكيل ولك أن تقول مقتضى ما ذكره الشيخ أن يحلف القاضي وكيل المدعي على الغائب على نفي العلم بالإبراء وسائر الأسباب المسقطة نيابة عن المدعى عليه فيما يتصور منه لو حضر كما ناب عنه في تحليف من يدعي لنفسه

فرع يجوز القضاء على الغائب بشاهد ويمين كالحاضر وهل يكفي يمين أم يشترط
أصحهما الثاني
فرع تعلق برجل وقال أنت وكيل فلان الغائب ولي عليه كذا وأدعي
وأقيم البينة في وجهك فإن علم أنه وكيل وأراد أن لا يخاصم فليعزل نفسه وإن لم يعلم فينبغي أن يقول لا أعلم أني وكيل ولا يقول لست بوكيل فيكون
مكذبا لبينة قد تقوم بالوكالة وهل للمدعي إقامة البينة على وكالة من تعلق به وجهان أحدهما نعم ليستغني عن ضم اليمين إلى البينة وليكون القضاء مجمعا عليه وأصحهما لا لأن الوكالة حق له فكيف يقام بينة بها قبل دعواه

الطرف الثالث في كتاب القاضي إلى القاضي فالقاضي بعد سماع الدعوى والبينة على الغائب قد يقتصر عليه وينهي الأمر إلى قاضي بلد الغائب ليحكم ويستوفي وقد يحلفه كما سبق ويحكم وعلى التقدير الثاني قد يكون للغائب مال حاضر يمكن أداء الحق منه فيؤدى وقد لا يكون كذلك فيسأل المدعي القاضي إنهاء الحكم إلى قاضي بلد الغائب فيجيبه إليه
وللإنهاء طريقان أحدهما أن يشهد على حكمه عدلين يخرجان إلى ذلك البلد والأولى أن يكتب بذلك كتابا أولا ثم يشهد وصورة الكتاب حضر فلان وادعى على فلان الغائب المقيم ببلد كذا وأقام عليه شاهدين وهما فلان وفلان وقد عدلا عندي وحلفت المدعي وحكمت له بالمال فسألني أن أكتب إليك في ذلك فأجبته وأشهدت بذلك فلانا وفلانا
ولا يشترط تسمية الشاهدين على الحكم ولا ذكر أصل الإشهاد ولا تسمية شهود الحق بل يكفي أن يكتب شهد عندي عدول ويجوز أن لا يصفهم بالعدالة ويكون الحكم بشهادتهم تعديلا لهم ذكره في العدة ويجوز أن لا يتعرض لأصل الشهادة فيكتب حكمت بكذا بحجة أوجبت الحكم لأنه قد يحكم بشاهد ويمين وقد يحكم بعلمه إذا جوزناه وهذه حيلة يدفع بها القاضي قدح الحنفية إذا حكم بشاهد ويمين
وفي فحوى كلام الأصحاب وجه ضعيف مانع من إبهام الحجة لما فيه من سد باب الطعن والقدح على الخصم
ويستحب للقاضي أن يختم الكتاب ويدفع إلى الشاهدين نسخة غير مختومة ليطالعاها ويتذاكرا عند الحاجة وأن يذكر في الكتاب نقش خاتمه الذي يختم به وأن يثبت اسم نفسه واسم المكتوب إليه في باطن الكتاب وفي العنوان أيضا
وأما الإشهاد فإن أشهدهما أنه حكم بكذا ولا كتاب شهدا به وقبلت شهادتهما وإن أنشأ الحكم بين أيديهما فلهما أن يشهدا عليه وإن لم

يشهدهما وإن كتب ثم أشهد فينبغي أن يقرأ الكتاب أو يقرأ بين يديه عليهما ثم يقول لهما إشهدا علي بما فيه أو على حكمي المبين فيه وفي الشامل أنه لو اقتصر بعد القراءة على قوله هذا كتابي إلى فلان أجزأ وحكى ابن كج وجها أنه يكفي مجرد القراءة عليهما والأحوط أن ينظر الشاهدان وقت القراءة عليهما في الكتاب فلو لم يقرأ الكتاب عليهما ولم يعلما ما فيه قال القاضي أشهدكما على أن هذا كتابي أو ما فيه خطي لم يكف ولم يكن لهما أن يشهدا على حكمه لأن الشىء قد يكتب من غير قصد بحقيقة
ولو قال أشهدكما على أن ما فيه حكمي أو على أني قضيت بمضمونه فوجهان أصحهما لا يكفي حتى يفصل ما حكم به والثاني يكفي لإمكان معرفة التفصيل بالرجوع إليه ويجري الخلاف فيما لو قال المقر أشهدتك على ما في هذه القبالة وأنا عالم به لكن الأصح عند الغزالي في الإقرار أنه يكفي حتى إذا سلم القبالة إلى الشاهد وحفظها الشاهد وأمن التحريف جاز له أن يشهد على إقراره لأنه يقر على نفسه والإقرار بالمجهول صحيح وقطع الصيمري بأنه لا يكفي في الإقرار أيضا حتى يقرأه ويحيط بما فيه قال وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله ويشبه أن يكون الخلاف في أن الشاهد هل يشهد أنه أقر بمضمون القبالة مفصلا
فأما الشهادة على أنه أقر بما في هذا الكتاب مبهما فينبغي أن يقبل بلا خلاف كسائر الأقارير المبهمة ثم سواء شهد كذا أو كذا فإنما يشهد إذا كان الكتاب محفوظا عنده وأمن التصرف

فرع التعويل على شهادة الشهود والمقصود من الكتاب التذكر ومن الختم الاحتياط
وإكرام المكتوب إليه فلو ضاع الكتاب أو امحى

أو انكسر الختم وشهدا بمضمونه المضبوط عندهما قبلت شهادتهما وقضي بها فلو شهدا بخلاف ما في الكتاب عمل بشهادتهما ولا يكفي الكتاب المجرد
وقال الاصطخري إذا وثق المكتوب إليه بالخط والختم كفى والصحيح الأول
ويشترط إشهاد رجلين عدلين فلا يقبل رجل وامرأتان وقيل يقبل إن تعلقت الحكومة بمال وذكر ابن كج أنه لو كان الكتاب برؤية هلال رمضان كفى شهادة واحد على قولنا يثبت بواحد وأنه لو كتب بالزنى وجوزنا كتاب القاضي إلى قاض في العقوبات هل يثبت برجلين أم يشترط أربعة وجهان بناء على القولين في الإقرار بالزنى

فرع إذا وصل كتاب القاضي وحامله إلى قاضي البلد الآخر أحضر الخصم
فإن أقر بالمدعى استوفاه وإلا فيشهد الشاهدان أن هذا كتاب القاضي فلان وختمه حكم فيه لفلان بكذا على هذا وقرأه علينا وأشهدنا به ولو لم يقولوا أشهدنا به جاز ولا يكفي ذكرهما الكتاب والختم بل لا بد من التعرض لحكمه
ثم في التهذيب و الرقم أن القاضي إنما نقض الختم بعد شهادة الشهود وتعديلهم وذكر الهروي أنه يفتح الكتاب أولا ثم يشهدون ويوافق هذا قول كثير من الأصحاب أن الشهود يقرؤون الكتاب ثم يشهدون ليقفوا على ما فيه ويعلموا أنه لم يخرق وليس هذا خلافا في الجواز وكيف وقد عرف أن الختم من أصله لا اعتبار به فكما تقبل الشهادة على ما لا ختم عليه تقبل على المفضوض ختمه وسواء فضه القاضي أو غيره وإنما هو في الأدب والاحتياط

فرع يجوز أن يكتب إلى قاض معين ويجوز أن يطلق فيكتب
إليه من القضاة وإذا كان الكتاب إلى معين فشهد شاهدا الحكم عند حاكم آخر قبل شهادتهما وأمضاه وإن لم يكتب وإلى كل من يصل إليه من القضاة اعتمادا على الشهادة وكذا لو مات الكاتب وشهدا على حكمه عند المكتوب إليه أو مات المكتوب إليه وشهدا عند من قام مقامه قبل شهادتهما وأمضى الحكم
والعزل والجنون والعمى والخرس كالموت
ولو كتب القاضي إلى خليفته ثم مات القاضي أو عزل تعذر على الخليفة القبول والإمضاء إن قلنا ينعزل بانعزال الأصل
ولو ارتد القاضي الكاتب أو فسق ثم وصل الكتاب إلى المكتوب إليه فوجهان قطع ابن القاص وصاحبا المهذب و التهذيب وآخرون بأن الكتاب إن كان بالحكم المبرم أمضي لأن الفسق الحادث لا يؤثر في الحكم السابق وإن كان بسماع الشهادة لم يقبل ولم يحكم به كما لو فسق الشاهد قبل الحكم وأطلق ابن كج أنه لا يقبل كتابه إذا فسق وهو مقتضى كلام الشيخ أبي حامد وابن الصباغ
فرع شهود الكتاب والحكم يشترط ظهور عدالتهم عند المكتوب إليه وهل تثبت عدالتهم
للحاجة والأصح المنع لأنه تعديل قبل أداء الشهادة ولأنه كتعديل المدعي شهوده ولأن الكتاب إنما يثبت بقولهم فلو ثبت به عدالتهم لثبتت بقولهم والشاهد لا يزكي نفسه
فرع ينبغي أن يثبت القاضي في الكتاب اسم المحكوم له والمحكوم عليه
وكنيتهما واسم أبويهما وجديهما وحليتهما وصنعتهما

وقبيلتهما ليسهل التمييز وإن كان مشهورا ظاهر الصيت وحصل الإعلام ببعض ما ذكرنا اكتفي به
وإذا أثبت الأوصاف كما ذكرنا فحمل الكتاب إلى المكتوب إليه وأحضر الحامل عنده من زعم محكوما عليه نظر إن شهد شهود الكتاب والحكم على عينه لأن القاضي الكاتب حكم عليه طولب بالحق وإن لم يشهدوا على عينه لكن شهدوا على موصوف بالصفات المذكورة في الكتاب فأنكر المحضر أن ما في الكتاب اسمه ونسبه فالقول قوله مع يمينه وعلى المدعي البينة على أنه اسمه ونسبه فإن لم تكن بينة ونكل المحضر حلف المدعي وتوجه له الحكم
ولو قال لا أحلف على أنه ليس اسمي ونسبي ولكن أحلف على أنه لا يلزمني تسليم شىء إليه فحكى الإمام والغزالي عن الصيدلاني أنه يقبل منه اليمين هكذا كما لو ادعى عليه قرض فأنكر وأراد أن يحلف على أنه لا يلزمه شىء فإنه يقبل واختارا أنه لا يقبل وفرقا بأن مجرد الدعوى ليس بحجة وهنا قامت بينة على المسمى بهذا الاسم وذلك يوجب الحق عليه إن ثبت كونه المسمى وإن قامت البينة بأنه اسمه ونسبه فقال نعم لكن لست المحكوم عليه فإن لم يوجد هناك من يشاركه في الاسم والصفات المذكورة لزمه الحكم لأن الظاهر أنه المحكوم عليه وإن وجد بأن عرفه القاضي أو قامت عليه بينة وأحضر المشارك فإن اعترف بالحق طولب به وخلص الأول وإن أنكر بعث الحاكم إلى الكاتب بما وقع من الإشكال ليحضر الشاهدين ويطلب منهما مزيد صفة يتميز بها المشهود عليه فإن ذكرا مزيدا كتب إليه ثانيا وإلا وقف الأمر حتى تنكشف
ولو أقام المحضر بينة على موصوف بتلك الصفات كان هناك وقد مات فإن مات بعد الحكم فقد وقع الإشكال وإن مات قبله فإن لم يعاصره المحكوم

له فلا إشكال وإن عاصره حصل الإشكال على الأصح هذا كله إذا أثبت القاضي اسم المحكوم عليه ونسبه وصفته كما سبق أما إذا اقتصر على قوله حكمت على محمد بن أحمد مثلا فالحكم باطل لأن المحكوم عليه مبهم ولم يتعين بإشارة ولا وصف كامل بخلاف ما إذا استقصى الوصف فظهر اشتراك على الندور حتى لو اعترف رجل في بلد المكتوب إليه بأنه محمد بن أحمد وأنه المعني بالكتاب لم يلزمه ذلك الحكم لبطلانه في نفسه إلا أن يقر بالحق فيؤاخذ به هذا هو الصحيح وهو الذي نقله الإمام والغزالي وغيرهما وذكر ابن القاص وأبو علي الطبري أنه إذا ورد الكتاب أحضر القاضي المكتوب عليه وقرأ عليه الكتاب فإن أقر أنه المكتوب عليه أخذه به سواء كان رفع نسبه وذكر صفته أم لا ولا شك أنه لو شهد الشهود كما ينبغي إلا أنه أبهم في الكتاب اسم المكتوب عليه يقبل الشهادة ويعمل بمقتضاها لما سبق أن الاعتبار بقول الشهود لا بالكتاب

فصل سبق أن لإنهاء حكم القاضي إلى قاض آخر طريقين أحدهما المكاتبة
وسبق
والطريق الثاني المشافهة وتتصور من أوجه
أحدها أن يجتمع القاضي الذي حكم وقاضي بلد الغائب في غير البلدين ويخبره بحكمه
والثاني أن ينتقل الذي حكم إلى بلد الغائب ويخبره ففي الحالين لا يقبل قوله ولا يمضي حكمه لأن إخباره في غير موضع ولايته كإخبار القاضي بعد العزل

والثالث أن يحضر قاضي بلد الغائب في بلد الذي حكم فيخبره فإذا عاد إلى محل ولايته فهل يمضيه إن قلنا يقضي بعلمه فنعم وإلا فلا على الأصح كما لو قال ذلك القاضي سمعت البينة على فلان بكذا فإنه لا يترتب الحكم عليه إذا عاد إلى محل ولايته
والرابع أن يكونا في محل ولايتهما بأن وقف كل واحد في طرف محل ولايته وقال الحاكم حكمت بكذا فيجب على الآخر إمضاؤه لأنه أبلغ من الشهادة والكتاب وكذا لو كان في البلد قاضيان وجوزناه فقال أحدهما للآخر حكمت بكذا فإنه يمضيه وكذا إذا قاله القاضي لنائبه في البلد وبالعكس
ولو خرج القاضي إلى قرية له فيها نائب فأخبر أحدهما الآخر بحكمه أمضاه الآخر لأن القرية محل ولايتهما ولو دخل النائب البلد فقال للقاضي حكمت بكذا لم يقبله ولو قال له القاضي حكمت بكذا في إمضائه إياه إذا عاد إلى قريته الخلاف في القضاء بالعلم

فرع إذا حكم القاضي بحق وشافه به واليا غير قاض ليستوفيه فله
يستوفي في محل ولاية القاضي وكذا خارجه على الصحيح
ولو كاتب القاضي واليا غير قاض فإن كان صالحا للقضاء وقد فوض إليه الإمام نظر القضاة وتولية من يراه جازت مكاتبته كما تجوز مكاتبة الإمام الأعظم نص عليه في المختصر وإن لم يكن صالحا أو كان ولم يفوض إليه نظر القضاة لم تجز مكاتبته لأن سماع البينة يختص بالقضاة

فصل ذكرنا في أول الطرف أن القاضي بعد سماع البينة
قد يحكم وينهيه إلى حاكم آخر وقد يقتصر على السماع وينهيه وفرغنا من القسم الأول وأما الثاني فنقدم عليه مقدمة فيما يمتاز به أحد القسمين على الثاني وفي فروع تتعلق بالحكم
أعلم أن صيغ الحكم في قوله حكمت على فلان لفلان بكذا وألزمته لما سبق في الأدب الخامس من الباب الثاني فلو قال ثبت عندي كذا بالبينة العادلة أو صح فهل هو حكم فيه وجهان أحدهما نعم لأنه إخبار عن تحقيق الشىء جزما وأصحهما لا لأنه قد يراد به قبول الشهادة واقتضاء البينة صحة الدعوى فصار كقوله سمعت البينة وقبلتها ولأن الحكم هو الإلزام والثبوت ليس بإلزام
وأما ما يكتب على ظهور الكتب الحكمية وهو صح ورود هذا الكتاب علي فقبلته قبول مثله وألزمت العمل بموجبه فليس بحكم لاحتمال أن المراد تصحيح الكتاب وإثبات الحجة ولا يجوز الحكم على المدعى عليه إلا بعد سؤال المدعي على الأصح وهل يصح أن يلزم القاضي الميت بموجب إقراره في حياته وجهان
ويشترط تعيين ما يحكم به ومن يحكم له لكن قد يبتلى القاضي بظالم يريد ما لا يجوز ويحتاج إلى ملاينته فرخص له دفعه بما يوهم أنه أسعفه بمراده
مثاله أقام خارج بينة وداخل بينة والقاضي يعلم فسق بينة الداخل ولكنه يحتاج إلى ملاينته وطلب الحكم بناء على ترجيح بينة الداخل فيكتب حكمت بما هو مقتضى الشرع في معارضة بينة فلان الداخل وفلان الخارج وقررت المحكوم به في يد المحكوم له وسلطته عليه ومكنته من التصرف ليه إذا ثبتت هذه

المقدمة فإذا لم يحكم القاضي وأنهى ما جرى من الدعوى والبينة بالكتاب سمي بذلك كتاب نقل الشهادة وكتاب التثبيت أي تثبيت الحجة
وينص على الحجة فيذكر أنه قامت عنده بينة أو شاهد ويمين أو نكل المدعى عليه وحلف المدعي وإنما ينص على الحجة ليعرف المكتوب إليه تلك الحجة فقد لا يرى بعض ذلك الحجة وهل يجوز أن يكتب بعلم نفسه ليقضي به المكتوب إليه قال في العدة لا يجوز وإن جوزنا القضاء بالعلم لأنه ما لم يحكم به هو كالشاهد والشهادة لا تتأدى بالكتابة
وفي أمالي السرخسي جوازه ويقضي به المكتوب إليه إذا جوزنا القضاء بالعلم
وإذا كتب بسماع البينة فليسم الشاهدين والأولى أن يبحث عن حالهما ويعدلهما لأن أهل بلدهما أعرف بهما فإن لم يفعل فعلى المكتوب إليه البحث والتعديل
إذا عدل فهل يجوز أن يترك اسم الشاهدين قال الإمام والغزالي لا والقياس الجواز كما أنه إذا حكم استغنى عن تسمية الشهود وهذا هو المفهوم من كلام البغوي وغيره وهل يأخذ المكتوب إليه بتعديل الكتاب أم له البحث وإعادة التعديل لفظ الغزالي يقتضي الثاني والقياس الأول
قلت هذا الذي جعله القياس هو الصواب
والله أعلم
ولا حاجة في هذا القسم إلى تحليف المدعي والقول في إشهاد القاضي وفي أداء الشهود الشهادة عند المكتوب إليه وفي دعوى الخصم إن كان هناك من يشاركه في الاسم على ما سبق في القسم الأول وإذا عدل الكاتب شهود الحق فجاء الخصم ببينته على جرحهم

سمعت ويقدم على التعديل وإن استمهل البينة الجرح أمهل ثلاثة أيام هكذا ذكره الأصحاب على طبقاتهم وكذا لو قال أبرأتني أو قضيت الحق واستمهل ليقيم البينة عليه
ولو قال أمهلوني حتى أذهب إلى بلدهم وأجرحهم فإني لا أتمكن من جرحهم إلا هناك أو قال لي بينة أخرى هناك دافعة لم يمهل بل يؤخذ الحق منه فإذا أثبت جرحا أو دفعا استرد وسواء في ذلك كتاب الحكم وكتاب نقل الشهادة وفي العدة أنه لو سأله المحكوم عليه إحلاف الخصم أنه لا عداوة بينه وبينهم وقد حضر الخصم عند المكتوب إليه أجابه إليه ولو سأل إحلافه على عدالتهم لم يجبه وكفى تعديل الحاكم إياهم وأنه لو ادعى قضاء الدين وسأل إحلافه أنه لم يستوفه لم يحلف لأن الكاتب أحلفه
وذكر البغوي في مثله في دعوى الإبراء أنه يحلفه أنه لم يبرئه فحصل وجهان

فرع في مشافهة القاضي قاضيا بسماع البينة فإذا نادى قاض من طرف
ولايته قاضيا من طرف ولايته إني سمعت البينة بكذا أو جوزنا قاضيين في بلد فقال ذلك قاض لقاض هل للمقول له الحكم بذلك قال الإمام والغزالي يبنى ذلك على أن سماع البينة وإنهاء الحال إلى قاض آخر هل هو نقل كشهادة الشهود كنقل الفروع شهادة الأصول أم حكم بقيام البينة وفيه وجهان فعلى الأول لا يجوز كما لا يحكم بالفرع مع حضور الأصل
وعلى الثاني يجوز كما في الحكم المبرم وهذا أرجح عند الإمام والغزالي والصحيح الأول وبه قال عامة الأصحاب وقالوا أيضا كتاب السماع إنما يقبل إذا كانت المسافة بين الكاتب وبين الذي بلغه الكتاب بحيث يقبل في مثلها الشهادة على

الشهادة وهذا نصه في عيون المسائل ولو قال الحاكم لخليفته اسمع دعوى فلان وبينته ولا تحكم به حتى تعرفني ففعل هل للحاكم أن يحكم به القياس أنه كإنهاء أحد القاضيين في البلد إلى الآخر لإمكان حضور الشهود عنده لكن الأشبه هنا الجواز وبه أجاب أبو العباس الروياني مع توقف فيه
الطرف الرابع في الحكم بالشىء الغائب على غائب
الغيبة والحضور إنما تتعاقبان الأعيان فأما إذا كانت دعوى نكاح أو طلاق أو رجعة أو إثبات وكالة فلا يوصف المدعي بغيبة ولا حضور وكذا إذا كان المدعى دينا
ومتى ادعى عينا فإن كانت حاضرة مشارا إليها سلمت إلى المدعي إذا تمت حجته وإن كانت غائبة فلها حالان الأولى أن تكون غائبة عن البلد فهي إما عين يؤمن فيها الاشتباه والاختلاط كالعقار وعبد وفرس معروفين وإما غيرها والقسم الأول يسمع القاضي البينة عليه ويحكم ويكتب إلى قاضي بلد ذلك المال ليسلمه إلى المدعي ويعتمد في العقار على ذكر البقعة والسكة والحدود وينبغي أن يتعرض لحدوده الأربعة ولا يجوز الاقتصار على حدين أو ثلاثة ولا يجب التعرض للقيمة على الأصح لحصول التمييز دونه
وأما القسم الثاني كغير المعروف من المعروف من العبيد والدواب وغيرها فهل يسمع البينة على عينها وهي غائبة قولان أحدهما نعم كما يسمع على الخصم الغائب اعتمادا على الحلية والصفة ولأنه يحتاج إليه كالعقار
والثاني لا لكثرة الاشتباه وبهذا قال المزني ورجحه طائفة منهم أبو الفرج الزاز والأول اختيار الكرابيسي والاصطخري وابن القاص وأبي علي الطبري وبه أفتى القفال
فإذا قلنا به فهل يحكم للمدعي بما قامت به البينة قولان أحدهما نعم كالعقار وأظهرهما لا لأن الحكم مع خطر الاشتباه والجهالة

بعيد
والحاصل ثلاثة أقوال أظهرها تسمع البينة فينبغي أن يبالغ البينة ولا يحكم والثاني لا يسمع ولا يحكم والثالث يسمع ويحكم هذه طريقة الجمهور وطردوها في جميع المنقولات التي لا تعرف وقال الإمام والغزالي ما لا يؤمن فيه الاشتباه ضربان ما يمكن تمييزه بالصفات والحلي كالحيوان وما لا يمكن لكثرة أمثاله كالكرباس فالأول على الأقوال الثلاثة وقطعا في الكرباس ونحوه بأنه لا ترتبط الدعوى والحكم بالعين فإن قلنا يسمع البينة فينبغي أن يبالغ المدعي في الوصف بما يمكن الاستقصاء والتعرض للثبات
وبماذا يضبط بعد ذكر الجنس والنوع قولان حكاهما الهروي وغيره أحدهما لتعرض الأوصاف المعتبرة في السلم والثاني يتعرض للقيمة وتكفي عن ذلك الصفات قالوا والأظهر أن الركن في تعريف ذوات الأمثال ذكر الصفات وذكر القيمة مستحب في ذوات القيم الركن القيمة وذكر الصفات مستحب ثم يكتب القاضي إلى قاضي بلد المال بما جرى عنده من مجرد قيام البينة أو مع الحكم إن جوزنا الحكم المبرم فإن أظهر الخصم هناك عبدا آخر بالاسم والصفات المذكورة في يده أو في يد غيره فقد صار القضاء مبهما وانقطعت المطالبة في الحال كما سبق في المحكوم عليه وإن لم يأت بدافع فإن كان الكتاب كتاب حكم وجوزناه حلف المدعي أن هذا المال هو الذي شهد به شهوده عند القاضي فلان وتسلم إليه ذكره ابن القاص في كتاب آداب القضاء وإن كان كتاب سماع البينة انتزع المكتوب إليه المال وبعثه إلى الكاتب ليشهد الشهود على عينه وفي طريقه قولان أظهرهما وأشهرهما وبه قطع ابن الصباغ وغيره يسلم إلى المدعي ويؤخذ منه كفيل ببدنه
وقال أبو الحسن العبادي يكفله قيمة المال فإن ذهب إلى القاضي الكاتب وشهد الشهود على عينه

وسلم له كتب القاضي بذلك إبراء الكفيل وإلا فعلى المدعي الرد ومؤنته ويختم العين عند تسليمها إليه بختم لازم فإن كان عبدا جعل في عنقه القلادة ويختم عليها والمقصود من الختم أن لا يبدل المأخوذ بما لا يستريب الشهود في أنه له وأخذ الكفيل واجب والختم مستحب وعلى هذا القول لو كان للمدعي جارية فثلاثة أوجه أحدها أنها كالعبد والثاني لا تبعث أصلا والثالث تسلم إلى أمين في الرفقة لا إلى المدعي وهذا حسن
قلت هذا الثالث هو الصحيح أو الصواب
والله أعلم
ثك المفهوم من كلام الجمهور أن الشهود إذا شهدوا على عينه عند الكاتب سلمه إلى المدعي وقد تم الحكم له ثم يكتب إبراء الكفيل على ما ذكرنا وفي الفروق للشيخ أبي محمد أنه يختم على رقبته ختما ثانيا ويكتب بأني حكمت به لفلان ويسلمه إلى المكتوب له ليرده إلى القاضي الثاني فيقرأ الكتاب ويطلق الكفيل ويسلم العبد إلى المدعي
والقول الثاني أن القاضي بعد الانتزاع يبيعه للمدعي ويقبض منه الثمن ويضعه عند عدل أو يكفله بالثمن فإن سلم للمدعي بشهادة الشهود على عينه عند القاضي الكاتب كتب برد الثمن أو براءة الكفيل وبان بطلان البيع وإلا فالبيع صحيح ويسلم الثمن إلى المدعى عليه وهذا بيع يتولاه القاضي للمصلحة كما يبيع الضوال وحكى الفوراني بدل هذا القول أنه يسلم إليه المال ويأخذ القيم ويدفعها إلى المدعى عليه للحيلولة بينه وبين ما يزعمه ملكا له ثم يسترد هذه القيمة سواء ثبت المال للمدعي أم لا

الحالة الثانية أن تكون العين المدعاة غائبة عن مجلس الحكم دون البلد فإن كان الخصم حاضرا أمر بإحضاره لتقوم البينة على عينها ولا تسمع الشهادة على صفتها هذا هو الجواب في فتاوى القفال
ويشبه أن يجيء فيه وجه فيما إذا كان المدعى عليه في البلد هل تسمع الشهادة عليه مع غيبته عن المجلس ثم إنما يؤمر بإحضار ما يمكن إحضاره بتيسر فأما ما لا يمكن كالعقار فيحده المدعي ويقيم البينة عليه بتلك الحدود فإن قال الشهود نعرف العقار بعينه ولا نعرف الحدود بعث القاضي من يسمع البينة على عينه أو حضر بنفسه فإن كان المشار إليه بالحدود المذكورة في الدعوى حكم وإلا فلا ولو كان العقار مشهورا لا يشتبه فلا حاجة للتحديد وأما ما يعسر إحضاره كشىء ثقيل وما أثبت في الأرض أو ركب في الجدار وأورث قلعة ضررا فيصفه المدعي ويحضر القاضي عنده أو يبعث من يسمع الشهادة على عينه وإن لم يمكن وصفه حضر القاضي عنده أو بعث من يسمع الدعوى على عينه وذكر الغزالي أن العبد المدعى لو كان يعرفه القاضي حكم به دون الإحضار وجعل هذه الصورة كالمستثناة عن صورة وجوب الإحضار
وهذا الذي قاله إن أراد به العبد المعروف بين الناس فهو صحيح كما ذكرنا في العقار المعروف والعبد المشهور الغائب عن البلد فأما إن اختص القاضي بمعرفته فإن كان عالما بصدق المدعي وحكم بعلمه تفريعا على جوازه فهو قريب أيضا وإن حكم بالبينة فالبينة تقوم على الصفة فإذا لم يسمع البينة بالصفة وجب أن يمتنع الحكم ومتى أوجبنا الإحضار فذلك إذا اعترف المدعى عليه باشتمال يده على مثل تلك العين وإن أنكر اشتمال يده على غير تلك الصفة صدق بيمينه فإن حلف كان للمدعي أن يدعي عليه القيمة لاحتمال أنها هلكت ذكره البغوي وغيره
وإن نكل وحلف المدعى

أو أقام بينة حين أنكر كلف إحضارها وحبس ولا يطلق إلا بالإحضار أو بأن يدعي التلف فتؤخذ منه القيمة وتقبل منه دعوى التلف وإن كانت خلاف قوله الأول للضرورة وقيل لا يطلق إلا بإحضار أو بينة التلف فإن لم يدر المدعي أن العين باقية ليطالب بها أو تالفة ليطالب بقيمتها فادعى على التردد وقال غصب مني كذا فإن كان باقيا فعليه رده وإن كان تالفا فقيمته فوجهان أحدهما لا يسمع دعواه لعدم الجزم بل يدعي العين ويحلف عليها ثم ينشىء دعوى القيمة ويحلف عليها وأصحهما وعليه عمل القضاء يسمع للحاجة فيه وعلى هذا يحلف أنه لا يلزمه رد العين ولا قيمتها ويجري الوجهان فيما لو سلم ثوبا إلى دلال ليبيعه فطالبه به فجحد فلم يدر صاحب الثوب أباعه فيطالبه بالثمن أم تلف فيطالبه بالقيمة أم هو باق ليطالبه بالعين فعلى الأول يدعي العين في دعوى والقيمة في أخرى والثمن في أخرى وعلى الثاني يدعي أن عليه رد الثوب أو ثمنه أو قيمته ويحلف الخصم يمينا واحدة أنه لا يلزمه تسليم الثوب ولا ثمنه ولا قيمته ولو شهدوا أنه غصب منه عبدا بصفة كذا فمات العبد استحق بتلك الشهادة قيمته على تلك الصفة
وجميع ما ذكرنا فيما إذا كان الخصم حاضرا فإن كان غائبا والمال في البلد كما وصفنا أحضر مجلس الحكم أيضا وأخذ ممن في يده ليشهد الشهود على عينه

فرع لو كان الخصم حاضرا والمدعي ببلدة أخرى فقياس ما سبق أنا
قلنا تسمع البينة بالمال الغائب ويحكم به فالقاضي يحكم عليه وإن لم نجوز إلا السماع فإذا سمع البينة أمر بنقل المدعي إلى مجلسه كما يفعله القاضي المكتوب إليه عند غيبة الخصم

فرع ذكرنا أن المدعي إن كان في البلد كلف المدعى عليه
كان غائبا يبعثه القاضي المكتوب إليه على يد المدعى ولا يكلف المدعى عليه الإحضار للمشقة كما يكلف الحضور هناك ولا يكلفه هنا قال البغوي فحيث أمر المدعي هنا بالإحضار فمؤنة الإحضار عليه إن ثبت أنه للمدعي وإلا فعلى المدعى مؤنة الإحضار والرد جميعا وحيث يبعثه القاضي المكتوب إليه إلى بلد الكاتب إن لم يثبت أنه للمدعي فعليه رده إلى موضع بمؤناته وتستقر عليه مؤنة الإحضار إن تحملها من عنده وإن ثبت أنه للمدعي فقياس ما ذكره البغوي أنه يرجع بمؤنة الإحضار على المدعي عليه
وفي أمالي السرخسي أن القاضي ينفق على النقل من بيت المال فإن لم يكن في بيت المال شىء اقترض فإن ثبت المال للمدعى عليه لزمه رد القرض بظهور تعديه وإلا كلف المدعي رده لظهور تعنته ثم قال العراقيون والبغوي وغيرهم إذا نقل المدعي المال إلى بلد القاضي الكاتب ولم يثبت كونه له لزم المدعي مع مؤنة الرد أجرة المثل لمدة الحيلولة ولم يتعرضوا لذلك في مدة تعطل المنفعة وإذا أحضره المدعى عليه وهو في البلد فاقتضى سكوتهم المسامحة وقد صرح بهذا الاقتضاء الغزالي والفرق بين الحالين زيادة الضرر هناك
الطرف الخامس في المحكوم عليه والأصل أن لا يسمع القاضي البينة ولا يحكم إلا بحضرة المدعى عليه لكن هذا الأصل قد يترك لأسباب
وتفصيلها أن يقال إذا لم يكن الخصم في مجلس القاضي فإما أن يكون في الخلد وإما لا فإن كان نظر إن كان ظاهرا يتأتى

إحضاره فهل يجوز سماع البينة عليه والحكم من غير حضوره أم لا أم يجوز سماعها دون الحكم فيه أوجه الصحيح المنع منهما وأجري الخلاف في الحاضر في مجلس الحكم هل يسمع البينة عليه ويحكم بغير سؤاله ومراجعته والمنع هنا أظهر وأولى
وإن تعذر إحضاره بتواريه أو بعذره جاز سماع الدعوى والبينة والحكم عليه على الصحيح ومنعه القاضي حسين فإن قلنا بالصحيح فهل يحلف المدعي كما يحلف المدعي على غائب وجهان وقطع صاحب العدة بأنه لا يحلف لأن الخصم قادر على الحضور وإن لم يكن في البلد فإن غاب إلى مسافة بعيدة جاز الحكم عليه وإن كانت قريبة فهو كالحاضر وفي ضبط البعيدة وجهان أحدهما تقصر فيه الصلاة والقريبة دونها وأصحهما أن القريبة ما يمكن المبكر الرجوع منها إلى مسكنه ليلا فإن زادت فبعيدة ولو كان للمتمرد وكيل نصبه بنفسه فهل يتوقف التحليف على طلبه جوابان لأبي العباس الروياني لأن الاحتياط والحالة هذه من وظيفة الوكيل وكذا لو كان للغائب وكيل

فصل من أتى القاضي مستعديا على خصم ليحضره فلخصمه حالان الأولى أن
ذوي المروءات في داره لا في مجلسه والصحيح أنه لا فرق
ثم الإحضار قد يكون بختم من طين رطب أو غيره يدفعه إلى المدعي ليعرضه على الخصم
وليكن مكتوبا عليه أجب القاضي فلانا وقد يكون بشخص من الأعوان المرتبين على باب القاضي وتكون مؤنته على الطالب إن لم يكن لهم رزق من بيت المال وإن بعث الختم فلم يجب بعث إليه العون وإن ثبت عند القاضي امتناعه بلا عذر أو ثبت سواد به بكسر الختم ونحوه استعان على إحضاره بأعوان

السلطان فإذا حضر عزره بما يراه وتكون مؤنة المحضر والحالة هذه على المطلوب لامتناعه
وقيل على المدعي والصحيح الأول فإن اختفى بعث من ينادي على باب داره أنه إن لم يحضر إلى ثلاث سمر باب داره أو ختم عليه فإن لم يحضر بعد الثلاث وسأل المدعي التسمير أو الختم أجابه إليه وينبغي أن يتقرر عنده أن الدار داره وإذا عرف له موضع قال ابن القاص يبعث القاضي جماعة من النسوة والصبيان والخصيان يهجمون عليه على هذا الترتيب ويفتشون
ومتى كان للمطلوب عذر مانع من الحضور لم يكلف بل يبعث إليه من يحكم بينه وبين خصمه أو يأمره بنصب وكيل ليخاصم عنه فإن وجب تحليفه بعث إليه من يحلفه والعذر كالمرض أو حبس ظالم أو الخوف منه وفي المرأة المخدرة خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى
الحالة الثانية أن يكون خارج البلد فينظر إن كان خارجا عن محل ولاية القاضي لم يكن له أن يحضره وإن كان فيها فإن كان له في ذلك الموضع نائب لم يحضره بل يسمع البينة ويكتب إليه هذا هو الصحيح وقيل يلزم إحضاره إذا طلب الخصم وقيل يتخير بين الأمرين ذكره السرخسي في الأمالي وإن لم يكن هناك فثلاثة أوجه
أحدهما وبه قطع العراقيون يحضره قربت المسافة أم بعدت لكن له أن يبعث إلى بلد المطلوب من يحكم بينه وبين المستعدي والثاني إن كان دون مسافة القصر أحضره وإلا فلا والثالث إن كان على مسافة العدوى أحضره وإلا فلا وهذا أصح عند الإمام
وإذا قلنا لا يحضره إذا كان هناك حاكم فكذا لا يحضره إذا كان هناك من يتوسط ويصلح بينهما بل يكتب إليه أن يتوسط ويصلح فإن تعذر فحينئذ يحضره وحيث قلنا يحضر الخارج عن البلد فذكر الإمام والغزالي وصاحب العدة أنه إنما يحضره إذا أقام المدعي بينة على

ما يدعيه فقد لا يكون له حجة فيتضرر الخصم بالإحضار لكن قد لا يكون له حجة ويقصد تحليفه لعله ينزجر فيقر ولم يتعرض الجمهور لما ذكره لكن قالوا يبحث القاضي عن جهة دعواه فقد يريد مطالبته بما لا يعتقده كذمي أراد مطالبة مسلم بضمان خمر بخلاف الحاضر في البلد لا يحتاج إلى البحث في إحضاره لأنه ليس في الحضور عليه مشقة شديدة ولا مؤنة

فرع لو استعدى على امرأة خارجة عن البلد هل يحضرها وهل يشترط
الطريق ونسوة ثقات وهل على القاضي أن يبعث إليها محرما لها لتحضر معه قال أبو العباس الروياني في كل ذلك وجهان الأصح أن يبعث إليها محرما أو نسوة ثقات
فصل إذا ثبت على غائب دين وله مال حاضر فعلى القاضي توفيته
إذا طالب المدعي وإذا وفى هل يطالب المدعي بكفيل وجهان أحدهما نعم فقد يكون للغائب دافع وأصحهما لا لأن الحكم قد تم والأصل عدم الدافع
فصل ذكرنا أن القضاء على الغائب جائز وذلك في غير العقوبات وفي
العقوبات ثلاثة أقوال المشهور ثالثها إن كانت لآدمي كقصاص وحد قذف جاز وإن كانت حدا لله تعالى كالزنا والشرب وقطع الطريق فلا فإن جوزنا كتب إلى قاضي بلد المشهود عليه ليأخذه بالعقوبة

ثم لا فرق بين كتاب الحكم وكتاب النقل عند الجمهور وقال الفوراني الخلاف في كتاب النقل فأما كتاب الحكم فيقبل قطعا في العقوبتين

فصل إذا سمع القاضي بينة فعزل ثم ولي ثانيا لم يحكم بالسماع
لبطلانه بالعزل بل تجب الاستعادة ولو خرج عن محل ولايته ثم عاد فله الحكم بالسماع الأول على الصحيح لبقاء ولايته
ولو سمع الشهادة على غائب فقدم قبل الحكم لم تجب الاستعادة لكن يخير ويمكن من الجرح وإن قدم بعد الحكم فهو على حجته في إقامة البينة بالأداء والإبراء وجرح الشهود لكن يشترط أن يؤرخ الجارح فسقه بيوم الشهادة لأنه إذا أطلق احتمل حدوثه بعد الحكم وبلوغ الصبي بعد سماع البينة عليه أو بعد الحكم كقدوم الغائب
فصل المرأة المخدرة هل تكلف حضور مجلس الحكم وجهان أحدهما نعم قاله
القفال كفيرها فعلى هذا لو حضر القاضي غدارها ليحكم بينها وبينن خصمها أو بعث نائبا كان للخصم أن يمتنع من دخول دارها ويطلب إخراجها وأصحهما لا كالمريض وسبيل القاضي في حقها كما سبق في المريض فعلى هذا قال ابن الصباغ إذا حضر دارها نائب القاضي تكلمت من وراء الستر إن اعترف الخصم أنها خصمه أو شهد اثنان من محارمها أنها هي التي ادعى عليها وإلا تلففت بملحفة وخرجت من الستر ثم من لا تخرج أصلا إلا لضرورة فهي مخدرة ومن لا تخرج إلا نادرا لعزاء أو زيارة أو حمام مخدرة أيضا على الأصح

ويكفي أن لا تصير متبذلة بكثرة الخروج للحاجات المتكررة كشراء الخبز والقطن وبيع الغزل ونحوها ثم إنما يتحتم حضور المخدرة على الوجه الأول للتحليف وأما ما عداه فيقنع فيه بالتوكيل من المخدرة وغيرها

فصل القاضي يزوج من لا ولي لها إذا كانت في محل ولايته
مستوطنة محل ولايته أم غيرها ولايزوج خارجة عن محل ولايته وإن رضيت
ولا يكفي حضور الخاطب لأن الولاية عليها لا تتعلق بذلك بخلاف ما لو حكم بحاضر على غائب لأن المدعي حاضر والحكم يتعلق به بخلاف ما لو كان ليتيم غائب عن محل ولايته مال حاضر فإنه يتصرف فيه لأن الولاية عليه ترتبط بماله ثم تصرفه في مال اليتيم الغائب يكون بالحفظ والتعهد وإذا أشرف على الهلاك أتى بما يقتضيه الحال بشرط الغبطة اللائقة وهكذا يفعل في مال كل غائب أشرف على الهلاك فإن كان حيوانا وخيف هلاكه باعه وإن حصلت الصيانة بالإجارة اقتصر عليها
وهل له أن يتصرف في مال اليتيم الغائب للاستنماء وأن ينصب قيما كذلك وأن يتصرف للتجارة وطلب الفائدة كتصرفه في أموال الحاضرين وجهان لأن نصب القيم يرتبط بالمال والمالك جميعا فلو جاز النصب بحضور المال جاز لقاضي بلد اليتيم بحضور المالك وحينئذ يتمانع تصرفاهما
قال الغزالي والأولى أن يلاحظ مكان اليتيم دون المال وله نصب القيم للحفظ والصيانة بلا خلاف
وللقاضي إقراض مال الغائب ليحفظه بحفظه

في الذمة وذكره صاحب التلخيص وهو موافق لما سبق في الحجر في إقراض مال الصبي
وأما ما لا يتعين له مالك وحصل اليأس من معرفته فذكر بعضهم أن له أن يبيعه ويصرف ثمنه إلى المصالح وأن له حفظه
قلت هذا المحكي عن بعضهم متعين وقد قاله جماعة ولا نعرف خلافه
والله أعلم

فصل في مسائل منثورة كتاب قاضي البغاة مقبول على المشهور وعن القديم
منعه أطلق بعضهم أنه لا يجوز للقاضي أن يكتب كتابا في غير محل ولايته والذي يستمر على أصل الشافعي رحمه الله ما ذكره ابن القاص أنه لا يحكم ولا يشهر في غير محل ولايته وأما الكتاب فلا بأس به
ولو حكم القاضي ببينة أقامها وكيل رجل في وجه وكيل آخر فحضر المدعى عليه وقال كنت عزلت وكيلي قبل قيام البينة لم ينفعه لأن القضاء على الغائب جائز
ولو حضر المدعي وقال كنت عزلت وكيلي وقلنا بانعزال الوكيل قبل بلوغ الخبر لم يصح الحكم لأن القضاء للغائب باطل وإذا أراد شهود كتاب حكمي التخلف في الطريق في موضع فيه قاض وشهود فصاحب الكتاب إما أن يشهد على كل واحد منهم شاهدين يحضران معه ويشهدان عند القاضي الذي يقصده وإما أن يعرض الكتاب على قاضي البلد الذي بتخلفون فيه ليشهدوا عنده به فيضمنه ويكتب به إلى القاضي الذي يقصده
وإن كان التخلف حيث لا قاض ولا شهود قال البغوي ليس لهم ذلك بل عليهم الخروج إلى موضع فيه قاض وشهود فإن طلبوا أجرة الخروج إليه فليس لهم إلا نفقتهم وكذا دوابهم بخلاف ما لو طلبوا أكثر من ذلك

عند ابتداء الخروج من بلد القاضي الكاتب حيث لا يكلفون الخروج والقناعة به لأن هناك يتمكن من إشهاد غيرهم وإذا ألزم المكتوب إليه الخصم بالحق فطلب أن يكتب له كتابا بقبضه فهل على القاضي إجابته وجهان قال الاصطخري نعم لئلا يطالب مرة أخرى وقال الجمهور لا لأن الحاكم إنما يطالب بإلزام ما حكم به وثبت عنده ويكفي للاحتياط إشهاد المدعي على قبضه الحق
ولو طالبه بتسليم الكتاب الذي ثبت الحق به لم يلزمه دفعه إليه وكذا من له كتاب بدين واستوفاه أو بعقار فباعه لا يلزمه دفعه إلى المستوفى منه وإلى المشتري لأنه ملكه ولأنه قد يظهر استحقاق فيحتاج إليه وبالله التوفيق

كتاب القسمة
قد يتولاها الشركاء بأنفسهم أو منصوب للقاضي أو لهم ويشترط في منصوب القاضي الحرية والعدالة والتكليف والذكورة والعلم بالمساحة والحساب وهل يشترط معرفته للتقويم وجهان لأن في أنواع القسمة ما يحتاج إليه ولا يشترط في منصوب الشركاء العدالة والحرية لأنه وكيل لهم كذا أطلقوه
وينبغي أن يكون في توكيل العبد في القسمة الخلاف في توكيله في البيع
ولو حكم الشركاء رجلا ليقسم بينهم فهو على القولين في التحكيم فإن جوزناه فهو كمنصوب القاضي فإن كان في سهم المصالح مال يتفرع لمؤنة القاسمين لزم الإمام أن ينصب في كل بلد قاسما فإن لم تحصل الكفاية بواحد زاد بحسب الحاجة وإلا فلان يعين قاسما لئلا يغالي في الأجرة ولئلا يواطئه بعضهم فيحيف بل يدع الناس ليستأجروا من شاؤوا وإذا لم تكن في القسمة تقويم كفى قاسم على المذهب وقيل قولان ثانيهما يشترط اثنان وإن كان تقويم اشترط اثنان وللإمام أن ينصب قاسما لجعله حاكما في التقويم ويعتمد في التقويم عدلين وهل للقاضي أن يحكم بمعرفته في التقويم قولان كقضائه بعلمه وقيل لا يجوز قطعا لأنه تخمين مجرد ولو فوض الشركاء القسمة إلى واحد بالتراضي جاز قطعا
4

فرع القاسم المنصوب من جهة الإمام يدر رزقه من بيت المال
وبه قطع الجمهور
وقال أبو إسحق لا يدر وهذا ضعيف
وإذا لم يكف مؤنته من بيت المال فأجرته على الشركاء سواء طلب جميعهم القسمة أم بعضهم وقال ابن القطان وغيره على الطالب وحده والصحيح الأول ثم إن استأجر الشركاء قاسما وسموا له أجرة وأطلقوا فتلك الأجرة توزع على قدر الحصص على المذهب وقيل قولان ثانيهما على عدد الرؤوس ويجري الطريقان فيما لو استأجروه استئجارا فاسدا فقسم أن أجرة المثل كيف توزع وفيما لو أمروا قاسما فقسم ولم يذكروا أجرة وقلنا تجب أجرة المثل في مثل ذلك وفيما لو أمر القاضي قاسما فقسم قسم إجبار
ولو استأجروا قاسما وسمى كل واحد أجرة التزمها فله على كل واحد ما التزم هذا إذا أستأجروا جميعا بأن قالوا استأجرناك لتقسم بيننا كذا بدينار على فلان ودينارين على فلان مثلا أو وكلوا وكيلا عقد لهم كذلك فلو استأجروا في عقود مترتبة فعقد واحد لإفراز نصيبه ثم الثاني كذلك ثم الثالث فقد جوزه القاضي حسين وأنكره الإمام وقال هذا بناء على أنه يجوز استقلال بعض الشركاء باستئجار القاسم لإفراز نصيبه ولا سبيل إليه لأن إفراز نصيبه لا يمكن إلا بالتصرف في نصيب الآخرين ترددا وتقريرا ولا سبيل إليه إلا برضاهم لكن يجوز انفراد أحدهم برضى الباقين فيكون أصلا ووكيلا ولا حاجة إلى عقد الباقين وحينئذ إن فصل ما على كل واحد بالتراضي فذاك وإن أطلق عاد الخلاف في كيفية التوزيع

فرع إذا كان أحد الشريكين طفلا نظر إن كان في القسمة
الولي طلب القسمة وبدل حصته من الأجرة من مال الطفل وإلا فلا يطلبها وإن طلبها الشريك الآخر وأجيب فإن قلنا الأجرة على الطالب خاصة فذاك وإن قلنا على الجميع فوجهان أحدهما على الطالب لئلا يجحف بالصبي بلا غبطة وأصحهما تؤخذ حصة الصبي من ماله
فصل للعين المشتركة حالان الأولى أن يعظم ضرر قسمتها فإن طلبها أحدهما
في باب الشفعة فلا يكسر جوهر نفيس ولا يقطع ثوب رفيع ولا يقسم زوجا خف ومصراعا باب إن طلبه أحدهما فلو تراضوا بقسمة ذلك وطلبوها من القاضي فإن بطلت المنفعة بالكلية لم يجبهم ويمنعهم أن يقتسموا بأنفسهم لأنه سفه وإن نقصت كسيف يكسر لم يجبهم على الأصح لكن لا يمنعهم أن يقتسموا بأنفسهم وما يبطل القسمة منفعته المقصودة منه كطاحونة وحمام صغيرين إذا امتنع أحدهما لا يجبر الآخر على أصح الأوجه المشار إليها فإن كانا كبيرين وأمكن جعل الطاحونة طاحونتين والحمام حمامين أجبر الممتنع فإن كان يحتاج إلى إحداث بئر أو مستوقد فوجهان أحدهما لا إجبار لتعطل المنفعة إلى الإحداث وأصحهما يجبر ليسر التدارك
وإن تضرر أحدهما بالقسمة دون الآخر كدار بين اثنين لأحدهما عشرها وللآخر باقيها ولو قسمت لم يصلح العشر للسكن ويصلح الباقي فإن

طلب القسمة صاحب العشر لم يجبر الآخر على الأصح وإن طلبها الآخر أجبر صاحب العشر على الأصح لأن صاحب العشر متعنت في طلبه والآخر معذور
وإن كان نصف الدار لواحد ونصفها لخمسة فطلب صاحب النصف إفراز نصيبه أجيب إليه والباقون إن اختاروا القسمة قسم وإن كان العشر لا يصلح للسكن لأن في القسمة فائدة لبعض الشركاء وإن استمروا على الشيوع جاز فلو طلب أحدهم القسمة بعد ذلك لم يجبر الباقون لأن هذه القسمة تضر الجميع ولو طلب الخمسة أولا إفراز النصف ليكون بينهم شائعا أجيبوا إليه كذا ذكره الروياني وغيره وكذا لو كانت بين عشرة فطلب خمسة القسمة ليكون النصف بينهم يجابون
الحالة الثانية أن لا يعظم ضرر القسمة فقد لا ينقسم من غير رد من أحد الشريكين أو الشركاء وقد ينقسم بلا رد باعتبار الأجزاء وتسمى قسمة المتشابهات أو باعتبار القيمة وتسمى قسمة التعديل فهذه ثلاثة أنواع
الأول قسمة المتشابهات وإنما تجري في الحبوب والدراهم والأدهان وسائر المثليات وفي الدار المتفقة الأبنية والأرض المتشابهة الأجزاء وما في معناها فتعدل الأنصباء في المكيل بالكيل والموزون بالوزن والأرض المتساوية تجزأ أجزاء متساوية بعدد الأنصباء إن تساوت بأن كانت لثلاثة أثلاثا فتجعل ثلاثة أجزاء متساوية ثم تؤخذ ثلاث رقاع متساوية ويكتب على كل رقعة اسم شريك أو جزء من الأجزاء ويميز بعضها عن بعض بحد أو جهة أو غيرها وتدرج في بنادق متساوية وزنا وشكلا من طين مجفف أو شمع وتجعل في حجر من لم يحضر الكتابة والإدراج فإن كان صبيا أو أعجميا كان أولى ثم يؤمر بإخراج رقعة على الجزء الأول إن كتب

في الرقاع أسماء الشركاء فمن خرج اسمه أخذه ثم يؤمر بإخراج أخرى على الجزء الذي يلي الأول فمن خرج اسمه أخذه ويعين الباقي للثالث وإن كتب في الرقاع أسماء الأجزاء أخرجت رقعة باسم زيد ثم أخرى باسم عمرو ويتعين الثالث للثالث ويعين من يبتدىء به من الشركاء والإجزاء منوط بنظر القاسم فيقف أولا على أي طرف شاء ويسمي أي شريك شاء وإن كانت الأنصباء مختلفة بأن كان لزيد نصف ولعمرو ثلد وللثالث سدس جزأ الأرض على أقل السهام وهو السدس فيجعلها ستة أجزاء ثم نص الشافعي رحمه الله أنه يثبت اسم الشركاء في رقاع وتخرج الرقاع على الأجزاء وقال في العتق يكتب على رقعتين رق وعلى رقعتين حرية وتخرج على أسماء العبيد ولم يقل تكتب أسماء العبيد وفيهما طريقان أحدهما فيهما قولان ففي قول يثبت اسم الشركاء والعبيد وفي قول يثبت الأجزاء هنا والرق والحرية هناك والطريق الثاني وهو المذهب وبه قطع الجمهور الفرق ففي العتق يسلك ما شاء من الطريقين وهنا لا يثبت الأجزاء على الرقاع لأنه لو أثبتها وأخرج الرقاع على الأسماء ربما خرج لصاحب السدس الجزء الثاني أو الخامس فيفرق ملك من له النصف أو الثلث وأيضا قال في المهذب لو فعلنا ذلك ربما خرج السهم الرابع لصاحب النصف فيقول آخذه وسهمين قبله ويقول الآخران بل خذه وسهمين بعده فيفضي إلى النزاع ثم هل هذا الخلاف في الجواز أم الأولوية وجهان أرجحهما الثاني وبه قال الإمام والغزالي وسنوضح إن شاء الله تعالى ما يحصل به الاحتراز عن تفريق الملك وأما ما ذكره في المهذب فيجوز أن يقال لا نبالي بقول الشركاء بل يتبع نظر القاسم كما في الجزء المبدوء به واسم الشريك المبدوء به فإن أثبت أسماء الشركاء فقيل يثبت أسماءهم على ثلاث

رقاع ويأمر بإخراج رقعة على الجزء الأول فإن خرج اسم صاحب السدس أخذه وأخرجت رقعة على الجزء الثاني فإن خرج اسم عمرو أخذه مع الجزء الثالث تعينت الثلاثة الباقية لزيد وإن خرج اسم زيد أخذ الثاني والثالث والرابع وتعين الآخران لعمرو فإن خرج اسم زيد أولا أخذ الثلاثة الأولى ثم يخرج رقعة فإن خرج اسم عمرو أخذ الرابع والخامس ويعين السادس لصاحب السدس
وإن خرج اسم طاحب السدس أخذ الرابع وتعين الباقيان لعمرو وإن خرج اسم عمرو أولا لم يخف الحكم
وقيل تثبت أسماؤهم في ست رقاع اسم زيد في ثلاث وعمرو في ثنتين والثالث في رقعة ويخرج على ما ذكرنا
وليس في هذا إلا أن اسم زيد يكون أسرع خروجا لكن سرعة الخروج لا توجب حيفا لأن السهام متساوية فالوجه تجويز كل واحد من الطريقين
وإن أثبت الأجزاء في الرقاع فلا بد من إثباتها في ست رقاع وحينئذ فالتفريق المحذور لو لزم إنما يلزم إذا خرج أولا اسم صاحب السدس وهو مستغن عنه بأن يبدأ باسم صاحب النصف فإن خرج الأول باسمه فله الأول والثاني والثالث وإن خرج الثاني فكذلك فيعطى معه ما قبله وما بعده وإن خرج الثالث ففي شرح مختصر الجويني أنه يتوقف فيه ويخرج لصاحب الثلث فإن خرج الأول أو الثاني فله الأول والثاني ولصاحب النصف الثالث والرابع والخامس
وإن خرج الخامس فله الخامس والسادس ثم أهمل باقي الاحتمالات وكان يجوز أن يقال إذا خرج لصاحب النصف الثالث فهو له مع اللذين قبله وإن خرج الرابع فهو له مع اللذين قبله ويتعين الأول لصاحب السدس وإن خرج الخامس فهو له مع اللذين قبله ويتعين السادس لصاحب السدس

وإن خرج السادس فهو له مع اللذين قبله
وإذا أخذ زيد حقه ولم يتعين حق الآخرين أخرج رقعة أخرى باسم أحدهما فلا يقع تفريق ويمكن أن يبدأ بصاحب السدس فإن خرج باسم الجزء الأول دفع إليه ثم يخرج باسم أحد الجزئين فلا يقع تفريق
وإن خرج له الثالث دفع إليه ويعين الأول والثاني لصاحب الثلث والثلاثة الآخرة لصاحب النصف
وإن خرج له الرابع دفع إليه وتعين الأخيران لصاحب الثلث والثلاثة الأولى لصاحب النصف
ويمكن أن يبدأ بصاحب الثلث فإن خرج له الأول أو الثاني دفعا إليه وإن خرج له الخامس أو السادس دفعا إليه ثم يخرج باسم أحد الآخرين وإن خرج الثالث فله الثالث والثاني ويتعين الأول لصاحب السدس والثلاثة الأخيرة لصاحب النصف وإن خرج الرابع فله الرابع والخامس وتعين السادس لصاحب السدس والثلاثة الأول لصاحب النصف

فرع كيفية إدراج الرقاع وإخراجها على التفصيل المذكور لا يختص بقسمة المتشابهات

فرع كما تجوز القسمة بالرقاع المدرجة في البنادق تجوز بالأقلام

فرع إذا امتنع أحد الشركاء من نوع القسمة الذي نحن فيه
المتشابهات أجبر عليها سواء كانت الأنصباء متساوية أم متفاوتة وفي المتفاوتة وجه لابن أبي هريرة أنه لا إجبار والصحيح الأول
فصل إذا قسم قاسم القاضي بالإجبار ثم ادعى أحد الشريكين غلطا أو
حيفا نظر إن لم يبين ما يزعم به الحيف أو الغلط لم يلتفت إليه وإن بينه لم يمكن تحليف القاسم كما لا يحلف القاضي أنه لم يظلم والشاهد أنه لم يكذب لكن إن قامت بينة سمعت ونقضت القسمة
قال الشيخ أبو حامد وغيره وطريقه أن يحضر قاسمين حاذقين لينظرا ويمسحا ويعرفا الحال ويشهدا
وألحق أبو الفرج بقيام البينة ما إذا عرف أنه يستحق ألف ذراع
ومسحنا ما أخذه فإذا هو سبعمئة ذراع ولو لم تقم حجة وأراد تحليف الشريك مكن منه فإن نكل وحلف المدعي نقضت القسمة ولو حلف بعض الشركاء ونكل بعضهم فحلف المدعي لنكول بعضهم قال في الوسيط تنقض القسمة في حق الناكلين دون الحالفين ولا يطالب الشريك بإقامة بينة أن القسمة الجارية عادلة لأن الظاهر الصواب
وحكى ابن أبي هريرة قولا أن على الشريك البينة بأنها عددلة ولا بينة على مدعي الغلط
وقال أبو إسحق إن قال مدعي الغلط إن القاسم الذي قسم لا يحسن القسمة والمساحة والحساب فالأصل

ما يقوله وعلى صاحبه البينة
وإن قال سها فعليه البينة والمذهب الأول
ولو اعترف القاسم بالغلط أو الحيف فإن صدقه الشركاء انتقضت القسمة وإلا فلا تنتقض وعليه رد الأجرة
قال البغوي وهو كما لو قال القاضي غلطت في الحكم أو تعمدت الحيف فإن صدقه المحكوم له استرد المال وإلا فلا وعلى القاضي الغرم
أما إذا جرت القسمة بالتراضي بأن نصبا قاسما أو اقتسما بأنفسهما ثم ادعى أحدهما غلطا فإن لم يعتبر الرضى بعد خروج القرعة فالحكم كما لو ادعى الغلط في قسمة الإجبار وإن اعتبرناه وتراضيا بعد خروج القرعة فإن قلنا القسمة إفراز فالإفراز لا يتحقق مع التفاوت فتنقض القسمة إن قامت به بينة ويحلف الخصم إن لم تقم وإن قلنا القسمة بيع فوجهان أحدهما الجواب كذلك فإنهما تراضيا لاعتقادهما أنها قسمة عدل وأصحهما أنه لا فائدة لهذه الدعوى ولا أجر للغلط وإن تحقق كما لا أثر للغبن في البيع والشراء وبهذا قطع الجمهور
كأنهم اقتصروا على الجواب الأصح

فصل إذا قسمت التركة بين الورثة ثم ظهر دين فإن قلنا القسمة
فهي صحيحة ثم تباع الأنصباء في الدين إن لم يوفوه وإن قلنا بيع فقد سبق في كتاب الرهن وجهان في صحة بيع الوارث التركة قبل قضاء الدين وأنه لو تصرف ولا دين في الظاهر ثم ظهر
فالأصح صحة التصرف ففي القسمة هذان الوجهان وفإن صححنا البيع فالقسمة الجارية صحيحة فإن وفوا الدين استمرت صحتها وإلا

نقضت وبيعت التركة في الدين وإن لم نصححه فالقسمة باطلة ولو جرت قسمة ثم استحق بعض المقسوم نظر إن استحق جزء شائع كالثلث فمطلت القسمة في المستحق وفي الباقي طريقان أصحهما قولان أحدهما
يبطل فيه والثاني يصح ويثبت الخيار وبهذا الطريق قال الأكثرون
وقال أبو إسحق يبطل فيه قولا واحدا لأن مقصود القسمة تمييز الحقوق وبالاستحقاق يصير المستحق شريك كل واحد لأن المستحق كان شريكا وانفراد بعض الشركاء بالقسمة ممتنع وإن استحق شىء معين نظر إن اختص المستحق بنصيب أحدهما أو كان المستحق من نصيب أحدهما أكثر بطلت القسمة وإن كان المستحقان من نصيبهما سواء بقيت القسمة في الباقي على الصحيح وقيل تبطل بمعنى التفريق
ولو ظهرت وصية بعد قسمة التركة فإن كانت مرسلة فهو كظهور دين على التركة وإن كانت بجزء شائع أو معين فعلى ما ذكرناه في الاستحقاق ثم ظهور الدين والاستحقاق ودعوى الغلط لا تختص بقسمة المتشابهات بل تعم أنواع القسمة
النوع الثاني قسمة التعديل والمشترك الذي تعدل سهامه بالقيمة ينقسم إلى ما يعد شيئا واحدا وإلى ما يعد شيئين فصاعدا أما الأول فكالأرض تختلف أجزاؤها لاختلافها في قوة الإنبات والقرب من الماء وفي أن بعضها يسقى بالنهر وبعضها بالناضح فيكون ثلثها لجودتها كثلثيها بالقيمة مثلا فيجعل هذا سهما وهذا سهما إن كانت بينهما نصفين
وإذا اختلفت الأنصباء كنصف وثلث وسدس جعل ستة أسهم بالقيمة دون المساحة وإذا طلب أحدهما هذه القسمة فهل يجبر الممتنع قولان أظهرهما عند العراقيين وغيرهم نعم إلحاقا للتساوي في القيمة بالتساوي في الأجزاء على هذا هل

توزع أجرة القاسم بحسب الشركة في الأصل أم بحسب المأخوذ منها وجهان أصحهما الثاني لأن العمل في الكثير أكثر وكما يجري القولان فيما إذا اختلفت الصفات تجري فيما إذا كان الاختلاف لاختلاف الجنس كالبستان الواحد بعضه نخل وبعضه عنب والدار المبني بعضها بالآجر وبعضها بالخشب والطين ويشبه أن يكون الخلاف مخصوصا بما إذا لم يمكن قسمة الجيد وحده وقسمة الرديء وحده فإن أمكن لم يجبر كما لو كانا شريكين في أرضين تمكن قسمة كل واحدة بالأجزاء لا يجري الإجبار على التعديل
القسم الثاني ما يعد شيئين فصاعدا وهو ضربان عقار وغيره أما العقار فإذا اشتركا في دارين أو حانوتين متساويتي القيمة وطلب أحدهما القسمة بأن يجعل لهذا دار ولهذا دار أو حانوت وحانوت لم يجبر الممتنع سواء تجاور الحانوتان والداران أم تباعدا لشدة اختلاف الأغراض باختلاف المحال والأبنية
ولو اشتركا في دكاكين صغار متلاصقة لا تحتمل آحادها القسمة ويقال لها العضايد فطلب أحدهما أن يقسم أعيانا فهل يجبر الممتنع وجهان أحدهما كالمتفرقة وكالدور وأصحهما نعم للحاجة وكالخان المشتمل على بيوت ومساكن هكذا صور هذه المسألة الجمهور وهو الصواب وصورها صاحب المهذب فيما إذا احتملت كل واحدة منهما القسمة وحكى وجهين فيما إذا طلب أحدهما قسمتها أعيانا والآخر قسمة كل واحد منها
وأما الأقرحة فإن كانت

متفرقة فهي كالدور
وإن كانت متجاورة ففي الشامل أن أبا إسحق جعلها كالقراح الواحد المختلف الأجزاء وأن غيره قال إنما يكون كالقراح الواحد إذا اتحد الشرب والطريق فإن تعدد فهو كما لو تفرقت قال وهذا أشبه بكلام الشافعي رحمه الله
الضرب الثاني غير العقار إذا اشتركا في عبيد أو دواب أو أشجار أو ثياب ونحوها فلها حالان أحدهما أن يكون من نوع واحد ويمكن التسوية بين الشريكين عددا وقيمة كعبدين متساويي القيمة بين شريكين وكثلاث دواب أو أثواب متساوية القيمة بين ثلاثة فالمذهب أنه يجبر على قسمتها أعيانا لقلة اختلاف الأغراض فيها بخلاف الدور وقال أبو علي بن خيران وابن أبي هريرة هي كالدور وقيل يخير في العبيد وفي غيرها الخلاف
وإن لم تمكن التسوية في العدد كثلاثة أعبد لرجلين بالسوية إلا أن أحدهم يساوي الآخرين في القيمة فإن قلنا بالإجبار عند استواء القيمة فهنا قولان وهما كالقولين في الأرض المختلفة الأجزاء وإن كانت الشركة لا ترفع إلا عن بعض الأعيان كعبدين بين اثنين قيمة أحدهما مائة وقيمة الآخر مائتان فطلب أحدهما القسمة ليختص من خرجت له قرعة الخسيس بالخسيس ويكون له مع ذلك ربع النفيس فإن قلنا لا إجبار في الصورة السابقة فهنا أولى وإلا فوجهان أو قولان الأصح لا إجبار لأن الشركة لا ترتفع بالكلية
الحال الثاني أن يكون الأعيان أجناسا كعبد وثوب وحنطة وشعير ودابة ونحوها أو أنواعا كعبدين تركي وهندي وثوبين

إبريسم وكتان فطلب أحدهما أن يقسم أجناسا وأنواعا لا يجبر الآخر وإنما يقسم كذلك بالتراضي
ولو اختلطت الأنواع وتعذر التمييز كتمر جيد ورديء فلا قسمة إلا بالتراضي هذا ما قطع به الجمهور وطرد السرخسي الخلاف في الإجبار عند اختلاف النوع وزاد الإمام والغزالي فأجرياه عند اختلاف الجنس وليس بشىء والمذهب الأول

فرع إذا كان بينهما عرصة وثلثها بالمساحة نصف بالقيمة لقربه من الماء فهي قسمة تعديل وفيها الخلاف

وقال الغزالي يجبر عليها قطعا ولا يبالي بهذا التفاوت والمذهب الأول وهو المعروف عن الأصحاب
فرع اللبنات إن تساوت قوالبها فقسمتها قسمة المتشابهات فيجبر قطعا وإن اختلفت قوالبها فقسمة تعديل

فرع دار بين اثنين لها علو وسفل طلب أحدهما قسمتها علوا وسفلا
الآخر عند الإمكان وإن طلب أحدهما أن يجعل العلو لواحد والسفل لآخر لا يجبر هكذا أطلقه الأصحاب
ويجوز أن يقال إن لم يمكن القسمة سفلا وعلوا جعل السفل لأحدهما والعلو للآخر من جملة قسمة التعديل ولو طلب أحدهما أن يقسم السفل ويترك

العلو مشاعا لم يجبر الآخر لأنهما قد يقتسمان العلو بعده فيقع ما فوق هذا لذاك
النوع الثالث قسمة الرد وصورتها أن يكون في أحد جانبي الأرض بئر أو شجر أو في الدار بيت لا يمكن قسمته فيضبط قيمة ما اختص ذلك الجانب به ويقسم الأرض والدار على أن يرد من يأخذ ذلك الجانب بتلك القيمة وهذه لا إجبار عليها قطعا وكذا لو كان بينهما عبدان قيمة أحدهما مائة والآخر خمسمائة واقتسما على أن يرد آخذ النفيس مائتين ليستويا وقيل في الإجبار قول مخرج حكاه السرخسي وهو غلط
ولو تراضيا بقسم الرد جاز أن يتفقا على أن يأخذ أحدهما النفيس ويرد ويجوز أن يحكما القرعة ليرد من خرج له النفيس

فصل قسمة المتشابهات هل هي بيع أم إفراز حق قولان قال البغوي
الأظهر كونها بيعا وقال الغزالي الأظهر كونها إفرازا قال صاحب العدة وعليه الفتوى وهذا يوافقه جواب الأصحاب في مسائل متفرقة تتفرع على القولين
قلت أشار الرافعي في المحرر إلى اختيار الإفراز فإنه قال فيه قولان ذكر أن الفتوى على الإفراز هذا كلامه فالمختار ترجيح الإفراز
والله أعلم
ثم قيل القولان فيما إذا جرت القسمة إجبارا فإن جرت

بالتراضي فبيع قطعا
وقيل القولان في الحالين قال البغوي والأصح الطريق الأول ثم القول بأنها بيع لا يمكن إطلاقه في كل ما حصل لكل منهما بل النصف الذي صار في يده كان نصفه له ونصفه لصاحبه فالقسمة إفراز فيما كان لصاحبه على هذا القول
وأما قسمة التعديل فالمذهب أنها بيع وقيل فيه القولان وقسمة الرد بيع كذا قاله الجمهور وقيل بيع فيما يقابل المردود وفيما سواه الخلاف في قسمة التعديل

فرع إذا قلنا القسمة بيع فاقتسما ربويا وجب التقابض في المجلس ولم
تجز قسمة المكيل وزنا ولا العكس ولا يجوز قسمة الرطب والعنب وما أثرت فيه النار بتعقيد الأجزاء وإن قلنا إفراز جاز كل ذلك
وتجوز قسمة الحص والنورة كيلا ووزنا على القولين ولا تقسم الثمار على رؤوس الشجر خرصا إن قلنا القسمة بيع كما لا تباع خرصا وإن قلنا إفراز فإن كانت رطبا وعنبا جاز وإن كان غيرهما فلا لأن الخرص لا يدخل غيرهما وإن كان بينهما أرض مزروعة فأرادا قسمة الأرض وحدها جاز وإن طلبها أحدهما أجبر الآخر ويجيء على قول القسمة بيع وجه مذكور في البيع وإن أرادا قسمة الأرض وما فيها لم يجز إن اشتد الحب
أما إن جعلناها إفرازا فلأنه قسمة مجهول ومعلوم وأما إن جعلناها بيعا فلأنه بيع طعام وأرض بطعام وأرض وكذا لو كان بذرا بعد وإن كان قصيلا جاز لأنه معلوم مشاهد
وإن أرادا قسمة ما فيها وحده فكذا الحكم إن لم ينبت أو اشتد الحب لم يجز وإن كان

قصيلا جاز
وإن طلب أحدهما قسمة الأرض وما فيها أو قسمة ما فيها وحده وامتنع الآخر والحال حال جواز القسمة بالتراضي قال الشيخ أبو حامد وصاحبا المهذب و التهذيب لا يجبر الممتنع ولم يوجهوه بمقنع

فرع اقتسما ثم تقابلا إن قلنا القسمة بيع صحت الإقالة وعاد الشيوع
وإلا فهي لاغية
فرع قسمة الملك عن الوقف إن قلنا بيع لا يجوز وإن قلنا
قال الروياني وهو الاختيار
قلت هذا الذي اختاره الروياني هو المختار وهذا إذا لم يكن فيها رد أو كان رد من أصحاب الوقف فإن كان من صاحب الملك لم يجز لأنه يأخذ بإزائه جزءا من الوقف ذكره صاحب المهذب وغيره
والله أعلم
وأما قسمة الوقف بين الموقوف عليهم فلا يجوز على القولين لأن فيها تغيير شرط الواقف وقيل يجوز على قول الإفراز ليرغبوا في العمارة ولا يتواكلوا وهذا الوجه حكاه ابن كج عن ابن القطان قع وحده وخصصه بقولنا الملك في الموقوف للموقوف عليه قال فلو انقرض البطن الأول وصار الوقت للبطن الثاني انتقضت القسمة
فصل قسمة الإجبار لا يعتبر فيها التراضي عند إخراج القرعة
ولا

يعدها وإذا تراضيا بقاسم يقسم بينهما فهل يشترط الرضى بعد خروج القرعة أم يكفي الرضى الأول قولان أظهرهما الاشتراط وإليه مال المعتبرون وذكروا أنه المنصوص وفي قسمة الرد يشترط الرضى بعد خروج القرعة كما في الابتداء وعن الاصطخري وجه أنه يلزم بخروج القرعة والصحيح الأول
وإذا اشترطنا الرضى بعد خروجها فصيغته أن يقولا رضينا بهذه القسمة أو بما أخرجت القرعة أو بما جرى ولا يشترط لفظ البيع وإن قلنا القسمة بيع وقيل إن قلنا بيع اشترط لفظ البيع أو التمليك وقيل لا يكفي قولهما رضينا بهذا أو بما جرى بل يشترط تلفظهما بالقسمة بأن يقولا تقاسمنا أو رضينا بهذه القسمة ليؤدي معنى التمليك والتملك والمذهب الأول وحيث وجب الرضى فلا بد منه في الابتداء وإنما الخلاف في الرضى بعد خروج القرعة

فصل تقسم المنافع كما تقسم الأعيان وطريق قسمتها المهايأة
مياومة أو مشاهرة أو مسانهة فإن كانت العين قابلة للقسمة فلا إجبار على المهايأة بحال وكذا لو طلب أحدهما أن يزرع هذا بعض الأرض وذاك بعضها أو يسكن هذا بعض الدار وذاك بعضها من غير أن يقسم الأرض وامتنع الآخر فلا اجبار فإن لم تكن العين قابلة للقسمة كالقناة والعبد والبهيمة والحمام فإن اتفقا فيها على المهايأة فذاك ثم قد يتفقان على من يبدأ وقيل يتنازعان فيقرع وإن طلبها أحدهما وامتنع الآخر فوجهان أحدهما قاله ابن سريج يجبر الممتنع كما في

قسمة الأعيان ولئلا يعطل على شريكه مضارة فعلى هذا يبدأ بالقرعة وأصحهما لا يجبر
ولو رضيا بالمهايأة ثم رجع المبتدىء بالانتفاع قبل استيفاء نوبته مكن فإن مضت مدة لمثلها أجرة غرم نصف أجرة المثل وإن رجع بعد استيفاء نوبته فإن قلنا لا إجبار على المهايأة مكن وغرم نصف الأجرة وإن قلنا بالإجبار لم يمكن بل يستوفي الأجرة مدته وإن استوفى الأول نوبته وامتنع الآخر من أن ينتفع ويستوفي نوبته فإن قلنا بالإجبار فهو مضيع حق نفسه ولا أجرة له وإن قلنا لا إجبار فله ذلك وله نصف الأجرة على الأول وكذا لو انهدمت الدار أو مات العبد بعد نوبة الأول فعليه نصف أجرة المثل وإن قلنا لا إجبار وأصرا على النزاع في المهايأة فهل يبيع القاضي العين عليهما قطع للنزاع وجهان أصحهما لا وعلى هذا هل يتركان حتى يصطلحا ولا يؤجر عليهما أم يؤجر وتوزع الأجرة بينهما وجهان أصحهما الثاني وهو الذي ذكره ابن كج و البغ
ولو استأجر اثنان أرض وطلب أحدهما المهايأة وامتنع الآخر فينبغي أن يعود الخلاف في الإجبار وإن أراد قسمتها ففي فتاوى القاضي حسين أنها جائزة على قول ابن سريج
ثم إذا اقتسما وحدث بنصيب أحدهما عيب فله الفسخ
قال القاضي وينبغي أن يقال لشريكه الفسخ أيض
ولو طلب أحدهما هذه القسمة وامتنع الآخر حكي في إجباره وجهان

فرع إذا جرت المهايأة في عبد مشترك بين مالكين أو فيمن بعضه حر

بينه وبين مالك باقيه فالأكساب العامة والمؤن العامة كالنفقة تدخل في المهايأة وفي الأكساب النادرة كما يقبله بهبة أو وصية وفي المؤن النادرة كأجرة الطبيب والحجام خلاف سبق في كتاب اللقطة ومواضع والأظهر دخولها أيض
وينبغي أن ينظر في الكسوة إلى قدر النوبة حتى تبقى على الاشتراك إن جرت المهايأة مياومة

فرع لا تجوز المهايأة في الحيوان اللبون ليحلب هذا يوم وهذا يوم
ولا في الشجرة المثمرة ليكون ثمرها لهذا عام ولهذا عام لما فيه من التفاوت الظاهر
قم قلت قم طريقها والحالة هذه أن يبيح كل واحد نصيبه لصاحبه مدة
والله أعلم
فصل جماعة في أيديهم دار أو أرض طلبوا من القاضي قسمتها بينهم
فإن أقاموا بينة أنها ملكهم أجابهم إلى القسمة وإن لم يقيموها فطريقان أصحهما قولان أحدهما لا يجيبهم فربما كانت في أيديهم بإجارة أو إعارة فإذا قسمها ربما ادعوا ملكها محتجين بقسمة القاضي
والثاني يجيبهم لأن اليد تدل على الملك لكن يكتب أنه إنما قسم بينهم بدعواهم لئلا يتمسكوا بقسمته
وحكى السرخسي وجه أنه لا يحتاج إلى هذا التقييد والطريق الثاني القطع بالقول الأول وبه قال ابن سلمة وإذا قلنا بالقولين فأظهرهما عند الإمام و ابن الصباغ و ق الثاني وعند الشيخ أبي حامد وطبقته الأول ويدل عليه أن قش الشافعي قش رحمه الله لما ذكر القول الثاني قال ولا يعجبني هذا القول
قم قلت قم المذهب أنه لا يجيبهم
والله أعلم

هذا في العقار وأما المنقول فالمذهب أنه كالعقار أيضا وقيل يقسم قطع بلا بينة لأن العقار يتأبد ضرره فيخص بالاحتياط ولهذا تثبت فيه الشفعة ولو طلب بعضهم القسمة وامتنع الآخرون واتفقوا جميع على الملك فهل يقسم القاضي فيه هذا الخلاف
وإذا شرطنا البينة قبل رجل وامرأتان قال ابن كج ولا يقبل شاهد ويمين لأن اليمين إنما تشرع حيث يكون خصم ترد عليه لو حصل نكول وقال ابن أبي هريرة تقبل

فصل في مسائل منثورة إذا كانت القسمة بالإجبار والقاسم على ولايته
فقوله قسمت مقبول كقول الحاكم حكمت وهو في ولايته وإن لم يكن كذلك لم يقبل قوله وهل تسمع شهادته لأحد الشريكين وجهان الأصح المنع والثاني وهو قول الاصطخري تسمع إن لم يطلب أجرة
وإذا تقاسما ثم تنازعا في بيت أو قطعة من الأرض فقال كل واحد هذا من نصيبي ولا بينة تحالفا ونقضت القسمة قال الشيخ أبو حامد فإن اختص أحدهما باليد فيما تنازعا فيه فهو المصدق بيمينه وإذا اطلع أحدهما على عيب بنصيبه فله فسخ القسمة
فرع الديون المشتركة في ذمم الناس أطلق مطلقون منهم صاحب العدة أنه يمتنع قسمتها
وقال السرخسي إن أذن أحد الشريكين للآخر في قبض ما على زيد على أن يختص به فهل يختص إذا قبض قولان أظهرهما المنع وإن تراضيا على أن يكون ما في ذمة زيد لهذا وما في ذمة عمرو لهذا فطريقان أحدهما على هذين القولين والثاني

وهو المذهب القطع بالمنع لأن القسمة إن جعلت بيع فهذا بيع دين في ذمة بدين في ذمة أخرى وإن جعلت إفراز فإفراز ما في الذمة ممتنع لعدم قبضه ولا يدخل الإجبار في قسمة الديون بحال والقول في قسمة الجدار وعرضه ما سبق في كتاب الصلح
وبالله التوفيق

كتاب الشهادات
فيه ستة أبواب الأول فيما يفيد أهلية الشهادة ولها شروط منها التكليف والحرية والاسلام فلا تقبل شهادة صبي ولا مجنون ولا من فيه رق ولا كافر ما سواء شهد على مسلم أو كافر
الشرط الرابع العدالة
فالمعاصي صغائر وكبائر وقال الأستاذ أبو إسحق ليس فيها صغيرة والصحيح الأول وفي حد الكبيرة أوجه أحدها أنها المعصية الموجبة لحد والثاني أنها ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة وهذا أكثر ما يوجد لهم وهم إلى ترجيح الأول أميل لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر والثالث ما قاله الإمام في الارشاد وغيره كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة فهي مبطلة للعدالة
والرابع قال أبو سعد الهروي الكبيرة كل فعل نص الكتاب على تحريمه أو وجب في جنسه حد من قتل أو غيره وترك فريضة تجب على الفور والكذب في الشهادة والرواية واليمين هذا ما ذكروه على سبيل الضبط
وفصله جماعة فعدوا من الكبائر القتل والزنى واللواط وشرب قليل الخمر والسرقة والقذف وشهادة الزور وغصب المال وشرط الهروي في المغصوب كونه نصابا والفرار من الزحف وأكل الربا ومال اليتيم وعقوق

الوالدين والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمدا وكتمان الشهادة بلا عذر
وأضاف إليها صاحب العدة الإفطار في رمضان بلا عذر واليمين الفاجرة وقطع الرحم والخيانة في كيل أو وزن وتقديم الصلاة على وقتها أو تأخيرها عنه بلا عذر وضرب مسلم بلا حق وسب الصحابة رضي الله عنهم وأخذ الرشوة والدياثة والقيادة من الرجل والمرأة والسعاية عند السلطان ومنع الزكاة وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة ونسيان القرآن وإحراق الحيوان وامتناعها من زوجها بلا سبب واليأس من رحمة الله والأمن من مكر الله تعالى ويقال الوقيعة في أهل العلم وحملة القرآن
ومما عد من الكبائر الظهار وأكل لحم الخنزير والميتة بلا عذر وللتوقف مجال في بعض هذه الخصال كقطع الرحم وترك الأمر بالمعروف على إطلاقهما ونسيان القرآن وإحراق مطلق الحيوان
وقد أشار الغزالي في الإحياء إلى مثل هذا التوقف وفي التهذيب وجه أن ترك صلاة واحدة ليس كبيرة ولا ترد به شهادة حتى يعتاده
قلت قد روى أبو داود والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أقرئها رجل ثم نسيها لكن في إسناده ضعف وتكلم فيه الترمذي
ومن الكبائر السحر ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله من السبع الموبقات ونقل المحاملي في كتاب الحيض من مجموعة أن الشافعي رحمه الله تعالى قال

الوطء في الحيض كبيرة وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل النميمة كبيرة
والله أعلم
قال صاحب العدة ومن الصغائر النظر إلى ما لا يجوز والغيبة والكذب الذي لا حد فيه ولا ضرر والإشراف على بيوت الناس وهجرة المسلم فوق ثلاث وكثرة الخصومات وإن كان محقا والسكوت على الغيبة والنياحة والصياح وشق الجيب في المصيبة والتبختر في المشي والجلوس مع الفساق إيناسا لهم والصلاة المنهي عنها في أوقات النهي والبيع والشراء في المسجد وإدخال الصبيان والمجانين والنجاسات إليه وإمامة قوم يكرهونه لعيب فيه والعبث في الصلاة والضحك فيها وتخطي رقاب الناس يوم الجمعة والكلام والإمام يخطب والتغوط مستقبل القبلة وفي طريق المسلمين وكشف العورة في الحمام ولك أن تقول وكثرة خصومات المحق ينبغي أن لا تكون معصية إذا راعى حد الشرع
وتخطي الرقاب فإنه معدود من المكروهات لا محرم وكذا الكلام والإمام يخطب على الأظهر
قلت المختار أن تخطي الرقاب حرام للأحاديث فيه والصواب في الخصومات ما قاله الرافعي وأن البيع والشراء في المسجد وإدخاله الصبيان إذا لم يغلب تنجيسهم إياه والعبث في الصلاة من المكروهات مشهور في كتب الأصحاب وفي كون الصلاة في وقت النهي مكروهة أو محرمة خلاف سبق
ومن الصغائر القبلة للصائم الذي يحرك الشهوة والوصال في الصوم على الأصح والاستمناء وكذا مباشرة الأجنبية بغير جماع ووطء الزوجة المظاهر منها قبل التكفير والرجعية والخلوة بالأجنبية ومسافرة المرأة بغير زوج ولا محرم ولا نسوة

ثقات والنجش والاحتكار والبيع على بيع أخيه وكذا السوم والخطبة وبيع الحاضر للبادي وتلقي الركبان والتصرية وبيع المعيب من غير بيانه واتخاذ الكلب الذي لا يحل اقتناؤه وإمساك الخمر غير المحترمة وبيع العبد المسلم لكافر وكذا المصحف وسائر كتب العلم واستعمال النجاسة في البدن بغير حاجة وكشف العورة في الخلوة لغير حاجة على الأصح وأشباه هذه
والله أعلم
إذا تقرر هذا فقال الأصحاب يشترط في العدالة اجتناب الكبائر فمن ارتكب كبيرة واحدة فسق وردت شهادته وأما الصغائر فلا يشترط اجتنابها بالكلية لكن يشترط أن لا يصر عليها فإن أصر كان الإصرار كارتكاب كبيرة وهل الإصرار السالب للعدالة المداومة على نوع من الصغائر أم الإكثار من الصغائر سواء كان من نوع أو أنواع فيه وجهان ويوافق الثاني قول الجمهور أن من غلبت طاعته معاصيه كان عدلا وعكسه فاسق ولفظ الشافعي رحمه الله في المختصر يوافقه فعلى هذا لا تضر المداومة على نوع من الصغائر إذا غلبت الطاعات وعلى الأول يضر

فرع اللعب بالشطرنج مكروه وقيل مباح لا كراهة فيه ومال الحليمي إلى
فحش أو إخراج صلاة عن وقتها عمدا ردت شهادته بذلك المقارن وإنما يكون قمارا إذا شرط المال من الجانبين فإن أخرج

أحدهما ليبذله إن غلب ويمسكه إن غلب فليس بقمار ولا ترد به شهادة لكنه عقد مسابقة على غير آلة قتال فلا يصح
ولو لم تخرج الصلاة عن الوقت عمدا لكن شغله اللعب به حتى خرج وهو غافل فإن لم يتكرر ذلك منه لم ترد شهادته وإن كثر منه فسق وردت شهادته بخلاف ما إذا تركها ناسيا مرارا لأنه هنا شغل نفسه بما فاتت به الصلاة هكذا ذكروه وفيه إشكال لما فيه من تعصية الغافل اللاهي ثم قياسه الطرد في شغل النفس بغيره من المباحات وأشار الروياني إلى وجه أنه يفسق وإن لم يتكرر وفي المهذب اشتراط التكرر في إخراجها عن الوقت وإن كان عالما وهو خلاف ما سبق أن إخراج الفريضة عن الوقت عمدا كبيرة وأما اللعب بالنرد ففي وجه مكروه والصحيح تحريمه فعلى هذا قال الشيخ أبو محمد هو صغيرة قال الإمام والصحيح أنه من الكبائر قال في الأم وأكره اللعب بالحزة والقرق فالحزة قطع خشب يحفر فيها حفر في ثلاثة أسطر يجعل فيها حصى صغار يلعب بها وقد تسمى الأربعة عشر والقرق أن يخط في الأرض خط مربع ويجعل في وسطه خطان كالصليب ويجعل على رؤوس الخطوط حصى صغار يلعب بها
وهذه اللفظة رأيتها بخط الروياني بفتح القاف والراء وضبطها بعضهم بكسر القاف وإسكان الراء قال في الشامل اللعب بهما كالنرد وفي تعليق الشيخ أبي حامد أنه كالشطرنج

فرع إتخاذ الحمام للفرخ والبيض أو الأنس أو حمل الكتب جائز بلا
كراهة وأما اللعب بها بالتطيير والمسابقة فقيل لا يكره

والصحيح أنه مكروه ولا ترد الشهادة بمجرده فإن انضم إليه قمار ونحوه ردت

فرع غناء الإنسان قد يقع بمجرد صوته وقد يقع بآلة أما القسم
فمكروه وسماعه مكروه وليسا محرمين فإن كان سماعه من أجنبية فأشد كراهة وحكى القاضي أبو الطيب تحريمه وهذا هو الخلاف الذي سبق في أن صوتها هل هو عورة فإن كان في السماع منها خوف فتنة فحرام بلا خلاف وكذا السماع من صبي يخاف منه الفتنة وحكى أبو الفرج الزاز وجها أنه يحرم كثير السماع دون قليله ووجه أنه يحرم مطلقا والصحيح الأول وهو المعروف للأصحاب
وأما الحداء وسماعه فمباحان وأما تحسين الصوت بقراءة القرآن فمسنون وأما القراءة بالألحان فقال في المختصر لا بأس بها وعن رواية الربيع بن سليمان الجيزي أنها مكروهة قال جمهور الأصحاب ليست على قولين بل المكروه أن يفرط في المد وفي إشباع الحركات حتى تتولد من الفتحة ألف ومن الضم واو ومن الكسرة ياء أو يدغم في غير موضع الإدغام فإن لم ينته إلى هذا الحد فلا كراهة وفي أمالي السرخسي وجه أنه لا يكره وإن أفرط
قلت الصحيح أنه إذا أفرط على الوجه المذكور فهو حرام صرح به صاحب الحاوي فقال هو حرام يفسق به القارىء ويأثم المستمع لأنه عدل به عن لهجة التقويم وهذا مراد الشافعي بالكراهة
ويسن ترتيل القراءة وتدبرها والبكاء عندها وطلب القراءة

من حسن الصوت والجلوس في حلق القراءة ولا بأس بترديد الآية للتدبر ولا باجتماع الجماعة في القراءة ولا بإدارتها وهو أن يقرأ بعض الجماعة قطعة ثم البعض قطعة بعدها وقد أوضحت هذا كله وما يتعلق به من النفائس في آداب حملة القرآن
والله أعلم
القسم الثاني أن يغني ببعض آلات الغناء مما هو من شعار شاربي الخمر وهو مطرب كالطنبور والعود والصنج وسائر المعازف والأوتار يحرم استعماله واستماعه وفي اليراع وجهان صحح البغوي التحريم والغزالي الجواز وهو الأقرب وليس المراد من اليراع كل قصب بل المزمار العراقي وما يضرب به الأوتار حرام بلا خلاف
قلت الأصح أو الصحيح تحريم اليراع وهو هذه الزمارة التي يقال لها الشبابة وقد صنف الإمام أبو القاسم الدولعي كتابا في تحريم اليراع مشتملا على نفائس وأطنب في دلائل تحريمه
والله أعلم
أما الدف فضربه مباح في العرس والختان وأما في غيرهما فأطلق صاحب المهذب والبغوي وغيرهما تحريمه وقال الإمام والغزالي حلال وحيث أبحناه هو فيما إذا لم يكن فيه جلاجل فإن كان فالأصح حله أيضا
ولا يحرم ضرب الطبول إلا الكوبة وهو طبل طويل متسع الطرفين ضيق الوسط وهو الذي يعتاد ضربه المخنثون والطبول التي تهيأ لملاعب الصبيان إن لم تلحق بالطبول الكبار فهي كالدف وليست كالكوبة بحال والضرب بالصفاقتين حرام كذا ذكره الشيخ أبو محمد وغيره لأنه من عادة المخنثين

وتوقف فيه الإمام لأنه لم يرد فيه خبر بخلاف الكوبة
وفي تحريم الضرب بالقضيب على الوسائد وجهان قطع العراقيون بأن مكروه لا حرام والرقص ليس بحرام قال الحليمي لكن الرقص الذي فيه تثن وتكسر يشبه أفعال المخنثين حرام على الرجال والنساء

فرع إنشاء الشعر وإنشاده واستماعه جائز فلو هجا الشاعر في شعره ولو
ويشبه أن يكون التعريض هجوا كالتصريح وقال ابن كج ليس التعريض هجوا وترد شهادة الشاعر إذا كان يفحش ويشب بامرأة بعينها أو يصف أعضاء باطنة فإن شبب بجاريته أو زوجته فوجهان أحدهما يجوز ولا ترد شهادته وهذا القائل يقول إذا لم تكن المرأة معينة لا ترد شهادته لاحتمال أنه يريد من تحل له والصحيح أن ترد شهادته إذا ذكر جاريته أو زوجته بما حقه الإخفاء لسقوط مروءته
ولو كان يشبب بغلام ويذكر أنه يعشقه قال الروياني يفسق وإن لم يعينه لأن النظر إلى الذكور بالشهوة حرام بكل حال
وفي التهذيب وغيره اعتبار التعيين في الغلام كالمرأة
وإن كان يمدح الناس ويطري نظر إن أمكن حمله على ضرب مبالغة جاز وإن لم يكن حمله على المبالغة وكان كذبا محضا فالصحيح الذي عليه الجمهور وهو ظاهر نصه أنه كسائر أنواع الكذب فترد شهادته إن كثر منه وقال القفال والصيدلاني لا يلحق بالكذب لأن الكاذب يوهم الكذب صدقا بخلاف الشاعر فعلى هذا لا فرق بين قليله وكثيره وهذا حسن بالغ وينبغي أن يقال على قياسه إن التشبيب بالنساء والغلمان بغير تعيين لا يخل بالعدالة وإن كثر منه لأن التشبيب صنعة وغرض الشاعر تحسين الكلام لا تحقيق المذكور وكذلك ينبغي أن يكون الحكم لو سمى امرأة لا يدري من هي

فرع ما حكمنا بإباحته في هذه الصورة قد يقتضي الإكثار منه
لكونه خارما للمروءة فمن داوم على اللعب بالشطرنج والحمام ردت شهادته وإن لم يقترن به ما يوجب التحريم لما فيه من ترك المروءة وكذا من داوم على الغناء أو سماعه وكان يأتي الناس ويأتونه أو اتخذ جارية أو غلاما ليتغنيا للناس وكذا المداومة على الرقص وضرب الدف وكذا إنشاد الشعر واستنشاده إذا أكثر منه فترك به مهماته كان خارما للمروءة ذكره الإمام قال وكذا لو كان الشاعر يكتسب بشعره
والمرجع في المداومة والإكثار إلى العادة ويختلف الأمر فيه بعادات النواحي والبلاد ويستقبح من شخص قدر لا يستقبح من غيره وللأمكنة فيه أيضا تأثير فاللعب بالشطرنج في الخلوة مرارا لا يكون كاللعب به في سوق مرة على ملإ من الناس وهل يقال على هذا لما استمرت العادة أن الشاعر يكتسب بشعره وعد صنعة الغناء حرفة ومكسبا فالاشتغال به ممن يليق بحاله لا يكون تركا للمروءة وكلام الأصحاب محمول على ما لا يليق به وقد رأيت ما ذكرته في الشاعر يكتسب بشعره لابن القاص
فرع ما حكمنا بتحريمه في هذه المسائل كالنرد وسماع الأوتار ولبس الحرير
أم من الصغائر فيعتبر المداومة والإكثار وجهان يميل كلام الإمام إلى أولهما والأصح الثاني وهو المذكور في التهذيب وغيره وزاد الإمام فقال ينظر إلى عادة البلد والقطر فحيث يستعظمون النرد وسماع الأوتار ترد الشهادة بمرة واحدة لأن

الإقدام في مثل تلك الناحية لا يكون إلا من جسور منحل عن ربقة المروءة فتسقط الثقة بقوله وحيث لا يستعظمونه لا يكون مطلق الإقدام مشعرا بترك المبالاة وسقوط المروءة وحينئذ يقع النظر في أنه صغيرة أم كبيرة

فرع الخمر العينية لم يشبها ماء ولا طبخت بنار محرمة بالإجماع ومن
شربها عامدا عالما بحالها حد وردت شهادته سواء شرب قدرا يسكره أم لا قال أصحابنا العراقيون وكذا حكم بائعها ومشتريها في رد شهادتهما ولا ترد الشهادة بإمساكها لأنه قد يجوز أن يقصد به التخلل أو التخليل وأما المطبوخ من عصير العنب المختلف في تحريمه وسائر الأنبذة فإن شرب منها القدر المسكر حد وردت شهادته وإن شرب قليلا وهو يعتقد إباحته كالحنفي ففيه أوجه الأصح المنصوص يحد ولا ترد شهادته والثاني ترد ويحد والثالث لا ترد ولا يحد واحتج الأصحاب للأصح بأن الحد إلى الإمام فاعتبر اعتقاده والشهادة تعتمد اعتقاد الشاهد ولهذا لو غصب جارية ووطئها معتقدا أنه يزني بها فبان أنها ملكه فسق وردت شهادته ولو وطىء جارية غيره يعتقدها جاريته لم ترد شهادته ولأن الحد للزجر والنبيذ يحتاج إلى زجر ورد الشهادة لسقوط الثقة بقوله ولا يوجد ذلك إذا لم يعتقد التحريم وأما إذا شربه من يعتقد تحريمه فالمذهب أنه يحد وترد شهادته وعن القفال أن من نكح بلا ولي ووطىء لا ترد شهادته إن اعتقد الحل وترد إن اعتقد التحريم وعلى هذا قياس سائر المجتهدات ولكن عن نص الشافعي رحمه الله أنه

لا ترد شهادة مستحل نكاح المتعة والمفتي به والعامل به ونقل القاضي أبو الفياض مثله
قلت قال ابن الصباغ قال في الأم إذا أخذ من النثار في الفرح لا ترد شهادته لأن من الناس من يحل ذلك وأنا أكرهه
قال في الأم ومن ثبت أنه يحضر الدعوة بغير دعاء من غير ضرورة ولا يستحل صاحب الطعام وتكرر ذلك منه ردت شهادته لأنه يأكل محرما إذا كانت الدعوة دعوة رجل من الرعية وإن كانت دعوة سلطان أو من يتشبه بالسلطان فهذا طعام عام فلا تأثير به
قال ابن الصباغ وإنما اشترط تكرر ذلك لأنه قد يكون له شبهة حتى يمنعه صاحب الطعام فإذا تكرر صار دناءة وقلة مروءة
والله أعلم
الشرط الخامس المروءة وهي التوقي عن الأدناس فلا تقبل شهادة من لا مروءة له فمن ترك المروءة لبس ما لا يليق بأمثاله بأن لبس الفقيه القباء والقلنسوة ويتردد فيهما في بلد لم تجر عادة الفقهاء بلبسهما فيه أو لبس التاجر ثوب الجمال أو تعمم الجمال وتطلس وركب بغلة مثمنة وطاف في السوق واتخذ نفسه ضحكة ومنه المشي في السوق مكشوف الرأس والبدن إذا لم يكن الشخص سوقيا ممن يليق به مثله وكذا مد الرجل بين الناس والأكل في السوق والشرب من سقاياتها إلا أن يكون الشخص سوقيا أو شرب لغلبة عطش ومنه أن يقبل امرأته أو جاريته بحضرة الناس أو يحكي ما يجري بينهما في الخلوة أو يكثر من الحكايات المضحكة أو يخرج عن حسن العشرة مع الأهل والجيران والمعاملين ويضايق في اليسير

الذي لا يستقصى فيه ومنه الإكثار على اللعب بالشطرنج والحمام والغناء على ما سبق ومنه أن يتبذل الرجل المعتبر نفسه بنقل الماء والأطعمة إلى بيته إذا كان ذلك عن شح فإن فعله استكانة واقتداء بالسلف التاركين للتكلف لم تقدح ذلك في المروءة وكذا لو كان يلبس ما يجد ويأكل حيث يجد لتقلله وبراءته من التكلف المعتاد وهذا يعرف بتناسب حال الشخص في الأعمال والأخلاق وظهور مخايل الصدق فيما يبديه وقد يؤثر فيه الزي واللبسة
وفي قبول شهادة أهل الحرف الدنيئة كحجام وكناس ودباغ وقيم حمام وحارس ونخال وإسكاف وقصاب ونحوهم وجهان أصحهما القبول وفي الحائك الوجهان وقيل يقبل قطعا وقيل يقبل من لا يحتاج إلى مباشرة نجاسة أو قذر كالحائك والنخال والحارس دون غيرهم وفي الصباغ والصائغ طريقان أحدهما طرد الوجهين والمذهب القبول قطعا لكن من أكثر منهم ومن سائر المحترفة كذبا وخلفا في الوعد ردت شهادته ولذلك قال الغزالي الوجهان في أصحاب الحرف هما فيمن يليق به وكان ذلك صنعة آبائه فأما غيره فتسقط مروءته بها وهذا حسن ومقتضاه أن يقال الإسكاف والقصاب إذا اشتغلا بالكنس بطلت مروءتهما بخلاف العكس
قلت لم يتعرض الجمهور لهذا القيد وينبغي أن لا يقيد بصنعة آبائه بل ينظر هل يليق به هو أم لا
والله أعلم
ثم الذين يباشرون النجاسة إنما يجري فيهم الخلاف إذا حافظوا على الصلوات في أوقاتها واتخذوا لها ثيابا طاهرة وإلا فترد شهادتهم بالفسق

فرع من ترك السنن الراتبة وتسبيحات الركوع والسجود أحيانا لا ترد شهادته
ومن اعتاد تركها ردت شهادته لتهاونه بالدين وإشعارا

هذا بقلة مبالاته بالمهمات وحكى أبو الفرج في غير الوتر وركعتي الفجر وجهان أنه لا ترد شهادته باعتياد تركها

فرع نص أن مستحل الأنبذة إن أدام المنادمة عليها والحضور مع أهل
السفه ردت شهادته لطرحه المروءة وتقبل شهادة الطوافين على الأبواب وسائر السؤال إلا أن يكثر الكذب في دعوى الحاجة وهو غير محتاج أو يأخذ ما لا يحل له أخذه فيفسق
ومقتضى الوجه الذاهب إلى رد شهادة أصحاب الحرف رد شهادته لدلالته على خسته
الشرط السادس الانفكاك عن التهمة وللتهمة أسباب الأول أن يجر بشهادته إلى نفسه نفعا أو يدفع بها ضرا فلا تقبل شهادة السيد لعبده المأذون له ولا لمكاتبه بدين ولا عين ولا شهادة الوارث لمورثه ولا الغريم للميت والمفلس المحجور عليه وتقبل شهادته لغريمه الموسر وكذا المعسر قبل الحجر عليه على الأصح ولا تقبل شهادة الضامن للمضمون عنه بالأداء ولا الإبراء ولا الوكيل لموكله فيما هو وكيل فيه ولا الوصي والقيم في محل تصرفهما ولا الشريك لشريكه فيما هو شريك فيه بأن يقول هذه الدار بيننا ويجوز أن يشهد بالنصف لشريكه ولا تقبل شهادته لشريكه ببيع الشقص ولا للمشتري من شريكه لأنها تتضمن إثبات الشفعة لنفسه فإن لم يكن فيه شفعة بأن كان مما لا ينقسم قال الشيخ أبو حامد تقبل وكذا لو عفا عن الشفعة ثم شهد ولو شهد أن زيدا جرح مورثه لم يقبل للتهمة
ولو شهد بمال آخر لمورثه المجروح أو المريض إن يشهد بعد الاندمال قبلت قطعا وكذا قبله على الأصح

فرع ذكر القاضي أبو سعد الهروي في شرح أدب القضاء لأبي
رحمه الله أنه لا تقبل شهادة المودع للمودع إذا نازعه في الوديعة أجنبي لأنه يستديم اليد لنفسه ويقبل للأجنبي وكذا شهادة المرتهن لا يقبل للراهن ويقبل للأجنبي وإن شهادة الغاصب على المغصوب منه بالعين لأجنبي لا تقبل لفسقه ولتهمته بدفع الضمان ومؤنة لرد فإن شهد بعد الرد قبلت شهادته وإن شهد بعد التلف لم تقبل لأنه يدفع الضمان وإن شهادة المشتري شراء فاسدا بعد القبض لا تقبل للأجنبي لما ذكرنا وإن شهادة المشتري شراء صحيحا بعد الإقالة والرد بالعيب لا تقبل للبائع لأنه يستبقي لنفسه الغلات وإن كان المدعي يدعي الملك من تاريخ متقدم على البيع
ولو شهد بعد الفسخ بخيار الشرط أو المجلس فوجهان بناء على أنه يرفع العقد من أصله وترجع الفوائد إلى البائع أم حينه ولا يرجع وأنه لو كان لميت دين على شخص فشهد أجنبيان لرجل بأنه أخو الميت ثم شهد الغريمان لآخر بأنه ابنه لم تقبل شهادة الغريمين لأنهما ينقلان ما عليهما للأخ إلى الآخر بخلاف ما لو تقدمت شهادة الغريمين وأنه لا تقبل شهادة الوارثين على موت المورث ولا شهادة الموصى لهما على الموصى وتقبل شهادة الغريمين على موت من له الدين لأنهما لا ينتفعان بهذه الشهادة ولا ينظر إلى نقل الحق من شخص إلى شخص لأن الوارث خليفة المورث فكأنه هو ولو شهد شهود بقتل الخطإ فشهد اثنان من العاقلة بفسق شهود القتل لم تقبل شهادتهما لأنهما يدفعان ضرر التحمل
ولو شهد اثنان على مفلس بدين فشهد غرماؤه الآخرون

بفسقهما لم تقبل شهادتهم لأنهم يدفعون عنه ضرر المزاحمة
ولو شهد اثنان لاثنين بوصية من تركة فشهد المشهود لهما للشاهدين بوصية للشاهدين فوجهان أحدهما لا تقبل الأربعة لتهمة المواطأة بوصية للشاهدين فوجهان أحدهما لا تقبل الأربعة لتهمة المواطأة والصحيح قبول الشهادتين لانفصال كل شهادة عن الأخرى ولا يجر بشهادته نفعا ولهذا قلنا تقبل شهادة بعض القافلة لبعض في قطع الطريق إذا قال كل واحد منهم أخذ مالي فلان ولم يقل أخذ مالنا
السبب الثاني البعضية فلا تقبل شهادة أصل ولا فرع
وروى ابن القاص قولا قديما أنها تقبل واختاره المزني وابن المنذر والمشهور الأول ولا تقبل لمكاتب ولده أو والده وما دونهما
ولو شهد اثنان أن أباهما قذف ضرة أمهما أو طلقها أو خالعها ففي قبول شهادتهما قولان الجديد الأظهر القبول
ولو ادعت الطلاق فشهد لها ابناها لم يقبل ولو شهدا حسبة ابتداء قبلت وكذا في الرضاع ولو شهد الأب مع ثلاثة على زوجة ابنه بالزنى فإن سبق من الابن قذف فطولب بالحد فحاول إقامة البينة لدفعه لم يقبل وإن لم يقذف أو لم يطالب بالحد وشهد الأب حسبة قبلت شهادته

فرع في يد زيد عبد ادعى شخص أنه اشتراه من عمرو بعدما
من زيد صاحب اليد وقبضه وطالبه بالتسليم فأنكر زيد جميع ذلك فشهد ابناه للمدعي بما يقوله فقولان حكاهما أبو سعد الهروي أحدهما لا يقبل لتضمنها إثبات الملك لأبيهما وأظهرهما القبول لأن المقصود بالشهادة في الحال المدعى وهو أجنبي
فرع تقبل شهادة الوالد على الولد وعكسه سواء شهد بمال أو

وقيل لا تقبل شهادته على الوالد بقصاص أو حد قذف والصحيح الأول ومن شهد لولد أو والد وأجنبي قبلت للأجنبي في الأصح أو الأظهر
فرع في حبس الوالدين بدين الولد أوجه الأصح المنع قال الإمام وإليه
صار معظم أئمتنا والثالث يحبس في نفقة ولده ولا يحبس في ديونه حكاه الإمام واختاره ابن القاص وقد سبق الوجهان في كتاب التفليس
فرع تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر على الأظهر وقيل قطعا وفي قول
لا وفي قول شهادة الزوج لها دون عكسه
وتقبل شهادة أحدهما على الآخر إلا أنه لا يقبل شهادته عليها بزنى لأنه دعوى خيانتها فراشه
السبب الثالث العداوة فلا تقبل شهادة عدو على عدوه والعداوة التي ترد بها الشهادة أن تبلغ حدا يتمنى زوال نعمته ويفرح لمصيبته ويحزن لمسرته وذلك قد يكون من الجانبين وقد يكون من أحدهما فيخص برد شهادته على الآخر
وإن أفضت الشهادة إلى ارتكاب ما يفسق به ردت شهادته على الإطلاق
ولو عادى من يريد أن يشهد عليه وبالغ في خصومته فلم يجبه وسكت عنه ثم شهد عليه قبلت شهادته لأنا لو لم نقبلها لاتخذ الخصوم ذلك ذريعة إلى إسقاط الشهادة
هكذا حكاه الروياني عن القفال وذكره جماعة منهم البغوي في كتاب اللعان أن شهادة المقذوف على قاذفه قبل طلب

الحد مقبولة وبعده لا تقبل لظهور العداوة وأنه لو شهد بعد الطلب ثم عفا وأعاد تلك الشهادة لم تقبل كالفاسق إذا شهد ثم تاب وأعاد تلك الشهادة وأنه لو شهد قبل الطلب ثم طلب قبل الحكم لم يحكم بشهادته كما لو فسق الشاهد قبل الحكم لكن في تعليق الشيخ أبي حامد وغيره أن الشافعي رحمه الله صور العداوة الموجبة للرد فيما إذا قذف رجل رجلا أو ادعى عليه أنه قطع الطريق عليه وأخذ ماله فيقال يصيران عدوين فلا تقبل شهادة أحدهما على الآخر فاكتفى بالقذف دليلا على العداوة ولم يتعرض لطلب الحد قال الروياني لعل القفال أراد غير صورة القذف ثم على ما ذكره البغوي الحكم غير منوط بأن يطلب المقذوف الحد بل بأن يظهر العداوة ولا شك أنه لو شهد على رجل فقذفه المشهود عليه لم يمنع ذلك من الحكم بشهادته نص عليه

فرع العداوات الدينية لا توجب رد الشهادة بل يقبل للمسلم على الكافر
والسني على المبتدع وكذا من أبغض الفاسق لفسقه لا ترد شهادته عليه
ولو قال عالم ناقد لا تسمعوا الحديث من فلان فإنه مخلط أو لا تستفتوه فإنه لا يعرف الفتوى لم ترد شهادته لأن هذا نصيحة للناس نص عليه
فرع تقبل شهادة العدو لعدوه إذ لا تهمة

فرع العصبية أن يبغض الرجل لكونه من بني فلان فإن انضم إليها

دعاءالناس وتآلفهم للإضرار به والوقيعة فيه اقتضى رد شهادته عليه ومجرد هذا لا يقتضيه وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه وعترته فتقبل شهادته لهم وشهادتهم له وتقبل شهادته لصديقه وأخيه وإن كان يصله ويبره

فرع في شهادة المبتدع

جمهور الفقهاء من أصحابنا وغيرهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة لكن اشتهر عن الشافعي رضي الله عنه تكفير الذين ينفون علم الله تعالى بالمعدوم ويقولون ما يعلم الأشياء حتى يخلقها ونقل العراقيون عنه تكفير الناهين للرؤية والقائلين بخلق القرآن وتأوله الإمام فقال ظني أنه ناظر بعضهم فألزمه الكفر في الحجاج فقيل إنه كفرهم
قلت أما تكفير منكري العلم بالمعدوم أو بالجزئيات فلا شك فيه وأما من نفى الرؤية أو قال بخلق القرآن فالمختار تأويله وسننقل إن شاء الله تعالى عن نصه في الأم ما يؤيده وهذا التأويل الذي ذكره الإمام حسن وقد تأوله الإمام الحافظ الفقيه الأصولي أبو بكر البيهقي رضي الله عنه وآخرون تأويلات متعارضة على أنه ليس المراد بالكفر الإخراج من الملة وتحتم الخلود في النار
وهكذا تأولوا ما جاء عن جماعة من السلف من إطلاق هذا اللفظ واستدلوا بأنهم لم يلحقوهم بالكفار في الإرث والأنكحة ووجوب قتلهم وقتالهم وغير ذلك
والله أعلم
ثم من كفر من أهل البدع لا تقبل شهادته وأما من لا يكفره من أهل البدع والأهواء فقد نص الشافعي رحمه الله في الأم و المختصر على قبول شهادتهم إلا الخطابية وهم قوم يرون جواز

شهادة أحدهم لصاحبه إذا سمعه يقول لي على فلان كذا فيصدقه بيمين أو غيرها ويشهد له اعتمادا على أنه لا يكذب هذا نصه
وللأصحاب فيه ثلاث فرق فرقة جرت على ظاهر نصه وقبلت شهادة جميعهم وهذه طريقة الجمهور منهم ابن القاص وابن أبي هريرة والقضاة ابن كج وأبو الطيب والروياني واستدلوا بأنهم مصيبون في زعمهم ولم يظهر منهم ما يسقط الثقة بقولهم وقبل هؤلاء شهادة من سب الصحابة والسلف رضي الله عنهم لأنه تقدم عليه عن اعتقاد لاعن عداوة وعناد قالوا ولو شهد خطابي وذكر في شهادته ما يقطع احتمال الاعتماد على قول المدعي بأن قال سمعت فلانا يقر بكذا لفلان أو رأيته أقرضه قبلت شهادته
وفرقة منهم الشيخ أبو حامد ومن تابعه حملوا النص على المخالفين في الفروع وردوا شهادة أهل الأهواء كلهم وقالوا هم بالرد أولى من الفسقة
وفرقة ثالثة توسطوا فردوا شهادة بعضهم دون بعض فقال أبو إسحق من أنكر إمامة أبي بكر رضي الله عنه ردت شهادته لمخالفته الإجماع ومن فضل عليا على أبي بكر رضي الله عنهما لم ترد شهادته ورد الشيخ أبو محمد شهادة الذين يسبون الصحابة ويقذفون عائشة رضي الله عنها فإنها محصنة كما نطق به القرآن وعلى هذا جرى الإمام والغزالي والبغوي وهو حسن
وفي الرقم أن شهادة الخوارج مردودة لتكفيرهم أهل القبلة
قلت الصواب ما قالته الفرقة الأولى وهو قبول شهادة الجميع فقد قال الشافعي رحمه الله في الأم ذهب الناس في تأويل القرآن والأحاديث إلى أمور تباينوا فيها تباينا شديدا واستحل بعضهم

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28