كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
قال الشيخ الإمام العالم العلامة البحر الفهامة المحقق المدقق حجة وقدوة النحاة والأدباء الأستاذ ( أبو عبد الله محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي الجياني ) - رحمه الله تعالى - وأمتع بعلومه المسلمين آمين ( الحمد لله ) مبدئ صور المعارف الربانية في مرايا العقول ومبرزها من محال الأفكار إلى محال المقول وحارسها بالقوتين الذاكرة للمنقول والمفكرة للمعقول ومفيض الخير عليها من نتيجة مقدمات الوجود السائر روح قدسه في بطون التهائم وظهور النجود المبرز في الاتصالات الإلهية والمواهب الربانية على كل موجود محمد ذي المقام المحمود والحوض المورود المبتعث بالحق للأنام داعياً وبالطريق الأنهج إلى دار الإسلام منادياً الصادع بالحق الهادي للخلق المخصوص بالقرآن المبين والكتاب المستبين الذي هو أعظم المعجزات وأكبر الآيات البينات السائرة في الآفاق الباقي بقاء الأطواق في الأعناق الجديد على تقادم الأعصار اللذيد على توالي التكرار الباسق في الإعجاز إلى الذروة العليا الجامع المصالح الآخرة والدنيا الجالي بأنواره ظلم الإلحاد الحالي بجواهر معانيه طلى الأجياد صلى الله على من أنزل عليه وأهدى أرج تحية وأزكاها إليه وعلى آله المختصين بالزلفى لديه ورضي الله عن صحبه الذين نقلوا عنه كتاب الله أداء عرضا وتلقوه من فيه جيناً وغضاً وأدوه إلينا صريحاً مخصاً وبعد فإن المعارف جمة وهي كلها مهمة وأهمها ما به الحياة الأبدية والسعادة السرمدية وذلك علم كتاب الله هو المقصود بالذات وغيره من العلوم كالأدوات هو العروة الوثقى والوزر الأقوى الأوقى والحبل المتين والصراط المبين وما زال يختلج في ذكري ويعتلج في فكري أني إذا بلغت الأمد الذي يتغضد فيه الأديم ويتنغص برؤيتي النديم وهو العقد الذي يحل عرى الشباب المقول فيه إذا بلغ الرجل الستين
فإياه وإيا الشواب ) ألوذ بجناب الرحمن وأقتصر على النظر في تفسير القرآن فأتاح الله لي قبل بلوغ ذلك العقد وبلغني ما كنت أروم من ذلك القصد وذلك بانتصابي مدرساً في علم التفسير في قبة السلطان الملك المنصور قدس الله مرقده وبل بمزن الرحمة معهده وذلك في دولة ولده السلطان القاهر الملك الناصر الذي رد الله به الحق إلى أهله وأسبغ على العالم وارف ظله واستنقذ به الملك من غصابه وأقره في منيف محله وشريف نصابه وكان ذلك في أواخر سنة عشر وسبعمائة وهي أوائل سنة سبع وخمسين من عمري فعكفت على تصنيف هذا الكتاب وانتخاب الصفو واللباب أجيل الفكر فيما وضع الناس في تصانيفهم وأنعم النظر فيما اقترحوه من تآليفهم فألخص مطولها وأحل مشكلها وأقيد مطلقها وأفتح مغلها وأجمع مبددها وأخلص منقدها وأضيف إلى ذلك ما استخرجته القوة المفكرة من لطائف علم البيان المطلع على إعجاز القرآن ومن دقائق علم الإعراب المغرب في الوجوه أي إغراب المقتنص في الأعمار الطويلة من لسان العرب وبيان الأدب فكم حوى من لطيفة فكري مستخرجها ومن غريبة ذهني منتجها تحصلت بالعكوف على علم العربية والنظر في التراكيب النحوية والتصرف في أساليب النظم والنثر والتقلب في أفانين الخطب والشعر لم يهتد إلى إثارتها ذهن ولاصاب بريقها مزن وأني ذلك وهي أزاهر خمائل غفل ومناظر ما لمستغلق أبوابها من قفل في إدراك مثلها تتفاوت الأفهام وتتبارى الأوهام وليس العلم على زمان مقصوراً ولا في أهل زمان محصوراً بل جعله الله حيث شاء من البلاد وبثه في التهائم والنجاد وأبرزه أنواراً تتوسم وأزهاراً تتنسم وما زال المغربي الأندلسي على بعده من مهبط الوحي النبوي علماء بالعلوم الإسلامية وغيرها كملة وفهماء تلاميذ لهم دراة نقلة يروون فيروون ويسقون فيرتوون وينشدون فينشدون ويهدون فيهدون هذا وإن اختلفوا في مدارك العلوم وتباينوا في المفهوم فكل منهم له مزية لا يجهل قدرها وفضيلة لا يسر بدرها ومما برعوا فيه علم الكتاب انفردوا باقرائه مد أعصار دون غيرهم من ذوي الآداب أثاروا كنوزه وفكوا رموزه وقربوا قاصيه وراضوا عاصيه وفتحوا مقفله وأوضحوا مشكلة وأنهجوا شعابه وذللوا صعابه وأبدوا معانيه في صورة التمثيل وأبدعوه بالتركيب والتحليل فالكتاب هو
المرقاة إلى فهم الكتاب إذ هو المطلع على علم الأعراب والمبدي من معالمه ما درس والمنطق من لسانه ما خرس والمحيي من رفاته ما رمس والراد من نظائره ما طمس فجدير لمن تاقت نفسه إلى علم التفسير وترقت إلى التحقيق فيه والتحرير أن يعتكف على كتاب « سيبويه » فهو في هذا الفن المعول عليه والمستند في حل المشكلات إليه ولم ألق في هذا الفن من يقارب أهل قطرنا الأندلسي فضلاً عن المماثلة ولا من يناضلهم فيداني في المناضلة وما زلت من لدن ميزت أتلمذ للعلماء وأنحاز للفهماء وأرغب في مجالسهم وأنافس في نفائسهم وأسلك طريقهم وأتبع فريقهم فلا أنتقل إلا من إمام إلى إمام ولا أتوقل إلا ذروة علام فكم صدر أودعت علمه صدري وحبر أفنيت في فوائده حبري وإمام أكثرت به الإمام الإلمام وعلام أطلت معه الاستعلام أشنف المسامع بما تحسد عليه العيون وأذيل في تطلاب ذلك المال المصون وأرتع في رياض وارفة الظلال وأكرع في حياض صافية السلسال وأقتبس بها من أنوارهم وأقتطف من أزهارهم وأبتلج من صحفاتهم وأتأرج من نفحاتهم وألقط من نثارهم وأضبط من فضالة إيثارهم وأقيد من شورادهم وأنتقي من فرائدهم فجعلت العلم والنهار سحيري وبالليل سميري زمان غيري يقصر ساريه على الصبا ويهب للهو ولا كهبوب الصبا ويرفل في مطارف اللهو ويتقمص أردية الزهو وبؤثر مسراتك الأشباح على لذات الأرواح ويقطع نفائس الأوقات في خسائس الشهوات من مطعم شهي ومشرب روي وملبس بهي ومركب خطي ومفرش وطي ومنصب سني وأنا أتوسد أبواب العلماء وأتقصد أماثل الفهماء وأسهر في حنادس الظلام وأصبر على شظف الأيام وأوثر العلم على الأهل والمال والولد وأرتحل من بلد إلى بلد حتى ألقيت بمصر عصا التسيار وقلت ما بعد عبادان من دار هذه مشارق الأرض ومغاربها وبها طوالع شموسها وغواربها بيضة الإسلام ومستقر الأعلام فأقمت بها المعرفة أبديها وعارفة علم أسديها وثأي أرأبه وفاضل أصحبه وبها صنفت تصانيفي وألفت تآليفي ومن بركاتها على تصنيفي لهذا الكتاب المقرب من رب الأرباب المرجو أن يكون نوراً يسعى بين يدي وستراً من النار يضفو علي فما لمخلوق بتأليفة قصدت ولا غير وجه الله به أردت جعلت كتاب الله والتدبير لمعانية أنيسي إذ هو أفضل مؤانس وسميري إذا أخلو لكتب ظلم الحنادس
نعم السمير كتاب الله إن له ... حلاوة هي أحلى من جنى الضرب
به فنون المعاني قد جمعن فما ... يقتن من عجب إلا إلى عجب
أمر ونهي وأمثال وموعظة ... وحكمة أودعت في أفصح الكتب
لطائف يجتليها كل ذي بصر ... وروضة يجتنيها كل ذي أدب

منهجه في تأليف هذا الكتاب
( وترتيبي في هذا الكتاب ) أني أبتدئ أولاً بالكلام على مفردات الآية التي أفسرها لفظة فيما يحتاج إليه من اللغة والأحكام النحوية التي لتلك اللفظة قبل التركيب وإذا كان للكملة معنيان أو معان ذكرت ذلك في أول موضع فيه تلك الكلمة لينظر ما يناسب لها من تلك المعاني في كل موضع تقع فيه فيحمل عليه ثم أشرع في تفسير الآية ذاكراً سبب نزولها إذا كان لها سبب ونسخها ومناسبتها وارتباطها بما قبلها حاشداً فيها القراءات شاذها ومستعملها ذاكراً توجيه ذلك في علم العربية ناقلاً أقاويل السلف الخلف في فهم معانيها متكلماً على جليها وخفيها بحيث إني لا أغادر منها كلمة وإن اشتهرت حتى أتكلم عليها مبدياً ما فيها من غوامض الإعراب ودقائق الآداب من بديع وبيان مجتهداً أني لا أكرر الكلام في لفظ سبق ولا في جملة تقدم الكلام عليها ولا في آية فسرت بل أذكر في كثير منها الحوالة على الموضع الذي تلكم فيها على تلك اللفظة أو الجملة أو الآية وإن عرض تكرير فبمزيده فائدة ناقلاً الفقهاء الأربعة وغيرهم في الأحكام الشرعية مما فيه تعلق باللفظ القرآني محيلاً على الدلائل التي في كتب الفقه وكذلك ما نذكره من القواعد النحوية أحيل في تقررها والاستدلال عليها على كتب النحو وربما أذكر الدليل إذا كان الحكم غريباً أو خلاف مشهور ما قال معظم الناس بادئا بمقتضى الدليل وما دل عليه ظاهر اللفظ مرجحاً له لذلك ما لم يصد عن الظاهر ما يجب إخراجه به عنه منكباً في الأعراب عن الوجوه التي تنزه القرآن عنها مبيناً أنها مما يجب أن يعدل عنه وأنه ينبغي أن يحمل على أحسن إعراب وأحسن تركيب إذ كلام الله تعالى أفصح الكلام فلا يجوز فيه جميع ما يجوزه النحاة في شعر « الشماخ » و « الطرماح » وغيرهما من سلوك التقادير البعيدة والتراكيب القلقة والمجازات المعقدة ثم أختتتم الكلام في جملة من الآيات التي فسرتها إفراداً وتركيباً بما ذكروا فيها من علم البيان والبديع ملخصاً ثم أتبع آخر الآيات بكلام منثور أشرح به مضمون تلك الآيات على ما أختاره من تلك المعاني جملها في أحسن تلخيص وقد ينجر معها ذكر معان لم تتقدم في التفسير وصار ذلك أنموذجاً لمن يريد أن يسلك ذلك فيما بقي من سائر القرآن وستقف على هذا المنهج الذي سلكته إن شاء الله تعالى وربما ألممت بشيء من كلام الصوفية مما فيه بعض مناسبة لمدلول اللفظ وتجنبت كثيراً من أقاويلهم ومعانيهم التي يحملونها الألفاظ وتركت أقوال الملحدين الباطنية المخرجين الألفاظ القريبة عن مدلولاتها في اللغة إلى هذيان افتروه على الله تعالى وعلى علي كرم الله وجهه وعلى ذريته ويسمونه علم التأويل وقد وقفت على تفسير لبعض رؤوسهم وهو تفسير عجيب يذكر فيه أقاويل السلف مزدرياً عليهم وذاكراً أنه ما جهل مقالاتهم ثم يفسر هو الآية على شيء لا يكاد يخطر في ذهن عاقل ويزعم أن ذلك هو المراد من هذه الآية وهذه الطائفة لا يلتفت إليها وقد رد أئمة المسلمين عليهم أقاويلهم وذلك مقرر في علم أصول الدين نسأل الله السلامة في عقولنا وأدياننا وأبداننا وكثيراً ما يشحن المفسرون تفاسيرهم من ذلك الإعراب بعلل النحو ودلائل أصول الفقة ودلائل أصول الدين وكل هذا مقرر في تآليف هذه العلوم وإنما يؤخذ ذلك مسلماً في علم التفسير دون استدلال عليه وكذلك أيضاً ذكروا ما لا يصح من أسباب نزول وأحاديث في الفضائل وحكايات لا تناسب وتواريخ إسرائيلية ولا ينبغي ذكر هذا في علم التفسير ومن أحاط بمعرفة مدلول الكلمة وأحكامها قبل التركيب وعلم كيفية تركيبها في تلك اللغة وارتقى إلى تمييز حسن تركيبها وقبحه فلن يحتاج في فهم ما تركب من تلك الألفاظ إلى مفهم ولا معلم وإنما تفاوت الناس في إدراك هذا الذي ذكرناه فلذلك اختلفت أفهامهم وتباينت أقوالهم وقد جرينا الكلام يوماً مع بعض من عاصرنا فكان يزعم أن علم التفسير مضطر إلى النقل في فهم معاني تراكبيه بالإسناد إلى « مجاهد » و « طاوس » و « عكرمة » وأضرابهم وأن فهم الآيات متوقف على ذلك والعجب له أنه يرى أقوال هؤلاء كثير ة الاختلاف متباينة الأوصاف متعارضة ينقض بعضها بعضاً ونظير ما ذكره هذا المعاصر أنه لو تعلم أحدنا مثلاً لغة الترك إفراداً وتركيباً حتى صار يتكلم بتلك اللغة ويتصرف فيها نثراً ونظماً ويعرض ما تعلمه على كلامهم فيجده مطابقاً للغتهم قد شارك فيها فصحاءهم ثم جاءه كتاب بلسان الترك فيحجم عن تدبره وعن فهم ما تضمنه من المعاني حتى يسأل عن ذلك « سنقرأ » التركي « أو سنجراً » ترى مثل هذا يعد من العقلاء وكان هذا المعاصر يزعم أن كل آية نثل فيها التفسير خلف عن سلف بالسند إلى أن وصل ذلك إلى الصحابة ومن كلامه أن الصحابة سألوا رسول الله عليه الصلاة والسلام عن تفسيرها هذا وهم العرب الفصحاء الذين نزل القرآن بلسانهم وقد روي عن « علي » كرم الله وجهه » وقد سئل هل خصكم رسول الله عليه الصلاة والسلام بشيء فقال ما عندنا غير ما في هذه الصحيفة أو فهماً يؤتاه الرجل في كتابه وقول هذا المعاصر يخالف قول علي رضي الله عنه وعلى قول هذا المعاصر يكون ما استخرجه الناس بعد التابعين من علوم التفسير ومعانيه ودقائقة وإظهارا ما احتوى عليه من علم الفصاحة والبيان والإعجاز لا يكون تفسيراً حتى ينقل بالسند إلى مجاهد ونحوه وهذا كلام ساقط

العلوم التي يحتاج إليها المفسر
وإذ قد جر الكلام إلى هذا فلنذكر ما يحتاج إليه علم التفسير من العلوم على الاختصار وننبه على أحسن موضوعات التي في تلك العلوم المحتاج إليها فيه فنقول النظر في تفسير كتاب الله تعالى يكون من وجوه الوجه الأول علم اللغة أسماً وفعلاً وحرفاً الحروف لقلتها تكلم على معانيها النحاة فيؤخذ ذلك من كتبهم أما الأسماء والأفعال فيؤخذ ذلك من كتب اللغة وأكثر الموضوعات في علم اللغة كتاب « ابن سيده » فإن الحافظ أبا محمد « علي بن أحمد الفارسي » ذكر أنه في مائة سفر بدأ فيه بالفك وختم بالذرة ومن الكتب المطولة فيه كتاب « الأزهري » و « الموعب » لابن التياني و « ( الصحاح » للجوهري و « البارع » لأبي على لقالي و « مجمع البحرين » للصاغاني وقد حفظت في صغرى في علم اللغة كتاب الفصيح لأبي العباس أحمد بن يحيى الشيباني » و « اللغات » المحتوي عليها دواوين مشاهير العرب الستة « امرئ القيس » « النابغة » و « علقمة » و « زهير » و « طرفة » و « عنترة » وديوان « الأفوه الأودي »
لحفظي عن ظهر قلب لهذه الدواوين وحفظت كثيراً من اللغات المحتوي عليها نحو الثلث من كتاب الحماسة واللغات التي تضمنها قصائد مختارة من شعر « حبيب بن أوس » لحفظي ذلك ومن الموضوعات في الأفعال كتاب ابن القوطية وكتاب « ابن طريف » وكتاب « السرقنطي » المنبوز بالحمار ومن أجمعها كتاب « ابن القطاع » الوجه الثاني معرفة الأحكام التي للكلم العربية من جهة إفرادها ومن جهة تركيبها ويؤخذ ذلك من علم النحو وأحسن موضوع فيه وأجله كتاب « أبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر سيبويه » - رحمه الله تعالى - وأحسن ما وضعه المتأخرون من المختصرات وأجمعه للأحكام كتاب « تسهيل الفوائد » لأبي عبد الله محمد بن مالك الجياني الطائي مقيم دمشق وأحسن ما وضع في التصريف كتاب « الممتع » لأبي الحسن « علي بن مؤمن بن عصفور » الحضرمي الإشبيلي رحمه الله تعالى وقد أخذت هذا الفن عن أستاذنا الأوحد العلامة أبي جعفر « أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي » في كتاب « سيبويه » وغيره الوجه الثالث كون اللفظ أو التركيب أحسن وأفصح ويؤخذ ذلك من علم البيان والبديع وقد صنف الناس في ذلك تصانيف كثيرة وأجمعها ما جمعه شيخنا الأديب الصالح أبو عبد الله « محمد بن سليمان النقيب » وذلك في مجلدين قدمهما أمام كتابه في التفسير وما وضعه شيخنا الأديب الحافظ المتبحر أبو الحسن « حازم بن محمد بن حازم الأندلسي الأنصاري القرطاجني » مقيم تونس المسمى « منهاج البلغاء وسراج الأدباء » وقد أخذت جملة من هذا الفن عن أستاذنا أبي جعفر بن الزبير رحمه الله تعالى الوجه الرابع تعيين مبهم وتبيين مجمل وسبب نزول ونسخ ويؤخذ ذلك من النقل الصحيح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وذلك من علم الحديث وقد تضمنت الكتب والأمهات التي سمعناها ورويناه ذلك « كالصحيحين » و « الجامع للترمذي » و « سنن أبي داود » و « سنن النسائي » و « سنن ابن ماجة » و « سنن الشافعي » و « مسند الدارمي » و « مسند الطيالسي » و « مسند الشافعي » و « سن الدار قطني » و « معجم الطبراني الكبير » و « المعجم الصغير له » و « مستخرج أبي نعيم » على مسلم وغير ذلك الوجه الخامس معرفة الإجمال والتبيين والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد ودلالة الأمر والنهي وما أشبه هذا ويختص أكثر هذا الوجه بجزء الأحكام من القرآن ويؤخذ هنا
من أصول الفقه ومعظمه هو في الحقيقة راجع لعلم اللغة إذ هو شيء يتكلم فيه على أوضاع العرب ولكن تكلم فيه غير اللغويين أو النحويين ومزجوه بأشياء من حجج العقول ومن أجمع ما في هذا الفن كتاب المحصول لأبي عبد الله محمد بن عمر الرازي وقد بحثت في هذا الفن في كتاب « الإشارة » لأبي الوليد الباجي » على الشيخ الأصولي الأديب « أبي الحسن فضل بن إبراهيم المعافري » الإمام بجامع ( غرناطة » والخطيب به وعلى الأستاذ العلامة « أبي جعفر بن الزبير » في كتاب « الإشارة » وفي شرحها له وذلك بالأندلسي وبحثت أيضاً في هذا الفن على الشيخ « علم الدين عبد الكريم بن علي بن عمر الأنصاري المعروف بابن بنت العراقي » في مختصره الذي اختصره من كتاب المحصول وعلى الشيخ « علاء الدين علي بن محمد بن عبد الرحمن بن خطاب الباجي » في « مختصره » الذي اختصره من كتاب « محصول » وعلى الشيخ شمس الدين « محمد بن محمود الأصبهاني صاحب « شرح المحصول » بحثت عليه في كتاب « القواعد » من تأليفه رحمه الله تعالى الوجه السادس الكلام فيما يجوز على الله تعالى وما يجب له وما يستحيل عليه والنظر في النبوة ويختص هذا الوجه بالآيات التي تضمنت النظر في الباري تعالى وفي الأنبياء وإعجاز القرآن ويؤخذ هذا من علم الكلام وقد صنف علماء الإسلام من سائر الطوائف في هذا كتباً كثيرة وهو علم إذ المزلة فيه والعياذ بالله مفض إلى الخسران في الدنيا والآخرة وقد سمعت منه مسائل تبحث على الشيخ شمس الدسن الأصفهاني وغيره الوجه السابع اختلاف الألفاظ بزيادة أو نقص أو تغيير حركة أو إتيان بلفظ بدل لفظ وذلك بتواتر وآحاد ويؤخذ هذا الوجه من علم القرآن وقد صنف علماؤنا في ذلك كتباً لا تكاد تحصى وأحسن الموضوعات في القراءات السبع كتاب « الإقناع » « لأبي جعفر بن الباذش » وفي القراءات العشر كتاب « المصباح » لأبي الكرم
الشهرزوري » وقد قرأت القرآن بقراءة السبعة بجزيرة الأندلس على الخطيب أبي جعفر « أحمد بن علي بن محمد الرعيني » عرف بابن الطباع بغرناطة وعلى الخطيب أبي محمد « وعبد الحق بن علي بن عبد لاله الأنصاري » الوادي تشبتي « بمطحشارش » من حضرة غرناطة وعلى غيرها بالأندلس وقرأت القرآن بالقراءات الثمان بثغر « الإسكندرية » على الشيخ الصالح رشيد الدين أبي محمد عبد النصير بن علي بن يحيى الهمداني عرف بابن المربوطي وقرأت القرآن بالقراءات السبع بمصر حرسها الله تعالى الشيخ المسند العدل فخر الدين أبي الطاهر إسماعيل بن هبة الله بن علي المليجي وأنشأت في هذا العلم كتاب « عقد اللآليء » قصيداً في عروض قصيد « الشاطبي » ورويه يشتمل على ألف بيت وأربعة وأربعين بيتاً صرحت فيها بأسامي القراء من غير رمز ولا لغز ولا حوشي لغة وأنشأته من كتب تسعة كما قلت
تنظم هذا العقد من در تسعة ... من الكتب فالتيسير عنوانه انجلى
بكاف لتجريد وهاد لتبصره ... وإقناع تلخيصين مكملا
جنيت له أنسي لفظ لطيفة ... وجانبت وحشياً كثيفاً معقلا
فهذه سبعة وجوه لا ينبغي أن يقدم على تفسير كتاب الله إلا من أحاط بجملة غالبها من كل وجه منها ومع ذلك فاعلم أنه لا يرتقي من علم التفسير ذروته ولا يمتطي منه صهوته إلا من كان متبحراً في علم اللسان مترقياً منه إلى رتبة الإحسان قد جبل طبعه على إنشاء النثر والنظم دون اكتساب وإبداء ما اخترعته فكرته السليمة في أبدع صورة وأجمل جلبات واستفرغ في ذلك زمانه النفيس وهجر الأهل والولد والأنيس ذلك الذي له في رياضه أصفى مرتع وفي حياضه أصفى مكرع يتنسم عرف أزاهر طال ما حجبتها الكمام ويترشف كؤوس رحيق له المسلك ختام ويستوضح أنوار بدور سترتها كثائف الغمام ويستفتح أبواب مواهب الملك العلام يدرك إعجازك القرآن بالوجدان لا يالتقليد وينفتح له ما استغلق إذ بيده الإقليد وأما من اقتصر على غير هذا من العلوم أو قصر في إنشاء المنثور والمنظوم فإنه بمعزل عن فهم غوامض الكتاب وعن إدراك لطائف ما تضمنه من العجب العجاب وحظه من علم التفسير إنما هو نقل أسطار وتكرار محفوظ على مر الأعصار ولبتاين أهل الإسلام في إدراك فصاحة وتوقل في معارف الآداب وقوانينها أدرك بالوجدان أن القرآن أتى في غاية من الفصاحة لا يوصل إليها ونهاية من البلاغة لا يمكن أن يحام عليها فمارضته عنده غير ممكنة للبشر ولا داخلة تحت القدر ومن لم يدرك هذا المدرك ولا سلك هذا المسلك رأى أنه من نمط كلام العرب وإن مثله مقدور لمنشى ء الخطب فإعجازه عنده إنما هو بصرف الله تعالى إياهم عن معارضته ومناضلته وإن كانوا قادرين على مماثلته والقائلون بأن الإعجاز وقع بالصرف هم من نقصان الفطرة الإنسانية في رتبة بعض النساء حين رأت زوجها يطأ جارية فعاتبته فأخبر أنه ما وطئها فقالت له إن كنت صادقاً فاقرا شيئاً من القرآن فأنشدها بيت شعر قاله ذكر الله فيه ورسوله فصدقته فلم تزرق من الرزق ما تفرق به بين كلام الخلق وكلام الحق وحكى لنا أستاذنا العلامة « أبو جعفر » - رحمه الله تعالى - عن بعض من كان له معرفة بالعلوم القديمة ومعرفة بكثير من العلوم الإسلامية أنه كان يقول له يا أبا جعفر لا أدرك فرقاً بين القرآن وبين غيره من الكلام فهذا الرجل وأمثاله من علماء المسلمين يكون من الطائفة الذين يقولون بأن الإعجاز وقع بالصرفة وكان بعض شيوخنا من له تحقق بالمعقول وتصرف في كثير من المنقول إذا أراد أن يكتب فقرأ فصيحة أتى لبعض تلامذته وكلفة أن ينشئها له وكان بعض شيوخنا ممن له التبحر في علم لغة العرب إذا أسقط من بيت الشعر كلمة أو ربع البيت وكان المعين بدون ما أسقط لا يدرك ما أسقط من ذلك وأين هذا في الإدراك من آخر إذا حركت له مسكناً أو سكنت له محركاً في بيت أدرك ذلك بالطبع وقال إن هذا البيت مكسور ويدرك ذلك في أشعار العرب الفصحاء إذا كان فيه زحاف ما وإن كان جائزاً في كلام العرب لكن يجد مثل هذا طبعه ينبو عنه ويقلق لسماعه هذا وإن كان لا يفهم معنى البيت لكونه حوشء اللغات أو منطويا على حوشي فهذه كلها من مواهب الله تعالى لا تؤخذ باكتساب لكن الاكتساب يقويها وليس العرب متساوين في الفصاحة ولا في إدراك المعاني ولا في نظم الشعر بل فيهم من يكسر الوزن ومن لا ينظم ولا بيتاً واحداً ومن هو مقل من النظم وطباعهم كطباع سائر الأمم في ذلك حتى فحول شعرائهم يتفاوتون في الفصاحة وينفتح الشاعر منهم القصيدة حولاً حتى يسمى قصائد الحوليات فهم مختلفون في ذلك وكذلك كان بعض الكفار حين سمع القرآن أدرك إعجازه للوقت فوفق وأسلم وآخر أدرك إعجازه فكفر ولج في عناده ( بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ) البقرة 90 فنسبه تارة إلى الشعر وتارة إلى الكهانة والسحر وآخر لم يدرك إعجاز القرى ن كتلك المرأة العربية التي قدمنا ذكرها وكحال أكثر الناس فإنهم لا يدركون إعجاز القرآن من جهة الفصاحة ممن أدرك إعجازه فوق وأسلم بأول سماع سمعه « أبو ذر » إعجازه وكفر عناداً « عتبة بن ربيعة » وكان من عقلاء الكفار حتى كان يتوهم « أمية بن الصلت » أنه هو يعني عتبة يكون النبي المنبعث في « قريش » فلما بعث الله محمدً عليه الصلاة والسلام حسده عتبة وأضرابه مع علمهم بصدقة وأن ما جاء به معجز وكذلك « الوليد بن المغيرة » روى عنه أنه قال لبني مخزوم والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو وما يعلى ومع هذا الاعتراف غلب عليه الحسد والأشر حتى قال ما حكى الله عنه ( إن هذا إلا سحر يؤثر عن هذا إلا قول البشر ) المدثر 25 وممن
لم يدرك إعجازه أو أدرك وعاند وعارض مسيلمة الكذاب أتى بكلمات زعم أنها أوحيت إليه انتهت في الفهاهة والعي والغثاثة بحيث صارت هزأة للسامع وكذلك « أبو الطيب المتنبي » وقد ذكر القاضي أبو بكر محمد بن أبي الطيب الباقلاني في كتاب « الانتصار في إعجاز القرآن » شيئاً من كلام أبي الطيب مما هو كفر وذكر لنا قاضي القضاة أبو الفتح محمد بن علي بن وهب القشيري أن أبا الطيب أدعى النبوة واتبعه ناس من عبس وكلب وأنه اختلق شيئاً ادعى أنه أوحي إليه به سوراً سماها العبر وإن شعره لا يناسبها لجودة أكثرة ورداءتها كلها أو كلاما هذا معناه وإنما أتينا بهذه الجملة من الكلام ليعلم أن أذهان الناس مختلفة في الإدراك على ما شاء الله تعالى وأعطى كل أحد ( ولنبين )

الشروط الواجب توافرها في المفسر
إن علم التفسير ليس متوقفاً على علم النحو فقط كما يظنه بعض الناس بل أكثر العربية هم بمعزل عن التصرف في الفصاحة والتفنن في البلاغة ولذلك قلت تصانيفهم في علم التفسير وقل أن ترى نحوياً بارعاً في النظم والنثر كما قل أن ترى بارعاً في الفصاحة يتوغل في علم النحو وقد رأينا من ينسب للإمامة في علم النحو وهو لا يحسن أن ينطق بأبيات من أشعار العرب فضلاً عن أن يعرف مدلولها أو يتكلم على ما انطوت عليه من علم البلاغة والبيان فأنى لمثل هذا أن يتعاطى علم التفسير ولله در أبي القاسم الزمخشري حيث قال في خطبة كتابه في « التفسير » ما نصه إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح عن غرائب نكت يلطف مسلكها ومستودعات أسرار يدق سلكها علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه وأجالة النظر فيه كل ذي علم كما ذكر الجاحظ في كتاب « نظم القرآن » فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام والمتكلم وإن بز أهل الدنيا في صناعة الكلام وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القرية أحفظ والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن وهما المعاني وعلم البيان وتمهل في ارتيادهما آونة وتعب في التنقير عنهما أزمنة وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله وحرص على استيضاح معجزة رسول الله بعد أن يكون آخذاً من سائر العلوم بحظ جامعاً بين أمرين تحقيق وحفظ كثير المطالعات طويل المراجعات قد رجع زماناً ورجع إليه ورد ورد عليه فارساً في علم الإعراب مقدماً في جملة الكتاب وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها مشتعل القريحة وقادها يقظان
النفس دراً كالمجة وإن لطف شأنها منتبهاً على الرمزة وإن خفي مكانها لا كزاً جاسياً ولا غليظاً جافياً متصرفاً ذا درية بأساليب النظم والنثر مرتاضاً غير ريض بتلقيح نبات الفكر قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف وكيف نظم ويرصف طالما دفع إلى مضايقه ووقع في مداحضة ومزالقه انتهى كلام « الزمخشري » في وصف متعاطي تفسير القرآن وأنت ترى هذا الكلام وما احتوى عليه من الترصيف الذي يبهر بجنسه الأدباء ويقهر بفصاحته البلغاء وهو شاهد له بأهليته للنظر في تفسير القرآن واستخراج لطائف الفرقان حديثه عن الزمخشري وابن عطية وهذا « أبو القاسم محمود بن عمر المشرقي الخوارزمي الزمخشري » و « أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي » المغربي الغرناطي أجل من صنف في علم التفسير وأفضل من تعرض للتنقيح فيه والتحرير وقد اشتهرا ولا كاشتهار الشمس وخلدا في الأحياء وإن هدا في الرمس وكلامهما فيه يدل على تقديمها في علوم من منثور ومنظوم ومنقول ومفهوم وتقلب في فنون الآداب وتمكن من علمي المعاني والإعراب وفي خطبتي كتابيهما وفي غضون كتاب « الزمخشري » ما يدل على أنهما فارسا ميدان وممارسا فصاحة وبيان وللزمخشري تصانيف غير تفسيره منها « الفائض » في لغات الحديث و « مختلف الأسماء ومؤتلفها » و « ربيع الأبرار » و « الرائض في الفرائض » و « المفصل » وغير ذلك وقد ذكر الوزير أبو نصر الفتح بن خاقان الأشبيلي في كتابه المسمى « قلائد العقيان ومحاسن الأعيان » أبا محمد بن عطية فقال فيه نبعة روح العلا ومحرز ملابس الثنا فذ الجلالة وواحد العصر والأصالة وقار كما رسا الهضب وأدب كما اطرد السلسل العذب أثره في كل معرفة علم في رأسه نار وطوالعه في آفاقها صبح ونهار وقد أثبت من نظمه ما ينفخ عبيراً ويتضح منيراً وأورد له نثراً كما نظم قلائد ونظماً تزدان بمثله أجياد الولائد من ألفاظ عذبة تستنزل برقتها العصم ومعان مبتكرة تفحم الألد الخصم أبقت له ذكراً مخلداً على جبين الدهر وعرفاً أرجاً كتضوع الزهر ولما كان كتاباهما في التفسير قد أنجدا وأغارا وأشرقا في سماء هذا العلم وأنارا وتنزلا من الكتب التفسيرية منزلة الإنسانية من العين والذهب الا بريز من العين ويتيمة الدر من اللالي وليلة القدر من الليالي فعكف الناس شرقا وغربا عليهما وثنوا أعنه الاعتناء إليهما وكان فيهما على جلالتهما مجال لانتقاد ذوي التبريز ومسرح للتخييل فيهما والتمييز ثنيت إليهما عنان الانتقاد وحللت ما تخيل الناس فيهما من الاعتقاد أنهما في التفسير الغاية التي لا تدرك والمسلك الوعر الذي لا يكاد يسلك وعرضتهما على محك النظر وأرويت فيهما نار الفكر حتى خلص دسيسهما وبرز نفيسهما وسيرى ذلك من هو للنظر أهل واجتمع فيه إنصاف وعدل فإنه يتعجب من التولج على الضراغم والتحرز لأشبالها والأنف راغم إذ هذان الرجلان هما فارسا علم التفسير وممارسا تحريره والتحبير نشراه نشراً وطار لهما به ذكراً وكانا متعاصرين في الحياة متقاربين في الممات ( ولد أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الزمخشري ) « بزمخشر » قرية من قرى خوارزم يوم الأربعاء السابع عشر لرجب سنة سبع وستين وأربعمائة ( وتوفي بكركانج ) قصبة « خوارزم » ليلة عرفة سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة ( وولد أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن غالب بن تمام بن عبد الرؤوف بن عبد الله بن تمام بن عطية المحاربي من أهل غرناطة ) سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وتوفي بلورقة في الخامس والعشرين لرمضان سنة إحدى وأربعين وخمسمائة هكذا ذكره القاضي ابن أبي جمرة في وفاة ابن عطية وقال الحافظ أبو القاسم بن بشكوال توفي يعني « ابن عطية » سنة اثنين وأربعين وخمسمائة وكتاب ابن عطية أنقل وأجمع وأخلص وكتاب الزمخشري ألخص وأغوص إلا أن الزمخشري قائل بالطفرة ومقتصر من الذؤابة على الوفرة فربما سنح له آبي المقادة فأعجزه اعتياصه ولم يمكنه لتأنيه اقتناصه فتركه عقلاً لمن يصطاده وغفلاً لمن يرتاده وربما ناقض هذا المنزع فثنى العنان إلى الواضح والسهل اللائح وأجال فيه كلاماً ورمى نحو غرضه سهاماً هذا مع ما في كتابه من نصره مذهبه وتقحم مرتكبه وتجشم حمل كتاب الله عز وجل عليه ونسبه ذلك إليه فمغتفر إساءته لإحسانه ومصفوح عن سقطه في بعض لإصابته في أكثر تبيانه فما كان في كتابي هذا من تفسير الزمخشري رحمه الله تعالى فأخبرني به أستاذنا العلامة أبو
جعفر « أحمد بن إبراهيم بن الزبير » قراءة مني عليه فيه وإجازة أيام كنت أبحث معه في كتاب سيبويه عن القاضي « ابن الخطاب محمد بن أحمد بن خليل السكوني » عن « أبي طاهر بركات بن إبراهيم بن طاهر الخشوعي » ح وأخبرني به عالياً « أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد المقدسي عرف بابن البخاري » في كتابه إلي من « دمشق » عن « أبي طاهر الخشوعي » وهو آخر من حدث عنه عن « الزمخشري » وما كان في هذا الكتاب من تفسير « ابن عطية » فأخبرني به القاضي الإمام « أبو علي الحسين بن عبد العزيز بن أبي الأحوص » القرشي قراءة مني عليه لبعضه ومناولة عن الحافظ « أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي » قال أخبرنا أبو « القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الأنصاري يعرف بابن حبيش » قال أخبرنا به مصنفه قراءة عليه لجميعة وأخبرني به عالياً القاضي الأصولي المتكلم « أبو الحسن محمد بن القاضي الأصولي المتكلم » « أبي عامر يحيى بن عبد الرحمن الأشعري » نسباً ومذهباً إجازه كتبها لي بخطه « بغرناطة » عن أبي الحسن علي بن أحمد بن علي الغافقي الشقوري بقرطبة وهو آخر من حدث عن « ابن عطية » وهو آخر من روى عنه واعتمدت في أكثر نقول كتابي هذا على كتاب « التحرير والتحبير » لأقوال أئمة التفسير من جمع شيخنا الصالح القدوة الأديب « جمال الدين أبي عبد الله محمد بن سليمان بن حسن بن حسين المقدسي » عرف « بابن النقيب » - رحمه الله تعالى - إذ هو أكبر كتاب رأيناه صنف في علم التفسير يبلغ في العدد مائة سفر أو يكاد إلا أنه كثير التكرير قليل التحرير مفرط الإسهاب لم يعد جامعه من نسخ كتب في كتابه كذلك كان فيه بحال التهذيب ومراد الترتيب وهذا الكتاب روايتي بالإجازة من
جامعه رحمه الله تعالى وقد شاهدناه غير مرة حين جمعه يقول للناسخ اقرا علي فيقرأ عليه فيقول اكتب من كذا إلى كذا وينقل ما في كتب التفسير التي اعتمدها ويعزو أكثر المواضع ما ينقل منها إلى مصنف ذلك الكتاب وكان فيه فضيلة أدب وله نثر ونظم متوسط رحمه الله تعالى ورضي عنه ( وقد تقدم أني قرأت كتاب الله تعالى على جماعة من المقرئين رحمهم الله تعالى ) وأنا الآن أسند قراءتي القرآن من بعض الطرق وأذكر شيئاً مما ورد في القرآن وفضائله وتفسيره على سبيل الاختصار فأقول قرأت القرآن برواية « ورش » وهي الرواية التي ننشأ عليها ببلادنا ونتعلمها أولاً في المكتب على المسند المعمر العدل أبي طاهر إسماعيل بن هبة اله بن علي المليجي بمصر وقرأتها على أبي الجود غياث بن فارس بن مكي المنذري بمصر وقرأتها على « أبي الفتوح ناصر بن الحسن بن إسماعيل الزيدي » « بمصر » وقرأتها على « أبي الحسن يحيى بن علي بن أبي الفرج الخشاب » « بمصر » وقرأتها علي ابن الحسن أحمد بن سعيد بن نفيس بمصر وقرأتها على « ابن عدي عبد العزيز بن علي بن محمد عرف بابن الإمام » « بمصر » وقرأتها على « أبي بكر بن عبد الله بن مالك بن سيف » « بمصر » وقرأتها على « أبي يعقوب بن يوسف بن عمرو بن سيار » ويقال يسار الأزرق « بمصر » وقرأتها على « أبي عمر وعثمان بن سعيد بن عدي الملقب » بورش « بمصر » وقرأتها على « أبي عبد الرحمن نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم » يمدينة رسول الله عليه الصلاة والسلام وقرأ « نافع » على « أبي جعفر يزيد بن القعقاع » بمدينة رسول الله عليه الصلاة والسلام وقرأ « يزيد » على « عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي » بمدينة رسول الله عليه الصلاة والسلام وقرأ « عبد الله » على « أبي المنذر أبي بن كعب » بمدينة رسول الله عليه الصلاة والسلام وقرأ « أبي » على رسول الله عليه الصلاة والسلام هذا إسناد صحيح دائر بين مصري ومدني فمن شيخي إلى ورش مصريون ومن نافع إلى من بعده مدنيون ( ومثل هذا الإسناد عزيز الوجود بيني وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام ثلاثة عشرة رجلاً ) وهذا من أعلي الأسانيد التي وقعت لي وقد وقع لي في بعض القراءات أن بيني وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام اثني عشر رجلاً وذلك في قراءة « عاصم » وهي القراءة التي ينشأ عليها أهل العراق وهو إسناد أعلى ما وقع لأمثالنا وقرأت القرآن على « أبي الطاهر بن المليجي » قال قرأت على « أبي الجود » قال قرأت على « أبي الفتوح الزيدي » قال قرأت على « أبي الحسن علي بن أحمد الأبهري » قال قرأت على « أبي محمد يحيى بن محمد بن قيس الأنصاري العليمي » الكوفي قال قرأت على « أبي بكر بن عياش » قال قرأت على « عاصم » وقرأ « عاصم » على « أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي » على « أبي بن كعب » و « عثمان بن عفان » و « علي بن أبي طالب » و « عبد الله بن مسعود » و « زيد بن ثابت » وقرأ هؤلاء الخمسة على رسول الله عليه الصلاة والسلام

ذكر فضائل القرآن
( وأما ما ورد في القرآن وفضائله ) فقد صنف الناس في ذلك « كأبي عبيد القاسم بن سلام » وغيره ( ومما روي ) أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال إنه ستكون فتن كقطع الليل المظلم قيل فما النجاة منها يا رسول الله
قال كتاب الله تعالى فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بنيكم وهو فصل ليس بالهزل من تركه تجبراً قصمه الله تعالى ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله تعالى وهو حبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم والصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تتشعب معه الآراء ولا يشبع منه العلماء ولا يمله الأتقياء من علم علمه سبق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن عصم به فقد هدي إلى صراط مستقيم وقال رسول الله عليه الصلاة والسلام من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن وقال رسول الله عليه الصلاة والسلام اتلوا هذا القرآن فإن الله تعالى يأجركم بالحرف عشر حسنات أما إني لا أقول ألم حرف ولكن الألف حرف واللام حرف والميم حرف وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في آخر خطبة خطبها وهو مريض أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين إنه لن تعمى أبصاركم ولن تضل قلوبكم ولن تزل أقدامكم ولن تقصر أيديكم كتاب الله سبب بينكم وبينه طرفه بيده وطرفه بأيديكم فاعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وأحلوا حلاله وحرموا حرامه ألا وأهل بيتي وعترتي وهو الثقل الآخر فلا تسبوهم فتهلكوا وروي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال من قرأ القرآن فرأى أن أحداً أوتي أفضل مما أوتي فقد استصغر ما عظم الله وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ما من شفيع أفضل عند الله من القرآن لا نبي ولا ملك وعنه عليه الصلاة والسلام أفضل عبادة أمتي القرآن وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال أشرف أمتي حملة القرآن وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال من قرأ مائة آية كتب من الفانتين ومن قرأ مائتي آية لم يكن من الغافلين ومن قرأ
ثلاثمائة آية لم يحاجه القرآن وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال القرآن شافع مشفع وما حل مصدق من شفع له القرآن نجا ومن محل به القرآن يوم القيامة أكبه الله لوجهه في النار وأحق من شفع له القرآن أهله وحملته وأولى من محل به القرآن من عدل عنه وضيعه وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال إن أصغر البيوت بيت صفر من كتاب الله تعالى وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال إن الذي يتعاهد القرآن ويشتد عليه له أجران والذي يقرأه وهو خفيف عليه مع السفرة الكرام البررة وعنه عليه الصلاة والسلام أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه وقال قوم من الأنصار للنبي عليه الصلاة والسلام أم تر يا رسول الله « ثابت بن قيس » لم تزل داره البارحة تزهر وحولها أمثال المصابيح فقال لهم فلعله قرأ سورة البقرة فسئل « ثابت بن قيس » فقال قرأت سورة البقرة وقد خرج البخاري في تنزيل الملائكة في الظلمة لصوت « أسيد بن حضير » بقراءة سورة البقرة وقال « عقبة بن عامر » عهد إلينا رسول الله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع فقال عليكم بالقرآن وسئل رسول الله عليه الصلاة والسلام عن أحسن الناس قراءة أو صوتاً بالقرآن فقال الذي إذا سمعته رأيته يخشى الله تعالى

الترغيب في تفسير القرآن
( وأما ما ورد في تفسيره ) فروى ابن عباس أن رجلاً سأل النبي عليه الصلاة والسلام فقال أي علم القرآن أفضل فقال النبي عليه الصلاة والسلام عربيته فالتمسوها في الشعر وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه فإن الله تعالى يحب أن يعرف وقد فسرت الحكمة من قوله تعالى ( ومن يؤت الحمكة ) البقرة 269 بأنها تفسير القرآن وقال رسول الله عليه الصلاة والسلام لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوهاً كثيرة وقال « الحسن » أهلكتم العجمة يقرأ أحدهم الآية فيعيا بوجوهما حتى يفترى
على الله بها وقال « ابن عباس » الذي يقرأ ولا يفسر كالأعرابي الذي يهذ الشعر ووصف علي « جابر بن عبد الله » لكونه يعرف تفسير قوله تعالى ( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) القصص 85 ورحل « مسروق » إلى « البصرة » في تفسير آية فقيل له الذي يفسرها رجع إلى « الشام » فتجهز ورحل إليه حتى علم تفسيرها وقال « مجاهد » أحب الخلق إلى الله تعالى أعلمهم بما أنزل ( وما روى ) عن رسول الله عليه الصلاة والسلام من كونه لا يفسر من كتاب الله إلا أبا بعدد علمه إياهن جبرائيل عليه السلام محمول ذلك على مغيبات القرآن وتفسيره لمجمله ونحوه مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف من الله تعالى ( وما روى ) عنه عليه الصلاة والسلام من قوله ( من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ) محمول على من تسور على تفسيره برأيه دون النظر في أقوال العلماء وقوانين العلوم كالنحو واللغة والأصول وليس من اجتهد ففسر على قوانين العلم والنظر بداخل في ذلك الحديث ولا هو يفسر برأيه ولا يوصف بالخطا

المفسرون من الصحابة
والمنقول عنه الكلام في تفسير القرآن من الصحابة جماعة منهم « علي بن أبي طالب » و « عبد الله بن مسعود » و « أبي بن كعب » و ( زيد بن ثابت » و « عبد الله بن عمرو بن العاص » فهؤلاء مشاهير من أخذ عنه التفسير من الصحابة رضي الله عنه تعالى عنهم وقد نقل عن غير هؤلاء غير ما شيء من التفسير

المفسرون من التابعين
( ومن المتكلمين ) في التفسير من التابعين « الحسن بن أبي الحسن » و « مجاهد بن جبر »
و « سعيد بن جبير » و « علقمة » و « الضحاك بن مزاحم » و « السدي » و « وأبو صالح » وكان « الشعبي » يطعن على « السدي » و « أبي صالح » لأنه كان يراهما مقصرين في النظر

منهج التفسير في العصور المتقدمة له والمتأخرة
ثم تتابع الناس في التفسير وألفوا فيه التأليف وكانت تآليف المتقدمين أكثرها إنما هي شرح لغة ونقل سبب ونسخ وقصص لأنهم كانوا قريبي عهد بالعرب وبلسان العرب فلما فسد اللسان وكثرت العجم ودخل في دين الإسلام أنواع الأمم المختلفو الألسنة والناقصو الإدراك احتاج المتأخرون إلى إظهار ما انطوى عليه كتاب الله تعالى من غرائب التركيب وانتزاع المعاني وإبراز النكت البيانية حتى يدرك ذلك من لم تكن في طبعه ويكتسها من لم تكن نشأته عليها ولا عنصره يحركه إليها بخلاف الصحابة والتابعين من العرب فإن ذلك كان مركوزاً في طباعهم يدركون تلك المعاني كلها من غير موقف ولا معلم لأن ذلك لسانهم وخطتهم وبيانهم على أنهم كانوا يتفاوتون أيضاً في الفصاحة وفي البيان ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام حين سمع كلام « عمرو بن الأهتم » في « الزبرقان » إن من البيان لسحراً وقد أشرنا فيما تقدم إلى تفاوت العرب في الفصاحة

تعريف علم التفسير لغة واصطلاحاً
وقبل أن نشرع فيما قصدنا وننجز ما به وعدنا ونبدأ برسم لعلم التفسير فإني لم أقف لأحد من علماء التفسير على اسم له فنقول التفسير في اللغة الاستبانة والكشف قال « ابن دريد » ومنه يقال للماء الذي ينظر فيه الطبيب تفسرة وكانه تسمية بالمصدر لأن مصدر فعل جاء أيضاً على تفعله نحو جرب تجربة وكرم تكرمة وإن كان القياس في الصحيح من فعل التفعيل كقوله تعالى ( وأحسن تفسيراً ) وينطلق أيضاً التفسير على التعرية للانطلاق قال « ثعلب » تقول فسرت الفرس عريته لينطلق في حضره وهو راجع لمعنى الكشف فكأنه كشف ظهره لهذا الذي يريده منه من الجري وأما الرسم في الاصطلاح فنقول التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك فقولنا علم هو جنس يشمل سائر العلوم وقولنا يبحث فيه عن كيفية النظق بألفاظ القرآن هذا هو علم القراءات وقولنا ومدلولاتها أي مدلولات تلك الألفاظ وهذا هو علم اللغة الذي يحتاج إليه في هذا العلم وقولنا وأحكامها الإفرادية والتركيبية هذا يشمل علم التصريف وعلم الإعراب وعلم البيان وعلم البديع ومعانيها التي تحمل بها حالة التركيب شمل بقوله التي تحمل عليها ما لا دلالة عليه بالحقيقة وما دلالته عليه بالمجاز فإن التركيب قد يقضي بظاهره شيئاً ويصد عن الحمل على الظاهر صاد فيحتاج لأجل ذلك أن يحمل على الظاهر وهو المجاز وقولنا وتتمات لذلك هو معرفة النسخ وسبب النزول وقصة توضح بعض ما انبهم في القرآن ونحو ذلك

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)

{ بسم الله الرحمن الرحيم } باء الجر تأتي لمعان : للإلصاق ، والاستعانة ، والقسم ، والسبب ، والحال ، والظرفية ، والنقل.
فالإلصاق : حقيقة مسحت برأسي ، ومجازاً مررت بزيد.
والاستعانة : ذبحت بالسكين.
والسبب : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا } والقسم : بالله لقد قام.
والحال : جاء زيد بثيابه.
والظرفية : زيد بالبصرة.
والنقل : قمت بزيد.
وتأتي زائدة للتوكيد : شربن بماء البحر.
والبدل : فليت لي بهم قوماً أي بدلهم.
والمقابلة : اشتريت الفرس بألف.
والمجاوزة : تشقق السماء بالغمام أي عن الغمام.
والاستعلاء : من أن تأمنه بقنطار.
وكنى بعضهم عن الحال بالمصاحبة ، وزاد فيها كونها للتعليل.
وكنى عن الاستعانة بالسبب ، وعن الحال ، بمعنى مع ، بموافقة معنى اللام.
ويقال اسم بكسر همزة الوصل وضمها ، وسم بكسر السين وضمها ، وسمي كهدي ، والبصري يقول : مادته سين وميم وواو ، والكوفي يقول : واو وسين وميم ، والأرجح الأول.
والاستدلال في كتب النحو : أل للعهد في شخص أو جنس ، وللحضور ، وللمح الصفة ، وللغلبة ، وموصولة.
فللعهد في شخص : جاء الغلام ، وفي جنس : اسقني الماء ، وللحضور : خرجت فإذا الأسد ، وللمح : الحارث ، وللغلبة : الدبران.
وزائدة لازمة ، وغير لازمة ، فاللازمة : كالآن ، وغير اللازمة : باعد أم العمر من أسيرها ، وهل هي مركبة من حرفين أم هي حرف واحد؟ وإذا كانت من حرفين ، فهل الهمزة زائدة أم لا؟ مذاهب.
والله علم لا يطلق إلا على المعبود بحق مرتحل غير مشتق عند الأكثرين ، وقيل مشتق ، ومادته قيل : لام وياء وهاء ، من لاه يليه ، ارتفع.
قيل : ولذلك سميت الشمس إلاهه ، بكسر الهمزة وفتحها ، وقيل : لام وواو وهاء من لاه يلوه لوهاً ، احتجب أو استتار ، ووزنه إذ ذاك فعل أو فعل ، وقيل : الألف زائدة ومادته همزة ولام ، من أله أي فزع ، قاله ابن إسحاق ، أو أله تحير ، قاله أبو عمر ، وأله عبد ، قاله النضر ، أو أله سكن ، قاله المبرد.
وعلى هذه الأقاويل فحذفت الهمزة اعتباطاً ، كما قيل في ناس أصله أناس ، أو حذفت للنقل ولزم مع الإدغام ، وكلا القولين شاذ.
وقيل : مادته واو ولام وهاء ، من وله ، أي طرب ، وأبدلت الهمزة فيه من الواو نحو أشاح ، قاله الخليل والقناد ، وهو ضعيف للزوم البدل.
وقولهم في الجمع آلهة ، وتكون فعالاً بمعنى مفعول ، كالكتاب يراد به المكتوب.
وأل في الله إذا قلنا أصله الإلاه ، قالوا للغلبة ، إذ الإله ينطلق على المعبود بحق وباطل ، والله لا ينطلق إلا على المعبود بالحق ، فصار كالنجم للثريا.
وأورد عليه بأنه ليس كالنجم ، لأنه بعد الحذف والنقل أو الإدغام لم يطلق على كل إله ، ثم غلب على المعبود بحق ، ووزنه على أن أصله فعال ، فحذفت همزته عال.
وإذا قلنا بالأقاويل السابقة ، فأل فيه زائدة لازمة ، وشذ حذفها في قولهم لاه أبوك شذوذ حذف الألف في أقبل سيل.

أقبل جاء من عند الله.
وزعم بعضهم أن أل في الله من نفس الكلمة ، ووصلت الهمزة لكثرة الاستعمال ، وهو اختيار أبي بكر بن العربي والسهيلي ، وهو خطأ ، لأن وزنه إذ ذاك يكون فعالاً ، وامتناع تنوينه لا موجب له ، فدل على أن أل حرف داخل على الكلمة سقط لأجلها التنوين.
وينفرد هذا الاسم بأحكام ذكرت في علم النحو ، ومن غريب ما قيل : إن أصله لاها بالسريانية فعرب ، قال :
كحلفة من أبي رياح . . .
يسمعها لاهه الكبار
قال أبو يزيد البلخي : هو أعجمي ، فإن اليهود والنصارى يقولون لاها ، وأخذت العرب هذه اللفظة وغيروها فقالوا الله.
ومن غريب ما قيل في الله أنه صفة وليس اسم ذات ، لأن اسم الذات يعرف به المسمى ، والله تعالى لا يدرك حساً ولا بديهة ، ولا تعرف ذاته باسمه ، بل إنما يعرف بصفاته ، فجعله اسماً للذات لا فائدة في ذلك.
وكان العلم قائماً مقام الإشارة ، وهي ممتنعة في حق الله تعالى ، وحذفت الألف الأخيرة من الله لئلا يشكل بخط اللاه اسم الفاعل من لها يلهو ، وقيل طرحت تخفيفاً ، وقيل هي لغة فاستعملت في الخط.
{ الرحمن } : فعلان من الرحمة ، وأصل بنائه من اللازم من المبالغة وشذ من المتعدي ، وأل فيه للغلبة ، كهي في الصعق ، فهو وصف لم يستعمل في غير الله ، كما لم يستعمل اسمه في غيره ، وسمعنا مناقبه ، قالوا : رحمن الدنيا والآخرة ، ووصف غير الله به من تعنت الملحدين ، وإذا قلت الله رحمن ، ففي صرفه قولان ليسند أحدهما إلى أصل عام ، وهو أن أصل الاسم الصرف ، والآخر إلى أصل خاص ، وهو أن أصل فعلان المنع لغلبته فيه.
ومن غريب ما قيل فيه إنه أعجمي بالخاء المعجمة فعرب بالحاء ، قاله ثعلب.
{ الرحيم } : فعيل محوّل من فاعل للمبالغة ، وهو أحد الأمثلة الخمسة ، وهي : فعال ، وفعول ، ومفعال ، وفعيل ، وفعل ، وزاد بعضهم فعيلاً فيها : نحو سكير ، ولها باب معقود في النحو ، وقيل : وجاء رحيم بمعنى مرحوم ، قال العملس بن عقيل :
فأما إذا عضت بك الأرض عضة . . .
فإنك معطوف عليك رحيم
قال علي ، وابن عباس ، وعلي بن الحسين ، وقتادة ، وأبو العالية ، وعطاء ، وابن جبير ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وجعفر الصادق ، الفاتحة مكية ، ويؤيده { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم } والحجر مكية ، بإجماع.
وفي حديث أبي : إنها السبع المثاني والسبع الطوال ، أنزلت بعد الحجر بمدد ، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة ، وما حفظ أنه كانت في الإسلام صلاة بغير { الحمد لله رب العالمين }.
وقال أبو هريرة ، وعطاء بن يسار ، ومجاهد ، وسواد بن زياد ، والزهري ، وعبد الله بن عبيد بن عمير : هي مدنية ، وقيل إنها مكية مدنية.
الباء في بسم الله للاستعانة ، نحو كتبت بالقلم ، وموضعها نصب ، أي بدأت ، وهو قول الكوفيين ، وكذا كل فاعل بدىء في فعله بالتسمية كان مضمر إلا بدأ ، وقدره الزمخشري فعلاً غير بدأت وجعله متأخراً ، قال : تقديره بسم الله أقرأ أو أتلو ، إذ الذي يجيء بعد التسمية مقروء ، والتقديم على العامل عنده يوجب الاختصاص ، وليس كما زعم.

قال سيبويه : وقد تكلم على ضربت زيداً ما نصه : وإذا قدمت الاسم فهو عربي جيد كما كان ذلك ، يعني تأخيره عربياً جيداً وذلك قولك زيداً ضربت.
والاهتمام والعناية هنا في التقديم والتأخير ، سواء مثله في ضرب زيد عمر ، أو ضرب زيداً عمر ، وانتهى ، وقيل موضع اسم رفع التقدير ابتدائي بأبت ، أو مستقر باسم الله ، وهو قول البصريين ، وأي التقديرين أرجح يرجح الأول ، لأن الأصل في العمل للفعل ، أو الثاني لبقاء أحد جزأي الإسناد.
والإسم هو اللفظ الدال بالوضع على موجود في العيان ، إن كان محسوساً ، وفي الأذهان ، إن كان معقولاً من غير تعرض ببنيته للزمان ، ومدلوله هو المسمى ، ولذلك قال سيبويه : ( فالكل اسم وفعل وحرف ) ، والتسمية جعل ذلك اللفظ دليلاً على ذلك المعنى ، فقد اتضحت المباينة بين الاسم والمسمى والتسمية.
فإذا أسندت حكماً إلى اسم ، فتارة يكون إسناده إليه حقيقة ، نحو : زيد اسم ابنك ، وتارة لا يصح الإسناد إليه إلا مجازاً ، وهو أن تطلق الاسم وتريد به مدلوله وهو المسمى ، نحو قوله تعالى : { تبارك اسم ربك } { وسبح اسم ربك } { وما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم } والعجب من اختلاف الناس ، هل الاسم هو عين المسمى أو غيره ، وقد صنف في ذلك الغزالي ، وابن السيد ، والسهيلي وغيرهم ، وذكروا احتجاج كل من القولين ، وأطالوا في ذلك.
وقد تأول السهيلي ، رحمه الله ، قوله تعالى : { سبح اسم ربك } بأنه أقحم الاسم تنبيهاً على أن المعنى سبح ربك ، واذكر ربك بقلبك ولسانك حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان ، لأن الذكر بالقلب متعلقة المسمى المدلول عليه بالإسم ، والذكر باللسان متعلقة اللفظ.
وقوله تعالى : { ما تعبدون من دونه إلا أسماء } بأنها أسماء كاذبة غير واقعة على حقيقة ، فكأنهم لم يعبدوا إلا الأسماء التي اخترعوها ، وهذا من المجاز البديع.
وحذفت الألف من بسم هنا في الخط تخفيفاً لكثرة الاستعمال ، فلو كتبت باسم القاهر أو باسم القادر.
فقال الكسائي والأخفش : تحذف الألف.
وقال الفراء : لا تحذف إلا مع { بسم الله الرحمن الرحيم } ، لأن الاستعمال إنما كثر فيه ، فأما في غيره من أسماء الله تعالى فلا خلاف في ثبوت الألف.
والرحمن صفة لله عند الجماعة.
وذهب الأعلم وغيره إلى أنه بدل ، وزعم أن الرحمن علم ، وإن كان مشتقاً من الرحمة ، لكنه ليس بمنزلة الرحيم ولا الراحم ، بل هو مثل الدبران ، وإن كان مشتقاً من دبر صيغ للعلمية ، فجاء على بناء لا يكون في النعوت ، قال : ويدل على علميته ووروده غير تابع لاسم قبله ، قال تعالى :

{ الرحمن على العرش استوى } { الرحمن علم القرآن } وإذا ثبتت العلمية امتنع النعت ، فتعين البدل.
قال أبو زيد السهيلي : البدل فيه عندي ممتنع ، وكذلك عطف البيان ، لأن الاسم الأول لا يفتقر إلى تبيين ، لأنه أعرف الأعلام كلها وأبينها ، ألا تراهم قالوا : وما الرحمن ، ولم يقولوا : وما الله ، فهو وصف يراد به الثناء ، وإن كان يجري مجرى الإعلام.
{ الرحمن الرحيم } قيل دلالتهما واحد نحو ندمان ونديم ، وقيل معناهما مختلف ، فالرحمن أكثر مبالغة ، وكان القياس الترقي ، كما تقول : عالم نحرير ، وشجاع باسل ، لكن أردف الرحمن الذي يتناول جلائل النعم وأصولها بالرحيم ليكون كالتتمة والرديف ليتناول ما دق منها ولطف ، واختاره الزمخشري.
وقيل الرحيم أكثر مبالغة ، والذي يظهر أن جهة المبالغة مختلفة ، فلذلك جمع بينهما ، فلا يكون من باب التوكيد.
فمبالغة فعلان مثل غضبان وسكران من حيث الامتلاء والغلبة ، ومبالغة فعيل من حيث التكرار والوقوع بمحال الرحمة ، ولذلك لا يتعدى فعلان ، ويتعدى فعيل.
تقول زيد رحيم المساكين كما تعدى فاعلاً ، قالوا زيد حفيظ علمك وعلم غيرك ، حكاه ابن سيده عن العرب.
ومن رأى أنهما بمعنى واحد ، ولم يذهب إلى توكيد أحدهما بالآخر ، احتاج أنه يخص كل واحد بشيء ، وإن كان أصل الموضوع عنده واحداً ليخرج بذلك عن التأكيد ، فقال مجاهد : رحمن الدنيا ورحيم الآخرة.
وروى ابن مسعود ، وأبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الرحمن رحمن الدنيا والرحيم رحيم الآخرة » وإذا صح هذا التفسير وجب المصير إليه.
وقال القرطبي : رحمن الآخرة ورحيم الدنيا.
وقال الضحاك : لأهل السماء والأرض.
وقال عكرمة : برحمة واحدة وبمائة رحمة.
وقال المزني : بنعمة الدنيا والدين.
وقال العزيزي : الرحمن بجميع خلقه في الأمطار ، ونعم الحواس ، والنعم العامة ، الرحيم بالمؤمنين في الهداية لهم واللطف بهم ، وقال المحاسبي : برحمة النفوس ورحمة القلوب.
وقال يحيى بن معاذ : لمصالح المعاد والمعاش.
وقال الصادق : خاص اللفظ بصيغة عامة في الرزق ، وعام اللفظ بصيغة خاصة في مغفرة المؤمن.
وقال ثعلب : الرحمن أمدح ، والرحيم ألطف ، وقيل : الرحمن المنعم بما لا يتصور جنسه من العباد ، والرحيم المنعم بما يتصور جنسه من العباد.
وقال أبو علي الفارسي : الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة ، يختص به الله ، والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين ، كما قال تعالى : { وكان بالمؤمنين رحيماً } ووصف الله تعالى بالرحمة مجاز عن إنعامة على عباده ، ألا ترى أن الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم ، أصابهم إحسانه فتكون الرحمة إذ ذاك صفة فعل؟ وقال قوم : هي إرادة الخير لمن أراد الله تعالى به ذلك ، فتكون على هذا صفة ذات ، وينبني على هذا الخلاف خلاف أخر ، وهو أن صفات الله تعالى الذاتية والفعلية أهي قديمة أم صفات الذات قديمة وصفات الفعل محدثة قولان؟ وأما الرحمة التي من العباد فقيل هي رقة تحدث في القلب ، وقيل هي قصد الخير أو دفع الشر ، لأن الإنسان قد يدفع الشر عمن لا يرق عليه ، ويوصل الخير إلى من لا يرق عليه.

وفي البسملة من ضرور البلاغة نوعان :
أحدهما : الحذف ، وهو ما يتعلق به الباء في بسم ، وقد مر ذكره ، والحذف قيل لتخفيف اللفظ ، كقولهم بالرفاء والبنين ، باليمن والبركة ، فقلت إلى الطعام ، وقوله تعالى في تسع آيات أي أعرست وهلموا واذهب ، قال أبو القاسم السهيلي : وليس كما زعموا ، إذ لو كان كذلك كان إظهاره وإضماره في كل ما يحذف تخفيفاً ، ولكن في حذفه فائدة ، وذلك أنه موطن ينبغي أن لا يقدم فيه سوى ذكر الله تعالى ، فلو ذكر الفعل ، وهو لا يستغني عن فاعله ، لم يكن ذكر الله مقدماً ، وكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى ، كما تقول في الصلاة الله أكبر ، ومعناه من كل شيء ، ولكن يحذف ليكون اللفظ في اللسان مطابقاً لمقصود القلب ، وهو أن لا يكون في القلب ذكر إلا الله عز وجل.
ومن الحذف أيضاً حذف الألف في بسم الله وفي الرحمن في الخط ، وذلك لكثرة الاستعمال.
النوع الثاني : التكرار في الوصف ، ويكون إما لتعظيم الموصوف ، أو للتأكيد ، ليتقرر في النفس.
وقد تعرض المفسرون في كتبهم لحكم التسمية في الصلاة ، وذكروا اختلاف العلماء في ذلك ، وأطالوا التفاريع في ذلك ، وكذلك فعلوا في غير ما آية وموضوع ، هذا كتب الفقه ، وكذلك تكلم بعضهم على التعوذ ، وعلى حكمه ، وليس من القرآن بإجماع.
ونحن في كتابنا هذا لا نتعرض لحكم شرعي ، إلا إذا كان لفظ القرآن يدل على ذلك الحكم ، أو يمكن استنباطه منه بوجه من وجوه الاستنباطات.
واختلف في وصل الرحيم بالحمد ، فقرأ قوم من الكوفيين بسكون الميم ، ويقفون عليها ويبتدئون بهمزة مقطوعة ، والجمهور على جر الميم ووصل الألف من الحمد.
وحكى الكسائي عن بعض العرب أنه يقرأ الرحيم الحمد بفتح الميم وصلة الألف ، كأنك سكنت الميم وقطعت الألف ، ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفت ولم تر ، وهذه قراءة عن أحد.
{ الحمد } الثناء على الجميل من نعمة أو غيرها باللسان وحده ، ونقيضه الذم ، وليس مقلوب مدح ، خلافاً لابن الأنباري ، إذ هما في التصريفات متساويان ، وإذ قد يتعلق المدح بالجماد ، فتمدح جوهرة ولا يقال تحمد ، والحمد والشكر بمعنى واحد ، أو الحمد أعم ، والشكر ثناء على الله تعالى بأفعاله ، والحمد ثناء بأوصافه ثلاثة أقوال ، أصحها أنه أعم ، فالحامد قسمان : شاكر ومثن بالصفات.
{ لله } اللام : للملك وشبهه ، وللتمليك وشبهه ، وللاستحقاق ، وللنسب ، وللتعليل ، وللتبليغ ، وللتعجب ، وللتبيين ، وللصيرورة ، وللظرفية بمعنى في أو عند أو بعد ، وللإنتهاء ، وللإستعلاء مثل : ذلك المال لزيد ، أدوم لك ما تدوم لي ، ووهبت لك ديناراً ،

{ جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } ، الجلباب للجارية ، لزيد عم ، { لتحكم بين الناس } ، قلت لك ، ولله عيناً ، من رأى ، من تفوق ، { هيت لك } { ليكون لهم عدواً وحزناً } { القسط ليوم القيامة } كتب لخمس خلون ، لدلوك الشمس ، { سقناه لبلد ميت } { يخرون للأذقان }
{ رب العالمين } الرب : السيد ، والمالك ، والثابت ، والمعبود ، والمصلح ، وزاد بعضهم بمعنى الصاحب ، مستدلاً بقوله :
فدنا له رب الكلاب بكفه . . .
بيض رهاف ريشهن مقزع
وبعضهم بمعنى الخالق العالم لا مفرد له ، كالأنام ، واشتقاقه من العلم أو العلامة ، ومدلوله كل ذي روح ، قاله ابن عباس ، أو الناس ، قاله البجلي ، أو الإنس والجن والملائكة ، قاله أيضاً ابن عباس ، أو الإنس والجن والملائكة والشياطين ، قاله أبو عبيدة والفراء ، أو الثقلان ، قاله ابن عطية ، أو بنو آدم ، قاله أبو معاذ ، أو أهل الجنة والنار ، قاله الصادق ، أو المرتزقون ، قاله عبد الرحمن بن زيد ، أو كل مصنوع ، قاله الحسن وقتادة ، أو الروحانيون ، قاله بعضهم ، ونقل عن المتقدمين أعداد مختلفة في العالمين وفي مقارها ، الله أعلم بالصحيح.
والجمهور قرأوا بضم دال الحمد ، وأتبع ابراهيم بن أبي عبلة ميمه لام الجر لضمة الدال ، كما أتبع الحسن وزيد بن علي كسرة الدال لكسرة اللام ، وهي أغرب ، لأن فيه إتباع حركة معرب لحركة غير إعراب ، والأول بالعكس.
وفي قراءة الحسن احتمال أن يكون الإتباع في مرفوع أو منصوب ، ويكون الإعراب إذ ذاك على التقديرين مقدراً منع من ظهوره شغل الكلمة بحركة الإتباع ، كما في المحكى والمدغم.
وقرأ هارون العتكي ، ورؤبة ، وسفيان بن عيينة الحمد بالنصب.
والحمد مصدر معرف بأل ، إما للعهد ، أي الحمد المعروف بينكم لله ، أو لتعريف الماهية ، كالدينار خير من الدرهم ، أي : دينار كان فهو خير من أي درهم كان ، فيستلزم إذ ذاك الأحمدة كلها ، أو لتعريف الجنس ، فيدل على استغراق الأحمدة كلها بالمطابقة.
والأصل في الحمد لا يجمع ، لأنه مصدر.
وحكى ابن الأعرابي : جمعه على أحمد كأنه راعى فيه جامعه اختلاف الأنواع ، قال :
وأبلج محمود الثناء خصصته . . .
بأفضل أقوالي وأفضل أحمدي
وقراءة الرفع أمكن في المعنى ، ولهذا أجمع عليها السبعة ، لأنها تدل على ثبوت الحمد واستقراره لله تعالى ، فيكون قد أخبر بأن الحمد مستقر لله تعالى ، أي حمده وحمد غيره.
ومعنى اللام في لله الاستحقاق ، ومن نصب ، فلا بد من عامل تقديره أحمد الله أو حمدت الله ، فيتخصص الحمد بتخصيص فاعله ، وأشعر بالتجدد والحدوث ، ويكون في حالة النصب من المصادر التي حذفت أفعالها ، وأقيمت مقامها ، وذلك في الأخبار ، نحو شكراً لا كفراً.
وقدر بعضهم العامل للنصب فعلاً غير مشتق من الحمد ، أي أقول الحمد لله ، أو الزموا الحمد لله ، كما حذفوه من نحو اللهم ضبعاً وذئباً ، والأول هو الصحيح لدلالة اللفظ عليه.
وفي قراءة النصب ، اللام للتبيين ، كما قال أعني لله ، ولا تكون مقوية للتعدية ، فيكون لله في موضع نصب بالمصدر لامتناع عمله فيه.

قالوا سقياً لزيد ، ولم يقولوا سقياً زيداً ، فيعملونه فيه ، فدل على أنه ليس من معمول المصدر ، بل صار على عامل آخر.
قرأ زيد بن علي وطائفة { رب العالمين } بالنصب على المدح ، وهي فصيحة لولا خفض الصفات بعدها ، وضعفت إذ ذاك.
على أن الأهوازي حكى في قراءة زيد بن علي أنه قرأ { رب العالمين ، الرحمن الرحيم } بنصب الثلاثة ، فلا ضعف إذ ذاك ، وإنما تضعف قراءة نصب رب ، وخفص الصفات بعدها لأنهم نصوا أنه لا اتباع بعد القطع في النعوت ، لكن تخريجها على أن يكون الرحمن بدلاً ، ولا سيما على مذهب الأعلم ، إذ لا يجيز في الرحمن أن يكون صفة ، وحسن ذلك على مذهب غيره ، كونه وصفاً خاصاً ، وكون البدل على نية تكرار العامل ، فكأنه مستأنف من جملة أخرى ، فحسن النصب.
وقول من زعم أنه نصب رب بفعل دل عليه الكلام قبله ، كأنه قيل نحمد الله رب العالمين ، ضعيف ، لأنه مراعاة التوهم ، وهو من خصائص العطف ، ولا ينقاس فيه.
ومن زعم أنه نصبه على البدل فضعيف للفصل بقوله الرحمن الرحيم ، ورب مصدر وصف به على أحد وجوه الوصف بالمصدر ، أو اسم فاعل حذفت ألفة ، فأصله راب ، كما قالوا رجل بار وبر ، وأطلقوا الرب على الله وحده ، وفي غيره قيد بالإضافة نحو رب الدار.
وأل في العالمين للاستغراق ، وجمع العالم شاذ لأنه اسم جمع ، وجمعه بالواو والنون أشذ للإخلال ببعض الشروط التي لهذا الجمع ، والذي أختاره أنه ينطلق على المكلفين لقوله تعالى : { إن في ذلك لآيات للعالمين } ، وقراءة حفص بكسر اللام توضح ذلك.
{ الرحمن الرحيم } تقدم الكلام عليهما في البسملة ، وهما مع قوله { رب العالمين } صفات مدح ، لأن ما قبلهما علم لم يعرض في التسمية به اشتراك فيخصص ، وبدأ أولاً بالوصف بالربوبية ، فإن كان الرب بمعنى السيد ، أو بمعنى المالك ، أو بمعنى المعبود ، كان صفة فعل للموصوف بها التصريف في المسود والمملوك والعابد بما أراد من الخير والشر ، فناسب ذلك الوصف بالرحمانية والرحيمية ، لينبسط أمل العبد في العفو إن زل ، ويقوى رجاؤه إن هفا ، ولا يصح أن يكون الرب بمعى الثابت ، ولا بمعنى الصاحب ، لامتناع إضافته إلى العالمين ، وإن كان بمعنى المصلح ، كان الوصف بالرحمة مشعراً بقلة الإصلاح ، لأن الحامل للشخص على إصلاح حال الشخص رحمته له.
ومضمون الجملة والوصف إن من كان موصوفاً بالربوبية والرحمة للمربوبين كان مستحقاً للحمد.
وخفض الرحمن الرحيم الجمهور ، ونصبهما أبو العالية وابن السميفع وعيسى بن عمرو ، ورفعهما أبو رزين العقيلي والربيع بن خيثم وأبو عمران الجوني ، فالخفض على النعت ، وقيل في الخفض إنه بدل أو عطف بيان ، وتقدم شيء من هذا.

والنصب والرفع للقطع.
وفي تكرار الرحمن الرحيم أن كانت التسمية آية من الفاتحة تنبيه على عظم قدر هاتين الصفتين وتأكيد أمرهما ، وجعل مكي تكرارها دليلاً على أن التسمية ليست بآية من الفاتحة ، قال : إذ لو كانت آية لكنا قد أتينا بآيتين متجاورتين بمعنى واحد ، وهذا لا يوجد إلا بفواصل تفصل بين الأولى والثانية.
قال : والفصل بينهما بالحمد لله رب العالمين كلا فصل ، قال : لأنه مؤخر يراد به التقديم تقديره الحمد لله ، الرحمن الرحيم ، رب العالمين ، وإنما قلنا بالتقديم لأن مجاورة الرحمة بالحمد أولى ، ومجاورة الملك بالملك أولى.
قال : والتقديم والتأخير كثير في القرآن ، وكلام مكي مدخول من غير وجه ، ولولا جلالة قائلة نزهت كتابي هذا عن ذكره.
والترتيب القرآني جاء في غاية الفصاحة لأنه تعالى وصف نفسه بصفة الربوبية وصفة الرحمة ، ثم ذكر شيئين ، أحدهما ملكه يوم الجزاء ، والثاني العبادة.
فناسب الربوبية للملك ، والرحمة العبادة.
فكان الأول للأول ، والثاني للثاني.
وقد ذكر المفسرون في علم التفسير الوقف ، وقد اختلف في أقسامه ، فقيل تام وكاف وقبيح وغير ذلك.
وقد صنف الناس في ذلك كتباً مرتبة على السور ، ككتاب أبي عمر ، والداني ، وكتاب الكرماني وغيرهما ، ومن كان عنده حظ في علم العربية استغنى عن ذلك.
{ مالك } قرأ مالك على وزن فاعل بالخفض ، عاصم ، والكسائي ، وخلف في اختياره ، ويعقوب ، وهي قراءة العشرة إلا طلحة ، والزبير ، وقراءة كثير من الصحابة منهم : أُبي ، وابن مسعود ، ومعاذ ، وابن عباس ، والتابعين منهم : قتادة والأعمش.
وقرأ ملك على وزن فعل بالخفض باقي السبعة ، وزيد ، وأبو الدرداء ، وابن عمر ، والمسور ، وكثير من الصحابة والتابعين.
وقرأ ملك على وزن سهل أبو هريرة ، وعاصم الجحدري ، ورواها الجعفي ، وعبد الوارث ، عن أبي عمرو ، وهي لغة بكر بن وائل.
وقرأ ملكي بإشباع كسرة الكاف أحمد بن صالح ، عن ورش ، عن نافع.
وقرأ ملك على وزن عجل أبو عثمان النهدي ، والشعبي ، وعطية ، ونسبها ابن عطية إلى أبي حياة.
وقال صاحب اللوامح : قرأ أنس بن مالك ، وأبو نوفل عمر بن مسلم بن أبي عدي ملك يوم الدين ، بنصب الكاف من غير ألف ، وجاء كذلك عن أبي حياة ، انتهى.
وقرأ كذلك ، إلا أنه رفع الكاف سعد بن أبي وقاص ، وعائشة ، ومورق العجلي.
وقرأ ملك فعلاً ماضياً أبو حياة ، وأبو حنيفة ، وجبير بن مطعم ، وأبو عاصم عبيد بن عمير الليثي ، وأبو المحشر عاصم بن ميمون الجحدري ، فينصبون اليوم.
وذكر ابن عطية أن هذه قراءة يحيى بن يعمر ، والحسن وعلي بن أبي طالب.
وقرأ مالك بنصب الكاف الأعمش ، وابن السميفع ، وعثمان بن أبي سليمان ، وعبد الملك قاضي الهند.
وذكر ابن عطية أنها قراءة عمر بن عبد العزيز ، وأبي صالح السمان ، وأبي عبد الملك الشامي.

وروى ابن أبي عاصم عن اليمان ملكاً بالنصب والتنوين.
وقرأ مالك برفع الكاف والتنوين عون العقيلي ، ورويت عن خلف بن هشام وأبي عبيد وأبي حاتم ، وبنصب اليوم.
وقرأ مالك يوم بالرفع والإضافة أبو هريرة ، وأبو حياة ، وعمر بن عبد العزيز بخلاف عنه ، ونسبها صاحب اللوامح إلى أبي روح عون بن أبي شداد العقيلي ، ساكن البصرة.
وقرأ مليك على وزن فعيل أُبي ، وأبو هريرة ، وأبو رجاء العطاردي.
وقرأ مالك بالإمالة البليغة يحيى بن يعمر ، وأيوب السختياني ، وبين بين قتيبة بن مهران ، عن الكسائي.
وجهل النقل ، أعني في قراءة الإمالة ، أبو علي الفارسي فقال : لم يمل أحد من القراءة ألف مالك ، وذلك جائز ، إلا أنه لا يقرأ بما يجوز إلا أن يأتي بذلك أثر مستفيض.
وذكر أيضاً أنه قرىء في الشاذ ملاك بالألف والتشديد للام وكسر الكاف.
فهذه ثلاث عشرة قراءة ، بعضها راجع إلى الملك ، وبعضها إلى الملك ، قال اللغويون : وهما راجعان إلى الملك ، وهو الربط ، ومنه ملك العجين.
وقال قيس بن الخطيم :
ملكت بها كفى فانهرت فتقها . . .
يرى قائماً من دونها ما وراءها
والأملاك ربط عقد النكاح ، ومن ملح هذه المادة أن جميع تقاليبها الستة مستعملة في اللسان ، وكلها راجع إلى معنى القوة والشدة ، فبينها كلها قدر مشترك ، وهذا يسمى بالإشتقاق الأكبر ، ولم يذهب إليه غير أبي الفتح.
وكان أبو علي الفارسي يأنس به في بعض المواضع وتلك التقاليب : ملك ، مكل ، كمكل ، لكم ، كمل ، كلم.
وزعم الفخر الرازي أن تقليب كمكل مهمل وليس بصحيح ، بل هو مستعمل بدليل ما أنشد الفراء من قول الشاعر :
فلما رآني قد حممت ارتحاله . . .
تملك لو يجدي عليه التملك
والملك هو القهر والتسليط على من تتأتى منه الطاعة ، ويكون ذلك باستحقاق وبغير استحقاق.
والملك هو القهر على من تتأتى منه الطاعة ، ومن لا تتأتى منه ، ويكون ذلك منه باستحقاق ، فبينهما عموم وخصوص من وجه.
وقال الأخفش : يقال ملك من الملك ، بضم الميم ، ومالك من الملك ، بكسر الميم وفتحها ، وزعموا أن ضم الميم لغة في هذا المعنى.
وروي عن بعض البغداديين لي في هذا الوادي ملك وملك بمعنى واحد.
{ يوم } ، اليوم هو المدة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، ويطلق على مطلق الوقت ، وتركيبه غريب ، أعني وجود مادة تكون فاء الكلمة فيها ياء وعينها واواً لم يأت من ذلك سوى يوم وتصاريفه ويوح اسم للشمس ، وبعضهم زعم أنه بوج بالباء ، والمعجمة بواحدة من أسفل.
{ الدين } الجزاء دناهم كما دانوا ، قاله قتادة ، والحساب { ذلك الدين القيِّم } ، قاله ابن عباس والقضاء { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } ، والطاعة في دين عمرو ، وحالت بيننا وبينك فدك ، قاله أبو الفضل والعادة ، كدينك من أم الحويرث قبلها ، وكنى بها هنا عن العمل ، قاله الفراء والملة ،

{ ورضيت لكم الإسلام ديناً } { إن الدين عند الله الإسلام } والقهر ، ومنه المدين للعبد ، والمدينة للأمة ، قاله يمان بن رئاب.
وقال أبو عمرو الزاهد : وإن أطاع وعصى وذل وعز وقهر وجار وملك.
وحكى أهل اللغة : دنته بفعله دَيناً ودِيناً بفتح الدال وكسرها جازيته.
وقيل : الدين المصدر ، والدين بالكسر الاسم ، والدين السياسة ، والديان السايس.
قال ذو الإصبع عنه : ولا أنت دياني فتحزوني ، والدين الحال.
قال النضر بن شميل : سألت أعرابياً عن شيء ، فقال : لو لقيتني على دين غير هذا لأخبرتك ، والدين الداء عن اللحياني وأنشد :
يا دين قلبك من سلمى وقد دينا . . .
ومن قرأ بجر الكاف فعلى معنى الصفة ، فإن كان بلفظ ملك على فعل بكسر العين أو إسكانها ، أو مليك بمعناه فظاهر لأنه وصف معرفة بمعرفة ، وإن كان بلفظ مالك أو ملاك أو مليك محولين من مالك للمبالغة بالمعرفة ، ويدل عليه قراءة من قرأ ملك يوم الدين فعلاً ماضياً ، وإن كان بمعنى الاستقبال ، وهو الظاهر لأن اليوم لم يوجد فهو مشكل ، لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال ، فإنه تكون إضافته غير محضة فلا يتعرف بالإضافة ، وإن أضيف إلى معرفة فلا يكون إذ ذاك صفة ، لأن المعرفة لا توصف بالنكرة ولا بدل نكرة من معرفة ، لأن البدل بالصفات ضعيف.
وحل هذا الإشكال هو أن اسم الفاعل ، إن كان بمعنى الحال أو الاستقبال ، جاز فيه وجهان : أحدهما ما قدمناه من أنه لا يتعرف بما أضيف إليه ، إذ يكون منوياً فيه الانفصال من الإضافة ، ولأنه عمل النصب لفظاً.
الثاني : أن يتعرف به إذا كان معرفة ، فيلحظ فيه أن الموصوف صار معروفاً بهذا الوصف ، وكان تقييده بالزمان غير معتبر ، وهذا الوجه غريب النقل ، لا يعرفه إلا من له اطلاع على كتاب سيبويه وتنقيب عن لطائفه.
قال سيبويه ، رحمه الله تعالى ، وزعم يونس والخليل أن الصفات المضافة التي صارت صفة للنكرة قد يجوز فيهن كلهن أن يكن معرفة ، وذلك معروف في كلام العرب ، انتهى.
واستثنى من ذلك باب الصفة المشبهة فقط ، فإنه لا يتعرف بالإضافة نحو حسن الوجه.
ومن رفع الكاف ونون أو لم ينون فعلى القطع إلى الرفع.
ومن نصب فعلى القطع إلى النصب ، أو على النداء والقطع أغرب لتناسق الصفات ، إذ لم يخرج بالقطع عنها.
ومن قرأ ملك فعلاً ماضياً فجملة خبرية لا موضع لها من الإعراب ، ومن أشبع كسرة الكاف فقد قرأ بنادر أو بما ذكر أنه لا يجوز إلا في الشعر ، وإضافة الملك أو الملك إلى يوم الدين إنما هو من باب الاتساع ، إذ متعلقهما غير اليوم.
والإضافة على معنى اللام ، لا على معنى في ، خلافاً لمن أثبت الإضافة بمعنى في ، ويبحث في تقرير هذا في النحو ، وإذا كان من الملك كان من باب.

طباخ ساعات الكرى زاد الكسل . . .
وظاهر اللغة تغاير الملك والمالك كما تقدم ، وقيل هما بمعنى واحد كالفره والفاره ، فإذا قلنا بالتغاير فقيل مالك أمدح لحسن إضافته إلى من لا تحسن إضافة الملك إليه ، نحو مالك الجن والإنس ، والملائكة والطير ، فهو أوسع لشمول العقلاء وغيرهم ، قال الشاعر :
سبحان من عنت الوجوه لوجهه . . .
ملك الملوك ومالك العفر
قال الأخفش ، ولا يقال هنا ملك ، ولقولهم مالك الشيء لمن يملكه ، وقد يكون ملكاً لا مالكاً نحو ملك العرب والعجم ، قاله أبو حاتم ، ولزيادته في البناء ، والعرب تعظم بالزيادة في البناء ، وللزيادة في أجزاء الثاني لزيادة الحروف ، ولكثرة من عليها من القراء ، ولتمكن التصرف ببيع وهبة وتمليك ، ولإبقاء الملك في يد المالك إذا تصرف بجور أو اعتداء أو سرف ، ولتعينه في يوم القيامة ، ولعدم قدرة الملوك على انتزاعه من الملك ، ولكثرة رجائه في سيده بطلب ما يحتاج إليه ، ولوجوب خدمته عليه ، ولأن المالك يطمع فيه ، والملك يطمع فيك ، ولأن له رأفة ورحمة ، والملك له هيبة وسياسة.
وقيل ملك أمدح وأليق إن لم يوصف به الله تعالى لإشعاره بالكثرة ولتمدحه بمالك الملك ، ولم يقل مالك الملك ، ولتوافق الابتداء والاختتام في قوله { ملك الناس } ، والاختتام لا يكون إلا بأشرف الأسماء ، ولدخول المالك تحت حكم الملك ، ولوصفه نفسه بالملك في مواضع ، ولعموم تصرفه فيمن حوته مملكته ، وقصر المالك على ملكه ، قاله أبو عبيدة ، ولعدم احتياج الملك إلى الإضافة ، أو مالك لا بد له من الإضافة إلى مملوك ، ولكنه أعظم الناس ، فكان أشرف من المالك.
قال أبو علي : حكى ابن السراج عمن اختار قراءة ملك كل شيء بقوله { رب العالمين } ، فقراءة مالك تقرير ، قال أبو علي ، ولا حجة في هذا ، لأن في التنزيل تقدم العام ، ثم ذكر الخاص منه { الخالق البارئ المصور } ، فالخالق يعم ، وذكر المصور لما في ذلك من التنبيه على الصنعة ووجوه الحكمة ، ومنه { وبالآخرة هم يوقنون } ، بعد قوله { الذين يؤمنون بالغيب } ، وإنما كرر تعظيماً لها ، وتنبيهاً على وجوب اعتقادها ، والرد على الكفرة الملحدين ، ومنه { الرحمن الرحيم } ، ذكر الرحمن الذي هو عام ، وذكر الرحيم بعده لتخصيص الرحمة بالمؤمنين في قوله { وكان بالمؤمنين رحيماً } انتهى.
وقال ابن عطية : وأيضاً فإن الرب يتصرف في كلام العرب بمعنى الملك ، كقوله :
ومن قبل ربيتني فصفت ربوب . . .
وغير ذلك من الشواهد ، فتنعكس الحجة على من قرأ ملك.
والمراد باليوم الذي أضيف إليه مالك أو ملك زمان ممتد إلى أن ينقضي الحساب ويستقر أهل الجنة فيها ، وأهل النار فيها ، ومتعلق المضاف إليه في الحقيقة هو الأمر ، كأنه قال مالك أو ملك الأمر في يوم الدين.
لكنه لما كان اليوم ظرفاً للأمر ، جاز أن يتسع فيتسلط عليه الملك أو المالك ، لأن الاستيلاء على الظرف استيلاء على المظروف.

وفائدة تخصيص هذه الإضافة ، وإن كان الله تعالى مالك الأزمنة كلها والأمكنة ومن حلها والملك فيها التنبيه على عظم هذا اليوم بما يقع فيه من الأمور العظام والأهوال الجسام من قيامهم فيه لله تعالى والاستشفاع لتعجيل الحساب والفصل بين المحسن والمسيء واستقرارهما فيما وعدهما الله تعالى به ، أو على أنه يوم يرجع فيه إلى الله جميع ما ملكه لعباده وخوّلهم فيه ويزول فيه ملك كل مالك قال تعالى : { وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً } { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة } قال ابن السراج : إن معنى { مالك يوم الدين } إنه يملك مجيئه ووقوعه ، فالإضافة إلى اليوم على قوله إضافة إلى المفعول به على الحقيقة ، وليس طرفاً اتسع فيه ، وما فسر به الدين من المعاني يصح إضافة اليوم إليه إلى معنى كل منها إلا الملة ، قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، وابن جريج وغيرهم : يوم الدين يوم الجزاء على الأعمال والحساب.
قال أبو علي : ويدل على ذلك { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت } ، و { اليوم تجزون ما كنتم تعملون } وقال مجاهد : يوم الدين يوم الحساب مدينين محاسبين ، وفي قوله : { مالك يوم الدين } دلالة على إثبات المعاد والحشر والحساب ، ولما اتصف تعالى بالرحمة ، انبسط العبد وغلب عليه الرجاء ، فنبه بصفة الملك أو المالك ليكون من عمله على وجل ، وأن لعمله يوماً تظهر له فيه ثمرته من خير وشر.
{ إياك } ، إيا تلحقه ياء المتكلم وكاف المخاطب وهاء الغائب وفروعها ، فيكون ضمير نصب منفصلاً لا اسماً ظاهراً أضيف خلافاً لزاعمه ، وهل الضمير هو مع لواحقه أو هو وحده؟ واللواحق حروف ، أو هو واللواحق أسماء أضيف هو إليها ، أو اللواحق وحدها ، وإيا زائدة لتتصل بها الضمائر ، أقوال ذكرت في النحو.
وأما لغاته فبكسر الهمزة وتشديد الياء ، وبها قرأ الجمهور ، وبفتح الهمزة وتشديد الياء ، وبها قرأ الفضل الرقاشي ، وبكسر الهمزة وتخفيف الياء ، وبها قرأ عمرو بن فائد ، عن أُبي ، وبإبدال الهمزة المكسورة هاء ، وبإبدال الهمزة المفتوحة هاء ، وبذلك قرأ ابن السوار الغنوي ، وذهاب أبي عبيدة إلى أن إيا مشتق ضعيف ، وكان أبو عبيدة لا يحسن النحو ، وإن كان إماماً في اللغات وأيام العرب.
وإذا قيل بالاشتقاق ، فاشتقاقه من لفظ ، أو من قوله :
فا ولذكراها إذا ما ذكرتها . . .
فتكون من باب قوة ، أو من الآية فتكون عينها ياء كقوله :
لم يبق هذا الدهر من إيائه . . .
قولان ، وهل وزنه إفعل وأصله إ أو و أو إ أو ي أو فعيل فأصله أو يو أو او يي أو فعول ، وأصله إو وو أو اويي أو فعلى ، فأصله أووى أواويا ، أقاويل كلها ضعيفة ، والكلام على تصاريفها حتى صارت إيا تذكر في علم النحو ، وإضافة إيا لظاهر نادر نحو : وإيا الشواب ، أو ضرورة نحو : دعني وإيا خالد ، واستعماله تحذيراً معروف فيحتمل ضميراً مرفوعاً يجوز أن يتبع بالرفع نحو : إياك أنت نفسك.

{ نعبد } ، العبادة : التذلل ، قاله الجمهور ، أو التجريد ، قاله ابن السكيت ، وتعديه بالتشديد مغاير لتعديه بالتخفيف ، نحو : عبدت الرجل ذللته ، وعبدت الله ذللت له.
وقرأ الحسن ، وأبو مجلز ، وأبو المتوكل : إياك يعبد بالياء مبنياً للمفعول ، وعن بعض أهل مكة نعبد بإسكان الدال.
وقرأ زيد بن علي ، ويحيى بن وثاب ، وعبيد بن عمير الليثي : نعبد بكسر النون.
{ نستعين } ، الاستعانة ، طلب العون ، والطلب أحد معاني استفعل ، وهي اثنا عشر معنى ، وهي : الطلب ، والاتحاد ، والتحول ، وإلقاء الشيء بمعنى ما صيغ منه وعده كذلك ، ومطاوعة افعل وموافقته ، وموافقة تفعل وافتعل والفعل المجرد ، والاغناء عنه وعن فعل مثل ذلك استطعم ، واستعبده ، واستنسر واستعظمه واستحسنه ، وإن لم يكن كذلك ، واستشلى مطاوع اشلى ، واستبل موافق مطاوع ابل ، واستكبر موافق تكبر ، وأستعصم موافق اعتصم ، واستغنى موافق غنى ، واستنكف واستحيا مغنيان عن المجرد ، واسترجع ، واستعان حلق عانته ، مغنيان عن فعل ، فاستعان طلب العون ، كاستغفر ، واستعظم.
وقال صاحب اللوامح : وقد جاء فيه وياك أبدل الهمزة واواً ، فلا أدري أَذالك عن الفراء أم عن العرب ، وهذا على العكس مما فروا إليه في نحو أشاح فيمن همز لأنهم فروا من الواو المكسورة إلى الهمزة ، واستثقالاً للكسرة على الواو.
وفي وياك فروا من الهمزة إلى الواو ، وعلى لغة من يستثقل الهمزة جملة لما فيها من شبه التهوع ، وبكون استفعل أيضاً لموافقة تفاعل وفعل.
حكى أبو الحسن بن سيده في المحكم : تماسكت بالشيء ومسكت به واستمسك به بمعنى واحد ، أي احتبست به ، قال ويقال : مسكت بالشيء وأمسكت وتمسكت ، احتبست ، انتهى.
فتكون معاني استفعل حينئذ أربعة عشر لزيادة موافقة تفاعل وتفعل.
وفتح نون نستعين قرأ بها الجمهور ، وهي لغة الحجاز ، وهي الفصحى.
وقرأ عبيد بن عمير الليثي ، وزر بن حبيش ، ويحيى بن وثاب ، والنخعي ، والأعمش ، بكسرها ، وهي لغة قيس ، وتميم ، وأسد ، وربيعة ، وكذلك حكم حرف المضارعة في هذا الفعل وما أشبهه.
وقال أبو جعفر الطوسي : هي لغة هذيل ، وانقلاب الواو ألفاً في استعان ومستعان ، وياء في نستعين ومستعين ، والحذف في الاستعانة مذكور في علم التصريف ، ويعدى استعان بنفسه وبالباء.
إياك مفعول مقدم ، والزمخشري يزعم أنه لا يقدم على العامل إلا للتخصيص ، فكأنه قال : ما نعبد إلا إياك ، وقد تقدم الرد عليه في تقديره بسم الله اتلوا ، وذكرنا نص سيبويه هناك.
فالتقديم عندنا إنما هو للاعتناء والاهتمام بالمفعول.
وسب أعرابي آخر فأعرض عنه وقال : إياك أعني ، فقال له : وعنك أعرض ، فقدما الأهم ، وإياك التفات لأنه انتقال من الغيبة ، إذ لو جرى على نسق واحد لكان إياه.
والانتقال من فنون البلاغة ، وهو الانتقال من الغيبة للخطاب أو التكلم ، ومن الخطاب للغيبة أو التكلم ، ومن التكلم للغيبة أو الخطاب.

والغيبة تارة تكون بالظاهر ، وتارة بالمضمر ، وشرطه أن يكون المدلول واحداً.
ألا ترى أن المخاطب بإياك هو الله تعالى؟ وقالوا فائدة هذا الالتفات إظهار الملكة في الكلام ، والاقتدار على التصرف فيه.
وقد ذكر بعضهم مزيداً على هذا ، وهو إظهار فائدة تخص كل موضع موضع ، ونتكلم على ذلك حيث يقع لنا منه شيء ، وفائدته في إياك نعبد أنه لما ذكر أن الحمد لله المتصف بالربوبية والرحمة والملك والملك لليوم المذكور ، أقبل الحامد مخبراً بأثر ذكره الحمد المستقر له منه ومن غيره ، أنه وغيره يعبده ويخضع له.
وكذلك أتى بالنون التي تكون له ولغيره ، فكما أن الحمد يستغرق الحامدين ، كذلك العبادة تستغرق المتكلم وغيره.
ونظير هذا أنك تذكر شخصاً متصفاً بأوصاف جليلة ، مخبراً عنه أخبار الغائب ، ويكون ذلك الشخص حاضراً معك ، فتقول له : إياك أقصد ، فيكون في هذا الخطاب من التلطف على بلوغ المقصود ما لا يكون في لفظ إياه ، ولأنه ذكر ذلك توطئة للدعاء في قوله اهدنا.
ومن ذهب إلى أن ملك منادى ، فلا يكون إياك التفاتاً لأنه خطاب بعد خطاب وإن كان يجوز بعد النداء الغيبة ، كما قال :
يا دار مية بالعلياء فالسند . . .
أقوت وطال عليها سالف الأبد
ومن الخطاب بعد النداء :
ألا يا اسلمى يا دار مي على البلى . . .
ولا زال منها بجرعائك القطر
ودعوى الزمخشري في أبيات امرىء القيس الثلاثة أن فيه ثلاثة التفاتات غير صحيح ، بل هما التفاتان :
الأول : خروج من الخطاب المفتتح به في قوله :
تطاول ليلك بالاثمد . . .
ونام الخلي ولم ترقد
إلى الغيبة في قوله :
وبات وباتت له ليلة . . .
كليلة ذي العائر الأرمد
الثاني : خروج من هذه الغيبة إلى التكلم في قوله : وذلك من نبأ جاءني.
وخبرته عن أبي الأسود وتأويل كلامه أنها ثلاث خطأ وتعيين.
إن الأول هو الانتقال من الغيبة إلى الحضور أشد خطأ لأن هذا الالتفات هو من عوارض الألفاظ لا من التقادير المعنوية ، وإضمار قولوا قبل الحمد لله ، وإضمارها أيضاً قبل إياك لا يكون معه التفات ، وهو قول مرجوح.
وقد عقد أرباب علم البديع باباً للالتفات في كلامهم ، ومن أجلهم كلاماً فيه ابن الأثير الجزري ، رحمه الله تعالى.
وقراءة من قرأ إياك يعبد بالياء مبنياً للمفعول مشكلة ، لأن إياك ضمير نصب ولا ناصب له وتوجيهها إن فيها استعارة والتفاتاً ، فالاستعارة إحلال الضمير المنصوب موضع الضمير المرفوع ، فكأنه قال أنت ، ثم التفت فأخبر عنه أخبار الغائب لما كان إياك هو الغائب من حيث المعنى فقال يعبد ، وغرابة هذا الالتفات كونه في جملة واحدة ، وهو ينظر إلى قول الشاعر :
أأنت الهلالي الذي كنت مرة . . .
سمعنا به والأرحبي المغلب
وإلى قول أبي كثير الهذلي :

يا لهف نفسي كان جلدة خالد . . .
وبياض وجهك للتراب الأعفر
وفسرت العبادة في إياك نعبد بأنها التذلل والخضوع ، وهو أصل موضوع اللغة أو الطاعة ، كقوله تعالى : { لا تعبد الشيطان } ، أو التقرب بالطاعة أو الدعاء أن الذين يستكبرون عن عبادتي ، أي عن دعائي ، أو التوحيد إلا ليعبدون أي ليوحدون ، وكلها متقاربة المعنى.
وقرنت الاستعانة بالعبادة للجمع بين ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى ، وبين ما يطلبه من جهته.
وقدمت العبادة على الاستعانة لتقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة لتحصل الإجابة إليها ، وأطلق العبادة والاستعانة لتتناول كل معبود به وكل مستعان عليه.
وكرر إياك ليكون كل من العبادة والاستعانة سِيْقا في جملتين ، وكل منهما مقصودة ، وللتنصيص على طلب العون منه بخلاف لو كان إياك نعبد ونستعين ، فإنه كان يحتمل أن يكون إخباراً بطلب لعون ، أي وليطلب العون من غير أن يعين ممن يطلب.
.
ونقل عن المنتمين للصلاح تقييدات مختلفة في العبادة والاستعانة ، كقول بعضهم : إياك نعبد بالعلم ، وإياك نستعين عليه بالمعرفة ، وليس في اللفظ ما يدل على ذلك.
وفي قوله : نعبد قالوا رد على الجبرية ، وفي نستعين رد على القدرية ، ومقام العبادة شريف ، وقد جاء الأمر به في مواضع ، قال تعالى : { واعبد ربك } { اعبدوا ربكم } ، والكناية به عن أشرف المخلوقين صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده } { وما أنزلنا على عبدنا } ، وقال تعالى ، حكاية عن عيسى ، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام { قال إني عبد الله } وقال تعالى وتقدس : { لا إله إلا أنا فاعبدني } فذكر العبادة عقيب التوحيد ، لأن التوحيد هو الأصل ، والعبادة فرعه.
وقالوا في قوله : إياك.
رد على الدهرية والمعطلة والمنكرين لوجود الصانع ، فإنه خطاب لموجود حاضر.
{ اهدنا } ، الهداية : الإرشاد والدلالة والتقدم ومنه الهوادي أو التبيين ، { وأما ثمود فهديناهم } أو الإلهام { أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } قال المفسرون : معناه ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها ، أو الدعاء ، ولكل قوم هاد أي داع والأصل في هدي أن يصل إلى ثاني معمولة باللام { يهدي للتي هي أقوم } أو إلى { لتهدي إلى صراط مستقيم } ثم يتسع فيه فيعدى إليه بنفسه ، ومنه { اهدنا الصراط } ، ون ضمير المتكلم ومعه غيره أو معظم نفسه.
ويكون في موضع رفع ونصب وجر.
{ الصراط } الطريق ، وأصله بالسين من السرط ، وهو اللقم ، ومنه سمي الطريق لقماً ، وبالسين على الأصل قرأ قبل ورويس ، وإبدال سينه صاداً هي الفصحى ، وهي لغة قريش ، وبها قرأ الجمهور ، وبها كتبت في الإمام ، وزاياً لغة رواها الأصمعي عن أبي عمرو ، وأشمامها زاياً لغة قيس ، وبه قرأ حمزة بخلاف وتفصيل عن رواته.
وقال أبو علي : وروي عن أبي عمرو ، والسين والصاد والمضارعة بين الزاي والصاد ، ورواه عنه العريان عن أبي سفيان ، وروى الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأها بزاي خالصة.
قال بعض اللغويين : ما حكاه الأصمعي في هذه القراءة خطأ منه إنما سمع أبا عمرو يقرؤها بالمضارعة فتوهمها زاياً ، ولم يكن الأصمعي نحوياً فيؤمن على هذا.

وحكى هذا الكلام أبو علي عن أبي بكر بن مجاهد ، وقال أبو جعفر الطوسي في تفسيره ، وهو إمام من أئمة الإمامية : الصراط بالصاد لغة قريش ، وهي اللغة الجيدة ، وعامة العرب يجعلونها سيناً ، والزاي لغة لعذرة ، وكعب ، وبني القين.
وقال أبو بكر بن مجاهد ، وهذه القراءة تشير إلى أن قراءة من قرأ بين الزاي والصاد تكلف حرف بين حرفين ، وذلك صعب على اللسان ، وليس بحرف ينبني عليه الكلام ، ولا هو من حروف المعجم.
لست أدفع أنه من كلام فصحاء العرب ، إلا أن الصاد أفصح وأوسع ، ويذكر ويؤنث ، وتذكيره أكثر.
وقال أبو جعفر الطوسي : أهل الحجاز يؤنثون الصراط كالطريق ، والسبيل والزقاق والسوق ، وبنو تميم يذكرون هذا كله ويجمع في الكثرة على سرط ، نحو كتاب وكتب ، وفي القلة قياسه أسرطه ، نحو حمار وأحمره ، هذا إذا كان الصراط مذكراً ، وأما إذا أنث فقياسه أفعل نحو ذراع وأذرع وشمال وأشمل.
وقرأ زيد بن علي ، والضحاك ، ونصر بن علي ، عن الحسن : اهدنا صراطاً مستقيماً ، بالتنوين من غير لام التعريف ، كقوله : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ، صراط الله } { المستقيم } ، استقام : استفعل بمعنى الفعل المجرد من الزوائد ، وهذا أحد معاني استفعل ، وهو أن يكون بمعنى الفعل المجرد ، وهو قام ، والقيام هو الانتصاب والاستواء من غير اعوجاج.
{ صراط الذين } اسم موصول ، والأفصح كونه بالياء في أحواله الثلاثة ، وبعض العرب يجعله بالواو وفي حالة الرفع ، واستعماله بحذف النون جائز ، وخص بعضهم ذلك بالضرورة ، إلا أن كان لغير تخصيص فيجوز في غيرها ، وسمع حذف أل منه فقالوا : الذين ، وفيما تعرف به خلاف ذكر في النحو ، ويخص العقلاء بخلاف الذي ، فإنه ينطلق على ذي العلم وغيره.
{ أنعمت } ، النعمة : لين العيش وخفضه ، ولذلك قيل للجنوب النعامي للين هبوبها ، وسميت النعامة للين سهمها : نعم إذا كان في نعمة ، وأنعمت عينه أي سررتها ، وأنعم عليه بالغ في التفضيل عليه ، أي والهمزة في أنعم بجعل الشيء صاحب ما صيغ منه ، إلا أنه ضمن معنى التفضل ، فعدى بعلى ، وأصله التعدية بنفسه.
أنعمته أي جعلته صاحب نعمة ، وهذا أحد المعاني التي لأفعل ، وهي أربعة وعشرون معنى ، هذا أحدها.
والتعدية ، والكثرة ، والصيرورة ، والإعانة ، والتعريض ، والسلب ، وإصابة الشيء بمعنى ما صيغ منه ، وبلوغ عدد أو زمان أو مكان ، وموافقة ثلاثي ، وإغناء عنه ، ومطاوعة فعل وفعل ، والهجوم ، ونفي الغريزة ، والتسمية ، والدعاء ، والاستحقاق ، والوصول ، والاستقبال ، والمجيء بالشيء والتفرقة مثل ذلك أدنيته وأعجبني المكان ، وأغد البعير وأحليت فلاناً ، وأقبلت فلاناً ، واشتكيت الرجل ، وأحمدت فلاناً ، وأعشرت الدراهم ، وأصبحنا ، وأشأم القوم ، وأحزنه بمعنى حزنه ، وأرقل ، وأقشع السحاب مطاوع قشع الريح السحاب ، وأفطر مطاوع فطرته ، وأطلعت عليهم ، وأستريح ، وأخطيته سميته مخطئاً ، وأسقيته ، وأحصد الزرع ، وأغفلته وصلت غفلتي اليه ، وافقته استقبلته بأف هكذا مثل هذا.

وذكر بعضهم أن أفعل فعل ، ومثل الاستقبال أيضاً بقولهم : أسقيته أي استقبلته بقولك سقياً لك ، وكثرت جئت بالكثير ، وأشرقت الشمس أضاءت ، وشرقت طلعت.
التاء المتصلة بأنعم ضمير المخاطب المذكر المفرد ، وهي حرف في أنت ، والضميران فهو مركب.
{ عليهم } ، على : حرف جر عند الأكثرين ، إلا إذا جرت بمن ، أو كانت في نحو هون عليك.
ومذهب سيبويه أنها إذا جرت اسم ظرف ، ولذلك لم يعدها في حروف الجر ، ووافقه جماعة من متأخري أصحابنا ومعناها الاستعلاء حقيقة أو مجازاً ، وزيد أن تكون بمعنى عن ، وبمعنى الباء ، وبمعنى في ، وللمصاحبة ، وللتعليل ، وبمعنى من ، وزائدة ، مثل ذلك { كل من عليها فان } { فضلنا بعضهم على بعض } ، بعد على كذا حقيق علي أن لا أقول على ملك سليمان { وآتى المال على حبه } { ولتكبروا الله على ما هداكم } { حافظون إلا على أزواجهم }
أبى الله إلا أن سرحة مالك . . .
على كل أفنان العضاه تروق
أي تروق كل أفنان العضاة.
هم ضمير جمع غائب مذكر عاقل ، ويكون في موضع رفع ونصب وجر.
وحكى اللغويون في عليهم عشر لغات ضم الهاء ، وإسكان الميم ، وهي قراءة حمزة.
وكسرها وإسكان الميم ، وهي قراءة الجمهور.
وكسر الهاء والميم وياء بعدها ، وهي قراءة الحسن.
وزاد ابن مجاهد أنها قراءة عمر بن فائد.
وكذلك بغير ياء ، وهي قراءة عمرو بن فائد.
وكسر الهاء وضم الميم واو بعدها ، وهي قراءة ابن كثير ، وقالون بخلاف عنه.
وكسر الهاء وضم الميم بغير واو وضم الهاء والميم وواو بعدها ، وهي قراءة الأعرج والخفاف عن أبي عمرو.
وكذلك بدون واو وضم الهاء وكسر الميم بياء بعدها.
كذلك بغير ياء.
وقرىء بهما ، وتوضيح هذه القراءآت بالخط والشكل : عليهم ، عليهم ، عليهموا ، عليهم ، عليهمي ، عليهم ، عليهم ، عليهمي ، عليهم ، عليهموا.
وملخصها ضم الهاء مع سكون الميم ، أو ضمها بإشباع ، أو دونه ، أو كسرها بإشباع ، أو دونه وكسر الهاء مع سكون الميم ، أو كسرها بإشباع ، أو دونه ، أو ضمها بإشباع ، أو دونه ، وتوجيه هذه القراءآت ذكر في النحو.
اهدنا صورته صورة الأمر ، ومعناه الطلب والرغبة ، وقد ذكر الأصوليون لنحو هذه الصيغة خمسة عشر محملاً ، وأصل هذه الصيغة أن تدل على الطلب ، لا على فور ، ولا تكرار ، ولا تحتم ، وهل معنى اهدنا ارشدنا ، أو وفقنا ، أو قدمنا ، أو ألهمنا ، أو بين لنا أو ثبتنا؟ أقوال أكثرها عن ابن عباس ، وآخرها عن علي وأُبي.
وقرأ ثابت البناني بصرنا الصراط ، ومعنى الصراط القرآن ، قاله علي وابن عباس : وذكر المهدوي أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فسره بكتاب الله أو الإيمان وتوابعه ، أو الإسلام وشرائعه ، أو السبيل المعتدل ، أو طريق النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر وعمر ، قاله أبو العالية والحسن ، أو طريق الحج ، قاله فضيل بن عياض ، أو السنن ، قاله عثمان ، أو طريق الجنة ، قاله سعيد بن جبير ، أو طريق السنة والجماعة ، قاله القشيري ، أو طريق الخوف والرجاء ، قاله الترمذي ، أو جسر جهنم ، قاله عمرو بن عبيد.

وروي عن المتصوفة في قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } أقوال ، منها : قول بعضهم : { اهدنا الصراط المستقيم } بالغيبوبة عن الصراط لئلا يكون مربوطاً بالصراط ، وقول الجنيد أن سؤال الهداية عند الحيرة من أشهار الصفات الأزلية ، فسألوا الهداية إلى أوصاف العبودية لئلا يستغرقوا في الصفات الأزلية.
وهذه الأقوال ينبو عنها اللفظ ، ولهم فيما يذكرون ذوق وإدراك لم نصل نحن إليه بعد.
وقد شحنت التفاسير بأقوالهم ، ونحن نلم بشيء منها لئلا يظن أنا إنما تركنا ذكرها لكوننا لم نطلع عليها.
وقد رد الفخر الرازي على من قال إن الصراط المستقيم هو القرآن أو الإسلام وشرائعه ، قال : لأن المراد صراط الذين أنعمت عليهم من المتقدمين ولم يكن لهم القرآن ولا الإسلام ، يعني بالإسلام هذه الملة الإسلامية المختصة بتكاليف لم تكن تقدمتها.
وهذه الرد لا يتأتى له إلا إذا صح أن الذين أنعم الله عليهم هم متقدمون ، وستأتي الأقاويل في تفسير الذين أنعم الله عليهم ، واتصال ن باهد مناسب لنعبد ونستعين لأنه لما أخبر المتكلم أنه هو ومن معه يعبدون الله ويستعينونه سأل له ولهم الهداية إلى الطريق الواضح ، لأنهم بالهداية إليه تصح منهم العبادة.
ألا ترى أن من لم يهتد إلى السبيل الموصلة لمقصوده لا يصح له بلوغ مقصوده؟ وقرأ الحسن ، والضحاك : صراطاً مستقيماً دون تعريف.
وقرأ جعفر الصادق : صراط مستقيم بالإضافة ، أي الدين المستقيم.
فعلى قراءة الحسن والضحاك يكون صراط الذين بدل معرفة من نكره ، كقوله تعالى : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ، صراط الله } ، وعلى قراءة الصادق وقراءات الجمهور تكون بدل معرفة من معرفة صراط الذين بدل شيء من شيء ، وهما بعين واحدة ، وجيء بها للبيان لأنه لما ذكر قبل { اهدنا الصراط المستقيم } كان فيه بعض إبهام ، فعينه بقوله : { صراط الذين } ليكون المسؤول الهداية إليه ، قد جرى ذكره مرتين ، وصار بذلك البدل فيه حوالة على طريق من أنعم الله عليهم ، فيكون ذلك أثبت وأوكد ، وهذه هي فائدة نحو هذا البدل ، ولأنه على تكرار العامل ، فيصير في التقدير جملتين ، ولا يخفى ما في الجملتين من التأكيد ، فكأنهم كرر واطلب الهداية.
ومن غريب القول أن الصراط الثاني ليس الأول ، بل هو غيره ، وكأنه قرىء فيه حرف العطف ، وفي تعيين ذلك اختلاف.
قيل هو العلم بالله والفهم عنه ، قاله جعفر بن محمد ، وقيل التزام الفرائض واتباع السنن ، وقيل هو موافقه الباطن للظاهر في إسباغ النعمة.
قال تعالى : { وأسبغ عليكم نعمهُ ظاهرة وباطنة }

وقرأ : صراط من أنعمت عليهم ، ابن مسعود ، وعمر ، وابن الزبير ، وزيد بن علي.
والمنعم عليهم هنا الأنبياء أو الملائكة أو أمة موسى وعيسى الذين لم يغيروا ، أو النبي صلى الله عليه وسلم أو النبيون والصديقون والشهداء والصالحون ، أو المؤمنون ، قاله ابن عباس.
أو الأنبياء والمؤمنون ، أو المسلمون ، قاله وكيع ، أقوال ، وعزا كثيراً منها إلى قائلها ابن عطية ، فقال : قال ابن عباس : والجمهور أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، انتزعوا ذلك من آية النساء.
وقال ابن عباس أيضاً : هم المؤمنون.
وقال الحسن : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقالت فرقة : مؤمنو بني إسرائيل.
وقال ابن عباس : أصحاب موسى قبل أن يبدلوا.
وقال قتادة : الأنبياء خاصة.
وقال أبو العالية : محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، انتهى.
ملخصاً ولم يقيد الأنعام ليعم جميع الأنعام ، أعني عموم البدل.
وقيل أنعم عليهم بخلقهم للسعادة ، وقيل بأن نجاهم من الهلكة ، وقيل بالهداية واتباع الرسول ، وروي عن المتصوفة تقييدات كثيرة غير هذه ، وليس في اللفظ ما يدل على تعيين قيد.
واختلف هل لله نعمة على الكافر؟ فأثبتها المعتزلة ونفاها غيرهم.
وموضع عليهم نصب ، وكذا كل حرف جر تعلق بفعل ، أو ما جرى مجراه ، غير مبني للمفعول.
وبناء أنعمت للفاعل استعطاف لقبول التوسل بالدعاء في الهداية وتحصيلها ، أي طلبنا منك الهداية ، إذ سبق إنعامك ، فمن إنعامك إجابة سؤالنا ورغبتنا ، كمثل أن تسأل من شخص قضاء حاجة ونذكره بأن من عادته الإحسان بقضاء الحوائج ، فيكون ذلك آكد في اقتضائها وأدعى إلى قضائها.
وانقلاب الفاعل مع المضمر هي اللغة الشهرى ، ويجوز إقرارها معه على لغة ، ومضمون هذه الجملة طلب استمرار الهداية إلى طريق من أنعم الله عليهم ، لأن من صدر منه حمد الله وأخبر بأنه يعبده ويستعينه فقد حصلت له الهداية ، لكن يسأل دوامها واستمرارها.
{ غير } مفرد مذكر دائماً وإذا أريد به المؤنث جاز تذكير الفعل حملاً على اللفظ ، وتأنيثه حملاً على المعنى ، ومدلوله المخالفة بوجه مّا ، وأصله الوصف ، ويستثنى به ويلزم الإضافة لفظاً أو معنى ، وإدخال أل عليه خطأ ولا يتعرف ، وإن أضيف إلى معرفة.
ومذهب ابن السراج أنه إذا كان المغاير واحداً تعرف بإضافته إليه ، وتقدم عن سيبويه أن كل ما إضافته غير محضة ، قد يقصد بها التعريف ، فتصير محضة ، فتتعرف إذ ذاك غير بما تضاف إليه إذا كان معرفة ، وتقرير هذا كله في كتب النحو.
وزعم البيانيون أن غير أو مثلاً في باب الإسناد إليهما مما يكاد يلزم تقديمه ، قالوا نحو قولك غيرك يخشى ظلمه ، ومثلك يكون للمكرمات ونحو ذلك ، مما لا يقصد فيه بمثل إلى إنسان سوى الذي أضيف إليه ، ولكنهم يعنون أن كل من كان مثله في الصفة كان من مقتضى القياس ، وموجب العرف أن يفعل ما ذكر ، وقوله :

غيري بأكثر هذا الناس ينخدع . . .
غرضه أنه ليس ممن ينخدع ويغتر ، وهذا المعنى لا يستقيم فيهما إذا لم يقدما نحو : يكون للمكرمات مثلك ، وينخدع بأكثر هذا الناس غيري ، فأنت ترى الكلام مقلوباً على جهته.
{ المغضوب عليهم } ، الغضب : تغير الطبع لمكروه ، وقد يطلق على الإعراض لأنه من ثمرته.
لا حرف يكون للنفي وللطلب وزائداً ، ولا يكون إسماً خلافاً للكوفيين.
{ ولا الضالين } ، والضلال : الهلاك ، والخفاء ضل اللبن في الماء ، وقيل أصله الغيبوبة في كتاب لا يضل ربي ، وضللت الشيء جهلت المكان الذي وضعته فيه ، وأضللت الشيء ضيعته ، وأضل أعمالهم ، وضل غفل ونسي ، وأنا من الضالين ، { أن تضل إحداهما } ، والضلال سلوك غير القصد ، ضل عن الطريق سلك غير جادتها ، والضلال الحيرة ، والتردد ، ومنه قيل لحجر أملس يردده الماء في الوادي ضلضلة ، وقد فسر الضلال في القرآن بعدم العلم بتفصيل الأمور وبالمحبة ، وسيأتي ذلك في مواضعه ، والجر في غير قراءة الجمهور.
وروى الخليل عن ابن كثير النصب ، وهي قراءة عمر ، وابن مسعود ، وعلي ، وعبد الله بن الزبير.
فالجر على البدل من الذين ، عن أبي علي ، أو من الضمير في عليهم ، وكلاهما ضعيف ، لأن غيرا أصل وضعه الوصف ، والبدل بالوصف ضعيف ، أو على النعت عن سيبويه ، ويكون إذ ذاك غير تعرفت بما أضيفت إليه ، إذ هو معرفة على ما نقله سيبويه ، في أن كل ما أضافته غير محضة قد تتمحض فيتعرف إلا في الصفة المشبهة ، أو على ما ذهب إليه ابن السراج ، إذ وقعت غير على مخصوص لا شائع ، أو على أن الذين أريد بهم الجنس لا قوم بأعيانهم.
قالوا كما وصفوا المعرف بال الجنسية بالجملة ، وهذا هدم لما اعتزموا عليه من أن المعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة ، ولا أختار هذا المذهب وتقرير فساده في النحو والنصب على الحال من الضمير في عليهم ، وهو الوجه أو من الذين قاله المهدوي وغيره ، وهو خطأ ، لأن الحال من المضاف إليه الذي لا موضع له لا يجوز ، أو على الاستثناء ، قاله الأخفش ، والزجاج وغيرهما ، وهو استثناء منقطع ، إذ لم يتناوله اللفظ السابق ، ومنعه القراء من أجل لا في قوله { ولا الضالين } ، ولم يسوغ في النصب غير الحال ، قال لأن لا ، لا تزاد إلا إذا تقدم النفي ، نحو قول الشاعر :
ما كان يرضى رسول الله فعلهم . . .
والطيبان أبو بكر ولا عمر
ومن ذهب إلى الاستثناء جعل لا صلة ، أي زائدة مثلها في قوله تعالى : { ما منعك أن لا تسجد } وقول الراجز :
فما ألوم البيض أن لا تسخرا . . .
وقول الأحوص :
ويلجئني في اللهو أن لا أحبه . . .
واللهو داع دائب غير غافل
قال الطبري أي أن تسخر وأن أحبه ، وقال غيره معناه إرادة أن لا أحبه ، فلا فيه متمكنة ، يعني في كونها نافية لا زائدة ، واستدلوا أيضاً على زيادتها ببيت أنشده المفسرون ، وهو :

أبى جوده لا البخل واستعجلت به . . .
نعم من فتى لا يمنع الجود قائله
وزعموا أن لا زائدة ، والبخل مفعول بأبي ، أي أبى جوده البخل ، ولا دليل في ذلك ، بل الأظهر أن لا مفعول بأبي ، وأن لفظة لا لا تتعلق بها ، وصار إسناداً لفظياً ، ولذلك قال : واستعجلت به نعم ، فجعل نعم فاعلة بقوله استعجلت ، وهو إسناد لفظي ، والبخل بدل من لا أو مفعول من أجله ، وقيل انتصب غير بإضمار أعني وعزى إلى الخليل ، وهذا تقدير سهل ، وعليهم في موضع رفع بالمغضوب على أنه مفعول لم يسم فاعله ، وفي إقامة الجار والمجرور مقام الفاعل ، إذا حذف خلاف ذكر في النحو.
ومن دقائق مسائلة مسألة يغني فيها عن خبر المبتدأ ذكرت في النحو ، ولا في قوله : { ولا الضالين } لتأكيد معنى النفي ، لأن غير فيه النفي ، كأنه قيل لا المغضوب عليهم ولا الضالين ، وعين دخولها العطف على قوله المغضوب عليهم لمناسبة غير ، ولئلا يتوهم بتركها عطف الضالين على الذين.
وقرأ عمر وأبي وغير الضالين ، وروي عنهما في الراء في الحرفين النصب والخفض ، ويدل على أن المغضوب عليهم هم غير الضالين ، والتأكيد فيها أبعد ، والتأكيد في لا أقرب ، ولتقارب معنى غير من معنى لا ، أتى الزمخشري بمسألة ليبين بها تقاربهما فقال : وتقول أنا زيداً غير ضارب ، مع امتناع قولك أنا زيداً مثل ضارب ، لأنه بمنزلة قولك أنا زيداً لا ضارب ، يريد أن العامل إذا كان مجروراً بالإضافة فمعموله لا يجوز أن يتقدم عليه ولا على المضاف ، لكنهم تسمحوا في العامل المضاف إليه غير ، فأجازوا تقديم معموله على غير إجراء لغير مجرى لا ، فكما أن لا يجوز تقديم معمول ما بعدها عليها ، فكذلك غير.
وأوردها الزمخشري على أنها مسألة مقررة مفروغ منها ، ليقوي بها التناسب بين غير ولا ، إذ لم يذكر فيها خلافاً.
وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري مذهب ضعيف جداً ، بناه على جواز أنا زيداً لا ضارب ، وفي تقديم معمول ما بعد لا عليها ثلاثة مذاهب ذكرت في النحو ، وكون اللفظ يقارب اللفظ في المعنى لا يقضى له بأن يجري أحكامه عليه ، ولا يثبت تركيب إلا بسماع من العرب ، ولم يسمع أنا زيداً غير ضارب.
وقد ذكر أصحابنا قول من ذهب إلى جواز ذلك وردوه ، وقدر بعضهم في غير المغضوب محذوفاً ، قال التقدير غير صراط المغضوب عليهم ، وأطلق هذا التقدير فلم يقيده بجر غير ولا نصبه ، وهذا لا يتأتى إلا بنصب غير ، فيكون صفة لقوله الصراط ، وهو ضعيف لتقدم البدل على الوصف ، والأصل العكس ، أو صفة للبدل ، وهو صراط الذين ، أو بدلاً من الصراط ، أو من صراط الذين ، وفيه تكرار الإبدال ، وهي مسألة لم أقف على كلام أحد فيها ، إلا أنهم ذكروا ذلك في بدل النداء ، أو حالاً من الصراط الأول أو الثاني.

وقرأ أيوب السختياني : ولا الضألين ، بإبدال الألف همزة فراراً من التقاء الساكنين.
وحكى أبو زيد دأبة وشأبة في كتاب الهمز ، وجاءت منه ألفاظ ، ومع ذلك فلا ينقاس هذا الإبدال لأنه لم يكثر كثرة توجب القياس ، نص على أنه لا ينقاس النحويون ، قال أبو زيد : سمعت عمرو بن عبيد يقرأ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جأن ، فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب دأبة وشأبة.
قال أبو الفتح : وعلى هذه اللغة قول كثير :
إذا ما العوالي بالعبيط احمأرت . . .
وقول الآخر :
وللأرض إما سودها فتجلت . . .
بياضاً وإما بيضها فادهأمت
وعلى ما قال أبو الفتح إنها لغة ، ينبغي أن ينقاس ذلك ، وجعل الإنعام في صلة الذين ، والغضب في صلة أل ، لأن صلة الذين تكون فعلاً فيتعين زمانه ، وصلة أل تكون اسماً فينبهم زمانه ، والمقصود طلب الهداية إلى صراط من ثبت إنعام الله عليه وتحقق ذلك ، وكذلك أتى بالفعل ماضياً وأتى بالإسم في صلة أن ليشمل سائر الأزمان ، وبناه للمفعول ، لأن من طلب منه الهداية ونسب الأنعام إليه لا يناسب نسبة الغضب إليه ، لأنه مقام تلطف وترفق وتذلل لطلب الإحسان ، فلا يناسب مواجهته بوصف الانتقام ، وليكون المغضوب توطئة لختم السورة بالضالين لعطف موصول على موصول مثله لتوافق آخر الآي.
والمراد بالإنعام ، الإنعام الديني ، والمغضوب عليهم والضالين عام في كل من غضب عليه وضل.
وقيل المغضوب عليهم : اليهود ، والضالّون النصارى ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وابن زيد.
وروي هذا عن عدي بن حاتم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا صح هذا وجب المصير إليه ، وقيل اليهود والمشركون ، وقيل غير ذلك.
وقد روي في كتب التفسير في الغضب والضلال قيود من المتصوفة لا يدل اللفظ عليها ، كقول بعضهم غير المغضوب عليهم ، بترك حسن الأدب في أوقات القيام بخدمته ، ولا الضالين ، برؤية ذلك ، وقيل غير هذا.
والغضب من الله تعالى إرادة الانتقام من العاصي لأنه عالم بالعبد قبل خلقه وقبل صدور المعصية منه ، فيكون من صفات الذات أو إحلال العقوبة به ، فيكون من صفات الأفعال ، وقدم الغضب على الضلال ، وإن كان الغضب من نتيجة الضلال ضل عن الحق فغضب عليه لمجاورة الأنعام ، ومناسبة ذكره قرينة ، لأن الإنعام يقابل بالانتقام ، ولا يقابل الضلال الإنعام؛ فالإنعام إيصال الخير إلى المنعم عليه ، والانتقام إيصال الشر إلى المغضوب عليه ، فبينهما تطابق معنوي ، وفيه أيضاً تناسب التسجيع ، لأن قوله ولا الضالين ، تمام السورة ، فناسب أواخر الآي ، ولو تأخر الغضب ، ومتعلقه لما ناسب أواخر الآي.
وكان العطف بالواو الجامعة التي لا دلالة فيها على التقديم والتأخير لحصول هذا المعنى من مغايرة جمع الوصفين ، الغضب عليه ، والضلال لمن أنعم الله عليه ، وإن فسر اليهود والنصارى.

فالتقديم إما للزمان أو لشدة العداوة ، لأن اليهود أقدم وأشد عداوة من النصارى.
وقد أنجر في غضون تفسير هذه السورة الكريمة من علم البيان فوائد كثيرة لا يهتدي إلى استخراجها إلا من كان توغل في فهم لسان العرب ، ورزق الحظ الوافر من علم الأدب ، وكان عالماً بافتنان الكلام ، قادراً على إنشاء النثار البديع والنظام.
وأما من لا اطلاع له على كلام العرب ، وجسا طبعه حتى عن الفقرة الواحدة من الأدب ، فسمعه عن هذا الفن مسدود ، وذهنه بمعزل عن هذا المقصود.
قالوا : وفي هذه السورة الكريمة من أنواع الفصاحة والبلاغة أنواع :
النوع الأول : حسن الافتتاح وبراعة المطلع ، فإن كان أولها بسم الله الرحمن الرحيم ، على قول من عدها منها ، فناهيك بذلك حسناً إذ كان مطلعها ، مفتتحاً باسم الله ، وإن كان أولها الحمد لله ، فحمد الله والثناء عليه بما هو أهله ، ووصفه بماله من الصفات العلية أحسن ما افتتح به الكلام ، وقدم بين يدي النثر والنظام ، وقد تكرر الافتتاح بالحمد في كثير من السور ، والمطالع تنقسم إلى حسن وقبيح ، والحسن إلى ظاهر وخفي على ما قسم في علم البديع.
النوع الثاني : المبالغة في الثناء ، وذلك لعموم أل في الحمد على التفسير الذي مر.
النوع الثالث : تلوين الخطاب على قول بعضهم ، فإنه ذكر أن الحمد لله صيغته صيغة الخبر ، ومعناه الأمر ، كقوله : { لا ريب فيه } ومعناه النهي.
النوع الرابع : الاختصاص باللام التي في لله ، إذ دلت على أن جميع المحامد مختصة به ، إذ هو مستحق لها وبالإضافة في ملك يوم الدين لزوال الأملاك والممالك عن سواه في ذلك اليوم ، وتفرده فيه بالملك والملك ، قال تعالى : { لمن الملك اليوم } ولأنه لا مجازى في ذلك اليوم على الأعمال سواه.
النوع الخامس : الحذف ، وهو على قراءة من نصب الحمد ظاهر ، وتقدم ، هل يقدر من لفظ الحمد أو من غير لفظه؟ قال بعضهم؟ ومنه حذف العامل الذي هو في الحقيقة خبر عن الحمد ، وهو الذي يقدر بكائن أو مستقر ، قال : ومنه حذف صراط من قوله غير المغضوب ، التقدير غير صراط المغضوب عليهم ، وغير صراط الضالين ، وحذف سورة إن قدرنا العامل في الحمد إذا نصبناه ، إذكروا أو اقرأوا ، فتقديره اقرأوا سورة الحمد ، وأما من قيد الرحمن ، والرحيم ، ونعبد ، ونستعين ، وأنعمت ، والمغضوب عليهم ، والضالين ، فيكون عنده في سورة محذوفات كثيرة.
النوع السادس : التقديم والتأخير ، وهو في قوله نعبد ، ونستعين ، والمغضوب عليهم ، والضالين ، وتقدم الكلام على ذلك.
النوع السابع : التفسير ، ويسمى التصريح بعد الإبهام ، وذلك في بدل صراط الذين من الصراط المستقيم.
النوع الثامن : الالتفات ، وهو في إياك نعبد وإياك نستعين ، اهدنا.

النوع التاسع : طلب الشيء ، وليس المراد حصوله بل دوامه ، وذلك في اهدنا.
النوع العاشر : سرد الصفات لبيان خصوصية في الموصوف أو مدح أو ذم.
النوع الحادي عشر : التسجيع ، وفي هذه السورة من التسجيع المتوازي ، وهو اتفاق الكلمتين الأخيرتين في الوزن والروي ، قوله تعالى : { الرحمن الرحيم اهدنا الصراط المستقيم } ، وقوله تعالى : { نستعين ولا الضالين } ، انقضى كلامنا على تفسير الفاتحة.
وكره الحسن أن يقال لها أم الكتاب ، وكره ابن سيرين أن يقال لها أم القرآن ، وجوزه الجمهور.
والإجماع على أنها سبع آيات إلا ما شذ فيه من لا يعتبر خلافه.
عدَّ الجمهور المكيون والكوفيون { بسم الله الرحمن الرحيم } آية ، ولم يعدوا { أنعمت عليهم } ، وسائر العادين ، ومنهم كثير من قراء مكة والكوفة لم يعدوها آية ، وعدوا { صراط الذين أنعمت عليهم } آية ، وشذ عمرو بن عبيد ، فجعل آية { إياك نعبد } ، فهي على عدة ثمان آيات ، وشذ حسين الجعفي ، فزعم أنها ست آيات.
قال ابن عطية : وقول الله تعالى : { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } هو الفصل في ذلك.
ولم يختلفوا في أن البسملة في أول كل سورة ليست آية ، وشذ ابن المبارك فقال : إنها آية في كل سورة ، ولا أدري ما الملحوظ في مقدار الآية حتى نعرف الآية من غير الآية.
وذكر المفسرون عدد حروف الفاتحة ، وذكروا سبب نزولها ما لا يعد سبب نزول.
وذكروا أحاديث في فضل بسم الله الرحمن الرحيم ، الله أعلم بها ، وذكروا للتسمية أيضاً نزول ما لا يعد سبباً ، وذكروا أن الفاتحة تسمى الحمد ، وفاتحة الكتاب ، وأم الكتاب ، والسبع المثاني ، والواقية ، والكافية ، والشفاء ، والشافية ، والرقية ، والكنز ، والأساس ، والنور ، وسورة الصلاة ، وسورة تعليم المسألة ، وسورة المناجاة ، وسورة التفويض.
وذكروا أن ما ورد من الأحاديث في فضل الفاتحة ، والكلام على هذا كله من باب التذييلات ، لا أن ذلك من علم التفسير إلا ما كان من تعيين مبهم أو سبب نزول أو نسخ بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذلك يضطر إليه علم التفسير.
وكذلك تكلموا على آمين ولغاتها ، والاختلاف في مدلولها ، وحكمها في الصلاة ، وليست من القرآن ، فلذلك أضربنا عن الكلام عليها صفحاً ، كما تركنا الكلام على الاستعاذة في أول الكتاب ، وقد أطال المفسرون كتبهم بأشياء خارجة عن علم التفسير حذفناها من كتابنا هذا ، إذا كان مقصودنا ما أشرنا إليه في الخطبة ، والله تعالى أعلم.

الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

{ الم } أسماء مدلولها حروف المعجم ، ولذلك نطق بها نطق حروف المعجم ، وهي موقوفة الآخر ، لا يقال إنها معربة لأنها لم يدخل عليها عامل فتعرب ولا يقال إنها مبنية لعدم سبب البناء ، لكن أسماء حروف المعجم قابلة لتركيب العوامل عليها فتعرب ، تقول هذه ألف حسنة ونظير سرد هذه الأسماء موقوفة ، أسماء العدد ، إذا عدّوا يقولون : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة ، خمسة.
وقد اختلف الناس في المراد بها ، وسنذكر اختلافهم إن شاء الله تعالى.
{ ذلك } ، ذا : إسم إشارة ثنائي الوضع لفظاً ، ثلاثي الأصل ، لا أحادي الوضع ، وألفه ليست زائدة ، خلافاً للكوفيين والسهيلي ، بل ألفه منقلبة عن ياء ، ولامه خلافاً لبعض البصريين في زعمه أنها منقلبة من واو من باب طويت وهو مبني.
ويقال فيه : ذا وذائه وهو يدل على القرب ، فإذا دخلت الكاف فقلت : ذاك دل على التوسط ، فإذا أدخلت اللام فقلت : ذلك دل على البعد ، وبعض النحويين رتبة المشار إليه عنده قرب وبعد.
فمتى كان مجرداً من اللام والكاف كان للقرب ، ومتى كانتا فيه أو إحداهما كان للبعد ، والكاف حرف خطاب تبين أحوال المخاطب من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث كما تبينها إذا كان ضميراً ، وقالوا : ألك في معنى ذلك؟ ولاسم الإشارة أحكام ذكرت في النحو.
{ الكتاب } ، يطلق بإزاء معان العقد المعروف بين العبد وسيده على مال مؤجل منجم للعتق { والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم } ، وعلى الفرض { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } { كتب عليكم القصاص } { كتب عليكم الصيام } وعلى الحكم ، قاله الجوهري لأقضين بينكما بكتاب الله كتاب الله أحق وعلى القدر :
يا ابنة عمي كتاب الله أخرجني . . .
عنكم وهل أمنعن الله ما فعلا
أي قدر الله وعلى مصدر كتبت تقول : كتبت كتاباً وكتباً ، ومنه كتاب الله عليكم ، وعلى المكتوب كالحساب بمعنى المحسوب ، قال :
بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة . . .
أتتك من الحجاج يتلى كتابها
{ لا } نافية ، والنفي أحد أقسامها ، وقد تقدمت.
{ ريب } ، الريب : الشك بتهمة راب حقق التهمة قال :
ليس في الحق يا أمية ريب . . .
إنما الريب ما يقول الكذوب
وحقيقة الريب قلق النفس : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإن الشك ريبة وإن الصدق طمأنينة ومنه : أنه مر بظني خافق فقال لا يربه أحد بشيء ، وريب الدهر : صرفه وخطبه.
{ فيه } : في للوعاء حقيقة أو مجاز ، أو زيد للمصاحبة ، وللتعليل ، وللمقايسة ، وللوافقة على ، والباء مثل ذلك زيد في المسجد { ولكم في القصاص حياة } { ادخلوا في أمم } { لمسكم فيما أفضتم } { في الحياة الدنيا وفي الآخرة } { في جذوع النخل } { يذرؤكم فيه } أي يكثركم به.
الهاء المتصلة بفي من فيه ضمير غائب مذكر مفرد ، وقد يوصل بياء ، وهي قراءة ابن كثير ، وحكم هذه الهاء بالنسبة إلى الحركة والإسكان والاختلاس والإشباع في كتب النحو.

{ هدى } ، الهدى : مصدر هدي ، وتقدم معنى الهداية ، والهدي مذكر وبنو أسد يؤنثونه ، يقولون : هذه هدي حسنة ، قاله الفراء في كتاب المذكر والمؤنث.
وقال ابن عطية : الهدي لفظ مؤنث ، وقال اللحياني : هو مذكر.
انتهى كلامه.
قال ابن سيده : والهدي اسم من أسماء النهار ، قال ابن مقبل :
حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة . . .
يخضعن في الآل غلفاً أو يصلينا
وهو على وزن فعلى ، كالسرى والبكى.
وزعم بعض أكابر نحاتنا أنه لم يجيء من فعلى مصدر سوى هذه الثلاثة ، وليس بصحيح ، فقد ذكر لي شيخنا اللغوي الإمام في ذلك رضي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف الشاطبي أن العرب قالت : لقيته لقى ، وأنشدنا لبعض العرب :
وقد زعموا حلماً لقاك ولم أزد . . .
بحمد الذي أعطاك حلماً ولا عقلا
وقد ذكر ذلك غيره من اللغويين وفعل يكون جمعاً معدولاً وغير معدول ، ومفرداً وعلماً معدولاً وغير معدول ، واسم جنس لشخص ولمعنى وصفة معدولة وغير معدولة ، مثل ذلك : جمع وغرف وعمر وأدد ونغر وهدى وفسق وحطم.
{ للمتقين } المتقي اسم فاعل من اتقى ، وهو افتعل من وقى بمعنى حفظ وحرس ، وافتعل هنا : للاتخاذ أي اتخذ وقاية ، وهو أحد المعاني الإثني عشر التي جاءت لها افتعل ، وهو : الاتخاذ ، والتسبب ، وفعل الفاعل بنفسه ، والتخير ، والخطفة ، ومطاوعة أفعل ، وفعل ، وموافقة تفاعل ، وتفعل ، واستفعل ، والمجرد ، والإغناء عنه ، مثل ذلك : اطبخ ، واعتمل واضطرب ، وانتخب ، واستلب ، وانتصف مطاوع أنصف ، واغتم مطاوع غممته ، واجتور ، وابتسم ، واعتصم ، واقتدر ، واستلم الحجر.
وإبدال الواو في اتقى تاء وحذفها مع همزة الوصل قبلها فيبقى تقى مذكور في علم التصريف.
فأما هذه الحروف المقطعة أوائل السور ، فجمهور المفسرين على أنها حروف مركبة ومفردة ، وغيرهم يذهب إلى أنها أسماء عبر بها عن حروف المعجم التي ينطق بالألف واللام منها في نحو : قال ، والميم في نحو : ملك ، وبعضهم يقول : إنها أسماء السور ، قاله زيد بن أسلم.
وقال قوم : إنها فواتح للتنبيه والاستئناف ليعلم أن الكلام الأول قد انقضى.
قال مجاهد : هي في فواتح السور كما يقولون في أول الإنشاد لشهير القصائد.
بل ولا بل نحا هذا النحو أبو عبيدة والأخفش.
وقال الحسن : هي أسماء السور وفواتحها ، وقوم : إنها أسماء الله أقسام أقسم الله بها لشرفها وفضلها.
وروي عن ابن عباس وقوم : هي حروف متفرقة دلت على معان مختلفة ، وهؤلاء اختلفوا في هذه المعاني فقال قوم : يتألف منها اسم الله الأعظم ، قاله علي وابن عباس ، إلا أنّا لا نعرف تأليفه منها ، أو اسم ملك من ملائكته ، أو نبي من أنبيائه ، لكن جهلنا طريق التأليف.
وقال سعيد بن جبير : هي أسماء الله تعالى مقطعة ، لو أحسن الناس تأليفها تعلموا اسم الله الأعظم.

وقال قتادة : هي أسماء القرآن كالفرقان.
وقال أبو العالية : ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسماء الله تعالى.
وقيل : هي حروف تدل على مدة الملة ، وهي حساب أبي جاد ، كما ورد في حديث حيي بن أخطب.
وروى هذا عن أبي العالية وغيره.
وقيل : مدة الأمم السالفة وقيل : مدة الدنيا.
وقال أبو العالية أيضاً : ليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجال آخرين ، وقيل : هي إشارة إلى حروف المعجم كأنه قال للعرب : إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم.
وقال قطرب وغيره وغيره : هي إشارة إلى حروف المعجم كأنه يقول للعرب : إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم فقوله : { الم } بمنزلة : أ ب ت ث ، ليدل بها على التسعة وعشرين حرفاً.
وقال قوم : هي تنبيه كما في النداء.
وقال قوم : إن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيستمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة.
وقيل : هي أمارة لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد صلى الله عليه وسلم كتاب في أول سور منه حروف مقطعة ، وقيل : حروف تدل على ثناء أثنى الله به على نفسه.
وقال ابن عباس : { الم } أنا الله أعلم ، والمراد أنا الله أرى.
و { المص } أنا الله أفصل.
وروي عن سعيد بن جبير مثل ذلك.
وروي عن ابن عباس الألف : من الله ، واللام : من جبريل ، والميم : من محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الأخفش : هي مبادىء كتب الله المنزلة بالألسن المختلفة ومبان من أسماء الله الحسنى وصفاته العلى وأصول كلام الأمم.
وقال الربيع بن أنس : ما منها حرف إلا يتضمن أموراً كثيرة دارت فيها الألسن ، وليس فيها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه ، وليس منها حرف إلا وهو في الأبد وللأبد ، وليس منها حرف إلا في مدة قوم وآجالهم.
وقال قوم : معانيها معلومة عند المتكلم بها لا يعلمها إلا هو ، ولهذا قال الصديق رضي الله عنه : في كتاب الله سر ، وسر الله في القرآن في الحروف التي في أوائل السور.
وبه قال الشعب.
وقال سلمة بن القاسم : ما قام الوجود كله إلا بأسماء الله الباطنة والظاهرة ، وأسماء الله المعجمة الباطنة أصل لكل شيء من أمور الدنيا والآخرة ، وهي خزانة سرّه ومكنون علمه ، ومنها تتفرع أسماء الله كلها ، وهي التي قضى بها الأمور وأودعها أم الكتاب ، وعلى هذا حوّم جماعة من القائلين بعلوم الحروف ، وممن تكلم في ذلك : أبو الحكم بن برجان ، وله تفسير للقرآن ، والبوني ، وفسر القرآن والطائي بن العربي ، والجلالي ، وابن حمويه ، وغيرهم ، وبينهم اختلاف في ذلك.
وسئل محمد بن الحنفية عن { كهيعص } فقال للسائل : لو أُخبرت بتفسيرها لمشيت على الماء لا يواري قدميك.

وقال قوم : معانيها معلومة ويأتي بيان كل حرف في موضعه.
وقال قوم : اختص الله بعلمها نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقد أنكر جماعة من المتكلمين أن يكون في القرآن ما لا يفهم معناه ، فانظر إلى هذا الاختلاف المنتشر الذي لا يكاد ينضبط في تفسير هذه الحروف والكلام عليها.
والذي أذهبُ إليه : أن هذه الحروف التي في فواتح السور هو المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ، وسائر كلامه تعالى محكم.
وإلى هذا ذهب أبو محمد علي بن أحمد اليزيدي ، وهو قول الشعبي والثوري وجماعة من المحدثين ، قالوا : هي سر الله في القرآن ، وهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه ، ولا يجب أن نتكلم فيها ، ولكن نؤمن بها وتمر كما جاءت.
وقال الجمهور : بل يجب أن يتكلم فيها وتلتمس الفوائد التي تحتها ، والمعاني التي تتخرج عليها ، واختلفوا في ذلك الاختلاف الذي قدمناه.
قال ابن عطية : والصواب ما قال الجمهور ، فنفسر هذه الحروف ونلتمس لها التأويل لأنا نجد العرب قد تكلمت بالحروف المقطعة نظماً ووضعاً بدل الكلمات التي الحروف منها ، كقول الشاعر :
قلت لها قفي فقالت قاف . . .
أراد قالت وقفت
وكقول القائل :
بالخير خيرات وإن شرَّفا . . .
ولا أريد الشر إلا أن تآ
أراد وإن شراً فشر ، وأراد إلا أن تشاء : والشواهد في هذا كثيرة فليس كونها في القرآن مما تنكره العرب في لغتها ، فينبغي إذا كان من معهود كلام العرب ، أن يطلب تأويله ويلتمس وجهه ، انتهى كلامه.
وفرق بين ما أنشد وبين هذه الحروف ، وقد أطال الزمخشري وغيره الكلام على هذه الحروف بما ليس يحصل منه كبير فائدة في علم التفسير ، ولا يقوم على كثير من دعاويه برهان.
وقد تكلم المعربون على هذه الحروف فقالوا : لم تعرب حروف التهجي لأنها أسماء ما يلفظ ، فهي كالأصوات فلا تعرب إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها ، ويحتمل محلها الرفع على المبتدأ أو على إضمار المبتدأ ، والنصب بإضمار فعل ، والجر على إضمار حرف القسم ، هذا إذا جعلناها اسماً للسور ، وأما إذا لم تكن إسماً للسور فلا محل لها ، لأنها إذ ذاك كحروف المعجم أوردت مفردة من غير عامل فاقتضت أن تكون مستكنة كأسماء الأعداد ، أو ردتها لمجرد العدد بغير عطف ، وقد تكلم النحويون على هذه الحروف على أنها أسماء السور ، وتكلموا على ما يمكن إعرابه منها وما لا يمكن ، وعلى ما إذا أعرب فمنه ما يمنع الصرف ، ومنه ما لا يمنع الصرف ، وتفصيل ذلك في علم النحو.
وقد نقل خلاف في كون هذه الحروف آية ، فقال الكوفيون : { الم } آية ، وكذلك هي آية في أول كل سورة ذكرت فيها ، وكذلك { المص } و { طسم } وأخواتها و { طه } و { يس } و { حم } وأخواتها إلا { حم عسق } فإنها آيتان و { كهيعص } آية ، وأما { المر } وأخواتها فليست بآية ، وكذلك { طس } و { ص } و { ق } و { ن } و { القلم } وق وص حروف دل كل حرف منها على كلمة ، وجعلوا الكلمة آية ، كما عدوا : { الرحمن } { ومدهامتان } آيتيين.

وقال البصريون وغيرهم : ليس شيء من ذلك آية.
وذكر المفسرون الاقتصار على هذه الحروف في أوائل السور ، وأن ذلك الاقتصار كان لوجوه ذكروها لا يقوم على شيء منها برهان فتركت ذكرها.
وذكروا أن التركيب من هذه الحروف انتهى إلى خمسة ، وهو : كهيعص ، لأنه أقصى ما يتركب منه الاسم المجرد ، وقطع ابن القعقاع ألف لام ميم حرفاً حرفاً بوقفة وقفة ، وكذلك سائر حروف التهجي من الفواتح ، وبين النون من طسم ويس وعسق ونون إلا في طس تلك فإنه لم يظهر ، وذلك اسم مشار بعيد ، ويصح أن يكون في قوله { ذلك الكتاب } على بابه فيحمل عليه ولا حاجة إلى إطلاقه بمعنى هذا ، كما ذهب إليه بعضهم فيكون للقريب ، فإذا حملناه على موضوعه فالمشار إليه ما نزل بمكة من القرآن ، قاله ابن كيسان وغيره ، أو التوراة والإنجيل ، قاله عكرمة ، أو ما في اللوح المحفوظ ، قاله ابن حبيب ، أو ما وعد به نبيه صلى الله عليه وسلم من أنه ينزل إليه كتاباً لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الرد ، قاله ابن عباس ، أو الكتاب الذي وعد به يوم الميثاق ، قاله عطاء بن السائب ، أو الكتاب الذي ذكرته في التوراة والإنجيل ، قاله ابن رئاب ، أو الذي لم ينزل من القرآن ، أو البعد بالنسبة إلى الغاية التي بين المنزل والمنزل إليه ، أو ذلك إشارة إلى حروف المعجم التي تحديتكم بالنظم منها.
وسمعت الأستاذ أبا جعفر بن إبراهيم بن الزبير شيخنا يقول : ذلك إشارة إلى الصراط في قوله : { اهدنا الصراط } ، كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم : ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب.
وبهذا الذي ذكره الأستاذ تبين وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد ، وهذا القول أولى لأنه إشارة إلى شيء سبق ذكره ، لا إلى شيء لم يجر له ذكر ، وقد ركبوا وجوهاً من الإعراب في قوله : { ذلك الكتاب لا ريب فيه }.
والذي نختاره منها أن قوله : { ذلك الكتاب } جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ، لأنه متى أمكن حمل الكلام على غير إضمار ولا افتقار ، كان أولى أن يسلك به الإضمار والافتقار ، وهكذا تكون عادتنا في إعراب القرآن ، لا نسلك فيه إلا الحمل على أحسن الوجوه ، وأبعدها من التكلف ، وأسوغها في لسان العرب.
ولسنا كمن جعل كلام الله تعالى كشعر امرىء القيس ، وشعر الأعشى ، يحمله جميع ما يحتمله اللفظ من وجوه الاحتمالات.
فكما أن كلام الله من أفصح كلام ، فكذلك ينبغي إعرابه أن يحمل على أفصح الوجوه ، هذا على أنا إنما نذكر كثيراً مما ذكروه لينظر فيه ، فربما يظهر لبعض المتأملين ترجيح شيء منه ، فقالوا : يجوز أن يكون ذلك خبر المبتدأ محذوف تقديره هو ذلك الكتاب ، والكتاب صفة أو بدل أو عطف بيان ، ويحتمل أن يكون مبتدأ وما بعده خبراً.

وفي موضع خبر { الم } { ولا ريب } جملة تحتمل الاستئناف ، فلا يكون لها موضع من الإعراب ، وأن تكون في موضع خبر لذلك ، والكتاب صفة أو بدل أو عطف أو خبر بعد خبر ، إذا كان الكتاب خبراً ، وقلت بتعدد الأخبار التي ليست في معنى خبر واحد ، وهذا أولى بالبعد لتباين أحد الخبرين ، لأن الأول مفرد والثاني جملة ، وأن يكون في موضع نصب أي مبرأ من الريب ، وبناء ريب مع لا يدل على أنها العاملة عمل إن ، فهو في موضع نصب ولا وهو في موضع رفع بالابتداء ، فالمرفوع بعده على طريق الإسناد خبر لذلك المبتدأ فلم تعمل حالة البناء إلا النصب في الاسم فقط ، هذا مذهب سيبويه.
وأما الأخفش فذلك المرفوع خبر للا ، فعملت عنده النصب والرفع ، وتقرير هذا في كتب النحو.
وإذا عملت عمل إن أفادت الاستغراق فنفت هنا كل ريب ، والفتح هو قراءة الجمهور.
وقرأ أبو الشعثاء : { لا ريب فيه } بالرفع ، وكذا قراءة زيد بن علي حيث وقع ، والمراد أيضاً هنا الاستغراق ، لا من اللفظ بل من دلالة المعنى ، لأنه لا يريد نفي ريب واحد عنه ، وصار نظير من قرأ : { فلا رفث ولا فسوق } بالبناء والرفع ، لكن البناء يدل بلفظه على قضية العموم ، والرفع لا يدل لأنه يحتمل العموم ، ويحتمل نفي الوحدة ، لكن سياق الكلام يبين أن المراد العموم ، ورفعه على أن يكون ريب مبتدأ وفيه الخبر ، وهذا ضعيف لعدم تكرار لا ، أو يكون عملها إعمال ليس ، فيكون فيه في موضع نصب على قول الجمهور من أن لا إذا عملت عمل ليس رفعت الاسم ونصبت الخبر ، أو على مذهب من ينسب العمل لها في رفع الاسم خاصة ، وأما الخبر فمرفوع لأنها وما عملت فيه في موضع رفع بالابتداء كحالها إذا نصبت وبني الاسم معها ، وذلك في مذهب سيبويه ، وسيأتي الكلام مشبعاً في ذلك عند قوله تعالى : { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } وحمل لا في قراءة لا ريب على أنها تعمل عمل ليس ضعيف لقلة إعمال لا عمل ليس ، فلهذا كانت هذه القراءة ضعيفة.
وقرأ الزهري ، وابن محيصن ، ومسلم بن جندب ، وعبيد بن عمير ، فيه : بضم الهاء ، وكذلك إليه وعليه وبه ونصله ونوله وما أشبه ذلك حيث وقع على الأصل.
وقرأ ابن أبي إسحاق : فهو بضم الهاء ووصلها بواو ، وجوزوا في قوله : أن يكون خبراً للا على مذهب الأخفش ، وخبراً لها مع اسمها على مذهب سيبويه ، أن يكون صفة والخبر محذوف ، وأن يكون من صلة ريب بمعنى أنه يضمر عامل من لفظ ريب فيتعلق به ، إلا أنه يكون متعلقاً بنفس لا ريب ، إذ يلزم إذ ذاك إعرابه ، لأنه يصير اسم لا مطولاً بمعموله نحو لا ضارباً زيداً عندنا ، والذي نختاره أن الخبر محذوف لأن الخبر في باب لا العاملة عمل إن إذا علم لم تلفظ به بنو تميم ، وكثر حذفه عند أهل الحجاز ، وهو هنا معلوم ، فاحمله على أحسن الوجوه في الإعراب ، وإدغام الباء من لا ريب في فاء فيه مروي عن أبي عمرو ، والمشهور عنه الإظهار ، وهي رواية اليزيدي عنه.

وقد قرأته بالوجهين على الأستاذ أبي جعفر بن الطباع بالأندلس ، ونفي الريب يدل على نفي الماهية ، أي ليس مما يحله الريب ولا يكون فيه ، ولا يدل ذلك على نفي الارتياب لأنه قد وقع ارتياب من ناس كثيرين.
فعلى ما قلناه لا يحتاج إلى حمله على نفي التعليق والمظنة ، كما حمله الزمخشري ، ولا يرد علينا قوله تعالى : { وإن كنتم في ريب } لاختلاف الحال والمحل ، فالحال هناك المخاطبون ، والريب هو المحل ، والحال هنا منفي ، والمحل الكتاب ، فلا تنافي بين كونهم في ريب من القرآن وكون الريب منفياً عن القرآن.
وقد قيد بعضهم الريب فقال : لا ريب فيه عند المتكلم به ، وقيل هو عموم يراد به الخصوص ، أي عند المؤمنين ، وبعضهم جعله على حذف مضاف ، أي لا سبب فيه لوضوح آياته وإحكام معانيه وصدق أخباره.
وهذه التقادير لا يحتاج إليها.
واختيار الزمخشري أن فيه خبر ، وبذلك بني عليه سؤالاً وهو أن قال : هلا قدم الظرف على الريب كما قدم على القول في قوله تعالى : { لا فيها غول } وأجاب : بأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد ، وهو أن كتاباً غيره فيه الريب ، كما قصد في قوله : { لا فيها غول } تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي ، كأنه قيل ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة.
وقد انتقل الزمخشري من دعوى الاختصاص بتقديم المفعول إلى دعواه بتقديم الخبر ، ولا نعلم أحداً يفرق بين : ليس في الدار رجل ، وليس رجل في الدار ، وعلى ما ذكر من أن خمر الجنة لا يغتال ، وقد وصفت بذلك العرب خمر الدنيا ، قال علقمة بن عبدة :
تشفي الصداع ولا يؤذيك طالبها . . .
ولا يخالطها في الرأس تدويم
وأبعد من ذهب إلى أن قوله : لا ريب صيغة خبر ومعناه النهي عن الريب.
وجوزوا في قوله تعالى : { هدى للمتقين } أن يكون هدى في موضع رفع على أنه مبتدأ ، وفيه في موضع الخبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هو هدى ، أو على فيه مضمرة إذا جعلنا فيه من تمام لا ريب ، أو خبر بعد خبر فتكون قد أخبرت بالكتاب عن ذلك ، وبقوله لا ريب فيه ، ثم جاء هذا خبراً ثالثاً ، أو كان الكتاب تابعاً وهدى خبر ثان على ما مر في الإعراب ، أو في موضع نصب على الحال ، وبولغ بجعل المصدر حالاً وصاحب الحال اسم الإشارة ، أو الكتاب ، والعامل فيها على هذين الوجهين معنى الإشارة أو الضمير في فيه ، والعامل ما في الظرف من الاستقرار وهو مشكل لأن الحال تقييد ، فيكون انتقال الريب مقيداً بالحال إذ لا ريب فيه يستقر فيه في حال كونه هدى للمتقين ، لكن يزيل الإشكال أنها حال لازمة.

والأولى : جعل كل جملة مستقلة ، فذلك الكتاب جملة ، ولا ريب جملة ، وفيه هدى للمتقين جملة ، ولم يحتج إلى حرف عطف لأن بعضها آخذ بعنق بعض.
فالأولى أخبرت بأن المشار إليه هو الكتاب الكامل ، كما تقول : زيد الرجل ، أي الكامل في الأوصاف.
والثانية نعت لا يكون شيء ما من ريب.
والثالثة أخبرت أن فيه الهدى للمتقين.
والمجاز إما فيه هدى ، أي استمرار هدى لأن المتقين مهتدون فصار نظير اهدنا الصراط ، وإما في المتقين أي المشارفين لاكتساب التقوى ، كقوله :
إذا ما مات ميت من تميم . . .
والمتقي في الشريعة هو الذي يقي نفسه أن يتعاطى ما توعد عليه بعقوبة من فعل أو ترك ، وهل التقوى تتناول اجتناب الصغائر؟ في ذلك خلاف.
وجوز بعضهم أن يكون التقدير هدى للمتقين والكافرين ، فحذف لدلالة أحد الفريقين ، وخص المتقين بالذكر تشريفاً لهم.
ومضمون هذه الجملة على ما اخترناه من الإعراب ، الإخبار عن المشار إليه الذي هو الطريق الموصل إلى الله تعالى ، هو الكتاب أي الكامل في الكتب ، وهو المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه { ما فرطنا في الكتاب من شيء } فإذا كان جميع الأشياء فيه ، فلا كتاب أكمل منه ، وأنه نفى أن يكون فيه ريب وأنه فيه الهدى.
ففي الآية الأولى الإتيان بالجملة كاملة الأجزاء حقيقة لا مجاز فيها ، وفي الثانية مجازاً لحذف لأنا اخترنا حذف الخبر بعد لا ريب ، وفي الثانية تنزيل المعاني منزلة الأجسام ، إذ جعل القرآن ظرفاً والهدى مظروفاً ، فألحق المعنى بالعين ، وأتى بلفظة في التي تدل على الوعاء كأنه مشتمل على الهدى ومحتو عليه احتواء البيت على زيد في قولك : زيد في البيت : { الذين يؤمنون بالغيب } : الإيمان : التصديق ، { وما أنت بمؤمن لنا } ، وأصله من الأمن أو الأمانة ، ومعناهما الطمأنينة ، منه : صدقة ، وأمن به : وثق به ، والهمزة في أمن للصيرورة كأعشب ، أو لمطاوعة فعل كأكب ، وضمن معنى الاعتراف أو الوثوق فعدى بالباء ، وهو يتعدى بالباء واللام { فما آمن لموسى } والتعدية باللام في ضمنها تعد بالباء ، فهذا فرق ما بين التعديتين.
الغيب : مصدر غاب يغيب إذا توارى ، وسمى المطمئن من الأرض غيباً لذلك أو فعيل من غاب فأصله غيب ، وخفف نحو لين في لين ، والفارسي لا يرى ذلك قياساً في بنات الياء ، فلا يجيز في لين التخفيف ويجيزه في ذوات الواو ، ونحو : سيد وميت ، وغيره قاسه فيهما.

وابن مالك وافق أبا علي في ذوات الياء.
وخالف الفارسي في ذوات الواو ، فزعم أنه محفوظ لا مقيس ، وتقرير هذا في علم التصريف.
{ ويقيمون الصلاة } والإقامة : التقويم ، أقام العود قومه ، أو الأدامة أقامت الغزالة سوق الضراب ، أي أدامتها من قامت السوق ، أو التشمر والنهوض من قام بالأمر ، والهمزة في أقام للتعدية.
الصلاة : فعلة ، وأصله الواو لاشتقاقه من الصلى ، وهو عرق متصل بالظهر يفترق من عند عجب الذنب ، ويمتد منه عرقان في كل ورك ، عرق يقال لهما الصلوان فإذا ركع المصلي انحنى صلاة وتحرك فسمي بذلك مصلياً ، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل لأنه يأتي مع صلوى السابق.
قال ابن عطية : فاشتقت الصلاة منه إما لأنها جاءت ثانية الإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل ، وإما لأن الراكع والساجد ينثني صلواه ، والصلاة حقيقة شرعية تنتظم من أقوال وهيئآت مخصوصة ، وصلى فعل الصلاة ، وأما صلى دعا فمجاز وعلاقته تشبيه الداعي في التخشع والرغبة بفاعل الصلاة ، وجعل ابن عطية الصلاة مما أخذ من صلى بمعنى دعا ، كما قال :
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي . . .
نوماً فإن لجنب المرء مضطجعاً
وقال :
لها حارس لا يبرح الدهر بيتها . . .
وإن ذبحت صلى عليها وزمزما
قال : فلما كانت الصلاة في الشرع دعاء ، وانضاف إليه هيئآت وقراءة ، سمى جميع ذلك باسم الدعاء والقول إنها من الدعاء أحسن ، انتهى كلامه.
وقد ذكر أن ذلك مجاز عندنا ، وذكرنا العلاقة بين الداعي وفاعل الصلاة ، ومن حرف جر.
وزعم الكسائي أن أصلها منا مستدلاً بقول بعض قضاعة :
بذلنا مارن الخطى فيهم . . .
وكل مهند ذكر حسام
منا أن ذر قرن الشمس حتى . . .
أغاب شريدهم قتر الظلام
وتأول ابن جني ، رحمه الله ، على أنه مصدر على فعل من منى بمنى أي قدر.
واغتر بعضهم بهذا البيت فقال : وقد يقال منا.
وقد تكون لابتداء الغاية وللتبعيض ، وزائدة وزيد لبيان الجنس ، وللتعليل ، وللبدل ، وللمجاوزة والاستعلاء ، ولانتهاء الغاية ، وللفصل ، ولموافقة في مثل ذلك : سرت من البصرة إلى الكوفة ، أكلت من الرغيف ، ما قام من رجل ، { يحلون فيها من أساور من ذهب } { في آذانهم من الصواعق } { بالحياة الدنيا من الآخرة } { غدوت من أهلك } قربت منه ، { ونصرناه من القوم } { يعلم المفسد من المصلح } { ينظرون من طرف خفي } { ماذا خلقوا من الأرض } ما تكون موصولة ، واستفهامية ، وشرطية ، وموصوفة ، وصفة ، وتامة.
مثل ذلك : { ما عندكم ينفد } مال هذا الرسول ، { ما يفتح الله للناس من رحمة } ، مررت بما معجب لك ، لأمر ما جدع قصير أنفه ، ما أحسن زيداً.
{ رزقناهم } الرزق : العطاء ، وهو الشيء الذي يرزق كالطحن ، والرزق المصدر ، وقيل الرزق أيضاً مصدر رزقته أعطيته ، { ومن رزقناه منا رزقاً حسناً } ، وقال :

رزقت مالاً ولم ترزق منافعه . . .
إن الشقي هو المحروم ما رزقا
وقيل : أصل الرزق الحظ ، ومعاني فعل كثيرة ذكر منها : الجمع ، والتفريق ، والإعطاء ، والمنع ، والامتناع ، والإيذاء ، والغلبة ، والدفع ، والتحويل ، والتحول ، والاستقرار ، والسير ، والستر ، والتجريد ، والرمي ، والإصلاح ، والتصويت.
مثل ذلك : حشر ، وقسم ، ومنح ، وغفل ، وشمس ، ولسع ، وقهر ، ودرأ ، وصرف ، وظعن ، وسكن ، ورمل ، وحجب ، وسلخ ، وقذف ، وسبح ، وصرخ.
وهي هنا للإعطاء نحو : نحل ، ووهب ، ومنح.
{ ينفقون } ، الإنفاق : الإنفاذ ، أنفقت الشيء وأنفذته بمعنى واحد ، والهمزة للتعدية ، يقال نفق الشيء نفذ ، وأصل هذه المادة تدل على الخروج والذهاب ، ومنه : نافق ، والنافقاء ، ونفق.
.
{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون } ، الذين ذكروا في إعرابه الخفض على النعت للمتقين ، أو البدل والنصب على المدح على القطع ، أو بإضمار أعني على التفسير قالوا ، أو على موضع المتقين ، تخيلوا أن له موضعاً وأنه نصب ، واغتروا بالمصدر فتوهموا أنه معمول له عدي باللام ، والمصدر هنا ناب عن اسم الفاعل فلا يعمل ، وإن عمل اسم الفاعل وأنه بقي على مصدريته فلا يعمل ، لأنه هنا لا ينحل بحرف مصدر وفعل ، ولا هو بدل من اللفظ بالفعل بل للمتقين بتعلق بمحذوف صفة لقوله هدى ، أي هدى كائن للمتقين ، والرفع على القطع أي هم الذين ، أو على الابتداء والخبر.
{ أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } ، أولئك المتقدمة ، وأولئك المتأخرة ، والواو مقحمة ، وهذا الأخير إعراب منكر لا يليق مثله بالقرآن ، والمختار في الإعراب الجر على النعت والقطع ، إما للنصب ، وإما للرفع ، وهذه الصفة جاءت للمدح.
وقرأ الجمهور : يؤمنون بالهمزة ساكنة بعد الياء ، وهي فاء الكلمة ، وحذف همزة أفعل حيث وقع ذلك ورش وأبو عمر ، وإذا أدرج بترك الهمز.
وروي هذا عن عاصم ، وقرأ رزين بتحريك الهمزة مثل : يؤخركم ، ووجه قراءته أنه حذف الهمزة التي هي فاء الكلمة لسكونها ، وأقر همزة أفعل لتحركها وتقدمها واعتلالها في الماضي والأمر ، والياء مقوية لوصول الفعل إلى الاسم ، كمررت بزيد ، فتتعلق بالفعل ، أو للحال فتتعلق بمحذوف ، أي ملتبسين بالغيب عن المؤمن به ، فيتعين في هذا الوجه المصدر ، وأما إذا تعلق بالفعل فعلى معنى الغائب أطلق المصدر وأريد به اسم الفاعل ، قالوا : وعلى معنى الغيب أطلق المصدر وأريد به اسم المفعول نحوه : هذا خلق الله ، ودرهم ضرب الأمير ، وفيه نظر لأن الغيب مصدر غاب اللازم ، أو على التخفيف من غيب كلين ، فلا يكون إذ ذاك مصدراً وذلك على مذهب من أجاز التخفيف ، وأجاز ذلك في الغيب الزمخشري ، ولا يصار إلى ذلك حتى يسمع منقلاً من كلام العرب.
والغيب هنا القرآن ، قاله عاصم بن أبي الجود ، أو ما لم ينزل منه ، قاله الكلبي؛ أو كلمة التوحيد وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله الضحاك ، أو علم الوحي ، قاله ابن عباس ، وزر بن حبيش ، وابن جريج ، وابن وافد ، أو أمر الآخرة ، قاله الحسن ، أو ما غاب من علوم القرآن ، قاله عبد الله بن هانىء ، أو الله عز وجل ، قاله عطاء ، وابن جبير ، أو ما غاب عن الحواس مما يعلم بالدلالة ، قاله ابن عيسى ، أو القضاء والقدر ، أو معنى بالغيب بالقلوب ، قاله الحسن؛ أو ما أظهره الله على أوليائه من الآيات والكرامات ، أو المهدي المنتظر ، قاله بعض الشيعة ، أو متعلق بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من تفسير الإيمان حين سئل عنه وهو : الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر ، خيره وشره ، وإياه نختار لأنه شرح حال المتقين بأنهم الذين يؤمنون بالغيب.

ويؤكد هذا قوله بعد : { قَد تبين الرشد من الغي } يعني : ظهرت الدلائل ووضحت البينات ، ولم يبق بعدها إلاَّ طريق القسر والإلجاء وليس بجائز لأنه ينافي التكليف ، وهذا الذي قاله أبو مسلم والقفال لائق بأصول المعتزلة ، ولذلك قال الزمخشري : لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، ولكن على التمكين والإختيار ، ونحوه قوله : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } أي : لو شاء لقسرهم على الإيمان ، ولكنه لم يفعل ، وبنى الأمر على الأختيار.
والدين هنا ملة الإسلام واعتقاده ، والألف واللام للعهد ، وقيل : بدل من الإضافة أي : في دين الله.
{ قد تبين الرشد من الغيّ } أي : استبان الإيمان من الكفر ، وهذا يبين أن الدين هو معتقد الإسلام.
وقرأ الجمهور : الرشد ، على وزن القفل ، والحسن : الرشد ، على وزن العنق.
وأبو عبد الرحمن : الرشد ، على وزن الجبل ، ورويت هذه أيضاً عن الشعبي ، والحسن ومجاهد.
وحكى ابن عطية عن أبي عبد الرحمن : الرشاد ، بالألف.
والجمهور على إدغام دال ، قد ، في : تاء ، تبين.
وقرىء شاذاً بالإظهار ، وتبين الرشد ، بنصب الأدلة الواضحة وبعثة الرسول الداعي إلى الإيمان ، وهذه الجملة كأنها كالعلة لانتفاء الإكراه في الدين ، لأن وضوح الرشد واستبانته تحمل على الدخول في الدين طوعاً من غير إكراه ، ولا موضع لها من الإعراب.
{ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } الطاغوت : الشيطان.
قاله عمر ، ومجاهد ، والشعبي ، والضحاك ، وقتادة ، والسدّي.
أو : الساحر ، قاله ابن سيرين ، وأبو العالية.
أو : الكاهن ، قاله جابر ، وابن جبير ، ورفيع ، وابن جريح.
أو : ما عبد من دون الله ممن يرضى ذلك : كفرعون ، ونمروذ ، قاله الطبري.
أو : الأصنام ، قاله بعضهم.
وينبغي أن تجعل هذه الأقوال كلها تمثيلاً ، لأن الطاغوت محصور في كل واحد منها.
قال ابن عطية وقدّم ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت. انتهى.
وناسب ذلك أيضاً اتصاله بلفط الغي ، ولأن الكفر بالطاغوت متقدّم على الإيمان بالله ، لأن الكفر بها هو رفضها ، ورفض عبادتها ، ولم يكتف بالجملة الأولى لأنها لا تستلزم الجملة الثانية ، إذ قد يرفض عبادتها ولا يؤمن بالله ، لكن الإيمان يستلزم الكفر بالطاغوت ، ولكنه نبه بذكر الكفر بالطاغوت على الانسلاخ بالكلية ، مما كان مشتبهاً به ، سابقاً له قبل الإيمان ، لأن في النصية عليه مزيد تأكيد على تركه.
وجواب الشرط : فقد استمسك ، وأبرز في صورة الفعل الماضي المقرون بقد الدالة في الماضي على تحقيقه ، وإن كان مستقبلاً في المعنى لأنه جواب الشرط ، إشعاراً بأنه مما وقع استمساكه وثبت وذلك للمبالغة في ترتيب الجزاء على الشرط ، وأنه كائن لا محالة لا يمكن أن يتخلف عنه ، و : بالعروة ، متعلق باستمسك ، جعل ما تمسك به من الإيمان عروة ، وهي في الأجرام موضع الإمساك وشد الأيدي شبه الإيمان بذلك.

وكثيراً ما نسب الله الرزق لنفسه حين أمر بالإنفاق ، أو أخبر به ، ولم ينسب ذلك إلى كسب العبد ليعلم أن الذي يخرجه العبد ويعطيه هو بعض ما أخرجه الله له ونحله إياه ، وجعل صلات الذين أفعالاً مضارعة ، ولم يجعل الموصول أل فيصله باسم الفاعل لأن المضارع فيما ذكر البيانيون مشعر بالتجدد والحدوث بخلاف اسم الفاعل ، لأنه عندهم مشعر بالثبوت والأمدح في صفة المتقين تجدد الأوصاف ، وقدم المنفق منه على الفعل اعتناءً بما خول الله به العبد وإشعاراً أن المخرج هو بعض ما أعطى العبد ، ولتناسب الفواصل وحذف الضمير العائد على الموصول لدلالة المعنى عليه ، أي ومما رزقناهموه ، واجتمعت فيه شروط جواز الحذف من كونه متعيناً للربط معمولاً لفعل متصرف تام.
وأبعد من جعل ما نكرة موصوفة وقدر ، ومن شيء رزقناهمو لضعف المعنى بعد عموم المرزوق الذي ينفق منه فلا يكون فيه ذلك التمدح الذي يحصل يجعل ما موصولة لعمومها ، ولأن حذف العائد على الموصول أو جعل ما مصدرية ، فلا يكون في رزقناهم ضمير محذوف بل ما مع الفعل بتأويل المصدر ، فيضطر إلى جعل ذلك المصدر المقدر بمعنى المفعول ، لأن نفس المصدر لا ينفق منه إنما ينفق من المرزوق ، وترتيب الصلاة على حسب الإلزام.
فالإيمان بالغيب لازم للمكلف دائماً ، والصلاة لازمة في أكثر الأوقات ، والنفقة لازمة في بعض الأوقات ، وهذا من باب تقديم الأهم فالأهم.
الإنزال : الإيصال والإبلاغ ، ولا يشترط أن يكون من أعلا ، { فإذا نزل بساحتهم } أي وصل وحل ، إلى حرف جر معناه انتهاء الغاية وزيد كونها للمصاحبة وللتبيين ولموافقة اللام وفي ومن ، وأجاز الفراء زيادتها ، مثل ذلك : سرت إلى الكوفة ، { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } ، { السجن أحب إلي } ، { والأمر إليك } ، كأنني إلى الناس مطلبي ، أي في الناس.
أيسقي فلا يروي إلى ابن أحمرا ، أي متى تهوي إليهم في قراءة من قرأ بفتح الواو ، أي تهواهم ، وحكمها في ثبوت الفاء ، وقلبها حكم على ، وقد تقدم.
والكاف المتصلة بها ضمير المخاطب المذكر ، وتكسر للمؤنث ، ويلحقها ما يلحق أنت في التثنية والجمع دلالة عليهما ، وربما فتحت للمؤنث ، أو اقتصر عليها مكسورة في جمعها نحو :
ولست بسائل جارات بيتي . . .
أغياب رجالك أم شهود
قبل وبعد ظرفا زمان وأصلهما الوصف ولهما أحكام تذكر في النحو ، ومدلول قبل متقدم ، كما أن مدلول بعد متأخر.
الآخرة تأنيث الآخر مقابل الأول وأصل الوصف { تلك الدار الآخرة } { ولدار الآخرة } ثم صارت من الصفات الغالبة ، والجمهور على تسكين لام التعريف وإقرار الهمزة التي تكون بعدها للقطع ، وورش يحذف وينقل الحركة إلى اللام.

الإيقان : التحقق للشيء لسكونه ووضوحه ، يقال يقن الماء سكن وظهر ما تحته ، وافعل بمعنى استفعل كابل بمعنى استبل.
وقرأ الجمهور : { بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } مبنياً للمفعول ، وقرأهما النخعي وأبو حيوة ويزيد بن قطيب مبنياً للفاعل.
وقرىء شاذاً بما أنزل إليك بتشديد اللام ، ووجه ذلك أنه أسكن لام أنزل كما أسكن وضاح آخر الماضي في قوله :
إنما شعري قيد ، قد خلط بخلجان . . .
ثم حذف همزة إلى ونقل كسرتها إلى لام أنزل فالتقى المثلان من كلمتين ، والإدغام جائز فأدغم.
وقرأ الجمهور : يوقنون بواو ساكنة بعد الياء وهي مبدلة من ياء لأنه من أيقن.
وقرأ أبو حية النمري بهمزة ساكنة بدل الواو ، كما قال الشاعر :
لحب المؤقذان إلى موسى . . .
وجعدة إذ أضاءهما الوقود
وذكر أصحابنا أن هذا يكون في الضرورة ، ووجهت هذه القراءة بأن هذه الواو لما جاورت المضموم فكان الضمة فيها ، وهم يبدلون من الواو المضمومة همزة ، قالوا وفي وجوه ووقتت أجوه وأقتت ، فأبدلوا من هذه همزة ، إذ قدروا الضمة فيها وإعادة الموصول بحرف العطف يحتمل المغايرة في الذات وهو الأصل ، فيحتمل أن يراد مؤمنوا أهل الكتاب لإيمانهم بكل وحي ، فإن جعلت الموصول معطوفاً على الموصول اندرجوا في جملة المتقين ، إن لم يرد بالمتقين بوصفه مؤمنو العرب ، وذلك لانقسام المتقين إلى القسمين.
وإن جعلته معطوفاً على المتقين لم يندرج لأنه إذ ذاك قسيم لمن له الهدى لا قسم من المتقين.
ويحتمل المغايرة في الوصف ، فتكون الواو للجمع بين الصفات ، ولا تغاير في الذواب بالنسبة للعطف وحذف الفاعل في قراءة الجمهور ، وبني الفعلان للمفعول للعلم بالفاعل ، نحو : أنزل المطر ، وبناؤهما للفاعل في قراءة النخعي ، وأبي حيوة ، ويزيد بن قطيب ، فاعله مضمر ، قيل : الله أو جبريل.
قالوا : وقوة الكلام تدل على ذلك وهو عندي من الالتفات لأنه تقدم قوله : { ومما رزقناهم } ، فخرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة ، إذ لو جرى على الأول لجاء { بما أنزل إليك } ، { وما أنزلنا من قبلك } ، وجعل صلة ما الأولى ماضية لأن أكثره كان نزل بمكة والمدينة ، فأقام الأكثر مقام الجميع ، أو غلب الموجود لأن الإيمان بالمتقدم الماضي يتقتصي الإيمان بالمتأخر ، لأن موجب الإيمان واحد.
وأما صلة الثانية فمتحققة المضي ولم يعد حرف الجر فيما الثانية ليدل أنه إيمان واحد ، إذ لو أعاد لأشعر بأنهما إيمانان.
وبالآخرة : تقدم أن المعنى بها الدار الآخرة للتصريح بالموصوف في بعض الآي ، وحمله بعضهم على النشأة الآخرة ، إذ قد جاء أيضاً مصرحاً بهذا الموصوف ، وكلاهما يدل على البعث.
وأكد أمر الآخرة بتعلق الإيقان بها الذي هو أجلى وآكد مراتب العلم والتصديق ، وإن كان في الحقيقة لا تفاوت في العلم والتصديق دفعاً لمجاز إطلاق العلم ، ويراد به الظن ، فذكر أن الإيمان والعلم بالآخرة لا يكون إلا إيقاناً لا يخالطه شيء من الشك والارتياب.

وغاير بين الإيمان بالمنزل والإيمان بالآخرة في اللفظ لزوال كلفة لتكرار ، وكان الإيقان هو الذي خص بالآخرة لكثرة غرائب متعلقات الآخرة ، وما أعد فيها من الثواب والعقاب السرمديين ، وتفصيل أنواع التنعيم والتعذيب ، ونشأة أصحابها على خلاف النشأة الدنيوية ورؤية الله تعالى.
فالآخرة أغرب في الإيمان بالغيب من الكتاب المنزل ، فلذلك خص بلفظ الإيقان ، ولأن المنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مشاهد أو كالمشاهد ، والآخرة غيب صرف ، فناسب تعليق اليقين بما كان غيباً صرفاً.
قالوا : والإيقان هو العلم الحادث سواء كان ضرورياً أو استدلالياً ، فلذلك لا يوصف به الباري تعالى ، ليس من صفاته الموقن وقدم المجرور اعتناء به ولتطابق الأواخر.
وإيراد هذه الجملة إسمية وإن كانت الجملة معطوفة على جملة فعلية آكد في الإخبار عن هؤلاء بالإيقان ، لأن قولك : ريد فعل آكد من فعل زيد لتكرار الاسم في الكلام بكونه مضمراً ، وتصديره مبتدأ يشعر بالاهتمام بالمحكوم عليه ، كما أن التقديم للفعل مشعر بالاهتمام بالمحكوم به.
وذكر لفظة هم في قوله : { هم يوقنون } ، ولم يذكر لفظة هم في قوله : { ومما رزقناهم ينفقون } لأن وصف إيقانهم بالآخرة أعلى من وصفهم بالإنفاق ، فاحتاج هذا إلى التوكيد ولم يحتج ذلك إلى تأكيد ، ولأنه لو ذكرهم هناك لكان فيه قلق لفظي ، إذ كان يكون ومما رزقناهم هم ينفقون.
أولئك : اسم إشارة للجمع يشترك فيه المذكر والمؤنث.
والمشهور عند أصحابنا أنه للرتبة القصوى كأولالك ، وقال بعضهم هو للرتبة الوسطى ، قاسه على ذا حين لم يزيدوا في الوسطى عليه غيرحرف الخطاب ، بخلاف أولالك.
ويضعف قوله كون هاء التنبيه لا ندخل عليه.
وكتبوه بالواو فرقاً بينه وبين إليك ، وبنى لافتقاره إلى حاضر يشار إليه به ، وحرك لالتقاء الساكنين ، وبالكسر على أصل التقائهما.
الفلاح : الفوز والظفر بإدراك البغية ، أو البقاء ، قيل : وأصله الشق والقطع :
إن الحديد بالحديد يفلح . . .
وفي تشاركه في معنى الشق مشاركة في الفاء والعين نحو : فلى وفلق وفلذ ، تقدم في إعراب { الذين يؤمنون بالغيب } ، إن من وجهي رفعه كونه مبتدأ ، فعلى هذا يكون أولئك مع ما بعده مبتدأ وخبر في موضع خبر الذين ، ويجوز أن يكون بدلاً وعطف بيان ، ويمتنع الوصف لكونه أعرف.
ويكون خبر الذين إذ ذاك قوله : { على هدى } ، وإن كان رفع الذين على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو كان مجروراً أو منصوباً ، كان أولئك مبتدأ خبره { على هدى } ، وقد تقدم أنا لا نختار الوجه الأول لانفلاته مما قبله والذهاب به مذهب الاستئناف مع وضوح اتصاله بما قبله وتعلقه به ، وأي فائدة للتكلف والتعسف في الاستئناف فيما هو ظاهر التعلق بما قبله والارتباط به.

وقد وجه الزمخشري وجه الاستئناف بأنه لما ذكر أن الكتاب اختص المتقون بكونه هدى لهم ، اتجه لسائل أن يقول : ما بال المتقين مخصوصين بذلك؟ فأجيب بأن الذين جمعوا هذه الأوصاف الجليلة من الإيمان بالغيب ، وإقامة الصلاة ، والإنفاق ، والإيمان بالمنزل ، والإيقان بالآخرة على هدى في العاجل ، وذوو فلاح في الآجل.
ثم مثل هذا الذي قرره من الاستئناف بقوله : أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار الذين قارعوا دونه ، فكشفوا الكرب عن وجهه ، أولئك أهل للمحبة ، يعني أنه استأنف فابتدأ بصفة المتقين ، كما استأنف بصفة الأنصار.
وعلى ما اخترناه من الاتصال يكون قد وصف المتقين بصفات مدح فضلت جهات التقوى ، ثم أشار إليهم وأعلم بأن من حاز هذه الأوصاف الشريفة هو على هدى ، وهو المفلح والاستعلاء الذي أفادته في قوله : { على هدى } ، هو مجاز نزل المعنى منزلة العين ، وأنهم لأجل ما تمكن رسوخهم في الهداية جعلوا كأنهم استعلوه كما تقول : فلان على الحق ، وإنما حصل لهم هذا الاستقرار على الهدى بما اشتملوا عليه من الأوصاف المذكورة في وصف الهدى بأنه من ربهم ، أي كائن من ربهم ، تعظيم للهدى الذي هم عليه.
ومناسبة ذكر الرب هنا واضحة ، أي أنه لكونه ربهم بأي تفاسيره فسرت ناسب أن يهيىء لهم أسباب السعادتين : الدنيوية والأخروية ، فجعلهم في الدنيا على هدى ، { وفي الآخرة هم المفلحون }.
وقد تكون ثم صفة محذوفة أي على هدى ، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز ، وقد لا يحتاج إلى تقدير الصفة لأنه لا يكفي مطلق الهدى المنسوب إلى الله تعالى.
ومن لابتداء الغاية أو للتبعيض على حذف مضاف ، أي من هدى ربهم.
وقرأ ابن هرمز : من ربهم بضم الهاء ، وكذلك سائرها آت جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعي فيها سبق كسر أو ياء ، ولما أخبر عنهم بخبرين مختلفين كرر أولئك ليقع كل خبر منهما في جملة مستقلة وهو آكد في المدح إذ صار الخبر مبنياً على مبتدأ.
وهذان الخبران هما نتيجتا الأوصاف السابقة إذ كانت الأوصاف منها ما هو متعلقة أمر الدنيا ، ومنها ما متعلقة أمر الآخرة ، فأخبر عنهم بالتمكن من الهدى في الدنيا وبالفوز في الآخرة.
ولما اختلف الخبران كما ذكرنا ، أتى بحرف العطف في المبتدأ ، ولو كان الخبر الثاني في معنى الأول ، لم يدخل العاطف لأن الشيء لا يعطف على نفسه.
ألا ترى إلى قوله تعالى : { أولئك هم الغافلون } بعد قوله : { أولئك كالأنعام } كيف جاء بغير عاطف لاتفاق الخبرين اللذين للمبتدأين في المعنى؟ ويحتمل هم أن يكون فصلاً أو بدلاً فيكون المفلحون خيراً عن أولئك ، أو المبتدأ والمفلحون خبره ، والجملة من قوله : هم المفلحون في موضع خبر أولئك ، وأحكام الفصل وحكمة المجيء به مذكورة في كتب النحو.

وقد جمعت أحكام الفصل مجردة من غير دلائل في نحو من ست ورقات ، وإدخال هو في مثل هذا التركيب أحسن ، لأنه محل تأكيد ورفع توهم من يتشكك في المسند إليه الخبر أو ينازع فيه ، أو من يتوهم التشريك فيه.
ألا ترى إلى قوله تعالى : { وأنه هو أضحك وأبكى ، وأنه هو أمات وأحيا } { وأنه هو أغنى وأقنى } وقوله : { وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى } { وأنه أهلك عاداً الأولى } كيف أثبت هو دلالة على ما ذكر ، ولم يأت به في نسبة خلق الزوجين وإهلاك عاد ، إذ لا يتوهم إسناد ذلك لغير الله تعالى ولا الشركة فيه.
وأما الإضحاك والإبكاء والإماتة والإحياء والإغناء والإقناء فقد يدعي ذلك ، أو الشركة فيه متواقح كذاب كنمروذ.
وأما قوله تعالى : { وأنه هو رب الشعرى } فدخول هو للإعلام بأن الله هو رب هذا النجم ، وإن كان رب كل شيء ، لأن هذا النجم عُبِد من دون الله واتُّخذ إلهاً ، فأتى به لينبه بأن الله مستبد بكونه رباً لهذا المعبود ، ومن دونه لا يشاركه في ذلك أحد.
والألف واللام في المفلحون لتعريف العهد في الخارج أو في الذهن ، وذلك أنك إذا قلت : زيد المنطلق ، فالمخاطب يعرف وجود ذات صدر منها انطلاق ، ويعرف زيداً ويجهل نسبة الانطلاق إليه ، وأنت تعرف كل ذلك فتقول له : زيد المنطلق ، فتفيده معرفة النسبة التي كان يجهلها ، ودخلت هو فيه إذا قلت : زيد هو المنطلق ، لتأكيد النسبة ، وإنما تؤكد النسبة عند توهم أن المخاطب يشك فيها أو ينازع أو يتوهم الشركة.
وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات من قوله تعالى : { الم } إلى قوله : { المفلحون } أقوالاً : أحدها : أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب دون غيرهم ، وهو قول ابن عباس وجماعة.
الثاني : نزلت في جميع المؤمنين ، قاله مجاهد.
وذكروا في هذه الآية من ضروب الفصاحة أنواعاً : الأول : حسن الافتتاح ، وأنه تعالى افتتح بما فيه غموض ودقة لتنبيه السامع على النظر والفكر والاستنباط.
الثاني : الإشارة في قوله ذلك أدخل اللام إشارة إلى بعد المنازل.
الثالث : معدول الخطاب في قوله تعالى : { لا ريب فيه } صيغته خبر ومعناه أمر ، وقد مضى الكلام فيه.
الرابع : الاختصاص هو في قوله { هدى للمتقين }.
الخامس : التكرار في قوله تعالى : { يؤمنون بالغيب } ، { يؤمنون بما أنزل إليك } ، وفي قوله : { الذين ، والذين } ، إن كان الموصوف واحداً فهو تكرار اللفظ والمعنى ، وإن كان مختلفاً كان من تكرار اللفظ دون المعنى ، ومن التكرار { أولئك ، وأولئك }.
السادس : تأكيد المظهر بالمضمر في قوله : { وأولئك هم المفلحون } ، وفي قوله : { هم يوقنون }.
السابع : الحذف ، وهو في مواضع أحدها هذه ألم عند من يقدر ذلك ، وهو هدى ، وينفقون في الطاعة ، وما أنزل إليك من القرآن ، { ومن قبلك } ، أي قبل إرسالك ، أو قبل الإنزال ، { وبالآخرة } ، أي بجزاء الآخرة ، و { يوقنون } بالمصير إليها ، و { على هدى } ، أي أسباب هدى ، أو على نور هدى ، { والمفلحون } ، أي الباقون في نعيم الآخرة.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)

{ إن الذين كفروا سواء عليهم } ، إن : حرف توكيد يتشبث بالجملة المتضمنة الإسناد الخبري ، فينصب المسند إليه ، ويرتفع المسند وجوباً عند الجمهور ، ولها ولأخواتها باب معقود في النحو.
وتأتي أيضاً حرف جواب بمعنى نعم خلافاً لمن منع ذلك.
الكفر : الستر ، ولهذا قيل : كافر للبحر ، ومغيب الشمس ، والزارع ، والدافن ، والليل ، والمتكفر ، والمتسلح.
فبينها كلها قدر مشترك وهو الستر ، سواء اسم بمعنى استواء مصدر استوى ، ووصف به بمعنى مستو ، فتحمل الضمير.
قالوا : مررت برجل سواء ، والعدم قالوا : أصله العدل ، قال زهير : يسوي بينها فيها السواء.
ولإجرائه مجرى المصدر لا يثني ، قالوا : هما سواء استغنوا بتثنية سي بمعنى سواء ، كقي بمعنى قواء ، وقالوا : هما سيان.
وحكى أبو زيد تثنيته عن بعض العرب.
قالوا : هذان سواآن ، ولذلك لا تجمع أيضاً ، قال :
وليل يقول الناس من ظلماته . . .
سواء صحيحات العيون وعورها
وهمزته منقلبة عن ياء ، فهو من باب طويت.
وقال صاحب اللوامح : قرأ الجحدري سواء بتخفيف الهمزة على لغة الحجاز ، فيجوز أنه أخلص الواو ، ويجوز أنه جعل الهمزة بين بين ، وهو أن يكون بين الهمزة والواو.
وفي كلا الوجهين لا بد من دخول النقص فيما قبل الهمزة الملينة من المد ، انتهى.
فعلى هذا يكون سواء ليس لامه ياء بل واواً ، فيكون من باب قواء.
وعن الخليل : سوء عليهم بضم السين مع واو بعدها مكان الألف ، مثل دائرة السوء على قراءة من ضم السين ، وفي ذلك عدول عن معنى المساواة إلى معنى القبح والسب ، ولا يكون على هذه القراءة له تعلق إعراب بالجملة بعدها بل يبقى.
{ أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } إخبار بانتفاء إيمانهم على تقدير إنذارك وعدم إنذارك ، وأما سواء الواقع في الاستثناء في قولهم قاموا سواك بمعنى قاموا غيرك ، فهو موافق لهذا في اللفظ ، مخالف في المعنى ، فهو من باب المشترك ، وله أحكام ذكرت في باب الاستثناء.
الهمزة للنداء ، وزيد وللاستفهام الصرف ، وذلك ممن يجهل النسبة فيسأل عنها ، وقد يصحب الهمزة التقرير : { أأنت قلت للناس } ؟ والتحقيق ، ألستم خير من ركب المطايا.
والتسوية { سواء عليهم أأنذرتم } ، والتوبيخ { أذهبتم طيباتكم } والإنكار أن يدنيه لمن قال جاء زيد ، وتعاقب حرف القسم الله لأفعلن.
الإنذار : الإعلام مع التخويف في مدة تسع التحفظ من المخوف ، وإن لم تسع سمي إعلاماً وإشعاراً أو إخباراً ، ويتعدى إلى اثنين : { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً } { فقل أنذرتكم صاعقة } والهمزة فيه للتعدية ، يقال : نذر القوم إذا علموا بالعدو.
وأم حرف عطف ، فإذا عادل الهمزة وجاء بعده مفرداً أو جملة في معنى المفرد سميت أم متصلة ، وإذا انخرم هذان الشرطان أو أحدهما سميت منفصلة ، وتقرير هذا في النحو ، ولا تزاد خلافاً لأبي زيد.

لم حرف نفي معناه النفي وهو مما يختص بالمضارع ، اللفظ الماضي معنى ، فعمل فيه ما يخصه ، وهو الجزم ، وله أحكام ذكرت في النحو.
{ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم } الختم : الوسم بطابع أو غيره مما يوسم به.
القلب : مصدر قلب ، والقلب : اللحمة الصنوبرية المعروفة سميت بالمصدر ، وكنى به في القرآن وغيره عن العقل ، وأطلق أيضاً على لب كل شيء وخالصه.
السمع : مصدر سمع سمعاً وسماعاً وكنى به في بعض المواضع عن الأذن.
البصر : نور العين ، وهو ما تدرك به المرئيات.
الغشاوة : الغطاء ، غشاه أي غطاه ، وتصحح الواو لأن الكلمة بنيت على تاء التأنيث ، كما صححوا اشتقاقه ، قال أبو علي الفارسي : لم أسمع من الغشاوة فعلاً متصرفاً بالواو ، وإذا لم يوجد ذلك كان معناها معنى ما اللام منه الياء ، غشي يغشى بدلالة قولهم : الغشيان والغشاوة من غشي ، كالجباوة من جبيت في أن الواو كأنها بدل من الياء إذا لم يصرف منه فعل ، كما لم يصرف من الجباوة ، انتهى كلامه.
العذاب : أصله الاستمرار ، ثم اتسع فيه فسمي به كل استمرار ألم ، واشتقوا منه فقالوا : عذبته ، أي داومت عليه الألم ، وقد جعل الناس بينه وبين العذاب : الذي هو الماء الحلو ، وبين عذب الفرس : استمر عطشه ، قدراً مشتركاً وهو الاستمرار ، وإن اختلف متعلق الاستمرار.
وقال الخليل : أصله المنع ، يقال عذب الفرس : امتنع من العلف.
عظيم : اسم فاعل من عظم غير مذهوب به مذهب الزمان ، وفعيل اسم ، وصفة الاسم مفرد نحو : قميص ، وجمع نحو : كليب ، ومعنى نحو : صهيل ، والصفة مفرد فعله كقرى ، وفعله كسرى ، واسم فاعل من فعل ككريم ، وللمبالغة من فاعل كعليم ، وبمعنى أفعل كشميط ، وبمعنى مفعول كجريح ، ومفعل كسميع وأليم ، وتفعل كوكيد ، ومفاعل كجليس ، ومفتعل كسعير ، ومستفعل كمكين ، وفعل كرطيب ، وفعل كعجيب ، وفعال كصحيح ، وبمعنى الفاعل والمفعول كصريح ، وبمعنى الواحد والجمع كخليط وجمع فاعل كغريب.
مناسبة اتصال هذه الآية بما قبلها ظاهر ، وهو أنه لما ذكر صفة من الكتاب له هدى وهم المتقون الجامعون للأوصاف المؤدية إلى الفور ، ذكر صفة ضدهم وهم الكفار المحتوم لهم بالوفاة على الكفر ، وافتتح قصتهم بحرف التأكيد ليدل على استئناف الكلام فيهم ، ولذلك لم يدخل في قصة المتقين ، لأن الحديث إنما جاء فيهم بحكم الانجرار ، إذ الحديث إنما هو عن الكتاب ثم أنجز ذكرهم في الإخبار عن الكتاب ، وعلى تقدير إعراب الذين يؤمنون ، الأول والثاني مبتدأ ، فإنما هو في المعنى من تمام صفة المتقين الذين كفروا ، يحتمل أن يكون للجنس ملحوظاً فيه قيد ، وهو أن يقضي عليه بالكفر والوفاة عليه ، وأن يكون لمعينين كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما.
وسواء وما بعده يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون لا موضع له من الإعراب ، ويكون جملة اعتراض من مبتدأ وخبر ، بجعل سواء المبتدأ والجملة بعده الخبر أو العكس ، والخبر قوله : لا يؤمنون ، ويكون قد دخلت جملة الاعتراض تأكيداً لمضمون الجملة ، لأن من أخبر الله عنه أنه لا يؤمن استوى إنذاره وعدم إنذاره.

والوجه الثاني : أن يكون له موضع من الإعراب ، وهو أن يكون في موضع خبر إن ، فيحتمل لا يؤمنون أن يكون له موضع من الإعراب ، إما خبر بعد خبر على مذهب من يجيز تعداد الأخبار ، أو خبر مبتدأ محذوف أي هم لا يؤمنون ، وجوزوا فيه أن يكون في موضع الحال وهو بعيد ، ويحتمل أن يكون لا موضع له من الإعراب فتكون جملة تفسيرية لأن عدم الإيمان هو استواء الإنذار وعدمه ، كقوله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة } أو يكون جملة دعائية وهو بعيد ، وإذا كان لقوله تعالى : { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } موضع من الإعراب فيحتمل أن يكون سواء خبر إن ، والجملة في موضع رفع على الفاعلية ، وقد اعتمد بكونه خبر الذين ، والمعنى إن الذين كفروا مستو إنذارهم وعدمه.
وفي كون الجملة تقع فاعلة خلاف مذهب جمهور البصريين أن الفاعل لا يكون إلا اسماً أو ما هو في تقديره ، ومذهب هشام وثعلب وجماعة من الكوفيين جواز كون الجملة تكون فاعلة ، وأجازوا تعجبني يقوم زيد ، وظهر لي أقام زيد أم عمرو ، وأي قيام أحدهما ، ومذهب الفراء وجماعة : أنه إن كانت الجملة معمولة لفعل من أفعال القلوب وعلق عنها ، جاز أن تقع في موضع الفاعل أو المفعول الذي لم يسم فاعله وإلا فلا ، ونسب هذا لسيبويه.
قال أصحابنا : والصحيح المنع مطلقاً وتقرير هذا في المبسوطات من كتب النحو.
ويحتمل أن يكون قوله : { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } مبتدأ وخبراً على التقديرين اللذين ذكرناهما إذا كانت جملة اعتراض ، وتكون في موضع خبر إن ، والتقديران المذكوران عن أبي علي الفارسي وغيره.
وإذا جعلنا سواء المبتدأ والجملة الخبر ، فلا يحتاج إلى رابط لأنها المبتدأ في المعنى والتأويل ، وأكثر ما جاء سواء بعده الجملة المصدرة بالهمزة المعادلة بأم { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا } { سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون } وقد تحذف تلك الجملة للدلالة عليها ، { اصبروا أو لا تصبروا ، سواء عليكم } أي أصبرتم أم لم تصبروا ، وتأتي بعده الجملة الفعلية المتسلطة على اسم الاستفهام ، نحو : سواء على أي الرجال ضربت ، قال زهير :
سواء عليه أي حين أتيته . . .
أساعة نحس تتقي أم بأسعد
وقد جاء بعده ما عري عن الاستفهام ، وهو الأصل ، قال :
سواء صحيحات العيون وعورها . . .
وأخبر عن الجملة بأن جعلت فاعلاً بسواء أو مبتدأة ، وإن لم تكن مصدره بحرف مصدري حملاً على المعنى وكلام العرب منه ما طابق فيه اللفظ المعنى ، نحو : قام زيد ، وزيد قائم ، وهو أكثر كلام العرب ، ومنه ما غلب فيه حكم اللفظ على المعنى ، نحو : علمت أقام زيد أم قعد ، لا يجوز تقديم الجملة على علمت ، وإن كان ليس ما بعد علمت استفهاماً ، بل الهمزة فيه للتسوية.

ومنه ما غلب فيه المعنى على اللفظ ، وذلك نحو الإضافة للجملة الفعلية نحو :
على حين عاتبت المشيب على الصبا . . .
أذ قياس الفعل أن لا يضاف إليه ، لكن لوحظ المعنى ، وهو المصدر ، فصحت الإضافة.
قال ابن عطية : { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الخبر ، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام لأن فيه التسوية التي هي في الاستفهام ، ألا ترى أنك إذا قلت مخبراً سواء على أقمت أم قعدت أم ذهبت؟ وإذا قلت مستفهماً أخرج زيد أم قام؟ فقد استوى الأمران عندك ، هذان في الخبر ، وهذان في الاستفهام ، وعدم علم أحدهما بعينه ، فلما عممتهما التسوية جرى على الخبر لفظ الاستفهام لمشاركته إياه في الإبهام ، وكل استفهام تسوية ، وإن لم يكن كل تسوية استفهاماً ، انتهى كلامه.
وهو حسن ، إلا أن في أوله مناقشة ، وهو قوله : { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه الخبر ، وليس كذلك لأن هذا الذي صورته صورة الاستفهام ليس معناه الخبر لأنه مقدر بالمفرد إما مبتدأ وخبره سواء أو العكس ، أو فاعل سواء لكون سواء وحده خبراً لأن ، وعلى هذه التقادير كلها ليس معناه معنى الخبر وإنما سواء ، وما بعده إذا كان خبراً أو مبتدأ معناه الخبر.
ولغة تميم تخفيف الهمزتين في نحو أأنذرتهم ، وبه قرأ الكوفيون ، وابن ذكوان ، وهو الأصل.
وأهل الحجاز لا يرون الجمع بينهما طلباً للتخفيف ، فقرأ الحرميان ، وأبو عمرو ، وهشام : بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية ، إلا أن أبا عمرو ، وقالون ، وإسماعيل بن جعفر ، عن نافع ، وهشام ، يدخلون بينهما ألفاً ، وابن كثير لا يدخل.
وروي تحقيقاً عن هشام وإدخال ألف بينهما ، وهي قراءة ابن عباس ، وابن أبي إسحاق.
وروي عن ورش ، كابن كثير ، وكقالون وإبدال الهمزة الثانية ألفاً فيلتقي ساكنان على غير حدهما عند البصريين ، وقد أنكر هذه القراءة الزمخشري ، وزعم أن ذلك لحن وخروج عن كلام العرب من وجهين : أحدهما : الجمع بين ساكنين على غير حده.
الثاني : إن طريق تخفيف الهمزة المتحركة المفتوح ما قبلها هو بالتسهيل بين بين لا بالقلب ألفاً ، لأن ذلك هو طريق الهمزة الساكنة ، وما قاله هو مذهب البصريين ، وقد أجاز الكوفيون الجمع بين الساكنين على غير الحد الذي أجازه البصريون.
وقراءة ورش صحيحة النقل لا تدفع باختيار المذاهب ولكن عادة هذا الرجل إساءة الأدب على أهل الأداء ونقلة لقرآن.
وقرأ الزهري ، وابن محيصن : أنذرتهم بهمزة واحدة ، حذف الهمزة الأولى لدلالة المعنى عليها ، ولأجل ثبوت ما عاد لها ، وهو أم ، وقرأ أبي أيضا بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم الساكنة قبلها.

والمفعول الثاني لأنذر محذوف لدلالة المعنى عليه ، التقدير أأنذرتهم العذاب على كفرهم أم لم تنذرهموه؟ وفائدة الإنذار مع تساويه مع العدم أنه قاطع لحجتهم ، وأنهم قد دعوا فلم يؤمنوا ، ولئلا يقولوا ربنا لولا أرسلت ، وأن فيه تكثير الأجر بمعاناة من لا قبول له للإيمان ومقاساته ، وإن في ذلك عموم إنذاره لأنه أرسل للخلق كافة.
وهل قوله : لا يؤمنون خبر عنهم أو حكم عليهم أو ذم لهم أو دعاء عليهم؟ أقوال ، وظاهر قوله تعالى : { ختم الله } أنه إخبار من الله تعالى بختمه وحمله بعضهم على أنه دعاء عليهم ، وكنى بالختم على القلوب عن كونها لا تقبل شيئاً من الحق ولا تعيه لإعراضها عنه ، فاستعار الشيء المحسوس والشيء المعقول ، أو مثل القلب بالوعاء الذي ختم عليه صوناً لما فيه ومنعاً لغيره من الدخول إليه.
والأول : مجاز الاستعارة ، والثاني : مجاز التمثيل.
ونقل عمن مضى أن الختم حقيقة وهو انضمام القلب وانكماشه ، قال مجاهد : إذا أذنبت ضم من القلب هكذا ، وضم مجاهد الخنصر ، ثم إذا أذنبت ضم هكذا ، وضم البنصر ، ثم هكذا إلى الإبهام ، وهذا هو الختم والطبع والرين.
وقيل : الختم سمة تكون فيهم تعرفهم الملائكة بها من المؤمنين.
وقيل : حفظ ما في قلوبهم من الكفر ليجازيهم.
وقيل : الشهادة على قلوبهم بما فيها من الكفر ونسبة الختم إلى الله تعالى بأي معنى فسر إسناد صحيح ، إذ هو إسناد إلى الفاعل الحقيقي ، إذ الله تعالى خالق كل شيء.
وقد تأول الزمخشري وغيره من المعتزلة هذا الإسناد ، إذ مذهبهم أن الله تعالى لا يخلق الكفر ولا يمنع من قبول الحق والوصول إليه ، إذ ذاك قبيح والله تعالى يتعالى عن فعل القبيح ، وذكر أنواعاً من التأويل عشرة ، ملخصها : الأول : أن الختم كنى به عن الوصف الذي صار كالخلقي وكأنهم جبلوا عليه وصار كأن الله هو الذي فعل بهم ذلك.
الثاني : أنه من باب التمثيل كقولهم : طارت به العنقاء ، إذا أطال الغيبة ، وكأنهم مثلت حال قلوبهم بحال قلوب ختم الله عليها.
الثالث : أنه نسبه إلى السبب لما كان الله هو الذي أقدر الشيطان ومكنه أسند إليه الختم.
الرابع : أنهم لما كانوا مقطوعاً بهم أنهم لا يؤمنون طوعاً ولم يبق طريق إيمانهم إلا بالجاء وقسر وترك القسر عبر عن تركه بالختم.
الخامس : أن يكون حكاية لما يقوله الكفار تهكماً كقولهم : { قلوبنا في أكنة }.
السادس : أن الختم منه على قلوبهم هو الشهادة منه بأنهم لا يؤمنون.
السابع : أنها في قوم مخصوصين فعل ذلك بهم في الدنيا عقاباً عاجلاً ، كما عجل لكثير من الكفار عقوبات في الدنيا.
الثامن : أن يكون ذلك فعله بهم من غير أن يحول بينهم وبين الإيمان لضيق صدورهم عقوبة غير مانعة من الإيمان.

التاسع : أن يفعل بهم ذلك في الآخرة لقوله تعالى : { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً } العاشر : ما حكى عن الحسن البصري ، وهو اختيار أبي علي الجبائي ، والقاضي ، أن ذلك سمة وعلامة يجعلها الله تعالى في قلب الكافر وسمعه ، تستدل بذلك الملائكة على أنهم كفار وأنهم لا يؤمنون.
انتهى ما قاله المعتزلة.
والمسألة يبحث عنها في أصول الدين.
وقد وقع قوله : { وعلى سمعهم } بين شيئين : يمكن أن يكون السمع محكوماً عليه مع كل واحد منهما ، إذ يحتمل أن يكون أشرك في الختم بينه وبين القلوب ، ويحتمل أن يكون أشرك في الغشاوة بينه وبين الأبصار.
لكن حمله على الأول أولى للتصريح بذلك في قوله : { وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة } وتكرير حرف الجر يدل على أن الختم ختمان ، أو على التوكيد ، إن كان الختم واحداً فيكون أدل على شدة الختم.
وقرأ ابن أبي عبلة أسماعهم فطابق في الجمع بين القلوب والأسماع والأبصار.
وأما الجمهور فقرؤوا على التوحيد ، إما لكونه مصدراً في الأصل فلمح فيه الأصل ، وإما اكتفاء بالمفرد عن الجمع لأن ما قبله وما بعده يدل على أنه أريد به الجمع ، وإما لكونه مصدراً حقيقة وحذف ما أضيف إليه لدلالة المعنى أي حواس سمعهم.
وقد اختلف الناس في أي الحاستين السمع والبصر أفضل ، وهو اختلاف لا يجدي كبير شيء.
والإمالة في أبصارهم جائزة ، وقد قرىء بها ، وقد غلبت الراء المكسورة حرف الاستعلاء ، إذ لولاها لما جازت الإمالة ، وهذا بتمامه مذكور في النحو.
وقرأ الجمهور : غشاوة بكسر الغين ورفع التاء ، وكانت هذه الجملة ابتدائية ليشمل الكلام الإسنادين : إسناد الجملة الفعلية وإسناد الجملة الابتدائية ، فيكون ذلك آكد لأن الفعلية تدل على التجدد والحدوث ، والإسمية تدل على الثبوت.
وكان تقديم الفعلية أولى لأن فيها أن ذلك قد وقع وفرغ منه ، وتقديم المجرور الذي هو على أبصارهم مصحح لجواز الابتداء بالنكرة ، مع أن فيه مطابقة بالجملة قبله لأنه تقدم فيها الجزء المحكوم به.
وهذه كذلك الجملتان تؤول دلالتهما إلى معنى واحد ، وهو منعهم من الإيمان ، ونصب المفضل غشاوة يحتاج إلى إضمار ما أظهر في قوله : { وجعل على بصره غشاوة } ، أي وجعل على أبصارهم غشاوة ، أو إلى عطف أبصارهم على ما قبله ونصبها على حذف حرف الجر ، أي بغشاوة ، وهو ضعيف.
ويحتمل عندي أن تكون اسماً وضع موضع مصدر من معنى ختم ، لأن معنى ختم غشي وستر ، كأنه قيل تغشيه على سبيل التأكيد ، وتكون قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوماً عليها مغشاة.
وقال أبو علي : وقراءة الرفع أولى لأن النصب إما أن يحمله على ختم الظاهر فيعرض في ذلك أنك حلت بين حرف العطف والمعطوف به ، وهذا عندنا إنما يجوز في الشعر ، وما أن تحمله على فعل يدل عليه ختم تقديره وجعل على أبصارهم فيجيء الكلام من باب :

متقلداً سيفاً ورمحاً . . .
وقول الآخر :
علفتها تبناً وماء بارداً . . .
ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار ، فقراءة الرفع أحسن ، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة.
انتهى كلام أبي علي ، رحمه الله تعالى.
ولا أدري ما معنى قوله : لأن النصب إنما يحمله على ختم الظاهر ، وكيف تحمل غشاوة المنصوب على ختم الذي هو فعل؟ هذا ما لا حمل فيه اللهم إلا إن أراد أن يكون قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم } دعاء عليهم لا خبراً ، فإن ذلك يناسب مذهبه لاعتزاله ، ويكون غشاة في معنى المصدر المدعو به عليهم القائم مقام الفعل فكأنه قيل : وغشى الله على أبصارهم ، فيكون إذ ذاك معطوفاً على ختم عطف المصدر النائب مناب فعله في الدعاء ، نحو قولك : رحم الله زيداً وسقياً له ، وتكون إذ ذاك قد حلت بين غشاوة المعطوف وبين ختم المعطوف عليه بالجار والمجرور.
وأما إن جعلت ذلك خبراً محضاً وجعلت غشاوة في موضع المصدر البدل عن الفعل في الخبر فهو ضعيف لا ينقاس ذلك بل يقتصر فيه على مورد السماع ، وقرأ الحسن باختلاف عنه وزيد بن علي : غشاوة بضم الغين ورفع التاء ، وأصحاب عبد الله بالفتح والنصب وسكون الشين ، وعبيد بن عمير كذلك ، إلا أنه رفع التاء.
وقرأ بعضهم غشوة بالكسر والرفع ، وبعضهم غشوة وهي قراءة أبي حيوة ، والأعمش قرأ بالفتح والرفع والنصب.
وقال الثوري : كان أصحاب عبد الله يقرأونها غشية بفتح الغين والياء والرفع.
اه.
وقال يعقوب : غشوة بالضم لغة ، ولم يؤثرها عن أحد من القراءة.
قال بعض المفسرين : وأصوب هذه القراءات المقروء بها ما عليه السبعة من كسر الغين على وزن عمامة ، والأشياء التي هي أبداً مشتملة ، فهذا يجيء وزنها : كالصمامة ، والعمامة ، والعصابة ، والريانة ، وغير ذلك.
وقرأ بعضهم : غشاوة بالعين المهملة المكسورة والرفع من العشي ، وهو شبه العمى في العين.
وتقديم القلوب على السمع من باب التقديم بالشرف وتقديم الجملة التي انتظمتها على الجملة التي تضمنت الأبصار من هذا الباب أيضاً.
وذكر أهل البيان أن التقديم يكون باعتبارات خمسة : تقدم العلة والسبب على المعلول والمسبب ، كتقديم الأموال على الأولاد في قوله تعالى : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } فإنه إنما يشرع في النكاح عند قدرته على المؤنة ، فهي سبب إلى التزوج ، والنكاح سبب للتناسل.
والعلة : كتقدم المضيء على الضوء ، وليس تقدم زمان ، لأن جرم الشمس لا ينفك عن الضوء.
وتقدم بالذات ، كالواحد مع الإثنين ، وليس الواحد علة للاثنين بخلاف القسم الأول.
وتقدم بالشرف ، كتقدم الإمام على المأموم.
وتقدم بالزمان ، كتقدم الوالد على الولد بالوجود ، وزاد بعضهم سادس وهو : التقدم بالوجود حيث لا زمان.
ولما ذكر تعالى حال هؤلاء الكفار في الدنيا ، أخبر بما يؤول إليه أمرهم في الآخرة من العذاب العظيم.

ولما كان قد أعد لهم العذاب صير كأنه ملك لهم لازم ، والعظيم هو الكبير.
وقيل : العظيم فوق ، لأن الكبير يقابله الصغير ، والعظيم يقابله الحقير.
قيل : والحقير دون الصغير ، وأصل العظم في الجثة ثم يستعمل في المعنى ، وعظم العذاب بالنسبة لي عذاب دونه يتخلله فتور ، وبهذا التخلل المتصور يصح أن يتفاضل العرضان كسوادين أحدهما شبع من الآخر ، إذ قد تخلل الآخر ما ليس بسواد.
وذكر المفسرون في سبب نزول قوله تعالى : { إن الذين كفروا } إلى قوله : { عظيم } ، أقوالاً : أحدها : أنها نزلت في يهود كانوا حول المدينة ، قاله ابن عباس ، وكان يسميهم.
الثاني : نزلت في قادة الأحزاب من مشركي قريش ، قاله أبو العالية.
الثالث : في أبي جهل وخمسة من أهل بيته ، قاله الضحاك.
الرابع : في أصحاب القليب : وهم أبو جهل ، وشيبة بن ربيعة ، وعقبة بن أبي معيط ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن المغيرة.
الخامس : في مشركي العرب قريش وغيرها.
السادس : في المنافقين ، فإن كانت نزلت في ناس بأعيانهم وافوا على الكفر ، فالذين كفروا معهودون ، وإن كانت لا في ناس مخصوصين وافوا على الكفر ، فيكون عاماً مخصوصاً.
ألا ترى أنه قد أسلم من مشركي قريش وغيرها ومن المنافقين ومن اليهود خلق كثير بعد نزول هاتين الآيتين؟.
وذكروا أيضاً أن في هاتين الآيتين من ضروب الفصاحة أنواعاً.
الأول : الخطاب العام اللفظ الخاص المعنى.
الثاني : الاستفهام الذي يراد به تقرير المعنى في النفس ، أي يتقرر أن الإنذار وعدمه سواء عندهم.
الثالث : المجاز ، ويسمى : الاستعارة ، وهو قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } ، وحقيقة الختم وضع محسوس على محسوس يحدث بينهما رقم يكون علامة للخاتم ، والختم هنا معنوي ، فإن القلب لما لم يقبل الحق مع ظهوره استعير له اسم المختوم عليه فبين أنه من مجاز الاستعارة.
الرابع : الحذف ، وهو في مواضع : منها : أن الذين كفروا ، أي أن القوم الذين كفروا بالله وبك وبما جئت به.
ومنها : لا يؤمنون بالله وبما أخبرتهم به عنه.
ومنها : ختم الله على قلوبهم فلا تعي وعلى أسماعهم فلا تصغي.
ومنها : وعلى أبصارهم غشاوة على من نصب ، أي وجعل على أبصارهم غشاوة فلا يبصرون سبيل الهداية.
ومنها : ولهم عذاب ، أي ولهم يوم القيامة عذاب عظيم دائم ، ويجوز أن يكون التقدير : ولهم عذاب عظيم في الدنيا بالقتل والسبي أو بالإذلال ووضع الجزية وفي الآخرة بالخلود في نار جهنم.
الخامس : التعميم : وهو في قوله : { ولهم عذاب عظيم } ، فإنه لو اقتصر على قوله عذاب ولم يقل عظيم لاحتمل القليل والكثير ، فلما وصفه بالعظيم تمم المعنى وعلم أن العذاب الذي وعدوا به عظيم ، إما في المقدار وإما في الإيلام والدوام.
السادس : الإشارة ، فإن قوله : { سواء عليهم } إشارة إلى أن السواء الذي أضيف إليهم وباله ونكاله عليهم ومستعل فوقهم ، لأنه لو أراد بيان أن ذلك من وصفهم فحسب لقال : سواء عندهم ، فلما قال : سواء عليهم ، نبه على أنه مستعل عليهم ، فإن كلمة على للاستعلاء وهو الذي قاله هذا القائل من أن على تشعر بالاستعلاء صحيح ، وأما أنها تدل على أن الكلام تضمن معنى الوبال والنكال عليهم فليس بصحيح ، بل المعنى في قولك سواء عليك وعندك كذا وكذا واحد ، وإن كان أكثر الاستعمال بعلى ، قال تعالى :

{ سواء علينا أوعظت أو لم تكن من الواعظين } { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا } سواء عليها رحلتي ومقامي ، وكل هذا لا يدل على معنى الوبال والنكال عليهم.
السابع : مجاز التشبيه شبه قلوبهم لتأبيها عن الحق ، وأسماعهم لإضرابها عن سماع داعي الفلاح ، وأبصارهم لامتناعها عن تلمح نور الهداية بالوعاء المختوم عليه المسدود منافذه المغشي بغشاء يمنع أن يصل إليه ما يصلحه ، لما كانت مع صحتها وقوة إدراكها ممنوعة عن قبول الخير وسماعه وتلمح نوره ، وهذا كله من مجاز التشبيه ، إذ الختم والغشاوة لم يوجدا حقيقة ، وهو بالاستعارة أولى ، إذ من شرط التشبيه أن يذكر المشبه والمشبه به.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)

{ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ، يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم ما يشعرون } ، الناس : اسم جمع لا واحد له من لفظه ، ومرادفه : أناسي ، جمع : إنسان أو إنسي.
قد قالت العرب : ناس من الجن ، حكاه ابن خالويه ، وهو مجاز إذ أصله في بني آدم ، ومادته عند سيبويه رحمه الله والفراء : همزة ونون وسين ، وحذفت همزته شذوذاً ، وأصله أناس ونطق بهذا الأصل ، قال تعالى : { يوم ندعوا كل أناس بإمامهم } فمادته ومادة الإنس واحدة.
وذهب الكسائي إلى أن مادته نون وواو وسين ، ووزنه فعل مشتق من النوس وهو الحركة ، يقال : ناس ينوس نوساً إذا تحرك ، والنوس : تذبذب الشيء في الهواء ، ومنه نوس القرط في الأذن وذلك لكثرة حركته.
وذهب قوم إلى أنه من نسي ، وأصله نسي ثم قلب فصار نيس ، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً فقيل : ناس ، ثم دخلت الألف واللام.
والكلام على هذا الأقوال مذكور في علم التصريف.
من : موصولة ، وشرطية ، واستفهامية ، ونكرة موصوفة ، وتقع على ذي العلم ، وتقع أيضاً على غير ذي العلم إذا عومل معاملة العالم ، أو اختلط به فيما وقعت عليه أو فيما فصل بها ، ولا تقع على آحاد ما لا يعقل مطلقاً خلافاً لزاعم ذلك.
وأكثر لسان العرب أنها لا تكون نكرة موصوفة إلا في موضع يختص بالنكرة ، كقول سويد بن أبي كاهل :
رب من أنضجت غيظاً صدره . . .
لو تمنى لي موتاً لم يطع
ويقلّ استعمالها في موضع لا يختص بالنكرة ، نحو قول الشاعر :
فكفى بنا فضلاً على من غيرنا . . .
حب النبي محمد إيانا
وزعم الكسائي أن العرب لا تستعمل من نكرة موصوفة إلا بشرط وقوعها في موضع لا يقع فيه إلا النكرة ، وزعم هو وأبو الحسن الهنائي أنها تكون زائدة ، وقال الجمهور : لا تزاد.
وتقع من على العاقل المعدوم الذي لم يسبقه وجود ، تتوهمه ، موجوداً خلافاً لبشر المريسي ، وفاقاً للقراء ، وصححه أصحابنا.
فأما قول العرب : أصبحت كمن لم يخلق فنزيد : كمن قد مات ، وأكثر المعربين للقرآن متى صلح عندهم تقدير ما أو من بشيء جوزوا فيها أن تكون نكرة موصوفة ، وإثبات كون ما نكرة موصوفة يحتاج إلى دليل ، ولا دليل قاطع في قولهم : مررت بما معجب لك لإمكان الزيادة ، فإن اطرد ذلك في الرفع والنصب من كلام العرب ، كان سرني ما معجب لك وأحببت ما معجباً لك ، كان في ذلك تقوية لما دعى النحويون من ذلك ، ولو سمع لأمكنت الزيادة أيضاً لأنهم زادوا ما بين الفعل ومرفوعه والفعل ومنصوبه.
الزيادة أمر ثابت لما ، فإذا أمكن ذلك فيها فينبغي أن يحمل على ذلك ولا يثبت لها معنى إلا بدليل قاطع.

وأمعنت الكلام في هذه المسألة بالنسبة إلى ما يقع في هذا الكتاب من علم النحو لما ينبني على ذلك في فهم القرآن.
القول : هو اللفظ الموضوع لمعنى وينطلق على اللفظ الدال على النسبة الإسنادية ، وهو الكلام وعلى الكلام النفساني ، ويقولون في أنفسهم : { لولا يعذبنا الله } وتراكيبه الست تدل على معنى الخفة والسرعة ، وهو متعد لمفعول واحد ، فإن وقعت جملة محكية كانت في موضع المفعول ، وللقول فصل معقود في النحو.
الخداع : قيل إظهار غير ما في النفس ، وأصله الإخفاء ، ومنه سمي البيت المفرد في المنزل مخدعاً لتستر أهل صاحب المنزل فيه ، ومنه الأخدعان : وهما العرقان المستبطنان في العنق ، وسمي الدهر خادعاً لما يخفي من غوائله ، وقيل الخدع أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه ، من قولهم : ضب خادع وخدع إذا أمر الحارث ، وهو صائد الضب ، يده على باب حجره أوهمه إقباله عليه ثم خرج من باب آخر ، وهو راجع إلى معنى القول الأول ، وقيل أصله الفساد ، من قول الشاعر :
أبيض اللون لذيذ طعمه . . .
طيب الريق إذا الريق خدع
أي فسد.
إلا : حرف ، وهو أصل لذوات الاستثناء ، وقد يكون ما بعده وصفاً ، وشرط الوصف به جواز صلاحية الموضع للاستثناء.
وأحكام إلا مستوفاة في علم النحو.
النفس : الدم ، أو النفس : المودع في الهيكل القائم به الحياة ، والنفس ، الخاطر ، ما يدري أي نفسيه يطيع ، وهل النفس الروح أم هي غيره؟ في ذلك خلاف.
وفي حقيقة النفس خلاف كثير ومجمع على أنفس ونفوس ، وهما قياس فعل الاسم الصحيح العين في جميعه القليل والكثير.
الشعور : إدراك الشيء من وجه يدق مشتق من الشعر ، والإدراك بالحاسة مشتق من الشعار ، وهو ثوب بلى الجسد ومشاعر الإنسان حواسه.
{ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون } ، المرض : مصدر مرض ، ويطلق في اللغة على الضعف والفتور ، ومنه قيل : فلان يمرض الحديث أي يفسده ويضعفه.
وقال ابن عرفة : المرض في القلب : الفتور عن الحق ، وفي البدن : فتور الأعضاء ، وفي العين : فتور النظر ، ويطلق ويراد به الظلمة ، قال :
في ليلة مرضت من كل ناحية . . .
فما يحس به نجم ولا قمر
وقيل : المرض : الفساد ، وقال أهل اللغة : المرض والألم والوجع نظائر.
الزيادة : قبلها يتعدى إلى اثنين من باب أعطى وكسى ، وقد تستعمل لازماً نحو : زاد المال.
أليم : فعيل من الألم بمعنى مفعل ، كالسميع بمعنى المسمع ، أو للمبالغة وأصله ألم.
كان : فعل يدخل على المبتدأ والخبر بالشروط التي ذكرت في النحو ، فيدل على زمان مضمون الجملة فقط ، أو عليه وعلى الصيرورة ، وتسمى ناقصة وتكتفي بمرفوع فتارة تكون فعلاً لازماً وتارة متعدياً ، بمعنى كفل أو غزل : كنت الصبي كفلت ، وكنت الصوف غزلته ، وهذا من غريب اللغات ، وقد تزاد ولا فاعل لها إذ ذاك خلافاً لأبي سعيد ، وأحكامها مستوفاة في النحو.

التكذيب : مصدر كذب ، والتضعيف فيه للرمي به كقولك : شجعته وجبنته ، أي رميته بالشجاعة والجبن ، وهي أحد المعاني التي جاءت لها فعل وهي أربعة عشرة : الرمي ، والتعدية ، والتكثير ، والجعل على صفة ، والتسمية ، والدعاء للشيء أو عليه ، والقيام على الشيء ، والإزالة ، والتوجه ، واختصار الحكاية ، وموافقة تفعل وفعل ، والإغناء عنهما ، مثل ذلك : جبنته ، وفرحته ، وكثرته ، وفطرته ، وفسقته ، وسقيته ، وعقرته ، ومرضته ، وقذيت عينه ، وشوق ، وأمن ، قال : آمين ، وولى : موافق تولى ، وقدر : موافق قدر ، وحمر : تكلم بلغة حمير ، وعرد في القتال.
وأما الكذب فسيأتي الكلام عليه ، لما ذكر من الكتاب هدى لهم ، وهم المتقون الذين جمعوا أوصاف الإيمان من خلوص الإعتقاد وأوصاف الإسلام من الأفعال البدنية والمالية ، ولما ذكر ما آل أمرهم إليه في الدنيا من الهدى وفي الآخرة من الفلاح.
ثم أعقب ذلك بمقابلهم من الكفار الذين ختم عليهم بعدم الإيمان ، وختم لهم بما يؤولون إليه من العذاب في النيران.
وبقي قسم ثالث أظهروا الإسلام مقالاً وأبطنوا الكفر اعتقاداً وهم المنافقون ، أخذ يذكر شيئاً من أحوالهم.
ومن في قوله : ومن الناس للتبعيض ، وأبعد من ذهب إلى أنها لبيان الجنس لأنه لم يتقدم شيء مبهم فيبين جنسه.
والألف واللام في الناس للجنس أو للعهد ، فكأنه قال : ومن الكفار السابق ذكرهم من يقول ولا يتوهم أنهم غير مختوم على قلوبهم ، كما ذهب إليه الزمخشري فقال : فإن قلت كيف يجعلون بعض أولئك والمنافقين غير مختوم على قلوبهم؟ وأجاب بأن الكفر جمع الفريقين وصيرهم جنساً واحداً ، وكون المنافقين نوعاً من نوعي هذا الجنس مغايراً للنوع الآخر بزيادة زادوها على الكفر الجامع بينهما من الخديعة والاستهزاء لا يخرجهم من أن يكونوا بعضاً من الجنس ، انتهى.
لأن المنافقين داخلون في الأوصاف التي ذكرت للكفار من استواء الإنذار وعدمه ، وكونهم لا يؤمنون ، وكونهم مختوماً على قلوبهم وعلى سمعهم ومجعولاً على أبصارهم غشاوة ومخبراً عنهم أنهم لهم عذاب عظيم ، فهم قد اندرجوا في عموم الذين كفروا وزادوا أنهم قد ادعوا الإيمان وأكذبهم الله في دعواهم.
وسيأتي شرح ذلك.
وسأل سائل : ما معنى : { ومن الناس من يقول } ؟ ومعلوم أن الذي يقول هو من الناس ، فكيف يصلح لهذا الجار والمجرور وقوعه خبراً للمبتدأ بعده؟ فأجيب بأن هذا تفصيل معنوي لأنه تقدم ذكر المؤمنين ، ثم ذكر الكافرين ، ثم أعقب بذكر المنافقين ، فصار نظير التفصيل اللفظي في قوله : ومن الناس من يعجبك ، ومن الناس من يشري نفسه ، فهو في قوة تفصيل الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق ، كما فصلوا إلى من يعجبك قوله ، ومن يشري نفسه ، ومن : في قوله تعالى : { من يقول } نكرة موصوفة مرفوعة بالابتداء ، والخبر الجار والمجرور المتقدم الذكر.

ويقول : صفة ، هذا اختيار أبي البقاء ، وجوز الزمخشري هذا الوجه.
وكأنه قال : ومن الناس ناس يقولون كذا ، كقوله : { من المؤمنين رجال صدقوا } قال : إن جعلت اللام للجنس يعني في قوله : ومن الناس ، قال : وإن جعلها للعهد فموصولة كقوله : { ومنهم الذين يؤذون النبي } واستضعف أبو البقاء أن تكون موصولة بمعنى الذي قال ، لأن الذي يتناول قوماً بأعيانهم ، والمعنى هنا على الإبهام والتقدير ، ومن الناس فريق يقول : وما ذهب إليه الزمخشري من أن اللام في الناس ، إن كانت للجنس كانت من نكرة موصوفة ، وإن كانت للعهد كانت موصولة ، أمر لا تحقيق له ، كأنه أراد مناسبة الجنس للجنس والعهد للعهد ، ولا يلزم ذلك ، بل يجوز أن تكون اللام للجنس ومن موصولة ، ويجوز أن تكون للعهد ، ومن نكرة موصوفة فلا تلازم بين ما ذكره.
وأما استضعاف أبي البقاء كون من موصولة وزعمه أن المعنى على الإبهام فغير مسلم ، بل المعنى أنها نزلت في ناس بأعيانهم معروفين ، وهم : عبد الله بن أبي بن سلول ، وأصحابه ، ومن وافقه من غير أصحابه ممن أظهر الإسلام وأبطن الكفر ، وقد وصفهم الله تعالى في ثلاث عشرة آية ، وذكر عنهم أقاويل معينة قالوها ، فلا يكن ذلك صادراً إلا من معين فأخبر عن ذلك المعين.
والذي نختار أن تكون من موصولة ، وإنما اخترنا ذلك لأنه الراجح من حيث المعنى ومن حيث التركيب الفصيح.
ألا ترى جعل من نكرة موصوفة إنما يكون ذلك إذا وقعت في مكان يختص بالنكرة في أكثر كلام العرب ، وهذا الكلام ليس من المواضع التي تختص بالنكرة ، وأما أن تقع في غير ذلك فهو قليل جداً ، حتى أن الكسائي أنكر ذلك وهو إمام نحو وسامع لغة ، فلا نحمل كتاب الله ما أثبته بعض النحويين في قليل وأنكر وقوعه أصلاً الكسائي ، فلذلك اخترنا أن تكون موصولة.
ومن : من الأسماء التي لفظها مفرد مذكر دائماً ، وتنطلق عليه فروع المفرد والمذكر إذا كان معناها كذلك فتارة يراعي اللفظ فيفرد ما يعود على من مذكراً ، وتارة يراعي المعنى فيحمل عليه ويطلق المعربون ذلك ، وفي ذلك تفصيل كثير ذكر في النحو.
قال ابن عطية : من يقول آمنا رجع من لفظ الواحد إلى لفظ الجمع بحسب لفظ من ومعناها وحسن ذلك لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة ، ولا يجوز أن يرجع متكلم من لفظ جمع إلى توحد ، لو قلت : ومن الناس من يقولون ويتكلم لم يجز ، انتهى كلامه.
وما ذكر من أنه لا يرجع من لفظ جمع إلى توحد خطأ ، بل نص النحويون على جواز الجملتين ، لكن البدء بالحمل على اللفظ ثم على المعنى أولى من الابتداء بالحمل على المعنى ، ثم يرجع إلى الحمل على اللفظ ، ومما رجع فيه إلى الإفراد بعد الجمع قول الشاعر :

لست ممن يكع أو يستكينو . . .
ن إذا كافحته خيل الأعادي
وفي بعض هذه المسائل تفصيل ، كما أشرنا إليه.
ويقول : أفرد فيه الضمير مذكراً على لفظ من ، وآمنا : جملة هي المقولة ، فهي في موضع المفعول وأتى بلفظ الجمع رعياً للمعنى ، إذ لو راعى لفظ من قال آمنت.
واقتصروا من متعلق الإيمان على الله واليوم الآخر حيدة منهم عن أن يعترفوا بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه وإيهاماً أنهم من طائفة المؤمنين ، وإن كان هؤلاء ، كما زعم الزمخشري ، يهوداً.
فإيمانهم بالله ليس بإيمان ، كقولهم : { عزير ابن الله } وباليوم الآخر ، كذلك لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته ، وهم لو قالوا ذلك على أصل عقيدتهم لكان كفراً ، فكيف إذا قالوا ذلك على طريقة النفاق خديعة للمسلمين واستهزاءً بهم؟ وفي تكرير الباء دليل على مقصود كل ما دخلت عليه الباء بالإيمان.
واليوم الآخر يحتمل أن يراد به : الوقت المحدود من البعث إلى استقرار كل من المؤمنين والكافرين فيما أعد لهم ، ويحتمل أن يراد به : الأبد الدائم الذي لا ينقطع.
وسمي آخراً لتأخره ، إما عن الأوقات المحدودة باعتبار الاحتمال الأول أو عن الأوقات المحدودة باعتبار الاحتمال الثاني.
والباء في بمؤمنين زائدة والموضع نصب لأن ما حجازية وأكثر لسان الحجاز جر الخبر بالباء ، وجاء القرآن على الأكثر ، وجاء النصب في القرآن في قوله : { ما هذا بشراً } { وما هنّ أمّهاتهم }.
وأما في أشعار العرب فزعموا أنه لم يحفظ منه أيضاً إلا قول الشاعر :
وأنا النذير بحرة مسودة . . .
تصل الجيوش إليكم أقوادها
أبناؤها متكفون أباهم . . .
حنقوا الصدور وما هم أولادها
ولا تختص زيادة الباء باللغة الحجازية ، بل تزاد في لغة تميم خلافاً لمن منع ذلك ، وإنما ادعينا أن قوله : بمؤمنين في موضع نصب لأن القرآن نزل بلغة الحجاز ، لأنه حين حذفت الباء من الخبر ظهر النصب فيه ، ولها أحكام كثيرة في باب معقود في النحو.
وإنما زيدت الباء في الخبر للتأكيد ، ولأجل التأكيد في مبالغة نفي إيمانهم ، جاءت الجملة المنفية إسمية مصدرة بهم ، وتسلط النفي على إسم الفاعل الذي ليس مقيداً بزمان ليشمل النفي جميع الأزمان ، إذ لو جاء اللفظ منسحباً على اللفظ المحكي الذي هو : آمنا ، لكان : وما آمنوا ، فكان يكون نفياً للإيمان الماضي ، والمقصود أنهم ليسوا متلبسين بشيء من الإيمان في وقت مّا من الأوقات ، وهذا أحسن من أن يحمل على تقييد الإيمان المنفي ، أي وما هم بمؤمنين بالله واليوم الآخر ، ولم يردّ الله تعالى عليهم قولهم : آمنا ، إنما رد عليهم متعلق القول وهو الإيمان ، وفي ذلك رد على الكرامية في قولهم : إن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب.
وهم في قوله : { وما هم بمؤمنين } عائد على معنى من ، إذ أعاد أولاً على اللفظ فأفرد الضمير في يقول ، ثم أعاد على المعنى فجمع.

وهكذا جاء في القرآن أنه إذا اجتمع اللفظ والمعنى بدىء باللفظ ثم أتبع بالحمل على المعنى.
قال تعالى : { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا } { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصَّدقن } الآية { ومن يقنت منكنّ لله ورسوله وتعمل صالحاً }
وذكر شيخنا الإمام علم الدين أبو محمد عبد الكريم بن علي بن عمر الأنصاري الأندلسي الأصل المصري المولد والمنشأ ، المعروف بابن بنت العراقي ، رحمه الله تعالى ، أنه جاء موضع واحد في القرآن بدىء فيه بالحمل على المعنى أولاً ثم أتبع بالحمل على اللفظ ، وهو قوله تعالى : { وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا } وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه ، إن شاء الله تعالى.
وأورد بعضهم قراءة من قرأ في الشاذ ، { وأن منكم لمن ليبطئنّ } بضم الهمزة متخيلاً أنه مما بدىء فيه بالحمل على المعنى ، وسيأتي الكلام عليه في موضعه.
ولا يجيز الكوفيون الجمع بين الجملتين إلا بفاصل بينهما ، ولم يعتبر البصريون الفاصل ، قال ابن عصفور ، ولم يرد السماع إلا بالفصل ، كما ذهب الكوفيون إليه ، وليس ما ذكر بصحيح ، ألا ترى قوله تعالى : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } فحمل على اللفظ في كان ، إذ أفرد الضمير وجاء الخبر على المعنى ، إذ جاء جمعاً ولا فصل بين الجملتين ، وإنما جاء أكثر ذلك بالفصل لما فيه من إزالة قلق التنافر الذي يكون بين الجملتين.
وقراءة الجمهور : يخادعون الله ، مضارع خادع.
وقرأ عبد الله وأبو حياة يخدعون الله ، مضارع خدع لمجرد ، ويحتمل قوله : { يخادعون الله } أن يكون مستأنفاً ، كأن قائلاً يقول : لم يتظاهرون بالإيمان وليسوا بمؤمنين في الحقيقة؟ فقيل : يخادعون ، ويحتمل أن يكون بدلاً من قوله : يقول آمنا ، ويكون ذلك بياناً ، لأن قولهم : آمنا وليسوا بمؤمنين في الحقيقة مخادعة ، فيكون بدل فعل من فعل لأنه في معناه ، وعلى كلا الوجهين لا موضع للجملة من الإعراب.
ويحتمل أن تكون الجملة في موضع الحال ، وذو الحال الضمير المستكن في يقول ، أي : ومن الناس من يقول آمنا ، مخادعين الله والذين آمنوا.
وجوّز أبو البقاء أن يكون حالاً ، والعامل فيها اسم الفاعل الذي هو : بمؤمنين ، وذو الحال : الضمير المستكن في اسم الفاعل.
وهذا إعراب خطأ ، وذلك أن ما دخلت على الجملة فنفت نسبة الإيمان إليهم ، فإذا قيدت تلك النسبة بحال تسلط النفي على تلك الحال ، وهو القيد ، فنفته ، ولذلك طريقان في لسان العرب : أحدهما : وهو الأكثر أن ينتفي ذلك القيد فقط ، ويكون إذ ذاك قد ثبت العامل في ذلك القيد ، فإذا قلت : ما زيد أقبل ضاحكاً فمفهومه نفي الضحك ويكون قد أقبل غير ضاحك ، وليس معنى الآية على هذا ، إذ لا ينفي عنهم الخداع فقط ، ويثبت لهم الإيمان بغير خداع ، بل المعنى : نفي الإيمان عنهم مطلقاً.

والطريق الثاني : وهو الأقل ، أن ينتفي القيد وينتفي العامل فيه ، فكأنه قال في المثال السابق : لم يقبل زيد ولم يضحك : أي لم يكن منه إقبال ولا ضحك.
وليس معنى الآية على هذا ، إذ ليس المراد نفي الإيمان عنهم ونفي الخداع.
والعجب من أبي البقاء كيف تنبه لشيء من هذا فمنع أن يكون يخادعون في موضع الصفة فقال : ولا يجوز أن يكون في موضع جر على الصفة لمؤمنين ، لأن ذلك يوجب نفي خداعهم ، والمعنى على إثبات الخداع ، انتهى كلامه.
فأجاز ذلك في الحال ولم يجز ذلك في الصفة ، وهما سواء ، ولا فرق بين الحال والصفة في ذلك ، بل كل منهما قيد يتسلط النفي عليه ، والله تعالى هو العالم الذي لا يخفى عليه شيء.
فمخادعة المنافقين الله هو من حيث الصورة لا من حيث المعنى من جهة تظاهرهم بالإيمان وهم مبطنون للكفر ، قاله جماعة ، أو من حيث عدم عرفانهم بالله وصفاته فظنوا أنه ممن يصح خداعه.
فالتقدير الأول مجاز والثاني حقيقة ، أو يكون على حذف مضاف ، أي يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا ، فتارة يكون المحذوف مراداً وتارة لا يكون مراداً ، بل مخادعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة مخادعة الله ، فجاء : { يخادعون الله } ، وهذا الوجه قاله الحسن والزجاج.
وإذا صح نسبة مخادعتهم إلى الله تعالى بالأوجه التي ذكرناها ، كما ذكرناها ، فلا ضرورة تدعو إلى أن نذهب إلى أن اسم مقحم ، لأن المعنى يخادعون الذين آمنوا ، كما ذهب إليه الزمخشري ، وقال : يكون من باب : أعجبني زيد وكرمه ، المعنى هذا أعجبني كرم زيد ، وذكر زيد توطئة لذكر كرمه ، والنسبة إلى الإعجاب إلى كرمه هي المقصودة ، وجعل من ذلك والله ورسوله أحق أن يرضوه ، إن الذين يؤذون الله ورسوله وما ذكره في هذه المثل غير مسلّم له.
وللآيتين الشريفتين محامل تأتي في مكانها ، إن شاء الله تعالى.
وأما أعجبني زيد وكرمه ، فإن الإعجاب أسند إلى زيد بجملته ، ثم عطف عليه بعض صفاته تمييزاً لصفة الكرم من سائر الصفات التي انطوى عليها لشرف هذه الصفة ، فصار من المعنى نظيراً لقوله تعالى : { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } فلا يدعي كما ادعى الزمخشري أن الاسم مقحم ، وأنه ذكر توطئة لذكر الكرم.
وخادع الذي مضارعه يخادع على وزن فاعل ، وفاعل يأتي لخمسة معان : لاقتسام الفاعلية ، والمفعولية في اللفظ ، والاشتراك فيهما من حيث المعنى ، ولموافقة أفعل المتعدي ، وموافقة المجرد للإغناء عن أفعل وعن المجرد.
ومثل ذلك : ضارب زيداً عمر ، وباعدته ، وواريت الشيء ، وقاسيت.
وخادع هنا إما لموافقة الفعل المجرد فيكون بمعنى خدع ، وكأنه قال : يخدعون الله ، ويبينه قراءة ابن مسعود وأبي حياة ، وقد تقدمت.

ويحتمل أن يكون خادع من باب المفاعلة ، فمخادعتهم تقدم تفسيرها ، ومخادعة الله لهم حيث أجرى عليهم أحكام المسلمين واكتفى منهم في الدنيا بإظهار الإسلام ، وإن أبطنوا خلافه ، ومخادعة المؤمنين لهم كونهم امتثلوا أحكام المسلمين عليهم.
وفي مخادعتهم هم للمؤمنين فوائد لهم ، من تعظيمهم عند المؤمنين ، والتطلع على أسرارهم فيغشونها إلى أعدائهم ، ورفع حكم الكفار عنهم من القتل وضرب الجزية ، وغير ذلك ، وما ينالون من الإحسان بالهداية وقسم الغنائم.
وقرأ : وما يخادعون ، الحرميان ، وأبو عمرو.
وقرأ باقي السبعة : وما يخدعون.
وقرأ الجارود بن أبي سبرة ، وأبو طالوت عبد السلام بن شداد : وما يخدعون مبنياً للمفعول.
وقرأ بعضهم : وما يخادعون ، بفتح الدال مبنياً للمفعول.
وقرأ قتادة ، ومورق العجلي : وما يخدعون ، من خدّع المشدّد مبنياً للفاعل ، وبعضهم يفتح الياء والخاء وتشديد الدال المكسورة.
فهذه ست قراءات توجيه : الأولى : أن المعنى في الخداع إنما هو الوصول إلى المقصود من المخدوع ، بأن ينفعل له فيما يختار ، وينال منه ما يطلب على غرة من المخدوع وتمكن منه وتفعل له ، ووبال ذلك ليس راجعاً للمخدوع ، إنما وباله راجع إلى المخادع ، فكأنه ما خادع ولا كاد إلا نفسه بإيرادها موارد الهلكة ، وهو لا يشعر بذلك جهلاً منه بقبيح انتحاله وسوء مآله.
وعبر عن هذا المعنى بالمخادعة على وجه المقابلة ، وتسمية الفعل الثاني باسم الفعل الأول المسبب له ، كما قال :
ألا لا يجهلن أحد علينا . . .
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
جعل انتصاره جهلاً ، ويؤيد هذا المنزع هنا أنه قد يجيء من واحد : كعاقبت اللص ، وطارقت النعل.
ويحتمل أن تكون المخادعة على بابها من اثنين ، فهم خادعون أنفسهم حيث منوهاً الأباطيل ، وأنفسهم خادعتهم حيث منتهم أيضاً ذلك ، فكأنها مجاورة بين اثنين ، وقال الشاعر :
تذكر من أني ومن أين شربه . . .
يؤامر نفسيه لذي البهجة الإبل
وأنشد ابن الأعرابي :
لم تدر ما ولست قائلها . . .
عمرك ما عشت آخر الأبد
ولم تؤامر نفسيك ممتريا . . .
فيها وفي أختها ولم تلد
وقال :
يؤامر نفسيه وفي العيش فسحة . . .
أيستوبع الذوبان أم لا يطورها
وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي :
وكنت كذات الضي لم تدر إذ بغت . . .
تؤامر نفسيها أتسرق أم تزني
ففي هذه الأبيات قد جعل للشخص نفسين على معنى الخاطرين ، ولها جنسين ، أو يكون فاعل بمعنى فعل ، فيكون موافقاً لقراءة : وما يخدعون.
وتقول العرب : خادعت الرجل ، أعملت التحيل عليه فخدعته ، أي تمت عليه الحيلة ونفذ فيه المراد ، خِدعاً ، بكسر الخاء في المصدر وخديعة ، حكاه أبو زيد.
فالمعنى : وما ينفذ السوء إلا على أنفسهم ، والمراد بالأنفس هنا : ذواتهم.
فالفاعل هو المفعول ، وقد ادعى بعضهم أن هذا من المقلوب وأن المعنى : وما يخادعهم إلا أنفسهم قال : لأن الإنسان لا يخدع نفسه ، بل نفسه هي التي تخدعه وتسوّل له وتأمره بالسوء.

وأورد أشياء مما قلبته العرب ، وللنحويين في القلب مذهبان : أحدهما : أنه يجوز في الكلام والشعر اتساعاً واتكالاً على فهم المعنى.
والثاني : أنه لا يجوز في الكلام ويجوز في الشعر حالة الاضطرار ، وهذا هو الذي صححه أصحابنا ، وكان هذا الذي ادعى القلب لما رأى قولهم : منتك نفسك ، وقوله تعالى : { بل سولت لكم أنفسكم } تخيل أن الممني والمسوّل غير الممنيَّ والمسوَّل له ، وليس على ما تخيل ، بل الفاعل هنا هو المفعول.
ألا ترى أنك تقول : أحب زيد نفسه ، وعظم زيد نفسه؟ فلا يتخيل هنا تباين الفاعل والمفعول إلا من حيث اللفظ ، وأما المدلول فهو واحد.
وإذا كان المعنى صحيحاً دون قلب ، فأي حاجة تدعو إليه هذا؟ مع أن الصحيح أنه لا يجوز إلا في الشعر ، فينبغي أن ينزه كتاب الله تعالى منه.
ومن قرأ : وما يخادعون أو يخدعون مبنياً للمفعول ، فانتصاب ما بعد إلا على ما انتصب عليه زيد غبن رأيه ، إما على التمييز على مذهب الكوفيين ، وإما على التشبيه بالمفعول به على ما زعم بعضهم ، وإما على إسقاط حرف الجر ، أي : في أنفسهم ، أو عن أنفسهم ، أو ضمن الفعل معنى ينتقضون ويستلبون ، فينتصب على أنه مفعول به ، كما ضمن الرفث معنى الإفضاء فعدى بإلى في قوله : { الرفث إلى نسائكم } ولا يقال رفث إلى كذا ، وكما ضمن { هل لك إلى أن تزكى } معنى أجذبك ، ولا يقال : إلا هل لك في كذا.
وفي قراءة : وما يخدعون ، فالتشديد إما للتكثير بالنسبة للفاعلين أو للمبالغة في نفس الفعل ، إذ هو مصير إلى عذاب الله وإما لموافقة فعل نحو : قدر الله وقدر ، وقد تقدم ذكر معاني فعل.
وقراءة من قرأ : وما يخدعون ، أصلها يختدعون فأدغم ، ويكون افتعل فيه موافقاً لفعل نحو : اقتدر على زيد ، وقدر عليه ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل ، وهي اثنا عشر معنى ، وقد تقدم ذكرها.
{ وما يشعرون } : جملة معطوفة على : وما يخادعون إلا أنفسهم ، فلا موضع لها من الإعراب ، ومفعول يشعرون محذوف تقديره إطلاع الله نبيه على خداعهم وكذبهم ، روي ذلك عن ابن عباس ، أو تقديره هلاك أنفسهم وإيقاعها في الشقاء الأبدي بكفرهم ونفاقهم ، روي ذلك عن زيد.
ويحتمل أن يكون وما يشعرون : جملة حالية تقديره وما يخادعون إلا أنفسهم غير شاعرين بذلك ، لأنهم لو شعروا أن خداعهم لله وللمؤمنين إنما هو خداع لأنفسهم لما خادعوا الله والمؤمنين.
وجاء : يخادعون الله بلفظ المضارع لا بلفظ الماضي لأن المضي يشعر بالانقطاع بخلاف المضارع ، فإنه يشعر في معرض الذم أو المدح بالديمومة ، نحو : زيد يدعّ اليتيم ، وعمرو يقري الضيف.
والقراء على فتح راء مرض في الموضعين إلا الأصمعي ، عن أبي عمرو ، فإنه قرأ بالسكون فيهما ، وهما لغتان كالحلب والحلب ، والقياس الفتح ، ولهذا قرأ به الجمهور ، ويحتمل أن يراد بالمرض الحقيقة ، وأن المرض الذي هو الفساد أو الظلمة أو الضعف أو الألم كائن في قلوبهم حقيقة ، وسبب إيجاده في قلوبهم هو ظهور الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه ، وفشو الإسلام ونصر أهله.

ويحتمل أن يراد به المجاز ، فيكون قد كنى به عما حل القلب من الشك ، قاله ابن عباس ، أو عن الحسد والغل ، كما كان عبد الله بن أبي بن سلول ، أو عن الضعف والخور لما رأوا من نصر دين الله وإظهاره على سائر الأديان ، وحمله على المجاز أولى لأن قلوبهم لو كان فيها مرض لكانت أجسامهم مريضة بمرضها ، أو كان الحمام عاجلهم ، قال : بعض المفسرين يشهد لهذا الحديث النبوي والقانون الطبي ، أما الحديث ، فقوله صلى الله عليه وسلم : « إن في جسد ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد جميعه ، وإذا فسدت فسد الجسد جميعه ، ألا وهي القلب »
وأما القانون الطبي ، فإن الحكماء وصفو القلب على ما اقتضاه علم التشريح ، ثم قالوا : إذا حصلت فيه مادة غليظة ، فإن تملكت منه ومن غلافه أو من أحدهما فلا يبقى مع ذلك حياة وعاجلت المنية صاحبه ، وربما تأخرت تأخيراً يسيراً ، وإن لم تتمكن منه المادة المنصبة إليه ولا من غلافه ، أخرت الحياة مدة يسيرة؟ وقالوا : لا سبيل إلى بقاء الحياة مع مرض القلب ، وعلى هذا الذي تقرر لا تكون قلوبهم مريضة حقيقة.
وقد تلخص في القرآن من المعاني السببية التي تحصل في القلب سبعة وعشرون مرضاً ، وهي : الرين ، والزيع ، والطبع ، والصرف ، والضيق ، والحرج ، والختم ، والإقفال ، والإشراب ، والرعب ، والقساوة ، والإصرار ، وعدم التطهير ، والنفور ، والاشمئزاز ، والإنكار ، والشكوك ، والعمى ، والإبعاد بصيغة اللعن ، والتأبى ، والحمية ، والبغضاء ، والغفلة ، والغمزة ، واللهو ، والارتياب ، والنفاق.
وظاهر آيات القرآن تدل على أن هذه الأمراض معان تحصل في القلب فتغلب عليه ، وللقلب أمراض غير هذه من الغل والحقد والحسد ، ذكرها الله تعالى مضافة إلى جملة الكفار.
والزيادة تجاوز المقدار المعلوم ، وعلم الله محيط بما أضمروه ومن سوء الاعتقاد والبغض والمخادعة ، فهو معلوم عنده ، كما قال تعالى : { وكل شيء عنده بمقدار } وفي كل وقت يقذف في قلوبهم من ذلك القدر المعلوم شيئاً معلوم المقدار عنده ، ثم يقذف بعد ذلك شيئاً آخر ، فيصير الثاني زيادة على الأول ، إذا لو لم يكن الأول معلوم المقدار لما تحققت الزيادة ، وعلى هذا المعنى يحمل : { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } وزيادة المرض إما من حيث أن ظلمات كفرهم تحل في قلوبهم شيئاً فشيئاً ، وإلى هذا أشار بقوله تعالى : { ظلمات بعضها فوق بعض } أو من حيث أن المرض حصل في قلوبهم بطريق الحسد أو الهم ، بما يجدد الله سبحانه لدينه من علو الكلمة ولرسوله وللمؤمنين من النصر ونفاذ الأمر ، أو لما يحصل في قلوبهم من الرعب ، وإسناد الزيادة إلى الله تعالى إسناد حقيقي بخلاف الإسناد في قوله تعالى :

{ فزادتهم رجساً إلى رجسهم } { أيكم زادته هذه إيماناً }
وقالت المعتزلة : لا يجوز أن تكون زيادة المرض من جنس المزيد عليه ، إذ المزيد عليه هو الكفر ، فتأولوا ذلك على أن يحمل المرض على الغم لأنهم كانوا يغتمون بعلو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو على منع زيادة الألطاف ، أو على ألم القلب ، أو على فتور النية في المحاربة لأنهم كانت أولاً قلوبهم قوية على ذلك ، أو على أن كفرهم كان يزداد بسبب ازدياد التكليف من الله تعالى.
وهذه التأويلات كلها إنما تكون إذا كان قوله : { فزادهم الله مرضاً } خبراً ، وإما إذا كان دعاء فلا ، بل يحتمل أن يكون الدعاء حقيقة فيكون دعاء بوقوع زيادة المرض ، أو مجازاً فلا تقصد به الإجابة لكون المدعو به واقعاً ، بل المراد به السب واللعن والنقص ، كقوله تعالى : { قاتلهم الله أنى يؤفكون } { ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون } وكقوله : لعن الله إبليس وأخزاه ، ومعلوم أن ذلك قد وقع ، وأنه قد باء بخزي ولعن لا مزيد عليه لأنه لا انتهاء له ، وتنكير مرض من قوله : { في قلوبهم مرض } لا يدل على أن جميع أجناس المرض في قلوبهم ، كما زعم بعض المفسرين ، لأن دلالة النكرة على ما وضعت له إنما هي دلالة على طريقة البدل ، لأنها دلالة تنتظم كل فرد فرد على جهة العموم ، ولم يحتج إلى جمع مرض لأن تعداد المحال يدل على تعداد الحال عقلاً ، فاكتفى بالمفرد عن الجمع ، وتعدية الزيادة إليهم لا إلى القلوب ، إذ قال تعالى : { فزادهم } ، ولم يقل : فزادها ، يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون على حذف مضاف ، أي فزاد الله قلوبهم مرضاً ، والثاني : أنه زاد ذواتهم مرضاً لأن مرض القلب مرض لسائر الجسد ، فصح نسبه الزيادة إلى الذوات ، ويكون ذلك تنبيهاً على أن في ذواتهم مرضاً ، وإنما أضاف ذلك إلى قلوبهم لأنها محل الإدراك والعقل.
وأمال حمزة فزادهم في عشرة أفعال ألفها منقلبة عن ياء إلا فعلاً واحداً ألفه منقلبة عن واو ووزنه فعل بفتح العين ، إلا ذلك الفعل فإن وزنه فعل بكسر العين ، وقد جمعتها في بيتين في قصيدتي المسماة ، بعقد اللآلي في القراءآت السبع العوالي ، وهما :
وعشرة أفعال تمال لحمزة . . .
فجاء وشاء ضاق ران وكملا
بزاد وخاب طاب خاف معاً . . .
وحاق زاغ سوى الأحزاب مع صادها فلا
يعني أنه قد استثنى حمزة ، { وإذ زاغت الأبصار } في سورة الأحزاب ، { وإذ زاغت عنهم الأبصار } في سورة ص ، فلم يملها.
ووافق ابن ذكوان حمزة على إمالة جاء وشاء في جميع القرآن ، وعلى زاد في أول البقرة ، وعنه خلاف في زاد هذه في سائر القرآن ، وبالوجهين قرأته له ، والإمالة لتميم ، والتفخيم للحجاز.

وأليم : تقدم تفسيره.
فإذا قلنا إنه للمبالغة فيكون محوّلاً من فعل لها ونسبته إلى العذاب مجاز ، لأن العذاب لا يألم ، إنما يألم صاحبه ، فصار نظير قولهم : شعر شاعر ، والشعر لا يشعر إنما الشاعر ناظمه.
وإذا قلنا إنه بمعنى : مؤلم ، كما قال عمرو بن معدي كرب :
أمن ريحانة الداعي السميع . . .
أي المسمع ، وفعيل : بمعنى مفعل مجاز ، لأن قياس أفعل مفعل ، فالأول مجاز في التركيب ، وهذا مجاز في الإفراد.
وقد حصل للمنافقين مجموع العذابين : العذاب العظيم المذكور في الآية ، قيل لانخراطهم معهم ولانتظامهم فيهم.
ألا ترى أن الله تعالى في تلك الآية قد أخبر أنهم لا يؤمنون في قوله : لا يؤمنون ، وأخبر بذلك في هذه الآية بقوله : وما هم بمؤمنين؟ والعذاب الأليم ، فصار المنافقون أشد عذاباً من غيرهم من الكفار ، بالنص على حصول العذابين المذكورين لهم ، ولذلك قال تعالى : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } ثم ذكر تعالى أن كينونة العذاب الأليم لهؤلاء سببها كذبهم وتكذيبهم وما منسوية أي بكونهم يكذبون ، ولا ضمير يعود عليها لأنها حرف ، خلافاً لأبي الحسن.
ومن زعم أن كان الناقصة لا مصدر لها ، فمذهبه مردود ، وهو مذهب أبي علي الفارسي.
وقد كثر في كتاب سيبويه المجيء بمصدر كان الناقصة ، والأصح أنه لا يلفظ به معها ، فلا يقال : كان زيد قائماً كوناً ، ومن أجاز أن تكون ما موصولة بمعنى الذي ، فالعائد عنده محذوف تقديره يكذبونه أو يكذبونه.
وزعم أبو البقاء أن كون ما موصولة أظهر ، قال : لأن الهاء المقدرة عائدة إلى الذي دون المصدر ، ولا يلزم أن يكون ، ثم هاء مقدرة ، بل من قرأ : يكذبون ، بالتخفيف ، وهم الكوفيون ، فالفعل غير متعد ، ومن قرأ بالتشديد ، وهم الحرميان ، والعربيان ، فالمفعول محذوف لفهم المعنى تقديره فكونهم يكذبون الله في أخباره والرسول فيما جاء به ، ويحتمل أن يكون المشدد في معنى المخفف على جهة المبالغة ، كما قالوا في : صدق صدق ، وفي : بان الشيء بين ، وفي : قلص الثوب قلص.
والكذب له محامل في لسان العرب : أحدها : الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه ، وعمرو بن بحر يزيد في ذلك أن يكون المخبر عالماً بالمخالفة ، وهي مسألة تكلموا عليها في أصول الفقه.
الثاني : الإخبار بالذي يشبه الكذب ولا يقصد به إلا الحق ، قالوا : ومنه ما ورد في الحديث عن إبراهيم صلوات الله عليه وعلى نبينا.
الثالث : الخطأ ، كقول عبادة فيمن زعم : أن الوتر واجب ، كذب أبو محمد أي أخطأ.
الرابع : البطول ، كقولهم : كذب الرجل ، أي بطل عليه أمله وما رجا وقدر.
الخامس : الإغراء بلزوم المخاطب الشيء المذكور ، كقولهم : كذب عليك العسل ، أي أكل العسل ، والمغرى به مرفوع بكذب ، وقالوا : لا يجوز نصبه إلا في حرف شاذ ، ورواه القاسم بن سلام عن معمر بن المثنى ، والمؤثم هو الأول.

وقد اختلف الناس في الكذب فقال قوم : الكذب كله قبيح لا خير فيه ، وقالوا : سئل مالك عن الرجل يكذب لزوجته ولابنه تطييباً للقلب فقال : لا خير فيه.
وقال قوم : الكذب محرم ومباح ، فالمحرم الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه إذا لم يكن في مراعاته مصلحة شرعية ، والمباح ما كان فيه ذلك ، كالكذب لإصلاح ذات البين.
وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات خلافاً ، قال قوم : نزلت في منافقي أهل الكتاب ، كعبد الله بن أبي بن سلول ، ومعتب بن قشير ، والجد بن قيس ، حين قالوا : تعالوا إلى خلة نسلم بها من محمد وأصحابه ونتمسك مع ذلك بديننا ، فأظهروا الإيمان باللسان واعتقدوا خلافه.
ورواه أبو صالح ، عن ابن عباس ، وقال قوم : نزلت في منافقي أهل الكتاب وغيرهم ، رواه السدي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وبه قال أبو العالية ، وقتادة ، وابن زيد.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)

إذا : ظرف زمان ، ويغلب كونها شرطاً ، وتقع للمفاجأة ظرف زمان وفاقاً للرياشي ، والزجاج ، لا ظرف مكان خلافاً للمبرد ، ولظاهر مذهب سيبويه ، ولا حرفاً خلافاً للكوفيين.
وإذا كانت حرفاً ، فهي لما تيقن أو رجح وجوده ، ويجزم بها في الشعر ، وأحكامها مستوفاة في علم النحو.
الفعل الثلاثي الذي انقلب عين فعله ألفاً في الماضي ، إذا بني للمفعول ، أخلص كسر أوله وسكنت عينه ياء في لغة قريش ومجاوريهم من بني كنانة ، وضم أولها عند كثير من قيس وعقيل ومن جاورهم ، وعامة بني أسد.
وبهذه اللغة قرأ الكسائي وهشام في : قيل ، وغيض ، وحيل ، وسيىء ، وسيئت ، وجيء ، وسيق.
وافقه نافع وابن ذكوان في : سيىء ، وسيئت.
زاد ابن ذكوان : حيل ، وساق.
وباللغة الأولى قرأ باقي القراءة ، وفي ذلك لغة ثالثة ، وهي إخلاص ضم فاء الكلمة وسكون عينه واواً ، ولم يقرأ بها ، وهي لغة لهذيل ، وبني دبير.
والكلام على توجيه هذه اللغات وتكميل أحكامها مذكور في النحو.
الفساد : التغير عن حالة الاعتدال والاستقامة.
قال سهيل في الفصيح : فسد ، ونقيضه : الصلاح ، وهو اعتدال الحال واستواؤه على الحالة الحسنة.
الأرض : مؤنثة ، وتجمع على أرّض وأراض ، وبالواو والنون رفعاً وبالياء والنون نصباً وجراً شذوذاً ، فتفتح العين ، وبالألف والتاء ، قالوا : أرضات ، والأراضي جمع جمع كأواظب.
إنما : ما : صلة لأن وتكفها عن العمل ، فإن وليتها جملة فعلية كانت مهيئة ، وفي ألفاظ المتأخرين من النحويين وبعض أهل الأصول إنها للحصر ، وكونها مركبة من ما النافية ، دخل عليها إن التي للإثبات فأفادت الحصر ، قول ركيك فاسد صادر عن غير عارف بالنحو ، والذي نذهب إليه أنها لا تدل على الحصر بالوضع ، كما أن الحصر لا يفهم من أخواتها التي كفت بما ، فلا فرق بين : لعل زيداً قائم ، ولعل ما زيد قائم ، فكذلك : إن زيداً قائم ، وإنما زيد قائم ، وأذا فهم حصر ، فإنما يفهم من سياق الكلام لا أن إنما دلت عليه ، وبهذا الذي قررناه يزول الإشكال الذي أوردوه في نحو قوله تعالى : { إنما أنت منذر } { قل إنما أنا بشر } { إنما أنت منذر من يخشاها }.
وأعمال إنما قد زعم بعضهم أنه مسموع من لسان العرب ، والذي عليه أصحابنا أنه غير مسموع.
نحن : ضمير رفع منفصل لمتكلم معه غيره أو لمعظم نفسه ، وفي اعتلال بنائه على الضم أقوال تذكر في النحو.
ألا : حرف تنبيه زعموا أنه مركب من همزة الاستفهام ولا النافية للدلالة على تحقق ما بعدها ، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقاً ، كقوله تعالى : { أليس ذلك بقادر } ولكونها من المنصب في هذه لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم ، وقال ذلك الزمخشري.
والذي نختاره أن ألا التنبيهية حرف بسيط ، لأن دعوى التركيب على خلاف الأصل ، ولأن ما زعموا من أن همزة الاستفهام دخلت على لا النافية دلالة على تحقق ما بعدها ، إلى آخره خطاً ، لأن مواقع ألا تدلّ على أن لا ليست للنفي ، فيتم ما ادعوه ، ألا ترى أنك تقول : ألا إن زيداً منطلق ، ليس أصله لا أن زيداً منطلق ، إذ ليس من تراكيب العرب بخلاف ما نظر به من قوله تعالى :

{ أليس ذلك بقادر } لصحة تركيب ، ليس زيد بقادر ، ولوجودها قبل رب وقبل ليت وقبل النداء وغيرها مما لا يعقل فيه أن لا نافية ، فتكون الهمزة للاستفهام دخلت على لا النافية فأفادت التحقيق ، قال امرؤ القيس :
ألا رب يوم لك منهن صالح . . .
ولا سيما يوم بدارة جلجل
وقال الآخر :
ألا ليت شعري كيف حادث وصلها . . .
وكيف تراعي وصلة المتغيب
وقال الآخر :
ألا يا لقومي للخيال المشوق . . .
وللدار تنأى بالحبيب ونلتقي
وقال الآخر :
ألا يا قيس والضحاك سيرا . . .
فقد جاوزتما خمر الطريق
إلى غير هذا مما لا يصلح دخول لا فيه.
وأما قوله : لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يلتقي به القسم فغير صحيح ، ألا ترى أن الجملة بعدها تستفتح ، برب ، وبليت ، وبفعل الأمر ، وبالنداء ، وبحبذا ، في قوله :
ألا حبذا هند وأرض بها هند . . .
ولا يلتقي بشيء من هذا القسم وعلامة ألا هذه التي هي تنبيه واستفتاح صحة الكلام دونها ، وتكون أيضاً حرف عرض فيليها الفعل ، وإن وليها الاسم فعلى إضمار الفعل ، وحرف جواب بقول القائل : ألم تقم فتقول : ألا بمعنى بلى؟ نقل ذلك صاحب كتاب ( وصف المباني في حروف المعاني ) قال : وهو قليل شاذ ، وأما ألا التي للتمني في قولهم : إلا ماء ، فذكرها النحاة في فصل لا الداخل عليها الهمزة.
لكن : حرف استدراك ، فلا يجوز أن يكون ما قبلها موافقاً لما بعدها ، فإن كان نقيضاً أو ضداً جاز ، أو خلافاً ففي الجواز خلاف ، وفي التصحيح خلاف.
وحكى أبو القاسم بن الرمال جواز أعمالها مخففة عن يونس ، وحكى ذلك غيره عن الأخفش ، وحكى عن يونس أنها ليست من حروف العطف ، ولم تقع في القرآن غالباً إلا وواو العطف قبلها ، ومما جاءت فيه من غير واو قوله تعالى : { لكن الذين اتقوا ربهم } { لكن الله يشهد } وفي كلام العرب :
إن ابن ورقاء لا تخشى غوائله . . .
لكن وقائعه في الحرب تنتظر
وبقية أحكام لكن مذكورة في النحو.
الكاف : حرف تشبيه تعمل الجر وأسميتها مختصة عندنا بالشعر ، وتكون زائدة وموافقة لعلى ، ومن ذلك قولهم : كخير في جواب من قال كيف أصبحت ، ويحدث فيها معنى التعليل ، وأحكامها مذكورة في النحو.
{ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ، الآ إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } ، السفه : الخفة.

ومنه قيل للثوب الخفيف النسج سفيه ، وفي الناس خفة الحلم ، قاله ابن كيسان ، أو البهت والكذب والتعمد خلاف ما يعلم ، قاله مؤرج ، أو الظلم والجهل ، قاله قطرب.
والسفهاء جمع سفيه ، وهو جمع مطرد في فعيل الصحيح الوصف المذكر العاقل الذي بينه وبين مؤنثه التاء ، والفعل منه سفه بكسر العين وضمها ، وهو القياس لأجل اسم الفاعل.
قالوا : ونقيض السفه : الرشد ، وقيل : الحكمة ، يقال رجل حكيم ، وفي ضده سفيه ، ونظير السفه النزق والطيش.
{ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون } ، اللقاء : استقبال الشخص قريباً منه ، والفعل منه لقي يلقى ، وقد يقال لاقى ، وهو فاعل بمعنى الفعل المجرّد ، وسمع للقى أربعة عشر مصدراً ، قالوا : لقى ، لقيا ، ولقية ، ولقاة ، ولقاء ، ولقاء ، ولقى ، ولقي ، ولقياء ، ولقياء ، ولقيا ، ولقيانا ، ولقيانة ، وتلقاء.
الخلو : الانفراد ، خلا به أي انفرد ، أو المضي ، { قد خلت من قبلكم سنن } الشيطان ، فيعال عند البصريين ، فنونه أصلية من شطن ، أي بعد ، واسم الفاعل شاطن ، قال أمية :
أيما شاطن عصاه عكاه . . .
ثم يلقى في السجن والأكبال
وقال رؤبة :
وفي أخاديد السياط المتن . . .
شاف لبغي الكلب المشيطن
ووزنه فعلان عند الكوفيين ، ونونه زائدة من شاط يشيط إذا هلك ، قال الشاعر :
قد تظفر العير في مكنون قائلة . . .
وقد تشطو على أرماحنا البطل
والشيطان كل متمرد من الجن والإنس والدواب ، قاله ابن عباس ، وأنثاه شيطانة ، قال الشاعر :
هي البازل الكوماء لا شيء غيرها . . .
وشيطانة قد جن منها جنونها
وشياطين : مع شيطان ، نحو غراثين في جمع غرثان ، وحكاه الفراء ، وهذا على تقدير أن نونه زائدة تكون نحو : غرثان ، مع اسم معناه الصحبة اللائقة بالمذكور ، وتسكينها قبل حركة لغة ربيعة وغنم ، قاله الكسائي.
وإذا سكنت فالأصح أنها اسم ، وإذا ألقيت ألف اللام أو ألف الوصل ، فالفتح لغة عامّة العرب ، والكسر لغة ربيعة ، وتوجيه اللغتين في النحو ، ويستعمل ظرف مكان فيقع خبراً عن الجثة والأحداث ، وإذا أفرد نوّن مفتوحاً ، وهي ثلاثي الأصل من باب المقصور ، إذ ذاك لا من باب يد ، خلافاً ليونس ، وأكثر استعمال معاً حال ، نحو : جميعاً ، وهي أخص من جميع لأنها تشرك في الزمان نصاً ، وجميع تحتمله.
وقد سأل أحمد بن يحيى أحمد بن قادم عن الفرق بين.
قام عبد الله وزيد معاً ، وقام عبد الله وزيد جميعاً ، قال : فلم يزل يركض فيها إلى الليل ، وفرق ابن يحيى : بأن جيمعاً يكون القيام في وقتين وفي وقت واحد ، وأما إذا قلت : معاً ، فيكون في وقت واحد.
الاستهزاء : الاستخفاف والسخرية ، وهو استفعل بمعنى الفعل المجرد ، وهو فعل ، تقول : هزأت به واستهزأت بمعنى واحد ، مثل استعجب : بمعنى عجب ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها استفعل.

{ الله يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون } المد : التطويل ، مدّ الشيء : طوّله وبسطه ، { ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظلّ } وأصل المد : الزيادة ، وكل شيء دخل في شيء فكثره فقد مدّه ، قاله اللحياني.
وأمدّ بمعنى مدّ ، مدّ الجيش ، وأمدّه : زاده وألحق به ما يقويه من جنسه.
وقال بعض أهل العلم : مدّ زاد من الجنس ، وأمدّ : زاد من غير الجنس.
وقال يونس : مدّ في الخير وأمدّ في الشر.
انتهى قوله.
ويقال : مدّ النهر وأمدّه نهر آخر ، ومادّة الشيء ما يمدّه ، الهاء فيه للمبالغة.
وقال ابن قتيبة : مددت الدواة وأمددتها بمعنى ، ويقال : مددنا القوم : صرنا لهم أنصاراً وأمددناهم بغيرنا.
وقال اللحياني : أمد الأمير جنده بالخيل ، وفي التنزيل : { وأمددناكم بأموال وبنين } الطغيان : مجاوزة المقدار المعلوم ، يقال طغى الماء ، وطغت النار.
العمه : التردد والتحير ، وهو شبيه بالعمى ، إلا أن العمى توصف به العين التي ذهب نورها ، والرأي الذي غاب عنه الصواب.
يقال : عمه ، يعمه ، عمهاً ، وعمهاناً فهو : عمه ، وعامه.
ويقال : برية عمهاء إذا لم يكن بها علم يستدل به.
وقال ابن قتيبة : العمه أن يركب رأسه ولا يبصر ما يأتي.
وقيل : العمه : العمى عن الرشد.
{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين } ، الاشتراء والشراء بمعنى : الاستبدال بالشيء والاعتياض منه ، إلا أن الاشتراء يستعمل في الابتياع والبيع ، وهو مما جاء فيه افتعل بمعنى الفعل المجرد ، وهو أحد المعاني التي جاء لها افتعل.
الربح : هو ما يحصل من الزيادة على رأس المال.
التجارة : هي صناعة التاجر ، وهو الذي يتصرف في المال لطلب النموّ والزيادة.
المهتدي : اسم فاعل من اهتدى وافتعل فيه للمطاوعة ، هديته فاهتدى ، نحو : سويته فاستوى ، وغممته فاغتم.
والمطاوعة أحد المعاني التي جاءت لها افعل ، ولا تكون افتعل للمطاوعة مبنية إلا من الفعل المتعَدّي ، وقد وهم من زعم أنها تكون من اللازم ، وأن ذلك قليل فيها ، مستدلاً بقول الشاعر :
حتى إذا اشتال سهيل في السحر . . .
كشعلة القابس ترمي بالشرر
لأن افتعل في البيت بمعنى ، فعل.
تقول : شال يشول ، واشتال يشتال بمعنى واحد ، ولا تتعقل المطاوعة ، إلا بأن يكون المطاوع متعدياً.
{ وإذا قيل لهم لا تفسدوا } جملة شرطية ، ويحتمل أن تكون من باب عطف الجمل استئنافاً ينعي عليهم قبائح أفعالهم وأقوالهم ، ويحتمل أن يكون كلاماً ، وفي الثاني جزء كلام لأنها من تمام الصلة.
وأجاز الزمخشري ، وأبو البقاء أن تكون معطوفة على يكذبون ، فإذ ذاك يكون لها موضع من الإعراب ، وهو النصب ، لأنها معطوفة على خبر كان ، والمعطوف على الخبر خبر ، وهي إذ ذاك جزء من السبب الذي استحقوا به العذاب الأليم.
وعلى الاحتمالين الأولين لا تكون جزءاً من الكلام ، وهذا الوجه الذي أجازاه على أحد وجهي ما من قوله بما كانوا يكذبون خطأ ، وهو أن تكون ما موصولة بمعنى الذي ، وذلك أن المعطوف على الخبر خبر ، فيكذبون قد حذف منه العائد على ما ، وقوله : وإذا قيل لهم إلى آخر الآية لا ضمير فيه يعود على ما ، فبطل أن يكون معطوفاً عليه ، إذ يصير التقدير : ولهم عذاب أليم بالذي كانوا ، { إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون } ، وهذا كلام غير منتظم لعدم العائد.

وأما وجهها الآخر ، وهو أن تكون ما مصدرية ، فعلى مذهب الأخفش يكون هذا الإعراب أيضاً خطأ ، إذ عنده أن ما المصدرية اسم يعود عليها من صلتها ضمير ، والجملة المعطوفة عارية منه.
وأما على مذهب الجمهور ، فهذا الإعراب شائع ، ولم يذكر الزمخشري ، وأبو البقاء إعراب هذا سوى أن يكون معطوفاً على يكذبون ، أو على يقول ، وزعماً أن الأول وجه ، وقد ذكرنا ما فيه ، والذي نختاره الاحتمال الأول ، وهو أن تكون الجملة مستأنفة ، كما قررناه ، إذ هذه الجملة والجملتان بعدها هي من تفاصيل الكذب ونتائج التكذيب.
ألا ترى قولهم : { إنما نحن مصلحون } ، وقولهم : { أنؤمن كما آمن السفهاء } ، وقولهم عند لقاء المؤمنين { آمنا } كذب محض؟ فناسب جعل ذلك جملاً مستقلة ذكرت لإظهار كذبهم ونفاقهم ونسبة السفه للمؤمنين واستهزائهم ، فكثر بهذه الجمل واستقلالها ذمهم والرد عليهم ، وهذا أولى من جعلها سيقت صلة جزء كلام لأنها إذ ذاك لا تكون مقصودة لذاتها ، إنما جيء بها معرفة للموصول إن كان اسماً ، ومتممة لمعناه إن كان حرفاً.
والجملة بعد إذا في موضع خفض بالإضافة ، والعامل فيها عند الجمهور الجواب ، فإذا في الآية منصوبة بقوله : { إنما نحن مصلحون }.
والذي نختاره أن الجملة بعدها تليها هي الناصبة لإذا لأنها شرطية ، وأن ما بعدها ليس في موضع خفض بالإضافة ، فحكمها حكم الظروف التي يجازى بها وإن قصرت عن عملها الجزم.
على أن من النحويين من أجاز الجزم بها حملاً على متى منصوباً بفعل الشرط ، فكذلك إذا منصوبة بفعل الشرط بعدها ، والذي يفسد مذهب الجمهور جواز : إذا قمت فعمر وقائم ، لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها ، وجواز وقوع إذا الفجائية جواباً لإذا الشرطية ، قال تعالى : { وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم } إذا لهم مكر في آياتنا ، وما بعد إذا الفجائية لا يعمل فيما قبلها ، وحذف فاعل القول هنا للإبهام ، فيحتمل أن يكون الله تعالى ، أو الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو بعض المؤمنين ، وكل من هذا قد قيل ، والمفعول الذي لم يسم فاعله ، فظاهر الكلام أنها الجملة المصدرة بحرف النهي وهي : { لا تفسدوا في الأرض } ، إلا أن ذلك لا يجوز إلا على مذهب من أجاز وقوع الفاعل جملة ، وليس مذهب جمهور البصريين.
وقد تقدمت المذاهب في ذلك عند الكلام على قوله تعالى : { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } ، والمفعول الذي لم يسم فاعله في ذلك حكمه حكم الفاعل ، وتخريجه على مذهب جمهور البصريين أن المفعول الذي لم يسمّ فاعله هو مضمر تقديره هو ، يفسره سياق الكلام كما فسر المضمر في قوله تعالى :

{ حتى توارت بالحجاب } سياق الكلام والمعنى ، وإذا قيل لهم قول شديد فأضمر هذا القول الموصوف وجاءت الجملة بعده مفسرة ، فلا موضع لها من الإعراب لأنها مفسرة لذلك المضمر الذي هو القول الشديد ، ولا جائز أن يكون لهم في موضع المفعول الذي لم يسمّ فاعله لأنه لا ينتظم منه مع ما قبله كلام ، لأنه يبقي لا تفسدوا لا ارتباط له ، إذ لا يكون معمولاً للقول مفسراً له.
وزعم الزمخشري أن المفعول الذي لم يسم فاعله هو الجملة التي هي : لا تفسدوا ، وجعل ذلك من باب الإسناد اللفظي ونظره بقولك ألف حرف من ثلاثة أحرف ، ومنه زعموا مطية الكذب ، قال : كأنه قيل ، وإذا قيل لهم هذا القول وهذا الكلام ، انتهى.
فلم يجعله من باب الإسناد إلى معنى الجملة لأن ذلك لا يجوز على مذهب جمهور البصريين ، فعدل إلى الإسناد اللفظي ، وهو الذي لا يختص به الاسم بل يوجد في الاسم والفعل والحرف والجملة ، وإذا أمكن الإسناد المعنوي لم يعدل إلى الإسناد اللفظي ، وقد أمكن ذلك بالتخريج الذي ذكرناه.
واللام في قوله : لهم ، للتبليغ ، وهو أحد المعاني السبعة عشر التي ذكرناها للام عند كلامنا على قوله تعالى : { الحمد لله }.
وإفسادهم في الأرض بالكفر ، قاله ابن عباس ، أو المعاصي ، قاله أبو العالية ومقاتل ، أو بهما ، قاله السدي عن أشياخه؛ أو بترك امتثال الأمر واجتناب النهي ، قاله مجاهد؛ أو بالنفاق الذي ضافوا به الكفار وأطلعوهم على أسرار المؤمنين ، ذكره علي بن عبيد الله ، أو بإعراضهم عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن؛ أو بقصدهم تغيير الملة ، قاله الضحاك ، أو باتباعهم هواهم وتركهم الحق مع وضوحه ، قاله بعضهم.
وقال الزمخشري : الإفساد في الأرض تهييج الحروب والفتن ، قال : لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية ، قال تعالى : { ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل } { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } ومنه قيل لحرب كانت بين طيء : حرب الفساد ، انتهى كلامه.
ووجه الفساد بهذه الأقوال التي قيلت أنها كلها كبائر عظيمة ومعاص جسيمة ، وزادها تغليظاً إصرارهم عليها ، والأرض متى كثرت معاصي أهلها وتواترت ، قلّت خيراتها ونزعت بركاتها ومنع عنها الغيث الذي هو سبب الحياة ، فكان فعلهم الموصوف أقوى الأسباب لفساد الأرض وخرابها.
كما أن الطاعة والاستغفار سبب لكثرة الخيرات ونزول البركات ونزول الغيث ، ألا ترى قوله تعالى : { فقلت استغفروا ربكم } { وأن لو استقاموا على الطريقة } { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا }

الآيات.
وقد قيل في تفسيره ما روي في الحديث من أن الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب ، إن معاصيه يمنع الله بها الغيث ، فيهلك البلاد والعباد لعدم النبات وانقطاع الأقوات.
والنهي عن الإفساد في الأرض من باب النهي عن المسبب ، والمراد النهي عن السبب.
فمتعلق النهي حقيقة هو مصافاة الكفار وممالأتهم على المؤمنين بإفشاء السر إليهم وتسليطهم عليهم ، لإفضاء ذلك إلى هيج الفتن المؤدي إلى الإفساد في الأرض ، فجعل ما رتب على المنهي عنه حقيقة منهياً عنه لفظاً.
والنهي عن الإفساد في الأرض هنا كالنهي في قوله تعالى : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } وليس ذكر الأرض لمجرد التوكيد بل في ذلك تنبيه على أن هذا المحل الذي فيه نشأتكم وتصرفكم ، ومنه مادة حياتكم ، وهو سترة أمواتكم ، جدير أن لا يفسد فيه ، إذ محل الإصلاح لا ينبغي أن يجعل محل الإفساد.
ألا ترى إلى قوله تعالى : { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } وقال تعالى : { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه } وقال تعالى : { والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعاً لكم ولأنعامكم } وقوله تعالى : { أنا صببنا الماء صباً } الآية.
إلى غير ذلك من الآيات المنبهة على الامتنان علينا بالأرض ، وما أودع الله فيها من المنافع التي لا تكاد تحصى.
وقابلوا النهي عن الإفساد بقولهم : { إنا نحن مصلحون } ، فأخرجوا الجواب جملة اسمية لتدل على ثبوت الوصف لهم ، وأكدوها بإنما دلالة على قوة اتصافهم بالإصلاح.
وفي المعنى الذي اعتقدوا أنهم مصلحون.
أقوال : أحدها : قول ابن عباس : إن ممالأتنا الكفار إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين.
والثاني : قول مجاهد وهو : أن تلك الممالأة هدى وصلاح وليست بفساد.
والثالث : أن ممالأه النفس والهوى صلاح وهدى.
والرابع : أنهم ظنوا أن في ممالأة الكفار صلاحاً لهم ، وليس كذلك لأن الكفار لو ظفروا بهم لم يبقوا عليهم ، ولذلك قال : { ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون }.
والخامس : أنهم أنكروا أن يكونوا فعلوا ما نهوا عنه من ممالأة الكفار ، وقالوا : { إنما نحن مصلحون } باجتناب ما نهينا عنه.
والذي نختاره أنه لا يتعين شيء من هذه الأقوال ، بل يحمل النهي على كل فرد من أنواع الإفساد ، وذلك أنهم لما ادعوا الإيمان وأكذبهم الله في ذلك وأعلم بأن إيمانهم مخادعة ، كانوا يكونون بين حالين : إحداهما : أن يكونوا مع عدم إيمانهم موادعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، والحالة الأخرى أن يكونوا مع عدم إيمانهم يسعون بالإفساد بالأرض لتفرق كلمة الإسلام وشتات نظام الملة ، فنهوا عن ذلك وكأنهم قيل لهم : إن كنتم قد قنع منكم بالإقرار بالإيمان ، وإن لم تؤمن قلوبكم فإياكم والإفساد في الأرض ، فلم يجيبوا بالامتناع من الإفساد ، بل أثبتوا لأنفسهم أنهم مصلحون وأنهم ليسوا محلاً للإفساد ، فلا يتوجه النهي عن الإفساد نحوهم لاتصافهم بضده وهو الإصلاح.

كل ذلك بهت منهم وكذب صرف على عادتهم في الكذب وقولهم بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
ولما كانوا قد قابلوا النهي عن الإفساد بدعوى الإصلاح الكاذبة أكذبهم الله بقوله : { ألا إنهم هم المفسدون } ، فأثبت لهم ضد ما ادعوه مقابلاً لهم ذلك في جملة اسمية مؤكدة بأنواع من التأكيد منها : التصدير بأن وبالمجيء بهم ، وبالمجيء بالألف واللام التي تفيد الحصر عند بعضهم.
وقال الجرجاني : دخلت الألف واللام في قوله المفسدون لما تقدم ذكر اللفظة في قوله لا تفسدوا ، فكأنه ضرب من العهد ، ولو جاء الخبر عنهم ولم يتقدم من اللفظة ذكر ، لكان { ألا إنهم هم المفسدون } ، انتهى كلامه ، وهو حسن.
واستفتحت الجملة بألا منبهة على ما يجيء بعدها لتكون الأسماع مصغية لهذا الإخبار الذي جاء في حقهم ، ويحتمل هم أن يكون تأكيداً للضمير في أنهم وإن كان فصلاً ، فعلى هذين الوجهين يكون المفسدون خبراً لأن ، وأن يكون مبتدأ ويكون المفسدون خبره.
والجملة خبر لأن ، وقد تقدم ذكر فائدة الفصل عند الكلام على قوله : { وأولئك هم المفلحون }.
وتحقيق الاستدراك هنا في قوله : { ولكن لا يشعرون } ، هو أن الإخبار عنهم أنهم هم المفسدون يتضمن علم الله ذلك ، فكان المعنى أن الله قد علم أنهم هم المفسدون ، ولكن لا يعلمون ذلك ، فوقعت لكن إذ ذاك بين متنافيين ، وجهة الاستدراك أنهم لما نهوا عن إيجاد مثل ما كانوا يتعاطونه من الإفساد فقابلوا ذلك بأنهم مصلحون في ذلك ، وأخبر الله عنهم أنهم هم المفسدون ، كانوا حقيقين بأن يعلموا أن ذلك كما أخبر الله تعالى ، وأنهم لا يدعون أنهم مصلحون ، فاستدرك عليهم هذا المعنى الذي فاتهم من عدم الشعور بذلك.
تقول : زيد جاهل ولكن لا يعلم ، وذلك أنه من حيث اتصف بالجهل وصار وصفاً قائماً بزيد ، كان ينبغي لزيد أن يكون عالماً بهذا الوصف الذي قام به ، إذ الإنسان ينبغي أن يعلم ما اشتمل عليه من الأوصاف ، فاستدرك عليه بلكن ، لأنه مما كثر في القرآن ويغمض في بعض المواضع إدراكه.
قالوا : ومفعول يشعرون محذوف لفهم المعنى تقديره أنهم مفسدون ، أو أنهم معذبون ، أو أنهم ينزل بهم الموت فتنقطع التوبة ، والأولى الأول ، ويحتمل أن لا ينوي محذوف فيكون قد نفى عنهم الشعور من غير ذكر متعلقه ولا نية ، وهو أبلغ في الذم ، جعلوا لدعواهم ما هو إفساد إصلاحاً ممن انتفى عنه الشعور وكأنهم من البهائم ، لأن من كان متمكناً من إدراك شيء فأهمل الفكر والنظر حتى صار يحكم على الأشياء الفاسدة بأنها صالحة ، فقد انتظم في سلك من لا شعور له ولا إدراك ، أو من كابر وعاند فجعل الحق باطلا ، فهو كذلك أيضاً.

وفي قوله تعالى : { ولكن لا يشعرون } تسلية عن كونهم لا يدركون الحق ، إذ من كان من أهل الجهل فينبغي للعالم أن لا يكترث بمخالفته.
والكلام على قوله تعالى : { وإذا قيل لهم آمنوا } كالكلام على قوله تعالى : { وإذا قيل لهم لا تفسدوا } من حيث عطف هذه الجملة على سبيل الاستئناف ، أو عطفها على صلة من قوله : من يقول ، أو عطفها على يكذبون ، ومن حيث العامل في إذا ، ومن حيث حكم الجملة بعد إذا ، ومن حيث المفعول الذي لم يسم فاعله.
واختلف في القائل لهم آمنوا ، فقال ابن عباس : الصحابة ، ولم يعين أحداً منهم ، وقال مقاتل : قوم مخصوصون منهم وهم : سعد بن معاذ ، وأبو لبابة ، وأسيد بن الحضير.
ولما نهاهم تعالى عن الإفساد أمرهم بالإيمان لأن الكمال يحصل بترك مالا ينبغي وبفعل ما ينبغي ، وبدىء بالمنهي عنه لأنه الأهم ، ولأن المنهيات عنها هي من باب التروك ، والتروك أسهل في الامتثال من امتثال المأمورات بها.
والكاف من قوله : { كما آمن الناس } في موضع نصب ، وأكثر المعربين يجعلون ذلك نعتاً لمصدر محذوف التقدير عندهم : آمنوا إيماناً كما آمن الناس ، وكذلك يقولون : في سير عليه شديد ، أو : سرت حثيثاً ، إن شديداً وحثيثاً نعت لمصدر محذوف التقدير : سير عليه سيراً شديداً ، وسرت سيراً حثيثاً.
ومذهب سيبويه ، رحمه الله ، أن ذلك ليس بنعت لمصدر محذوف ، وإنما هو منصوب على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم المحذوف بعد الإضمار على طريق الاتساع ، وإنما لم يجز ذلك لأنه يؤدي إلى حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في غير المواضع التي ذكروها.
وتلك المواضع أن تكون الصفة خاصة بجنس الموصوف ، نحو : مررت بكاتب ومهندس ، أو واقعة خبراً ، نحو : زيد قائم ، أو حالاً ، نحو : مررت بزيد راكباً ، أو وصفاً لظرف ، نحو : جلست قريباً منك ، أو مستعملة استعمال الأسماء ، وهذا يحفظ ولا يقاس عليه ، نحو : الأبطح والأبرق.
وإذا خرجت الصفة عن هذه المواضع لم تكن إلا تابعة للموصوف ، ولا يكتفي عن الموصوف ، ألا ترى أن سيبويه منع : ألا ماء ولو بارداً وأن تقدم ما يدل على حذف الموصوف وأجاز : ولو بارداً ، لأنه حال ، وتقرير هذا في كتب النحو.
وما ، من : كما آمن الناس ، مصدرية التقدير كإيمان الناس ، فينسبك من ما ، والفعل بعدها مصدر مجرور بكاف التشبيه التي هي نعت لمصدر محذوف ، أو حال على القولين السابقين ، وإذا كانت ما مصدرية فصلتها جملة فعلية مصدرة بماض متصرف أو مضارع ، وشذ وصلها بليس في قول الشاعر :
بما لستما أهل الخيانة والغدر . . .
ولا توصل بالجملة الإسمية خلافاً لقوم ، منهم : أبو الحجاج الأعلم ، مستدلين بقوله :
وجدنا الحمر من شر المطايا . . .
كما الحبطات شر بني تميم
وأجاز الزمخشري ، وأبو البقاء في ما من قوله : كما آمن ، أن تكون كافة للكاف عن العمل مثلها في : ربما قام زيد ، وينبغي أن لا تجعل كافة إلا في المكان الذي لا تتقدر فيه مصدرية ، لأن إبقاءها مصدرية مبق للكاف على ما استقر فيها من العمل ، وتكون الكاف إذ ذاك مثل حروف الجر الداخلة على ما المصدرية ، وقد أمكن ذلك في : كما آمن الناس ، فلا ينبغي أن تجعل كافة.

والألف واللام في الناس يحتمل أن تكون للجنس ، فكأنه قال : الكاملون في الإنسانية ، أو عبر بالناس عن المؤمنين لأنهم هم الناس في الحقيقة ، ومن عداهم صورته صورة الناس ، وليس من الناس لعدم تمييزه ، كما قال الشاعر :
ليس من الناس ولكنه . . .
يحسبه الناس من الناس
ويحتمل أن تكون الألف واللام للعهد ، ويعني به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قاله ابن عباس ، أو عبد الله بن سلام ، ونحوه ممن حسن إسلامه من اليهود ، قاله مقاتل ، أو معاذ بن جبل ، وسعد بن معاذ ، وأسيد بن الحضير ، وجماعة من وجوه الأنصار عدهم الكلبي.
والأولى حملها على العهد ، وأن يراد به من سبق إيمانه قبل قول ذلك لهم ، فيكون حوالة على من سبق إيمانه لأنهم معلومون معهودون عند المخاطبين بالأمر بالإيمان.
والتشبيه في : كما { آمن الناس } إشارة إلى الإخلاص ، وإلا فهم ناطقون بكلمتي الشهادة غير معتقديها.
أنؤمن : معمول لقالوا ، وهو استفهام معناه الإنكار أو الاستهزاء.
ولما كان المأمور به مشبهاً كان جوابهم مشبهاً في قولهم : { أنؤمن كما آمن السفهاء } ، والقول في الكاف وما في هذا كالقول فيهما في : { كما آمن الناس }.
والألف واللام في السفهاء للعهد ، فيعني به الصحابة ، قاله ابن عباس؛ أو الصبيان والنساء ، قاله الحسن ، أو عبد الله بن سلام وأصحابه ، قاله مقاتل ، ويحتمل أن تكون للجنس فيندرج تحته من فسر به الناس من المعهودين ، أو الكاملون في السفه ، أو لأنهم انحصر السفه فيهم إذ لا سفيه غيرهم.
وأبعد من ذهب إلى أن الألف واللام للصفة الغالبة نحو : العيوق والدبران ، لأنه لم يغلب هذا الوصف عليهم ، فصاروا إذا قيل : السفهاء ، فهم منه ناس مخصوصون ، كما يفهم من العيوق نجم مخصوص.
ويحتمل قولهم : { كما آمن السفهاء } أن يكون ذلك من باب التعنت والتجلد حذراً من الشماتة ، وهم عالمون بأنهم ليسوا بسفهاء.
ويحتمل أن يكون ذلك من باب الاعتقاد الجزم عندهم ، فيكونوا قد نسبوهم للسفه معتقدين أنهم سفهاء ، وذلك لما أخلوا به من النظر والفكر الصحيح المؤدّي إلى إدراك الحق ، وهم كانوا في رئاسة ويسار ، وكان المؤمنون إذ ذاك أكثرهم فقراء وكثير منهم موال ، فاعتقدوا أن من كان بهذه المثابة كان من السفهاء لأنهم اشتغلوا ما لا يجدي عندهم وكسلوا عن طلب الرئاسة والغنى وما به السؤدد في الدنيا ، وذلك هو غاية السفه عندهم.

وفي قوله : { كما آمن السفهاء } إثبات منهم في دعواهم بسفه المؤمنين أنهم موصوفون بضد السفه ، وهو رزانة الأحلام ورجحان العقول ، فرد الله عليهم قولهم وأثبت أنهم هم السفهاء ، وصدر الجملة بألا التي للتنبيه لينادي عليهم المخاطبين بأنهم السفهاء ، وأكد ذلك بأن وبلفظ هم.
وإذا التقت الهمزتان والأولى مضمومة والثانية مفتوحة من كلمتين نحو : { السفهاء ألا } ، ففي ذلك أوجه.
أحدها : تحقيق الهمزتين ، وبذلك قرأ الكوفيون ، وابن عامر.
والثاني : تحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واواً كحالها إذا كانت مفتوحة قبلها ضمة في كلمة نحو : أواتي مضارع آتى ، فاعل من أتيت ، وجؤن تقول : أواتي وجون ، وبذلك قرأ الحرميان ، وأبو عمرو.
والثالث : تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو ، وتحقيق الثانية.
والرابع : تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو وإبدال الثانية واواً.
وأجاز قوم وجهاً.
خامساً : وهو جعل الأولى بين الهمزة والواو ، وجعل الثانية بين الهمزة والواو ، ومنع بعضهم ذلك لأن جعل الثانية بين الهمزة والواو تقريباً لها من الألف ، والألف لا تقع بعد الضمة ، والأعاريب الثلاثة التي جازت في : هم ، في قوله : { هم المفسدون } ، جائزة في : هم ، من قوله : { هم السفهاء }.
والاستدراك الذي دلت عليه لكن في قوله : { ولكن لا يعلمون } ، مثله في قوله تعالى : { ولكن لا يشعرون } ، وإنما قال هناك لا يشعرون وهنا لا يعلمون لأن المثبت لهم هناك هو الإفساد ، وهو مما يدرك بأدنى تأمل ، لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فكر كثير ، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر ، وهي الحواس ، مبالغة في تجهيلهم ، وهو أن الشعور الذي قد يثبت للبهائم منفي عنهم ، والمثبت هنا هو السفه ، والمصدر به هو الأمر بالإيمان ، وذلك مما يحتاج إلى إمعان فكر واستدلال ونظر تام يفضي إلى الإيمان والتصديق ، ولم يقع منهم المأمور به فناسب ذلك نفي العلم عنهم ، ولأن السفه هو خفة العقل والجهل بالمأمور ، قال السموأل :
نخاف أن تسفه أحلامنا . . .
فنجهل الجهل مع الجاهل
والعلم نقيض الجهل ، فقابله بقوله : لا يعلمون ، لأن عدم العلم بالشيء جهل به.
قرأ ابن السميفع اليماني ، وأبو حنيفة : { وإذا لاقوا الذين } ، وهي فاعل بمعنى الفعل المجرد ، وهو أحد معاني فاعل الخمسة ، والواو المضمومة في هذه القراءة هي واو الضمير تحركت لسكون ما بعدها ، ولم تعد لام الكلمة المحذوفة لعروض التحريك في الواو ، واللقاء يكون بموعد وبغير موعد ، فإذا كان بغير موعد سمي مفاجأة ومصادفة ، وقولهم لمن لقوا من المؤمنين : آمنا ، بلفظ مطلق الفعل غير مؤكد بشيء تورية منهم وإيهاماً ، فيحتمل أن يريدوا به الإيمان بموسى وبما جاء به دون غيره ، وذلك من خبثهم وبهتهم ، ويحتمل أن يريدوا به الإيمان المقيد في قولهم : { آمنا بالله وباليوم الآخر } ، وليسوا بصادقين في ذلك ، ويحتمل أن يريدوا بذلك ما أظهروه بألسنتهم من الإيمان ، ومن اعترافهم حين اللقاء ، وسموا ذلك إيماناً ، وقلوبهم عن ذلك صارفة معرضة.

وقرأ الجمهور : خلوا إلى بسكون الواو وتحقيق الهمزة ، وقرأ ورش : بإلقاء حركة الهمزة على الواو وحذف الهمزة ، ويتعدى خلا بالباء وبإلى ، والباء أكثر استعمالاً ، وعدل إلى إلى لأنها إذا عديت بالباء احتملت معنيين : أحدهما : الانفراد ، والثاني : السخرية ، إذ يقال في اللغة : خلوت به ، أي سخرت منه ، وإلى لا يحتمل إلا معنى واحداً ، وإلى هنا على معناها من انتهاء الغاية على معنى تضمين الفعل ، أي صرفوا خلاهم إلى شياطينهم ، قال الأخفش : خلوت إليه ، جعلته غاية حاجتي ، وهذا شرح معنى ، وزعم قوم ، منهم النضر بن شميل : إن إلى هنا بمعنى مع أي : وإذا خلوا مع شياطينهم ، كما زعموا ذلك في قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } { من أنصاري إلى الله } أي مع أموالكم ومع الله ، ومنه قول النابغة :
فلا تتركني بالوعيد كأنني . . .
إلى الناس مطلي به القار أجرب
ولا حجة في شيء من ذلك.
وقيل : إلى بمعنى الباء ، لأن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض ، وهذا ضعيف ، إذ نيابة الحرف عن الحرف لا يقول بها سيبويه ، والخليل ، وتقرير هذا في النحو.
وشياطينهم : هم اليهود الذين كانوا يأمرونهم بالتكذيب ، قاله ابن عباس؛ أو رؤساؤهم في الكفر ، قاله ابن مسعود.
وروي أيضاً عن ابن عباس : أو شياطين الجن ، قاله الكلبي : أو كهنتهم ، قاله الضحاك وجماعة.
وكان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكهنة جماعة منهم : كعب بن الأشرف من بني قريظة ، وأبو بردة في بني أسلم ، وعبد الدار في جهينة ، وعوف بن عامر في بني أسد ، وابن السوداء في الشام ، وكانت العرب يعتقدون فيهم الاطلاع على علم الغيب ، ويعرفون الأسرار ، ويداوون المرضى ، وسموا شياطين لتمردهم وعتوّهم ، أو باسم قرنائهم من الشياطين ، إن فسروا بالكهنة ، أو لشبههم بالشياطين في وسوستهم ، وغرورهم ، وتحسينهم للفواحش ، وتقبيحهم للحسن.
والجمهور على تحريم العين من معكم ، وقرىء في الشاذ : إنا معكم ، وهي لغة غنم وربيعة ، وقد اختلف القولان منهم ، فقالوا للمؤمنين : آمنا ، ولشياطينهم إنا معكم.
فانظر إلى تفاوت القولين ، فحين لقوا المؤمنين قالوا آمنا ، أخبروا بالمطلق ، كما تقدم ، من غير توكيد ، لأن مقصودهم الإخبار بحدوث ذلك ونشئه من قبلهم ، لا في ادعاء أنهم أوحديون فيه ، أو لأنه لا تطوع بذلك ألسنتهم لأنه لا باعث لهم على الإيمان حقيقة ، أو لأنه لو أكدوه ما راج ذلك على المؤمنين فاكتفوا بمطلق الإيمان ، وذلك خلاف ما أخبر الله عن المؤمنين بقوله : ربنا إننا آمنا ، وحين لقوا شياطينهم ، أو خلوا إليهم قالوا : إنا معكم ، فأخبروا إنهم موافقوهم ، وأخرجوا الأخبار في جملة اسمية مؤكدة بأن ليدلوا بذلك على ثباتهم في دينهم ، ثم بينوا أن ما أخبروا به الذين آمنوا إنما كان على سبيل الاستهزاء ، فلم يكتفوا بالإخبار بالموافقة ، بل بينوا أن سبب مقالتهم للمؤمنين إنما هو الاستهزاء والاستخفاف ، لا أن ذلك صادر منهم عن صدق ، وجد ، وأبرزوا هذا في الإخبار في جملة اسمية مؤكدة بإنما مخبر عن المبتدأ فيها باسم الفاعل الذي يدل على الثبوت ، وأن الاستهزاء وصف ثابت لهم ، لا أن ذلك تجدد عندهم ، بل ذلك من خلقهم وعادتهم مع المؤمنين ، وكأن هذه الجملة وقعت جواباً لمنكر عليهم قولهم : إنا معكم ، كأنه قال : كيف تدعون أنكم معنا وأنتم مسالمون للمؤمنين ، تصدقونهم ، وتكثرون سوادهم ، وتستقبلون قبلتهم ، وتأكلون ذبائحهم؟ فأجابوهم بقولهم : { إنما نحن مستهزءُون } ، أي مستخفون بهم ، نصانع بما نظهر من ذلك عن دمائنا وأموالنا وذرياتنا ، فنحن نوافقهم ظاهراً ونوافقكم باطناً ، والقائل إنا معكم ، أما المنافقون لكبارهم ، وأما كل المنافقين للكافرين ، وقرىء : مستهزءون ، بتحقيق الهمزة ، وهو الأصل ، وبقلبها ياء مضمومة لانكسار ما قبلها ، ومنهم من يحذف الياء تشبيهاً بالياء الأصلية في نحو : يرمون ، فيضم الراء.

ومذهب سيبويه ، رحمه الله ، في تحقيقها : أن تجعل بين بين.
ومذهب أبي الحسن : أن تقلب ياء قلباً صحيحاً.
قال أبو الفتح : حال الياء المضمومة منكر ، كحال الهمزة المضمومة.
والعرب تعاف ياء مضمومة قبلها كسرة ، وأكثر القراء على ما ذهب إليه سيبويه ، انتهى.
وهل الاجتماع والمعية في الدين ، أو في النصرة والمعونة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، أو في اتفاقهم مع الكفار على اطلاعهم على أحوال المؤمنين وإعلامهم بما أجمعوا عليه من الأمر وأخفوه من المكايد ، أو في اتفاقهم مع الكفار على أذى المسلمين وتربصهم بهم الدوائر وفرحهم بما يسوء المسلمين وحزنهم بما يسرهم وقصدهم إخماد كلمة الله؟ أقوال أربعة ، والدواعي إلى الاستهزاء : خوف الأذى ، واستجلاب النفع ، والهزل ، واللعب.
والله تعالى منزه عن ذلك ، فلا يصح إضافة الاستهزاء الذي هذه دواعيه إلى الله تعالى.
فيحتمل أن يكون الاستهزاء المسند إلى الله تعالى كناية عن مجازاته لهم ، وأطلق اسم الاستهزاء على المجازاة ليعلم أن ذلك جزاء الاستهزاء ، أو عن معاملته لهم بمثل ما عاملوا به المؤمنين ، فأجرى عليهم أحكام المؤمنين من حقن الدم ، وصون المال ، والإشراك في المغنم ، مع علمه بكفرهم.
وأطلق على الشيء ما أشبهه صورة لا معنى ، أو عن التوطئة والتجهيل ، لإقامتهم على كفرهم ، وسمى التوطئة لهم استهزاء لأنه لم يعجل لهم العقوبة ، بل أملى ، وأخرهم إلى الآخرة ، أو عن فتح باب الجنة فيسرعون إليه فيغلق ، فيضحك منهم المؤمنون ، أو عن خمود النار فيمشون فيخسف بهم ، أو عن ضرب السور بينهم وبين المؤمنين وهو السور المذكور في الحديد ، أو عن قوله تعالى : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } أو عن تجديد الله لهم نعمة كلما أحدثوا ذنباً ، فيظنون أن ذلك لمحبة الله لهم ، أو عن الحيلولة بين المنافقين وبين النور الذي يعطاه المؤمنون ، كما ذكروا أنه روي في الحديث ، أو عن طردهم عن الجنة ، إذا أمر بناس منهم إلى الجنة ودنوا منها ووجدوا ريحها ونظروا إلى ما أعد الله فيها لأهلها ، وهو حديث فيه طول ، روي عن عدي بن حاتم ، ونحا هذا المنحى ابن عباس ، والحسن.

وفي مقابلة استهزائهم بالمؤمنين باستهزاء الله بهم ما يدل على عظم شأن المؤمنين وعلو منزلتهم ، وليعلم المنافقون أن الله هو الذي يذب عنهم ويحارب من حاربهم.
وفي افتتاح الجملة باسم التفخيم العظيم ، حيث صدرت الجملة به ، وجعل الخبر فعلاً مضارعاً يدل عندهم على التجدد والتكرر ، فهو أبلغ في النسبة من الاستهزاء المخبرية في قولهم ، ثم في ذلك التنصيص على الذين يستهزىء الله بهم ، إذ عدى الفعل إليهم فقال : يستهزىء بهم وهم لم ينصوا حين نسبوا الاستهزاء إليهم على من تعلق به الاستهزاء ، فلم يقولوا : إنما نحن مستهزءون بهم وذلك لتحرجهم من إبلاغ ذلك للمؤمنين فينقمون ذلك عليهم ، فأبقوا اللفظ محتملاً أن لو حوققوا على ذلك لكان لهم مجال في الذب عنهم أنهم لم يستهزءوا بالمؤمنين.
ألا ترى إلى مداراتهم عن أنفسهم بقولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وبقولهم : إذا لقوهم قالوا آمنا فهم ، عند لقائهم لا يستطيعون إظهار المداراة ، ولا مشاركتهم بما يكرهون ، بل يظهرون الطواعية والانقياد.
وقرأ ابن محيصن وشبل : يمدهم وتروى عن ابن كثير : ونسبة المد إلى الله حقيقة ، إذ هو موجد الأشياء والمنفرد باختراعها.
والمعنى : أن الله تعالى يطول لهم في الطغيان.
وقد ذهب الزمخشري إلى تأويل المد المنسوب إلى الله تعالى بأنه منع الألطاف وخذلانهم بسبب كفرهم وإصرارهم ، بقيت قلوبهم تتزايد الظلمة فيها تزايد النور في قلوب المؤمنين ، فسمى ذلك التزايد مداً وأسند إلى الله لأنه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم ، أو بأن المد هو على معنى القسر والالجاء.
قال : أو على أن يسند فعل الشيطان إلى الله لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عبادة ، وإنما ذهب إلى التأويل في المد لأن مد الله لهم في الطغيان قبيح ، والله منزه عن فعل القبيح.
والتأويل الأول الذي ذكره الزمخشري : قول الكعبي ، وأبي مسلم.
وقال الجبائي : هو المد في العمر ، وعندنا نحن أن الله خالق الخير والشر ، وهو الهادي والمضل.
وقد تقدم الكلام في نحو من هذا عند قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم } ومد الله في طغيانهم ، التمكين من العصيان ، قاله ابن مسعود ، أو الإملاء ، قاله ابن عباس ، أو الزيادة من الطغيان ، قاله مجاهد ، أو الإمهال ، قاله الزجاج وابن كيسان ، أو تكثير الأموال ، والأولاد ، وتطييب الحياة ، أو تطويل الأعمار ، ومعافاة الأبدان ، وصرف الرزايا ، وتكثير الأرزاق.
وقرأ زيد بن علي : في طغيانهم بكسر الطاء ، وهي لغة ، يقال : طغيان بالضم والكسر ، كما قالوا : القيان ، وغينان ، بالضم والكسر.

وأمال الكسائي في طغيانهم ، وأضاف الطغيان إليهم لأنه فعلهم وكسبهم ، وكل فعل صدر من العبد صحت إضافته إليه بالمباشرة ، وإلى الله بالاختراع.
وما فسر به العمه يحتمله قوله تعالى : { يعمهون } ، فيكون المعنى : يترددون ويتحيرون ، أو يعمون عن رشدهم ، أو يركبون رؤوسهم ولا يبصرون.
قال بعض المفسرين : وهذا التفسير الأخير أقرب إلى الصواب لأنهم لم يكونوا مترددين في كفرهم ، بل كانوا مصرين عليه ، معتقدين أنه الحق ، وما سواه الباطل.
يعمهون : جملة في موضع الحال ، نصب على الحال ، إما من الضمير في يمدهم وإما من الضمير في طغيانهم لأنه مصدر مضاف للفاعل ، وفي طغيانهم يحتمل أن يكون متعلقاً بيمدهم ، ويحتمل أن يكون متعلقاً بيعمهون.
ومنع أبو البقاء أن يكون في طغيانهم ويعمهون حالين من الضمير في يمدهم ، قال : لأن العامل لا يعمل في حالين.
انتهى كلامه.
وهذا الذي ذهب إليه يحتاج إلى تقييد ، وهو أن تكون الحالان لذي حال واحدة ، فإن كانا لذوي حال جاز ، نحو : لقيت زيداً مصعداً منحدراً فأما إذا كانا لذي حال واحد ، كما ذكرناه ، ففي إجازة ذلك خلاف.
ذهب قوم إلى أن لا يجوز كما لم يجز ذلك للعامل أن يقضي مصدرين ، ولا ظرفي زمان ، ولا ظرفي مكان ، فكذلك لا يقضي حالين.
وخصص أهل هذا المذهب هذا القول بأن لا يكون الثاني على جهة البدل ، أو معطوفاً ، فإنه إذا كانا كذلك جازت المسألة.
قال : بعضهم : إلا أفعل التفضيل ، فإنها تعمل في ظرفي زمان ، وظرفي مكان ، وحالين لذي حال ، فإن ذلك يجوز ، وهذا المذهب اختاره أبو الحسن بن عصفور.
وذهب قوم إلى أنه يجوز للعامل أن يعمل في حالين لذي حال واحد ، وإلى هذا أذهب ، لأن الفعل الصادر من فاعل ، أو الواقع بمفعول ، يستحيل وقوعه في زمانين ، وفي مكانين.
وأما الحالان فلا يستحيل قيامهما بذي حال واحد ، إلا إن كانا ضدين ، أو نقيضين.
فيجوز أن تقول : جاء زيد ضاحكاً راكباً ، لأنه لا يستحيل مجيئه وهو ملتبس بهذين الحالين.
فعلى هذا الذي قررناه من الفرق يجوز أن يجيء الحالان لذي حال واحد ، والعامل فيهما واحد.
أولئك : اسم أشير به إلى الذين تقدم ذكرهم ، الجامعين للأوصاف الذميمة من دعوى الإصلاح ، وهم المفسدون ، ونسبة السّفه للمؤمنين ، وهم السفهاء ، والاستخفاف بالمؤمنين بإظهار الموافقة وهم مع الكفار.
وقرأ الجمهور : اشتروا الضلالة ، بضم الواو.
وقرأ أبو السماك قعنب العدوي : اشتروا الضلالة بالفتح.
ولاعتلال ضمة الواو وجوه أربعة مذكورة في النحو ، ووجه الكسر أنه الأصل في التقاء الساكنين ، نحو : { وأن لو استقاموا } ووجه الفتح اتباعها لحركة الفتح قبلها.
وأمال حمزة والكسائي الهدي ، وهي لغة بني تميم ، والباقون بالفتح ، وهي لغة قريش.

والاشتراء هنا مجاز كنى به عن الاختيار ، لأن المشتري للشيء مختار له مؤثر ، فكأنه قال : اختاروا الضلالة على الهدى ، وجعل تمكنهم من اتباع الهدى كالثمن المبذول في المشتري ، وإنما ذهب في الاشتراء إلى المجاز لعدم المعاوضة ، إذ هي استبدال شيء في يدك لشيء في يد غيرك ، وهذا مفقود هنا.
وقد ذهب قوم إلى أن الاشتراء هنا حقيقة لا مجاز ، والمعاوضة متحققة ، ثم راموا يقررون ذلك ، ولا يمكن أن يتقرر لأنه على كل تقدير يؤول الشراء فيه إلى المجاز ، قالوا : إن كان أراد بالآية المنافقين ، كما قال مجاهد ، فقد كان لهم هدى ظاهر من التلفظ بالشهادة ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والصوم ، والغزو ، والقتال.
فلما لم تصدق بواطنهم ظواهرهم واختاروا الكفر ، استبدلوا بالهدى الضلال ، فتحققت المعاوضة ، وحصل البيع والشراء حقيقة ، وكان من بيوع المعاطاة التي لا تفتقر إلى اللفظ ، وقالوا : لما ولدوا على الفطرة واستمر لهم حكمها إلى البلوغ وجد التكليف ، استبدلوا عنها بالكفر والنفاق فتحققت المعاوضة ، وقالوا : لما كانوا ذوي عقول متمكنين من النظر الصحيح المؤدي إلى معرفة الصواب من الخطأ ، استبدلوا بهذا الاستعداد النفيس اتباع الهوى والتقليد للآباء ، مع قيام الدليل الواضح ، فتحققت المعاوضة.
قالوا : وإن كان أراد بالآية أهل الكتاب ، كما قال قتادة ، فقد كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر ، ومصدقين ببعث النبي صلى الله عليه وسلم ، ومستفتحين به ، ويدعون بحرمته ، ويهددون الكفار بخروجه ، فكانوا مؤمنين حقاً.
فلما بعث صلى الله عليه وسلم وهاجر إلى المدينة ، خافوا على رئاستهم ومآكلهم وانصراف الاتباع عنهم ، فجحدوا نبوته وقالوا : ليس هذا المذكور عندنا ، وغيروا صفته ، واستبدلوا بذلك الإيمان الكفر الذي حصل لهم ، فتحققت المعاوضة.
قالوا : وإن كان أراد سائر الكفار ، كما قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، فالمعاوضة أيضاً متحققة ، إما بالمدة التي كانوا عليها على الفطرة ثم كفروا ، أو لأن الكفار كان في محصولهم المدارك الثلاثة : الحسي والنظري والسمعي ، وهذه التي تفيد العلم القطعي ، فاستبدلوا بها الجري على سنن الآباء في الكفر.
وقال ابن كيسان : خلقهم لطاعته ، فاستبدلوا عن هذه الخلقة المرضية كفرهم وضعف قوله ، لأنه تعالى لو برأهم لطاعته ، لما كفر أحد منهم لاستحالة أن يخلق شيئاً لشيء ويتخلف عن ذلك الشيء.
وسيأتي الكلام على قوله تعالى : { إلا ليعبدون } وعلى ولذلك خلقهم إن شاء الله.
قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسدي : الضلالة : الكفر ، والهدى : الإيمان ، وقبل الشك واليقين ، وقيل الجهل والعلم ، وقيل الفرقة والجماعة ، وقيل الدنيا والآخرة ، وقيل النار والجنة.
وعطف : فما ربحت ، بالفاء ، يدل على تعقب نفي الربح للشراء ، وأنه بنفس ما وقع الشراء تحقق عدم الربح.
وزعم بعض الناس أن الفاء في قوله : { فما ربحت تجارتهم } دخلت لما في الكلام من معنى الجزاء والتقديران اشتروا.
والذين إذا كان في صلة فعل ، كان في معنى الشرط ، ومثله

{ الذين ينفقون أموالهم } ، وقع الجواب بالفاء في قوله : { فلهم أجرهم } وكذلك الذي يدخل الدار فله درهم ، انتهى.
وهذا خطأ لأن الذين ليس مبتدأ ، فيشبه بالشرط الذي يكون مبتدأ ، فتدخل الفاء في خبره ، كما تدخل في جواب الشرط.
وأما الذين خبر عن أولئك ، وقوله : فما ربحت ليس بخبر ، فتدخله الفاء ، وإنما هي جملة فعليه معطوفة على صلة الذين ، فهي صلة لأن المعطوف على الصلة صلة ، وقوله وقع الجواب بالفاء في قوله : { فلهم أجرهم } خطأ ، لأنه ليس بجواب ، إنما الجملة خبر المبتدأ الذي هو ينفقون ، ولا يجوز أن يكون أولئك مبتدأ ، والذين اشتروا مبتدأ ، وفما ربحت تجارتهم خبر عن الذين ، والذين وخبره خبر عن أولئك لعدم الرابط في هذه الجملة الواقعة خبراً لأولئك.
ولتحقق مضي الصلة ، وإذا كانت الصلة ماضية ، معنى لم تدخل الفاء في خبر موصولها المبتدأ ، ولا يجوز أن يكون أولئك مبتدأ ، والذين بدل منه ، وفما ربحت خبر لأن الخبر إنما تدخله الفاء لعموم الموصول ، ولإبدال الذين من أولئك ، صار الذين مخصوصاً لأنه بدل من مخصوص ، وخبر المخصوص لا تدخله الفاء ، ولأن معنى الآية ليس إلا على كون أولئك مبتدأ والذين خبراً عنه.
ونسبة الريح إلى التجارة من باب المجاز لأن الذي يربح أو يخسر إنما هو التاجر لا التجارة ، ولما صور الضلالة والهدى مشترى وثمناً ، رشح هذا المجاز البديع بقوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } ، وهذا من باب ترشيح المجاز ، وهو أن يبرز المجاز في صورة الحقيقة ، ثم يحكم عليه ببعض أوصاف الحقيقة ، فينضاف مجازاً إلى مجاز ، ومن ذلك قول الشاعر :
بكى الخز من روح وأنكر جلده . . .
وعجت عجيجاً من جذام المطارف
أقام الخز مقام شخص حين باشر روحاً بكى من عدم ملامته ، ثم رشحه بقوله : وأنكر جلده ، ثم زاد في ترشيح المجاز بقوله : وعجب ، أي وصاحت مطارف الخز من قبيل روح هذا ، وهي : جذام.
ومعنى البيت : أن روحاً وقبيلته جذام لا يصلح لهم لباس الخز ومطارفه ، لأنهم لا عادة لهم بذلك ، فكنى عن التباين بينهما بما كنى فيه في البيت ، ومن ذلك قول الشافعي ، رضي الله عنه :
أيا بومة قد عششت فوق هامتي . . .
على الرغم مني حين طار غرابها
لما كنى عن الشيب بالبومة فأقبل عليها وناداها ، رشح هذا المجاز بقوله : قد عششت ، لأن الطائر من أفعاله اتخاذ العشة ، وقد أورد الزمخشري في ترشيح المجاز في كشافه مثلاً.
وقرأ ابن أبي عبلة : تجاراتهم ، على الجمع ، ووجهه أن لكل واحد تجارة ، ووجه قراءة الجمهور على الأفراد أنه اكتفى به عن الجمع لفهم المعنى ، وفي قوله : فما ربحت تجارتهم ، إشعار بأن رأس المال لم يذهب بالكلية ، لأنه إنما نفى الربح ، ونفي الربح لا يدل على انتقاص رأس المال.

وأجيب عن هذا بأنه اكتفى بذكر عدم الربح عن ذكر ذهاب المال ، لما في الكلام من الدلالة على ذلك ، لأن الضلال نقيض الهدى ، والنقيضان لا يجتمعان ، فاستبدالهم الضلالة بالهدى دل على ذهاب الهدى بالكلية ، ويتخرج عندي على أن يكون من باب قوله :
علي لا حب لا يهتدي بمناره . . .
أي لا منار له فيهتدي به ، فنفى الهداية ، وهو يريد نفي المنار ، ويلزم من نفي المنار نفي الهداية به ، فكذلك هذه الآية لما ذكر شراء شيء بشيء ، توهم أن هذا الذي فعلوه هو من باب التجارة ، إذ التجارة ليس نفس الاشتراء فقط ، وليس بتاجر ، إنما التجارة : التصرف في المال لتحصيل النموّ والزيادة فنفى الربح.
والمقصود نفي التجارة أي لا يتوهم أن هذا الشراء الذي وقع هو تجارة فليس بتجارة وإذا لم يكن تجارة انتفى الربح فكأنه قال : فلا تجارة لهم ولا ربح.
وقال الزمخشري معناه : إن الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم شيئان : سلامة رأس المال والربح ، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معاً ، لأن رأس المال مالهم كان هو الهدى ، فلم يبق لهم مع الضلالة ، وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلالة لم يوصفوا بإصابة الربح ، وإن ظفروا بما ظفروا به من الأعراض الدنيوية ، لأن الضلال خاسر دامر ، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله قد ربح.
انتهى كلامه.
ومع ذلك ليس بمخلص في الجواب لأن نفي الربح عن التجارة لا يدل على ذهاب كل المال ، ولا على الخسران فيه ، لأن الربح هو الفضل على رأس المال ، فإذا نفى الفضل لم يدل على ذهاب رأس المال بالكلية ، ولا على الانتقاص منه ، وهو الخسران.
قيل : لما لم يكن قوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } مفيداً لذهاب رؤوس أموالهم ، أتبعه بقوله : { وما كانوا مهتدين } ، فكمل المعنى بذلك ، وتم به المقصود ، وهذا النوع من البيان يقال له : التتميم ، ومنه قول امرىء القيس :
كأن عيون الوحش حول خبائنا . . .
وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
تمم المعنى بقوله : الذي لم يثقب ، وكمل الوصف وسمى الله تعالى اعتياضهم الضلالة عن الهدى تجارة ، وإن كانت التجارة هي البيع والشراء المتحقق منه الفائدة ، أو المترجى ذلك منه.
وهذا الاعتياض منفي عنه ذلك ، لأن الكفر محبط للأعمال.
قال تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا } الآية وفي الحديث ، أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن ابن جدعان : وهو ينفعه وصله الرحم وإطعام المساكين؟ فقال : « لا إنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين » لأنهم لم يعتاضوا ذلك إلا لما تحققوا وارتجوا من الفوائد الدنيوية والأخروية.
ألا ترى إلى قولهم : { نحن أبناء الله وأحباؤه } ، وقولهم : { وما نحن بمعذبين } وكانت اليهود تزعم أنهم لا يعذبون إلا أياماً معدودة ، وبعضهم يقول يوماً واحداً ، وبعضهم عشراً ، وكل طائفة من الكفار تزعم أنها على الحق وأن غيرها على الباطل.

فلحصول الراحة الدنيوية ورجاء الراحة الأخروية ، سمى اشتراءهم الضلالة بالهدى تجارة ، ونفى الله تعالى عنهم كونهم مهتدين.
وهل المعنى ما كانوا في علم الله مهتدين ، أو مهتدين من الضلالة ، أو للتجارة الرابحة ، أو في اشتراء الضلالة ، أو نفي عنهم الهداية والربح ، لأن من التجار من لا يربح في تجارته ويكون على هدى ، وعلى استقامة ، وهؤلاء جمعوا بين نفي الربح والهداية.
والذي أختاره أن قوله تعالى : { وما كانوا مهتدين } إخبار بأن هؤلاء ما سبقت لهم هداية بالفعل لئلا يتوهم من قوله : بالهدى ، أنهم كانوا على هدى فيما مضى ، فبين قوله : { وما كانوا مهتدين } مجاز قوله : بالهدى ، ودل على أن الذي اعتاضوا الضلالة به إنما هو التمكن من إدراك الهدى ، فالمثبت في الاعتياض غير المنفى أخيراً ، لأن ذاك بالقوة وهذا بالفعل.
وانتصاب مهتدين على أنه خبر كان ، فهو منصوب بها وحدها خلافاً لمن زعم أنه منصوب بكان والاسم معاً ، وخلافاً لمن زعم أن أصل انتصابه على الحال ، وهو الفراء ، قال : لشغل الاسم برفع كان ، إلا أنه لما حصلت الفائدة من جهته كان حالاً خبراً فأتى معرفة ، فقيل : كان أخوك زيداً تغليباً للخير ، لا للحال.
وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات أقوالاً : أحدها : أنها نزلت في المنافقين.
الثاني : في قوم أعلم الله بوصفهم قبل وجودهم ، وفيه إعلام بالمغيبات.
الثالث : في عبد الله بن أُبي وأصحابه نزل : { وإذا لقوا الذين آمنوا } والتي قبلها في جميع المنافقين ، وذكروا ما معناه : أنه لقي نفراً من المؤمنين ، فقال لأصحابه : انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم ، فذكر أنه مدح وأثنى على أبي بكر وعمر وعلي ، فوبخه علي وقال له : لا تنافق ، فقال : ألي تقول هذا ، والله إن إيماننا كإيمانكم ، ثم افترقوا ، فقال عبد الله لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت؟ فأثنوا عليه خيراً.
وقد تقدمت أقاويل غير هذه الثلاثة في غضون الكلام قبل هذا.

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)

{ مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون } : المثل في أصل كلام العرب بمعنى المثل والمثيل ، كشبه وشبه وشبيه ، وهو النظير ، ويجمع المثل والمثل على أمثال.
قال اليزيدي : الأمثال : الأشباه ، وأصل المثل الوصف ، هذا مثل كذا ، أي وصفه مساوٍ لوصف الآخر بوجه من الوجوه.
والمثل : القول السائر الذي فيه غرابة من بعض الوجوه.
وقيل : المثل ، ذكر وصف ظاهر محسوس وغير محسوس ، يستدل به علي وصف مشابه له من بعض الوجوه ، فيه نوع من الخفاء ليصير في الذهن مساوياً للأول في الظهور من وجه دون وجه.
والمقصود من ذكر المثل أنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ، لأن الغرض من ضرب المثل تشبيه الخفي بالجلي ، والغائب بالشاهد ، فيتأكد الوقوف على ماهيته ويصير الحس مطابقاً للعقل.
والذي : اسم موصول للواحد المذكر ، ونقل عن أبي علي أنه مبهم يجري مجرى مَن في وقوعه على الواحد والجمع.
وقال الأخفش : هو مفرد ، ويكون في معنى الجمع ، وهذا شبيه بقول أبي علي ، وقال صاحب التسهيل فيه ، وقد ذكر الذين ، قال : ويغني عنه الذي في غير تخصيص كثيراً وفيه للضرورة قليلاً وأصحابنا يقولون : يجوز أن تحذف النون من الذين فيبقي الذي ، وإذا كان الذي لمفرد فسمع تشديد الياء فيه مكسورة أو مضمومة ، وحذف الياء وإبقاء الذال مكسورة أو ساكنة ، وأكثر أصحابنا على أن تلك لغات في الذي.
والاستيقاد : بمعنى الإيقاد واستدعاء ذلك ، ووقود النار ارتفاع لهيبها.
والنار : جوهر لطيف مضيء حار محرق.
لما : حرف نفي يعمل الجزم وبمعنى إلا ، وظرفاً بمعنى حين عند الفارسي ، والجواب عامل فيها إذ الجملة بعدها في موضع جر ، وحرف وجوب لوجوب عند سيبويه ، وهو الصحيح لتقدمها على ما نفي بما ، ولمجيء جوابها مصدراً بإذا الفجائية.
الإضاءة : الإشراق ، وهو فرط الإنارة.
وحوله : ظرف مكان لا يتصرف ، ويقال : حوال بمعناه ، ويثنيان ويجمع أحوال ، وكلها لا تتصرف وتلزم الإضافة.
الذهاب : الانطلاق.
النور : الضوء من كل نير ونقيضة الظلمة ، ويقال نار ينور إذا نفر ، وجارية نوار : أي نفور ، ومنه اسم امرأة الفرزدق ، وسمي نوراً لأن فيه اضطراباً وحركة.
الترك : التخلية ، أترك هذا أي خله ودعه ، وفي تضمينه معنى التصيير وتعديته إلى اثنين خلاف ، الأصح جواز ذلك.
الظلمة : عدم النور ، وقيل : هو عرض ينافي النور ، وهو الأصح لتعلق الجعل بمعنى الخلق به ، والإعدام لا توصف بالخلق ، وقد رده بعضهم لمعنى الظلم ، وهو المنع ، قال : لأن الظلمة تسد البصر وتمنع الرؤية.
الإبصار : الرؤية.
{ صم بكم عمي فهم لا يرجعون } جموع كثرة على وزن فعل ، وهو قياس في جمع فعلاء وأفعل الوصفين سواء تقابلا ، نحو : أحمر وحمراء ، أو انفرد المانع في الخلقة ، نحو : عذل ورتق.

فإن كان الوصف مشتركاً لكن لم يستعملا على نظام أحمر وحمراء ، وذلك نحو : رجل آلي وامرأة عجزاء ، لم ينقس فيه فعل بل يحفظ فيه.
والصمم : داء ، يحصل في الأذن يسد العروق فيمنع من السمع ، وأصله من الصلابة ، قالوا : قناة صماء ، وقيل أصله السد وصممت القارورة : سددتها.
والبكم : آفة تحصل في اللسان تمنع من الكلام ، قاله أبو حاتم ، وقيل : الذي يولد أخرس ، وقيل : الذي لا يفهم الكلام ولا يهتدي إلى الصواب ، فيكون إذ ذاك داء في الفؤاد لا في اللسان.
والعمى : ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات ، والفعل منها على فعل بكسر العين ، واسم الفاعل على أفعل ، وهو قياس الآفات والعاهات.
والرجوع ، إن لم يتعد ، فهو بمعنى : العود ، وإن تعدى فبمعنى : الإعادة.
وبعض النحويين يقول : إنها تضمن معنى صار فتصير من باب كان ، ترفع الاسم وتنصب الخبر.
قال الزمخشري : لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بذكر ضرب المثل زيادة في الكشف وتتميماً للبيان ، ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق ، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب بأنه مشاهد ، وفيه تبكيت للخصم الألد وقمع لسورة الجامح الآبي ، ولأمر ما أكثر الله في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله ، وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء ، فقال الله تعالى : { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العاملون } ومن سور الإنجيل سور الأمثال ، انتهى كلامه.
ومثلهم : مبتدأ والخبر في الجار والمجرور بعده ، والتقدير كائن كمثل ، كما يقدر ذلك في سائر حروف الجر.
وقال ابن عطية : الخبر الكاف ، وهي على هذا اسم ، كما هي في قول الأعشى :
أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط . . .
كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
انتهى.
وهذا الذي اختاره ونبأ به غير مختار ، وهو مذهب أبي الحسن ، يجوز أن تكون الكاف اسماً في فصيح الكلام ، وتقدم أنا لا نجيزه إلا في ضرورة الشعر ، وقد ذكر ابن عطية الوجه الذي بدأنا به بعد ذكر الوجه الذي اختاره ، وأبعد من زعم أن الكاف زائدة مثلها في قوله : فصيروا مثل : { كعصف مأكول } وحمله على ذلك ، والله أعلم ، أنه لما تقرر عنده أن المثل والمثل بمعنى ، صار المعنى عنده على الزيادة ، إذ المعنى تشبيه المثل بالمثل ، لا يمثل المثل والمثل هنا بمعنى القصة والشأن ، فشبه شأنهم ووصفهم بوصف المستوقد ناراً ، فعلى هذا لا تكون الكاف زائدة.
وفي جهة المماثلة بينهم وبين الذي استوقد ناراً وجوه ذكروها : الأول : أن مستوقد النار يدفع بها الأذى ، فإذا انطفأت عنه وصل الأذى إليه ، كذلك المنافق يحقن دمه بالإسلام ويبيحه بالكفر.

الثاني : أنه يهتدي بها ، فإذا انطفأت ضل ، كذلك المنافق يهتدي بالإسلام ، فإذا اطلع على نفاقه ذهب عنه نور الإسلام وعاد إلى ظلمه كفره.
الثالث : أنه إذا لم يمدها بالحطب ذهب ضوؤها ، كذلك المنافق ، إذا لم يستدم الإيمان ذهب إيمانه.
الرابع : أن المستضيء بها نوره من جهة غيره لا من جهة نفسه ، فإذا ذهبت النار بقي في ظلمة ، كذلك المنافق لما أقر بلسانه من غير اعتقاد قلبه كان نور إيمانه كالمستعار.
الخامس : أن الله شبه إقبالهم على المسلمين بالإضاءة وعلى المشركين الذهاب ، قاله مجاهد : السادس : شبه الهدى الذي باعوه بالنور الذي حصل للمستوقد ، والضلالة المشتراة بالظلمات.
السابع : أنه مثل ضربه الله للمنافق لأنه أظهر الإسلام فحقن به دمه ومشى في حرمته وضيائه ثم سلبه في الآخرة عند حاجته إليه ، روي معناه عن الحسن ، وهذه الأقاويل على أن ذلك نزل في المنافقين ، وهو مروي عن ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، ومقاتل.
وروي عن ابن جبير ، وعطاء ، ومحمد بن كعب ، ويمان بن رئاب ، أنها في اليهود ، فتكون في المماثلة إذ ذاك وجوه ذكروها : الأول : أن مستوقد النار يستضيء بنورها ويتأنس وتذهب عنه وحشة الظلمة ، واليهود لما كانوا يبشرون النبي صلى الله عليه وسلم ويستفتحون به على أعدائهم ويستنصرون به فينصرون ، شبه حالهم بحال المستوقد النار ، فلما بعث وكفروا به ، أذهب الله ذلك النور عنهم.
الثاني : شبه نار حربهم التي شبوها لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنار المستوقد ، وإطفاءها بذهاب النور الذي للمستوقد.
الثالث : شبه ما كانوا يتلونه في التوراة من اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته وصفة أمته ودينه وأمرهم باتباعه بالنور الحاصل لمن استوقد ناراً ، فلما غيروا اسمه وصفته وبدلوا التوراة وجحدوا أذهب الله عنهم نور ذلك الإيمان ، وتقدم الكلام على الذي ، وتقدم قول الفارسي في أنه يجري مجرى من في الإفراد والجمع ، وقول الأخفش أنه مفرد في معنى الجمع ، والذي نختاره أنه مفرد لفظاً وإن كان في المعنى نعتاً لما تحته أفراد ، فيكون التقدير كمثل الجمع الذي استوقد ناراً كأحد التأويلين في قوله :
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم . . .
ولا يحمل على المفرد لفظاً ومعنى بجمع الضمير في ذهب الله بنورهم ، وجمعه في دمائهم.
وأما من زعم أن الذي هنا هو الذين وحذفت النون لطول الصلة ، فهو خطأ لإفراد الضمير في الصلة ، ولا يجوز الإفراد للضمير لأن المحذوف كالملفوظ به.
ألا ترى جمعه في قوله تعالى : { وخضتم كالذي خاضوا } على أحد التأويلين ، وجمعه في قول الشاعر :
يا رب عبس لا تبارك في أحد . . .
في قائم منهم ولا فيمن قعد
إلا الذي قاموا بأطراف المسد . . .
وأما قول الفارسي : إنها مثل مَن ، ليس كذلك لأن الذي صيغة مفرد وثني وجمع بخلاف مَن ، فلفظ مَن مفرد مذكر أبداً وليس كذلك الذي ، وقد جعل الزمخشري ذلك مثل قوله تعالى :

{ وخضتم كالذي خاضوا } وأعل لتسويغ ذلك بأمرين ، قال : أحدهما : أن الذي لكونه وصلة إلى وصف كل معرفة واستطالته بصلته حقيق بالتخفيف ، ولذلك نهكوه بالحذف ، فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين ، وهذا الذي ذكره من أنهم حذفوه حتى اقتصروا به على اللام ، وإن كان قد تقدمه إليه بعض النحويين ، خطأ ، لأنه لو كانت اللام بقية الذي لكان لها موضع من الإعراب ، كما كان للذي ، ولما تحظى العامل إلى أن يؤثر في نفس الصلة فيرفعها وينصبها ويجرها ، ويجاز وصلها بالجمل كما يجوز وصل الذي إذا أقرت ياؤه أو حذفت ، قال : والثاني : إن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون ، إنما ذلك علامة لزيادة الدلالة ، ألا ترى أن سائر الموصولات لفظ الجمع والواحد فيهن سواء؟ انتهى.
وما ذكره من أن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون صحيح من حيث اللفظ ، وأما من حيث المعنى فليس كذلك ، بل هو مثله من حيث المعنى ، ألا ترى أنه لا يكون واقعاً إلا على من اجتمعت فيه شروط ما يجمع بالواو والنون من الذكورية والعقل؟ ولا فرق بين الذين يفعلون والفاعلين من جهة أنه لا يكون إلا جمعاً لمذكر عاقل ، ولكنه لما كان مبنياً التزم فيه طريقة واحدة في اللفظ عند أكثر العرب ، وهذيل أتت بصيغة الجمع فيه بالواو والنون رفعاً والياء والنون نصباً وجراً ، وكل العرب التزمت جمع الضمير العائد عليه من صلته كما يعود على الجمع المذكر العاقل ، فدل هذا كله على أن ما ذكره ليس بمسوغ لأن يوضع الذي موضع الذين إلا على التأويل الذي ذكرناه من إرادة الجمع أو النوع ، وقد رجع إلى ذلك الزمخشري أخيراً.
وقرأ ابن السميفع : كمثل الذين ، على الجمع ، وهي قراءة مشكلة ، لأنا قد ذكرنا أن الذي إذا كان أصله الذين فحذفت نونه تخفيفاً لا يعود الضمير عليه إلا كما يعود على الجمع ، فكيف إذا صرح به؟ وإذا صحت هذه القراءة فتخريجها عندي على وجوه : أحدها : أن يكون إفراد الضمير حملاً على التوهم المعهود مثله في لسان العرب ، كأنه نطق بمن الذي هو لفظ ومعنى ، كما جزم بالذي من توهم أنه نطق بمن الشرطية ، وإذا كان التوهم قد وقع بين مختلفي الحد ، وهو إجراء الموصول في الجزم مجرى اسم الشرط ، فبالحري أن يقع بين متفقي الحد ، وهو الذين ، ومن الموصولان مثال الجزم بالذي ، قول الشاعر ، أنشده ابن الأعرابي :
كذاك الذي يبغي على الناس ظالماً . . .
تصبه على رغم عواقب ما صنع
الثاني : أن يكون إفراد الضمير ، وإن كان عائداً على جمع اكتفاء بالإفراد عن الجمع كما تكتفي بالمفرد الظاهر عن الجمع ، وقد جاء مثل ذلك في لسان العرب ، أنشد أبو الحسن :

وبالبدو منا أسرة يحفظوننا . . .
سراع إلى الداعي عظام كراكره
أي كراكرهم.
والثالث : أن يكون الفاعل الذي في استوقد ليس عائداً على الذين ، وإنما هو عائد على اسم الفاعل المفهوم من استوقد ، التقدير استوقد هو ، أي المستوقد ، فيكون نحو قوله تعالى : { ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات } أي هو أي البداء المفهوم من بدا على أحد التأويلات في الفاعل في الآية ، وفي العائد على الذين وجهان على هذا التأويل.
أحدهما : أن يكون حذف وأصله لهم ، أي كمثل الذي استوقد لهم المستوقد ناراً وإن لم تكن فيه شروط الحذف المقيس ، فيكون مثل قول الشاعر :
ولو أن ما عالجت لين فؤادها . . .
فقسا استلين به للان الجندل
يريد ما عالجت به ، فحذف حرف الجر والضمير ، وإن لم يكن فيه شروط الحذف المقيس ، وهي مذكورة في مبسوطات كتب النحو ، وضابطها أن يكون الضمير مجروراً بحرف جر ليس في موضع رفع ، وأن يكون الموصول ، أو الموصوف به الموصول ، أو المضاف للموصول قد جر بحرف مثل ذلك الحرف لفظاً ومعنىً ، وأن يكون الفعل الذي تعلق به الحرف الذي جر الضمير ، مثل ذلك الفعل الذي تعلق به الحرف السابق.
والوجه الثاني : أن تكون الجملة الأولى الواقعة صلة لا عائد فيها ، لكن عطف عليها جملة بالفاء ، وهي جملة لما وجوابها ، وفي ذلك عائد على الذي ، فحصل الربط بذلك العائد المتأخر ، فيكون شبيهاً بما أجازوه من الربط في باب الابتداء من قولهم : زيد جاءت هند فضربتها ، ويكون العائد على الذين الضمير الذي في جواب لما ، وهو قوله تعالى : { ذهب الله بنورهم } ، ولم يذكر أحد ممن وقفنا على كلامه تخريج قراءة ابن السميمع.
واستوقد : استفعل ، وهي بمعنى افعل.
حكى أبو زيد : أوقد واستوقد بمعنى ، ومثله أجاب واستجاب ، وأخلف لأهله واستخلف أي خلف الماء ، أو للطلب ، جوز المفسرون فيها هذين الوجهين من غير ترجيح ، وكونها بمعنى أوقد ، قول الأخفش ، وهو أرجح لأن جعلها للطلب يقتضي حذف جملة حتى يصح المعنى ، وجعلها بمعنى أوقد لا يقتضيه.
ألا ترى أنه يكون المعنى في الطلب استدعوا ناراً فأوقدوها ، { فلما أضاءت ما حوله } ، لأن الإضاءة لا تتسبب عن الطلب ، إنما تتسبب عن الاتقاد ، فلذلك كان حملها على غير الطلب أرجح ، والتشبيه وقع بين قصة وقصة ، فلا يحتاج في نحو هذا التشبيه إلى مقابلة جماعة بجماعة.
ألا ترى إلى قوله تعالى : { مثل الذين حملوا التوارة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً } وعلى أنه في قوله : { كمثل الذي استوقد ناراً } ، هو من قبيل المقابلة أيضاً؟ ألا ترى أن المعنى هو كمثل الجمع؟ أو الفوج الذي استوقد ، فهو من المفرد اللفظ المجموع المعنى.

على أن من المفسرين من تخيل أنه مفرد ورام مقابلة الجمع بالجمع ، فادعى أن ذلك هو على حذف مضاف التقدير ، كمثل أصحاب الذي استوقد ، ولا حاجة إلى هذا الذي قدره لأنه لو فرضناه مفرداً لفظاً ومعنى لما احتيج إلى ذلك ، لأن التشبيه إنما جرى في قصة بقصة ، وإذا كان كذلك فلا تشترط المقابلة ، كما قدمنا ، ونكر ناراً وأفردها ، لأن مقابلها من وصف المنافق إنما هو نزر يسير من التقييد بالإسلام ، وجوانحه منطوية على الكفر والنفاق مملوءة به ، فشبه حاله بحال من استوقد ناراً ما إذ ما إذ لا يدل إلا على المطلق ، لا على كثرة ولا على عهد ، والفاء في فلما للتعقيب ، وهي عاطفة جملة الشرط على جملة الصلة ، ومن زعم أنها دخلت لما تضمنته الصلة من الشرط وقدره إن استوقد فهو فاسد من وجوه ، وقد تقدم الرد على ما يشبه هذا الزعم في قوله : { فما ربحت تجارتهم } ، فأغنى عن إعادته هنا.
وأضاءت : قيل متعد وقيل لازم ومتعد ، قالوا : وهو أكثر وأشهر ، فإذا كان متعدياً كانت الهمزة فيه للنقل ، إذ يقال : ضاء المكان ، كما قال العباس بن عبد المطلب ، في النبي عليه الصلاة والسلام : وأنت لما ولدت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق.
والفاعل إذ ذاك ضمير النار وما مفعولة وحوله صلة معمولة لفعل محذوف لا نكرة موصوفة وحوله صفة لقلة استعمال ما نكرة موصوفة ، وقد تقدم لنا الكلام في ذلك ، أي فلما أضاءت النار المكان الذي حوله ، وإذا كان لازماً فقالوا : إن الضمير في أضاءت للنار ، وما زائدة ، وحوله ظرف معمول للفعل ، ويجوز أن يكون الفاعل ليس ضمير النار ، وإنما هو ما الموصولة وأنث على المعنى ، أي : فلما أضاءت الجهة التي حوله ، كما أنثوا على المعنى في قولهم : ما جاءت حاجتك.
وقد ألم الزمخشري بهذا الوجه ، وهذا أولى مما ذكروه لأنه لا يحفظ من كلام العرب : جلست ما مجلساً حسناً ، ولاقت ما يوم الجمعة ، والحمل على المعنى محفوظ ، كما ذكرناه ، ولو سمع زيادة في ما نحو هذا ، لم يكن ذلك من مواضع اطراد زيادة ما ، والأولى في الآية بعد ذلك أن يكون أضاءت متعدية ، فلا تحتاج إلى تقدير زيادة ، ولا حمل على المعنى.
وقرأ ابن السميفع ، وابن أبي عبلة : فلما ضاءت ثلاثياً فيتخرج على زيادة ما وعلى أن تكون هي الفاعلة ، إما موصولة وإما موصوفة ، كما تقدم ، ولما جوابها : { ذهب الله بنورهم } ، وجمع الضمير في : بنورهم حملاً على معنى الذي ، إذ قررنا أن المعنى كالجمع الذي استوقد ، أو على ذلك المحذوف الذي قدره بعضهم ، وهو كمثل أصحاب الذي استوقد ، وأجازوا أن يكون جواب لما محذوفاً لفهم المعنى ، كما حذفوه في قوله : { فلما ذهبوا به وأجمعوا }

الآية.
قال الزمخشري : وإنما جاز حذفه لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس الدال عليه ، انتهى.
وقوله : لاستطالة الكلام غير مسلم لأنه لم يستطل الكلام ، لأنه قدره خمدت ، وأي استطالة في قوله : { فلما أضاءت ما حوله } ، خمدت؟ بل هذا لما وجوابها ، فلا استطالة بخلاف قوله : { فلما ذهبوا به } ، فإن الكلام قد طال بذكر المعاطيف التي عطفت على الفعل وذكر متعلقاتها بعد الفعل الذي يلي لما ، فلذلك كان الحذف سائغاً لاستطالة الكلام.
وقوله : مع أمن الإلباس ، وهذا أيضاً غير مسلم ، وأي أمن إلباس في هذا ولا شيء يدل على المحذوف؟ بل الذي يقتضيه ترتيب الكلام وصحته ووضعه مواضعه أن يكون { ذهب الله بنورهم } هو الجواب ، فإذا جعلت غيره الجواب مع قوة ترتب ذهاب الله بنورهم على الإضاءة ، كان ذلك من باب اللغز ، إذ تركت شيئاً يبادر إلى الفهم وأضمرت شيئاً يحتاج في تقديره إلى وحي يسفر عنه ، إذ لا يدل على حذفه اللفظ مع وجود تركيب { ذهب الله بنورهم }.
ولم يكتف الزمخشري بأن جوز حذف هذا الجواب حتى ادعى أن الحذف أولى ، قال : وكان الحذف أولى من الإثبات ، لما فيه من الوجازة مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ للفظ في أداء المعنى ، كأنه قيل : فلما أضاءت ما حوله خمدت ، فبقوا خابطين في ظلام ، متحيرين متحسرين على فوت الضوء ، خائبين بعد الكدح في إحياء النار ، انتهى.
وهذا الذي ذكره نوع من الخطابة لا طائل تحتها ، لأنه كان يمكن له ذلك لو لم يكن يلي قوله : { فلما أضاءت ما حوله } ، قوله : { ذهب الله بنورهم }.
وأما ما في كلامه بعد تقدير خمدت إلى آخره ، فهو مما يحمل اللفظ ما لا يحتمله ، ويقدر تقادير وجملاً محذوفة لم يدل عليها الكلام ، وذلك عادته في غير ما كلام في معظم تفسيره ، ولا ينبغي أن يفسر كلام الله بغير ما يحتمله ، ولا أن يزاد فيه ، بل يكون الشرح طبق المشروح من غير زيادة عليه ولا نقص منه.
ولما جوز واحذف الجواب تكلموا في قوله تعالى : { ذهب الله بنورهم } ، فخرجوا ذلك على وجهين : أحدهما : أن يكون مستأنفاً جواب سؤال مقدر كأنه قيل : ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد؟ فقيل : ذهب الله بنورهم.
والثاني : أن يكون بدلاً من جملة التمثيل على سبيل البيان ، قالهما الزمخشري ، وكلا الوجهين مبنيان على أن جواب لما محذوف ، وقد اخترنا غيره وأنه قوله تعالى : { ذهب الله بنورهم } والوجه الثاني من التخريجين اللذين تقدم ذكرهما ، وهو أن يكون قوله : { ذهب الله بنورهم } بدلاً من جملة التمثيل ، على سبيل البيان ، لا يظهر في صحته ، لأن جملة التمثيل هي قوله : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } ، فجعله { ذهب الله بنورهم } بدلاً من هذه الجملة ، على سبيل البيان ، لا يصح ، لأن البدل لا يكون في الجمل إلا إن كانت الجملة فعلية تبدل من جملة فعلية ، فقد ذكروا جواز ذلك.

أما أن تبدل جملة فعلية من جملة إسمية فلا أعلم أحداً أجاز ذلك ، والبدل على نية تكرار العامل.
والجملة الأولى لا موضع لها من الإعراب لأنها لم تقع موقع المفرد ، فلا يمكن أن تكون الثانية على نية تكرار العامل ، إذ لا عامل في الأولى فتكرر في الثانية فبطلت جهة البدء فيها ، ومن جعل الجواب محذوفاً جعل الضمير في بنورهم عائداً على المنافقين.
والباء في بنورهم للتعدية ، وهي إحدى المعاني الأربعة عشر التي تقدم أن الباء تجيء لها ، وهي عند جمهور النحويين ترادف الهمزة.
فإذا قلت : خرجت بزيد؛ فمعناه أخرجت زيداً ، ولا يلزم أن تكون أنت خرجت ، وذهب أبو العباس إلى أنك إذا قلت : قمت بزيد ، دل على أنك قمت وأقمته ، وإذا قلت : أقمت زيداً ، لم يلزم أنك قمت ، ففرق بين الباء والهمزة في التعدية.
وإلى نحو من مذهب أبي العباس ذهب السهيلي ، قال : تدخل الباء ، يعني المعدية ، حيث تكون من الفاعل بعض مشاركة للمفعول في ذلك الفعل نحو : أقعدته ، وقعدت به ، وأدخلته الدار ، ودخلت به ، ولا يصح هذا في مثل : أمرضته ، وأسقمته.
فلا بد إذن من مشاركة ، ولو باليد ، إذا قلت : قعدت به ، ودخلت به.
ورد على أبي العباس بهذه الآية ونحوها.
ألا ترى أن المعنى أذهب الله نورهم؟ ألا ترى أن الله لا يوصف بالذهاب مع النور؟ قال بعض أصحابنا ، ولا يلزم ذلك أبا العباس : إذ يجوز أن يكون الله وصف نفسه بالذهاب على معنى يليق به ، كما وصف نفسه تعالى بالمجيء في قوله : { وجاء ربك } والذي يفسد مذهب أبي العباس من التفرقة بين الباء والهمزة قول الشاعر :
ديار التي كانت ونحن على منى . . .
تحل بنا لولا نجاء الركائب
أي تحلنا ألا ترى أن المعنى تصيرنا حلالاً غير محرمين ، وليست تدخل معهم في ذلك لأنها لم تكن حراماً ، فتصير خلالاً بعد ذلك؟ ولكون الباء بمعنى الهمزة لا يجمع بينهما ، فلا يقال : أذهبت بزيد ، ولقوله تعالى : { تنبت بالذهن } في قراءة من جعله رباعياً تخريج بذكر في مكانه ، إن شاء الله تعالى.
ولباء التعدية أحكام غير هذا ذكرت في النحو.
وقرأ اليماني : أذهب الله نورهم ، وهذا يدل على مرادفة الباء للهمزة ، ونسبة الإذهاب إلى الله تعالى حقيقة ، إذ هو فاعل الأشياء كلها.
وفي معنى : { ذهب الله بنورهم } ثلاثة أقوال : قال ابن عباس : هو مثل ضرب للمنافقين ، كانوا يعتزون بالإسلام ، فناكحهم المسلمون ووارثوهم وقاسموهم الفيء ، فلما ماتوا سبلهم الله العز ، كما سلب موقد النار ضوءه ، وتركهم في ظلمات ، أي في عذاب.
الثاني : إن ذهاب نورهم باطلاع الله المؤمنين على كفرهم ، فقد ذهب منهم نور الإسلام بما أظهر من كفرهم.

الثالث : أبطل نورهم عنده ، إذ قلوبهم على خلاف ما أظهروا ، فهم كرجل أوقد ناراً ثم طفئت فعاد في ظلمة.
وهذه الأقوال إنما تصح إذا كان الضمير في بنورهم عائداً على المنافقين ، وإن عاد على المستوقدين ، فذهاب النور هو إطفاء النار التي أوقدوها ، ويكون بأمر سماوي ليس لهم فيه فعل ، فلذلك قال الضحاك : لما أضاءت النار أرسل الله عليها ريحاً عاصفاً فاطفأها ، وهذا التأويل يأتي على قول من قال : إنها نار حقيقة أوقدها أهل الفساد ليتوصلوا بها وبنورها إلى فسادهم وعبثهم ، فأخمد الله نارهم وأضل سعيهم ، وأما إذا قلنا إن ذكر النار هنا مثل لا حقيقة لها ، وإن المراد بها نار العداوة والحقد ، فإذهاب الله لها دفع ضررها عن المؤمنين.
وإذا كانت النار مجازية ، فوصفها بالإضاءة ما حول المستوقد هو من مجاز الترشيح ، وقد تقدم الكلام فيه.
وإذهاب النور أبلغ من إذهاب الضوء لاندراج الأخص في نفي الأعم ، لا العكس.
فلو أتى بضوئهم لم يلزم ذهاب النور.
والمقصود إذهاب النور عنهم أصلاً ، ألا ترى كيف عقبه بقوله : { وتركهم في ظلمات } ؟ وإضافة النور إليهم من باب الإضافة بأدنى ملابسة ، إذ إضافته إلى النار هو الحقيقة ، لكن مما كانوا ينتفعون به صح إضافته إليهم.
وقرأ الجمهور : في ظلمات بضم اللام ، وقرأ الحس ، وأبر السماك : بسكون اللام ، وقرأ قوم : بفتحها.
وهذه اللغى الثلاث جائزة في جمع فعلة الاسم الصحيح العين ، غير المضعف ، ولا المعل اللام بالتاء.
فإن اعتلت بالياء نحو : كلية ، امتنعت الضمة ، أو كان مضعفاً نحو : دره ، أو معتل العين نحو : سورة ، أو وصفاً نحو : بهمة امتنعت الفتحة والضمة.
وقرأ قوم : إن ظلمات ، بفتح اللام جمع ظلم ، الذي هو جمع ظلمة.
فظلمات على هذا جمع جمع ، والعدول إلى الفتح تخفيفاً أسهل من ادعاء جمع الجمع ، لأن العدول إليه قد جاء في نحو : كسرات جمع كسرة جوازاً ، وإليه في نحو : جفنة وجوبا.
وفعلة وفعلة أخوات ، وقد سمع فيها الفتح بالقيود التي تقدمت ، وجمع الجمع ليس بقياس ، فلا ينبغي أن يصار إليه إلا بدليل قاطع.
وقرأ اليماني : في ظلمة ، على التوحيد ليطابق بين إفراد النور والظلمة وقراءة الجمع ، لأن كل واحد له ظلمة تخصه ، فجمعت لذلك.
وحيث وقع ذكر النور والظلمة في القرآن جاء على هذا المنزع من إفراد النور وجمع الظلمات.
وسيأتي الكلام على ذلك ، إن شاء الله.
ونكرت الظلمات ولم تضف إلى ضميرهم كما أضيف النور اكتفاء بما دل عليه المعنى من إضافتها إليهم من جهة المعنى واختصار اللفظ ، وإن كان ترك متعدياً لواحد فيحتمل أن يكون : في ظلمات ، في موضع الحال من المفعول ، فيتعلق بمحذوف ، ولا يبصرون : في موضع الحال أيضاً ، إما من الضمير في تركهم وإمّا من الضمير المستكن في المجرور فيكون حالاً متداخلة ، وهي في التقديرين حال مؤكدة.

ألا ترى أن من ترك في ظلمة لزم من ذلك أنه لا يبصر؟ وإن كان ترك مما يتعدى إلى اثنين كان في ظلمات في موضع المفعول الثاني ، ولا يبصرون جملة حالية؟ ولا يجوز أن يكون في ظلمات في موضع الحال ، ولا يبصرون جملة في موضع المفعول الثاني ، وإن كان يجوز ظننت زيداً منفرداً لا يخاف ، وأنت تريد ظننت زيداً في حال انفراده لا يخاف لأن المفعول الثاني أصله خبر المبتدأ ، وإذا كان كذلك فلا يأتي الخبر على جهة التأكيد ، إنما ذلك على سبيل بعض الأحوال لا الإخبار.
فإذا جعلت في ظلمات في موضع الحال كان قد فهم منها أن من هو في ظلمة لا يبصر ، فلا يكون في قوله لا يبصرون من الفائدة إلا التوكيد ، وذلك لا يجوز في الإخبار.
ألا ترى إلى تخريج النحويين قول امرىء القيس :
إذا ما بكى من خلفها انحرفت له . . .
بشق وشق عندنا لم يحول
على أن وشق مبتدأ وعندنا في موضع الخبر ، ولم يحول جملة حالية أفادت التأكيد ، وجاز الابتداء بالنكرة لأنه موضع الخبر ، لأنه يؤدي إلى مجيء الخبر مؤكداً ، لأن نفي التحويل مفهوم من كون الشق عنده ، فإذا استقر عنده ثبت أنه لم يحول عنه.
قال ابن عباس : والظلمات هنا العذاب ، وقال مجاهد : ظلمة الكفر ، وقال قتادة : ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت ، وقال السدّي : ظلمة النفاق ، ولم يذكر مفعول لا يبصرون ، ولا ينبغي أن ينوي ، لأن المقصود نفي الإبصار عنهم لا بالنسبة إلى متعلقه.
قرأ الجمهور : { صم بكم عمي } ، بالرفع وهو على إضمار مبتدأ تقديره هم صم ، وهي أخبار متباينة في اللفظ والدلالة الوضعية ، لكنها في موضع خبر واحد ، إذ يؤول معناها كلها إلى عدم قبولهم الحق وهم سمعاء الآذان ، فصح الألسن ، بصراء الأعين ، لكنهم لم يصيخوا إلى الحق ولا نطقت به ألسنتهم ، ولا تلمحوا أنوار الهداية ، وصفوا بما وصفوا من الصمم والبكم والعمى ، وقد سمع عن العرب لهذا نظائر ، أنشد الزمخشري من ذلك أياتاً ، وأنشد غيره :
أعمى إذا ما جارتي برزت . . .
حتى يواري جارتي الخدر
وأصم عما كان بينهما . . .
أذني وما في سمعها وقر
وهذا من التشبيه البليغ عند المحققين ، وليس من باب الاستعارة ، لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون.
والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلواً عنه ، صالحاً لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام ، كقول زهير :
لدي أسد شاكي السلاح مقذف . . .
له لبد أظفاره لم تقلم
وحذف المبتدأ هناك لذكره ، فلا يقال : إنه من باب الاستعارة ، إذ هو كقول زهير :

أسد علي وفي الحروب نعامة . . .
فتخاء تنفر من صفير الصافر
والإخبار عنهم بالصمم والبكم والعمى هو كما ذكرناه من باب المجاز ، وذلك لعدم قبولهم الحق.
وقيل : وصفهم الله بذلك لأنهم كانوا يتعاطون التصامم والتباكم والنعامي من غير أن يكونوا متصفين بشيء من ذلك ، فنبه على سوء اعتمادهم وفساد اعتقادهم.
والعرب إذا سمعت ما لا تحب ، أو رأت ما لا يعجب ، طرحوا ذلك كأنهم ما سمعوه ولا رأوه.
قال تعالى : { كأن لم يسمعها ، كأن في أذنيه وقراً } وقالوا : { قلوبنا في أكنة } الآية.
قيل : ويجوز أن يكون أريد بذلك المبالغة في ذمهم ، وأنهم من الجهل والبلادة أسوأ حالاً من البهائم وأشبه حالاً من الجمادات التي لا تسمع ولا تتكلم ولا تبصر.
فمن عدم هذه المدارك الثلاثة كان من الذم في الرتبة القصوى ، ولذلك لما أراد ابراهيم ، على نبينا وعليه السلام ، المبالغة في ذم آلهة أبيه قال : { يا أبت لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً } وهذه الجملة خبرية ولا ضرورة تدعو إلى اعتقاد أنه خبر أريد به الدعاء ، وإن كان قد قاله بعض المفسرين.
قال : دعاء الله عليهم بالصمم والبكم والعمى جزاء لهم على تعاطيهم ذلك ، فحقق الله فيهم ما يتعاطونه من ذلك وكأنه يشير إلى ما يقع في الآخرة من قوله : { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً } وقرأ عبد الله بن مسعود ، وحفصة أم المؤمنين : صماً بكماً عمياً ، بالنصب ، وذكروا في نصبه وجوهاً : أحدها : أن يكون مفعولاً.
ثانياً لترك ، ويكون في ظلمات متعلقاً بتركهم ، أو في موضع الحال ، ولا يبصرون.
حال.
الثاني : أن يكون منصوباً على الحال من المفعول في تركهم ، على أن تكون لا تتعدى إلى مفعولين ، أو تكون تعدت إليهما وقد أخذتهما.
الثالث : أن يكون منصوباً بفعل محذوف تقديره أعني.
الرابع : أن يكون منصوباً على الحال من الضمير في يبصرون ، وفي ذلك نظر.
الخامس : أن يكون منصوباً على الذم ، صماً بكماً ، فيكون كقول النابغة :
أقارع عوف لا أحاول غيرها . . .
وجوه قرود تبتغي من تخادع
وفي الوجوه الأربعة السابقة لا يتعين أن تكون الأوصاف الثلاثة من أوصاف المنافقين ، إذ هي متعلقة في العمل بما قبلها ، وما قبلها الظاهر أنه من أوصاف المستوقدين ، إلا إن جعل الكلام في حال المستوقد قد تم عند قوله : { فلما أضاءت ما حوله } ، وكان الضمير في نورهم يعود على المنافقين ، فإذ ذاك تكون الأوصاف الثلاثة لهم.
وأما في الوجه الخامس فيظهر أنها من أوصاف المنافقين ، لأنها حالة الرفع من أوصافهم.
ألا ترى أن التقدير هم صم ، أي المنافقون؟ فكذلك في النصب.
ونص بعض المفسرين على ضعف النصب على الذم ، ولم يبين جهة الضعف ، ووجهه : أن النصب على الذم إنما يكون حيث يذكر الاسم السابق فتعدل عن المطابقة في الإعراب إلى القطع ، وهاهنا لم يتقدم اسم سابق تكون هذه الأوصاف موافقة له في الإعراب فتقطع ، فمن أجل هذا ضعف النصب على الذم.

فهم لا يرجعون : جملة خبرية معطوفة على جملة خبرية ، وهي من حيث المعنى مترتبة على الجملة السابقة ومتعقبتها ، لأن من كانت فيه هذه الأوصاف الثلاثة ، التي هي كناية عن عدم قبول الحق ، جدير أن لا يرجع إلى إيمان.
فإن كانت الآية في معنيين ، فذلك واضح ، لأن من أخبر الله عنه أنه لا يرجع إلى الإيمان لا يرجع إليه أبداً ، وإن كانت في غير معنيين فذلك مقيد بالديمومة على الحالة التي وصفهم الله بها.
قال قتادة ، ومقاتل : لا يرجعون عن ضلالهم ، وقال السدي : لا يرجعون إلى الإسلام ، وقيل : لا يرجعون عن الصم والبكم والعمى ، وقيل : لا يرجعون إلى ثواب الله ، وقيل : عن التمسك بالنفاق ، وقيل : إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها ، وأسند عدم الرجوع إليهم لأنه لما جعل تعالى لهم عقولاً للهداية ، وبعث إليهم رسلاً بالبراهين القاطعة ، وعدلوا عن ذلك إلى اتباع أهوائهم ، والجري على مألوف آبائهم ، كان عدم الرجوع من قبل أنفسهم.
وقد قدمنا أن فعل العبد ينسب إلى الله اختراعاً وإلى العبد لملابسته له ، ولذلك قال في هذه الآية : { صم بكم عمي فهم لا يرجعون } ، فأضاف هذه الأوصاف الذميمة إلى ملابسها وقال تعالى : { اولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم } فأضاف ذلك إلى الموجد تعالى.
وهذه الأقاويل كلها على تقدير أن يكون الرجوع لازماً ، وإن كان متعدياً كان المفعول محذوفاً تقديره فهم لا يرجعون جواباً.

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)

{ أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق } أو ، لها خمسة معان : الشك ، والإبهام ، والتخيير ، والإباحة ، والتفصيل.
وزاد الكوفيون أن تكون بمعنى الواو وبمعنى بل ، وكان شيخنا أبو الحسن بن الصائغ يقول : أو لأحد الشيئين أو الأشياء.
وقال السهيلي : أو للدلالة على أحد الشيئين من غير تعيين ، ولذلك وقعت في الخبر المشكوك فيه من حيث أن الشك تردد بين أمرين من غير ترجيح ، لا أنها وضعت للشك ، فقد تكون في الخبر ، ولا شك إذا أبهمت على المخاطب.
وأما التي للتخيير فعلى أصلها لأن المخبر إنما يريد أحد الشيئين ، وأما التي زعموا أنها للإباحة فلم تؤخذ الإباحة من لفظ أو ولا من معناها ، إنما أخذت من صيغة الأمر مع قرائن الأحوال ، وإنما دخلت لغلبة العادة في أن المشتغل بالفعل الواحد لا يشتغل بغيره ، ولو جمع بين المباحين لم يعص ، علماً بأن أو ليست معتمدة هنا.
الصيب : المطر ، يقال : صاب يصوب فهو صيب إذا نزل والسحاب أيضاً ، قال الشاعر :
حتى عفاها صيب ودقه . . .
داني النواحي مسبل هاطل
وقال الشماخ :
وأشحم دان صادق الرعد صيب . . .
ووزن صيب فيعل عند البصريين ، وهو من الأوزان المختصة بالمعتل العين ، إلا ما شذ في الصحيح من قولهم : صيقل بكسر القاف علم لامرأة ، وليس وزنه فعيلاً ، خلافاً للفراء.
وقد نسب هذا المذهب للكوفيين وهي مسألة يتكلم عليها في علم التصريف.
وقد تقدم الكلام على تخفيف مثل هذا السماء : كل ما علاك من سقف ونحوه ، والسماء المعروفة ذات البروج ، وأصلها الواو لأنها من السمو ، ثم قد يكون بينها وبين المفرد تاء تأنيث.
قالوا : سماوة ، وتصح الواو إذ ذاك لأنها بنيت عليها الكلمة ، قال العجاج :
طيّ الليالي زلفاً فزلفاً . . .
سماوة الهلال حتى احقوقفا
والسماء مؤنث ، وقد يذكر ، قال الشاعر :
فلو رفع السماء إليه قوماً . . .
لحقنا بالسماء مع السحاب
والجنس الذي ميز واحده بتاء ، يؤنثه الحجازيون ، ويذكره التميميون وأهل نجد ، وجمعهم لها على سموات ، وعلى اسمية ، وعلى سماء.
قال : فوق سبع سمائنا شاذ لأنه ، أولاً : اسم جنس فقياسه أن لا يجمع ، وثانياً : فجمعه بالألف والتاء ليس فيه شرط ما يجمع بهما قياساً ، وجمعه على أفعله ليس مما ينقاس في المؤنث ، وعلى فعائل لا ينقاس في فعال.
الرعد ، قال ابن عباس ، ومجاهد ، وشهر بن حوشب ، وعكرمة : الرعد ملك يزجر السحاب بهذا الصوت ، وقال بعضهم : كلما خالفت سحابة صاح بها ، والرعد اسمه.
وقال علي : وعطاء ، وطاوس ، والخليل : صوت ملك يزجر السحاب.
وروي هذا أيضاً عن ابن عباس ، ومجاهد.
وقال مجاهد : أيضاً صوت ملك يسبح ، وقيل : ريح تختنق بين السماء والأرض.
وروي عن ابن عباس : أنه ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت ، وقيل : اصطكاك الأجرام السحابية ، وهو قول أرباب الهيئة.

والمعروف في اللغة : أنه اسم الصوت المسموع ، وقاله علي ، قال بعضهم : أكثر العلماء على أنه ملك ، والمسموع صوته يسبح ويزجر السحاب ، وقيل : الرعد صوت تحريك أجنحة الملائكة الموكلين بزجر السحاب.
وتلخص من هذه النقول قولان : أحدهما : أن الرعد ملك ، الثاني : أنه صوت.
قالوا : وسمي هذا الصوت رعداً لأنه يرعد سامعه ، ومنه رعدت الفرائص ، أي حركت وهزت كما تهزه الرعدة.
واتسع فيه فقيل : أرعد ، أي هدد وأوعد لأنه ينشأ عن الإيعاد.
والتهدد : ارتعاد الموعد والمهدد.
البرق : مخراف حديد بيد الملك يسوق به السحاب ، قاله علي ، أو أثر ضرب بذلك المخراف.
وروي عن علي : أو سوط نور بيد الملك يزجرها به ، قاله ابن عباس ، أو ضرب ذلك السوط ، قاله ابن الأنباري وعزاه إلى ابن عباس.
وروي نحوه عن مجاهد : أو ملك يتراءى.
وروي عن ابن عباس أو الماء ، قاله قوم منهم أبو الجلد جيلان بن فروة البصري ، أو تلألؤ الماء ، حكاه ابن فارس ، أو نار تنقدح من اصطكاك أجرام السحاب ، قاله بعضهم.
والذي يفهم من اللغة : أن الرعد عبارة عن هذا الصوت المزعج المسموع من جهة السماء ، وأن البرق هو الجرم اللطيف النوراني الذي يشاهد ولا يثبت.
{ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله بالكافرين } جعل : يكون بمعنى خلق أو بمعنى ألقى فيتعدى لواحد ، وبمعنى صبر أو سمى فيتعدى لاثنين ، وللشروع في الفعل فتكون من أفعال المقاربة ، تدخل على المبتدأ والخبر بالشروط المذكورة في بابها.
الأصبع : مدلولها مفهوم ، وهي مؤنثة ، وذكروا فيها تسع لغات وهي : الفتح للهمزة ، وضمها ، وكسرها مع كل من ذلك للباء.
وحكوا عاشرة وهي : أصبوع ، بضمها ، وبعد الباء واو.
وجميع أسماء الأصابع مؤنثة إلا الإبهام ، فإن بعض بني أسد يقولون : هذا إبهام ، والتأنيث أجود ، وعليه العرب غير من ذكر.
الأذن : مدلولها مفهوم ، وهي مؤنثة ، كذلك تلحقها التاء في التصغير قالوا : أذينة ، ولا تلحق في العدد ، قالوا : ثلاث آذان ، قال أبو ثروان في أحجية له :
ما ذو ثلاث آذان . . .
يسبق الخيل بالرديان
يريد السهم وآذانه وقدده.
الصاعقة : الوقعة الشديدة من صوت الرعد معها قطعة من نار تسقط مع صوت الرعد ، قالوا : تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه ، وهي نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه ، وهي مع حدتها سريعة الخمود ، ويهلك الله بها من يشاء.
قال لبيد يرثي أخاه أربد ، وكان ممن أحرقته الصاعقة :
فجعني البرق والصواعق بالفارس يوم الكريهة النجد . . .
ويشبه بالمقتول بها من مات سريعاً ، قال علقمة بن عبدة :
كأنهم صابت عليهم سحابة . . .
صواعقها لطيرهن دبيب
وروى الخليل عن قوم من العرب : الساعقة بالسين ، وقال النقاش : صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد.

قال أبو عمرو : الصاقعة لغة بني تميم ، قال الشاعر :
ألم تر أن المجرمين أصابهم . . .
صواقع لا بل هن فوق الصواقع
وقال أبو النجم :
يحلون بالمقصورة القواطع . . .
تشقق البروق بالصواقع
فإذا كان ذلك لغة ، وقد حكوا تصريف الكلمة عليه ، لم يكن من باب المقلوب خلافاً لمن ذهب إلى ذلك ، ونقل القلب عن جمهور أهل اللغة.
ويقال : صعقته وأصعقته الصاعقة ، إذا أهلكته ، فصعق : أي هلك.
والصاعقة أيضاً العذاب على أي حال كان ، قاله ابن عرفة ، والصاعقة والصاقعة : إما أن تكون صفة لصوت الرعد أو للرعد ، فتكون التاء للمبالغة نحو : راوية وإما أن تكون مصدراً ، كما قالوا في الكاذبة.
الحذر ، والفزع ، والفرق ، والجزع ، والخوف : نظائر الموت ، عرض يعقب الحياة.
وقيل : فساد بنية الحيوان ، وقيل : زوال الحياة.
الإحاطة : حصر الشيء بالمنع له من كل جهة ، والثلاثي منه متعد ، قالوا : حاطه ، يحوطه ، حوطاً.
أو كصيب : معطوف على قوله : { كمثل الذي استوقد } ، وحذف مضافان ، إذ التقدير : أو : كمثل ذوي صيب ، نحو قوله تعالى : { كالذي يغشى عليه من الموت } أي كدوران عين الذي يغشى عليه.
وأو هنا للتفصيل ، وكان من نظر في حالهم منهم من يشبهه بحال المستوقد ، ومنهم من يشبهه بحال ذوي صيب ، ولا ضرورة تدعو إلى كون أو للتخيير.
وأن المعنى أيهما شئت مثلهم به ، وإن كان الزجاج وغيره ذهب إليه ، ولا إلى أن أو للإباحة ، ولا إلى أنها بمعنى الواو ، كما ذهب إليه الكوفيون هنا.
ولا إلى كون أو للشك بالنسبة للمخاطبين ، إذ يستحيل وقوعه من الله تعالى ، ولا إلى كونها بمعنى بل ، ولا إلى كونها للإبهام ، لأن التخيير والإباحة إنما يكونان في الأمر أو ما في معناه.
وهذه الجملة خبرية صرف.
ولأن أو بمعنى الواو ، أو بمعنى بل ، لم يثبت عند البصريين ، وما استدل به مثبت ذلك مؤوّل ، ولأن الشك بالنسبة إلى المخاطبين ، أو الإبهام بالنسبة إليهم لا معنى له هنا ، وإنما المعنى الظاهر فيها كونها للتفصيل.
وهذا التمثيل الثاني أتى كاشفاً لحالهم بعد كشف الأول.
وإنما قصد بذلك التفصيل والإسهاب بحال المنافق ، وشبهه في التمثيل الأول بمستوقد النار ، وإظهاره الإيمان بالإضاءة ، وانقطاع جدواه بذهاب النور.
وشبه في الثاني دين الإسلام بالصيب وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق ، وما يصيبهم من الإفزاع والفتن من جهة المسلمين بالصواعق ، وكلا التمثيلين من التمثيلات المفرقة ، كما شرحناه.
والأحسن أن يكون من التمثيلات المركبة دون المفرقة ، فلا تتكلف مقابلة شيء بشيء ، وقد تقدم الإشارة إلى ذلك عند الكلام على التمثيل الأول ، فوصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما حبطوا فيه من الحيرة والدهشة بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل ، وبحال من أخذته السماء في ليلة مظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق ، وإنما قدر كمثل ذوي صيب لعود الضمير في يجعلون.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46