كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

وقرأ الأعرج ، وأبو جعفر : آلهة ، بتاء التأنيث ، بدل من هاء الضمير.
وعن الأعرج أنه قرأ : آلهة على الجمع.
قال ابن خالويه : ومعناه أن أحدهم كان يهوى الحجر فيعبده ، ثم يرى غيره فيهواه ، فيلقى الأول ، فكذلك قوله : { إلهه هواه } الآية.
وإن نزلت في هوى الكفر ، فهي متناولة جميع هوى النفس الأمارة.
قال ابن عباس : ما ذكر الله هوى إلاّ ذمه.
وقال وهب : إذا شككت في خبر أمرين ، فانظر أبعدهما من هواك فأته.
وقال سهل التستري : هواك داؤك ، فإن خالفته فدواؤك.
وفي الحديث : « والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني » ومن حكمه الشعر قول عنترة ، وهو جاهلي :
إني امرؤ سمح الخليقة ماجد . . .
لا أتبع النفس اللجوج هواها
وقال أبو عمران موسى بن عمران الإشبيلي الزاهد ، رحمه الله تعالى :
فخالف هواها واعصها إن من يطع . . .
هوى نفسه ينزع به شر منزع
ومن يطع النفس اللجوج ترده . . .
وترم به في مصرع أي مصرع
{ وأضله الله على علم } : أي من الله تعالى سابق ، أو على علم من هذا الضال بأن الحق هو الدين ، ويعرض عنه عناداً ، فيكون كقوله : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } وقال الزمخشري : صرفه عن الهداية واللطف ، وخذ له عن علم ، عالماً بأن ذلك لا يجدي عليه ، وأنه ممن لا لطف به ، أو مع علمه بوجوه الهداية وإحاطته بأنواع الألطاف المحصلة والمقربة.
انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال.
وقرأ الجمهور : { غشاوة } : بكسر الغين؛ وعبد الله ، والأعمش : بفتحها ، وهي لغة ربيعة.
والحسن ، وعكرمة ، وعبد الله أيضاً : بضمها ، وهي لغة عكلية.
والأعمش ، وطلحة ، وأبو حنيفة ، ومسعود بن صالح ، وحمزة ، والكسائي ، غشوة ، بفتح الغين وسكون الشين.
وابن مصرف ، والأعمش أيضاً : كذلك ، إلا أنهما كسرا العين ، وتقدم تفسير الجملتين في أول البقرة.
وقرأ الجمهور : { تذكرون } ، بشد الذال؛ والجحدري يخففها ، والأعمش : بتاءين.
{ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا } هي مقالة بعض قريش إنكاراً للبعث.
والظاهر أن قولهم : { نموت ونحيا } حكم على النوع بجملته من غير اعتبار تقديم وتأخير ، أي تموت طائفة وتحيا طائفة.
وأن المراد بالموت مفارقة الروح للجسد.
وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، أي نحيا ونموت.
وقيل : نموت عبارة عن كونهم لم يوجدوا ، ونحيا : أي في وقت وجودنا ، وهذا قريب من الأول قبله ، ولا ذكر للموت الذي هو مفارقة الروح في هذين القولين.
وقيل : تموت الآباء وتحيا الأبناء.
وقرأ زيد بن علي : ونحيا ، بضم النون.
{ وما يهلكنا إلا الدهر } : أي طول الزمان ، لأن الآفات تستوي فيه كمالاتها هذا إن كان قائلو هذا معترفين بالله ، فنسبوا الآفات إلى الدهر بجهلهم أنها مقدرة من عند الله ، وإن كانوا لا يعرفون الله ولا يقرون به ، وهم الدهرية ، فنسبوا ذلك إلى الدهر.

وقرأ عبد الله : إلا دهر ، وتأويله : إلا دهر يمر.
كانوا يضيفون كل حادثة إلى الدهر ، وأشعارهم ناطقة بشكوى الدهر ، حتى يوجد ذلك في أشعار المسلمين.
قال ابن دريد في مقصورته :
يا دهر إن لم تك عتبي فاتئد . . .
فإن اروادك والعتبي سواء
و { ما كان حجتهم } ، ليست حجة حقيقة ، أي حجتهم عندهم ، أو لأنهم أدلوا بها ، كما يدلي المحتج بحجته ، وساقوها مساقها ، فسميت حجة على سبيل التهكم؛ أو لأنه في نحو قولهم_@_ :
تحية بينهم ضرب وجيع . . .
أي : ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة ، والمراد نفي أن يكون لهم حجة البتة.
وقرأ الجمهور : حجتهم بالنصب؛ والحسن ، وعمرو بن عبيد ، وزيد بن علي ، وعبيد بن عمير ، وابن عامر ، فيما روى عنه عبد الحميد ، وعاصم ، فيما روى هارون وحسين ، عن أبي بكر عنه : حجتهم ، أي ما تكون حجتهم ، لأن إذا للاستقبال ، وخالفت أدوات الشرط بأن جوابها إذا كان منفياً بما ، لم تدخل الفاء ، بخلاف أدوات الشرط ، فلا بد من الفاء.
تقول : إن تزرنا فما جفوتنا ، أي فما تجفونا.
وفي كون الجواب منفياً بما ، دليل على ما اخترناه من أن جواب إذا لا يعمل فيها ، لأن ما بعد ما النافية لا يعمل فيما قبلها.
{ ائتوا } : يظهر أنه خطاب للرسول والمؤمنين ، إذ هم قائلون بمقالته ، أو هو خطاب له ولمن جاء بالبعث ، وهم الأنبياء ، وغلب الخطاب على الغيبة.
وقال ابن عطية : إئتوا ، من حيث المخاطبة له؛ والمراد : هو وإلهه والملك الوسيط الذي ذكره هو لهم؛ فجاء من ذلك جملة قيل لها إئتوا وإن كنتم. انتهى.
ولما اعترفوا بأنهم ما يهلكهم إلا الدهر ، وأنهم استدلوا على إنكار البعث بما لا دليل لهم فيه من سؤال إحياء آبائهم ، ردّ الله تعالى عليهم بأنه تعالى هو المحيي ، وهو المميت لا الدهر ، وضم إلى ذلك آية جامعة للحساب يوم البعث ، وهذا واجب الاعتراف به إن أنصفوا ، ومن قدر على هذا قدر على الإتيان بآبائهم

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

العامل في { ويوم تقوم } : يخسر ، و { يومئذ } : بدل من يوم ، قاله الزمخشري ، وحكاه ابن عطية عن فرقة.
والتنوين في يومئذ تنوين العوض عن جملة ، ولم تتقدم جملة إلا قوله : { ويوم تقوم الساعة } ، فيصير التقدير : ويوم تقوم إذ تقوم الساعة يخسر؛ ولا مزيد فائدة في قوله : يوم إذ تقوم الساعة ، لأن ذلك مستفاد من ويوم تقوم الساعة.
فإن كان بدلاً توكيدياً ، وهو قليل ، جاز ذلك ، وإلا فلا يجوز أن يكون بدلاً.
وقالت فرقة العامل : في ويوم تقوم ما يدل عليه الملك ، قالوا : وذلك أن يوم القيامة حال ثالثة ليست بالسماء ولا بالأرض ، لأن ذلك يتبدل ، فكأنه قال : { ولله ملك السموات والأرض } ، والملك يوم القيامة ، فحذفه لدلالة ما قبله عليه؛ ويومئذ منصوب بيخسر ، وهي جملة فيها استئناف ، وإن كان لها تعلق بما قبلها من جهة تنوين العوض.
و { المبطلون } : الداخلون في الباطل.
{ جاثية } : باركة على الركب مستوفرة ، وهي هيئة المذنب الخائف.
وقرىء : جاذية ، بالذال؛ والجذو أشد استيفازاً من الجثو ، لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه.
وعن ابن عباس : جاثية : مجتمعة.
وعن قتادة : جماعات ، من الجثوة : وهي الجماعة ، يجمع على جثى ، قال الشاعر :
ترى جثو بين من تراب عليهما . . .
صفائح صم من صفيح منضد
وعن مورج السدوسي : جاثية : خاضعة ، بلغة قريش.
وعن عكرمة : جاثية : متميزة.
وقرأ يعقوب : { كل أمة تدعى } ، بنصب كل أمة على البدل ، بدل النكرة الموصوفة من النكرة؛ والظاهر عموم كل أمة من مؤمن وكافر.
قال الضحاك : وذلك عند الحساب.
وقال يحيى بن سلام : ذلك خاص بالكفار ، تدعى إلى كتابها المنزل عليها ، فتحاكم إليه ، هل وافقته أو خالفته؟ أو الذي كتبته الحفظة ، وهو صحائف أعمالها ، أو اللوح المحفوظ ، أو المعنى إلى ما يسبق لها فيه ، أي إلى حسابها ، أقوال.
وأفراد كتابها اكتفاء باسم الجنس لقوله : { ووضع الكتاب } { اليوم تجزون } ، { هذا كتابنا } ، هو الذي دعيت إليه كل أمة ، وصحت إضافته إليه تعالى لأنه مالكه والآمر بكتبه وإليهم ، لأن أعمالهم مثبتة فيه.
والإضافة تكون بأدنى ملابسة ، فلذلك صحت إضافته إليهم وإليه تعالى
.
{ ينطق عليكم } : يشهد بالحق من غير زيادة ولا نقصان.
{ إنا كنا نستنسخ } : أي الملائكة ، أي نجعلها تنسخ ، أي تكتب.
وحقيقة النسخ نقل خط من أصل ينظم فيه ، فأعمال العباد كأنها الأصل.
وقال الحسن : هو كتب الحفظة على بني آدم.
وعن ابن عباس : يجعل الله الحفظة تنسخ من اللوح المحفوظ كل ما يفعل العباد ، ثم يمسكونه عندهم ، فتأتي أفعال العباد على نحو ذلك ، فبعيد أيضاً ، فذلك هو الاستنساخ.
وكان يقول ابن عباس : ألستم عرباً؟ وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل؟ ثم بين حال المؤمن بأنه يدخله في رحمته ، وهو الثواب الذي أعد له ، وأن ذلك هو الظفر بالبغية؛ وبين الكافر بأنه يوبخ ويقال له : { أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم } عن اتباعها والإيمان بها وكنتم أصحاب جرائم؟ والفاء في : أفلم ينوي بها التقديم؛ وإنما قدمت الهمزة لأن الاستفهام له صدراً الكلام ، والتقدير : فيقال له ألم.

وقال الزمخشري : والمعنى ألم يأتكم رسلي؟ فلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فحذف المعطوف عليه. انتهى.
وقد تقدم الكلام معه في زعمه أن بين الفاء والواو ، إذا تقدمها همزة الاستفهام معطوفاً عليه محذوفاً ، ورددنا عليه ذلك.
وقرأ الأعرج وعمرو بن فائد : { وإذا قيل إن وعد الله } ، بفتح الهمزة ، وذلك على لغة سليم؛ والجمهور : إن بكسرها.
وقرأ الجمهور : { والساعة } بالرفع على الابتداء ، ومن زعم أن لاسم إن موضعاً جوز العطف عليه هنا ، أو زعم أن لأن واسمها موضعاً جوز العطف عليه ، وبالعطف على الموضع لأن واسمها هنا.
قال أبو علي : ذكره في الحجة ، وتبعه الزمخشري فقال : وبالرفع عطفاً على محل إن واسمها ، والصحيح المنع؛ وحمزة : بالنصب عطفاً على الله ، وهي مروية عن الأعمش ، وأبي عمرو ، وعيسى ، وأبي حيوة ، والعبسي ، والمفضل.
{ إن نظن إلا طناً } ، تقول : ضربت ضرباً ، فإن نفيت ، لم تدخل إلا ، إذ لا يفرغ بالمصدر المؤكد ، فلا تقول : ما ضربت إلا ضرباً ، ولا ما قمت إلا قياماً.
فأما الآية ، فتأول على حذف وصف المصدر حتى يصير مختصاً لا مؤكداً ، وتقديره : إلا ظناً ضعيفاً ، أو على تضمين نظن معنى نعتقد ، ويكون ظناً مفعولاً به.
وقد تأول ذلك بعضهم على وضع إلا في غير موضعها ، وقال : التقديران نحن إلا نظن ظناً.
وحكى هذا عن المبرد ، ونظيره ما حكاه أبو عمرو بن العلاء وسيبويه من قول العرب :
ليس الطيب إلا المسك . . .
_@_ قال المبرد : ليس إلا الطيب المسك. انتهى.
واحتاج إلى هذا التقدير كون المسك مرفوعاً بعد إلا وأنت إذا قلت : ما كان زيد إلا فاضلاً نصبت ، فلما وقع بعد إلا ما يظهر أنه خبر ليس ، احتاج أن يزحزح إلا عن موضعها ، ويجعل في ليس ضمير الشأن ، ويرفع إلا الطيب المسك على الابتداء والخبر ، فيصير كالملفوظ به ، في نحو : ما كان إلا زيد قائم.
ولم يعرف المبرد أن ليس في مثل هذا التركيب عاملتها بنو تميم معاملة ما ، فلم يعملوها إلا باقية مكانها ، وليس غير عامله.
وليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب في نحو ليس الطيب إلا المسك ، ولا تميمي إلا وهو يرفع.
في ذلك حكاية جرت بين عيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء ، ذكرناها فيما كتبناه من علم النحو.
ونظير { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً } قول الأعشى :
وجدّ به الشيب أثقاله . . .
وما اغتره الشيب إلا اغتراراً
أي اغتراراً بيناً.
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى { إن نظن إلا ظناً } ؟ قلت؛ أصله نظن ظناً ، ومعناه إثبات الظن مع نفي ما سواه ، وزيد نفى ما سوى الظن توكيداً بقوله : { وما نحن بمستيقنين }.

ويؤكد هذا قوله بعد : { قَد تبين الرشد من الغي } يعني : ظهرت الدلائل ووضحت البينات ، ولم يبق بعدها إلاَّ طريق القسر والإلجاء وليس بجائز لأنه ينافي التكليف ، وهذا الذي قاله أبو مسلم والقفال لائق بأصول المعتزلة ، ولذلك قال الزمخشري : لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، ولكن على التمكين والإختيار ، ونحوه قوله : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } أي : لو شاء لقسرهم على الإيمان ، ولكنه لم يفعل ، وبنى الأمر على الأختيار.
والدين هنا ملة الإسلام واعتقاده ، والألف واللام للعهد ، وقيل : بدل من الإضافة أي : في دين الله.
{ قد تبين الرشد من الغيّ } أي : استبان الإيمان من الكفر ، وهذا يبين أن الدين هو معتقد الإسلام.
وقرأ الجمهور : الرشد ، على وزن القفل ، والحسن : الرشد ، على وزن العنق.
وأبو عبد الرحمن : الرشد ، على وزن الجبل ، ورويت هذه أيضاً عن الشعبي ، والحسن ومجاهد.
وحكى ابن عطية عن أبي عبد الرحمن : الرشاد ، بالألف.
والجمهور على إدغام دال ، قد ، في : تاء ، تبين.
وقرىء شاذاً بالإظهار ، وتبين الرشد ، بنصب الأدلة الواضحة وبعثة الرسول الداعي إلى الإيمان ، وهذه الجملة كأنها كالعلة لانتفاء الإكراه في الدين ، لأن وضوح الرشد واستبانته تحمل على الدخول في الدين طوعاً من غير إكراه ، ولا موضع لها من الإعراب.
{ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } الطاغوت : الشيطان.
قاله عمر ، ومجاهد ، والشعبي ، والضحاك ، وقتادة ، والسدّي.
أو : الساحر ، قاله ابن سيرين ، وأبو العالية.
أو : الكاهن ، قاله جابر ، وابن جبير ، ورفيع ، وابن جريح.
أو : ما عبد من دون الله ممن يرضى ذلك : كفرعون ، ونمروذ ، قاله الطبري.
أو : الأصنام ، قاله بعضهم.
وينبغي أن تجعل هذه الأقوال كلها تمثيلاً ، لأن الطاغوت محصور في كل واحد منها.
قال ابن عطية وقدّم ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت. انتهى.
وناسب ذلك أيضاً اتصاله بلفط الغي ، ولأن الكفر بالطاغوت متقدّم على الإيمان بالله ، لأن الكفر بها هو رفضها ، ورفض عبادتها ، ولم يكتف بالجملة الأولى لأنها لا تستلزم الجملة الثانية ، إذ قد يرفض عبادتها ولا يؤمن بالله ، لكن الإيمان يستلزم الكفر بالطاغوت ، ولكنه نبه بذكر الكفر بالطاغوت على الانسلاخ بالكلية ، مما كان مشتبهاً به ، سابقاً له قبل الإيمان ، لأن في النصية عليه مزيد تأكيد على تركه.
وجواب الشرط : فقد استمسك ، وأبرز في صورة الفعل الماضي المقرون بقد الدالة في الماضي على تحقيقه ، وإن كان مستقبلاً في المعنى لأنه جواب الشرط ، إشعاراً بأنه مما وقع استمساكه وثبت وذلك للمبالغة في ترتيب الجزاء على الشرط ، وأنه كائن لا محالة لا يمكن أن يتخلف عنه ، و : بالعروة ، متعلق باستمسك ، جعل ما تمسك به من الإيمان عروة ، وهي في الأجرام موضع الإمساك وشد الأيدي شبه الإيمان بذلك.

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)

هذه السورة مكية.
وعن ابن عباس وقتادة ، أن : { قل أرأيتم إن كان من عند الله }.
و { فاصبر كما صبر } ، الآيتين مدنيتان.
ومناسبة أولها لما قبلها ، أن في آخر ما قبلها : { ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزواً } وقلتم : إنه عليه الصلاة والسلام اختلقها ، فقال تعالى : { حم ، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم }.
وهاتان الصفتان هما آخر تلك ، وهما أول هذه.
{ وأجل مسمى } : أي موعد لفساد هذه البنية.
قال ابن عباس : هو القيامة؛ وقال غيره : أي أجل كل مخلوق.
{ عن ما أنذروا } : يحتمل أن تكون ما مصدرية ، وأن تكون بمعنى الذي.
{ قل أرأيتم ما تدعون } : معناه أخبروني عن الذين تدعون من دون الله ، وهي الأصنام.
{ أروني ماذا خلقوا من الأرض } : استفهام توبيخ ، ومفعول أرأيتم الأول هو ما تدعون.
وماذا خلقوا : جملة استفهامية يطلبها أرأيتم ، لأن مفعولها الثاني يكون استفهاماً ، ويطلبها أروني على سبيل التعليق ، فهذا من باب الإعمال ، أعمل الثاني وحذف مفعول أرأيتم الثاني.
ويمكن أن يكون أروني توكيداً لأرأيتم ، بمعنى أخبروني ، وأروني : أخبروني ، كأنهما بمعنى واحد.
وقال ابن عطية : يحتمل أرأيتم وجهين : أحدهما : أن تكون متعدية ، وما مفعولة بها؛ ويحتمل أن تكون أرأيتم منبهة لا تتعدى ، وتكون ما استفهاماً على معنى التوبيخ ، وتدعون معناه : تعبدون. انتهى.
وكون أرأيتم لا تتعدى ، وأنها منبهة ، فيه شيء؛ قاله الأخفش في قوله : { قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة } والذي يظهر أن ما تدعون مفعول أرأيتم ، كما هو في قوله : { قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون } في سورة فاطر؛ وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة فيها.
وقد أمضى الكلام في أرأيتم في سورة الأنعام ، فيطالع هناك : و { من الأرض } ، تفسير للمبهم في : { ماذا خلقوا }.
والظاهر أنه يريد من أجزاء الأرض ، أي خلق ذلك إنما هو لله ، أو يكون على حذف مضاف ، أي من العالي على الأرض ، أي على وجهها من حيوان أو غيره.
ثم وقفهم على عبارتهم فقال : { أم لهم } : أي : بل.
{ أم لهم شرك في السموات ائتوني بكتاب من قبل هذا } : أي من قبل هذا الكتاب ، وهو القرآن ، يعني أن هذا القرآن ناطق بالتوحيد وبإبطال الشرك ، وكل كتب الله المنزلة ناطقة بذلك؛ فطلب منهم أن يأتوا بكتاب واحد يشهد بصحة ما هم عليه من عبادة غير الله.
{ أو أثارة من علم } ، أي بقية من علم ، أي من علوم الأولين ، من قولهم : سمنت الناقة على أثارة من شحم ، أو على بقية شحم كانت بها من شحم ذاهب.
والأثارة تستعمل في بقية الشرف؛ يقال : لبني فلان أثارة من شرف ، إذا كانت عندهم شواهد قديمة ، وفي غير ذلك قال الراعي :
وذات أثارة أكلت علينا . . .
نباتاً في أكمته قفارا

أي : بقية من شحم.
وقرأ الجمهور : أو أثارة ، وهو مصدر ، كالشجاعة والسماحة ، وهي البقية من الشيء ، كأنها أثرة.
وقال الحسن : المعنى : من علم استخرجتموه فتثيرونه.
وقال مجاهد : المعنى : هل من أحد يأثر علماً في ذلك؟ وقال القرطبي : هو الإسناد ، ومنه قول الأعشى :
إن الذي فيه تماريتما . . .
بين للسامع والآثر
أي : وللمستدعين غيره؛ ومنه قول عمر رضي الله عنه : فما خلفت به ذاكراً ولا آثراً.
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وقتادة : المعنى : أو خاصة من علم ، فاشتقاقها من الأثرة ، فكأنها قد آثر الله بها من هي عنده.
وقال ابن عباس : المراد بالأثارة : الخط في التراب ، وذلك شيء كانت العرب تفعله وتتكهن به وتزجر تفسيره.
الأثارة بالخط يقتضي تقوية أمر الخط في التراب ، وأنه شيء ليس له وجه إذاية وقف أحد إليه.
وقيل : إن صح تفسير ابن عباس الإثارة بالخط في التراب ، كان ذلك من باب التهكم بهم وبأقوالهم ودلائلهم.
وقرأ علي ، وابن عباس : بخلاف عنهما ، وزيد بن علي ، وعكرمة ، وقتادة ، والحسن ، والسلمي ، والأعمش ، وعمرو بن ميمون : أو أثرة بغير ألف ، وهي واحدة ، جمعها أثر؛ كقترة وقتر؛ وعلي ، والسلمي ، وقتادة أيضاً : بإسكان الثاء ، وهي الفعلة الواحدة مما يؤثر ، أي قد قنعت لكم بخبر واحد وأثر واحد يشهد بصحة قولكم.
وعن الكسائي : ضم الهمزة وإسكان الثاء.
وقال ابن خالويه ، وقال الكسائي على لغة أخرى : إثرة وأثرة يعني بكسر الهمزة وضمها.
{ ومن أضل ممن } يعبد الأصنام ، وهي جماد لا قدرة لها على استجابة دعائهم ما دامت الدنيا ، أي لا يستجيبون لهم أبداً ، ولذلك غياً انتفاء استجابتهم بقوله : { إلى يوم القيامة } ، ومع ذلك لا شعور لهم بعبادتهم إياهم ، وهم في الآخرة أعداء لهم ، فليس لهم في الدنيا بهم نفع ، وهم عليهم في الآخرة ضرر ، كما قال تعالى : { سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً } وجاء { من لا يستجيب } ، لأنهم يسندون إليهم ما يسند لأولي العلم من الاستجابة والغفلة؛ أو كأن { من لا يستجيب } يراد به من عبد من دون الله من إنس وجن وغيرهما ، وغلب من يعقل ، وحمل أولاً على لفظ { من لا يستجيب } ، ثم على المعنى في : وهم من ما بعده.
والظاهر عود الضمير أولاً على لفظ { من لا يستجيب } ، ثم على المعنى في : وهم على معنى من في : { من لا يستجيب } ، كما فسرناه.
وقيل : يعود على معنى من في : { ومن أضل } ، أي والكفار عن ضلالهم بأنهم يدعون من لا يستجيب.
{ غافلون } : لا يتأملون ما عليهم في دعائهم من هذه صفته.
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } : جمع بينة ، وهي الحجة الواضحة.
واللام في { للحق } ، لام العلة ، أي لأجل الحق.
وأتى بالظاهرين بدل المضمرين في { قال الذين كفروا للحق } ، ولم يأت التركيب : قالوا لها ، تنبيهاً على الوصفين : وصف المتلو عليهم بالكفر ، ووصف المتلو عليهم بالحق ، ولو جاء بهما الوصفين ، لم يكن في ذلك دليل على الوصفين من حيث اللفظ ، وإن كان من سمى الآيات سحراً هو كافر ، والآيات في نفسها حق ، ففي ذكرهما ظاهرين ، يستحيل على القائلين بالكفر ، وعلى المتلو بالحق.

وفي قوله : { لما جاءهم } تنبيه على أنهم لم يتأملوا ما يتلى عليهم ، بل بادروا أول سماعه إلى نسبته إلى السحر عناداً وظلماً ، ووصفوه بمبين ، أي ظاهر ، إنه سحر لا شبهة فيه.
{ أم يقولون افتراه } : أي بل يقولون افتراه ، أي بل أيقولون اختلقه؟ انتقلوا من قولهم : { هذا سحر } إلى هذه المقالة الأخرى.
والضمير في افتراه عائد إلى الحق ، والمراد به الآيات.
{ قل إن افتريته } ، على سبيل الفرض ، فالله حسبي في ذلك ، وهو الذي يعاقبني على الافتراء عليه ، ولا يمهلني؛ { فلا تملكون لي } عقوبة الله بي شيئاً.
فكيف أفتريه وأتعرض لعقابه؟ يقال : فلان لا يملك إذا غضب ، ولا يملك عنانه إذا صم؛ ومثله : { فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم } { ومن يريد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً } ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : « لا أملك لكم من الله شيئاً » ثم استسلم إلى الله واستنصر به فقال : { هو أعلم بما تفيضون فيه } : أي تندفعون فيه من الباطل ، ومراده الحق ، وتسميته تارة سحراً وتارة فرية.
والضمير في فيه يحتمل أن يعود على ما ، أو على القرآن ، وبه في موضع الفاعل يكفي على أصح الأقوال.
{ شهيداً بيني وبينكم } : شهيد إليّ بالتبليغ والدعاء إليه ، وشهيد عليكم بالتكذيب.
{ وهو الغفور الرحيم } : عدة لهم بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر ، وإشعار بحلمه تعالى عليهم ، إذ لم يعاجلهم بالعقاب ، إذ كان ما تقدم تهديداً لهم في أن يعاجلهم على كفرهم.
{ قل ما كنت بدعاً من الرسل } : أي جاء قبلي غيري ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والبدع والبديع : من الأشياء ما لم ير مثله ، ومنه قول عدي بن زيد ، أنشده قطرب :
فما أنا بدع من حوادث تعتري . . .
رجالاً عرت من بعد بؤسي فأسعد
والبدع والبديع : كالخف والخفيف ، والبدعة : ما اخترع مما لم يكن موجوداً ، وأبدع الشاعر : جاء بالبديع ، وشيء بدع ، بالكسر : أي مبتدع ، وفلان بدع في هذا الأمر : أي بديع ، وقوم إبداع ، عن الأخفش.
وقرأ عكرمة ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : بفتح الدال ، جمع بدعة ، وهو على حذف مضاف ، أي ذا بدع.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون صفة على فعل ، كقولهم : دين قيم ولحم زيم. انتهى.
وهذا الذي أجازه ، إن لم ينقل استعماله عن العرب ، لم نجزه ، لأن فعل في الصفات لم يحفظ منه سيبويه إلا عدى.
قال سيبويه : ولا نعلمه جاء صفة إلا في حرف معتل يوصف به الجمع ، وهو قوم عدي ، وقد استدرك ، واستدراكه صحيح.

وأما قيم ، فأصله قيام وقيم ، مقصور منه ، ولذلك اعتلت الواو فيه ، إذ لو لم يكن مقصوراً لصحت ، كما صحت في حول وعوض.
وأما قول العرب : مكان سوى ، وماء روى ، ورجل رضى ، وماء صرى ، وسبى طيبه ، فمتأولة عند البصريين لا يثبتون بها فعلاً في الصفات.
وعن مجاهد ، وأبي حيوة : بدعا ، بفتح الباء وكسر الدال ، كحذر.
{ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } : أي فيما يستقبل من الزمان ، أي لا أعلم مالي بالغيب ، فأفعاله تعالى ، وما يقدره لي ولكم من قضاياه ، لا أعلمها.
وعن الحسن وجماعة : وما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا ، ومن الغالب منا والمغلوب؟ وعن الكلبي ، قال له أصحابه ، وقد ضجروا من أذى المشركين : حتى متى نكون على هذا؟ فقال : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم أأنزل بمكة؟ أم أومر بالخروج إلى أرض قد رفعت ورأيتها ، يعني فى منامه ، ذات نخل وشجر؟ وقال ابن عباس ، وأنس بن مالك ، وقتادة ، والحسن ، وعكرمة : معناه في الآخرة ، وكان هذا في صدر الإسلام ، ثم بعد ذلك عرفه الله تعالى أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وأن المؤمنين لهم من الله فضل كبير وهو الجنة ، وبأن الكافرين في نار جهنم؛ وهذا القول ليس بظاهر ، بل قد أعلم سبحانه من أول الرسالة حال الكافر وحال المؤمن.
وقيل : { ما يفعل بي ولا بكم } من الأوامر والنواهي ، وما يلزم الشريعة.
وقيل : نزلت في أمر كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتظره من الله في غير الثواب والعقاب.
{ إن أتبع إلا ما يوحى إليّ } : استسلام وتبرؤ من علم المغيبات ، ووقوف مع النذارة إلا من عذاب الله.
وقرأ الجمهور : ما يفعل بضم الياء مبنياً للمفعول؛ وزيد بن عليّ ، وابن أبي عبلة : بفتحها.
والظاهر أن ما استفهامية ، وأدري معلقة؛ فجملة الاستفهام موصولة منصوبة. انتهى.
والفصيح المشهور أن دَرَى يتعدى بالباء ، ولذلك حين عدي بهمزة النقل يتعدى بالباء ، نحو قوله : { ولا أدراكم به } فجعل ما استفهامية هو الأولى والأجود ، وكثيراً ما علقت في القرآن نحو : { وإن أدري أقريب } ، ويفعل مثبت غير منفي ، لكنه قد انسحب عليه النفي ، لاشتماله على ما ويفعل؛ فلذلك قال : { ولا بكم }.
ولولا اعتبار النفي ، لكان التركيب { ما يفعل بي ولا بكم }.
ألا ترى زيادة من في قوله : { أن ينزل عليكم من خير } لانسحاب قوله : { ما يود الذين كفروا } على يود وعلى متعلق يود ، وهو أن ينزل ، فاذا انتفت ودادة التنزيل انتفى التنزيل.
وقرأ ابن عمير : ما يوحي ، بكسر الحاء ، أي الله عز وجل.
{ قل أرأيتم } : مفعولاً أرأيتم محذوفان لدلالة المعنى عليهما ، والتقدير : أرأيتم حالكم إن كان كذا؟ ألستم ظالمين؟ فالأول حالكم ، والثاني ألستم ظالمين ، وجواب الشرط محذوف؛ أي فقد ظلمتم ، ولذلك جاء فعل الشرط ماضياً.

وقال الزمخشري : جواب الشرط محذوف تقديره : إن كان هذا القرآن من عند الله وكفرتم به ، ألستم ظالمين؟ ويدل على هذا المحذوف قوله : { إن الله لا يهدي القوم الظالمين }. انتهى.
وجملة الاستفهام لا تكون جواباً للشرط إلا بالفاء.
فإن كانت الأداة الهمزة ، تقدمت الفاء نحو : إن تزرنا ، أفما نحسن إليك؟ أو غيرها تقدمت الفاء نحو : إن تزرنا ، فهل ترى إلا خيراً؟ فقول الزمخشري : ألستم ظالمين؟ بغير فاء ، لا يجوز أن يكون جواب الشرط.
وقال ابن عطية : وأرأيتم يحتمل أن تكون منبهة ، فهي لفظ موضوع للسؤال لا يقتضي مفعولاً.
ويحتمل أن تكون الجملة : كان وما عملت فيه ، تسد مسد مفعوليها. انتهى.
وهذا خلاف ما قرره محققو النحاة في أرأيتم.
وقيل : جواب الشرط.
{ فآمن واستكبرتم } : أي فقد آمن محمد به ، أو الشاهد ، واستكبرتم أنتم عن الإيمان.
وقال الحسن : تقديره فمن أضل منكم.
وقيل : فمن المحق منا ومنكم ، ومن المبطل؟ وقيل : إنما تهلكون ، والضمير في به عائد على ما عاد عليه اسم كان ، وهو القرآن.
وقال الشعبي : يعود على الرسول ، والشاهد عبد لله بن سلام ، قاله الجمهور ، وابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن سيرين؛ والآية مدنية.
وعن عبد الله بن سلام : نزلت في آيات من كتاب الله ، نزلت في { وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم }.
وقال مسروق : الشاهد موسى عليه السلام ، لا ابن سلام ، لأنه أسلم بالمدينة ، والسورة مكية ، والخطاب في { وكفرتم به } لقريش.
وقال الشعبي : الشاهد من آمن من بني إسرائيل بموسى والتوارة ، لأن ابن سلام أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعامين ، والسورة مكية.
وقال سعد بن أبي وقاص ، ومجاهد ، وفرقة : الآية مكية ، والشاهد عبد الله بن سلام ، وهي من الآيات التي تضمنت غيباً أبرزه الوجود ، وعبد الله بن سلام مذكور في الصحيح ، وفيه بهت لليهود لعنهم الله.
ومن كذب اليهود وجهلهم بالتاريخ ، ما يعتقدونه في عبد الله بن سلام ، أنه صلى الله عليه وسلم حين سافر إلى الشام في تجارة لخديجة رضي الله عنها ، اجتمع بأحبار اليهود وقص عليهم أحلامه ، فعلموا أنه صاحب دولة ، وعموا ، فأصحبوه عبد الله بن سلام ، فقرأ علوم التوراة وفقهها مدة ، زعموا وأفرطوا في كذبهم ، إلى أن نسبوا الفصاحة المعجزة التي في القرآن إلى تأليف عبد الله بن سلام ، وعبد الله هذا لم تعلم له إقامة بمكة ولا تردد إليها.
فما أكذب اليهود وأبهتهم لعنهم الله.
وناهيك من طائفة ، ما ذم في القرآن طائفة مثلها.

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)

قال قتادة : هي مقالة كفار قريش للذين آمنوا : أي لأجل الذين آمنوا : واللام للتبليغ.
ثم انتقلوا إلى الغيبة في قولهم : { ما سبقونا } ، ولو لم ينتقلوا لكان الكلام ما سبقتم إليه.
ولما سمعوا أن جماعة آمنوا خاطبوا جماعة من المؤمنين ، أي قالوا : { للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه } : أولئك الذين بلغنا إيمانهم يريدون عماراً وصهيباً وبلالاً ونحوهم ممن أسلم وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الكلبي والزجاج : هي مقالة كنانة وعامر وسائر قبائل العرب المجاورة.
قالت ذلك حين أسلمت غفار ومزينة وجهينة ، أي لو كان هذا الدين خيراً ، ما سبقنا إليه الرعاة.
وقال الثعلبي : هي مقالة اليهود حين أسلم ابن سلام وغيره منهم.
وقال أبو المتوكل : أسلم أبو ذر ، ثم أسلمت غفار ، فقالت قريش ذلك.
وقيل : أسلمت أمة لعمر ، فكان يضربها ، حتى يفتر ويقول : لولا أني فترت لزدتك ضرباً فقال كفار قريش : لو كان ما يدعو إليه محمد حقاً ، ما سبقتنا إليه فلانة.
والظاهر أن اسم كان هو القرآن ، وعليه يعود به ويؤيده ، ومن قبله كتاب موسى.
وقيل : به عائد على الرسول ، والعامل في إذ محذوف ، أي { وإذ لم يهتدوا به } ، ظهر عنادهم.
وقوله : { فسيقولون } ، مسبب عن ذلك الجواب المحذوف ، لأن هذا القول هو ناشىء عن العناد ، ويمتنع أن يعمل في : إذ فسيقولون ، لحيلولة الفاء ، وليعاند زمان إذ وزمان سيقولون.
{ إفك قديم } ، كما قالوا : { أساطير الأولين } ، وقدمه بمرور الأعصار عليه.
ولما طعنوا في صحة القرآن ، قيل لهم : إنه أنزل الله من قبله التوراة على موسى ، وأنتم لا تنازعون في ذلك ، فلا ينازع في إنزال القرآن.
{ إماماً } أي يهتدى به ، إن فيه البشارة بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإرساله ، فيلزم اتباعه والإيمان به؛ وانتصب إماماً على الحال ، والعامل فيه العامل في : { ومن قبله } ، أي وكتاب موسى كان من قبل القرآن في حال كونه إماماً.
وقرأ الكلبي : كتاب موسى ، نصب وفتح ميم من على أنها موصولة ، تقديره : وآتينا الذي قبله كتاب موسى.
وقيل : انتصب إماماً بمحذوف ، أي أنزلناه إماماً ، أي قدوة يؤتم به ، { ورحمة } لمن عمل به؛ وهذا إشارة إلى القرآن.
{ كتاب مصدق } له ، أي لكتاب موسى ، وهي التوراة التي تضمنت خبره وخبر من جاء به ، وهو الرسول.
فجاء هو مصدقاً لتلك الأخبار ، أو مصدقاً للكتب الإلهية.
ولساناً : حال من الضمير في مصدق ، والعامل فيه مصدق ، أو من كتاب ، إذ قد وصف العامل فيه اسم الإشارة.
أو لساناً : حال موطئة ، والحال في الحقيقة هو عربياً ، أو على حذف ، أي ذا الشأن عربي ، فيكون مفعولاً بمصدق؛ أي هذا القرآن مصدق من جاء به وهو الرسول ، وذلك بإعجازه وأحواله البارعة.

وقيل : انتصب على إسقاط الخافص ، أي بلسان عربي.
وقرأ أبو رجاء ، وشيبة ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وابن عامر ، ونافع ، وابن كثير : لتنذر ، بتاء الخطاب للرسول؛ والأعمش ، وابن كثيراً أيضاً ، وباقي السبعة : بياء الغيبة ، أي لينذرنا القرآن والذين ظلموا الكفار عباد الأصنام ، حيث وضعوا العبادة في غير من يستحقه.
{ وبشرى } ، قيل : معطوف على مصدق ، فهو في موضع رفع ، أو على إضمار هو.
وقيل : منصوب بفعل محذوف معطوف على لينذر ، أي ويبشر بشرى.
وقيل : منصوب على إسقاط الخافض ، أي ولبشرى.
وقال الزمخشري ، وتبعه أبو البقاء : وبشرى في محل النصب ، معطوف على محل لينذر ، لأنه مفعول له. انتهى.
وهذا لا يجوز على الصحيح من مذهب النحويين ، لأنهم يشترطون في الحمل على المحل أن يكون المحل بحق الأصالة ، وأن يكون للموضع محرز.
والمحل هنا ليس بحق الأصالة ، لأن الأصل هو الجر في المفعول له ، وإنما النصب ناشىء عن إسقاط الخافض ، لكنه لما كثر بالشروط المذكورة في النحو ، وصل إليه الفعل فنصبه.
ولما عبر عن الكفار بالذين ظلموا ، عبر عن المؤمنين بالمحسنين ، ليقابل بلفظ الإحسان لفظ الظلم.
{ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } : تقدم الكلام على نظير هذه الآية في سورة فصلت.
ولما ذكر : { جزاء بما كانوا يعملون } ، قال : { ووصينا } ، إذ كان بر الوالدين ثانياً أفضل الأعمال ، إذ في الصحيح : أي الأعمال أفضل؟ فقال الصلاة على ميقاتها قال : ثم أي؟ قال : ثم بر الوالدين ، وإن كان عقوقهما ثاني أكبر الكبائر ، إذ قال عليه الصلاة والسلام : « ألا أنبئكم؟ بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله وعقوق الوالدين » ، والوارد في برهما كثير.
وقرأ الجمهور : حسناً ، بضم الحاء وإسكان السين؛ وعلي ، والسلمي ، وعيسى : بفتحهما؛ وعن عيسى : بضمهما؛ والكوفيون : إحساناً ، فقيل : ضمن ووصينا معنى ألزمنا ، فيتعدى لاثنين ، فانتصب حسناً وإحساناً على المفعول الثاني لوصينا.
وقيل : التقدير : إيصاء ذا حسن ، أو ذا إحسان.
ويجوز أن يكون حسناً بمعنى إحسان ، فيكون مفعولاً له ، أي ووصيناه بهما لإحساننا إليهما ، فيكون الإحسان من الله تعالى.
وقيل : النصب على المصدر على تضمين وصينا معنى أحسنا بالوصية للإنسان بوالديه إحساناً.
وقال ابن عطية : ونصب هذا يعني إحساناً على المصدر الصريح والمفعول الثاني في المجرور؛ والباء متعلقة بوصينا ، أو بقوله : إحساناً. انتهى.
ولا يصح أن يتعلق بإحساناً ، لأنه مصدر بحرف مصدري والفعل ، فلا يتقدم معموله عليه ، ولأن أحسن لا يتعدى بالباء ، إنما يتعدى باللام؛ تقول : أحسنت لزيد ، ولا تقول : أحسنت بزيد ، على معنى أن الإحسان يصل إليه.
وتقدم الكلام على { ووصينا الإنسان بوالديه حسناً } في سورة العنكبوت ، وانجر هنا بالكلام على ذلك مزيداً للفائدة.
{ حملته أمه كرهاً } : لبس الكره في أول علوقها ، بل في ثاني استمرار الحمل ، إذ لا تدبير لها في حمله ولا تركه.

انتهى.
ولا يلحقها كره إذ ذاك ، فهذا احتمال بعيد.
وقال مجاهد ، والحسن ، وقتادة : المعنى حملته مشقة ، ووضعته مشقة.
وقرأ الجمهور : بضم الكاف؛ وشيبة ، وأبو جعفر ، والأعرج ، والحرميان ، وأبو عمرو : بالفتح؛ وبهما معاً : أبو رجاء ، ومجاهد ، وعيسى؛ والضم والفتح لغتان بمعنى واحد ، كالعقر والعقر.
وقالت فرقة : بالضم المشقة ، وبالفتح الغلبة والقهر ، وضعفوا قراءة الفتح.
وقال بعضهم : لو كان بالفتح ، لرمت به عن نفسها إذ معناه : القهر والغلبة. انتهى.
وهذا ليس بشيء ، إذ قراءة الفتح في السبعة المتواترة.
وقال أبو حاتم : القراءة بفتح الكاف لا تحسن ، لأن الكره بالفتح ، النصب والغلبة. انتهى.
وكان أبو حاتم يطعن في بعض القرآن بما لا علم له به جسارة منه ، عفا الله عنه ، وانتصابهما على الحال من ضمير الفاعل ، أي حملته ذات كره ، أو على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي حملاً ذاكره.
{ وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } : أي ومدة حمله وفصاله ، وهذا لا يكون إلا بأن يكون أحد الطرفين ناقصاً؛ إما بأن تلد المرأة لستة أشهر وترضع عامين ، وإما أن تلد لتسعة أشهر على العرف وترضع عامين غير ربع عام.
فإن زادت مدة الحمل ، نقصت مدة الرضاع.
فمدة الرضاع عام وتسعة أشهر ، وإكمال العامين لمن أراد أن يتم الرضاعة.
وقد كشفت التجربة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، كنص القرآن.
وقال جالينوس : كنت شديد الفحص عن مقدر زمن الحمل ، فرأيت امرأة ولدت لمائة وأربع وثمانين ليلة.
وزعم ابن سينا أنه شاهد ذلك؛ وأما أكثر الحمل فليس في القرآن ما يدل عليه.
قال ابن سينا في الشفاء : بلغني من جهة من أثق به كل الثقة ، أن امرأة وضعت بعد الرابع من سني الحمل ، ولدت ولداً نبتت أسنانه.
وحكي عن أرسطا طاليس أنه قال : إن مدة الحمل لكل الحيوان مضبوطة سوى الإنسان ، فربما وضعت لسبعة أشهر ، ولثمانية ، وقل ما يعيش الولد في الثامن ، إلا في بلاد معينة مثل مصر. انتهى.
وعبر عن الرضاع بالفصال ، لما كان الرضاع يلي الفصال ويلابسه ، لأنه ينتهي به ويتم ، سمي به.
وقرأ الجمهور : وفصاله ، وهو مصدر فاصل ، كأنه من اثنين : فاصل أمه وفاصلته.
وقرأ أبو رجاء ، والحسن ، وقتادة ، والجحدري : وفصله ، قيل : والفصل والفصال مصدران ، كالفطم والفطام.
وهنا لطيفة : ذكر تعالى الأم في ثلاثة مراتب في قوله : بوالديه وحمله وإرضاعه المعبر عنه بالفصال ، وذكر الولد في واحدة في قوله : بوالديه؛ فناسب ما قال الرسول من جعل ثلاثة أرباع البر للأم والربع للأب في قول الرجل : « يا رسول الله ، من أبر؟ قال : أمك ، قال : ثم من؟ قال : أمك ، قال : ثم من؟ قال : أمك ، قال : ثم من؟ قال : أباك »
{ حتى إذا بلغ أشده } في الكلام حذف تكون حتى غاية له ، تقديره : فعاش بعد ذلك ، أو استمرت حياته؛ وتقدم الكلام في

{ بلغ أشده } في سورة يوسف.
والظاهر ضعف قول من قال : بلوغ الأشد أربعون ، لعطف { وبلغ أربعين سنة }.
والعطف يقتضي التغاير ، إلا إن ادعى أن ذلك توكيد لبلوغ الأشد فيمكن؛ والتأسيس أولى من التأكيد؛ وبلوغ الأربعين اكتمال العقل لظهور الفلاح.
قيل : ولم يبعث نبي إلا بعد الأربعين.
وفي الحديث : أن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ويقول : بأبي وجه لا يفلح.
{ قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه } : وتقدم الكلام على هذا في سورة النمل.
{ وأصلح لي في ذريتي } : سأل أن يجعل ذريته موقعاً للصلاح ومظنة له ، كأنه قال : هب لي الصلاح في ذريتي ، فأوقعه فيهم ، أو ضمن : وأصلح لي معنى : وألطف بي في ذريتي ، لأن أصلح يقتدي بنفسه لقوله : { وأصلحنا له زوجه } فلذلك احتج قوله : { في ذريتي } إلى التأويل.
قيل : نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، وتتناول من بعده ، وهو مشكل ، لأنها نزلت بمكة ، وأبوه أسلم عام الفتح.
ولقوله : { أولئك الذين تتقبل عنهم أحسن ما علموا } : فلم يقصد بذلك أبو بكر ولا غيره.
والمراد بالإنسان الجنس ، ولذلك أشار يقوله : { أولئك } جمعاً.
وقرأ الجمهور : يتقبل مبنياً للمفعول ، أحسن رفعاً ، وكذا ويتجاوز؛ وزيد بن علي ، وابن وثاب ، وطلحة ، وأبو جعفر ، والأعمش : بخلاف عنه.
وحمزة ، والكسائي ، وحفص : نتقبل أحسن نصباً ، ونتجاوز بالنون فيهما؛ والحسن ، والأعمش ، وعيسى : بالياء فيهما مفتوحة ونصب أحسن.
{ في أصحاب الجنة } ، قيل : في بمعنى مع؛ وقيل : هو نحو قولك : أكرمني الأمير في ناس من أصحابه ، يريد في جملة من أكرم منهم ، ومحله النصب على الحال على معنى كائنين في أصحاب الجنة.
وانتصب { وعد الصدق } على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة ، لأن قوله : { أولئك الذين نتقبل } ، وعد منه تعالى بالتقبل والتجاوز ، لما ذكر الإنسان البار بوالديه وما آل إليه من الخير ، ذكر العاق بوالديه وما آل إليه من الشر.
والمراد بالذي : الجنس ، ولذلك جاء الخبر مجموعاً في قوله : { أولئك الذين حق عليهم القول }.
وقال الحسن : هو الكافر العاق بوالديه المنكر البعث.
وقول مروان بن الحكم ، واتبعه قتادة : أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، قول خطأ ناشىء عن جور ، حين دعا مروان ، وهو أمير المدينة ، إلى مبايعة يزيد ، فقال عبد الرحمن : جعلتموها هرقلية؟ كلما مات هرقل ولى ابنه ، وكلما مات قيصر ولى ابنه؟ فقال مروان : خذوه ، فدخل بيت أخته عائشة رضي الله عنها ، وقد أنكرت ذلك عائشة فقالت ، وهي المصدوقة : لم ينزل في آل أبي بكر من القرآن غير براءتي؛ وقالت : والله ما هو به ، ولو شئت أن أسميه لسميته.
وصدت مروان وقالت : ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه ، فأنت فضض من لعنة الله.

ويدل على فساد هذا القول أنه قال تعالى : { أولئك الذين حق عليهم القول } ، وهذه صفات الكفار أهل النار ، وكان عبد الرحمن من أفاضل الصحابة وسراتهم وأبطالهم ، وممن له في الإسلام غناء يوم اليمامة وغيره.
{ أف لكما } : تقدم الكلام على أف مدلولاً ولغات وقراءة في سورة الإسراء ، واللام في لكما للبيان ، أي لكما ، أعني : التأفيف.
وقرأ الجمهور : { أتعدانني } ، بنونين ، الأولى مكسورة؛ والحسن ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وفي رواية؛ وهشام : بإدغام نون الرفع في نون الوقاية.
وقرأ نافع في رواية ، وجماعة : بنون واحدة.
وقرأ الحسن ،.
وشيبة ، وأبو جعفر : بخلاف عنه؛ وعبد الوارث ، عن أبي عمرو ، وهارون بن موسى ، عن الجحدري ، وسام ، عن هشام : بفتح النون الأولى ، كأنهم فروا من الكسرتين ، والياء إلى الفتح طلباً للتخفيف ففتحوا ، كما فر من أدغم ومن حذف.
وقال أبو حاتم : فتح النون باطل غلط.
{ أن أخرج } : أي أخرج من قبري للبعث والحساب.
وقرأ الجمهور : أن أخرج ، مبنياً للمفعول؛ والحسن ، وابن يعمر ، والأعمش ، وابن مصرف ، والضحاك : مبنياً للفاعل.
{ وقد خلت القرون من قبلي } : أي مضت ، ولم يخرج منهم أحد ولا بعث.
وقال أبو سليمان الدمشقي : { وقد خلت القرون من قبلي } مكذبة بالبعث.
{ وهما يستغيثان الله } ، يقال : استغثت الله واستغثت بالله ، والاستعمالان في لسان العرب.
وقد رددنا على ابن مالك إنكار تعديته بالباء ، وذكرنا شواهد على ذلك في الأنفال ، أي يقولان : الغياث بالله منك ومن قولك ، وهو استعظام لقوله : { ويلك } ، دعاء عليه بالثبور؛ والمراد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك.
وقيل : ويلك لمن يحقر ويحرك لأمر يستعجل إليه.
وقرأ الأعرج ، وعمرو بن فائدة : { إن وعد الله } ، بفتح الهمزة ، أي : آمن بأن وعد الله حق ، والجمهور بكسرها ، { فيقول ما هذا } : أي ما هذا الذي يقول؟ أي من الوعد بالبعث من القبور ، إلا شيء سطره الأولون في كتبهم ، ولا حقيقة له.
قال ابن عطية : وظاهر الفاظ هذه الآية أنها نزلت في مشار إليه قال وقيل له ، فنفى الله أقواله تحذيراً من الوقوع في مثلها.
وقوله : { أولئك } ، ظاهره أنه إشارة إلى جنس يتضمنه قوله : { والذي قال } ، ويحتمل أن تكون الآية في مشار إليه ، ويكون قوله في أولئك بمعنى صنف هذا المذكور وجنسه هم : { الذين حق عليهم القول } أي قول الله أنه يعذبهم { في أمم } ، أي جملة : { أمم قد خلقت من قبلهم من الجن والإنس } ، يقتضي أن الجن يموتون قرناً بعد قرن كالإنس.
وقال الحسن في بعض مجالسه : الجن لا يموتون ، فاعترضه قتادة بهذه الآية فسكت.
وقرأ العباس ، عن أبي عمرو : أنهم كانوا ، بفتح الهمزة ، والجمهور بالكسر.
{ ولكل } : أي من المحسن والمسيء ، { درجات } غلب درجات ، إذ الجنة درجات والنار دركات ، والمعنى : منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر ، ومن أجل ما عملوا منها.
قال ابن زيد : درجات المحسنين تذهب علواً ، ودرجات المسيئين تذهب سفلاً. انتهى.
والمعلل محذوف تقديره : وليوفيهم أعمالهم قدر جزائهم ، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات.
وقرأ الجمهور : وليوفيهم بالياء ، أي الله تعالى؛ والأعمش ، والأعرج ، وشيبة ، وأبو جعفر ، والإخوان ، وابن ذكوان ، ونافع : بخلاف عنه بالنون؛ والسلمي : بالتاء من فوق ، أي ولنوفيهم الدرجات ، أسند التوفية إليها مجازاً.

وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)

{ ويوم يعرض } : أي يعذب بالنار ، كما يقال : عرض على السيف ، إذا قتل به.
والعرض : المباشرة ، كما تقول : عرضت العود على النار : أي باشرت به النار.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد عرض النار عليهم من قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، يريدون عرض الحوض عليها ، فقلبوا.
ويدل عليه تفسير ابن عباس : يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها. انتهى.
ولا ينبغي حمل القرآن على القلب ، إذ الصحيح في القلب أنه مما يضطر إليه في الشعر.
وإذا كان المعنى صحيحاً واضحاً مع عدم القلب ، فأي ضرورة ندعو إليه؟ وليس في قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، ولا في تفسير ابن عباس ما يدل على القلب ، لأن عرض الناقة على الحوض ، وعرض الحوض على الناقة ، كل منهما صحيح؛ إذ العرض أمر نسبي يصح إسناده لكل واحد من الناقة والحوض.
وقرأ الجمهور : أذهبتم على الخبر ، أي فيقال لهم : أذهبتم ، ولذلك حسنت الفاء في قوله : { فاليوم تجزون }.
وقرأ قتادة ، ومجاهد ، وابن وثاب ، وأبو جعفر ، والأعرج ، وابن كثير : بهمزة بعدها مدة مطولة ، وابن عامر ، بهمزتين حققهما ابن ذكوان ، ولين الثانية هشام ، وابن كثير في رواية.
وعن هشام : الفصل بين المحققة والملينة بألف ، وهذا الاستفهام هو على معنى التوبيخ والتقرير ، فهو خبر في المعنى ، فلذلك حسنت الفاء ، ولو كان استفهاماً محضاً لم تدخل الفاء.
والطيبات هنا : المستلذات من المآكل والمشارب والملابس والمفارش والمراكب والمواطىء ، وغير ذلك مما يتنعم به أهل الرفاهية.
وهذه الآية محرضة على التقلل من الدنيا ، وترك التنعم فيها ، والأخذ بالتقشف ، وما يجتزي به رمق الحياة عن رسول الله في ذلك ما يقتضي التأسي به.
وعن عمر في ذلك أخبار تدل على معرفته بأنواع الملاذ ، وعزة نفسه الفاضلة عنها.
أتظنون أنا لا نعرف خفض العيش؟ ولو شئت لجعلت أكباداً وصلاء وصلائق ، ولكن استبقي حسناني؛ فإن الله عز وجل وصف أقواماً فقال : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم }.
والصلاء الشواء والصفار المتخذ من الخردل والزبيب ، والصلائق : الخبز الرقاق العريض.
قال ابن عباس : وهذا من باب الزهد ، وإلا فالآية نزلت في كفار قريش؛ والمعنى : أنه كانت تكون لكم طيبات الآخرة لو آمنتم ، لكنكم لم تؤمنوا ، فاستعجلتم طيباتكم في الحياة الدنيا.
فهذه كناية عن عدم الإيمان ، ولذلك نزلت عليه : { فاليوم تجزون عذاب الهون } ؛ ولو أريد الظاهر ، ولم يكن كناية عن ما ذكرنا ، لم يترتب عليه الجزاء بالعذاب.
وقرىء : الهوان ، وهو والهون بمعنى واحد ثم بين تلك الكناية بقوله : { بما كنتم تستكبرون } : أي تترفعون عن الإيمان؛ { وبما كنتم تفسقون } : أي بمعاصي الجوارح وقدم ذنب القلب ، وهو الاستكبار على ذنب الجوارح؛ إذ أعمال الجوارح ناشئة عن مراد القلب.

ولما كان أهل مكة مستغرقين في لذات الدنيا ، معرضين عن الإيمان وما جاء به الرسول ، ذكرهم بما جرى للعرب الأولى ، وهم قوم عاد ، وكانوا أكثر أموالاً وأشد قوة وأعظم جاهاً فيهم ، فسلط عليهم العذاب بسبب كفرهم ، وضرب الأمثال.
وقصص من تقدم تعرف بقبح الشيء وتحسينه ، فقال لرسوله : واذكر لقومك ، أهل مكة ، هوداً عليه السلام ، { إذ أنذر قومه } عاداً عذبهم الله { بالأحقاف }.
قال ابن عباس : واد بين عمان ومهرة.
وقال ابن إسحاق : من عمان إلى حضرموت.
وقال ابن زيد : رمال مشرقة بالشحر من اليمن.
وقيل : بين مهرة وعدن.
وقال قتادة : هي بلاد الشحر المواصلة للبحر اليماني.
وقال ابن عباس : هي جبل بالشام.
قال ابن عطية : والصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن ، ولهم كانت { إرم ذات العماد } وفي ذكر هذه القصة اعتبار لقريش وتسلية للرسول ، إذ كذبه قومه ، كما كذبت عاد هوداً عليه السلام.
والجملة من قوله : { وقد خلت النذر } : وهو جمع نذير ، { من بين يديه ومن خلفه } ، يحتمل أن تكون حالاً من الفاعل في : { النذر من بين يديه } ، وهم الرسل الذين تقدموا زمانه ، ومن خلفه الرسل الذين كانوا في زمانه ، ويكون على هذا معنى { ومن خلفه } : أي من بعد إنذاره؛ ويحتمل أن يكون اعتراضاً بين إنذار قومه وأن لا تعبدوا.
والمعنى : وقد أنذر من تقدمه من الرسل ، ومن تأخر عنه مثل ذلك ، فاذكرهم.
{ قالوا أجئتنا } : استفهام تقرير ، وتوبيخ وتعجيز له فيما أنذره إياهم من العذاب العظيم على ترك إفراد الله بالعبادة.
{ لتأفكنا } : لتصرفنا ، قاله الضحاك؛ أو لتزيلنا عن آلهتنا بالإفك ، وهو الكذب ، أي عن عبادة آلهتنا ، { فأتنا بما تعدنا } : استعجال منهم بحلول ما وعدهم به من العذاب.
ألا ترى إلى قوله : { بل هو ما استعجلتم به } ؟ { قال إنما العلم عند الله } : أي علم وقت حلوله ، وليس تعيين وقته إليّ ، وإنما أنا مبلغ ما أرسلني به الله إليكم.
ولما تحقق عنده وعد الله ، وأنه حال بهم وهم في غفلة من ذلك وتكذيب ، قال : { ولكني أراكم قوماً تجهلون } : أي عاقبة أمركم لا شعور لكم بها ، وذلك واقع لا محالة.
وكانت عاد قد حبس الله عنها المطر أياماً ، فساق الله إليهم سحابة سوداء خرجت عليهم من واد يقال له المغيث ، فاستبشروا.
والضمير في { رأوه } الظاهر أنه عائد على ما في قوله : { بما تعدنا } ، وهو العذاب ، وانتصب عارضاً على الحال من المفعول.
وقال ابن عطية ، ويحتمل أن يعود على الشيء المرئي الطالع عليهم ، الذي فسره قوله : { عارضاً }.
وقال الزمخشري : { فلما رأوه } ، في الضمير وجهان : أن يرجع إلى ما تعدنا ، وأن يكون مبهماً ، قد وضح أمره بقوله : { عارضاً } ، إما تمييز وإما حال ، وهذا الوجه أعرب وأفصح. انتهى.
وهذا الذي ذكر أنه أعرب وأفصح ليس جارياً على ما ذكره النحاة ، لأن المبهم الذي يفسره ويوضحه التمييز لا يكون إلا في باب رب ، نحو : رب رجلاً لقيته ، وفي باب نعم وبئس على مذهب البصريين ، نحو : نعم رجلاً زيد ، وبئس غلاماً عمرو.

وأما أن الحال يوضح المبهم ويفسره ، فلا نعلم أحداً ذهب إليه ، وقد حضر النحاة المضمر الذي يفسره ما بعده ، فلم يذكروا فيه مفعول رأي إذا كان ضميراً ، ولا أن الحال يفسر الضمير ويوضحه.
والعارض : المعترض في الجو من السحاب الممطر ، ومنه قول الشاعر :
يا من رأى عارضاً أرقت له . . .
بين ذراعي وجبهة الأسد
وقال الأعشى :
يا من رأى عارضاً قد بث أرمقه . . .
كأنها البرق في حافاتها الشعل
{ مستقبل أوديتهم } : هو جمع واد ، وأفعلة في جمع فاعل.
الاسم شاذ نحو : ناد وأندية ، وجائز وأجوزة.
والجائز : الخشبة الممتدة في أعلى السقف ، وإضافة مستقبل وممطر إضافة لا تعرف ، فلذلك نعت بهما النكرة.
{ بل هو ما استعجلتم } : أي قال لهم هو ذلك ، أي بل هو العذاب الذي استعجلتم به ، أضرب عن قولهم : { عارض ممطرنا } ، وأخبر بأن العذاب فاجأهم ، ثم قال : { ريح } : أي هي ريح بدل من هو.
وقرأ : ما استعجلتم ، بضم التاء وكسر الجيم ، وتقدمت قصص في الريح ، فأغنى عن ذكرها هنا.
{ تدمر } : أي تهلك ، والدمار : الهلاك ، وتقدم ذكره.
وقرأ زيد بن عليّ : تدمر ، بفتح التاء وسكون الدال وضم الميم.
وقرىء كذلك إلا أنه بالياء ورفع كل ، أي يهلك كل شيء ، وكل شيء عام مخصوص ، أي من نفوسهم وأموالهم ، أو من أمرت بتدميره.
وإضافة الرب إلى الريح دلالة على أنها وتصريفها مما يشهد بباهر قدرته تعالى ، لأنها من أعاجيب خلقه وأكابر جنوده.
وذكر الأمر لكونها مأمورة من جهته تعالى.
وقرأ الجمهور : لا ترى بتاء الخطاب ، إلا مساكنهم ، بالنصب؛ وعبد الله ، ومجاهد ، وزيد بن علي ، وقتادة ، وأبو حيوة ، وطلحة ، وعيسى ، والحسن ، وعمرو بن ميمون : بخلاف عنهما؛ وعاصم ، وحمزة : لا يرى بالياء من تحت مضمومة إلا مساكنهم بالرفع.
وأبو رجاء ، ومالك بن دينار : بخلاف عنهما.
والجحدري ، والأعمش ، وابن أبي إسحاق ، والسلمي : بالتاء من فوق مضمومة مساكنهم بالرفع ، وهذا لا يجيزه أصحابنا إلا في الشعر ، وبعضهم يجيزه في الكلام.
وقال ذو الرمة :
كأنه جمل همّ وما بقيت . . .
إلا النخيرة والألواح والعصب
وقال آخر :
فما بقيت إلا الضلوع الجراشع . . .
_@_وقرأ عيسى الهمداني : لا يرى بضم الياء إلا مسكنهم بالتوحيد.
وروي هذا عن الأعمش ، ونصر بن عاصم.
وقرىء : لا ترى ، بتاء مفتوحة للخطاب ، إلا مسكنهم بالتوحيد مفرداً منصوباً ، واجتزىء بالمفرد عن الجمع تصغيراً لشأنهم ، وأنهم لما هلكوا في وقت واحد ، فكأنهم كانوا في مسكن واحد.
ولما أخبر بهلاك قوم عاد ، خاطب قريشاً على سبيل الموعظة فقال : { ولقد مكانهم } ، وإن نافية ، أي في الذي ما مكناهم فيه من القوة والغنى والبسط في الأجسام والأموال؛ ولم يكن النفي بلفظ ما ، كراهة لتكرير اللفظ ، وإن اختلف المعنى.

وقيل : إن شرطية محذوفة الجواب ، والتقدير : إن مكناكما فيه طغيتم.
وقيل : إن زائدة بعدما الموصولة تشبيهاً بما النافية وما التوقيتية ، فهي في الآية كهي في قوله : . . .
يرجى المرء ما إن لا يراه
وتعرض دون أدناه الخطوب . . .
أي مكناهم في مثل الذي مكناكم ، فيه ، وكونها نافية هو الوجه ، لأن القرآن يدل عليه في مواضع كقوله : { كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثاراً } وقوله : { هم أحسن أثاثاً ورئياً } وهو أبلغ في التوبيخ وأدخل في الحث في الاعتبار.
ثم عدد نعمه عليهم ، وأنها لم تغن عنهم شيئاً ، حيث لم يستعملوا السمع والأبصار والأفئدة فيما يجب أن يستعمل.
وقيل : ما استفهام بمعنى التقرير ، وهو بعيد كقوله : { من شيء } ، إذ يصير التقدير : أي شيء مما ذكر أغنى عنهم من شيء ، فتكون من زيدت في الموجب ، وهو لا يجوز على الصحيح ، والعامل في إذ أغنى.
ويظهر فيها معنى التعليل لو قلت : أكرمت زيداً لإحسانه إليّ ، أو إذ أحسن إليّ.
استويا في الوقت ، وفهم من إذ ما فهم من لام التعليل ، وإن إكرامك إياه في وقت إحسانه إليك ، إنما كان لوجود إحسانه لك فيه.

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)

{ ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى } : خطاب لقريش على جهة التمثيل لهم ، والذي حولهم من القرى : مأرب ، وحجر ، ثمود ، وسدوم.
ويريد من أهل القرى : { وصرفنا الآيات } ، أي الحجج والدلائل والعظاة لأهل تلك القرى ، { لعلهم يرجعون } عن ما هم فيه من الكفر إلى الإيمان ، فلم يرجعوا.
{ فلولا نصرهم } : أي فهلا نصرهم حين جاءهم الهلاك؟ { الذين اتخذوا } : أي اتخذوهم ، { من دون الله قرباناً } : أي في حال التقرب وجعلتهم شفعاء.
{ آلهة } : وهو المفعول الثاني لا تخذوا ، والأول الضمير المحذوف العائد على الموصول.
وأجاز الحوفي وابن عطية وأبو البقاء أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً لا تخذوا آلهة بدل منه.
وقال الزمخشري : وقرباناً حال ، ولا يصح أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً وآلهة بدل منه ، لفساد المعنى. انتهى.
ولم يبين الزمخشري كيف يفسد المعنى ، ويظهر أن المعنى صحيح على ذلك الإعراب.
وأجاز الحوفي أيضاً أن يكون قرباناً مفعولاً من أجله.
{ بل ضلوا عنهم } : أي غابوا عن نصرتهم.
وقرأ الجمهور : إفكهم ، بكسر الهمزة وإسكان الهاء وضم الكاف؛ وابن عباس في رواية : بفتح الهمزة.
والإفك مصدر إن.
وقرأ ابن عباس أيضاً ، وابن الزبير ، والصباح بن العلاء الأنصاري ، وأبو عياض ، وعكرمة ، وحنظلة بن النعمان ابن مرة ، ومجاهد : إفكهم ، بثلاث فتحات : أي صرفهم؛ وأبو عياض ، وعكرمة أيضاً : كذلك ، إلا أنهما شددا الفاء للتكثير؛ وابن الزبير أيضاً ، وابن عباس ، فيما ذكر ابن خالويه : آفكهم بالمد ، فاحتمل أن يكون فاعل.
فالهمزة أصلية ، وأن يكون أفعل ، فالهمزة للتعدية ، أي جعلهم يأفكون ، ويكون أفعل بمعنى المجرد.
وعن الفراء أنه قرىء : أفكهم بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف ، وهي لغة في الأفك؛ وابن عباس ، فيما روى قطرب ، وأبو الفضل الرازي : آفكهم اسم فاعل من آفك ، أي صارفهم ، والإشارة بذلك على من قرأ : إفكهم مصدراً إلى اتخاذ الأصنام آلهة ، أي ذلك كذبهم وافتراؤهم.
وقال الزمخشري : وذلك إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم لهم وضلالهم عنهم ، أي وذلك إثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة ، وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب من كونه ذا شركاء. انتهى.
وعلى قراءة من جعله فعلاً معناه : وذلك الاتخاذ صرفهم عن الحق ، وكذلك قراءة اسم الفاعل ، أي صارفهم عن الحق.
ويحتمل أن تكون ما مصدرية ، أي وافتراؤهم ، وأن تكون بمعنى الذي والعائد محذوف ، أي يفترونه.
{ وإذ صرفنا إليكم نفراً من الجن يستمعون القرآن } : ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما بين أن الإنسي مؤمن وكافر ، وذكر أن الجن فيهم مؤمن وكافر؛ وكان ذلك بأثر قصة هود وقومه ، لما كان عليه قومه من الشدة والقوة.
والجن توصف أيضاً بذلك ، كما قال تعالى : { قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين }

وإن ما أهلك به قوم هود هو الريح ، وهو من العالم الذي لا يشاهد ، وإنما يحس بهبوبه.
والجن أيضاً من العالم الذي لا يشاهد.
وإن هوداً عليه السلام كان من العرب ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب ، فهذه تجوز أن تكون مناسبة لهذه الآية بما قبلها.
وفيها أيضاً توبيخ لقريش وكفار العرب ، حيث أنزل عليهم هذا الكتاب المعجز ، فكفروا به ، وهم من أهل اللسان الذي أنزل به القرآن ، ومن جنس الرسول الذي أرسل إليهم.
وهؤلاء جن ، فليسوا من جنسه ، وقد أثر فيهم سماع القرآن وآمنوا به وبمن أنزل عليه ، وعلموا أنه من عند الله ، بخلاف قريش وأمثالها ، فهم مصرون على الكفر به.
{ وإذ صرفنا } : وجّهنا إليك.
وقرأ : صرفنا ، بتشديد الراء ، لأنهم كانوا جماعة ، فالتكثير بحسب الحال.
{ نفراً من الجن } ، والنفر دون العشرة ، ويجمع على أنفار.
قال ابن عباس : كانوا سبعة ، منهم زوبعة.
والذي يجمع اختلاف الروايات ، أن قصة الجن كانت مرتين.
إحداهما : حين انصرف من الطائف ، وكان خرج إليهم يستنصرهم في قصة ذكرها أصحاب السير.
فروى أن الجن كانت تسترق السمع؛ فلما بعث الرسول ، حرست السماء ، ورمي الجن بالشهب ، قالوا : ما هذا إلا أمر حدث.
وطافوا الأرض ، فوافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي نخلة ، وهو قائم يصلي؛ فاستمعوا لقراءته ، وهو لا يشعر؛ فأنبأه الله باستماعهم.
{ والمرة الأخرى } : " أن الله أمره أن ينذر الجن ويقرأ عليهم فقال : «إني أمرت أن أقرأ على الجن فمن يتبعني» ، قالها ثلاثاً ، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود ، قال : لم يحضره أحد ليلة الجن غيري.
فانطلقنا حتى إذا كنا في شعب الحجون ، خط لي خطاً وقال : «لا تخرج منه حتى أعود إليك» ، ثم افتتح القرآن.
وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ، ثم تقطعوا تقطع السحاب ، فقال لي : «هل رأيت شيئاً»؟ قلت : نعم ، رجالاً سوداً مستثفري ثياب بيض ، فقال : «أولئك جن نصيبين».
وكانوا اثني عشر ألفاً ، والسورة التي قرأها عليهم : اقرأ باسم ربك " وفي آخر هذا الحديث قلت : " يا رسول الله ، سمعت لهم لغطاً ، فقال : «إنهم تدارؤا في قتيل لهم فحكمت بالحق " وقد روي عن ابن مسعود أنه لم يحضر أحد ليلة الجن ، والله أعلم بصحة ذلك.
{ فلما حضروه } : أي القرآن ، أي كانوا بمسمع منه ، وقيل : حضروا الرسول ، وهو التفات من إليك إلى ضمير الغيب.
{ قالوا انصتوا } : أي اسكتوا للاستماع ، وفيه تأديب مع العلم وكيف يتعلم.
وقرأ الجمهور : { فلما قضى } : مبنياً للمفعول؛ وأبو مجلز ، وحبيب بن عبد الله بن الزبير : قضى ، مبنياً للفاعل ، أي قضى محمد ما قرأ ، أي أتمه وفرغ منه.

وقال ابن عمر ، وجابر بن عبد الله : قرأ عليهم سورة الرحمن ، فكان إذا قال : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } ، قالوا : لا شيء من آيات ربنا نكذب ربنا لك الحمد.
{ ولوا إلى قومهم منذرين } : تفرقوا على البلاد ينذرون الجن.
قال قتادة : ما أسرع ما عقل القوم. انتهى.
وعند ذلك وقعت قصة سواد بن قارب ، وخنافر وأمثالهما ، حين جاءهما رياهما من الجن ، وكان سبب إسلامهما.
{ من بعد موسى } : أي من بعد كتاب موسى.
قال عطاء : كانوا على ملة اليهود ، وعن ابن عباس : لم تسمع الجن بأمر عيسى ، وهذا لا يصح عن ابن عباس.
كيف لا تسمع بأمر عيسى وله أمة عظيمة لا تنحصر على ملته؟ فيبعد عن الجن كونهم لم يسمعوا به.
ويجوز أن يكونوا قالوا : { من بعد موسى } تنبيهاً لقومهم على اتباع الرسول ، إذ كان عليه الصلاة والسلام قد بشر به موسى ، فقالوا : ذلك من حيث أن هذا الأمر مذكور في التوراة ، { مصدقاً لما بين يديه } من التوراة والإنجيل والكتب الإلهية ، إذ كانت كلها مشتملة على التوحيد والنبوة والمعاد ، والأمر بتطهير الأخلاق.
{ يهدي إلى الحق } : أي إلى ما هو حق في نفسه صدق ، يعلم ذلك بصريح العقل.
{ وإلى صراط مستقيم } : غابر بين اللفظين ، والمعنى متقارب ، وربما استعمل أحدهما في موضع لا يستعمل الآخر فيه ، فجمع هنا بينهما وحسن التكرار.
{ أجيبوا داعي الله } : هو الرسول ، والواسطة المبلغة عنه ، { وآمنوا به } : يعود على الله.
{ يغفر لكم من ذنوبكم } : من للتبعيض ، لأنه لا يغفر بالإيمان ذنوب المظالم ، قال معناه الزمخشري.
وقيل : من زائدة ، لأن الإسلام يجب ما قبله ، فلا يبقى معه تبعة.
{ ويجركم من عذاب أليم } : وهذا كله وظواهر القرآن تدل على الثواب ، وكذا قال ابن عباس : لهم ثواب وعليهم عقاب ، يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها.
وقيل : لا ثواب لها إلا النجاة من النار ، وإليه كان يذهب أبو حنيفة.
{ فليس بمعجز في الأرض } : أي بفائت من عقابه ، إذ لا منجا منه ، ولا مهرب ، كقوله : { وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هرباً } وروي عن ابن عامر : وليس لهم بزيادة ميم.
وقرأ الجمهور : { ولم يعي } ، مضارع عيي ، على وزن فعل ، بكسر العين؛ والحسن : ولم يعي ، بكسر العين وسكون الياء ، ووجهه أنه في الماضي فتح عين الكلمة ، كما قالوا في بقي : بقا ، وهي لغة لطيىء.
ولما بنى الماضي على فعل بفتح العين ، بنى مضارعه على يفعل بكسر العين ، فجاء يعني.
فلما دخل الجازم ، حذف الياء ، فبقي يعي بنقل حركة الياء إلى العين ، فسكنت الياء وبقي يعي.
وقرأ الجمهور : { بقادر } : اسم فاعل ، والباء زائدة في خبر أن ، وحسن زيادتها كون ما قبلها في حيز النفي.
وقد أجاز الزجاج : ما ظننت أن أحداً بقائم ، قياساً على هذا ، والصحيح قصر ذلك على السماع ، فكأنه في الآية قال : أليس الله بقادر؟ ألا ترى كيف جاء ببلى مقرراً لإحياء الموتى لا لرؤيتهم؟ وقرأ الجحدري ، وزيد بن علي ، وعمرو بن عبيد ، وعيسى ، والأعرج : بخلاف عنه؛ ويعقوب : يقدر مضارعاً.

{ أليس هذا بالحق } : أي يقال لهم ، والإشارة بهذا إلى العذاب.
أي كنتم تكذبون بأنكم تعذبون ، والمعنى : توبيخهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده وقولهم : { وما نحن بمعذبين } { قالوا بلى وربنا } ، تصديق حيث لا ينفع.
وقال الحسن : إنهم ليعذبون في النار وهم راضون بذلك لأنفسهم ، يعترفون أنه العدل ، فيقول لهم المجاوب من الملائكة عند ذلك : { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون.
فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } : الفاء عاطفة هذه الجملة على الجملة من أخبار الكفار في الآخرة ، والمعنى بينهما مرتبط : أي هذه حالهم مع الله.
فلا تستعجل أنت واصبر ، ولا تخف إلا الله.
وأولو العزم : أي أولو الجد من الرسل ، وهم من حفظ له شدة مع قومه ومجاهدة.
فتكون من للتبعيض ، وقيل : يجوز أن تكون للبيان ، أي الذين هم الرسل ، ويكون الرسل كلهم أولي العزم؛ وأولو العزم على التبعيض يقتضي أنهم رسل وغير رسل؛ وعلى البيان يقتضي أنهم الرسل ، وكونها للتبعيض قول عطاء الخراساني والكلبي ، وللبيان قول ابن زيد.
وقال الحسن بن الفضل : هم الثمانية عشر المذكورة في سورة الأنعام ، لأنه قال عقب ذكرهم : { فبهادهم اقتده } وقال مقاتل : هم ستة : نوح صبر على أذى قومه طويلاً ، وإبراهيم صبر على النار ، وإسحاق صبر نفسه على الذبح ، ويعقوب صبر على الفقد لولده وعمي بصره وقال فصبر جميل ، ويوسف صبر على السجن والبئر ، وأيوب على البلاء.
وزاد غيره : وموسى قال قومه : { إنا لمدركون ، قال كلا إن معي ربي سيهدين } وداود بكى على خطيئته أربعين سنة ، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنها معبر ، فاعبروها ولا تعمروها.
{ ولا تستعجل لهم } : أي لكفار قريش بالعذاب ، أي لا تدع لهم بتعجيله ، فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر ، وإنهم مستقصرن حينئذ مدة لبثهم في الدنيا ، كأنهم { لم يلبثوا إلا ساعة }.
وقرأ أبي : من النهار؛ وقرأ الجمهور : من نهار.
وقرأ الجمهور : بلاغ ، بالرفع ، والظاهر رجوعه إلى المدة التي لبثوا فيها ، كأنه قيل : تلك الساعة بلاغهم ، كما قال تعالى : { متاع قليل } فبلاغ خبر مبتدأ محذوف.
قيل : ويحتمل أن يكون بلاغ يعني به القرآن والشرع ، أي هذا بلاغ ، أي تبليغ وإنذار.
وقال أبو مجلز : بلاغ مبتدأ وخبره لهم؛ ويقف على فلا تستعجل ، وهذا ليس بجيد ، لأن فيه تفكيك الكلام بعضه من بعض ، إذ ظاهر قوله : لهم ، أنه متعلق بقوله : فلا تستعجل لهم ، والحيلولة الجملة التشبيهية بين الخبر والمبتدأ.
وقرأ الحسن ، وزيد بن علي ، وعيسى : بلاغاً بالنصب ، فاحتمل أن يراد : بلاغاً في القرآن ، أي بلغوا بلاغاً ، أو بلغنا بلاغاً.

وقرأ الحسن أيضاً : بلاغ بالجر ، نعتاً لنهار.
وقرأ أبو مجلز ، وأبو سراح الهذلي : بلغ علي الأمر ، للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا يؤيد حمل بلاغ رفعاً ونصباً على أنه يعني به تبليغ القرآن والشرع.
وعن أبي مجلز أيضاً : بلغ فعلاً ماضياً.
وقرأ الجمهور : يهلك ، بضم الياء وفتح اللام ، وابن محيصن ، فيما حكى عنه ابن خالويه : بفتح الياء وكسر اللام؛ وعنه أيضاً : بفتح الياء واللام ، وماضيه هلك بكسر اللام ، وهي لغة.
وقال أبو الفتح : هي مرغوب عنها.
وقرأ زيد بن ثابت : يهلك ، بضم الياء وكسر اللام.
{ إلا القوم الفاسقون } : بالنصب ، وفي هذه الآية وعيد وإنذار.

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)

هذه السورة مدنية عند الأكثر.
وقال الضحاك ، وابن جبير ، والسدي : مكية.
وقال ابن عطية : مدنية بإجماع ، وليس كما قال ، وعن ابن عباس ، وقتادة : أنها مدنية ، إلا آية منها نزلت بعد حجة ، حين خرج من مكة وجعل ينظر إلى البيت ، وهي : { وكأين من قرية } الآية.
ومناسبة أولها لآخر ما قبلها واضحة جداً.
{ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } : أي أعرضوا عن الدخول في الإسلام ، أو صدوا غيرهم عنه ، وهم أهل مكة الذين أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس : وهم المطعمون يوم بدر.
وقال مقاتل : كانوا اثني عشر رجلاً من أهل الشرك ، يصدون الناس عن الإسلام ويأمرونهم بالكفر ، وقيل : هم أهل الكتاب ، صدوا من أراد منهم ومن غيرهم أن يدخل في الإسلام.
وقال الضحاك : { عن سبيل الله } : عن بيت الله ، يمنع قاصديه ، وهو عام في كل من كفر وصد.
{ أضل أعمالهم } : أي أتلفها ، حيث لم ينشأ عنها خير ولا نفع ، بل ضرر محض.
وقيل : نزلت هذه الآية ببدر ، وأن الإشارة بقوله : { أضل أعمالهم } إلى الاتفاق الذي اتفقوه في سفرهم إلى بدر.
وقيل : المراد بالأعمال : أعمالهم البرة في الجاهلية ، من صلة رحم وفك عان ونحو ذلك؛ واللفظ يعم جميع ذلك.
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات } : هم الأنصار.
وقال مقاتل : ناس من قريش.
وقيل : مؤمنو أهل الكتاب.
وقيل : هو عام؛ وعلى تقدير خصوص السبب في القبيلتين ، فاللفظ عام يتناول كل كافر وكل مؤمن.
{ وآمنوا بما نزل على محمد } : تخصيصه من بين ما يجب الإيمان به ، تعظيم لشأن الرسول ، وإعلام بأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به.
وأكد ذلك بالجملة الأعتراضية التي هي : { وهو الحق من ربهم }.
وقيل : { وهو الحق } : ناسخ لغيره ولا يرد عليه النسخ.
وقرأ الجمهور : نزل مبنياً للمفعول؛ وزيد بن علي ، وابن مقسم : نزل مبنياً للفاعل؛ والأعمش : أنزل معدى بالهمزة مبنياً للمفعول.
وقرىء : نزل ثلاثياً.
{ كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم } : أي حالهم ، قاله قتادة؛ وشأنهم ، قاله مجاهد؛ وأمرهم ، قاله ابن عباس.
وحقيقة لفظ البال أنها بمعنى الفكر ، والموضع الذي فيه نظر الإنسان وهو القلب.
فإذا صلح ذلك ، فقد صلحت حاله ، فكأن اللفظ مشير إلى صلاح عقيدتهم ، وغير ذلك من الحال تابع.
{ ذلك } : إشارة إلى ما فعل بالكفار من إضلال أعمالهم ، وبالمؤمنين من تكفير سيآتهم وإصلاح حالهم.
وذلك مبتدأ وما بعده الخبر ، أي كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر ذلك ، أي كما ذكر بهذا السبب ، فيكون محل الجار والمجرور منصوباً. انتهى.
ولا حاجة إلى الإضمار مع صحة الوجه وعدم الإضمار.

والباطل : ما لا ينتفع به.
وقال مجاهد : الشيطان وكل ما يأمر به؛ والحق : هو الرسول والشرع ، وهذا الكلام تسميه علماء البيان : التفسير.
{ كذلك يضرب } : قال ابن عطية : الإشارة إلى اتباع المذكورين من الفريقين ، أي كما اتبعوا هذين السبيلين ، كذلك يبين أمر كل فرقة ، ويجعل لها ضربها من القول وصفها؛ وضرب المثل من الضرب الذي هو بمعنى النوع.
وقال الزمخشري : كذلك ، أي مثل ذلك الضرب.
{ يضرب الله للناس أمثالهم } لأجل الناس ليعتبروا بهم.
فإن قلت : أين ضرب الأمثال؟ قلت : في أن جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكفار ، واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين؛ أو في أن جعل الإضلال مثلاً لخيبة الكفار ، وتكفير السيئآت مثلاً لفوز المؤمنين.
{ فإذا لقيت الذين كفروا } : أي في أي زمان لقيمتوهم ، فاقتلوهم.
وفي قوله : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } أي في أي مكان ، فعم في الزمان وفي المكان.
وقال الزمخشري : لقيتم ، من اللقاء ، وهو الحرب. انتهى.
{ فضرب الرقاب } : هذا من المصدر النائب مناب فعل الأمر ، وهم مطرد فيه ، وهو منصوب بفعل محذوف فيه ، واختلف فيه إذا انتصب ما بعده فقيل : هو منصوب بالفعل الناصب للمصدر؛ وقيل : هو منصوب بنفس المصدر لنيابته عن العامل فيه ، ومثاله : ضرباً زيداً ، كما قال الشاعر :
على حين ألهى الناس جل أمورهم . . .
فندلاً زريق المال ندل الثعالب
وهذا هو الصحيح ، ويدل على ذلك قوله : { فضرب الرقاب } ، وهو إضافة المصدر للمفعول ، ولو لم يكن معمولاً له ، ما جازت إضافته إليه.
وضرب الرقاب عبارة عن القتل؛ ولما كان القتل للإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته ، عبر بذلك عن القتل ، ولا يراد خصوصية الرقاب ، فإنه لا يكاد تتأتى حالة الحرب أن تضرب الرقاب ، وإنما يتأتى القتال في أي موضع كان من الأعضاء.
ويقال : ضرب الأمير رقبة فلان ، وضرب عنقه وعلاوته وما فيه عيناه ، إذا قتله ، كما عبر بقوله : { بما كسبت أيديكم } عن سائر الأفعال ، لما كان أكثر الكسب منسوباً إلى الأيدي.
قال الزمخشري : وفي هذه العبارة من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل ، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صورة ، وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه.
وقد زاد في هذه في قوله : { فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } انتهى.
ولما في ذلك من تشجيع المؤمنين ، وأنهم من الكفار بحيث هم متمكنون منهم إذا أمروا بضرب رقابهم.
{ حتى إذا أثخنتموهم } : أي أكثرتم القتل فيهم ، وهذه غاية للضرب ، فإذا وقع الإثخان وتمكنوا من أخذ من لم يقتل وشدوا وثاق الأسرى ، { فإما مناً } بالإطلاق ، { وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها } : أي أثقالها وآلاتها.
ومنه قول عمرو بن معدي كرب :
وأعددت للحرب أوزارها . . .
رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا
أنشده ابن عطية لعمرو هذا ، وأنشده الزمخشري للأعشى.
وقيل : الأوزار هنا : الآثام ، لأن الحرب لا بد أن يكون فيها آثام في أحد الجانبين ، وهذه الغاية.

قال مجاهد : حتى ينزل عيسى بن مريم.
وقال قتادة : حتى يسلم الجميع : وقيل : حتى تقتلوهم.
وقال ابن عطية : وظاهر اللفظ أنها استعارة يراد بها التزام الأمر أبداً ، وذلك أن الحرب بين المؤمنين والكافرين لا يضيع أوزارها ، فجاء هذه ، كما تقول : أنا أفعل كذا وكذا إلى يوم القيامة ، فإنما تريد أنك تفعله دائماً.
وقال الزمخشري : وسميت ، يعني آلات الحرب من السلاح والكراع ، أوزارها ، لأنه لما لم يكن لها بد من جرها ، فكأنها تحملها وتستقل بها؛ فإذا انقضت ، فكأنها وضعتها.
وقيل : أوزارها : آثامها ، يعني حتى يترك أهل الحرب ، وهم المشركون ، شركهم ومعاصيهم ، بأن يسلموا.
والظاهر أن ضرب الرقاب ، وهو القتل مغياً بشد الوثاق وقت حصول الإثخان ، وأن قوله : { فإما مناً بعد } ، أي بعد الشذ ، { وإما فداء } ، حالتان للمأسور ، إما أن يمن عليه بالإطلاق ، كما منّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاق ثمامة بن أثال الحنفي ، وإما أن يفدى ، كما روي عنه عليه السلام أنه فودي منه رجلان من الكفار برجل مسلم.
وهذه الآية معارض ظاهرها لقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } فذهب ابن عباس ، وقتادة ، وابن جريج ، والسدي ، والضحاك ، ومجاهد ، إلى أنها منسوخة بقوله : { فاقتلوا المشركين } الآية ، وأن الأسر والمن والفداء مرتفع ، فإن وقع أسير قتل ولا بد إلا أن يسلم.
وروي نحوه عن أبي بكر الصديق ، وذهب ابن عمر ، وعمر بن عبد العزيز ، وعطاء ، والحسن ، إلى أن هذه مخصصة لعموم تلك ، والمنّ والفداء ثابت.
وقال الحسن : لا يقتل الأسير إلا في الحرب ، يهيب بذلك على العدو.
وذهب أكثر العلماء إلى أن أهل الكتاب فيهم المنّ والفداء وعباد الأوثان ، ليس فيهم إلا القتل ، فخصصوا من المشركين أهل الكتاب ، وخصص من الكفار عبدة الأوثان.
وأما مذهب الأئمة اليوم : فمذهب أبي حنيفة أن الإمام يخير في القتل والاسترقاق؛ ومذهب الشافعي أنه مخير في القتل والاسترقاق والفداء والمن؛ ومذهب مالك أنه مخير في واحد من هذه الأربعة ، وفي ضرب الجزية.
والظاهر أن قوله : { وإما فداء } ، يجوز فداؤه بالمال وبمن أسر من المسلمين.
وقال الحسن : لا يفدى بالمال.
وقرأ السلمي : فشدوا ، بكسر الشين ، والجمهور : بالضم.
والوثاق : بفتح الواو ، وفيه لغة الوثاق ، وهو اسم لما يوثق به ، وانتصب مناً وفداء بإضمار فعل يقدر من لفظهما ، أي فإما تمنون مناً ، وإما تفدون فداء ، وهو فعل يجب إضماره ، لأن المصدر جاء تفصيل عاقبة ، فعامله مما يجب إضماره ، ونحوه قول الشاعر :
لأجهدنّ فإما درء واقعة . . .
تخشى وإما بلوغ السؤل والأمل
أي : فإما أدرأ درأ واقعة ، وإما أبلغ بلوغ السؤل.
وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكونا مفعولين ، أي أدوهم منا واقبلوا ، وليس إعراب نحوي.
وقرأ ابن كثير في رواية شبل : وإما فدى بالقصر.

قال أبو حاتم : لا يجوز قصره لأنه مصدر فاديته ، وهذا ليس بشيء ، فقد حكى الفراء فيه أربع لغات : فداء لك بالمد والإغراء ، وفدى لك بالكسر بياء والتنوين ، وفدى لك بالقصر ، وفداء لك.
والظاهر من قوله : { فإما مناً } : المن بالإطلاق ، كما منّ الرسول عليه الصلاة والسلام على ثمامة ، وعلى أبي عروة الحجبي.
وفي كتاب الزمخشري : كما منّ على أبي عروة الحجبي ، وأثال الحنفي ، فغير الكنية والاسم ، ولعل ذلك من الناسخ ، لا في أضل التصنيف.
وقيل : يجوز أن يراد بالمنّ : أي يمنّ عليهم بترك القتل ويسترقوا ، أو يمن عليهم فيخلوا لقبولهم الجزية وكونهم من أهل الذمة.
والظاهر أن قوله : { حتى تضع الحرب أوزارها } غاية لقوله : { فشدوا الوثاق } ، لأنه قد غيا فضرب الرقاب بشد الوثاق وقت الإثخان.
فلا يمكن أن يغيا بغاية أخرى لتدافع الغايتين ، إلا إن كانت الثانية مبينة للأولى ومؤكدة ، فيجوز ، لأن شد الوثاق للأسرى لا يكون إلا حتى تضع الحرب أوزارها.
إذا فسرنا ذلك بانتفاء شوكة الكفار الملقيين إذ ذاك ، ويكون الحرب المراد بها التي تكون وقت لقاء المؤمنين للكفار ، ويجوز أن يكون المغيا محذوفاً يدل عليه المعنى ، التقدير : الحكم ذلك حتى تضع الحرب أوزارها ، أي لا يبقى شوكة لهم.
أو كما قال ابن عطية : إنها استعارة بمعنى إلى يوم القيامة ، أي اصنعوا ذلك دائماً.
وقال الزمخشري : فإن قلت : حتى بم تعلقت؟ قلت : لا يخلو من أن تتعلق إما بالضرب والشد ، أو بالمنّ والفداء.
فالمعنى على كلا المتعلقين عند الشافعي رحمه الله : أنهم لا يزالون على ذلك أبداً إلى أن يكون حرب مع المشركين ، وذلك إذا لم يبق لهم شوكة.
وقيل : إذا نزل عيسى بن مريم؛ وعند أبي حنيفة رحمه الله : إذا علق بالضرب والشد.
فالمعنى : أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار ، وذلك حتى لا يبقى شوكة للمشركين.
وإذا علق بالمن والفداء ، فالمعنى : أنهم يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها ، إلى أن تناول المن والفداء ، يعني : بتناول المن بأن يتركوا عن القتل ويسترقوا ، أي بالتخلية بضرب الجزية بكونهم من أهل الذمة ، وبالعذاب أن يفادى بأسارى المشركين أسارى المسلمين.
وقد رواه الطحاوي مذهباً لأبي حنيفة؛ والمشهور أنه لا يرى فداءهم بمال ولا غيره ، خيفة أن يعودوا حدباً للمسلمين.
{ ذلك } أي الأمر ذلك إذا فعلوا.
{ ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم } : أي لا أنتقم منهم ببعض أسباب الهلاك ، من خسف ، أو رجفة ، أو حاصب ، أو غرق ، أو موت جارف.
{ ولكن ليبلو } : أي ولكن : أمركم بالقتال ليبلو بعضكم ، وهم المؤمنون ، أي يختبرهم ببعض ، وهم الكافرون ، بأن يجاهدوا ويصبروا ، والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض ما وجب لهم من العذاب.
وقرأ الجمهور : قاتلوا ، بفتح القاف والتاء ، بغير ألف؛ وقتادة ، والأعرج ، والأعمش ، وأبو عمرو ، وحفص : قتلوا مبنياً للمفعول ، والتاء خفيفة ، وزيد بن ثابت ، والحسن ، وأبو رجاء ، وعيسى ، والجحدري أيضاً : كذلك.

وقرأ علي : { فلن يضل } مبنياً للمفعول؛ { أعمالهم } : رفع.
وقرىء : يضل ، بفتح الياء ، من ضل أعمالهم : رفع.
{ سيهديهم } : أي إلى طريق الجنة.
وقال مجاهد : يهتدي أهل الجنة إلى مساكنهم منها لا يخطؤون ، لأنهم كانوا سكانها منذ خلقوا ، لا يستبدلوا عليها.
وروى عياض عن أبي عمرو : { ويدخلهم } ، و { يوم يجمعكم ليوم الجمع } و { إنما نطعمكم } بسكون لام الكلمة.
{ عرفها لهم } ، عن مقاتل : أن الملك الذي وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه فيعرفه كل شيء أعطاه الله.
وقال أبو سعيد الخدري ، ومجاهد ، وقتادة : معناه بينها لهم ، أي جعلهم يعرفون منازلهم منها.
وفي الحديث لأحدكم بمنزلة في الجنة أعرف منه بمنزلة في الدنيا.
وقيل : سماها لهم ورسمها كل منزل بصاحبه ، وهذا نحو من التعريف.
يقال : عرف الدار وأرفها : أي حددها ، فجنة كل أحد مفرزة عن غيرها.
والعرف والأرف : الحدود.
وقيل : شرفها لهم ورفعها وعلاها ، وهذا من الأعراف التي هي الجبال وما أشبهها.
وقال مؤرج وغيره : طيبها ، مأخوذ من العرف ، ومنه : طعام معرف : أي مطيب ، أي وعرفت القدر طيبتها بالملح والتابل.
{ إن تنصروا الله } : أي دينه ، { ينصركم } : أي على أعدائكم ، بخلق القوة فيكم ، وغير ذلك من المعارف.
{ ويثبت أقدامكم } : أي في مواطن الحرب ، أو على محجة الإسلام.
وقرأ الجمهور : { ويثبت } : مشدداً ، والمفضل عن عاصم : مخففاً.
{ فتعساً لهم } : قال ابن عباس : بعد الهم؛ وابن جريج ، والسدي : حزناً لهم؛ والحسن : شتماً؛ وابن زيد : شقاء؛ والضحاك : رغماً؛ وحكى النقاش : قبحاً.
{ والذين كفروا } : مبتدأ ، والفاء داخلة في خبر المبتدأ وتقديره : فتعسهم الله تعساً.
فتعساً : منصوب بفعل مضمر ، ولذلك عطف عليه الفعل في قوله : { وأضل أعمالهم }.
ويجوز أن يكون الذين منصوباً على إضمار فعل يفسره قوله : { فتعساً لهم } ، كما تقول : زيداً جدعاً له.
وقال الزمخشري : فإن قلت : على م عطف قوله : وأضل أعمالهم؟ قلت : على الفعل الذي نصب تعساً ، لأن المعنى : فقال تعساً لهم ، أو فقضى تعساً لهم؛ وتعساً لهم نقيض لعى له. انتهى.
وإضمار ما هو من لفظ المصدر أولى ، لأن فيه دلالة على ما حذف.
وقال ابن عباس : يريد في الدنيا القتل ، وفي الآخرة التردي في النار. انتهى.
وفي قوله : { فتعساً لهم } : أي هلاكاً بأداة تقوية لقلوب المؤمنين ، إذ جعل لهم التثبيت ، وللكفار الهلاك والعثرة.
{ ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله } : يشمل ما أنزل من القرآن في بيان التوحيد ، وذكر البعث والفرائض والحدود ، وغير ذلك مما تضمنه القرآن.
{ فأحبط أعمالهم } : أي جعلها من الأعمال التي لا تزكوا ولا يعتد بها.
{ دمر الله عليهم } : أي أفسد عليهم ما اختصوا به من أنفسهم وأولادهم وأموالهم ، وكل ما كان لهم وللكافرين أمثالها.

تلك العاقبة والتدميرة التي يدل عليها دمّر والهلكة ، لأن التدمير يدل عليها ، أو السنة ، لقوله عز وجل : { سنة الله في الذين خلوا } والوجه الأول هو الراجح ، لأن العاقبة منطوق بها ، فعاد الضمير على الملفوظ به ، وما بعده مقول القول.
{ ذلك بإن } : ابتداء وخبر ، والإشارة بذلك إلى النصر في اختيار جماعة ، وإلى الهلاك ، كما قال : { وللكافرين أمثالها } ، قال ذلك الهلاك الذي جعل للكفار بأيدي المؤمنين بسبب { إن الله مولاهم } : أي ناصرهم ومؤيدهم ، وأن الكافرين لا ناصر لهم ، إذ اتخذوا آلهة لا تنفع ولا تضر ، وتركوا عبادة من ينفع ويضر ، وهو الله تعالى.
قال قتادة : نزلت هذه الآية يوم أُحُد ، ومنها انتزع رسول الله صلى الله عليه وسلم رده على أبي سفيان حين قال : «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم» ، حين قال المشركون : إن لنا عزى ، ولا عزى لكم.

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)

{ يتمتعون } : أي ينتفعون بمتاع الدنيا أياماً قلائل ، { ويأكلون } ، غافلين غير مفكرين في العاقبة ، { كما تأكل الأنعام } في مسارحها ومعالفها ، غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح.
والكاف في موضع نصب ، إما على الحال من ضمير المصدر ، كما يقول سيبويه ، أي يأكلونه ، أي الأكل مشبهاً أكل الأنعام.
والمعنى : أن أكلهم مجرد من الفكر والنظر ، كما يقال للجاهل : يعيش كما يعيش البهيمة ، لا يريد التشبيه في مطلق العيش ، ولكن في لازمه.
{ والنار مثوى لهم } : أي موضع إقامة.
ثم ضرب تعالى مثلاً لمكة والقرى المهلكة على عظمها ، كقرية عاد وغيرهم ، والمراد أهلها ، وأسند الإخراج إليها مجازاً.
والمعنى : كانوا سبب خروجك ، وذلك وقت هجرته عليه السلام إلى المدينة.
وكما جاء في حديث ورقة بن نوفل : يا ليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك ، قال : أوَ مخرجي هم.
وقال ابن عطية : ونسب الإخراج إلى القرية حملاً على اللفظ ، وقال : { أهلكناهم } ، حملاً على المعنى. انتهى.
وظاهر هذا الكلام لا يصح ، لأن الضمير في أهلكناهم ليس عائداً على المضاف إلى القرية التي أسند إليها الإخراج ، بل إلى أهل القرية في قوله : { وكأين من قرية } ، وهو صحيح ، لكن ظاهر قوله حملاً على اللفظ وحملاً على المعنى : أي أن يكون في مدلول واحد ، وكان يبقى كأين مفلتاً غير محدث عنه بشيء ، إلا أن وقت إهلاكهم كأنه قال : فهم لا ينصرون إذ ذاك.
وقال ابن عباس : لما أخرج من مكة إلى الغار ، التفت إلى مكة وقال : أنت أحب بلاد الله إلى الله ، وأنت أحب بلاد الله إليّ ، فلو أن المشركين لم يخرجوني ، لم أخرج منك ، فأعدي الأعداء من عدا على الله في حرمه ، أو قتل غير قاتله.
وقيل : بدخول الجاهلية قال : فأنزل الله تعالى ، { وكأين من قرية } الآية؛ وقد تقدّم أول السورة عن ابن عباس خلاف هذا القول.
{ أفمن كان على بينة من ربه } : استفهام توقيف وتقرير على كل شيء متفق عليه ، وهي معادلة بين هذين الفريقين.
قال قتادة : والإشارة إلى الرسول وإلى كفار قريش. انتهى.
واللفظ عام لأهل الصنفين.
ومعنى على بينة : واضحة ، وهو القرآن المعجز وسائر المعجزات.
{ كمن زين له سوء عمله } : وهو الشرك والكفر بالله وعبادة غيره.
{ واتبعوا أهواءهم } : أي شهوات أنفسهم ممن لا يكون له بينة ، فعبدوا غير خالقهم.
والضمير في واتبعوا عائد على معنى من ، وقرىء أمن كان بغير فاء.
{ مثل الجنة } : أي صفة الجنة ، وهو مرفوع بالابتداء.
قال الزمخشري : قال النضر بن شميل : كأنه قال : صفة الجنة ، وهو ما تسمعون. انتهى.
فما تسمعون الخبر ، وفيها أنها تفسير لتلك الصفة ، فهو استئناف إخبار عن تلك الصفة.
وقال سيبويه : فيما يتلى عليكم مثل الجنة ، وقدر الخبر المحذوف متقدماً ، ثم فسر ذلك الذي يتلى.

وقال ابن عطية : وفي الكلام حذف يقتضيه الظاهر ، كأنه قيل : مثل الجنة ظاهر في نفس من وعى هذه الأوصاف.
وكان ابن عطية قد قال قبل هذا : ويظهر أن القصد بالتمثيل هو إلى الشيء الذي يتخيله المرء عند سماعه.
فههنا كذا ، فكأنه يتصور عند ذلك اتباعاً على هذه الصورة ، وذلك هو مثل الجنة.
قال : وعلى هذه التأويلات ، يعني قول النضر وقول سيبويه ، وما قاله هو يكون قبل قوله : { كمن هو خالد في النار } حذف تقديره : أساكن؟ أو أهؤلاء؟ إشارة إلى المتقين.
قيل : ويحتمل عندي أن يكون الحذف في صدر هذه الآية ، كأنه قال : مثل أهل الجنة ، وهي بهذه الأوصاف ، { كمن هو خالد في النار }.
ويجيء قوله : { فيها أنهار } في موضع الحال على هذا التأويل. انتهى.
ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه.
قال : ومثل الجنة : صفة الجنة العجيبة الشأن ، وهو مبتدأ ، وخبر من هو خالد في النار.
وقوله : { فيها أنهار } ، في حكم الصلة ، كالتكرير لها.
ألا ترى إلى سر قوله : التي فيها أنهار؟ ويجوز أن تكون خبر مبتدأ محذوف هي : فيها أنهار ، كأن قائلاً قال : وما مثلها؟ فقيل : فيها أنهار.
وقال الزمخشري أيضاً : فإن قلت : ما معنى قوله : { مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار } ؟ قال : { كمن هو خالد في النار }.
قلت : هو كلام في صورة الإثبات ، ومعناه النفي والإنكار ، لانطوائهم تحت كلام مصدر بحرف الإنكار ، ودخوله في حيزه ، وانخراطه في مسلكه ، وهو قوله : { أفمن كان على بينة من ربه كمن زين لهم سوء عمله } ، فكأنه قيل : مثل الجنة كمن هو خالد في النار ، أي كمثل جزاء من هو خالد في النار.
فإن قلت : لم عري من حرف الإنكار؟ وما فائدة التعرية؟ قلت : تعريته من حرف الإنكار فيها زيادة تصوير لمكابرة من سوى بين المستمسك بالبينة والتابع لهواه ، وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجري فيها تلك الأنهار ، وبين النار التي يسقى أهلها الحميم ، ونظيره قول القائل :
أفرح أن أرزأ الكرام وأن . . .
أورث ذوداً شصائصاً نبلا
هو كلام منكر للفرح برزية الكرام ووراثة الذود ، مع تعريته من حرف الإنكار ، لانطوائه تحت حكم من قال : أتفرح بموت أخيك ، وبوراثة إبله؟ والذي طرح لأجله حرف الإنكار إرادة أن يصور قبح ما أذن به ، فكأنه قال : نعم مثلي يفرح بمرزأة الكرام ، وبأن يستبدل منهم ذوداً يقل طائله ، وهو من التسليم الذي تحته كل إنكار. انتهى.
وتلخص من هذا الاتفاق على إعراب : { مثل الجنة } مبتدأ ، واختلفوا في الخبر ، فقيل : هو مذكور ، وهو : { كمن هو خالد في النار }.
وقيل : محذوف ، فقيل : مقدر قبله ، وهو قول سيبويه.
وقيل : بعده ، وهو قول النضر وابن عطية على اختلاف التقدير.

ولما بين الفرق بين الفريقين في الاهتداء والضلال ، بين الفرق بينهما فيما يؤولان إليه.
وكما قدم من على بينة ، على من اتبع هواه ، قدّم حاله على حاله.
وقرأ ابن كثير وأهل مكة : آسن ، على وزن فاعل ، من أسن ، بفتح السين؛ وقرىء : غير ياسن بالياء.
قال أبو علي : وذلك على تخفيف الهمز.
{ لم يتغير } ، وغيره.
و { لذة } : تأنيث لذ ، وهو اللذيذ ، ومصدر نعت به ، فالجمهور بالجر على أنه صفة لخمر ، وقرىء بالرفع صفة لأنهار ، وبالنصب : أي لأجل لذة ، فهو مفعول له.
{ من عسل مصفى } قال ابن عباس : لم يخرج من بطون النحل.
قيل : فيخالطه الشمع وغيره ، ووصفه بمصفى لأن الغالب على العسل التذكير ، وهو مما يذكر ويؤنث.
وعن كعب : أن النيل ودجلة والفرات وجيحان ، تكون هذه الأنهار في الجنة.
واختلف في تعيين كل ، فهو منها لماذا يكون ينزل ، وبدىء من هذه الأنهار بالماء ، وهو الذي لا يستغنى عنه في المشروبات ، ثم باللبن ، إذ كان يجري مجرى الطعوم في كثير من أقوات العرب وغيرهم ، ثم بالخمر ، لأنه إذا حصل الري والمطعوم تشوقت النفس إلى ما تلتذ به ، ثم بالعسل ، لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم ، فهو متأخر في الهيئة.
{ ولهم فيها من الثمرات } ، وقيل : المبتدأ محذوف ، أي أنواع من كل الثمرات ، وقدره بعضهم بقوله : زوجان.
{ ومغفرة من ربهم } : لأن المغفرة قبل دخول الجنة ، أو على حذف ، أي بنعيم مغفرة ، إذ المغفرة سبب التنعيم.
{ وسقوا } : عائد على معنى من ، وهو خالد على اللفظ؛ وكذا : { اخرجوا } : على معنى من يستمع.
كان المنافقون يحضرون عند الرسول ويستمعون كلامه وتلاوته ، فإذا خرجوا ، { قال الذين أوتوا العلم } ، وهم السامعون كلام الرسول حقيقة الواعون له : { ماذا قال آنفاً } ؟ أي الساعة ، وذلك على سبيل الهزء والاستخفاف ، أي لم نفهم ما يقول ، ولم ندر ما نفع ذلك.
وممن سألوه : ابن مسعود.
وآنفاً : حال؛ أي مبتدأ ، أي : ما القول الذي ائتنفه قبل انفصاله عنه؟ وقرأ الجمهور : آنفاً ، على وزن فاعل؛ وابن كثير : على وزن فعل.
وقال الزمخشري : وآنفاً نصب على الظرف. انتهى.
وقال ذلك لأنه فسره بالساعة.
وقال ابن عطية ، والمفسرون يقولون : آنفاً ، معناه : الساعة الماضية القريبة منا ، وهذا تفسير بالمعنى. انتهى.
والصحيح أنه ليس بظرف ، ولا نعلم أحداً من النحاة عده في الظروف.
والضمير في { زادهم } عائد على الله ، كما أظهره قوله : { طبع الله } ، إذ هو مقابلهم ، وكما هو في : { وآتاهم } ؛ والزيادة في هذا المعنى تكون بزيادة التفهيم والأدلة ، أو بورود الشرع بالأمر والنهي والإخبار ، فيزيد المهدي لزيادة علم ذلك والإيمان به.
قيل : ويحتمل أن يعود على قول المنافقين واضطرابهم ، لأن ذلك مما يعجب به المؤمن ويحمد الله على إيمانه ويزيد نصرة في دينه.

وقيل : يعود على قول الرسول { وآتاهم تقواهم } : أي أعطاهم ، أي جعلهم متقين له؛ فتقواهم مصدر مضاف للفاعل.
{ أن يأتيهم } : بدل اشتمال من الساعة ، والضمير للمنافقين؛ أي الأمر الواقع في نفسه انتظار الساعة ، وإن كانوا هم في أنفسهم ينتظرون غير ذلك؛ لأن ما في أنفسهم غير مراعى ، لأنه باطل.
وقرأ أبو جعفر الرواسي عن أهل مكة : { أن تأتهم } على الشرط ، وجوابه : { فقد جاء أشراطها } ، وهذا غير مشكوك فيه ، لأنها آتية لا محالة.
لكن خوطبوا بما كانوا عليه من الشك ، ومعناه : إن شككتم في إثباتها فقد جاء أعلامها؛ فالشك راجع إلى المخاطبين الشاكين.
وقال الزمخشري : فإن قلت : فما جزاء الشرط؟ قلت : قولهم : { فأنى لهم } ، ومعناه : أن تأتيهم الساعة ، فكيف لهم ذكراهم ، أي تذكرهم واتعاظهم؟ إذا جاءتهم الساعة يعني لا تنفعهم الذكرى حينئذ لقوله : { يوم يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى } فإن قلت : بم يتصل قوله ، وقد جاء أشراطها على القراءتين؟ قلت : بإتيان الساعة اتصال العلة بالمعلول كقولك : إن أكرمني زيد فأنا حقيق بالإكرام أكرمه.
وقرأ الجعفي ، وهرون ، عن أبي عمرو : { بغتة } ، بفتح الغين وشد التاء.
قال صاحب اللوامح : وهي صفة ، وانتصابها على الحال لا نظير لها في المصادر ولا في الصفات ، بل في الأسماء نحو : الحرية ، وهو اسم جماعة ، والسرية اسم مكان. انتهى.
وكذا قال أبو العباس بن الحاج ، من أصحاب الأستاذ أبي علي الشلوبين ، في ( كتاب المصادر ) على أبي عمرو : أن يكون الصواب بغتة ، بفتح الغين من غير تشديد ، كقراءة الحسن فيما تقدم. انتهى.
وهذا على عادته في تغليظ الرواية.
{ فقد جاء أشراطها } : أي علاماتها ، فينبغي الاستعداد لها.
ومن أشراط الساعة مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ هو خاتم الأنبياء.
وروي عنه أنه قال : « أنا من أشراط الساعة » وقال : « بعثت أنا والساعة كهاتين وكفرسي رهان » وقيل : منها الدخان وانشقاق القمر.
وعن الكلبي : كثرة المال ، والتجارة ، وشهادة الزور ، وقطع الأرحام ، وقلة الكرام ، وكثرة اللئام.
{ فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم } : الظاهر أن المعنى : فكيف لهم الذكرى والعمل بها إذا جاءتهم الساعة؟ أي قد فاتها ذلك.
قيل : ويحتمل أن يكون المبتدأ محذوفاً ، أي : فأنى لهم الخلاص إذا جاءتهم الذكرى بما كانوا يخبرون به فيكذبون به بتواصله بالعذاب؟ ثم أضرب عن ذكر المنافقين وقال : { فاعلم أنه لا إله إلا الله } ، والمعنى : دم على عملك بتوحيد.
واحتج بهذا على قول من قال : أول الواجبات العلم والنظر قبل القول والإقرار.
وفي الآية ما يدل على التواضع وهضم النفس ، إذ أمره بالاستغفار ، ومع غيره بالاستغفار لهم.
{ متقبلكم } : متصرفكم في حياتكم الدنيا.
{ ومثواكم } : إقامتكم في قبوركم وفي آخرتكم.
وقال عكرمة : متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ، ومثواكم : إقامتكم في الأرض.
وقال الطبري وغيره : متقلبكم : تصرفكم في يقظتكم ، ومثواكم : منامكم.
وقيل : متقلبكم في معائشكم ومتاجركم ، ومثواكم حيث تستفزون من منازلكم.
وقيل : متقلبكم بالتاء ، وابن عباس بالنون.

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)

كان المؤمنون حريصين على ظهور الإسلام وعلو كلمته وتمني قتل العدو ، وكانوا يستأنسون بالوحي ، ويستوحشون إذا أبطأ.
والله تعالى قد جعل ذلك باباً ومضروبة لا يتعدى.
فمدح تعالى المؤمنين بطلبهم إنزال سورة ، والمعنى تتضمن أمرنا بمجاهدة العدو ، وفضح أمر المنافقين.
والظاهر أن ظاني ذلك هم خلص في إيمانهم ، ولذلك قال بعد { رأيت الذين في قلوبهم مرض }.
وقال الزمخشري : كانوا يدعون الحرص على الجهاد ، ويتمنونه بألسنتهم ، ويقولون : { لولا نزلت سورة } في معنى الجهاد.
{ فإذا أنزلت } ، وأمروا فيها بما تمنوا وحرصوا عليه ، كاعوا وشق عليهم وسقطوا في أيديهم ، كقوله : { فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس } انتهى؛ وفيه تخويف لما يدل عليه لفظ القرآن و { لولا } : بمعنى هلا؛ وعن أبي مالك : لا زائدة ، والتقدير : لو نزلت ، وهذا ليس بشيء.
وقرىء : فإذا نزلت.
وقرأ زيد بن علي : سورة محكمة ، بنصبهما ، ومرفوع نزلت بضم ، وسورة نصب على الحال.
وقرأ هو وابن عمر : { وذكر } مبنياً للفاعل ، أي الله.
{ فيها القتال } ونصب.
الجمهور : برفع سورة محكمة على أنه مفعول لم يسم فاعله ، وبناء وذكر للمفعول ، والقتال رفع به ، وإحكامها كونها لا تنسخ.
قال قتادة : كل سورة فيها القتال ، فهي محكمة من القرآن ، لا بخصوصية هذه الآية ، وذلك أن القتال نسخ ما كان من المهادنة والصلح ، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة.
وقيل : محكمة بالحلال والحرام.
وقيل : محكمة أريدت مدلولات ألفاظها على الحقيقة دون المتشابه الذي أريد به المجاز ، نحو قوله : { على العرش استوى } { في جنب الله } { فضرب الرقاب }.
{ رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك } : أي تشخص أبصارهم جبناً وهلعاً.
{ نظر المغشي عليه } : أي نظراً كما ينظر من أصابته الغشية من أجل حلول الموت.
وقيل : يفعلون ذلك ، وهو شخوص البصر إلى الرسول من شدة العداوة.
وقيل : من خشية الفضيحة ، فإنهم إن يخالفوا عن القتال افتضحوا وبان نفاقهم.
وأولى لهم : تقدم شرحه في المفردات.
وقال قتادة : كأنه قال : العقاب أولى لهم.
وقيل : وهم المكروه ، وأولى وزنها أفعل أو أقلع على الاختلاف ، لأن الاستفعال الذي ذكرناه في المفردات.
فعلى قول الجمهور : إنه اسم يكون مبتدأ ، والخبر لهم.
وقيل : أولى مبتدأ ، ولهم من صلته وطاعة خبر؛ وكأن اللام بمعنى الباء ، كأنه قيل : فأولى بهم طاعة.
ولم يتعرض الزمخشري لإعرابه ، وإنما قال : ومعناه الدعاء عليهم بأن يليه المكروه.
وعلى قول الأصمعي : أنه فعل يكون فاعله مضمراً يدل عليه المعنى.
وأضمر لكثرة الاستعمال كأنه قال : قارب لهم هو ، أي الهلاك.
قال ابن عطية : والمشهور من استعمال العرب أولى لك فقط على جهة الحذف والاختصار ، لما معها من القوة ، فيقول ، على جهة الزجر والتوعد : أولى لك يا فلان.

وهذه الآية من هذا الباب.
ومنه قوله : { أولى لك فأولى } وقول الصديق للحسن رضي الله عنهما : أولى لك انتهى.
والأكثرون على أن : { طاعة وقول معروف } كلام مستقل محذوف منه أحد الجزأين ، إما الخبر وتقديره : أمثل ، وهو قول مجاهد ومذهب سيبويه والخليل؛ وإما المبتدأ وتقديره : الأمر أو أمرنا طاعة ، أي الأمر المرضي لله طاعة.
وقيل : هي حكاية قولهم ، أي قالوا طاعة ، ويشهد له قراءة أبيّ يقولون : { طاعة وقول معروف } ، وقولهم هذا على سبيل الهزء والخديعة.
وقال قتادة : الواقف على : { فأولى لهم طاعة } ابتداء وخبر ، والمعنى : أن ذلك منهم على جهة الخديعة.
وقيل : طاعة صفة لسورة ، أي فهي طاعة ، أي مطاعة.
وهذا القول ليس بشيء لحيلولة الفصل لكثير بين الصفة والموصوف.
{ فإذا عزم الأمر } : أي جد ، والعزم : الجد ، وهو لأصحاب الأمر.
واستعير للأمر ، كما قال تعالى : { لمن عزم الأمر } وقال الشاعر :
قد جدت بهم الحرب فجدوا . . .
والظاهر أن جواب إذاً قوله : { فلو صدقوا الله } ، كما تقول : إذا كان الشتاء ، فلو جئتني لكسوتك.
وقيل : الجواب محذوف تقديره : فإذا عزم الأمر هو أو نحوه ، قاله قتادة.
ومن حمل { طاعة وقول معروف } ، على أنهم يقولون ذلك خديعة قدّرناه { عزم الأمر } ، فاقفوا وتقاضوا ، وقدره أبو البقاء فأصدّق ، { فلو صدقوا الله } فيما زعموا من حرصهم على الجهاد ، أو في إيمانهم ، وواطأت قلوبهم فيه ألسنتهم ، أو في قلوبهم { طاعة وقول معروف }.
{ فهل عسيتم } : التفات اللذين في قلوبهم مرض ، أقبل بالخطاب عليهم على سبيل التوبيخ وتوقيفهم على سوء مرتكبهم ، وعسى تقدّم الخلاف في لغتها.
وفي القراءة فيها ، إذا اتصل بها ضمير الخطاب في سورة البقرة ، واتصال الضمير بها لغة الحجاز ، وبنو تميم لا يلحقون بها الضمير.
وقال أبو عبد الله الرازي : وقد ذكروا أن عسى يتصل بها ضمير الرفع وضمير النصب ، وأنها لا يتصل بها ضمير قال : وأما قول من قال : عسى أنت تقوم ، وعسى أنا أقوم ، فدون ما ذكرنا لك تطويل الذي فيه. انتهى.
ولا أعلم أحداً من نقلة العرب ذكر انفصال الضمير بعد عسى ، وفصل بين عسى وخبرها بالشرط ، وهو أن توليتم.
وقرأ الجمهور : { إن توليتم } ، ومعناه إن أعرضتم عن الإسلام.
وقال قتادة : كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله؟ ألم يسفكوا الدم الحرام ، وقطعوا الأرحام ، وعصوا الرحمن؟ يشير إلى ما جرى من الفترة بعد زمان الرسول.
وقال كعب ، ومحمد بن كعب ، وأبو العالية ، والكلبي : إن توليتم ، أي أمور الناس من الولاية؛ ويشهد لها قراءة وليتم مبنياً للمفعول.
وعلى هذا قيل : نزلت في بني هاشم وبني أمية.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «إن توليتم»؛ بضم التاء والواو وكسر اللام ، وبها قرأ علي وأويس ، أي إن وليتكم ولاية جور دخلتم إلى دنياهم دون إمام العدل.

وعلى معنى إن توليتم بالتعذيب والتنكيل وإقفال العرب في جاهليتها وسيرتها من الغارات والثبات ، فإن كانت ثمرتها الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم.
وقيل معناه : إن تولاكم الناس : وكلكم الله إليهم؛ والأظهر أن ذلك خطاب للمنافقين في أمر القتال ، وهو الذي سبقت الآيات فيه ، أي إن أعرضتم عن امتثال أمر الله في القتال.
{ وأن تفسدوا في الأرض } بعدم معونة أهل الإسلام ، فإذا لم تعينوهم قطعتم ما بينكم وبينهم من صلة الرحم.
ويدل على ذلك { أولئك الذين لعنهم الله }.
فالآيات كلها في المنافقين.
وهذا التوقع الذي في عسى ليس منسوباً إليه تعالى ، لأنه عالم بما كان وما يكون ، وإنما هو بالنسبة لمن عرف المنافقين ، كأنه يقول لهم : لنا علم من حيث ضياعهم.
هل يتوقع منكم إذا أعرضتم عن القتال أن يكون كذا وكذا؟ وقرأ الجمهور : { تقطعوا } ، بالتشديد على التكثير ، وأبو عمرو ، في رواية ، وسلام ، ويعقوب ، وأبان ، وعصمة : بالتخفيف ، مضارع قطع؛ والحسن : وتقطعوا ، بفتح التاء والقاف على إسقاط حرف الجر ، أي أرحامكم ، لأن تقطع لازم.
{ أولئك } إشارة إلى المرضى القلوب ، { فأصمهم } عن سماع الموعظة ، { وأعمى أبصارهم } عن طريق الهدى.
وقال الزمخشري : لعنهم الله لإفسادهم وقطعهم الأرحام ، فمنعهم ألطافه ، وخذلهم حتى عموا. انتهى.
وهو على طريق الاعتزال.
وجاء التركيب : فأصمهم ، ولم يأت فأصم آذانهم؛ وجاء : وأعمى أبصارهم ، ولم يأت وأعمامهم.
قيل : لأن الأذن لو أصمت لا تسمع الإبصار ، فالعين لها مدخل في الرؤية ، والأذن لها مدخل في السمع. انتهى.
ولهذا جاء : { وعلى سمعهم } { وجعل لكم السمع } ولم يأت : وعلى آذانهم ، ولا يأتي : وجعل لكم الآذان.
وحين ذكر الأذن ، نسبت إليه الوقر ، وهو دون الصمم ، كما قال : { وفي آذاننا وقر } { أفلا يتدبرون } : أي يتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر ووعيد العصاة ، وهو استفهام توبيخي وتوقيفي على محاربهم.
{ أم على قلوبهم أقفالها } : استعارة للذين منهم الإيمان ، وأم منقطعة بمعنى بل ، والهمزة للتقرير ، ولا يستحيل عليهم بأن قلوبهم مقفلة لا يصل إليها ذكر ، ولم يحتج إلى تعريف القلوب ، لأنه معلوم أنها قلوب من ذكر.
ولا حاجة إلى تقدير صفة محذوف ، أي أم على قلوب أقفالها قاسية.
وأضاف الأقفال إليها ، أي الأقفال المختصة ، أو هي أقفال الكفر التي استغلقت ، فلا تفتح.
وقرىء : إقفالها ، بكسر الهمزة ، وهو مصدر ، وأقفلها بالجمع على أفعل.
{ إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى } قال قتادة : نزلت في قوم من اليهود ، وكانوا عرفوا أمر الرسول من التوراة ، وتبين لهم بهذا الوجه؛ فلما باشروا أمره حسدوه ، فارتدوا عن ذلك القدر من الهدى.
وقال ابن عباس وغيره : نزلت في منافقين كانوا أسلموا ، ثم ماتت قلوبهم.
والآية تتناول كل من دخل في ضمن لفظها.
وتقدم الكلام على { سوّل } في سورة يوسف.
وقال الزمخشري : سول لهم ركوب العظائم ، من السول ، وهو الاسترخاء ، وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعاً.

انتهى.
وقال أبو علي الفارسي : بمعنى ولا هم من السول ، وهو الاسترخاء والتدلي.
وقال غيره : سولهم : رجاهم.
وقال ابن بحر : أعطاهم سؤلهم.
وقول الزمخشري ، وقد اشتقه إلى آخره ، ليس بجيد ، لأنه توهم أن السول أصله الهمزة.
واختلفت المادتان ، أو عين سول واو ، وعين السؤل همزة؛ والسول له مادتان : إحداهما الهمز ، من سأل يسأل؛ والثانية الواو ، من سال يسال.
فإذا كان هكذا ، فسول يجوز أن يكون من ذوات الهمز.
وقال صاحب اللوامح : والتسويل أصله من الإرخاء ، ومنه : { فدلاهما بغرور } والسول : استرخاء البطن.
وقرأ زيد بن علي : { سول لهم } : أي كيده على تقدير حذف مضاف.
وقرأ الجمهور : { وأملى لهم } مبنياً للفاعل ، والظاهر أنه يعود على الشيطان ، وقاله الحسن ، وجعل وعده الكاذب بالبقاء ، كالإبقاء.
والإبقاء هو البقاء ملاوة من الدهر يمد لهم في الآمال والأماني.
قيل : ويحتمل أن يكون فاعل أملى ضميراً يعود على الله ، وهو الأرجح ، لأن حقيقة الإملاء إنما هو من الله.
وقرأ ابن سيرين ، والجحدري ، وشيبة ، وأبو عمرو ، وعيسى : وأملى مبنياً للمفعول ، أي امهلوا ومدوا في عمرهم.
وقرأ مجاهد ، وابن هرمز ، والأعمش ، وسلام ، ويعقوب : وأملي بهمزة المتكلم مضارع أملى ، أي وأنا أنظرهم ، كقوله : { إنما نملي لهم } ويجوز أن يكون ماضياً سكنت منه الياء ، كما تقول في يعي بسكون الياء.
{ ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل }.
وروي أن قوماً من قريظة والنضير كانوا يعينون المنافقين في أمر الرسول ، والخلاف عليه بنصره ومؤازرته ، وذلك قوله : { سنطيعكم في بعض الأمر }.
وقيل : الضمير في قالوا للمنافقين؛ والذين كرهوا مانزل الله : هم قريظة والنضير؛ وبعض الأمر : قول المنافقين لهم : { لئن أخرجتم لنخرجن معكم } قاله ابن عباس.
وقيل : بعض الأمر : التكذيب بالرسول ، أو بلا إله إلا الله ، أو ترك القتال معه.
وقيل : هو قول الفريقين ، اليهود والمنافقين ، للمشركين : سنطيعكم في التكافؤ على عداوة الرسول والقعود عن الجهاد معه ، وتعين في بعض الأمر في بعض ما يأسرون به ، أو في بعض الأمر الذي يهمكم.
وقرأ الجمهور : أسرارهم ، بفتح الهمزة ، وكانت أسرارهم كثيرة.
وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : بكسرها : وهو مصدر؛ قالوا ذلك سراً فيما بينهم ، وأفشاه الله عليهم.
وقال أبو عبد الله الرازي : الأظهر أن يقال : والله يعلم أسرارهم ، ما في قلوبهم من العلم بصدق محمد عليه السلام ، فإنهم كانوا معاندين مكابرين ، وكانوا يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما يعرفون أبناءهم. انتهى.
{ فكيف إذا توفتهم الملائكة } : تقدم شرح : { الذين في قلوبهم مرض } ، ومبلغهم لأجل القتال.
وتقدم قول المرتدين ، وما يلحقهم في ذلك من جزائهم على طواعية الكاذبين ما أنزل الله.
وتقدم : { والله يعلم إسرارهم } ؛ فجاء هذا الاستفهام الذي معناه التوقيف عقب هذه الأشياء.

فقال الطبري : فكيف علمه بها ، أي بأسرارهم إذا توفتهم الملائكة؟ وقيل : فكيف يكون حالهم مع الله فيما ارتكبوه من ذلك القول؟ وقرأ الأعمش : توفاهم ، بألف بدل التاء ، فاحتمل أن يكون ماضياً ومضارعاً حذفت منه التاء ، والظاهر أن وقت التوفي هو عند الموت.
وقال ابن عباس : لا يتوفى أحد على معصيته إلا تضرب الملائكة في وجهه وفي دبره.
والملائكة : ملك الموت والمصرفون معه.
وقيل : هو وقت القتال نصرة للرسول؛ يضرب وجوههم أن يثبتوا؛ وأدبارهم : انهزموا.
والملائكة : النصر.
والظاهر أن يضربون حال من الملائكة؛ وقيل : حال من الضمير في توفاهم ، وهو ضعيف.
{ ذلك } : أي ذلك الضرب للوجوه والأدبار؛ { بأنهم اتبعوا ما أسخط الله } : وهو الكفر ، أو كتمان بعث الرسول ، أو تسويل الشيطان ، أقوال.
والمتبع الشيء هو مقبل بوجهه عليه ، فناسب ضرب الملائكة وجهه.
{ وكرهوا رضوانه } : وهو الإيمان بالله واتباع دينه.
والكافر للشيء متول عنه ، فناسب ضرب الملائكة دبره؛ ففي ذلك مقابلة أمرين بأمرين.

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)

إخراج أضغانهم ، وهو حقودها : إبرازها للرسول والمؤمنين؛ والظاهر أنها من رؤية البصر لعطف العرفان عليه ، وهو معرفة القلب.
واتصل الضمير في أريناكهم ، وهو الأفصح ، وإن كان يجوز الانفصال.
وفي هاتين الجملتين تقريب لشهرتهم ، لكنه لم يعينهم بأسمائهم ، إبقاء عليهم وعلى قراباتهم ، واكتفاء منهم بما يتظاهرون به من اتباع الشرع ، وإن أبطنوا خلافه.
{ ولتعرفنهم من لحن القول } : كانوا يصطلحون فيما بينهم من ألفاظ يخاطبون بها الرسول ، مما ظاهره حسن ويعنون به القبيح ، وكانوا أيضاً يصدر منهم الكلام يشعر بالاتباع ، وهم بخلاف ذلك ، كقولهم عند النصر : { إنا كنا معكم } وغير ذلك ، كقولهم : { لئن رجعنا إلى المدينة } وقوله : { إن بيوتنا عورة } والظاهر الإراءة والمعرفة بالسيماء ، وجود المعرفة في المستقبل بلحن القول.
واللام في : { ولتعرفنهم } ، لام جواب القسم المحذوف.
{ والله يعلم أعمالكم } : خطاب عام يشمل المؤمن والكافر؛ وقيل : خطاب للمؤمنين فقط.
وقرأ الجمهور : { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم } ، ونبلو : بالنون والواو؛ وأبو بكر : بالياء فيهن وأويس ، ونبلو : بإسكان الواو وبالنون؛ والأعمش : بإسكانها وبالياء ، وذلك على القطع ، إعلاماً بأن ابتلاءه دائم.
ومعنى : { حتى نعلم المجاهدين } : أي نعلمهم مجاهدين قد خرج جهادهم إلى الوجود ، وبأن مسكهم الذي يتعلق به ثوابهم.
{ إن الذين كفروا } : ناس من بني إسرائيل ، وتبين هداهم : معرفتهم بالرسول من التوراة ، أو منافقون كأن الإيمان قد داخل قلوبهم ثم نافقوا؛ والمطعمون : سفرة بدر؛ وتبين الهدى : وجوده عند الداعي إليه ، أو مشاعة في كل كافر؛ وتبين الهدى من حيث كان في نفسه ، أقوال.
{ وسيحبط أعمالهم } : أي التي كانوا يرجون بها انتفاعاً ، وأعمالهم التي كانوا يكيدون بها الرسول ودين الإسلام.
{ يا أيها الذين أمنوا } : قيل نزلت في بني إسرائيل ، أسلموا وقالوا لرسول الله : قد آثرناك وجئناك بنفوسنا وأهلنا ، كأنهم منوا بذلك ، فنزلت فيهم هذه الآية.
وقوله : { يمنون عليك أن أسلموا } فعلى هذا يكون : { ولا تبطلوا أعمالكم } بالمن بالإسلام.
وعن ابن عباس : بالرياء والسمعة ، وعنه : بالشرك والنفاق؛ وعن حذيفة : بالكبائر ، وقيل : بالعجب ، فإنه يأكل الحسنات ، كما تأكل النار الحطب.
وعن مقاتل : بعصيانكم للرسول.
وقيل : أعمالكم : صدقاتكم بالمن والأذى.
{ وماتوا وهم كفار } : عام في الموجب لانتفاء الغفران ، وهو وفاتهم على الكفر.
وقيل : هم أهل القليب.
وقيل : نزلت بسبب عدي بن حاتم ، رضي الله عنه ، " سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه قال : وكانت له أفعال بر ، فما حاله؟ فقال : «في النار» ، فبكى عدي وولى ، فدعاه فقال له : «أبي وأبوك وأبو إبراهيم خليل الرحمن في النار " ، فنزلت.
{ فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم } : وهو الصلح.
وقرأ الجمهور : وتدعوا ، مضارع دعا؛ والسلمي : بتشديد الدال ، أي تفتروا؛ والجمهور : إلى السلم ، بفتح السين؛ والحسن ، وأبو رجاء ، والأعمش ، وعيسى ، وطلحة ، وحمزة ، وأبو بكر : بكسرها.

وتقدم الكلام على السلام في البقرة في قوله : { ادخلوا في السلام كافة } وقال الزمخشري : وقرىء : ولا تدعوا من ادعى القوم ، وتداعوا إذا ادعوا ، نحو قولك : ارتموا الصيد وتراموا. انتهى.
والتلاوة بغير لا ، وكان يجب أن يأتي بلفظ التلاوة فيقول : وقرىء : وتدعوا معطوف على تهنوا ، فهو مجزوم ، ويجوز أن يكون مجزوماً بإضمار إن.
{ وأنتم الأعلون } : أي الأعليون ، وهذه الجملة حالية؛ وكذا : { والله معكم }.
ويجوز أن يكونا جملتي استئناف ، أخبر أولاً بقوله : { أنتم الأعلون } ، فهو إخبار بمغيب أبرزه الوجود ، ثم ارتقى إلى رتبة أعلى من التي قبلها ، وهي كون الله تعالى معهم.
{ ولن يتركم } ، قال ابن عباس : ولن يظلمكم؛ وقيل : لن يعريكم من ثواب أعمالكم؛ وقيل : ولين ينقصكم.
وقال الزمخشري ، وقال أبو عبيد : { ولن يتركم } : من وترت الرجل ، إذا قتلت له قتيلاً من ولد أو أخ أو حميم أو قريب؛ قال : أو ذهبت بماله؛ قال : أو حربته ، وحقيقته أفردته من قريبه أو ماله من الوتر وهو الفرد.
فشبه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر ، وهو من فصيح الكلام ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : « من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله » ، أي أفرد عنهما قتلاً ونهباً.
{ إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } : وهو تحقير لأثر الدنيا ، أي فلا تهنوا في الجهاد.
وأخبر عنها بذلك ، باعتبار ما يختص بها من ذلك؛ وأما ما فيها من الطاعة وأمر الآخرة فليس بذلك.
{ يؤتكم أجوركم } : أي ثواب أعمالكم من الإيمان والتقوى ، { ولا يسألكم أموالكم }.
قال سفيان بن عيينة : أي كثيراً من أموالكم ، إنما يسألكم ربع العشر ، فطيبوا أنفسكم.
وقيل : لا حاجة إليها ، بل يرجع ثواب إنفاقكم إليكم.
وقيل : إنما يسألكم أمواله ، لأنه هو المالك لها حقيقة ، وهو المنعم بإعطائها.
وقيل : الضمير في يسألكم للرسول ، أي لا يسألكم أجراً على تبليغ الرسالة ، كما قال : { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين } { إن يسألكموها جميعاً فيحفكم } : أي يبالغ في الإلحاح.
{ تبخلوا ويخرج أضغانكم } : أي تطعنون على الرسول وتضيق صدوركم كذلك ، وتخفون ديناً يذهب بأموالكم.
وقرأ الجمهور : ويخرج أضغانكم جزماً على جواب الشرط ، والفعل مسند إلى الله ، أو إلى الرسول ، أو إلى البخل.
وقرأ عبد الوارث ، عن أبي عمرو : ويخرج ، بالرفع على الاستئناف بمعنى : وهو يخرج.
وحكاها أبو حاتم ، عن عيسى؛ وفي اللوامح عن عبد الوارث ، عن أبي عمرو : وتخرج ، بالتاء وفتحها وضم الراء والجيم؛ أضغانكم : بالرفع ، بمعنى : وهو يخرج أو سيخرج أضغانكم ، رفع بفعله.
وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وابن سيرين ، وابن محيصن ، وأيوب بن المتوكل ، واليماني : وتخرج ، بتاء التأنيث مفتوحة؛ أضغانكم : رفع به؛ ويعقوب : ونخرج ، بالنون؛ أضغانكم : رفعاً ، وهي مروية عن عيسى ، إلا أنه فتح الجيم بإضمار أن ، فالواو عاطفة على مصدر متوهم ، أي يكف بخلكم وإخراج أضغانكم.

وهذا الذي خيف أن يعتري المؤمنين ، هو الذي تقرب به محمد بن سلمة إلى كعب بن الأشرف ، وتوصل به إلى قتله حين قاله له : إن هذا الرجل قد أكثر علينا وطلب منا الأموال.
{ ها أنتم هؤلاء } : كررها التنبيه توكيداً ، وتقدم الكلام على هذا التركيب في سورة آل عمران.
وقال الزمخشري : هؤلاء موصول بمعنى الذين صلته تدعون ، أي أنتم الذين تدعون ، أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون؛ ثم استأنف وصفهم كأنهم قالوا : وما وصفنا فقيل : تدعون لتنفقوا في سبيل الله. انتهى.
وكون هؤلاء موصولاً إذا تقدمها ما الاستفهامية باتفاق ، أو من الاستفهامية باختلاف.
{ في سبيل الله } ، قيل : للغزو ، وقيل : الزكاة ، واللفظ أعم.
{ ومن يبخل } : أي بالصدقة وما أوجب الله عليه؛ { فإنما يبخل على نفسه } : أي لا يتعدى ضرره لغيره.
وبخل يتعدى بعلى وبعن.
يقال : بخلت عليه وعنه ، وصليت عليه وعنه؛ وكأنهما إذا عديا بعن ضمناً معنى الإمساك ، كأنه قيل : أمسكت عنه بالبخل.
{ والله الغني وأنتم الفقراء } : أي الغني مطلقاً ، إذ يستحيل عليه الحاجات.
وأنتم الفقراء مطلقاً ، لافتقاركم إلى ما تحتاجون إليه في الدنيا ، وإلى الثواب في الآخرة.
{ وإن تتولوا } : عطف على : { وإن تؤمنوا وتتقوا } ، أي وإن تتولوا ، أي عن الإيمان والتقوى.
{ يستبدل قوماً غيركم } : أي يخلق قوماً غيركم راغبين في الإيمان والتقوى ، غير متولين عنهما ، كما قال : { ويأت بخلق جديد } وتعيين أولئك القوم ، وأنهم الأنصار ، أو التابعون ، أو أهل اليمن ، أو كندة والنخع ، أو العجم ، أو فارس والروم ، أو الملائكة ، أقوال.
والخطاب لقريش ، أو لأهل المدينة ، قولان.
وروى أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن هذا ، وكان سلمان إلى جنبه ، فوضع يده على فخذه وقال : « قوم هذا والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس » وإن صح هذا الحديث ، وجب المصير في تعيين ما انبهم من قوله : { قوماً غيركم } إلى تعيين الرسول.
{ ثم لا يكونوا أمثالكم } : أي في الخلاف والتولي والبخل.

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)

هذه السورة مدنية ، وعن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة ، ولعل بعضاً منها نزل ، والصحيح أنها نزلت بطريق منصرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية ، سنة ست من الهجرة ، فهي تعد في المدني.
ومناسبتها لما قبلها أنه تقدم : { وإن تتولوا } الآية ، وهي خطاب لكفار قريش ، أخبر رسوله بالفتح العظيم ، وأنه بهذا الفتح حصل الاستبدال ، وآمن كل من كان بها ، وصارت مكة دار إيمان.
ولما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلح الحديبية ، تكلم المنافقون وقالوا : لو كان محمد نبياً ودينه حق ، ما صد عن البيت ، ولكان فتح مكة.
فأكذبهم الله تعالى ، وأضاف عز وجل الفتح إلى نفسه ، إشعاراً بأنه من عند الله ، لا بكثرة عدد ولا عدد ، وأكده بالمصدر ، ووصفه بأنه مبين ، مظهر لما تضمنه من النصر والتأييد.
والظاهر أن هذا الفتح هو فتح مكة.
وقال الكلبي ، وجماعة : وهو المناسب لآخر السورة التي قبل هذه لما قال : { ها أنتم هؤلاء تدعون } الآية ، بين أنه فتح لهم مكة ، وغنموا وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا؛ ولو بخلوا ، لضاع عليهم ذلك ، فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم.
وأيضاً لما قال : { وأنتم الأعلون والله معكم } بين برهانه بفتح مكة ، فإنهم كانوا هم الأعليين.
وأيضاً لما قال : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم } كان فتح مكة حيث لم يلحقهم وهن ، ولادعوا إلى صلح ، بل أتى صناديد قريش مستأمنين مستسلمين مسلمين.
وكانت هذه البشرى بلفظ الماضي ، وإن كان لم يقع ، لأن إخباره تعالى بذلك لا بد من وقوعه ، وكون هذا الفتح هو فتح مكة بدأ به الزمخشري.
وقال الجمهور : هو فتح الحديبية؛ وقاله : السدي ، والشعبي ، والزهري.
قال ابن عطية : وهو الصحيح. انتهى.
ولم يكن فيه قتال شديد ، ولكن ترام من القوم بحجارة وسهام.
وعن ابن عباس : رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم.
وعن الكلبي : ظهروا عليهم حتى سألوه الصلح.
قال الشعبي : بلغ الهدى محله ، وظهرت الروم على فارس ، ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب على المجوس ، وأطعموا كل خيبر.
وقال الزهري : لم يكن فتح أعظم من فتح الحديبية ، اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم ، وتمكن الإسلام من قلوبهم ، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير ، وكثر بهم سواد الإسلام.
قال القرطبي : فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة في عشرة آلاف.
وقال موسى بن عقبة : قال رجل منصرفهم من الحديبية : ما هذا الفتح؟ لقد صدونا عن البيت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بل هو أعظم الفتوح ، قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادكم بالراح ، ويسألونكم القضية ، ويرغبوا إليكم في الأمان ، ورأوا منكم ما كرهوا » وكان في فتحها آية عظيمة وذلك أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة ، فتمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم مجه فيها ، فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه.

وقيل : فجاش الماء حتى امتلأت ، ولم ينفد ماؤها بعد.
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف يكون فتحاً ، وقد أحصروا فنحروا وحلقوا بالحديبية؟ قلت : كان ذلك قبل الهدنة ، فلما طلبوها وتمت كان فتحاً مبنياً. انتهى.
وفي هذا الوقت اتفقت بيعة الرضوان ، وهو الفتح الأعظم ، قاله جابر بن عبد الله والبراء بن عازب ، وفيه استقبل فتح خيبر وامتلأت أيدي المؤمنين خيراً ، ولم يفتحها إلا أهل الحديبية ، ولم يشركهم أحد من المتخلفين عن الحديبية.
وقال مجاهد : هو فتح خيبر.
وفي حديث مجمع بن جارية : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا ، إذ الناس يهزون الأباعر ، فقيل : ما بال الناس؟ قالوا : أوحى الله للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فخرجنا نرجف ، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم عند كراع الغميم ، فلما اجتمع الناس ، قرأ النبي صلى الله عليه وسلم : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً }.
قال عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : أوفتح هو يا رسول الله؟ قال : « نعم ، والذي نفسي بيده إنه لفتح » فقسمت خيبر على أهل الحديبية ، ولم يدخل فيها أحد إلا من شهد الحديبية.
وقال الضحاك : الفتح : حصول المقصود بغير قتال ، وكان الصلح من الفتح ، وفتح مكة بغير قتال ، فتناول الفتحين : الحديبية ومكة.
وقيل : فتح الله تعالى له بالإسلام والنبوّة والدعوة بالحجة والسيف ، ولا فتح أبين منه وأعظم ، وهو رأس الفتوح كلها ، إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا وهو تحته ومتشعب منه.
وقيل : قضينا لك قضاءً بيناً على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل ، ليطوفوا بالبيت من الفتاحة ، وهي الحكومة ، وكذا عن قتادة.
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت : لم يجعل علة للمغفرة ، ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي : المغفرة ، وإتمام النعمة ، وهداية الصراط المستقيم ، والنصر العزيز؛ كأنه قيل : يسرنا لك فتح مكة ، ونصرناك على عدوّك ، لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل.
ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث أنه جهاد للعدوّ ، وسبب للغفران والثواب والفتح والظفر بالبلد عنوة أو صلحاً ، بحرب أو بغير حرب ، لأنه منغلق ما لم يظفر ، فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح. انتهى.
وقال ابن عطية : المراد هنا : أن الله فتح لك لكي يجعل ذلك علامة لغفرانه لك ، فكأنها صيرورة ، ولهذا قال عليه السلام : « لقد أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحب إليّ من الدنيا » انتهى.
ورد بأن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها ، ولو جاز بحال لجاز : ليقوم زيد ، في معنى : ليقومّن زيد. انتهى.
أما الكسر ، فقد علل بأنه شبهت تشبيهاً بلام كي ، وأما النصب فله أن يقول : ليس هذا نصباً ، لكنها الحركة التي تكون مع وجود النون ، بقيت بعد حذفها دلالة على الحذف ، وبعد هذا ، فهذا القول ليس بشيء ، إذ لا يحفظ من لسانهم : والله ليقوم ، ولا بالله ليخرج زيد ، بكسر اللام وحذف النون ، وبقاء الفعل مفتوحاً.

{ ويتم نعمته عليك } ، بإظهارك على عدوّك ورضاه عنك ، وبفتح مكة والطائف وخيبر { نصراً عزيزاً } ، أي بالظفر والتمكن من الأعداء بالغنيمة والأسر والقتل نصراً فيه عز ومنعة.
وأسندت العزة إليه مجازاً ، والعزيز حقيقة هو المنصور صلى الله عليه وسلم.
وأعيد لفظ الله في : { وينصرك ألله نصراً } ، لما بعد عن ما عطف عليه ، إذ في الجملتين قبله ضمير يعود على الله ، وليكون المبدأ مسنداً إلى الاسم الظاهر والمنتهى كذلك.
ولما كان الغفران وإتمام النعمة والهداية والنصر يشترك في إطلاقها الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره بقوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقوله : { إنهم لهم المنصورون } وكان الفتح لم يبق لأحد إلا للرسول صلى الله عليه وسلم ، أسنده تعالى إلى نون العظمة تفخيماً لشأنه ، وأسند تلك الأشياء الأربعة إلى الاسم الظاهر ، واشتركت الخمسة في الخطاب له صلى الله عليه وسلم ، تأنيساً له وتعظيماً لشأنه.
ولم يأت بالاسم الظاهر ، لأن في الإقبال على المخاطب ما لا يكون في الاسم الظاهر.
{ هو الذين أنزل السكينة } : وهي الطمأنينة والسكون؛ قيل : بسبب الصلح والأمن ، فيعرفون فضل الله عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف ، والهدنة بعد القتال ، فيزدادوا يقيناً إلى يقينهم.
وقيل : السكينة إشارة إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الشرائع ، ليزدادوا إيماناً بها إلى إيمانهم ، وهو التوحيد؛ روي معناه عن ابن عباس.
وقيل : الوقار والعظمة لله ولرسوله.
وقيل : الرحمة ليتراحموا ، وقاله ابن عباس.
{ ولله جنود السموات والأرض } : إشارة إلى تسليم الأشياء إليه تعالى ، ينصر من شاء ، وعلى أي وجه شاء ، ومن جنده السكينة ثبتت قلوب المؤمنين.
{ ليدخل } : هذه اللام تتعلق ، قيل : بإنا فتحنا لك.
وقيل : بقوله : { ليزدادوا }.
فإن قيل : { ويعذب } عطف عليه ، والازدياد لا يكون سبباً لتعذيب الكفار ، أجيب عن هذا بأنه ذكر لكونه مقصوداً للمؤمن ، كأنه قيل : بسبب ازديادكم في الأيمان يدخلكم الجنة ويعذب الكفار بأيديكم في الدنيا.
وقيل : بقوله : { وينصرك الله } : أي بالمؤمنين.
وهذه الأقوال فيها بعد.
وقال الزمخشري : { ولله جنود السموات والأرض } ، يسلط بعضها على بعض ، كما يقتضيه علمه وحكمته.
ومن قضيته أن صلح قلوب المؤمنين بصلح الحديبية ، وإن وعدهم أن يفتح لهم ، وإنما قضى ذلك ليعرف المؤمنون نعمة الله فيه ويشكرون ، فيستحقوا الثواب ، فيثيبهم ، ويعذب الكافرين والمنافقين ، لما غاظهم من ذلك وكرهوه. انتهى.
ولا يظهر من كلامه هذا ما تتعلق به اللام؛ والذي يظهر أنها تتعلق بمحذوف يدل عليه الكلام ، وذلك أنه قال : { ولله جنود السموات والأرض }.

كان في ذلك دليل على أنه تعالى يبتلي يتلك الجنود من شاء ، فيقبل الخير من قضى له بالخير ، والشر من قضى له بالشر.
{ ليدخل المؤمنين } جنات ، ويعذب الكفار.
فاللام تتعلق بيبتلي هذه ، وما تعلق بالابتلاء من قبول الإيمان والكفر.
{ ويكفر } : معطوف على ليدخل ، وهو ترتيب في الذكر لا ترتيب في الوقوع.
وكان التبشير بدخول الجنة أهم ، فبدىء به.
ولما كان المنافقون أكثر ضرراً على المسلمين من المشركين ، بدىء بذكرهم في التعذيب.
{ الظانين بالله السوء } : الظاهر أنه مصدر أضيف إلى ما يسوء المؤمنين ، وهو أن المشركين يستأصلونهم ولا ينصرون ، ويدل عليه : { عليهم دائرة السوء } ، و { بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول المؤمنون إلى أهليكم أبداً } وقيل : { ظن السوء } : ما يسوء المشركين من إيصال الهموم إليهم ، بسبب علو كلمة الله ، وتسليط رسوله قتلاً وأسراً ونهباً.
ثم أخبر أنهم يستعلي عليهم السوء ويحيط بهم ، فاحتمل أن يكون خبراً حقيقة ، واحتمل أن يكون هو وما بعده دعاء عليهم.
وتقدم الكلام على هذه الجملة في سورة براءة.
وقيل : { ظن السوء } يشمل ظنونهم الفاسدة من الشرك ، كما قال : { إن يتبعون إلا الظن } ومن انتفاء رؤية الله تعالى الأشياء وعلمه بها كما قال : { ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً } بطلان خلق العالم ، كما قال : { ذلك ظن الذين كفروا } وقيل : السوء هنا كما تقول : هذا فعل سوء.
وقرأ الحسن : السوء فيهما بضم السين.
{ وكان الله عزيزاً حكيماً } : لما تقدم تعذيب الكفار والانتقام منهم ، ناسب ذكر العزة.
ولما وعد تعالى بمغيبات ، ناسب ذكر العلم ، وقرن باللفظتين ذكر جنود السموات والأرض؛ فمنها السكينة التي للمؤمنين والنقمة للمنافقين والمشركين ، ومن جنود الله الملائكة في السماء ، والغزاة في سبيل الله في الأرض.
وقرأ الجمهور : { لتؤمنوا } ، وما عطف عليه بتاء الخطاب؛ وأبو جعفر ، وأبو حيوة ، وابن كثير ، وأبو عمرو : بياء الغيبة؛ والجحدري : بفتح التاء وضم الزاي خفيف؛ وهو أيضاً ، وجعفر بن محمد كذلك ، إلا أنهم كسروا الزاي؛ وابن عباس ، واليماني : بزاءين من العزة؛ وتقدم الكلام في وعزّروه في الأعراف.
والظاهر أن الضمائر عائدة على الله تعالى ، وتفريق الضمائر يجعلها للرسول صلى الله عليه وسلم ، وبعضها لله تعالى ، حيث يليق قول الضحاك.
{ بكرة وأصيلاً } ، قال ابن عباس : صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر.
{ إن الذين يبايعونك } : هي بيعة الرضوان وبيعة الشجرة ، حين أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الأهبة لقتال قريش ، حين أرجف بقتل عثمان بن عفان ، فقد بعثه إلى قريش يعلمهم أنه جاء معتمراً لا محارباً ، وذلك قبل أن ينصرف من الحديبية ، بايعهم على الصبر المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد ، ولذلك قال سلمة بن الأكوع وغيره : بايعنا على الموت.
وقال ابن عمر ، وجابر : على أن لا نفر.

والمبايعة : مفاعلة من البيع ، { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } وبقي اسم البيعة بعد على معاهدة الخلفاء والملوك.
{ إنما يبايعون الله } أي صفقتهم ، إنما يمضيها ويمنح الثمن الله عز وجل.
وقرأ تمام بن العباس بن عبد المطلب : إنما يبايعون لله ، أي لأجل الله ولوجهه؛ والمفعول محذوف ، أي إنما يبايعونك لله.
{ يد الله فوق أيديهم }.
قال الجمهور : اليد هنا النعمة ، أي نعمة الله في هذه المبايعة ، لما يستقبل من محاسنها ، فوق أيديهم التي مدوها لبيعتك.
وقيل : قوة الله فوق قواهم في نصرك ونصرهم.
وقال الزمخشري : لما قال : { إنما يبايعون الله } ، أكد تأكيداً على طريقة التخييل فقال : { يد الله فوق أيديهم } ، يريد أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تعلو يدي المبايعين ، هي يد الله ، والله تعالى منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام.
وإنما المعنى : تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول صلى الله عليه وسلم كعقده مع الله تعالى من غير تفاوت بينهما ، كقوله تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } و { من نكث فإنما ينكث على نفسه } ، فلا يعود ضرر نكثه إلا على نفسه. انتهى.
وقرأ زيد بن علي : ينكث ، بكسر الكاف.
وقال جابر بن عبد الله : ما نكث أحد منا البيعة إلا جد بن قيس ، وكان منافقاً ، اختبأ تحت إبط بعيره ، ولم يسر مع القوم فحرم.
وقرأ الجمهور : { عليه الله } : بنصب الهاء.
وقرىء : بما عهد ثلاثياً.
وقرأ الحميدي : { فسيؤتيه } ؛ بالياء؛ والحرميان ، وابن عامر ، وزيد بن علي : بالنون.
{ أجراً عظيماً } : وهي الجنة ، وأو في لغة تهامه

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)

قال مجاهد وغيره : ودخل كلام بعضهم في بعض.
{ المخلفون من الأعراب } : هم جهينة ، ومزينة ، وغفار ، وأشجع ، والديل ، وأسلم.
استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً ، ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدوه عن البيت؛ وأحرم هو صلى الله عليه وسلم ، وساق معه الهدى ليعلم أنه لا يريد حرباً ، ورأى أولئك الأعراب أنه يستقبل عدواً عظيماً من قريش وثقيف وكنانة والقبائل والمجاورين بمكة ، وهو الأحابيش؛ ولم يكن الإيمان تمكن من قلوبهم ، فقعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وتخلفوا وقالوا : لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة ، ففضحهم الله عز وجل في هذه الآية ، وأعلم رسوله صلى الله عليه وسلم بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم ، فكان كذلك.
{ شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا } : وهذا اعتلال منهم عن تخلفهم ، أي لم يكن لهم من يقوم بحفظ أموالهم وأهليهم غيرهم ، وبدؤا بذكر الأموال ، لأن بها قوام العيش؛ وعطفوا الأهل ، لأنهم كانوا يحافظون على حفظ الأهل أكثر من حفظ المال.
وقرىء : شغلتنا ، بتشديد الغين ، حكاه الكسائي ، وهي قراءة إبراهيم بن نوح بن باذان ، عن قتيبة.
ولما علموا أن ذلك التخلف عن الرسول كان معصية ، سألوا أن يستغفر لهم.
{ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } : الظاهر أنه راجع إلى الجملتين المقولتين من الشغل وطلب الاستغفار ، لأن قولهم : شغلتنا ، كذب؛ وطلب الاستغفار : خبث منهم وإظهار أنهم مؤمنون عاصون.
وقال الطبري : هو راجع إلى قولهم : فاستغفر لنا ، يريد أنهم قالوا ذلك مصانعة من غير توبة ولا ندم.
{ قل فمن يملك } : أي من يمنعكم من قضاء الله؟ { إن أراد بكم ضراً } : من قتل أو هزيمة ، { أو أراد بكم نفعاً } ، من ظفر وغنيمة؟ أي هو تعالى المتصرف فيكم ، وليس حفظكم أموالكم وأهليكم بمانع من ضياعها إذا أراده الله تعالى.
وقرأ الجمهور : ضراً ، بفتح الضاد؛ والإخوان : بضمها ، وهما لغتان.
ثم بين تعالى لهم العلة في تخلفهم ، وهي ظنهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه لا يرجعون إلى أهليهم.
وتقدم الكلام على أهل ، وكيف جمع بالواو والنون في قوله : { ما تطعمون أهليكم } وقرأ عبد الله : إلى أهلهم ، بغير ياء؛ وزين ، قراءة الجمهور مبنياً للمفعول ، والفاعل هو الله تعالى.
وقيل غيره ممن نسب إليه التزيين مجازاً.
وقرىء : وزين مبنياً للفاعل.
{ وظننتم ظن السوء } : احتمل أن يكون هو الظن السابق ، وهو ظنهم أن لا ينقلبوا ، ويكون قد ساءهم ذلك الظن وأحزنهم حيث أخلف ظنهم.
ويحتمل أن يكون غيره لأجل العطف ، أي ظننتم أنه تعالى يخلف وعده في نصر دينه وإعزاز رسوله صلى الله عليه وسلم.

{ بوراً } : هلكى ، والظاهر أنه مصدر كالهلك ، ولذلك وصف به المفرد المذكر ، كقول ابن الزبعري :
يا رسول المليك إن لساني . . .
راتق ما فتقت إذ أنا بور
والمؤنث ، حكى أبو عبيدة : امرأة بور ، والمثنى والمجموع.
وقيل : يجوز أن يكون جمع بائر ، كحائل ، وحول هذا في المعتل ، وباذل وبذل في الصحيح ، وفسر بوراً : بفاسدين هلكى.
وقال ابن بحر : أشرار.
واحتمل وكنتم ، أي يكون المعنى : وصرتم بذلك الظن ، وأن يكون وكنتم على بابها ، أي وكنتم في الأصل قوماً فاسدين ، أي الهلاك سابق لكم على ذلك الظن.
ولما أخبر تعالى أنهم قوم بور ، ذكر ما يدل على أنهم ليسوا بمؤمنين فقال : { ومن لم يؤمن بالله ورسوله } ، فهو كافر جزاؤه السعير.
ولما كانوا ليسوا مجاهدين بالكفر ، ولذلك اعتذروا وطلبوا الاستغفار ، مزج وعيدهم وتوبيخهم ببعض الإمهال والترجئة.
وقال الزمخشري : { ولله ملك السموات والأرض } ، يدبره تدبير قادر حكيم ، فيغفر ويعذب بمشيئته ، ومشيئته تابعة لحكمته ، وحكمته المغفرة للتائب وتعذيب المصر.
{ وكان الله غفوراً رحيماً } ، رحمته سابقة لرحمته ، حيث يكفر السيئات باجتناب الكبائر بالتوبة. انتهى.
وهو على مذهب الاعتزال.
{ سيقول المخلفون } : روي أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم يغزو خيبر ، ووعده بفتحها ، وأعلمه أن المخلفين إذا رأوا مسيره إلى خيبر ، وهم عدو مستضعف ، طلبوا الكون معه رغبة في عرض الدنيا من الغنيمة ، وكان كذلك.
{ يريدون أن يبدلوا كلام الله } : معناه أن يغيروا وعده لأهل الحديبية بغنيمة خيبر ، وذلك أنه وعدهم أن يعوضهم من مغانم مكة خيبر ، إذا قفلوا موادعين لا يصيبون منها شيئاً ، قاله مجاهد وقتادة ، وعليه عامة أهل التأويل.
وقال ابن زيد : { كلام الله } : قوله تعالى : { قل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً } وهذا لا يصح ، لأن هذه الآية نزلت مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك في آخر عمره.
وهذه السورة نزلت عام الحديبية ، وأيضاً فقد غزت مزينة وجهينة بعد هذه المدة معه عليه الصلاة والسلام ، وفضلهم بعد على تميم وغطفان وغيرهم من العرب.
وقرأ الجمهور : كلام الله ، بألف؛ والإخوان : كلم الله ، جمع كلمة ، وأمره تعالى أن يقول لهم : { لن تتبعونا } ، وأتى بصيغة لن ، وهي للمبالغة في النفي ، أي لا يتم لكم ذلك ، إذ قد وعد تعالى أن ذلك لا يحضرها إلا أهل الحديبية فقط.
{ كذلكم قال الله من قبل } : يريد وعده قبل اختصاصهم بها.
{ بل تحسدوننا } : أي يعز عليكم أن نصيب مغنماً معكم ، وذلك على سبيل الحسد أن نقاسمكم فيما تغنمون.
وقرأ أبو حيوة : بكسر السين ، ثم رد عليهم تعالى كلامهم هذا فقال : { بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً } من أمور الدنيا ، وظاهره ليس لهم فكر إلا فيها ، كقوله : { يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا } والإضراب الأول رد أن يكون حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات الحسد.

والثاني ، إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى ما هو أطم منه ، وهو الجهل وقلة الفقه.
{ قل للمخلفين من الأعراب } : أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم ذلك ، ودل على أنهم كانوا يظهرون الإسلام ، ولو لم يكن الأمر كذلك ، لم يكونوا أهلاً لذلك الأمر.
وأبهم تعالى في قوله : { إلى قوم إولي بأس شديد }.
فقال عكرمة ، وابن جبير ، وقتادة : هم هوازن ومن حارب الرسول صلى الله عليه وسلم في حنين.
وقال كعب : الروم الذين خرج إليهم عام تبوك ، والذين بعث إليهم في غزوة مؤتة.
وقال الزهري ، والكلبي : أهل الردة ، وبنو حنيفة باليمامة.
وعن رافع بن خديج : إنا كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ، ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر ، رضي الله تعالى عنه ، إلى قتال بني حنيفة ، فعلمنا أنهم أريدوا بها.
وقال ابن عباس ، وعطاء بن أبي رباح ، ومجاهد ، وعطاء الخراساني ، وابن أبي ليلى : هم الفرس.
وقال الحسن : فارس والروم.
وقال أبو هريرة : قوم لم يأتوا بعد.
وظاهر الآية يرد هذا القول.
والذي أقوله : إن هذه الأقوال تمثيلات من قائليها ، لا أن المعنى بذلك ما ذكروا ، بل أخبر بذلك مبهماً دلالة على قوة الإسلام وانتشار دعوته ، وكذا وقع حسن إسلام تلك الطوائف ، وقاتلوا أهل الردة زمان أبي بكر ، وكانوا في فتوح البلاد أيام عمر وأيام غيره من الخلفاء.
والظاهر أن هؤلاء المقاتلين ليسوا ممن تؤخذ منهم الجزية ، إذ لم يذكر هنا إلا القتال أو الإسلام.
ومذهب أبي حنيفة ، رحمه الله تعالى ورضي عنه : أن الجزية لا تقبل من مشركي العرب ، ولا من المرتدين ، وليس إلا الإسلام أو القتل؛ وتقبل ممن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب والمجوس.
ومذهب الشافعي ، رحمه الله تعالى : لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس ، دون مشركي العجم والعرب.
وقال الزمخشري : وهذا دليل على إمامة أبي بكر الصديق ، رضي الله تعالى عنه ، فإنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام الرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن بعد وفاته. انتهى.
وهذا ليس بصحيح ، فقد حضر كثير منهم مع جعفر في موتة ، وحضروا حرب هوازن معر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحضروا معه في سفرة تبوك.
ولا يتم قول الزمخشري : إلا على قول من عين أنهم أهل الردة.
وقرأ الجمهور : أو يسلمون ، مرفوعاً؛ وأبي ، وزيد بن علي : بحذف النون منصوباً بإضمار أن في قول الجمهور من البصريين غير الجرمي ، وبها في قول الجرمي والكسائي ، وبالخلاف في قول الفراء وبعض الكوفيين.
فعلى قول النصب بإضمار أن هو عطف مصدر مقدر على مصدر متوهم ، أي يكون قتال أو إسلام ، أي أحد هذين ، ومثله في النصب قول امرىء القيس :
فقلت له لا تبك عينك إنما . . .
نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا

والرفع على العطف على تقاتلونهم ، أو على القطع ، أي أو هم يسلمون دون قتال.
{ فإن تطيعوا } : أي فيما تدعون إليه.
{ كما توليتم من قبل } : أي في زمان الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، في زمان الحديبية.
{ يعذبكم } : يحتمل أن يكون في الدنيا ، وأن يكون في الآخرة.
{ ليس على الأعمى حرج } : نفي الحرج عن هؤلاء من ذوي العاهات في التخلف عن الغزو ، ومع ارتفاع الحرج ، فجائز لهم الغزو ، وأجرهم فيه مضاعف ، والأعرج أحرى بالصبر وأن لا يفر.
وقد غزا ابن أم مكتوم ، وكان أعمى ، في بعض حروب القادسية ، وكان رضي الله عنه يمسك الراية ، فلو حضر المسلمون ، فالغرض متوجه بحسب الوسع في الغزو.
وقرأ الجمهور : يدخله ويعذبه ، بالياء؛ والحسن ، وقتادة ، وأبو جعفر ، والأعرج ، وشيبة ، وابن عامر ، ونافع : بالنون

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)

لما ذكر تعالى حال من تخلف عن السفر مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، ذكر حال المؤمنين الخلص الذين سافروا معه.
والآية دالة على رضا الله تعالى عنهم ، ولذا سميت : بيعة الرضوان؛ وكانوا فيما روي ألفاً وخمسمائة وعشرين.
وقال ابن أبي أوفى : وثلاثمائة.
وأصل هذه البيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل الحديبية ، بعث جواس بن أمية الخزاعي رسولاً إلى أهل مكة ، وحمله على جمل له يقال له : الثعلب ، يعلمهم أنه جاء معتمراً ، لا يريد قتالاً.
فلما أتاهم وكلمهم ، عقروا جمله وأرادوا قتله ، فمنعته الأحابيش ، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأراد بعث عمر.
فقال : قد علمت فظاظتي ، وهم يبغضوني ، وليس هناك من بني عدي من يحميني ، ولكن أدلك على رجل هو أعز مني وأحب إليهم ، عثمان بن عفان.
فبعثه ، فأخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وإنما جاء زائراً لهذا البيت ، معظماً لحرمته.
وكان أبان بن سعيد بن العاصي حين لقيه ، نزل عن دابته وحمله عليها وأجاره ، فقالت له قريش : إن شئت فطف بالبيت ، وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه.
فقال : ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت الحديبية من مكة على عشرة أميال ، فصرخ صارخ من العسكر : قتل عثمان ، فحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون وقالو : لا نبرح إن كان هذا حتى نلقى القوم.
فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : البيعة البيعة ، فنزل روح القدس ، فبايعوا كلهم إلا الجد بن قيس المنافق.
وقال الشعبي : أول من بايع أبو سنان بن وهب الأسدي ، والعامل في إذ رضي.
والرضا على هذا بمعنى إظهار النعم عليهم ، فهو صفة فعل ، لا صفة ذات لتقييده بالزمان وتحت ، يحتمل أن يكون معمولاً ليبايعونك ، أو حالاً من المفعول ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان تحتها جالساً في أصلها.
قال عبد الله بن المغفل : وكنت قائماً على رأسه ، وبيدي غصن من الشجرة أذب عنه ، فرفعت الغصن عن ظهره.
بايعوه على الموت دونه ، وعلى أن لا يفروا ، فقال لهم : « أنتم اليوم خير أهل الأرض » وكانت الشجرة سمرة.
قال بكير بن الأشجع : يوم فتح مكة.
قال نافع : كان الناس يأتون تلك الشجرة يصلون عندها ، فبلغ عمر ، فأمر بقطعها.
وكانت هذه البيعة سنة ست من الهجرة.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : « لا يدخل النار من شهد بيعة الرضوان »
{ فعلم ما في قلوبهم } ، قال قتادة ، وابن جريج : من الرضا بالبيعة أن لا يفروا.
وقال الفراء : من الصدق والوفاء.
وقال الطبري ، ومنذر بن سعيد : من الإيمان وصحته ، والحب في الدين والحرص عليه.

وقيل : من الهم والانصراف عن المشركين ، والأنفة من ذلك ، على نحو ما خاطب به عمر وغيره؛ وهذا قول حسن يترتب معه نزول السكينة والتعريض بالفتح القريب.
والسكينة تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول أمر الله تعالى ، وعلى الأقوال السابقة قيل هذا القول ، لا يظهر احتياج إلى إنزال السكينة إلا أن يجازي بالسكينة والفتح القريب والمغانم.
وقال مقاتل : فعلم ما في قلوبهم من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت ، { فأنزل السكينة عليهم } حتى بايعوا.
قال ابن عطية : وهذا فيه مذمة للصحابة ، رضي الله تعالى عنهم. انتهى.
{ وأثابهم فتحاً قريباً } قال قتادة ، وابن أبي ليلى : فتح خيبر ، وكان عقب انصرافهم من مكة.
وقال الحسن : فتح هجر ، وهو أجل فتح اتسعوا بثمرها زمناً طويلاً.
وقيل : فتح مكة والقرب أمر نسبي ، لكن فتح خيبر كان أقرب.
وقرأ الحسن ، ونوح القارىء : وآتاهم ، أي أعطاهم؛ والجمهور : وأثابهم من الثواب.
{ ومغانم كثيرة } : أي مغانم خيبر ، وكانت أرضاً : ذات عقار وأموال ، فقسمها عليهم.
وقيل : مغانم هجر.
وقيل : مغانم فارس والروم.
وقرأ الجمهور : يأخذونها بالياء على الغيبة في وأثابهم ، وما قبله من ضمير الغيبة.
وقرأ الأعمش ، وطلحة ، ورويس عن يعقوب ، ودلبة عن يونس عن ورش ، وأبو دحية ، وسقلاب عن نافع ، والأنطاكي عن أبي جعفر : بالتاء على الخطاب.
كما جاء بعد { وعدكم الله مغانم كثيرة } بالخطاب.
وهذه المغانم الموعود بها هي المغانم التي كانت بعد هذه ، وتكون إلى يوم القيامة ، قاله ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين.
ولقد اتسع نطاق الإسلام ، وفتح المسلمون فتوحاً لا تحصى ، وغنموا مغانم لا تعد ، وذلك في شرق البلاد وغربها ، حتى في بلاد الهند ، وفي بلاد السودان في عصرنا هذا.
وقدم علينا حاجاً أحد ملوك غانة من بلاد التكرور ، وذكر عنه أنه استفتح أزيد من خمسة وعشرين مملكة من بلاد السودان ، وأسلموا ، وقدم علينا ببعض ملوكهم يحج معه.
وقيل : الخطاب لأهل البيعة ، وأنهم سيغنمون مغانم كثيرة.
وقال زيد بن أسلم وابنه : المغانم الكثيرة مغانم خيبر؛ { فعجل لكم هذه } : الإشارة بهذه إلى البيعة والتخلص من أمر قريش بالصلح ، قاله ابن عباس وزيد بن أسلم وابنه.
وقال مجاهد : مغانم خيبر.
{ وكف أيدي الناس عنكم } : أي أهل مكة بالصلح.
وقال ابن عباس عيينة بن حصن الفزاري ، وعوف بن مالك النضري ، ومن كان معهم : إذ جاءوا لينصروا أهل خيبر ، والرسول عليه الصلاة والسلام محاصر لهم ، فجعل الله في قلوبهم الرعب وكفهم عن المسلمين.
وقال ابن عباس أيضاً : أسد وغطفان حلفاء خيبر.
وقال الطبري : كف اليهود عن المدينة بعد خروج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية وإلى خيبر.
{ ولتكون } : أي هذه الكفة آية للمؤمنين ، وعلامة يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان ، وأنه ضامن نصرهم والفتح عليهم.

وقيل : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة في منامه ، ورؤيا الأنبياء حق ، فتأخر ذلك إلى السنة القابلة ، فجعل فتح خيبر علامة وعنواناً لفتح مكة ، فيكون الضمير في ولتكون عائداً على هذه ، وهي مغانم خيبر ، والواو في ولتكون زائدة عند الكوفيين وعاطفة على محذوف عند غيرهم ، أي ليشكروه ولتكون ، أو وعد فعجل وكف لينفعكم بها ولتكون ، أو يتأخر ، أو يقدر ما يتعلق به متأخراً ، أي فعل ذلك.
{ ويهديكم صراطاً مستقيماً } : أي طريق التوكل وتفويض الأمور إليه.
وقيل : بصيرة واتقاناً.
{ وأخرى لم تقدروا عليها } ، قال ابن عباس ، والحسن ، ومقاتل : بلاد فارس والروم وما فتحه المسلمون.
وقال الضحاك ، وابن زيد ، وابن اسحاق : خيبر.
وقال قتادة ، والحسن : مكة ، وهذا القول يتسق معه المعنى ويتأيد.
وفي قوله : { لم تقدروا عليها } دلالة على تقدم محاولة لها ، وفوات درك المطلوب في الحال ، كما كان في مكة.
وقال الزمخشري : هي مغانم هوازن في غزوة حنين.
وقال : { لم تقدروا عليها } ، لما كان فيها من الجولة ، وجوز الزمخشري في : { وأخرى } ، أن تكون مجرورة بإضمار رب ، وهذا فيه غرابة ، لأن رب لم تأت في القرآن جارة ، مع كثرة ورود ذلك في كلام العرب ، فكيف يؤتى بها مضمرة؟ وإنما يظهر أن { وأخرى } مرفوع بالابتداء ، فقد وصفت بالجملة بعدها ، وقد أحاط هو الخبر.
ويجوز أن تكون في موضع نصب بمضمر يفسره معنى { قد أحاط الله بها } : أي وقضى الله أخرى.
وقد ذكر الزمخشري هذين الوجهين ومعنى { قد أحاط الله بها } بالقدرة والقهر لأهلها ، أي قد سبق في علمه ذلك ، وظهر فيها أنهم لم يقدروا عليها.
{ ولو قاتلكم الذين كفروا } : هذا ينبني على الخلاف في قوله تعالى : { وكف أيدي الناس عنكم } ، أهم مشركو مكة ، أو ناصروا أهل خيبر ، أو اليهود؟ { لولوا الأدبار } : أي لغلبوا وانهزموا.
{ سنة الله } : في موضع المصدر المؤكد لمضمون الجملة قبله ، أي سن الله عليه أنبياءه سنة ، وهو قوله : { لأغلبن أنا ورسلي } { وهو الذي كف أيديهم } : أي قضى بينكم المكافة والمحاجزة ، بعدما خولكم الظفر عليهم والغلبة.
" وروي في سببها أن قريشاً جمعت جماعة من فتيانها ، وجعلوهم مع عكرمة بن أبي جهل ، وخرجوا يطلبون غرة في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما أحس بهم المسلمون ، بعث عليه الصلاة والسلام خالد بن الوليد ، وسماه حينئذ سيف الله ، في جملة من الناس ، ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة ، وأسروا منهم جملة ، وسيقوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فمنّ عليهم وأطلقهم.
وقال قتادة : كان ذلك بالحديبية عند معسكره ، وهو ببطن مكة.
وعن أنس : هبط ثمانون رجلاً من أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم مسلحين يريدون غرته ، فأخذناهم فاستحياهم.
وفي حديث عبد الله بن معقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم ، فأخذ الله أبصارهم ، فقال لهم : «هل جئتم في عهد؟ وهل جعل لكم أحد أماناً»؟ قالوا : اللهم لا ، فخلي سبيلهم "

وقال الزمخشري كان يعني هذا الكف يوم الفتح ، وبه استشهد أبو حنيفة ، على أن مكة فتحت عنوة لا صلحاً.
وقيل : كان ذلك في غزوة الحديبية ، لما روي أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من هزمه وأدخله حيطان مكة.
وعن ابن عباس : أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت. انتهى.
وقرأ الجمهور : بما تعملون ، على الخطاب؛ وأبو عمرو : بالياء ، وهو تهديد للكفار.
{ هم الذين كفروا } : يعني أهل مكة.
قال ابن خالوية : يقال الهدي والهدى والهداء ، ثلاث لغات. انتهى.
وقرأ الجمهور : الهدي ، بسكون الدال ، وهي لغة قريش؛ وابن هرمز ، والحسن ، وعصمة عن عاصم ، واللؤلؤي ، وخارجة عن أبي عمرو : والهدي ، بكسر الدال وتشديد الياء ، وهما لغتان ، وهو معطوف على الضمير في صدّوكم؛ ومعكوفاً : حال ، أي محبوساً.
عكفت الرجل عن حاجته : حبسته عنها.
وأنكر أبو عليّ تعدية عكف ، وحكاه ابن سيدة والأزهري وغيرهما.
وهذا الحبس يجوز أن يكون من المشركين بصدهم ، أو من جهة المسلمين لتردّدهم ونظرهم في أمرهم.
وقرأ الجعفي ، عن أبي عمرو : والهدي ، بالجر معطوفاً على المسجد الحرام : أي وعن نحر الهدي.
وقرأ : بالرفع على إضمار وصد الهدي ، وكان خرج عليه ومعه مائة بدنة ، قاله مقاتل.
وقيل : بسبعين ، وكان الناس سبعمائة رجل ، فكانت البدنة عن عشرة ، قاله المسور بن مخرمة وأبيّ بن الحكم.
{ أن يبلغ محله } ، قال الشافعي : الحرم ، وبه استدل أبو حنيفة أن محل هدي المحصر الحرم ، لا حيث أحصر.
وقال الفراء : حيث يحل نحره ، و { أن يبلغ } : يحتمل أن يتعلق بالصد ، أي وصدوا الهدى ، وذلك على أن يكون بدل اشتمال ، أي وصدوا بلوغ الهدي محله ، أو على أنه مفعول من أجله ، أي كراهة أن يبلغ محله.
ويحتمل أن يتعلق بمعكوفاً ، أي محبوساً لأجل أن يبلغ محله ، فيكون مفعولاً من أجله ، ويكون الحبس من المسلمين.
أو محبوساً عن أن يبلغ محله ، فيكون الحبس من المشركين ، وكان بمكة قوم من المسلمين مختلطين بالمشركين ، غير متميزين عنهم ، ولا معروفي الأماكن؛ فقال تعالى : ولولا كراهة أن يهلكوا أناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين لهم ، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة ، ما كف أيديكم عنهم؛ وحذف جواب لولا لدلالة الكلام عليه.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون : { لو تزيلوا } ، كالتكرير للولا رجال مؤمنون ، لمرجعهما إلى معنى واحد ، ويكون : { لعذبنا } ، هو الجواب. انتهى.
وقوله : لمرجعهما إلى معنى واحد ليس بصحيح ، لأن ما تعلق به لولا الأولى غير ما تعلق به الثانية.
فالمعنى في الأولى : ولولا وطء قوم مؤمنين ، والمعنى في الثانية : لو تميزوا من الكفار؛ وهذا معنى مغاير للأول مغايرة ظاهرة.

و { أن تطؤهم } : بدل اشتمال من رجال وما بعده.
وقيل : بدل من الضمير في { تعلموهم } ، أي لم تعلموا وطأتهم ، أي أنه وطء مؤمنين.
وهذا فيه بعد.
والوطء : الدوس ، وعبر به عن الإهلاك بالسيف وغيره.
قال الشاعر :
ووطئتنا وطأ على حنق . . .
وطء المقيد ثابت الهرم
وفي الحديث : « اللهم اشدد وطأتك على مضر » و { لم تعلموهم } : صفة لرجال ونساء غلب فيها المذكر؛ والمعنى : لم تعرفوا أعيانهم وأنهم مؤمنون.
وقال ابن زيد : المعرة : المأثم.
وقال ابن إسحاق : الدية.
وقال ابن عطية : وهذا ضعيف ، لأنه لا إثم ولا دية في قتل مؤمن مستور الإيمان بين أهل الحرب.
وقال الطبري : هي الكفارة.
وقال القاضي منذر بن سعيد : المعرة : أن يعنفهم الكفار ، ويقولون قتلوا أهل دينهم.
وقيل : الملامة وتألم النفس منه في باقي الزمن.
ولفق الزمخشري من هذه الأقوال سؤالاً وجواباً على عادته في تلفق كلامه من أقوالهم وإيهامه أنها سؤالات وأجوبة له فقال : فإن قلت : أي معرة تصيبهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون؟ قلت : يصيبهم وجوب الدية والكفارة ، وسوء مقالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم ما فعلوا بنا من غير تمييز ، والمأثم إذا جرى منهم بعض التقصير. انتهى.
{ بغير علم } : أخبار عن الصحابة وعن صفتهم الكريمة من العفة عن المعصية والامتناع من التعدى حتى أنهم لو أصابوا من ذلك أحداً لكان من غير قصد ، كقول النملة عن جند سليمان : { وهم لا يشعرون } وبغير علم متعلق بأن تطؤهم.
وقيل : متعلق بقوله : { فتصيبكم منهم معرّة } من الذين بعدكم ممن يعتب عليكم.
وقرأ الجمهور : لو تزيلوا؛ وابن أبي عبلة ، وابن مقسم ، وأبو حيوة ، وابن عون : لو تزايلوا ، على وزن تفاعلوا ، ليدخل متعلق بمحذوف دل عليه المعنى ، أي كان انتفاء التسليط على أهل مكة ، وانتفاء العذاب.
{ ليدخل الله في رحمته من يشاء } : وهذا المحذوف هو مفهوم من جواب لو ، ومعنى تزيلوا : لو ذهبوا عن مكة ، أي لو تزيل المؤمنون من الكفار وتفرقوا منهم ، ويجوز أن يكون الضمير للمؤمنين والكفار ، أي لو افترق بعضهم من بعض.
{ إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية } : إذ معمول لعذبنا ، أو لو صدوكم ، أو لا ذكر مضمرة.
والحمية : الأنفة ، يقال : حميت عن كذا حمية ، إذا أنفت عنه وداخلك عار وأنفة لفعله ، قال المتلمس :
إلا أنني منهم وعرضي عرضهم . . .
كذا الرأس يحمي أنفه أن يهشما
وقال الزهري : حميتهم : أنفتهم عن الإقرار لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم ، والذي امتنع من ذلك هو سهيل بن عمرو.
وقال ابن بحر : حميتهم : عصبيتهم لآلهتهم ، والأنفة : أن يعبدوا وغيرها.
وقيل : قتلوا آباءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا في منازلنا ، واللات والعزى لا يدخلها أبداً؛ وكانت حمية جاهلية لأنها بغير حجة وفي غير موضعها ، وإنما ذلك محض تعصب لأنه صلى الله عليه وسلم إنما جاء معظماً للبيت لا يريد حرباً ، فهم في ذلك كما قال الشاعر في حمية الجاهلية :

وهل أنا إلا من غزية إن غوت . . .
غوين وإن ترشد غزية أرشد
وحمية : بدل من الحمية والسكينة الوقار والاطمئنان ، فتوقروا وحلموا؛ و { كلمة التقوى } : لا إله إلا الله.
روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وبه قال علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعمرو بن ميمون ، وقتادة ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وسلمة بن كهيل ، وعبيد بن عمير ، وطلحة بن مصرف ، والربيع ، والسدي ، وابن زيد.
وقال عطاء بن أبي رباح ومجاهد أيضاً : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير.
وقال علي بن أبي طالب ، وابن عمر ، رضي الله تعالى عنهما : لا إله إلا الله ، والله أكبر.
وقال أبو هريرة ، وعطاء الخراساني : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأضيفت الكلمة إلى التقوى لأنها سبب التقوى وأساسها.
وقيل : هو على حذف مضاف ، أي كلمة أهل التقوى.
وقال المسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم : كلمة التقوى هنا هي بسم الله الرحمن الرحيم ، وهي التي أباها كفار قريش ، فألزمها الله المؤمنين وجعلهم أحق بها.
وقيل : قولهم سمعاً وطاعة.
والظاهر أن الضمير في : { وكانوا } عائد على المؤمنين ، والمفضل عليهم محذوف ، أي { أحق بها } من كفار مكة ، لأن الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقيل : من اليهود والنصارى ، وهذه الأحقية هي في الدنيا.
وقيل : أحق بها في علم الله تعالى.
وقيل : { وأهلها } في الآخرة بالثواب.
وقيل : الضمير في وكانوا عائد على كفار مكة لأنهم أهل حرم الله ، ومنهم رسوله لولا ما سلبوا من التوفيق.
{ وكان الله بكل شيء عليماً } ، إشارة إلى علمه تعالى بالمؤمنين ورفع الكفار عنهم ، وإلى علمه بصلح الكفار في الحديبية ، إذ كان سبباً لامتزاج العرب وإسلام كثير منهم ، وعلو كلمة الإسلام؛ وكانوا عام الحديبية ألفاً وأربعمائة ، وبعده بعامين ساروا إلى مكة بعشرة آلاف.
وقال أبو عبد الله الرازي : في هذه الآية لطائف معنوية ، وهو أنه تعالى أبان غاية البون بين الكافر والمؤمن.
باين بين الفاعلين ، إذ فاعل جعل هو الكفار ، وفاعل أنزل هو الله تعالى؛ وبين المفعولين ، إذ تلك حمية ، وهذه سكينة؛ وبين الإضافتين ، أضاف الحمية إلى الجاهلية ، وأضاف السكينة إلى الله تعالى.
وبين الفعل جعل وأنزل؛ فالحمية مجعولة في الحال في العرض الذي لا يبقى ، والسكينة كالمحفوظة في خزانة الرحمة فأنزلها.
والحمية قبيحة مذمومة في نفسها وازدادت قبحاً بالإضافة إلى الجاهلية ، والسكينة حسنة في نفسها وازدادت حسناً بإضافتها إلى الله تعالى.

والعطف في فأنزل بالفاء لا بالواو يدل على المقابلة ، تقول : أكرمني فأكرمته ، فدلت على المجازاة للمقابلة ، ولذلك جعل فأنزل.
ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أجاب أولاً إلى الصلح ، وكان المؤمنون عازمين على القتال ، وأن لا يرجعوا إلى أهلهم إلا بعد فتح مكة أو النحر في المنحر ، وأبوا إلا أن يكتبوا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وباسم الله ، قال تعالى : { على رسوله }.
ولما سكن هو صلى الله عليه وسلم للصلح ، سكن المؤمنون ، فقال : { وعلى المؤمنين }.
ولما كان المؤمنون عند الله تعالى ، ألزموا تلك الكلمة ، قال تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وفيه تلخيص ، وهو كلام حسن.

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)

رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلي الحديبية.
وقال مجاهد : كانت الرؤيا بالحديبية أنه وأصحابه دخلوا مكة آمنين ، وقد حلقوا وقصروا.
فقص الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم ، وقالوا : إن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق.
فلما تأخر ذلك ، قال عبد الله أبيّ ، وعبد الله بن نفيل ، ورفاعة بن الحرث : والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام.
فنزلت.
وروي أن رؤياه كانت : أن ملكاً جاءه فقال له : { لتدخلنّ }.
الآية ومعنى { صدق الله } : لم يكذبه ، والله تعالى منزه عن الكذب وعن كل قبيح.
وصدق يتعدى إلى اثنين ، الثاني بنفسه وبحرف الجر.
تقول : صدقت زيداً الحديث ، وصدقته في الحديث؛ وقد عدها بعضهم في أخوات استغفر وأمر.
وقال الزمخشري : فحذف الجار وأوصل الفعل لقوله تعالى : { صدقوا ما عاهدوا الله عليه } انتهى.
فدل كلامه على أن أصله حرف الجر.
وبالحق متعلق بمحذوف ، أي صدقاً ملتبساً بالحق.
{ لتدخلن } : اللام جواب قسم محذوف ، ويبعد قول من جعله جواب بالحق؛ وبالحق قسم لا تعلق له بصدق ، وتعليقه على المشيئة ، قيل : لأنه حكاية قول الملك للرسول صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن كيسان.
وقيل : هذا التعليق تأدب بآداب الله تعالى ، وإن كان الموعود به متحقق الوقوع ، حيث قال تعالى : { ولا تقولنّ لشيء إن فاعل غداً إلا أن يشاء الله } وقال ثعلب : استثنى فيما يعلم ليستثنى الخلق فيما لا يعلمون.
وقال الحسن بن الفضل : كأن الله علم أن بعض الذين كانوا بالحديبية يموت ، فوقع الاستثناء لهذا المعنى.
وقال أبو عبيدة : وقوم إن بمعنى إذ ، كما قيل في قوله : { وإنا أن شاء الله بكم لاحقون }.
وقيل : هو تعليق في قوله : { آمنين } ، لا لأجل إعلامه بالدخول ، فالتعليق مقدم على موضعه.
وهذا القول لا يخرج التعليق عن كونه معلقاً على واجب ، لأن الدخول والأمن أخبر بهما تعالى ، ووقعت الثقة بالأمرين وهما الدخول والأمن الذي هو قيد في الدخول.
و { آمنين } : حال مقارنة للدخول.
ومحلقين ومقصرين : حال مقدرة؛ ولا تخافون : بيان لكمال الأمن بعد تمام الحج.
ولما نزلت هذه الآية علم المسلمون أنهم يدخلونها فيما يستأنف ، واطمأنت قلوبهم ودخلوها معه عليه الصلاة والسلام في ذي القعدة سنة سبع وذلك ثلاثة أيام هو وأصحابه ، وصدقت رؤياه صلى الله عليه وسلم.
{ فعلم ما لم تعلموا } : أي ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدة ، ودخول الناس فيه ، وما كان أيضاً بمكة من المؤمنين الذين دفع الله بهم ، قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري : فعلم ما لم تعلموا من الحكمة والصواب في تأخير فتح مكة إلى العام القابل. انتهى.
ولم يكن فتح مكة في العالم القابل ، إنما كان بعد ذلك بأكثر من عام ، لأن الفتح إنما كان ثمان من الهجرة.

{ فجعل من دون ذلك } : أي من قبل ذلك ، أي من زمان دون ذلك الزمان الذي وعدوا فيه بالدخول.
فتحاً قريباً ، قال كثير من الصحابة : هذا الفتح القريب هو بيعة الرضوان.
وقال مجاهد وابن إسحاق : هو فتح الحديبية.
وقال ابن زيد : خيبر ، وضعف قول من قال إنه فتح مكة ، لأن فتح مكة لم يكن دون دخول الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة ، بل كان بعد ذلك.
{ هو الذي أرسل رسوله } : فيه تأكيد لصدق رؤياه صلى الله عليه وسلم ، وتبشير بفتح مكة لقوله تعالى : { ليظهره على الدين كله } ، وتقدم الكلام على معظم هذه الآية.
{ وكفى بالله شهيداً } على أن ما وعده كائن.
وعن الحسن : شهيداً على نفسه أنه سيظهر دينك.
والظاهر أن قوله : { محمد رسول الله } مبتدأ وخبر.
وقيل : رسوله الله صفة.
وقال الزمخشري : عطف بيان ، { والذين } معطوف ، والخبر عنه وعنهم أشداء.
وأجاز الزمخشري أن يكون محمد خبر مبتدأ محذوف ، أي هو محمد ، لتقدم قوله : { هو الذي أرسل رسوله }.
وقرأ ابن عامر في رواية : رسوله الله بالنصب على المدح ، والذين معه هم من شهد الحديبية ، قاله ابن عباس.
وقال الجمهور : جميع أصحابه أشداء ، جمع شديد ، كقوله : { أعزة على الكافرين } { رحماء بينهم } ، كقوله : { أذلة على المؤمنين } وكقوله : { وأغلظ عليهم } وقوله : { بالمؤمنين رءوف رحيم } وقرأ الحسن : أشداء رحماء بنصبهما.
قيل : على المدح ، وقيل : على الحال ، والعامل فيهما العامل في معه ، ويكون الخبر عن المتبدأ المتقدم : تراهم.
وقرأ يحيى بن يعمر : أشدا ، بالقصر ، وهي شاذة ، لأن قصر الممدود إنما يكون في الشعر ، نحو قوله :
لا بد من صنعا وإن طال السفر . . .
وفي قوله : { تراهم ركعاً سجداً } دليل على كثرة ذلك منهم.
وقرأ عمرو بن عبيد : ورضواناً ، بضم الراء.
وقرىء : سيمياهم ، بزيادة ياء والمد ، وهي لغة فصيحة كثيرة في الشعر ، قال الشاعر :
غلام رماه الله بالحسن يافعا . . .
له سيمياء لا تشق على البصر
وهذه السيما ، قال مالك بن أنس : كانت جباههم منيرة من كثرة السجود في التراب.
وقال ابن عباس ، وخالد الحنفي ، وعطية : وعد لهم بأن يجعل لهم نوراً يوم القيامة من أثر السجود.
وقال ابن عباس أيضاً : السمت : الحسن وخشوع يبدو على الوجه.
وقال الحسن ، ومعمر بن عطية : بياض وصفرة وبهيج يعتري الوجه من السهر.
وقال عطاء ، والربيع بن أنس : حسن يعتري وجوه المصلين.
وقال منصور : سألت مجاهداً : هذه السيما هي الأثر يكون بين عيني الرجل؟ قال : لا ، وقد تكون مثل ركبة البعير ، وهي أقسى قلباً من الحجارة.
وقال ابن جبير : ذلك مما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود.
وقال الزمخشري : المراد بها السمة التي تحدث في جبهة السجاد من كثرة السجود.

وقوله : { من أثر السجود } يفسرها : أي من التأثير الذي يؤثره السجود.
وكان كل من العليين ، علي بن الحسين زين العابدين ، وعلي بن عبد الله بن العباس أبي الملوك ، يقال له ذو الثفنات ، لأن كثرة سجودهما أحدثت في مواقعه منهما أشباه ثفنات البعير. انتهى.
وقرأ ابن هرمز : إثر ، بكسر الهمزة وسكون الثاء ، والجمهور بفتحهما.
وقرأ قتادة : من آثار السجود ، بالجمع.
{ ذلك } : أي ذلك الوصف من كونهم أشداء رحماء مبتغين سيماهم في وجوههم صفتهم في التوراة.
قال مجاهد والفراء : هو مثل واحد ، أي ذلك صفتهم في التوراة والإنجيل ، فيوقف على الإنجيل.
وقال ابن عباس : هما مثلان ، فيوقف على ذلك في التوراة؛ وكزرع : خبر مبتدأ محذوف ، أي مثلهم كزرع ، أو هم كزرع.
وقال الضحاك : المعنى ذلك الوصف هو مثلهم في التوراة وتم الكلام ، ثم ابتدأ ومثلهم في الإنجيل كزرع ، فعلى هذا يكون كزرع خبر ومثلهم.
وقال قتادة : مثل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قوم ينتبون نباتاً كالزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله : { كزرع أخرج شطأه } ، كقوله : { وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء } وقال ابن عطية : وقوله : كزرع ، هو على كلا الأقوال ، وفي أي كتاب أنزل ، فرض مثل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث وحده ، فكان كالزرع حبة واحدة ، ثم كثر المسلمون فهم كالشطء ، وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل. انتهى.
وقال ابن زيد : شطأه : فراخه وأولاده.
وقال الزجاج : نباته.
وقال قطرب : شتول السنبل يخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان ، قاله الفراء.
وقال الكسائي والأخفش : طرفه ، قال الشاعر :
أخرج الشطء على وجه الثرى . . .
ومن الأشجار أفنان الثمر
وقرأ الجمهور : شطأه ، بإسكان الطاء والهمزة؛ وابن كثير ، وابن ذكوان : بفتحهما؛ وكذلك : وبالمدّ ، أبو حيوة وابن أبي عبلة وعيسى الكوفي؛ وبألف بدل الهمزة ، زيد بن علي؛ فاحتمل أن يكون مقصوراً ، وأن يكون أصله الهمز ، فنقل الحركة وأبدل الهمزة ألفاً.
كما قالوا في المرأة والكمأة : المراة والكماة ، وهو تخفيف مقيس عند الكوفيين ، وهو عند البصريين شاذ لا يقاس عليه.
وقرأ أبو جعفر : شطه ، بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الطاء.
ورويت عن شيبة ، ونافع ، والجحدري ، وعن الجحدري أيضاً : شطوه بإسكان الطاء وواو بعدها.
وقال أبو الفتح : هي لغة أو بدل من الهمزة ، ولا يكون الشط إلا في البر والشعير ، وهذه كلها لغات.
وقال صاحب اللوامح : شطأ الزرع وأشطأ ، إذا أخرج فراخه ، وهو في الحنطة والشعير وغيرهما.
وقرأ ابن ذكوان : فأزره ثلاثياً؛ وباقي السبعة : فآزره ، على وزن أفعله.
وقرىء : فازّره ، بتشديد الزاي.
وقول مجاهد وغيره : آزره فاعله خطأ ، لأنه لم يسمع في مضارعه إلا يؤزر ، على وزن يكرم؛ والضمير المنصوب في آزره عائد على الزرع ، لأن الزرع أول ما يطلع رقيق الأصل ، فإذا خرجت فراخه غلظ أصله وتقوى ، وكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أقلة ضعفاء ، فلما كثروا وتقووا قاتلوا المشركين.

وقال الحسن : آزره : قواه وشدّ أزره.
وقال السدي : صار مثل الأصل في الطول.
{ فاستغلظ } : صار من الرقة إلى الغلظ.
{ فاستوى } : أي تم نباته.
{ على سوقه } : جمع ساق ، كناية عن أصوله.
وقرأ ابن كثير : على سؤقه بالهمز.
قيل : وهي لغة ضعيفة يهمزون الواو الذي قبلها ضمة ، ومنه قول الشاعر :
أحب المؤقدين إليّ مؤسي . . .
{ يعجب الزراع } : جملة في موضع الحال؛ وإذا أعجب الزراع ، فهو أحرى أن يعجب غيرهم لأنه لا عيب فيه ، إذ قد أعجب العارفين بعيوب الزرع ، ولو كان معيباً لم يعجبهم ، وهنا تم المثل.
و { ليغيظ } : متعلق بمحذوف يدل عليه الكلام قبله تقديره : جعلهم الله بهذه الصفة { ليغيظ بهم الكفار }.
وقال الزمخشري : فإن قلت : ليغيظ بهم الكفار تعليل لماذا؟ قلت : لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوّة ، ويجوز أن يعلل به.
{ وعد الله الذين آمنوا } : لأن الكفار إذا سمعوا بما أعدّ لهم في الآخرة مع ما يعزهم به في الدنيا غاظهم ذلك.
ومعنى : { منهم } : للبيان ، كقوله تعالى : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } وقال ابن عطية : وقوله منهم ، لبيان الجنس وليست للتبعيض ، لأنه وعد مدح الجميع.
وقال ابن جرير : منهم يعني : من الشطء الذي أخرجه الزرع ، وهم الداخلون في الإسلام بعد الزرع إلى يوم القيامة ، فأعاد الضمير على معنى الشطء لا على لفظة.
والأجر العظيم : الجنة.
وذكر عند مالك بن أنس رجل ينتقص الصحابة ، فقرأ مالك هذه الآية وقال : من أصبح بين الناس في قلبه غيظ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد أصابته هذه الآية ، والله الموفق.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

هذه السورة مدنية.
ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة ، لأنه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم قال : { وعد الله الذين آمنوا وعلموا الصالحات } فربما صدر من المؤمن عامل الصالحات بعض شيء مما ينبغي أن ينهى عنه ، فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله }.
وكانت عادة العرب ، وهي إلى الآن الاشتراك في الآراء ، وأن يتكلم كل بما شاء ويفعل ما أحب ، فجرى من بعض من لم يتمرن على آداب الشريعة بعض ذلك.
قال قتادة : فربما قال قوم : ينبغي أن يكون كذا لو أنزل في كذا.
وقال الحسن : ذبح قوم ضحايا قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، وفعل قوم في بعض غزواته شيئاً بآرائهم ، فنزلت هذه الآية ناهية عن جميع ذلك.
فقال ابن عباس : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه.
وتقول العرب : تقدمت في كذا وكذا ، وقدمت فيه إذ قلت فيه.
وقرأ الجمهور : لا تقدموا ، فاحتمل أن يكون متعدياً ، وحذف مفعوله ليتناول كل ما يقع في النفس مما تقدم ، فلم يقصد لشيء معين ، بل النهي متعلق بنفس الفعل دون تعرض لمفعول معين ، كقولهم : فلان يعطي ويمنع.
واحتمل أن يكون لازماً بمعنى تقدم ، كما تقول : وجه بمعنى توجه ، ويكون المحذوف مما يوصل إليه بحرف ، أي لا تتقدّموا في شيء مّا من الأشياء ، أو بما يحبون.
ويعضد هذا الوجه قراءة ابن عباس وأبي حيوة والضحاك ويعقوب وابن مقسم.
لا تقدموا ، بفتح التاء والقاف والدال على اللزوم ، وحذفت التاء تخفيفاً ، إذ أصله لا تتقدموا.
وقرأ بعض المكيين : تقدموا بشد التاء ، أدغم تاء المضارعة في التاء بعدها ، كقراءة البزي.
وقرىء : لا تقدموا ، مضارع قدم ، بكسر الدال ، من القدوم ، أي لا تقدموا إلى أمر من أمور الدين قبل قدومها ، ولا تعجلوا عليها ، والمكان المسامت وجه الرجل قريباً منه.
قيل : فيه بين يدي المجلوس إليه توسعاً ، لما جاور الجهتين من اليمين واليسار ، وهي في قوله : { بين يدي الله } ، مجاز من مجاز التمثيل.
وفائدة تصوير الهجنة والشناعة فيها؛ نهوا عنه من الإقدام على أمر دون الاهتداء على أمثلة الكتاب والسنة؛ والمعنى : لا تقطعوا أمراً إلا بعدما يحكمان به ويأذنان فيه ، فتكونوا عاملين بالوحي المنزل ، أو مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا ، وعلى هذا مدار تفسير ابن عباس.
وقال مجاهد : لا تفتاتوا على الله شيئاً حتى يقصه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا النهي توطئة لما يأتي بعد من نهيهم عن رفع أصواتهم.
ولما نهى أمر بالتقوى ، لأن من التقوى اجتناب المنهي عنه.
{ إن الله سميع } لأقوالكم ، { عليم } بنياتكم وأفعالكم.

ثم ناداهم ثانياً ، تحريكاً لما يلقيه إليهم ، واستعباداً لما يتجدد من الأحكام ، وتطرية للإنصات.
ونزلت بسبب عادة الأعراب من الجفاء وعلو الصوت.
{ لا ترفعوا أصواتكم } : أي إذا نطق ونطقتم ، { ولا تجهروا بالقول } إذا كلمتموه ، لأن رتبة النبوة والرسالة يجب أن توقر وتجل ، ولا يكون الكلام مع الرسول صلى الله عليه وسلم كالكلام مع غيره.
ولما نزلت ، قال أبو بكر رضي الله عنه : لاأكلمك يا رسول الله إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله.
وعن عمر رضي الله عنه ، أنه كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم كأخي السرار ، لا يسمعه حتى يستفهمه.
وكان أبو بكر ، إذا قدم على الرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قوم أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ، ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن الرفع والجهر إلا ما كان في طباعهم ، لا أنه مقصود بذلك الاستخفاف والاستعلاء ، لأنه كان يكون فعلهم ذلك كفراً ، والمخاطبون مؤمنون.
{ كجهر بعضكم لبعض } : أي في عدم المبالاة وقلة الاحترام ، فلم ينهوا إلا عن جهر مخصوص.
وكره العلماء رفع الصوت عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبحضرة العالم ، وفي المساجد.
وعن ابن عباس : " نزلت في ثابت بن قيس بن شماس ، وكان في أذنه وقر ، وكان جهير الصوت ، وحديثه في انقطاعه في بيته أياماً بسبب ذلك مشهور ، وأنه قال : يا رسول الله ، لما أنزلت ، خفت أن يحبط عملي ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنك من أهل الجنة».
وقال له مرة : «أما ترضى أن تعيش حميداً وتموت شهيداً»؟ فعاش كذلك ، ثم قتل باليمامة ، رضي الله تعالى عنه يوم مسيلمة " { أن تحبط أعمالكم } : إن كانت الآية معرضة بمن يجهر استخفافاً ، فذلك كفر يحبط معه العمل حقيقة؛ وإن كانت للمؤمن الذي يفعل ذلك غفلة وجرياً على عادته ، فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى الله عليه وسلم ، وغض الصوت عنده ، أن لو فعل ذلك ، كأنه قال : مخافة أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها.
وأن تحبط مفعول له ، والعامل فيه ولا تجهروا ، على مذهب البصريين في الاختيار ، ولا ترفعوا على مذهب الكوفيين في الاختيار ، ومع ذلك ، فمن حيث المعنى حبوط العمل علة في كل من الرفع والجهر.
وقرأ عبد الله وزيد بن علي : فتحبط بالفاء ، وهو مسبب عن ما قبله.
{ إن الذين يغضون أصواتهم } ، قيل : نزلت في أبي بكر وعمر ، رضي الله تعالى عنهما ، لما كان منهما من غض الصوت والبلوغ به أخا السرار.
{ امتحن الله قلوبهم للتقوى } : أي جربت ودربت للتقوى ، فهي مضطلعة بها ، أو وضع الامتحان موضع المعرفة ، لأن تحقيق الشيء باختباره ، أي عرف قلوبهم كائنة للتقوى في موضع الحال ، أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن لأجل التقوى ، أي لتثبت وتظهر تقواها.

وقيل : أخلصها للتقوى من قولهم : امتحن الذهب وفتنة إذا أذابه ، فخلص إبريزه من خبثه.
وجاءت في هذه الآية إن مؤكدة لمضمون الجملة ، وجعل خبرها جملة من اسم الإشارة الدال على التفخيم والمعرفة بعده ، جائياً بعد ذكر جزائهم على غض أصواتهم.
وكل هذا دليل على أن الارتضاء بما فعلوا من توقير النبي صلى الله عليه وسلم ، بغض أصواتهم ، وفيها تعريض بعظيم ما ارتكب رافعو أصواتهم واستجابهم ضد ما استوجبه هؤلاء.
{ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات } : نزلت في وفد بني تميم الأقرع بن حابس ، والزبرقان بن بدر ، وعمرو بن الأهتم وغيرهم.
وفدوا ودخلوا المسجد وقت الظهيرة ، والرسول صلى الله عليه وسلم راقد ، فجعلوا ينادونه بجملتهم : يا محمد ، أخرج إلينا.
فاستيقظ فخرج ، فقال له الأقرع بن حابس : يا محمد ، إن مدحي زين وذمي شين ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ويلك ذلك الله تعالى».
فاجتمع الناس في المسجد فقالوا : نحن بني تميم بخطيبنا وشاعرنا ، نشاعرك ونفاخرك؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما بالشعر بعثت ، ولا بالفخار أمرت ، ولكن هاتوا».
فقال الزبرقان لشاب منهم : فخروا ذكر فضل قومك ، فقال : الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه ، وآتانا أموالاً نفعل فيها ما نشاء ، فنحن من خير أهل الأرض ، من أكثرهم عدداً ومالاً وسلاحاً ، فمن أنكر علينا فليأت بقول هو أحسن من قولنا ، وفعل هو أحسن من فعلنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لثابت بن قيس بن شماس ، وكان خطيبه : «قم فأجبه» ، فقال : «الحمد لله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، دعا المهاجرين من بني عمه أحسن الناس وجوهاً وأعظمهم أحلاماً فأجابوه ، والحمد لله الذي جعلنا أنصار دينه ووزراء رسوله وعزاً لدينه ، فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا أله إلا الله ، فمن قالها منع نفسه وماله ، ومن أباها قتلناه وكان رغمه علينا هيناً ، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات».
وقال الزبرقان لشاب : قم فقل أبياتاً تذكر فيها فضل قومك ، فقال :
نحن الكرام فلا حي يعادلنا . . .
فينا الرؤوس وفينا يقسم الربع
ونطعم النفس عند القحط كلهم . . .
من السيف إذا لم يؤنس الفزع
إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد . . .
إنا كذلك عند الفخر نرتفع
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فدعا حسان بن ثابت ، فقال له : «أعدلي قولك فأسمعه» ، فأجابه :
إن الذوائب من فهر وإخوتهم . . .
قد شرعوا سنة للناس تتبع
يوصي بها كل من كانت سريرته . . .
تقوى الإله فكل الخير يطلع
ثم قال حسان في أبيات :
نصرنا رسول الله والدين عنوة . . .
على رغم غاب من معد وحاضر
بضرب كأنواع المخاض مشاشة . . .
وطعن كأفواه اللقاح المصادر
وسل أحداً يوم استقلت جموعهم . . .
بضرب لنا مثل الليوث الخوادر
ألسنا نخوض الموت في حومة الوغا . . .
إذا طاب ورد الموت بين العساكر
فنضرب هاماً بالذراعين ننتمي . . .
إلى حسب من جذع غسان زاهر
فلولا حياء الله قلنا تكرماً . . .
على الناس بالحقين هل من منافر
فأحياؤنا من خير من وطىء الحصا . . .
وأمواتنا من خير أهل المقابر

قال : فقام الأقرع بن حابس فقال : إني والله لقد جئت لأمر ، وقد قلت شعراً فاسمعه ، وقال :
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا . . .
إذا خالفونا عند ذكر المكارم
وإنا رؤوس الناس في كل غارة . . .
تكون بنجد أو بأرض التهائم
وإن لنا المرباع في كل معشر . . .
وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان : «قم فأجبه» ، فقام وقال :
بني درام لا تفخروا إن فخركم . . .
يصير وبالاً عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم . . .
لنا خول من بين ظئر وخادم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لقد كنت غنياً يا أخا دارم أن يذكر منك ما ظننت أن الناس قد لتنوه».
فكان قوله عليه الصلاة والسلام أشد عليهم من جميع ما قاله حسان ، ثم رجع حسان إلى شعره فقال :
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم . . .
وأموالكم أن تقسموا في المقاسم
فلا تجعلوا الله نداً وأسلموا . . .
ولا تفخروا عند النبي بدارم
وإلا ورب البيت قد مالت القنا . . .
على هامكم بالمرهفات الصوارم
فقال الأقرع بن حابس : والله ما أدري ما هذا الأمر ، تكلم خطيبنا ، فكان خطيبهم أحسن قولاً ، وتكلم شاعرنا ، فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولاً ، ثم دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما يضرك ما كان قبل هذا» ، ثم أعطاهم وكساهم.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أن المناداة من وراء الحجرات فيها رفع الصوت وإساءة الأدب ، والله قد أمر بتوقير رسوله وتعظيمه.
والوراء : الجهة التي يواريها عنك الشخص من خلف أو قدام ، ومن لابتداء الغاية ، وإن المناداة نشأت من ذلك المكان.
وقال الزمخشري : فإن قلت : أفرق بين الكلامين ، بين ما تثبت فيه وما تسقط عنه.
قلت : الفرق بينهما : أن المنادى والمنادي في أحدهما يجوز أن يجمعهما الوراء ، وفي الثاني لا يجوز ، لأن الوراء تصير بدخول من مبتدأ الغاية ، ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن يكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد.
والذي يقول : ناداني فلان من وراء الدار ، لا يريد وجه الدار ولا دبرها ، ولكن أي قطر من أقطارها ، كان مطلقاً بغير تعين ولا اختصاص.

انتهى.
وقد أثبت أصحابنا في معاني من أنها تكون لابتداء الغاية وانتهائها في فعل واحد ، وأن الشيء الواحد يكون محلاً لهما.
وتأولوا ذلك على سيبويه وقالوا من ذلك قولهم : أخذت الدرهم من زيد ، فزيد محل لابتداء الأخذ منه وانتهائه معاً.
قالوا : فمن تكون لابتداء الغاية فقط في أكثر المواضع ، وفي بعض المواضع لابتداء الغاية وانتهائها معاً.
وهذه المناداة التي أنكرت ، ليس إنكارها لكونها وقعت في إدبار الحجرات أو في وجوهها ، وإنما أنكر ذلك لأنهم نادوه من خارج ، مناداة الأجلاف التي ليس فيها توقير ، كما ينادي بعضهم بعضاً.
والحجرات : منازل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكانت تسعة.
والحجرة : الرفعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها.
وحظيرة الإبل تسمى حجرة ، وهي فعلة بمعنى مفعولة ، كالغرفة والقبضة.
وقرأ الجمهور : الحجرات ، بضم الجيم اتباعاً للضمة قبلها؛ وأبو جعفر ، وشيبة : بفتحها؛ وابن أبي عبلة : بإسكانها ، وهي لغى ثلاث ، في كل فعلة بشرطها المذكور في علم النحو.
والظاهر أن من صدر منه النداء كانوا جماعة.
وذكر الأصم أن من ناداه كان الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ، فإن صح ذلك ، كان الإسناد إلى الجماعة ، لأنهم راضون بذلك؛ وإذا كانوا جماعة ، احتمل أن يكونوا تفرقوا ، فنادى بعض من وراء هذه الحجرة ، وبعض من وراء هذه ، أو نادوه مجتمعين من وراء حجرة حجرة ، أو كانت الحجرة واحدة ، وهي التي كان فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وجمعت إجلالاً له؛ وانتفاء العقل عن أكثرهم دليل على أن فيهم عقلاً.
وقال الزمخشري : ويحتمل أن يكون الحكم بقلة العقلاء فيهم قصداً إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل ، فإن القلة تقع موقع النفي في كلامهم. انتهى.
وليس في الآية الحكم بقلة العقل منطوقاً به ، فيحتمل النفي ، وإنما هو مفهوم من قوله : { أكثرهم لا يعقلون }.
والنفي المحض المستفاد إنما هو من صريح لفظ التقليل ، لا من المفهوم ، فلا يحمل قوله : { ولكن أكثرهم لا يشكرون } النفي المحض للشكر ، لأن النفي لم يستفد من صريح التقليل.
وهذه الآية سجلت على الذين نادوه بالسفه والجهل.
وابتدأ أول السورة بتقديم الأمور التي تنتمي إلى الله تعالى ورسوله على الأمور كلها ، ثم على ما نهى عنه من التقديم بالنهي عن رفع الصوت والجهر ، فكان الأول بساطاً للثاني ، ثم يلي بما هو ثناء على الذين امتنعوا من ذلك ، فغضوا أصواتهم دلالة على عظم موقعه عند الله تعالى.
ثم جيء على عقبه بما هو أفظع ، وهو الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم في حال خلوته ببعض حرمه من وراء الجدار ، كما يصاح بأهون الناس ، ليلبيه على فظاعة ما جسروا عليه ، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول ، كان صنيع هؤلاء معه من المنكر المتفاحش.

ومن هذا وأمثاله تقتبس محاسن الآداب.
كما يحكى عن أبي عبيد ومحله من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى أنه قال : ما دققت باباً على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه.
{ ولو أنهم صبرو حتى تخرج إليهم } ، قال الزمخشري : { أنهم صبروا } في موضع الرفع على الفاعلية ، لأن المعنى : ولو ثبت صبرهم.
انتهى ، وهذا ليس مذهب سيبويه ، أن أن وما بعدها بعد لو في موضع مبتدأ ، لا في موضع فاعل.
ومذهب المبرد أنها في موضع فاعل بفعل محذوف ، كما زعم الزمخشري.
واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من صبروا ، أي لكان هو ، أي صبرهم خيراً لهم.
وقال الزمخشري : في كان ، إما ضمير فاعل الفعل المضمر بعد لو.
انتهى ، لأنه قدر أن وما بعدها فاعل بفعل مضمر ، فأعاد الضمير على ذلك الفاعل ، وهو الصبر المنسبك من أن ومعمولها خيراً لهم في الثواب عند الله ، وفي انبساط نفس الرسول صلى الله عليه وسلم وقضائه لحوائجهم.
وقد قيل : إنهم جاءوا في أسارى ، فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم النصف وفادى على النصف ، ولو صبروا لأعتق الجميع بغير فداء.
وقيل : لكان صبرهم أحسن لأدبهم.
{ والله غفور رحيم } ، لن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا.
{ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة } الآية ، حدث الحرث بن ضرار قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاني إلى الإسلام ، فأسلمت ، وإلى الزكاة فأقررت بها ، فقلت : أرجع إلى قومي وأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة ، فمن أجابني جمعت زكاته ، فترسل من يأتيك بما جمعت.
فلما جمع ممن استجاب له ، وبلغ الوقت الذي أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه ، واحتبس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لسروات قومه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لي وقتاً إلى من يقبض الزكاة ، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف ، ولا أرى حبس الرسول إلا من سخطه.
فانطلقوا بها إليه ، وكان عليه السلام البعث بعث الوليد بن الحارث ، ففرق ، فرجع فقال : منعني الحارث الزكاة وأراد قتلي ، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحارث ، فاستقبل الحارث البعث وقد فصل من المدينة ، فقالوا : هذا الحارث ، إلى من بعثتم؟ قالوا : إليك قال : ولم؟ فقالوا : بعث إليك الوليد ، فرجع وزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله ، قال : لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيت رسولك ، ولا أتاني ، وما أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسولك خشية أن يكون سخطة من الله ورسوله ، قال : فنزلت هذه الآية.
وفاسق وبنبأ مطلقان ، فيتناول اللفظ كل واحد على جهة البدل ، وتقدم قراءة فتبينوا وفتثبتوا في سورة النساء ، وهو أمر يقتضي أن لا يعتمد على كلام الفاسق ، ولا يبنى عليه حكم.

وجاء الشرط بحرف إن المقتضي للتعليق في الممكن ، لا بالحرف المقتضي للتحقيق ، وهو إذا ، لأن مجيء الرجل الفاسق للرسول وأصحابه بالكذب ، إنما كان على سبيل الندرة.
وأمروا بالتثبت عند مجيئه لئلا يطمع في قبول ما يلقيه إليهم ، ونبا ما يترتب على كلامه.
فإذا كانوا بمثابة التبين والتثبت ، كف عن مجيئهم بما يريد.
{ أن تصيبوا } : مفعول له ، أي كراهة أن يصيبوا ، أو لئلا تصيبوا ، { بجهالة } حال ، أي جاهلين بحقيقة الأمر معتمدين على خبر الفاسق ، { فتصبحوا } : فتصيروا ، { على ما فعلتم } : من إصابة القوم بعقوبة بناء على خبر الفاسق ، { نادمين } : مقيمين على فرط منكم ، متمنين أنه لم يقع.
ومفهوم { إن جاءكم فاسق } : قبول كلام غير الفاسق ، وأنه لا يتثبت عنده ، وقد يستدل به على قبول خبر الواحد العدل.
وقال قتادة : لما نزلت هذه الآية ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « التثبت من الله والعجلة من الشيطان » وقال مقلد بن سعيد : هذه الآية ترد علي من قال : إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة ، لأن الله تعالى أمر بالتبين قبل القبول. انتهى.
وليس كما ذكر ، لأنه ما أمر بالتبيين إلا عند مجيء الفاسق ، لا مجيء المسلم ، بل بشرط الفسق.
والمجهول الحال يحتمل أن يكون فاسقاً ، فالاحتياط لازم.
{ واعلموا أن فيكم رسول الله } : هذا توبيخ لمن يكذب للرسول عليه الصلاة والسلام ، ووعيد بالنصيحة.
ولا يصدر ذلك إلا ممن هو شاك في الرسالة ، لأن الله تعالى لا يترك نبيه صلى الله عليه وسلم يعتمد على خبر الفاسق ، بل بين له ذلك.
والظاهر أن قوله : { واعلموا أن فيكم رسول الله } كلام تام ، أمرهم بأن يعلموا أن الذي هو بين ظهرانيكم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا تخبروه بما لا يصح ، فإنه رسول الله يطلعه على ذلك.
ثم أخبر تعالى أن رسوله صلى الله عليه وسلم لو أطاعكم في كثير من الأمر الذي يؤدي إليه اجتهادكم وتقدمكم بين يديه { لعنتم } : أي لشق عليكم.
وقال مقاتل : لأتمتم.
وقال الزمخشري : والجملة المصدرة بلو لا تكون كلاماً مستأنفاً لأدائه إلى تنافر النظم ، ولكن متصلاً بما قبله حالاً من أحد الضميرين في فيكم المستتر المرفوع ، أو البارز المجرور ، وكلاهما مذهب سديد ، والمعنى : أن فيكم رسول الله ، وأنتم على حالة يجب عليكم تغييرها ، وهو أنكم تحاولون منه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعن لكم من رأي واستصواب فعل المطواع لغيره ، والتابع له فيما يرتئيه المحتذي على أمثلته ، ولو فعل ذلك { لعنتم } : أي لوقعتم في الجهد والهلاك.
وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق ، وتصديق قول الوليد ، وأن نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط منهم ، وأن بعضهم كانوا يتصونون ، ويزعهم جدهم في التقوى عن الجسارة على ذلك ، وهم الذين استثناهم بقوله : { ولكن الله حبب أليكم الإيمان } : أي إلى بعضكم ، ولكنه أغنت عن ذكر البعض صفتهم المفارقة لصفة غيرهم ، وهذا من إيجازات القرآن ولمحاته اللطيفة التي لا يفطن إليها إلا الخواص.

وعن بعض المفسرين : هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى.
انتهى ، وفيه تكثير.
ولا بعد أن تكون الجملة المصدرة بلو مستأنفة لا حالاً ، فلا تعلق لها بما قبلها من جهة الإعراب.
وتقديم خبر أن على اسمها قصد إلى توبيخ بعض المؤمنين على ما استهجن من استتباعهم رأي الرسول صلى الله عليه وسلم لآرائهم ، فوجب تقديمه لانصباب الغرض إليه.
وقيل : يطيعكم دون أطاعكم ، للدلالة على أنه كان في إرادتهم استمرار عملهم على ما يستصوبونه ، وأنه كلما عنّ لهم رأي في أمر كان معمولاً عليه بدليل قوله في كثير من الأمر ، وشريطة لكن مفقودة من مخالفة ما بعدها لما قبلها من حيث اللفظ ، حاصلة من حيث المعنى ، لأن الذين حبب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة المتقدم ذكرهم فوقعت لكن في حاق موقعها من الاستدراك.
انتهى ، وهو ملتقط من كلام الزمخشري.
وقال الزمخشري أيضاً : ومعنى تحبيب الله وتكريهه اللطف والإمداد بالتوفيق وسبيله الكناية ، كما سبق وكل ذي لب ، وراجع إلى بصيرة وذهن لا يغبا عليه أن الرجل لا يمدح بفعل غيره.
وحمل الآية على ظاهرها يؤدي إلى أن يثني عليهم بفعل الله ، وقد نفى الله هذا عن الذين أنزل فيهم ، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
انتهى ، وهي على طريق الاعتزال.
وعن الحسن : حبب الإيمان بما وصف من الثناء عليه ، وكره الثلاثة بما وصف من العقاب. انتهى.
{ أولئك هم الراشدون } : التفات من الخطاب إلى الغيبة.
{ فضلاً من الله ونعمة } ، قال ابن عطية : مصدر مؤكد لنفسه ، لأن ما قبله هو بمعناه ، هذ التحبيب والتزيين هو نفس الفضل.
وقال الحوفي : فضلاً نصب على الحال.
انتهى ، ولا يظهر هذا الذي قاله.
وقال أبو البقاء : مفعول له ، أو مصدر في معنى ما تقدم.
وقال الزمخشري : فضلاً مفعول له ، أو مصدر من غير فعله.
فإن قلت : من أين جاز وقوعه مفعولاً له ، والرشد فعل القوم ، والفضل فعل الله تعالى ، والشرط أن يتحد الفاعل؟ قلت : لما وقع الرشد عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه مسندة إلى اسمه ، تقدست أسماؤه ، وصار الرشد كأنه فعله ، فجاز أن ينتصب عنه ولا ينتصب عن الراشدون ، ولكن عن الفعل المسند إلى اسم الله تعالى.
والجملة التي هي { أولئك هم الراشدون } اعتراض ، أو عن فعل مقدر ، كأنه قيل : جرى ذلك ، أو كان ذلك فضلاً من الله.
وأما كونه مصدراً من غير فعله ، فأن يوضع موضع رشداً ، لأن رشدهم فضل من الله لكونهم موفقين فيه ، والفضل والنعمة بمعنى الأفضال والأنعام.
{ والله عليم } بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل ، { حكيم } حين يفضل وينعم بالتوفيق على أفاضلهم. انتهى.
أما توجيهه كون فضلاً مفعولاً من أجله ، فهو على طريق الاعتزال.
وأما تقديره أو كان ذلك فضلاً ، فليس من مواضع إضمار كان ، ولذلك شرط مذكور في النحو.

وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)

سبب نزولها ما جرى بين الأوس والخزرج حين أساء الأدب عبد الله بن أبيّ بن سلول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في موضعه ، وتعصب بعضهم لعبد الله ، ورد عبد الله بن رواحة على ابن أبي ، فتجالد الحيان ، قيل : بالحديد ، وقيل : بالجريد والنعال والأيدي ، فنزلت ، فقرأها عليهم ، فاصطلحوا.
وقال السدّي : وكانت بالمدينة امرأة من الأنصار يقال لها أم بدر ، وكان لها زوج من غيرهم ، فوقع بينهم شيء أوجب أن يأنف لها قومها وله قومه ، فوقع قتال ، فنزلت الآية بسببه.
وقرأ الجمهور : { اقتتلوا } جمعاً ، حملاً على المعنى ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس.
وقرأ ابن أبي عبلة : اقتتلتا ، على لفظ التثنية؛ وزيد بن عليّ ، وعبيد بن عمير : اقتتلتا على التثنية ، مراعى بالطائفتين.
الفريقان اقتتلوا ، وكل واحد من الطائفتين باغ؛ فالواجب السعي بينهما بالصلح ، فإن لم تصطلحا وأقامتا على البغي قوتلتا ، أو لشبهة دخلت عليهما ، وكل منهما يعتقد أنه على الحق؛ فالواجب إزالة الشبه بالحجج النيرة والبراهين القاطعة ، فإن لجا ، فكالباغيتين؛ { فإن بغت إحداهما } ، فالواجب أن تقاتل حتى تكف عن البغي.
ولم تتعرض الآية من أحكام التي تبغي لشيء إلا لقتالها ، وإلى الإصلاح إن فاءت.
والبغي هنا : طلب العلو بغير الحق ، والأمر في فأصلحوا وقاتلوا هو لمن له الأمر من الملوك وولاتهم.
وقرأ الجمهور : { حتى تفيء } ، مضارع فاء بفتح الهمزة؛ والزهري : حتى تفي ، بغير همزة وفتح الياء ، وهذا شاذ ، كما قالوا في مضارع جاء يجي بغير همز ، فإذا أدخلوا الناصب فتحوا الياء أجروه مجرى يفي مضارع وفي شذوذاً.
{ إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } : أي إخوة في الدين.
وفي الحديث : « المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله » وقرأ الجمهور : { بين أخويكم } مثنى ، لأن أقل من يقع بينهم الشقاق إثنان ، فإذا كان الإصلاح لازماً بين اثنين ، فهو ألزم بين أكثر من اثنين.
وقيل : المراد بالأخوين : الأوس والخزرج.
وقرأ زيد بن ثابت ، وابن مسعود ، والحسن : بخلاف عنه؛ والجحدري ، وثابت البناني ، وحماد بن سلمة ، وابن سيرين : بين إخوانكم جمعاً ، بالألف والنون ، والحسن أيضاً ، وابن عامر في رواية ، وزيد بن عليّ ، ويعقوب : بين إخوتكم جمعاً ، على وزن غلمة.
وروى عبد الوهاب عن أبي عمرو القراءات الثلاث ، ويغلب الأخوان في الصداقة ، والإخوة في النسب ، وقد يستعمل كل منهما مكان الآخر ، ومنه { إنما المؤمنون إخوة } ، وقوله : { أو بيوت إخوانكم } { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم } : هذه الآية والتي بعدها تأديب للأمّة ، لما كان فيه أهل الجاهلية من هذه الأوصاف الذميمة التي وقع النهي عنها.
وقيل : نزلت بسبب عكرمة بن أبي جهل ، كان يمشي بالنميمة ، وقد أسلم ، فقال له قوم : هذا ابن فرعون هذه الأمة ، فعز ذلك عليه وشكاهم ، فنزلت.

وقوم مرادف رجال ، كما قال تعالى : { الرجال قوّامون على النساء } ولذلك قابله هنا بقوله : { ولا نساء من نساء } ، وفي قول زهير :
وما أدري وسوف إخال أدري . . .
أقوم آل حصن أم نساء
وقال الزمخشري : وهو في الأصل جمع قائم ، كصوم وزور في جميع صائم وزائر.
انتهى وليس فعل من أبنية الجموع إلا على مذهب أبي الحسن في قوله : إن ركبا جمع راكب.
وقال أيضاً الزمخشري : وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد : هم الذكور والإناث ، فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين ، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث ، لأنهن توابع لرجالهن. انتهى.
وغيره يجعله من باب التغليب والنهي ، ليس مختصاً بانصبابه على قوم ونساء بقيد الجمعية من حيث المعنى ، وإن كان ظاهر اللفظ ذلك ، بل المعنى : لا يسخر أحد من أحد ، وإنما ذكر الجمع ، والمراد به كل فرد فرد ممن يتناوله عموم البدل.
فكأنه إذا سخر الواحد ، كان بمجلسه ناس يضحكون على قوله ، أو بلغت سخريته ناساً فضحكوا ، فينقلب الحال إلى جماعة.
{ عسى أن يكونوا } : أي المسخور منهم ، { خيراً منهم } : أي من الساخرين بهم.
وهذه الجملة مستأنفة ، وردت مورد جواب المستخبر عن العلة الموجبة لما جاء النهي عنه ، أي ربما يكون المسخور منه عند الله خيراً من الساخر ، لأن العلم بخفيات الأمور إنما هو لله تعالى.
وعن ابن مسعود : لو سخرت من كلب ، خشيت أن أحول كلباً.
{ ولا نساء من نساء } : روي أن عائشة وحفصة ، رضي الله تعالى عنهما ، رأتا أم سلمة ربطت حقويها بثوب أبيض وسدلت طرفه خلفها ، فقالت عائشة لحفصة : انظري إلى ما يجر خلفها ، كأنه لسان كلب.
وعن عائشة ، أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية ، وكانت قصيرة.
وعن أنس : كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم يعيرن أم سلمة بالقصر.
وقالت صفية لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين ، فقال لها : هلا قلت إن أبي هارون ، وإن عمي موسى ، وإن زوجي محمد؟ وقرأ عبد الله وأبي : عسوا أن يكونوا ، وعسين أن يكن ، فعسى ناقصة ، والجمهور : عسى فيهما تامّة ، وهي لغتان : الإضمار لغة تميم ، وتركه لغة الحجاز.
{ ولا تلمزوا أنفسكم } : ضم الميم في تلمزوا ، الحسن والأعرج وعبيد عن أبي عمرو.
وقال أبو عمرو : هي عربية؛ والجمهور؛ بالكسر ، واللمز بالقول والإشارة ونحوه مما يفهمه آخر ، والهمز لا يكون إلا باللسان ، والمعنى : لا يعب بعضكم بعضاً ، كما قال : فاقتلوا أنفسكم ، كأن المؤمنين نفس واحدة ، إذ هم إخوة كالبنيان يشد بعضه بعضاً ، وكالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالسهر والحمى.
ومفهوم أنفسكم أن له أن يعيب غيره ، مما لا يدين بدينه.

ففي الحديث : " اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس " وقيل : المعنى لا تفعلوا ما تلمزون به ، لأن من فعل ما استحق اللمز ، فقد لمز نفسه.
{ ولا تنابزوا بالألقاب } : اللقب إن دل على ما يكرهه المدعو به ، كان منهياً ، وأما إذا كان حسناً ، فلا ينهى عنه.
وما زالت الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير.
وروي أن بني سلمة كانوا قد كثرت فيهم الألقاب ، فنزلت الآية بسبب ذلك.
وفي الحديث : " كنوا أولادكم " قال عطاء : مخافة الألقاب.
وعن عمر : «أشيعوا الكنى فإنها سنة».
انتهى ، ولا سيما إذا كانت الكنية غريبة ، لا يكاد يشترك فيها أحد مع من تكنى بها في عصره ، فإنه يطير بها ذكره في الآفاق ، وتتهادى أخباره الرفاق ، كما جرى في كنيتي بأبي حيان ، واسمي محمد.
فلو كانت كنيتي أبا عبد الله أو أبا بكر ، مما يقع فيه الاشتراك ، لم أشتهر تلك الشهرة ، وأهل بلادنا جزيرة الأندلس كثيراً ما يلقبون الألقاب ، حتى قال فيهم أبو مروان الطنبي :
يا أهل أندلس ما عندكم أدب . . .
بالمشرق الأدب النفاخ بالطيب
يدعى الشباب شيوخاً في مجالسهم . . .
والشيخ عندكم يدعى بتلقيب
فمن علماء بلادنا وصالحيهم من يدعى الواعي وباللص وبوجه نافخ ، وكل هذا يحرم تعاطيه.
قيل : وليس من هذا قول المحدثين سليمان الأعمش وواصل الأحدب ونحوه مما تدعو الضرورة إليه ، وليس فيه قصد استخفاف ولا أذى.
قالوا : وقد قال ابن مسعود لعلقمة : وتقول أنت ذلك يا أعور.
وقال ابن زيد : أي لا يقول أحد لأحد يا يهودي بعد إسلامه ، ولا يا فاسق بعد توبته ، ونحو ذلك.
وتلاحى ابن أبي حدرد وكعب بن مالك ، فقال له مالك : يا أعرابي ، يريد أن يبعده من الهجرة ، فقال له الآخر : يا يهودي ، يريد المخاطبة لليهود في يثرب.
{ بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } : أي بئس اسم تنسبونه بعصيانكم نبزكم بالألقاب ، فتكونون فساقاً بالمعصية بعد إيمانكم ، أو بئس ما يقوله الرجل لأخيه يا فاسق بعد إيمانه.
وقال الرماني : هذه الآية تدل على أنه لا يجتمع الفسوق والإيمان. انتهى.
وقال الزمخشري : نحو قول الرماني ، قال : استقباح الجمع بعد الإيمان ، والفسق الذي يأباه الإيمان ، وهذه نزغة اعتزالية.
وقال الزمخشري : الاسم ههنا بمعنى الذكر من قولهم : طار اسمه في الناس بالكرم أو باللوم ، كما يقال : طار ثناؤه وصيته وحقيقة ما سمي من ذكره وارتفع بين الناس ، كأنه قيل : بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن تذكروا بالفسق.
{ ومن لم يتب } : أي عن هذه الأشياء { فأولئك هم الظالمون } : تشديد وحكم بظلم من لم يتب.
{ اجتنبوا كثيراً من الظن } : أي لا تعملوا على حسبه ، وأمر تعالى باجتنابه ، لئلا يجترىء أحد على ظن إلا بعد نظر وتأمل وتمييز بين حقه وباطله.

والمأمور باجتنابه هو بعض الظن المحكوم عليه بأنه إثم ، وتمييز المجتنب من غيره أنه لا يعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر ، كمن يتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث ، كالدخول والخروج إلى حانات الخمر ، وصحبة نساء المغاني ، وإدمان النظر إلى المرد.
فمثل هذا يقوي الظن فيه أنه ليس من أهل الصلاح ، ولا إثم فيه ، وإن كنا لا نراه يشرب الخمر ، ولا يزني ، ولا يعبث بالشبان ، بخلاف من ظاهره الصلاح فلا يظن به السوء.
فهذا هو المنهي عنه ، ويجب أن يزيله.
والإثم : الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب.
وقال الزمخشري : والهمزة فيه بدل عن الواو ، كأنه يثم الأعمال ، أي يكسرها بإحباطه ، وهذا ليس بشيء ، لأن تصريف هذه الكلمة مستعمل فيه الهمز.
تقول : أثم يأثم فهو آثم ، والإثم والآثام ، فالهمزة أصل وليست بدلاً عن واو.
وأما يثم فأصله يوثم ، وهو من مادة أخرى.
وقيل : الاثم متعلق بتكلم الظان.
أما إذا لم يتكلم ، فهو في فسحة ، لأنه لا يقدر على رفع الخواطر التي يبيحها قول النبي صلى الله عليه وسلم : " الحزم سوء الظن " وقرأ الجمهور : ولا تجسسوا بالجيم.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين بالحاء وهما متقاربان ، نهى عن تتبع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عما ستروه.
وقيل لابن مسعود : هل لك في فلان تقطر لحيته خمراً؟ فقال : إنا قد نهينا عن التجسس ، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به.
وفي الحديث : " أن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم " ، وقد وقع عمر رضي الله تعالى عنه في حراسته على من كان في ظاهره ريبة ، وكان دخل عليه هجماً ، فلما ذكر له نهي الله تعالى عن التجسس ، انصرف عمر.
{ ولا يغتب بعضكم بعضاً } ، يقال : غابه واغتابه ، كغاله واغتاله؛ والغيبة من الاغتياب ، كالغيلة من الاغتيال ، وهي ذكر الرجل بما يكره مما هو فيه.
وفي الحديث : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الغيبة فقال : أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع ، فقال : يا رسول الله وإن كان حقاً؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا قلت باطلاً فذلك البهتان " ، وفي الصحيحين فقد بهته.
وقال ابن عباس : الغيبة أدام كلاب الناس.
" وقالت عائشة عن امرأة : ما رأيت أجمل منها ، إلا أنها قصيرة.
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «اغتبتيها ، نظرت إلى أسوأ ما فيها فذكرتيه " وحكى الزهراوي عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الغيبة أشد من الزنا ، لأن الزاني يتوب الله عليه ، والذي يغتاب فلا يتاب عليه حتى يستحل ، وعرض المسلم مثل دمه في التحريم "

وفي الحديث المستفيض : « فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم » ولا يباح من هذا المعنى إلا ما تدعو الضرورة إليه ، من تجريح الشهود والرواة ، والخطاب إذا استنصح من يخطب إليه من يعرفهم ، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم ، ومنه :
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم . . .
{ أيحب أحدكم } ، قال الزمخشري : تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه ، وفيه مبالغات شتى ، منها : الاستفهام الذي معناه التقرير ، ومنها : جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة ، ومنها : إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك ، ومنها : أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخاً ، ومنها : أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتاً. انتهى.
وقال الرماني : كراهية هذا اللحم يدعو إليه الطبع ، وكراهية الغيبة يدعو إليها العقل ، وهو أحق أن يجاب ، لأنه بصير عالم ، والطبع أعمى جاهل. انتهى.
وقال أبو زيد السهيلي : ضرب المثل لأخذه العرض يأكل اللحم ، لأن اللحم ستر على العظم ، والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه من ستر.
وقال تعالى : { ميتاً } ، لأن الميت لا يحس ، وكذلك الغائب لا يسمع ما يقول فيه المغتاب ، ثم هو في التحريم كآكل لحم الميت. انتهى.
وروي في الحديث : « ما صام من أكل لحوم الناس » وقال أبو قلابة الرياشي : سمعت أبا عاصم يقول : ما اغتبت أحداً منذ عرفت ما في الغيبة.
وقيل : لعمر بن عبيد : لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك ، قال : إياه فارحموا.
وقال رجل للحسن : بلغني أنك تغتابني ، قال : لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي.
وانتصب ميتاً على الحال من لحم ، وأجاز الزمخشري أن ينتصب عن الأخ ، وهو ضعيف ، لأن المجرور بالإضافة لا يجيء الحال منه إلا إذا كان له موضع من الإعراب ، نحو : أعجبني ركوب الفرس مسرجاً ، وقيام زيد مسرعاً.
فالفرس في موضع نصب ، وزيد في موضع رفع.
وقد أجاز بعض أصحابنا أنه إذا كان الأول جزأ أو كالجزء ، جاز انتصاب الحال من الثاني ، وقد رددنا عليه ذلك فيما كتبناه في علم النحو.
{ فكرهتموه } ، قال الفراء : أي فقد كرهتموه ، فلا تفعلون.
وقيل : لما وقفهم على التوبيخ بقوله : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً } ، فأجاب عن هذا : لأنهم في حكم من يقولها ، فخوطبوا على أنهم قالوا لا ، فقيل لهم : فكرهتموه ، وبعد هذا يقدر فلذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك.
وعلى هذا التقدير يعطف قوله : { واتقوا الله } ، قاله أبو علي الفارسي ، وفيه عجرفة العجم.
وقال الزمخشري : ولما قررهم عز وجل بأن أحداً منهم لا يحب أكل جيفة أخيه ، عقب ذلك بقوله : { فكرهتموه } ، أي فتحققت بوجوب الإقرار عليكم بأنكم لا تقدرون على دفعه وإنكاره لإباء البشرية عليكم أن تجحدوا كراهتكم له وتقذركم منه ، فليتحقق أيضاً أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة والطعن في أعراض المسلمين.

انتهى ، وفيه أيضاً عجرفة العجم.
والذي قدره الفراء أسهل وأقل تكلفاً ، وأجرى على قواعد العربية.
وقيل : لفظه خبر ، ومعناه الأمر ، تقديره : فاكرهوه ، ولذلك عطف عليه { واتقوا الله } ، ووضع الماضي موضع الأمر في لسان العرب كثير ، ومنه اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه ، أي ليتق الله ، ولذلك انجزم يثب على جواب الأمر.
وما أحسن ما جاء الترتيب في هذه الآية.
جاء الأمر أولاً باجتناب الطريق التي لا تؤدي إلى العلم ، وهو الظن؛ ثم نهى ثانياً عن طلب تحقق ذلك الظن ، فيصير علماً بقوله : { ولا تجسسوا } ؛ ثم نهى ثالثاً عن ذكر ذلك إذا علم ، فهذه أمور ثلاثة مترتبة ، ظنّ فعلم بالتجسس فاغتياب.
وضمير النصف في كرهتموه ، الظاهر أنه عائد على الأكل.
وقيل : على الميت.
وقرأ أبو سعيد الخدري ، وأبو حيوة : فكرّهتموه ، الظاهر أنه عائد على الأكل.
وقيل : على الميت.
وقرأ أبو سعيد الخدري ، وأبو حيوة : فكرّهتموه ، بضم الكاف وتشديد الراء؛ ورواها الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والجمهور : بفتح الكاف وتخفيف الراء ، وكره يتعدى إلى واحد ، فقياسه إذا ضعف أن يتعدى إلى اثنين ، كقراءة الخدري ومن معه ، أي جعلتم فكرهتموه.
فأما قوله : { وكره إليكم الكفر } فعلى التضمين بمعنى بغض ، وهو يتعدى لواحد ، وبإلى إلى آخر ، وبغض منقول بالتضعيف من بغض الشيء إلى زيد.
والظاهر عطف { واتقوا الله } على ما قبله من الأمر والنهي.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

قيل : غضب الحارث بن هشام وعتاب بن أسيد حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة ، فنزلت.
وعن ابن عباس ، سببها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح له عند النبي صلى الله عليه وسلم : يا ابن فلانة؛ فوبخه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له : «إنك لا تفضل أحداً إلا في الدين والتقوى».
ونزل الأمر بالتفسح في ذلك أيضاً.
{ من ذكر وأنثى } : أي من آدم وحواء ، أو كل أحد منكم من أب وأم ، فكل واحد منكم مساوٍ للآخر في ذلك الوجه ، فلا وجه للتفاخر.
{ وجعلناكم شعوباً وقبائل } : وتقدم الكلام على شيء من ذلك في المفرادت.
وقيل : الشعوب في العجم والقبائل في العرب ، والأسباط في بني إسرائيل.
وقيل : الشعوب : عرب اليمن من قحطان ، والقبائل : ربيعة ومضر وسائر عدنان.
وقال قتادة ، ومجاهد ، والضحاك : الشعب : النسب الأبعد ، والقبيلة : الأقرب ، قال الشاعر :
قبائل من شعوب ليس فيهم . . .
كريم قد يعدّ ولا نجيب
وقيل : الشعوب : الموالي ، والقبائل : العرب.
وقال أبو روق : الشعوب : الذين ينسبون إلى المدائن والقرى ، والقبائل : الذين ينسبون إلى آبائهم. انتهى.
وواحد الشعوب شعب ، بفتح الشين.
وشعب : بطن من همدان ينسب إليه عامر الشعبي من سادات التابعين ، والنسب إلى الشعوب شعوبية ، بفتح الشين ، وهم الأمم التي ليست بعرب.
وقيل : هم الذين يفضلون العجم على العرب ، وكان أبو عبيدة خارجياً شعوبياً ، وله كتاب في مناقب العرب ، ولابن غرسبة رسالة فصيحة في تفضيل العجم على العرب ، وقد رد عليه ذلك علماء الأندلس برسائل عديدة.
وقرأ الجمهور : { لتعارفوا } ، مضارع تعارف ، محذوف التاء؛ والأعمش : بتاءين؛ ومجاهد ، وابن كثير في رواية ، وابن محيصن : بإدغام التاء في التاء؛ وابن عباس ، وأبان عن عاصم : لتعرفوا ، مضارع عرف؛ والمعنى : أنكم جعلكم الله تعالى ما ذكر ، كي يعرف بعضكم بعضاً في النسب ، فلا ينتمي إلى غير آبائه ، لا التفاخر بالآباء والأجداد ، ودعوى التفاضل ، وهي التقوى.
وفي خطبته عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة : " إنما الناس رجلان ، مؤمن تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله " ، ثم قرأ الآية.
وعنه صلى الله عليه وسلم : " من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله " وما زال التفاخر بالأنساب في الجاهلية والإسلام ، وبالبلاد ، وبالبلاد وبالمذاهب وبالعلوم وبالصنائع ، وأكثره بالأنساب :
وأعجب شيء إلى عاقل . . .
فروع عن المجد مستأخره
إذا سئلوا ما لهم من علا . . .
أشاروا إلى أعظم ناخره
ومن ذلك : افتخار أولاد مشايخ الزوايا الصوفية بآبائهم ، واحترام الناس لهم بذلك وتعظيمهم لهم ، وإن كان الأولاد بخلاف الآباء في الدين والصلاح.
وقرأ الجمهور : إن ، بكسر الهمزة؛ وابن عباس : بفتحها ، وكان قرأ : لتعرفوا ، مضارع عرف ، فاحتمل أن تكون أن معمولة لتعرفوا ، وتكون اللام في لتعرفوا لام الأمر ، وهو أجود من حيث المعنى.

وأما إن كانت لام كي ، فلا يظهر المعنى أن جعلهم شعوباً وقبائل لأن تعرفوا أن الأكرم هو الأتقى.
فإن جعلت مفعول لتعرفوا محذوفاً ، أي لتعرفوا الحق ، لأن أكرمكم عند الله أتقاكم ، ساغ في لام لتعارفوا أن تكون لام كي.
{ قالت الأعراب آمنا } ، قال مجاهد : نزلت في بني أسد بن خزيمة ، قبيلة تجاور المدينة ، أظهروا الإسلام وقلوبهم دخلة ، إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا.
وقيل : مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار قالوا آمنا فاستحققنا الكرامة ، فردّ الله تعالى عليهم بقوله : { قل لم تؤمنوا } ، أكذبهم الله في دعوى الإيمان ، ولم يصرح بإكذابهم بلفظه ، بل بما دل عليه من انتفاء إيمانهم ، وهذا في أعراب مخصوصين.
فقد قال الله تعالى : { ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر } الآية.
{ ولكن قولوا أسلمنا } ، فهو اللفظ الصادق من أقوالكم ، وهو الاستسلام والانقياد ظاهراً ، ولم يواطىء أقوالكم ما في قلوبكم ، فلذلك قال : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } : وجاء النفي بلما الدالة على انتفاء الشيء إلى زمان الإخبار ، وتبين أن قوله : { لم تؤمنوا } لا يراد به انتفاء الإيمان في الزمن الماضي ، بل متصلاً بزمان الإخبار أيضاً ، لأنك إذا نفيت بلم ، جاز أن يكون النفي قد انقطع ، ولذلك يجوز أن تقول : لم يقم زيد وقد قام ، وجاز أن يكون النفي متصلاً بزمن الإخبار.
فإذا كان متصلاً بزمن الإخبار ، لم يجز أن تقول : وقد قام ، لتكاذب الخبرين.
وأما لما ، فإنها تدل على نفي الشيء متصلاً بزمان الإخبار ، ولذلك امتنع لما يقم زيد وقد قام للتكاذب.
والظاهر أن قوله : { لما يدخل الإيمان في قلوبكم } ليس له تعلق بما قبله من جهة الإعراب.
وقال الزمخشري : فإن قلت : هو بعد قوله : { قل لم تؤمنوا } يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجددة؛ قلت : ليس كذلك ، فإن فائدة قوله : { لم تؤمنوا } هو تكذيب دعواهم ، وقوله : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } توقيت لما أمروا به أن يقولوه ، كأنه قيل لهم : { ولكن قولوا أسلمنا } حين لم يثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم ، لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في قوله : { قولوا }. انتهى.
والذي يظهر أنهم أمروا أن يقولوا : { قولوا أسلمنا } غير مقيد بحال ، وأن { ولما يدخل الإيمان } إخبار غير قيد في قولهم.
وقال الزمخشري : وما في لما من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد.
انتهى ، ولا أدري من أي وجه يكون ما نفي بلما يقع بعد ولما ، إنما تنفي ما كان متصلاً بزمان الإخبار ، ولا تدل على ما ذكر ، وهي جواب لقد فعل ، وهب أن قد تدل على توقع الفعل.
فإذا نفي ما دل على التوقع ، فكيف يتوهم أنه يقع بعد : { وإن تطيعوا الله ورسوله } بالإيمان والأعمال؟ وهذا فتح لباب التوبة.

وقرأ الجمهور : { لا يلتكم } ، من لات يليت ، وهي لغة الحجاز.
والحسن والأعرج وأبو عمرو : ولا يألتكم ، من ألت ، وهي لغة غطفان وأسد.
{ ثم لم يرتابوا } ، ثم تقتضي التراخي ، وانتفاء الريبة يجب أن يقارن الإيمان ، فقيل : من ترتيب الكلام لا من ترتيب الزمان ، أي ثم أقول لم يرتابوا.
وقيل : قد يخلص الإيمان ، ثم يعترضه ما يثلم إخلاصه ، فنفي ذلك ، فحصل التراخي ، أو أريد انتفاء الريبة في الأزمان المتراخية المتطاولة ، فحاله في ذلك كحاله في الزمان الأول الذي آمن فيه.
{ أولئك هم الصادقون } : أي في قولهم آمنا ، حيث طابقت ألسنتهم عقائدهم ، وظهرت ثمرة ذلك عليهم بالجهاد بالنفس والمال.
وفي سبيل الله يشمل جميع الطاعات البدنية والمالية ، وليسوا كأعراب بني أسد في قولهم آمنا ، وهم كاذبون في ذلك.
{ قل أتعلمون الله بدينكم } ، هي منقولة من : علمت به ، أي شعرت به ، ولذلك تعدّت إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر لما ثقلت بالتضعيف ، وفي ذلك تجهيل لهم ، حيث ظنوا أن ذلك يخفى على الله تعالى.
ثم ذكر إحاطة علمه بما في السموات والأرض.
ويقال : منّ عليهم بيد أسداها إليه ، أي أنعم عليه.
المنة : النعمة التي لا يطلب لها ثواب ، ثم يقال : منّ عليه صنعه ، إذا اعتده عليه منة وإنعاماً ، أي يعتدون عليك أن أسلموا ، فإن أسلموا في موضع المفعول ، ولذلك تعدى إليه في قوله : { قل لا تمنوا عليّ إسلامكم }.
ويجوز أن يكون أسلموا مفعولاً من أجله ، أي يتفضلون عليك بإسلامهم.
{ أن هداكم للإيمان } بزعمكم ، وتعليق المن بهدايتهم بشرط الصدق يدل على أنهم ليسوا مؤمنين ، إذ قد بين تعالى كذبهم في قولهم آمنا بقوله : { قل لم تؤمنوا }.
وقرأ عبد الله وزيد بن عليّ ، إذ هداكم ، جعلا إذ مكان إن ، وكلاهما تعليل ، وجواب الشرط محذوف ، أي { إن كنتم صادقين } ، فهو المانّ عليكم.
وقرأ ابن كثير وأبان عن عاصم : يعلمون ، بياء الغيبة ، والجمهور : بتاء الخطاب.

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)

هذه السورة مكية ، قال ابن عطية : بإجماع من المتأولين.
وقال صاحب التحرير : قال ابن عباس ، وقتادة : مكية إلا آية ، وهي قوله تعالى : { ولقد خلقنا السموات والأرض } الآية.
ومناسبتها لآخر ما قبلها ، أنه تعالى أخبر أن أولئك الذين قالوا آمنا ، لم يكن إيمانهم حقاً ، وانتفاء إيمانهم دليل على إنكار نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال : { بل عجبوا أن جاءهم منذر }.
وعدم الإيمان أيضاً يدل على إنكار البعث ، فلذلك أعقبه به.
وق حرف هجاء ، وقد اختلف المفسرون في مدلوله على أحد عشر قولاً متعارضة ، لا دليل على صحة شيء منها ، فأطرحت نقلها في كتابي هذا.
{ والقرآن } مقسم به و { المجيد } صفته ، وهو الشريف على غيره من الكتب ، والجواب محذوف يدل عليه ما بعده ، وتقديره : أنك جئتهم منذراً بالبعث ، فلم يقبلوا.
{ بل عجبوا } ، وقيل : ما ردوا أمرك بحجة.
وقال الأخفش ، والمبرد ، والزجاج : تقديره لتبعثن.
وقيل : الجواب مذكور ، فعن الأخفش قد علمنا ما تنقص الأرض منهم؛ وعن ابن كيسان ، والأخفش : ما يلفظ من قول؛ وعن نحاة الكوفة : بل عجبوا ، والمعنى : لقد عجبوا.
وقيل : إن في ذلك لذكرى ، وهو اختيار محمد بن علي الترمذي.
وقيل : ما يبدل القول لديّ ، وهذه كلها أقوال ضعيفة.
وقرأ الجمهور : قاف بسكون الفاء ، ويفتحها عيسى ، ويكسرها الحسن وابن أبي إسحاق وأبو السمال؛ وبالضم : هارون وابن السميفع والحسن أيضاً؛ فيما نقل ابن خالويه.
والأصل في حروف المعجم ، إذا لم تركب مع عامل ، أن تكون موقوفة.
فمن فتح قاف ، عدل إلى الحركات؛ ومن كسر ، فعلى أصل التقاء الساكنين؛ ومن ضم ، فكما ضم قط ومنذ وحيث.
{ بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم } : إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب ، وهو أن ينذرهم بالخوف رجل منهم قد عرفوا صدقه وأمانته ونصحه ، فكان المناسب أن لا يعجبوا ، وهذا مع اعترافهم بقدرة الله تعالى ، فأي بعد في أن يبعث من يخوف وينذر بما يكون في المآكل من البعث والجزاء.
والضمير في { بل عجبوا } عائد على الكفار ، ويكون قوله : { فقال الكافرون } تنبيهاً على القلة الموجبة للعجب ، وهو أنهم قد جبلوا على الكفر ، فلذلك عجبوا.
وقيل : الضمير عائد على الناس ، قيل : لأن كل مفطور يعجب من بعثة بشر رسولاً من الله ، لكن من وفق نظر فاهتدى وآمن ، ومن خذل ضل وكفر؛ وحاج بذلك العجب والإشارة بقولهم : { هذا شيء عجيب } ، الظاهر أنها إلى مجيء منذر من البشر.
وقيل : إلى ما تضمنه الإنذار ، وهو الإخبار بالبعث.
وقال الزمخشري : وهذا إشارة إلى المرجع.
انتهى ، وفيه بعد.
وقرأ الجمهور : { أئذأ } بالاستفهام ، وهم على أصولهم في تحقيق الثانية وتسهيلها والفصل بينهما.
وقرأ الأعرج ، وشيبة ، وأبو جعفر ، وابن وثاب ، والأعمش ، وابن عتبة عن ابن عامر : إذا بهمزة واحدة على صورة الخبر ، فجاز أن يكون استفهاماً حذفت منه الهمزة ، وجاز أن يكونوا عدلوا إلى الخبر وأضمر جواب إذا ، أي إذا متنا وكنا تراباً رجعنا.

وأجاز صاحب اللوامح أن يكون الجواب رجع بعيد على تقدير حذف الفاء ، وقد أجاز بعضهم في جواب الشرط ذلك إذا كان جملة اسمية ، وقصره أصحابنا على الشعر في الضرورة.
وأما في قراءة الاستفهام ، فالظرف منصوب بمضمر ، أي : أنبعث إذا متنا؟ وإليه الإشارة بقوله ذلك ، أي البعث.
{ رجع بعيد } ، أي مستبعد في الأوهام والفكر.
وقال الزمخشري : وإذا منصوب بمضمر معناه : أحين نموت ونبلى نرجع؟ انتهى.
وأخذه من قول ابن جني ، قال ابن جني : ويحتمل أن يكون المعنى : أئذا متنا بعد رجعنا ، فدل رجع بعيد على هذا الفعل ، ويحل محل الجواب لقولهم أئذا.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون الرجع بمعنى المرجوع ، وهو الجواب ، ويكون من كلام الله تعالى استبعاداً لإنكارهم ما أنذروا به من البعث ، والوقف قبله على هذا التفسير حسن.
فإن قلت : فما ناصب الظرف إذا كان الرجع بمعنى المرجوع؟ قلت : ما دل عليه المنذر من المنذر به ، وهو البعث. انتهى.
وكون ذلك رجع بعيد بمعنى مرجوع ، وأنه من كلام الله تعالى ، لا من كلامهم ، على ما شرحه مفهوم عجيب ينبو عن إدراكه فهم العرب.
{ قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } : أي من لحومهم وعظامهم وآثارهم ، قاله ابن عباس ومجاهد والجمهور ، وهذا فيه رد لاستبعادهم الرجع ، لأن من كان عالماً بذلك ، كان قادراً على رجعهم.
وقال السدي : أي ما يحصل في بطن الأرض من موتاهم ، وهذا يتضمن الوعيد.
{ وعندنا كتاب حفيظ } : أي حافظ لما فيه جامع ، لا يفوت منه شيء ، أو محفوظ من البلى والتغير.
وقيل : هو عبارة عن العلم والإحصاء.
وفي الخبر الثابت أن الارض تأكل ابن آدم الأعجب الذنب ، وهو عظم كالخردلة منه يركب ابن آدم.
{ بل كذبوا بالحق لما جاءهم } : وقدروا قبل هذا الإضراب جملة يكون مضروباً عنها ، أي ما أجادوا والنظر ، بل كذبوا.
وقيل : لم يكذبوا المنذر ، بل كذبوا ، والغالب أن الإضراب يكون بعد جملة منفية.
وقال الزمخشري : بل كذبوا : إضراب أتبع الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم ، وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات. انتهى.
وكان هذا الإضراب الثاني بدلاً من الأول ، وكلاهما بعد ذلك الجواب الذي قدرناه جواباً للقسم ، فلا يكون قبل الثانية ما قدروه من قولهم : ما أجادوا النظر ، { بل كذبوا بالحق } ، والحق : القرآن ، أو البعث ، أو الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو الإسلام ، أقوال.
وقرأ الجمهور : { لما جاءهم } : أي لم يفكروا فيه ، بل بأول ما جاءهم كذبوا؛ والجحدري : لما جاءهم ، بكسر اللام وتخفيف الميم ، وما مصدرية ، واللام لام الجر ، كهي في قولهم كتبته لخمس خلون أي عند مجيئهم إياه.

{ فهم في أمر مريج } ، قال الضحاك ، وابن زيد : مختلط : مرة ساحر ، ومرة شاعر ، ومرة كاهن.
قال قتادة : مختلف.
وقال الحسن : ملتبس.
وقال أبو هريرة : فاسد.
ومرجت أمانات الناس : فسدت ، ومرج الدين : اختلط.
قال أبو واقد :
ومرج الدين فأعددت له . . .
مسرف الحارك محبوك الكند
وقال ابن عباس : المريج : الأمر المنكر ، وعنه أيضاً مختلط ، وقال الشاعر :
فجالت والتمست لها حشاها . . .
فخر كأنه خوط مريج
والأصل فيه الاضطراب والقلق.
مرج الخاتم في أصبعي ، إذا قلق من الهزال.
ويجوز أن يكون الأمر المريج ، باعتبار انتقال أفكارهم فيما جاء به المنذر قائلاً عدم قبولهم أول إنذاره إياهم ، ثم العجب منهم ، ثم استعباد البعث الذي أنذر به ، ثم التكذيب لما جاء به.
{ أفلم ينظروا } حين كفروا بالبعث وبما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إلى آثار قدرة الله تعالى في العالم العلوي والسفلي ، { كيف بنيناها } مرتفعة من غير عمد ، { وزيناها } بالنيرين وبالنجوم ، { وما لها من فروج } : أي من فتوق وسقوف ، بل هي سليمة من كل خلل.
{ والأرض مددناها } : بسطناها ، { وألقينا فيها رواسي } ، أي جبالاً ثوابت تمنعها من التكفؤ ، { من كل زوج } : أي نوع ، { بهيج } : أي حسن المنظر بهيج ، أي يسر من نظر إليه.
وقرأ الجمهور : { تبصرة وذكرى } بالنصب ، وهما منصوبان بفعل مضمر من لفظهما ، أي بصر وذكر.
وقيل : مفعول من أجله.
وقرأ زيد بن علي : تبصرة بالرفع ، وذكر معطوف عليه ، أي ذلك الخلق على ذلك الوصف تبصرة ، والمعنى : يتبصر بذلك ويتذكر ، { كل عبد منيب } : أي راجع إلى ربه مفكر في بدائع صنعه.
{ ماء مباركاً } : أي كثير المنفعة ، { وحب الحصيد } : أي الحب الحصيد ، فهو من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، كما يقوله البصريون ، والحصيد : كل ما يحصد مما له حب ، كالبر والشعير.
{ باسقات } : أي طوالاً في العلو ، وهو منصوب على الحال ، وهي حال مقدرة ، لأنها حالة الإنبات ، لم تكن طوالاً.
وباسقات جمع.
{ والنخل } اسم جنس ، فيجوز أن يذكر ، نحو قوله : { نخل منقعر } وأن يؤنث نحو قوله تعالى : { نخل خاوية } وأن يجمع باعتبار إفراده ، ومنه باسقات ، وقوله : { وينشىء السحاب الثقال } والجمهور : باسقات بالسين.
وروى قطبة بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قرأ : باصقات بالصاد ، وهي لغة لبني العنبر ، يبدلون من السين صاداً إذا وليتها ، أو فصل بحرف أو حرفين ، خاء أو عين أو قاف أو طاء.
{ لها طلع } : تقدم شرحه عند { من طلعها قنوان دانية } { نضيد } : أي منضود بعضه فوق بعض ، بريد كثرة الطلع وتراكمه ، أي كثرة ما فيه من الثمر.
وأول ظهور الثمر في الكفرى هو أبيض ينضد كحب الرمان ، فما دام ملتصقاً بعضه ببعض فهو نضيد ، فإذا خرج من الكفرى تفرق فليس بنضيد.

و { رزقاً } نصب على المصدر ، لأن معنى : وأنبتنا رزقنا ، أو على أنه مفعول له.
وقرأ الجمهور : { ميتاً } بالتخفيف؛ وأبو جعفر ، وخالد : بالتثقيل ، والإشارة في ذلك إلى الإحياء ، أي الخروج من الأرض أحياء بعد موتكم ، مثل ذلك الحياة للبلدة الميت ، وهذه كلها أمثلة وأدلة على البعث.
وذكر تعالى في السماء ثلاثة : البناء والتزين ونفي الفروج ، وفي الأرض ثلاثة : المد وإلقاء الرواسي والإنبات.
قابل المد بالبناء ، لأن المد وضع والبناء رفع.
وإلقاء الرواسي بالتزيين بالكواكب ، لارتكاز كل واحد منهما.
والإنبات المترتب على الشق بانتفاء الفروج ، فلا شق فيها.
ونبه فيما تعلق به الإنبات على ما يقطف كل سنة ويبقي أصله ، وما يزرع كل سنة أو سنتين ويقطف كل سنة ، وعلى ما اختلط من جنسين ، فبعض الثمار فاكهة لا قوت ، وأكثر الزرع قوت والثمر فاكهة وقوت.
ولما ذكر تعالى قوله : { بل كذبوا بالحق لما جاءهم } ، ذكر من كذب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وتقدم الكلام على مفردات هذه الآية هذه الآية وقصص من ذكر فيها.
وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، وطلحة ، ونافع : الأيكة بلام التعريف؛ والجمهور : ليكة.
{ كل كذب الرسل } : أي كلهم ، أي جميعهم كذب؛ وحمل على لفظ كل ، فأفرد الضمير في كذب.
وقال الزمخشري : يجوز أن يراد به كل واحد منهم. انتهى.
والتنوين في كل تنوين عوض من المضاف إليه المحذوف.
وأجاز محمد بن الوليد ، وهو من قدماء نحاة مصر ، أن يحذف التنوين من كل جعله غاية ، ويبنى على الضم ، كما يبنى قبل وبعد ، فأجاز كل منطلق بضم اللام دون تنوين ، ورد ذلك عليه الأخفش الصغير ، وهو علي بن سليمان.
{ فحق وعيد } : أي وجب تعذيب الأمم المكذبة وإهلاكهم ، وفي ذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ، وتهديد لقريش ومن كذب الرسول.

أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)

{ أفعيينا بالخلق الأول } : وهو إنشاء الإنسان من نطفة على التدريج ، وتقدم تفسير عيي في قوله تعالى : { ولم يعي بخلقهن } وقرأ الجمهور : أفعيينا ، بياء مكسورة بعدها ياء ساكنة ، ماضي عيي ، كرضي.
وقرأ ابن أبي عبلة ، والوليد بن مسلم ، والقورصبي عن أبي جعفر ، والسمسار عن شيبة ، وأبو بحر عن نافع : بتشديد الياء من غير إشباع في الثانية ، هكذا قال أبو القاسم الهذلي في كتاب الكامل.
وقال ابن خالويه في كتاب شواذ القراءات له : أفعينا بتشديد الياء.
ابن أبي عبلة ، وفكرت في توجيه هذه القراءة ، إذ لم يذكر أحد توجيهها ، فخرجتها على لغة من أدغم الياء في الياء في الماضي ، فقال : عي في عيي ، وحي في حيي.
فلما أدغم ، ألحقه ضمير المتكلم المعظم نفسه ، ولم يفك الإدغام فقال : عيناً ، وهي لغة لبعض بكر بن وائل ، يقولون في رددت ورددنا : ردت وردنا ، فلا يفكون ، وعلى هذه اللغة تكون الياء المشدّدة مفتوحة.
فلو كان ن ضمير نصب ، لاجتمعت العرب على الإدغام ، نحو : ردّنا زيد.
وقال الحسن : الخلق الأول آدم عليه السلام ، والمعنى : أعجزنا عن الخلق الأول ، فنعجز عن الخلق الثاني ، وهذا توقيف للكفار ، وتوبيخ وإقامة الحجة الواضحة عليهم.
{ بل هم في لبس } : أي خلط وشبهة وحيرة ، ومنه قول علي : يا جار إنه لملبوس عليك ، اعرف الحق تعرف أهله.
{ من خلق جديد } : أي من البعث من القبور.
{ ولقد خلقنا الإنسان } : هذه آيات فيها إقامة حجج على الكفار في إنكارهم البعث ، والإنسان إسم جنس.
وقيل : آدم.
{ ونحن أقرب } : قرب علم به وبأحواله ، لا يخفى عليه شيء من خفياته ، فكأن ذاته قريبة منه ، كما يقال : الله في كل مكان ، أي بعلمه ، وهو منزه عن الأمكنة.
و { حبل الوريد } : مثل في فرط القرب ، كقول العرب : هو مني مقعد القابلة ، ومقعد الإزار.
قال ذو الرمة :
والموت أدنى لي من الوريد . . .
والحبل : العرق الذي شبه بواحد الحبال ، وإضافته إلى الوريد للبيان ، كقولهم : بعير سانية.
أو يراد حبل العاتق ، فيضاف إلى الوريد ، كما يضاف إلى العاتق لاجتماعهما في عضو واحد ، والعامل في إذ أقرب.
وقيل : اذكر ، قيل : ويحسن تقدير اذكر ، لأنه أخبر خبراً مجرداً بالخلق والعلم بخطرات الأنفس ، والقرب بالقدرة والملك.
فلما تم الإخبار ، أخبر بذكر الأحوال التي تصدق هذا الخبر ، وتعين وروده عند السامع.
فمنها : { إذ يتلقى المتلقيان } ، ومنها مجيء سكرة الموت ، ومنها : النفخ في الصور ، ومنها : مجيء كل نفس معها سائق وشهيد.
والمتلقيان : الملكان الموكلان بكل إنسان؛ ملك اليمين يكتب الحسنات ، وملك الشمال يكتب السيئآت.
وقال الحسن : الحفظة أربعة ، اثنان بالنهار واثنان بالليل.
وقعيدة : مفرد ، فاحتمل أن يكون معناه : مقاعد ، كما تقول : جليس وخليط : أي مجالس ومخالط ، وأن يكون عدل من فاعل إلى فعيل للمبالغة ، كعليم.

قال الكوفيون : مفرد أقيم مقام اثنين ، والاجود أن يكون حذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، أي عن اليمين قعيد ، كما قال الشاعر :
رماني بأمر كنت منه ووالدي . . .
بريئاً ومن أجل الطوى رماني
على أحسن الوجهين فيه ، أي كنت منه برياً ، ووالدي برياً.
ومذهب المبرد أن التقدير عن اليمين قعيد ، وعن الشمال ، فأخر قعيد عن موضعه.
ومذهب الفراء أن لفظ قعيد يدل على الاثنين والجمع ، فلا يحتاج إلى تقدير.
وقرأ الجمهور : { ما يلفظ من قول } ، وظاهر ما يلفظ العموم.
قال مجاهد ، وأبو الحواراء : يكتب عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه.
وقال الحسن ، وقتادة : يكتبان جميع الكلام ، فيثبت الله تعالى من ذلك الحسنات والسيئات ، ويمحو غير ذلك.
وقيل : هو مخصوص ، أي من قول خير أو شر.
وقال : معناه عكرمة ، وما خرج عن هذا لا يكتب.
واختلفوا في تعيين قعود الملكين ، ولا يصح فيه شيء.
{ رقيب } : ملك يرقب.
{ عتيد } : حاضر ، وإذا كان على اللفظ رقيب عتيد ، فأحرى على العمل.
وقال الحسن : فإذا مات ، طويت صحيفته.
وقيل : له يوم القيامة اقرأ كتابك.
{ وجاءت سكرة الموت } : هو معطوف على { إذ يتلقى } ، وسكرة الموت : ما يعتري الإنسان عند نزاعه ، والباء في { بالحق } للتعدية ، أي جاءت سكرة الموت الحق ، وهو الأمر الذي أنطق الله به كتبه وبعث به رسله ، من سعادة الميت أو شقاوته ، أو للحال ، أي ملتبسه بالحق.
وقرأ ابن مسعود : سكران جمعاً.
{ ذلك ما كنت منه تحيد } : أي تميل.
تقول : أعيش كذا وأعيش كذا ، فمتى فكر في قرب الموت ، حاد بذهنه عنه وأمل إلى مسافة بعيدة من الزمن.
ومن الحيد : الحذر من الموت ، وظاهر تحيد أنه خطاب للإنسان الذي جاءته سكرة الموت.
وقال الزمخشري : الخطاب للفاجر.
تحيد : تنفر وتهرب.
{ ذلك يوم الوعيد } ، هو على حذف : أي وقت ذلك يوم الوعيد.
والإشارة إلى مصدر نفخ ، وأضاف اليوم إلى الوعيد ، وإن كان يوم الوعد والوعيد معاً على سبيل التخويف.
وقرأ الجمهور : معها؛ وطلحة : بالحاء مثقلة ، أدغم العين في الهاء ، فانقلبتا حاء؛ كما قالوا : ذهب محم ، يريد معهم ، { سائق } : جاث على السير ، { وشهيد } : يشهد عليه.
قال عثمان بن عفان ، ومجاهد وغيره : ملكان موكلان بكل إنسان ، أحدهما يسوقه ، والآخر من حفظه يشهد عليه.
وقال أبو هريرة : السائق ملك ، والشهيد النبي.
وقيل : الشهيد : الكتاب الذي يلقاه منشوراً ، والظاهر أن قوله : { سائق وشهيد } اسما جنس ، فالسائق : ملائكة موكلون بذلك ، والشهيد : الحفظة وكل من يشهد.
وقال ابن عباس ، والضحاك : السائق ملك ، والشهيد : جوارح الإنسان.
قال ابن عطية : وهذا يبعد عن ابن عباس ، لأن الجوارح إنما تشهد بالمعاصي ، وقوله : كل نفس يعم الصالحين ، فإنما معناه : وشهيد بخيره وشره.
ويقوى في شهيد اسم الجنس ، فشهد بالخير الملائكة والبقاع ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :

« لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة » وقال أبو هريرة : السائق ملك ، والشهيد العمل.
وقال أبو مسلم : السائق شيطان ، وهو قول ضعيف.
وقال الزمخشري : ملكان ، أحدهما يسوقه إلى المحشر ، والآخر يشهد عليه بعمله؛ أو ملك واحد جامع بين الأمرين ، كأنه قيل : كأنه قيل : ملك يسوقه ويشهد عليه ويحل معها سائق النصب على الحال من كل لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة ، هذا كلام ساقط لا يصدر عن مبتدىء في النحو ، لأنه لو نعت كل نفس ، لما نعت إلا بالنكرة ، فهو نكرة على كل حال ، فلا يمكن أن يتعرف كل ، وهو مضاف إلى نكرة.

لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)

قرأ الجمهور : { لقد كنت في غفلة } ، بفتح التاء ، والكاف في كنت وغطاءك وبصرك؛ والجحدري : بكسرها على مخاطبة النفس.
وقرأ الجمهور : { عنك غطاءك فبصرك } ، بفتح التاء والكاف ، حملاً على لفظ كل من التذكير؛ والجحدري ، وطلحة بن مصرّف : عنك غطاءك فبصرك ، بالكسر مراعاة للنفس أيضاً ، ولم ينقل الكسر في الكاف صاحب اللوامح إلا عن طلحة وحده.
قال صاحب اللوامح : ولم أجد عنه في { لقد كنت }.
الكسر.
فإن كسر ، فإن الجميع شرع واحد؛ وإن فتح { لقد كنت } ، فحمل على كل أنه مذكر.
ويجوز تأنيث كل في هذا الباب لإضافته إلى نفس ، وهو مؤنث ، وإن كان كان كذلك ، فإنه حمل بعضه على اللفظ وبعضه على المعنى ، مثل قوله : { فله أجره } ، ثم قال : { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } انتهى.
قال ابن عباس ، وصالح بن كيسان ، والضحاك : يقال للكافر الغافل من ذوي النفس التي معها السائق والشهيد ، إذا حصل بين يدي الرحمن ، وعاين الحقائق التي لا يصدق بها في الدنيا ، ويتغافل عن النظر فيها : { لقد كنت في غفلة من هذا } : أي من عاقبة الكفر.
فلما كشف الغطاء عنك ، احتدّ بصرك : أي بصيرتك؛ وهذا كما تقول : فلان حديد الذهن.
وقال مجاهد : هو بصر العين ، أي احتدّ التفاته إلى ميزانه وغير ذلك من أهوال القيامة.
وعن زيد بن أسلم قول في هذه الآية يحرم نقله ، وهو في كتاب ابن عطية.
وكنى بالغطاء عن الغفلة ، كأنها غطت جميعه أو عينيه ، فهو لا يبصر.
فإذا كان في القيامة ، زالت عنه الغفلة ، فأبصر ما كان لم يبصره من الحق.
{ وقال قرينه } : أي من زبانية جهنم ، { هذا } : العذاب الذي لدي لهذا الإنسان الكافر ، { عتيد } : حاضر ، ويحسن هذا القول إطلاق ما على ما لا يعقل.
وقال قتادة : قرينه : الملك الموكل بسوقه ، أي هذا الكافر الذي أسوقه لديّ حاضر.
وقال الزهراوي : وقيل قرينه : شيطانه ، وهذا ضعيف ، وإنما وقع فيه أن القرين في قوله : { ربنا ما أطغيته } هو شيطانه في الدنيا ومغويه بلا خلاف.
ولفظ القرين اسم جنس ، فسائقه قرين ، وصاحبه من الزبانية قرين ، ومماشي الإنسان في طريقة قرين.
وقيل : قرينه هنا : عمله قلباً وجوارحاً.
وقال الزمخشري : وقال قرينه : هو الشيطان الذي قيض له في قوله { نقيض له شيطاناً فهو له قرين } يشهد له قوله تعالى : { قال قرينه ربنا ما أطغيته } ، { هذا ما لدي عتيد } ، هذا شيء لدي ، وفي ملكتي عتيد لجهنم.
والمعنى : أن ملكاً يسوقه ، وآخر يشهد عليه ، وشيطاناً مقروناً به يقول : قد أعتدته لجهنم وهيأته لها بإغواي وإضلالي.
انتهى ، وهذا قول مجاهد.
وقال الحسن ، وقتادة أيضاً : الملك الشهيد عليه.
وقال الحسن أيضاً : هو كاتب سيئاته ، وما نكرة موصوفة بالظرف وبعتيد وموصولة ، والظرف صلتها.

وعتيد ، قال الزمخشري : بدل أو خير بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف. انتهى.
وقرأ الجمهور : عتيد بالرفع؛ وعبد الله : بالنصب على الحال ، والأولى إذ ذاك أن تكون ما موصولة.
{ ألقيا في جهنم } : الخطاب من الله للملكين : السائق والشهيد.
وقيل : للملكين من ملائكة العذاب ، فعلى هذا الألف ضمير الاثنين.
وقال مجاهد وجماعة : هو قول إما للسائق ، وإما للذي هو من الزبانية ، وعلى أنه خطاب للواحد.
وقال المبرد معناه : ألق ألق ، فثنى.
وقال الفراء : هو من خطاب الواحد بخطاب الاثنين.
وقيل : الألف بدل من النون الخفيفة ، أجرى الوصل مجرى الوقف ، وهذه أقوال مرغوب عنها ، ولا ضرورة تدعو إلى الخروج عن ظاهر اللفظ لقول مجاهد.
وقرأ الحسن : ألقين بنون التوكيد الخفيفة ، وهي شاذة مخالفة لنقل التواتر بالألف.
{ كل كفار } : أي يكفر النعمة والمنعم؛ { عنيد } ، قال قتادة : منحرف عن الطاعة.
وقال الحسن : جاحد متمرد.
وقال السدي : المساق من العند ، وهو عظم يعرض في الحلق.
وقال ابن بحر : المعجب بما فيه.
{ مناع للخير } ، قال قتادة ومجاهد وعكرمة : يعني الزكاة.
وقيل : بخيل.
وقيل : مانع بني أخيه من الإيمان ، كالوليد بن المغيرة ، كان يقول لهم : من دخل منكم فيه لم أنفعه بشيء ما عشت ، والأحسن عموم الخير في المال وغيره.
{ مريب } ، قال الحسن : شاك في الله أو في البعث.
وقيل : متهم الذي جوزوا فيه أن يكون منصوباً بدلاً من كل كفار ، وأن يكون مجروراً بدلاً من كفار ، وأن يكون مرفوعاً بالابتداء مضمناً معنى الشرط ، ولذلك دخلت الفاء في خبره ، وهو فألقياه.
والظاهر تعلقه بما قبله على جهة البدل ، ويكون فألقياه توكيداً.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون صفة من حيث يختص كفار بالأوصاف المذكورة ، فجاز وصفه بهذه المعرفة. انتهى.
وهذا ليس بشيء لو وصفت النكرة بأوصاف كثيرة لم يجز أن توصف بالمعرفة.
{ قال قرينه } : لم تأت هذه الجملة بالواو ، بخلاف { وقال قرينه } قبله ، لأن هذه استؤنفت كما استؤنفت الجمل في حكاية التقاول في مقاولة موسى وفرعون ، فجرت مقاولة بين الكافر وقرينه ، فكأن الكافر قال ربي هو أطغاني ، { قال قرينه ربنا ما أطغيته }.
وأما { وقال قرينه } فعطف لدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول ، أعني مجيء كل نفس مع الملكين.
وقول قرينه : ما قال له ، ومعنى ما أطغيته : تنزيه لنفسه من أنه أثر فيه ، { ولكن كان في ضلال بعيد } : أي من نفسه لا مني ، فهو الذي استحب العمى على الهدى ، كقوله : { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي } وكذب القرين ، قد أطغاه بوسوسته وتزيينه.
{ قال لا تختصموا لدي } : استئناف أيضاً مثل قال قرينه ، كأن قائلاً قال : ما قال الله تعالى؟ فقيل : { لا تختصموا لدي } أي في دار الجزاء وموقف الحساب.

{ وقد قدّمت إليكم بالوعيد } لمن عصاني ، فلم أترك لكم حجة.
{ ما يبدّل القول لدي } : أي عندي ، فما أمضيته لا يمكن تبديله.
وقال الفراء : ما يكذب لدي لعلمي بجميع الأمور.
وقدمت : يجوز أن يكون بمعنى تقدمت ، أي قد تقدم قولي لكم ملتبساً بالوعيد ، أو يكون قدم المتعدية ، وبالوعيد هو المفعول ، والباء زائدة ، والتقديم كان في الدنيا ، ونهيهم عن الاختصام في الآخرة ، فاختلف الزمانان.
فلا تكون الجملة من قوله : { وقد قدّمت } حالاً إلا على تأويل ، أي وقد صح عندكم أني قدمت ، وصحة ذلك في الآخرة ، فاتفق زمان النهي عن الاختصام ، وصحة التقديم بالحال على هذا التأويل مقارنة.
{ وما أنا بظلام للعبيد } : تقدم شرح مثله في أواخر آل عمران ، والمعنى : لا أعذب من لا يستحق العذاب.
وقرأ يوم يقول ، بياء الغيبة الأعرج ، وشيبة ، ونافع ، وأبو بكر ، والحسن ، وأبو رجاء ، وأبو جعفر ، والأعمش ، وباقي السبعة : بالنون؛ وعبد الله ، والحسن ، والأعمش أيضاً : يقال مبنياً للمفعول وانتصاب يوم بظلام ، أو بأذكر ، أو بأنذر كذلك.
قال الزمخشري : ويجوز أن ينتصب بنفخ ، كأنه قيل : ونفخ في الصور يوم نقول ، وعلى هذا يشار بذلك إلى يوم يقول.
انتهى ، وهذا بعيد جداً ، قد فصل على هذا القول بين العامل والمعمول بجمل كثيرة ، فلا يناسب هذا القول فصاحة القرآن وبلاغته.
و { هل امتلأت } : تقرير وتوقيف ، لا سؤال استفهام حقيقة ، لأنه تعالى عالم بأحوال جهنم.
قيل : وهذا السؤال والجواب منها حقيقة.
وقيل : هو على حذف مضاف ، أي نقول لخزنة جهنم ، قاله الرماني.
وقيل : السؤال والجواب من باب التصوير الذي يثبت المعنى ، أي حالها حال من لو نطق بالجواب لسائله لقال كذا ، وهذا القول يظهر أنها إذ ذاك لم تكن ملأى.
فقولها : { من مزيد } ، سؤال ورغبة في الزيادة والاستكثار من الداخلين فيها.
وقال الحسن ، وعمرو ، وواصل : كانت ملأى وقت السؤال ، فلا تزداد على امتلائها ، كما جاء في الحديث وهل ترك لنا عقيل من دار أي ما تركه ومزيد يحتمل أن يكون مصدر أو اسم مفعول.
{ غير بعيد } : مكاناً غير بعيد ، وهو تأكيد لأزلفت ، رفع مجاز القرب بالوعد والإخبار.
فانتصاب غير على الظرف صفة قامت مقام مكان ، فأعربت بإعرابه.
وأجاز الزمخشري أن ينتصب غير بعيد على الحال من الجنة.
قال : وتذكيره يعني بعيد ، لأنه على زنة المصدر ، كالزئير والصليل ، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث. انتهى.
وكونه على وزن المصدر ، لا يسوغ أن يكون المذكر صفة للمؤنث.
وقال الزمخشري أيضاً : أو على حذف الموصوف ، أي شيئاً غير بعيد. انتهى.
وكأنه يعني إزلافاً غير بعيد ، هذا إشارة للثواب.
وقرأ الجمهور : { ما توعدون } ؛ خطاب للمؤمنين؛ وابن كثير ، وأبو عمرو : بياء الغيبة ، أي هذا القول هو الذي وقع الوعد به ، وهي جملة اعتراضية بين المبدل منه والبدل.

و { لكل أواب } : هو البدل من المتقين.
{ من خشي } : بدل بعد بدل تابع { لكل } ، قاله الزمخشري.
وإنما جعله تابعاً { لكل } ، لا بدلاً من { للمتقين } ، لأنه لا يتكرر الإبدال من مبدل منه واحد.
قال : ويجوز أن يكون بدلاً من موصوف أواب وحفيظ ، ولا يجوز أن يكون في حكم أواب وحفيظ ، لأن من لا يوصف به ، ولا يوصف من بين سائر الموصولات إلا بالذي. انتهى.
يعني بقوله : في حكم أوأب : أن يجعل من صفته ، وهذا حكم صحيح.
وأما قوله : ولا يوصف من بين الموصولات إلا بالذي ، فالحصر ليس بصحيح ، قد وصفت العرب بما فيه أل ، وهو موصول ، نحو القائم والمضروب ، ووصفت بذو الطائية ، وذات في المؤنث.
ومن كلامهم : بالفضل ذو فضلكم الله به ، والكرامة ذات أكرمك الله به ، يريد بالفضل الذي فضلكم والكرامة التي أكرمكم ، ولا يريد الزمخشري خصوصية الذي ، بل فروعه من المؤنث والمثنى والمجموع على اختلاف لغات ذلك.
وجوز أن تكون من موصولة مبتدأ خبره القول المحذوف ، تقديره : يقال لهم ادخلوها ، لأن من في معنى الجمع ، وأن تكون شرطية ، والجواب الفعل المحذوف ، أي فيقال : وأن يكون منادى ، كقولهم : من لا يزال محسناً أحسن إليّ ، وحذف حرف النداء للتقريب.
وقال ابن عطية : يحتمل أن تكون من نعتاً.
انتهى ، وهذا لا يجوز ، لأن من لا ينعت بها ، وبالغيب حال من المفعول ، أي وهو غائب عنه ، وإنما أدركه بالعلم الضروري ، إذ كل مصنوع لا بد له من صانع.
ويجوز أن تكون صفة لمصدر خشي ، أي خشية خشيه ملتبسة بالغيب ، حيث خشي عقابه وهو غائب ، أو خشيه بسبب الغيب الذي أوعده به من عذابه.
وقيل : في الخلوة حيث لا يراه أحد ، فيكون حالاً من الفاعل.
وقرن بالخشية الرحمن بناء على الخاشي ، حيث علم أنه واسع الرحمة ، وهو مع ذلك يخشاه.
{ ادخلوها بسلام } : أي سالمين من العذاب ، أو مسلماً عليكم من الله وملائكته.
{ ذلك يوم الخلود } : كقوله : { فادخلوها خالدين } أي مقدرين الخلود ، وهو معادل لقوله في الكفار : { ذلك يوم الوعيد }.
{ لهم ما يشاءون فيها } : أي ما تعلقت به مشيئاتهم من أنواع الملاذ والكرمات ، كقوله تعالى : { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم } { ولدينا مزيد } : زيادة ، أو شيء مزيد على ما تشاءون ، ونحوه : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } وكما جاء في الحديث : « أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ما اطلعتهم عليه » ، ومزيد مبهم ، فقيل : مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها.
وقيل : أزواج من حور الجنة.
وقيل : تجلى الله تعالى لهم حتى يرونه.

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)

أي كثيراً.
{ أهلكنا } : أي قبل قريش.
{ هم أشدّ منهم بطشاً } ، لكثرة قوتهم وأموالهم.
وقرأ الجمهور : { فنقبوا } ، بفتح القاف مشددة ، والظاهر أن الضمير في نقبوا عائد على كم ، أي دخلوا البلاد من أنقابها.
والمعنى : طافوا في البلاد.
وقيل : نقروا وبحثوا ، والتنقيب : التنقير والبحث.
قال امرؤ القيس في معنى التطواف :
وقد نقبت في الآفاق حتى . . .
رضيت من الغنيمة بالإياب
وروي : وقد طوفت.
وقال الحارث بن خالدة :
نقبوا في البلاد من حذر الموت . . .
وجالوا في الأرض كل مجال
_@_وفنقبوا متسبب عن شدة بطشهم ، فهي التي أقدرتهم على التنقيب وقوتهم عليه.
ويجوز أن يعود الضمير في فنقبوا على قريش ، أي فنقبوا في أسفارهم في بلاد القرون ، فهل رأوا محيصاً حتى يؤملوه لأنفسهم؟ ويدل على عود الضمير على أهل مكة قراءة ابن عباس ، وابن يعمر ، وأبي العالية ، ونصر بن يسار ، وأبي حيوة ، والأصمعي عن أبي عمرو : بكسر القاف مشدّدة على الأمر لأهل مكة ، أي فسيحوا في البلاد وابحثوا.
وقرىء : بكسر القاف خفيفة ، أي نقبت أقدامهم وأخفاف إبلهم ، أو حفيت لكثرة تطوافهم في البلاد ، من نقب خف البعير إذا انتقب ودمى.
ويحتمل أن يكون { هل من محيص } على إضمار القول ، أي يقولون هل من محيص من الهلاك؟ واحتمل أن لا يكون ثم قول ، أي لا محيص من الموت ، فيكون توفيقاً وتقريراً.
{ إن في ذلك } : أي في إهلاك تلك القرون ، { لذكرى } : لتذكرة واتعاظاً ، { لمن كان له قلب } : أي واع ، والمعنى : لمن له عقل وعبر عنه بمحله ، ومن له قلب لا يعي ، كمن لا قلب له.
وقرأ الجمهور : { أو ألقى السمع } ، مبنياً للفاعل ، والسمع نصب به ، أي أو أصغى سمعه مفكراً فيه ، و { شهيد } : من الشهادة ، وهو الحضور.
وقال قتادة : لمن كان له ، قيل : من أهل الكتاب ، فيعتبر ويشهد بصحتها لعلمه بذلك من التوراة ، فشهيد من الشهادة.
وقرأ السلمي ، وطلحة ، والسدي ، وأبو البرهشيم : أو ألقى مبنياً ، للمفعول ، السمع : رفع به ، أي السمع منه ، أي من الذي له قلب.
وقيل : المعنى : أو لمن ألقي غيره السمع وفتح له أذنه ولم يحضر ذهنه ، أي الملقي والفاتح والملقى له والمفتوح أذنه حاضر الذهن متفطن.
وذكر لعاصم أنها قراءة السدي ، فمقته وقال : أليس يقول يلقون السمع؟
{ ولقد خلقنا السموات والأرض } : نزلت في اليهود تكذيباً لهم في قولهم : إنه تعالى استراح من خلق السموات والأرض ، { في ستة أيام } : يوم السبت ، واستلقى على العرش ، وقيل : التشبيه الذي وقع في هذه الأمة إنما أخذ من اليهود.
{ وما مسنا لغوب } : احتمل أن تكون جملة حالية ، واحتمل أن تكون استئنافاً؛ واللغوب : الإعياء.
وقرأ الجمهور : بضم اللام ، وعلي ، والسلمي ، وطلحة ، ويعقوب ، بفتحها ، وهما مصدران ، الأول مقيس وهو الضم ، وأما الفتح فغير مقيس ، كالقبول والولوع ، وينبغي أن يضاف إلى تلك الخمسة التي ذكرها سيبويه ، وزاد الكسائي الوزوع فتصير سبعة.

{ فاصبر } ، قيل : منسوخ بآية السيف ، { على ما يقولون } : أي اليهود وغيرهم من الكفار قريش وغيرهم ، { وسبح بحمد ربك } ، أي فصلّ ، { قبل طلوع الشمس } ، هي صلاة الصبح ، { وقبل الغروب } : هي صلاة العصر ، قاله قتادة وابن زيد والجمهور.
وقال ابن عباس : قبل الغروب : الظهر والعصر.
{ ومن الليل } : صلاة العشاءين ، { وقبل الغروب } : ركعتان قبل المغرب.
وفي صحيح مسلم ، عن أنس ما معناه : أن الصحابة كانوا يصلونها قبل المغرب.
وقال قتادة : ما أدركت أحداً يصليها إلا أنساً وأبا برزة الأسلمي.
وقال بعض التابعين : كان الصحابة يهبون إليهما كما يهبون إلى المكتوبة.
وقال ابن زيد : هي العشاء فقط.
وقال مجاهد : هي صلاة الليل.
{ وأدبار السجود } ، قال أبو الأحوص : هو التسبيح في أدبار الصلوات.
وقال عمر ، وعليّ ، وأبو هريرة ، والحسن ، والشعبي ، وإبراهيم ، ومجاهد ، والأوزاعي : هما ركعتان بعد المغرب.
وقال ابن عباس : هو الوتر بعد العشاء.
وقال ابن عباس ، ومجاهد أيضاً ، وابن زيد : النوافل بعد الفرائض.
وقال مقاتل : ركعتان بعد العشاء ، يقرأ في الأولى : { قل يا أيها الكافرون } وفي الثانية : { قل هو الله أحد } وقرأ ابن عباس ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وعيسى ، والأعمش ، وطلحة ، وشبل ، وحمزة ، والحرميان : وإدبار بكسر الهمزة ، وهو مصدر ، تقول : أدبرت الصلاة ، انقضت ونمت.
وقال الزمخشري وغيره : معناه ووقت انقضاء السجود ، كقولهم : آتيك خفوق النجم.
وقرأ الحسن والأعرج وباقي السبعة : بفتحها ، جمع دبر ، كطنب وأطناب ، أي وفي أدبار السجود : أي أعقابه.
قال أوس بن حجر :
على دبر الشهر الحرام فأرضنا . . .
وما حولها جدب سنون تلمع
{ واستمع } : أمر بالاستماع ، والظاهر أنه أريد به حقيقة الاستماع ، والمستمع له محذوف تقديره : واستمع لما أخبر به من حال يوم القيامة ، وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : « يا معاذ اسمع ما أقول لك » ، ثم حدثه بعد ذلك.
وانتصب { يوم } بما دل عليه ذلك.
{ يوم الخروج } : أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور.
وقيل : مفعول استمع محذوف تقديره : نداء المنادي.
وقيل تقديره : نداء الكافر بالويل والثبور.
وقيل : لا يحتاج إلى مفعول ، إذ حذف اقتصاراً ، والمعنى : كن مستمعاً ، ولا تكن غافلاً معرضاً.
وقيل معنى واستمع : وانتظر ، والخطاب لكل سامع.
وقيل : للرسول ، أي ارتقبه ، فإن فيه تبين صحة ما قلته ، كما تقول لمن تعده بورود فتح : استمع كذا وكذا ، أي كن منتظراً له مستمعاً ، فيوم منتصب على أنه مفعول به.
وقرأ ابن كثير : المنادى بالياء وصلاً ووقفاً ، ونافع ، وأبو عمرو؛ بحذف الياء وقفاً ، وعيسى ، وطلحة ، والأعمش ، وباقي السبعة : بحذفها وصلاً ووقفاً اتباعاً لخط المصحف ، ومن أثبتها فعلى الأصل ، ومن حذفها وقفاً فلأن الوقف تغيير يبدل فيه التنوين ألفاً نصباً ، والتاء هاء ، ويشدّد المخفف ، ويحذف الحرف في القوافي.

والمنادي في الحديث : « أن ملكاً ينادي من السماء أيتها الأجسام الهامدة والعظام البالية والرمم الذاهبة هلموا إلى الحشر والوقوف بين يدي الله تعالى » { من مكان قريب } : وصفه بالقرب من حيث يسمع جميع الخلق.
قيل : والمنادي إسرافيل ، ينفخ في الصور وينادي.
وقيل : المنادي جبريل.
وقال كعب ، وقتادة وغيرهما : المكان صخرة بيت المقدس ، قال كعب : قربها من السماء بثمانية عشر ميلاً ، كذا في كتاب ابن عطية ، وفي كتاب الزمخشري : باثني عشر ميلاً ، وهي وسط الأرض.
انتهى ، ولا يصح ذلك إلا بوحي.
{ يوم يسمعون } : بدل من { يوم ينادي } ، و { الصيحة } : صيحة المنادي.
قيل : يسمعون من تحت أقدامهم.
وقيل : من تحت شعورهم ، وهي النفخة الثانية ، و { بالحق } متعلق بالصيحة ، والمراد به البعث والحشر.
{ ذلك } : أي يوم النداء والسماع ، { يوم الخروج } من القبور ، وقيل : الإشارة بذلك إلى النداء ، واتسع في الظرف فجعل خبراً عن المصدر ، أو يكون على حذف ، أي ذلك لنداء نداء يوم الخروج ، أو وقت النداء يوم الخروج.
وقرأ نافع ، وابن عامر : تشقق بشدّ الشين؛ وباقي السبعة : بتخفيفها.
وقرىء : تشقق بضم التاء ، مضارع شققت على البناء للمفعول ، وتنشق مضارع انشقت.
وقرأ زيد بن علي : تشقق بفك الإدغام ، ذكره أبو عليّ الأهوازي في قراءة زيد بن عليّ من تأليفه ، ويوم بدل من يوم الثاني.
وقيل : منصوب بالمصدر ، وهو الخروج.
وقيل : المصير ، وانتصب { سراعاً } على الحال من الضمير في عنهم ، والعامل تشقق.
وقيل : محذوف تقديره يخرجون ، فهو حال من الواو في يخرجون ، قاله الحوفي.
ويجوز أن يكون هذا المقدر عاملاً في { يوم تشقق }.
{ ذلك حشر علينا يسير } : فصل بين الموصوف وصفته بمعمول الصفة ، وهو علينا ، أي يسير علينا ، وحسن ذلك كون الصفة فاصلة.
وقال الزمخشري : { علينا يسير } ، تقديم الظرف يدل على الاختصاص ، يعني لا يتيسر مثل ذلك اليوم العظيم إلا على القادر الذات الذي لا يشغله شأن عن شأن ، كما قال : { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } انتهى ، وهو على طريقه في أن تقديم المفعول وما أشبهه من دلالة ذلك على الاختصاص ، وقد بحثنا معه في ذلك في سورة الفاتحة في { إياك نعبد } { نحن أعلم بما يقولون } : هذا وعيد محض للكفار وتهديد لهم ، وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم.
{ وما أنت عليهم بجبار } : بمتسلط حتى تجبرهم على الإيمان ، قاله الطبري.
وقيل : التحلم عنهم وترك الغلظة عليهم.
{ فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } : لأن من لا يخاف الوعيد لكونه غير مصدّق بوقوعه لا يذكر ، إذ لا تنفع فيه الذكرى ، كما قال : { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } وختمت بقوله : { فذكر بالقرآن } ، افتتحت ب { ق والقرآن }.

وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)

هذه السورة مكية.
ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه قال { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } وقال أول هذه بعد القسم : { إنما توعدون لصادق ، وإن الدين لواقع }.
{ والذاريات } : الرياح :.
{ فالحاملات } السحاب.
{ فالجاريات } الفلك.
{ فالمقسمات } : الملائكة ، هذا تفسير عليّ كرم الله وجهه على المنبر ، وقد سأله ابن الكوا ، قاله ابن عباس.
وقال ابن عباس أيضاً : { فالحاملات } هي السفن الموقرة بالناس وأمتاعهم.
وقيل : الحوامل من جميع الحيوان.
وقيل : الجاريات : السحاب بالرياح.
وقيل : الجواري من الكواكب ، وأدغم أبو عمرو وحمزة { والذاريات } في ذال { ذرواً } ، وذروها : تفريقها للمطر أو للتراب.
وقرىء : بفتح الواو وتسمية للمحمول بالمصدر.
ومعنى { يسراً } : جرياً ذا يسر ، أي سهولة.
فيسراً مصدر وصف به على تقدير محذوف ، فهو على رأي سيبويه في موضع الحال.
{ أمراً } تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها ، فأمراً مفعول به.
وقيل : مصدر منصوب على الحال ، أي مأموره ، ومفعول المقسمات محذوف.
وقال مجاهد : يتولى أمر العباد جبريل للغلظة ، وميكائيل للرحمة ، وملك الموت لقبض الأرواح ، وإسرافيل للنفخ.
وجاء في الملائكة : فالمقسمات على معنى الجماعات.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد الرياح لا غير ، لأنها تنشىء السحاب وتقله وتصرفه وتجري في الجو جرياً سهلاً ، وتقسم الأمطار بتصريف الرياح. انتهى.
فإذا كان المدلول متغايراً ، فتكون أقساماً متعاقبة.
وإذا كان غير متغاير ، فهو قسم واحد ، وهو من عطف الصفات ، أي ذرت أول هبوبها التراب والحصباء ، فأقلت السحاب ، فجرت في الجو باسطة للسحاب ، فقسمت المطر.
فهذا كقوله :
يا لهف زيابة للحارث الص . . .
ابح فالغانم فالآيب
أي : الذي صبح العدو فغنم منهم ، فآب إلى قومه سالماً غانماً.
والجملة المقسم عليها ، وهي جواب القسم ، هي { إنما توعدون } ، وما موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي توعدونه.
ويحتمل أن تكون مصدرية ، أي أنه وعدكم أو وعيدكم ، إذ يحتمل توعدون الأمرين أن يكون مضارع وعد ومضارع أوعد ، ويناسب أن يكون مضارع أوعد لقوله : { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } ، ولأن المقصود التخويف والتهويل.
ومعنى صدقة : تحقق وقوعه ، والمتصف بالصدق حقيقة هو المخبر.
وقال تعالى : { ذلك وعد غير مكذوب } أي مصدوق فيه.
وقيل : { لصادق } ، ووضع اسم الفاعل موضع المصدر ، ولا حاجة إلى هذا التقدير.
وقال مجاهد : الأظهر أن الآية في الكفار ، وأنه وعيد محض.
{ وإن الدين } : أي الجزاء ، { لواقع } : أي صادر حقيقة على المكلفين من الإنس والجن.
والظاهر في السماء أنه جنس أريد به جميع السموات.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : هي السماء السابعة.
وقيل : السحاب الذي يظل الأرض.
{ ذات الحبك } : أي ذات الخلق المستوي الجيد ، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة والربيع.
وقال الحسن ، وسعيد بن جبير : { ذات الحبك } : أي الزينة بالنجوم.
وقال الضحاك : ذات الطرائق ، يعني من المجرة التي في السماء.

وقال ابن زيد : ذات الشدة ، لقوله : { سبعاً شداداً } وقيل : ذات الصفاقة.
وقرأ الجمهور : الحبك بضمتين؛ وابن عباس ، والحسن : بخلاف عنه ، وأبو مالك الغفاري ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، وأبو السمال ، ونعيم عن أبي عمرو : بإسكان الباء؛ وعكرمة : بفتحها ، جمع حبكة ، مثل : طرفة وطرف.
وأبو مالك الغفاري ، والحسن : بخلاف عنه ، بكسر الحاء والباء؛ وأبو مالك الغفاري ، والحسن أيضاً ، وأبو حيوة : بكسر الحاء وإسكان الباء ، وهو تخفيف فعل المكسور هما وهو اسم مفرد لا جمع ، لأن فعلاً ليس من أبنية الجموع ، فينبغي أن يعد مع إبل فيما جاء من الأسماء على فعل بكسر الفاء والعين؛ وابن عباس أيضاً ، وأبو مالك : بفتحهما.
قال أبو الفضل الرازي : فهو جمع حبكة ، مثل عقبة وعقب. انتهى.
والحسن أيضاً : الحبك بكسر الحاء وفتح الباء ، وقرأ أيضاً كالجمهور ، فصارت قراءته خمساً : الحبك الحبك الحبك الحبك الحبك.
وقرأ أبو مالك أيضاً : الحبك بكسر الحاء وضم الباء ، وذكرها ابن عطية عن الحسن ، فتصير له ست قراءات.
وقال صاحب اللوامح ، وهو عديم النظير في العربية : في أبنيتها وأوزانها ، ولا أدري ما رواه. انتهى.
وقال ابن عطية : هي قراءة شاذة غير متوجهة ، وكأنه أراد كسرها ، ثم توهم الحبك قراءة الضم بعد أن كسر الحاء وضم الباء ، وهذا على تداخل اللغات ، وليس في كلام العرب هذا البناء. انتهى.
وعلى هذا تأول النحاة هذه القراءات ، والأحسن عندي أن تكون مما اتبع فيه حركة الحاء لحركة ذات في الكسرة ، ولم يعتد باللام الساكنة ، لأن الساكن حاجز غير حصين.
وجواب القسم : { إنكم لفي قول مختلف } ، والظاهر أنه خطاب عام للمسلم والكافر ، كما أن جواب القسم السابق يشملهما ، واختلافهم كونهم مؤمناً بالرسول صلى الله عليه وسلم وكتابه وكافراً.
وقال ابن زيد : خطاب للكفرة ، فيقولون : ساحر شاعر كاهن مجنون ، وقال الضحاك : قول الكفرة لا يكون مستوياً ، إنما يكون متناقضاً مختلفاً.
وقيل : اختلافهم في الحشر ، منهم من ينفيه ، ومنهم من يشك فيه.
وقيل : اختلافهم : إقرارهم بأن الله تعالى أوجدهم وعبادتهم غيره والأقوال التي يقولونها في آلهتهم.
{ يؤفك } : أي يصرف عنه ، أي عن القرآن والرسول ، قاله الحسن وقتادة.
{ من أفك } : أي من صرف الصرف الذي لا صرف أشد منه وأعظم لقوله : لا يهلك على الله إلا هالك.
وقيل : من صرف في سابق علم الله تعالى أنه مأفوك عن الحق لا يرعوي.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير لما توعدون ، أو للذي أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه ، فمنهم شاك ومنهم جاحد.
ثم قال : يؤفك عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك.
وقيل : المأفوك عنه محذوف ، وعن هنا للسبب ، والضمير عائد على { قول مختلف } ، أي يصرف بسببه من أراد الإسلام بأن يقول : هو سحر هو كهانة ، حكاه الزهراوي والزمخشري ، وأورده على عادته في إبداء ما هو محكي عن غيره أنه مخترعه.

وقال ابن عطية : ويحتمل أن يعود على { قول مختلف } ، والمعنى : يصرف عنه بتوفيق الله إلى الإسلام من غلبت سعادته ، وهذا على أن يكون في قول مختلف للكفار ، إلا أن عرف الاستعمال في إفكه الصرف من خير إلى شر ، فلذلك لا تجده إلا في المذمومين.
انتهى ، وفيه بعض تلخيص.
وقرأ ابن جبير وقتادة : من أفك مبنياً للفاعل ، أي من أفك الناس عنه ، وهم قريش.
وقرأ زيد بن علي : يأفك عنه من أفك ، أي يصرف الناس عنه من هو مأفوك في نفسه.
وعنه أيضاً : يأفك عنه من أفك ، أي يصرف الناس عنه من هو أفاك كذاب.
وقرىء : يؤفن عنه من أفن بالنون فيهما ، أي يحرمه من حرم من أفن الضرع إذا نهكه حلباً.
{ قتل الخراصون } : أي قتل الله الخراصين ، وهم المقدرون ما لا يصح.
{ في غمرة } : في جهل يغمرهم ، { ساهون } : غافلون عن ما أمروا به.
{ أيان يوم الدين } : أي متى وقت الجزاء؟ سؤال تكذيب واستهزاء ، وتقدمت قراءة من كسر الهمزة في قوله : { أيان مرساها } { وأيان يوم الدين } ، فيكون الظرف محلاً للمصدر ، وانتصب يومهم بمضمر تقديره : هو كائن ، أي الجزاء ، قاله الزجاج ، وجوزوا أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي هو يومهم ، والفتحة فتحة بناء لإضافته إلى غير متمكن ، وهي الجملة الإسمية.
ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة والزعفراني.
{ يوم هم } بالرفع ، وإذا كان ظرفاً جاز أن تكون الحركة فيه حركة إعراب وحركة بناء ، وتقدم الكلام على إضافة الظرف المستقبل إلى الجملة الإسمية في غافر في قوله تعالى : { يوم هم بارزون } وقال بعض النحاة : يومهم بدل من { يوم الدين } ، فيكون هنا حكاية من كلامهم على المعنى ، ويقولون ذلك على سبيل الاستهزاء.
ولو حكى لفظ قولهم ، لكان التركيب : يوم نحن على النار يفتنون.
{ ذوقوا فتنتكم } : أي يقال لهم ذوقوا.
{ هذا الذي } : مبتدأ وخبر.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون هذا بدلاً من فتنتكم ، أي ذوقوا هذا العذاب.
انتهى ، وفيه بعد ، والاستقلال خير من البدل.
ومعنى تفتنون : تعذبون في النار.
ولما ذكر حال الكفار ، ذكر حال المؤمنين ، وانتصب آخذين على الحال ، أي قابليه راضين به ، وذلك في الجنة.
وقال ابن عباس : { آخذين } : أي في دنياهم ، { ما آتاهم ربهم } من أوامره ونواهيه وشرعه ، فالحال محكية لتقدمها في الزمان على كونهم في الجنة.
والظاهر أن { قليلاً } ظرف ، وهو في الأصل صفة ، أي كانوا في قليل من الليل.
وجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف ، أي كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً ، وما زائدة في كلا الإعرابين.
وفسر أنس بن مالك ذلك فقال : كانوا يتنفلون بين المغرب والعشاء ، ولا يدل لفظ الآية على الاقتصار على هذا التفسير.
وقال الربيع بن خيثم : كانوا يصيبون من الليل حظاً.

وقال مطرف ، ومجاهد ، وابن أبي نجيح : قل ليلة أتت عليهم هجوعاً كلها.
وقال الحسن : كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلاً.
وقال الضحاك : { كانوا قليلاً } ، أي في عددهم ، وثم خبر كان ، ثم ابتدأ { من الليل ما يهجعون } ، فما نافية ، وقليلاً وقف حسن ، وهذا القول فيه تفكيك للكلام ، وتقدم معمول العامل المنفي بما على عامله ، وذلك لا يجوز عند البصريين ، ولو كان ظرفاً أو مجروراً.
وقد أجاز ذلك بعضهم ، وجاء في الشعر قوله :
إذا هي قامت حاسراً مشمعلة . . .
يحسب الفؤاد رأسها ما تقنع
فقدم رأسها على ما تقنع ، وهو منفي بما ، وجوزوا أن تكون ما مصدرية في موضع رفع بقليلاً ، أي كانوا قليلاً هجوعهم ، وهو إعراب سهل حسن ، وأن تكون ما موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف تقديره : { كانوا قليلاً من الليل } من الوقت الذي يهجعون فيه ، وفيه تكلف.
ومن الليل يدل على أنهم مشغولون بالعبادة في أوقات الراحات ، وسكون الأنفس من مشاق النهار.
{ وبالأسحار هم يستغفرون } ، فيه ظهور على أن تهجدهم يتصل بالأسحار ، فيأخدون في الاستغفار مما يمكن أن يقع فيه تقصير وكأنهم أجرموا في تلك الليالي ، والأسحار مظنة الاستغفار.
وقال ابن عمرو الضحاك : يستغفرون : يصلون.
وقال الحسن : يدعون في طلب المغفرة ، والظاهر أن قيام الليل وهذا الحق في المال هو من المندوبات ، وأكثر ما تقع زيادة الثواب بفعل المندوب.
وقال القاضي منذر بن سعيد : هذا الحق هو الزكاة المفروضة ، وضعف بأن السورة مكية ، وفرض الزكاة بالمدينة.
وقيل : كان فرضاً ، ثم نسخ وضعف بأنه تعالى لم يشرع شيئاً بمكة قبل الهجرة من أخد الأموال.
والسائل : الذي يستعطي ، والمحروم : لغة الممنوع من الشيء ، قال علقمة :
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمة . . .
أنى توجه والمحروم محروم
وأما في الآية ، فالذي يحسب غنياً فيحرم الصدقة لتعففه.
وقيل : الذي تبعد منه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله الحرمان.
وقال ابن عباس : المحارب الذي ليس له في الإسلام سهم مال.
وقال زيد بن أسلم : هو الذي أجيحت ثمرته.
وقيل : الذي ماتت ماشيته.
وقال عمر بن عبد العزيز : هو الكلب.
وقيل : الذي لا ينمي له مال.
وقيل : المحارف الذي لا يكاد يكسب.
وقيل غير ذلك ، وكل هذه الأقوال على سبيل التمثيل لا التعيين ، ويجمعها أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه.
{ وفي الأرض آيات } تدل على الصانع وقدرته وتدبيره من حيث هي كالبساط لما فوقها ، وفيها الفجاج للسلاك ، وهي متجزئة من سهل ووعر وبحر وبر ، وقطع متجاورات من صلبة ورخوة ومنبتة وسبخة ، وتلقح بأنواع النبات ، وفيها العيون والمعادن والدواب المنبتة في بحرها وبرها المختلفة الأشكال.
وقرأ قتادة : آية على الإفراد ، { للموقنين } : وهم الذين نظروا النظر الصحيح ، وأداهم ذلك إلى إيقان ما جاءت به الرسل ، فأيقنوا لم يدخلهم ريب.

{ وفي أنفسكم } حال ابتدائها وانتقالها من حال إلى حال ، وما أودع في شكل الإنسان من لطائف الحواس ، وما ترتب على العقل الذي أوتيه من بدائع العلوم وغريب الصنائع ، وغير ذلك مما لا ينحصر.
{ وفي السماء رزقكم } ، قال الضحاك ومجاهد وابن جبير : المطر والثلج ، لأنه سبب الأقوات ، وكل عين دائمة من الثلج.
وقال مجاهد أيضاً وواصل الأحدب : أراد القضاء والقدر ، أي الرزق عند الله يأتي به كيف شاء ، { وما توعدون } : الجنة ، أو هي النار ، أو أمر الساعة ، أو من خير وشر ، أو من ثواب وعقاب ، أقوال المراد بها التمثيل لا التعيين.
وقرأ ابن محيصن : أرزاقكم على الجمع ، والضمير في إنه عائد على القرآن ، أو إلى الدين الذي في قوله : { وإن الدين لواقع } ، أو إلى اليوم المذكور في قوله : { أيان يوم الدين } ، أو إلى الرزق ، أو إلى الله ، أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أقوال منقولة.
والذي يظهر أنه عائد على الإخبار السابق من الله تعالى فيما تقدم في هذه السورة من صدق الموعود ووقوع الجزاء ، وكونهم في { قول مختلف } ، و { قتل الخراصون } ، وكينونة المتقين في الجنة على ما وصف ، وذكر أوصافهم وما ذكر بعد ذلك ، ولذلك شبه في الحقيقة بما يصدر من نطق الإنسان بجامع ما اشتركا فيه من الكلام.
وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، والأعم5 : بخلاف عن ثلاثتهم.
مثل بالرفع : صفة لقوله : { لحق } ؛ وباقي السبعة ، والجمهور : بالنصب ، وقيل : هي فتحة بناء ، وهو نعت كحاله في قراءة من رفع.
ولما أضيف إلى غير متمكن بنى ، وما على هذا الإعراب زائدة للتوكيد ، والإضافة هي إلى أنكم تنطقون.
وقال المازني : بنى مثل ، لأنه ركب مع ما ، فصار شيئاً واحداً ، ومثله : ويحما وهيما وابنما ، قال حميد بن ثور :
ألا هيما مما لقيت وهيما . . .
وويحاً لمن لم يلق منهن ويحما
قال : فلولا البناء لكان منوناً ، وقال الشاعر :
فأكرم بنا أو أماً وأكرم بنا ابنما . . .
انتهى هذا التخريج.
وابنما ليس ابنا بني مع ما ، بل هذا من باب زيادة الميم فيه ، واتباع ما في الآخر ، إذ جعل في الميم الإعراب.
تقول : هذا ابنم ، ورئت ابنما ، ومررت بابنم ، وليست ما في الثلاث في ابنما مركبة مع ما ، كما قال : الفتحة في ابنما حركة إعراب ، وهو منصوب على التمييز ، وأنشد النحويون في بناء الاسم مع الحرف قول الراجز :
أثور ما أصيدكم أو ثورين . . .
أم تيكم الجماء ذات القرنين
وقيل : هو نعت لمصدر محذوف تقديره : إنه لحق حقاً مثل ما أنكم ، فحركته حركة إعراب.
وقيل : انتصب على أنه حال من الضمير المستكن في { لحق }.
وقيل : حال من لحق ، وإن كان نكرة ، فقد أجاز ذلك الجرمي وسيبويه في مواضع من كتابه.
والنطق هنا عبارة عن الكلام بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني.
ويقول الناس : هذا حق ، كما أنك ههنا وهذا حق ، كما أنك ترى وتسمع ، وهذا كما في الآية.
وما زائدة بنص الخليل ، ولا يحفظ حذفها ، فتقول : ذا حق كأنك ههنا ، والكوفيون يجعلون مثلاً محلى ، فينصبونه على الظرف ، ويجيزون زيد مثلك بالنصب ، فعلى مذهبهم يجوز أن تكون مثل فيها منصوباً على الظرف ، واستدلالهم والرد عليهم مذكور في النحو.
ومن كلام بعض الأعراب : من ذا الذي أغضب الخليل حتى حلف ، لم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين.

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)

{ هل أتاك } : تقرير لتجتمع نفس المخاطب ، كما تبدأ المرء إذا أردت أن تحدثه بعجيب ، فتقرره هل سمع ذلك أم لا ، فكأنك تقتضي أن يقول لا.
ويستطعمك الحديث ، وفيه تفخيم للحديث وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما عرفه بالوحي ، وضيف الواحد والجماعة فيه سواء.
وبدأ بقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وإن كانت متأخرة عن قصة عاد ، هزماً للعرب ، إذ كان أباهم الأعلى ، ولكون الرسل الذين وفدوا عليه جاءوا بإهلاك قوم لوط ، إذ كذبوه ، ففيه وعيد للعرب وتهديد واتعاظ وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم على ما يجري عليه من قومه.
ووصفهم بالمكرمين لكرامتهم عند الله تعالى ، كقوله تعالى في الملائكة : { بل عباد مكرمون } قاله الحسن ، فهي صفة سابقة فيهم ، أو لإكرام إبراهيم إياهم ، إذ خدمهم بنفسه وزوجته سارة وعجل لهم القرا.
وقيل : لكونه رفع مجالسهم في صفة حادثة.
وقرأ عكرمة : المكرمين بالتشديد ، وأطلق عليهم ضيف ، لكونهم في صورة الضيف حيث أضافهم إبراهيم ، أو لحسبانه لذلك.
وتقدم ذكر عددهم في سورة هود.
وإذ معمولة للمكرمين إذا كانت صفة حادثة بفعل إبراهيم ، وإلا فبما في ضيف من معنى لفعل ، أو بإضمار اذكر ، وهذه أقوال منقولة.
وقرأ الجمهور : قالوا سلاماً ، بالنصب على المصدر الساد مسد فعله المستغنى به.
{ قال سلام } بالرفع ، وهو مبتدأ محذوف الخبر تقديره : عليكم سلام.
قصد أن يجيبهم بأحسن مما حيوه أخذاً بأدب الله تعالى ، إذ سلاماً دعاء.
وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي أمري سلام ، وسلام جملة خبرية قد تحصل مضمونها ووقع.
وقال ابن عطية : ويتجه أن يعمل في سلاماً قالوا ، على أن يجعل سلاماً في معنى قولاً ، ويكون المعنى حينئذ : أنهم قالوا تحية؛ وقولاً معناه سلاماً ، وهذا قول مجاهد.
وقرأ ابن وثاب ، والنخعي ، وابن جبير ، وطلحة : قال سلم ، بكسر السين وإسكان اللام ، والمعنى : نحن سلم ، أو أنتم سلم ، وقرئا مرفوعين.
وقرىء : سلاماً قالوا سلماً ، بنصبهما وكسر سين الثاني وسكون لامه.
{ قوم منكرون } ، قال أبو العالية : أنكر سلامهم في تلك الأرض وذلك الزمان.
وقيل : لا نميزهم ولا عهد لنا بهم.
وقيل : كان هذا سؤالهم ، كأنه قال : أنتم قوم منكرون ، فعرّفوني من أنتم.
وقوم خبر مبتدأ محذوف قدره أنتم ، والذي يناسب حال إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه لا يخاطبهم بذلك ، إذ فيه من عدم الإنس ما لا يخفى ، بل يظهر أنه يكون التقدير : هؤلاء قوم منكرون.
وقال ذلك مع نفسه ، أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه بحيث لا يسمع ذلك الأضياف.
{ فراغ إلى أهله } : أي مضى أثناء حديثه ، مخفياً مضيه مستعجلاً؛ { فجاء بعجل سمين } : ومن أدب المضيف أن يخفي أمره ، وأن يبادر بالقرا من غير أن يشعر به الضيف ، حذراً من أن يمنعه أن يجيء بالضيافة.

وكونه عطف ، فجاء على فراغ يدل على سرعة مجيئه بالقرا ، وأنه كان معداً عنده لمن يرد عليه.
وقال في سورة هود : { فما لبث أن جاء بعجل حنيذ } وهذا يدل أيضاً على أنه كان العجل سابقاً شيه قبل مجيئهم.
وقال قتادة : كان غالب ماله البقر ، وفيه دليل على أنه يحضر للضيف أكثر مما يأكل.
وكان عليه الصلاة والسلام مضيافاً ، وحسبك وقف للضيافة أوقافاً تمضيها الأمم على اختلاف أديانها وأجناسها.
{ فقربه إليهم } : فيه أدب المضيف من تقريب القرا لمن يأكل ، وفيه العرض على الأكل؛ فإن في ذلك تأنيساً لللآكل ، بخلاف من قدم طعاماً ولم يحث على أكله ، فإن الحاضر قد يتوهم أنه قدمه على سبيل التجمل ، عسى أن يمتنع الحاضر من الأكل ، وهذا موجود في طباع بعض الناس.
حتى أن بعضهم إذا لج الحاضر وتمادى في الأكل ، أخذ من أحسن ما أحضر وأجزله ، فيعطيه لغلامه برسم رفعه لوقت آخر يختص هو بأكله.
وقيل : الهمزة في ألا للإنكار ، وكأنه ثم محذوف تقديره : فامتنعوا من الأكل ، فأنكر عليهم ترك الأكل فقال : { ألا تأكلون }.
وفي الحديث : « إنهم قالوا إنا لا نأكل إلا ما أدينا ثمنه ، فقال لهم : وإني لا أبيحه لكم إلا بثمن ، قالوا : وما هو؟ قال : أن تسموا الله عز وجل عند الابتداء وتحمدوه عند الفراغ من الأكل ، فقال بعضهم لبعض : بحق اتخذه الله خليلاً »
{ فأوجس منهم خيفة } : أي فلما استمروا على الامتناع من الأكل ، أوجس منهم خيفة ، وذلك أن أكل الضيف أمنة ودليل على انبساط نفسه ، وللطعام حرمة وذمام ، والامتناع منه وحشة.
فخشي إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن امتناعهم من أكل طعامهم إنما هو لشر يريدونه ، فقالوا لا تخف ، وعرفوه أنهم ملائكة.
وعن ابن عباس : وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب.
وعلمهم بما أضمر في نفسه من الخوف ، إنما يكون باطلاع الله ملائكته على ما في نفسه ، أو بظهور أمارته في الوجه ، فاستدلوا بذلك على الباطن.
وعن يحيى بن شداد : مسح جبريل عليه السلام بجناحه العجل ، فقام يدرج حتى لحق بأمه.
{ بغلام عليم } : أي سيكون عليماً ، وفيه تبشير بحياته حتى يكون من العلماء.
وعن الحسن : عليم نبي؛ والجمهور : على أن المبشر به هو إسحاق بن سارة.
وقال مجاهد : هو إسماعيل.
وقيل : علم أنهم ملائكة من حيث بشروه بغيب ، ووقعت البشارة بعد التأنيس والجلوس ، وكانت البشارة بذكر ، لأنه أسر للنفس وأبهج ، ووصفه بعليم لأنها الصفة التي يختص بها الإنسان الكامل إلا بالصورة الجميلة والقوة.
{ فأقبلت امرأته في صرة } : أي إلى بيتها ، وكانت في زاوية تنظر إليهم وتسمع كلامهم.
وقيل : { فأقبلت } ، أي شرعت في الصياح.

قيل : وجدت حرارة الدم ، فلطمت وجهها من الحياء.
والصرة ، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وسفيان : الصيحة.
قال الشاعر :
فألحقنا بالهاديات ودونه . . .
حواجرها في صرة لم تزيل
وقال قتادة وعكرمة : الرنة.
قيل : قالت أوّه بصياح وتعجب.
وقال ابن بحر : الجماعة ، أي من النسوة تبادروا نظراً إلى الملائكة.
وقال الجوهري : الصرة : الصيحة والجماعة والشدة.
{ فصكت وجهها } : أي لطمته ، قاله ابن عباس ، وكذلك كما يفعله من يرد عليه أمر يستهوله ويتعجب منه ، وهو فعل النساء إذا تعجبن من شيء.
وقال السدي وسفيان : ضربت بكفها جبهتها ، وهذا مستعمل في الناس حتى الآن.
{ وقالت عجوز عقيم } : أي إنا قد اجتمع فيها أنها عجوز ، وذلك مانع من الولادة ، وأنها عقيم ، وهي التي لم تلد قط ، فكيف ألد؟ تعجبت من ذلك.
{ قالوا كذلك } : أي مثل القول الذي أخبرناك به ، { قال ربك } : وهو القادر على إيجاد ما يستبعد.
وروي أن جبريل عليه السلام قال لها : انظري إلى سقف بيتك ، فنظرت ، فإذا جذوعه مورقة مثمرة.
{ إنه هو الحكيم } : أي ذو الحكمة.
{ العليم } بالمصالح.
ولما علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنهم ملائكة ، وأنهم لا ينزلون إلا بإذن الله تعالى رسلاً ، قال { فما خطبكم } إلى : { قوم مجرمين } : أي ذوي جرائم ، وهي كبار المعاصي من كفر وغيره.
{ لنرسل عليهم } : أي لنهلكهم بها ، { حجارة من طين } : وهو السجيل ، طين يطبخ كما يطبخ الآجر حتى يصير في صلابة كالحجارة.
{ مسوّمة } : معلمة ، على كل واحد منها اسم صاحبه.
وقيل : معلمة أنها من حجارة العذاب.
وقيل : معلمة أنها ليست من حجارة الدنيا ، { للمسرفين } : وهم المجاوزون الحد في الكفر.
{ فأخرجنا من كان فيها } : في القرية التي حل العذاب بأهلها.
{ غير بيت } : هو بيت لوط عليه السلام ، وهو لوط وابنتاه فقط ، وقيل : ثلاثة عشر نفساً.
وقال الرماني : الآية تدل على أن الإيمان هو الإسلام ، وكذا قال الزمخشري ، وهما معتزليان.
{ وتركنا فيها } : أي في القرية ، { آية } : علامة.
قال ابن جريج : حجراً كبيراً جدًّا منضوداً.
وقيل : ماء أسود منتن.
ويجوز أن يكون فيها عائداً على الإهلاكة التي أهلكوها ، فإنها من أعاجيب الإهلاك ، بجعل أعالي القرية أسافل وإمطار الحجارة.
والظاهر أن قوله : { وفي موسى } معطوف على { وتركنا فيها } : أي في قصة موسى.
وقال الزمخشري وابن عطية : { وفي موسى } يكون عطفاً على { وفي الأرض آيات للموقنين } { وفي موسى } ، وهذا بعيد جدًّا ، ينزه القرآن عن مثله.
وقال الزمخشري أيضاً : أو على قوله ، { وتركنا فيها آية } على معنى : وجعلنا في موسى آية ، كقوله :
علفتها تبناً وماء بارداً . . .
_@_انتهى ، ولا حاجة إلى إضمار { وتركنا } ، لأنه قد أمكن أن يكون العامل في المجرور { وتركنا }.
{ فتولى بركنه } : أي ازور وأعرض ، كما قال : { ونأى بجانبه } وقيل : بقوته وسلطانه.
وقال ابن زيد : بركنه : بمجموعه.
وقال قتادة : بقومه.
{ وقال ساحر أو مجنون } : ظن أحدهما ، أو تعمد الكذب ، وقد علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً.

وقال أبو عبيدة : أو بمعنى الواو ، ويدل على ذلك أنه قد قالهما ، قال : { إن هذا لساحر عليم } و { قال إن رسولكم الذين إرسل إليكم لمجنون } واستشهد أبو عبيدة بقول جرير :
أثعلبة الفوارس أو رباحاً . . .
عدلت بهم طهية والحشايا
ولا ضرورة تدعو إلى جعل أو بمعنى الواو ، إذ يكون قالهما ، وأبهم على السامع ، فأو للإبهام.
{ هو مليم } : أي أتى من المعاصي ما يلام عليه.
{ العقيم } التي لا خير فيها ، من الشتاء مطر ، أو لقاح شجر.
وفي الصحيح : نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور.
فقول من ذهب إلى أنها الصبا ، أو الجنوب ، أو النكباء ، وهي ريح بين ريحين ، نكبت عن سمت القبلة ، فسميت نكباء ، ليس بصحيح ، لمعارضته للنص الثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنها الدبور.
{ ما تذر من شيء أتت عليه } : وهو عام مخصوص ، كقوله : { تدمر كل شيء بأمر ربها } أي مما أراد الله تدميره وإهلاكه من ناس أو ديار أو شجر أو نبات ، لأنها لم يرد الله بها إهلاك الجبال والآكام والصخور ، ولا العالم الذي لم يكن من قوم عاد.
{ إلا جعلته كالرميم } : جملة حالية ، والرميم تقدّم تفسيره في يس ، وهنا قال السدّي : التراب ، وقتادة : الهشيم ، ومجاهد : البالي ، وقطرب : الرماد ، وابن عيسى : المنسحق الذي لا يرم ، جعل الهمزة في أرم للسلب.
روي أن الريح كانت تمر بالناس ، فيهم الرجل من قوم عاد ، فتنزعه من بينهم وتهلكه.
{ تمتعوا حتى حين } ، قال الحسن : هذا كان حين بعث إليهم صالح ، أمروا بالإيمان بما جاء به ، والتمتع إلى أن تأتي آجالهم ، ثم إنهم عتوا بعد ذلك ، ولذلك جاء العطف بالفاء المقتضية تأخر العتو عن ما أمروا به ، فهو مطابق لفظاً ووجود.
وقال الفراء : هذا الأمر بالتمتع كان بعد عقر الناقة ، والحين ثلاثة أيام التي أوعدوا في تمامها بالعذاب.
فالعتو كان قد تقدم قبل أن يقال لهم تمتعوا ، ولا ضرورة تدعو إلى قول الفراء ، إذ هو غير مرتب في الوجود.
وقرأ الجمهور : الصاعقة؛ وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما ، والكسائي : الصعقة ، وهي الصيحة هنا.
وقرأ الحسن : الصاعقة؛ وزيد بن علي كقراءة الكسائي.
{ وهم ينظرون } : أي فجأة ، وهم ينظرون بعيونهم ، قاله الطبري : وكانت نهاراً.
وقال مجاهد : { وهم ينظرون } ينتظرون ذلك في تلك الأيام الثلاثة التي أعلموه فيها ، ورأوا علاماته في قلوبهم ، وانتظار العذاب أشد من العذاب.
{ فما استطاعوا من قيام } ، لقوله : { فأصبحوا في دارهم جاثمين } ونفي الاستطاعة أبلغ من نفي القدرة.
{ وما كانوا منتصرين } ، أبلغ من نفي الانتصار : أي فما قدروا على الهرب ، ولا كانوا ممن ينتصر لنفسه فيدفع ما حل به.
وقيل : { من قيام } ، هو من قولهم : ما يقوم به إذا عجز عن دفعه ، فليس المعنى انتصاب القامة ، قاله قتادة.
وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : { وقوم } بالجر عطفاً على ما تقدم ، أي وفي قوم نوح ، وهي قراءة عبد الله.
وقرأ باقي السبعة ، وأبو عمرو في رواية : بالنصب.
قيل : عطفاً على الضمير في { فأخذتهم } ؛ وقيل : عطفاً على { فنبذناهم } ، لأن معنى كل منهما : فأهلكناهم.
وقيل : منصوب بإضمار فعل تقديره : وأهلكنا قوم نوح ، لدلالة معنى الكلام عليه.
وقيل : باذكر مضمرة.
وروى عبد الوارث ، ومحبوب ، والأصمعي عن أبي عمرو ، وأبو السمال ، وابن مقسم : وقوم نوح بالرفع على الابتداء ، والخبر محذوف ، أي أهلكناهم.

وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

أي : وبنينا السماء ، فهو من باب الاشتغال ، وكذا وفرشنا الأرض.
وقرأ أبو السمال ، ومجاهد ، وابن مقسم : برفع السماء ورفع الأرض على الابتداء.
{ بأيد } : أي بقوة ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وهو كقوله : { داود ذا الأيد } { وإنا لموسعون } : أي بناءها ، فالجملة حالية ، أي بنيناها موسعوها ، كقوله : جاء زيد وإنه لمسرع ، أي مسرعاً ، فهي بحيث أن الأرض وما يحيط من الماء والهواء كالنقطة وسط الدائرة.
وقال ابن زيد قريباً من هذا وهو : أن الوسع راجع إلى السماء.
وقيل : لموسعون قوة وقدرة ، أي لقادرون من الوسع ، وهو الطاقة.
وقال الحسن : أوسع الرزق بالمطر والماء.
{ فنعم الماهدون } ، و { خلقنا زوجين } ، قال مجاهد : إشارة إلى المتضادات والمتقابلات ، كالليل والنهار ، والشقاوة والسعادة ، والهدى والضلال ، والسماء والأرض ، والسواد والبياض ، والصحة والمرض ، والكفر والإيمان ، ونحو ذلك ، ورجحه الطبري بأنه أدل على القدرة التي توجد الضدين ، بخلاف ما يفعل بطبعه ، كالتسخين والتبريد.
ومثل الحسن بأشياء مما تقدم وقال : كل اثنين منها زوج ، والله تعالى فرد لا مثل له.
وقال ابن زيد وغيره : { من كل شيء } : أي من الحيوان ، { خلقنا زوجين } : ذكراً وأنثى.
وقيل : المراد بالشيء الجنس ، وما يكون تحت الجنس نوعان : فمن كل جنس خلق نوعين من الجواهر ، مثل النامي والجامد.
ومن النامي المدرك والنبات ، ومن المدرك الناطق والصامت ، وكل ذلك يدل على أنه فرد لا كثرة فيه.
{ لعلكم تذكرون } : أي بأني باني السماء وفارش الأرض وخالق الزوجين ، تعالى أن يكون له زوج.
أو تذكرون أنه لا يعجزه حشر الأجساد وجمع الأرواح.
وقرأ أبي : تتذكرون ، بتاءين وتخفيف الذال.
وقيل : إرادة أن تتذكروا ، فتعرفوا الخالق وتعبدوه.
{ ففروا إلى الله } : أمر بالدخول في الإيمان وطاعة الله ، وجعل الأمر بذلك بلفظ الفرار ، لينبه على أن وراء الناس عقاب وعذاب.
وأمر حقه أن يفر منه ، فجمعت لفظة ففروا بين التحذير والاستدعاء.
وينظر إلى هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا ملجأ وملا منجا منك إلا إليك » ، قاله ابن عطية ، وهو تفسير حسن.
وقال الزمخشري : إلى طاعته وثوابه من معصيته وعقابه ، ووحدوه ولا تشركوا به شيئاً.
وكرر { إني لكم منه نذير مبين } ، عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ، ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل ، كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان ، وأنه لا يفوز عند الله إلا الجامع بينهما.
ألا ترى إلى قوله : { لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً } والمعنى : قل يا محمد ففروا إلى الله.
انتهى ، وهو على طريق الاعتزال.
وقد رددنا عليه في تفسير { لا ينفع نفساً إيمانها } في موضع هذه الآية.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46