كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

فأراد أن يرشدكم إلى شرائع دينكم وأحكام ملتكم بالبيان والتفصيل ، كما أرشد الذين من قبلكم من المؤمنين.
وقيل : الهداية في أحد أمرين : أما أنا خوطبنا في كل قصة نهياً أو أمراً كما خوطبوا هم أيضاً في قصصهم ، وشرع لنا كما شرع لهم ، فهدايتنا سننهم في الإرشاد ، وإن اختلفت أحكامنا وأحكامهم.
والأمر الثاني : أنّ هدايتنا سننهم في أنّ سمعنا وأطعنا كما سمعوا وأطاعوا ، فوقع التماثل من هذه الجهة.
والمراد بالهداية هنا الإرشاد والتوضيح ، ولا يتوجه غير ذلك بقرينة السنن ، والذين من قبلناهم المؤمنون من كل شريعة.
وقال صاحب ري الظمآن وهو أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي : قوله تعالى : يريد الله ليبين لكم ، أي : يريد أن يبين ، أو يريد إنزال الآيات ليبين لكم.
وقوله تعالى : ويهديكم ، قال المفسرون : معناهما واحد ، والتكرار لأجل التأكيد ، وهذا ضعيف.
والحق أنَّ المراد من الأول تبيين التكاليف ، ثم قال : ويهديكم.
وفيه قولان : أحدهما : أن هذا دليل على أن كل ما بين تحريمه لنا وتحليله من النساء في الآيات المتقدمة ، فقد كان الحكم كذلك أيضاً في جميع الشرائع ، وإن كانت مختلفة في نفسها ، متفقة في باب المصالح انتهى.
وتقدم معنى هذه الأقوال التي ذكرها.
وقوله : أي يريد أن يبين ، موافق لقول الزمخشري.
{ ويتوب عليكم } أي يردكم من عصيانه إلى طاعته ، ويوفقكم لها.
{ والله عليم حكيم } عليم بأحوالكم وبما تقدم من الشرائع والمصالح ، حكيم يصيب بالأشياء مواضعها بحسب الحكمة والإتقان.
{ والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً } تعلق الإرادة أولاً بالتوبة على سبيل العلية على ما اخترناه من الأقوال ، لأن قوله : ويتوب عليكم ، معطوف على العلة ، فهو علة.
ونعلقها هنا على سبيل المفعولية ، فقد اختلف التعلقان فلا تكرار.
وكما أراد سبب التوبة فقد أراد التوبة عليهم ، إذ قد يصح إرادة السبب دون الفعل.
ومن ذهب إلى أنّ متعلق الإرادة في الموضعين واحد كان قوله : والله يريد أن يتوب عليكم تكراراً لقوله : ويتوب عليكم ، لأن قوله : ويتوب عليكم ، معطوف على مفعول ، فهو مفعول به.
قال ابن عطية : وتكرار إرادة الله للتوبة على عباده تقوية للإخبار الأول ، وليس المقصد في الآية إلا الإخبار عن إرادة الذين يتبعون الشهوات ، فقدمت إرادة الله توطئة مظهرة لفساد متبعي الشهوات.
انتهى كلامه.
فاختار مذهب الكوفيين في أن جعلوا قوله : ليبين ، في معنى أن يبين ، فيكون مفعولاً ليريد ، وعطف عليه : ويتوب ، فهو مفعول مثله ، ولذلك قال : وتكرار إرادة الله التوبة على عباده إلى آخر كلامه.
وكان قد حكى قول الكوفيين وقال : وهذا ضعيف ، فرجع أخيراً إلى ما ضعفه ، وكان قد قدم أنَّ مذهب سيبويه : أنَّ مفعول : يريد ، محذوف ، والتقدير : يريد الله هذا التبيين.

والشهوات جمع شهوة ، وهي ما يغلب على النفس محبته وهواه.
ولما كانت التكاليف الشرعية فيها قمع النفس وردها عن مشتهياتها ، كان اتباع شهواتها سبباً لكل مذمّة ، وعبر عن الكافر والفاسق بمتبع الشهوات كما قال تعالى : { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً } واتباع الشهوة في كل حال مذموم ، لأن ذلك ائتمار لها من حيث ما دعته الشهوة إليه.
أما إذا كان الاتباع من حيث العقل أو الشرع فذلك هو اتباع لهما لا للشهوة.
ومتبعو الشهوات هنا هم الزناة قاله : مجاهد.
أو اليهود والنصارى قاله : السدي.
أو اليهود خاصة لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب ، أو المجوس كانوا يحلون نكاح الأخوات من الأب ، ونكاح بنات الأخ ، وبنات الأخت ، فلما حرّمهنّ الله قالوا : فإنكم تحلون بنت الخالة والعمة ، والعمة عليكم حرام ، فانكحوا بنات الأخ والأخت ، أو متبعو كل شهوة قاله : ابن زيد ، ورجحه الطبري.
وظاهره العموم والميل ، وإن كان مطلقاً فالمراد هنا الميل عن الحق ، وهو الجور والخروج عن قصد السبيل.
ولذلك قابل إرادة الله بإرادة متبعي الشهوات ، وشتان ما بين الإرادتين.
وأكد فعل الميل بالمصدر على سبيل المبالغة ، لم يكتف حتى وصفه بالعظم.
وذلك أن الميول قد تختلف ، فقد يترك الإنسان فعل الخير لعارض شغل أو لكسل أو لفسق يستلذ به ، أو لضلالة بأن يسبق له سوء اعتقاد.
ويتفاوت رتب معالجة هذه الأشياء ، فبعضها أسهل من بعض ، فوصف مثل هؤلاء بالعظم ، إذ هو أبعد الميول معالجة وهو الكفر.
كما قال تعالى : { ودوا لو تكفرون } { ويريدون أن تضلوا السبيل }
وقرأ الجمهور : أن تميلوا بتاء الخطاب.
وقرىء : بالياء على الغيبة.
فالضمير في يميلوا يعود على الذين يتبعون الشهوات.
وقرأ الجمهور : ميلاً بسكون الياء.
وقرأ الحسن : بفتحها ، وجاءت الجملة الأولى اسمية ، والثانية فعلية لإظهار تأكيد الجملة الأولى ، لأنها أدل على الثبوت.
ولتكرير اسم الله تعالى فيها على طريق الإظهار والإضمار.
وأما الجملة الثانية فجاءت فعلية مشعرة بالتجدد ، لأن أرادتهم تتجدد في كل وقت.
والواو في قوله : ويريد للعطف على ما قررناه.
وأجاز الراغب أن تكون الواو للحال لا للعطف ، قال : تنبيهاً على أنه يريد التوبة عليكم في حال ما تريدون أن تميلوا ، فخالف بين الإخبارين في تقديم المخبر عنه في الجملة الأولى ، وتأخيره في الجملة الثانية ، ليبين أنَّ الثاني ليس على العطف انتهى.
وهذا ليس بجيد ، لأنّ إرادته تعالى التوبة علينا ليست مقيدة بإرادة غيره الميل ، ولأنّ المضارع باشرته الواو ، وذلك لا يجوز ، وقد جاء منه شيء نادر يؤوّل على إضمار مبتدأ قبله ، لا ينبغي أن يحمل القرآن عليه ، لا سيما إذا كان للكلام محمل صحيح فصيح ، فحمله على النادر تعسف لا يجوز.
{ يريد الله أن يخفف عنكم } لم يذكر متعلق التخفيف ، وفي ذلك أقوال : أحدها أن يكون في إباحة نكاح الأمة وغيره من الرخص.

الثاني في تكليف النظر وإزالة الحيرة فيما بين لكم مما يجوز لكم من النكاح وما لا يجوز.
الثالث : في وضع الاصر المكتوب على من قبلنا ، وبمجيء هذه الملة الحنيفية سهلة سمحة.
الرابع : بإيصالكم إلى ثواب ما كلفكم من تحمل التكاليف.
الخامس : أن يخفف عنكم إثم ما ترتكبون من المآثم لجهلكم.
وأعربوا هذه الجملة حالاً من قوله : والله يريد أن يتوب عليكم ، والعامل في الحال يريد ، التقدير : والله يريد أن يتوب عليكم مريداً أن يخفف عنكم ، وهذا الإعراب ضعيف ، لأنه قد فصل بين العامل والحال بجملة معطوفة على الجملة التي في ضمنها العامل ، وهي جملة أجنبية من العامل والحال ، فلا ينبغي أن تجوز إلا بسماع من العرب.
ولأنه رفع الفعل الواقع حالاً الاسم الظاهر ، وينبغي أن يرفع ضميره لا ظاهره ، فصار نظير : زيد يخرج يضرب زيد عمراً.
والذي سمع من ذلك إنما هو في الجملة الابتدائية ، أو في شيء من نواسخها.
أما في جملة الحال فلا أعرف ذلك.
وجواز ذلك فيما ورد إنما هو فصيح حيث يراد التفخيم والتعظيم ، فيكون الربط في الجملة الواقعة خبراً بالظاهر.
أما جملة الحال أو الصفة فيحتاج الربط بالظاهر فيها إلى سماع من العرب ، والأحسن أن تكون الجملة مستأنفة ، فلا موضع لها من الإعراب.
أخبر بها تعالى عن إرادته التخفيف عنا ، كما جاء { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }
{ وخلق الإنسان ضعيفاً } قال مجاهد وطاووس وابن زيد : الإخبار عن ضعف الإنسان إنما هو في باب النساء ، أي لما علمنا ضعفكم عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء.
قال طاووس : ليس يكون الإنسان أضعف منه في أمر النساء.
وقال ابن المسيب : ما أيس الشيطان من بني آدم قط إلا أتاهم من النساء ، فقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشق بالأخرى ، وأن أخوف ما أخاف عليّ فتنة النساء.
قال الزمخشري : ضعيفاً لا يصبر عن الشهوات ، وعلى مشاق الطاعات.
قال ابن عطية : ثم بعد هذا المقصد أي : تخفيف الله بإباحة الإماء ، يخرج الآية مخرج التفضل ، لأنها تتناول كل ما خفف الله عن عباده وجعله الدين يسراً ، ويقع الإخبار عن ضعف الإنسان عاماً حسبما هو في نفسه ضعيف يستميله هواه في الأغلب.
قال الراغب : ووصف الإنسان بأنه خلق ضعيفاً ، إنما هو باعتباره بالملأ الأعلى نحو : { أأنتم أشد خلقاً أم السماء } أو باعتباره بنفسه دون ما يعتريه من فيض الله ومعونته ، أو اعتباراً بكثرة حاجاته وافتقار بعضهم إلى بعض ، أو اعتباراً بمبدئه ومنتهاه كما قال تعالى : { الله الذي خلقكم من ضعف } فأما إذا اعتبر بعقله وما أعطاه من القوة التي يتمكن بها من خلافة الله في أرضه ويبلغ بها في الآخرة إلى جواره تعالى ، فهو أقوى ما في هذا العالم.

ولهذا قال تعالى : { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً } وقال الحسن : ضعيفاً لأنه خلق من ماء مهين.
قال الله تعالى : الذي خلقكم من ضعف.
وقرأ ابن عباس ومجاهد : وخلق الإنسان مبنياً للفاعل مسنداً إلى ضمير اسم الله ، وانتصاب ضعيفاً على الحال.
وقيل : انتصب على التمييز.
لأنه يجوز أن يقدر بمن ، وهذا ليس بشيء.
وقيل : انتصب على إسقاط حرف الجر ، والتقدير : من شيء ضعيف ، أي من طين ، أو من نطفة وعلقة ومضغة.
ولما حذف الموصوف والجار انتصبت الصفة بالفعل نفسه.
قال ابن عطية : ويصح أن يكون خلق بمعنى جعل ، فيكسبها ذلك قوّة التعدي إلى مفعولين ، فيكون قوله : ضعيفاً مفعولاً ثانياً انتهى.
وهذا هو الذي ذكره من أنّ خلق يتعدى إلى اثنين بجعلها بمعنى جعل ، لا أعلم أحداً من النحويين ذهب إلى ذلك ، بل الذي ذكر الناس أنّ من أقسام جعل أن يكونن بمعنى خلق ، فيتعدّى إلى مفعول واحد ، كقوله تعالى : { وجعل الظلمات والنور } أما العكس فلم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمناه ، والمتأخرون الذين تتبعوا هذه الأفعال لم يذكروا ذلك.
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعاً من البيان والبديع.
منها : التجوّز بإطلاق اسم الكل على البعض في قوله : يأتين الفاحشة ، لأن أل تستغرق كل فاحشة وليس المراد بل بعضها ، وإنما أطلق على البعض اسم الكل تعظيماً لقبحه وفحشه ، فإن كان العرف في الفاحشة الزنا ، فليس من هذا الباب إذ تكون الألف واللام للعهد.
والتجوّز بالمراد من المطلق بعض مدلوله في قوله : فآذوهما إذ فسر بالتعيير أو الضرب بالنعال ، أو الجمع بينهما ، وبقوله : سبيلاً والمراد الحد ، أو رجم المحصن.
وبقوله : فأعرضوا عنهما أي اتركوهما.
وإسناد الفعل إلى غير فاعله في قوله : حتى يتوفاهنّ الموت ، وفي قوله : حتى إذا حضر أحدهم الموت.
والتجنيس المغاير في : إن تابا إن الله كان توّاباً ، وفي : أرضعنكم ومن الرضاعة ، وفي : محصنات فإذا أحصنّ.
والتجنيس المماثل في : فإن كرهتموهنّ فعسى أن تكرهوا ، وفي : ولا تنكحوا ما نكح.
والتكرار في : اسم الله في مواضع ، وفي : إنما التوبة وليست التوبة ، وفي : زوج مكان زوج ، وفي : أمّهاتكم وأمّهاتكم اللاتي ، وفي : إلا ما قد سلف ، وفي : المؤمنات في قوله : المحصنات المؤمنات ، وفي : فتياتكم المؤمنات ، وفي : فريضة ومن بعد الفريضة ، وفي : المحصنات من النساء والمحصنات ، ونصف ما على المحصنات ، وفي : بعضكم من بعض ، وفي : يريد في أربعة مواضع ، وفي : يتوب وأن يتوب ، وفي : إطلاق المستقبل على الماضي ، في : واللاتي يأتين الفاحشة وفي : واللذان يأتيانها منكم ، وفي : يعملون السوء وفي : ثم يتوبون ، وفي : يريد وفي : ليبين ، لأن إرادة الله وبيانه قديمان ، إذ تبيانه في كتبه المنزلة والإرادة والكلام من صفات ذاته وهي قديمة.

والإشارة والإيماء في قوله؛ كرهاً ، فإن تحريم الإرث كرهاً يومىء إلى جوازه طوعاً ، وقد صرح بذلك في قوله : فإن طبن ، وفي قوله : ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ ، فله أن يعضلها على غير هذه الصفة لمصلحة لها تتعلق بها ، أو بمالها ، وفي : إنه كان فاحشة أومأ إلى نكاح الأبناء في الجاهلية نساء الآباء ، وفي : أحل لكم ما وراء ذلكم إشارة إلى ما تقدم في المحرمات ، ذلك لمن خشي العنت إشارة إلى تزويج الإماء.
والمبالغة في تفخيم الأمر وتأكيده في قوله : وآتيتم إحداهنّ قنطاراً عظم الأمر حتى ينتهي عنه.
والاستعارة في قوله : وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً ، استعار الأخذ للوثوق بالميثاق والتمسك به ، والميثاق معنى لا يتهيأ فيه الأخذ حقيقة ، وفي : كتاب الله عليكم أي فرض الله ، استعار للفرض لفظ الكتاب لثبوته وتقريره ، فدل بالأمر المحسوس على المعنى المعقول.
وفي : محصنين ، استعار لفظ الإحصان وهو الامتناع في المكان الحصين للامتناع بالعقاب ، واستعار لكثرة الزنا السفح وهو صب الماء في الأنهار والعيون بتدفق وسرعة ، وكذلك : فآتوهن أجورهن استعار لفظ الأجور للمهور ، والأجر هو ما يدل على عمل ، فجعل تمكين المرأة من الانتفاع بها كأنه عمل تعمله.
وفي قوله : طولاً استعارة للمهر يتوصل به للغرض ، والطول وهو الفضل يتوصل به إلى معالي الأمور.
وفي قوله : يتبعون الشهوات استعار الاتباع والميل اللذين هما حقيقة في الإجرام لموافقة هوى النفس المؤدي إلى الخروج عن الحق.
وفي قوله : أن يخفف ، والتخفيف أصله من خفة الوزن وثقل الجرم ، وتخفيف التكاليف رفع مشاقها من النفس ، وذلك من المعاني.
وتسمية الشيء بما يؤول إليه في قوله : أن ترثوا النساء كرهاً ، سمي تزويج النساء أو منعهن للأزواج إرثاً ، لأن ذلك سبب الإرث في الجاهلية.
وفي قوله : وخلق الإنسان ضعيفاً جعله ضعيفاً باسم ما يؤول إليه ، أو باسم أصله.
والطباق المعنوي في قوله : وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ، وقد فسر الخير الكثير بما هو محبوب.
وفي قوله : والمحصنات من النساء ، أي حرام عليكم ثم قال : وأحل لكم.
والذي يظهر أنه من الطباق اللفظي ، لأن صدر الآية حرمت عليكم أمهاتكم ، ثم نسق المحرمات ، ثم قال : وأحل لكم ، فهذا هو الطباق.
وفي قوله : محصنين غير مسافحين ، والمحصن الذي يمنع فرجه ، والمسافح الذي يبذله.
والاحتراس في قوله : اللاتي دخلتم بهن احترز من اللاتي لم يدخل بهن ، وفي وربائبكم اللاتي في حجوركم احترس من اللاتي ليست في الحجور.
وفي قوله : والمحصنات من النساء إذا المحصنات قد يراد بها الأنفس المحصنات ، فيدخل تحتها الرجال ، فاحترز بقوله : من النساء.
والاعتراض بقوله : والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض.
والحذف في مواضع لا يتم المعنى إلا بها.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)

الجار : القريب المسكن منك ، وألفه منقلبة عن واو لقولهم : جاورت ، ويجمع على جيران وجيرة.
والجنب : البعيد.
والجنابة البعد قال :
فلا تحرمني نائلاً عن جنابة . . .
فإني امرؤ وسط القباب غريب
وهو من الاجتناب ، وهو أن يترك الرجل جانباً.
وقال تعالى : { واجنبني } أي بعدني ، وهو وصف على فعل كناقة سرح.
المختال : المتكبر ، وهو اسم فاعل من اختال ، وألفه منقلبة عن ياء لقولهم : الخيلاء والمخيلة.
ويقال : خال الرجل يخول خولاً إذا تكبر وأعجب بنفسه ، فتكون هذه مادة أخرى ، لأن تلك مركبة من خيل خ ي ل ، وهذه مادة من خ و ل.
الفخور : فعول من فخر ، والفخر عد المناقب على سبيل الشغوف والتطاول.
القرين : فعيل بمعنى مفاعل ، من قارنه إذا لازمه وخالطه ، ومنه سميت الزوجة قرينة.
ومنه قيل لما يلزمن الإبل والبقر : قرينان ، وللحبل الذي يشدان به قرن قال الشاعر :
وابن اللبون إذا ما لز في قرن . . .
لم يستطع صوله البزل القناعيس
وقال :
كمدخل رأسه لم يدنه أحد . . .
من القرينين حتى لزه القرن
{ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } تقدم شرح نظير هذه الجملة في قوله : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا } ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما بين كيفية التصرف في النفوس بالنكاح ، بيّن كيفية التصرف في الأموال الموصلة إلى النكاح ، وإلى ملك اليمين ، وأن المهور والأثمان المبذولة في ذلك لا تكون مما ملكت بالباطل ، والباطل هو كل طريق لم تبحه الشريعة ، فيدخل فيه : السرقة ، والخيانة ، والغصب ، والقمار ، وعقود الربا ، وأثمان البياعات الفاسدة ، فيدخل فيه بيع العربان وهو : أن يأخذ منك السلعة ويكري الدابة ويعطي درهماً مثلاً عرباناً ، فإن اشترى ، أو ركب ، فالدرهم من ثمن السلعة أو الكراء ، وإلا فهو للبائع.
فهذا لا يصح ولا يجوز عند جماهير الفقهاء ، لأنه من باب أكل المال بالباطل.
وأجاز قوم منهم : ابن سيرين ، ومجاهد ، ونافع بن عبيد ، وزيد بن أسلم : بيع العربان على ما وصفناه ، والحجج في كتب الفقه.
وقد اختلف السلف في تفسير قوله : بالباطل.
فقال ابن عباس والحسن : هو أن يأكله بغير عوض.
وعلى هذا التفسير قال ابن عباس : هي منسوخة ، إذ يجوز أكل المال بغير عوض إذا كان هبة أو صدقة أو تمليكاً أو إرثاً ، أو نحو ذلك مما أباحت الشريعة أخذه بغير عوض.
وقال السدي : هو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم ، وغير ذلك مما لم يبح الله تعالى أكل المال به.
وعلى هذا تكون الآية محكمة وهو قول ابن مسعود والجمهور.
وقال بعضهم : الآية مجملة ، لأن معنى قوله : بالباطل ، بطريق غير مشروع.
ولمّا لم تكن هذه الطريق المشروعة مذكورة هنا على التفصيل ، صارت الآية مجملة.

وإضافة الأموال إلى المخاطبين معناه : أموال بعضكم.
كما قال تعالى : { فمن ما ملكت أيمانكم } وقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } وقيل : يشمل قوله : أموالكم ، مال الغير ومال نفسه.
فنهى أن يأكل مال غيره إلا بطريق مشروع ، ونهى أن يأكل مال نفسه بالباطل ، وهو : إنفاقه في معاصي الله تعالى.
وعبر هنا عن أخذ المال بالأكل ، لأن الأكل من أغلب مقاصده وألزمها.
{ إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } هذا استثناء منقطع لوجهين : أحدهما : أن التجارة لم تندرج في الأموال المأكولة بالباطل فتستثنى منها سواء أفسرت قوله بالباطل بغير عوض كما قال : ابن عباس ، أم بغير طريق شرعي كما قاله غيره.
والثاني : أن الاستثناء إنما وقع على الكون ، والكون معنى من المعاني ليس مالاً من الأموال.
ومن ذهب إلى أنه استثناء متصل فغير مصيب لما ذكرناه.
وهذا الاستثناء المنقطع لا يدل على الحصر في أنه لا يجوز أكل المال إلا بالتجارة فقط ، بل ذكر نوع غالب من أكل المال به وهو : التجارة ، إذ أسباب الرزق أكثرها متعلق بها.
وفي قوله : عن تراض دلالة على أنّ ما كان على طريق التجارة فشرطه التراضي ، وهو من اثنين : الباذل للثمن ، والبائع للعين.
ولم يذكر في الآية غير التراضي ، فعلى هذا ظاهر الآية يدل على أنه لو باع ما يساوي مائة بدرهم جاز إذا تراضيا على ذلك ، وسواء أعلم مقدار ما يساوي أم لم يعلم.
وقالت فرقة : إذا لم يعلم قدر الغبن وتجاوز الثلث ، ردّ البيع.
وظاهرها يدل على أنه إذا تعاقد بالكلام أنه تراض منهما ولا خيار لهما ، وإن لم يتفرقا.
وبه قال : أبو حنيفة ، ومالك ، وروى نحوه عن عمر.
وقال الثوري ، والليث ، وعبيد الله بن الحسن ، والشافعي : إذا عقدا فهما على الخيار ما لم يتفرّقا ، واستثنوا صوراً لا يشترط فيها التفرق ، واختلفوا في التفرق.
فقيل : بأن يتوارى كل منهما عن صاحبه.
وقال الليث : بقيام كل منهما من المجلس.
وكل من أوجب الخيار يقول : إذا خيره في المجلس فاختار ، فقد وجب البيع.
وروى خيار المجلس عن عمر أيضاً.
وأطال المفسرون بذكر الاحتجاج لكل من هذه المذاهب ، وموضوع ذلك كتب الفقه.
والتجارة اسم يقع على عقود المعاوضات المقصود منها طلب الأرباح.
وأن تكون في موضع نصب أي : لكن كون تجارة عن تراض غير منهي عنه.
وقرأ الكوفيون : تجارة بالنصب ، على أن تكون ناقصة على تقدير مضمر فيها يعود على الأموال ، أو يفسره التجارة ، والتقدير : إلا أن تكون الأموال تجارة ، أو يكون التقدير : إلا أن تكون التجارة تجارة عن تراض منكم.
كما قال : إذا كان يوماً ذا كوكب أشنعا.
أي إذا كان هواي اليوم يوماً ذا كوكب.
واختار قراءة الكوفيين أبو عبيد ، وقرأ باقي السبعة : تجارة بالرفع ، على أنّ كان تامة.

وقال مكي بن أبي طالب : الأكثر في كلام العرب أن قولهم إلا أن تكون في الاستثناء بغير ضمير فيها على معنى يحدث أو يقع ، وهذا مخالف لاختيار أبي عبيد.
وقال ابن عطية : تمام كان يترجح عند بعض لأنها صلة ، فهي محطوطة عن درجتها إذا كانت سليمة من صلة وغيرها ، وهذا ترجيح ليس بالقوي ، ولكنه حسن انتهى ما ذكره.
ويحتاج هذا الكلام إلى فكر ، ولعله نقص من النسخة شيء يتضح به هذا المعنى الذي أراده.
وعن تراض : صفة للتجارة أي : تجارة صادرة عن تراض.
{ ولا تقتلوا أنفسكم } ظاهره النهي عن قتل الإنسان نفسه كما يفعله بعض الجهلة بقصد منه ، أو بحملها على غرر يموت بسببه ، كما يصنع بعض الفتاك بالملوك ، فإنهم يقتلون الملك ويقتلون بلا شك.
وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد ، وأقر رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجاجه.
وقيل : يحتمل أن يكون المعنى : لا تفعلوا ما تستحقون به القتل من القتل والردّة والزنا بعد الإحصان.
قال ابن عطية : وأجمع المتأوّلون أنّ القصد النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضاً.
وقال الزمخشري عن الحسن : إن المعنى لا تقتلوا إخوانكم انتهى.
وعلى هذا المعنى أضاف القتل إلى أنفسهم لأنهم كنفس واحدة ، أو من جنس واحد ، أو من جوهر واحد.
ولأنه إذا قتل قتلَ على سبيل القصاص ، وكأنه هو الذي قتل نفسه.
وما ذكره ابن عطية من إجماع المتأوّلين ذكر غيره فيه الخلاف.
قال ما ملخصه : يحتمل أن يراد حقيقة القتل ، فيحتمل أن يكون المعنى : لا يقتل بعضكم بعضاً.
ويحتمل أن يكون المعنى : لا يقتل أحد نفسه لضر نزل به ، أو ظلم أصابه ، أو جرح أخرجه عن حد الاستقامة.
ويحتمل أن يراد مجاز القتل أي : يأكل المال بالباطل ، أو بطلب المال والانهماك فيه ، أو يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى الهلاك ، أو يفعل هذه المعاص والاستمرار عليها.
فيكون القتل عبر به عن الهلاك مجازاً كما جاء : شاهد قتل ثلاثاً نفسه ، والمشهود له ، والمشهود عليه أي : أهلك.
وقرأ علي والحسن : ولا تقتلوا بالتشديد.
{ إن الله كان بكم رحيماً } حيث نهاكم عن إتلاف النفوس ، وعن أكل الحرام ، وبين لكم جهة الحل التي ينبغي أن يكون قوام الأنفس.
وحياتها بما يكتسب منها ، لأنّ طيب الكسب ينبني عليه صلاح العبادات وقبولها.
ألا ترى إلى ما ورد مَن حجّ بمال حرام أنه إذا قال : لبيك قال الله له : لا لبيك ولا سعديك ، وحجك مردود عليك.
وألا ترى إلى الداعي ربه ومطعمه حرام وملبسه حرام كيف جاء أنّى يستجاب له؟ وكان النهي عن أكل المال بالباطل متقدماً على النهي عن قتل أنفسهم ، لأنه أكثر وقوعاً ، وأفشى في الناس من القتل ، لا سيما إن كان المراد ظاهر الآية من أنه نهى أن يقتل الإنسان نفسه ، فإن هذه الحالة نادرة.

وقيل : رحيماً حيث لم يكلفكم قتل أنفسكم حين التوبة كما كلف بني إسرائيل قتلهم أنفسهم ، وجعل ذلك توبة لهم وتمحيصاً لخطاياهم.
{ ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً } الإشارة بذلك إلى ما وقع النهي عنه في هذه الجملة من أكل المال بالباطل ، وقتل الأنفس.
لأن النهي عنهما جاء متسقاً مسروداً ، ثم ورد الوعيد حسب النهي.
وذهب إلى هذا القول جماعة.
وتقييد أكل المال بالباطل بالاعتداء والظلم على هذا القول ليس المعنى أن يقع على جهة لا يكون اعتداء وظلماً ، بل هو من الأوصاف التي لا يقع الفعل إلا عليه.
وقيل : إنما قال : عدواناً وظلماً ليخرج منه السهو والغلط ، وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام.
وأما تقييد قتل الأنفس على تفسير قتل بعضنا بعضاً بقوله : عدواناً وظلماً ، فإنما ذلك لأنّ القتل يقع كذلك ، ويقع خطأ واقتصاصاً.
وقيل الإشارة بذلك إلى أقرب مذكور وهو : قتل الأنفس ، وهو قول عطاء ، واختيار الزمخشري.
قال : ذلك إشارة إلى القتل أي : ومن يقدم على قتل الأنفس عدواناً وظلماً لا خطأ ولا اقتصاصاً انتهى.
ويكون نظير قوله : { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم } وذهب الطبري : إلى أنّ ذلك إشارة إلى ما سبق من النهي الذي لم يقترن به وعيد وهو من قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن } إلى هذا النهي الذي هو ولا تقتلوا أنفسكم ، فأما ما قبل ذلك من النهي فقد اقترن به الوعيد.
وما ذهب إليه الطبري بعيد جداً لأن كل جملة قد استقلت بنفسها ، ولا يظهر لها تعلق بما بعدها إلا تعلق المناسبة ، ولا تعلق اضطرار المعنى.
وأبعد من قول الطبري ما ذهب إليه جماعة من أن ذلك إشارة إلى كل ما نهى عنه من القضايا ، من أول السورة إلى النهي الذي أعقبه قوله : ومن يفعل ذلك.
وجوز الماتريدي أن يكون ذلك إشارة إلى أكل المال بالباطل ، قال : وذلك يرجع إلى ما سبق من أكل المال بالباطل ، أو قتل النفس بغير حق ، أو إليهما جميعاً انتهى.
فعلى هذا القول يكون في المشار إليه بذلك خمسة أقوال.
وانتصاب عدواناً وظلماً على المفعول من أجله ، وجوزوا أن يكونا مصدرين في موضع الحال ، أي : معتدين وظالمين.
وقرىء عدواناً بالكسر.
وقرأ الجمهور : نصليه بضم النون.
وقرأ النخعي والأعمش : بفتحها من صلاة ، ومنه شاة مصلية.
وقرىء أيضاً : نصليه مشدداً.
وقرىء : يصليه بالياء ، والظاهر أن الفاعل هو ضمير يعود على الله أي : فسوف يصليه هو أي : الله تعالى.
وأجاز الزمخشري أن يعود الضمير على ذلك قال : لكونه سبباً للمصلي ، وفيه بعد.

ومدلول ناراً مطلق ، والمراد والله أعلم تقييدها بوصف الشدّة ، أو ما يناسب هذا الجرم العظيم من أكل المال بالباطل وقتل الأنفس.
{ وكان ذلك على الله يسيراً } ذلك إشارة إلى إصلائه النار ، ويسره عليه تعالى سهولته ، لأن حجته بالغة وحكمه لا معقب له.
وقال الزمخشري : لأن الحكمة تدعو إليه ، ولا صارف عنه من ظلم أو نحوه ، وفيه دسيسة الاعتزال.
{ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً } مناسبة هذه الآية ظاهره ، لأنه تعالى لمّا ذكر الوعيد على فعل بعض الكبائر ، ذكر الوعد على اجتناب الكبائر.
والظاهر أنّ الذنوب تنقسم إلى كبائر وسيئات ، وهي التي عبر عنها أكثر العلماء بالصغائر.
وقد اختلفوا في ذلك ، فذهب الجمهور إلى انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر ، فمن الصغائر النظرة واللمسة والقبلة ونحو ذلك مما يقع عليه اسم التحريم ، وتكفر الصغائر باجتناب الكبائر.
وذهب جماعة من الأصوليين منهم الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني ، وأبو المعالي ، وأبو نصر عبد الرحيم القشيري : إلى أن الذنوب كلها كبائر ، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها ، كما يقال : الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر ، والقبلة المحرّمة صغيرة بالنسبة إلى الزنا ، ولا ذنب يغفر باجتناب ذنب آخر ، بل كل ذنب كبيرة وصاحبه ومرتكبه في المشيئة غير الكفر.
وحملوا قوله تعالى : كبائر ما تنهون عنه على أنواع الشرك والكفر قالوا : ويؤيده قراءة كبير على التوحيد ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « » من اقتطع حق امرىء مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة « فقال له رجل : يا رسول الله وإن كان يسيراً؟ قال : » وإن كان قضيباً من أراك « » فقد جاء الوعيد على اليسير ، كما جا على الكثير.
وروي عن ابن عباس مثل قول هؤلاء قال : كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة.
والذين ذهبوا إلى انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر ، وأن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر على ما اقتضاه ظاهر الآية وعضده الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من قوله : « ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر كله » وفي صحيح مسلم : « الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر »
واختلفوا في الكبائر فقال ابن مسعود : هي ثلاث ، القنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله.
وروي عنه أيضاً أنها أربع : فزاد الإشراك بالله.
وقال علي : هي سبع : الإشراك بالله ، وقتل النفس ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والفرار يوم الزحف ، والتعرّب بعد الهجرة.

وقال عبيد بن عمير : الكبائر سبع كقول عليّ في كل واحدة منها آية في كتاب الله ، وجعل الآية في التعرب : { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى } الآية وفي البخاري : « اتقوا السبع الموبقات » فذكر هذه إلا التعرب ، فجاء بدله السحر.
وقد ذهب قوم إلى أن هذه الكبائر هي هذه السبع التي ثبتت في البخاري.
وقال ابن عمر : فذكر هذه إلا السحر ، وزاد الإلحاد في المسجد الحرام.
والذي يستسخر بالوالدين من العقوق.
وقال ابن مسعود أيضاً والنخعي : هي جميع ما نهى عنه من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها ، وهي : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } وقال ابن عباس أيضاً فيما روي عنه : هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع.
وقال ابن عباس أيضاً : الكبائر كل ما ورد عليه وعيد بنار ، أو عذاب ، أو لعنة ، أو ما أشبه ذلك.
وإلى نحو من هذا ذهب أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي القرطبي ، قال : قد أطلت التفتيش عن هذا منذ سنين فصحّ لي أن كلّ ما توعد الله عليه بالنار فهو من الكبائر ، ووجدناه عليه السلام قد أدخل في الكبائر بنص لفظه أشياء غير التي ذكر في الحديث يعني الذي في البخاري فمنها ، قول الزور ، وعقوق الوالدين ، والكذب عليه صلى الله عليه وسلم ، وتعريض المرء أبويه للسبّ بأن يسبّ آباء الناس ، وذكر عليه السلام الوعيد الشديد بالنار على الكبر ، وعلى كفر نعمة المحسن في الحق ، وعلى النياحة في المآتم ، وحلق الشعر فيها ، وخرق الجيوب ، والنميمة ، وترك التحفظ من البول ، وقطيعة الرحم ، وعلى الخمر ، وعلى تعذيب الحيوان بغير الذكاة لأكل ما يحل أكله منها أو ما أبيح أكله منها ، وعلى لسان الإزار على سبيل التجوه ، وعلى المنان بما يفعل من الخير ، وعلى المنفق سلعته بالحلف الكاذب ، وعلى المانع فضل مائه من الشارب ، وعلى الغلول ، وعلى متابعة الأئمة للدنيا فإن أعطوا منها وفي لهم وإن لم يعطوا منها لم يوف لهم ، وعلى المقطتع بيمينه حق امرىء مسلم ، وعلى الإمام الغاش لرعيته ، ومن ادعى إلى غير أبيه ، وعلى العبد الآبق ، وعلى من غل ، ومن ادعى ما ليس له ، وعلى لاعن من لا يستحق اللعن ، وعلى بغض الأنصار ، وعلى تارك الصلاة ، وعلى تارك الزكاة ، وعلى بغض عليّ رضي الله عنه ، ووجدنا الوعيد الشديد في نص القرآن قد جاء على الزناة ، وعلى المفسدين في الأرض بالحرابة ، فصح بهذا قول ابن عباس انتهى كلامه.
يعني قوله هي : إلى السبعين أقرب منها إلى السبع.
وروي عن ابن عباس أنه قال : هي إلى سبعمائة أقرب ، لأنه لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار.
وقد اختلف القائلون بأنه يكفر الصغائر باجتناب الكبائر ، هل التكفير قطعي؟ أو غالب ظن؟ فجماعة من الفقهاء وأهل الحديث ذهبوا إلى أنه قطعيّ كما دلت عليه الآية والأحاديث ، والأصوليون قالوا : هو على غلبة الظن ، وقالوا : لو كان ذلك قطعياً لكانت الصغائر في حكم المباح يقطع بأن لا تبعة فيه ، ووصف مدخلاً بقوله : كريماً ومعنى كرمه : فضيلته ، ونفى العيوب عنه كما تقول : ثوب كريم ، وفلان كريم المحتد.

ومعنى تكفير السيئات إزالة ما يستحق عليها من العقوبات ، وجعلها كأن لم تكن ، وذلك مرتب على اجتناب الكبائر.
وقرأ ابن عباس وابن جبير : إن تجتنبوا كبير على الافراد ، وقد ذكرنا من احتج به على أنه أريد الكفر.
وأمّا من لم يقل ذلك فهو عنده جنس.
وقرأ المفضل عن عاصم : يكفر ويدخلكم بالياء على الغيبة.
وقرأ ابن عباس : من سيئاتكم بزيادة من.
وقرأ نافع : مدخلاً هنا ، وفي الحج بفتح الميم ، ورويت عن أبي بكر.
وقرأ باقي السبعة بضمها وانتصاب المضموم الميم إمّا على المصدر أي : إدخالاً ، والمدخل فيه محذوف أي : ويدخلكم الجنة إدخالاً كريماً.
وإمّا على أنه مكان الدخول ، فيجيء الخلاف الذي في دخل ، أهي متعدية لهذه الأماكن على سبيل التعدية للمفعول به؟ أم على سبيل الظرف؟ فإذا دخلت همزة النقل فالخلاف.
وأما انتصاب المفتوح الميم فيحتمل أن يكون مصدر الدخل المطاوع لأدخل ، التقدير : ويدخلكم فتدخلون دخولاً كريماً ، وحذف فتدخلون لدلالة المطاوع عليه ، ولدلالة مصدره أيضاً.
ويحتمل أن يراد به المكان ، فينتصب إذ ذاك إما بيدخلكم ، وإما بدخلتم المحذوفة على الخلاف ، أهو مفعول به أو ظرف.
{ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } قال قتادة والسدي : لما نزل { للذكر مثل حظ الأنثيين } قال الرجال : إنا لنرجو أن نفضل على النساء في الحسنات كالميراث.
وقال النساء : إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال كالميراث.
وقال عكرمة : قال النساء : وددنا أنّ الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر مثل ما يصيب الرجال.
وزاد مجاهد : أن ذلك عن أم سلمة.
وأنها قالت : وإنما لنا نصف الميراث فنزلت.
وروي عنها أنها قالت : ليتنا كنا رجالاً فنزلت.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما نهى عن أكل المال بالباطل ، وعن قتل الأنفس ، وكان ما نهى عنه مدعاة إلى التبسط في الدنيا والعلو فيها وتحصيل حطامها ، نهاهم عن تمني ما فضل الله به بعضهم على بعض ، إذ التمني لذلك سبب مؤثر في تحصيل الدنيا وشوق النفس إليها بكل طريق ، فلم يكتف بالنهي عن تحصيل المال بالباطل وقتل الأنفس ، حتى نهى عن السبب المحرّض على ذلك ، وكانت المبادرة إلى النهي عن المسبب آكد لفظاعته ومشقته فبدىء به ، ثم أتبع بالنهي عن السبب حسماً لمادة المسبب ، وليوافق العمل القلبي العمل الخارجي فيستوي الباطن والظاهر في الامتناع عن الأفعال القبيحة.

وظاهر الآية يدل على النهي أن يتمنى الإنسان لنفسه ما فضل به عليه غيره ، بل عليه أن يرضى بما قسم الله له.
وتمني ذلك هو أن يكون له مثل ما لذلك المفضل.
وقال ابن عباس وعطاء : هو أن يتمنى مال غيره.
وقال الزمخشري : نهوا عن الحسد ، وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال ، لأن ذلك التفضيل قسمة من الله تعالى صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد ، وبما يصلح للمقسوم له من بسط في الرزق أو قبض انتهى.
وهو كلام حسن.
وظاهر النهي إنما يتناول ما فضل الله به بعضهم على بعض.
أما تمني أشياء من أحوال صالحة له في الدنيا وأعمال يرجو بها الثواب في الآخرة فهو حسن لم يدخل في الآية.
وقد جاء في الحديث : « وددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيى ثم أقتل » وفي آخر الآية : { واسألوا الله من فضله } فدل على جواز ذلك.
وإذا كان مطلق تمني ما فضل الله به بعضهم على بعض منهياً عنه ، فإن يكون ذلك بقيد.
زوال نعمة من فضل عليه عنه بجهة الأحرى.
والأولى إذ هو الحسد المنهى عنه في الشرع ، والمستعاذ بالله منه في نص القرآن.
وقد اختلفوا إذا تمنى حصول مثل نعمة المفضل عليه له من غير أن تذهب عن المفضل ، فظاهر الآية المنع ، وبه قال المحققون ، لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين ، ومضرة عليه في الدنيا ، فلا يجوز أن يقول : اللهم أعطني.
داراً مثل دار فلان ، ولا زوجاً مثل زوجه ، بل يسأل الله ما شاء من غير تعرض لمن فضل عليه.
وقد أجازه بعض الناس.
{ للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن } قال ابن عباس وقتادة : معناه من الميراث ، لأن العرب كانت لا تورث النساء.
وضعف هذا القول لأن لفظ الاكتساب ينبو عنه ، لأن الاكتساب يدل على الاعتمال والتطلب للمكسوب ، وهذا لا يكون في الإرث ، لأنه مال يأخذه الوارث عفواً بغير اكتساب فيه ، وتفسير قتادة هذا متركب على ما قاله في سبب نزول الآية.
وقيل : يعبر بالكسب عن الإصابة ، كما روي أنّ بعض العرب أصاب كنزاً فقال له ابنه : بالله يا أبه أعطني من كسبك نصيباً ، أي مما أصبت.
ومنه قول خديجة رضي الله عنها : وتكسب المعدوم.
قالوا : ومنه قول الشاعر :
فإن أكسبوني نزر مال فإنني . . .
كسبتهم حمداً يدوم مع الدهر
وقالت فرقة : المعنى أن الله تعالى جعل لكل من الصنفين مكاسب تختص به ، فلا يتمنى أحد منها ما جعل للآخر.
فجعل للرجال الجهاد والإنفاق في المعيشة ، وحمل التكاليف الشاقة كالأحكام والإمارة والحسبة وغير ذلك.
وجعل للنساء الحمل ومشقته ، وحسن التبعل ، وحفظ غيب الزوج ، وخدمة البيوت.

وقيل : المعنى مما اكتسب من نعيم الدنيا ، فينبغي أن يرضى بما قسم الله له.
وهذه الأقوال الثلاثة هي بالنسبة لأحوال الدنيا.
وقالت فرقة : المعنى نصيب من الأجر والحسنات.
وقال الزمخشري : جعل ما قسم لكل من الرجال والنساء على حسب ما عرف الله من حاله الموجبة للبسط والقبض كسباً له انتهى.
وفي قوله : عرف الله نظر ، فإنه لا يقال في الله عارف ، نص الأئمة على ذلك ، لأن المعرفة في اللغة تستدعي قبلها جهلاً بالمعروف ، وذلك بخلاف العلم ، فإنه لا يستدعي جهلاً قبله.
وتسمية ما قسم الله كسباً له فيه نظر أيضاً ، فإنّ الاكتساب يقتضي الاعتمال والتطلب كما قلناه ، إلا إن قلنا أنَّ أكثر ما قسم له يستدعي اكتساباً من الشخص ، فأطلق الاكتساب على جميع ما قسم له تغليباً للأكثر.
وفي تعليق النصيب بالاكتساب حض على العمل ، وتنبيه على كسب الخير.
{ واسألوا الله من فضله } أي من زيادة إحسانه ونعمه.
لما نهاهم عن تمني ما فضل به بعضهم ، أمرهم بأن يعتمدوا في المزيد عليه تبارك وتعالى.
وظاهر قوله : من فضله ، العموم فيما يتعلق بأحوال الدنيا وأحوال الآخرة ، لأن ظاهر قوله : { ولا تتمنوا } ما فضل العموم أيضاً ، وهو قول الجمهور.
وقال ابن جبير وليث بن أبي سليم : هذا في العبادات والدين وأعمال البر ، وليس في فضل الدنيا.
وفي قوله : من فضله ، دلالة على عدم تعيين المطلوب ، لكن يطلب من فضل الله ما يكون سبباً لإصلاح دينه ودنياه على سبيل الإطلاق ، كما قال تعالى : { ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة }
وقرأ ابن كثير والكسائي : وسلوا بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على السين ، وذلك إذا كان أمراً للمخاطب ، وقبل السين واو أو فاء نحو : { فسل الذين يقرؤن } و { فاسألوا أهل الذكر } وقرأ باقي السبعة بالهمز.
قال ابن عطية : إلا في قوله : { واسألوا ما أنفقتم } فإنهم أجمعوا على الهمز فيه انتهى.
وهذا الذي ذكره ابن عطية وهم ، بل نصوص المقرئين في كتبهم على أن واسألوا ما أنفقتم من جملة المختلف فيه.
بيَّن ابن كثير والكسائي ، وبين الجماعة ، ونص على ذلك بلفظه ابن شيطا في كتاب التذكار ، ولعل الوهم وقع له في ذلك من قول ابن مجاهد في كتاب السبعة له ، ولم يختلفوا في قوله : { وليسألوا ما أنفقوا } أنه مهموز لأنه لغائب انتهى.
وروى الكسائي عن اسماعيل بن جعفر عن أبي جعفر وشيبة : أنهما لم يهمزا وسل ولا فسل ، مثل قراءة الكسائي ، وحذف الهمزة في سل لغة الحجاز ، وإثباتها لغة لبعض تميم.
وروى اليزيدي عن أبي عمرو : أن لغة قريش سل.
فإذا أدخلوا الواو والفاء همزوا ، وسأل يقتضي مفعولين ، والثاني لقوله : واسألوا الله هو قوله : من فضله.
كما تقول : أطعمت زيداً من اللحم ، وكسوته من الحرير ، والتقدير : شيئاً من فضله ، وشيئاً من اللحم ، وشيئاً من الحرير.

وقال بعض النحويين : من زائدة ، والتقدير : وسلوا الله فضله ، وهذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش.
وقال ابن عطية : ويحسن عندي أن يقدر المفعول أمانيكم إذ ما تقدم يحسن هذا المعنى.
{ إن الله كان بكلّ شيء عليماً } أي علمه محيط بجميع الأشياء فهو عالم بما فضل به بعضكم على بعض وما يصلح لكلّ منكم من توسيع أو تقتير فإياكم والاعتراض بتمن أو غيره وهو عالم أيضاً بسؤالكم من فضله فيستجيب دعاءكم { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } لمّا نهى عن التمني المذكور ، وأمر بسؤال الله من فضله ، أخبر تعالى بشيء من أحوال الميراث ، وأنّ في شرعه ذلك مصلحة عظيمة من تحصيل مال للوارث لم يسع فيه ، ولم يتعنّ بطلبه ، فرب ساع لقاعد.
وكلّ لا تستعمل إلا مضافة ، إما الظاهر ، وإما لمقدر ، واختلفوا في تعيين المقدّر هنا ، فقيل : المحذوف إنسان ، وقيل : المحذوف مال.
والمولى : لفظ مشترك بين معان كثيرة ، منها : الوارث وهو الذي يحسن أن يفسر به هنا ، لأنه يصلح لتقدير إنسان وتقدير مال ، وبذلك فسر ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم : أن الموالي العصبة والورثة ، فإذا فرّعنا على أنّ المعنى : ولكلّ إنسان ، احتمل وجوهاً :
أحدها : أن يكون لكلّ متعلقاً بجعلنا ، والضمير في ترك عائد على كل المضاف لإنسان ، والتقدير : وجعل لكل إنسان وارثاً مما ترك ، فيتعلق مما بما في معنى موالي من معنى الفعل ، أو بمضمر يفسره المعنى ، التقدير : يرثون مما ترك ، وتكون الجملة قد تمت عند قوله : مما ترك ، ويرتفع الوالدان على إضمار كأنه قيل : ومن الوارث؟ فقيل : هم الوالدان والأقربون ورّاثاً ، والكلام جملتان.
والوجه الثاني : أن يكون التقدير وجعلنا لكل إنسان موالي ، أي ورّاثاً.
ثم أضمر فعل أي : يرث الموالي مما ترك الوالدان ، فيكون الفاعل بترك الوالدان.
وكأنه لما أبهم في قوله : وجعلنا لكل إنسان موالي ، بيَّن أن ذلك الإنسان الذي جعل له ورثة هو الوالدان والأقربون ، فأولئك الورّاث يرثون مما ترك والداهم وأقربوهم ، ويكون الوالدان والأقربون موروثين.
وعلى هذين الوجهين لا يكون في : جعلنا ، مضمر محذوف ، ويكون مفعول جعلناه لفظ موالي.
والكلام جملتان.
الوجه الثالث : أن يكون التقدير : ولكل قوم جعلناهم موالي أي : ورّاثاً نصيب مما ترك والداهم وأقربوهم ، فيكون جعلنا صفة لكلٍّ ، والضمير من الجملة الواقعة صفة محذوف ، وهو مفعول جعلنا.
وموالي منصوب على الحال ، وفاعل ترك الوالدان.
والكلام منعقد من مبتدأ وخبر ، فيتعلق لكل بمحذوف ، إذ هو خبر المبتدأ المحذوف القائم مقامه صفته وهو الجار والمجرور ، إذ قدر نصيب مما ترك.
والكلام إذ ذاك جملة واحدة كما تقول : لكل من خلقه الله إنساناً من رزق الله ، أي حظ من رزقه الله.

وإذا فرعنا على أن المعنى : ولكل مال ، فقالوا : التقدير ولكل مال مما تركه الوالدان والأقربون ، جعلنا موالي أي ورّاثاً يلونه ويحرزونه.
وعلى هذا التقدير يكون مما ترك في موضع الصفة لكل ، والوالدان والأقربون فاعل بترك ويكونون موروثين ، ولكل متعلق بجعلنا.
إلا أن في هذا التقدير الفصل بين الصفة والموصوف بالجملة المتعلقة بالفعل الذي فيها المجرور وهو نظير قولك : بكل رجل مررت تميمي ، وفي جواز ذلك نظر.
واختلفوا في المراد بالمعاقدة هنا.
فقال ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن ، وقتادة وغيرهم : هي الحلف.
فإنّ العرب كانت تتوار بالحلف ، فقرر ذلك بهذه الآية ثم نسخ بقوله : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } وعنه أيضاً هي : الحلف ، والنصيب هو المؤازرة في الحق والنصر ، والوفاء بالكلف ، لا الميراث.
وقال ابن عباس أيضاً : هي المؤاخاة ، كانوا يتوارثون بها حتى نسخ.
وعنه كان المهاجرون يرثون الأنصار دون ذوي رحمهم حتى نسخ بما تقدم ، وبقي اثنان : النصيب من النصر والمعونة ، ومن المال على جهة الندب في الوصية.
وقال ابن المسيب : هي التبني والنصيب الذي أمرنا بإتيانه ، هو الوصية لا الميراث ، ومعنى عاقدت أيمانكم في هذا القول : عاقدتهم أيمانكم وما سحتموهم.
وقيل : كانوا يتوارثون بالتبني لقوم يموتون قبل الوصية ووجوبها ، فأمر الموصي أن يؤديها إلى ورثة الموصى له.
وقيل : المعاقدة هنا الزواج ، والنكاح يسمى عقداً ، فذكر الوالدين والأقربين ، وذكر معهم الزوج والزوجة.
وقيل : المعاقدة هنا الولاء.
وقيل : هي حلف أبي بكر الصديق أن لا يورث عبد الرحمن شيئاً ، فلما أسلم أمره الله أن يؤتيه نصيبه من المال ، قال أبو روق : وفيهما نزلت.
فتلخص من هذه الأقوال في المعاقدة أهي الحلف أن لا يورث الحالف؟ أم المؤاخاة؟ أم التبني؟ أم الوصية المشروحة؟ أم الزواج؟ أم الموالاة؟ سبعة أقوال.
قال ابن عطية : ولفظة المعاقدة والإيمان ترجح أنّ المراد الأحلاف ، لأنّ ما ذكر من غير الأحلاف ليس في جميعه معاقدة ولا أيمان انتهى.
وكيفية الحلف في الجاهلية : كان الرجل يعاقد الرجل فيقول : دمي دمك ، وهدمي هدمك ، وناري نارك ، وحربي حربك ، وسلمي سلمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك ، وتعقل عني وأعقل عنك.
فيكون للحليف التسدس من ميراث الحليف ، فنسخ الله ذلك.
وعلى الأقوال السابقة جاء الخلاف في قوله : { والذين عاقدت أيمانكم } أهو منسوخ أم لا؟ وقد استدل بها على ميراث مولى الموالاة وبه قال : أبو يوسف ، وأبو حنيفة ، وزفر ، ومحمد ، قالوا : من أسلم على يد رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وارث له غيره ، فميراثه له.
وروى نحوه عن يحيى بن سعيد ، وربيعة ، وابن المسيب ، والزهري ، وابراهيم ، والحسن ، وعمر ، وابن مسعود.
وقال مالك ، وابن شبرمة ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي : ميراثه للمسلمين.
وقد أطال الكلام في هذه المسألة أبو بكر الرازي ناصراً مذهب أبي حنيفة.

وقرأ الكوفيون : عقدت بتخفيف القاف من غير ألف ، وشدّد القاف حمزة من رواية عليّ بن كبشة ، والباقون عاقدت بألف ، وجوزوا في إعراب الذين وجوهاً.
أحدها : أن يكون مبتدأ والخبر فآتوهم.
والثاني : أن يكون منصوباً من باب الاشتغال نحو : زيداً فاضربه.
الثالث : أن يكون مرفوعاً معطوفاً على الوالدان والأقربون ، والضمير في فآتوهم عائد على موالي إذا كان الوالدان ومن عطف عليه موروثين ، وإن كانوا وارثين فيجوز أن يعود على موالي ، ويجوز أن يعود على الوالدين والمعطوف عليه.
الرابع : أن يكون منصوباً معطوفاً على موالي قاله : أبو البقاء ، وقال : أي وجعلنا الذين عاقدت ورّاثاً ، وكان ذلك ونسخ انتهى.
ولا يمكن أن يكون على هذا التقدير الذي قدّره أن يكون معطوفاً على موالي لفساد العطف ، إذ يصير التقدير : ولكل إنسان ، أو : لكل شيء من المال جعلنا ورّاثاً.
والذين عاقدت أيمانكم ، فإن كان من عطف الجمل وحذف المفعول الثاني لدلالة المعنى عليه أمكن ذلك ، أي جعلنا ورّاثاً لكل شيء من المال ، أي : لكل إنسان ، وجعلنا الذين عاقدت أيمانكم ورّاثاً.
وهو بعد ذلك توجيه متكلف ، ومفعول عاقدت ضمير محذوف أي : عاقدتهم أيمانكم ، وكذلك في قراءة عقدت هو محذوف تقديره : عقدت حلفهم ، أو عهدهم أيمانكم.
وإسناد المعاقدة أو العقد للإيمان سواء أريد بها القسم ، أم الجارحة ، مجاز بل فاعل ذلك هو الشخص.
{ إن الله كان على كل شيء شهيداً } لما ذكر تعالى تشريع التوريث ، وأمر بإيتاء النصيب ، أخبر تعالى أنه مطلع على كل شيء فهو المجازى به ، وفي ذلك تهديد للعاصي ، ووعد للمطيع ، وتنبيه على أنه شهيد على المعاقدة بينكم.
والصلة فأوفوا بالعهد.
{ الرّجال قوّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم } قيل : سبب نزول هذه الآية أنَّ امرأة لطمها زوجها فاستعدت ، فقضى لها بالقصاص ، فنزلت.
فقال صلى الله عليه وسلم : « أردت أمراً وأراد الله غيره » قاله : الحسن ، وقتادة ، وابن جريج ، والسدي وغيرهم.
فذكر التبريزي والزمخشري وابن عطية : أنها حبيبة بنت زيد بن أبي زهير زوج الربيِّع بن عمر ، وأحد النقباء من الأنصار.
وطولوا القصة وفي آخرها : فرفع القصاص بين الرجل والمرأة ، وقال الكلبي : هي حبيبة بنت محمد بن سلمة زوج سعيد بن الربيع.
وقال أبو روق : هي جميلة بنت عبد الله بن أبي أوفى زوج ثابت بن قيس بن شماس.
وقيل : نزل معها : { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } وفي سبب من عين المرأة أن زوجها لطمها بسبب نشوزها.
وقيل : سبب النزول قول أم سلمة المتقدم : لما تمنى النساء درجة الرجال عرفن وجه الفضيلة قيل : المراد بالرجال هنا من فيهم صدامة وحزم ، لا مطلق من له لحية.
فكم من ذي لحية لا يكون له نفع ولا ضر ولا حرم ، ولذلك يقال : رجل بين الرجولية والرجولة.

ولذلك ادعى بعض المفسرين أنَّ في الكلام حذفا تقديره : الرجال قوامون على النساء إن كانوا رجالاً.
وأنشد :
أكل امرىء تحسبن امرأ . . .
ونار توقد بالليل ناراً
والذي يظهر أنَّ هذا إخبار عن الجنس لم يتعرض فيه إلى اعتبار أفراده ، كأنه قيل : هذا الجنس قوام على هذا الجنس.
وقال ابن عباس : قوّامون مسلطون على تأديب النساء في الحق.
ويشهد لهذا القول طاعتهن لهم في طاعة الله.
وقوام : صفة مبالغة ، ويقال : قيام وقيم ، وهو الذي يقوم بالأمر ويحفظه.
وفي الحديث : « أنت قيّام السموات والأرض ومن فيهن » والباء في بما للسبب ، وما مصدرية أي : بتفضيل الله.
ومن جعلها بمعنى الذي فقد أبعد ، إذ لا ضمير في الجملة وتقديره محذوفاً لا مسوّغ لحذفه ، فلا يجوز.
والضمير في بعضهم عائد على الرجال والنساء.
وذكر تغليباً للمذكر على المؤنث ، والمراد بالبعض الأول الرجال ، وبالثاني النساء.
والمعنى : أنهم قوّامون عليهن بسبب تفضيل الله الرجال على النساء ، هكذا قرروا هذا المعنى.
قالوا : وعدل عن الضميرين فلم يأت بما فضل الله عليهن لما في ذكر بعض من الإبهام الذي لا يقتضي عموم الضمير ، فرب أنثى فضلت ذكراً.
وفي هذا دليل على أن الولاية تستحق بالفضل لا بالتغلب والاستطالة ، وذكروا أشياء مما فضل به الرجال على النساء على سبيل التمثيل.
فقال الربيع : الجمعة والجماعة.
وقال الحسن : النفقة عليهن.
وينبو عنه قوله : وبما أنفقوا.
وقيل : التصرف والتجارات.
وقيل : الغزو ، وكمال الدين ، والعقل.
وقيل : العقل والرأي ، وحل الأربع ، وملك النكاح ، والطلاق ، والرجعة ، وكمال العبادات ، وفضيلة الشهادات ، والتعصيب ، وزيادة السهم في الميراث ، والديات ، والصلاحية للنبوة ، والخلافة ، والإمامة ، والخطابة ، والجهاد ، والرمي ، والآذان ، والاعتكاف ، والحمالة ، والقسامة ، وانتساب الأولاد ، واللحى ، وكشف الوجوه ، والعمائم التي هي تيجان العرب ، والولاية ، والتزويج ، والاستدعاء إلى الفراش ، والكتابة في الغالب ، وعدد الزوجات ، والوطء بملك اليمين.
وبما أنفقوا من أموالهم : معناه عليهن ، وما : مصدرية ، أو بمعنى الذي ، والعائد محذوف فيه مسوّغ الحذف.
قيل : المعنى بما أخرجوا بسبب النكاح من مهورهن ، ومن النفقات عليهن المستمرة.
وروى معاذ : أنه صلى الله عليه وسلم قال : « لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها » قال القرطبي : فهم الجمهور من قوله : وبما أنفقوا من أموالهم ، أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواماً عليها ، وإذا لم يكن قواماً عليها كان لها فسخ العقد لزوال المعقود الذي شرع لأجله النكاح.
وفيه دلالة واضحة من هذا الوجه على ثبوت فسخ النكاح عند الإعسار بالنفقة والكسوة ، وهو مذهب مالك والشافعي.
وقال أبو حنيفة : لا يفسخ لقوله : { وإن كان ذو عسرة فنظِرة إلى ميسرة }
{ فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله } قال ابن عباس : الصالحات المحسنات لأزواجهنّ ، لأنهن إذا أحسن لأزواجهن فقد صلح حالهن معهم.

وقال ابن المبارك : المعاملات بالخير.
وقيل : اللائي أصلحن الله لأزواجهن قال تعالى : { وأصلحنا له زوجه } وقيل : اللواتي أصلحن أقوالهن وأفعالهن.
وقيل : الصلاة الدين هنا.
وهذه الأقوال متقاربة.
والقانتات : المطيعات لأزواجهن ، أو لله تعالى في حفظ أزواجهن ، وامتثال أمرهم ، أو لله تعالى في كل أحوالهن ، أو قائمات بما عليهن للأزواج ، أو المصليات ، أقوال آخرها للزجاج.
حافظات للغيب : قال عطاء وقتادة : يحفظن ما غاب عن الأزواج ، وما يجب لهن من صيانة أنفسهن لهن ، ولا يتحدثن بما كان بينهم وبينهن.
وقال ابن عطية : الغيب ، كل ما غاب عن علم زوجها مما استتر عنه ، وذلك يعم حال غيبة الزوج ، وحال حضوره.
وقال الزمخشري : الغيب خلاف الشهادة ، أي حافظات لمواجب الغيب إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن ، حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة من الزوج والبيوت والأموال انتهى.
والألف واللام في الغيب تغني عن الضمير ، والاستغناء بها كثير كقوله : { واشتعل الرأس شيباً } أي رأسي.
وقال ذو الرّمة :
لمياء في شفتيها حوّة لعس . . .
وفي اللثات وفي أنيابها شنب
تريد : وفي لثاتها.
وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرّتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها » ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية.
وقرأ الجمهور : برفع الجلالة ، فالظاهر أن تكون ما مصدرية ، والتقدير : بحفظ الله إياهن.
قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد.
ويحتمل هذا الحفظ وجوهاً أي : يحفظ ، أي : بتوفيقه إياهن لحفظ الغيب ، أو لحفظه إياهن حين أوصى بهن الأزواج في كتابه وأمر رسوله ، فقال : « استوصوا بالنساء خيراً » أو بحفظهن حين وعدهن الثواب العظيم على حفظ الغيب ، وأوعدهن العذاب الشديد على الخيانة.
وجوزوا أن تكون ما بمعنى الذي ، والعائد على ما محذوف ، والتقدير : بما حفظه الله لهن من مهور أزواجهن ، والنفقة عليهن ، قاله الزجاج.
وقال ابن عطية : ويكون المعنى إما حفظ الله ورعايته التي لا يتم أمر دونها ، وإما أوامره ونواهيه للنساء ، وكأنها حفظه ، فمعناه : أن النساء يحفظن بإزاء ذلك وبقدره.
وأجاز أبو البقاء أن تكون ما نكرة موصوفة.
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : بنصب الجلالة فالظاهر أنَّ ما بمعنى الذي ، وفي حفظ ضمير يعود على ما مرفوع أي : بالطاعة والبر الذي حفظ الله في امتثال أمره.
وقيل : التقدير بالأمر الذي حفظ حق الله وأمانته ، وهو التعفف والتحصن والشفقة على الرجال والنصيحة لهم.
وقدره ابن جني : بما حفظ دين الله ، أو أمر الله.
وحذف المضاف متعين تقديره : لأن الذات المقدسة لا ينسب إليها أنها يحفظها أحد.
وقيل : ما مصدرية ، وفي حفظ ضمير مرفوع تقديره : بما حفظن الله ، وهو عائد على الصالحات.

قيل : وحذف ذلك الضمير ، وفي حذفه قبح لا يجوز إلا في الشعر كما قال : فإن الحوادث أودى بها.
يريد : أو دين بها.
والمعنى : يحفظن الله في أمره حين امتثلنه.
والأحسن في هذا أن لا يقال أنه حذف الضمير ، بل يقال : إنه عاد الضمير عليهن مفرداً ، كأنه لوحظ الجنس ، وكأن الصالحات في معنى من صلح ، وهذا كله توجيه شذوذ أدّى إليه قول من قال في هذه القراءة : إنّ ما مصدرية.
ولا حاجة إلى هذا القول ، بل ينزه القرآن عنه.
وفي قراءة عبد الله ومصحفه : فالصوالح قوانت حوافظ للغيب بما حفظ الله ، فأصلحوا إليهن.
وينبغي حملها على التفسير لأنها مخالفة لسواد الإمام ، وفيها زيادة.
وقد صح عنه بالنقل الذي لا شك فيه أنه قرأ : وأقرأ على رسم السواد ، فلذلك ينبغي أن تحمل هذه القراءة على التفسير.
قال ابن جني : والتكسير أشبه بالمعنى ، إذ هو يعطي الكثرة وهي المقصودة هنا.
ومعنى قوله : فأصلحوا إليهن أي أحسنوا ضمن أصلحوا معنى أحسنوا ، ولذلك عداه بإلى.
روى في الحديث : « يستغفر للمرأة المطيعة لزوجها الطير في الهواء ، والحيتان في البحر ، والملائكة في السماء ، والسباع في البراري » « قالت أم سلمة : قلت : يا رسول الله نساء الدنيا أفضل أم الحور؟ فقال : نساء الدنيا أفضل من الحور.
قلت : يا رسول الله بم؟ قال : بصلاتهن ، وصيامهن ، وعبادتهن ، وطاعة أزواجهن.
» { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن } لما ذكر تعالى صالحات الأزواج وأنهن من المطيعات الحافظات للغيب ، ذكر مقابلهن وهن العاصيات للأزواج.
والخوف هنا قيل : معناه اليقين ، ذهب في ذلك إلى أنّ الأوامر التي بعد ذلك إنما يوجبها وقوع النشوز لا توقعه ، واحتج في جواز وقوع الخوف موقع اليقين بقول أبي محجن الثقفي رضي الله عنه :
ولا تدفنني بالفلاة فإنني . . .
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
وقيل الخوف علي بابه من بعض الظن.
قال :
أتاني كلام من نصيب بقوله . . .
وما خفت ياسلام أنك عاتبي
أي : وما ظننت.
وفي الحديث : « أمرت بالسواك حتى خفت لأدردن » وقيل : الخوف على بابه من ضد الأمن ، فالمعنى : يحذرون ويتوقعون ، لأن الوعظ وما بعده إنما هو في دوام ما ظهر من مبادىء ما يتخوف.
والنشوز : أن تتعوج المرأة ويرتفع خلقها وتستعلي على زوجها ، ويقال : نسور بالسين والراء المهملتين ، ويقال : نصور ، ويقال : نشوص.
وامرأة ناشر وناشص.
قال الأعشي :
تجللها شيخ عشاء فأصبحت . . .
مضاعية تأتي الكواهن ناشصا
قال ابن عباس : نشوزهنّ عصيانهنّ.
وقال عطاء : نشوزها أن لا تتعطر ، وتمنعه من نفسه ، وتتغير عن أشياء كانت تتصنع للزوج بها.
وقال أبو منصور : نشوزها كراهيتها للزوج.
وقيل : امتناعها من المقام معه في بيته ، وإقامتها في مكان لا يريد الإقامة فيه.

وقيل : منعها نفسها من الاستمتاع بها إذا طلبها لذلك.
وهذه الأقوال كلها متقاربة.
ووعظهن : تذكيرهن آمر الله بطاعة الزوج ، وتعريفهن أنّ الله أباح ضربهن عند عصيانهن ، وعقاب الله لهن على العصيان قاله : ابن عباس.
وقال مجاهد : يقول لها : اتقي الله ، وارجعي إلى فراشك.
وقيل : يقول لها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها » وقال : « لا تمنعه نفسها ولو كانت على قتب » وقال : « أيما امرأة باتت هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح » وزاد آخرون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم العبد الآبق وامرأة بات عليها زوجها ساخطاً وإمام قوم هم له كارهون »
وهجرهن في المضاجع : تركهن لكراهة في المراقد.
والمضجع المكان الذي يضطجع فيه على جنب.
وأصل الاضطجاع الاستلقاء ، يقال : ضجيع ضجوعاً واضطجع استلقى للنوم ، وأضجعته أملته إلى الأرض ، وكل شيء أملته من إناء وغيره فقد أضجعته.
قال ابن عباس وابن جبير : معناه لا تجامعوهن.
وقال الضحاك والسدي : اتركوا كلامهن ، وولوهن ظهوركم في الفراش.
وقال مجاهد : فارقوهن في الفرش ، أي ناموا ناحية في فرش غير فرشهن.
وقال عكرمة والحسن : قولوا لهن في المضاجع هجراً ، أي كلاماً غليظاً.
وقيل : اهجروهن في الكلام ثلاثة أيام فما دونها.
وكنى بالمضاجع عن البيوت ، لأن كل مكان يصلح أن يكون محلاً للاضطجاع.
وقال النخعي ، والشعبي ، وقتادة ، والحسن : من الهجران ، وهو البعد وقيل : اهجروهن بترك الجماع والاجتماع ، وإظهار التجهم ، والإعراض عنهن مدة نهايتها شهراً كما فعل عليه السلام « حين حلف أن لا يدخل على نسائه شهراً » وقيل : اربطوهن بالهجار ، وأكرهوهن على الجماع من قولهم : هجر البعير إذا شده بالهجار ، وهو حبل يشدّ به البعير قاله : الطبري ورجحه.
وقدح في سائر الأقوال.
وقال الزمخشري في قول الطبري : وهذا من تفسير الثقلاء انتهى.
وقيل في للسبب : أي اهجروهن بسبب تخلفهن عن الفرش.
وقرأ عبد الله والنخعي : في المضجع على الإفراد وفيه معنى الجمع ، لأنه اسم جنس.
وضربهن هو أن يكون غير مبرح ولا ناهك ، كما جاء في الحديث.
قال ابن عباس : بالسواك ونحوه.
والضرب غير المبرح هو الذي لا يهشم عظماً ، ولا يتلف عضواً ، ولا يعقب شيناً ، والناهك البالغ ، وليجتنب الوجه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « علق سوطك حيث يراه أهلك » وعن أسماء بنت الصديق رضي الله عنها : كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير ، فإذا غضب على إحدانا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها.
وهذا يخالف قول ابن عباس ، وكذلك ما رواه ابن وهب عن مالك : أن أسماء زوج الزبير كانت تخرج حتى عوتبت في ذلك وعيب عليها وعلى ضرّاتها ، فعقد شعر واحدة بالأخرى ، ثم ضربهما ضرباً شديداً ، وكانت الضرّة أحسن اتقاء ، وكانت أسماء لا تتقي الضرب ، فكان الضرب بها أكثر ، فشكت إلى أبيها أبي بكر رضي الله عنه فقال : يا بنية اصبري فإن الزبير رجل صالح ، ولعله أن يكون زوجك في الجنة.

وظاهر الآية يدل : على أنه يعظ ، ويهجر في المضجع ، ويضرب التي يخاف نشوزها.
ويجمع بينها ، ويبدأ بما شاء ، لأن الواو لا ترتب.
وقال بهذا قوم وقال الجمهور : الوعظ عند خوف النشوز ، والضرب عند ظهوره.
وقال ابن عطية : هذه العظة والهجر والضرب مراتب ، إن وقعت الطاعة عند إحداها لم يتعد إلى سائرها.
وقال الزمخشري : أمر بوعظهن أولاً ، ثم بهجرانهن في المضاجع ، ثم بالضرب إن لم ينجع فيهن الوعظ والهجران.
وقال الرازي ما ملخصه : يبدأ بلين القول في الوعظ ، فإن لم يفسد فبخشنه ، ثم يترك مضاجعتها ، ثم بالإعراض عنها كلية ، ثم بالضرب الخفيف كاللطمة واللكزة ونحوها مما يشعر بالاحتقار وإسقاط الحرمة ، ثم بالضرب بالسوط والقضيب اللين ونحوه مما يحصل به الألم والإنكاء ولا يحصل عنه هشم ولا إراقة دم ، فإن لم يفد شيء من ذلك ربطها بالهجار وهو الحبل ، وأكرهها على الوطء ، لأن ذلك حقه.
وأي شيء من هذه رجعت به عن نشوزها على ما رتبناه لم يجز له أن ينتقل إلى غيره لقوله :
{ فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً } انتهى.
وقوله : فإن أطعنكم أي : وافقنكم وانقدن إلى ما أوجب الله عليهن من طاعتكم.
يدل على أنهن كن عاصيات بالنشوز ، وأن النشوز منهن كان واقعاً ، فإذن ليس الأمر مرتباً على خوف النشوز.
وآخرها يدل على أنه مرتب على عصيانهن بالنشوز ، فهذا مما حمل على تأول الخوف بمعنى التيقن.
والأحسن عندي أن يكون ثمّ معطوفاً حذف لفهم المعنى واقتضائه له ، وتقديره : واللاتي تخافون نشوزهن ونشزن.
كما حذف في قوله : { أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت } تقديره فضرب فانفجرت ، لأن الانفجار لا يتسبب عن الأمر ، إنما هو متسبب عن الضرب.
فرتبت هذه الأوامر على الملفوظ به.
والمحذوف : أمر بالوعظ عند خوف النشوز ، وأمر بالهجر والضرب عند النشوز.
ومعنى فلا تبغوا : فلا تطلبوا عليهن سبيلاً من السبل الثلاثة المباحة وهي : الوعظ ، والهجر ، والضرب.
وقال سفيان : معناه لا تكلفوهن ما ليس في قدرتهن من الميل والمحبة ، فإن ذلك إلى الله.
وقيل : يحتمل أن يكون تبغوا من البغي وهو الظلم ، والمعنى : فلا تبغوا عليهن من طريق من الطرق.
وانتصاب سبيلاً على هذا هو على إسقاط الخافض.
وقيل : المعنى فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً من سبل البغي لهن والإضرار بهن توصيلاً بذلك إلى نشوزهن أي : إذا كانت طائعة فلا يفعل معها ما يؤدي إلى نشوزها.

ولفظ عليهن يؤذن بهذا المعنى.
وسبيلاً نكرة في سياق النفي ، فيعم النهي عن الأذى بقول أو فعل.
{ إن الله كان علياً كبيراً } لما كان في تأديبهن بما أمر تعالى به الزوج اعتلاء للزوج على المرأة ، ختم تعالى الآية بصفة العلو والكبر ، لينبه العبد على أن المتصف بذلك حقيقة هو الله تعالى.
وإنما أذن لكم فيما أذن على سبيل التأديب لهن ، فلا تستعلوا عليهن ، ولا تتكبروا عليهن ، فإنَّ ذلك ليس مشروعاً لكم.
وفي هذا وعظ عظيم للأزواج ، وإنذار أنَّ قدرة الله عليكم فوق قدرتكم عليهن.
وفي حديث أبي مسعود وقد ضرب غلاماً له اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا العبد.
أو يكون المعنى : إنكم تعصونه تعالى على علو شأنه وكبرياء سلطانه ، ثم يتوب عليكم ، فيحق لكم أن تعفوا عنهن إذا أطعنكم.
{ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها } الخلاف في الخوف هنا مثله في : واللاتي تخافون.
ولما كان حال المرأة مع زوجها إمّا الطواعية ، وإمّا النشوز.
وكان النشوز إمّا تعقبه الطواعية ، وإمّا النشوز المستمر ، فإن أعقبته الطواعية فتعود كالطائعة أولاً.
وإن استمر النشوز واشتدّ ، بعث الحكمان.
والشقاق : المشاقة.
والأصل شقاقاً بينهما ، فاتسع وأضيف.
والمعنى على الظرف كما تقول : يعجبني سير الليلة المقمرة.
أو يكون استعمل اسماً وزال معنى الظرف ، أو أجرى البين هنا مجرى حالهما وعشرتهما وصحبتهما.
والخطاب في : وإن خفتم ، وفي فابعثوا ، للحكام ، ومن يتولى الفصل بين الناس.
وقيل : للأولياء لأنهم الذين يلون أمر الناس في العقود والفسوخ ، ولهم نصب الحكمين.
وقيل : خطاب للمؤمنين.
وأبعد من ذهب إلى أنه خطاب للأزواج ، إذ لو كان خطاباً للأزواج لقال : وإن خافا شقاق بينهما فليبعثا ، أو لقال : فإن خفتم شقاق بينكم ، لكنه انتقال من خطاب الأزواج إلى خطاب من له الحكم والفصل بين الناس ، وإلى أنه خطاب للأزواج ذهب الحسن والسدي.
والضمير في بينهما عائد على الزوجين ، ولم يجرد ذكرهما ، لكن جرى ما يدل عليهما من ذكر الرجال والنساء.
والحكم : هو من يصلح للحكومة بين الناس والإصلاح.
ولم تتعرّض الآية لماذا يحكمان فيه ، وإنما كان من الأهل ، لأنه أعرف بباطن الحال ، وتسكن إليه النفس ، ويطلع كل منهما حكمه على ما في ضميره من حب وبغض وإرادة صحبة وفرقة.
قال جماعة من العلماء : لا بد أن يكونا عارفين بأحوال الزوجين ، عدلين ، حسني السياسة والنظر في حصول المصلحة ، عالمين بحكم الله في الواقعة التي حكما فيها.
فإن لم يكن من أهلهما من يصلح لذلك أرسل من غيرهما عدلين عالمين ، وذلك إذا أشكل أمرهما ورغباً فيمن يفصل بينهما.
وقال بعض العلماء : إنما هذا الشرط في الحكمين اللذين يبعثهما الحاكم.
وأما الحكمان اللذان يبعثهما الزوجان فلا يشترط فيهما إلا أن يكونا بالغين عاقلين مسلمين ، من أهل العفاف والستر ، يغلب على الظن نصحهما.

واختلفوا في المقدار الذي ينظر فيه الحكمان ، فذهب الجمهور إلى أنهما ينظران في كل شيء ، ويحملان على الظالم ، ويمضيان ما رأيا من بقاء أو فراق ، وبه قال : مالك ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وأبو ثور.
وهو مروي عن : علي ، وعثمان ، وابن عباس ، والشعبي ، والنخعي ، ومجاهد ، وأبي سلمة ، وطاووس.
قال مالك : إذا رأيا التفريق فرقا ، سواء أوافق مذهب قاضي البلد أو خالفه ، وكلاه أم لا ، والفراق في ذلك طلاق بائن ، وقالت طائفة : لا ينظر الحكمان إلا فيما وكلهما به الزوجان وصرّحا بتقديمهما عليه ، فالحكمان وكيلان : أحدهما للزوج ، والآخر للزوجة ، ولا تقع الفرقة إلا برضا الزوجين ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وعن الشافعي القولان.
وقال الحسن وغيره : ينظر الحكمان في الإصلاح وفي الأخذ والإعطاء ، إلا في الفرقة فإنّها ليست إليهما.
وأما ما يقول الحكمان ، فقال جماعة : يقول حكم الزوج له أخبرني ما في خاطرك ، فإن قال : لا حاجة لي فيها ، خذ لي ما استطعت وفرق بيننا ، علم أن النشوز من قبله.
وإن قال : أهواها ورضها من مالي بما شئت ولا تفرق بيننا ، علم أنه ليس بناشز ويقول الحكم من جهتها لها كذلك ، فإذا ظهر لهما أن النشوز من جهته وعظاه ، وزجراه ، ونهياه.
{ إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما } الضمير في يريدا عائد على الحكمين قاله : ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهما.
وفي بينهما عائد على الزوجين ، أي : قصدا إصلاح ذات البين ، وصحت نيتهما ، ونصحا لوجه الله ، وفق الله بين الزوجين وألف بينهما ، وألقى في نفوسهما المودة.
وقيل : الضميران معاً عائدان على الحكمين أي : إن قصدا إصلاح ذات البين ، وفق الله بينهما فيجتمعان على كلمة واحدة ، ويتساعدان في طلب الوفاق حتى يحصل الغرض.
وقيل : الضميران عائدان على الزوجين أي : إن يرد الزوجان إصلاحاً بينهما ، وزوال شقاق ، يزل الله ذلك ويؤلف بينهما.
وقيل : يكون في يريدا عائداً على الزوجين ، وفي بينهما عائداً على الحكمين : أي : إن يرد الزوجان إصلاحاً وفق الله بين الحكمين فاجتمعا على كلمة واحدة ، وأصلحا ، ونصحا.
وظاهر الآية أنه لا بد من إرسال الحكمين وبه قال الجمهور.
وروي عن مالك : أنه يجري إرسال واحد ، ولم تتعرض الآية لعدالة الحكمين ، فلو كانا غير عدلين فقال عبد الملك : حكمهما منقوض.
وقال ابن العربي : الصحيح نفوذه.
وأجمع أهل الحل والعقد : على أن الحكمين يجوز تحكيمهما.
وذهبت الخوارج : إلى أن التحكيم ليس بجائز ، ولو فرّق الحكمان بين الزوجين خلعا برضا الزوجين.
فهل يصح من غير أمر سلطان؟ ذهب الحسن وابن سيرين : إلى أنه لا يجوز الصلح إلا عند السلطان.
وذهب عمر وعثمان وابن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين : إلى أنه يصح من غير أمر السلطان منهم : مالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي.

{ إن الله كان عليماً حكيماً } يعلم ما يقصد الحكمان ، وكيف يوفقا بين المختلفين ، ويخبر خفايا ما ينطقان به في أمر الزوجين.
{ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين } مناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما ذكر أنّ الرجال قوامون على النساء بتفضيل الله إياهم عليهن ، وبإنفاق أموالهم ، ودل بمفهوم اللقب أنه لا يكون قواماً على غيرهن ، أوضح أنه مع كونه قواماً على النساء هو أيضاً مأمور بالإحسان إلى الوالدين ، وإلى من عطفه على الوالدين.
فجاءت حثاً على الإحسان ، واستطراداً لمكارم الأخلاق.
وأن المؤمن لا يكتفي من التكاليف الإحسانية بما يتعلق بزوجته فقط ، بل عليه غيرها من بر الوالدين وغيرهم.
وافتتح التوصل إلى ذلك بالأمر بإفراد الله تعالى بالعبادة ، إذ هي مبدأ الخير الذي تترتب الأعمال الصالحة عليه.
ونظير : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً } وتقدم شرح قوله : { وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين } إلا أن هنا وبذي ، وهناك وذي ، وإعادة الباء تدل على التوكيد والمبالغة ، فبولغ في هذه الآية لأنها في حق هذه الأمة ، ولم يبالغ في حق تلك ، لأنها في حق بني إسرائيل.
والاعتناء بهذه الأمة أكثر من الاعتناء بغيرها ، إذ هي خير أمة أخرجت للناس.
وقرأ ابن أبي عبلة : وبالوالدين إحسان بالرفع ، وهومبتدأ و خبر فيه ما في المنصوب من معنى الأمر ، وإن كان جملة خبرية نحو قوله :
فصبر جميل فكلانا مبتلي . . .
{ والجار ذي القربى } قال ابن عباس : ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وقتادة ، وابن زيد ، ومقاتل في آخرين : هو الجار القريب النسب ، والجار الجنب هو الجار الأجنبي ، الذي لا قرابة بينك وبينه.
وقال بلعاء بن قيس :
لا يجتوينا مجاور أبدا . . .
ذو رحم أو مجاور جنب
وقال نوف الشامي : هو الجار المسلم.
{ والجار الجنب } هو : الجار اليهودي ، والنصراني.
فهي عنده قرابة الإسلام ، وأجنبية الكفر.
وقالت فرقة ، هو الجار القريب المسكن منك ، والجنب هو البعيد المسكن منك.
كأنه انتزع من الحديث الذي فيه : إن لي جارين فإلى أهيما أهدي؟ قال : « إلى أقربهما منك باباً » وقال ميمون بن مهران : والجار ذي القربى أريد به الجار القريب.
قال ابن عطية : وهذا خطأ في اللسان ، لأنه جمع على تأويله بين الألف واللام والإضافة ، وكان وجه الكلام : وجار ذي القربى انتهى.
ويمكن تصحيح قول ميمون على أن لا يكون جمعاً بين الألف واللام والإضافة على ما زعم ابن عطية بأن يكون قوله : ذي القربى بدلاً من قوله : والجار ، على حذف مضاف التقدير : والجار جار ذي القربى ، فحذف جار لدلالة الجار عليه ، وقد حذفوا البدل في مثل هذا.
قال الشاعر :
رحم الله أعظما دفنوها . . .
بسجستان طلحة الطلحات
يريد : أعظم طلحة الطلحات.

ومن كلام العرب : لو يعلمون العلم الكبيرة سنة ، يريدون : علم الكبيرة سنة.
والجنب : هو البعيد ، سمي بذلك لبعده عن القرابة.
وقال : فلا تحرمني نائلاً عن جنابة.
والمجاورة مساكنة الرجل الرجل في محلة ، أو مدينة ، أو كينونة أربعين داراً من كل جانب ، أو يعتبر بسماع الأذان ، أو بسماع الإقامة ، أقوال أربعة ثانيها : قول الأوزاعي.
وروى في ذلك حديثاً أنه عليه الصلاة والسلام « أمر مناديه ينادي : » ألا إنَّ أربعين داراً جوار ، ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه « والمجاورة مراتب ، بعضها ألصق من بعض ، أقربها الزوجة.
قال الأعشى :
أجارتنا بيني فإنك طالقة . . .
وقرىء : والجار ذا القربى.
قال الزمخشري : نصباً على الاختصاص كما قرىء { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } تنبيهاً على عظم حقه لإدلائه بحقي الجوار والقربى انتهى ، وقرأ عاصم في رواية المفضل عنه : والجار الجنُب بفتح الجيم وسكون النون ، ومعناه البعيد.
وسئل أعرابي عن الجار الجنْب فقال : هو الذي يجيء فيحل حيث تقع عينك عليه.
{ والصاحب بالجنب } قال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك : هو الرفيق في السفر.
وقال علي وابن مسعود والنخعي ، وابن أبي ليلى : الزوجة.
وقال ابن زيد : هو من يعتريك ويلمّ بك لتنفعه.
وقال الزمخشري : هو الذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقاً في سفر ، وإما جاراً ملاصقاً ، وإما شريكاً في تعلم علم أو حرفة ، وإما قاعداً إلى جنبك في مجلس أو مسجداً ، أو غير ذلك من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه ، فعليك أن تراعي ذلك الحق ولا تنساه ، وتجعله ذريعة للإحسان.
وقال مجاهد أيضاً : هو الذي يصحبك سفراً وحضراً.
وقيل : الرفيق الصالح.
{ وابن السبيل } تقدّم شرحه.
{ وما ملكت أيمانكم } قيل : ما وقعت على العاقل باعتبار النوع كقوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم } وقيل : لأنها أعم من من ، فتشمل الحيوانات على إطلاقها من عبيد وغيرهم ، والحيوانات غير الارقاء أكثر في يد الإنسان من الارقاء ، فغلب جانب الكثرة ، فأمر الله تعالى بالإحسان إلى كل مملوك من آدمي وحيوان غيره.
وقد ورد غير ما حديث في الوصية بالارقاء خيراً في صحيح مسلم وغيره.
ومن غريب التفسير ما نقل عن سهل التستري قال : الجار ذو القربى هو القلب ، والجار الجنب النفس ، والصاحب بالجنب العقل الذي يجهر على اقتداء السنة والشرائع ، وابن السبيل الجوارح المطيعة.
{ إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً } نفى تعالى محبته عمن اتصف بهاتين الصفتين : الاختيال وهو التكبر ، والفخر هو عد المناقب على سبيل التطاول بها والتعاظم على الناس.
لأنّ من اتصف بهاتين الصفتين حملتاه على الإخلال بمن ذكر في الآية ممن يكون لهم حاجة إليه.
وقال أبو رجاء الهروي : لا تجد سيىء الملكة إلا وجدته مختالاً فخوراً ، ولا عاقاً إلا وجدته جباراً شقياً.
قال الزمخشري : والمختال التياه الجهول الذي يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه ومماليكه ، فلا يحتفى بهم ، ولا يلتفت إليهم.

وقال غيره : ذكر تعالى الاختيال لأن المختال يأنف من ذوي قرابته إذا كانوا فقراء ، ومن جيرانه إذا كانوا ضعفاء ، ومن الأيتام لاستضعافهم ومن المساكين لاحتقارهم ، ومن ابن السبيل لبعده عن أهله وماله ، ومن مماليكه لأسرهم في يده انتهى.
وتظافرت هذه النقول على أن ذكر هاتين الصفتين في آخر الآية إنما جاء تنبيهاً على أنّ من اتصف بالخيلاء والفخر يأنف من الإحسان للأصناف المذكورين ، وأن الحامل له على ذلك اتصافه بتينك الصفتين.
والذي يظهر لي أنّ مساقهما غير هذا المساق الذي ذكروه ، وذلك أنه تعالى لما أمر بالإحسان للأصناف المذكورة والتحفي بهم وإكرامهم ، كان في العادة أن ينشأ عن من اتصف بمكارم الأخلاق أن يجد في نفسه زهواً وخيلاء ، وافتخاراً بما صدر منه من الإحسان.
وكثيراً ما افتخرت العرب بذلك وتعاظمت في نثرها ونظمها به ، فأراد تعالى أن ينبه على التحلي بصفة التواضع ، وأن لا يرى لنفسه شفوفاً على من أحسن إليه ، وأن لا يفخر عليه كما قال تعالى : { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } فنفى تعالى محبته عن المتحلي بهذين الوصفين.
وكان المعنى أنهم أمروا بعبادة الله تعالى ، وبالإحسان إلى الوالدين.
ومن ذكر معهما : ونهوا عن الخيلاء والفخر ، فكأنه قيل : ولا تختالوا وتفخروا على من أحسنتم إليه ، إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً.
إلا أنّ ما ذكرناه لا يتم إلا على أن يكون الذين يبخلون مبتدأ مقتطعاً مما قبله ، أما إن كان متصلاً بما قبله فيأتي المعنى الذي ذكره المفسرون ، ويأتي إعراب الذين يبخلون ، وبه يتضح المعنى الذي ذكروه ، والمعنى الذي ذكرناه إن شاء الله تعالى.
{ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } نزلت هذه الآية في قوم كفار.
روى عن ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد ، وحضرمي : أنها نزلت في أحبار اليهود بخلوا بالإعلام بأمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وكتموا ما عندهم من العلم في ذلك ، وأمروا بالبخل على جهتين : أمروا أتباعهم بجحود أمر محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا للأنصار : لم تنفقون على المهاجرين فتفتقرون؟ وقيل : نزلت في المنافقين.
وقيل : في مشركي مكة.
وعلى اختلاف سبب النزول اختلف أقوال المفسرين من المعنى بالذين يبخلون.
وقيل : هي عامّة في كل من يبخل ويأمر بالبخل من اليهود وغيرهم.
والبخل في كلام العرب : منع السائل شيئاً مما في يد المسؤول من المال ، وعنده فضل.
قال طاووس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس.
والبخل في الشريعة ، هو منع الواجب.
وقال الراغب : لم يرد البخل بالمال ، بل بجميع ما فيه نفع للغير انتهى.
ولما أمر تعالى بالإحسان إلى الوالدين ومن ذكر معهما من المحتاجين على سبيل ابتداع أمر الله ، بيّن أنّ من لا يفعل ذلك قسمان.

أحدهما : البخيل الذي لا يقدم على إنفاق المال ألبتة حتى أفرط في ذلك وأمر بالبخل.
والثاني : الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، لا لغرض أمر الله وامتثاله وطاعته.
وذمّ تعالى القسمين بأن أعقب القسم الأول : وأعتدنا للكافرين ، وأعقب الثاني بقوله : { ومن يكن الشيطان له قريناً }.
والبخل أنواع : بخل بالمال ، وبخل بالعلم ، وبخل بالطعام ، وبخل بالسلام ، وبخل بالكلام ، وبخل على الأقارب دون الأجانب ، وبخل بالجاه ، وكلها نقائص ورذائل مذمومة عقلاً وشرعاً وقد جاءت أحاديث في مدح السماحة وذم البخل منها : « خصلتان لا يجتمعان في مؤمن : البخل وسوء الخلق » وظاهر قوله بالبخل أنه متعلق بقوله : ويأمرون ، كما تقول : أمرت زيداً بالصبر ، فالبخل مأمور به.
وقيل : متعلق الأمر محذوف ، والباء في بالبخل حالية ، والمعنى : ويأمرون الناس بشكرهم مع التباسهم بالبخل ، فيكون نحو ما أشار إليه الشاعر بقوله :
أجمعت أمرين ضاع الحزم بينهما . . .
تيه الملوك وأفعال المماليك
وقرأ الجمهور : بالبخل بضم الباء وسكون الخاء.
وعيسى بن عمر والحسن : بضمهما.
وحمزة الكسائي : بفتحهما ، وابن الزبير وقتادة وجماعة.
بفتح الباء ، وسكون الخاء.
وهي كلها لغات.
قال الفرّاء : البخل مثقلة لأسد ، والبخل خفيفة لتميم ، والبخل لأهل الحجاز.
ويخففون أيضاً فتصير لغتهم ولغة تميم واحدة ، وبعض بكر بن وائل بقولون البخل قال جرير :
تريدين أن ترضي وأنت بخيلة . . .
ومن ذا الذي يرضي الأخلاء بالبخل
وأنشدني المفضل :
وأوفاهم أوان بخل . . .
وينشد هذا البيت بفتحتين وضمتين :
وإن امرأ لا يرتجى الخير عنده . . .
لذو بخل كل على من يصاحب
واختلفوا في إعراب الذين يبخلون ، فقيل : هو في موضع نصب بدل من قوله : من كان.
وقيل : من قوله مختالاً فخوراً.
أفرد اسم كان ، والخبر على لفظ من ، وجمع الذين حملا على المعنى.
وقيل : انتصب على الذم.
ويجوز عندي أن يكون صفة لمن ، ولم يذكروا هذا الوجه.
وقيل : هو في موضع رفع على إضمار مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين.
وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون بدلاً من الضمير في فخوراً ، وهو قلق.
فهذه ستة أوجه يكون فيها الذين يبخلون متعلقاً بما قبله ، ويكون الباخلون منفياً عنهم محبة الله تعالى ، وتكون الآية إذن في المؤمنين ، والمعنى : أحسنوا أيها المؤمنون إلى مَن سمى الله ، فإن الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من الإحسان إليهم وهي : الخيلاء ، والفخر ، والبخل ، والأمر به ، وكتمان ما أعطاهم الله من الرزق والمال.
وقيل : الذين يبخلون في موضع رفع على الابتداء ، واختلفوا في الخبر : أهو محذوف؟ أم ملفوظ به؟ فقيل : هو ملفوظ به وهو قوله : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها } ويكون الرابط محذوفاً تقديره : مثقال ذرة لهم ، أو لا يظلمهم مثقال ذرة.

وإلى هذا ذهب الزجاج ، وهو بعيد متكلف لكثرة الفواصل بين المبتدأ والخبر ، ولأن الخبر لا ينتظم مع المبتدأ معناه : انتظاماً واضحاً لأنّ سياق المبتدأ وما عطف عليه ظاهراً من قوله : والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، لا يناسب أن يخبر عنه بقوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً ، بل مساق أنّ الله لا يظلم أن يكون استئناف كلام إخباراً عن عدله وعن فضله تعالى وتقدس.
وقيل : هو محذوف فقدره الزمخشري : الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون أحقاء بكل ملامة.
وقدره ابن عطية : معذبون أو مجازون ونحوه.
وقدره أبو البقاء : أولئك قرناؤهم الشيطان ، وقدره أيضاً : مبغضون.
ويحتمل أن يكون التقدير : كافرون { وأعتدنا للكافرين } فإن كان ما قبل الخبر مما يقتضي كفراً حقيقة كتفسيرهم البخل بأنه بخل بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبإظهار نبوّته.
والأمر بالبخل لأتباعهم أي : بكتمان ذلك ، وكتمهم ما تضمنته التوراة من نبوّته وشريعته ، كان قوله : وأعتدنا للكافرين ، حقيقة فإن كان ما قبل الخبر كفر نعمة كتفسيرهم : أنها في المؤمنين ، كان قوله : وأعتدنا للكافرين كفر نعمة ولكل من هذه التقادير مناسب من الآية ، والآية على هذه التقادير.
وقول الزجاج : في الكفار ، ويبين ذلك سبب النزول المتقدم.
وتقدم تفسير البخل والأمر به ، والكتمان على هذا الوجه في سبب النزول.
وأعتدنا للكافرين : أي أعددنا وهيأنا.
والعتيد : الحاضر المهيأ والمهين الذي فيه خزي وذل ، وهو أنكى وأشد على المعذب.
{ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } تقدم تفسير مثل هذه الآية في قوله : { كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } ، وهنا : ولا باليوم الآخر.
وهناك : واليوم الآخر.
قال السدّي ، والزجاج وأبو سليمان الدّمشقي والجمهور : هم المنافقون نزلت فيهم ، وإنفاقهم هو إعطاؤهم الزكاة ، وإخراجهم المال في السفر للغزو رئاء ودفعاً عن أنفسهم ، لا إيماناً ولا حباً في الدّين.
وقال ابن عباس : ومقاتل ، ومجاهد : نزلت في اليهود.
وضعفه الطبري من حيث أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر.
ووجه ابن عطية هذا القول بأنهم لم يؤمنوا على ما ينبغي جعل إيمانهم كلا إيمان من حيث لا ينفعهم.
وقيل : هم مشركو مكة ، لأنهم كانوا ينكرون البعث.
وإنفاق اليهود هو ما أعانوا به قريشاً في غزوة أحد وغزوة الخندق ، وإنفاق مشركي مكة هو ما كان في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وطلبهم الانتصار.
وفي إعراب والذين ينفقون وجوه : أحدها : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، ويقدر : معذبون ، أو قرينهم الشيطان ، ويكون العطف من عطف الجمل.
والثاني : أن يكون معطوفاً على الكافرين ، فيكون مجروراً قاله : الطبري.
والثالث : أن يكون معطوفاً على الذين يبخلون ، فيكون إعرابه كإعراب الذين يبخلون.

والعطف في هذين الوجهين من عطف المفردات.
ورئاء مصدر راء ، أو انتصابه على أنه مفعول من أجله ، وفيه شروطه فلا ينبغي أن يعدل عنه.
وقيل : هو مصدر في موضع الحال قاله : ابن عطية ، ولم يذكر غيره.
وظاهر قوله : ولا يؤمنون أنه عطف على صلة الذين ، فيكون صلة.
ولا يضر الفصل بين أبعاض الصلة بمعمول للصلة ، إذ انتصاب رئاء على وجهيه بينفقون.
وجوّزوا أن يكون : ولا يؤمنون في موضع الحال ، فتكون الواو واو الحال أي : غير مؤمنين ، والعامل فيها ينفقون أيضاً.
وحكى المهدوي : أنه يجوز انتصاب رئاء على الحال من نفس الموصول لا من الضمير في ينفقون ، فعلى هذا لا يجوز أن يكون : ولا يؤمنون معطوفاً على الصلة ، ولا حالاً من ضمير ينفقون ، لما يلزم من الفصل بين أبعاض الصلة ، أو بين معمول الصلة بأجنبي وهو رئاء المنصوب على الحال من نفس الموصول ، بل يكون قوله : ولا يؤمنون مستأنف.
وهذا وجه متكلف.
وتعلق رئاء بقوله : ينفقون واضح ، إما على المفعول له ، أو الحال ، فلا ينبغي أن يعدل عنه.
وتكرار لا وحرف الجر في قوله : ولا باليوم الآخر مفيد لانتفاء كل واحد من الإيمان بالله ، ومن الإيمان باليوم الآخر.
لأنك إذا قلت : لا أضرب زيداً وعمراً ، احتمل أن لا تجمع بين ضربيهما.
ولذلك يجوز أن تقول بعد ذلك : بل أحدهما.
واحتمل نفي الضرب عن كل واحد منهما علي سبيل الجمع ، وعلى سبيل الإفراد.
فإذا قلت : لا أضرب زيداً ولا عمراً ، تعين هذا الاحتمال الثاني الذي كان دون تكرار.
{ ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً } لما ذكر تعالى من اتصف بالبخل والأمر به ، وكتمان فضل الله تعالى ، والإنفاق رئاء ، وانتفاء إيمانه بالله وباليوم الآخر ، ذكر أن هذه من نتائج مقارنة الشيطان ومخالطته وملازمته للمتصف بذلك ، لأنها شر محض ، إذ جمعت بين سوء الاعتقاد الصادر عنه الإنفاق رئاء ، وسائر تلك الأوصاف المذمومة.
ولذلك قدم تلك الأوصاف وذكر ما صدرت عنه وهو انتفاء الإيمان بالموجد ، وبدار الجزاء.
ثم ذكر أنّ ذلك من مقارنة الشيطان.
والقرين هنا فعيل بمعنى مفاعل ، كالجليس والخليط أي : المجالس والمخالط.
والشيطان هنا جنس لا يراد به إبليس وحده وهو كقوله : { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين } وله متعلق بقريناً أي : قريناً له.
والفاء جواب الشرط ، وساء هنا هي التي بمعنى بئس للمبالغة في الذم ، وفاعلها على مذهب البصريين ضمير عام ، وقريناً تمييز لذلك الضمير.
والمخصوص بالذمّ محذوف وهو العائد على الشيطان الذي هو قرين ، ولا يجوز أن يكون ساء هنا هي المتعدية ومفعولها محذوف وقريناً حال ، لأنها إذ ذاك تكون فعلاً متصرفاً فلا تدخله الفاء ، أو تدخله مصحوبة بقد.
وقد جوّزوا انتصاب قريناً على الحال ، أو على القطع ، وهو ضعيف.

وبولغ في ذمّ هذا القرين لحمله على تلك الأوصاف الذميمة.
قال الزمخشري وغيره : ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأن الشيطان يقرن بهم في النار انتهى.
فتكون المقارنة إذ ذاك في الآخرة يقرن به في النار فيتلاعنان ويتباغضان كما قال : { مقرنين في الأصفاد } { وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين } وقال الجمهور : هذه المقارنة هي في الدنيا كقوله : { وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم } { ونقيض له شيطاناً فهو له قرين } { وقال قرينه ربنا ما أطغيته } قال ابن عطية : وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى : { بئس للظالمين بدلاً } وذلك مردود ، لأنّ بدلاً حال ، وفي هذا نظر.
والذي قاله الطبري صحيح ، وبدلاً تمييز لا حال ، وهو مفسر للضمير المستكن في بئس على مذهب البصريين ، والمخصوص بالذم محذوف تقديره : هم أي الشيطان وذريته.
وإنما ذهب إلى إعراب المنصوب بعد نعم وبئس حالاً الكوفيون على اختلاف بينهم مقرر في علم النحو.

وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)

{ وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله } ظاهر هذا الكلام أنه ملتحم لحمة واحدة ، والمراد بذلك : ذمّهم وتوبيخهم وتجهيلهم بمكان سعادتهم ، وإلا فكل الفلاح والمنفعة في اتصافهم بما ذكر تعالى.
فعلى هذا الظاهر يحتمل أن يكون الكلام جمليتن ، وتكون لو على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره ، والتقدير : وماذا عليهم في الإيمان بالله واليوم الآخر والإنفاق في سبيل الله لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله لحصلت لهم السعادة.
ويحتمل أن يكون جملة واحدة ، وذلك على مذهب من يثبت أن لو تكون مصدرية في معنى : أن كأنه قيل : وماذا عليهم أن آمنوا ، أي في الإيمان بالله ، ولا جواب لها إذ ذاك ، فيكون كقوله :
وماذا عليه أن ذكرت أوانسا . . .
كغزلان رمل في محاريب أقيال
قالوا : ويجوز أن يكون قوله : وماذا عليهم ، مستقلاً لا تعلق له بما بعده ، بل ما بعده مستأنف.
أي : وماذا عليهم يوم القيامة من الوبال والنكال باتصافهم بالبخل وتلك الأوصاف المذمومة ، ثم استأنف وقال : لو آمنوا ، وحذف جواب لو.
وقال ابن عطية : وجواب لو في قوله : ماذا ، فهو جواب مقدم انتهى.
فإن أراد ظاهر هذا الكلام فليس موافقاً لكلام النحويين ، لأن الاستفهام لا يقع جواب لو ، ولأن قولهم : أكرمتك لو قام زيد ، إن ثبت أنه من كلام العرب حمل على أكرمتك دال على الجواب ، لا جواب كما قالوا في قولهم : أنت ظالم إن فعلت.
وإن أراد تفسير المعنى فيمكن ما قاله.
وماذا : يحتمل أن تكون كلها استفهاماً ، والخبر في عليهم.
ويحتمل أن يكون ما هو الاستفهام ، وذا بمعنى الذي وهو الخبر ، وعليهم صلة ذا.
وإذا كان لو آمنوا بالله واليوم الآخر من متعلقات قوله : وماذا عليهم ، كان في ذلك تفجع عليهم واحتياط وشفقة ، وقد تعلقت المعتزلة بذلك.
قال أبو بكر الرازي : تدل على بطلان مذهب الجهمية أهل الجبر ، لأنهم لو لم يكونوا مستطيعين للإيمان بالله والإنفاق لما أجاز أن يقال ذلك فيهم ، لأنّ عَذرهم واضح وهو أنّهم غير متمكنين مما دعوا إليه ، ولا قادرين ، كما لا يقال للأعمى : ماذا عليه لو أبصر ، ولا يقال للمريض ماذا عليه لو كان صحيحاً.
وفي ذلك أوضح دليل على أنّ الله قد قطع عذرهم في فعل ما كلفهم من الإيمان وسائر الطاعات ، وأنهم متمكنون من فعلها انتهى كلامه.
وهو قول المعتزلة والمذاهب في هذا أربعة كما تقرر : الجبرية ، والقدرية ، والمعتزلة ، وأهل السنة.
قال ابن عطية : والانفصال عن شبهة المعتزلة أنّ المطلوب إنما هو تكسبهم واجتهادهم وإقبالهم على الإيمان ، وأما الاختراع فالله المنفرد به انتهى.

ولما وصفهم تعالى بتلك الأوصاف المذمومة كان فيه الترقي من وصف قبيح إلى أقبح منه ، فبدأ أولاً بالبخل ، ثم بالأمر به ، ثم بكتمان فضل الله ، ثم بالإنفاق رياء ، ثم بالكفر بالله وباليوم الآخر.
ولما وبخهم وتلطف في استدعائهم بدأ بالإيمان بالله واليوم الآخر ، إذ بذلك تحصل السعادة الأبدية ، ثم عطف عليه الإنفاق أي : في سبيل الله ، إذ به يحصل نفي تلك الأوصاف القبيحة من البخل ، والأمر به وكتمان فضل الله والإنفاق رئاء الناس.
{ وكان الله بهم عليماً } خبر يتضمن وعيداً وتنبيهاً على سوء بواطنهم ، وأنه تعالى مطلع على ما أخفوه في أنفسهم.
قيل : وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبلاغة والبديع.
التكرار وهو في : نصيب مما اكتسبوا ، ونصيب مما اكتسبن.
والجلالة : في واسئلوا الله ، إن الله ، وحكماً من أهله ، وحكماً من أهلها ، وبعضكم على بعض ، والجار ذي القربى ، والجار الجنب ، والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
وقوله : لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وقريناً وساء قريناً.
والجلالة في : مما رزقهم الله ، وكان الله.
والتجنيس المغاير في : حافظات للغيب بما حفظ الله ، وفي : يبخلون وبالبخل.
ونسق الصفات من غير حرف في : قانتات حافظات.
والنسق بالحروف على طريق ذكر الأوكد فالأوكد في : وبالوالدين إحساناً وما بعده.
والطباق المعنوي في : نشوزهنّ فإن أطعنكم ، وفي : شقاق بينهما ويوفق الله.
والاختصاص في قوله : من أهله ومن أهلها ، وفي قوله : عاقدت أيمانكم.
والإبهام في قوله : به شيئاً وإحساناً ، وما ملكت فشيوع شيئاً وإحساناً وما واضح.
والتعريض في : مختالاً فخوراً.
أعرض بذلك إلى ذم الكبر المؤدّي للبعد عن الأقارب الفقراء واحتقارهم واحتقار من ذكر معهم.
والتأكيد بإضافة الملك إلى اليمين في : وما ملكت أيمانكم.
والتمثيل : في ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً.
والحذف في عدّة مواضع.

إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)

المثقال : مفعال من الثقل ، ومثقال كل شيء وزنه ، ولا تظنّ أنه الدينار لا غير.
الذرة : النملة الصغيرة وقيل : أصغر ما تكون إذا مر عليها حول ، وقيل في وصفها.
الحمراء.
قيل : إذا مر عليها حول صغرت وجرت.
قال :
من القاصرات الطرف لو دب محول . . .
من الذر فوق الاتب منها لاثرا
وقال حسان :
لو يدب الحولى من ولد الذر . . .
ر عليها لأندبتها الكلوم
وقيل عن ابن عباس : الذرة رأس النملة.
وقيل عنه : أدخل يده في التراب ورفعها ثم نفخ فيه ، وقال : كل واحدة من هؤلاء ذرة.
وقيل : كل جزء الهباء في الكوة ذرة.
وقيل : الذرة هي الخردلة.
السكر : انسداد طريق التمييز بشرب ما يسكر من قولهم : سكرت عين البازي ، إذا خالها النوم.
ومنه : سكر النهر إذا اسندت مجاريه وسكرته أنا.
والسكر : أيضاً بضم السين السد.
قال :
فما زلنا على الشرب . . .
نداوي السكر بالسكر
والسكر : بالفتح ما أسكر ، أي منع من التمييز.
الغائط : ما انخفض من الأرض ، وجمعه غيطان.
ويقال : عيط وغوط.
وزعم ابن جني : أن غيطاً فعيل ، إذ أصله عنده غيط مثل هين وسيد إذا أخففتهما.
والصحيح : أنه فعل.
كما أنّ غوطاً فعل ، لأن العرب قالت : غاط يغوط ويغيط ، فأتت به مرة في ذوات الياء ، ومرة في ذوات الواو.
وجمعوا غوطاً على أغواط ويقال : تغوّط إذا أحدث وغاط في الأرض يغيط ويغوط غاب فيها حتى لا يظهر إلا لمن وقف عليه.
وكان الرجل إذا أراد التبرز ارتاد غائطاً من الأرض يستتر فيه عن أعين الناس ، ثم قيل : للحدث.
نفسه غائطاً ، كما قيل : سال الميزان وجري النهر.
{ إن الله لا يظلم مثقال ذرّة } نزلت في المهاجرين الأوّلين.
وقيل : في الخصوم.
وقيل : في عامة المؤمنين.
ومناسبة هذه لما قبلها واضحة لأنه تعالى لما أمر بعبادته تعالى وبالإحسان للوالدين ومن ذكر معهم ، ثم أعقب ذلك بذم البخل والأوصاف المذكورة معه ، ثم وبخ من لم يؤمن ، ولم ينفق في طاعة الله ، فكان هذا كله توطئة لذكر الجزاء على الحسنات والسيئات فأخبر تعالى بصفة عدله ، وأنه عزّ وجل لا يظلم أدنى شيء ، ثم أخبر بصفة الإحسان فقال :
{ وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً } وضرب مثلاً لأحقر الأشياء وزن ذرة ، وذلك مبالغة عظيمة في الانتفاء عن الظلم البتة.
وظاهر قوله : مثقال ذرّة ، أن الذرّة لها وزن.
وقيل : الذرّة لا وزن لها ، وأنه امتحن ذلك فلم يكن لها وزن.
وإذا كان تعالى لا يظلم مثقال ذرّة فلأن لا يظلم فوق ذلك أبلغ ، ولما كانت الذرة أصغر الموجودات ضرب بها المثل في القلة.
وقرأ ابن مسعود : مثقال نملة ، ولعل ذلك على سبيل الشرح للذرة.

قال الزمخشري : وفيه دليل على أنه لو نقص من أجره أدنى شيء وأصغره ، أو زاد في العقاب ، لكان ظلماً.
وأنه لا يفعله لاستحالته في الحكمة ، لا لاستحالته في القدرة انتهى.
وهي نزعة اعتزالية.
وثبت في صحيح مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها » ويظلم يتعدّى لواحد ، وهو محذوف وتقديره : لا يظلم أحداً مثقال ذرة.
وينتصب مثقال على أنه نعت لمصدر محذوف أي : ظلماً وزن ذرّة ، كما تقول : لا أظلم قليلاً ولا كثيراً.
وقيل : ضمنت معنى ما يتعدّى لاثنين ، فانتصب مثقال على أنه مفعول ثان ، والأول محذوف التقدير : لا ينقص ، أو لا يغضب ، أو لا يبخس أحداً مثقال ذرة من الخير أو الشر ، { وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً }.
حذفت النون من تلك لكثرة الاستعمال ، وكان القياس إثبات الواو ، لأن الواو إنما حذفت لالتقاء الساكنين.
فكان ينبغي أنه إذا حذفت ترجع الواو ، ولأن الموجب لحذفها قد زال.
ولجواز حذفها شرط على مذهب سيبويه وهو : أن تلاقي ساكنان ، فإن لاقته نحو : لم يكن ابنك قائماً ، ولم يكن الرجل ذاهباً ، لم يجز حذفها.
وأجازه يونس ، وشرط جواز هذا الحذف دخول جازم على مضارع معرب مرفوع بالضمة ، فلو كان مبنياً على نون التوكيد ، أو نون الإناث ، أو مرفوعاً بالنون ، لم يجز حذفها.
وقرأ الجمهور : حسنة بالنصب ، فتكون ناقصة ، واسمها مستتر فيها عائد على مثقال.
وأنث الفعل لعوده على مضاف إلى مؤنث ، أو على مراعاة المعنى ، لأن مثقال معناه زنة أي : وإن تك زنة ذرّة.
وقرأ الحسن والحرميان : حسنة بالرفع على أن تك تامة ، التقدير : وإن تقع أو توجد حسنة.
وقرأ الإبنان : يضعفها مشدّدة من غير ألف.
قال أبو علي : المعنى فيهما واحد ، وهما لغتان.
ويدل على هذا قراءة من قرأ { يضعف لها العذاب ضعفين } و { فيضعف له أضعافاً كثيرة } وقال أبو عبيدة في كتاب المجاز والطبري : ضاعف يقتضي مراراً كثيرة ، وضعف يقتضي مرتين ، وكلام العرب يقتضي عكس هذا.
لأنّ المضاعفة تقتضي زيادة المثل ، فإذا شدّدت اقتضت البنية التكثير فوق مرتين إلى أقصى ما يزيد من العدد ، وقد تقدم لنا الكلام في هذا.
وقال الزمخشري : يضاعف ثوابها لاستحقاقها ضده الثواب في كل وقت من الأوقات المستقبلة غير المتناهية.
وورد تضعيف الحسنة لعشر أمثالها في كتاب الله ، وتضعيف النفقة إلى سبعمائة ، ووردت أحاديث التضعيف ألفاً وألف ألف ، ولا تضاد في ذلك ، إذ المراد الكثرة لا التحديد.
وإن أريد التحديد فلا تضاد أيضاً ، لأن الموعود بذلك جميع المؤمنين ، ويختلف باختلاف الأعمال.

وظاهر قوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة الآية أنها عامة في كل أحد ، وتخصيص ذلك بالمهاجرين غير ظاهر من لدنه أي : من عنده على سبيل التفضل.
قال الزمخشري : سماه أجراً لأنه تابع للأجر لا يثبت إلا بثباته.
انتهى قال ابن مسعود وابن جبير وابن زيد الأجر : هنا الجنة.
وقيل : لا حد له ولا عد.
{ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } هو نبيهم يشهد عليهم بما فعلوا كما قال تعالى : { وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم } والأمة هنا من بعث إليهم النبي من مؤمن به وكافر.
لمّا أعلم تعالى بعدله وإيتاء فضله أتبع ذلك بأن نبه على الحالة التي يحضرونها للجزاء ويشهد عليهم فيها.
وكيف في موضع رفع إن كان المحذوف مبتدأ التقدير : فكيف حال هؤلاء السابق ذكرهم ، أو كيف صنعهم.
وهذا المبتدأ هو العامل في إذا ، أو في موضع نصب إن كان المحذوف فعلاً أي : فكيف يصنعون ، أو كيف يكونون.
والفعل أيضاً هو العامل في إذا.
ونقل ابن عطية عن مكيّ : أن العامل في كيف جئنا.
قال : وهو خطأ ، والاستفهام هنا للتوبيخ ، والتقريع ، والإشارة بهؤلاء إلى أمة الرسول.
وقال مقاتل : إلى الكفار.
وقيل : إلى اليهود والنصارى.
وقيل : إلى كفار قريش.
وقيل : إلى المكذبين وشهادته بالتبليغ لأمته قاله : ابن مسعود ، وابن جريج ، والسدي ، ومقاتل.
أو بإيمانهم قاله أبو العالية ، أو بأعمالهم قاله : مجاهد وقتادة.
والظاهر أن الشهادة تكون على المشهود عليهم.
وقيل : على بمعنى اللام ، أي : وجئنا بك لهؤلاء ، وهذا فيه بعد.
وقال الزجاجي : يشهد لهم وعليهم ، وحذف المشهود عليهم في قوله : إذا جئنا من كل أمة بشهيد لجريان ذكره في الجار والمجرور فاختصر ، والتقدير : من كل أمة بشهيد على أمته.
وظاهر المقابلة يقتضي أن تكون الشهادة عليهم لا لهم ، ولا يكون عليهم إلا والمشهود عليهم كانوا منكرين مكذبين بما شهد عليهم به.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه ، وكذلك حين قرأ عليه ابن مسعود ذرفت عيناه وبكاؤه والله أعلم هو إشفاق على أمته ورحمة لهم من هول ذلك اليوم.
وظاهر قوله : وجئنا بك ، أنه معطوف على قوله : جئنا من كل أمة.
وقيل : حال على تقدير قد أي وقد جئنا.
{ يومئذ يودّ الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض } التنوين في يومئذ هو تنوين العوض ، حذفت الجملة السابقة وعوض منها هذا التنوين ، والتقدير : يوم إذ جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً يودّ الذين كفروا وعصوا الرسول أي : كفروا بالله وعصوا رسوله.
والرسول : هنا اسم جنس ، ويحتمل أن يكون التنوين عوضاً من الجملة الأخيرة ، ويكون الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم.

وأبرز ظاهراً ، ولم يأت وعصوك لما في ذكر الرسول من الشرف والتنويه بالرسالة التي هي أشرف ما تحملها الإنسان من الله تعالى ، إذ هي سبب السعادة الدنيوية والأخروية ، والعامل في : يوم يودّ.
ومعنى يودّ : يتمنى.
وظاهر وعصوا أنه معطوف على كفروا.
وقيل : هو على إضمار موصول آخر أي : والذين عصوا فهما فرقتان.
وقيل : الواو واو الحال أي : كفروا وقد عصوا الرسول.
وقال الحوفي : يجوز أن يكون يوم مبنياً مع إذ ، لأنّ الظرف إذا أضيف إلى غير متمكن جاز بناؤه معه.
وإذ في هذا الموضع اسم ليست بظرف ، لأن الظروف إذا أضيف إليها خرجت إلى معنى الاسمية من أجل تخصيص المضاف إليها ، كما تخصص الأسماء ، ومع استحقاقها الجرّ ، والجرّ ليس من علامات الظروف انتهى ، وهو كلام جيد.
وقرأ الجمهور : وعصوا الرسول بضم الواو.
وقرأ يحيى بن يعمر وأبو السمال : وعصوا الرسول بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين.
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم : تسوى بضم التاء وتخفيف السين مبنياً للمفعول ، وهو مضارع سوى.
وقرأ نافع ، وابن عامر : بفتح التاء وتشديد السين ، وأصله تتسوى ، فأدغمت التاء في السين ، وهو مضارع تسوى.
وقرأ حمزة والكسائي : تسوّى بفتح التاء وتخفيف السين ، وذلك على حذف التاء ، إذ أصله تتسوى وهو مضارع تسوى.
فعلى قراءة من قرأ تتسوى وتسوّى فتكون الأرض فاعلة.
قال أبو عبيدة وجماعة : معناه لو تنشق الأرض ويكونون فيها ، وتتسوي هي في نفسها عليهم.
والباء بمعنى على.
وقالت فرقة : معناه لو تسوّى هي معهم في أن يكونوا تراباً كالبهائم ، فجاء اللفظ على أن الأرض هي المسوية معهم ، والمعنى : إنما هو أنهم يستوون مع الأرض.
ففي اللفظ قلب يخرج على قولهم : أدخلت القلنسوة في رأسي.
وعلى قراءة من قرأ : تسوى مبنياً للمفعول ، فالمعنى أن الله يفعل ذلك على حسب المعنيين السابقين.
وقيل : المعنى لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى ، ومعنى هذا القول هو معنى القول الأول.
وقيل : المعنى لو تعدل بهم الأرض أي : يؤخذ منهم ما عليها فدية.
والعامل في يومئذ يود ، ومفعول يود محذوف تقديره : تسوية الأرض بهم ، ودلّ عليه قوله : لو تسوى بهم الأرض.
ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابه محذوف تقديره : لسروا بذلك ، وحذف لدلالة يودّ عليه.
ومن أجاز في لو أن تكون مصدرية مثل أن جوز ذلك هنا ، وكانت إذ ذاك لا جواب لها ، بل تكون في موضع مفعول يود.
{ ولا يكتمون الله حديثاً } روي عن ابن عباس أن معنى هذه : ودوا إذ فضحتحهم جوارحهم أنهم لم يكتموا الله شركهم.
وروي عنه أيضاً : أنهم لما شهدت عليهم جوارحهم لم يكتموا الله شيئاً.
وقال الحسن : القيامة مواقف ، ففي موطن يعرفون سوء أعمالهم ويسألون أن يردوا إلى الدنيا ، وفي موطن يكتمون ويقولون : والله ربنا ما كنا مشركين.

وقال الفراء والزجاج : هو كلام مستأنف لا يتعلق بقوله : لو تسوى بهم الأرض ، والمعنى : لا يقدرون على كتمان الحديث لأنه ظاهر عند الله.
وقيل : ودوا لو سويت بهم الأرض ، وأنهم لم يكتموا الله حديثاً.
وقيل : لم يعتقدوا أنهم مشركون ، وإنما اعتقدوا أن عبادة الأصنام طاعة ، ذكر هذين القولين : ابن الأنباري.
قال القاضي : أخبروا بما توهموا ، وكانوا يظنون أنهم ليسوا بمشركين ، وذلك لا يخرجهم أنهم قد كذبوا.
وإذا كانت الجملة مندرجة تحت يود فقال الجمهور : هو قولهم والله ربنا ما كنا مشركين ، ما كنا نعمل من سوء ، وهذا يتعلق بالآخرة.
وقال عطاء : أمر الرسول ونعته وبعثه ، وهذا متعلق بالدنيا انتهى.
ما لخص من كتاب التحرير والتحبير.
وقال ابن عطية ما ملخصه : استأنف الكلام وأخبر أنهم لا يكتمون حديثاً لنطق جوارحهم بذلك كله حتى يقول بعضهم : والله ربنا ما كنا مشركين ، فيقول الله تعالى : كذبتم ، ثم تنطق جوارحهم فلا تكتم حديثاً ، وهذا قول ابن عباس.
وقالت طائفة مثله : إلا أنها قالت : استأنف ليخبر أنّ الكتم لا ينفع وإن كتموا لعلم الله جميع أسرارهم ، فالمعنى : ليس ذلك المقام الهائل مقاماً ينفع فيه الكتم.
والفرق بين هذا والأول ، أن الأول يقتضي أنّ الكتم لا يقع بوجه ، والآخر يقتضي أنّ الكتم لا ينفع وقع أو لم يقع ، كما تقول : هذا مجلس لا يقال فيه باطل ، وأنت تريد أنه لا ينفع فيه ولا يستمع إليه.
وقالت طائفة : الكلام كله متصل ، والمعنى : ويودون أنهم لا يكتمون الله حديثاً.
وودّهم ذلك إنما هو ندم على كذبهم حين قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين.
وقالت طائفة : هي مواطن وفرق انتهى.
وقال الزمخشري : لا يقدرون على كتمانه ، لأن جوارحهم تشهد عليهم.
وقيل : الواو وللحال يودون أن يدفنوا تحت الأرض ، وأنهم لا يكتمون الله حديثاً ، ولا يكذبون في قولهم : والله ربنا ما كنا مشركين.
لأنهم إذا قالوا ذلك وجحدوا شركهم ، ختم الله على أفواههم عند ذلك وتكلمت أيديهم وأرجلهم بتكذيبهم ، والشهادة عليهم بالشرك.
فلشدة الأمر عليهم يتمنون أن تسوى بهم الأرض انتهى.
والذي يتلخص في هذه الجملة أن الواو في قوله : ولا يكتمون إما أن تكون للحال ، أو للعطف فإن كانت للحال كان المعنى : أنهم يوم القيامة يودون إن كانوا ماتوا وسويت بهم الأرض ، غير كاتمين الله حديثاً ، فهي حال من بهم ، والعامل فيها تسوى.
وهذه الحال على جعل لو مصدرية بمعنى أن ، ويصح أيضاً الحال على جعل لو حرفاً لما سيقع لوقوع غيره ، أي : لو تسوى بهم الأرض غير كاتمين الله حديثاً لكان بغيتهم وطلبتهم.
ويجوز أن يكون حالاً من الذين كفروا ، والعامل يود على تقدير أن تكون لو مصدرية أي : يوم القيامة يود الذين كفروا إن كانوا سويت بهم الأرض غير كاتمين ، وتكون هذه الحال قيداً في الودادة.

أي تقع الودادة منهم لما ذكر في حال انتفاء الكتمان ، وهي حالة إقرارهم بما كانوا عليه في الدّنيا من الكفر والتكذيب ، ويكون إقرارهم في موطن دون موطن ، إذ قد ورد أنهم يكتمون ، ويبعد أن يكون حالاً على هذا الوجه.
ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره للفصل بين الحال ، وعاملها بالجملة.
وإن كانت الواو في : ولا يكتمون ، للعطف فيحتمل أن يكون من عطف المفردات ، ومن عطف الجمل.
فإن كانت من عطف المفردات كان ذلك معطوفاً على مفعول يود أي : يودّون تسوية الأرض بهم وانتفاء الكتمان.
ويحتمل أن يكون انتفاء الكتمان في الدنيا ، ويحتمل أن يكون في الآخرة ، وهو قولهم : والله ربنا ما كنا مشركين.
ويبعد جدًّا أن يكون عطف على مفعول يود المحذوف ، ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.
وإن كانت من عطف الجمل فيحتمل أن يكون معطوفاً على يود ، أي : يودّون كذا ولا يكتمون الله حديثاً ، فأخبر تعالى عنهم بخبرين الودادة وانتفاء الكتمان ، ويكون انتفاء الكتمان في بعض مواقف القيامة.
ويحتمل أن يكون مفعول يود محذوفاً كما قرّرناه ، ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابها محذوف كما تقدّم.
والجملة من قوله : ولا يكتمون معطوفة على لو ومقتضيتها ، ويكون تعالى قد أخبر بثلاث جمل : جملة الودادة ، والجملة التعليقية من لو وجوابها ، وجملة انتفاء الكتمان.
{ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } روي أن جماعة من الصحابة شربوا الخمر قبل التحريم ، وحانت صلاة ، فتقدّم أحدهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت.
وقيل : نزلت بسبب قول ثانياً : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً ، وكانوا يتحامونها أوقات الصلوات ، فإذا صلوا العشاء شربوها ، فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر ، إلى أن سأل عمر ثالثاً فنزل تحريمها مطلقاً.
وهذه الآية محكمة عند الجمهور.
وذهب ابن عباس إلى أنها منسوخة بآية المائدة.
وأعجب من هذا قول عكرمة : أن قوله لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى منسوخ بقوله : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } الآية أي أبيح لهم أن يؤخروا الصلاة حتى يزول السكر ، ثم نسخ ذلك فأمروا بالصلاة على كل حال ، ثم نسخ شرب الخمر بقوله : { فاجتنبوه } ولم ينزل الله هذه الآية في إباحة الخمر فلا تكون منسوخة ، ولا أباح بعد إنزالها مجامعة الصلاة مع السكر.
ووجه قول ابن عباس : أنّ مفهوم الخطاب يدل على جواز السكر ، وإنما حرم قربان الصلاة في تلك الحال ، فنسخ ما فهم من جواز الشرب والسكر بتحريم الخمر.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي : أنه لما أمر تعالى بعبادة الله والإخلاص فيها ، وأمر ببرّ الوالدين ومكارم الأخلاق ، وذم البخل واستطرد منه إلى شيء من أحوال القيامة ، وكان قد وقع من بعض المسلمين تخليط في الصلاة التي هي رأس العبادة بسبب شرب الخمر ، ناسب أن تخلص الصلاة من شوائب الكدر التي يوقعها على غير وجهها ، فأمر تعالى بإتيانها على وجهها دون ما يفسدها ، ليجمع لهم بين إخلاص عبادة الحق ومكارم الأخلاق التي بينهم ، وبين الخلق والخطاب بقوله : يا أيها الذين آمنوا للصاحين ، لأن السكران إذا عدم التمييز لسكره ليس بمخاطب ، لكنه مخاطب إذا صحا بامتثال ما يجب عليه ، وبتكفيره ما أضاع في وقت سكره من الأحكام التي تقرّر تكليفه إياها قبل السكر ، وليس في هذا تكليف ما لا يطاق على ما ذهب إليه بعض الناس.

وبالغ تعالى في النهي عن أن يصلّي المؤمن وهو سكران بقوله : { لا تقربوا الصلاة } لأن النهي عن قربان الصلاة أبلغ من قوله : لا تصلوا وأنتم سكارى ومنه : { ولا تقربوا الزنا } { ولا تقربوا الفواحش } { ولا تقربوا مال اليتيم } والمعنى : لا تغشوا الصلاة.
وقيل : هو على حذف مضاف أي : لا تقربوا مواضع الصلاة لقوله : ولا جنباً إلا عابري سبيل على أحد التأويلين في عابري سبيل ، وسيأتي إن شاء الله.
ومواضع الصلاة هي المساجد لقوله صلى الله عليه وسلم : « جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم »
والجمهور على أن المراد : وأنتم سكارى من الخمر.
وقال الضحاك : المراد السكر من النوم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، فإنه لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه » وقال عبيدة السلماني : المراد بقوله وأنتم سكارى إذا كنتم حاقنين ، لقوله عليه السلام : « لا يصلين أحدكم وهو حاقن » وفي رواية : « وهو ضام فخذيه » واستضعف قول الضحاك وعبيدة واستبعد.
وقال القرطبي : قولهما صحيح المعنى ، لأن المطلوب من المصلي الإقبال على عبادة الله تعالى بقلبه وقالبه ، بصرف الأسباب التي تشوّش عليه وتقل خشوعه من : نوم ، وحقنة ، وجوع ، وغيره مما يشغل البال.
وظاهر الآية يدل على النهي عن قربان الصلاة في حالة السكر.
وقيل : المراد النهي عن السكر ، لأن الصلاة قد فرضت عليهم وأوقات السكر ليست محفوظة عندهم ولا بمقدرة ، لأن السكر قد يقع تارة بالقليل وتارة بالكثير ، وإذا لم يتحرر وقت ذلك عندهم تركوا الشرب احتياطاً لأداء ما فرض عليهم من الصلوات.
وأيضاً فالسكر يختلف باختلاف أمزجة الشاربين ، فمنهم من سكره الكثير ، ومنهم من سكره القليل.
وقرأ الجمهور : سكارى بضم السين.
واختلفوا : أهو جمع تكسير؟ أم اسم جمع؟ ومذهب سيبويه أنه جمع تكسير.
قال سيبويه في حد تكسير الصفات : وقد يكسرون بعض هذا على فعالى ، وذلك قول بعضهم : سكارى وعجالى.

قال الزمخشري : وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر ، والاستدلال بالمشاهد المحسوس ، حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه ، فيحكم اعتقاده والتيقن.
والمشبه بالعروة الإيمان ، قاله : مجاهد.
أو : الإسلام قاله السدّي أو : لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، والضحاك ، أو : القرآن ، قاله السدّي أيضاً ، أو : السنة ، أو : التوفيق.
أو : العهد الوثيق.
أو : السبب الموصل إلى رضا الله وهذه أقوال متقاربه.
{ لا انفصام لها } لا انكسار لها ولا انقطاع ، قال الفراء : الانفصام والانقصام هما لغتان ، وبالفاء أفصح ، وفرق بعضهم بينهما ، فقال : الفصم انكسار بغير بينونة ، والقصم انكسار ببينونة.
وهذه الجملة في موضع نصب على الحال من العروة ، وقيل : من الضمير المستكن في الوثقى ، ويجوز أن يكون خبراً مستأنفاً من الله عن العروة ، و : لها ، في موضع الخبر ، فتتعلق بمحذوف أي : كائن لها.
{ والله سميع عليم } أتى بهذين الوصفين لأن الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده الجنان ، فناسب هذا ذكر هذين الوصفين لأن الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، وقيل : سميع لدعائك يا محمد ، عليم بحرصك واجتهادك.
{ ألله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } الولي ، هنا الناصر والمعين أو المحب أو متولى أمورهم ، ومعنى : آمنوا ، أرادوا أن يؤمنوا ، والظلمات : هنا الكفر ، والنور الإيمان ، قاله قتادة ، والضحاك ، والربيع.
قيل : وجمعت الظلمات لاختلاف الضلالات ، ووحد النور لأن الإيمان واحد.
والإخراج هنا إن كان حقيقة فيكون مختصاً بمن كان كافراً ثم آمن ، وإن كان مجازاً فهو مجاز عن منع الله إياهم من دخولهم في الظلمات.
قال الحسن : معنى يخرجهم يمنعهم ، وإن لم يدخلوا ، والمعنى أنه لو خلا عن توفيق الله لوقع في الظلمات ، فصار توفيقه سبباً لدفع تلك الظلمة ، قالوا : ومثل هذه الاستعارة شائع سائغ في كلامهم ، كما قال طفيل الغنوي :
فإن تكنِ الأيام أحسنَّ مرة . . .
إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب
قال الواقدي : كل شيء في القرآن من الظلمات والنور فإنه أراد به الكفر والإيمان غير التي في الأنعام ، وهو : { وجعل الظلمات والنور } فإنه أراد به الليل والنهار.
وقال الواسطي : يخرجهم من ظلمات نفوسهم إلى آدابها : كالرضا والصدق والتوكل والمعرفة والمحبة.
وقال أبو عثمان : يخرجهم من ظلمات الوحشة والفرقة إلى نور الوصلة والإلفة.
وقال الزمخشري : آمنوا أرادوا أن يؤمنوا ، تلطف بهم حتى يخرجهم بلطفه وتأييده من الكفر إلى الإيمان ، أو : الله ولي المؤمنين يخرجهم من الشبه في الدين إن وقعت لهم ، بما يهديهم ويوفقهم لها من حلها ، حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين.

وحكى عن مالك نحوه.
قيل : وفي الآية دلالة على أن الشرب كان مباحاً في أول الإسلام حتى ينتهي بصاحبه إلى السكر.
وقال القفال : يحتمل أنه كان أبيح لهم من الشراب ما يحرك الطبع إلى السخاء والشجاعة والحمية ، وأما ما يزيل العقل حتى يصير صاحبه في حالة الجنون والإغماء فما أبيح قصده ، بل لو أنفق من غير قصد كان مرفوعاً عن صاحبه.
{ ولا جنباً } هذه حالة معطوفة على قوله : وأنتم سكارى.
إذ هي جملة حالية ، والجملة الاسمية أبلغ لتكرار الضمير ، فالتقييد بها أبلغ في الانتفاء منها من التقييد بالمفرد الذي هو : ولا جنباً.
ودخول لا دالٌ على مراعاة كل قيد منهما بانفراده.
وإذا كان النهي عن إيقاع الصلاة مصاحبة لكل حال منهما بانفراده ، فالنهي عن إيقاعها بهما مجتمعين ، وأدخل في الحظر.
والجنب : هو غير الصحابة : لا غسل إلا على من أنزل ، وبه قال الأعمش وداود.
وهي مسألة تذكر أدلتها في علم الفقه.
والجنب من الجنابة وهي البعد ، كأنه جانب الطهر ، أو من الجنب كأنه ضاجع ومس بجنبه.
قال الزمخشري : الجنب يستوي فيه الواحد والجمع ، والمذكر والمؤنث ، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب انتهى.
والذي ذكره هو المشهور في اللغة والفصيح ، وبه جاء القرآن.
وقد جمعوه جمع سلامة بالواو وإلنون قالوا : قوم جنبون ، وجمع تكسير قالوا : قوم أجناب.
وأما تثنيته فقالوا : جنبان.
{ إلا عابري سبيل } العبور : الخطور والجواز ، ومنه ناقة عير الهواجر وعبر أسفار قال :
عيرانه سرح اليدين شمله . . .
عبر الهواجر كالهجف الخاضب
وعابر السبيل هو المارّ في المسجد من غير لبث فيه ، وهو مذهب الشافعي قال : يمرّ فيه ولا يقعد فيه.
وقال الليث : لا يمرّ فيه إلا إن كان بابه إلى المسجد.
وقال أحمد وإسحاق : إذا توضأ الجنب فلا بأس به أن يقعد في المسجد.
وقال الزمخشري : من فسر الصلاة بالمسجد قال : معناه لا تقربوا المسجد جنباً إلا مجتازين فيه ، إذا كان الطريق فيه إلى الماء ، أو كان الماء فيه ، أو احتلمتم فيه.
وقيل : إنّ رجالاً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرّاً إلا في المسجد ، فرخص لهم.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لم يأذن لأحد أن يجلس في المسجد أن يمرّ فيه وهو جنب ، إلا لعلي.
لأنه بيته كان في المسجد » وقال عليّ وابن عباس أيضاً وابن جبير ومجاهد والحكم وغيرهم : عابر السبيل المسافر ، فلا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال ، إلا المسافر فإنه يتيمم وهو مذهب أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وزفر ، قالوا : لا يدخل المسجد إلا الطاهر سواء أراد القعود فيه أم الاجتياز ، وهو قول : مالك والثوري وجماعة.
ورجح هذا القول بأن قوله : لا تقربوا الصلاة يبقى على ظاهره ، وحقيقته بخلاف تأويل مواضع الصلاة فإنه مجاز ، ولا يعدل إليه إلا بعد تعذر حمل الكلام على حقيقته.

وليس في المسجد قول مشروط يمنع من دخوله لتعذره عليه عند السكر ، وفي الصلاة قراءة مشروطة يمنع لأجل تعذر إقامتها من فعل الصلاة.
وسمي المسافر عابر سبيل لأنه على الطريق ، كما سمي ابن السبيل.
وأفاد الكلام معنيين : أحدهما : جواز التيمم للجنب إذا لم يجد الماء والصلاة به.
والثاني : أن التيمم لا يرفع الجنابة ، لأنه سماه جنباً مع كونه متيمماً.
وعلى هذا المعنى فسر الزمخشري الآية أولاً فقال : إلا عابري سبيل ، الاستثناء من عامة أحوال المخاطبين ، وانتصابه على الحال.
( فإن قلت ) : كيف جمع بين هذه الحال والتي قبلها؟ ( قلت ) : كأنه قيل : لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها وهي حال السفر وعبور السبيل عبارة عنه.
ويجوز أن لا يكون حالاً ولكن صفة كقوله : جنباً أي : ولا تقربوا الصلاة جنباً غير عابري سبيل ، أي : جنباً مقيمين غير معذورين.
( فإن قلت ) : كيف تصح صلاتهم على الجنابة لعذر السفر؟ قلت : أريد بالجنب الذين لم يغتسلوا ، كأنه قيل : لا تقربوا الصلاة غير مغتسلين حتى تغتسلوا ، إلا أن تكونوا مسافرين انتهى كلامه.
ومن قال : بمنع الجنب من المرور في المسجد والجلوس فيه تعظيماً له ، فالأولى أن يمنعه والحائض من قراءة القرآن ، وبه قال الجمهور ، فلا يجوز لهما أن يقرآ منه شيئاً سواء كان كثيراً أم قليلاً حتى يغتسلا ، ورخص مالك لهما في الآية اليسيرة للتعوذ ، وأجاز للحائض أن تقرأ مطلقاً إذا خافت النسيان عند الحيض ، وذكروا هذه المسألة ولا تعلق لها في التفسير بلفظ القرآن.
{ حتى تغتسلوا } هذه غاية لامتناع الجنب من الصلاة ، وهي داخلة في الحظر إلى أن يوقع الاغتسال مستوعباً جميعه.
والخلاف : هل يدخل في ماهية الغسل إمرار اليد أو شبهها مع الماء على المغسول؟ فلو انغمس في الماء أو صبه عليه فمشهور مذهب مالك : أنه لا يجزئه حتى يتدلك ، وبه قال المزني : ومذهب الجمهور : أنه يجزئه من غير تدلك.
وهل يجب في الغسل تخليل اللحية؟ فيه عن مالك خلاف.
وأما المضمضة والاستنشاق في الغسل فذهب أبو حنيفة إلى فرضيتهما فيه لا في الوضوء.
وقال ابن أبي ليلى وإسحاق وأحمد وبعض أصحاب داود : هما فرض فيهما.
وروي عن عطاء ، والزهري وقال مجاهد وجماعة من التابعين ، ومالك ، والأوزاعي ، والليث ، والشافعي ، ومحمد بن جرير : ليسا بفرض فيهما.
وروي عن أحمد : أن المضمضة سنة ، والاستنشاق فرض ، وقال به بعض أصحاب داود.
وظاهر قوله : حتى تغتسلوا حصول الاغتسال ، ولم يشترط فيه نية الاغتسال ، بل ذكر حصول مطلق الاغتسال ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه في كل طهارة بالماء.
وروي هذا الوليد بن مسلم عن مالك ، ومشهور مذهبه أنه لا بد من النية ، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور.

{ وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } قال الجمهور : نزلت بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة المريسيع ، حين أقام على التماس العقد.
وقال النخعي : في قوم أصابتهم جراح وأجنبوا.
وقيل : كان ذلك عبد الرحمن بن عوف ، ومرضى يعني في الحضر.
ويدل على مطلق المرض قل أو كثر ، زاد أو نقص ، تأخر برؤه أو تعجل ، وبه قال داود.
فأجاز التيمم لكل من صدق عليه مطلق الاسم.
وخصص العلماء غيره المرض بالجدري ، والحصبة ، والعلل المخوف عليها من الماء فقالوا : إن خاف تيمم بلا خلاف ، إلا ما روي عن عطاء والحسن : أنه يتطهر وإن مات ، وهما محجوجان بحديث عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل ، وأنه أشفق أن يهلك إن اغتسل فتيمم ، فأقرّه الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك ، خرجه أبو داود والدارقطني.
وإن خاف حدوث مرض أو زيادته ، أو تأخر البرء ، فذهب أبو حنيفة ومالك : إلى أنه يتيمم.
وقال الشافعي : لا يجوز ، وقيل : الصحيح عن الشافعي أنه إذا خاف طول المرض جاز له التيمم.
وظاهر قوله تعالى : أو على سفر مطلق السفر ، فلو لم يجد الماء في الحضر جاز له التيمم عند مالك وأبي حنيفة ومحمد.
وقال الشافعي والطبري : لا يتيمم.
وقال الليث والشافعي أيضاً : إن خاف فوت الوقت تيمم وصلى ، ثم إذا وجد الماء أعاد.
وقال أبو يوسف وزفر : لا يتيمم إلا لخوف الوقت.
والسفر المبيح عند الجمهور مطلق السفر ، سواء أكان مما تقصر فيه الصلاة أو لا تقصر.
وشرط قوم سفراً تقصر فيه الصلاة ، وشرط آخرون أن يكون سفر طاعة.
وقال أبو حنيفة : لو خرج من مصره لغير سفر فلم يجد الماء جاز له التيمم ، وقد المسافة أن يكون بينه وبين الماء ميل.
وقيل : إذا كان بحيث لا يسمع أصوات الناس ، لأنه في معنى المسافر.
فلو وجد ماء قليلاً إن توضأ به خاف على نفسه العطش تيمم على قول الجمهور ، فلو وجده بثمن مثله فلا خلاف أنه يلزمه شراؤه ، أو بما زاد.
فمذهب أبي حنيفة والشافعي.
يتيمم.
ومذهب مالك : يشتريه بماله كله ويبقى عديماً.
فلو حال بينه وبين الماء عدو أو سبع أو غير ذلك مما يحول فكالعادم للماء.
ومجيئه من الغائط كناية عن الحدث بالغائط ، وحمل عليه الريح والبول والمني والودي ، لا خلاف أن هذه الستة أحداث.
وقد اختلفوا في أشياء ذكرت في كتب الفقه.
وقرأ ابن مسعود : من الغيط وخرج على وجهين : أحدهما : أنه مصدر إذ قالوا : غاط يغيط.
والثاني : أن أصله فيعل ، ثم حذف كميت.

واختلفوا في تفسير اللمس ، فقال عمرو بن مسعود وغيرهما : هو اللمس باليد ، ولا ذكر للجنب إنما يغتسل أو يدع الصلاة حتى يجد الماء.
قال أبو عمر : لم يقل بقولهم أحد من فقهاء الأمصار لحديث عمار ، وأبي ذر ، وعمران بن حصين في تيمم الجنب.
وقال علي وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة : المراد الجماع ، والجنب يتيمم.
ولا ذكر للامس بيده ، وهو مذهب أبي حنيفة.
فلو قبل ولو بلذة لم ينتقض الوضوء.
وقال مالك : الملامس بالجماع يتيمم ، وكذا باليد إذا التذ فإن لمس بغير شهوة فلا وضوء ، وبه قال أحمد وإسحاق.
وقال الشافعي : إذا أفضى بشيء من جسده إلى بدن المرأة نقض الطهارة ، وهو قول : ابن مسعود ، وابن عمر ، والزهري ، وربيعة ، وعبيدة ، والشعبي ، وابراهيم ، ومنصور ، وابن سيرين.
وقال الأوزاعي : إن كان باليد نقض وإلا فلا.
وقرأ حمزة ، والكسائي : لمستم وباقي السبعة بالألف ، وفاعل هنا موافق فعل المجرّد نحو : جاوزت الشيء وجزته ، وليست لأقسام الفاعلية والمفعولية لفظاً ، والاشتراك فيهما معنى ، وقد حملها الشافعيّ على ذلك في أظهر قوليه.
فقال : الملموس كاللامس في نقض الطهارة.
وقوله : أو على سفر في موضع نصب عطفاً على مرضى.
وفي قوله : أو جاء ، أو لامستم دليل على جواز وقوع الماضي خبراً لكان من غير قد وادّعاء إضمارها تكلف خلافاً للكوفيين لعطفها على خبر كان ، والمعطوف على الخبر خبر.
فلم تجدوا ماء الضمير عائد على من أسند إليهم الحكم في الأخبار الأربعة.
وفيه تغليب الخطاب إذ قد اجتمع خطاب وغيبة ، فالخطاب : كنتم مرضى ، أو على سفر ، أو لامستم.
والغيبة قوله : أو جاء أحد.
وما أحسن ما جاءت هذه الغيبة ، لأنه لما كنى عن الحاجة بالغائط كره إسناد ذلك إلى المخاطبين ، فنزع به إلى لفظ الغائب بقوله : أو جاء أحد ، وهذا من أحسن الملاحظات وأجمل المخاطبات.
ولما كان المرض والسفر ولمس النساء لا يفحش الخطاب بها جاءت على سبيل الخطاب.
وظاهر انتفاء الوجدان سبق تطلبه وعدم الوصول إليه ، فأما في حق المريض فجعل الموجود حساً في حقه إذا كان لا يستطيع استعماله كالمفقود شرعاً ، وأما غيره باقي الأربعة فانتفاء وجدان الماء في حقهم هو على ظاهره.
وفلم تجدوا معطوف على فعل الشرط فتيمموا صعيداً طيباً هذا جواب الشرط ، أمر الله تعالى بالتيمم عند حصول سبب من هذه الأسباب الأربعة وفقدان الماء.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف نظم في سلك واحد بين المرضى والمسافرين ، وبين المحدثين والمجنبين ، والمرض والسفر سببان من أسباب الرخصة ، والحدث سبب لوجوب الوضوء ، والجنابة سبب لوجوب الغسل؟ ( قلت ) : أراد سبحانه وتعالى أن يرخص للذين وجب عليهم التطهر وهم عادمون للماء في التيمم والتراب ، فخص أولاً من بينهم مرضاهم وسفرهم لأنهم المتقدمون في استحقاق بيان الرخصة لهم ، لكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبة للرخصة ، ثم عم كل من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء لخوف عدو ، أو سبع ، أو عدم آلة استقاء ، أو إرهاق في مكان لا ماء فيه ، أو غير ذلك مما لا يكثر كثرة المرض والسفر انتهى.

وفيه تفسيره : أو لامستم النساء أنه أريد به الجماع الذي تترتب عليه الجنابة ، فسر ذلك على مذهب أبي حنيفة ، ولم ينقل غيره من المذاهب.
وملخص ما طول به : أنه اعتذر عن تقديم المرض والسفر بما ذكر.
ومن يحمل اللمس على ظاهره يقول : إن هذا من باب الترقي من الأقل إلى الأكثر ، لأن حالة المرض أقل من حالة السفر ، وحالة السفر أقل من حالة قضاء الحاجة ، وحالة قضاء الحاجة أقل من حالة لمس المرأة.
ألا ترى أن حالة الصحة غالباً أكثر من حال المرض ، وكذا في سائر البواقي؟.
قال أبو عبيدة والفراء : الصعيد التراب.
وقال الليث : الصعيد الأرض المستوية لا شيء فيها من غراس ونبات ، وهو قول قتادة ، قال : الصعيد الأرض الملساء.
وقال الخليل : الصعيد ما صعد من وجه الأرض ، يريد وجه الأرض.
وقال الزجاج : الصعيد وجه الأرض تراباً كان أو غيره ، وإن كان صخراً لا تراب عليه زاد غيره : أو رملاً ، أو معدناً ، أو سبخة.
والطيب الطاهر وهذا تفسير طائفة ، ومذهب أبي حنيفة ومالك واختيار الطبري.
ومنه { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين } أي طاهرين من أدناس المخالفات.
وقال قوم : الطيب هنا الحلال ، قاله سفيان الثوري وغيره.
وقال الشافعي وجماعة : الطيب المنبت ، وقاله ابن عباس لقوله تعالى : { والبلد الطيب يخرج نباته } فالصعيد على هذا التراب.
وهؤلاء يجيزون التيمم بغير ذلك ، فمحل الإجماع هو أن يتيمم بتراب منبت طاهر غير منقول ولا مغصوب.
ومحل المنع إجماعاً هو : أن يتيمم على ذهب صرف ، أو فضة ، أو ياقوت ، أو زمرد ، وأطعمة كخبز ولحم ، أو على نجاسة ، واختلف في المعادن : فأجيز ، وهو مذهب مالك ، ومنع وهو مذهب الشافعي.
وفي الملح ، وفي الثلج ، وفي التراب المنقول ، وفي المطبوخ كالآجر ، وعلى الجدار ، وعلى النبات ، والعود ، والشجر خلاف.
وأجاز الثوري وأحمد بغبار اليد.
وقال أحمد وأبو يوسف : لا يجوز إلا بالتراب والرمل ، والجمهور على إجازته بالسباخ ، إلا ابن راهويه.
وأجاز ابن علية وابن كيسان التيمم بالمسك والزعفران.
وظاهر الكلام : أنّ التيمم مسح الوجه واليدين من الصعيد الطيب ، فمتى حصلت هذه الكيفية حصل التيمم.
والعطف بالواو لا يقتضي ترتيباً بين الوجه واليدين والباء في بوجوهكم مما يعدى بها الفعل تارة ، وتارة بنفسه.
حكى سيبويه : مسحت رأسه وبرأسه ، وخشنت صدره وبصدره على معنى واحد.
وظاهر مسح الوجه التعميم ، فيمسحه جميعه كما يغسله بالماء جميعه.
وأجاز بعضهم أن لا يتتبع الغضون.
وأما اليدان فظاهر مسحهما تعميم مدلولهما ، وهي تنطلق لغة إلى المناكب ، وبه قال ابن شهاب ، قال : يمسح إلى الآباط ، وروي ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

وفي سنن أبي داود : « أنه عليه السلام مسح إلى انصاف ذراعيه » قال ابن عطية : لم يقل أحد بهذا الحديث فيما حفظت انتهى.
وذهب أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري وابن أبي سلمة والليث : أنه يمسح إلى بلوغ المرفقين فرضاً واجباً ، وهو قول : جابر ، وابن عمر ، والحسن ، وابراهيم.
وذهب طائفة إلى أنه يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان ، وهو : قول علي ، وعطاء ، والشعبي ، ومكحول ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وداود بن علي ، والطبري ، والشافعي في القديم ، وروي عن مالك.
وذهب الشعبي إلى أنه يمسح كفيه فقط ، وبه قال بعض فقهاء الحديث ، وهو الذي ينبغي أن يذهب إليه لصحته في الحديث.
ففي مسلم من حديث عمار « إنما كان يكفيك أن تضرب بيدك الأرض ثم تنفخ وتمسح بها وجهك وكفيك » وعنه في هذا الحديث : « وضرب بيده الأرض فنفض يديه ، فمسح وجهه وكفيه » وللبخاري : « ثم أدناهما من فيه ، ثم مسح بهما وجهه وكفيه » وفي مسلم أيضاً : « أما يكفيك أن تقول بيدك هكذا ، ثم ضرب بيده الأرض ضربة واحدة ، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه » وعند أبي داود « فضرب بيده الأرض فقبضها ، ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفين ، ثم مسح وجهه » فهذه الأحاديث الصحيحة مبينة ما تطرق إليه الاحتمال في الآية من محل المسح وكيفيته.
وظاهر هذه الأحاديث الصحيحة وظاهر الآية يدل على الاجتزاء بضربة واحدة للوجه واليدين ، وهو قول : عطاء والشعبي في رواية ، والأوزاعي في الأشهر عنه ، وأحمد وإسحاق وداود والطبري.
وذهب مالك في المدوّنة ، والأوزاعي في رواية ، وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم ، والثوري ، والليث ، وابن أبي سلمة : إلى وجوب ضربتين ضربة للوجه ، وضربة لليدين ، وذهب ابن أبي ليلى والحسن إلى أنه ضربتان ، ويمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه ، ولم يقل بذلك أحد من أهل العلم غيرهما.
وأحكام التيمم ومسائله كثيرة مذكورة في كتب الفقه ، ولم يذكر في هذه السورة منه ، وذكر ذلك في المائدة ، فدلت على مذهب الشافعي في نقل شيء من الممسوح به إلى الوجه والكفين ، وحمل هذا المطلق على ذلك المقيد ، ولذلك قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فما تصنع بقوله في سورة المائدة : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } أي بعضه وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه؟ ( قلت ) : قالوا : إنها أي من لابتداء الغاية ( فإن قلت ) : قولهم أنها لابتداء الغاية قول متعسف ، ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل : مسحت برأسه من الدهن ، ومن الماء ، ومن التراب ، إلا معنى التبعيض ( قلت ) : هو كما تقول ، والإذعان للحق أحق من المراء.
{ إن الله كان عفواً غفوراً } كناية عن الترخيص والتيسير ، لأن مَن كانت عادته أن يعفو عن الخطائين ويغفر لهم ، آثر أن يكون ميسراً غير معسر انتهى كلامه.
والعجب منه إذ أذعن إلى الحق ، وليس من عادته ، بل عادته أن يحرف الكلام عن ظاهره ويحمله على غير محمله لأجل ما تقرر من مذهبه.
وأيضاً فكلامه أخيراً حيث أطلق أن الله يعفو عن الخطائين ويغفر لهم ، العجب له إذ لم يقيد ذلك بالتوبة على مذهبه وعادته فيما هو يشبه هذا الكلام.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)

{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } قال قتادة : نزلت في اليهود.
وفي رواية عن ابن عباس : في رفاعة بن زيد بن التابوت.
وقيل : في غيره من اليهود.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر شيئاً من أحوال الآخرة ، وأن الكفار إذ ذاك يودون لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً ، وجاءت هذه الآية بعد ذلك كالاعتراض بين ذكر أحوال الكفار في الآخرة ، وذكر أحوالهم في الدنيا وما هم عليه من معاداة المؤمنين ، وكيف يعاملون رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأتي شهيداً عليهم وعلى غيرهم.
ولما كان اليهود أشد إنكاراً للحق ، وأبعد من قبول الخير.
وكان قد تقدّم أيضاً الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ، وهم أشد الناس تحلياً بهذين الوصفين ، أخذ يذكرهم بخصوصيتهم.
وتقدم تفسير ألم تر إلى الذين في قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } فأغنى عن إعادته.
.
والنصيب : الحظ.
ومن الكتاب : يحتمل أن يتعلق بأوتوا ، ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لنصيباً.
وظاهر لفظ الذين أوتوا ، يشمل اليهود والنصارى ، ويكون الكتاب عبارة عن التوراة والإنجيل.
وقيل : الكتاب هنا التوراة ، والنصيب قيل : بعض علم التوراة ، لا العمل بما فيها.
وقيل : علم ما هو حجة عليهم منه فحسب.
وقيل : كفرهم به.
وقيل : علم نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم.
{ يشترون الضلالة } المعنى : يشترون الضلالة بالهدى ، كما قال : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى }
قال ابن عباس : استبدلوا الضلالة بالإيمان.
وقال مقاتل : استبدلوا التكذيب بالنبي بعد ظهوره بإيمانهم به قبل ظهوره واستنصارهم به انتهى.
ودل لفظ الاشتراء على إيثار الضلالة على الهدى ، فصار ذلك بغياً شديداً عليهم ، وتوبيخاً فاضحاً لهم ، حيث هم عندهم حظ من علم التوراة والإنجيل ، ومع ذلك آثروا الكفر على الإيمان.
وكتابهم طافح بوجوب اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل.
وقيل : اشتراء الضلالة هنا هو ما كانوا يبذلون من أموالهم لأحبارهم على تثبيت دينهم قاله : الزجاج.
{ ويريدون أن تضلوا السبيل } أي : لم يكفهم أن ضلوا في أنفسهم حتى تعلقت آمالهم بضلالكم أنتم أيها المؤمنون عن سبيل الحق ، لأنهم لما علموا أنهم قد خرجوا من الحق إلى الباطل كرهوا أن يكون المؤمنون مختصين باتباع الحق ، فأرادوا أن يضلوا كما ضلوا هم كما قال تعالى : { ودُّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء } وقرأ النخعي : وتريدون بالتاء باثنتين من فوق ، قيل : معناه وتريدون أيها المؤمنون أن تضلوا السبيل أي : تدعون الصواب في اجتنابهم ، وتحسبونهم غير أعداء الله.
وقرىء : أن يضلوا بالياء وفتح الضاد وكسرها.
{ والله أعلم بأعدائكم } فيه تنبيه على الوصف المنافي لوداد الخير للمؤمنين وهي العداوة.

وفيه إشارة إلى التحذير منهم ، وتوبيخ على الاستنامة إليهم والركون ، والمعنى : أنه تعالى قد أخبر بعداوتهم للمؤمنين ، فيجب حذرهم كما قال تعالى : { هم العدو فاحذرهم } واعلم على بابها من التفضيل ، أي : أعلم بأعدائكم منكم.
وقيل : بمعنى عليم ، أي عليم بأعدائكم.
{ وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً } ومن كان الله وليه ونصيره فلا يبالي بالأعداء ، فثقوا بولايته ونصرته دونهم أو لا تبالوا بهم ، فإنه ينصركم عليهم ، ويكفيكم مكرهم.
وقيل : المعنى ولياً لرسوله ، نصيراً لدينه.
والباء في بالله زائدة ويجوز حذفها كما قال : سحيم :
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا . . .
وزيادتها في فاعل كفى وفاعل يكفي مطردة كما قال تعالى : { أو لم يكف بربك إنه على كل شيء شهيد } وقال الزجاج : دخلت الباء في الفاعل ، لأن معنى الكلام الأمر أي : اكتفوا بالله.
وكلام الزجاج مشعر أن الباء ليست بزائدة ، ولا يصح ما قال من المعنى ، لأن الأمر يقتضي أن يكون فاعله هم المخاطبون ، ويكون بالله متعلقاً به.
وكون الباء دخلت في الفاعل يقتضي أن يكون الفاعل هو الله لا المخاطبون ، فتناقض قوله.
وقال ابن السراج : معناه كفى الاكتفاء بالله ، وهذا أيضاً يدل على أن الباء ليست زائدة إذ تتعلق بالاكتفاء ، فالاكتفاء هو الفاعل لكفى.
وهذا أيضاً لا يصح لأنّ فيه حذف المصدر وهو موصول ، وإبقاء معموله وهو لا يجوز إلا في الشعر نحو قوله :
هل تذكرنّ إلى الدّيرين هجرتكم . . .
ومسحكم صلبكم رحمان قربانا
التقدير : وقولكم يا رحمن قرباناً.
وقال ابن عطية : بالله في موضع رفع بتقدير زيادة الخافض ، وفائدة زيادته تبيين معنى الأمر في صورة الخبر ، أي : اكتفوا بالله ، فالباء تدل على المراد من ذلك.
وهذا الذي قاله ابن عطية ملفق بعضه من كلام الزجاج ، وهو أفسد من قول الزجاج ، لأنه زاد على تناقض اختلاف الفاعل تناقض اختلاف معنى الحرف ، إذ بالنسبة لكون الله فاعلاً هو زائد ، وبالنسبة إلى أن معناه اكتفوا بالله هو غير زائد.
وقال ابن عيسى : إنما دخلت الباء في كفى بالله لأنه كان يتصل الفاعل وبدخول الباء اتصل اتصال المضاف واتصال الفاعل ، لأن الكفارية منه ليست كالكفاية من غيره ، فضوعف لفظها لمضاعفة معناها ، وهو كلام يحتاج إلى تأويل.
وقد تقدم الكلام على كفى بالله في قوله : { فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيباً } لكن تكرر هنا لما تضمن من مزيد : نقول : ورد بعضها.
وانتصاب ولياً ونصيراً قيل : على الحال.
وقيل : على التمييز ، وهو أجود لجواز دخول من.
{ من الذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه } ظاهره الانقطاع في الإعراب عن ما قبله ، فيكون على حذف موصوف هو مبتدأ ، ومن الذين خبره ، والتقدير : من الذين خبره ، والتقدير : من الذين هادوا قوم يحرّفون الكلم ، وهذا مذهب سيبويه ، وأبي عليّ ، وحذف الموصوف بعد من جائز وإن كانت الصفة فعلاً كقولهم : منا ظعن ، ومنا أقام أي : منا نفر ظعن ، ومنا نفر أقام.

وقال الشاعر :
وما الدهر إلا تارتان فمنهما . . .
أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
يريد : فمنهما تارة أموت فيها.
وخرّجه الفرّاء على إضمار من الموصولة أي : من الذين هادوا من يحرفون الكلم ، وهذا عند البصريين لا يجوز.
وتأولوا ما جاء مما يشبه هذا على أنه من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، قال الفرّاء : ومثله قول ذي الرّمة :
فظلوا ومنهم دمعه سابق لها . . .
وآخر يثني دمعة العين باليد
وهذا لا يتعين أن يكون المحذوف موصولاً ، بل يترجح أن يكون موصوفاً لعطف النكرة عليه وهو آخر ، إذ يكون التقدير : فظلوا ومنهم عاشق دمعه سابق لها.
وقيل : هو على إضمار مبتدأ التقدير : هم من الذين هادوا ، ويحرفون حال من ضمير هادوا ، ومن الذين هادوا متعلق بما قبله ، فقيل : بنصيراً أي نصيراً من الذين هادوا ، وعداه بمن كما عداه في : { ونصرناه من القوم } و { فمن ينصرنا من بأس الله } أي ومنعناه وفمن يمنعنا.
وقيل : من الذين هادوا بيان لقوله : بأعدائكم ، وما بينهما اعتراض.
وقيل : حال من الفاعل في يريدون قاله أبو البقاء.
قال : ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في أوتوا لأن شيئاً واحداً لا يكون له أكثر من حال واحدة ، إلا أن يعطف بعض الأحوال على بعض ، ولا يكون حالاً من الذين لهذا المعنى انتهى.
وما ذكره من أن ذا الحال إذا لم يكن متعدداً لا يقتضي أكثر من حال واحدة ، مسئلة خلاف فمن النحويين من أجاز ذلك.
وقيل : من الذين هادوا بيان { للذين أوتوا نصيباً من الكتاب } لأنهم يهود ونصارى ، وقوله : { والله أعلم بأعدائكم } { وكفى بالله ولياً } { وكفى بالله نصيراً } جمل توسطت بين البيان والمبين على سبيل الاعتراض قاله الزمخشري ، وبدأ به.
ويضعفه أن هذه جمل ثلاث ، وإذا كان الفارسي قد منع أن يعترض بجملتين ، فأحرى أن يمنع أن يعترض بثلاث.
يحرفون الكلم أي : كلم التوراة ، وهو قول الجمهور.
أو كلم القرآن وهو قول طائفة ، أو كلم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قول ابن عباس.
قال : كان اليهود يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ويسألونه عن الأمر فيخبرهم ، ويرى أنهم يأخذون بقوله ، فإذا انصرفوا من عنده حرفوا الكلام.
وكذا قال مكي : إنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
فتحريف كلم التوراة بتغيير اللفظ ، وهو الأقل لتحريفهم أسمر ربعة في صفته عليه السلام بآدم طوال مكانه ، وتحريفهم الرجم بالحديد له ، وبتغيير التأويل ، وهو الأكثر قاله الطبري.
وكانوا يتأوّلون التوراة بغير التأويل الذي تقتضيه معاني ألفاظها الأمور يختارونها ويتوصلون بها إلى أموال سفلتهم ، وأن التحريف في كلم القرآن أو كلم الرسول فلا يكون إلا في التأويل.
وقرىء : يحرّفون الكلم بكسر الكاف وسكون اللام ، جمع كلمة تخفيف كلمة.

وقرأ النخعي وأبو رجاء : يحرفون الكلام ، وجاء هنا عن مواضعه.
وفي المائدة جاء : { عَن مواضعه } وجاء { من بعد مواضعه }
قال الزمخشري : أما عن مواضعه فعلى ما فسرنا من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه.
وأما من بعد مواضعه : فالمعنى أنه كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها ، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره ، والمعنيان متقاربان انتهى.
والذي يظهر أنهما سياقان ، فحيث وصفوا بشدة التمرد والطغيان ، وإظهار العداوة ، واشترائهم الضلالة ، ونقض الميثاق ، جاء يحرفون الكلم عن مواضعه.
ألا ترى إلى قوله : { ويقولون سمعنا وعصينا } وقوله : { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه } فكأنهم لم يتركوا الكلم من التحريف عن ما يراد بها ، ولم تستقر في مواضعها ، فيكون التحريف بعد استقرارها ، بل بادروا إلى تحريفها بأول وهلة.
وحيث وصفوا ببعض لين وترديد وتحكيم للرسول في بعض الأمر ، جاء من بعد مواضعه.
ألا ترى إلى قوله : { يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا } وقوله بعد : { فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } فكأنهم لم يبادروا بالتحريف ، بل عرض لهم التحريف بعد استقرار الكلم في مواضعها.
وقد يقال : أنهما شيئان ، لكنه حذف هنا.
وفي أول المائدة : من بعد مواضعه ، لأن قوله : عن مواضعه يدل على استقرار مواضع له ، وحذف في ثاني المائدة عن مواضعه.
لأن التحريف من بعد مواضعه يدل على أنه تحريف عن مواضعه ، فالأصل يحرفون الكلم من بعد مواضعه.
فحذف هنا البعدية ، وهناك حذف عنها.
كل ذلك توسع في العبارة ، وكانت البداءة هنا بقوله : عن مواضعه ، لأنه أخضر.
وفيه تنصيص باللفظ على عن ، وعلى المواضع ، وإشارة إلى البعدية.
{ ويقولون سمعنا وعصينا } أي : سمعنا قولك ، وعصينا أمرك ، أو سمعناه جهراً ، وعصيناه سراً قولان.
والظاهر أنهم شافهوا بالجملتين النبي صلى الله عليه وسلم مبالغة منهم في عتوهم في الكفر ، وجرياً على عادتهم مع الأنبياء.
ألا ترى إلى قوله : { خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا }
{ واسمع غير مسمع } هذا الكلام غير موجه ، ويحتمل وجوهاً.
والظاهر أنهم أرادوا به الوجه المكروه لسياق ما قبله من قوله : سمعنا وعصينا ، فيكون معناه : اسمع لا سمعت.
دعوا عليه بالموت أو بالصمم ، وأرادوا ذلك في الباطن ، وأرادوا في الظاهر تعظيمه بذلك.
إذ يحتمل أن يكون المعنى : واسمع غير مأمور وغير صالح أن تسمع مأموراً بذلك.
وقال الزمخشري : أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه ومعناه : غير مسمع جواباً يوافقك ، فكأنك لم تسمع شيئاً انتهى ، وقاله ابن عباس.
قال الزمخشري : أو اسمع غير مسمع كلاماً ترضاه ، فسمعك عنه ناب.
ويجوز على هذا أن يكون غير مسمع مفعول اسمع ، أي : اسمع كلاماً غير مسمع إياك ، لأنّ أذنك لا تعيه نبوّا عنه.

ويحتمل المدح أي : اسمع غير مسمع مكروهاً من قولك : أسمع فلان فلاناً إذا سبه.
قال ابن عطية : ومن قال : غير مسمع غير مقبول منك ، فإنه لا يساعده التصريف ، وقد حكاه الطبري عن الحسن ومجاهد انتهى.
ووجه أن التصريف لا يساعد عليه هو أن العرب لا تقول أسمعتك بمعنى قبلت منك ، وإنما تقول : سمعت منك بمعنى قبلت ، فيعبرون عن القبول بالسماع على جهة المجاز ، لا بالأسماع.
ولو أريد ما قاله الحسن ومجاهد لكان اللفظ : واسمع غير مسموع منك.
{ وراعنا لياً بألسنتهم وطعناً في الدين } تقدم تفسير راعنا في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ليّاً بألسنتهم } أي فتلاً بها.
وتحريفاً عن الحق إلى الباطل حيث يضعون راعنا مكان انظرنا ، وغير مسمع مكان لا أسمعت مكروهاً.
أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقاً.
وانتصاب غير مسمع على الحال من المضمر في اسمع ، وتقدم إعراب الزمخشري إياه مفعولاً في أحد التقادير ، وانتصاب لياً وطعناً على المفعول من أجله.
وقيل : هما مصدران في موضع الحال أي : لاوين وطاعنين.
ومعنى : وطعناً في الدين ، أي باللسان.
وطعنهم فيه إنكار نبوّته ، وتغيير نعته ، أو عيب أحكام شريعته ، أو تجهيله.
وقولهم : لو كان نبياً لدرى أنا نسبه ، أو استخفافهم واعتراضهم وتشكيكهم اتباعه أقوال أربعة.
قال ابن عطية : وهذا الليّ باللسان إلى خلاف ما في القلب موجود حتى الآن في بني إسرائيل ، ويحفظ منه في عصرنا أمثلة ، إلا أنه لا يليق ذكرها بهذا الكتاب انتهى.
وهو يحكي عن يهود الأندلس ، وقد شاهدناهم وشاهدنا يهود ديار مصر على هذه الطريقة ، وكأنهم يربون أولادهم الصغار على ذلك ، ويحفظونهم ما يخاطبون به المسلمين مما ظاهره التوقير ويريدون به التحقير.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين ، بعدما صرحوا وقالوا سمعنا وعصينا؟ ( قلت ) : جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ، ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء ، ويحتمل أن يقولوه فيما بينهم ، ويجوز أن لا ينطقوا بذلك ، ولكنهم لما لم يؤمنوا به جعلوا كأنهم نطقوا به.
{ ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيراً لهم وأقوم } أي : لو تبدّلوا بالعصيان الطاعة ، ومن الطاعة الإيمان بك ، واقتصروا على لفظ اسمع ، وتبدلوا براعنا قولهم : وانظرنا ، فعدلوا عن الألفاظ الدالة على عدم الانقياد ، والموهمة إلى ما أمروا به ، لكان أي : ذلك القول ، خيراً لهم عند الله وأعدل أي : أقوم وأصوب.
قال عكرمة ومجاهد وغيرهما : أنظرنا أي انتظرنا بمعنى أفهمنا وتمهل علينا حتى نفهم عنك ونعي قولك ، كما قال الحطيئة :
وقد نظرتكم أثناء صادرة . . .
للخمس طال بها مسحى وابساسي
وقالت فرقة : معناه انظر إلينا ، وكأنه استدعاء اهتبال وتحف منهم.
ومنه قول ابن قيس الرقيات :

ظاهرات الجمال والحسن ينظرن كما تنظر الأراك الظباء . . .
وقرأ أبي : وأنظرنا من الإنظار وهو الإمهال.
قال الزمخشري : المعنى ولو ثبت قولهم سمعنا وأطعنا لكان قولهم ذلك خيراً لهم وأقوم وأعدل وأسد انتهى.
فسبك من أنهم قالوا مصدراً مرتفعاً بثبت على الفاعلية ، وهذا مذهب المبرد خلافاً لسيبويه.
إذ يرى سيبويه أنّ أن بعد لو مع ما عملت فيه مقدر باسم مبتدأ ، وهل الخبر محذوف ، أم لا يحتاج إلى تقدير خبر لجريان المسند والمسند إليه في صلة أن؟ قولان أصحهما هذا.
فالزمخشري وافق مذهب المبرد ، وهو مذهب مرجوح في علم النحو.
{ ولكنْ لعنهم الله بكفرهم } أي : أبعدهم الله عن الهدى بسبب كفرهم السابق.
وقال الزمخشري : أي خذلهم بسبب كفرهم وأبعدهم عن ألطافه انتهى.
وهذا على طريقة الاعتزالي.
{ فلا يؤمنون إلا قليلاً } استثناء من ضمير المفعول في لعنهم أي : إلا قليلاً لم يلعنهم فآمنوا ، أو استثناء من الفاعل في : فلا يؤمنون ، أي : إلا قليلاً فآمنوا كعبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، وغيرهما.
أو هو راجع إلى المصدر المفهوم من قوله : فلا يؤمنون أي : إلا إيماناً قليلاً قلله إذ آمنوا بالتوحيد ، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبشرائعه.
وقال الزمخشري : إلا إيماناً قليلاً أي : ضعيفاً ركيكاً لا يعبأ به ، وهو إيمانهم بمن خلقهم مع كفرهم بغيره.
وأراد بالقلة العدم كقوله : قليل التشكي للهموم تصيبه.
أي عديم التشكي.
وقال ابن عطية : من عبر بالقلة عن الإيمان قال : هي عبارة عن عدمه ما حكى سيبويه من قولهم : أرض قلما تنبت كذا ، وهي لا تنبته جملة.
وهذا الذي ذكره الزمخشري وابن عطية من أن التقليل يراد به العدم هو صحيح في نفسه ، لكن ليس هذا التركيب الاستثنائي من تراكيبه.
فإذا قلت : لا أقوم إلا قليلاً ، لم يوضع هذا لانتقاء القيام ألبتة ، بل هذا يدل على انتفاء القيام منك إلا قليلاً فيوجد منك.
وإذا قلت : قلما يقوم أحد إلا زيد ، وأقل رجل يقول ذلك احتمل هذا ، أن يراد به التقليل المقابل للتكثير ، واحتمل أن يراد به النفي المحض.
وكأنك قلت : ما يقوم أحد إلا زيد ، وما رجل يقول ذلك.
إمّا أن تنفي ثم توجب ويصير الإيجاب بعد النفي يدل على النفي ، فلا إذ تكون إلا وما بعدها على هذا التقدير ، جيء بها لغواً لا فائدة فيه ، إذ الانتفاء قد فهم من قولك : لا أقوم.
فأيُّ فائدة في استثناء مثبت يراد به الانتفاء المفهوم من الجملة السابقة ، وأيضاً ، فإنه يؤدي إلى أن يكون ما بعد إلا موافقاً لما قبلها في المعنى.
وباب الاستثناء لا يكون فيه ما بعد إلا موافقاً لما قبلها ، وظاهر قوله : فلا يؤمنون إلا قليلاً ، إذا جعلناه عائداً إلى الإيمان ، إنّ الإيمان يتجزأ بالقلة والكثرة ، فيزيد وينقص ، والجواب : إن زيادته ونقصه هو بحسب قلة المتعلقات وكثرتها.

وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبلاغة والبديع.
قالوا : التجوز بإطلاق الشيء على ما يقاربه في المعنى في قوله : إن الله لا يظلم ، أطلق الظلم على انتقاص الأجر من حيث أن نقصه عن الموعود به قريب في المعنى من الظلم.
والتنبيه بما هو أدنى على ما هو أعلى في قوله : مثقال ذرة.
والإبهام في قوله : يضاعفها ، إذ لم يبين فيه المضاعفة في الأجر.
والسؤال عن المعلوم لتوبيخ السامع ، أو تقريره لنفسه في : فكيف إذا جئنا.
والعدول من بناء إلى بناء لمعنى في : بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً.
والتجنيس المماثل في : وجئنا وفي : وجئنا وفي : بشهيد وشهيداً.
والتجنيس المغاير : في واسمع غير مسمع.
والتجوز بإطلاق المحل على الحال فيه في : من الغائط.
والكناية في : أو لامستم النساء.
والتقديم والتأخير في : إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا إلى قوله : فتيمموا.
والاستفهام المراد به التعجب في : ألم تر.
والاستعارة في : يشترون الضلالة.
والطباق في : هذا أي بالهدى ، والطباق الظاهر في : وعصينا وأطعنا.
والتكرار في : وكفى بالله ولياً ، وكفى بالله ، وفي سمعنا وسمعنا.
والحذف في عدة مواضع.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)

طمس : متعد ولازم.
تقول : طمس المطر الأعلام أي محا آثارها ، وطمست الأعلام درست ، وطمس الطريق درس وعفت أعلامه قاله : أبو زيد.
ومن المتعدّي : { وإذا النجوم طمست } أي استؤصلت.
وقال ابن عرفة في قوله : اطمس على أموالهم أي أذهبها كلية ، وأعمى مطموس أي : مسدود العينين.
وقال كعب :
من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت . . .
عرضتها طامس الأعلام مجهول
والطمس والطسم والطلس والدرس كلها متقاربة في المعنى.
الفتيل : فعيل بمعنى مفعول.
فقيل : هو الخيط الذي في شق نواة التمرة.
وقيل : ما خرج من الوسخ من بين كفيك وأصبعيك إذا فتلتهما.
الجبت : اسم لصنم ثم صار مستعملاً لكل باطل ، ولذلك اختلفت فيه أقاويل المفسرين على ما سيأتي.
وقال قطرب : الجبت الجبس ، وهو الذي لا خير عنده ، قلبت السين تاء.
قيل : وإنما قال هذا لأن الجبت مهمل.
النقير : النقطة التي على ظهر النواة منها تنبت النخلة قاله : ابن عباس.
وقال الضحاك : هو البياض الذي في وسطها.
النضج : أخذ الشيء في التهري وتفرق أجزائه ، ومنه نضج اللحم ، ونضج الثمرة.
يقال : نضج الشيء ينضج نضجاً ونضاجاً.
الجلد معروف.
{ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبار اليهود منهم عبد الله بن صوريا إلى الإسلام وقال لهم : « إنكم لتعلمون أن الذي جئت به حق » فقالوا : ما نعرف ذلك ، فنزلت.
قاله ابن عباس.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما رجاهم بقوله : { ولو أنهم قالوا } الآية.
خاطب من يرجى إيمانه منهم بالأمر بالإيمان ، وقرن بالوعيد البالغ على تركه ليكون أدعى لهم إلى الإيمان والتصديق به ، ثم أزال خوفهم من سوء الكبائر السابقة بقوله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية.
وأعلمهم أن تزكيتهم أنفسهم بما لم يزكهم به الله لا ينفع.
والذين أوتوا الكتاب هنا اليهود ، والكتاب التوراة قاله : الجمهور ، أو اليهود والنصارى قاله : الماوردي وابن عطية.
والكتاب التوراة والإنجيل ، وبما نزلنا هو القرآن بلا خلاف ، ولما معكم من شرع وملة لا لما معهم من مبدل ومغير من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدباها.
قرأ الجمهور : نطمس بكسر الميم.
وقرأ أبو رجاء : بضمها.
وهما لغتان ، والظاهر أن يراد بالوجوه مدلولها الحقيقي ، وأما طمسها فقال ابن عباس وعطية العوفي : هو أن تزال العينان خاصة منها وترد في القفا ، فيكون ذلك رداً على الدبر ويمشي القهقرى.
وعلى هذا يكون ذلك على حذف مضاف أي : من قبل أن نطمس عيون وجوه ، ولا يراد بذلك مطلق وجوه ، بل المعنى وجوهكم.
وقالت طائفة : طمس الوجوه أن يعفى آثار الحواس منها فترجع كسائر الأعضاء في الخلو من آثار الحواس منها ، والرد على الإدبار هو بالمعنى أي : خلوه من الحواس.

دثر الوجه لكونه عابراً بها ، وحسن هذا القول الزمخشري وجوزه وأوضحه ، فقال : إن نطمس وجوهاً أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم ، فنردها على أدبارها ، فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الإقفاء مطموسة مثلها.
والفاء للتسبيب ، وإن جعلتها للتعقيب على أنهم توعدوا بالعقابين أحدهما عقيب الآخر ردها على أدبارها بعد طمسها ، فالمعنى : أن نطمس وجوهاً فننكسها الوجوه إلى خلف ، والإقفاء إلى قدام انتهى.
والطمس بمعنى المحو الذي ذكره مروي عن ابن عباس ، واختاره القتبي.
وقال قتادة والضحاك : معناه نعمي أعينها.
وذكر الوجوه وأراد العيون ، لأن الطمس من نعوت العين.
قال تعالى : { فطمسنا أعينهم } ويروى هذا أيضاً عن ابن عباس.
وقال الفراء : طمس الوجوه جعلها منابت للشعر كوجوه القردة.
وقيل : ردها إلى صورة بشيعة كوجوه الخنازير والقردة.
وقال مجاهد والسدّي والحسن.
ذلك تجوز ، والمراد وجوه الهدى والرشد ، وطمسها حتم الإضلال والصد عنها ، والرد على الإدبار التصيير إلى الكفر.
وقال ابن زيد : الوجوه هي أوطانهم وسكناهم في بلادهم التي خرجوا إليها ، وطمسها إخراجهم منها.
والرد على الإدبار رجوعهم إلى الشام من حيث أتوا أولاً.
وحسّن الزمخشري هذا القول ، فقال : ووجه آخر وهو أن يراد بالطمس القلب والتغيير ، كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة ، وبالوجوه رؤوسهم ووجهاؤهم أي : من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ، وتكسوها صغارهم وأدبارهم ، أو نردهم إلى حيث جاؤا منه.
وهي أذرعات الشام ، يريد إجلاء بني النضير انتهى.
{ أو نلعنهم } هو معطوف على قوله : أن نطمس.
وظاهر اللعنة هو المتعارف كما في قوله : { من لعنه الله وغضب عليه } وقال الحسن : معناه نمسخهم كما مسخنا أصحاب السبت.
وقال ابن عطية : هم أصحاب ايلة الذين اعتدوا في السبت بالصيد ، وكانت لعنتهم إن مسخوا خنازير وقردة.
وقيل : معناه نهيمهم في التيه حتى يموت أكثرهم.
وظاهر قوله : من قبل أن نطمس أو نلعن ، أنَّ ذلك يكون في الدنيا.
ولذلك روي أنَّ عبد الله بن سلام لما سمع هذه الآية جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله ويده على وجهه فأسلم وقال : يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يحول وجهي في قفاي.
وقال مالك : كان إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية ، فوضع كفه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه ، وقال : والله لقد خفت أن لا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي.
وقيل : الطمس المسخ لليهود قبل يوم القيامة ولا بد.
وقيل : المراد أنه يحل بهم في القيامة ، فيكون ذلك أنكى لهم لفضيحتهم بين الأوّلين والآخرين ، ويكون ذلك أول ما عجل لهم من العذاب.
وهذا إذا حمل طمس الوجوه على الحقيقة ، وإمّا إن أريد بذلك تغيير أحوال وجهائهم أو وجوه الهدى والرشد ، فقد وقع ذلك.

وإن كان الطمس غير ذلك فقد حصل اللعن ، فإ نهم ملعونون بكل لسان.
وتعليق الإيمان بقبلية أحد أمرين لا يلزم منه وقوعهما ، بل متى وقع أحدهما صح التعليق ، ولا يلزم من ذلك تعيين أحدهما.
وقيل : الوعيد مشروط بالإيمان ، وقد آمن منهم ناس.
ومن قبل : متعلق بآمنوا ، وعلى أدبارها متعلق بفنردها.
وقال أبو البقاء : على أدبارها حال من ضمير الوجوه ، والضمير المنصوب في نلعنهم.
قيل : عائد على الوجوه إن أريد به الوجهاء ، أو عائد على أصحاب الوجوه ، لأن المعنى : من قبل أن نطمس وجوه قوم ، أو على الذين أوتوا الكتاب على طريق الالتفات ، وهذا عندي أحسن.
ومحسن هذا الالتفات هو أنه تعالى لما ناداهم كان ذلك تشريفاً لهم ، وهز السماع ما يلقيه إليهم ، ثم ألقى إليهم الأمر بالإيمان بما نزل ، ثم ذكر أنّ الذي نزل هو مصدق لما معهم من كتاب ، فكان ذلك أدعى إلى الإيمان ، ثم ذكر هذا الوعيد البالغ فحذف المضاف إليه من قوله : من قبل أن نطمس وجوهاً والمعنى : وجوهكم ، ثم عطف عليه قوله : أو نلعنهم ، فأتى بضمير الغيبة ، لأن الخطاب حين كان الوعيد بطمس الوجوه وباللعنة ليس لهم ليبقى التأنيس والهم والاستدعاء إلى الإيمان غير مشوب بمفاجأة الخطاب الذي يوحش السامع ويروع القلب ويصير أدعى إلى عدم القبول ، وهذا من جليل المخاطبة.
وبديع المحاورة.
{ وكان أمر الله مفعولاً } الأمر هنا واحد الأمور ، واكتفى به لأنه دال على الجنس ، وهو عبارة عن المخلوقات : كالعذاب ، واللعنة ، والمغفرة.
وقيل : المراد به المأمور ، مصدر وقع موقع المفعول ، والمعنى : الذي أراده أوجده.
وقيل : معناه أنَّ كل أمر أخر تكوينه فهو كائن لا محالة والمعنى : أنه تعالى لا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله.
وقال : وكان إخباراً عن جريان عادة الله في تهديده الأمم السالفة ، وأنَّ ذلك واقع لا محالة ، فاحترزوا وكونوا على حذر من هذا الوعيد.
ولذلك قال الزمخشري : ولا بد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا يعني : الطمس واللعنة.
{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } قال ابن الكلبي : نزلت في وحشي وأصحابه ، وكان جعل له على قتل حمزة رضي الله عنه أن يعتق ، فلم يوف له ، فقدم مكة وندم على الذي صنعه هو وأصحابه ، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا قد ندمنا على ما صنعنا ، وليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول بمكة : { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } الآيات وقد دعونا مع الله إلهاً آخر ، وقتلنا النفس التي حرم الله ، وزنينا ، فلولا هذه الآيات لاتبعناك ، فنزلت : { إلا من تاب وآمن وعمل }

الآيات ، فبعث بها إليهم فكتبوا : إنَّ هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملاً صالحاً ، فنزلت إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية ، فبعث بها إليهم ، فبعثوا إنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته ، فنزلت : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } الآيات فبعث بها إليهم ، فدخلوا في الإسلام ، فقبل منهم ثم قال لوحشي :
« أخبرني كيف قتلت حمزة؟ » فلما أخبره قال : « ويحك غيِّب عني وجهك » فلحق وحشي بالشام إلى أن مات.
وأجمع المسلمون على تخليد من مات كافراً في النار ، وعلى تخليد من مات مؤمناً لم يذنب قط في الجنة.
فأما تائب مات على توبته فالجمهور : على أنه لاحق بالمؤمن الذي لم يذنب ، وطريقة بعض المتكلمين أنه في المشيئة.
وأما مذنب مات قبل توبته فالخوارج تقول : هو مخلد في النار سواء كان صاحب كبيرة أم صاحب صغيرة.
والمرجئة تقول : هو في الجنة بإيمانه ولا تضره سيئاته.
والمعتزلة تقول : إن كان صاحب كبيرة خلد في النار.
وأما أهل السنة فيقولون : هو في المشيئة ، فإن شاء غفر له وأدخله الجنة من أول وهلة ، وإن شاء عذبه وأخرجه من النار وأدخله الجنة بعد مخلداً فيها.
وسبب هذا الاختلاف تعارض عمومات آيات الوعيد وآيات الوعد ، فالخوارج جعلوا آيات الوعيد عامة في العصاة كافرين ومؤمنين غير تائبين.
وآيات الوعد مخصوصة في المؤمن الذي لم يذنب قط ، أو المذنب التائب.
والمرجئة جعلوا آيات الوعيد مخصوصة في الكفار ، وآيات الوعد مخصوصة في المؤمن تقيهم وعاصيهم.
وأهل السنة خصصوا آيات الوعيد بالكفرة ، وبمن سبق في علمه أنه يعذبه من المؤمنين العصاة ، وخصصوا آيات الوعد بالمؤمن الذي لم يذنب ، وبالتائب ، وبمن سبق في علمه العفو عنه من المؤمنين العصاة.
والمعتزلة خصصوا آيات الوعد بالمؤمن الذي لم يذنب ، وبالتائب.
وآيات الوعيد بالكافر وذي الكبيرة الذي لم يتب.
وهذه الآية هي الحاكمة بالنص في موضع النزاع ، وهي جلت الشك ، وردّت على هذه الطوائف الثلاث.
فقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } ، والمعنى : أنَّ من مات مشركاً لا يغفر له ، هو أصل مجمع عليه من الطوائف الأربع.
وقوله : ويغفر ما دون ذلك ، راد على الخوارج وعلى المعتزلة ، لأن ما دون ذلك عام تدخل فيه الكبائر والصغائر.
وقوله : لمن يشاء رادّ على المرجئة ، إذ مدلوله أنَّ غفران ما دون الشرك إنما هو لقوم دون قوم على ما شاء تعالى ، بخلاف ما زعموه بأن كل مؤمن مغفور له.
وأدلة هؤلاء الطوائف مذكورة في علم أصول الدين.
وقد رامت المعتزلة والمرجئة ردّ هذه الآية إلى مقالاتهما بتأويلات لا تصح ، وهي منافية لما دلت عليه الآية.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : قد ثبت أن الله عزّ وعلا يغفر الشرك لمن تاب منه ، وأنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة ، فما وجه قوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء؟ ( قلت ) : الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً موجهين إلى قوله : لمن يشاء كأنه قيل : إنّ الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك.

على أن المراد بالأول مَن لم يتب ، وبالثاني مَن تاب.
ونظيره قولك : إنّ الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يستأهله انتهى كلامه.
فتأول الآية على مذهبه.
وقوله : قد ثبت أن الله عز وعلا يغفر الشرك لمن تاب عنه ، هذا مجمع عليه.
وقوله : وإنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة.
فنقول له : وأين ثبت هذا؟ وإنما يستدلون بعمومات تحتمل التخصيص ، كاستدلالهم بقوله : { ومن يقتل مؤمناً متعمداً } الآية ، وقد خصصها ابن عباس بالمستحل ذلك وهو كافر.
وقوله : قال : فجزاؤه إن جازاه الله.
وقال : الخلود يراد به المكث الطويل لا الديمومة لا إلى نهاية ، وكلام العرب شاهد بذلك.
وقوله : إن الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً موجهين إلى قوله : لمن يشاء ، إن عنى أنّ الجار يتعلق بالفعلين ، فلا يصح ذلك.
وإن عنى أن يقيد الأول بالمشيئة كما قيد الثاني فهو تأويل.
والذي يفهم من كلامه أنّ الضمير الفاعل في قوله : يشاء عائد على مِنْ ، لا على الله.
لأن المعنى عنده : أنّ الله لا يغفر الشرك لمن يشاء أن لا يغفر له بكونه مات على الشرك غير تائب منه ، ويغفر ما دون الشرك من الكبائر لمن يشاء أن يغفر له بكونه تاب منها.
والذي يدل عليه ظاهر الكلام أنه لا قيد في الفعل الأول بالمشيئة ، وإن كانت جميع الكائنات متوقفاً وجودها على مشيئته على مذهبنا.
وأنّ الفاعل في يشاء هو عائد على الله تعالى ، لا على من ، والمعنى : ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء أن يغفر له.
وفي قوله تعالى : لمن يشاء ، ترجئة عظيمة بكون من مات على ذنب غير الشرك لانقطع عليه بالعذاب ، وإن مات مصرّاً.
قال عبد الله بن عمر : كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات الرجل على كبيرة شهدنا له أنه من أهل النار ، حتى نزلت هذه الآية ، فأمسكنا عن الشهادات.
وفي حديث عبادة بن الصامت في آخره « ومن أصاب شيئاً من ذلك أي من المعاصي التي تقدّم ذكرها فستره عليه ، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه » أخرجه مسلم.
ويروى عن علي وغيره من الصحابة : ما في القرآن آية أحب إلينا من هذه الآية.
وفي هذه الآية دليل على أن اليهودي يسمى مشركاً في عرف الشرع ، وإلا كان مغايراً للمشرك ، فوجب أن يكون مغفوراً له.

ولأن اتصال هذه الآية بما قبلها إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود ، فاليهود داخلة تحت اسم الشرك.
فأما قوله : { إن الذين آمنوا والذين هادوا } ثم قال : { والذين أشركوا } وقوله : { ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين } { ولم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } فالمغايرة وقعت بحسب المفهوم اللغوي ، والاتحاد بحسب المفهوم الشرعي.
وقد قال الزجاج : كل كافر مشرك ، لأنه إذا كفر مثلاً بنبي زعم أنّ هذه الآيات التي أتى بها ليست من عند الله ، فيجعل ما لا يكون إلا لله لغير الله ، فيصير مشركاً بهذا المعنى.
فعلى هذا يكون التقدير : إنّ الله لا يغفر كفر من كفر به ، أو بنبي من أنبيائه.
والمراد : إذ ألقى الله بذلك ، لأن الإيمان يزيل عنه إطلاق الوصف بما تقدمه من الكفر بإجماع ، ولقوله عليه السلام : « الإسلام يجبّ ما قبله »
{ ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً } أي اختلق وافتعل ما لا يمكن.
« وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ قال : » أن تجعل الله نداً وقد خلقك «
{ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } قال الجمهور : هم اليهود.
وقال الحسن وابن زيد : هم النصارى.
قال ابن مسعود : يزكي بعضهم بعضاً لتقبل عليهم الملوك وسفلتهم ، ويواصلوهم بالرشا.
وقال عطية عن ابن عباس : قالوا آباؤنا الذين ماتوا يزكوننا عند الله ويشفعون لنا.
وقال الضحاك والسدي في آخرين : أتى مرحب بن زيد وبحري بن عمرو وجماعة من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعهم أطفالهم فقالوا : هل على هؤلاء من ذنب؟ فقال : لا.
فقالوا : نحن كهم ما أذنبنا بالليل يكفر عنا بالنهار ، وما أذنبنا بالنهار يكفر عنا بالليل فنزلت.
وقيل : هو قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه.
وعلى القول بأنهم اليهود والنصارى فتزكيتهم أنفسهم.
قال عكرمة ، ومجاهد ، وأبو مالك : كانوا يقدمون الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم فيصلون بهم ويقولون : ليست لهم ذنوب ، فإذا صلى بنا المغفور له غفر لنا.
وقال قتادة والحسن : هو قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } { كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا } وفي الآية دلالة على الغض ممن يزكي نفسه بلسانه ويصفها بزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله.
وقوله صلى الله عليه وسلم : » والله إني لأمين في السماء ، أمين في الأرض « حين قال له المنافقون : إعدل في القسمة ، أكذاب لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه ، وشتان من شهد الله له بالتزكية ، ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم.
قاله الزمخشري وفيه بعض تلخيص.
قال الراغب ما ملخصه : التزكية ضربان : بالفعل ، وهو أن يتحرى فعل ما يظهره وبالقول ، وهو الإخبار عنه بذلك ومدحه به.

وحظر أن يزكي الإنسان نفسه ، بل أن يزكي غيره ، إلا على وجه مخصوص.
فالتزكية إخبار بما ينطوي عليه الإنسان ، ولا يعلم ذلك إلا الله تعالى.
{ بل الله يزكي من يشاء } : بل إضراب عن تزكيتهم أنفسهم ، إذ ليسوا أهلاً لذلك.
واعلم أنّ المزكي هو الله تعالى ، وأنه تعالى هو المعتد بتزكيته ، إذ هو العالم ببواطن الأشياء والمطلع على خفياتها.
ومعنى يزكي من يشاء أي : من يشاء تزكيته بأن جعله طاهراً مطهراً ، فذلك هو الذي يصفه الله تعالى بأنه مزكي.
{ ولا يظلمون فتيلاً } إشارة إلى أقلّ شيء كقوله : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } فإذا كان تعالى لا يظلم مقدار فتيل ، فكيف يظلم ما هو أكبر منه؟ وجوزوا أن يعود الضمير في : ولا يظلمون ، إلى الذين يزكون أنفسهم ، وأن يعود إلى من على المعنى ، إذ لو عاد على اللفظ لكان : ولا يظلم وهو أظهر ، لأنه أقرب مذكور ، ولقطع بل ما بعدها عن ما قبلها.
وقيل : يعود على المذكورين من زكى نفسه ، ومن يزكيه الله.
ولم يذكر ابن عطية غير هذا القول.
وقال الزمخشري : ولا يظلمون أي ، الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق جزائهم ، أو من يشاء يثابون ولا ينقصون من ثوابهم ونحوه ، فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى انتهى.
وقرأ الجمهور : ألم تر بفتح الراء.
وقرأ السلمي : بسكونها إجراء للوصل مجرى الوقف.
وقيل : هي لغة قوم لا يكتفون بالجزم بحذف لام الفعل ، بل يسكنون بعده عين الفعل.
وقرأ الجمهور : ولا يظلمون بالياء.
وقرأت طائفة : ولا تظلمون بتاء الخطاب ، وانتصاب فتيلاً.
قال ابن عطية : على أنه مفعول ثان ، ويعني على تضمين تظلمون معنى ما يتعدى لاثنين ، والمعنى : مقدار فتيل ، وهو كناية عن أحقر شيء ، وإلى أنه الخيط الذي في شق النواة ذهب ابن عباس وعطاء ومجاهد ، وإلى أنه ما يخرج من بين الأصابع أو الكفين بالفتل ذهب ابن عباس أيضاً.
وأبو مالك والسدي ، وإلى أنه نفس الشق ذهب الحسن.
{ انظر كيف يفترون على الله الكذب } هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
ولمّا خاطبه أولاً بقوله : { ألم تر } أي ألا تعجب لهؤلاء الذين يزكون أنفسهم؟ خاطبه ثانياً بالنظر في كيفية افترائهم الكذب على الله ، وأتى بصيغة يفترون الدالة على الملابسة والديمومة ، ولم يخص الكذب في تزكيتهم أنفسهم ، بل عمم في ذلك وفي غيره.
وأي ذنب أعظم ممن يفتري على الله الكذب { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً } فمن أظلم ممن كذب على الله.
وكيف : سؤال عن حال ، وانتصابه على الحال ، والعامل فيه يفترون ، والجملة في موضع نصب بانظر ، لأن انظر معلقة.
وقال ابن عطية : وكيف يصح أن يكون في موضع نصب بيفترون؟ ويصح أن يكون في موضع رفع بالابتداء ، والخبر في قوله : يفترون انتهى.

أما قوله : يصح أن يكون في موضع نصب بيفترون فصحيح على ما قررناه ، وأما قوله ويصح أن يكون في موضع رفع بالابتداء ، والخبر في قوله يفترون ، فهذا لم يذهب إليه أحد ، لأنّ كيف ليست من الأسماء التي يجوز الابتداء بها ، وإنما قوله : كيف يفترون على الله الكذب في التركيب نظير كيف يضرب زيد عمراً ، ولو كانت مما يجوز الابتداء بها ما جاز أن يكون مبتدأ في هذا التركيب ، لأنه ذكر أنّ الخبر هي الجملة من قوله : يفترون ، وليس فيها رابط يربط هذه الجملة بالمبتدأ ، وليست الجملة نفس المبتدأ في المعنى ، فلا يحتاج إلى رابط.
فهذا الذي قال فيه : ويصح ، هو فاسد على كل تقدير.
{ وكفى به إثماً مبيناً } تقدّم الكلام في نظير وكفى به.
والضمير في به ، عائد على الافتراء ، وهو الذي أنكر عليهم.
وقيل : على الكذب.
وقال الزمخشري : وكفى بزعمهم لأنه قال : { كيف يفترون على الله الكذب } في زعمهم أنهم عند الله أزكياء ، وكفى بزعمهم هذا اثماً مبيناً من بين سائر آثامهم انتهى.
فجعل افتراءهم الكذب مخصوصاً بالتزكية ، وذكرنا نحن أنَّه في هذا وفي غيره ، وانتصاب إثماً على التمييز ، ومعنى مبيناً أي : بيناً واضحاً لكل أحد.
وقال ابن عطية : وكفى به خبر في ضمنه تعجب وتعجيب من الأمر ، ولذلك دخلت الباء لتدل على معنى الأمر بالتعجب أن يكتفي لهم بهذا الكذب إثماً ، ولا يطلب لهم غيره ، إذ هو موبق ومهلك انتهى.
وفي ما ذكر من أن الباء دخلت لتدل على معنى الأمر بالتعجب نظر ، وقد أمعنا الكلام في قوله.
{ وكفى بالله ولياً } فيطالع هناك.
{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } أجمعوا أنَّها في اليهود.
وسبب نزولها أنَّ كعب بن الأشرف وحيى بن أخطب وجماعة معهما وردوا مكة يحالفون قريشاً على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أنتم أهل كتاب ، وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلاناً من مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ، ففعلوا.
وقال أبو سفيان : أنحن أهدى سبيلاً أم محمد؟ فقال كعب : ماذا يقول محمد؟ قالوا : يأمر بعبادة الله وحده ، وينهى عن الشرك.
قال : وما دينكم؟ قالوا : نحن ولاة البيت نسقي الحاج ، ونقري الضيف ، ونفك العانى ، وذكروا أفعالهم.
فقال : أنتم أهدى سبيلاً.
وفي بعض ألفاظ هذا السبب خلاف قاله ابن عباس.
وقال عكرمة ، خرج كعب في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ، والكتاب هنا التوراة على قول الجمهور ، ويحتمل أن يكون التوراة والإنجيل.
والجبت والطاغوت صنمان كانا لقريش قاله : عكرمة وغيره.
أو الجبت هنا حيي ، والطاغوت كعب ، قاله : ابن عباس أيضاً.
أو الجبت السحر ، والطاغوت الشيطان ، قاله : مجاهد ، والشعبي وروى عن عمر والجبت الساحر ، والطاغوت الشيطان قاله : زيد بن أسلم.

أو الجبت الساحر ، والطاغوت الكاهن ، قاله : رفيع وابن جبير.
أو الجبت الكاهن ، والطاغوت الشيطان ، قاله : ابن جبير أيضاً.
أو الجبت الكاهن ، والطاغوت الساحر ، قاله : ابن سيرين.
أو الجبت الشيطان ، والطاغوت الكاهن قاله : قتادة.
أو الجبت كعب ، والطاغوت الشيطان كان في صورة انسان ، أو الجبت الأصنام وكل ما عبد من دون الله ، والطاغوت الشيطان قاله : الزمخشري.
أو الجبت والطاغوت كل معبود من دون الله من حجر ، أو صورة ، أو شيطان قاله : الزجاج ، وابن قتيبة.
وأورد بعض المفسرين الخلاف مفرقاً فقال : الجبت السحر قاله : عمر ، ومجاهد ، والشعبي.
أو الأصنام رواه عطية عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك ، والفراء ، أو كعب بن الأشرف.
رواه الضحاك ، عن ابن عباس.
وليث ، عن مجاهد.
أو الكاهن روى عن ابن عباس ، وبه قال : مكحول ، وابن سيرين.
أو الشيطان قاله : ابن جبير في رواية ، وقتادة والسدي أو الساحر قاله : أبو العالية وابن زيد.
وروى أبو بشر عن ابن جبير قال : الجبت الساحر بلسان الحبشة ، وأما الطاغوت فالشيطان قاله : عمر ، ومجاهد في رواية الشعبي وابن زيد.
أو المترجمون بين يدى الأصنام رواه العوفي عن ابن عباس ، أو كعب ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال : الضحاك ، والفرّاء.
أو الكاهن قاله عكرمة أو الساحر ، روي عن ابن عباس ، وابن سيرين ، ومكحول ، أو كل ما عبد من دون الله قاله : مالك.
وقال قوم : الجبت والطاغوت مترادفان على معنى واحد ، والجمهور وأقوال المفسرين على خلاف ذلك ، وأنهما اثنان.
وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام على المغيبات جبتاً لكون علم الغيب يختص بالله تعالى.
خرج أبو داود في سننه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الطرق والطيرة والعيافة من الجبت » الطرق الزجر ، والعيافة الخط.
فان الجبت والطاغوت الأصنام أو ما عبد من دون الله ، فالإيمان بهما التصديق بأنهما آلهة يشركونهما في العبادة مع الله ، وان كان حيياً ، وكعباً ، أو جماعة من اليهود ، أو الساحر ، أو الكاهن ، أو الشيطان ، فالإيمان بهم عبارة عن طاعتهم وموافقتهم على ما هم عليه ، ويكون من باب اطلاق ثمرة الإيمان وهي الطاعة على الإيمان.
{ ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } الضمير في يقولون عائد على الذين أوتوا.
وفي سبب النزول ان كعباً هو قائل هذه المقالة ، والجملة من يؤمنون حال ، ويقولون معطوف على يؤمنون فهي حال.
ويحتمل أنْ يكون استئناف أخبار تبين التعجب منهم كأنه قال : ألا تعجب إلى حال الذين أوتوا نصيباً ، فكأنه قيل : وما حالهم وهم قد أوتوا نصيباً من كتاب الله؟ فقال : يؤمنون بكذا ، يقولون كذا.
أي : أن أحوالهم متنافية.
فكونهم أوتوا نصيباً من الكتاب يقتضي لهم أن لا يقعوا فيما وقعوا فيه ، ولكن الحامل لهم على ذلك هو الحسد.

واللام في للذين كفروا للتبليغ متعلقة بيقولون.
والذين كفروا هم قريش ، والإشارة بهؤلاء إليهم ، والذين آمنوا هم النبي وأمته.
والظاهر أنهم أطلقوا أفعل التفضيل ولم يلحظوا معنى التشريك فيه ، أو قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء لكفرهم.
{ أولئك الذين لعنهم الله } اشارة إلى مَنْ آمن بالجبت والطاغوت وقال تلك المقالة ، أبعدهم الله تعالى ومقتهم.
{ ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً } أي من ينصره ويمنعه من آثار اللعنة وهو العذاب العظيم.
{ أم لهم نصيب من الملك } أم هنا منقطعة التقدير : بل ألهم نصيب من الملك انتقل من الكلام إلى كلام تام ، واستفهم على الانكار أن يكون لهم نصيب من الملك.
وحكى ابن قتيبة أنَّ أم يستفهم بها ابتداء.
وقال بعض المفسرين.
أم هنا بمعنى بل ، وفسروا على سبيل الاخبار أنهم ملوك أهل الدنيا وعتو وتنعم لا يبغون غير ذلك ، فهم بخلاء حريصون على أن لا يكون ظهور لغيرهم.
والمعنى على القول الأوّل : ألهم نصيب من الملك؟ فلو كان لهم نصيب من الملك لبخلوا به.
والملك ملك أهل الدنيا ، وهو الظاهر.
أو ملك الله لقوله : { قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الانفاق } وقيل : المال ، لأنه به ينال الملك وهو أساسه.
وقيل : استحقاق الطاعة.
وقيل : النبوة.
وقيل : صدق الفراسة ذكره الماوردي.
والأفصح إلغاء اذن بعد حرف العطف الواو والفاء ، وعليه أكثر القرّاء.
وقرأ عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس : لا يؤنوا بحذف النون على إعمال اذن.
والناس هنا العرب ، أو المؤمنون ، أو النبي ، أو من اليهود وغيرهم أقوال.
والنقير : النقطة في ظهر النواة رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعطاء ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد ، والسدى ، ومقاتل ، والفراء ، وابن قتيبة في آخرين.
وقيل : القشر يكون في وسط النواة ، رواه التميمي عن ابن عباس.
أو الخيط في وسط النواة ، روى عن مجاهد ، أو نقر الرجل الشيء بطرف إبهامه رواه أبو العالية عن ابن عباس.
أو حبة النواة التي في وسطها رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد.
وقال الأزهري : الفتيل والنقير ، والقطمير ، يضرب مثلاً للشيء التافه الحقير ، وخصت الأشياء الحقيرة بقوله : « فتيلاً » في قوله : { ولا يظلمون فتيلا } وهنا بقوله نقيراً الوفاق النظير من الفواصل.
{ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } أم أيضاً منقطعة فتقدّر ببل.
والهمزة فبل : للانتقال من كلام إلى كلام ، والهمزة للاستفهام الذي يصحبه الانكار.
أنكر عليهم أولاً البخل ، ثم ثانياً الحسد.
فالبخل منع وصول خير من الإنسان إلى غيره ، والحسد تمنّي زوال ما أعطى الله الانسان من الخير وايتاؤه له.

نعى الله تعالى عليهم تحليهم بهاتين الخصلتين الذميمتين ، ولمّا كان الحسد شر الخصلتين ترقى إلى ذكره بعد ذكر البخل.
والناس هنا النبي صلى الله عليه وسلم ، والفضل النبوة ، قاله : ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، والضحاك ، ومقاتل.
وقال ابن عباس ، والسدي أيضاً : والفضل ما أبيح له من النساء.
وسبب نزول الآية عندهم أنّ اليهود قالت لكفار العرب : انظروا إلى هذا الذي يقول أنه بعث بالتواضع ، وأنه لا يملأ بطنه طعاماً ، ليس همه إلا في النساء ونحو هذا ، فنزلت.
والمعنى : لم تخصونه بالحسد ، ولا تحسدون آل إبراهيم يعني : سليمان وداود في أنهما أعطيا النبوة والكتاب ، وأعطيا مع ذلك ملكاً عظيماً في أمر النساء ، وهو ما روي أنه كان لسليمان سبعمائة امرأة وثلاثمائة سرية ، ولداود مائة امرأة.
فالملك في هذه القول إباحة النساء ، كأنه المقصود أولاً بالذكر.
وقال قتادة : الناس هنا العرب حسدتها بنو إسرائيل ان كان الرسول منها ، والفضل هنا الرسول.
والمعنى : لم يحسدون العرب على هذا النبي وقد أوتي أسلافهم أنبياء.
وكتبا كالتوراة والزبور ، وحكمة وهي الفهم في الدين ما لم ينص عليه الكتاب؟ وروى عن ابن عباس أنه قال : نحن الناس يريد قريشاً.
{ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً } أي ملك سليمان قاله : ابن عباس.
وقال مجاهد : هو النبوّة.
وقال همام بن الحرث وأبو مسلمة وابن زيد هو التأييد بالملائكة.
وقيل : الناس هنا الرسول ، وأبو بكر ، وعمر.
والكتاب : التوراة والإنجيل أو هما ، والزبور أقوال ، والحكمة النبوّة قاله : السدي ومقاتل.
أو الفقه في الدين قاله أبو سليمان الدمشقي.
وقيل : الملك العظيم هو الجمع بين سياسة الدنيا وشرع الدين ذكره الماوردي.
وقال الزمخشري : أم يحسدونهم على ما آتاهم الله من فضله النصرة والغلبة وازدياد العز والتقدم كل يوم ، فقد آتينا الزام لهم بما عرفوه من ايتاء الله الكتاب والحكمة آل إبراهيم الذين أسلاف محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه ليس ببدع أن يؤتيه الله مثل ما أوتي أسلافه.
وعن ابن عباس : الملك في آل إبراهيم ملك يوسف ، وداود ، وسليمان ، انتهى كلامه.
وهو كلام حسن.
{ فمنهم من آمن به ومنهم من صدّ عنه } أي : من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ، ومنهم من كفر كقوله : { فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون } قاله السدي : أو فمن آل إبراهيم من آمن بالكتاب ، أو فمن اليهود المخاطبين بقوله : { يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا } من آمن به أي بالقرآن ، وهو المأمور بالإيمان به في قوله : بما نزلنا قاله مجاهد ، ومقاتل ، والفراء ، والجمهور ولذلك ارتفع الطمس ولم يقع.
أو فمن اليهود من آمن بالفضل الذي أوتيه الرسول صلى الله عليه وسلم أو العرب على ما تقدّم.
أو فمن اليهود من آمن به ، أي بما ذكر من حديث آل إبراهيم.

أو فمن اليهود من آمن برسول الله ، ومنهم مَنْ أنكر نبوّته.
والظاهر أنه تعالى لما أنكر على اليهود حسدهم الناس على فضل الله الذي آتاهم ، أتى بما بعده على سبيل الاستطراد والنظر والاستدلال عليهم بأنه لا ينبغي لكم أن تحسدوا فقد جاز أسلافكم من الشرف ما ينبغي أن لا تحسدوا أحداً.
وتضمنت هذه الآية تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم في كونهم يحسدونه ولا يتبعونه ، فذكر أنَّهم أيضاً مع أسلافهم وأنبيائهم انقسموا إلى مؤمن وكافر ، هذا وهم أسلافهم فكيف بنبي ليس هو منهم؟.
وقرأ ابن مسعود وابن عباس ، وابن جبير ، وعكرمة ، وابن يعمر ، والجحدري : ومن صد عنه برفع الصاد مبنياً للمفعول.
وقرأ أبي وأبو الحوراء وأبو رجاء والحوقي ، بكسر الصاد مبنياً للمفعول.
والمضاعف المدغم الثلاثي يجوز فيه إذا بني للمفعول ما جاز في باع إذا بني للمفعول ، فتقول : حب زيد بالضم ، وحب بالكسر.
ويجوز الاشمام.
والصد ليس مقابلاً للإيمان إلا من حيث المعنى ، وكان المعنى والله أعلم : فمنهم من آمن به واتبعه ، ومنهم من كذب به وصد عنه.
{ وكفى بجهنم سعيراً } أي احتراقاً والتهاباً أي لمن صدّ عنه.
وسعيراً يميز وهو شدة توقد النار.
والتقدير : وكفى بسعير جهنم سعيراً ، وهو كناية عن شدة العذاب والعقوبة.
{ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً } لما ذكر قوله : ومنهم من صد عنه ، وكفى بجهنم سعيراً أتبع ذلك بما أعد الله للكافرين بآياته ، ثم بعد يتبع بما أعد للمؤمنين ، وصار نظير وتسود وجوه ، { فأما الذين اسودت وجوههم } وقرأ الجمهور نصليهم من أصلى.
وقرأ حميد : نصليهم من صليت.
وقرأ سلام ويعقوب : نصليهم بضم الهاء.
{ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها } انتصاب على كل الظرف لأنه مضاف إلى ما المصدرية الظرفية ، والعامل فيه بدلناهم ، وهي جملة فيها معنى الشرط ، وهي في موضع الحال ، والعامل فيها نصليهم.
والتبديل على معنيين : تبديل في الصفات مع بقاء العين ، وتبديل في الذوات بأن تذهب العين وتجيء مكانها عين أخرى ، يقال : هذا بدل هذا.
والظاهر في الآية هذا المعنى الثاني.
وأنه إذا نضج ذلك الجلد وتهرى وتلاشى جيء بجلد آخر مكانه ، ولهذا قال : جلوداً غيرها.
قال السدي : إن الجلود تخلق من اللحم ، فإذا أحرق جلد بدله الله من لحم الكافر جلداً آخر.
وقيل : هي بعينها تعاد بعد إحراقها ، كما تعاد الأجساد بعد البلى في القبور ، فيكون ذلك عائداً إلى الصفة ، لا إلى الذات.
وقال الفضيل : يجعل النضيج غير نضيج.
وقيل : تبدل كل يوم سبع مرات.
وقال الحسن : سبعين.
وأبعد من ذهب إلى أن الجلود هي سرابيل من قطران تخالط جلودهم مخالطة لا يمكن إزالتها.
فيبدل الله تلك السرابيل كل يوم مائة مرة.
أو كما قيل : مائة ألف مرة.
وسميت جلوداً لملابستها الجلود.

وأبعد أيضاً من ذهب إلى أن هذا استعاره عن الدوام ، كلما انتهى فقد ابتدأ من أوله ، يعني : كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك أعطيناهم قوة جديدة من الحياة ، بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا ، فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه.
وقال ابن عباس : يلبسهم الله جلوداً بيضاء كأنها قراطيس.
وقال عبد العزيز بن يحيى : يلبس أهل النار جلوداً تؤلمهم ولا تؤلم هي.
{ ليذوقوا العذاب } أي ذلك التبديل كلما نضجت الجلود ، هو ليذوقوا ألم العذاب.
وأتيَ بلفظ الذوق المشعر بالإحساس الأول وهو آلم ، فجعل كلما وقع التبديل كان لذوق العذاب بخلاف من تمرن على العذاب.
وقال الزمخشري : ليذوقوا العذاب ليدوم لهم دونه ولا ينقطع ، كقولك للعزيز : أعزك الله أي أدامك على عزك ، وزادك فيه.
{ إن الله كان عزيزاً حكيماً } أي عزيزاً لا يغالب ، حكيماً يضع الأشياء مواضعها.
وقال الزمخشري : عزيز لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين ، حكيماً لا يعذب إلا بعدل من يستحقه.

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)

{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيه أبداً } لما ذكر تعالى وعيد الكفار أعقب بوعد المؤمنين ، وجاءت جملة الكفار مؤكدة بأن على سبيل تحقيق الوعيد المؤكد ، ولم يحتج إلى ذلك في جملة المؤمنين ، وأتى فيها بالسين المشعرة بقصر مدة التنفيس على سبيل تقريب الخير من المؤمن وتبشيره به.
{ لهم فيها أزواج مطهرة } تقدم تفسير مثل هذا.
{ وندخلهم ظلاً ظليلاً } قال ابن عطية : أي يقي من الحر والبرد.
ويصح أن يريد أنه ظل لا ينتقل ، كما يفعل ظل الدنيا فأكده بقوله : ظليلاً لذلك ويصح أن يصفه بظليل لامتداده ، فقد قال عليه السلام : « إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مائة سنة ما يقطعها » انتهى كلامه.
وقال أبو مسلم الظليل : هو القوي المتمكن.
قال : ونعت الشيء بمثل ما اشتق من لفظه يكون مبالغة كقولهم : ليل أليل ، وداهية دهياء.
وقال أبو عبد الله الرازي : وإنما قال ظل ظليلاً لأن بلاد العرب في غاية الحرارة ، فكان الظل عندهم من أعظم أسباب الراحة ، ولهذا المعنى جعل كناية عن الراحة ووصفه بالظليل مبالغة في الراحة.
وقال الزمخشري : ظليل صفة مشتقة من لفظ الظل لتأكيد معناه ، كما يقال : ليل أليل ، ويوم أيوم ، وما أشبه ذلك وهو ما كان فينانا لا جوب فيه ، ودائماً لا تنسخه الشمس.
وسجسجاً لا حرّ فيه ولا برد ، وليس ذلك إلا ظل الجنة رزقنا الله بتوفيقه ما يزلف إليه التقيؤ تحت ذلك الظل.
وفي قراءة عبد الله : سيدخلهم بالياء انتهى.
وقال الحسن : قد يكون ظل ليس بظليل يدخله الحر والشمس ، فلذلك وصف ظل الجنة بأنه ظليل.
وعن الحسن : ظل أهل الجنة يقي الحر والسموم ، وظل أهل النار من يحموم لا بارد ولا كريم.
ويقال : إنّ أوقات الجنة كلها سواء اعتدال ، لا حر فيها ولا برد.
وقرأ النخعي وابن وثاب : سيدخلهم بالياء ، وكذا ويدخلهم ظلاً ، فمن قرأ بالنون وهم الجمهور فلاحظ قوله في وعيد الكفار : { سوف نصليهم } ومن قرأ بالياء لاحظ قوله : { إن الله كان عزيزاً حكيماً } فأجراه على الغيبة.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أنواعاً من الفصاحة والبيان والبديع.
الاستفهام الذي يراد به التعجب في : ألم تر في الموضعين.
والخطاب العام ويراد به الخاص في : يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا وهو دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ابن صوريا وكعباً وغيرهما من الأحبار إلى الإيمان حسب ما في سبب النزول.
والاستعارة في قوله : من قبل أن نطمس وجوهاً ، في قول من قال : هو الصرف عن الحق ، وفي : ليذوقوا العذاب ، أطلق اسم الذوق الذي هو مختص بحاسة اللسان وسقف الحلق على وصول الألم للقلب.

والطباق في : فنردّها على أدبارها ، والوجه ضد القفا ، وفي للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا ، وفي : إن الذين كفروا والذين آمنوا ، وفي : من آمن ومن صدّ ، وهذا طباق معنوي.
والاستطراد في : أو نلعنهم كما لعن أصحاب السبت.
والتكرار في : يغفر ، وفي : لفظ الجلالة ، وفي : لفظ الناس ، وفي : آتينا وآتيناهم ، وفي : فمنهم ومنهم ، وفي : جلودهم وجلوداً ، وفي : سندخلهم وندخلهم.
والتجنيس المماثل في : نلعنهم كما لعنا وفي : لا يغفر ويغفر ، وفي : لعنهم الله ومن يلعن الله ، وفي : لا يؤتون ما آتاهم آتينا وآتيناهم وفي : يؤمنون بالجبت وآمنوا أهدى.
والتعجب : بلفظ الأمر في قوله : انظر كيف يفترون.
وتلوين الخطاب في : يفترون أقام المضارع مقام الماضي إعلاماً أنهم مستمرون على ذلك.
والاستفهام الذي معناه التوبيخ والتقريع في : أم لهم نصيب وفي : أم يحسدون.
والإشارة في : أولئك الذين.
والتقسيم في : فمنهم من آمن به ومنهم من صدّ عنه.
والتعريض في : فإذن لا يؤتون الناس نقيراً عرض بشدة بخلهم.
وإطلاق الجمع على الواحد في : أم يحسدون الناس إذا فسر بالرسول ، وإقامة المنكر مقام المعرف لملاحظة الشيوع.
والكثرة في : سوف نصليهم ناراً.
والاختصاص في : عزيزاً حكيماً.
والحذف في : مواضع.

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)

الزعم : قول يقترن به الاعتقاد الظني.
وهو بضم الزاي وفتحها وكسرها.
قال الشاعر وهو أبو ذؤيب الهذلي :
فإن تزعميني كنت أجهل فيكم . . .
فإني شريت الحلم بعدك بالجهل
وقال ابن دريد : أكثر ما يقع على الباطل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « مطية الرجل زعموا » وقال الأعشى :
ونبئت قيساً ولم أبله . . .
كما زعموا خير أهل اليمن
فقال الممدوح وما هو إلا الزعم وحرمه.
وإذا قال سيبويه : زعم الخليل ، فإنما يستعملها فيما انفرد الخليل به ، وكان أقوى.
وذكر صاحب العين : أنَّ الأحسن في زعم أنْ توقع على أنْ قال ، قال.
وقد توقع في الشعر على الاسم.
وأنشد بيت أبي ذؤيب هذا وقول الآخر :
زعمتني شيخاً ولست بشيخ . . .
إنما الشيخ من يدب دبيبا
ويقال : زعم بمعنى كفل ، وبمعنى رأس ، فيتعدى إلى مفعول واحد مرة ، وبحرف جر أخرى.
ويقال : زعمت الشاة أي سمنت ، وبمعنى هزلت ، ولا يتعدى.
التوفيق : مصدر وفق ، والوفاق والوفق ضد المخالفة.
{ إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } سبب نزولها فيما رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وقاله : مجاهد والزهري وابن جريج ومقاتل ما ذكروا في قصة مطولة مضمونها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ مفتاح الكعبة من سادنيها عثمان بن طلحة ، وابن عمه شيبة بن عثمان بعد تأب من عثمان ولم يكن أسلم ، فسأل العباس الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجمع له بين السقاية والسدانة ، فنزلت.
فرد المفتاح إليهما وأسلم عثمان.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : « خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا يأخذها منكم إلا ظالم » وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وقاله : زيد بن أسلم ، ومكحول ، واختاره أبو سليمان الدمشقي : نزلت في الأمراء أن يؤدوا الأمانة فيما ائتمنهم الله من أمر رعيته.
وقيل : نزلت عامة ، وهو مروي عن : أبي ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر وعد المؤمنين ، وذكر عمل الصالحات ، نبه على هذين العملين الشريفين اللذين من اتصف بهما كان أحرى أن يتصف بغيرهما من الأعمال الصالحة ، فأحدهما ما يختص به الإنسان فيما بينه وبين غيره وهو أداء الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ، والثاني ما يكون بين اثنين من الفصل بينهما بالحكم العدل الخالي عن الهوى ، وهو من الأعمال العظيمة التي أمر الله بها رسله وأنبياءه والمؤمنين.
ولما كان الترتيب الصحيح أنْ يبدأ الإنسان بنفسه في جلب المنافع ودفع المضار ، ثم يشتغل بحال غيره ، أمر بأداء الأمانة أولاً ثم بعده بالأمر بالحكم بالحق.

والظاهر في : يأمركم أنّ الخطاب عام لكل أحد في كل أمانة.
وقال ابن جريج : خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن مفتاح الكعبة.
وقال علي ، وابن أسلم ، وشهر ، وابن زيد : خطاب لولاة المسلمين خاصة ، فهو للنبي صلى الله عليه وسلم وأمرائه ، ثم يتناول مَن بعدهم.
وقال ابن عباس : في الولاة أن يعظوا النساء في النشوز ونحوه ، ويردوهنّ إلى الأزواج.
وقيل : خطاب لليهود أمروا برد ما عندهم من الأمانة ، من نعتِ الرسول أنْ يظهروه لأهله ، إذ الخطاب معهم قبل هذه الآية.
ونقل التبريزي : أنها خطاب لأمراء السرايا بحفظ الغنائم ووضعها في أهلها.
وقيل : ذلك عام فيما كلفه العبد من العبادات.
والأظهر ما قدمناه من أنّ الخطاب عام يتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ، ورد الظلامات ، وعدل الحكومات.
ومنه دونهم من الناس في الودائع ، والعواري ، والشهادات ، والرجل يحكم في نازلة.
قال ابن عباس : لم يرخص الله لموسر ولا معسر أنْ يمسك الأمانة.
وقرىء : أن تؤدّوا الأمانة على التوحيد ، وأن تحكموا ، ظاهره : أن يكون معطوفاً على أن تؤدّوا ، وفصل بين حرف العطف والمعطوف بإذا.
وقد ذهب إلى ذلك بعض أصحابنا وجعله كقوله : { ربنا آتنا في الدنيا وفي الآخرة حسنة } { وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً } { سبع سموات ومن الأرض مثلهن } ففصل في هذه الآية بين الواو والمعطوف بالمجرور.
وأبو عليّ يخص هذا بالشعر ، وليس بصواب.
فإن كان المعطوف مجروراً أعيد الجار نحو : امرر بزيد وغداً بعمرو.
ولكنَّ قوله : وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا ، ليس من هذه الآيات ، لأن حرف الجر يتعلق في هذه الآيات بالعامل في المعطوف ، والظرف هنا ظاهره أنه منصوب بأن تحكموا ، ولا يمكن ذلك لأن الفعل في صلة ، ولا يمكن أن ينتصب بالناصب لأنْ تحكموا لأنّ الأمر ليس واقعاً وقت الحكم.
وقد خرجه على هذا بعضهم.
والذي يظهر أنّ إذاً معمولة لأنْ تحكموا مقدرة ، وأنْ تحكموا المذكورة مفسرة لتلك المقدرة ، هذا إذا فرغنا على قول الجمهور.
وأما إذا قلنا بمذهب الفرّاء فإذا منصوبة بأن تحكموا هذه الملفوظ بها ، لأنه يجيز : يعجبني العسل أن يشرب ، فتقدم معمول صلة أنْ عليها.
{ إن الله نعماً يعظكم به } أصله : نعم ما ، وما معرفة تامة على مذهب سيبويه والكسائي.
كأنه قال : نعم الشيء يعظكم به ، أي شيء يعظكم به.
ويعظكم صفة لشيء ، وشيء هو المخصوص بالمدح وموصولة على مذهب الفارسي في أحد قوليه.
والمخصوص محذوف التقدير : نعم الذي يعظكم به تأدية الأمانة والحكم بالعدل ، ونكرة في موضع نصب على التمييز و يعظكم صفة له على مذهب الفارسي في أحد قوليه ، والمخصوص محذوف تقديره كتقدير ما قبله.
وقد تأولت ما هنا على كل هذه الأقوال ، وتحقيق ذلك في علم النحو.

وقال ابن عطية : وما المردفة على نعم إنما هي مهيئة لاتصال الفعل بها كما هي في ربما ، ومما في قوله : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يحرك شفتيه وكقول الشاعر :
وإنا لمما نضرب الكبشر ضربة . . .
على رأسه تلقى اللسان من الفم
ونحوه.
وفي هذا هي بمنزلة ربما ، وهي لها مخالفة في المعنى : لأنّ ربما معناها التقليل ، ومما معناها التكثير.
ومع أن ما موطئه ، فهي بمعنى الذي.
وما وطأت إلا وهي اسم ، ولكنّ القصد إنما هو لما يليها من المعنى الذي في الفعل انتهى كلامه.
وهو كلام متهافت ، لأنه من حيث جعلها موطئة مهيئة لا تكون اسماً ، ومن حيث جعلها بمعنى الذي لا تكون مهيئة موطئة فتدافعا.
وقرأ الجمهور : نعماً بكسر العين اتباعاً لحركة العين.
وقرأ بعض القراء : نعماً بفتح النون على الأصل ، إذ الأصل نعم على وزن شهد.
ونسب إلى أبي عمرو سكون العين ، فيكون جمعاً بين ساكنين.
{ إن الله كان سميعاً } أي لأقوالكم الصادرة منكم في الأحكام.
{ بصيراً } بردّ الأمانات إلى أهلها.
{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } قيل : نزلت في أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكروا قصةً طويلة مضمونها : أنَّ عماراً أجار رجلاً قد أسلم ، وفر أصحابه حين أنذروا بالسرة فهربوا ، وأقام الرجل وإنّ أميرها خالداً أخذ الرجل وماله ، فأخبره عمار بإسلامه وإجارته إياه فقال خالد : وأنت تجيز؟ فاستبا وارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأجاز أمان عمار ، ونهاه أن يجير على أمير.
ومناسبتها لما قبلها أنه لما أمر الولاة أن يحكموا بالعدل أمر الرعية بطاعتهم ، قال عطاء : أطيعوا الله في فريضته ، والرسول في سنته.
وقال ابن زيد : في أوامره ونواهيه ، والرسول ما دام حياً ، وسنته بعد وفاته.
وقيل : فيما شرع ، والرسول فيما شرح.
وقال ابن عباس ، وأبو هريرة ، والسدي ، وابن زيد : أولو الأمر هم الأمراء.
وقال مجاهد : أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال التبريزي : المهاجرون والأنصار.
وقيل : الصحابة والتابعون.
وقيل : الخلفاء الأربع.
وقال عكرمة : أبو بكر وعمر.
وقال جابر ، والحسن ، وعطاء ، وأبو العالية ، ومجاهد أيضاً : العلماء ، واختاره مالك.
وقال ميمون ، ومقاتل ، والكلبي ، أمراء السرايا ، أو الأئمة من أهل البيت قاله : الشيعة.
أو عليّ وحده قالوه أيضاً.
والظاهر أنه كل مَن ولي أمر شيء ولاية صحيحة.
قالوا : حتى المرأة يجب عليها طاعة زوجها ، والعبد مع سيده ، والولد مع والديه ، واليتيم مع وصية فيما يرضى الله وله فيه مصلحة.
وقال الزمخشري : والمراد ، بأولي الأمر منكم ، أمراء الحق ، لأن أمراء الجور الله ورسوله بريئان منهم ، فلا يعطفون على الله ورسوله.
وكان أول الخلفاء يقول : أطيعوني ما عدلت فيكم ، فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم.

وعن أبي حازم : أن مسلمة بن عبد الملك قال له : ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله وأولي الأمر منكم؟ قال : أليس قد نزعت منكم إذ خالفتم الحق بقوله : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول }.
وقيل : هم أمراء السرايا.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع أميري فقد أطاعني ، ومن يعص أميري فقد عصاني » وقيل : هم العلماء الدّينون الذين يعلمون الناس الدّين ، يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر انتهى.
وقال سهل التستري : أطيعوا السلطان في سبعة : ضرب الدنانير ، والدراهم ، والمكاييل ، والأوزان ، والأحكام ، والحج ، والجمعة ، والعيدين ، والجهاد.
وإذا نهى السلطان العالم أن يفتى فليس له أن يفتي ، فإنْ أفتى فهو عاص وإنْ كان أميراً جائراً.
قيل : ويحمل قول سهل على أنه يترك الفتيا إذا خاف منه على نفسه.
وقال ابن خويز منداد : وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان فيه طاعة ، ولا تجب فيما كان فيه معصية.
قال : ولذلك قلنا : أن أمراء زماننا لا تجوز طاعتهم ، ولا معاونتهم ، ولا تعظيمهم ، ويجب الغزو معهم متى غزوا ، والحكم من قبلهم ، وتولية الإمامة والحسبة ، وإقامة ذلك على وجه الشريعة.
فإن صلوا بنا وكانوا فسقة من جهة المعاصي جازت الصلاة معهم ، وإن كانوا مبتدعة لم تجز الصلاة معهم إلا أنْ يخافوا فتصلى معهم تقية ، وتعاد الصلاة فيما بعد. انتهى.
واستدل بعض أهل العلم على إبطال قول من قال : بإمام معصوم بقوله : وأولي الأمر منكم.
فإنّ الأمراء والفقهاء يجوز عليهم الغلط والسهو ، وقد أمرنا بطاعتهم.
ومَن شرط الإمام العصمة فلا يجوز ذلك عليه ، ولا يجوز أن يكون المراد الإمام لأنه قال في نسق الخطاب : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ، فلو كان هناك إمام مفروض الطاعة لكان الرد إليه واجباً ، وكان هو يقطع التنازع ، فلما أمر برد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة دون الإمام ، دلّ على بطلان الإمامة.
وتأويلهم : أنّ أولى الأمر عليّ رضي الله عنه فاسد ، لأنّ أولي الأمر جمع ، وعليّ واحد.
وكان الناس مأمورين بطاعة أولي الأمر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعليّ لم يكن إماماً في حياته ، فثبت أنهم كانوا أمراء ، وعلى المولى عليهم طاعتهم ما لم يأمروا بمعصية.
فكذلك بعد موتهم في لزوم اتباعهم طاعتهم ما لم تكن معصية.
وقال أبو عبد الله الرازي : وأولي الأمر منكم إشارة إلى الإجماع ، والدليل عليه أنه أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر بطاعته على الجزم والقطع لا بد أن يكون معصوماً عن الخطأ ، وإلاّ لكان بتقدير إقدامه على الخطأ مأموراً باتباعه ، والخطأ منهى عنه ، فيؤدّي إلى اجتماع الأمر والنهي في فعل واحد باعتبار واحد ، وأنه محال.

وليس أحد معصوماً بعد الرسول إلا جمع الأمة أهل العقد والحلّ ، وموجب ذلك أنّ إجماع الأمة حجة.
{ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } قال مجاهد ، وقتادة ، والسدي ، والأعمش ، وميمون بن مهران : فردوه إلى كتاب الله ، وسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ، وإلى سنته بعد وفاته.
وقال قوم منهم الأصم : معناه قولوا : الله ورسوله أعلم.
وقال الزمخشري : فإن اختلفتم أنتم وأولوا الأمر في شيء من أمور الذين فردوه ارجعوا فيه إلى الكتاب والسنة انتهى.
وقد استدل نفاة القياس ومثبتوه بقوله : فردوه إلى الله ورسوله ، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الفقه.
{ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } شرط وجوابه محذوف ، أي : فردوه إلى الله والرسول.
وهو شرط يراد به الحض على اتباع الحق ، لأنه ناداهم أولاً بيا أيها الذين آمنوا ، فصار نصير : إن كنت ابني فأطعني.
وفيه إشعار بوعيد من لم يرد إلى الله والرسول.
{ ذلك خير وأحسن تأويلاً } ذلك الرد إلى الكتاب والسنة ، أو إلى أن تقولوا : الله ورسوله أعلم.
وقال قتادة ، والسدي ، وابن زيد : أحسن عاقبة.
وقال مجاهد : أحسن جزاء.
وقيل : أحسن تأويلاً من تأويلكم أنتم.
وقالت فرقة : المعنى : أن الله ورسوله أحسن نظراً وتأويلاً منكم إذا انفردتم بتأويلكم.
{ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً } ذكر في سبب نزولها قصص طويل ملخصه : أنّ أبا بردة الأسلمي كان كاهناً يقضي بين اليهود ، فتنافر إليه نفر من أسلم ، أو أنّ قيساً الأنصاري أحد مَن يدعي الإسلام ورجلاً من اليهود تداعيا إلى الكاهن وتركا الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما دعا اليهودي إلى الرسول ، والأنصاري يأبى إلا الكاهن.
أو أنّ منافقاً ويهودياً اختصما ، فاختار اليهودي الرسول صلى الله عليه وسلم ، واختار المنافق كعب بن الأشرف ، فأبى اليهودي ، وتحاكما إلى الرسول ، فقضى لليهودي ، فخرجا ولزمه المنافق ، وقال : ننطلق إلى عمر ، فانطلقا إليه فقال اليهودي : قد تحاكمنا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه ، فأقرّ المنافق بذلك عند عمر ، فقتله عمر وقال : هكذا أقضي فيمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لأنه تعالى لما أمر المؤمنين بطاعة الله ورسوله وأولي الأمر ، ذكر أنه يعجب بعد ورود هذا الأمر من حال مَن يدَّعي الإيمان ويريد أن يتحاكم إلى الطاغوت ويترك الرسول.
وظاهر الآية يقتضي أن تكون نزلت في المنافقين ، لأنه قال : يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، فلو كانت في يهود أو في مؤمن ويهودي كان ذلك بعيداً من لفظ الآية ، إلا إنْ حمل على التوزيع ، فيجعل بما أنزل إليك في منافق ، وما أنزل من قبلك في يهودي ، وشملوا في ضمير يزعمون فيمكن.

وقال السدي : نزلت في المنافقين من قريظة والنضير ، تفاخروا بسبب تكافؤ دمائهم ، إذ كانت النضير في الجاهلية تدي من قتلت وتستقيه إذا قتلت قريظة منهم ، فأبت قريظة لما جاء الإسلام ، وطلبوا المنافرة ، فدعا المؤمنون منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ودعا المنافقون إلى بردة الكاهن ، فنزلت.
وقال الحسن : احتكم المنافقون بالقداح التي يضرب بها عند الأوثان فنزلت.
أو لسبب اختلافهم في أسباب النزول اختلفوا في الطاغوت.
فقيل : كعب بن الأشرف.
وقيل : الأوثان.
وقيل : ما عبد من دون الله.
وقيل : الكهان.
{ وقد أمروا أن يكفروا به } جملة حالية من قوله : يريدون ، ويريدون حال ، فهي حال متداخل.
وأعاد الضمير هنا مذكراً ، وأعاده مؤنثاً في قوله : اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها.
وقرأ بها هنا عباس بن الفضل على التأنيث ، وأعاد الضمير كضمير جمع العقلاء في قوله : { أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم }
{ ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً } ضلالاً ليس جارياً على يضلهم ، فيحتمل أن يكون جعل مكان إضلال ، ويحتمل أن يكون مصدر المطاوع يضلهم ، أي : فيضلون ضلالاً بعيداً.
وقرأ الجمهور : بما أنزل إليك وما أنزل مبنياً للمفعول فيهما.
وقرىء : مبنياً للفاعل فيهما.
{ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً } قرأ الحسن : تعالوا بضم اللام.
قال أبو الفتح : وجهها أنَّ لام الفعل من تعاليت حذفت تخفيفاً ، وضمت اللام التي هي عين الفعل لوقوع واو الجمع بعدها.
ولظهر الزمخشري حذف لام الكلمة هنا بحذفها في قولهم : ما باليت به بالة ، وأصله : بالية كعافية.
وكمذهب الكسائي في آية ، أن أصلها أيلة فحذفت اللام.
قال : ومنه قول أهل مكة : تعالي بكسر اللام للمرأة.
وفي شعر الحمداني :
تعالي أقاسمك الهموم تعالي . . .
والوجه : فتح اللام انتهى.
وقول الزمخشري : قول أهل مكة تعالي يحتمل أن تكون عربية قديمة ، ويحتمل أن يكون ذلك مما غيرته عن وجهه العربي فلا يكون عربياً.
وأما قوله في شعر الحمداني فقد صرّح بعضهم بأنه أبو فراس ، وطالعت ديوانه جمع الحسين بن خالويه فلم أجد ذلك فيه.
وبنو حمدان كثيرون ، وفيهم عدة من الشعراء ، وعلى تقدير ثبوت ذلك في شعرهم لا حجة فيه ، لأنه لا يستشهد بكلام المولدين.
والظاهر من قوله : رأيت المنافقين أنها من رؤية العين ، صدوا مجاهرة وتصريحاً ، ويحتمل أن يكون من رؤية القلب أي : علمت.
ويكون صدهم مكراً وتخابثاً ومسارقة حتى لا يعلم ذلك منه إلا بالتأويل عليه.
وصدوداً : مصدر لصد ، وهو هنا متعد بحرف الجر ، وقد يتعدى بنفسه نحو : { فصدهم عن السبيل } وقياس صدّ في المصدر فعل نحو : صده صدّاً.
وحكى ابن عطية : أن صدوداً هنا ليس مصدراً ، والمصدر عنده صد.
{ فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً } قال الزجاج : كيف في موضع نصب تقديره : كيف تراهم ، أو في موضع رفع أي : فكيف صنيعهم والمصيبة.

قال الزجاج : قتل عمر الذي ردّ حكم الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقيل : كل مصيبة تصيب المنافقين في الدنيا والآخرة ، ثم عاد الكلام إلى ما سبق يخبر عن فعلهم فقال : ثم جاؤك يحلفون بالله.
وقيل : هي هدم مسجد الضرار ، وفيه نزلت الآية ، حلفوا دفاعاً عن أنفسهم ما أردنا ببناء المسجد إلا طاعة وموافقة الكتاب.
وقيل : ترك الاستعانة بهم وما يلحقهم من الذل من قوله : فقل إن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً ، والذي قدّمت أيديهم ردهم حكم الرسول أو معاصيهم المتقدّمة أو نفاقهم واستهزاؤهم ثلاثة أقوال.
وقيل في قوله : إلا إحساناً وتوفيقاً أي : ما أردنا بطلب دم صاحبنا الذي قتله عمر إلا إحساناً إلينا ، وما يوافق الحق في أمرنا.
وقيل : ما أردنا بالرفع إلى عمر إلا إحساناً إلى صاحبنا بحكومة العدل ، وتوفيقاً بينه وبين خصمه.
وقيل : جاؤوا يعتذرون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من محاكمتهم إلى غيره ما أردنا في عدولنا عنك إلا إحساناً بالتقريب في الحكم ، وتوفيقاً بين الخصوم ، دون الحمل على الحق.
وفي قوله : فكيف إذا أصابتهم مصيبة ، وعيد لهم على فعلهم ، وأنهم سيندمون عليه عند حلول بأس الله تعالى حين لا ينفعهم الندم ، ولا يغني عنهم الاعتذار.
{ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً } أي : يعلم ما في قلوبهم من النفاق.
والمعنى : يعلمه فيجازيهم عليه ، أو يجازيهم على ما أسرّوه من الكفر ، وأظهروه من الحلف الكاذب.
وعبر بالعلم عن المجازاة.
فأعرض عنهم : أي عن معاتبتهم وشغل البال بهم ، وقبول إيمانهم وأعذارهم.
وقيل : المعنى بالإعراض معاملتهم بالرفق والإناة ، ففي ذلك تأديب لهم ، وهو عتابهم.
ولا يراد بالإعراض الهجر والقطيعة ، فإنّ قوله : وعظهم يمنع من ذلك.
وعظهم : أي خوفهم بعذاب الله وازجرهم ، وأنكر عليهم أن يعودوا لمثل ما فعلوا.
والقول البليغ هو الزجر والردع.
قال الحسن : هو التوعد بالقتل إن استداموا حالة النفاق.
ويتعلق قوله : في أنفسهم بقوله : قل على أحد معنيين ، أي : قل لهم خالياً بهم لا يكون معهم أحد من غيرهم مساراً لأنّ النصح إذا كان في السرّ كان أنجح ، وكان بصدد أن يقبل سريعاً.
ومعنى بليغاً : أي مؤثراً فيهم.
أو قلْ لهم في معنى أنفسهم النجسة المنطوية على النفاق قولاً يبلغ منهم ما يزجرهم عن العود إلى ما فعلوا.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ثم تعلق قوله : في أنفسهم؟ ( قلت ) : بقوله : بليغاً أي : قلْ لهم قولاً بليغاً في أنفسهم ، مؤثراً في قلوبهم يغتمون به اغتماماً ، ويستشعرون منه الخوف استشعاراً ، وهو التوعد بالقتل والاستئصال إنْ نجم منهم النفاق ، وأطلع قرنه ، وأخبرهن أنَّ ما في نفوسهم من الدغل والنفاق معلوم عند الله ، وأنه لا فرق بينكم وبين المشركين.

وما هذه المكافة إلا لإظهاركم الإيمان ، وإسراركم الكفر وإضماره ، فإن فعلتم ما تكشفون به غطاءكم لم يبق إلا السيت انتهى كلامه.
وتعليقه في أنفسهم بقوله : بليغاً لا يجوز على مذهب البصريين ، لأن معمول الصفة لا يتقدّم عندهم على الموصوف.
لو قلت : هذا رجل ضارب زيداً لم يجز أن تقول : هذا زيداً رجل ضارب ، لأن حق المعمول ألا يحل إلا في موضع يحل فيه العامل ، ومعلوم أن النعت لا يتقدّم على المنعوت ، لأنه تابع ، والتابع في ذلك بمذهب الكوفيين.
وأما ما ذكره الزمخشري بعد ذلك من الكلام المسهب فهو من نوع الخطابة ، وتحميل لفظ القرآن ما لا يحتمله ، وتقويل الله تعالى ما لم يقله ، وتلك عادته في تفسيره وهو تكثير الألفاظ.
ونسبة أشياء إلى الله تعالى لم يقلها الله تعالى ، ولا دل عليها اللفظ دلالة واضحة ، والتفسير في الحقيقة إنما هو شرح اللفظ المستغلق عند السامع مما هو واضح عنده مما يرادفه أو يقاربه ، أو له دلالة عليه بإحدى طرق الدلالات.
وحكي عن مجاهد أن قوله : في أنفسهم متعلق بقوله : مصيبة ، وهو مؤخر بمعنى التقديم ، وهذا ينزه مجاهد أن يقوله ، فإنه في غاية الفساد.

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)

شجر الأمر : التبس ، يشجر شجوراً وشجراً ، وشاجر الرجل غيره في الأمر نازعه فيه ، وتشاجروا.
وخشبات الهودج يقال لها شجار لتداخل بعضها ببعض.
ورمح شاجر ، والشجير الذي امتزجت مودته بمودّة غيره ، وهو من الشجر شبه بالتفاف الأغصان.
وقد تقدّم ذكر هذه المادّة في البقرة وأعيدت لمزيد الفائدة.
نفر الرجل ينفر نفيراً ، خرج مجداً بكسر الفاء في المضارع وضمها ، وأصله الفزع ، يقال : نفر إليه إذا فزع إليه ، أي طلب إزالة الفزع.
والنفير النافور ، والنفر الجماعة.
ونفرت الدابة تفرُ بضم الفاء نفوراً أي هربت باستعجال.
الثبة : الجماعة الإثنان والثلاثة في كلام العرب قاله : الماتريدي.
وقيل : هي فوق العشرة من الرجال ، وزنها فعلة.
ولامها قيل : واو ، وقيل : ياء ، مشتقة من تثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه ، كأنك جمعت محاسنه.
ومن قال : إن لامها واو ، جعلها من ثبا يثبو مثل حلا يحلو.
وتجمع بالألف والتاء وبالواو والنون فتضم في هذا الجمع تاؤها ، أو تكسر وثبة الحوض وسطه الذي يثوب الماء إليه ، المحذوف منه عينه ، لأنه من ثاب يثوب ، وتصغيره ثويبة كما تقول في سه سييهة ، وتصغير تلك ثبية.
البطء التثبط عن الشيء.
يقال : أبطأ وبطؤ مثل أسرع وسرع مقابله ، وبطآن اسم فعل بمعنى بطؤ.
{ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } نبه تعالى على جلالة الرسل ، وأنّ العالم يلزمهم طاعتهم ، والرسول منهم تجب طاعته.
ولام ليطاع لام كي ، وهو استثناء مفرّغ من المفعول من أجله أي : وما أرسلنا من رسول بشيء من الأشياء إلا لأجل الطاعة.
وبإذن الله أي بأمره ، قاله : ابن عباس.
أو بعلمه وتوفيقه وإرشاده.
وحقيقة الإذن التمكين مع العلم بقدر ما مكن فيه.
والظاهر أن بإذن الله متعلق بقوله : ليطاع.
وقيل : بأرسلنا أي : وما أرسلنا بأمر الله أي : بشريعته ، ودينه وعبادته من رسول إلا ليطاع.
قال ابن عطية : وعلى التعليقين فالكلام عام اللفظ ، خاص المعنى ، لأنّا نقطع أنَّ الله تبارك وتعالى قد أراد من بعض خلقه أن لا يطيعوه ، ولذلك خرجت طائفة معنى الإذن إلى العلم ، وطائفة خرجته إلى الإرشاد لقوم دون قوم ، وهو تخريج حسن.
لأن الله إذا علم من أحد أنه يؤمن وفقه لذلك ، فكأنه أذن له انتهى.
ولا يلزم ما ذكره من أن الكلام عام اللفظ خاص المعنى ، لأن قوله : ليطاع مبني للمفعول الذي لم يسم فاعله ، ولا يلزم من الفاعل المحذوف أن يكون عاماً ، فيكون التقدير : ليطيعه العالم ، بل المحذوف ينبعي أن يكون خاصاً ليوافق الموجود ، فيكون أصله : إلا ليطيعه من أردنا طاعته.
وقال عبد الله الرازي : والآية دالة على أنه لا رسول إلا ومعه شريعة ليكون مطاعاً في تلك الشريعة ، ومتبوعاً فيها ، إذ لو كان لا يدعو إلا إلى شرع مَن قبله لم يكن هو في الحقيقة مطاعاً ، بل المطاع هو الرسول المتقدم الذي هو الواضع لتلك الشريعة ، والله تعالى حكم على كل رسول بأنه مطاع انتهى.

ولا يعجبني قوله : الواضع لتلك الشريعة ، والأحسن أن يقال : الذي جاء بتلك الشريعة من عند الله.
{ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } ظلموا أنفسهم بسخطهم لقضائك أو بتحاكمهم إلى الطاغوت ، أو بجميع ما صدر عنهم من المعاصي.
جاؤوك فاستغفروا الله بالإخلاص ، واعتذروا إليك.
واستغفر لهم الرسول أي : شفع لهم الرسول في غفران ذنوبهم.
والعامل في إذ جاؤوك ، والتفت في قوله : واستغفر لهم الرسول ، ولم يجىء على ضمير الخطاب في جاؤوك تفخيماً لشأن الرسول ، وتعظيماً لاستغفاره ، وتنبيهاً على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله تعالى بمكان ، وعلى أنَّ هذا الوصف الشريف وهو إرسال الله إياه موجب لطاعته ، وعلى أنه مندرج في عموم قوله : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } ومعنى وجدوا : علموا ، أي : بإخباره أنه قبل توبتهم ورحمهم.
وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : فائدة ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم بأنهم بتحاكمهم إلى الطاغوت خالفوا حكم الله ، وأساءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فوجب عليهم أن يعتذروا ويطلبوا من الرسول الاستغفار ، أو لمّا لم يرضوا بحكم الرسول ظهر منهم التمرد ، فإذا تابوا وجب أن يظهر منهم ما يزيد التمرد بأن يذهبوا إلى الرسول ويطلبوا منه الاستغفار ، أو إذا تابوا بالتوبة أتوا بها على وجه من الخلل ، فإذا انضم إليها استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم صارت مستحقة.
والآية تدل على قبول توبة التائب لأنه قال بعدها : { لوجدوا الله } وهذا لا ينطبق على ذلك الكلام إلا إذا كان المراد من قوله : { تواباً رحيماً } قبول توبته انتهى.
وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال : قدم علينا أعرابي بعدما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبره وحثا من ترابه على رأسه ثم قال :
يا خير من دفنت في الترب أعظمه . . .
فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه . . .
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم قال : قد قلت : يا رسول الله فسمعنا قولك ، ووعيت عن الله فوعينا عنك ، وكان فيما أنزل الله عليك ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك الآية ، وقد ظلمت نفسي وجئت أستغفر الله ذنبي ، فاستغفر لي من ربي ، فنودي من القبر أنه قد غفر لك.
{ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } قال مجاهد وغيره : نزلت فيمن أراد التحاكم إلى الطاغوت.
ورجحه الطبري لأنه أشبه بنسف الآيات.
وقيل : في شأن الرجل الذي خاصم الزبير في السقي بماء الحرة ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :

« اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك » فغضب وقال : « إن كان ابن عمتك ، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم واستوعب للزبير حقه فقال : احبس يا زبير الماء حتى يبلغ الجدر ، ثم أرسل الماء » والرجل هو من الأنصار بدري.
وقيل : هو حاطب بن أبي بلتعة.
وقيل : نزلت نافية لإيمان الرجل الذي قتله عمر ، لكونه رد حكم النبي صلى الله عليه وسلم ، ومقيمة عذر عمر في قتله ، إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما كنت أظن أنّ عمر يجترىء على قتل رجل مؤمن » وأقسم بإضافة الرب إلى كاف الخطاب تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو التفات راجع إلى قوله : { جاؤوك } ولا في قوله : فلا.
قال الطبري : هي رد على ما تقدم تقديره : فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، ثم استأنف القسم بقوله : وربك لا يؤمنون.
وقال غيره : قدم لا على القسم اهتماماً بالنفي ، ثم كررها بعد توكيداً للتهم بالنفي ، وكان يصح إسقاط لا الثانية ، ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى ، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي ، ويذهب معنى الاهتمام.
وقيل : الثانية زائدة ، والقسم معترض بين حرف النفي والمنفي.
وقال الزمخشري : لا مزيدة لتأكيد معنى القسم ، كما زيدت في لئلا يعلم لتأكيد وجوب العلم.
ولا يؤمنون جواب القسم.
( فإن قلت ) : هلا زعمت أنها زيدت لتظاهر لا في.
لا يؤمنون.
( قلت ) : يأبى ذلك استواء النفي والإثبات فيه ، وذلك قوله : { فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم } انتهى كلامه.
ومثل الآية قول الشاعر :
ولا والله لا يلقى لما بي . . .
ولا للما بهم أبداً دواء
وحتى هنا غاية ، أي : ينتفي عنهم الإيمان إلى هذه الغاية ، فإذا وجد ما بعد الغاية كانوا مؤمنين.
وفيما شجر بينهم عام في كل أمر وقع بينهم فيه نزاع وتجاذب.
ومعنى يحكموك ، يجعلوك حكماً.
وفي الكلام حذف التقدير : فتقضي بينهم.
{ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } أي ضيقاً من حكمك.
وقال مجاهد : شكا لأن الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له البيان.
وقال الضحاك : إثماً أي : سبب إثم.
والمعنى : لا يخطر ببالهم ما يأثمون به من عدم الرضا.
وقيل : هماً وحزناً ، ويسلموا أي ينقادوا ويذعنوا لقضائك ، لا يعارضون فيه بشيء قاله : ابن عباس والجمهور.
وقيل : معناه ويسلموا ما تنازعوا فيه لحكمك ، ذكره الماوردي ، وأكد الفعل بالمصدر على سبيل صدور التسليم حقيقة ، وحسَّنه كونه فاصلة.
وقرأ أبو السمال : فيما شجر بسكون الجيم ، وكأنه فرَّ من توالي الحركات ، وليس بقوي لخفة الفتحة بخلاف الضمة والكسرة ، فإن السكون بدلهما مطرد على لغة تميم.

{ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم } قالت اليهود لما لم يرض المنافق بحكم الرسول : ما رأينا أسخف من هؤلاء لا يؤمنون بمحمد ويتبعونه ، ويطؤن عقبه ، ثم لا يرضون بحكمه ، ونحن قد أمرنا بقتل أنفسنا ففعلنا ، وبلغ القتل فينا سبعين ألفاً.
فقال ثابت بن قيس : لو كتب ذلك علينا لفعلنا فنزلت.
وروي هذا السبب بألفاظ متغايرة والمعنى قريب.
ومعنى الآية : أنه تعالى لو فرض عليهم أنْ يقتلوا أنفسهم ، إمّا أن يقتل نفسه بيده ، أو يقتل بعضهم بعضاً ، أو أن يخرجوا من ديارهم كما فرض ذلك على بني إسرائيل حين استتيبوا من عبادة العجل لم يطع منهم إلا القليل ، وهذا فيه توبيخ عظيم حيث لا يمتثل أمر الله إلا القليل.
وقال السبيعي : لما نزلت قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « إنّ من أمتي رجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي » قال ابن وهب : الرجل القائل ذلك هو أبو بكر.
وروي عنه أنه قال : لو كتب علينا ذلك لبدأت بنفسي وأهل بيتي.
وذكر النقاش : أنه عمر.
وذكر أبو الليث السمرقندي : أن القائل منهم عمار ، وابن مسعود ، وثابت بن قيس.
والضمير في عليهم قيل : يعود على المنافقين ، أي : ما فعله إلا قليل منهم رياء وسمعة ، وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم.
وقيل : يعود على الناس مؤمنهم ومنافقهم.
وكسر النون مِن أن ، وضم الواو من أو ، أبو عمرو.
وكسرهما حمزة وعاصم ، وضمهما باقي السبعة.
وأن هنا يحتمل أن تكون تفسيرية ، وأن تكون مصدرية على ما قرروا أنَّ أنْ توصل بفعل الأمر.
وفي الآية دليل على صعوبة الخروج من الديار ، إذ قرنه الله تعالى بقتل الأنفس ، وقد خرج الصحابة المهاجرون من ديارهم وفارقوا أهاليهم حين أمرهم الله تعالى بالهجرة ، وارتفع قليل ، على البدل من الواو في فعلوه على مذهب البصريين ، وعلى العطف على الضمير على قول الكوفيين ، وبالرفع قرأ الجمهور.
وقرأ أبيّ ، وابن أي إسحاق ، وابن عامر ، وعيسى بن عمر : إلا قليلاً بالنصب ، ونص النحويون على أن الاختيار في مثل هذا التركيب اتباع ما بعد إلا لما قبلها في الإعراب على طريقة البدل أو العطف ، باعتبار المذهبين اللذين ذكرناهما.
وقال الزمخشري : وقرىء إلا قليلاً بالنصب على أصل الاستثناء ، أو على إلا فعلاً قليلاً انتهى.
إلا ما النصب على أصل الاستثناء فهو الذي وجه الناس عليه هذه القراءة.
وأما قوله : على إلا فعلا قليلاً فهو ضعيف لمخالفة مفهوم التأويل قراءة الرفع ، ولقوله منهم فإنه تعلق على هذا التركيب : لو قلت ما ضربوا زيداً إلا ضرباً قليلاً منهم لم يحسن أن يكون منهم لا فائدة في ذكره.

وضمير النصب في فعلوه عائد على أحد المصدرين المفهومين من قوله : أن اقتلوا أو اخرجوا.
وقال أبو عبد الله الرازي : الكناية في قوله ما فعلوه عائد على القتل والخروج معاً ، وذلك لأن الفعل جنس واحد ، وإن اختلفت صورته انتهى.
وهو كلام غير نحوي.
{ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً } الضمير في : ولو أنهم مختص بالمنافقين ، ولا يبعد أن يكون أول الآية عاماً وآخرها خاصاً.
قال الزمخشري : ما يوعظون به من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته ، والانقياد لما يراه ويحكم به ، لأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى ، لكان خيراً لهم في عاجلهم وآجلهم ، وأشد تثبيتاً لإيمانهم ، وأبعد من الاضطراب فيه.
وقال ابن عطية : ولو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا لكان خيراً لهم ، وتثبيتاً معناه يقيناً وتصديقاً انتهى.
وكلاهما شرح ما يوعظون به بخلاف ما يدل عليه الظاهر.
لأنّ الذي يوعظ به ليس هو اتباع الرسول وطاعته ، وليس مدلول ما يوعظون به اتعظوا وأنابوا ، وقيل : الوعظ هنا بمعنى الأمر أي : ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به فانتهوا عما نهوا عنه.
وقال في ري الظمآن : ما يوعظون به أي : ما يوصون ويؤمرون به من الإخلاص والتسليم.
وقال الراغب : أخبر أنهم لو قبلوا الموعظة لكان خيراً لهم.
وقال أبو عبد الله الرازي : المراد أنهم لو فعلوا ما كلفوا به وأمروا ، وسمي هذا التكليف والأمر وعظاً ، لأن تكاليف الله تعالى مقرونة بالوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، والثواب والعقاب ، وما كان كذلك فإنه يسمى وعظاً.
وقال الماتريدي : وقيل ما يوعظون به من الأمر من القرآن.
وهذه كلها تفاسير تخالف الظاهر ، لأن الوعظ هو التذكار بما يحل بمن خالف أمر الله تعالى من العقاب ، فلموعظ به هي الجمل الدالة على ذلك ، ولا يمكن حمله على هذا الظاهر ، لأنهم لم يؤمروا بأنْ يفعلوا الموعظ به ، وإنما عرض لهم شرح ذلك بما خالف الظاهر ، لأنهم علقوا به بقوله : ما يوعظون ، على طريقة ما يفهم من قولك : وعظتك بكذا ، فتكون الباء قد دخلت على الشيء الموعظ به وهي الجملة الدالة على الوعظ.
أما إذا كان المعنى على أنّ الباء للسببية فيحمل إذ ذاك اللفظ على الظاهر ، ويصح المعنى ، ويكون التقدير : ولو أنهم فعلوا الشيء الذي يوعظون بسببه أي : بسبب تركه.
ودلّ على حذف تركه قوله : ولو أنهم فعلوا.
ويبقى لفظ يوعظون على ظاهره ، ولا يحتاج إلى ما تأولوه.
لكان خيراً لهم : أي يحصل لهم خير الدارين ، فلا يكون أفعل التفضيل.
ويحتمل أن يكونه أي : لكان أنفع لهم من غيره : وأشد تثبيتاً ، لأنه حق ، فهو أبقى وأثبت.
أو لأنّ الطاعة تدعو إلى أمثالها ، أو لأنّ الإنسان يطلب أولاً تحصيل الخير ، فإذا حصله طلب بقاءه.

فقوله : لكان خيراً لهم إشارة إلى الحالة الأولى.
وقوله : وأشد تثبيتاً إشارة إلى الحالة الثانية.
قاله : أبو عبد الله الرازي.
{ وإذاً لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً ولهديناهم صراطاً مستقيماً } قال الزمخشري : وإذا جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : وماذا يكون لهم أيضاً بعد التثبيت؟ فقيل : وإذا لو ثبتوا لآتيناهم.
لأنّ إذا جواب وجزاء انتهى.
وظاهر قول الزمخشري : لأن إذا جواب وجزاء يفهم منه أنها تكون للمعنيين في حال واحد على كل حال ، وهذه مسألة خلاف.
ذهب الفارسي إلى أنها قد تكون جواباً فقط في موضع ، وجواباً وجزاء في موضع نفي ، مثل : إذن أظنك صادقاً لمن قال : أزورك ، هي جواب خاصة.
وفي مثل : إذن أكرمك لمن قال : أزورك ، هي جواب وجزاء.
وذهب الأستاذ أبو عليّ إلى أنها تتقدر بالجواب والجزاء في كل موضع وقوفاً مع ظاهر كلام سيبويه.
والصحيح قول الفارسي ، وهي مسألة يبحث عنها في علم النحو.
والأجر كناية عن الثواب على الطاعة ، ووصفه بالعظم باعتبار الكثرة ، أو باعتبار الشرف.
والصراط المستقيم هو الإيمان المؤدّي إلى الجنة قاله : ابن عطية.
وقيل : هو الطريق إلى الجنة.
وقيل : الأعمال الصالحة.
ولما فسر ابن عطية الصراط المستقيم بالإيمان قال : وجاء ترتيب هذه الآية كذا.
ومعلوم أنَّ الهداية قبل إعطاء الأجر ، لأن المقصد إنما هو تعديد ما كان الله ينعم به عليهم دون ترتيب ، فالمعنى : وكهديناهم قبل حتى يكونوا ممن يؤتى الأجر انتهى.
وأمّا إذا فسرت الهداية إلى الصراط هنا بأنه طريق الجنة ، أو الأعمال الصالحة ، فإنه يظهر الترتيب.
{ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين } قال الكلبي : نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتى ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه فقال : « يا ثوبان ما غير لونك؟ » فقال : يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع ، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك ، واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك هناك ، لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين ، وإنِّي وإن كنت أدخل الجنة كنت في منزل أدنى من منزلك ، وإنْ لم أدخل الجنة فذلك حين لا أراك أبداً.
انتهى قول الكلبي.
وحكي مثل قول ثوبان عن جماعة من الصحابة منهم : عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري ، وهو الذي أري الأذان قال : يا رسول الله ، إذا مت ومتنا ، كنتَ في عليين فلا نراك ولا نجتمع بك ، وذكر حزنه على ذلك ، فنزلت.
وحكى مكي عن عبد الله هذا أنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال : اللهم اعمني حتى لا أرى شيئاً بعده ، فعمي.

والمعنى في مع النبيين : إنه معهم في دار واحدة ، وكل من فيها رزق الرضا بحاله ، وهم بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر ، وإنْ بعد مكانه.
وقيل : المعية هنا كونهم يرفعون إلى منازل الأنبياء متى شاؤوا تكرمة لهم ، ثم يعودون إلى منازلهم.
وقيل : إنّ الأنبياء والصدّيقين والشهداء ينحدرون إلى من أسفل منهم ليتذاكروا نعمة الله ، ذكره المهدوي في تفسيره الكبير.
قال أبو عبد الله الرازي : هذه الآية تنبيه على أمرين من أحوال المعاد : الأول : إشراق الأرواح بأنوار المعرفة.
والثاني : كونهم مع النبيين.
وليس المراد بهذه المعية في الدرجة ، فإنّ ذلك ممتنع ، بل معناه : إن الأرواح الناقصة إذا استكملت علائقها مع الأرواح الكاملة في الدنيا بقيت بعد المفارقة تلك العلائق ، فينعكس الشعاع من بعضها على بعض ، فتصير أنوارها في غاية القوة ، فهذا ما خطر لي انتهى كلامه.
وهو شبيه بما قالته الفلاسفة في الأرواح إذا فارقت الأجساد.
وأهل الإسلام يأبون هذه الألفاظ ومدلولاتها ، ولكن من غلب عليه شيء وحبه جرى في كلامه.
وقوله : مع الذين أنعم الله عليهم ، تفسير لقوله : { صراط الذين أنعمت عليهم } وهم من ذكر في هذه الآية.
والظاهر أن قوله : من النبيين ، تفسير للذين أنعم الله عليهم.
فكأنه قيل : من يطع الله ورسوله منكم ألحقه الله بالذين تقدمهم ممن أنعم عليهم.
قال الراغب : ممن أنعم عليهم من الفرق الأربع في المنزلة والثواب : النبي بالنبي ، والصديق بالصديق ، والشهيد بالشهيد ، والصالح بالصالح.
وأجاز الراغب أن يتعلق من النبيين بقوله : ومن يطع الله والرسول.
أي : من النبيين ومن بعدهم ، ويكون قوله : فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم إشارة إلى الملأ الأعلى.
ثم قال : { وحسن أولئك رفيقاً } ويبين ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم حين الموت « اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى » وهذا ظاهر انتهى.
وهذا الوجه الذي هو عنده ظاهر فاسد من جهة المعنى ، ومن جهة النحو.
أما من جهة المعنى فإنّ الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم ، أخبر الله تعالى أنْ من يطيعه ويطيع رسوله فهو مع من ذكر ، ولو كان من النبيين معلقاً بقوله : ومن يطع الله والرسول ، لكان قوله : من النبيين تفسيراً لمن في قوله : ومن يطع.
فيلزم أن يكون في زمان الرسول أو بعده أنبياء يطيعونه ، وهذا غير ممكن ، لأنه قد أخبر تعالى أنّ محمداً هو خاتم النبيين.
وقال هو صلى الله عليه وسلم : « لا نبي بعدي » وأما من جهة النحو فما قبل فاء الجزاء لا يعمل فيما بعدها ، لو قلت : إنْ تقم هند فعمرو ذاهب ضاحكة ، لم يجز.
واختلفوا في الأوصاف الثلاثة التي بعد النبيين.
فقال بعضهم : كلها أوصاف لموصوف واحد ، وهي صفات متداخلة ، فإنه لا يمتنع في الشخص الواحد أنْ يكون صديقاً وشهيداً وصالحاً.

وقيل : المراد بكل وصف صنف من الناس.
فأما الصديق فهو فعيل للمبالغة كشريب.
فقيل : هو الكثير الصدق ، وقيل : هو الكثير الصدقة.
وللمفسرين في تفسيره وجوه : الأول : أنّ كل من صدق بكل الذي لا يتخالجه فيه شك فهو صديق لقوله تعالى : { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون } الثاني : أفاضل أصحاب الرسول.
الثالث : السابق إلى تصديق الرسول.
فصار في ذلك قدوة لسائر الناس.
وأما الشهيد : فهو المقتول في سبيل الله ، المخصوص بفضل الميتة.
وفرق الشرع حكمهم في ترك الغسل والصلاة ، لأنهم أكرم من أن يشفع فيهم.
وقد تقدم الكلام في كونهم سموا شهداء ، ولكن لفظ الشهداء في الآية يعم أنواع الشهداء الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو عبد الله الرازي : لا يجوز أن تكون الشهادة مفسرة بكون الإنسان مقتول الكافر ، بل نقول : الشهيد فعيل بمعنى فاعل ، وهو الذي يشهد لدين الله تارة بالحجة بالبيان ، وتارة بالسيف والسنان.
فالشهداء هم القائمون بالقسط ، وهم الذين ذكرهم الله في قوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو } والصالح : هو الذي يكون صالحاً في اعتقاده وعمله.
وجاء هذا التركيب على هذا القول على حسب التنزل من الأعلى إلى الأدنى ، إلى أدنى منه.
وفي هذا الترغيب للمؤمنين في طاعة الله وطاعة رسوله ، حيث وعدوا بمرافقة أقرب عباد الله إلى الله ، وأرفعهم درجات عنده.
وقال الراغب : قسم الله المؤمنين في هذه الآية أربعة أقسام ، وجعل لهم أربعة منازل بعضها دون بعض ، وحث كافة الناس أنْ يتأخروا عن منزل واحد منهم : الأول : الأنبياء الذين تمدهم قوة الإلهية ، ومثلهم كمن يرى الشيء عياناً من قريب.
ولذلك قال تعالى : { أفتمارونه على ما يرى } الثاني : الصديقون وهم الذين يزاحمون الأنبياء في المعرفة ، ومثلهم كمن يرى الشيء عياناً من بعيد وإياه عني أمير المؤمنين حين قيل له : هل رأيت الله؟ فقال : ما كنت لأعبد شيئاً لم أره ثم قال : « لم تره العيون بشواهد الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان.
الثالث : الشهداء وهم الذين يعرفون الشيء بالبراهين.
ومثلهم كمن يرى الشيء في المرآة من مكان قريب ، كحال حارثة حيث قال : كأني أنظر إلى عرش ربي ، وإياه قصد النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : » اعبد الله كأنك تراه « الرابع : الصالحون ، وهم الذين يعرفون الشيء باتباعات وتقليدات الراسخين في العلم ، ومثلهم كمن يرى الشيء من بعيد في مرآة.
وإياه قصد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : » اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك « انتهى كلامه.
وهو شبيه بكلام المتصوفة.
وقال عكرمة : النبيون محمد صلى الله عليه وسلم ، والصديقون أبو بكر ، والشهداء عمر وعثمان وعلي ، والصالحون صالحو أمّة محمد صلى الله عليه وسلم انتهى.

وينبغي أن يكون ذلك على طريق التمثيل ، وأما على طريق الحصر فلا ، ولا يفهم من قوله : ومن يطع الله والرسول ظاهر اللفظ من الاكتفاء بالطاعة الواحدة ، إذ اللفظ الدال على الصفة يكفي في العمل في جانب الثبوت حصول ذلك المسمى مرة واحدة لدخول المنافقين فيه ، لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة ، بل يحمل على غير الظاهر بأن تحمل الطاعة على فعل جميع المأمورات ، وترك جميع المنهيات.
{ وحسن أولئك رفيقاً } أولئك : إشارة إلى النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
لم يكتف بالمعية حتى جعلهم رفقاء لهم ، فالمطيع لله ولرسوله يوافقونه ويصحبونه ، والرفيق الصاحب ، سمي بذلك للارتفاق به.
وعلى هذا يجوز أن ينتصب رفيقاً على الحال من أولئك ، أو على التمييز.
وإذا انتصب على التمييز فيحتمل أن لا يكون منقولاً ، فيجوز دخول من عليه ، ويكون هو المميز.
وجاء مفرداً إمّا لأن الرفيق مثل الخليط والصديق ، يكون للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد.
وأمّا لإطلاق المفرد في باب التمييز اكتفاء ويراد به الجمع ، ويحسن ذلك هنا كونه فاصلة ، ويحتمل أن يكون منقولاً من الفاعل ، فلا يكون هو المميز والتقدير : وحسن رفيق أولئك ، فلا تدخل عليه مَن ويجوز أن يكون أولئك إشارة إلى مَن يطع الله والرسول ، وجمع على معنى من ويجوز في انتصاب رفيقاً إلا وجه السابقة.
وقرأ الجمهور : وحسُن بضم السين ، وهي الأصل ، ولغة الحجاز.
وقرأ أبو السمال : وحسْن بسكون السين وهي لغة تميم.
ويجوز : وحُسْن بسكون السين وضم الحاء على تقدير نقل حركة السين إليها ، وهي لغة بعض بني قيس.
قال الزمخشري : وحسن أولئك رفيقاً فيه معنى التعجب ، كأنه قيل : وما أحسن أولئك رفيقاً.
ولاستقلاله بمعنى التعجب وقرئ : وحسْن بسكون السين.
يقول المتعجب.
وحسْنُ الوجه وجهك بالفتح والضم مع التسكين انتهى كلامه.
وهو تخليط ، وتركيب مذهب على مذهب.
فنقول : اختلفوا في فعل المراد به المدح والذم ، فذهب الفارسي وأكثر النحويين إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس فقط ، فلا يكون فاعلاً إلا بما يكون فاعلاً لهما.
وذهب الأخفش والمبرد إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس ، فيجعل فاعلها كفاعلهما ، وذلك إذا لم يدخله معنى التعجب.
وإلى جواز إلحاقه بفعل التعجب فلا يجري مجرى نعم وبئس في الفاعل ، ولا في بقية أحكامهما ، بل يكون فاعله ما يكون مفعولاً لفعل التعجب ، فيقول : لضربت يدك ولضربت اليد.
والكلام على هذين المذهبين تصحيحاً وإبطالاً مذكور في علم النحو.
والزمخشري لم يتبع واحداً من هذين المذهبين ، بل خلط وركب ، فأخذ التعجب من مذهب الأخفش ، وأخذ التمثيل بقوله : وحسن الوجه وجهك ، وحسن الوجه وجهك من مذهب الفارسي.
وأما قوله : ولاستقلاله بمعنى التعجب ، قرىء : وحسْن بسكون السين ، وذكر أن المتعجب يقول : وحسن وحسن ، فهذا ليس بشيء ، لأن الفرّاء ذكر أن تلك لغات للعرب ، فلا يكون التسكين ، ولا هو والنقل لأجل التعجب.

{ ذلك الفضل من الله } الظاهر أن الإشارة إلى كينونة المطيع من النبيين ، ومن عطف عليهم ، لأنه هو المحكوم به في قوله : { فأولئك مع الذين } وكأنه على تقدير سؤال أي : وما الموجب لهم استواؤهم مع النبيين في الآخرة ، مع أن الفرق بينهم في الدنيا بيِّن؟ فذكر أنَّ ذلك بفضله ، لا بوجوب عليه.
ومع استوائهم معهم في الجنة فهم متباينون في المنازل.
وقيل : الإشارة إلى الثواب في قوله أجراً عظيماً.
وقيل : إلى الطاعة.
وقيل : إلى المرافقة.
وقال الزمخشري : إنّ ما أعطى المطيعون من الأجر العظيم ومرافقة المنعم عليهم من الله ، لأنه تفضل به عليهم تبعاً لثوابهم ، وذلك مبتدأ والفضل خبره ، ومِن الله حال ، ويجوز أن يكونَ الفضل صفةً ، والخبر من الله ، ويجوز أن يكونا خبرين على مذهب من يجيز ذلك.
{ وكفى بالله عليماً } لما ذكر الطاعة وذكر جزاء من يطيع أتى بصفة العلم التي تتضمن الجزاء أي : وكفى به مجازياً لمن أطاع.
قال ابن عطية : فيه معنى أن تقول : فشملوا فعل الله وتفضله من الاعتراض عليه ، واكتفوا بعلمه في ذلك وغيره ، ولذلك دخلت الباء على اسم الله تعالى لتدل على الأمر الذي في قوله : وكفى ، انتهى.
وقد بينا فساد قولَ مَن يدّعي أنَّ قولك : كفى بزيد معناه اكتف بزيد عند الكلام على قوله : { وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً } وقال الزمخشري : وكفى بالله عليماً ، بجزاء من أطاعه.
أو أراد فصل المنعم عليهم ، ومزيتهم من الله لأنهم اكتسبوه بتمكينه وتوفيقه ، وكفى بالله عليماً بعباده ، فهو يوفقهم على حسب أحوالهم انتهى.
وهي ألفاظ المعتزلة.
{ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً } مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر طاعته وطاعة رسوله ، وكان من أهم الطاعات إحياء دين الله ، أمر بالقيام بإحياء دينه ، وإعلاء دعوته ، وأمرهم أن لا يقتحموا على عدوهم على جهالة فقال : خذوا حذركم.
فعلمهم مباشرة الحروب.
ولما تقدم ذكر المنافقين ، ذكر في هذه الآية تحذير المؤمنين من قبول مقالاتهم وتثبيطهم عن الجهاد ، فنادى أولاً باسم الإيمان على عادته تعالى إذا أراد أن يأمر المؤمنين أو ينهاهم ، والحذر والحذر بمعنى واحد.
قالوا : ولم يسمع في هذا التركيب الأخذ حذرك لأخذ حذرك.
ومعنى خذ حذرك : أي استعد بأنواع ما يستعد به للقاء من تلقاه ، فيدخل فيه أخذ السلاح وغيره.
ويقال : أخذ حذره إذا احترز من المخوف ، كأنه جعل الحذر آلته التي يتقي بها ويعتصم ، والمعنى : احترزوا من العدو.
ثم أمر تعالى بالخروج إلى الجهاد جماعة جماعة ، وسرية بعد سرية ، أو كتيبة واحدة مجتمعة.
وقرأ الجمهور : فانفِروا بكسر الفاء فبهما.
وقرأ الأعمش : بضمها فيهما ، وانتصاب ثبات وجميعاً على الحال ، ولم يقرأ ثبات فيما علمناه إلا بكسر التاء.

وقال الفراء : العرب تخفض هذه التاء في النصب وتنصبها.
أنشدني بعضهم :
فلما جلاها بالأيام تحيزت . . .
ثباتاً عليها ذلها واكتئابها
ينشد بكسر التاء وفتحها انتهى.
وأوفى أو انفروا للتخيير.
وقال ابن عباس : هذه الآية نسختها.
{ وما كان المؤمنون لينفروا كافة } قيل : وإنما عنى بذلك التخصيص إذ ليس يلزم النفر جماعتهم.
{ وإن منكم لمن ليبطئنّ } الخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن جريج وابن زيد في آخرين : لمن ليبطئن هم المنافقون ، وجعلوا من المؤمنين باعتبار الجنس ، أو النسب ، أو الانتماء إلى الإيمان ظاهراً.
وقال الكلبي : نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه.
وقيل : هم ضعفة المؤمنين.
ويبعد هذا القول قوله : عند مصيبة المؤمنين { قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً } وقوله : { كأن لم تكن بينكم وبينه مودة } ومثل هذا لا يصدر عن مؤمن ، إنما يصدر عن منافق.
واللام في ليبطئن لام قسم محذوف التقدير : للذي والله ليبطئن.
والجملتان من القسم وجوابه صلة لمن ، والعائد الضمير المستكن في ليبطئن.
قالوا : وفي هذه الآية رد على من زعم من قدماء النحاة أنه لا يجوز وصل الموصول بالقسم وجوابه إذا كانت جملة القسم قد عريت من ضمير ، فلا يجوز جاءني الذي أقسم بالله لقد قام أبوه ، ولا حجة فيها لأنّ جملة القسم محذوفة ، فاحتمل أن يكون فيها ضمير يعود على الموصول ، واحتمل أنْ لا يكون.
وما كان يحتمل وجهين لا حجة فيه على تعيين أحدهما ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : { وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم } في قراءة من نصب كلا وخفف ميم لما أي : وأن كلا للذي ليوفينهم على أحسن التخاريج.
وقال ابن عطية : اللام في ليبطئن لام قسم عند الجمهور.
وقيل : هي لام تأكيد بعد تأكيد انتهى.
وهذا القول الثاني خطأ.
وقرأ الجمهور : ليبطئن ، بالتشديد.
وقرأ مجاهد : ليبطئن بالتخفيف.
والقراءتان يحتمل أن يكون الفعل فيهما لازماً ، لأنهم يقولون : أبطأ وبطأ في معنى بطؤ ، ويحتمل أن يكون متعدياً بالهمزة أو التضعيف من بطؤ ، فعل اللزوم المعنى أنه يتثاقل ويثبط عن الخروج للجهاد ، وعلى التعدّي يكون قد ثبط غيره وأشار له بالقعود ، وعلى التعدي أكثر المفسرين.
{ فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله عليّّ إذ لم أكن معهم شهيداً } المصيبة : الهزيمة.
سميت بذلك لما يلحق الإنسان من العتب بتولية الإدبار وعدم الثبات.
ومن العرب من يختار الموت على الهزيمة وقد قال الشاعر :
إن كنت صادقة كما حدثتني . . .
فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل عنهم . . .
ونجا برأس طمره ولجام
عيره بالانهزام وبالفرار عن الأحبة.
وقال آخر في المدح على الثبات في الحرب والقتل فيه :
وقد كان فوت الموت سهلاً فرده . . .
إليه الحفاظ المرء والخلق الوعر
فأثبت في مستنقع الموت رجله . . .
وقال لها من تحت أخمصك الحشر
وقيل : المصيبة القتل في سبيل الله ، سموا ذلك مصيبة على اعتقادهم الفاسد ، أو على أن الموت كله مصيبة كما سماه الله تعالى.
وقيل : المصيبة الهزيمة والقتل.
والشهيد هنا الحاضر معهم في معترك الحرب ، أو المقتول في سبيل الله ، يقوله المنافق استهزاء ، لأنه لا يعتقد حقيقة المشهادة في سبيل الله.

وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)

الفضل هنا : الظفر بالعدو والغنيمة.
وقرأ الجمهور : ليقولن بفتح اللام.
وقرأ الحسن : ليقولن بضم اللام ، أضمر فيه ضمير الجمع على معنى من.
وقرأ ابن كثير وحفص.
كأنْ لم تكن بتاء التأنيث ، والباقون بالياء.
وقرأ الحسن ويزيد النحوي : فأفوزُ برفع الزاي عطفاً على كنت ، فتكون الكينونة معهم والفوز بالقسمة داخلين في التمني ، أو على الاستئناف أي فأنا أفوز.
وقرأ الجمهور : بنصب الزاي ، وهو جواب التمني ، ومذهبُ جمهور البصريين : أنّ النصب بإضمار أن بعد الفاء ، وهي حرف عطف عطفت المصدر المنسبك من أن المضمرة والفعل المنصوب بها على مصدر متوهم.
ومذهب الكوفيين : أنه انتصب بالخلاف ، ومذهب الجرمي : أنه انتصب بالفاء نفسها ، ويا عند قوم للنداء ، والمنادي محذوف تقديره : يا قوم ليتني.
وذهب أبو علي : إلى أن يا للتنبيه ، وليس في الكلام منادى محذوف ، وهو الصحيح.
وكأنْ هنا مخففة من الثقيلة ، وإذا وليتها الجملة الفعلية فتكون مبدوءة بقد ، نحو قوله :
لا يهولنك اصطلاؤك للحر . . .
ب فمحذورها كان قد ألما
أو بلم كقوله : « كان لم يكن » « كأن لم تغن بالأمس » ووجدت في شعر عمار الكلبي ابتداءها في قوله :
بددت منها الليالي شملهم . . .
فكأن لما يكونوا قبل ثم
وينبغي التوقف في جواز ذلك حتى يسمع من لسان العرب.
وقال ابن عطية : وكأنْ مضمنة معنى التشبيه ، ولكنها ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم والخبر ، وإنما تجيء بعدها الجمل انتهى.
وهذا الذي ذكره غير محرر ، ولا على إطلاقه.
أما إذا خفقت ووليها ما كان يليها وهي ثقيلة ، فالأكثر والأفصح أن ترتفع تلك الجملة على الابتداء والخبر ، ويكون اسم كان ضمير شأن محذوفاً ، وتكون تلك الجملة في موضع رفع خبر كان.
وإذا لم ينو ضمير الشأن جاز لها أن تنصب الاسم إذا كان مظهراً ، وترفع الخبر هذا ظاهر كلام سيبويه.
ولا يخص ذلك بالشعر ، فنقول : كأن زيداً قائم.
قال سيبويه : وحدثنا من يوثق به أنه سمع من العرب من يقول : إن عمر المنطلق وأهل المدينة يقرؤون : وأن كلا لما يخففون وينصبون كما قال : كأن ثدييه حقان ، وذلك لأن الحرف بمنزلة الفعل ، فلما حذف من نفسه شيء لم يغير عمله ، كما لم يغير عمل لم يك ، ولم أبل حين حذف انتهى.
فظاهر تشبيه سيبويه أن عمر المنطلق بقوله : كأن ثدييه حقان جواز ذلك في الكلام ، وأنه لا يختص بالشعر.
وقد نقل صاحب رؤوس المسائل : أن كأنْ إذا خفقت لا يجوز إعمالها عند الكوفيين ، وأن البصريين أجازوا ذلك.
فعلى مذهب الكوفيين قد يتمشى قول ابن عطية في أنَّ كانْ المخففة ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم والخبر ، وأما على مذهب البصريين فلا ، لأنها عندهم لا بد لها من اسم وخبر.

والجملة من قوله : كأنْ لم يكن بينكم وبينه مودة اختلف المفسرون فيها ونحن نسرد كلام من وقفنا على كلامه فيها.
فنقول : قال الزمخشري : اعتراض بين الفعل الذي هو ليقولن ، وبين مفعوله وهو يا ليتني ، والمعنى : كأنْ لم يتقدم له معكم مودة ، لأنّ المنافقين كانوا يوادون المؤمنين ويصادقونهم في الظاهر ، وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن.
والظاهر أنه تهكم ، لأنهم كانوا أعدى عدوّ للمؤمنين وأشدهم حسداً لهم ، فكيف يوصفون بالمودة إلا على وجه العكس تهكماً بحالهم؟ وقال ابن عطية : المنافق يعاطي المؤمنين المودة ، ويعاهد على التزام كلف الإسلام ، ثم يتخلف نفاقاً وشكاً وكفراً بالله ورسوله ، ثم يتمنى عندما يكشف الغيب الظفر للمؤمنين.
فعلى هذا يجيء قوله تعالى : كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ، التفاتة بليغة واعتراضاً بين القائل والمقول بلفظ يظهر زيادة في قبح فعلهم.
وقال الزجاج : هذه الجملة اعتراض ، أخبر تعالى بذلك لأنهم كانوا يوادون المؤمنين.
وقال أيضاً ، وتبعه الماتريدي هذا على التقديم والتأخير تقديره : فإنْ أصابتكم مصيبة قال : قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً ، كأنْ لم تكن بينكم وبينه مودة ، ولئن أصابكم فضل من الله.
قال الراغب : وذلك مستقبح ، فإنه لا يفصل بين الجملة وبعض ما يتعلق بجملة أخرى.
وقال أيضاً : وتبعه أبو البقاء : موضع الجملة نصب على الحال كما تقول : مررت بزيد وكان لم يكن بينك وبينه معرفة ، فضلاً عن مودة.
وقال أبو علي الفارسي : هذه الجملة من قول المنافقين الذين أقعدوهم عن الجهاد وخرجوا هم ، كأن لم تكن بينكم وبينه أي : وبين النبي صلى الله عليه وسلم مودة فيخرجكم معهم لتأخذوا من الغنيمة ، ليبغضوا بذلك الرسول إليهم.
وتبع أبو علي في ذلك مقاتلاً.
قال مقاتل : معناه كأنه ليس من أهل ملتكم ولا مودة بينكم ، يريد : أنّ المبطىء قال لمن تخلف عن الغزو من المنافقين وضعفة المؤمنين ، ومن تخلف بإذن كأن لم تكن بينكم وبين محمد مودة فيخرجكم إلى الجهاد ، فتفوزون بما فاز.
وقال أبو عبد الله الرازي : هو اعتراض في غاية الحسن ، لأن من أحب إنساناً فرح عند فرحه ، وحزن عند حزنه ، فإذا قلب القضية فذلك إظهار للعداوة.
فنقول : حكى تعالى عن المنافق سروره وقت نكبة المسلمين ، ثم أراد أن يحكي حزنه عند دولة المسلمين بسبب أنه فاتته الغنيمة ، فقبل أن يذكر الكلام بتمامه ألقى قوله : كأن لم يكن بينكم وبينه ، والمراد التعجب.
كأنه يقول تعالى : انظروا إلى ما يقوله هذا المنافق ، كأنْ لم يكن بينكم وبينه مودة أيها المؤمنون ولا مخالطة أصلاً ، فهذا هو المراد من الكلام.
وقال قتادة وابن جريج : قول المنافق : يا ليتني كنت معهم على معنى الحسد منه للمؤمنين في نيل رغبته.

وتلخص من هذه الأقوال أن هذه الجملة : إمّا أن يكون لها موضع من الإعراب نصب على الحال من الضمير المستكن في ليقولن ، أو نصب على المفعول بيقولن على الحكاية ، فيكون من جملة المقول ، وجملة المقول هو مجموع الجملتين : جملة التشبيه ، وجملة التمني.
وضمير الخطاب للمتخلفين عن الجهاد ، وضمير الغيبة في وبينه للرسول.
وعلى الوجه الأول ضمير الخطاب للمؤمنين ، وضمير الغيبة للقائل.
وإمّا أن لا يكون لها موضع من الإعراب لكونها اعتراضاً في الأصل بين جملة الشرط وجملة القسم وأخرت ، والنية بها التوسط بين الجملتين.
أو لكونها اعتراضاً بين : ليقولن ومعموله الذي هو جملة التمني ، ولبس اعتراضاً يتعلق بمضمون هذه الجملة المتأخرة ، بل يتعلق بمضمون الجملتين ، والضمير الذي للخطاب هو للمؤمنين ، وفي بينه للقائل.
واعترض به بين أثناء الحملة الأخيرة ، ولم يتأخر بعدها وإنْ كان من حيث المعنى متأخراً إذ معناه متعلق بمضمون الجملتين ، لأن معمول القول النية به التقديم ، لكنه حسن تأخيره كونه وقع فاصلة.
ولو تأخرت جملة الاعتراض لم يحسن لكونها ليست فاصلة ، والتقدير : ليقولن يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً كأنْ لم يكن بينكم وبينه مودة ، إذ صدر منه قوله وقت المصيبة : قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً.
وقوله : وقت الغنيمة يا ليتني كنت معهم ، وهذا قول من لم تسبق منه مودة لكم.
وفي الآيتين تنبيه على أنهم لا يعدّون من المنح إلا أغراض الدنيا ، يفرحون بما ينالون منها ، ولا من المحن إلا مصائبها فيتألمون لما يصيبهم منها كقوله تعالى : { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه } الآية.
وتضمنت هذه الجملة أنواعاً من الفصاحة والبديع : دخول حرف الشرط على ما ليس بشرط في الحقيقة في قوله : إن كنتم تؤمنون.
والإشارة في ذلك : خير أولئك الذين يعلم الله ، فأولئك مع الذين ، وحسن أولئك رفيقاً ، ذلك الفضل من الله.
والاستفهام المراد به التعجب في : ألم تر إلى الذين يزعمون.
والتجنيس المغاير في : أن يضلهم ضلالاً ، وفي : أصابتهم مصيبة ، وفي : وقل لهم في أنفسهم قولاً ، وفي : يصدّون عنك صدوداً ، وفي : ويسلموا تسليماً ، وفي : فإنْ أصابتكم مصيبة ، وفي : فأفوز فوزاً عظيماً.
والاستعارة في : فإن تنازعتم ، أصل المنازعة الجذب باليد ، ثم استعير للتنازع في الكلام.
وفي : ضلالاً بعيداً استعار البعد المختص بالأزمنة والأمكنة للمعاني المختصة بالقلوب لدوام القلوب عليها ، وفي : فيما شجر بينهم استعار ما اشتبك وتضايق من الشجر للمنازعة التي يدخل بها بعض الكلام في بعض استعارة المحسوس للمعقول وفي : أنفسهم حرجاً أطلق اسم الحرج الذي هو من وصف الشجر إذا تضايق على الأمر الذي يشق على النفس للمناسبة التي بينهما وهو من الضيق والتتميم ، وهو أن يتبع الكلام كلمة تزيد المعنى تمكناً وبياناً للمعنى المراد وهو في قوله قولاً بليغاً أي : يبلغ إلى قلوبهم ألمه أو بالغاً في زجرهم.

وزيادة الحرف لزيادة المعنى في : من رسول أتت للاستغراق إذ لو لم تدخل لا وهم الواحد.
والتكرار في : استغفر واستغفروا أنفسهم ، وفي أنفسهم واسم الله في مواضع.
والالتفات في : واستغفر لهم الرسول.
والتوكيد بالمصدر في : ويسلموا تسليماً.
والتقسيم البليغ في قوله : من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وإسناد الفعل إلى ما لا يصح وقوعه منه حقيقة في : أصابتكم مصيبة ، وأصابكم فضل.
وجعل الشيء من الشيء وليس منه لمناسبة في قوله : وإن منكم لمن ليبطئن.
والاعتراض على قول الجمهور في قوله : كأن لم يكن بينكم وبينه مودّة.
والحذف في مواضع.

فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)

إدراك الشيء الوصول إليه ونيله.
البرج : الحصن.
وقيل : القصر.
والبروج : منازل القمر ، وكلها من برج إذا ظهر ، ومنه التبرج وهو إظهار المرأة محاسنها ، والبرج في العين اتساعها.
المشيد : المصنوع بالشيد وهو الجص.
يقال : شاد وشيد كرر العين للمبالغة ، ككسرت العود مرة وكسرته في مواضع ، وخرقت الثوب وخرقته إذا كان الخرق منه في مواضع.
فعلى هذا يقال : شاد الجدار.
ومنه قال والشاعر :
شاده مرمراً وجلله كلساً . . .
فللطير في ذراه وكور
والمشيد : المطول المرفوع يقال : شيد وأشاد البناء رفعه وطوّله ، ومنه أشاد الرجل ذكر الرجل إذا رفعه.
الفقه : الفهم.
يقال : فقهت الحديث إذا فهمته ، وفقه الرجل صار فقيهاً.
{ فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة } قيل : نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن أحد.
ويشرون بمعنى يشترون.
والمعنى : أخلصوا الإيمان بالله ورسوله ، ثم جاهدوا في سبيل الله.
وقيل : نزلت في المؤمنين المتخلفين ، ويشرون بمعنى يبيعون ويؤثرون الآجلة على العاجلة ، ويستبدلونها بها أمر الله تعالى بالجهاد من تخلف من ضعفة المؤمنين.
{ ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً } ثم وعد من قاتل في سبيل الله بالأجر العظيم ، سواء استشهد ، أو غلب.
واكتفى في الحالتين بالغاية ، لأن غاية المغلوب في القتال أن يقتل ، وغاية الذي يقتل أن يغلب ويغنم ، فأشرف الحالتين ما بدء به من ذكر الاستشهاد في سبيل الله ، ويليها أنْ يقتل أعداء الله ، ودون ذلك الظفر بالغنيمة ، ودون ذلك أن يغزو فلا يصيب ولا يصاب.
ولفظ الجهاد في سبيل الله يشمل هذه الأحوال ، والأجر العظيم فسر بالجنة.
والذي يظهر أنه مزيد ثواب من الله تعالى مثل كونهم أحياء عند ربهم يرزقون ، لأن الجنة موعود دخولها بالإيمان.
وكان الذي فسره بالجنة ينظر إلى قوله تعالى : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } الآية.
وقرأ الجمهور : فليقاتل بسكون لام الأمر.
وقرأت فرقة : بكسرها على الأصل.
وقرأ الجمهور : فيُقتل مبنياً للمفعول.
وقرأ محارب بن دثار : فيقتل على بناء الفعل للفاعل.
وأدغم يغلب في الفاء أبو عمرو والكسائي وهشام وخلاد بخلاف عنه ، وأظهرها باقي السبعة.
وقرأ الجمهور : نؤتيه بالنون.
وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف : يؤتيه بالياء.
{ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً } هذا الاستفهام فيه حثّ وتحريض على الجهاد في سبيل الله ، وعلى تخليص المستضعفين.
والظاهر أنّ قوله : لا تقاتلون في موضع الحال ، وجوزوا أن يكون التقدير : وما لكم في أنْ لا تقاتلوا ، فلما حذف حرف الجر ، وحذف أنْ ، ارتفع الفعل ، والمستضعفين هو مطعوف على اسم الله أي : وفي سبيل المستضعفين.

وقال المبرد والزجاج : هو معطوف على سبيل الله أي : في سبيل الله ، وفي خلاص المستضعفين.
وقرأ ابن شهاب : في سبيل الله المستضعفين بغير واو عطف.
فإما أن يخرج على إضمار حرف العطف ، وإما على البدل من سبيل الله أي : في سبيل الله سبيل المستضعفين لأنه سبيل الله تعالى.
وأجاز الزمخشري أن يكون : والمستضعفين منصوباً على الاختصاص يعني : واختص من سبيل الله خلاص المستضعفين ، لأن سبيل الله عام في كل خير ، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخير وأخصه انتهى كلامه.
ولا حاجة إلى تكلف نصبه على الاختصاص ، إذ هو خلاف الظاهر.
ويعني بالمستضعفين من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال قريش وأذاهم ، إذ كانوا لا يستطيعون خروجاً ، ولا تطيب لهم على الأذى إقامة.
ومن المستضعفين : عبد الله بن عباس وأمه ، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنجاة للمستضعفين من المؤمنين وسمى منهم : الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة.
وقوله : من الرجال والنساء والولدان تبيين للمستضعفين.
والظاهر أنّ الولدان المراد به الصبيان ، وهو جمع وليد.
قيل : وقد يكون جمع ولد ، كورل وورلان.
ونبه على الولدان تسجيلاً بإفراط ظلم من ظلمهم ، وهم غير مكلفين ليتأذى بذلك آباؤهم ، ولأنهم كانوا يشركون آباءهم في الدعاء طلباً لرحمة الله تعالى ، وتخليصهم من أذى الكفار.
وهم أقرب إلى الإجابة حيث لم تكن لهم ذنوب كما فعل قوم يونس ، وكما هي السنة في خروج الصبيان في الاستسقاء.
وقيل المراد بقوله من الرجال والنساء الأحرار ، وبالولدان العبيد لأنه يطلق على العبد وليد ، وعلى الأمة وليدة وغلب المذكر على المؤنث إذ درج المؤنث في الجمع و { الذين يقولون ربنا أخرجنا } ليس لهم من القوة والمنعة من الظلم إلا بالدعاء والاستنصار بالله تعالى ، والقرية هنا مكة بإجماع.
وتكلموا في جريان الظالم وهو مذكر على القرية وهو مؤنث ، وهذا من واضح النحو.
وقال الزمخشري : لو أنث فقيل : الظالمة ، أو جمع فقيل : الظالمين ، وأجاب عن ذلك وهذا لم يقرأ به ، فيحتاج إلى الكلام فيه.
ولو تعرضنا لما يجوز في العربية في تراكيب القرآن لطال ذلك وخرجنا به عن طريقة التفسير.
ووصف أهلها بالظلم إمّا لإشراكهم ، وإمّا لما حصل منهم من شدة الوطأة على المؤمنين وإذلالهم.
قال ابن عطية : والآية تتناول المؤمنين والأسرى ، وحواضر الشرك إلى يوم القيامة انتهى.
ولما دعوا ربهم أجاب كثيراً منهم في الخروج ، فهاجر بعضهم إلى المدينة ، وفر بعضهم إلى الحبشة ، وبقي بعضهم إلى الفتح.
والجمهور على أنّ الله تعالى استجاب دعاءهم ، فجعل لهم من لدنه خير وليّ وناصر وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فتولاهم أحسن التولي ، ونصرهم أقوى النصر.

ولما خرج من مكة ولى عليهم عتاب بن أسيد وعمره أحد وعشرون سنة ، فرأوا منه الولاية والنصر كما سألوا.
قال ابن عباس : كان ينصف الضعيف من القوي ، حتى كانوا أعز بها من الظلمة.
{ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً } لما أمر تعالى المؤمنين أولاً بالنفر إلى الجهاد ، ثم ثانياً بقوله : { فليقاتل في سبيل الله } ثم ثالثاً على طريق الحث والحض بقوله : { وما لكم لا تقاتلون } أخبر في هذه الآية بالتقسيم أن المؤمن هو الذي يقاتل في سبيل الله ، وأن الكافر هو الذي يقاتل في سبيل الطاغوت ، ليبين للمؤمنين فرق ما بينهم وبين الكفار ، ويقويهم بذلك ويشجعهم ويحرضهم.
وإنّ مَن قاتل في سبيل الله هو الذي يغلب ، لأن الله هو وليه وناصره.
ومن قاتل في سبيل الله الطاغوت فهو المخذول المغلوب.
والطاغوت هنا الشيطان لقوله : فقاتلوا أولياء الشيطان.
وهنا محذوف ، التقدير : فقاتلوا أولياء الشيطان فإنكم تغلبونهم لقوتكم بالله ، ثم علل هذا المحذوف وهو غلبتكم إياهم بأنّ كيد الشيطان ضعيف ، فلا يقاوم نصر الله وتأييده ، وشتان بين عزم يرجع إلى إيمان بالله وبما وعد على الجهاد ، وعزم يرجع إلى غرور وأماني كاذبة.
ودخلت كان في قوله : كان ضعيفاً إشعاراً بأنّ هذا الوصف سابق لكيد الشيطان ، وأنه لم يزل ضعيفاً.
وقيل : هي بمعنى صار أي : صار ضعيفاً بالإسلام.
وقول من زعم : أنها زائدة ، ليس بشيء.
وقال الحسن : أخبرهم أنهم سيظهرون عليهم ، فلذلك كان ضعيفاً.
{ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية } خرّج النسائي في سننه عن ابن عباس : أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا : يا نبيّ الله كنا في عز ونحن مشركون ، فلما آمنا صرنا أذلة.
فقال : إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم ، فلما حوله الله تعالى إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا ، فأنزل الله هذه الآية.
ونحو هذا روي عن قتادة والسدي ومقاتل.
وروي عن ابن عباس أيضاً : نزلت واصفة أحوال قوم كانوا في الزمن المتقدم.
قال أبو سليمان الدمشقي : كأنه يومىء إلى قصة الذين قالوا : { ابعث لنا مليكاً } وقال مجاهد : نزلت في اليهود.
وقال الحسن : في المؤمنين لقوله : يخشون الناس ، أي : مشركي مكة.
والخشية هي ما طبع عليه البشر من المخافة ، لا على المخالفة.
ونحو ما قال الحسن.
قال الزمخشري : قال كعّ فريق منهم لا شكاً في الدين ولا رغبة عنه ، ولكن نفوراً عن الأخطار بالأرواح ، وخوفاً من الموت.
وقال قوم : كان كثير من العرب استحسنوا الدخول في الدين على فرائضه التي قبل القتال من الصلاة والزكاة ونحوها ، والموادعة ، فلما نزل القتال شق ذلك عليهم وجزعوا له ، فنزلت.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لأنه تعالى لما أمر بالقتال حين طلبوه وجب امتثال أمر الله ، فلما كعَّ عنه بعضهم قال تعالى : ألا تعجب يا محمد من ناس طلبوا القتال فأمروا بالموادعة ، فلما كتب عليهم فرق فريق وجزع.
ومعنى كفوا أيديكم : أي عن القتال ، يدل عليه : فلما كتب عليهم القتال.
وقال أبو عبد الله الرازي : لا يقال كفوا إلا للراغبين فيه ، وهم المؤمنون.
وقيل : يريد المنافقين.
وإنما قال : كفوا لأنهم كانوا يظهرون الرغبة فيه انتهى.
وقال أيضاً : ودلت الآية على أن إيجاب الصلاة والزكاة كان مقدماً على إيجاب الجهاد ، وهذا الترتيب هو المطابق لما في العقول ، لأن الصلاة عبارة عن التعظيم لأمر الله ، والزكاة عبارة عن الشفقة على خلق الله.
ولا شك أنهما متقدمان على الجهاد.
والفريق إمّا منافقون ، وإما مؤمنون ، أو ناس في الزمان المتقدم ، أو أسلموا قبل فرض القتال حسب اختلاف سبب النزول.
والناس هنا أهل مكة قاله الجمهور ، أو كفار أهل الكتاب ومشركو العرب.
ولمّا حرف وجوب لوجوب على مذهب سيبويه ، وظرف زمان بمعنى حين على مذهب أبي علي.
وإذا كانت حرفاً وهو الصحيح فجوابه إذا الفجائية ، وإذا كانت ظرفاً فيحتاج إلى عامل فيها فيعسر ، لأنه لا يمكن أن يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها ، ولا يمكن أن يعمل في لما الفعل الذي يليها ، لأنّ لمّا هي مضافة إلى الجملة بعدها.
فقال بعضهم : العامل في لمّا معنى يخشون ، كأنه قيل : جزعوا.
قال : وجزعوا هو العامل في إذا بتقدير الاستقبال.
وهذه الآية مشكلة لأن فيها ظرفين أحدهما : لما مضى ، والآخر : لما يستقبل انتهى.
والذي نختاره مذهب سيبويه في لمّا ، وأنها حرف.
ونختار أنّ إذا الفجائية ظرف مكان يصح أن يجعل خبراً للاسم المرفوع بعده على الابتداء ، ويصح أن يجعل معمولاً للخبر.
فإذا قلت : لما جاء زيد إذا عمرو قائم ، يجوز نصب قائم على الحال.
وإذا حرف يصح رفعه على الخبر ، وهو عامل في إذا.
وهنا يجوز أن يكون إذا معمولاً ليخشون ، ويخشون خبر فريق.
ويجوز أن يكون خبراً ، ويخشون حال من فريق ، ومنهم على الوجهين صفة لفريق.
ومن زعم أنَّ إذا هنا ظرف زمان لما يستقبل فقوله فاسد ، لأنه إن كان العامل فيها ما قبلها استحال ، لأن كتب ماض ، وإذا للمستقبل.
وإن تسومح فجعلت إذا بمعنى إذْ صار التقدير : فلما كتب عليهم القتال في وقت خشية فريق منهم ، وهذا يفتقر إلى جواب لما ، ولا جواب لها.
وإن كان العامل فيها ما بعدها ، احتاجت إلى جواب هو العامل فيها ، ولا جواب لها.
والقول في إذا الفجائية : أهي ظرف زمان؟ أم ظرف مكان؟ أم حرف مذكور في علم النحو؟ والكاف في كخشية الله في موضع نصب.

قيل : على أنه نعت لمصدر محذوف أي : خشية كخشية الله.
وعلى ما تقرر من مذهب سيبويه أنها على الحال من ضمير الخشية المحذوف ، أي : يخشونها الناس أي : يخشون الخشية الناس مشبهة خشية الله.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما محل كخشية الله من الإعراب؟ ( قلت ) : محلها النصب على الحال من الضمير في يخشون ، أي : يخشون الناس مثل أهل خشية الله أي : مشبهين لأهل خشية الله.
أو أشد خشية ، يعني : أو أشد خشية من أهل خشية الله.
وأشد معطوف على الحال.
( فإن قلت ) : لم عدلت عن الظاهر وهو كونه صفة للمصدر ولم تقدره : يخشون خشية الله ، بمعنى مثل ما يخشى الله؟ ( قلت ) : أبى ذلك قوله : أو أشد خشية ، لأنه وما عطف عليه في حكم واحد.
ولو قلت : يخشون الناس أشدّ خشية لم يكن إلا حالاً عن ضمير الفريق ، ولم ينتصب انتصاب المصدر ، لأنك لا تقول : خشي فلان أشد خشية ، فتنصب خشية وأنت تريد المصدر ، إنما تقول : أشد خشية فتجرها ، وإذا نصبتها لم يكن أشد خشية إلا عبارة عن الفاعل حالاً منه ، اللهم إلا أنْ تجعل الخشية خاشية على حد قولهم : جد جده ، فتزعم أن معناه يخشون الناس خشية مثل خشية أشدّ خشية من خشية الله.
ويجوز على هذا أن يكون محل أشدّ مجروراً عطفاً على خشية الله ، يريد : كخشية الله أو كخشية أشدّ خشية منها انتهى كلامه.
وقد يصح نصب خشية ، ولا يكون تمييزاً فيلزم من ذلك ما التزمه الزمخشري ، بل يكون خشية معطوفاً على محل الكاف ، وأشدّ منصوباً على الحال لأنه كان نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال والتقدير : يخشون الناس مثل خشية الله أو خشية أشد منها.
وقد ذكرنا هذا التخريج في قوله تعالى : { أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } وأوضحناه هناك.
وخشية الله مصدر مضاف إلى المفعول ، والفاعل محذوف أي : كخشيتهم الله.
وأو على بابها من الشك في حق المخاطب ، وقيل : للإبهام على المخاطب.
وقيل : للتخيير.
وقيل : بمعنى الواو.
وقيل : بمعنى بل.
وتقدّم نظير هذه الأقوال في قوله : { أو أشد قسوة } ولو قيل أنها للتنويه ، لكان قولاً يعني : أنّ منهم من يخشى الناس كخشية الله ، ومنهم من يخشاهم خشية تزيد على خشيتهم الله.
{ وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب } الظاهر أن القائلين هذا : هم منافقون ، لأن الله تعالى إذا أمر بشيء لا يسأل عن علته من هو خالص الإيمان ، ولهذا جاء السياق بعده : { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } وهذا لا يصدر إلا من منافق.
ولولا للتحضيض بمعنى هلاّ وهي كثيرة في القرآن.

والأجل القريب هنا هو موتهم على فرشهم كذا قاله المفسرون.
وذكر في حرف ابن مسعود : لولا أخرتنا إلى أجل قريب فنموت حتف أنفنا ولا نقتل ، فتسر بذلك الأعداء.
ومن قال : إنه من قول المؤمنين ، فيكونون قد طلبوا التأخير في كتب القتال إلى وقت ظهور الإسلام وكثرته ، وهو بعيد.
لأن لفظ لم رد في صدر أمر الله ، وعدم استسلامهم له مع قولهم : وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك.
وقال الزمخشري : لولا أخرتنا إلى أجل قريب استزادة في مدّة الكف ، واستمهال إلى وقت آخر كقوله : { لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصَّدق } وقال الراغب : وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال ، يجوز أن يكون تفوهوا به ، ويجوز أن يكون اعتقدوه وقالوا في أنفسهم ، فحكى تعالى ذلك عنهم تنبيهاً على أنهم لما استصعبوا ذلك دل استصعابهم على أنهم غير واثقين بأحوالهم.
{ قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى } تقدم الكلام على كون متاع الدنيا قليلاً في قوله : { متاع قليل } وإنما قل : لأنه فان ، ونعيم الآخرة مؤبد ، فهو خير لمن اتقى الله وامتثل أمره في ما أحب ، وفي ما كان شاقاً من قتال وغيره.
وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير : ولا يظلمون بالياء ، وباقي السبعة بالتاء على الخطاب ، وهو التفات أي : لا تنقصون من أجور أعمالكم ومشاق التكاليف أدنى شيء ، فلا ترغبوا عن الأجر.
{ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة } أي : هذا التأخر الذي سألوه لا فائدة فيه ، لأنه لا منجي من الموت سواء أكان بقتل أم بغيره ، فلا فائدة في خور الطبع وحب الحياة.
وتحتمل هذه الجملة أن يكون ذلك تحت معمول قل ، ويحتمل أن يكون إخباراً من الله مستأنفاً بأنه لا ينجو من الموت أحد.
والبروج هنا القصور في الأرض ، قاله : مجاهد ، وابن جريج ، والجمهور.
أو القصور من حديد ، روي عن ابن عباس.
أو قصور في سماء الدنيا مبنية قاله : السدّي.
أو الحصون والآكام والقلاع قاله : ابن عباس.
أو البيوت التي تكون فوق الحصون قاله : بعضهم.
أو بروج السماء التي هي منازل القمر قاله : الربيع أنس ، والثوري ، وحكاه ابن القاسم عن مالك.
وقال : ألا ترى إلى قوله : { والسماء ذات البروج } وجعل فيها بروجاً { ولقد جعلنا في السماء بروجاً } وقال زهير :
ومن هاب أسباب المنية يلقها . . .
ولو رام أسباب السماء بسلم
مشيدة مطولة قاله : أبو مالك ، ومقاتل ، وابن قتيبة ، والزجاج.
أو مطلية بالشيد قاله : أبو سليمان الدمشقي.
أو حصينة قاله : ابن عباس ، وقتادة.
ومن قال : أنها بروج في السماء فلأنها بيض شبهها بالمبيض بالشيد ، ولهذا قال الذي هي قصور بيض في السماء مبنية.
والجزم في يدرككم على جواب الشرط ، وأينما تدل على العموم ، وكأنه قيل : في أي مكان تكونون فيه أدرككم الموت.
ولو هنا بمعنى إن ، وجاءت لدفع توهم النجاة من الموت بتقدير : إن لو كانوا في بروج مشيدة ، ولإظهار استقصاء العموم في أينما.

وقرأ طلحة بن سليمان : يدرككم برفع الكافين ، وخرجه أبو الفتح : على حذف فاء الجواب أي : فيدرككم الموت وهي قراءة ضعيفة.
قال الزمخشري : ويجوز أن يقال : حمل على ما يقع موقع أينما تكونوا ، وهو : أينما كنتم كما حمل ولا ناعب على ما يقع موقع ليسوا مصلحين ، وهو ليسوا بمصلحين.
فرفع كما رفع زهير يقول : لا غائب ما لي ولا حرم.
وهو قول نحوي سيبويهي انتهى.
ويعني : أنه جعل يدرككم ارتفع لكون أينما تكونوا في معنى أينما كنتم ، بتوهم أنه نطق به.
وذلك أنه متى كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ فإنه يجوز في المضارع بعده وجهان : أحدهما : الجزم على الجواب.
والثاني : الرفع.
وفي توجيه الرفع خلاف ، الأصح أنّه ليس الجواب ، بل ذلك على التقديم والتأخير ، والجواب محذوف.
وإذا حذف الجواب فلا بد أن يكون فعل الشرط ماضي اللفظ ، فتخريج هذه القراءة على هذا يأباه كون فعل الشرط مضارعاً.
وحمله على ولا ناعب ليس بجيد ، لأن ولا ناعب عطف على التوهم ، والعطف على لتوهم لا ينقاس.
وقال الزمخشري أيضاً ويجوز أن يتصل بقوله : { ولا تظلمون فتيلاً } أي : لا تنقصون شيئاً مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم حروب أو غيرها.
ثم ابتدأ بقوله : يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ، والوقف على هذا الوجه أينما تكونوا انتهى كلامه.
وهذا تخريج ليس بمستقيم ، لا من حيث المعنى ، ولا من حيث الصناعة النحوية.
أما من حيث المعنى فإنه لا يناسب أن يكون متصلاً بقوله : ولا تظلمون فتيلاً ، لأن ظاهر انتفاء الظلم إنما هو في الآخرة لقوله : { قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى } وأما من حيث الصناعة النحوية فإنه على ظاهر كلامه يدل على أنَّ أينما تكونوا متعلق بقوله : ولا تظلمون ، ما فسره من قوله أي : لا تنقصون شيئماً مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم الحرب أو غيرها ، وهذا لا يجوز ، لأن أينما اسم شرط ، فالعامل فيه إنما هو فعل الشرط بعده.
ولأن اسم الشرط لا يتقدم عليه عامله ، فلا يمكن أن يعمل فيه ، ولا تظلمون.
بل إذا جاء نحو : اضرب زيداً متى جاء ، لا يجوز أن يكون الناصب لمتى اضرب.
فإن قال : يقدّر له جواب محذوف يدل عليه ما قبله وهو : ولا تظلمون ، كما يقدر في اضرب زيداً : متى جاء ، فالتقدير : أينما تكونوا فلا تظلمون فتيلاً أي : فلا ينقص شيء من آجالكم وحذفه لدلالة ما قبله عليه.
قيل له : لا يحذف الجواب إلا إذا كان فعل الشرط بصيغة الماضي ، وفعل الشرط هنا مضارع.
تقول العرب : أنت ظالم إن فعلت ، ولا تقل أنت ظالم إن تفعل.

وقرأ نعيم بن ميسرة : مشيدة بكسر الياء وصفاً لها بفعل فاعلها مجازاً ، كما قال : قصيدة شاعرة ، وإنما الشاعر ناظمها.
{ وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } قال ابن عباس : الضمير للمنافقين واليهود ، وقال الحسن : للمنافقين ، وقال السدي : لليهود.
والظاهر أنه للمنافقين لأن مثل هذا لا يصدر من مؤمن ، واليهود لم يكونوا في طاعة الإسلام حتى يكتب عليهم القتال.
وروي عن ابن عباس : أن الحسنة هنا هي السلامة والأمن ، والسيئة الأمراض والخوف.
وعنه أيضاً : الحسنة الخصب والرخاء ، والسيئة الجدب والغلاء.
وعنه أيضاً : الحسنة السراء ، والسيئة الضراء.
وقال الحسن وابن زيد : الحسنة النعمة والفتح والغنيمة يوم بدر ، والسيئة البلية والشدة والقتل يوم أحد.
وقيل : الحسنة الغنى ، والسيئة الفقر.
والمعنى : أن هؤلاء المنافقين إذا أصابتهم حسنة نسبوها إلى الله تعالى ، وأنها ليست باتباع الرسول ، ولا الإيمان به ، وإنّ تصبهم سيئة أضافوها إلى الرسول وقالوا : هي بسببه ، كما جاء في قوم موسى : { وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } وفي قوم صالح : { قالوا اطيرنا بك وبمن معك } وروى جماعة من المفسرين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة قال اليهود والمنافقون : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه.
{ قل كل من عند الله } أمر الله نبيه أن يخبرهم أنَّ كلاً من الحسنة والسيئة إنما هو من عند الله ، لا خالق ولا مخترع سواه ، فليس الأمر كما زعمتم ، فالله تعالى وحده هو النافع الضار ، وعن إرادته تصدر جميع الكائنات.
{ فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً } هذا استفهام معناه التعجب من هذه المقالة ، وكيف ينسب ما هو من عند الله لغير الله؟ أي أن هؤلاء كانوا ينبغي لهم أن يكونوا ممن يتفهم الأشياء ، ويتوقفون عما يريدون أن يقولوا حتى يعرضوه على عقولهم.
وبالغ تعالى في قلة فهمهم وتعلقهم ، حتى نفى مقاربة الفقه ، ونفى المقاربة أبلغ من نفي الفعل.
وهذا النوع من الاستفهام يتضمن إنكار ما استفهم عن علته ، وأنه ينبغي أن يوجد مقابله.
فإذا قيل : ما لك قائماً ، فهو إنكار للقيام ، ومتضمن أن يوجد مقابله.
وإذا قيل : ما لك لا تقوم ، فهو إنكار لترك القيام ، ومتضمن أن يوجد مقابله.
قيل في قوله : حديثاً ، أي القرآن لو تدبروه لبصرهم في الدين ، وأورثهم اليقين.
وقال ابن بحر : لامهم على ترك التفقه فيما أعلمهم به وأدبهم في كتابه.
ووقف أبو عمرو والكسائي على قوله : فما ، ووقف الباقون على اللام في قوله : فمال ، اتباعاً للخط.
ولا ينبغي تعمد ذلك ، لأن الوقف على فما فيه قطع عن الخبر ، وعلى اللام فيه قطع عن المجرور دون حرف الجر ، وإنما يكون ذلك لضرورة انقطاع النفس.

مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)

{ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } الخطاب عام كأنه قيل : ما أصابك يا إنسان.
وقيل : للرسول صلى الله عليه وسلم ، والمراد غيره.
وقال ابن بحر : هو خطاب للفريق في قوله : { إذا فريق منهم } قال : ولما كان لفظ الفريق مفرداً ، صح أن يخبر عنه بلفظ الواحد تارة ، وبلفظ الجمع تارة.
وعليه قوله :
تفرق أهلاً نابثين فمنهم . . .
فريق أقام واستقل فريق
هذا مقتضى اللفظ.
وأما المعنى بالناس خاصتهم وعامتهم مراد بقوله : ما أصابك من حسنة.
وقال ابن عباس ، وقتادة ، والحسن ، وابن زيد ، والربيع ، وأبو صالح : معنى الآية أنه أخبر تعالى على سبيل الاستئناف والقطع أنَّ الحسنة منه بفضله ، والسيئة من الإنسان بذنوبه ، ومن الله بالخلق والاختراع.
وفي مصحف ابن مسعود : فمن نفسك ، وإنما قضيتها عليك ، وقرأ بها ابن عباس.
وحكى أبو عمرو : أنها في مصحف ابن مسعود ، وأنا كتبتها.
وروي أن ابن مسعود وأبياً قرآ : وأنا قدرتها عليك.
ويؤيد هذا التأويل أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم معناها : « أن ما يصيب الإنسان من المصائب فإنما هو عقوبة ذنوبه » وقالت طائفة : معنى الآية هو على قول محذوف تقديره : فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً؟ يقولون : ما أصابك من حسنة الآية.
والابتداء بقوله : { وأرسلناك } والوقف على قوله : فمن نفسك.
وقالت طائفة : ما أصابك من حسنة فمن الله ، هو استئناف إخبار من الله أنَّ الحسنة منه وبفضله.
ثم قال : وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، على وجه الإنكار والتقدير : وألف الاستفهام محذوفة من الكلام كقوله : { وتلك نعمة تمنها عليّ } أي : وتلك نعمة.
وكذا { بازغاً قال : هذا ربي } على أحد الأقوال ، والعرب تحذف ألف الاستفهام قال أبو خراش :
رموني وقالوا يا خويلد لم ترع . . .
فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
أي : أهم هم.
وحكى هذا الوجه عن ابن الأنباري.
وروى الضحاك عن ابن عباس أن الحسنة هنا ما أصاب المسلمين من الظفر والغنيمة يوم بدر ، والسيئة ما نكبوا به يوم أحد.
وعن عائشة رضي الله عنها : « ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب ، حتى الشوكة يشاكها ، حتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر ».
وقال تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ونعفوا عن كثير }
وقد تجاذبت القدرية وأهل السنة الدلالة من هذه الآيات على مذاهبهم ، فتعلقت القدرية بالثانية وقالوا : ينبغي أن لا ينسب فعل السيئة إلى الله بوجه ، وجعلوا الحسنة والسيئة في الأولى بمعنى الخصب والجدب والغنى والفقر.
وتعلق أهل السنة بالأولى وقالوا : { قل كل من عند الله } عام يدل على أن الأفعال الظاهرة من العباد هي من الله تعالى ، وتأولوا الثانية وهي : مسألة يبحث عنها في أصول الدين.

وقال القرطبي : هذه الآيات لا يتعلق بها إلا الجهال من الفريقين ، لأنّهم بنوا ذلك على أنّ السيئة هي المعصية ، وليست كذلك.
والقدرية قالوا : ما أصابك من حسنة أي : من طاعة فمن الله ، وليس هذا اعتقادهم ، لأن اعتقادهم الذي بنوا عليه مذاهبهم : أنّ الحسنة فعل المحسن ، والسيئة فعل المسيء.
وأيضاً فلو كان لهم فيه حجة لكان يقول : ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة ، لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعاً ، فلا تضاف إليه إلا بفعله لهما لا بفعل غيره ، نص على هذا الإمام أبو الحسن شيث بن ابراهيم بن محمد بن حيدرة في كتابه المسمى بحزّ العلاصم في إفحام المخاصم.
وقال الراغب : إذا تؤمّل مورد الكلام وسبب النزول فلا تعلق لأحد الفريقين بالآية على وجه يثلج صدراً أو يزيل شكاً ، إذ نزلت في قوم أسلموا ذريعة إلى غنى وخصب ينالونه ، وظفر يحصلونه ، فكان أحدهم إذا نابتة نائبة ، أو فاته محبوب ، أو ناله مكروه ، أضاف سببه إلى الرسول متطيراً به.
والحسنة هنا والسيئة كهما في : { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } وفي { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } انتهى.
وقد طعن بعض الملاحدة فقال : هذا تناقض ، لأنه قال : قل كل من عند الله وقال عقيبه : ما أصابك من حسنة الآية.
وقال الراغب : وهذا ظاهر الوهي ، لأن الحسنة والسيئة من الألفاظ المشتركة كالحيوان الذي يقع على الإنسان والفرس والحمار.
ومن الأسماء المختلفة كالعين.
فلو أنّ قائلاً قال : الحيوان المتكلم والحيوان غير المتكلم ، وأراد بالأول الإنسان ، وبالثاني الفرس أو الحمار ، لم يكن متناقضاً.
وكذلك إذا قال : العين في الوجه ، والعين ليس في الوجه ، وأراد بالأولى الجارحة ، وبالثانية عين الميزان أو السحاب.
وكذلك الآية أريد بهما في الأولى غير ما أريد في الثانية كما بيناه انتهى.
والذي اصطلح عليه الراغب بالمشتركة وبالمختلفة ليس اصطلاح الناس اليوم ، لأن المشترك هو عندهم كالعين ، والمختلفة هي المتباينة.
والراغب جعل الحيوان من الأسماء المشتركة وهو موضوع للقدر المشترك ، وجعل العين من الأسماء المختلفة وهو في الاصطلاح اليوم من المشترك.
قال بعض أهل العلم : والفرق بين من عند الله ، ومن الله : أنَّ من عند الله أعم.
يقال : فيما كان برضاه وبسخطه ، وفيما يحصل ، وقد أمر به ونهى عنه ، ولا يقال : هو من الله إلا فيما كان برضاه وبأمره ، وبهذا النظر قال عمر : إنْ أصبت فمن الله ، وإن أخطأت فمن الشيطان انتهى.
وعنى بالنفس هنا المذكورة في قوله : { إن النفس لأمارة بالسوء } وقرأت عائشة رضي الله عنها : فمن نفسك بفتح الميم ورفع السين ، فمن استفهام معناه الإنكار أي : فمن نفسك حتى ينسب إليها فعل المعنى ما للنفس في الشيء فعل.

{ وأرسلناك للناس رسولاً } أخبر تعالى أنه قد أزاح عللهم بإرساله ، فلا حجة لهم لقوله : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } وللناس عام عربهم وعجمهم ، وانتصب رسولاً على الحال المؤكدة.
وجوّز أن يكون مصدراً بمعنى إرسالاً ، وهو ضعيف.
{ وكفى بالله شهيداً } أي مطلعاً على ما يصدر منك ومنهم ، أو شهيداً على رسالتك.
ولا ينبغي لمن كان الله شاهده إلا أن يطاع ويتبع ، لأنه جاء بالحق والصدق ، وشهد الله له بذلك.
وقد تضمنت هذه الآيات من البيان والبديع : الاستعارة في : يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ، وفي : فسوف نؤتيه أجراً عظيماً لما يناله من النعيم في الآخرة ، وفي : سبيل الله ، وفي : سبيل الطاغوت ، استعار الطريق للاتباع وللمخالفة وفي : كفوا أيديكم أطلق كف اليد الذي هو مختص بالإجرام على الإمساك عن القتال.
والاستفهام الذي معناه الاستبطاء والاستبعاد في : وما لكم لا تقاتلون.
والاستفهام الذي معناه التعجب في : ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا.
والتجوز بفي التي للوعاء عن دخولهم في : الجهاد.
والالتفات في : فسوف نؤتيه في قراءة النون.
والتكرار في : سبيل الله ، وفي : واجعل لنا من لدنك ، وفي : يقاتلون ، وفي : الشيطان ، وفي : وإن تصبهم ، وفي : ما أصابك وفي : اسم الله.
والطباق اللفظي في : الذين آمنوا والذين كفروا.
والمعنوي في : سبيل الله طاعة وفي سبيل الطاغوت معصية.
والاختصاص في : إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ، وفي : والآخرة خير لمن اتقى.
والتجوز بإسناد الفعل إلى غير فاعله في : يدرككم الموت ، وفي : إن تصبهم ، وفي : ما أصابك.
والتشبيه في : كخشية.
وإيقاع أفعل التفضيل حيث لا مشاركة في : خير لمن اتقى.
والتجنيس المغاير في : يخشون وكخشية.
والحذف في مواضع.

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)

التبييت قال الأصمعي وأبو عبيدة وأبو العباس : كل أمر قضي بليل ، قيل : قد بيت.
وقال الزجاج : كل أمر مكر فيه أو خيض بليل فقد بيت.
وقال الشاعر :
أتوني فلم أرض ما بيتوا . . .
وكانوا أتوني بأمر نكر
وقال الأخفش : العرب تقول للشيء إذا قدر : بيت.
وقال أبو رزين : بيت ألف.
وقيل : هيىء وزور.
وقيل : قصد ، ومنه قول الشاعر :
لما تبيتنا أخا تميم . . .
أعطى عطاء اللحز اللئيم
أي : قصدنا.
وقيل : التبييت التبديل بلغة طيىء ، قال شاعرهم :
وتبييت قولي عند المليك قاتلك الله عبداً كفوراً . . .
التدبر : تأمل الأمر والنظر في إدباره وما يؤول إليه في عاقبته ، ثم استعمل في كل تأمل.
والدبر : المال الكثير ، سمي بذلك لأنه يبقى للإعقاب وللإدبار قاله : الزجاج وغيره.
الإذاعةُ : إظهار الشيء وإفشاؤه يقال : ذاع ، يذيع ، وأذاع ، ويتعدى بنفسه وبالباء ، فيكون إذ ذاك أذاع في معنى الفعل المجرّد.
قال أبو الأسود :
أذاعوا به في الناس حتى كأنه . . .
بعلياء نار أوقدت بثقوب
الاستنباط : الاستخراج ، والنبط الماء يخرج من البئر أول ما تحفر ، والانباط والاستنباط إخراجه.
وقال الشاعر :
نعم صادقاً والفاعل القائل الذي . . .
إذا قال قولاً انبط الماء في الثرى
وقال ابن الأعرابي : يقال للرّجل إذا كان بعيد العز والمنعة ما يجد عدوه له : نبطاً.
قال كعب :
قريب تراه لا ينال عدوّه . . .
له نبطاً آبى الهوان قطوب
والنبط الذين يستخرجون المياه والنبات من الأرض.
وقال الفراء : نبط مثل استنبط ، ونبط الماء ينبُط بضم الباء وفتحها.
التحريض : الحث.
التنكيل : الأخذ بأنواع العذاب وترديده على المعذب ، وكأنه مأخوذ من النكل وهو : القيد.
الكفل : النصيب ، والنصيب في الخير أكثر استعمالاً.
والكفل في الشر أكثر منه في الخير.
المقيت : المقتدر.
قال الزبير بن عبد المطلب :
وذي ضغن كففت النفس عنه . . .
وكان على إساءته مقيتاً
أي مقتدراً.
وقال السموءل :
ليت شعري واشعرت إذا ما . . .
قربوها منشورة ودعيت
أتى الفصل ثم عليّ إذا حو . . .
سبت أني على الحساب مقيت
وقال أبو عبيدة : المقيت الحاضر.
وقال ابن فارس : المقيت المقتدر ، والمقيت : الحافظ والشاهد.
وقال النحاس : هو مشتق من القوت ، والقوت مقدار ما يحفظ به الإنسان من التلف.
التحية قال عبد الله بن إدريس : هي الملك وأنشد :
أوّم بها أبا قابوس حتى . . .
أنيخ على تحيته بجندي
وقال الأزهري : التحية بمعنى الملك ، وبمعنى البقاء ، ثم صارت بمعنى السلامة. انتهى.
ووزنها تفعلة ، وليس الإدغام في هذا الوزن واجباً على مذهب المازني ، بل يجوز الإظهار كما قالوا : أعيية بالإظهار ، وأعية بالإدغام في جمع عيي.
وذهب الجمهور إلى أنه يجب الإدغام في تحية ، والكلام على المذهبين مذكور في كتب النحو.
{ من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً } قال صلى الله عليه وسلم :

« من أحبني فقد أحب الله » فاعترضت اليهود فقالوا : هذا محمد يأمر بعبادة الله ، وهو في هذا القول مدع للربوبية فنزلت.
وفي رواية : قال المنافقون لقد قارب الشرك.
وفي رواية : قالوا ما يريد هذا الرجل إلا أن يتخذ رباً كما اتخذت النصارى عيسى.
وتعلق الطاعتين لأنّه لا يأمر إلا بما أمر الله به ، ولا ينهى إلا عن ما نهى الله عنه ، فكانت طاعته في ذلك طاعة الله.
ومن تولى بنفاق أو أمر فما أرسلناك هذا التفات ، إذ لو جرى على الرسول لكان فما أرسله.
والحافظ هنا المحاسب على الأعمال ، أو الحافظ للأعمال ، أو الحافظ من المعاصي ، أو الحافظ عن التولي ، أو المسلط من الحفاظ أقوال.
وتتضمن هذه الآية الإعراض عمن تولى ، والترك رفقاً من الله ، وهي قبل نزول القتال.
{ ويقولون طاعة } نزلت في المنافقين باتفاق.
أي : أمرتهم بشيء قالوا طاعة ، أي : أمرنا طاعة ، أو منا طاعة.
قال الزمخشري : ويجوز النصب بمعنى أطعناك طاعة ، وهذا من قول المرتسم سمعاً وطاعة ، وسمع وطاعة ، ونحوه قول سيبويه.
وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال له : كيف أصبحت؟ فيقول : حمداً لله وثناء عليه ، كأنه قال : أمري وشأني حمد الله.
ولو نصب حمد الله وثناء عليه كان على الفعل ، والرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها انتهى.
ولا حاجة لذكر ما لم يقرأ به ولا لتوجيهه ولا لتنظيره بغيره ، خصوصاً في كتابه الذي وضعه على الاختصار لا على التطويل.
{ فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول } أي إذا خرجوا من عندك رووا وسووا أي : طائفة منهم غير الذي تقوله لك يا محمد من إظهار الطاعة ، وهم في الباطن كاذبون عاصون ، فعلى هذا الضمير في تقول عائد على الطائفة ، وهو قول ابن عباس.
وقيل : يعود على الرسول أي : غير الذي تقوله وترسم به يا محمد ، وهو الخلاف والعصيان المشتمل عليه بواطنهم.
ويؤيد هذا التأويل قراءة عبد الله بيت مبيت منهم يا محمد.
وقرأ يحيى بن يعمر يقول : بالياء ، فيحتمل أن يكون الضمير للرسول ، ويكون التفاتاً إذ خرج من ضمير الخطاب في من عندك ، إلى ضمير الغيبة.
ويحتمل أن يعود على الطائفة ، لأنها في معنى القوم أو الفريق ، وخص طائفته بالتبيين لأنه لم يكونوا ليجتمعوا كلهم في دار واحدة ، أو لأنه إخبار عن من علم الله أنه يبقى على كفره ونفاقه.
وأدغم حمزة وأبو عمرو بيت طائفة ، وأظهر الباقون.
{ والله يكتب ما يبيتون } أي : يكتبه في صحائف أعمالهم حسبما تكتبه الحفظة ليجازوا به.
وقال الزجاج : يكتبه في كتابه إليك ، أي : ينزله في القرآن ويعلم به ويطلع على سرهم.

وقيل : يكتب يعلم عبر بالكتابة عن العلم ، لأنه من ثمراتها.
{ فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً } هذا مؤكد لقوله : { ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً } أي لا تحدث نفسك بالانتقام منهم.
وليس المعنى فاعرض عن دعوتهم إلى الإيمان وعن وعظهم.
وقال الضحاك : معنى أعرض عنهم لا تخبر بأسمائهم فيجاهروك بالعداوة بعد المجاملة في القول ، ثم أمره بإدامة التوكل عليه ، هو ينتقم لك منهم ، وهذا أيضاً قبل نزول القتال.
{ أفلا يتدبرون القرآن } قرأ الجمهور : يتدبرون بياء وتاء بعدها على الأصل.
وقرأ ابن محيصن : بإدغام التاء في الدال ، وهذا استفهام معناه الإنكار أي : فلا يتأملون ما نزل عليك من الوحي ولا يعرضون عنه ، فإنه في تدبره يظهر برهانه ويسطع نوره ولا يظهر ذلك لمن أعرض عنه ولم يتأمله.
{ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } الظاهر أن المضمر في فيه عائد على القرآن ، وهذا في علم البيان الاحتجاج النظري ، وقوم يسمونه المذهب الكلامي.
ووجه هذا الدليل أنه ليس من متكلم كلاماً طويلاً إلا وجد في كلامه اختلاف كثير ، إما في الوصف واللفظ ، وإما في المعنى بتناقض أخبار ، أو الوقوع على خلاف المخبر به ، أو اشتماله على ما لا يلتئم ، أو كونه يمكن معارضته.
والقرآن العظيم ليس فيه شيء من ذلك ، لأنه كلام المحيط بكل شيء مناسب بلاغة معجزة فائتة لقوى البلغاء ، وتظافر صدق أخبار ، وصحة معان ، فلا يقدر عليه إلا العالم بما لا يعلمه أحد سواه.
قال ابن عطية : فإن عرضت لأحد شبهة وظن اختلافاً فالواجب أن يتهم نظره ، ويسأل من هو أعلم منه.
وما ذهب إليه بعض الزنادقة المعاندين من أنّ فيه أحكاماً مختلفة وألفاظاً غير مؤتلفة فقد أبطل مقالتهم علماء الإسلام ، وما جاء في القرآن من اختلاف في تفسير وتأويل وقراءة وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وعام وخاص ومطلق ومقيد فليس هو المقصود في الآية ، بل هذه من علوم القرآن الدالة على اتساع معانيه ، وأحكام مبانيه.
وذهب الزجاج إلى أنَّ الضمير في فيه عائد على ما يخبره به الله تعالى مما يبيتون ويسرون ، والمعنى : أنّك تخبرهم به على حد ما يقع ، وذلك دليل على أنه من عند الله غيب من الغيوب.
وفي ذكر تدبر القرآن ردّ على من قال من الرافضة : إن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم.
{ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } روى مسلم من حديث ابن عباس عن عمر : « أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اعتزل نساءه ، فدخل عمر المسجد فسمع الناس يقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فسأله : أطلقت نساءك؟ قال : لا.

فخرج فنادى : ألا إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلق نساءه ، فنزلت «.
وكان هو الذي استنبط الأمر ، وروى أبو صالح عن ابن عباس : أن الرسول كان إذا بعث سرية من السرايا فغلبت ، أو غلبت ، تحدثوا بذلك وأفشوه ولم يصبروا حتى يكون هو المحدث به ، فنزلت.
والضمير في : جاءهم على المنافقين ، قاله ابن عباس والجمهور.
أو على ناس من ضعفة المؤمنين قاله : الحسن والزجاج.
ولم يذكر الزمخشري غيره أو عليهما نقله ابن عطية ، أو على اليهود قاله بعضهم.
والأمر من الأمن أو الخوف فوز السرية بالظفر والغنيمة ، أو الخيبة والنكبة ، فيبادرون بإفشائه قبل أن يخبر الرسول بذلك.
أو ما كان ينزل من الوحي بالوعظ بالظفر ، أو بتخفيف من جهة الكفار ، كان يسر النبي عليه السلام ذلك إليهم فيفشونه ، وكان في ذلك مضرّة على المسلمين ، أو ما يعزم عليه النبي من الوداعة والأمان لقوم ، والخوف الخبر يأتي أنّ قوماً يجمعون للنبي صلى الله عليه وسلم فيخاف المسلمون منهم قاله : الزجاج ، والماوردي ، وأبو سليمان الدمشقي.
وقال ابن عطية : المعنى أنّ المنافقين كانوا يشرئبون إلى سماع ما يسوء النبي صلى الله عليه وسلم في سراياه ، فإذا طرأت لهم شبهة أمن للمسلمين ، أو فتح عليهم ، حقروها وصغروا شأنها انتهى.
والضمير في به عائد على الأمر ، قيل : ويجوز أن يعود على الأمن أو الخوف ، ووحد الضمير لأن ، أو تقتضي أحدهما.
{ ولو ردوه إلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } أي : ولو ردُّوا الأمر الذي بلغهم إلى الرسول وأولي الأمر وهم : الخلفاء الأربعة ومن يجري على سننهم ، قاله : ابن عباس ، أو أبو بكر ، وعمر خاصة ، قاله : عكرمة.
أو أمراء السرايا قاله : السدي ، ومقاتل ، وابن زيد.
أو العلماء من الصحابة قاله : الحسن ، وقتادة ، وابن جريج.
والمعنى : لو أمسكوا عن الخوض فيما بلغهم ، واستقصوا الأمر من الرسول وأولي الأمر ، لعلم حقيقة ذلك الأمر الوارد من له بحث ونظر وتجربة ، فأخبروهم بحقيقة ذلك ، وأنّ الأمر ليس جارياً على أول خبر يطرأ.
قال الزمخشري : هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال والاستبطان للأمور ، كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمن وسلامة أو خوفٍ وخللٍ أذاعوا به ، وكانت إذاعتهم مفسدة.
ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول الله ، وإلى أولي الأمر منهم وهم : كبار الصحابة البصراء بالأمور ، أو الذين كانوا يؤمرون منهم لعلمه ، لعلم تدبير ما أخبروا به الذين يستنبطونه أي : الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها.
وقيل : كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء ، أو على خوف واستشعار ، فيذيعونه فينشر ، فيبلغ الأعداء فتعود إذاعتهم مفسدة ، ولو ردوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمر وفوضوه إليهم ، وكانوا كأن لم يسمعوا لعلمه الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه ، وما يأتون ويدرون فيه.

وقيل : كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئاً من الخبر عن السرايا مظنوناً غير معلوم الصحة فيذيعونه ، فيعود ذلك وبالأعلى المؤمنين.
ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر ، وقالوا : نسكت حتى نسمعه منهم ، ونعلم هل هو مما يذاع أو لا يذاع؟ لعلمه الذين يستنبطونه منهم لعلم صحته ، وهل هو مما يذيع هؤلاء المذيعون وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولي الأمر أي : يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم انتهى كلامه.
وهذه كلها تأويلات حسنة ، وأجراها على نسق الكلام هذا التأويل الأخير وهو : أنّ المعنى إذا طرأ خبر بأمن المسلمين أو خوف ، فينبغي أن لايشاع ، وأن يردّ إلى الرسول وأولي الأمر ، فإنهم يخبرون عن حقيقة الأمر فيعلمه من يسألهم ، ويستخرج ذلك من جهتهم ، لأنّ ما أخبر به الرسول وأولوا الأمر إذ هم مخبرون عنه حق لا شك فيه.
وقال أبو بكر الرازي : في هذه الآية دلالة على وجوب القول بالقياس واجتهاد الرأي في أحكام الحوادث ، لأنه أمر بردّ الحوادث إلى الرسول في حياته إذ كانوا بحضرته ، وإلى العلماء بعد وفاته والغيبة عن حضرته ، والمنصوص عليه لا يحتاج إلى استنباطه ، فثبت بذلك أنَّ من الأحكام ما هو مودع في النص قد كلف الوصول إلى علمه بالاستدلال والاستنباط.
وطوَّل الرازي في هذه المسألة اعتراضاً وانفصالاً واستقرأ من الآية أحكاماً.
قال : ويدل على بطلان قول القائل بالإمامة : لأنه لو كان كل شيء من الأحكام منصوصاً عليه يعرفه الإمام لزال موضع الاستنباط ، وسقط الرد إلى أولي الأمر ، بل كان الواجب الرّد إلى الإمام الذي يعرف صحة ذلك من باطله من جهة النص.
وقال الشيخ جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان بن النقيب وهو جامع كتاب التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير ما نصه في ذلك الكتاب : وقد لاح لي في هذه الآية أنّ في الكلام حذفاً وتقديماً وتأخيراً وأنَّ هذا الكلام متعلق بالذي قبله مردود إليه ، ويكون التقدير : أفلا يتدبرون القرآن ، ولو تدبروه لعلموا أنه من كلام الله ، والمشكل عليهم من متشابهه لو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، لعلمه الذين يستنبطونه منهم يعني : لعلم معنى ذلك المتشابه الذين يستنبطونه منهم من أهل العلم بالكتاب إلا قليلاً ، وهو ما ستأثر الله به من علم كتابه ومكنون خطابه.
ثم قال : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ، والذي حسن لهم ذلك وزينه الشيطان ، ثم التفت إلى المؤمنين فقال : { ولولا فضل الله عليكم } الآية وقد أشار إلى شيء من هذا أبو طالب المكي في كتابه المعروف بقوت القلوب ، وقال : إن قوله : { إلا قليلاً } متصل بقوله { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } وعلى هذا يكون الاستنباط استخراجاً من معنى اللفظ المتشابه بنوع من النظرة والاجتهاد والتفكر انتهى كلامه.

وهو كما ترى تركيب ونظم غير تركيب القرآن ونظمه ، وكثيراً ما يذكر هذا الرجل في القرآن تقديماً وتأخيراً ، وأغرب من ذلك أنه يجعله من أنواع علم البيان ، وأصحابنا وحذاق النحويين يجعلونه من باب ضرائر الأشعار ، وشتان ما بين القولين.
وقرأ أبو السمال : لعلمه بسكون اللام.
قال ابن عطية : وذلك مثل شجر بينهم انتهى.
وليس مثله لأنّ تسكين علم قياس مطرد في لغة تميم ، وشجر ليس قياساً مطرداً ، إنما هو على سبيل الشذوذ.
وتسكين علم مثل التسكين في قوله :
فإن تبله يضجر كما ضجر بازل . . .
من الادم دبرت صفحتاه وغاربه
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً } هذا خطاب للمؤمنين باتفاق من المتأولين قاله : ابن عطية.
قال : والمعنى لولا هداية الله لكم وإرشاده لبقيتم على كفركم وهو اتباع الشيطان.
وقيل : الفضل الرسول.
وقيل : الإسلام.
وقيل : القرآن.
وقيل : في الرحمة أنها الوحي.
وقيل : اللطف.
وقيل : النعمة.
وقيل : التوفيق.
والظاهر أنّ الاستثناء هو من فاعل اتبعتم.
قال الضحاك : هدى الكل منهم للإيمان ، فمنهم من تمكن فيه حتى لم يخطر له قط خاطر شك ، ولا عنت له شبهة ارتياب ، وذلك هو القليل ، وسائر من أسلم من العرب لم يخل من الخواطر ، فلولا فضل الله بتجريد الهداية لهم لضلوا واتبعوا الشيطان ، ويكون الفضل معيناً أي : رسالة محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، لأن الكل إنما هدي بفضل الله على الإطلاق.
وقال قوم : إلا قليلاً إشارة إلى من كان قبل الإسلام غير متبع للشيطان على ملة إبراهيم ، أدركوا بعقولهم معرفة الله ووحدوه قبل أن يبعث الرسول ، كزيد بن عمرو بن نفيل أدرك فساد ما عليه اليهود والنصارى والعرب ، فوحد الله وآمن به ، فعلى هذا يكون استثناء منقطعاً إذ ليس مندرجاً في المخاطبين بقوله : لاتبعتم.
وقال قوم : الاستثناء إنما هو من الاتباع ، فقدره الزمخشري : إلا اتباعاً قليلاً ، فجعله مستثنى من المصدر الدال عليه الفعل وهو لاتبعتم.
وقال ابن عطية : في تقدير أن يكون استثناء من الاتباع قال : أي لاتبعتم الشيطان كلكم إلا قليلاً من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها ، ففسره في الاستثناء بالمتبع فيه ، فيكون استثناء من المتبع فيه المحذوف لا من الاتباع ، ويكون استثناء مفرّعاً ، والتقدير : لاتبعتم الشيطان في كل شيء إلا قليلاً من الأشياء فلا تتبعونه فيه.
فإن كان ابن عطية شرح من حيث المعنى فهو صحيح ، لأنه يلزم من الاستثناء الاتباع القليل أن يكون المتبع فيه قليلاً ، وإن كان شرح من حيث الصناعة النحوية فليس بجيد ، لأن قوله : إلا اتباعاً قليلاً ، لا يرادف إلا قليلاً من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها.

وقال قوم : قوله إلا قليلاً عبارة عن العدم ، يريد : لاتبعتم الشيطان كلكم.
قال ابن عطية : وهذا قول قلق ، وليس يشبه ما حكى سيبويه من قولهم : أرض قلما تنبت كذا ، بمعنى لا تنبته.
لأن اقتران القلة بالاستثناء يقتضي حصولها ، ولكن ذكره الطبري انتهى.
وهذا الذي ذكره ابن عطية صحيح ، ولكن قد جوزه هو في قوله : { ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً } ولم يقلق عنده هناك ولا رده ، وقد رددناه عليه هناك فيطالع ثمة.
وقيل : إلا قليلاً مستثنى من قوله : أذاعوا به ، والتقدير : أذاعوا به إلا قليلاً ، قاله : ابن عباس وابن زيد ، واختاره : الكسائي ، والفراء ، وأبو عبيد ، وابن حرب ، وجماعة من النحويين ، ورجحه الطبري.
وقيل : مستثنى من قوله : لعلمه الذين يستنبطونه منهم ، قاله : الحسن ، وقتادة ، واختاره ابن عيينة.
وقال مكي : ولولا فضل الله عليكم أي : رحمته ونعمته إذ عافاكم مما ابتلى به هؤلاء المنافقين الذين وصفهم بالتبييت ، والخلاف لاتبعتم الشيطان هو خطاب للذين قال لهم : { خذوا حذركم فانفروا ثبات } وقيل : الخطاب عام ، والقليل المستثنى هم أمة الرسول ، لأنهم قليل بالنسبة إلى الكفار.
وفي الحديث الصحيح : « ما أنتم إلا كالرقمة البيضاء في الثور الأسود »
{ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين } قيل : نزلت في بدر الصغرى.
دعا الناس إلى الخروج ، وكان أبو سفيان وعادَ رسول الله صلى الله عليه وسلم اللقاء فيها ، فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت.
فخرج وما معه إلا سبعون لم يلو على أحد ، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده.
ومناسبة هذه الآية هي : أنه لما ذكر في الآيات قبلها تثبيطهم عن القتال ، واستطرد من ذلك إلى أنَّ الموت يدرك كل أحد ولو اعتصم بأعظم معتصم ، فلا فائدة في الهرب من القتال ، وأتبع ذلك بما أتبع من سوء خطاب المنافقين للرسول عليه السلام ، وفعلهم معه من إظهار الطاعة بالقول وخلافها بالفعل ، وبكتهم في عدم تأملهم ما جاء به الرسول من القرآن الذي فيه كتب عليهم القتال ، عاد إلى أمر القتال.
وهكذا عادة كلام العرب تكون في شيء ثم تستطرد من ذلك إلى شيء آخر له به مناسبة وتعلق ، ثم تعود إلى ذلك الأول.
والفاء هنا عاطفة جملة كلام على جملة كلام يليه ، ومن زعم أنّ وجه العطف بالفاء هو أن يكون متصلاً بقوله : { وما لكم لا تقاتلون } أو بقوله : { فسوف يؤتيه أجراً عظيماً } وهو محمول على المعنى على تقدير شرط أي : إن أردت الفوز فقاتل.
أو معطوفة على قوله : { فقاتلوا أولياء الشيطان } فقد أبعد.
وظاهر الأمر أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وحده ، ويؤكده : لا تكلف إلا نفسك.
وحمله الزمخشري على تقدير شرط ، قال : أي إن أفردوك وتركوك وحدك لا تكلف إلا نفسك وحدها أن تقدمها للجهاد ، فإنّ الله هو ناصرك لا الجنود ، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف انتهى.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46