كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت ، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها.
لما كان من الدلائل على القدرة الباهرة وقيل : فسقنا وأحيينا ، معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه. انتهى.
وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : أي أرسل بلفظ الماضي.
لما أسند إلى الله وما يفعله تعالى بقوله : كن ، لا يبقى زماناً ولا جزء زمان ، فلم يأت بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه ، ولأنه فرغ من كل شيء ، فهو قدر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة.
ولما أسند الإثارة إلى الريح ، وهي تؤلف في زمان ، قال : { فتثير } ، وأسند { أرسل } إلى الغائب ، وفي { فسقناه } ، و { فأحيينا } إلى المتكلم ، لأنه في الأول عرف نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال ، ثم لما عرف قال : أنا الذي عرفتني سقت السحاب فأحييت الأرض.
ففي الأول تعريف بالفعل العجيب ، وفي الثاني تذكير بالبعث.
وفسقناه وفأحيينا بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرنا من الفرق بين فتثير وأرسل. انتهى.
وهذا الذي ذكر من الفرق بين أرسل وفتثير لا يظهر.
ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة الروم : { ألله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً } وفي الأعراف { وهو الذي يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته } كيف جاء في الإرسال بالمضارع؟ وإنما هذا من التفنن في الكلام والتصرف في البلاغة.
وأما الخروج من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه فهو من باب الالتفات ، وكذلك ما في الأعراف { سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات } وأما قوله : وما يفعله تعالى إلى آخره ، وكل فعل ، وإن كان أسند إلى غيره مجازاً ، فهو فعله حقيقة ، فلا فرق بين ما يسنده إلى ذاته ، وبين ما يسند إلى غيره ، لأن جميع ذلك هو إيجاده وخلقه.
والنشور ، مصدر نشر : الميت إذا حيي ، قال الأعشى :
حتى يقول الناس مما رأوا . . .
يا عجباً للميت الناشر
والنشور : مبتدأ ، والجار والمجرور قبله في موضع الجر ، والتشبيه وقع لجهات لما قلبت الأرض الميتة الحياة اللائقة بها ، كذلك الأعضاء تقبل الحياة.
أو كما أن الريح يجمع قطع السحاب ، كذلك تجمع أجزاء الأعضاء وأبعاض الأشياء؛ أو كما يسوق الرياح والسحاب إلى البلد الميت ، يسوق الروح والحياة إلى البدن.
{ من كان يريد العزة } : أي المغالبة ، { فالله العزة } : أي ليست لغيره ، ولا تتم إلا به ، والمغالب مغلوب.
ونحا إليه مجاهد و قال : { من كان يريد العزة } بعبادة الأوثان ، وهذا تمثيل لقوله : { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً } وقال قتادة : { من كان يريد العزة } وطريقها القويم ويحب نيلها ، { فالله العزة } : أي به وعن أمره ، لاتنال عزته إلا بطاعته.

وقال الفراء : من كان يريد علم العزة ، { فالله العزة } : أي هو المتصف بها.
وقيل : { من كان يريد العزة } : أي لا يعقبها ذلة ، ويصار بها للذلة.
وقال الزمخشري : كان الكافرون يتعززون بالأصنام ، كما قال عز وجل : { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً } والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين ، كما قال : { الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم فإن العزة لله جميعاً } فبين أن لا عزة إلا لله ولأوليائه وقال : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } انتهى.
ولا تنافي بين قوله : { فإن العزة لله جميعاً } وإن كان الظاهر أنها له لا لغيره ، وبين قوله { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } وإن كان يقتضى الاشتراك ، لأن العزة في الحقيقة لله بالذات ، وللرسول بواسطة قربه من الله ، وللمؤمنين بواسطة الرسول.
فالمحكوم عليه أولاً غير المحكوم عليه ثانياً.
ومن اسم شرط ، وجملة الجواب لا بد أن يكون فيها ضمير يعود على اسم الشرط إذا لم يكن ظرفاً ، والجواب محذوف تقديره على حسب تلك الأقوال السابقة.
فعلى قول مجاهد : فهو مغلوب ، وعلى قول قتادة : فيطلبها من الله ، وعلى قول الفراء : فلينسب ذلك إلى الله ، وعلى القول الرابع : فهو لا ينالها؛ وحذف الجواب استغناء عنه بقوله : { فللََّه العزة جميعاً } ، لدلالته عليه.
والظاهر من هذه الأقوال قول قتادة : فليطلبها من العزة له يتصرف فيها كما يريد ، كما قال تعالى : { وتعز من تشاء وتذل من تشاء } وانتصب جميعاً على المراد ، والمراد عزة الدنيا وعزة الآخرة.
و { الكلم الطيب } : التوحيد والتحميد و ذكر الله ونحو ذلك.
وقال ابن عباس : شهادة أن لا إله إلا الله.
وقيل : ثناء بالخير على صالحي المؤمنين.
وقال كعب : إن لسبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر لدوياً حول العرش كدوي النحل بذكر صاحبها.
وقرأ الجمهور : { يصعد } ، مبنياً للفاعل من صعد؛ { الكلم الطيب } : مرفوعاً ، فالكلم جمع كلمة.
وقرأ علي ، وابن مسعود ، والسلمي ، وإبراهيم : يصعد من أصعد ، الكلام الطيب على البناء للمفعول. انتهى.
وقرأ زيد بن علي : يصعد من صعد الكلام : رقي ، وصعود الكلام إليه تعالى مجاز في الفاعل وفي المسمى إليه ، لأنه تعالى ليس في جهة ، و لأن الكلم ألفاظ لا توصف بالصعود ، لأن الصعود من الاجرام يكون ، وإنما ذلك كناية عن القبول ، ووصفه بالكمال.
كما يقال : علا كعبة وارتفاع شأنه ، ومنه ترافعوا إلى الحاكم ، ورفع الأمر إليه ، وليس هناك علو في الجهة.
وقرأ الجمهور : والعمل الصالح يرفعهما.
فالعمل مبتدأ ، ويرفعه الخبر ، وفاعل يرفعه ضمير يعود على العمل الصالح ، وضمير النصب يعود على الكلم ، أي يرفع الكلم الطيب ، قاله ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد والضحاك.
وقال الحسن : يعرض القول على الفعل ، فإن وافق القول الفعل قبل ، وإن خالف رد.
وعن ابن عباس نحوه ، قال : إذ اذكر الله العبد وقال كلاماً طيباً وأدّى فرائضه ، ارتفع قوله مع عمله؛ وإذا قال ولم يؤدّ فرائضه ، رد قوله على عمله؛ وقيل : عمله أولى به.

قال ابن عطية : وهذا قول يرده معتقد أهل السنة ، ولا يصح عن ابن عباس.
والحق أن القاضي لفرائضه إذ ذكر الله وقال كلاماً طيباً ، فإنه مكتوب له متقبل ، وله حسناته وعليه سيئآته ، والله يتقبل من كل من اتقى الشرك.
وقال أبو صالح ، وشهر بن حوشب عكس هذا القول : ضمير الفاعل يعود على الكلم ، وضمير النصب على العمل الصالح ، أي يرفعه الكلم الطيب.
وقال قتادة : إن الفاعل هو ضمير يعود على الله ، والهاء للعمل الصالح ، أي يرفعه الله إليه ، أي يقبله.
وقال ابن عطية : هذا أرجح الأقوال.
وعن ابن عباس : والعمل الصالح يرفع عامله ويشرفه ، فجعله على حذف مضاف.
ويجوز عندي أن يكون العمل معطوفاً على الكلم الطيب ، أي يصعدان إلى الله ، ويرفعه استئناف إخبار ، أي يرفعهما الله ، ووحد الضمير لاشتراكهما في الصعود ، والضمير قد يجري مجرى اسم الإشارة ، فيكون لفظه مفرداً ، والمراد به التثنية ، فكأنه قيل : ليس صعودهما من ذاتهما ، بل ذلك برفع الله إياهما.
وقرأ عيس ، وابن أبي عبلة : والعمل الصالح ، بنصبهما على الاشتغال ، فالفاعل ضمير الكلم أو ضمير الله ، ومكر لازم ، والسيئات نعت لمصدر محذوف ، أي المكرات السيئات ، أو المضاف إلى المصدر ، أي أضاف المكر إلى السيئات ، أو ضمن يمكرون معنى ، يكتسبون ، فنصب السيئات مفعولاً به.
وإذا كانت السيئات نعتاً لمصدر ، أو لمضاف لمصدر ، فالظاهر أنه عنى به مكرات قريش في دار الندوة ، إذ تذاكروا إحدى ثلاث مكرات ، وهي المذكورة في الأنفال : إثباته ، أو قتله ، أو إخراجه؛ و { أولئك } إشارة إلى الذين مكروا تلك المكرات.
{ يبور } : أي يفسد و يهلك دون مكر الله بهم ، إذ أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر ، فجمع عليهم مكراتهم جميعاً وحقق فيهم قوله : { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } وقوله : { ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله } وهو مبتدأ ، أو يبور خبره ، والجملة خبر عن قوله : { ومكر أولئك }.
وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يكون هو فاصلة ، ويبور خبر ، ومكر أولئك والفاصلة لا يكون ما يكون ما بعدها فعلاً ، ولم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمناه إلا عبد القاهر الجرجاني في شرح الإيضاح له ، فإنه أجاز في كان زيد هو يقوم أن يكون هو فصلاً وردّ ذلك عليه.
{ والله خقلكم من تراب } : من حيث خلق أبينا آدم.
{ ثم من نطفة } : أي بالتناسل.
{ ثم جعلكم أزواجاً } : أي أصنافاً ذكراناً واناثاً ، كما قال : { أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً } وقال قتادة : قدّر بينكم الزوجية ، وزوّج بعضكم بعضاً ، ومن في { من معمر } زائدة ، وسماه بما يؤول إليه ، وهو الطويل العمر.
والظاهر أن الضمير في { من عمره } عائد على معمر لفظاً ومعنى.

وقال ابن عباس وغيره : يعود على معمر الذي هو اسم جنس ، والمراد غير الذي يعمر ، فالقول تضمن شخصين : يعمر أحدهما مائة سنة ، وينقص من الآخر.
وقال ابن عباس أيضاً ، وابن جبير ، وأبو مالك : المراد شخص واحد ، أي يحصي ما مضى منه إذ مر حول كتب ذلك ثم حول ، فهذا هو النقص ، وقال الشاعر :
حياتك أنفاس تعدّ فكلما . . .
مضى نفس منك انتقصت به جزءا
وقال كعب الاحبار : معنى { ولا ينقص من عمره } : لا يخترم بسببه قدره الله ، ولو شاء لأخر ذلك السبب.
وروي أنه قال ، لما طعن عمر رضي الله عنه : لو دعا الله لزاد في أجله ، فأنكر المسامون عليه ذلك وقالوا : إن الله تعالى يقول : { فإذا جاء أجهلم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } فاحتج بهذه الآية.
قال ابن عطية : وهو قول ضعيف مردود يقتضي القول بالأجلين ، وبنحوه تمسك المعتزلة.
وقرأ الجمهور : ولا ينقص ، مبنياً للمفعول.
وقرأ يعقوب ، وسلام ، وعبد الوارث ، وهارون ، كلاهما عن أبي عمرو : و لا ينقص ، مبنياً للفاعل.
وقرأ الحسن : { من عمر إلا في كتاب }.
قال ابن عباس : هو اللوح المحفوظ.
وقال الزمخشري : يجوز أن يراد كتاب الله علم الله ، أو صحيفة الإنسان. انتهى.
{ وما يستوي البحران } : هذه آية أخرى يستدل بها على كل عاقل أنه مما لا مدخل لصنم فيه.
وتقدم شرح : { هذا عذب فرات } وشرح : { وهذا ملح أجاج } في سورة الفرقان.
وهنا بين القسمين صفة للعرب ، وبين قوله : { سائغ شرابه }.
وقرأ الجمهور : سائغ ، اسم فاعل من ساغ.
وقرأ عيسى : سيغ على وزن فيعل ، كميت؛ وجاء كذلك عن أبي عمرو وعاصم.
وقرأ عيسى أيضاً : سيغ مخففاً من المشدد ، كميت مخفف ميت.
وقرأ الجمهور : ملح ، وأبو نهيك وطلحة : بفتح الميم وكسر اللام ، وقال أبو الفضل الرازي : وهي لغة شاذة ، ويجوز أن يكون مقصوراً من مالح ، فحذف الألف تخفيفاً.
وقد يقال : ماء ملح في الشذوذ ، وفي المستعمل : مملوح.
وقال الزمخشري : ضرب البحرين ، العذب والملح ، مثلين للمؤمن والكافر.
ثم قال على صفة الاستطراد في صفة البحرين وما علق بها : من نعمته وعطائه.
{ ومن كل } ، من شرح الزمخشري : ألفاظاً من الآية تكررت في سورة النحل.
ثم قال : ويحتمل غير طريقة الاستطراد ، وهو أن يشبه الجنسين بالبحرين ، ثم يفضل البحر الأجاج على الكافر ، بأنه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ ، وجرى الفلك فيه.
وللكافر خلو من النفع ، فهو في طريقة قوله تعالى : { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك } الآية. انتهى.
{ لتبتغوا من فضله } : يريد التجارات والحج والغزو ، أو كل سفر له وجه شرعي.
{ يولج الليل في النهار } : تقدم شرح هذه الجمل.
ولما ذكر أشياء كثيرة تدل على قدرته الباهرة ، من إرسال الرياح ، والإيجاد من تراب وما عطف عليه ، وإيلاج الليل في النهار ، وتسخير الشمس والقمر؛ أشار إلى أن المتصف بهذه الأفعال الغريبة هو الله فقال : { ذلكم الله ربكم له الملك } ، وهي أخبار مترادفة؛ والمبتدأ { ذلكم } ، و { الله ربكم } خبران ، و { له الملك } جملة مبتدأ في قران قوله : { والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير }.

قال الزمخشري : ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله صفة لاسم الإشارة وعطف بيان ، وربكم خبر ، لولا أن المعنى يأباه. انتهى.
أما كونه صفة ، فلا يجوز ، لأن الله علم ، والعلم لا يوصف به ، وليس اسم جنس كالرجل ، فتتخيل فيه الصفة.
وأما قوله : لولا أن المعنى يأباه ، فلا يظهر أن المعنى يأباه ، لأنه يكون قد أخبر بأن المشار إليه بتلك الصفات والأفعال المذكورة ربكم ، أي مالكم ، أو مصلحكم ، وهذا معنى لائق سائغ ، والذين يدعون من دونه هي الأوثان.
وقرأ الجمهور : تدعون ، بتاء الخطاب ، وعيسى ، وسلام ، ويعقوب : بياء الغيبة.
وقال صاحب الكامل أبو القاسم بن جبارة : يدعون بالياء ، اللؤلؤي عن أبي عمرو وسلام ، والنهاوندي عن قتيبة ، وابن الجلاء عن نصير ، وابن حبيب وابن يونس عن الكسائي ، وأبو عمارة عن حفص.
والقطمير ، تقدم شرحه.
وقال جويبر عن رجاله ، والضحاك : هو القمع الذي في رأس التمرة.
وقال مجاهد : لفافة النواة؛ وقيل : الذي بين قمع التمرة والنواة؛ وقيل : قشر الثوم؛ وأياً ما كان ، فهو تمثيل للقليل ، وقال الشاعر :
وأبوك يخفف نعله متوركاً . . .
ما يملك المسكين من قطمير
{ لا يسمعوا دعاءكم } ، لأنهم جماد؛ { ولو سمعوا } ، هذا على سبيل الفرض؛ { ما استجابوا لكم } ، لأنهم لا يدعون لهم من الإلهية ، يتبرؤون منها.
وقيل : ما نفعوكم ، وأضاف المصدر : في شرككم ، أي بإشراككم لهم مع الله في عبادتكم إياهم كقوله : { ما كنتم إيانا تعبدون } فهي إضافة إلى الفاعل.
وقوله : { يكفرون } ، يحتمل أن يكون بما يظهر هنالك من جمودها وبطئها عند حركة ناطق ، ومدافعة كل محتج ، فيجيء هذا على طريق التجوز ، كقول ذي الرمة :
وقفت على ربع لمية ناطق . . .
تخاطبني آثاره وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه . . .
تكلمني أحجاره وملاعبه
{ ولا ينبئك مثل خبير } ، قال قتادة وغيره من المفسرين : الخبير هنا أراد به تعالى نفسه ، فهو الخبير الصادق الخبر ، نبأ بهذا ، فلا شك في وقوعه.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون قوله : { ولا ينبئك مثل خبير } من تمام ذكر الأصنام ، كأنه قال : فلا يخبرك مثل من يخبرك عن نفسه ، أي لا يصدق في تبرئها من شرككم منها ، فيريد بالخبير على هذا المثل لهما ، كأنه قال : ولا ينبئك مثل خبير عن نفسه ، وهي قد أخبرت عن نفسها بالكفر بهؤلاء.
وقال الزمخشري : لا يخبرك بالأمر مخبر ، هو مثل خبير عالم به ، يريد أن الخبير بالأمر هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به.
والمعنى : أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق ، لأني خبير بما أخبر به.
وقال في التجريد : يحتمل وجهين : أن يكون ذلك خطاباً للرسول لما أخبر بأن الخشب والحجر يوم القيامة ينطق ويكذب عابده ، وهو أمر لا يعلم بالعقل المجرد لولا إخبار الله عنه ، قال تعالى : { إنهم بربهم يكفرون } ، أي يكفرون بهم يوم القيامة ، وهذا القول مع كون المخبر عنه أمراً عجيباً هو كما قال ، لأن المخبر عنه خبير.
والثاني : أن يكون خطاباً ليس مختصاً بأحد ، أي هذا الذي ذكر هو كما ذكر ، لا ينبئك أيها السامع كائناً من كنت مثل خبير.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)

هذه آية موعظة وتذكير ، وأن جميع الناس محتاجون إلى إحسان الله تعالى وإنعامه في جميع أحوالهم ، لا يستغنى أحد عنه طرفة عين ، وهو الغني عن العالم على الإطلاق.
وعرّف الفقراء ليريهم شديد افتقارهم إليه ، إذ هم جنس الفقراء ، وإن كان العالم بأسره مفتقر إليه ، فلضعفهم جعلوا كأنهم جميع هذا الجنس؛ ولو نكر لكان المعنى : أنتم ، يعني الفقراء ، وقوبل الفقراء بالغني ، ووصف بالحميد دلالة على أنه جواد منعم ، فهو محمود على ما يسديه من النعم ، مستحق للحمد.
ولما ذكر أنه الغني على الإطلاق ، ذكر ما يدل على استغنائه عن العالم ، وأنه ليس بمحتاج إليهم فقال : { إن يشأ يذهبكم } : أي إن يشأ إذهابكم يذهبكم ، وفي هذا وعيد بإهلاكهم.
{ وما ذلك } : أي إذهابكم ، والإتيان بخلق جديد { بعزيز } ، أي بممتنع عليه ، إذ هو المتصف بالقدرة التامة ، فلا يمتنع عليه شيء مما يريده.
ومعنى : { بخلق جديد } : بدلكم لقوله : { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم } وعن ابن عباس : يخلق بعدكم من يعبده ، لا يشرك به شيئاً.
وقد جاء هذا المعنى من ذكر الإذهاب بعد وصفه تعالى بالغني في قوله تعالى : { وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء } وجاء أيضاً تعليق الإذهاب مختوماً آخر الآية بذكر القدرة الدالة على ذلك في قوله : { إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديراً } روي أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين : اكفروا بمحمد وعليّ وزركم ، فنزلت.
وأخبر تعالى ، لا يحمله أحد عن أحد.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : هذه الآية في الذنوب والجرائم.
ويقال : وزر الشيء : حمله ، ووازرة : صفة لمحذوف ، أي نفس وازرة : حاملة ، وذكر الصفة ولم يذكر الموصوف مقتصراً عليه ، لأن المعنى : أن كل نفس لا ترى إلا حامله وزرها ، لا وزر غيرها ، فلا يؤاخذ نفساً بذنب نفس ، كما يأخذ جبابرة الدنيا الجار بالجار ، والصديق بالصديق ، والقريب بالقريب.
وقال ابن عطية : ومن تطرف من الحكام إلى أخذ قريب بقريبه في جريمه ، كفعل زياد ونحوه ، فإنما ذلك ظلم ، لأن المأخوذ ربما أعان المجرم بموازرة ومواصلة ، أو اطلاع على حاله وتقرير لها ، فهو قد أخذ من الجرم بنصيب. انتهى.
وكأن ابن عطية تأول أفعال زياد وما فعل في الإسلام ، وكانت سيرته قريبة من سيرة الحجاج ، ولا منافاة بين هذه الآية في العنكبوت ، لأن تلك في الضالين المضلين يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم ، فكل ذلك أثقالهم ، ما فيها من ثقل غيرهم شيء.
ألا ترى : { وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء } { وإن تدع مثقلة } : أي نفس مثقلة بحملها ، { إلى حملها لا يحمل منه شيء } : أي لا غياث يومئذ لمن استغاث ، ولا إعانة حتى أن نفساً قد أثقلتها الأوزار لو دعت إلى أن يخفف بعض وزرها لم تجب وإن كان المدعو بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ فالآية قبلها في الدلالة على عدل الله في حكمه وأنه لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها وهذه في نفي الإعانة والحمل ما كان على الظهر في الأجرام فاستعير للمعاني كالذنوب ونحوها فيجعل كل محمول متصلاً بالظهر كقوله :

{ وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } كما جعل كل اكتساب منسوباً إلى اليد.
وقرأ الجمهور : يحمل بالياء ، مبنياً للمفعول؛ وأبو السمال عن طلحة ، وإبراهيم بن زادان عن الكسائي : بفتح التاء من فوق وكسر الميم ، وتقتضي هذه القراءة نصب شيء ، كما اقتضت قراءة الجمهور رفعه ، والفاعل بيحمل ضمير عائد على مفعول تدع المحذوف ، أي وإن تدع مثقلة نفساً أخرى إلى حملها ، لم تحمل منه شيئاً.
واسم كان ضمير يعود على المدعو المفهوم من قوله : { وإن تدع } ، هذا معنى قول الزمخشري ، قال : وترك المدعو ليعم ويشمل كل مدعو.
قال : فإن قلت : فكيف استفهام إضمار ، ولا يصح أن يكون العام ذا قربى للمثقل؟ قلت : هو من العموم الكائن على طريق البلد. انتهى.
وقال ابن عطية : واسم كان مضمر تقديره ولو كان.
انتهى ، أي ولو كان الداعي ذا قربى من المدعو ، فإن المدعو لا يحمل منه شيئاً.
وذكر الضمير حملاً على المعنى ، لأن قوله : { مثقلة } ، لا يريد به مؤنث المعنى فقط ، بل كل شخص ، فكأنه قيل : وإن تدع شخصاً مثقلاً.
وقرىء : ولو كان ذو قربى ، على أن كان تامة ، أي ولو حضر إذا ذاك ذو قربى ودعته ، لم يحمل منه شيئاً.
وقالت العرب : قد كان لبن ، أي حضر وحدث.
وقال الزمخشري : نظم الكلام أحسن ملاءمة للناقصة ، لأن المعنى : على أن المثقلة إذا دعت أحداً إلى حملها لا يحمل منه ، وإن كان مدعوها ذا قربى ، وهو معنى صحيح ملتئم.
ولو قلت : ولو وجد ذو قربى ، لتفكك وخرج عن اتساقه والتئامه. انتهى.
وهو نسق ملتئم على التقدير الذي ذكرناه ، وتفسيره كان ، وهو مبني للفاعل ، يؤخذ المبني للمفعول تفسير معنى ، وليس مرادفاً ومرادفه ، حدث أو حضر أو وقع ، هكذا فسره النحاة.
ولما سبق ما تضمن الوعيد وبعض أهوال القيامة ، كان ذلك إنذاراً ، فذكر أن الإنذار إنما يجدي وينفع من يخشى الله.
{ بالغيب } : حال من الفاعل أو المفعول ، أي يخشون ربهم غافلين عن عذابه ، أو يخشون عذابه غائباً عنهم.
وقيل : بالغيب في السر ، وقيل : بالغيب ، أي وهو بحال غيبه عنهم إنما هي رسالة.
وقرأ الجمهور : { ومن تزكى } ، فعلاً ماضياً ، { فإنما يتزكى } : فعلاً ، مضارع تزكى ، أي ومن تطهر بفعل الطاعات وترك المعاصي ، فإنما ثمرة ذلك عائدة عليه ، وهو إنما زكاته لنفسه لا لغيره ، والتزكي شامل للخشية وإقامة الصلاة.

وقرأ العباس عن أبي عمرو : ومن يزكى فإنما يزكى ، بالياء من تحت وشدّ الزاي فيهما ، وهما مضارعان أصلهما ومن يتزكى ، أدغمت التاء في الزاي ، كما أدغمت في الذال في قوله : { يذكرون } وقرأ ابن مسعود ، وطلحة : ومن ازكى ، بإدغام التاء في الزاي واجتلاب همزة الوصل في الابتداء؛ وطلحة أيضاً : فإنما يزكى ، بإدغام التاء في الزاي.
{ وإلى الله المصير } : وعد لمن يزكى بالثواب.
{ وما يستوي الأعمى والبصير } الآية : هي طعن على الكفرة وتمثيل.
فالأعمى الكافر ، والبصير المؤمن ، أو الأعمى الصنم ، والبصير الله عز وجل وعلا ، أي لا يستوي معبودهم ومعبود المؤمنين.
والظلمات والنور ، والظل والحرور : تمثيل للحق والباطل وما يؤديان إليه من الثواب والعقاب.
والأحياء والأموات ، تمثيل لمن دخل في الإسلام ومن لم يدخل فيه.
والحرور : شدّة حر الشمس.
وقال الزمخشري : والحرور : السموم ، إلا أن السموم تكون بالنهار ، والحرور بالليل والنهار؛ وقيل : بالليل. انتهى.
وقال ابن عطية : قال رؤبة : الحرور بالليل ، والسموم بالنهار ، وليس كما قال ، وإنما الأمر كما حكى الفراء وغيره : أن السموم يختص بالنهار.
ويقال : الحرور في حر الليل ، وفي حر النهار. انتهى.
ولا يرد على رؤبة ، لأنه منه تؤخذ اللغة ، فأخبر عن لغة قومه.
وقال قوم : الظل هنا : الجنة ، والحرور : جهنم ، ويستوي من الأفعال التي لا تكتفي بفاعل واحد.
فدخول لا في النفي لتأكيد معناه لقوله : { ولا تستوي الحسنة والسيئة } وقال ابن عطية : دخول لا إنما هو على هيئة التكرار ، كأنه قال : ولا الظلمات والنور ولا النور والظلمات ، فاستغنى بذكر الأوائل عن الثواني ، ودل مذكور الكلام على متروكه. انتهى.
وما ذكر غير محتاج إلى تقديره ، لأنه إذا نفى استواء الظلمات والنور ، فأي فائدة في تقدير نفي استوائهما ثانياً وادعاء محذوفين؟ وأنت تقول : ما قام زيد ولا عمرو ، فتؤكد بلا معنى النفي ، فكذلك هذا.
وقرأ زادان عن الكسائي : وما تستوي الأحياء ، بتاء التأنيث؛ والجمهور : بالياء ، وترتيب هذه المنفي عنها الاستواء في غاية الفصاحة.
وذكر الأعمى والبصير مثلاً للمؤمن والكافر ، ثم البصير.
ولو كان حديد النظر لا يبصر إلا في ضوء ، فذكر ما هو فيه الكافر من ظلمة الكفر ، وما هو فيه المؤمن من نور الإيمان.
ثم ذكر مآلهما ، وهو الظل ، وهو أن المؤمن بإيمانه في ظل وراحة ، والكافر بكفره في حر وتعب.
ثم ذكر مثلاً آخر في حق المؤمن والكافر فوق حال الأعمى والبصير ، إذ الأعمى قد يشارك البصير في إدراك مّا ، والكافر غير مدرك إدراكاً نافعاً ، فهو كالميت ، ولذلك أعاد الفعل فقال : { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } ، كأنه جعل مقام سؤال ، وكرر لا فيما ذكر لتأكيد المنافاة.
فالظلمات تنافي النور وتضاده ، والظل والحرور كذلك ، والأعمى والبصير ليس كذلك ، لأن الشخص الواحد قد يكون بصيراً.
ثم يعرض له العمى ، فلا منافاة إلا من حيث الوصف.

والمنافاة بين الظل والحرور دائمة ، لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد؛ فلما كانت المنافاة أتم ، أكد بالتكرار.
وأما الأحياء والأموات من حيث أن الجسم الواحد يكون محلاً للحياة ، فيصير محلاً للموت.
فالمنافاة بينهما أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير ، لأن هذين قد يشتركان في إدراك مّا ، ولا كذلك الحي.
والميت يخالف الحي في الحقيقة ، لا في الوصف ، على ما بين في الحكمة الإلهية.
وقدّم الأشرف في مثلين ، وهو الظل والحر؛ وآخر في مثلين ، وهما البصير والنور ، ولا يقال لأجل السجع ، لأن معجزة القرآن ليست في مجرد اللفظ ، بل فيه.
وفي المعنى : والشاعر قد يقدّم ويؤخر لأجل السجع والقرآن.
المعنى صحيح ، واللفظ فصيح ، وكانوا قبل المبعث في ضلالة ، فكانوا كالعمي ، وطريقهم الظلمة.
فلما جاء الرسول ، واهتدى به قوم ، صاروا بصيرين ، وطريقهم النور ، وقدّم ما كان متقدّماً من المتصف بالكفر ، وطريقته على ما كان متأخراً من المتصف بالإيمان وطريقته.
ثم لما ذكر المآل والمرجع ، قدّم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب ، كما جاء : سبقت رحمتي غضبي ، فقدّم الظل على الحرور.
ثم إن الكافر المصر بعد البعثة صار أضل من الأعمى ، وشابه الأموات في عدم إدراك الحق فقال : { وما يستوي الأحياء } : الذين آمنوا بما أنزل الله ، { ولا الأموات } : الذين تليت عليهم الآيات البينات ، ولم ينتفعوا بها.
وهؤلاء كانوا بعد إيمان من آمن ، فأخرهم لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافر.
وأفرد الأعمى والبصير ، لأنه قابل الجنس بالجنس ، إذ قد يوجد في أفراد العميان ما يساوي به بعض أفراد البصراء ، كأعمى عنده من الذكاء ما يساوي به البصير البليد.
فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به ، لا بين الأفراد.
وجمعت الظلمات ، لأن طرق الكفر متعدّدة؛ وأفرد النور ، لأن التوحيد والحق واحد ، والتفاوت بين كل فرد من تلك الأفراد وبين هذا الواحد فقال : الظلمات لا تجد فيها ما يساوي هذا النور.
وأما الأحياء والأموات ، فالتفاوت بينهما أكثر ، إذ ما من ميت يساوي في الإدراك حياً ، فذكر أن الأحياء لا يساوون الأموات ، سواء قابلت الجنس بالجنس ، أم قابلت الفرد بالفرد. انتهى.
من كلام أبي عبد الله الرازي ، وفيه بعض تلخيص.
ثم سلى رسوله بقوله : { إن الله يسمع من يشاء } : أي إسماع هؤلاء منوط بمشيئتنا ، وكنى بالإسماع عن الذي تكون عنه الإجابة للإيمان.
ولما ذكر أنه { ما يستوي الأحياء ولا الأموات } ، قال : { وما أنت بمسمع من في القبور } : أي هؤلاء ، من عدم إصغائهم إلى سمع الحق ، بمنزلة من هم قد ماتوا فأقاموا في قبورهم.
فكما أن من مات لا يمكن أن يقبل منك قول الحق ، فكذلك هؤلاء ، لأنهم أموات القلوب.
وقرأ الأشهب ، والحسن بمسمع من ، على الإضافة؛ والجمهور : بالتنوين.
{ إن أنت إلا نذير } : أي ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر.

فإن كان المنذر ممن أراد الله هدايته سمع واهتدى ، وإن كان ممن أراد الله ضلاله فما عليك ، لأنه تعالى هو الذي يهدي ويضل.
و { بالحق } : حال من الفاعل ، أي محق.
أو من المفعول ، أي محقاً ، أو صفة لمصدر محذوف ، أي إرسالاً بالحق ، أي مصحوباً.
قال الزمخشري : أو صلة بشير ونذير ، فنذير على بشير بالوعد الحق؛ ونذير بالوعيد. انتهى.
ولا يمكن أن يتعلق بالحق هذا بشير ونذير معاً ، بل ينبغي أن يتأول كلامه على أنه أراد أن ثم محذوفاً ، والتقدير : بالوعد الحق بشيراً ، وبالوعيد الحق نذيراً ، فحذف المقابل لدلالة مقابله عليه.
{ وإن من أمّة إلا خلا فيها نذير } ، الأمة : الجماعة الكثيرة ، والمعنى : أن الدعاء إلى الله لم ينقطع عن كل أمة.
أما بمباشرة من أنبيائهم وما ينقل إلى وقت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، والآيات التي تدل على أن قريشاً ما جاءهم نذير معناه لم يباشرهم ولا آباؤهم القريبين ، وأما أن النذارة انقطعت فلا.
ولما شرعت آثار النذراة تندرس ، بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم.
وما ذكره أهل علم الكلام من حال أهل الفترات ، فإن ذلك على حسب العرض لأنه واقع ، ولا توجد أمة على وجه الأرض إلا وقد علمت الدعوة إلى الله وعبارته.
واكتفى بذكر نذير عن بشير ، لأنها مشفوعة بها في قوله : { بشيراً ونذيراً } ، فدل ذلك على أنه مراد ، وحذف للدلالة عليه.
{ وإن يكذبوك } : مسلاة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وتقدّم الكلام على نظير هذه الجمل في أواخر آل عمران.
قوله : { فكيف كان نكير } ، توعد لقريش بما جرى لمكذبي رسلهم.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)

لما قرر تعالى وحدانيته بأدلة قربها وأمثال ضربها ، أتبعها بأدلة سماوية وأرضية فقال : { ألم تر } ، وهذا الاستفهام تقريري ، ولا يكون إلا في الشيء الظاهر جداً.
والخطاب للسامع ، وتر من رؤية القلب ، لأن إسناد إنزاله تعالى لا يستدل عليه إلا بالعقل الموافق للنقل ، وإن كان إنزال المطر مشاهداً بالعين ، لكن رؤية القلب قد تكون مسندة لرؤية البصر ولغيرها.
وخرج من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم في قوله : { فأخرجنا } ، لما في ذلك من الفخامة ، إذ هو مسند للمعظم المتكلم.
ولأن نعمة الإخراج أتم من نعمة الإنزال لفائدة الإخراج ، فأسند الأتم إلى ذاته بضمير المتكلم ، وما دونه بضمير الغائب.
والظاهر أن الألوان ، إن أريد بها ما يتبادر إليه الذهن من الحمرة والصفرة والخضرة والسواد وغير ذلك ، والألوان بهذا المعنى أوسع وأكثر من الألوان بمعنى الأصباغ.
وقرأ الجمهور : { مختلفاً ألوانها } ، على حد اختلف ألوانها.
وقرأ زيد بن علي : مختلفة ألوانها ، على حد اختلفت ألوانها ، وجمع التكسير يجوز فيه أن تلحق التاء ، وأن لا تلحق.
وقرأ الجمهور : { جُدَد } ، بضم الجيم وفتح الدال ، جمع جدة.
قال ابن بحر : قطع من قولك : جددت الشيء : قطعته.
وقرأ الزهري : كقراءة الجمهور.
قال صاحب اللوامح : جمع جدة ، وهي ما تخالف من الطريق في الجبال لون ما يليها.
وعنه أيضاً ، بضم الجيم والدال : جمع جديدة وجدد وجدائد ، كما يقال في الاسم : سفينة وسفن وسفائن.
قال أبو ذؤيب :
جون السراة أم جدائد أربع . . .
_@_وعنه أيضاً : بفتح الجيم والدال ، ولم يجزه أبو حاتم في المعنى ، ولا صححه أثراً.
وقال غيره : هو الطريق الواضح المبين ، وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض.
وقال أبو عبيدة : يقال جدد في جمع جديد ، ولا مدخل لمعنى الجديد في هذه الآية.
وقال صاحب اللوامح : جدد جمع جديد بمعنى : آثار جديدة واضحة الألوان. انتهى.
وقال : مختلف ألوانها ، لأن البياض والحمرة تتفاوت بالشدة والضعف ، فأبيض لا يشبه أبيض ، وأحمر لا يشبه أحمر ، وإن اشتركا في القدر المشترك ، لكنه مشكل.
والظاهر عطف { وغرابيب } على { حمر } ، عطف ذي لون على ذي لون.
وقال الزمخشري : معطوف على { بيض } أو على { جدد } ، كأنه قيل : ومن الجبال مخطط ذو جدد ، ومنها ما هو على لون واحد.
وقال بعد ذلك : ولا بد من تقدير حذف المضاف في قوله : { ومن الجبال جدد } ، بمعنى : ذو جدد بيض وحمر وسود ، حتى تؤول إلى قولك : ومن الجبال مختلف ألوانه ، كما قال : { ثمرات مختلفاً ألوانها }.
{ ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانها } يعني : ومنهم بعض مختلف ألوانه.
وقرأ ابن السميفع : ألوانها. انتهى.
والظاهر أنه لما ذكر الغرابيب ، وهو الشديد السواد ، لم يذكر فيه مختلف ألوانه ، لأنه من حيث جعله شديد السواد ، وهو المبالغ في غاية السواد ، لم يكن له ألوان ، بل هذا لون واحد ، بخلاف البيض والحمر ، فإنها مختلفة.

والظاهر أن قوله : { بيض حمر } ليسا مجموعين بجدة واحدة ، بل المعنى : جدد بيض ، وجدد حمر ، وجدد غرابيب.
ويقال : أسود حلكوك ، وأسود غربيب ، ومن حق الواضح الغاية في ذلك اللون أن يكون تابعاً.
فقال ابن عطية : قدم الوصف الأبلغ ، وكان حقه أن يتأخر ، وكذلك هو في المعنى ، لكن كلام العرب الفصيح يأتي كثيراً على هذا.
وقال الزمخشري : الغربيب تأكيد للاسود ، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد ، كقولك : أصفر فاقع ، وأبيض يقق ، وما أشبه ذلك؛ ووجهه أن يظهر المؤكد قبله ، فيكون الذي بعده تفسيراً لما أضمر ، كقول النابغة_@_ :
والمؤمن العائذات الطير . . .
وإنما يفعل لزيادة التوكيد ، حيث يدل على المعنى الواحد من طريق الإظهار والإضمار جميعاً. انتهى.
وهذا لا يصح إلا على مذهب من يجيز حذف المؤكد.
ومن النحاة من منع ذلك ، وهو اختيار ابن مالك.
وقيل : هو على التقديم والتأخير ، أي سود غرابيب.
وقيل : سود بدل من غرابيب ، وهذا أحسن ، ويحسنه كون غرابيب لم يلزم فيه أن يستعمل تأكيداً ، ومنه ما جاء في الحديث : « أن الله يبغض الشيخ الغربيب » ، يعني الذي يخضب بالسواد ، وقال الشاعر :
العين طامحة واليد سابحة . . .
والرجل لائحة والوجه غربيب
وقال آخر :
ومن تعاجيب خلق الله غالية . . .
البعض منها ملاحيّ وغربيب
وقرأ الجمهور : { الدواب } ، مشدد الباء؛ والزهري : بتخفيفها ، كراهية التضعيف ، إذ فيه التقاء الساكنين.
كما همز بعضهم { ولا الظالين } ، فراراً من التقاء الساكنين ، فحذف هنا آخر المضعفين وحرك أول الساكنين.
ومختلفة ، صفة لمحذوف ، أي خلق مختلف ألوانه كذلك ، أي كاختلاف الثمرات والجبال؛ فهذا التشبيه من تمام الكلام قبله ، والوقف عليه حسن.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون من الكلام الثاني يخرج مخرج السبب ، كأنه قال : كما جاءت القدرة في هذا كله.
{ إنما يخشى الله من عباده العلماء } : أي المخلصون لهذه العبر ، الناظرون فيها. انتهى.
وهذا الاحتمال لا يصح ، لأن ما بعد إنما لا يمكن أن يتعلق بهذا المجرور قبلها ، ولو خرج مخرج السبب ، لكان التركيب : كذلك يخشى الله من عباده ، أي لذلك الاعتبار ، والنظر في مخلوقات الله واختلاف ألوانها يخشى الله.
ولكن التركيب جاء بإنما ، وهي تقطع هذا المجرور عما بعدها ، والعلماء هم الذين علموه بصفاته وتوحيده وما يجوز عليه وما يجب له وما يستحيل عليه ، فعظموه وقدروه حق قدره ، وخشوه حق خشيته ، ومن ازداد به علماً ازداد منه خوفاً ، ومن كان علمه به أقل كان آمن ، وقد وردت أحاديث وآثار في الخشية.
وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق ، وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه.
ومن ادعى أن إنما للحصر قال : المعنى ما يخشى الله إلا العلماء ، فغيرهم لا يخشاه ، وهو قول الزمخشري.

وقال ابن عطية : وإنما في هذه الآية تخصيص العلماء لا الحصر ، وهي لفظة تصلح للحصر وتأتي أيضاً دونه ، وإنما ذلك بحسب المعنى الذي جاءت فيه. انتهى.
وجاءت هذه الجملة بعد قوله : { الم تر } ، إذ ظاهره خطاب للرسول ، حيث عدد آياته وأعلام قدرته وآثار صنعته ، وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس ، وما يستدل به عليه وعلى صفاته ، فكأنه قال : إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك ممن عرفه حق معرفته.
وقرأ الجمهور : بنصب الجلالة ورفع العلماء.
وروي عن عمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة عكس ذلك ، وتؤولت هذه القراءة على أن الخشية استعارة للتعظيم ، لأن من خشي وهابه أجل وعظم من خشيه وهاب ، ولعل ذلك لا يصح عنهما.
وقد رأينا كتباً في الشواذ ، ولم يذكروا هذه القراءة ، وإنما ذكرها الزمخشري ، وذكرها عن أبي حيوة أبو القاسم يوسف بن جبارة في كتابه الكامل.
{ إن الله عزيز غفور } : تعليل للخشية ، إذ العزة تدل على عقوبة العصاة وقهرهم ، والمغفرة على إنابة الطائعين والعفو عنهم.
{ إن الذين يلتون } : ظاهره يقرأون ، { كتاب الله } : أي يداومون تلاوته.
وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير : هذه آية القراء ، ويتبعون كتاب الله ، فيعملون بما فيه؛ وعن الكلبي : يأخذون بما فيه.
وقال السدي : هم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، ورضي عنهم وقال : «عطاءهم المؤمنون».
ولما ذكر تعالى وصفهم بالخشية ، وهي عمل القلب ، ذكر أنهم يتلون كتاب الله ، وهو عمل اللسان.
{ وأقاموا الصلاة } : وهو عمل الجوارح ، وينفقون : وهو العمل المالي.
وإقامة الصلاة والإنفاق : يقصدون بذلك وجه الله ، لا للرياء والسمعة.
{ تجارة لن تبور } : لن تكسد ، ولا يتعذر الربح فيها ، بل ينفق عند الله.
{ ليوفهم } : متعلق بيرجون ، أو بلن تبور ، أو بمضمر تقديره : فعلوا ذلك ، أقوال.
وقال الزمخشري : وإن شئت فقلت : يرجون في موضع الحال على وأنفقوا راجين ليوفيهم ، أي فعلو جميع ذلك لهذا الغرض.
وخبر إن قوله : { إنه غفور شكور } لأعمالهم ، والشكر مجاز عن الإثابة. انتهى.
وأجورهم هي التي رتبها تعالى على أعمالهم ، وزيادته من فضله.
قال أبو وائل : بتشفيعهم فيمن أحسن إليهم.
وقال الضحاك : بتفسيح القلوب ، وفي الحديث : " بتضعيف حسناتهم " وقيل : بالنظر إلى وجهه.
والكتاب : هو القرآن ، ومن : للتبين أو الجنس أو التبعيض ، تخريجات للزمخشري.
{ ومصدقاً } : حال مؤكدة لما { بين يديه } من الكتب الإلهية : التوراة والانجيل والزبور وغيره ، وفيه إشارة إلى كونه وحياً ، لأنه عليه السلام لم يكن قارئاً كاتباً ، وأتى ببيان ما في كتب الله ، ولا يكون ذلك إلا من الله تعالى.
{ إن الله بعباده لخبير بصير } : عالم بدقائق الأشياء وبواطنها ، بصير بما ظهر منها ، وحيث أهلك لوحيه ، واختارك برسالته وكتابه ، الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
{ ثم أورثنا الكتاب } ، وثم قيل : بمعنى الواو ، وقيل : للمهلة ، إما في الزمان ، وإما في الإخبار على ما يأتي بيانه.

والكتاب فيه قولان ، أحدهما : أن المعنى : أنزلنا الكتب الإلهية ، والكتاب على هذا اسم جنس.
والمصطفون ، على ما يأتي بيانه أن المعنى : الأنبياء وأتباعهم ، قاله الحسن.
وقال ابن عباس : هم هذه الأمة ، أورثت أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، كل كتاب أنزله الله.
وقال ابن جرير : أورثهم الإيمان ، فالكتب تأمر باتباع القرآن ، فهم مؤمنون بها عاملون بمقتضاها ، يدل عليه : { والذين أوحينا إليك من الكتاب هو الحق } ، ثم أتبعه بقوله : { ثم أورثنا الكتاب } ، فعلمنا أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ كان معنى الميراث : انتقال شيء من قوم إلى قوم ، ولم تكن أمة انتقل إليها كتاب من قوم كانوا قبلهم غير أمته.
فإذا قلنا : هم الأنبياء وأتباعهم ، كان المعنى : أورثنا كل كتاب أنزل على نبي ، ذلك النبي وأتباعه.
والقول الثاني : أن الكتاب هو القرآن ، والمصطفون أمة الرسول ، ومعنى أورثنا ، قال مجاهد : أعطينا ، لأن الميراث عطاء.
ثم قسم الوارثين إلى هذه الأقسام الثلاثة ، قال مكي : فقيل هم المذكرون في الواقعة.
فالسابق بالخيرات هو المقرب ، والمقتصد أصحاب الميمنة ، والظالم لنفسه أصحاب المشأمة ، وهو قول يروى معناه عن عكرمة والحسن وقتادة ، قالوا : الضمير في منهم عائد على العباد.
فالظالم لنفسه الكافر والمنافق ، والمقتصد المؤمن العاصي ، والسابق التقي على الإطلاق ، وقالوا : هو نظير ما في الواقعة.
والأكثرون على أن هؤلاء الثلاثة هم في أمة الرسول ، ومن كان من أصحاب المشأمة مكذباً ضالاً لا يورث الكتاب ولا اصطفاه الله ، وإنما الذي في الواقعة أصناف الخلق من الأولين والآخرين.
قال عثمان ابن عفان : سابقنا أهل جهاد ، ومقتصدنا أهل حضرنا ، وظالمنا أهل بدونا ، لا يشهدون جمعة ولا جماعة.
وقال معاذ : الظالم لنفسه : الذي مات على كبيرة لم يتب منها ، والمقتصد : من مات على صغيرة ولم يصب كبيرة لم يتب منها ، والسابق : من مات نائباً عن كبيرة أو صغيرة أو لم يصب ذلك.
وقيل : الظالم لنفسه : العاصي المسرف ، والمقتصد : متقي الكبائر ، والسابق : المتقي على الإطلاق.
وقال الحسن : الظالم : من خفت حسناته ، والمقتصد : من استوت ، والسابق : من رجحت.
وقال الزمخشري : قسمهم إلى ظالم مجرم ، وهو المرجأ لأمر الله ، ومقتصد ، وهو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً؛ وسابق ، من السابقين. انتهى.
وذكر في التجريد ثلاثة وأربعين قولاً في هؤلاء الأصناف الثلاثة.
وقرأ أبو عمران الحوفي ، وعمر ابن أبي شجاع ، ويعقوب في رواية ، والقرآءة عن أبي عمر و : سباق؛ والجمهور.
سابق ، قيل : وقدم الظالم لأنه لا يتكل إلا على رحمة الله.
وقال الزمخشري : للإيذان بكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم ، وأن المقتصد قليل بالإضافة إليهم ، والسابقون أقل من القليل. انتهى.
{ بإذن الله } : بتيسيره وتمكنه ، أي أن سبقه ليس من جهة ذاته ، بل ذلك منه تعالى.

والظاهر أن الإشارة بذلك الى إيراث الكتاب واصطفاء هذه الأمة.
{ وجنات } على هذا مبتدأ ، و { يدخلونها } الخبر.
وجنات ، قرأءة الجمهور جمعاً بالرفع ، ويكون ذلك إخباراً بمقدار أولئك المصطفين.
وقال الزمخشري ، وابن عطية : { جنات } بدل من { الفضل }.
قال الزمخشري : فإن قلت : فكيف جعلت { جنات عدن } بدلاً من { الفضل الكبير } الذي هو السبق بالخيرات المشار إليه بذلك؟ قلت : لما كان السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب كأنه هو الثواب ، فأبدلت عنه جنات عدن. انتهى.
ويدل على أنه مبتدأ قراءة الجحدري وهارون ، عن عاصم.
جنات ، منصوباً على الاشتغال ، أي يدخلون جنات عدن يدخلونها.
وقرأ رزين ، وحبيش ، والزهري : جنة على الأفراد.
وقرأ أبو عمرو : ويدخلونها مبنياً للمفعول ، ورويت عن ابن كثير والجمهور مبنياً للفاعل.
والظاهر أن الضمير المرفوع في يدخلونها عائداً على الأصناف الثلاثة ، وهو يقول عبد الله بن مسعود ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وأبي الدرداء ، وعقبة بن عامر ، وأبي سعيد ، وعائشة ، ومحمد بن الحنيفة ، وجعفر الصادق ، وأبي إسحاق السبيعي ، وكعب الأحبار.
وقرأ عمر هذه الآية ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له » ومن جعل ثلاثة الأصناف هي التي في الواقعة ، لأن الضمير في يدخلونها عائد عنده على المقتصد والسابق.
وقال الزمخشري : هو عائد على السابق فقط ، ولذلك جعل ذلك إشارة إلى السبق بعد التقسيم ، فذكر ثوابهم.
والسكوت عن الآخرين ما فيه من وجوب الحذر ، فليحذر المقتصد ، وليهلك الظالم لنفسه حذراً ، وعليهما بالتوبة النصوح المخلصة من عذاب الله ، ولا يغتر بما رواه عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له » ، فإن شرط ذلك صحة التوبة ، عسى الله أن يتوب عليهم.
وقوله : إما يعذبهم ، وإما يتوب عليهم ، ولقد نطق القرآن بذلك في مواضع من استقرأها اطلع على حقيقة الأمر ولم يعلل نفسه بالخداع.
انتهى ، وهو على طريق المعتزلة.
وقرأ الجمهور : { يحلون } بضم الياء وفتح الحاء وشد اللام ، مبنياً للمفعول.
وقرىء : بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف اللام ، من حليت المرأة فهي حال ، إذا لبست الحلى.
ويقال : جيد حال ، إذا كان فيه الحلى ، وتقدم في سورة الحج الكلام على { يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير }.
وقرأ الجمهور : { الحزن } بفتحتين؛ وقرىء : بضم الحاء وسكون الزاي ، ذكره جناح بن حبيش ، والحزن يعم جميع الأحزان ، وقد خص المفسرون هنا وأكثروا ، وينبغي أن يحمل ذلك على التمثيل لا على التعيين ، فقال أبو الدرداء : حزن : أهوال يوم القيامة ، وما يصيب هنالك من ظلم نفسه من الغم والحزن.
وقال سمرة بن جندب : معيشة الدنيا الخير ونحوه.

وقال قتادة : حزن الدنيا في الحوفة أن لا يتقبل أعمالهم.
وقال مقاتل : حزن الانتقال ، يقولونها إذا استقروا فيها.
وقال الكلبي : خوف الشيطان.
وقال ابن زيد : حزن : تظالم الآخرة ، والوقوف عن قبول الطاعات وردها ، وطول المكث على الصراط.
وقال القاسم بن محمد : حزن : زوال الغم وتقلب القلب وخوف العاقبة ، وقد أكثروا حتى قال بعضهم : كراء الدار ، ومعناه أنه يعم كل حزن من أحزان الدين والدنيا حتى هذا.
{ إن ربنا لغفور شكور } ، لغفور : فيه إشارة إلى دخول الظالم لنفسه الجنة ، وشكور : فيه إلى السابق وأنه كثير الحسنات.
والمقامة : هي أي الجنة ، لأنها دار إقامة دائماً لا يرحل عنها.
{ من فضله } : من عطائه.
{ لا يسمنا فيها نصب } : أي تعب بدن ، { ولا يسمنا فيها لغوب } : أي تعب نفس ، وهو لازم عن تعب البدن.
وقال قتادة : اللغوب : الوضع.
وقال الزمخشري : النصب : التعب والمشقة التي تصيب المنتصب المزاول له ، وأما اللغوب : فما يلحقه من الفتور بسبب النصب.
فالنصب نفس المشقة والكلفة ، واللغوب نتيجته ، وما يحدث منه من الكلال والفترة. انتهى.
فإن قلت : إذا انتفى السبب انتفى مسببه ، فما حكمه إذا نفي السبب وانتفى مسببه؟ وأنت تقول : ما شبعت ولا أكلت ، ولا يحسن ما أكلت ولا شبعت ، لأنه يلزم من انتفاء الأكل انتفاء الشبع ، ولا ينعكس ، فلو جاء على هذا الأسلوب لكان التركيب لا يمسنا فيها إعياء ولا مشقة؟ فالجواب : أنه تعالى بين مخالفة الجنة لدار الدنيا ، فإن أماكنها على قسمين : موضع يمس فيه المشاق والمتاعب كالبراري والصحاري ، وموضع يمس فيه الأعياء كالبيوت والمنازل التي فيها الصغار ، فقال : { لا يمسنا في نصب } ، لأنها ليست مظان المتاعب لدار الدنيا؛ { ولا يمسنا فيها لغوب } : أي ولا نخرج منها إلى موضع نصب ونرجع إليها فيمسنا فيها الإعياء.
وقرأ الجمهور : لغوب ، بضم اللام ، وعلي بن أبي طالب والسلمي : بفتحها.
قال الفراء : هو ما يلغب به ، كالفطور والسحور ، وجاز أن يكون صفة للمصدر المحذوف ، كأنه لغوب ، كقولهم : موت مائت.
وقال صاحب اللوامح : يجوز أن يكون مصدراً كالقبول ، وإن شئت جعلته صفة لمضمر ، أي أمر لغوب ، واللغوب أيضاً في غير هذا للأحمق.
قال أعرابي أن فلاناً لغوب جاءت كتابي فاحتقرها ، أي أحمق ، فقيل له : لم أنثته؟ فقال : أليس صحيفة؟

وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)

لما ذكر حال المؤمنين ومقرهم ، ذكر حال الكافرين ، وهذا يدل على أن أولئك الثلاثة هم في الجنة ، { والذين كفروا } هم مقابلوهم ، { لا يقضي عليهم } : أي لا يجهز عليهم فيموتوا ، لأنهم إذا ماتوا بطلت حواسهم فاستراحوا.
وقرأ الجمهور : { فيموتوا } ، بحذف النون منصوباً في جواب النفي ، وهو على أحد معنيي النصب؛ فالمعنى انتفى القضاء عليهم ، فانتفى مسببه ، أي لا يقضى عليهم ولا يموتون ، كقولك : ما تأتينا فتحدثنا ، أي ما يكون حديث ، انتفى الإتيان ، فانتفى الحديث.
ولا يصح أن يكون على المعنى الثاني من معنى النصب ، لأن المعنى : ما تأتينا محدثاً ، إنما تأتي ولا تحدث ، وليس المعنى هنا : لا يقضى عليهم ميتين ، إنما يقضى عليهم ولا يموتون.
وقرأ عيسى ، والحسن : فيموتون ، بالنون ، وجهها أن تكون معطوفة على لا يقضى.
وقال ابن عطية : وهي قراءة ضعيفة. انتهى.
وقال أبو عثمان المازين : هو عطف ، أي فلا يموتون ، لقوله : { ولا يؤذن لهم فيعتذرون } أي فلا يعتذرون ولا يخفف عنهم نوع عذابهم.
والنوع في نفسه يدخله أن يحيوا ويسعدوا.
قال ابن عطية : وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو : ولا يخفف بإسكان الفاء شبه المنفصل بالمتصل ، كقوله_@_ :
فاليوم أشرب غير مستحقب . . .
وقرأ الجمهور : { نجزي كل } ، مبنياً للفاعل ، ونصب كل؛ وأبو عمرو ، وأبو حاتم عن نافع : بالياء مبنياً للمفعول ، كل بالرفع.
{ وهم يصطرخون } : بني من الصرخ يفتعل ، وأبدلت من التاء طاء ، وأصله يصرخون ، والصراخ : شدة الصياح ، قال الشاعر :
صرخت حبلى أسلمتها قبيلها . . .
_@_واستعمل في الاستغاثة لجهة المستغيث صوته ، قال الشاعر :
وطول اصطراخ المرء في بعد قعرها . . .
وجهد شقي طال في النار ما عوى
{ ربنا أخرجنا } : أي قائلين ربنا أخرجنا منها ، أي من النار ، وردنا إلى الدنيا.
{ نعمل صالحاً } قال ابن عباس : نقل : لا إله إلا الله ، { غير الذين كنا نعمل } ، أي من الشرك ، ونمتثل أمر الرسل ، فنؤمن بدل الكفر ، ونطيع بدل المعصية.
وقال الزمخشري : هل اكتفى بصالحاً ، كما اكتفى به في { ارجعنا نعمل صالحاً } وما فائدة زيادة { غير الذي كنا نعمل } على أنه يوهم أنهم يعملون صالحاً آخر غير الصالح الذي عملوه؟ قالت : فائدته زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به ، وأما الوهم فزائل بظهور حالهم في الكفر وركوب المعاصي ، ولأنهم كانوا يحسنون صنعاً فقالوا : أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نحسبه صالحاً فنعمله. انتهى.
روي أنهم يجابون بعد مقدار الدنيا : { أوَلم نعمركم } ، وهو استفهام توبيخ وتوقيف وتقرير ، وما مصدرية ظرفية ، أي مدة يذكر.
وقرأ الجمهور : { ما يتذكر فيه من تذكر }.
وقرأ الأعمش : ما يذكر فيه ، من اذكر ، بالادغام واجتلاب همزة الوصل ملفوظاً بها في الدرج.
وهذه المدة ، قال الحسن : البلوغ ، يريد أنه أول حال التذكر ، وقيل : سبع عشرة سنة.

وقال قتادة : ثمان عشرة سنة.
وقال عمر بن عبد العزيز : عشرون.
وقال ابن عباس : أربعون؛ وقيل : خمسون.
وقال علي : ستون ، وروي ذلك عن ابن عباس.
{ وجاءكم } معطوف على { أوَلم نعمركم } ، لأن معناه : قد عمرناكم ، كقوله : { ألم نربّك فينا وليداً } وقوله : { ألم نشرح لك صدرك } ثم قال : { ولبثت فينا } وقال { ووضعنا } لأن المعنى قدر بيناك وشرحنا.
والنذير جنس ، وهم الأنبياء ، كل نبي نذير أمته.
وقرىء : النذر جمعاً ، وقيل : النذير : الشيب ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وسفيان ، ووكيع ، والحسن بن الفضل ، والفراء ، والطبري.
وقيل : موت الأهل والأقارب؛ وقيل : كمال السفل.
{ فذوقوا } : أي عذاب جهنم.
وقرأ جناح بن حبيش : عالم منوناً ، غيب نصباً؛ والجمهور : على الإضافة.
ومجيء هذه الجملة عقيب ما قبلها هو أنه تعالى ذكر أن الكافرين يعذبون دائماً مدة كفرهم.
كانت مدة يسيرة منقطعة ، فأخبر أنه تعالى ، { عالم غيب السموات والأرض } ، فلا يخفى عليه ما تنطوي عليه الصدور من المضمرات.
وكان يعلم من الكافر أنه تمكن الكفر في قلبه ، بحيث لو دام إلى الأبد ما آمن بالله ولا عبده.
وخلائف : جمع خليفة ، وخلفاء : جمع خليف ويقال للمستخلف : خليفة وخليف ، وفي هذا تنبيه على أنه تعالى استخلفهم بدل من كان قبلهم ، فلم يتعظوا بحال من تقدمهم من مكذبي الرسل وما حل بهم من الهلاك ، ولا اعتبروا بمن كفر ، ولم يتعظوا بمن تقدم.
{ فعليه كفره } : أي عقاب كفره ، والظاهر أنه خطاب عام؛ وقيل : لأهل مكة.
والمقت : أشد الاحتقار والبغض والغضب ، والخسار : خسار العمر.
كان العمر رأس مال ، فإن انقضى في غير طاعة الله ، فقد خسره واستعاض به بدل الربح بما يفعل من الطاعات سخط الله وغضبه ، بحيث صاروا إلى النار.
{ قل أرأيتم شركاءكم } ، قال الحوفي : ألف الاستفهام ذلك للتقرير ، وفي التحرير : أرأريتم : المراد منه أخبروني ، لأن الاستفهام يستدعي ذلك.
يقول القائل : أرأيت ماذا فعل زيد؟ فيقول السامع : باع واشترى ، ولولا تضمنه معنى أخبروني لكان الجواب نعم أو لا.
وقال ابن عطية : أرأيتم ينزل عند سيبويه منزلة أخبروني.
وقال الزمخشري : أروني بدل من أرأيتم لأن معنى أرأيتم أخبروني ، كأنه قال : أخبروني عن هؤلاء الشركاء وعن ما استحقوا به الإلهية والشركة ، أروني أي جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله ، أم لهم مع الله شركة في خلق السموات؟ أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه؟ فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب ، أو يكون الضمير في { آتيناهم } للمشركين لقوله : { أم أنزلنا عليهم سلطاناً } { أم آتيناهم كتاباً من قبله }
{ بل إن يعد الظالمون بعضهم } : وهم الرؤساء ، { بعضاً } : وهم الأتباع ، { إلا غروراً } وهو قولهم : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } انتهى.
أما قوله { أروني } بدل من { أرأيتم } فلا يصح ، لأنه إذا أبدل مما دخل عليه الاستفهام فلا بد من دخول الأداة على البدل ، وأيضاً فإبدال الجملة من الجملة لم يعهد في لسانهم ، ثم البدل على نية تكرار العامل ، ولا يتأتى ذلك هنا ، لأنه لا عامل في أرأيتم فيتخيل دخوله على أروني.

وقد تكلمنا في الأنعام على أرأيتم كلاماً شافياً.
والذي أذهب إليه أن أرأيتم بمعنى أخبرني ، وهي تطلب مفعولين : أحدهما منصوب ، والآخر مشتمل على استفهام.
تقول العرب : أرأيت زيداً ما صنع؟ فالأول هنا هو { شركاءكم } ، والثاني { ماذا خلقوا } ، وأروني جملة اعتراضية فيها تأكيد للكلام وتسديد.
ويحتمل أن يكون ذلك أيضاً من باب الإعمال ، لأنه توارد على ماذا خلقوا ، أرأيتم وأروني ، لأن أروني قد تعلق على مفعولها في قولهم : أما ترى ، أي ترى هاهنا ، ويكون قد أعمل الثاني على المختار عند البصريين.
وقيل : يحتمل أن يكون أرأيتم استفهاماً حقيقياً ، وأروني أمر تعجيز للتبيين ، أي أعملتم هذه التي تدعونها كما هي وعلى ما هي عليه من العجز ، أو تتوهمون فيها قدرة؟ فإن كنتم تعلمونها عاجزة ، فكيف تعبدونها؟ أو توهمتم لها قدرة ، فأروني قدرتها في أي شيء هي ، أهي في الأرض؟ كما قال بعضهم : إن الله إله في السماء ، وهؤلاء آلهة في الأرض.
قالوا : وفيها من الكواكب والأصنام صورها ، أم في السموات؟ كما قال بعضهم : إن السماء خلقت باستعانة الملائكة ، فالملائكة شركاء في خلقها ، وهذه الأصنام صورها ، أم قدرتها في الشفاعة لكم؟ كما قال بعضهم : إن الملائكة ما خلقوا شيئاً ، ولكنهم مقربون عند الله ، فنعبدهم لتشفع لنا ، فهل معهم من الله كتاب فيه إذنه لهم بالشفاعة؟ انتهى.
وأضاف الشركاء إليهم من حيث هم جعلوهم شركاء الله ، أي ليس للأصنام شركة بوجه إلا بقولهم وجعلهم ، قيل : ويحتمل شركاءكم في النار لقوله : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } والظاهر أن الضمير في { آتيناهم } عائد على الشركاء ، لتناسب الضمائر ، أي هل مع ما جعل شركاء لله كتاب من الله فيه إن له شفاعة عنده؟ فإنه لا يشفع عنده إلا بإذنه.
وقيل : عائد على المشركين ، ويكون التفاتاً خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة إعراضاً عنهم وتنزيلاً لهم منزلة الغائب الذي لا يحصل للخطاب ، ومعناه : أن عبادة هؤلاء أما بالعقل ، ولا عقل لمن يعبد ما لا يخلق من الأرض جزءاً من الأجزاء ولا له شرك في السماء؛ وأما بالنقل ، ولم نؤت المشركين كتاباً فيه أمر بعبادة هؤلاء ، فهذه عبادة لا عقلية ولا نقلية. انتهى.
وقرأ ابن وثاب ، والأعمش ، وحمزة ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، وحفص ، وأبان عن عاصم : { على بينة } ، بالإفراد؛ وباقي السبعة : بالجمع.
ولما بين تعالى فساد أمر الأصنام ووقف الحجة على بطلانها ، عقبة بذكر عظمته وقدرته ليتبين الشيء بضده ، وتتأكد حقارة الأصنام بذكر عظمة الله فقال : { إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا } : والظاهر أن معناه أن تنتقلا عن أماكنهما وتسقط السموات عن علوها.

وقيل : معناه أن تزولا عن الدوران. انتهى.
ولا يصح أن الأرض لا تدور.
ويظهر من قول ابن مسعود : أن السماء لا تدور ، وإنما تجري فيها الكواكب.
وقال : كفى بها زوالاً أن تدور ، ولو دارت لكانت قد زالت.
وأن تزولا في موضع المفعول له ، وقدر لئلا تزولا ، وكراهة أن تزولا.
وقال الزجاج : يمسك : يمنع من أن تزولا ، فيكون مفعولاً ثانياً على إسقاط حرف الجر ، ويجوز أن يكون بدلاً ، أي يمنع زوال السموات والأرض ، بدل اشتمال.
{ ولئن زالتا } : إن تدخل غالباً على الممكن ، فإن قدرنا دخولها على الممكن ، فيكون ذلك باعتبار يوم القيامة عند طي السماء ونسف الجبال ، فإن ذلك ممكن ، ثم واقع بالخبر الصادق ، أي ولئن جاء وقت زوالهما.
ويجوز أن يكون ذلك على سبيل الفرض ، أي ولئن فرضنا زوالهما ، فيكون مثل لو في المعنى.
وقد قرأ ابن أبي عبلة : ولو زالتا ، وإن نافية ، وأمسكهما في معنى المضارع جواب للقسم المقدّر قبل لام التوطئة في لئن ، وإنما هو في معنى المضارع لدخول إن الشرطية ، كقوله : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } أي ما يتبعون ، وكقوله : { ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا } أي ليظلوا ، فيقدّر هذا كله مضارعاً لأجل إن الشرطية ، وجواب إن في هذه المواضع محذوف لدلالة جواب القسم عليه.
قال الزمخشري : و { إن أمسكها } جواب القسم في { ولئن زالتا } ، سدّ مسدّ الجوابين.
انتهى ، يعني أنه دل على الجواب المحذوف ، وإن أخذ كلامه على ظاهره لم يصح ، لأنه لو سدّ مسدّهما لكان له موضع من الإعراب باعتبار جواب الشرط ، ولا موضع له من الإعراب باعتبار جواب القسم.
والشيء الواحد لا يكون معمولاً غير معمول.
ومن في { من أحد } لتأكيد الاستغراق ، ومن في { من بعده } لابتداء الغاية ، أي من بعد ترك إمساكه.
وسأل ابن عباس رجلاً أقبل من الشام : من لقيت؟ قال كعباً ، قال : وما سمعته يقول؟ قال : إن السموات على منكب ملك ، قال : كذب كعب ، أما ترك يهوديته بعد؟ ثم قرأ هذه الآية.
وقال ابن مسعود لجندب البجلي ، وكان رجل : أي كعب الأحبار في كلام آخره ما تمكنت اليهودية في قلب وكادت أن تفارقه.
وقالت طائفة : اتصافه بالحلم والغفران في هذه الآية إنما هو إشارة إلى أن السماء كادت تزول ، والأرض كذلك ، لإشراك الكفرة ، فيمسكها حكماً منه عن المشركين وتربصاً ليغفر لمن آمن منهم ، كما قال في آخر آية أخرى : { تكاد السماء يتفطرن منه } الآية.
وقال الزمخشري : { حليماً غفوراً } ، غير معاجل بالعقوبة ، حيث يمسكها ، وكانتا جديرتين بأن تهدهد العظم كلمة الشرك ، كما قال { تكاد السموات يتفطرن منه } الآية.

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)

الضمير في { وأقسموا } لقريش.
ولما بين إنكارهم للتوحيد ، بين تكذيبهم للرسل.
قيل : وكانوا يعلنون اليهود والنصارى حيث كذبوا رسلهم ، وقالوا : لئن أتانا رسول ليكونن أهدى من إحدى الأمم.
فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كذبوه.
{ لئن جاءهم } : حكاية لمعنى كلامهم لا للفظهم ، إذ لو كان اللفظ ، لكان التركيب لئن جاءنا نذير من إحدى الأمم ، أي من واحدة مهتدية من الأمم ، أو من الأمة التي يقال فيها إحدى الأمم تفضيلاً لها على غيرها ، كما قالوا : هو أحد الأحدين ، وهو أحد الأحد ، يريدون التفضيل في الدهاء والعقل بحيث لا نظير له ، وقال الشاعر :
حتى استشاروا في أحد الأحد . . .
شاهد يرادا سلاح معد
{ فلما جاءهم نذير } ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس ، وهو الظاهر.
وقال مقاتل : هو انشقاق القمر.
{ ما زادهم } : أي ما زادهم هو أو مجيئه.
{ إلا نفوراً } : بعداً من الحق وهرباً منه.
وإسناد الزيادة إليه مجاز ، لأنه هو السبب في أن زادوا أنفسهم نفوراً ، كقوله : { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } وصاروا أضل مما كانوا.
وجواب لما : { ما زادهم } ، وفيه دليل واضح على حرفية لما لا ظرفيتها ، إذ لو كانت ظرفاً ، لم يجز أن يتقدّم على عاملها المنفي بما ، وقد ذكرنا ذلك في قوله : { فلما قضينا عليه الموت ما دلهم } وفي قوله : { ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم } والظاهر أن { استكباراً } مفعول من أجله ، أي سبب النفور وهو الاستكبار ، { ومكر السيء } معطوف على { استكباراً } ، فهو مفعول من أجله أيضاً ، أي الحامل لهم على الابتعاد من الحق هو الاستكبار؛ { والمكر السيء } ، وهو الخداع الذي ترومونه برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والكيد له.
وقال قتادة : المكر السيء هو الشرك.
وقيل : { استكباراً } بدل من { نفوراً } ، وقاله الأخفش.
وقيل : حال ، يعني مستكبرين وماكرين برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، ومكر السيء من إضافة الموصوف إلى صفته ، ولذلك جاء على الأصل : { ولا يحيق المكر السيء }.
وقيل : يجوز أن يكون { ومكر السيء } معطوفاً على { نفوراً }.
وقرأ الجمهور : ومكر السيء ، بكسر الهمزة؛ والأعمش ، وحمزة : بإسكانها ، فإما إجراء للوصل مجرى الوقف ، وإما إسكاناً لتوالي الحركات وإجراء للمنفصل مجرى المتصل ، كقوله : لنا ابلان.
وزعم الزجاج أن هذه القراءة لحن.
قال أبو جعفر : وإنما صار لحناً لأنه حذف الإعراب منه.
وزعم محمد بن يزيد أن هذا لا يجوز في كلام ولا شعر ، لأن حركات الإعراب دخلت للفرق بين المعاني ، وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش يقرأ بهذا ، وقال : إنما كان يقف على من أدّى عنه ، والدليل على هذا أنه تمام الكلام ، وأن الثاني لما لم يكن تمام الكلام أعربه ، والحركة في الثاني أثقل منها في الأوّل لأنها ضمة بين كسرتين.

وقال الزجاج أيضاً : قراءة حمزة ومكر السيء موقوفاً عند الحذاق بياءين لحن لا يجوز ، وإنما يجوز في الشعر للاضطرار.
وأكثر أبو علي في الحجة من الاستشهاد ، والاحتجاج للإسكان من أجل توالي الحركات والاضطرار ، والوصل بنية الوقف ، قال : فإذا ساغ ما ذكرناه في هذه القراءة من التأويل ، لم يسغ أن يقال لحن.
وقال ابن القشيري : ما ثبت بالاستفاضة أو التواتر أنه قرىء به فلا بد من جوازه ، ولا يجوز أن يقال لحن.
وقال الزمخشري : لعله اختلس فظن سكوناً ، أو وقف وقفة خفيفة ، ثم ابتدأ { ولا يحيق }.
وروي عن ابن كثير : ومكر السيء ، بهمزة ساكنة بعد السين وياء بعدها مكسورة ، وهو مقلوب السيء المخفف من السيء ، كما قال الشاعر :
ولا يجزون من حسن بسيّ . . .
ولا يجزون من غلظ بلين
وقرأ ابن مسعود : ومكراً سيئاً ، عطف نكرة على نكرة؛ { ولا يحيق } : أي يحيط ويحل ، ولا يستعمل إلا في المكروه.
وقرىء : يحيق بالضم ، أي بضم الياء؛ المكر السيء : بالنصب ، ولا يحيق الله إلا بأهله ، أما في الدنيا فعاقبة ذلك على أهله.
وقال أبو عبد الله الرازي : فإن قلت : كثيراً نرى الماكر يفيده مكره ويغلب خصمه بالمكر ، والآية تدل على عدم ذلك.
فالجواب من وجوه : أحدها : أن المكر في الآية هو المكر بالرسول من العزم على القتل والإخراج ، ولا يحيق إلا بهم حيث قتلوا ببدر.
وثانيها : أنه عامّ ، وهو الأصح ، فإنه عليه السلام نهى عن المكر وقال : " لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً ، فإنه تعالى يقول : { ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله } ، فعلى هذا يكون ذلك الممكور به أهلاً فلا يزد نقصاً " وثالثها : أن الأمور بعواقبها ، ومن مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلاً في الظاهر ، ففي الحقيقة هو الفائز ، والماكر هو الهالك. انتهى.
وقال كعب لابن عباس في التوراة «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها» ، فقال له ابن عباس : إنا وجدنا هذا في كتاب الله ، { ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله }. انتهى.
وفي أمثال العرب «من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً».
و { سنة الأولين } : إنزال العذاب على الذين كفروا برسلهم من الأمم ، وجعل استقبالهم لذلك انتظاراً له منهم.
وسنة الأولين أضاف فيه المصدر.
وفي { لسنة الله } إضافة إلى الفاعل ، فأضيفت أولاً إليهم لأنها سنة بهم ، وثانياً إليه لأنه هو الذي سنها.
وبين تعالى الانتقام من مكذبي الرسل عادة لا يبدلها بغيرها ولا يحولها إلى غير أهلها ، وإن كان ذلك كائن لا محالة.
واستشهد عليهم مما كانوا يشاهدونه في مسايرهم ومتاجرهم ، في رحلتهم إلى الشام والعراق واليمن من آثار الماضين ، وعلامات هلاكهم وديارهم ، كديار ثمود ونحوها ، وتقدّم الكلام على نظير هذه الجملة في سورة الروم.

وهناك { كانوا أشد منهم قوّة } استئناف إخبار عن ما كانوا عليه ، وهنا : { وكانوا } : أي وقد كانوا ، فالجملة حال ، فهما مقصدان.
{ وما كانوا الله ليعجزه } : أي ليفوته ويسبقه ، { من شيء } : أي شيء ، و { من } لاستغراق الأشياء { إنه كان عليماً قديراً } : فبعلمه يعلم جميع الأشياء ، فلا يغيب عن علمه شيء ، وبقدرته لا يتعذر عليه شيء.
ثم ذكر تعالى حلمه تعالى على عباده في تعجيل العقوبة فقال : { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا } : أي من الشرك وتكذيب الرسل ، وهو المعنى في الآية التي في النحل ، وهو قوله : { بظلمهم } ، وتقدّم الكلام على نظير هذه الآية في النحل ، وهناك { عليها } ، وهنا على { ظهرها } ، والضمير عائد على الأرض ، إلا أن هناك يدل عليه سياق الكلام ، وهنا يمكن أن يعود على ملفوظ به ، وهو قوله : { في السموات ولا في الأرض }.
ولما كانت حاملة لمن عليها ، استعير لها الظهر ، كالدابة الحاملة للأثقال ، ولأنه أيضاً هو الظاهر بخلاف باطنها.
فإنه { بعباده بصيراً } : توعد للمكذبين ، أي فيجازيهم بأعمالهم.

يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)

هذه السورة مكية ، إلا أن فرقة زعمت أن قوله : { ونكتب ما قدموا } ، و { وآثارهم } ، نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول ، وليس زعماً صحيحاً.
وقيل : إلا قوله : { وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله } الآية.
وتقدم الكلام في الحروف المقطعة في أول البقرة ، قال ابن جبير هنا : إنه اسم من أسماء محمد صلى الله عليه وسلم ، ودليله { إنك لمن المرسلين }.
قال السيد الحميري :
يا نفس لا تمحضي بالود جاهدة . . .
على المودة إلا آل ياسيناً
وقال ابن عباس : معناه يا إنسان بالحبشية ، وعنه هو في لغة طيء ، وذلك أنهم يقولون إيسان بمعنى إنسان ، ويجمعونه على أياسين ، فهذا منه.
وقالت فرقة : يا حرف نداء ، والسين مقامة مقام إنسان انتزع منه حرف فأقيم مقامه.
وقال الزمخشري : إن صح أن معناه يا إنسان في لغة طيء ، فوجهه أن يكون أصله يا أنيسين ، فكثر النداء على ألسنتهم حتى اقتصروا على شطره ، كما قالوا في القسم : م الله في أيمن الله. انتهى.
والذي نقل عن العرب في تصغيرهم إنسان أنيسيان بياء بعدها ألف ، فدل على أن أصله أنيسان ، لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها ، ولا نعلمهم قالوا في تصغيره أنيسين ، وعلى تقدير أنه بقية أنيسين ، فلا يجوز ذلك ، لا أن يبنى على الضم ، ولا يبقى موقوفاً ، لأنه منادي مقبل عليه ، مع ذلك فلا يجوز لأنه تحقير ، ويمتنع ذلك في حق النبوة.
وقوله : كما قالوا في القسم م الله في أيمن الله ، هذا قول.
ومن النحويين من يقول : إن م حرف قسم وليس مبقى من أيمن.
وقرىء : بفتح الياء وإمالتها محضاً ، وبين اللفظين.
وقرأ الجمهور : بسكون النون مدغمة في الواو؛ ومن السبعة : الكسائي ، وأبو بكر ، وورش ، وابن عامر : مظهرة عند باقي السبعة.
وقرأ ابن أبي إسحاق ، وعيسى : بفتح النون.
وقال قتادة : يس قسم.
قال أبو حاتم : فقياس هذا القول فتح النون ، كما تقول : الله لأفعلن كذا.
وقال الزجاج : النصب ، كأنه قال : اتل يس ، وهذا على مذهب سيبويه أنه اسم للسورة.
وقرأ الكلبي : بضم النون ، وقال هي بلغة طيء : يا إنسان.
وقرأ السماك ، وابن أبي إسحاق أيضاً : بكسرها؛ قيل : والحركة لالتقاء الساكنين ، فالفتح كائن طلباً للتخفيف والضم كحيث ، والكسر على أصل التقائهما.
وإذا قيل أنه قسم ، فيجوز أن يكون معرباً بالنصب على ما قال أبو حاتم ، والرفع على الابتداء نحو : أمانة الله لأقومن ، والجر على إضمار حرف الجر ، وهو جائز عند الكوفيين.
والحكيم : إما فعيل بمعنى مفعل ، كما تقول : عقدت العسل فهو عقيد : أي معقد ، وإما للمبالغة من حاكم ، وإما على معنى السبب ، أي ذي حكمة.

{ على صراط } : خبر ثان ، أو في موضع الحال منه عليه السلام ، أو من المرسلين ، أو متعلق بالمرسلين.
والصراط المستقيم : شريعة الإسلام.
وقرأ طلحة ، والأشهب ، وعيسى : بخلاف عنهما؛ وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : تنزيل ، بالنصب على المصدر؛ وباقي السبعة ، وأبو بكر ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والحسن ، والأعرج ، والأعمش : بالرفع مبتدأ محذوف ، أي هو تنزيل؛ وأبو حيوة ، واليزيدي ، والقورصي عن أبي جعفر ، وشيبة؛ بالخفض إما على البدل من القرآن ، وإما على الوصف بالمصدر.
{ لتنذر } : متعلق بتنزيل أو بأرسلنا مضمرة.
{ ما أنذر } ، قال عكرمة : بمعنى الذي ، أي الشيء الذي أنذره آباؤهم من العذاب ، فما مفعول ثان ، كقوله : { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً } قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون ما مصدرية ، أي { ما أنذرهم آباؤهم } ، والآباء على هذا هم الأقدمون من ولد إسماعيل ، وكانت النذارة فيهم.
و { فهم } على هذا التأويل بمعنى فإنهم ، دخلت الفاء لقطع الجملة من الجملة الواقعة صلة ، فتتعلق بقوله : { إنك لمن المرسلين }.
{ لتنذر } ، كما تقول : أرسلتك إلى فلان لتنذره ، فإنه غافل ، أو فهو غافل.
وقال قتادة : ما نافية ، أي أن آباءهم لم ينذروا ، فآباؤهم على هذا هم القربيون منهم ، وما أنذر في موضع الصفة ، أي غير منذر آباؤهم ، وفهم غافلون متعلق بالنفي ، أي لم ينذروا فهم غافلون ، على أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم.
وباعتبار الآباء في القدم والقرب يزول التعارض بين الإنذار ونفيه.
{ لقد الحق على أكثرهم } : المشهور أن القول { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } وقيل : لقد سبق في علمه وجوب العذاب.
وقيل : حق القول الذي قاله الله على لسان الرسل من التوحيد وغيره وبان برهانه؛ فأكثرهم لا يؤمنون بعذ ذلك.
والظاهر أن قوله : { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } الآية هو حقيقة لا استعارة.
لما أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون ، أخبر عن شيء من أحوالهم في الآخرة إذا دخلوا النار.
قال ابن عطية : وقوله { فأغشناهم فهم لا يبصرون } يضعف هذا ، لأن بصر الكافر يوم القيامة إنما هو حديد يرى قبح حاله.
انتهى ، ولا يضعف هذا.
ألا ترى إلى قوله : { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً } وقوله : { قال رب لما حشرتني أعمى } وإما أن يكون قوله : { فبصرك اليوم حديد } كناية عن إدراكه ما يؤول إليه ، حتى كأنه يبصره.
وقال الجمهور : ذلك استعارة.
قال ابن عباس ، وابن إسحاق : استعارة لحالة الكفرة الذين أرادوا الرسول بسوء ، جعل الله هذا لهم مثلاً في كفه إياهم عنه ، ومنعهم من أذاه حين بيتوه.
وقال الضحاك ، والفراء : استعارة لمنعهم من النفقة في سبيل الله ، كما قال : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } وقال عكرمة : نزلت حين أراد أبو جهل ضربه بالحجر العظيم ، وفي غير ذلك من المواطن ، فمنعه الله؛ وهذا قريب من قول ابن عباس ، فروى أن أبا جهل حمل حجراً ليدفع به النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يصلي ، فانثنت يداه إلى عنقه حتى عاد إلى أصحابه والحجر في يده قد لزق ، فما فكوه إلا بجهد ، فأخذ آخر ، فلما دنا من الرسول ، طمس الله بصره فلم يره ، فعاد إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه ، فجعل الغل يكون استعارة عن منع أبي جهل وغيره في هذه القصة.

ولما كان أصحاب أبي جهل راضين بما أراد أن يفعل ، فنسب ذلك إلى جمع.
وقالت فرقة : استعارة لمنع الله إياهم من الإيمان وحوله بينهم وبينه.
قال ابن عطية : وهذا أرجح الأقوال ، لأنه تعلى لما ذكر أنهم لا يؤمنون ، لما سبق لهم في الأزل عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة الشقاوة ما حالهم معه حال المغلوين. انتهى.
وقال الزمخشري : مثل تصمميهم على الكفر ، وأنه لا سبيل إلى دعواهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يطأطئون رؤوسهم له ، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا يبصرون ، إنهم متعامون عن النظر في آيات الله تعالى.
انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال.
ألا ترى إلى قول أهل السنة استعارة لمنع الله إياهم من الإيمان؟ وقول الزمخشري مثل تصمميهم ونسبته الأفعال التي يعدها إليهم لا إلى الله.
والغل ما أحاط بالعنق على معنى التعنيف والتضييق والتعذيب والأسر ، ومع العنق اليدان أو اليد الواحدة على معنى التعليل.
والظاهر عود الضمير في فهي إلى الأغلال ، لأنها هي المذكورة والمحدث عنها.
قال ابن عطية : هي عريضة تبلغ بحرفها الأذقان ، والذقن مجتمع اللحيين ، فيضطر المغلول إلى رفع وجهه نحو السماء ، وذلك هو الإقماح ، وهو نحو الأقناع في الهيئة.
وقال الزمخشري : الأغلال وأصله إلى الأذقان مكزوزة إليها ، وذلك أن طوق الغل الذي هو عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادراً من الحلقة إلى الذقن ، فلا تخليه يطاطىء رأسه ويوطىء قذاله ، فلا يزال مقمحاً. انتهى.
وقال الفراء : القمح الذي يغض بصره بعد رفع رأسه.
وقال الزجاج نحوه قال : يقال قمح البعير رأسه عن ري وقمح هو.
وقال أبو عبيدة : قمح قموحاً : رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب ، والجمع قماح ، ومنه قول بشر يصف ميتة أحدهم ليدفنها :
ونحن على جوانبها قعود . . .
نغض الطرف كالإبل القماح
وقال الليث : هو رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكريه ثم يعود.
وقال الزجاج : للكانونين شهرا قماح ، لأن الإبل إذا وردت الماء ترفع رؤوسها لشدة برده ، وأنشد أبو زيد بيت الهذلي :
فتى ما ابن الأعز إذا شتونا . . .
وحب الزاد في شهري قماح
رواه بضم القاف ، وابن السكيت بكسرها ، وهما لغتان.
وسميا شهري قماح لكراهة كل ذي كبد شرب الماء فيه.
وقال الحسن : القامح : الطافح ببصره إلى موضع قدمه.

وقال مجاهد : الرافع الرأس ، الواضح يده على فيه.
وقال الطبري : الضمير في فهي عائد على الأيدي ، وإن لم يتقدم لها ذكر ، لوضوح مكانها من المعنى ، وذلك أن الغل إنما يكون في العنق مع اليدين ، ولذلك سمي الغل جامعة لجمعه اليد والعنق.
وأرى علي ، كرم الله وجهه ، الناس الأقماح ، فجعل يديه تحت لحييه وألصقهما ورفع رأسه.
وقال الزمخشري : جعل الأقماح نتيجة قوله : { فهي إلى الأذقان }.
ولو كان الضمير للأيدي ، لم يكن معنى التسبب في الأقماح ظاهراً.
على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطل الذي يجفو عنه ترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج. انتهى.
وقرأ عبد الله ، وعكرمة ، والنخعي ، وابن وثاب ، وطلحة ، وحمزة ، والكسائي ، وابن كثير ، وحفص : { سداً } بفتح السين فيهما؛ والجمهور : بالضم ، وتقدم شرح السد في الكهف.
وقرأ الجمهور : { فأغشيناهم } بالغين منقوطة؛ وابن عباس ، وعمر بن عبد العزيز ، وابن يعمر ، وعكرمة ، والنخعي ، وابن سيرين ، والحسن ، وأبو رجاء ، وزيد ابن علي ، ويزيد البربري ، ويزيد بن المهلب ، وأبو حنيفة ، وابن مقسم : بالعين من العشاء ، وهو ضعف البصر ، جعلنا عليها غشاوة.
{ وسواء عليهم } الآية : تقدّم الكلام على نظيرها تفسيراً وإعراباً في أول البقرة.
{ إنما تنذر } : تقدم { لتنذر قوماً } ، لكنه لما كان محتوماً عليهم أن لا يؤمنوا حتى قال : { وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } ، لم يجد الإنذار لانتفاء منفعته فقال : { إنما تنذر } : أي إنذاراً ينفع من اتبع الذكر ، وهو القرآن.
قال قتادة : أو الوعظ.
{ وخشي الرحمن } : أي المتصف بالرحمة ، مع أن الرحمة قد تعود إلى الرجاء ، لكنه مع علمه برحمته هو يخشاه خوفاً من أن يسلبه ما أنعم به عليه بالغيب ، أي بالخلوة عند مغيب الإنسان عن غيوب البشر.
ولما أحدث فيه النذارة ، بشره بمغفرة لما سلف؛ { وأجر كريم } على ما أسلف من العمل الصالح ، وهو الجنة.
ولما ذكر تعالى الرسالة ، وهي أحد الأصول الثلاثة التي بها يصير المكلف مؤمناً ، ذكر الحشر ، وهو أحد الأصول الثلاثة.
والثالث هو توحيد ، فقال : { إنا نحن نحيي الموتى } : أي بعد مماتهم.
وأبعد الحسن والضحاك في قوله : إحياؤهم : إخراجهم من الشرك إلى الإيمان.
{ ونكتب ما قدموا } ، كناية عن المجازاة : أي ونحصي ، فعبر عن إحاطة علمه بأعمالهم بالكتابة التي تضبط بها الأشياء.
وقرأ زر ومسروق : ويكتب ما قدموا وآثارهم بالياء مبنياً للمفعول ، وما قدموا من الأعمال.
وآثارهم : خطاهم إلى المساجد.
وقال : السير الحسنة والسيئة.
وقيل : ما قدّموا من السيئات وآثارهم من الأعمال.
وقال الزمخشري : ونكتب ما أسلفوا من الأعمال الصالحات غيرها ، وما هلكوا عنه من أثر حسن ، كعلم علموه ، وكتاب صنفوه ، أو حبيس أحبسوه ، أو بناء بنوه من مسجد أو رباط أو قنطرة أو نحو ذلك ، أو سيء كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين ، وسكة أحدثها فيها تحيرهم ، وشيء أحدث فيه صد عن ذكر الله من ألحان وملاه ، وكذلك كل سنة حسنة ، أو سيئة يستن بها ، ونحوه قوله عز وجل : { ينبؤ الإنسان يومئذ بما قدّم وأخر } من آثاره. انتهى.
وقرأ الجمهور : { وكل شيء } بالنصب على الاشتغال.
وقرأ أبو السمال : بالرفع على الابتداء.
والإمام المبين : اللوح المحفوظ ، قاله مجاهد وقتادة وابن زيد ، وقالت فرقة : أراد صحف الأعمال.

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)

تقدم الكلام على { اضرب } مع المثل في قوله : { إن يضرب مثلاً ما بعوضة } والقرية : أنطاكية ، فلا خلاف في قصة أصحاب القرية.
{ إذ جاءها المرسلون } : هم ثلاثة ، جمعهم في المجيء ، وإن اختلفوا في زمن المجيء.
{ إذا أرسلنا إليهم اثنين }.
الظاهر من أرسلنا أنهم أنبياء أرسلهم الله ، ويدل عليه قوله المرسل إليهم : { ما أنتم إلا بشر مثلنا }.
وهذه المحاورة لا تكون إلا مع من أرسله الله ، وهذا قول ابن عباس وكعب.
وقال قتادة وغيرهم من الحواريين : بعثهم عيسى عليه السلام حين رفع وصلب الذي ألقي عليه الشبه ، فافترق الحواريون في الآفاق ، فقص الله قصة الذين ذهبوا إلى أنطاكية ، وكان أهلها عباد أصنام ، صادق وصدوق ، قاله وهب وكعب الأحبار.
وحكى النقاش بن سمعان : ويحنا.
وقال مقاتل : تومان ويونس.
{ فكذبوهما } ، أي دعواهم إلى الله ، وأخيراً بأنهما رسولا الله ، { فكذبوهما فعززنا بثالث } : أي قوينا وشددنا ، قاله مجاهد وابن قتيبة ، وقال؛ يقال تعزز لحم الناقة إذا صلب ، وقال غيره : يقال المطر يعزز الأرض إذا لبدها وشدها ، ويقال للأرض الصلبة القرآن ، هذا على قراءة تشديد الزاي ، وهي قراءة الجمهور.
وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وأبو بكر ، والمفضل ، وأبان : بالتخفيف.
قال أبو علي : فغلبنا.
انتهى ، وذلك من قولهم من عزني ، وقوله تعالى : { وعزني في الخطاب } وقرأ عبد الله : بالثالث ، بألف ولام ، والثالث شمعون الصفا ، قاله ابن عباس.
وقال كعب ، ووهب : شلوم؛ وقيل : يونس.
وحذف مفعول فعززنا مشدداً ، أي قويناهما بثالث مخففاً ، فغلبناهم : أي بحجة ثالث وما يلطف به من التوصل إلى الدعاء إلى الله حتى من الملك على ما ذكر في قصتهم ، وستأتي هي أو بعض منها إن شاء الله.
وجاء أولاً مرسلون بغير لام لأنه ابتداء إخبار ، فلا يحتاج إلى توكيد بعد المحاورة.
{ لمرسلون } بلام التوكيد لأنه جواب عن إنكار ، وهؤلاء أمة أنكرت النبوات بقولها : { وما أنزل الرحمن من شيء } ، وراجعتهم الرسل بأن ردوا العلم إلى الله وقنعوا بعلمه ، وأعلموهم أنهم إنما عليهم البلاغ فقط ، وما عليهم من هداهم وضلالهم ، وفي هذا وعيد لهم.
ووصف البلاغ بالمبين ، وهو الواضح بالآيات الشاهدة بصحة الإرسال ، كما روي في هذه القصة من المعجزات الدالة على صدق الرسل من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الميت.
{ قالوا إنا تطيرنا بكم } : أي تشاء منا.
قال مقاتل : احتبس عليهم المطر.
وقال آخر : أسرع فيهم الجذام عند تكذيبهم الرسل.
قال ابن عطية : والظاهر أن تطير هؤلاء كان سبب ما دخل فيهم من اختلاف الكلمة وافتتان الناس ، وهذا على نحو تطير قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى نحو ما خوطب به موسى عليه السلام.
وقال الزمخشري : وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم ، وعادة الجهال أن يتمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه وقبلته طباعهم ، ويشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه ، فإن أصابتهم نعمة أو بلاء قالوا : ببركة هذا وبشؤم هذا ، كما حكى الله عن القبط :

{ وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } وعن مشركى مكة : { وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } انتهى.
وعن قتادة : إن أصابنا شيء كان من أجلكم.
{ لنرجمنكم } بالحجارة ، قاله قتادة.
{ عذاب أليم } : هو الحريق.
{ قالوا طائركم معكم } : أي حظكم وما صار لكم من خير أو شر معكم ، أي من أفعالكم ، ليس هو من أجلنا بل بكفركم.
وقرأ الحسن ، وابن هرمز ، وعمرو بن عبيد ، وزر بن حبيش : طيركم بياء ساكنة الطاء.
وقرأ الحسن فيما نقل : اطيركم مصدر اطير الذي أصله تطير ، فأدغمت التاء في الطاء ، فاجتلبت همزة الوصل في الماضي والمصدر.
وقرأ الجمهور : طائركم على وزن فاعل.
وقرأ الجمهور : { أئن ذكرتم } بهمزتين ، الأولى همزة الاستفهام ، والثانية همزة إن الشرطية ، فخففها الكوفيون وابن عامر ، وسهلها باقي السبعة.
وقرأ زر : بهمزتين مفتوحتين ، وهي قراءة أبي جعفر وطلحة ، إلا أنها البناء الثانية بين بين.
وقال الشاعر في تحقيقها :
أإن كنت داود بن أحوى مرحلاً . . .
فلست بداع لابن عمك محرماً
والماجشوني ، وهو أبو سلمة يوسف بن يعقوب بن عبدالله بن أبي سلمة المدني : بهمزة واحدة مفتوحة؛ والحسن : بهاء مكسورة؛ وأبو عمرو في رواية ، وزر أيضاً : بمدة قبل الهمزة المفتوحة ، استثقل اجتماعهما ففضل بينهما بألف.
وقرأ أبو جعفر أيضاً ، والحسن أيضاً ، وقتادة ، وعيس الهمداني ، والأعمش : أين بهمزة مفتوحة وياء ساكنة ، وفتح النون ظرف مكان.
وروي هذا عن عيسى الثقفي أيضاً.
فالقراءة الأولى على معنى : إن ذكرتم تتطيرون ، بجعل المحذوف مصب الاستفهام ، على مذهب سيبويه ، بجعله للشرط ، على مذهب يونس؛ فإن قدرته مضارعاً كان مجزوماً.
والقراءة الثانية على معنى : ألان ذكرتم تطيرتم ، فإن مفعول من أجله ، وكذلك الهمزة الواحدة المفتوحة والتي بمدة قبل الهمزة المفتوحة؛ وقراءة الهمزة المكسورة وحدها ، فحرف شرط بمعنى الإخبار ، أي إن ذكرتم تطيرتم.
والقراءة الثانية الأخيرة أين فيها ظرف أداة الشرط ، حذف جزاؤه للدلالة عليه وتقديره : أين ذكرتم صحبكم طائركم ، ويدل عليه قوله : { طائركم معكم }.
ومن جوز تقديم الجزاء على الشرط ، وهم الكوفيون وأبو زيد والمبرد ، يجوز أن يكون الجواب { طائركم معكم } ، وكان أصله : أين ذكرتم فطائركم معكم ، فاما قدم حذفت الفاء.
وقرأ الجمهور : ذكرتم ، بتشديد الكاف؛ وأبو جعفر ، وخالد بن الياس ، وطلحة ، والحسن ، وقتادة.
وأبو حيوة ، والأعمش من طريق زائدة ، والأصمعي عن نافع : بتخفيفها.
{ بل أنتم قوم مسرفون } : مجاوزون الحد في ضلالكم ، فمن ثم أتاكم الشؤم.
{ وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى } اسمه حبيب ، قاله ابن عباس وأبو مجلز وكعب الأحبار ومجاهد ومقاتل.
قيل : وهو ابن إسرائيل ، وكان قصاراً ، وقيل : إسكافاً ، وقيل : كان ينحت الأصنام ، ويمكن أن يكون جامعاً لهذه الصنائع.

و { من أقصى المدينة } : أي من أبعد مواضعها.
فقيل : كان في خارج المدينة يعاني زرعاً له.
وقيل : كان في غار يعبد ربه.
وقيل : كان مجذوماً ، فميزله أقصى باب من أبوابها ، عبد الأصنام سبعين سنة يدعوهم لكشف ضره.
فلما دعاه للرسل إلى عبادة الله قال : هل من آية؟ قالوا : نعم ، ندعو ربنا القادر يفرج عنك ما بك ، فقال : إن هذا لعجيب! لي سبعون سنة أدعو هذه الآلهة فلم تستطع ، يفرجه ربكم في غداة واحدة؟ قالوا : نعم ، ربنا على ما يشاء قدير ، وهذه لا تنفع شيئاً ولا تضر ، فآمن.
ودعوا ربهم ، فكشف الله ما به ، كأن لم يكن به بأس.
فأقبل على التكسب ، فإذا مشى ، تصدق بكسبه ، نصف لعياله ، ونصف يطعمه.
فلما هم قومه بقتل الرسل جاءهم فقال : { يا قوم اتبعوا المرسلين }.
وحبيب هذا ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبينهما ستمائة سنة ، كما آمن به تبع الأكبر ، وورقة بن نوفل وغيرهما ، ولم يؤمن بني غيره أحد إلا بعد ظهوره.
وقال ابن أبي ليلى : سباق الأمم ثلاثة ، لم يكفروا قط طرفة عين : على بن أبي طالب ، وصاحب يس ، ومؤمن آل فرعون.
وأورد الزمخشري قول ابن أبي ليلى حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقدم قبل من حاله أنه كان مجذوماً ، عبد الأصنام سبعين سنة ، فالله أعلم.
وهنا تقدم : { من أقصى المدينة } ، وفي القصص تأخر ، وهو من التفنن في البلاغة.
{ رجل يسعى } : يمشي على قدميه.
{ قال يا قوم اتبعوا المرسلين }.
الظاهر أنه لا يقول ذلك بعد تقدم إيمانه ، كما سبق في قصة.
وقيل : جاء عيسى وسمع قولهم وفهمه فيما فهمه.
روي أنه تعقب أمرهم وسبره بأن قال لهم : أتطلبون أجراً على دعوتكم هذه؟ قالوا : لا ، فدعا عند ذلك قومه إلى اتباعهم والإيمان بهم ، واحتج عليهم بقوله : { اتبعوا من لايسألكم أجراً وهم مهتدون } : أي وهم هدى من الله.
أمرهم أولاً باتباع المرسلين ، أي هم رسل الله إليكم فاتبعوهم ، ثم أمرهم ثانياً بجمله جامعة في الترغيب ، في كونهم لا ينقص منهم من حطام دنيانهم شيء ، وفي كونهم يهتدون بهداهم ، فيشتملون على خيري الدنيا والآخرة.
وقد أجاز بعض النحويين في { من } أن تكون بدلاً من { المرسلين } ، ظهر فيه العامل كما ظهر إذا كان حرف جر ، كقوله تعالى : { لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم } والجمهور : لا يعربون ما صرح فيه بالعامل الرافع والناصب ، بدلاً ، بل يجعلون ذلك مخصوصاً بحرف الجر.
وإذا كان الرافع والناصب ، سموا ذلك بالتتبيع لا بالبدل.
وفي قوله : { اتبعوا من لا يسألكم أجراً } ، دليل على نقص من يأخذ أجراً على شيء من أفعال الشرع التي هي لازمة له ، كالصلاة.
ولما أمرهم باتباع المرسلين ، أخذ يبدي الدليل في اتباعهم وعبادة الله ، فأبرزه في صورة نصحه لنفسه ، وهو يريد نصحهم ليتلطف بهم ويراد بهم؛ ولأنه أدخل في إمحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه ، فوضح قوله : { ومالي لا أعبد الذين فطرني } ، موضع : وما لكم لا تعبدون الذي فطركم؟ ولذلك قال : { وإليه ترجعون } ، ولولا أنه قصد ذلك لقال : وإليه أرجع.

ثم أتبع الكلام كذلك مخاطباً لنفسه فقال : { أأتخذ من دونه آلهة } قاصرة عن كل شيء ، لا تنفع ولا تضر؟ فإن أرادكم الله بضر ، وشفعت لكم ، لم تنفع شفاعتهم ، ولم يقدروا على إنقاذكم فيه ، أولاً بانتفاء الجاه عن كون شفاعتهم لا تنفع ، ثم ثانياً بانتفاء القدر.
فعبر بانتفاء الإنقاذ عنه ، إذ هو نتيجته.
وفتح ياء المتكلم في يردني مع طلحة السمان ، كذا في كتاب ابن عطية ، وفي كتاب ابن خالويه طلحة بن مطرف ، وعيسى الهمذاني ، وأبو جعفر ، ورويت عن نافع وعاصم وأبي عمرو.
وقال الزمخشري : وقرىء إن يردني الرحمن بضر بمعنى : إن يجعلني مورداً للضر. انتهى.
وهذا والله أعلم رأي في يكتب القراءات ، يردني بفتح الياء ، فتوهم أنها ياء المضارعة ، فجعل الفعل متعدياً بالياء المعدية كالهمزة ، فلذلك أدخل عليه همزة التعدية ، ونصب به اثنين.
والذي في كتب القراء الشواذ أنها ياء الإضافة المحذوفة خطأ ونطقاً لالتقاء الساكنين.
قال في كتاب ابن خالويه : بفتح ياء الإضافة.
وقال في اللوامح : إن يردني الرحمن بالفتح ، وهو أصل الياء عند البصرية ، لكن هذه محذوفة ، يعني البصرية ، أي المثبتة بالخط البربري بالبصر ، لكونها مكتوبة بخلاف المحذوفة خطأً ولفظاً ، فلا ترى بالبصر.
{ إني إذا } ، إن لم أعبد الذي فطرني واتخذت آلهة من دونه ، في حيرة واضحة لكل ذي عقل صحيح.
ثم صرح بإيمانه وصدع بالحق ، فقال مخاطباً لقومه : { إني آمنت بربكم } : أي الذي كفرتم به ، { فاسمعون } : أي اسمعوا قولي وأطيعون ، فقد نبهتكم على الحق ، وأن العبادة لا تكون إلا لمن منه نشأتكم وإليه مرجعكم.
والظاهر أن الخطاب بالكاف والميم وبالواو ، وهو لقومه ، والأمر على جهة المبالغة والتنبيه ، قال ابن عباس وكعب ووهب.
وقيل : خاطب بقوله { فاسمعون } الرسل ، على جهة الاستشهاد بهم والاستحفاظ للأمر عندهم.
وقيل : الخطاب في { بربكم } ، وفي { فاسمعون } للرسل.
لما نصح قومه أخذوا يرجمونه ، فأسرع نحو الرسل قبل أن يقتل فقال ذلك ، أي اسمعوا إيماني واشهدوا لي به.
{ قيل أدخل الجنة } : ظاهره أن أمر حقيقي.
وقيل : معناه وجبت لك الجنة ، فهو خبر بأنه قد استحق دخولها ، ولا يكون إلا بعد البعث ، ولم يأت في القرآن أنه قتل.
فقال الحسن : لما أراد قومه قتله ، رفعه الله إلى السماء ، فهو في الجنة لا يموت إلا بفناء السموات وهلاكه الجنة ، فإذا أعاد الله الجنة دخلها.
وقيل : لما قال ذلك ، رفعوه إلى الملك ، فطول معهم الكلام ليشغلهم عن قتل الرسل إلى أن صرح لهم بإيمانه ، فوثبوا عليه فقتلوه بوطء الأرجل حتى خرج قلبه من دبره وألقي في بئر ، وهي الرس.

وقال السدي : رموه بالحجارة وهو يقول : «اللهم اهد قومي» ، حتى مات.
وقال الكلبي : رموه في حفرة ، وردوا التراب عليه فمات.
وعن الحسن : حرقوه حرقاً ، وعلقوه في باب المدينة ، وقبره في سور أنطاكية.
وقيل : نشروه بالمناشير حتى خرج من بين رجليه.
وعن قتادة : أدخله الله الجنة ، وهو فيها حي يرزق.
أراد قوله تعالى : { بل أحياء عند ربهم يرزقون ، فرحين } وفي النسخة التي طالعنا من تفسير ابن عطية ما نصه.
وقرأ الجمهور : فاسمعون بفتح النون.
قال أبو حاتم : هذا خطأ لا يجوز لأنه أمر ، فإما حذف النون ، وإما كسرها على جهة البناء.
انتهى ، يعني ياء المتكلم والنون للوقاية.
وقوله : وقرأ الجمهور وهم فاحش ، ولا يكون ، والله أعلم ، إلا من الناسخ؛ بل القراء مجمعون فيما أعلم على كسر النون ، سبعتهم وشواذهم ، إلا ما روي عن عصمة عن عاصم من فتح النون ، ذكره في الكامل مؤلف أبي القاسم الهذلي ، ولعل ذلك وهم من عصمة.
وقال ابن عطية : هنا محذوف تواترت به الأحاديث والروايات ، وهو أنهم قتلوه ، فقيل له عند موته : { ادخل الجنة } ، وذلك ، والله أعلم ، بأن عرض عليه مقعده منها ، وتحقق أنه من ساكنيها ، فرأى ما أقر عينه ، فلما حصل ذلك ، تمنى أن يعلم قومه بذلك. انتهى.
وقول : { قي ادخل الجنة } كأنه جواب لسائل عن حاله عند لقاء ربه بعد ذلك التصلب في دينه فقيل : { ادخل الجنة } ، ولم يأت التركيب : قيل له ، لأنه معلوم أنه المخاطب ، وتمنيه علم قومه بذلك هو مرتب على تقدير سؤال عن ما وجد من قوله عند ذلك استيفاقاً ونصحاً لهم ، أي لو علموا ذلك لآمنوا بالله.
وفي الحديث : " نصح قومه حياً وميتاً " وقيل : تمنى ذلك ليعلموا أنهم كانوا على خطأ في أمره ، وهو على صواب ، فيندموا ويحزنهم ذلك ويبشر بذلك.
وموجود في طباع النشر أن من أصاب خيراً في غير موطنه ، ودَّ أن يعلم بذلك جيرانه وأترا به الذين نشأ فيهم.
وبلغنا أن الوزير ذنك الدين المسيري ، وكان وزيراً لملك مصر ، راح إلى قريته التي كان منها ، وهي مسير ، وهي من أصغر قرى مصر ، فقيل له في ذلك ، فقال : أردت أن يراني عجائز مسير في هذه الحالة التي أنا فيها ، قال الشاعر :
والعز مطلوب وملتمس . . .
وأحبه ما نيل في الوطن
والظاهر أن ما في قوله : { بما غفر لي ربي } مصدرية ، جوزوا أن يكون بمعني الذي ، والعائد محذوف تقديره : بالذي غفره لي ربي من الذنوب ، وليس هذا بجيد ، إذ يؤول إلى تمني علمهم بالذنوب المغفرة ، والذي يحسن تمني علمهم بمغفرة ذنوبه وجعله من المكرمين.

وأجاز الفراء أن تكون ما استفهاماً.
وقال الكسائي : لو صح هذا ، يعني الاستفهام ، لقال بم من غير ألف.
وقال الفراء : يجوز أن يقال بما بالألف ، وأنشد فيه أبياتاً.
وقال الزمخشري : ويحتمل أن تكون استفهامية ، يعني بأي شيء غفر لي ربي ، يريد ما كان منه معهم من المصابرة لاعزاز دين الله حتى قيل : إن قولك { بما غفر لي ربي } يريد ما كان منه معهم بطرح الألف أجود ، وإن كان إثباتها جائزاً فقال : قد علمت بما صنعت هذا وبم صنعت. انتهى.
والمشهور أن إثبات الألف في ما الاستفهامية ، إذا دخل عليها حرف جر ، مختص بالضرورة ، نحو قوله :
على ما قام يشتمني لئيم . . .
كخنزير تمرغ في رماد
وحذفها هو المعروف في الكلام ، نحو قوله :
على م يقول الرمح يثقل كاهلي . . .
إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت
وقرىء : من المكرمين ، مشدد الراء مفتوح الكاف؛ والجمهور : بإسكان الكاف وتخفيف الراء.

وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)

أخبر تعالى بإهلاك قوم حبيب بصيحة واحدة صاح بهم جبريل ، وفي ذلك توعد لقريش أن يصيبهم ما أصابهم ، إذ هم المضروب لهم المثل.
وأخبر تعالى أنه لم ينزل عليهم لإهلاكهم جنداً من السماء ، كالحجارة والريح وغير ذلك ، وكانوا أهون عليه.
وقوله : { من بعده } ، يدل على ابتداء الغاية ، أي لم يرسل إليهم رسولاً ، ولا عاتبهم بعد قتله ، بل عاجلهم بالهلاك.
والظاهر أن ما في قوله : { ومكنا منزلين } نافية ، فالمعنى قريب من معنى الجملة قبلها ، أي وما كان يصح في حكمنا أن ننزل في إهلاكهم جنداً من السماء ، لأنه تعالى أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون بعض ، كما قال : { فكلاً أخذنا بذنبه } الآية.
وقالت فرقة : ما اسم معطوف على جند.
قال ابن عطية : أي من جند ومن الذي كنا منزلين على الأمم مثلهم.
انتهى ، وهو تقدير لا يصح ، لأن من في من جند زائدة.
ومذهب البصريين غير الأخفش أن لزيادتها شرطين : أحدهما : أن يكون قبلها نفي ، أو نهي ، أو استفهام.
والثاني : أن يكون بعدها نكرة ، وإن كان كذلك ، فلا يجوز أن يكون المعطوف على النكرة معرفة.
لا يجوز : ما ضربت من رجل ولا زيد ، وإنه لا يجوز : ولا من زيد ، وهو قدر المعطوف بالذي ، وهو معرفة ، فلا يعطف على النكرة المجرورة بمن الزائدة.
وقال أبو البقاء : ويجوز أن تكون ما زائدة ، أي وقد كنا منزلين ، وقوله ليس بشيء.
وقرأ : { إن كانت إلا صيحة } ، بنصب الصيحة ، وكان ناقصة واسمها مضمر ، أي إن كانت الأخذة أو العقوبة.
وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، ومعاذ بن الحارث القارىء : صيحة بالرفع في الموضعين على أن كانت تامة ، أي ما خدثت أو وقعت إلا صيحة ، وكان الأصل أن لا يلحق التاء ، لأنه إذا كان الفعل مسنداً إلى مابعد إلا من المؤنث ، لم تلحق العلامة للتأنيث فيقول : ما قام إلا هند ، ولا يجوز : ما قامت إلا هند ، عند أصحابنا إلا في الشعر ، وجوزه بعضهم في الكلام على قلة.
ومثله قراءة الحسن ، ومالك بن دينار ، وأبي رجاء ، والجحدري ، وقتادة ، وأبي حيوة ، وابن أبي عبلة ، وأبي بحرية : لا ترى إلا مساكتهم بالتاء ، والقراءة المشهورة بالياء ، وقول ذي الرمة :
وما بقيت إلا الضلوع الجراشع . . .
وقول الآخر :
ما برئت من ريبة وذمّ . . .
في حربنا إلا بنات العمّ
فأنكر أبو حاتم وكثير من النحويين هذه القراءة بسبب لحوق تاء التأنيث.
{ فإذا هم خامدون } : أي فاجأهم الخمود إثر الصيحة ، لم يتأخر.
وكنى بالخمود عن سكوتهم بعد حياتهم ، كنار خمدت بعد توقدها.
ونداء الحسرة على معنى هذا وقت حضورك وظهورك ، هذا تقدير نداء ، مثل هذا عند سيبويه ، وهو منادى منكور على قراءة الجمهور.

وقرأ أبيّ ، وابن عباس ، وعلي بن الحسين ، والضحاك ، ومجاهد ، والحسن : يا حسرة العباد ، على الإضافة ، فيجوز أن تكون الحسرة منهم على ما فاتهم ، ويجوز أن تكون الحسرة من غيرهم عليهم ، لما فاتهم من اتباع الرسل حين أحضروا للعذاب؛ وطباع البشر تتأثر عند معاينة عذاب غيرهم وتتحسر عليهم.
وقرأ أبو الزناد ، وعبد الله بن ذكوان المدني ، وابن هرمز ، وابن جندب : { يا حسرة على العباد } ، بسكون الهاء في الحالين حمل فيه الوصل على الوقف ، ووقفوا على الهاء مبالغة في التحسر ، لما في الهاء من التأهه كالتأوّه ، ثم وصلوا على تلك الحال ، قاله صاحب اللوامح.
وقال ابن خالويه : يا حسرة على العباد بغير تنوين ، قاله ابن عباس ، انتهى ، ووجهه أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف التي هي بدل من ياء المتكلم في النداء ، كما اجتزأ بالكسرة عن الياء فيه.
وقد قرىء : يا حسرتا ، بالألف ، أي يا حسرتي ، ويكون من الله على سبيل الاستعارة في معنى تعظيم ما جنوه على أنفسهم ، وفرط إنكاره وتعجيبه منه.
والظاهر أن العباد هم مكذبو الرسل ، تحسرت عليهم الملائكة ، قاله الضحاك.
وقال الضحاك أيضاً : المعنى يا حسرة الملائكة على عبادنا الرسل حتى لم ينفعهم الإيمان لهم.
وقال أبو العالية : المراد بالعباد الثلاثة ، وكان هذا التحسر هو من الكفار ، حين رأوا عذاب الله تلهفوا على ما فاتهم.
قال ابن عطية : وقوله { ما يأتيهم } الآية يدفع هذا التأويل. انتهى.
قال الزجاج : الحسرة أمر يركب الإنسان من كثرة الندم على ما لا نهاية له حتى يبقى حسيراً.
وقيل : المنادى محذوف ، وانتصب حسرة على المصدر ، أي يا هؤلاء تحسروا حسرة.
وقيل : { ياحسرة على العباد } من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ، لما وثب القوم ولقتله.
وقيل : هو من قول الرسل الثلاثة ، قالوا ذلك حين قتلوا ذلك الرجل وجل بهم العذاب ، قالوا : يا حسرة على هؤلاء ، كأنهم تمنوا أن يكونوا قد آمنوا. انتهى.
فالألف واللام للعهد إذا قلنا إن العباد المراد بهم الرسل الثلاثة أو من أرسلوا إليه وهم الهالكون بسبب كفرهم وتكذيبهم إياهم.
والظاهر أنها لتعريف جنس الكفار المكذبين وتلخص أن المتحسر الملائكة أو الله تعالى أو المؤمنون أو الرسل الثلاثة أو ذلك الرجل ، أقوال.
{ ما يأتيهم } إلى آخر الآية : تمثيل لقريش ، وهم الذين عاد عليهم الضمير في قوله { ألم يروا كم أهلكنا }.
قال ابن عطية : وكم هنا خبرية ، وأنهم بدل منها ، والرؤية رؤية البصر. انتهى.
فهذا لا يصح ، لأنها إذا كانت خبرية فهي في موضع نصب بأهلكنا ، ولا يسوغ فيها إلا ذلك.
وإذا كان كذلك ، امتنع أن يكون أنهم بدل منها ، لأن البدل على نية تكرار العامل ، ولو سلطت أهلكنا على أنهم لم يصح.
ألا ترى أنك لو قلت أهلكنا انتفاء رجوعهم ، أو أهلكنا كونهم لا يرجعون ، لم يكن كلاماً؟ لكن ابن عطية توهم أن يروا مفعوله كم ، فتوهم أن قولهم أنهم لا يرجعون بدل ، لأنه يسوغ أن يتسلط عليه فتقول : ألم يروا أنهم لا يرجعون؟ وهذا وأمثاله دليل على ضعفه في علم العربية.

وقال الزجاج : هو بدل من الجملة ، والمعنى : ألم يروا أن القرون التي أهلكناها إليهم لا يرجعون ، لأن عدم الرجوع والهلاك بمعنى النهي.
وهذا الذي قاله الزجاج ليس بشيء ، لأنه ليس بدلاً صناعياً ، وإنما فسر المعنى ولم يلحظ صنعة النحو.
وقال أبو البقاء : أنهم إليهم.
انتهى ، وليس بشيء ، لأن كم ليس بمعمول ليروا.
ونقل عن الفراء أنه يعمل يروا في الجملتين من غير إبدال ، وقولهم في الجملتين تجوز ، لأن أنهم وما بعده ليس بجملة ، ولم يبين كيفية هذا العمل.
وقال الزمخشري : { ألم يروا } : ألم يعلموا ، وهو معلق عن العمل في كم ، لأن كم لا يعمل فيها عامل قبلها كانت للاستفهام أو للخبر ، لأن أصلها الاستفهام ، إلا أن معناها نافذ في الجملة ، كما نفذ في قولك : ألم يروا أن زيداً لمنطلق؟ وأن لم تعمل في لفظه.
و { أنهم إليهم لا يرجعون } بدل من { أهلكنا } على المعنى لا على اللفظ تقديره : ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم؟ انتهى.
فجعل يروا بمعنى يعلموا ، وعلقها على العمل في كم.
وقوله : لأن كم لا يعمل فيها ما قبلها ، كانت للاستفهام أو للخبر ، وهذا ليس على إطلاقه ، لأن العامل إذا كان حرف جر أو اسماً مضافاً جاز أن يعمل فيها ، نحوكم على : كم جذع بيتك؟ وأين : كم رئيس صحبت؟ وعلى : كم فقير تصدّقت؟ أرجو الثواب ، وأين : كم شهيد في سبيل الله أحسنت إليه؟ وقوله : أو للخبر الخبرية فيها لغتان : الفصيحة كما ذكر لا يتقدمها عامل إلا ما ذكرنا من الجار واللغة الأخرى ، حكاها الأخفش؛ يقولون فيها : ملكت كم غلام؟ أي ملكت كثيراً من الغلمان.
فكما يجوز أن يتقدم العامل على كثير ، كذلك يجوز أن يتقدم على كم لأنها بمعناها.
وقوله : لأن أصلها الاستفهام ، ليس أصلها الاستفهام ، بل كل واحدة أصل في بابها ، لكنها لفظ مشترك بين الاستفهام والخبر.
وقوله : إلا أن معناها نافذ في الجملة ، يعني معنى يروا نافذ في الجملة ، لأن جعلها معلقة ، وشرح يروا بيعلموا.
وقوله : كما تقدم في قولك : ألم يروا أن زيداً لمنطلق؟ فإن زيداً لمنطلق معمول من حيث المعنى ليروا ، ولو كان عاملاً من حيث اللفظ لم تدخل اللام ، وكانت أن مفتوحة ، فإن وفي خبرها اللام من الأدوات التي تعلق أفعال القلوب.
وقوله : و { أنهم لا يرجعون } إلى آخر كلامه لا يصح أن يكون بدلاً ، لا على اللفظ ولا على المعنى.
أما على اللفظ فإنه زعم أن يروا معلقة ، فيكون كم استفهاماً ، وهو معمول لأهلكنا ، وأهلكنا لا يتسلط على { أنهم إليهم لا يرجعون } ، وتقدّم لنا ذلك.

وأما على المعنى ، فلا يصح أيضاً ، لأنه قال تقديره ، أي على المعنى : ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم؟ فكونهم غير كذا ليس كثرة الإهلاك ، فلا يكون بدل كل من كل ، ولا بعضاً من الإهلاك ، ولا يكون بدل بعض من كل ، ولا يكون بدل اشتمال ، لأن بدل الاشتمال يصح أن يضاف إلى ما أبدل منه ، وكذلك بدل بعض من كل ، وهذا لا يصح هنا.
لا تقول : ألم يروا انتفاء رجوع كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم ، وفي بدل الاشتمال نحو : أعجبني الجارية ملاحتها ، وسرق زيد ثوبه ، يصح أعجبني ملاحة الجارية ، وسرق ثوب زيد ، وتقدم لنا الكلام على إعراب مثل هذه الجملة في قوله : { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } في سورة الأنعام.
والذي تقتضيه صناعة العربية أن أنهم معمول لمحذوف ، ودل عليه المعنى ، وتقديره : قضينا أو حكمنا { أنهم إليهم لا يرجعون }.
وقرأ ابن عباس والحسن : إنهم بكسر الهمزة على الاستئناف ، وقطع الجملة عن ما قبلها من جهة الإعراب ، ودل ذلك على أن قراءة الفتح مقطوعة عن ما قبلها من جهة الإعراب لتتفق القراءتان ولا تختلفا.
والضمير في أنهم عائد على معنى كم ، وهم القرون ، وإليهم عائد على من أسند إليه يروا ، وهم قريش؛ فالمعنى : أنهم لا يرجعون إلى من في الدنيا.
وقيل : الضمير في أنهم عائد على من أسند إليه يروا ، وفي إليهم عائد على المهلكين ، والمعنى : أن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة ، أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم ، والإهلاك مع قطع النسل أتم وأعم.
وقرأ عبد الله : ألم يروا من أهلكنا ، وأنهم على هذا بدل اشتمال؛ وفي قولهم : أنهم لا يرجعون ، رد على القائلين بالرجعة.
وقيل لابن عباس : إن قوماً يزعمون أن علياً مبعوث قبل يوم القيامة ، فقال : ليس القوم نحن إذا نكحنا نساءه وقسمنا ميراثه.
وقرأ عاصم ، وحمزة ، وابن عامر : بتثقيل لما؛ وباقي السبعة : بتخفيفها.
فمن ثقلها كانت عنده بمعنى إلا ، وإن نافية ، أي ما كل ، أي كلهم { إلا جميع لدينا ، محضرون } : أي محشورون ، قاله قتادة.
وقال ابن سلام : معذبون؛ وقيل : التقدير لمن ما وليس بشيء ، ومن خفف لما جعل إن المخففة من الثقيلة ، وما زائدة ، أي إن كل لجميع ، وهذا على مذهب البصريين.
وأما الكوفيون ، فإن عندهم نافية ، واللام بمعنى إلا ، وما زائدة ، ولما المشددة بمعنى إلا ثابت في لسان العرب بنقل الثقاة ، فلا يلتفت إلى زعم الكسائي أنه لا يعرف ذلك.
وقال أبو عبد الله الرازي : في كون لما بمعنى إلا معنى مناسب ، وهو أن لما كأنها حرفا نفي جميعاً.
وهما لم وما ، فتأكد النفي؛ وإلا كأنها حرفا نفي إن ولا ، فاستعمل أحدهما مكان الآخر.

انتهى ، وهذا أخذه من قول الفراء في إلا في الاستثناء أنها مركبة من إن ولا ، إلا أن الفراء جعل إن المخففة من الثقيلة وما زائدة ، أي إن كل لجميع ، وهذا على مذهب البصريين.
وأما الكوفيون ، فإن عندهم نافية ، واللام بمعنى إلا ، وما زائدة ، ولما المشددة بمعنى إلا ثابت حرف نفي ، وهو قول مردود عند النحاة ركيك ، وما تركب منه وزاد تحريفاً أرك منه ، وكل بمعنى الإحاطة ، وجميع فعيل بمعنى مفعول ، ويدل على الاجتماع ، وجميع محضرون هنا على المعنى ، كما أفرد منتصر على اللفظ ، وكلاهما بعد جميع يراعى فيه الفواصل.
وجاءت هذه الجملة بعد ذكر الإهلاك تبييناً أنه تعالى ليس من أهله يترك ، بل بعد إهلاكهم جمع وحساب وثواب وعقاب ، ولذلك أعقب هذا بما يدل على الحشر من قوله : { وآية لهم الأرض الميتة أحييناها } وما بعده من الآيات.
وبدأ بالأرض ، لأنها مستقرهم ، حركة وسكوناً ، حياة وموتاً.
وموت الأرض جدبها ، وإحياؤها بالغيث.
والضمير في لهم عائد على كفار قريش ومن يجري مجراهم في إنكار الحشر.
و { أحييناها } : استئناف بيان لكون الأرض الميتة آية ، وكذلك نسلخ.
وقيل : أحييناها في موضع الحال ، والعامل فيها آية بما فيها من معنى الإعلام ، ويكون آية خبراً مقدماً ، والأرض الميتة مبتدأ؛ فالنية بآية التأخير ، والتقدير : والأرض الميتة آية لهم محياة كقولك : قائم زيد مسرعاً ، أي زيد قائم مسرعاً ، ولهم متعلق بآية ، لا صفة.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يوصف الأرض والليل بالفعل ، لأنه أريد بهما الجنسان مطلقين لا أرض ، وليل بإحيائهما ، فعوملا معاملة النكرات في وصفها بالأفعال ونحوه :
ولقد أمر على اللئيم يسبني . . .
انتهى.
وهذا هدم لما استقر عند أئمة النحو من أن النكرة لا تنعت إلا بالنكرة ، والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة ، ولا دليل لمن ذهب إلى ذلك.
وأما يسبني فحال ، أي ساباً لي ، وقد تبع الزمخشري ابن مالك على ذلك في التسهيل من تأليفه.
وفي هذه الجمل تعدد نعم إحياؤها بحيث تصير مخضرة تبهج النفس والعين ، وإخراج الحب منها حيث صار ما يعيشون به في المكان الذي هم فيه مستقرون ، لا في السماء ولا في الهواء ، وجعل الحبات لأنهم أكلوا من الحب ، وربما تاقت النفس إلى النقلة ، فالأرض يوجد منها الحب ، والشجر يوجد منه المثر ، وتفجير العيون يحصل به الاعتماد على تحصيل الزرع والثمر ، ولو كان من السماء لم يدرأ يغرس ولا أين يقع المطر.
وقرأ جناح بن حبيش : { وفجرنا } بالتخفيف ، والجمهور : بالتشديد.
{ ومن ثمره } بفتحتين؛ وطلحة ، وابن وثاب ، وحمزة ، والكسائي : بضمتين؛ والأعمش : بضم الثاء وسكون الميم؛ والضمير في ثمره عائد على الماء ، قيل : لدلالة العيون عليه ولكونه على حذف مضاف ، أي من ماء العيون؛ وقيل : على النخيل ، واكتفى به للعلم في اشتراك الأعيان فيما علق به النخيل من أكل ثمره ، أو يراد من ثمر المذكور ، وهو الجنات ، كما قال الشاعر :

فيها خطوط من سواد وبلق . . .
كأنه في الجلد توليع البهق
فقيل له : كيف قلت بعيون ، كأنه والذي تقدم خطوط؟ فقال أرت : كان ذاك.
وقيل : عائد إلى التفجير الدال عليه وفجرنا الآية أقرب مذكور ، وعنى بثمرة : فوائده ، كما تقول : ثمرة التجارة الربح.
وقال الزمخشري : وأصله من ثمرنا ، كما قال : { وجعلنا } ، { وفجرنا } ، فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات ، والمعنى : ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر ، ومما عملته أيديهم من الغرس والسقي والآبار وغير ذلك من الأعمال إلى أن بلغ الثمر منتهاه ، وبأن أكله يعني أن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه ، وفيه آثار من كد بني آدم.
ويجوز أن تكون ما نافية ، على أن الثمر خلق الله ، ولم تعمله أيديه الناس ، ولا يقدرون على خلقه.
وقرأ الجمهور : { ما عملته } بالضمير ، فإن كانت ما موصولة فالضمير عائد عليها ، وإن كانت نافية فالضمير عائد على الثمر.
وقرأ طلحة ، وعيسى ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : بغير ضمير مفعول عملت على التقريرين محذوفة ، وجوز في هذه القراءة أن تكون ما مصدرية ، أي وعمل أيديهم ، وهو مصدر أريد به المعمول ، فيعود إلى معنى الموصول.
ولما عدد تعالى هذه النعم ، حض على الشكر فقال؛ { أفلا يشكرون } ، ثم نزه تعالى نفسه عن كل ما يلحد به ملحد ، أو يشرك به مشرك ، فذكر إنشاء الأزواج ، وهي الأنواع من جميع الأشياء ، { مما تنبت الأرض } : من النخل والشجر والزرع والثمر وغير ذلك.
وكل صنف زوج مختلف لوناً وطعماً وشكلاً وصغراً وكبراً ، { ومن أنفسهم } : ذكوراً وإناثاً ، { ومما لا يعلمون } : أي وأنواعاً مما لا يعلمون ، أعلموا بوجوده ولم يعلموا ما هو ، إذ لا يتعلق علمهم بماهيته ، أمر محتاج إليه في دين ولا دنيا.
وفي إعلامه بكثرة مخلوقاته دليل على اتساع ملكه وعظم قدرته.
ولما ذكر تعالى الاستدلال بأحوال الأرض ، وهي المكان الكلي ، ذكر الاستدلال بالليل والنهار ، وهو الزمان الكلي؛ وبينهما مناسبة ، لأن المكان لا تستغني عنه الجواهر ، والزمان لا تستغني عنه الأعراض ، لأن كل عرض فهو في زمان ، ومثله مذكور في قوله : { ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر } ثم قال بعده : { ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة } الآية.
وبدأ هناك بالزمان ، لأن المقصود إثبات الوحدانية بدليل قوله : { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر } الآية ، ثم الحشر بقوله : { إن الذي أحياها لمحيي الموتى } وهذا المقصود الحشر أولاً لأن ذكره فيها أكثر ، وذكر التوحيد في فصلت أكثر بدليل قوله : { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض } انتهى ، وهو من كلام أبي عبد الله الرازي ، وفيه تلخيص.
و { نسلخ } : معناه نكشط ونقشر ، وهو استعارة لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل.

و { مظلمون } : داخلون في الظلام ، كما تقول : أعتمنا وأسحرنا : دخلنا في العتمة وفي السحر.
واستدل قوم بهذا على أن الليل أصل والنهار فرع طارىء عليه ، ومستقر الشمس بين يدي العرش تسجد فيه كل ليلة بعد غروبها.
كما جاء في حديث أبي در : «ويقال لها اطلعي من حيث طلعت ، فإذا كان طلوعها من مغربها يقال لها اطلعي من حيث غربت ، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها ، لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً».
وقال ابن عباس : إذا غربت وانتهت إلى الموضع الذي لا تتجاوزه ، استوت تحت العرش إلى أن تطلع.
وقال الحسن : للشمس في السنة ثلاثمائة وستون مطلعاً ، تنزل كل يوم مطلعاً ، ثم لا تنزل إلى الحول ، وهي تجري في فلك المنازل ، أو يوم القيامة ، أو غيبوبتها ، لأنها تجري كل وقت إلى حد محدود تغرب فيه ، أو أحد مطالعها في المنقلبين ، لأنهما نهايتا مطالعها؛ فإذا استقر وصولها كرت راجعة ، وإلا فهي لا تستقر عن حركتها طرفة عين.
ونحا إلى هذا ابن قتيبة ، أو وقوفها عند الزوال كال يوم ، ودليل استقرارها وقوف ذلك الظلام حينئذ.
وقال الزمخشري : بمستقر لها : لحدِّها مؤقت مقدر تنتهي إليه من فلكها في آخلا السنة.
شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره ، أو كمنتهي لها من المشارق والمغارب ، لأنها تتقصاها مشرقاً مشرقاً ومغرباً مغرباً حتى تبلغ أقصاها ثم ترجع ، فلذلك حدها ومستقرها ، لأنها لا تعدوه أو لا يعدلها من مسيرها كل يوم في مرأى عيوننا وهو المغرب.
وقيل : مستقرها : محلها الذي أقر الله عليه أمرها في جريها فاستقرت عليه ، وهو آخر السنة.
وقيل : الوقت الذي تستقر فيه وينقطع جريها ، وهو يوم القيامة.
وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : في المستقر وجوه في الزمان وفي المكان ، ففي الزمان الليل أو السنة أو يوم القيامة ، وفي المكان غاية ارتفاعها في الصيف وانخفاضها في الشتاء ، وتجري إلى ذلك الموضع فترجع ، أو غاية مشارقها ، فلها في كل يوم مشرق إلى ستة أشهر ، ثم تعود على تلك المقنطرات؛ وهذا هو ما تقدم في الارتفاع.
فإن اختلاف المشارق سبب اختلاف الارتفاع ، أو وصولها إلى بيتها في الأسد ، أو الدائرة التي عليها حركتها ، حيث لا تميل عن منطقة البروج على مرور الشمس.
ويحتمل أن يقال : تجري مجرى مستقرها ، فإن أصحاب الهيئة قالوا : الشمس في فلك ، والفلك يدور فيدير الشمس ، فالشمس تجري مجرى مستقرها. انتهى.
وقرىء : إلى مستقرها.
وقرأ عبد الله ، وابن عباس ، وعكرمة ، وعطاء بن رباح ، وزين العابدين ، والباقر ، وابنه الصادق ، وابن أبي عبدة : لا مستقر لها ، نفياً مبنياً على الفتح ، فيقتضي انتفاء كل مستقر وذلك في الدنيا ، أي هي تجري دائماً فيها ، لا تستقر؛ إلا ابن أبي عبلة ، فإنه قرأ برفع مستقر وتنوينه على إعمالها إعمال ليس ، نحو قول الشاعر :

تعز فلا شيء على الأرض باقياً . . .
ولا وزر مما قضى الله واقياً
الإشارة بذلك إلى جري الشمس : أي ذلك الجري على ذلك التقدير والحساب الدقيق.
{ تقدير العزيز } : الغالب بقدرته على كل مقدور ، المحيط علماً بكل معلوم.
وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، وابن محيصن ، والحسن : بخلاف عنه.
{ والقمر } : بالرفع على الابتداء؛ وباقي السبعة : بالنصب على الاشتغال.
و { قدرناه } على حذف مضاف ، أي قدرنا سيره ، و { منازل } : طرف ، أي منازله؛ وقيل : قدرنا نوره في منازل ، فيزيد مقدار النور كل يوم في المنازل الاجتماعية وينقص في المنازل الاستقبالية.
وقيل : قدرناه : جعلنا أنه أجري جريه عكس منازل أنوار الشمس ، ولا يحتاج إلى حذف حرف الصفة ، فإن جرم القمر مظلم ، ينزل فيه النور لقبوله عكس ضياء الشمس ، مثل المرأة المجلوة إذا قوبل بها الشعاع.
وهذه المنازل معروفة عند العرب ، وهي ثمانية وعشرون منزلة ، ينزل القمر كل ليلة في واحد منها ، لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه ، على تقدير مستولا بتفاوت ، يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين ، ثم يسير ليلتين إذا نقص الشهر ، وهذه المنازل هي مواقع النجوم التي نسبت إليها العرب الأنواء المستمطرة ، وهي : الشرطين ، البطين ، الثريا ، الدبوان ، الهقعة ، الهنعة ، الذراع ، النثرة ، الطرف ، الجبهة ، الدبرة ، الصرفة ، العواء ، السماك ، العفر ، الزباني ، الإكليل ، القلب ، الشولة ، النعائم ، البلدة ، سعد الذابح ، سعد بلع ، سعد السعود ، سعد الأخبية ، فرع الدلو المقدم ، فرع الدلو المؤخر ، بطن الحوت ، ويقال له الرشاء ، فإذا كان في آخر منازله دق واستقوس واصفر ، فشبه بالعرجون القديم من ثلاثة الأوجه.
وقرأ سليمان التيمي : كالعِرجون ، بكسر العين وفتح الجيم؛ والجمهور : بضمها ، وهما لغتان كالبريون.
و { القديم } : ما مر عليه زمان طويل.
وقيل : أقل عدة الموصوف بالقدم حول ، فلو قال رجل : كل مملوك لي قديم فهو حر ، أو كتب ذلك في وصية ، عتق منهم من مضى له حول وأكثر. انتهى.
والقدم أمر نسبي ، وقد يطلق على ما ليس له سنة ولا سنتان ، فلا يقال العالم قديم ، وإنما تعتبر العادة في ذلك.
{ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر } : ينبغي لها مستعملة فيما لا يمكن خلافه ، أي لم يجعل لها قدرة على ذلك ، وهذا الإدراك المنبغي هو ، قال الزمخشري : إن الله تعالى جعل لكل واحد من الليل والنهار وآيتيهما قسماً من الزمان ، وضرب له حداً معلوماً ، ودبر أمرهما على التعاقب.
فلا ينبغي للشمس أن لا يستهل لها ، ولا يصح ، ولا يستقيم ، لوقوع التدبير على العاقبة.
وإن جعل لكل واحد من النيرين سلطان ، على حياله أن يدرك القمر ، فتجتمع معه في وقت واحد ، وتداخله في سلطانه ، فتطمس نوره.
ولا يسبق الليل النهار ، يعني آية الليل آية النهار ، وهما النيران.
ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن يبطل الله ما دبر من ذلك ، وينقص ما ألف ، فيجمع بين الشمس والقمر ، فتطلع الشمس من مغربها.

انتهى.
وقال ابن عباس ، والضحاك : إذا طلعت ، لم يكن للقمر ضوء؛ وإذا طلع ، لم يكن للشمس ضوء.
وقال مجاهد : لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر.
وقال قتادة : لكل أحد حدّ لا يعدوه ولا يقصر دونه ، إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا.
وقال ابن عباس أيضاً : إذا اجتمعا في السماء ، كان أحدهما بين يدي الآخر ، في منازل لا يشتركان فيها.
وقال الحسن : لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة ، أي لا تبقى الشمس حتى يطلع الفجر ، ولكن إذا غربت طلع.
وقال يحيى بن سلام : لا تدركه ليلة البدر خاصة ، لأنه يبادر بالمغيب قبل طلوعها.
وقيل : لا يمكنها أن تدركه في سرعته ، لأن دائرة فلك القمر داخلة في فلك عطارد ، وفك عطارد داخل في فلك الزهرة ، وفلك الزهرة داخل في فلك الشمس.
فإذا كان طريق الشمس أبعد ، قطع القمر جميع أجزاء فلكه ، أي من البروج الاثني عشر ، في زمان تقطع الشمس فيه برجاً واحداً من فلكه.
وقال النحاس : ما قيل فيه ، وأبينه أن مسير القمر مسير سريع ، والشمس لا تدركه في السير.
انتهى ، وهو ملخص القول الذي قبله : { ولا الليل سابق النهار } ، لا يعارض قوله : { يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً } لأن ظاهر قوله : { يطلبه حثيثاً } ، أن النهار سابق أيضاً ، فيوافق الظاهر.
وفهم أبو عبد الله الرازي من قوله : { يطلبه حثيثاً } أن النهار يطلب الليل ، والليل سابقه.
وفهم من قوله : { ولا الليل سابق النهار } ، أن الليل مسبوق لا سابق ، فأورده سؤالاً.
وقال : كيف يكون الليل سابقاً مسبوقاً؟ وأجاب بأن المراد من الليل هنا سلطان الليل ، وهو القمر ، وهو لا يسبق الشمس بالحركة اليومية السريعة.
والمراد من الليل هناك نفس الليل ، وكل واحد لما كان في عقب الآخر كان طالبه. انتهى.
وعرض له هذا السؤال لكونه جعل الضمير الفاعل في يطلبه عائداً على النهار ، وضمير المفعول عائداً على الليل.
والظاهر أن ضمير الفاعل عائد على ما هو الفاعل في المعنى وهو الليل ، لأنه كان قبل دخول همزة النقل { يغشى اليل النهار } وضمير المفعول عائد على النهار ، لأنه المفعول قبل النقل وبعده.
وقرأ عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير الخطفي : سابق بغير تنوين ، النهار : بالنصب.
قال المبرد : سمعته يقرأ فقلت : ما هذا؟ قال : أردت سابق النهار ، فحذفت لأنه أخف.
انتهى ، وحذف التنوين فيه لالتقاء الساكنين.
وتقدّم شرح : { وكل في فلك يسبحون } في سورة الأنبياء.
والظاهر من الذرية أنه يراد به الأبناء ومن نشأ منهم.
وقيل : ينطلق على الآباء وعلى الأبناء ، قاله أبو عثمان.
وقال ابن عطية : هذا تخليط ، ولا يعرف هذا في اللغة. انتهى.
وتقدّم الكلام في الذرية في آل عمران.

والظاهر أن الضمير في لهم وفي ذرياتهم عائد على شيء واحد ، فالمعنى أنه تعالى حمل ذريات هؤلاء ، وهم آباؤهم الأقدمون ، في سفينة نوح عليه السلام ، قاله ابن عباس وجماعة.
ومن مثله : للسفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة أو أريد بقوله : ذرياتهم ، حذف مضاف ، أي ذريات جنسهم ، وأريد بالذرية من لا يطيق المشي والركوب من الذرية والضعفاء.
فالفلك اسم جنس من عليهم بذلك ، وكون الفلك مراداً به الجنس ، قاله ابن عباس أيضاً ومجاهد والسدّي ، ومن مثله : الإبل وسائر ما يركب.
وقيل : الضميران مختلفان ، أي ذرية القرون الماضية ، قاله عليّ بن سليمان ، وكان آية لهؤلاء ، إذ هم نسل تلك الذرية.
وقيل : الذرية : النطف ، والفلك المشحون : بطون النساء ، ذكره الماوردي ، ونسب إلى عليّ بن أبي طالب ، وهذا لا يصح ، لأنه من نوع تفسير الباطنية وغلاة المتصوفة الذين يفسرون كتاب الله على شيء لا يدل عليه اللفظ بجهة من جهات الدلالة ، يحرفون الكلم عن مواضعة.
ويدل على أنه أريد ظاهر الفلك قوله : { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } : يعني الإبل والخيل والبغال والحمير ، والمماثلة في أنه مركوب مبلغ للأوطان فقط ، هذا إذا كان الفلك جنساً.
وأما إن أريد به سفينة نوح ، فالمماثلة تكون في كونها سفناً مثلها ، وهي الموجودة في بني آدم.
ويبعد قول من قال : الذرية في الفلك قوم نوح في سفينته ، والمثل الأجل : وما يركب ، لأنه يدفعه قوله : { وإن نشأ نغرقهم }.
وقرأ نافع ، وابن عامر ، والأعمش ، وزيد بن عليّ ، وأبان بن عثمان : ذرياتهم بالجمع؛ وكسر زيد وأبان الذال؛ وباقي السبعة ، وطلحة ، وعيسى : بالإفراد.
وقال الزمخشري : ذريتهم : أولادهم ومن يهمهم حمله.
وقيل : اسم الذرية يقع على النساء ، لأنهن مزراعها.
وفي الحديث : «أنه نهى عن قتل الذراري» ، يعني النساء.
{ من مثله } : من مثل الفلك ، { ما يركبون } : من الإبل ، وهي سفائن البر.
وقيل : { الفلك المشحون } : سفينة نوح.
ومعنى حمل الله ذرياتهم فيها : أنه حمل فيها آباؤهم الأقدمون ، وفي أصلابهم هم وذرياتهم.
وإنما ذكر ذرياتهم دونهم ، لأنه أبلغ في الامتنان عليهم ، وأدخل في التعجب من قدرته في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح.
و { من مثله } : من مثل ذلك الفلك ، { ما يركبون } : من السفن. انتهى.
وقال أبو عبد الله الرازي : إنما خص الذريات بالذكر ، لأن الموجودين كانوا كفاراً لا فائدة في وجودهم ، أي لم يكن الحمل حملاً لهم ، وإنما كان حملاً لما في أصلابهم من المؤمنين.
وقال أيضاً : الضمير في وآية لهم عائد على العباد في قوله : { يا حسرة على العباد } ثم قال بعد { وآية لهم الأرض الميتة أحييناها } ، { وآية لهم الليل } ، { وآية لهم أنا حملنا ذريتهم } : ذريات العباد ، ولا يلزم أن يكون الضمير في الموضعين لمعنيين ، فهو كقوله :

{ لا تقتلوا أنفسكم } إنما يريد : لا يقتل بعضكم بعضاً ، فذلك هذا.
{ وآية لهم } : أي آية كل بعض منهم ، { أنا حملنا } ذرية كل بعض منهم ، أو ذرية بعض منهم. انتهى.
والظاهر فلي قوله : { وخلقنا } أنه أريد الإنشاء والاختراع ، فالمراد الإبل وما يركب ، وتكون من للبيان ، وإن كان ما يصنعه الإنسان قد ينسب إلى الله خلقاً ، لكن الأكثر ما ذكرنا.
وإذا أريد به السفن ، تكون من للتبعيض ، ولهم الظاهر عوده على ما عاد عليه { وآية لهم } ، لأنه المحدث عنهم ، وجوز أن يعود على الذرية؛ والظاهر أن الضمير في مثله عائد على الفلك.
وقيل : يعود على معلوم غير مذكور وتقديره : من مثل ما ذكرنا من المخلوقات في قوله : { سبحان الذين خلق الأزواج كلها مما تنيبت الأرض } ، كما قالوا : في قوله { من ثمره } ، أي من ثمر ما ذكرنا.
وقرأ الحسن : نغرقهم مشدداً؛ والجمهور : مخففاً؛ والصريح : فعيل بمعنى صارخ : أي مستغيث ، وبمعنى مصرخ : أي مغيث ، وهذا معناه هنا ، أي فلا مغيث لهم ولا معين.
وقال الزمخشري : { فلا صريح لهم } : أي فلا إغاثة لهم. انتهى.
كأنه جعله مصدراً من أفعل ، ويحتاج إلى نقل أن صريخاً يكون مصدراً بمعنى صراخ.
والظاهر أن قوله : { فلا صريح لهم } : أي لا مغيث لهؤلاء الذين شاء الله إغراقهم ، { ولا هم ينقذون } : أي ينجون من الموت بالغرق.
نفي أولاً الصريخ ، وهو خاص؛ ثم نفى ثانياً إنقاذهم بصريخ أو غيره.
وقال ابن عطية : وقوله { فلا صريح لهم } استئناف إخبار عن المسافرين في البحر ، ناجين كانوا أو مغرقين ، فهم في هذه الحال لا نجاة لهم إلا برحمة الله.
وليس قوله : { فلا صريح لهم } مربوطاً بالمغرقين ، وقد يصح ربطه به ، والأول أحسن فتأمله.
انتهى ، وليس بحسن ولا أحسن.
والفاء في { فلا صريح لهم } تعلق الجملة بما قبلها تعليقاً واضحاً ، وترتبط به ربطاً لائحاً.
والخلاص من العذاب بما يدفعه من أصله ، فنفي بقوله : { فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ } ، وما يرفعه بعد وقوعه ، فنفي بقوله : { ولا هم ينقذون }.
وانتصب { رحمة } على الاستثناء المفرغ للمفعول من أجله ، أي لرحمة منا.
وقال الكسائي ، والزجاج : { إلى حسن } : أي إلى حين الموت ، قاله قتادة.
وقال الزمخشري : إما لرحمة منا ، وليتمتع بالحياة إلى حين : أي إلى أجل يموتون فيه لا بد لهم منه بعد النجاة من موت الغرق. انتهى.
وإنما قال : لا بد لهم من موت الغرق ، لأنه تعالى قال { وإن نشأ } : أي إغراقهم ، { نغرقهم } : فمن شاء إغراقه لا بد أن يموت بالغرق.
والظاهر أن { رحمة } ، { ومتاعاً إلى حين } يكون للذين ينقذون ، فلا يفيد الدوام ، بل ينقذه الله رحمة له ويمتعه إلى حين ثم يميته.
وقيل : فيه تقسيم ، إلا رحمة لمن علم أنه يؤمن من فينقذه الله رحمة ، ومن علم أنه لا يؤمن يمنعه زماناً ويزداد إثماً.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)

الضمير في { لهم } لقريش ، و { ما بين أيديكم } ، قال قتادة ومقاتل : عذاب الأمم قبلكم ، { وما خلفكم } : عذاب الآخرة.
وقال مجاهد : عكسه.
وقال الحسن : خوفوا بما مضى من ذنوبهم وما يأتي منها.
وقال مجاهد أيضاً ، كقول الحسن : { ما تقدم من } ذنوبكم وما تأخر ، { لعلكم ترحمون }.
وجواب إذا محذوف يدل عليه ما بعده ، أي أعرضوا.
{ وما تأتيهم من آية } : أي دأبهم الإعراض عند كل آية تأتيهم.
{ وإذا قيل لهم أنفقوا } : لما أسلم حواشي الكفار من أقربائهم ومواليهم من المستضعفين ، قطعوا عنهم ما كانوا يواسونهم به ، وكان ذلك بمكة أولاً قبل نزول آيات القتال ، فندبهم المؤمنون إلى صلة قراباتهم فقالوا : { أنطعم من لو شاء الله أطعمه }.
وقيل : سحق قريش بسبب أذية المساكين من مؤمن وغيره ، فندبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفقة عليهم ، فقالوا هذا القول.
وقيل : قال فقراء المؤمنين : أعطونا ما زعمتم من أموالكم ، إنها لله ، فحرموهم وقالوا ذلك على سبيل الاستهزا.
وقال ابن عباس : كان بمكة زنادقة ، إذا أمروا بالصدقة قالوا : لا والله ، أيفقره الله ونطمعه نحن؟ أو كانوا يسمعون المؤمنين يعلقون الأفعال بمشيئة الله : لو شاء الله لأغنى فلاناً ، ولو شاء لأعزه ، ولو شاء لكان كذا ، فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولون.
وقال القشيري : نزلت في قوم من الزنادقة لا يؤمنون بالصانع ، استهزاء بالمسلمين بهذا القول.
وقال الحسن : { وإذا قيل لهم } ، أي اليهود ، أمروا بإطعام الفقراء.
وجواب لو نشاء قوله : اطعمهم ، وورود الموجب بغير لام فصيح ، ومنه : { أن لو نشاء أصبناهم } { لو نشاء جعلناه أجاجاً } والأكثر مجيئه باللام ، والتصريخ بالموضعين من الكفر والإيمان دليل على أن المقول لهم هم الكافرون ، والقائل لهم هم المؤمنون ، وأن كل وصف حامل صاحبه على ما صدر منه ، إذ كل إناء بالذي فيه يرشح.
وأمروا بالانفاق { مما رزقكم الله } ، وهو عام في الإطعام وغيره ، فأجابوا بغاية المخالفة ، لأن نفي إطعامهم يقتضي نفي الإنفاق العام ، فكأنهم قالوا : لا ننفق ، ولا أقل الأشياء التي كانوا يسمحون بها ويؤثرون بها على أنفسهم ، وهو الإطعام الذي به يفتخرون ، وهذا على سبيل المبالغة.
كمن يقول لشخص : أعط لزيد ديناراً ، فيقول : لا أعطيه درهماً ، فهذا أبلغ لا أعطيه ديناراً.
والظاهر أن قوله : { إن أنتم إلا في ضلال مبين } من تمام كلام الكفار يخاطبون المؤمنين ، أي حيث طلبتم أن تطعموا من لا يريد الله إطعامه ، إذ لو أراد الله إطعامه لأطعمه هو.
ويجوز أن يكون من قول الله لهم استأنف زجرهم به ، أو من قول المؤمنين لهم.
ثم حكي تعالى عنهم ما يقولون على سبيل الاستهزاء والتعجيل : لما توعدون به؟ أي متى يوم القيامة الذي أنتم توعدوننا به؟ أو متى هذا العذاب الذي تهددوننا به؟ وهو سؤال على سبيل الاستهزاء منهم لما أمروا بالتقوى ، ولا يتقي إلا مما يخاف ، وهم غير مؤمنين.

سألوا متى يقع هذا الذي تخوفونا به استهزاء منهم.
{ ما ينظرون } : أي ما ينتطرون.
ولما كانت هذه الصيحة لا بد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها ، وهذه هي النفخة الأولى تأخذهم فيهلكون ، وهم يتخاصمون ، أي في معاملاتهم وأسواقهم ، في أماكنهم من غير إمهال لتوصية ، ولا رجوع إلى أهل.
وفي الحديث : « تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه ، فما يطويانه حتى تقوم ، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه ، والرجل يرفع أكلته إلي فيه ، فما تصل إلي فيه حتى تقوم » وقيل : لا يرجعون إلى أهلهم قولاً؛ وقيل : ولا إلى أهلهم يرجعون أبداً.
وقرأ أبي : يختصمون على الأصل؛ والحرميان ، وأبو عمرو ، والأعرج ، وشبل ، وابن فنطنطين : بإدغام التاء في الصاد ونقل حركتها إلى الخاء؛ وأبو عمرو أيضاً ، وقالون : يخالف بالاختلاس وتشديد الصاد ، وعنهما إسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصم؛ وباقي السبعة : بكسر الخاء وشد الصاد؛ وفرقة : بكسر الياء إتباعاً لكسرة الخاء وشد الصاد.
وقرأ ابن محيصن : يرجعون ، بضم الياء وفتح الجيم.
وقرأ الأعراج : في الصور ، بفتح الواو؛ والجمهور : بإسكانها.
وقرىء : من الأجداف ، بالفاء بدل الثاء.
وقرأ الجمهور : بالثاء ، وينسلون ، بكسر السين؛ وابن أبي إسحاق ، وأبو عمرو : بخلاف عنه بضمها.
وهذه النفخة هي الثانية التي يقوم الناس أحياء عنها.
ولا تنافر بين { ينسلون } وبين { فإذا هم قيام ينظرون } لأنه لا ينسل إلا قائماً ، ولأن تفاوت الزمانين يجعله كأنه زمان واحد.
وقرأ ابن أبي ليلى : يا ويلتنا ، بتاء التأنيث؛ وعنه أيضاً : يا ويلتى ، بالتاء بعدها ألف بدل من ياء الإضافة ، ومعنى هذه القراءة : أن كل واحد منهم يقول يا ويلتى.
والجمهور : و { من بعثنا } : من استفهاما ، وبعث فعل ماض؛ وعلي ، وابن عباس ، والضحاك ، وأبو نهيك : من حرف جر ، وبعثنا مجرور به.
والمرقد : استعارة عن مضجع الميت ، واحتمل أن يكون مصدراً ، أي من رقادنا ، وهو أجود.
أو يكون مكاناً ، فيكون المفرد فيه يراد به الجمع ، أي من مراقدنا.
وما روي عن أبيّ بن كعب ومجاهد ، وقتادة : من أن جميع البشر ينامون نومة قبل الحشر ، فقالوا : هو غير صحيح الإسناد.
وقيل : قالوا من مرقدناً ، لأن عذاب القبر كان كالرقاد في جنب ما صاروا إليه من عذاب جهنم.
والظاهر أن هذا ابتداء كلام ، فقيل : من الله ، وعلى سبيل التوبيخ والتوقيف على إنكارهم.
وقال الفراء : من قول الملائكة.
وقال قتادة ، ومجاهد : من قول المؤمنين للكفار ، على سبيل التقريع.
وقال ابن زيد : من قول الكفرة ، أو البعث الذي كانوا يكذبون به في الدنيا ، قالوا ذلك.
والاستفهام بمن سؤال عن الذي بعثهم ، وتضمن قوله : { هذا ما وعد الرحمن } ، ذكر الباعث ، أي الرحمن الذي وعدكموه ، وما يجوز أن تكون مصدرية على سمة الموعود ، والمصدر فيه بالوعد والصدق ، وبمعنى الذي ، أي هذا الذي وعده الرحمن.

إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)

لما ذكر تعالى أهوال يوم القيامة ، أعقب ذلك بحال السعداء والأشقياء.
والظاهر أنه إخبار لنا بما يكونون فيه إذا صاروا إلى ما أعد لهم من الثواب والعقاب.
وقيل : هو حكاية ما يقال في ذلك اليوم ، وفي مثل هذه الحكاية زيادة تصوير للموعود له في النفوس ، وترغيب إلى الحرص عليه وفيما يثمره؛ والظاهر أن الشغل هو النعيم الذي قد شغلهم عن كل ما يخطر بالبال.
وقال قريباً منه مجاهد ، وبعضهم خص هذا الشغل بافتضاض الأبكار ، قاله ابن عباس؛ وعنه أيضاً : سماع الأوتار.
وعن الحسن : شغلوا عن ما فيه أهل النار.
وعن الكلبي : عن أهاليهم من أهل النار ، لا يذكرونهم لئلا يتنغصوا.
وعن ابن كيسان : الشغل : التزاور.
وقيل : ضيافة الله ، وأفرد الشغل ملحوظاً فيه النعيم ، وهو واحد من حيث هو نعيم.
وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو : بضم الشين وسكون الغين؛ وباقي السبعة بضمها؛ ومجاهد ، وأبو السمال ، وابن هبيرة فيما نقل ابن خالويه عنه : بفتحتين؛ ويزيد النحوي ، وابن هبيرة ، فيما نقل أبو الفضل الرازي : بفتح الشين وإسكان الغين.
وقرأ الجمهور : { فاكهون } ، بالألف؛ والحسن ، وأبو جعفر ، وقتادة ، وأبو حيوة ، ومجاهد ، وشيبة ، وأبو رجاء ، ويحيى بن صبيح ، ونافع في رواية : بغير ألف؛ وطلحة ، والأعمش : فاكهين ، بالألف وبالياء نصباً على الحال ، وفي شغل هو الخبر.
فبالألف أصحاب فاكهة ، كما يقال لابن وتامر وشاحم ولاحم ، وبغير ألف معناه : فرحون طربون ، مأخوذ من الفكاهة وهي المزحة ، وقرىء : فكهين ، بغير ألف وبالياء.
وقرىء : فكهون ، بضم الكاف.
يقال : رجل فكه وفكه ، نحو : يدس ويدس.
ويجوز في هم أن يكون مبتدأ ، وخبره في ظلال ، ومتكئون خبر ثان ، أو خبره متكئون ، وفي ظلال متعلق به ، أو يكون تأكيداً للضمير المستكن في فاكهون ، وفي ظلال حال ، ومتكئون خبر ثان لأن ، أو يكون تأكيداً للضمير المستكن في شغل ، المنتقل إليه من العامل فيه.
وعلى هذا الوجه والذي قبله يكون الأزواج قد شاركوهم في التفكه والشغل والاتكاء على الأرائك ، وذلك من جهة المنطوق.
وعلى الأول ، شاركوهم في الظلال والاتكاء على الأرائك من حيث المنطوق ، وهن قد شاركنهم في التفكه والشغل من حيث المعنى.
وقرأ الجمهور : { في ظلال }.
قال ابن عطية : وهو جمع ظل ، إذ الجنة لا شمس فيها ، وإنما هواؤها سجسج ، كوقت الأسفار قبل طلوع الشمس. انتهى.
وجمع فعل على فعال في الكثرة ، نحو : ذئب وذئاب.
وأما أن وقت الجنة كوقت الأسفار قبل طلوع الشمس ، فيحتاج هذا إلى نقل صحيح.
وكيف يكون ذلك؟ وفي الحديث ما يدل على حوراء من حور الجنة ، لو ظهرت لأضاءت منها الدنيا ، أو نحو من هذا؟ قال : ويحتمل أن يكون جمع ظلة.
قال أبو عليّ : كبرمة وبرام.

وقال منذر بن سعيد : جمع ظلة ، بكسر الظاء.
قال ابن عطية : وهي لغة في ظلة. انتهى.
فيكون مثل لقحة ولقاح ، وفعال لا ينقاس في فعلة بل يحفظ.
وقرأ عبد الله ، والسلمي ، وطلحة ، وحمزة ، والكسائي : في ظل جمع ظلة ، وجمع فعلة على فعل مقيس ، وهي عبارة عن الملابس والمراتب من الحجال والستور ونحوها من الأشياء التي تظل.
وقرأ عبد الله : متكئين ، نصب على الحال؛ ويدعون مضارع ادعى ، وهو افتعل من دعا ، ومعناه : ولهم ما يتمنون.
قال أبو عبيدة : العرب تقول ادع علي ما شئت ، بمعنى تمن عليّ وتقول فلان في خبر ما تمنى.
قال الزجاج : وهو من الدعاء ، أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم.
وقيل : يدعون به لأنفسهم.
وقيل : يتداعونه لقوله ارتموه وتراموه.
وقرأ الجمهور : سلام بالرفع.
وهو صفة لما ، أي مسلم لهم وخالص. انتهى.
ولا يصح إن كان ما بمعنى الذي ، لأنها تكون إذ ذاك معرفة.
وسلام نكرة ، ولا تنعت المعرفة بالنكرة.
فإن كانت ما نكرة موصوفة جاز ، إلا أنه لا يكون فيه عموم ، كحالها بمعني الذي.
وقيل : سلام مبتدأ ويكون خبره ذلك الفعل الناصب لقوله : { قولاً } ، أي سلام يقال ، { قولاً من رب رحيم } ، أو يكون عليكم محذوفاً ، أي سلام عليكم ، { قولاً من رب رحيم }.
وقيل : خبر مبتدأ محذوف ، أي هو سلام.
وقال الزمخشري : { سلام قولاً } بدل من { ما يدعون } ، كأنه قال : لهم سلام يقال لهم قولاً من جهة رب رحيم ، والمعنى : أن الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة ، أو بغير واسطة ، مبالغة في تعظيمهم ، وذلك متمناهم ، ولهم ذلك لا يمنعونه.
قال ابن عباس : والملائكة يدخلون عليهم بالتحية من رب العالمين. انتهى.
وإذا كان سلام بدلاً من ما يدعون خصوصاً.
والظاهر أنه عموم في كل ما يدعون ، وإذا كان عموماً ، لم يكن سلام بدلاً منه.
وقيل : سلام خبر لما يدعون ، وما يدعون مبتدأ ، أي ولهم ما يدعون سلام خالص لا شرب فيه ، وقولاً مصدر مؤكد ، كقوله : { ولهم ما يدعون سلام } : أي عدة من رحيم.
قال الزمخشري : والأوجه أن ينتصب على الاختصاص ، وهو من مجازه. انتهى.
ويكون لهم متعلقاً على هذا الإعراب بسلام.
وقرأ محمد بن كعب القرظي : سلم ، بكسر السين وسكون اللام ، ومعناه سلام.
وقال أبو الفضل : الرازي : مسالم لهم ، أي ذلك مسالم.
وقرأ أبيّ ، وعبد الله ، وعيسى ، والقنوي : سلاماً ، بالنصب على المصدر.
وقال الزمخشري : نصب على الحال ، أي لهم مرادهم خالصاً.
{ وامتازوا اليوم } : أي انفردوا عن المؤمنين ، لأن المحشر جمع البر والفاجر ، فأمر المجرمون بأن يكونوا على حدة من المؤمنين.
والظاهر أن ثم قولاً محذوفاً لما ذكر تعالى ما يقال للمؤمنين في قوله : { سلام قولاً من رب رحيم } ، قيل : ويقال للمجرمين : { امتازوا }.
ولما امتثلوا ما أمروا به ، قال لهم على جهة التوبيخ والتقريع : { ألم أعهد إليكم } ؟ وقفهم على عهده إليهم ومخالفتهم إياه.

وعن الضحاك : لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يرى ، فعلى هذا معناه أن بعضهم من بعض.
وعن قتادة : اعتزلوا عن كل خير.
والعهد : الوصية ، عهد إليه إذا وصاه.
وعهد الله إليهم : ما ركز فيهم من أدلة العقل ، وأنزل إليهم من أدلة السمع.
وعبادة الشياطين : طاعته فيما يغويه ويزينه.
وقرأ الجمهور : أعهد ، بفتح الهمزة والهاء.
وقرأ طلحة ، والهذيل بن شرحبيل الكوفي : بكسر الهمزة ، قاله صاحب اللوامح ، وقال لغة تميم ، وهذا الكسر في النون والتاء أكثر من بين حروف المضارعة ، يعني : نعهد وتعهد.
وقال ابن خالويه : ألم أعهد؛ يحيى بن وثاب : ألم أحد ، تميم.
وقال ابن عطية : وقرأ الهذيل ابن وثاب : ألم أعهد ، بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء ، وهي على لغة من كسر أول المضارع سوى الياء.
وروي عن ابن وثاب : ألم أعهد ، بكسر الهاء ، يقال : عهد يعهد. انتهى.
وقوله : بكسر الميم والهمزة يعني أن كسر الميم يدل على كسر الهمزة ، لأن الحركة التي في الميم هي حركة نقل الهمزة المكسورة ، وحذفت الهمزة حين نقلت حركتها إلى الساكن قبلها وهو الميم.
اعهد بالهمزة المقطوعة المكسورة لفظاً ، لأن هذا لا يجوز.
وقال الزمخشري : وقرىء أعهد بكسر الهمزة ، وباب فعل كله يجوز في حروف مضارعته الكسر إلا في الياء؛ وأعهد بكسر الهاء.
وقد جوز الزجاج أن يكون من باب نعم ينعم ، وضرب يضرب ، وأحهد بالحاء وأحد ، وهي لغة تميم ، ومنه قولهم : دحا محا. انتهى.
وقوله : إلا في الياء ، لغة لبعض كلب أنهم يكسرون أيضاً في الياء ، يقولون : هل يعلم؟ وقوله : دحا محا ، يريدون دعها معها ، أدغموا العين في الحاء ، والإشارة بهذا إلى ما عهد إليهم معصيه الشيطان وطاعة الرحمن.
وقرأ نافع ، وعاصم : { جبلاً } ، بكسر الجيم والباء وتشديد اللام ، وهي قراءة أبي حيوة ، وسهيل ، وأبي جعفر ، وشيبة ، وأبي رجاء؛ والحسن : بخلاف عنه.
وقرأ العربيان ، والهذيل بن شرحبيل : بضم الجيم وإسكان الباء؛ وباقي السبعة : بضمها وتخفيف اللام؛ والحسن بن أبي إسحاق ، والزهري ، وابن هرمز ، وعبدالله بن عبيد بن عمير ، وحفص بن حميد : بضمتين وتشديد اللام؛ والأشهب العقيلي ، واليماني ، وحماد بن مسلمة عن عاصم : بكسر الجيم وسكون الباء؛ والأعمش : جبلاً ، بكسرتين وتخفيف اللام.
وقرىء : جبلاً بكسر الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام ، جمع جبلة ، نحو فطرة وفطر ، فهذه سبع لغات قرىء بها.
وقرأ علي بن أبي طالب وبعض الخراسانيين : جيلاً ، بكسر الجيم بعدها ياء آخر الحروف ، واحد الأجيال؛ والجبل بالباء بواحدة من أسفل الأمة العظيمة.
وقال الضحاك : أقله عشرة آلاف.
خاطب تعالى الكفار بما فعل معهم الشيطان تقريعاً لهم.
وقرأ الجمهور : { أفلم تكونوا } بتاء الخطاب؛ وطلحة ، وعيسى : بياء الغيبة ، عائداً على جبل.

ويروى أنهم يجحدون ويخاصمون ، فيشهد عليهم جيرانهم وعشائرهم وأهاليهم ، فيحلفون ما كانوا مشركين ، فحينئذ يختم على أفواههم وتكلم أيديهم و أرجلهم.
وفي الحديث : « يقول العبد يوم القيامة : إني لا أجيز عليّ شاهد إلا من نفسي فيختم على فيه ، ويقال لأركانه : انطقي فتنطق بأعماله ، ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقال : بعداً لكنّ وسحقاً ، فعنكنّ كنت أناضل »
وقرىء : يختم مبنياً للمفعول ، وتتكلم أيديهم ، بتاءين.
وقرىء : ولتكلمنا أيديهم ولتشهد بلام الأمر والجزم على أن الله يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة.
وروي عبد الرحمن بن محمد بن طلحة عن أبيه عن جده طلحة أنه قرأ : ولتكلمنا أيديهم ولتشهد ، بلام كي والنصب على معنى : وكذلك يختم على أفواهم.
والظاهر أن الأعين هي الأعضاء المبصرة ، والمعنى : لأعميناهم فلا يرون كيف يمشون ، قاله الحسن وقتادة ، ويؤيده مناسبة المسخ ، فهم في قبضة القدرة وبروج العذاب إن شاءه الله لهم.
وقال ابن عباس : أراد عين البصائر ، والمعنى : ولو نشاء لختمت عليهم بالكفر فلا يهتدي منهم أحد أبداً.
والطمس : إذهاب الشيء وأثره جملة حتى كأنه لم يوجد.
فإن أريد بالأعين الحقيقة ، فالظاهر أنه يطمس بمعنى يمسخ حقيقة ، ويجوز أن يكون الطمس يراد به العمى من غير إذهاب العضو وأثره.
وقرأ الجمهور : { فاستبقوا } ، فعلاً ماضياً معطوفاً على { لطمسنا } ، وهو على الفرض والتقدير.
والصراط منصوب على تقدير إلى حذفت ووصل الفعل ، والأصل فاستبقوا إلى الصراط ، أو مفعولاً به على تضمين استبقوا معنى تبادروا ، وجعله مسبوقاً إليه.
قال الزمخشري : أو ينتصب على الظرف ، وهذا لا يجوز ، لأن الصراط هو الطريق ، وهو ظرف مكان مختص.
لا يصل إليه الفعل إلا بوساطة في إلا في شذوذ ، كما أنشد سيبويه :
لدن بهز الكف يعسل متنه . . .
فيه كما عسل الطريق الثعلب
ومذهب ابن الطراوة أن الصراط والطريق والمخرم ، وما أشبهها من الظروف المكانية ليست مختصة ، فعلى مذهبة يسوع ما قاله الزمخشري.
وقرأ عيسى : فاستبقوا على الأمر ، وهو على إضمار القول ، أي فيقال لهم استبقوا الصراط ، وهذا على سبيل التعجيز ، إذ لا يمكنهم الاستباق مع طمس الأعين.
{ فأنى يبصرون } : أي كيف يبصر من طمس على عينه؟ والظاهر أن المسخ حقيقة ، وهو تبديل صورهم بصور شنيعة.
قال ابن عباس : { لمسخناهم } قردة وخنازير ، كما تقدم في بني إسرائيل؛ وقيل حجارة.
وقال الحسن ، وقتادة ، وجماعة : لأقعدناهم وأزمناهم ، فلا يستطيعون تصرفاً.
والظاهر أن هذا لو كان يكون في الدنيا.
وقال ابن سلام : هذا التوعد كله يوم القيامة.
وقرأ الحسن : { على مكانتهم } ، بالافراد ، وهي المكان ، كالمقامة والمقام.
وقرأ الجمهور ، وأبو بكر : بالجمع.
والجمهور : { مضياً } ، بضم الميم : وأبو حيوة ، وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي : بكسرها اتباعا لحركة الضاد ، كالعتبى والقتبى ، وزنه فعول.
التقت واو ساكنة وياء ، فأبدلت الواو ياء ، وأدغمت في الياء ، وكسر ما قبلها لتصح الياء.

وقرىء : مضياً ، بفتح الميم ، فيكون من المصادر التي جاءت على فعيل ، كالرسيم والوجيف.
ولما ذكر تعالى الطمس والمسخ على تقدير المشبه ، ذكر تعالى دليلاً على باهر قدرته في تنكيس المعمر ، وأن ذلك لا يفعله إلا هو تعالى.
وتنكيسه : قلبه وجعله على عكس ما خلقه أولاً ، وهو أنه خلقه على ضعف في جسد وخلو من عقل وعلم ، ثم جعله يتزايد وينتقل من حال إلى حال ، إن أن يبلغ أشده وتستكمل قوته ، ويعقل ويعلم ما له وما عليه.
فإذا انتهى نكسه في الخلق ، فيتناقص حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبا في ضعف جسده وقلة عقله وخلوه من الفهم ، كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله ، وفي هذا كله دليل على أن من فعل هذه الأفاعيل قادر على أن يطمس وأن يفعل بهم ما أراد.
وقرأ الجمهور : { ننكسه } ، مشدداً؛ وعاصم ، وحمزة : مخففاً.
وقرأ نافع ، وابن ذكوان ، وأبو عمرو في رواية عباس : تعقلون بتاء الخطاب؛ وباقي السبعة : بياء الغيبة.
{ وما علمناه الشعر } : الضمير في علمناه للرسول صلى الله عليه وسلم ، كانوا يقولون فيه شاعر.
وروي أن القائل عقبة بن أبي معيط ، فنفى الله ذلك عنه ، وقولهم فيه شاعر.
أما من كان في طبعه الشعر ، فقوله مكابرة وإيهام للجاهل بالشعر؛ وأما من ليس في طبعه ، فقوله جهل محض.
وأين هو من الشعر؟ والشعر إنما هو كلام موزون مقفى يدل على معنى تنتخبه الشعراء من كثرة التخييل وتزويق الكلام ، وغير ذلك مما يتورع المتدين عن إنشاده ، فضلاً عن إنشائه : وكان عليه السلام لا يقول الشعر ، وإذا أنشد بيتاً أحرز المعنى دون وزنه ، كما أنشد :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا . . .
ويأتيك من لم تزود بالأخبار
وقيل : من أشعر الناس ، فقال الذي يقول :
ألم ترياني كلما جئت طارقا . . .
ًوجدت بها وإن لم تطيب طيباً
أتجعل نهبي ونهب العبيد . . .
بين الأقرع وعيينة
وأنشد يوماً :
كفى بالاسلام والشيب ناهياً . . .
_@_فقال أبو بكر وعمر : نشهد أنك رسول الله ، إنما قال الشاعر : كفى الشيب والإسلام ، وربما أنشد البيت متزناً في النادر.
وروي عنه أنشد بيت أبن رواحة :
يبيت يجافي جنبه عن فراشه . . .
إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
ولا يدل إجراء البيت على لسانه متزناً أنه يعلم الشعر ، وقد وقع في كلامه عليه السلام ما يدخله الوزن كقوله :
أنا النبي لا كذب . . .
أنا ابن عبد المطلب
وكذلك قوله :
هل أنت إلا أصبع دميت . . .
وفي سبيل الله ما لقيت
وهو كلام من جنس كلامه الذي كان يتكلم به على طبيعته ، من غير صنعة فيه ولا قصد لوزن ولا تكلف.
كما يوجد في القرآن شيء موزون ولا يعد شعراً ، كقوله تعالى : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وقوله : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر }

وفي كثير من النثر الذي تنشئه الفصحاء ، ولا يسمى ذلك شعراً ، ولا يخطر ببال المنشي ولا السامع أنه شعر.
{ وما ينبغي له } : أي ولا يمكن له ولا يصح ولا يناسب ، لأنه عليه السلام في طريق جد محض ، والشر أكثره في طريق هزل ، وتحسين لما ليس حسناً ، وتقبيح لما ليس قبيحاً ومغالاة مفرطة.
جعله تعالى لا يقرض الشعر ، كما جعله أمياً لا يخط ، لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض.
وقيل : في هذه الآية دلالة على غضاضة الشعر ، وقد قال عليه السلام : « ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي » وذهب قوم إلى أنه لا غضاضة فيه ، وإنما منعه الله نبيه عليه الصلاة والسلام.
وإن كان حلية جليلة ليجيء القرآن من قبله أغرب ، فإنه لو كان له إدراك الشعر لقيل في القرآن : هذا من تلك القوة.
قال ابن عطية : وليس الأمر عندي كذلك ، وقد كان عليه السلام من الفصاحة والبيان في النثر في الرتبة العليا ، ولكن كلام الله يبين بإعجازه ويندر بوصفه ، ويخرجه إحاطة علم الله عن كل كلام؛ وإنما منع الله نبيه من الشعر ترفيعاً له عن ما في قول الشعراء من التخييل والتزويق للقول.
وأما القرآن فهو ذكر بحقائق وبراهين ، فما هو بقول شاعر ، وهذا كان أسلوب كلامه ، عليه السلام ، وقولاً واحداً. انتهى.
والضمير في له للرسول ، أي وما ينبغي الشعر لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأبعد من ذهب إلى أنه عائد على القرآن ، أي وما ينبغي الشعر للقرآن ، ولم يجر له ذكر ، لكن له أن يقول : يدل الكلام عليه ، ويبينه عود الضمير عليه في قوله : { إن هو إلا ذكر وقرآن مبين } : أي كتاب سماوي يقرأ في المحاريب ، وينال بتلاوته والعمل به ما فيه فوز الدارين.
فكم بينه وبين الشعر الذي أكثره من همزات الشياطين؟ وقرأ نافع ، وابن عامر : لتنذر بتاء الخطاب للرسول؛ وباقي السبعة : بالياء للغيبة ، فاحتمل أن يعود على الرسول ، واحتمل أن يعود على القرآن.
وقرأ اليماني : { لينذر } ، بالياء مبنياً للمفعول ، ونقلها ابن خالويه عن الجحدري.
وقال عن أبي السمال واليماني أنهما قرآ : لينذر ، بفتح الياء والذال مضارع نذر بكسر الذال ، إذا علم بالشيء فاستعد له.
{ من كان حياً } : أي غافلاً ، قاله الضحاك ، لأن الغافل كالميت؛ ويريد به من حتم عليه بالإيمان ، وكذلك قابله بقوله : { ويحق القول } : أي كلمة العذاب ، { على الكفارين } المحتوم لهم بالموافاة على الكفر.

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)

الإخبار وتنبيه الاستفهام لقريش ، وإعراضها عن عبادة الله ، وعكوفها على عبادة الأصنام.
ولما كانت الأشياء المصنوعة لا يباشرها البشر إلا باليد ، عبر لهم بما يقرب من أفهامهم بقوله : { مما عملت أيدينا } : أي مما تولينا عمله ، ولا يمكن لغيرنا أن يعمله.
فبقدرتنا وإرداتنا برزت هذه الأشياء ، لم يشركنا فيها أحد ، والباري تعالى منزه عن اليد التى هي الجارحة ، وعن كل ما اقتضى التشبيه بالمحدثات.
وذكر الأنعام لها لأنها كانت جل أموالهم ، ونبه على ما يجعل لهم من منافعها.
{ لها مالكون } : أي ملكناها إياهم ، فهم متصرفون فيها تصرف الملاك ، مختصون بالانتفاع بها ، أو { مالكون } : ضابطون لها قاهرونها ، من قوله :
أصبحت لا أحمل السلاح ولا . . .
أملك رأس البعير إن نفرا
أي : لا أضبطه ، وهو من جملة النعم الظاهرة.
فلولا تذليله تعالى إياها وتسخيره ، لم يقدر عليها.
ألا ترى إلى ما ندَّ منها لا يكاد يقدر على ردة؟ لذلك أمر بتسبيح الله راكبها ، وشكره على هذه النعمة بقوله بقوله : { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين } وقرأ الجمهور : { ركوبهم } ، وهو فعول بمعنى مفعول ، كالحضور والحلوب والقذوع ، وهو مما لا ينقاس.
وقرأ أبي ، وعائشة : ركوبتهم بالتاء ، وهي فعولة بمعنى مفعولة.
وقال الزمخشري : وقيل الركوبة جمع.
انتهى ، ويعني اسم جمع ، لأن فعولة بفتح الفاء ليس بجمع تكسير.
وقد عد بعض أصحابنا أبنية أسماء الجموع ، فلم يذكر فيها فعولة ، فينبغي أن يعتقد فيها أنها اسم مفرد لاجمع تكسير ولا اسم جمع ، أي مركوبتهم كالحلوبة بمعنى المحلوبة.
وقرأ الحسن ، وأبو البرهسم ، والأعمش : ركوبهم ، بضم الراء وبغير تاء ، وهو مصدر حذف مضافة ، أي ذو ركوبهم ، أو فحسن منافعها ركوبهم ، فيحذف ذو ، أو يحذف منافع.
قال ابن خالويه : العرب تقول : ناقة ركوب حلوب ، وركوبة حلوبة ، وركباة حلباة ، وركبوب حلبوب ، وركبي حلبي ، وركبوتا حلبوتا ، كل ذلك محكي ، وأنشد :
ركبانة حلبانة زفوف . . .
تخلط بين وبر وصوف
وأجمل المنافع هنا ، وفضلها في قوله : { وجعل لكم من جلود الأنعام } الآية.
والمشارب : جمع مشرب ، وهو إما مصدر ، أي شرب ، أو موضع الشرب.
ثم عنفهم واستجهلهم في اتخاذهم آلهة لطلب الاستنصار.
{ لا يستطيعون } : أي الآلهة ، نصر متخذيهم ، وهذا هو الظاهر.
لما اتخذوهم آلهة للاستنصار بهم ، رد تعالى عليهم بأنهم ليس لهم قدرة على نصرهم.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الضمير في { يستطيعون } عائد للكفار ، وفي { نصرهم } للأصنام. انتهى.
والظاهر أن الضمير في وهم عائد على ما هو الظاهر في { لا يستطيعون } ، أي والآلهة للكفار جند محضرون في الآخرة عند الحساب على جهة التوبيخ والنقمة.
وسماهم جنداً ، إذ هم معدون للنقمة من عابديهم وللتوبيخ ، أو محضرون لعذابهم لأنهم يجعلون وقوداً للنار.

قيل : ويجوز أن يكون الضمير في وهم عائداً على الكفار ، وفي لهم عائداً على الأصنام ، أي وهم الأصنام جند محضرون متعصبون لهم متحيرون ، يذبون عنهم ، يعني في الدنيا ، ومع ذلك لا يستطيعون ، أي الكفار التناصر.
وهذا القول مركب على أن الضمير في لا يستطيعون للكفار.
ثم آنس تعالى نبيه بقوله : { فلا يحزنك قولهم } : أي لا يهمك تكذيبهم وأذاهم وجفاؤهم ، وتوعد الكفار بقوله : { إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون } ، فنجازيهم على ذلك.
{ أوَلم يرى الإنسان } : قبح تعالى إنكار الكفرة البعث ، حيث قرر أن عنصره الذي خلق منه هو نطفة ماء مهين خارج من مخرج النجاسة.
أفضى به مهانة أصلة إلى أن يخاصم الباري تعالى ويقول : من يحيى الميت بعدما رمّ؟ مع علمه أنه منشأ من موات.
وقائل ذلك العاصي بن وائل ، أو أمية بن خلف ، أو أبي بن خلف ، أقوال أصحها أنه أبي بن خلف ، رواه ابن وهب عن مالك ، وقاله ابن اسحاق وغيره.
والقول أنه أمية ، قاله مجاهد وقتادة؛ ويحتمل أن كلاً منهم واقع ذلك منه.
وقد كان لأبي مع الرسول مراجعات ومقامات ، جاء بالعظم الرميم بمكة ، ففتته في وجهه الكريم وقال : من يحيى هذا يا محمد؟ فقال : « الله يحييه ويميتك ويحييك ويدخلك جهنم » ، ثم نزلت الآية.
وأبيّ هذا قتلة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يوم أُحُد بالحرية ، فخرجت من عنقه.
ووهم من نسب إلى ابن عباس أن الجائي بالعظم هو عبد الله بن أبي بن سلول ، لأن السورة والآية مكية بإجماع ، ولأن عبد الله بن أبي لم يهاجر قط هذه المهاجرة.
وبين قوله : { فإذا هو خصيم مبين } وبين : { خلقناه من نطفة } ، جمل محذوفة تبين أكثرها في قوله في سورة المؤمنون : { ثم جعلناه نطفة في قرار مكين } وإنما اعتقب قوله : { فإذا هو خصيم مبين } الوصف الذي آل إليه من التمييز والإدراك الذي يتأتى معه الخصام ، أي فإذا هو بعدما كان نطفة ، رجل مميز منطيق قادر على الخصام ، مبين معرب عما في نفسه.
{ وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه } : أي نشأته من النطفة ، فذهل عنها وترك ذكرها على طريق اللدد والمكابرة والاستبعاد لما لا يستبعد.
وقرأ زيد بن علي : ونسي خالقه ، اسم فاعل؛ والجمهور : خلقه ، أي نشأته.
وسمى قوله : { من يحيي العظام وهي رميم } لما دل عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل ، وهي إنكار قدرة الله على إحياء الموتى ، كما هم عاجزون عن ذلك.
وقال الزمخشري : والرميم اسم لما بلى من العظام غير صفة ، كالرمة والرفاة ، فلا يقال : لم لم يؤنث؟ وقد وقع خبراً لمؤنث ، ولا هو فعيل أو مفعول. انتهى.
واستدل بقوله : { قل يحييها } على أن الحياة نحلها ، وهذا الاستدلال ظاهر.
ومن قال : إن الحياة لا تحلها ، قال : المراد بإحياء العظام : ردها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بدن حسن حساس.

{ وهو بكل خلق عليم } : يعلم كيفيات ما يخلق ، لا يتعاظمه شيء من المنشآت والمعدات جنساً ونوعاً ، دقة وجلالة.
{ الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً } : ذكر ما هو أغرب من خلق الإنسان من النطفة ، وهو إبراز الشيء من ضده ، وذلك أبدع شيء ، وهو اقتداح النار من الشيء الأخضر.
ألا ترى أن الماء يطفى النار؟ ومع ذلك خرجت مما هو مشتمل على الماء.
والأعراب توري النار من الشجر الأخضر ، وأكثرها من المرخ والعفار.
وفي أمثالهم : في كل شيء نار ، واستمجد المرخ والعفار.
يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين ، وهما أخضران يقطر منهما الماء ، فيستحق المرخ وهو ذكر ، والعفار وهي أنثى ، ينقدح النار بإذن الله عز وجل.
وعن ابن عباس : ليس شجر إلا وفيه نار إلا العنا.
وقرأ الجمهور : الأخضر؛ وقرىء : الخضراء؛ وأهل الحجاز يؤنثون الجنس المميز واحده بالتاء؛ وأهل نجد يذكرون ألفاظاً ، واستثنيت في كتب النحو.
ثم ذكر ما هو أبدع وأغرب من خلق الإنسان من نطفة ، ومن إعادة الموتى ، وهو إنشاء هذه المخلوقات العظيمة الغريبة من صرف العدم إلى الوجود ، فقال : { أوَليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } ؟ وقرأ الجمهور : بقادر ، بباء الجر داخلة على اسم الفاعل.
وقرأ الجحدري ، وابن أبي إسحاق ، والأعرج ، وسلام ، ويعقوب : يقدر ، فعلاً مضارعاً ، أي من قدر على خلق السموات والأرض من عظم شأنهما ، كان على خلق الأناس قادراً ، والضمير في مثلهم عائد على الناس ، قاله الرماني.
وقال جماعة من المفسرين : عائد على السموات والأرض ، وعاد الضمير عليهما كضمير من يعقل ، من حيث كانت متضمنة من يعقل من الملائكة والثقلين.
وقال الزمخشري : { مثلهم } يحتمل معنيين : أن يخلق مثلهم في الصغر والقماءة بالإضافة إلى السموات والأرض ، أو أن يعيدهم ، لأن المصادر مثل للمبتدأ وليس به. انتهى.
ويقول : إن المعاد هو عين المبتدأ ، ولو كان مثله لم يسم ذلك إعادة ، بل يكون إنشاء مستأنفاً.
وقرأ الجمهور : { الخلاق } نسبة المبالغة لكثرة مخلوقاته.
وقرأ الحسن ، والجحدري ، ومالك بن دينار ، وزيد بن علي : الخالق ، اسم فاعل.
{ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } : تقدّم شرح مثل هذه الجملة ، والخلاف في فيكون من حيث القراءة نصباً ورفعاً.
{ فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء } : تنزيه عام له تعالى من جميع النقائص.
وقرأ الجمهور : ملكوت؛ وطحلة ، والأعمش : ملكة على وزن شجرة ، ومعناه : ضبط كل شيء والقدرة عليه.
وقرىء : مملكة ، على وزن مفعلة؛ وقرىء : ملك ، والمعنى أنه متصرف فيه على ما أراد وقضى.
والجمهور : { ترجعون } ، مبنياً للمفعول ، وزيد بن علي : مبنياً للفاعل.

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)

هذه السورة مكية ، ومناسبة أولها لآخر يس أنه تعالى لما ذكر المعاد وقدرته على إحياء الموتى ، وأنه هو منشئهم ، وإذا تعلقت إرادته بشيء ، كان ذكر تعالى وحدانيته ، إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة وجوداً وعدماً إلا بكون المريد واحداً ، وتقدم الكلام على ذلك في قوله : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } وأقسم تعالى بأشياء من مخلوقاته فقال : { والصافات }.
قال ابن مسعود ، وقتادة ، ومسروق : هم الملائكة ، تصف في السماء في العبادة والذكر صفوفاً؛ وقيل : تصف أجنحتها في الهواء واقفة منتظرة لأمر الله.
وقيل : من يصف من بني آدم في قتال في سبيل الله ، أو في صلاة وطاعة.
وقيل : والطير صافات.
والزاجرات ، قال مجاهد ، والسدي : الملائكة تزجر السحاب وغيرها من مخلوقات الله تعالى.
وقال قتادة : آيات القرآن لتضمنه النواهي الشرعية؛ وقيل : كل ما زجر عن معاصي الله.
والتاليات : القارئات.
قال مجاهد : الملائكة يتلون ذكره.
وقال قتادة : بنو آدم يتلون كلامه المنزل وتسبيحه وتكبيره.
وقال مجاهد : الملائكة يتلون ذكره.
قال الزمخشري : ويجوز أن يقسم بنفوس العلماء العمال الصافات أقدامها في التهجد وسائر الصلوات وصفوف الجماعات ، فالزاجرات بالموعظة والنصائح ، فالتاليات آيات الله ، والدارسات شرائعه؛ أو بنفوس قراء القرآن في سبيل الله التي تصف الصفوف ، وتزجر الخيل للجهاد ، وتتلوا الذكر مع ذلك لا يشغلها عنه تلك الشواغل. انتهى.
وقال ما معناه : إن الفاء العاطفة في الصافات ، إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود كقوله :
يا لهف زيابة للحارث الصابح ، فالغانم ، فالآيب . . .
، أي الذي صبح فغنم فآب؛ وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه ، كقولك : خذ الأفضل فالأفضل ، واعمل الأحسن فالأجمل؛ وإما على ترتيب موصوفاتها في ذلك ، كقولك : رحم الله المحلقبين فالمقصرين.
فأما هنا ، فإن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتيب الصافات في التفاضل ، فإذا كان الموحد الملائكة ، فيكون الفضل للصف ، ثم الزجر ، ثم التلاوة؛ وإما على العكس ، وإن تليت الموصوف ، فترتب في الفضل ، فتكون الصافات ذوات فضل ، والزاجرات أفضل ، والتاليات أبهر فضلاً ، أو على العكس. انتهى.
ومعنى العكس في المكانين : أنك ترتقي من أفضل إلى فاضل إلى مفضول؛ أو تبدأ بالأدنى ، ثم بالفاضل ، ثم بالأفضل.
وأدغم ابن مسعود ، ومسروق ، والأعمش ، وأبو عمرو ، وحمزة : التاآت الثلاثة.
والجملة المقسم عليها تضمنت وحدانيته تعالى ، أي هو واحد من جميع الجهات التي ينظر فيها المتفكرون خبر بعد خبر ، على مذهب من يجيز تعداد الأخبار ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وهو أمدح ، أي هو رب.
وذكر المشارق لأنها مطالع الأنوار ، والإبصار بها أكلف ، وذكرها يغني عن ذكر المغارب ، إذ ذاك مفهوم من المشارق ، والمشارق ثلاثمائة وستون مشرقاً ، وكذلك المغارب.
تشرق الشمس كل يوم من مشرق منها وتغرب في مغرب ، ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين.

وثني في { رب المشرقين ورب المغربين } باعتبار مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما.
وقال ابن عطية : أراد تعالى مشارق الشمس ومغاربها ، وهي مائة وثمانون في السنة ، فيما يزعمون ، من أطول أيام السنة إلى أقصرها.
ثم أخبر تعالى عن قدرته بتزيين السماء بالكواكب ، وانتظام التزيين أن جعلها حفظاً وحذراً من الشيطان. انتهى.
والزينة مصدر كالسنة ، واسم لما يزان به الشيء ، كالليقة اسم لما يلاق به الدواة.
وقرأ الجمهور : { بزينة الكواكب } بالإضافة ، فاحتمل المصدر مضافاً للفاعل ، أي بأن زانت السماء الكواكب ، ومضافاً للمفعول ، أي بأن زين الله الكواكب.
واحتمل أن يكون ما يزان به ، والكواكب بيان للزينة ، لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به ، أو مما زينت الكواكب من إضاءتها وثبوتها.
وقرأ ابن مسعود ، ومسروق : بخلاف عنه؛ وأبو زرعة ، وابن وثاب ، وطلحة : بزينة منوناً ، الكواكب بالخفض بدلاً من زينة.
وقرأ ابن وثاب ، ومسروق : بخلاف عنهما؛ والأعمش ، وطلحة ، وأبو بكر : بزينه منوناً ، الكواكب نصباً ، فاحتمل أن يكون بزينة مصدراً ، والكواكب مفعول به ، كقوله : { أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً } واحتمل أن يكون الكواكب بدلاً من السماء ، أي زينا كواكب السماء.
وقرأ زيد بن علي بتنوين زينة ، ورفع الكواكب على خبر مبتدأ ، أي هو الكواكب ، أو على الفاعلية بالمصدر ، أي بأن زينت الكواكب.
ورفع الفاعل بالمصدر المنون ، زعم الفراء أنه ليس بمسموع ، وأجاز البصريون ذلك على قلة.
وقال ابن عباس : { بزينة الكواكب } : بضوء الكواكب؛ قيل : ويجوز أن يراد أشكالها المختلفة ، كشكل الثريا ، وبنات نعش ، والجوزاء ، وغير ذلك ، ومطالعها ومسايرها.
وخص { السماء الدنيا } بالذكر ، لأنها التي تشاهد بالأبصار؛ والحفظ من الشياطين ، إنما هو فيها وحدها.
وانتصب { وحفظاً } على المصدر ، أي وحفظناها حفظاً ، أو على المفعول من أجله على زيادة الواو ، أو على تأخير العامل ، أي ولحفظها زيناها بالكواكب ، وحملاً على معنى ما تقدم ، لأن المعنى : إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظاً : وكل هذه الأقوال منقولة ، والمارد تقدم شرحه في قوله : { شيطاناً مريداً } في النساء ، وهناك جاء { مريداً } ، وهنا { مارد } ، مراعاة للفواصل.
{ لا يسمعون إلا الملأ الأعلى } : كلام منقطع مبتدأ اقتصاصاً لما عليه حال المسترقة للسمع ، وأنهم لا يقدرون أن يستمعوا أو يسمعوا ، وهم مقذوفون بالشهب مبعدون عن ذلك ، إلا من أمهل حتى خطف الخطفة واسترق استراقة ، فعندها تعاجله الملائكة باتباع الشهاب الثاقب.
ولا يجوز أن يكون لا يسمعون صفة ولا استئنافاً جواباً لسائل سأل لم يحفظ من الشياطين ، لأن الوصف كونهم لا يسمعون ، أو الجواب لا معنى للحفظ من الشياطين على تقديرهما ، إذ يصير المعنى مع الوصف : وحفظاً من كل شيطان مارد غير سامع أو مسمع ، وكذلك لا يستقيم مع كونه جواباً.
وقول من قال : إن الأصل لأن لا يسمعوا ، فحذفت اللام وإن ، فارتفع الفعل ، قول متعسف يصان كلام الله عنه.

وقرأ الجمهور : لا يسمعون : نفي سماعهم ، وإن كانوا يسمعون بقوله : { إنهم عن السمع لمعزولون } وعداه بإلى لتضمنه معنى الإصغاء.
وقرأ ابن عباس بخلاف عنه؛ وابن وثاب ، وعبد الله بن مسلم ، وطلحة ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : بشد السين والميم بمعنى لا يتسمعون ، أدغمت التاء في السين ، وتقتضي نفي التسمع.
وظاهر الأحاديث أنهم يتسمعون حتى الآن ، لكنهم لا يسمعون؛ وإن سمع أحد منهم شيئاً لم يفلت حرساً وشهباً من وقت بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان الرجم في الجاهلية أحق ، فأما كانت ثمرة التسمع هو السمع ، وقد انتفى السمع بنفي التسمع في هذه القراءة لانتفاء ثمرته ، وهو السمع.
و { الملأ الأعلى } يعم الملائكة ، والإنس والجن هم الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض.
وقال ابن عباس : هم أشراف الملائكة ، وعنه كتابهم.
{ ويقذفون } : يرمون ويرجمون ، { من كل جانب } : أي من كل جهة يصعدون إلى السماء منها ، والمرجوم بها هي التي يراها الناس تنقض ، وليست بالكواكب الجارية في السماء ، لأن تلك لا ترى حركتها ، وهذه الراجمة ترى حركتها لقربها منا ، قاله مكي والنقاش.
وقرأ محبوب عن ابن عمرو : ويقذفون مبنياً للفاعل ، ودحوراً مصدر في موضع الحال.
قال مجاهد : مطرودين ، أو مفعول من أجله ، أي ولو يقذفون للطرد ، أو مصدر ليقذفون ، لأنه متضمن معنى الطرد ، أي ويدحرون من كل جانب دحوراً ، ويقذفون من كل جانب قذفاً.
فإما أن يكون التجوز في ويقذفون ، وإما في دحوراً.
وقرأ عليّ ، والسلمي ، وابن أبي عبلة ، والطبراني عن رجاله عن أبي جعفر : دحوراً ، بنصب الدال ، أي قذفاً دحوراً ، بنصب الدال.
ويجوز أن يكون مصدراً ، كالقبول والولوغ ، إلا أن هذه ألفاظ ذكر أنها محصورة.
والواصب : الدائم ، قاله السدّي وأبو صالح ، وتقدّم في سورة النحل.
ويقال : وصب الشيء وصوباً : دام.
وقال مجاهد : الموجع ، ومنه الوصب ، كأن المعنى : أنهم في الدنيا مرجومون ، وفي الآخرة معذبون.
ويجوز أن يكون هذا العذاب الدائم لهم في الدنيا ، وهو رجمهم دائماً ، وعدم بلوغهم ما يقصدون من استراق السمع.
{ إلا من خطف الخطفة } : من بدل من الضمير في لا يسمعون ، ويجوز أن يكون منصوباً على الاستثناء ، أي لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي خطف.
وقرأ الجمهور : خطف ثلاثياً بكسر الطاء.
وقرأ الحسن ، وقتادة : بكسر الخاء والطاء مشددة.
قال أبو حاتم : ويقال هي لغة بكر بن وائل وتميم بن مرة.
وقرىء : خطف بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة ، ونسبها ابن خالويه إلى الحسن وقتادة وعيسى ، وعن الحسن أيضاً التخفيف.
وأصله في هاتين القراءتين اختطف ، ففي الأول لما سكنت للإدغام ، والخاء ساكنة ، كسرت لالتقاء الساكنين ، فذهبت ألف الوصل وكسرت الطاء اتباعاً لحركة الخاء.
وعن ابن عباس : خطف بكسر الخاء والطاء مخففة ، اتبع حركة الخاء لحركة الطاء ، كما قالوا نعم.
وقرىء : فاتبعه ، مخففاً ومشدداً.
والثاقب ، قال السدي وقتادة : هو النافذ بضوئه وشعاعه المنير.

فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)

الاستفتاء نوع من السؤال ، والهمزة ، وإن خرجت إلى معنى التقرير ، فهي في الأصل لمعنى الاستفهام ، أي فاستخبرهم ، والضمير لمشركي مكة.
وقيل : نزلت في أبي الأشد بن كلدة ، وكني بذلك لشدة بطشه وقوته.
وعادل في هذا الاستفهام التقريري في الأشدية بينهم وبين من خلق من غيرهم من الأمم والجن والملائكة والأفلاك والأرضين.
وفي مصحف عبد الله : أم من عددنا ، وهو تفسير لمن خلقنا ، أي من عددنا من الصافات وما بعدها من المخلوقين.
وغلب العاقل على غيره في قوله : { من خلقنا } ، واقتصر على الفاعل في { خلقنا } ، ولم يذكر متعلق الخلق اكتفاء ببيان ما تقدمه ، وكأنه قال : أم من خلقنا من غرائب المصنوعات وعجائبها.
وقرأ الأعمش : أمن بتخفيف الميم دون أم ، جعله استفهاماً ثانياً تقريراً أيضاً ، فهما جملتان مستقلتان في التقرير ، ومن مبتدأ ، والخبر محذوف تقديره أشد.
فعلى أم من هو تقرير واحد ونظيره : { أأنتم أشد خلقاً أم السماء } قال الزمخشري : وأشد خلقاً يحتمل أقوى خلقاً ، من قولهم : شديد الخلق ، وفي خلقه شدة ، وأصعب خلقاً.
وأشد خلقاً وأشقه يحتمل أقوى خلقاً من قولهم : شديد الخلق ، وفي خلقه شدة ، على معنى الرد ، لإنكارهم البعث والنشأة الأخرى.
وإن من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة ، ولم يصعب عليه اختراعها ، كان خلق الشر عليه أهون.
وخلقهم من طين لازب ، إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة ، لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة؛ أو احتجاج عليهم بأن الطين اللازب الذي خلقوا منه تراب.
فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب مثله؟ قالوا : { أئذا كنا تراباً } ، وهذا المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث. انتهى.
والذي يظهر الاحتمال الأول.
وقيل : { أم من خلقنا } من الأمم الماضية ، كقوله : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً } وقوله : { وكانوا أشد منكم قوة } وأضاف : الخلق من الطين إليهم ، والمخلوق منه هو أبوهم آدم ، إذ كانوا نسله.
وقال الطبري : خلق ابن آدم من تراب وماء ونار وهواء ، وهذا كله إذا خلط صار طيناً لازباً يلزم ما جاوره.
وعن ابن عباس : اللازب بالجر ، أي الكريم الجيد.
وقرأ الجمهور : { بل عجبت } ، بتاء الخطاب ، أي من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة ، وهم يسخرون منك ومن تعجبك ، ومما تريهم من آثار قدرة الله ، أو عجبت من إنكارهم البعث ، وهم يسخرون من أمر البعث.
أو عجبت من إعراضهم عن الحق وعماهم عن الهدى ، وأن يكونوا كافرين مع ما جئتم به من عند الله.
وقرأ حمزة ، والكسائي ، وابن سعدان ، وابن مقسم : بياء المتكلم.
ورويت عن عليّ ، وعبد الله ، وابن عباس ، والنخعي ، وابن وثاب ، وطلحة ، وشقيق ، والأعمش.
وأنكر شريح القاضي هذه القراءة.

وقال : الله لا يعجب ، فقال إبراهيم : كان شريح معجباً بعلمه ، وعبد الله أعلم منه ، يعني عبد الله ابن مسعود.
والظاهر أن ضمير المتكلم هو لله تعالى ، والعجب لا يجوز على الله تعالى ، لأنه روعة تعتري المتعجب من الشيء.
وقد جاء في الحديث إسناد العجب إلى الله تعالى ، وتؤول على أنه صفة فعل يظهرها الله تعالى في صفة المتعجب منه من تعظيم أو تحقير حتى يصير الناس متعجبين منه.
فالمعنى : بل عجبت من ضلالتهم وسوء عملهم ، وجعلتها للناظرين فيها وفيما اقترن فيها من شرعي وهداي متعجباً.
وقال الزمخشري : أي بلغ من عظيم آياتي وكثرة خلائقي أني عجبت منها ، فكيف بعبادي وهؤلاء ، لجهلهم وعنادهم ، يسخرون من آياتي؟ أو عجبت من أن ينكروا البعث ممن هذه أفعاله ، وهم يسخرون بمن يصف الله بالقدرة عليه ، قال : ويجرد العجب لمعنى الاستعظام ، أو يخيل العجب ويفرض.
وقيل : هو ضمير الرسول ، أي قل بل عجبت.
قال مكي ، وعليّ بن سليمان : وهم يسخرون من نبوتك والحق الذي عندك.
{ وإذا ذكروا } ووعظوا ، { لا يذكرون } ، ولا يتعظون.
وذكر جناح بن حبيش : ذكروا ، بتخفيف الكاف.
روي " أن ركانة رجلاً من المشركين من أهل مكة ، لقيه الرسول في جبل خال يرعى غنماً له ، وكان من أقوى الناس ، فقال له : «يا ركانة ، أرأيت إن صرعتك أتؤمن من بي»؟ قال : نعم ، فصرعه ثلاثاً ، ثم عرض عليه آيات من دعاء شجرة وإقبالها ، فلم يؤمن ، وجاء إلى مكة فقال : يا بني هاشم ، ساحروا بصاحبكم أهل الأرض " ، فنزلت فيه وفي نظرائه : { وإذا رأوا آية يستسخرون }.
قال مجاهد ، وقتادة : يسخرون ، يكون استفعل بمعنى المجرد.
وقيل : فيه معنى الطلب ، أي يطلبون أن يكونوا ممن يسخرون.
وقال الزمخشري : يبالغون في السخرية ، أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها.
وقرىء : يستسحرون ، بالحاء المهملة ، وهو عبارة عن ما قال ركانة لأسحر الرسول.
والإشارة بهذا إلى ما ظهر على يديه ، عليه السلام ، من الخارق المعجز.
وتقدم الخلاف في كسر ميم { متنا } وضمها.
ومن قرأ : { أئذا } بالاستفهام ، فجواب إذا محذوف ، أي نبعث ، ويدل عليه إنا لمبعوثون ، أو يعرى عن الشرط ويكون ظرفاً محضاً ، ويقدر العامل : أنبعث إذا متنا؟ وقرأ الجمهور : { أو آباؤنا } بفتح الواو في أو.
وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، وابن عامر ، ونافع في رواية قالون : بالسكون ، فهي حرف عطف ، ومن فتح قالوا وحرف عطف دخلت عليه همزة الاستفهام.
قال الزمخشري : { أو آباؤنا } معطوف على محل إن واسمها ، أو على الضمير في مبعوثون.
والذي جوز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام ، والمعنى : أيبعث أيضاً آباؤنا؟ على زيادة الاستبعاد ، يعنون أنهم أقدم ، فبعثهم أبعد وأبطل. انتهى.
أما قوله معطوف على محل إن واسمها فمذهب سيبويه خلافه ، لأن قولك : إن زيداً قائم وعمرو ، فيه مرفوع على الابتداء ، وخبره محذوف.

وأما قوله : أو على الضمير في { مبعوثون } إلى آخره ، فلا يجوز عطفه على الضمير ، لأن همزة الاستفهام لا تدخل إلا على الجمل ، لا على المفرد ، لأنه إذا عطف على المفرد كان الفعل عاملاً في المفرد بوساطة حرف العطف ، وهمزة الاستفهام لا يعمل فيما بعدها ما قبلها.
فقوله : { أو آباؤنا } مبتدأ ، خبره محذوف تقديره مبعوثون ، ويدل عليه ما قبله.
فإذا قلت : أقام زيد أو عمرو ، فعمرو مبتدأ محذوف الخبر لما ذكرنا ، واستفهامهم تضمن إنكاراً واستبعاداً ، فأمر الله نبيه أن يجيبهم بنعم.
{ وأنتم داخرون } : أي صاغرون ، وهي جملة حالية ، العامل فيها محذوف تقديره نعم تبعثون ، وزادهم في الجواب أن بعثهم وهم ملتبسون بالصغار والذل.
وقرأ ابن وثاب : نعم بكسر العين ، وتقدم الخلاف فيها في سورة الأعراف ، وهي كناية عن البعثة ، فإنما بعثتهم { زجرة } : أي صيحة ، وهي النفخة الثانية.
لما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازاً.
وقال الزمخشري : هي مبهمة يوضحها خبرها. انتهى.
وكثيراً ما يقول هو وابن مالك أن الضمير يفسره الخبر ، وجعل من ذلك ابن مالك { إن هي إلا حياتنا الدنيا } وتكلمنا معه في ذلك في شرح التسهيل.
وقال الزمخشري : فإنما جواب شرط مقدر ، وتقديره : إذا كان ذلك ، فما هي إلا زجرة واحدة. انتهى.
وكثيراً ما تضمن جملة الشرط قبل فاء إذا ساغ ، تقديره : ولا ضرورة تدعو إلى ذلك ، ولا يحذف الشرط ويبقى جوابه إلا إذا انجزم الفعل في الذي يطلق عليه أنه جواب الأمر والنهي ، وما ذكر معهما على قول بعضهم ، أما ابتداء فلا يجوز حذفه.
و { ينظرون } : من النظر ، أي فإذا هم بصراء ينظرون ، أو من الانتظار ، أي فإذا هم ينتظرون ما يفعل بهم وما يؤمرون به.
والظاهر أن قوله : { يا ويلنا } من كلام بعض الكفار لبعض ، إلى آخر الجملتين ، أقروا بأنه يوم الجزاء ، وأنه يوم الفصل ، وخاطب بعضهم بعضاً.
ووقف أبو حاتم على قوله : { يا ويلنا } ، وجعل { هذا يوم الدين } إلى آخره من قول الله لهم أو الملائكة.
وقيل : { هذا يوم الدين } من كلام الكفرة ، و { هذا يوم الفصل } ليس من كلامهم ، وإنما المعنى يقال لهم هذا يوم الفصل.
ويوم الدين : يوم الجزاء والمعاوضة ، ويوم الفصل : يوم الفرق بين فرق الهدى وفرق الضلال.
وفي { الذي كنتم به تكذبون } توبيخ لهم وتقريع.

احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)

}
احشروا } : خطاب من الله للملائكة ، أو خطاب الملائكة بعضهم لبعض ، أي اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات ، قاله ابن عباس ، ورجحه الرماني.
وأنواعهم وضرباؤهم ، قاله عمرو ابن عباس أيضاً ، أو أشباههم من العصاة ، وأهل الزنا مع أهل الزنا ، وأهل السرقة ، أو قرناؤهم الشياطين.
وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي : { وأزواجهم } ، مرفوعاً عطفاً على ضمير ظلموا ، أي وظلم أزواجهم.
{ فاهدوهم } : أي عرفوهم وقودوهم إلى طريق النار حتى يصطلوها ، والجحيم طبقة من طبقات جهنم.
{ وقفوهم } ، كما قال : { ولو ترى إذ وقفوا على النار } وهو توبيخ لهم ، { إنهم مسؤولون }.
وقرأ عيسى : أنهم ، بفتح الهمزة.
قال عبد الله : يسألون عن شرب الماء البارد على طريق الهزء بهم ، وعنه أيضاً : يسألون عن لا إله إلا الله.
وقال الجمهور : وعن أعمالهم ، ويوقفون على قبحها.
وفي الحديث : « لا تزول قد ما عبد حتى يسأل عن خمس شبابه فيما أبلاه ، وعن عمره فيما أفناه ، وعن ماله كيف اكتسبه وفيما أنفقه ، وعن ما عمل فيما علم » وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى على نحو ما فسره بقوله : { ما لكم لا تنصرون } ، أي إنهم مسئولون عن امتناعهم عن التناصر ، وهذا على سبيل التوبيخ في الامتناع.
وقال الزمخشري : هذا تهكم بهم وتوبيخ لهم بالعجز عن التناصر بعدما كانوا على خلاف ذلك في الدنيا متعاضدين متناصرين.
وقال الثعلبي : { ما لكم لا تنصرون } ، جواب أبي جهل حين قال في بدر : { نحن جميع منتصر } وقرىء : لا تناصرون ، بتاء واحدة وبتاءين ، وبإدغام إحداهما في الأخرى.
{ بل هم اليوم مستسلمون } : أي قد أسلم بعضهم بعضاً ، وخذله عن عجز ، وكل واحد منهم مستسلم غير منتصر.
{ وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } ، قال قتادة : هم جن وإنس ، وتساؤلهم على معنى التقريع والندم والسخط.
قالوا : أي قالت الإنس للجن.
قال مجاهد ، وابن زيد : أو ضعفة الإنس الكفرة لكبرائهم وقادتهم.
و { اليمين } : الجارحة ، وليست مرادة هنا.
فقيل : استعيرت لجهة الخير ، أو للقوة والشدة ، أو لجهة الشهوات ، أو لجهة التمويه والإغواء وإظهار أنها رشد ، أو الحلف.
ولكل من هذه الاستعارات وجه.
فأما استعارتها لجهة الخير ، فلأن الجارحة أشرف العضوين وأيمنها ، وكانوا يتمنون بها حتى في السانح ، ويصافحون ويماسخون ويناولون ويزاولون بها أكثر الأمور ، ويباشرون بها أفاضل الأشياء ، وجعلت لكاتب الحسنات ، ولأخذ المؤمن كتابه بها ، والشمال بخلاف ذلك.
وأما استعارتها للقوة والشدة ، فإنها يقع بها البطش ، فالمعنى : أنكم تعروننا بقوتكم وتحملوننا على طريق الضلال.
وأما استعارتها لجهة الشهوات ، فلأن جهة اليمين هي الجهة الثقيلة من الإنسان وفيها كبده ، وجهة شماله فيها قلبه ومكره ، وهي أخف ، والمنهزم يرجع على شقه الأيسر ، إذ هو أخف شقيه.
وأما استعارتها لجهة التمويه والإغواء ، فكأنهم شبهوا أقوال المغوين بالسوانح التي هي عندهم محمودة ، كأن التمويه في إغوائهم أظهر ما يحمدونه.

وأما الحلف ، فإنهم يحلفون لهم ويأتونهم إتيان المقسمين على حسن ما يتبعونهم فيه.
{ قالوا } ، أي المخاطبون ، إما الجن وإما قادة الكفر : { بل لم تكونوا مؤمنين } : أي لم نقركم على الكفر ، بل أنتم من ذواتكم أبيتم الإيمان.
وقال الزمخشري : وأعرضتم مع تمكنكم واختباركم ، بل كنتم قوماً على الكفر غير ملجئين ، وما كان لنا عليكم من تسلط نسلبكم به تمكنكم واختباركم ، بل كنتم قوماً مختارين الطغيان. انتهى.
ولفظة التمكن والاختيار ألفاظ المعتزلة جرياً على مذهبهم.
{ فحق علينا قول ربنا } : أي لزمنا قول ربنا ، أي وعيده لنا بالعذاب.
والظاهر أن قوله : { إنا لذائقون } ، إخبار منهم أنهم ذائقون العذاب جميعهم ، الرؤساء ، والأتباع.
وقال الزمخشري : فلزمنا قول ربنا : { إنا لذائقون } ، يعني وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة ، لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة.
ولو حكى الوعيد كما هو لقال : إنكم لذائقون ، ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم ، لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم ، ونحوه قول القائل :
لقد زعمت هوازن قل مالي . . .
ولو حكى قولها لقال : قل مالك ، ومنه قول المحلف للحالف : لأخرجن ، ولنخرجن الهمزة لحكاية لفظ الحالف ، والتاء لإقبال المحلف على الحلف. انتهى.
{ فأغويناكم } : دعوناكم إلى الغي ، فكانت فيكم قابلية له فغويتم.
{ إنا كنا غاوين } : فأردنا أن تشاركونا في الغي.
{ فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون } : أي يوم إذ تساؤلوا وتراجعوا في القول ، وهذا إخبار منه تعالى ، كما اشتركوا في الغي ، اشتركوا فيما ترتب عليه من العذاب.
{ إنا كذلك } : أي مثل هذا الفعل بهؤلاء نفعل بكل مجرم ، فيترتب على إجرامه عذابه.
ثم أخبر عنهم بأكبر إجرامهم ، وهو الشرك بالله ، واستكبارهم عن توحيده ، وإفراده بالآلهية.
ثم ذكر عنهم ما قدحوا به في الرسول ، وهو نسبته إلى الشعر والجنون ، وأنهم ليسوا بتاركي آلهتهم له ولما جاء به ، فجمعوا بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة.
وقولهم : { لشاعر مجنون } : تخليط في كلامهم ، وارتباك في غيهم.
فإن الشاعر هو عنده من الفهم والحذق وجودة الإدراك ما ينظم به المعاني الغريبة ويصوغها في قالب الألفاظ البديعة ، ومن كان مجنوناً لا يصل إلى شيء من ذلك.
ثم أضرب تعالى عن كلامهم ، وأخبر بأن جاء الحق ، وهو إثبات الذي لا يلحقه إضمحلال ، فليس ما جاء به شعراً ، بل هو الحق الذي لا شك فيه.
ثم أخبر أنه صدق من تقدمه من المرسلين ، إذ هو وهم على طريقة واحدة في دعوى الأمم إلى التوحيد وترك عبادة غيره.
وقرأ عبد الله : وصدق بتخفيف الدال ، المرسلون بالواو رفعاً ، أي وصدق المرسلون في التبشير به وفي أنه يأتي آخرهم.
وقرأ الجمهور : { لذائقو العذاب } ، بحذف النون للإضافة؛ وأبو السمال ، وأبان ، عن ثعلبة ، عن عاصم : بحذفها لالتقاء لام التعريف ونصب العذاب.
كما خذف بعضهم التنوين لذلك في قراءة من قرأ أحد الله ، ونقل ابن عطية عن أبي السمال أنه قرأ : لذائق منوناً ، العذاب بالنصب ، ويخرج على أن التقدير جمع ، وإلأ لم يتطابق المفرد وضمير الجمع في { إنكم } ، وقول الشاعر :
فألفيته غير مستعتب . . .
ولا ذاكر الله إلا قليلاً
وقرىء : لذائقون بالنون ، العذاب بالنصب ، وما ترون إلا جزاء مثل عملكم ، إذ هو ثمرة عملكم.

إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)

{ إلا عباد الله } : استثناء منقطع.
لما ذكر شيئاً من أحوال الكفار وعذابهم ذكر شيئاً من أحوال المؤمنين ونعيمهم.
و { المخلصين } : صفة مدح ، لأن كونهم عباد الله ، يلزم منه أن يكونوا مخلصين.
ووصف { رزق } بمعلوم ، أي عندهم.
فقد قرت عيونهم بما يستدر عليهم من الرزق ، وبأن شهواتهم تأتيهم بحسبها.
وقال الزمخشري : معلوم بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر.
وقيل : معلوم الوقت كقوله : { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً } وعن قتادة : الرزق المعلوم : الجنة.
وقوله : { في جنات النعيم } يأباه. انتهى.
{ فواكه } بدل من { رزق } ، وهي ما يتلذذ به ولا يتقوت لحفظ الصحة ، يعني أن رزقهم كله فواكه لاستغنائهم عن حفظ الصحة بالأقوات لأنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد ، فكل ما يأكلونه فهو على سبيل التلذذ.
وقرأ ابن مقسم : مكرمون ، بفتح الكاف مشدد الراء.
ذكر أولاً الرزق ، وهو ما يتلذذ به الأجسام.
وثانياً الإكرام ، وهو ما يتلذذ به النفوس ، ورزق بإهانة تنكيد.
ثم ذكر المحل الذي هم فيه ، وهو جنات النعيم.
ثم أشرف المحل ، وهو السرر.
ثم لذة التآنس بأن بعضهم يقابل بعضاً ، وهو أتم السرور آنسة.
ثم المشروب ، وأنهم لا يتناولون ذلك بأنفسهم ، بل يطاف عليهم بالكؤوس.
ثم وصف ما يطاف عليهم به من الطيب وانتفاء المفاسد.
ثم ذكر تمام اللذة الجسمانية ، وختم بها كما بدأ باللذة الجسمانية من الرزق ، وهي أبلغ الملاذ ، وهي التآنس بالنساء.
وقرأ الجمهور : { على سرر } ، بضم الراء؛ وأبو السمال : بفتحها ، وهي لغة بعض تميم؛ وكلب يفتحون ما كان جمعاً على فعل من المضعف إذا كان اسماً.
واختلف النحويون في الصفة ، فمنهم من قاسها على الاسم ففتح ، فيقول ذلك بفتح اللام على تلك اللغة الثانية في الاسم.
ومنهم من خص ذلك بالاسم ، وهو مورد السماع في تلك اللغة.
وقيل : التقابل لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض.
وفي الحديث : « أنه في أحيان ترفع عنهم ستور فينظر بعضهم إلى بعض ولا محالة أن أكثر أحيانهم فيها قصورهم » و { يطاف } : مبني للمفعول وحذف الفاعل ، وهو المثبت في آية أخرى في قوله : { ويطوف عليهم ولدان مخلدون } { ويطوف عليهم غلمان لهم } ولعلهم من مات من أولاد المشركين قبل التكليف.
ففي صحيح البخاري أنهم خدم أهل الجنة.
والكاس : ما كان من الزجاجة فيه خمر أو نحوه من الأنبذة ، ولا يسمى كأساً إلا وفيه ذلك.
وقد سمى الخمر نفسها كأساً ، تسمية للشيء باسم محله ، قال الشاعر :
وكأس شربت على لذة . . .
وأخرى تداويت منها بها
وقال ابن عباس ، والضحاك ، والأخفش : كل كأس في القرآن فهو خمر.
وقيل : الكأس هيئة مخصوصة في الأواني ، وهو كل ما اتسع فمه ولم يكن له مقبض ، ولا يراعى كونه لخمر أولاً.

{ من معين } : أي من شراب معين ، أو من ثمد معين ، وهو الجاري على وجه الأرض كما يجري الماء.
و { بيضاء } : صفة للكأس أو للخمر.
وقال الحسن : خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن.
وفي قراءة عبد الله : صفراء ، كما قال بعض المولدين :
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها . . .
لو مسها حجر مسته سراء
و { لذة } : صفة بالمصدر على سبيل المبالغة ، أو على حذف ، أي ذات لذة ، أو على تأنيث لذ بمعنى لذيذ.
{ لا فيها غول } ، قال ابن عباس ، وقتادة : هو صداع في الرأس.
وقال ابن عباس أيضاً ، ومجاهد ، وابن زيد : وجع في البطن. انتهى.
والاسم يشمل أنواع الفساد الناشئة عن شرب الخمر ، فينتفي جميعها من مغص ، وصداع ، وخمار ، وعربدة ، ولغو ، وتأثيم ، ونحو ذلك.
ولما كان السكر أعظم مفاسدها ، أفرده بالذكر فقال؛ { ولا هم ينزفون }.
وقرأ الحرميان ، والعربيان : بضم الياء وفتح الزاي هنا ، وفي الواقعة : وبذهاب العقل ، فسره ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وحمزة ، والكسائي : بكسرها فيهما؛ وعاصم : بفتحها هنا وكسرها في الواقعة؛ وابن أبي إسحاق : بفتح الياء وكسر الزاي.
وطلحة : بفتح الياء وضم الزاي.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد : { قاصرات الطرف } : قصرن الطرف على أزواجهن ، لا يمتد طرفهن إلى أجنبي بقوله تعالى : { عُرُباً } وقال الشاعر :
من القاصرات الطرف لو دب محول . . .
من الذر فوق الخد منها لأثرا
والعين : جمع عيناء ، وهي الواسعة العين في جمال.
{ كأنهن بيض مكنون } : شبههن ، قال الجمهور : ببيض النعام المكنون في عشه ، وهو الأدحية ولونها بياض به صفرة حسنة ، وبها تشبه النساء فقال :
مضيئات الخدود . . .
_@_ومنه قول امرىء القيس :
وبيضة خدر لا يرام خباؤها . . .
تمتعت من لهو بها غير معجل
كبكر مغاناة البياض بصفرةغذاها . . .
نمير الماء غير المحلل
وقال السدي ، وابن جبير : شبه ألوانهن بلون قشر البيضة الداخل ، وهو غرقىء البيضة ، وهو المكنون في كن ، ورجحه الطبري وقال : وأما خارج قشر البيضة فليس بمكنون.
وعن ابن عباس ، البيض المكنون : الجوهر المصون ، واللفظ ينبو عن هذا القول.
وقالت فرقة : هو تشبيه عام جملة المرأة بجملة البيضة ، أراد بذلك تناسب أجزاء المرأة ، وأن كل جزء منها نسبته في الجودة إلى نوعه نسبة الآخر من أجزائها إلى نوعه؛ فنسبة شعرها إلى عينها مستوية ، إذ هما غاية في نوعها ، والبيضة أشد الأشياء تناسب أجزاء ، لأنها من حيث حسنها في النظر واحد ، كما قال بعض الأدباء يتغزل :
تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى . . .
بهن اختلافاً بل أتين على قدر
وتساؤلهم في الجنة سؤال راحة وتنعم ، يتذاكرون نعيمهم وحال الدنيا والإيمان وثمرته.
و { فأقبل } : معطوف على { يطاف عليهم } ، والمعنى : يشربون فيتحدثون على الشراب ، كعادة الشراب في الدنيا.
قال الشاعر :
وما بقيت من اللذات إلا . . .
أحاديث الكرام على المدام
وجيء به ماضياً لصدق الإخبار به ، فكأنه قد وقع.
ثم حكى تعالى عن بعضهم ما حكى ، يتذكر بذلك نعمه تعالى عليه ، حيث هداه إلى الإيمان واعتقاد وقوع البعث والثواب والعقاب ، وهو مثال للتحفظ من قرناء السوء والبعد منهم.

قال ابن عباس وغيره : كان هذا القائل وقرينه من البشر.
وقالت فرقة : هما اللذان في قوله : { ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً } وقال مجاهد : كان إنسياً وجنياً من الشياطين الكفرة.
وقرأ الجمهور : { من المصدقين } ، بتخفيف الصاد ، من التصديق؛ وفرقة : بشدها ، من التصدق.
قال قرة بن ثعلبة النهراني : كانا شريكين بثمانية آلاف درهم ، يعبد الله أحدهما ، ويقصر في التجارة والنظر؛ والآخر كان مقبلاً على ماله ، فانفصل من شريكه لتقصيره ، فكلما اشترى داراً أو جارية أو بستاناً ونحوه ، عرضه على المؤمن وفخر عليه ، فيتصدق المؤمن بنحو من ذلك ليشتري به في الجنة ، فكان من أمرهما في الآخرة ما قصد الله.
وقال الزمخشري : نزلت في رجل تصدق بماله لوجه الله ، فاحتاج ، فاستجدى بعض إخوانه ، فقال : وأين مالك؟ فقال : تصدقت به ليعوضني الله في الآخرة خيراً منه ، فقال : { أئنك لمن المصدقين } بيوم الدين ، أو من المتصدقين لطلب الثواب؟ والله لا أعطيك شيئاً.
{ أئنا لمدينون } ، قال ابن عباس ، وقتادة والسدي : لمجازون محاسبون؛ وقيل : لمسوسون مديونون.
يقال : دانه : ساسه ، ومنه الحديث : « العاقل من دان نفسه » والظاهر أن الضمير في { قال هل أنتم } عائد على قائل في قوله : { قال قائل }.
قيل : وفي الكلام حذف تقديره : فقال لهذا القائل حاضروه من الملائكة : إن قرينك هذا في جهنم يعذب ، فقال عند ذلك : { هل أنتم مطلعون }.
والخطاب في { هل أنتم مطلعون } يجوز أن يكون للملائكة ، وأن يكون لرفقائه في الجنة الذين كان هو وإياهم يتساؤلون ، أو لخدمته ، وهذا هو الظاهر.
لما كان قرينه ينكر البعث ، علم أنه في النار فقال : { هل أنتم مطلعون } إلى النار لأريكم ذلك القرين؟ وعلى هذا القول لا يحتاج الكلام إلى حذف ، ولا لقول الملائكة : إن قرينك في جهنم يعذب.
قيل : إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى أهل النار.
وقيل : القائل { هل أنتم مطلعون } الله تعالى.
وقيل : بعض الملائكة يقول لأهل الجنة : بل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار.
وقرأ الجمهور : { مطلعون } ، بتشديد الطاء المفتوحة وفتح النون ، واطلع بشد الطاء فعلاً ماضياً.
وقرأ أبو عمرو في رواية حسين الجعفي : مطلعون ، بإسكان الطاء وفتح النون ، فأطلع بضم الهمزة وسكون الطاء وكسر اللام فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول ، وهي قراءة ابن عباس وابن محيصن وعمار بن أبي عمار وأبي سراج.
وقرىء : فأطلع ، مشدداً مضارعاً منصوباً على جواب الاستفهام.
وقرىء : مطلعون ، بالتخفيف ، فاطلع مخففاً فعلاً ماضياً ، وفاطلع مخففاً مضارعاً منصوباً.
وقرأ أبو البرهسم ، وعمار بن أبي عمار فيما ذكره خلف عن عمار : مطلعون ، بتخفيف الطاء وكسر النون ، فاطلع ماضياً مبنياً للمفعول؛ ورد هذه القراءة أبو حاتم وغيره.

لجمعها بين نون الجمع وياء المتكلم.
والوجه مطلعي ، كما قال ، أو مخرجي هم ، ووجهها أبو الفتح على تنزيل اسم الفاعل منزلة المضارع ، وأنشد الطبري على هذا قول الشاعر :
وما أدري وظني كل ظن . . .
أمسلمني إلى قومي شراحي
قال الفراء : يريد شراحيل.
وقال الزمخشري : يريد مطلعون إياي ، فوضع المتصل موضع المنفصل كقوله :
هم الفاعلون الخير والآمرونه . . .
أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخ بينهما ، كأنه قال : تطلعون ، وهو ضعيف لا يقع إلا في الشعر. انتهى.
والتخريج الثاني تخريخ أبي الفتح ، وتخريجه الأول لا يجوز ، لأنه ليس من مواضع الضمير المنفصل ، فيكون المتصل وضع موضعه ، لا يجوز هند زيد ضارب إياها ، ولا زيد ضارب إياي ، وكلام الزمخشري يدل على جوازه ، فالأولى تخريج أبي الفتح ، وقد جاء منه_@_ :
أمسلمني إلى قومي شراحي . . .
وقول الآخر :
فهل فتى من سراة القوم يحملني . . .
وليس حاملني إلا ابن خَمال
وقال الآخر :
وليس بمعييني . . .
فهذه أبيات ثبت التنوين فيها مع ياء المتكلم ، فكذلك ثبتت نون الجمع معها إجراء للنون مجرى التنوين ، لاجتماعهما في السقوط للإضافة.
ويقال : طلع علينا فلان واطلع بمعنى واحد.
ومن قرأ : فاطلع مبنياً للمفعول ، فضميره القائل الذي هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وهو متعد بالهمزة ، إذ يقول : طلع زيد وأطلعه غيره.
وقال صاحب اللوامح : طلع واطلع ، إذا بدا وظهر؛ واطلع اطلاعاً ، إذا أقبل وجاء مبنياً ، ومعنى ذلك : هل أنتم مقبلون؟ فأقبل.
وإن أقيم المصدر فيه مقام الفاعل بتقديره فاطلع الاطلاع ، أو حرف الجر المحذوف ، أي فاطلع به ، لأنه اطلع لازم ، كما أن أقبل كذلك. انتهى.
وقد ذكرنا أن أطلع عدى بالهمزة من طلع اللازم ، وأما قوله : أو حرف الجر المحذوف ، أي فاطلع ، به فهذا لا يجوز ، لأن مفعول ما لم يسم فاعله لا يجوز حذفه ، لأنه نائب عن الفاعل.
فكما أن الفاعل لا يجوز حذفه دون عامله ، فكذلك هذا.
لو قلت : زيد ممدود أو مغضوب ، تريد به أو عليه ، لم يجز.
و { سواء الجحيم } : وسطها ، تقول : تعبت حتى انقطع سوائي.
قال ابن عباس : سمي سواء لاستواء المسافة منه إلى الجوانب ، يعني سواء الجحيم.
وقال خليل العصري : رآه : تبدلت حاله ، فلولا ما عرفه الله به لم يعرفه ، قال له عند ذلك : { تالله إن كدت لتردين } : أي لتهلكني بإغوائك.
وإن مخففة من الثقيلة ، يلقي بها القسم؛ وتالله قسم فيه التعجب من سلامته منه إذا كان قرينه قارب أن يرديه.
{ ولولا نعم ربي } : وهي توفيقه للإيمان والبعد من قرين السوء ، { لكنت من المحضرين } للعذاب ، كما أحضرته أنت.
{ أفما نحن بميتين } ، قرأ زيد بن عليّ : بمائتين ، والظاهر أنه من كلام القائل : يسمع قرينه على جهة التوبيخ له ، أي لسنا أهل الجنة بميتين ، لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا ، بخلاف أهل النار ، فإنهم في كل ساعة يتمنون فيها الموت.

{ وما نحن بمعذبين } ، كحال أهل النار ، بل نحن منعمون دائماً.
ويكون في خطابه ذلك منكلاً له ، مقرعاً محزناً له أنعم الله به عليه من دخول الجنة ، معلماً له بتباين حاله في الآخرة بحاله.
كما كانتا تتباينان في الدنيا من أنه ليس بعد الموت جزاء ظهر له خلافه ، يعذب بكفره بالله وإنكار البعث.
ويجوز أن يكون خطاباً من القائل لرفقائه ، لما رأى ما نزل بقرينه ، وقفهم على نعمه تعالى في ديمومة خلودهم في الجنة ونعيمهم فيها.
ويتصل قوله : { إن هذا } إلى قوله : { العاملون } بهذا التأويل أيضاً ، لا واضحاً خطاباً لرفقائه.
ويجوز أن يكون تم كلامه عند قوله : { لتردين } ، ويكون { أفما نحن } إلى { بمعذبين } من كلامه وكلام رفقائه ، وكذلك { إن هذا } إلى { العاملون } : أي إن هذا الأمر الذي نحن فيه من النعيم والنجاة من النار.
وقيل : هو من قول الله تعالى ، تقريراً لقولهم وتصديقاً له وخطاباً لرسول الله وأمّته ، ويقوي هذا قوله : { لمثل هذا فليعمل العاملون } ، والآخرة ليست بدار عمل ، ولا يناسب ذلك قول المؤمن في الآخرة إلا على تجوز ، كأنه يقول : لمثل هذا ينبغي أن يعمل العاملون.
وقال الزمخشري : الذي عطف عليه الفاء محذوف معناه : أنحن مخلدون؟ أي منعمون ، فما نحن بميتين ولا معذبين. انتهى.
وتقدم من مذهبه أنه إذا تقدمت همزة الاستفهام ، وجاء بعدها حرف العطف بضمير ما ، يصح به إقرار الهمزة والحرف في محليهما اللذين وقعا فيهما ، ومذهب الجماعة أن حرف العطف هو المقدم في التقدير ، والهمزة بعده ، ولكنه لما كانت الهمزة لها صدر الكلام قدمت ، فالتقدير عند الجماعة.
فأما وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة ، وتقدم الكلام معه في ذلك.

أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)

لما انقضت قصة المؤمن وقرينه ، وكان ذلك على سبيل الاستطراد من شيء إلى شيء ، عاد إلى ذكر الجنة والرزق الذي أعده الله فيها لأهلها فقال : أذلك الرزق { خير نزلاً } ؟ والنزل ما يعد للأضياف ، وعادل بين ذلك الرزق وبين { شجرة الزقوم }.
فلاستواء الرزق المعلوم يحصل به اللذة والسرور ، وشجرة الزقوم يحصل بها الألم والغم ، فلا اشتراك بينهما في الخيرية.
والمراد تقرير قريش والكفار وتوقيفهم على شيئين ، أحدهما فاسد.
ولو كان الكلام استفهاماً حقيقة لم يجز ، إذ لا يتوهم أحد أن في شجرة الزقوم خيراً حتى يعادل بينهما وبين رزق الجنة.
ولكن المؤمن ، لما اختار ما أدّى إلى رزق الجنة ، والكافر اختار ما أدّى إلى شجرة الزقوم ، قيل ذلك توبيخاً للكافرين وتوقيفاً على سوء اختيارهم.
{ إنا جعلناها فتنة للظالمين } ، قال قتادة ، ومجاهد ، والسدي : أبو جهل ونظراؤه ، لما نزلت قال للكفار ، يخبر محمد عن النار أنها تنبت الأشجار ، وهي تأكلها وتذهبها ، ففتنوا بذلك أنفسهم وجملة أتباعهم.
وقال أبو جهل : إنما الزقوم : التمر بالزبد ، ونحن نتزقمه.
وقيل : منبتها في قعر جهنم ، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.
واستعير الطلع ، وهي النخلة ، لما تحمل هذه الشجرة ، وشبه طلعها بثمر شجرة معروفة يقال لثمرها رؤوس الشياطين ، وهي بناحية اليمن يقال لها الاستن ، وذكرها النابغة في قوله :
تحيد من استن سود أسافله . . .
مشي الإماء الغوادي تحمل الحزما
وهو شجر خشن مر منكر الصورة ، سمت ثمره العرب بذلك تشبها برؤوس الشياطين ، ثم صار أصلاً يشبه به.
وقيل : هو شجرة يقال لها الصوم ، ذكرها ساعدة بن حوبة الهذلي في قوله :
موكل بشدوف الصوم يرقبها . . .
من المناظر مخطوف الحشازرم
وقيل : الشياطين صنف من الحيات ذوات أعراف ، ومنه :
عجيز تحلف حين أحلف . . .
كمثل شيطان الحماط أعرف
وقيل : شبه بما اشتهر في النفوس من كراهة رؤوس الشياطين وقبحها ، وإن كانت غير مرئية ، ولذلك يصورون الشيطان في أقبح الصور.
وإذا رأوا أشعث منتفش الشعر قالوا : كأنه وجه شيطان ، وكأن رأسه رأس شيطان ، وهذه بخلاف الملك ، يشبهون به الصورة الحسنة.
وكما شبه امرؤ القيس المسنونة الزرق بأنياب الغول في قوله :
ومسنونة زرق كأنياب أغوال . . .
وإن كان لم يشاهد تلك الأنياب ، وهذا كله تشبيه تخييلي.
والضمير في منها يعود على الشجرة ، أي من طلعها.
وقرأ الجمهور : { لشوباً } بفتح الشين؛ وشيبان النحوي : بضمها.
وقال الزجاج : الفتح للمصدر والضم للاسم ، يعني أنه فعل بمعنى مفعول ، أي مشوب ، كالنقص بمعنى المنقوص.
وفسر بالخلط والحميم الماء السخن جداً ، وقيل : يراد به هنا شرابهم الذي هو طينة الخبال صديدهم وما ساح منهم.
ولما ذكر أنهم يملأُون بطونهم من شجرة الزقوم للجوع الذي يلحقهم ، أو لإكراههم على الأكل وملء البطون زيادة في عذابهم ، ذكر ما يسقون لغلبة العطش ، وهو ما يمزج لهم من الحميم.

ولما كان الأكل يعتقبه ملء البطن ، كان العطف بالفاء في قوله : { فمالئون }.
ولما كان الشرب يكثر تراخيه عن الأكل ، أتي بلفظ ثم المقتضية المهلة ، أو لما امتلأت بطونهم من ثمرة الشجرة ، وهو حار ، أحرق بطونهم وعطشهم ، فأخر سقيهم زماناً ليزدادوا بالعطش عذاباً إلى عذابهم ، ثم سقوا ما هو أحر وآلم وأكره.
{ ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم } : لما ذهب بهم من منازلهم التي أسكنوها في النار إلى شجرة الزقوم للأكل والتملؤ منها والسقي من الحميم ونواحي رجوعهم إلى منازلهم ، دخلت ثم لدلالة على ذلك ، والرجوع دليل على الانتقال في وقت الأكل والشرب إلى مكان غير مكانهما ، ثم ذكر تعالى حالهم في تقليد آبائهم.
والضمير لقريش وأن ذلك التقليد كان سبباً لاستحقاقهم تلك الشدائد ، أي وجدوا آباءهم ضالين ، فاتبعوهم على ضلالتهم ، مسرعين في ذلك لا يثبطهم شيء.
ثم أخبر بضلال أكثر من تقدم من الأمم ، هذا وما خلت أزمانهم من إرسال الرسل ، وإنذارهم عواقب التكذيب.
وفي قوله : { فانظر } ما يقتضي إهلاكهم وسوء عاقبتهم ، واستثنى المخلصين من عباده ، وهم الأقل المقابل لقوله : { أكثر الأولين } ، والمعنى : إلا عباد الله ، فإنهم نجوا.
ولما ذكر ضلال الأولين ، وذكر أولهم شهرة ، وهم قوم نوح ، عليه السلام ، تضمن أشياء منها : الدعاء على قومه ، وسؤاله النجاة ، وطلب النصرة.
وأجابه تعالى في كل ذلك إجابة بلغ بها مراده.
واللام في { فلنعم } جواب قسم كقوله :
يميناً لنعم السيدان وجدتما . . .
_@_والمخصوص بالمدح محذوف تقديره : فلنعم المجيبون نحن ، وجاء بصيغة الجمع للعظمة والكبرياء لقوله : { فقدرنا فنعم القادرون } و { الكرب العظيم } ، قال السدي : الغرق ، ومنه تكذيب الكفرة وركوب الماء ، وهوله ، وهم فصل متعين للفصيلة لا يحتمل غيره.
قال ابن عباس ، وقتادة : أهل الأرض كلهم من ذرية نوح.
وفي الحديث : « أنه عليه السلام قرأ { وجعلنا ذريتهم هم الباقين } فقال : سام وحام ويافث » وقال الطبري : العرب من أولاد سام ، والسودان من أولاد حام ، والترك وغيرهم من أولاد يافث.
وقالت فرقة : أبقى الله ذرية نوح ومد في نسله ، وليس الناس منحصرين في نسله ، بل في الأمم من لا يرجع إليه.
{ وتركنا عليه في الآخرين } : أي في الباقين غابر الدهر؛ ومفعول تركنا محذوف تقديره ثناء حسناً جميلاً في آخر الدهر ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وسلام.
رفع بالابتداء مستأنف ، سلم الله عليه ليقتدي بذلك البشر ، فلا يذكره أحد من العالمين بسوء.
سلم تعالى عليه جزاء على ما صبر طويلاً ، من أقوال الكفرة وإذايتهم له.
وقال الزمخشري : { وتركنا عليه في الآخرين } ، هذه الكلمة ، وهي { سلام على نوح في العالمين } يعني : يسلمون عليه تسليماً ، ويدعون له ، وهو الكلام المحكي ، كقولك : قرأت سورة أنزلناها. انتهى.
وهذا قول الفراء وغيره من الكوفيين ، وهذا هو المتروك عليه ، وكأنه قال : وتركنا على نوح تسليماً يسلم به عليه إلى يوم القيامة. انتهى.
وفي قراءة عبدالله : سلاماً بالنصب ، ومعنى في العالمين : ثبوت هذه التحية مثبوتة فيهم جميعاً ، مدامة عليه في الملائكة ، والثقلين يسلمون عليه عن آخرهم.
ثم علل هذه التحية بأنه كان محسناً ، ثم علل إحسانه بكونه مؤمناً ، فدل على جلاله الإيمان ومحله عند الله.
{ ثم أغرقنا الآخرين } : أي من كان مكذباً له من قومه ، لما ذكر تحياته ونجاة أهله ، إذ كانوا مؤمنين ، ذكر هلاك غيرهم بالغرق.

وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)

والظاهر عود الضمير في { من شعيته } على نوح ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، أي ممن شايعه في أصول الدين والتوحيد ، وان اختلفت شرائعهما ، أو اتفق أكثرهما ، أو ممن شايعه في التصلب في دين الله ومصابرة المكذبين.
وكان بين نوح وإبراهيم ألفا سنة وستمائة وأربعون سنة ، وبينهما من الأنبياء هود وصالح ، عليهما السلام.
وقال الفراء : الضمير فى { من شعيته } يعود على محمد صلى الله عليه وسلم والأعرف أن المتأخر في الزمان هو شيعة للمتقدم ، وجاء عكس ذلك في قول الكميت :
وما لي إلا آل أحمد شيعة . . .
ومالي إلا مشعب الحق مشعب
جعلهم شيعة لنفسه.
وقال الزمخشري : فإن قلت : بم يتعلق الظرف؟ قلت : بما في الشيعة من معنى المشايعة ، يعني : وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه بقلب سليم لإبراهيم ، أو بمحذوف ، وهو اذكر. انتهى.
أما التخريج الأول فلا يجوز ، لأن فيه الفضل بين العامل والمعمول بأجنبي ، وهو قوله : { لإبراهيم } ، لأنه أجنبي من شيعته ومن إذ ، وزاد المنع ، إذ قدره ممن شايعه حين جاء لإبراهيم.
وأيضاً فلام التوكيد يمنع أن يعمل ما قبلها فيما بعدها.
لو قلت : إن ضارباً بالقادم علينا زيداً ، وتقديره : ضارباً زيداً لقادم علينا ، لم يجز.
وأما تقديره اذكر ، فهو المعهود عند المعربين.
ومجيئه ربه بقلب سليم : إخلاصه الدين لله ، وسلامة قلبه : براءته من الشرك والشك والنقائص التي تعتري القلوب من الغل والحسد والخبث والمكر والكبر ونحوها.
قال عروة بن الزبير : لم يعلن شيئاً قط.
وقيل : سليم من الشرك ولا معنى للتخصيص.
وأجازوا في نصب { أئفكاً } وجوها : أحدها : أن يكون مفعولاً بتريدون ، والتهديد لأمته ، وهو استفهام تقرير ، ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه ، وذكره الزمخشري قال : فسر الإفك بقوله : آلهة من دون الله ، على أنها إفك في أنفسهم.
والثاني : أن يكون مفعولاً من أجله أي : تريدون آلهة من دون الله فكاً ، وآلهة مفعول به ، وقدمه عناية به ، وقدم المفعول له على المفعول به ، لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم ، وبدأ بهذا الوجه الزمخشري.
والثالث : أن يكون حالاً ، أي أتريدون آلهة من دون الله آفكين؟ قاله الزمخشري ، وجعل المصدر حالاً لا يطرد إلا مع أما في نحو : أما علماً فعالم.
{ فما ظنكم برب العالمين } : استفهام توبيخ وتحذير وتوعد ، أي : أي شيء ظنكم بمن هو يستحق لأن تعبدوه ، إذ هو رب العالمين حتى تركتم عبادته وعدلتم به الأصنام؟ أي : أيّ شيء ظنكم بفعله معكم من عقابكم ، إذ قد عبدتم غيره؟ كما تقول : أسأت آل فلان ، فما ظنك به أن يوقع بك خيراً ما أسأت إليه؟ ولما وبخهم على عبادة غير الله ، أراد أن يريهم أن أصنامهم لا تنفع ولا تضر ، فعهد إلى ما يجعله منفرداً بها حتى يكسرها ويبين لهم حالها وعجزها.

{ فنظر نظرة في النجوم } ، والظاهر أنه أراد علم الكواكب ، وما يعزي إليها من التأثيرات التي جعلها الله لها.
والظاهر أن نظره كان فيها ، أي في علمها ، أو في كتابها الذي اشتمل على أحوالها وأحكامها.
قيل : وكانوا يعانون ذلك ، فأتاهم من الجهة التي يعانونها ، وأوهمهم بأنه استدل بأمارة في علم النجوم أنه سقيم ، أي يشارف السقم.
قيل : وهو الطاعون ، وكان أغلب الأسقام عليهم إذ ذاك ، وخافوا العدوى وهربوا منه إلى عيدهم ، ولذلك قال : { فتولوا عنه مدبرين } ، قال معناه ابن عباس ، وتركوه في بيت الأصنام ففعل ما فعل.
وقيل : كانوا أهل رعاية وفلاحة ، وكانوا يحتاجون إلى علم النجوم.
وقيل : أرسل إليهم ملكهم أن غداً عيدنا ، فاحضر معنا ، فنظر إلى نجم طالع فقال : إن يطلع مع سقمي.
وقيل : معنى { فنظر نظرة في النجوم } ، أي فيما نجم إليه من أمور قومه وحاله معهم ، ومعنى : { فتولوا عنه مدبرين } ، أي لكفرهم به واحتقارهم له ، وقوله : { إني سقيم } ، من المعاريض ، عرض أنه يسقم في المآل ، أي يشارف السقم.
قيل : وهو الطاعون ، وكان أغلب ، وفهموا منه أنه ملتبس بالسقم ، وابن آدم لا بد أن يسقم ، والمثل : كفى بالسلامة داء.
قال الشاعر :
فدعوت ربي بالسلامة جاهداً . . .
ليصحني فإذا السلامة داء
ومات رجل فجأة ، فاكتنف عليه الناس فقالوا : مات وهو صحيح ، فقال أعرابي : أصحيح من الموت في عنقه؟ { فراغ إلى آلهتهم } : أي أصنامهم التي هي في زعمهم آلهة ، كقوله : { أين شركائي } وعرض الأكل عليها.
واستفهامها عن النطق هو على سبيل الهزء ، لكونها منحطة عن رتبة عابديها ، إذ هم يأكلون وينطقون.
وروي أنهم كانوا يضعون عندها طعاماً ، ويعتقدون أنها تصيب منه شيئاً ، وإنما يأكله خدمتها.
{ فراغ عليهم ضرباً باليمين } : أي أقبل عليهم مستخفياً ضارباً ، فهو مصدر فى موضع الحال ، أو يضربهم ضرباً ، فهو مصدر فعل محذوف ، أو ضمن فراغ عليهم معنى ضربهم ، وباليمين : أي يمين يديه.
قال ابن عباس : لأنها أقوى يديه أو بقوته ، لأنه قيل : كان يجمع يديه في الآلة التي يضربها بها وهي الفأس.
وقيل : سبب الحلف الذي هو : { وتالله لأكيدن أصنامكم } وقرأ الجمهور : { يزفون } ، بفتح الياء ، من زف : أسرع ، أو من زفاف العروس ، وهو التمهل في المشية ، إذ كانوا في طمأنينة أن ينال أصنامهم شيء لعزتهم.
وقرأ حمزة ، ومجاهد ، وابن وثاب ، والأعمش : بضم الياء ، من أزف : دخل في الزفيف ، فهي للتعدي ، قاله الأصمعي.
وقرأ مجاهد أيضاً ، وعبد الله بن يزيد ، والضحاك ، ويحيى بن عبد الرحمن المقري ، وابن أبي عبلة : يزفون مضارع زف بمعنى أسرع.
وقال الكسائي ، والفراء : لا نعرفها بمعنى زف.
وقال مجاهد : الوزيف : السيلان.

وقرىء : يزفون مبنياً للمفعول.
وقرىء : يزفون بسكون الزاى ، من زفاه إذا حداه ، فكان بعضهم يزفو بعضاً لتسارعهم إليه.
وبين قوله : { فراغ عليهم ضرباً باليمين } وبين قوله : { فأقبلوا عليه يزفون } جمل محذوفة هي مذكورة في سورة اقترب ، ولا تعارض بين قوله : { فأقبلوا عليه يزفون } وبين سؤالهم { من فعل هذا بآلهتنا } وأخبار من عرض بأنه إبراهيم كان يذكر أصنامهم ، لأن هذا الإقبال كان يقتضي تلك الجمل المحذوفة ، أي فأقبلوا إليه ، أي إلى الإنكار عليه في كسر أصنامهم وتأنيبه على ذلك.
وليس هذا الإقبال من عندهم ، بل بعد مجيئهم من عندهم جرت تلك المفاوضات المذكورة في سورة اقترب.
واستسلف الزمخشري في كلامه أشياء لم تتضمنها الآيات ، صارت الآيات عنده بها كالمتناقضة.
قال ، حيث ذكر ههنا : إنهم أدبروا عنه خيفة العدوى ، فلما أبصروه يكسر أصنامهم ، أقبلوا إليه متبادرين ليكفوه ويقعوا به.
وذكرتم أنهم سألوا عن الكاسر حتى قيل : سمعنا إبراهيم يذمهم ، فلعله هو الكاسر.
ففي إحداهما أنهم شاهدوه يكسرها ، وفي الآخرى أنهم استدلوا بذمه على أنه الكاسر. انتهى.
ما أبدى من التناقض ، وليس في الآيات ما يدل على أنهم أبصروه يكسرهم ، فيكون فيه كالتناقض.
ولما قرر أنه كالتناقض قال : قلت فيه وجهان : أحدهما : أن يكون الذين أبصروه وزفوا إليه نفراً منهم دون جمهورهم وكبرائهم ، فلما رجع الجمهور والعلية من عندهم إلى بيت الأصنام ليأكلوا الطعام الذي وضعوه عندها لتبرك عليه ورأوها مكسورة ، اشمأزوا من ذلك وسألوا من فعل هذا بها؟ لم ينم عليه أولئك النفر نميمة صريحة ، ولكن على سبيل التورية والتعريض بقولهم : سمعنا فتى يذكرهم لبعض الصوارف.
والثاني : أن يكسرها ويذهب ولا يشعر بذلك أحد ، ويكون إقبالهم إليه يزفون بعد رجوعهم من عيدهم ، وسؤالهم عن الكاسر ، وقولهم : { قالوا فأتوا به على أعين الناس } انتهى.
وهذا الوجه الثاني الذي ذكر هو الصحيح.
{ قال أتعبدون ما تنحتون } : استفهام توبيخ وإنكار عليهم ، كيف هم يعبدون صوراً صوّروها بأيديهم وشكلوها على ما يريدون من الأشكال؟ { والله خلقكم وما تعملون } : الظاهر أن ما موصولة بمعنى الذي معطوفة على الضمير في خلقكم ، أي أنشأ ذواتكم وذوات ما تعملون من الأصنام ، والعمل هنا هو التصوير والتشكيل ، كما يقول : عمل الصائغ الخلخال ، وعمل الحداد القفل ، والنجار الخزانة؛ ويحمل ذلك على أن ما بمعنى الذي يتم الاحتجاج عليهم ، بأن كلاً من الصنم وعابده هو مخلوق لله تعالى ، والعابد هو المصور ذلك المعبود ، فكيف يعبد مخلوق مخلوقاً؟ وكلاهما خلق الله ، وهو المنفرد بإنشاء ذواتهما.
والعابد مصور الصنم معبوده.
و « ما » في : { وما تنحتون } بمعنى تأذى ، فكذلك في { وما تعملون } ، لأن نحتهم هو عملهم.
وقيل : ما مصدرية ، أي خلقكم وعملكم ، وجعلوا ذلك قاعدة على خلق الله أفعال العباد.
وقد بدد الزمخشري تقابل هذه المقالة بما يوقف عليه في كتابه.
وقيل : ما استفهام إنكاري ، أي : وأي شيء تعملون في عبادتكم أصناماً تنحتونها؟ أي لا عمل لكم يعتبر.
وقيل : ما نافية ، أي وما أنتم تعملون شيئاً في وقت خلقكم ولا تقدرون على شيء.
وكون ما مصدرية واستفهامية ونعتاً ، أقوال متعلقة خارجة عن طريق البلاغة.
ولما غلبهم إبراهيم ، عليه السلام ، بالحجة ، مالوا إلى الغلبة بقوة الشوكة والجمع فقالوا : { ابنوا له بنياناً } ، أي في موضع إيقاد النار.
وقيل : هو المنجنيق الذي رمي عنه.
وأرادوا به كيداً ، فأبطل الله مكرهم ، وجعلهم الأخسرين الأسفلين ، وكذا عادة من غلب بالحجة رجع إلى الكيد.

وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)

تل الرجلُ الرجَل : صرعه على شقه ، وقيل : وضعه بقوة.
وقال ساعدة بن حوبة : وتل_@_.
تليلاً للجبين وللفم . . .
_@_والجبينان : ما اكتف من هنا ومن هنا ، وشذ جمع الجبين على أجبن ، وقياسه في القلة أجبنة ، ككثيب وأكثبة ، وفي الكثرة : جبنات وجبن ، ككثبات وكثب.
الذبح : اسم ما يذبح ، كالرعي اسم ما يرعى.
أبق : هرب.
ساهم : قارع.
المدحض : المقلوب.
الحوت : معروف.
ألام : أتى بما يلام عليه ، قال الشاعر :
وكم من ميلم لم يصب بملامة . . .
ومتبع بالذنب ليس له ذنب
{ وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين ، رب هب لي من الصالحين ، فبشرناه بغلام حليم ، فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام إن أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا بأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ، فلما أسلما وتله للجبين ، وناديناه أن يا إبراهيم ، قد صدّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين ، إن هذا لهو البلاء المبين ، وفديناه بذبح عظيم ، وتركنا عليه في الآخرين ، سلام على إبراهيم ، كذلك نجزي المحسنين ، إنه من عبادنا المؤمنين ، وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين ، وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين }.
لما سلمه الله منهم ومن النار التي ألقوه فيها ، عزم على مفارقتهم ، وعبر بالذهاب إلى ربه عن هجرته إلى أرض الشام.
كما قال : { إني مهاجر إلى ربي } ليتمكن من عبادة ربه ويتضرع له من غير أن يلقي من يشوش عليه ، فهاجر من أرض بابل ، من مملكة نمرود ، إلى الشأم.
وقيل : إلى أرض مصر.
ويبعد قول من قال : ليس المراد بذهابه الهجرة ، وإنما مراده لقاء الله بعد الإحراق ، ظاناً منه أنه سيموت في النار ، فقالها قبل أن يطرح في النار.
و { سيهدين } : أي إلى الجنة ، نحا إلى هذا قتادة ، لأن قوله : { رب هب لي من الصالحين } يدفع هذا القول ، والمعتقد أنه يموت في النار لا يدعو بأن يهب الله له ولداً صالحاً.
{ سهيدين } : يوفقني إلى ما فيه صلاحي.
{ من الصالحين } : أي ولداً يكون في عداد الصالحين.
ولفظ الهبة غلب في الولد ، وإن كان قد جاء في الأخ ، كقوله : { ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً } واشتملت البشارة على ذكورية المولود وبلوغه سن الحلم ووصفه بالحلم ، وأي حلم أعظم من قوله ، وقد عرض عليه أبوه الذبح : { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } ؟
{ فلما بلغ معه السعي } ، بين هذه الجملة والتي قبلها محذوف تقديره : فولد له وشب.
{ فلما بلغ } : أي أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه.
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد : والسعى هنا : العمل والعبادة والمعونة.
وقال قتادة : السعي على القدم ، يريد سعياً متمكناً ، وفيه قال الزمخشري : لا يصح تعلقه ببلغ به بلوغهما معاً حد السعي ولا بالسعي ، لأن أصله المصدر لا يتقدم عليه ، فنفى أن يكون بياناً ، كأنه لما قال : { فلما بلغ معه السعي } ، أي الحد الذي يقدر فيه على السعي ، قيل : مع من؟ فقال : مع أبيه ، والمعنى في اختصاص الأب أنه أرفق الناس وأعطفهم عليه وعلى غيره وبما عنف عليه في الاستسعاء ، فلا يحتمله ، لأنه لم يستحكم قوله ، ولم يطلب عوده ، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة.

انتهى.
{ ق يا بني } : نداء شفقة وترحم.
{ إني أرى في المنام إني أذبحك } : أي بأمر من الله ، ويدل عليه : { افعل ما تؤمر }.
ورؤيا الأنبياء وحي كاليقظة ، وذكره له الرؤيا تجسير على احتمال تلك البلية العظيمة.
وشاوره بقوله : { فانظر ماذا ترى } ، وإن كان حتماً من الله ليعلم ما عنده من تلقي هذا الامتحان العظيم ، ويصبره إن جزع ، ويوطن نفسه على ملاقاة هذا البلاء ، وتسكن نفسه لما لا بد منه ، إذ مفاجأة البلاء قبل الشعور به أصعب على النفس ، وكان ما رآه في المنام ولم يكن في اليقظة ، كرؤيا يوسف عليه السلام ، ورؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول المسجد الحرام ، ليدل على أن حالتي الأنبياء يقظة ومناماً سواء في الصدق متظافرتان عليه.
قيل : إنه حين بشرت الملائكة بغلام حليم قال : هو إذن ذبيح الله.
فلما بلغ حد السعي معه قيل له : أوف بنذرك.
قيل : رآى ليلة التروية قائلاً يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا.
فلما أصبح ، روّى في ذلك من الصباح إلى الرواح.
أمن الله هذا الحلم ، فمن ثم سمي يوم التروية.
فلما أمس رأى مثل ذلك ، فعرف أنه من الله ، فمن ثم سمي يوم عرفة.
ثم رأى مثله في الليلة الثالثة ، فهمّ بنحرة ، فسمي يوم النحر.
وقرأ الجمهور : { ترى } ، بفتح التاء والراء؛ وعبد الله ، والأسود بن يزيد ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، ومجاهد ، وحمزة ، والكسائي : بضم التاء وكسر الراء؛ والضحاك ، والأعمش أيضاً بضم التاء وفتح الراء.
فالأول من الرأي ، والثاني ماذا ترينيه وما تبديه لأنظر فيه؟ والثالث ما الذي يخيل إليك ويوقع في قلبك؟ وانظر معلقة ، وماذا استفهام.
فإن كانت ذا موصولة بمعنى الذي ، فما مبتدأ ، والفعل بعد ذا صلة.
وإن كانت ذا مركبة ، ففي موضع نصب بالفعل بعدها.
والجملة ، واسم الاستفهام الذي هو معمول للفعل بعده في موضع نصب لانظر.
ولما كان خطاب الأب { يا بنيّ } ، على سبيل الترحم ، قال : هو { يا أبت } ، على سبيل التعظيم والتوقير.
{ افعل ما تؤمر } : أي ما تؤمره ، حذفه وهو منصوب ، وأصله ما تؤمر به ، فحذف الحرف ، واتصل الضمير منصوباً ، فجاز حذفه لوجود شرائط الحذف فيه.
وقال الزمخشري : أو أمرك ، على إضافة الصدر إلى المفعول الذي لم يسم فاعله ، وفي ذلك خلاف؛ هل يعتقد في المصدر العامل أن يجوز أن يبنى للمفعول ، فيكون ما بعده مفعولاً لم يسم فاعله ، أم يكون ذلك؟ { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } : كلام من أوتي الحلم والصبر والامتثال لأمر الله ، والرضا بما أمر الله.

{ فلما أسلما } : أي لأمر الله ، ويقال : استسلم وسلم بمعناه.
وقرأ الجمهور : أسلما.
وقرأ عبد الله ، وعلي ، وابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وجعفر بن محمد ، والأعمش ، والثوري : سلما : أي فوضا إليه في قضائه وقدره.
وقرىء : استسلما ، ثلاث قراءآت.
وقال قتادة في أسلما : أسلم هذا ابنه ، وأسلم هذا نفسه ، فجعل أسلما متعدياً ، وغيره جعله لازماً بمعنى : انقاذ الأمر الله وخضعا له.
{ وتله للجبين } : أي أوقعه على أحد جنبيه في الأرض مباشراً الأمر بصبر وجلد ، وذلك عند الصخرة التي بمنى؛ وعن الحسن : في الموضع المشرف على مسجد منى؛ وعن الضحاك : في المنحر الذي ينحر فيه اليوم.
وجواب لما محذوف يقدر بعد { وتله للجبين } ، أي أجزلنا أجرهما ، قاله بعض البصريين؛ او بعد { الرؤيا } ، أي كان ما كان مما تنطق به الحال ولا يحيط به الوصف من استبشارهما وحمدهما الله على ما أنعم به إلى ألفاظ كثيرة ذكرها الزمخشري على عادته في خطابته؛ أو قبل { وتله } تقديره : { فلما أسلما وتله }.
قال ابن عطية : وهو قول الخليل وسيبويه ، وهو عندهم كقول امرىء القيس_@_ :
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحي . . .
وقال الكوفيون : الجواب مثبت ، وهو : { وناديناه } على زيادة الواو.
وقالت فرقة : هو { وتله } على زيادة الواو.
وذكر الزمخشري في قصة إبراهيم وابنه ، وما جرى بينهما من الأقوال والأفعال فصولاً ، الله أعلم بصحتحها ، يوقف عليها في كتابة.
وأن مفسرة ، أي { قد صدّقت }.
وقرأ زيد ابن علي : وناديناه قد صدقت ، بحذف أن؛ وقرىء : صدقت ، بتخفيف الدال.
وقرأ فياض : الريا ، بكسر الراء والإدغام وتصديق الرؤيا.
قال الزمخشري : بذل وسعه وفعل ما يفعل الذابح من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على حلقه ، لكن الله سبحانه جاء بما منع الشفرة أن تمضي فيه ، وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم.
ألا ترى أنه لا يسمى عاصياً ولا مفرطاً؟ بل يسمى مطيعاً ومجتهداً ، كما لو مضت فيه الشفرة وفرت الأوداج وأنهرت الدم.
وليس هذا من ورود النسخ على المأمور به قبل الفعل ، ولا قبل أو ان الفعل في شيء ، كما يسبق إلى بعض الأوهام حتى يشتغل بالكلام فيه.
وقال ابن عطية : { قد صدّقت } ، يحتمل أن يريد يقلبك على معنى : كانت عندك رؤياك صادقة حقاً من الله فعلمت بحسبها حين آمنت بها ، واعتقدت صدقها.
ويحتمل أن يريد : صدقت بقلبك ما حصل عن الرؤيا في نفسك ، كأنه قال : قد وفيتها حقها من العمل. انتهى.
{ إنا كذلك نجزي المحسنين } : تعليل لتخويل ما خولهما الله من الفرج بعد الشدة ، والظفر بالبغية بعد اليأس.

{ إن هذا } : أي ما أمر به إبراهيم من ذبح ابنه ، { لهو البلاء المبين } : أي الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون وغيرهم ، أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها.
{ وفدنياه بذبح } ، قال ابن عباس : هو الكبش الذي قربه هابيل فقبل منه ، وكان يرعى في الجنة حتى فدى به إسماعيل.
وقال أيضاً هو والحسن : فدي بوعل أهبط عليه من سرو.
وقال الجمهور : كبش أبيض أقرن أقنى ، ووصف بالعظم.
قال مجاهد : لأنه متقبل يقيناً.
وقال عمرو بن عبيد : لأنه جرت السنة به ، وصار ديناً باقياً إلى آخر الدهر.
وقال الحسن بن الفضل : لأنه كان من عند الله.
وقال أبو بكر الوراق : لأنه لم يكن عن نسل ، بل عن التكوين.
وقال ابن عباس ، وابن جبير : عظمته كونه من كباش الجنة ، رعى فيها أربعين خريفاً.
وفي قوله : { وفديناه بذبح عظيم } دليل على أن إبراهيم لم يذبح ابنه ، وقد فدي.
وقالت فرقة : وقع الذبح وقام بعد ذلك.
قال ابن عطية : وهذا كذب صراح.
وقالت فرقة : لم ير إبراهيم في منامه الإمرار بالشفرة فقط ، فظن أنه ذبح مجهز ، فنفذ لذلك.
فلما وقع الذي رآه وقع النسخ ، قال : ولا اختلاف ، فإن إبراهيم عليه السلام ، أمرّ الشفرة على حلق ابنه فلم تقطع. انتهى.
والذي دل عليه القرآن أنه { تله للجبين } فقط ، ولم يأت في حديث صحيح أنه أمرّ الشفرة على حلق ابنه.
{ وتركنا عليه } إلى : { المؤمنين } ، تقدم تفسير نظيره في آخر قصة نوح ، قبل قصة إبراهيم هنا ، وقال هنا كذلك دون إنا ، اكتفاء بذكر ذلك قبل وبعد.
{ وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين } : الظاهر أن هذه بشارة غير تلك البشارة ، وأن الغلام الحليم المبشر به إبراهيم هو إسماعيل ، وأنه هو الذبيح لا إسحاق؛ وهو قول ابن عباس ، وابن عمر ، ومعاوية بن أبي سفيان ، ومحمد بن كعب القرظي ، والشعبي ، والحسن ، ومجاهد ، وجماعة من التابعين؛ واستدلوا بظاهر هذه الآيات وبقوله عليه السلام : أنا ابن الذبيحين ، وقول الأعرابي له : يا ابن الذبيحين : فتبسم عليه السلام ، يعني إسماعيل ، وأباه عبد الله.
وكان عبد المطلب نذر ذبح أحد ولده ، فخرج السهم على عبد الله ، فمنعه أخواله وقالوا له : افد ابنك بمائة من الإبل ، ففداه بها.
وفيما أوحي الله لموسى في حديث طويل.
وأما إسماعيل ، فإنه جاد بدم نفسه.
وسأل عمر بن عبد العزيز يهودياً أسلم عن ذلك فقال : إن يهودياً ليعلم ، لكهنم يحسدونكم معشر العرب ، وكان قرنا الكبش منوطين في الكعبة.
وسأل الأصمعي أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال : يا أصمعي ، أين عزب عنك عقلك؟ ومتى كان إسحاق بمكة؟ وهو الذي بنى البيت مع أبيه ، والمنحر بمكة؟ انتهى.
ووصفه تعالى بالصبر في قوله : { وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين } وهو صبره على الذبح؛ وبصدق الوعد في قوله :

{ إنه كان صادق الوعد } لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به.
وذكر الطبري أن ابن عباس قال : الذبيح إسماعيل ، ويزعم اليهود أنه إسحاق ، وكذبت اليهود.
ومن أقوى ما يستدل به أن الله تعالى بشر إبراهيم بإسحاق ، وولد إسحاق يعقوب.
فلو كان الذبيح إسحاق ، لكان ذلك الإخبار غير مطابق للواقع ، وهو محال في إخبار الله تعالى.
وذهبت جماعة إلى أن الذبيح هو إسحاق ، منهم : العباس بن عبد المطلب ، وابن مسعود ، وعلي ، وعطاء ، وعكرمة ، وكعب ، وعبيد بن عمير ، وابن عباس في رواية ، وكان أمر ذبحه بالشأم.
وقال عطاء ومقاتل : ببيت المقدس؛ وقيل : بالحجاز ، جاء مع أبيه على البراق.
وقال عبيد بن عمير ، وابن عباس في رواية : وكان أمر ذبحه بالشأم ، كان بالمقام.
وقال ابن عباس : والبشارة في قوله : { وبشرناه بإسحاق } ، هي بشارة نبوته.
وقالوا : أخبر تعالى عن خليله إبراهيم حين هاجر إلى الشام بأنه استوهبه ولداً ، ثم أتبع تلك البشارة بغلام حليم ، ثم ذكر رؤياه بذبح ذلك الغلام المبشر به ، ويدل عليه كتاب يعقوب إلى يوسف ، عليهما السلام : من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله إبن إبراهيم خليل الله.
ومن جعل الذبيح إسحاق ، جعل هذه البشارة بشارة بنبوته ، كما ذكرنا عن ابن عباس.
وقالوا : لا يجوز أن يبشره الله بولادته ونبوته معاً ، لأن الامتحان بذبحه لا يصح مع علمه بأنه سيكون نبياً.
ومن جعله إسماعيل ، جعل البشارة بولده إسحاق.
وانتصب نبياً على الحال ، وهي حال مقدرة.
فإن كان إسحاق هو الذبيح ، وكانت هذه البشارة بولادة إسحاق ، فقد جعل الزمخشري ذلك محل سؤال.
فإن قلت : فرق بين هذا وقوله : { فادخلوها خالدين } وذلك أن المدخول موجود مع وجود الدخول ، والخلود غير موجود معهما ، فقدرت مقدرين للخلود ، فكان مستقيماً.
وليس كذلك المبشر به ، فإنه معلوم وقت وجود البشارة ، وعدم المبشر به أوجب عدم حاله ، لأن الحال حلية لا تقوم إلا بالمحلي.
وهذا المبشر به الذي هو إسحاق ، حين وجد لم توجد النبوة أيضاً بوجوده ، بل تراخت عنه مدة طويلة ، فكيف يجعل نبياً حالاً مقدرة؟ والحال صفة للفاعل والمفعول عند وجود الفعل منه أو به.
فالخلود ، وإن لم يكن صفتهم عند دخول الجنة ، فتقديرها صفتهم ، لأن المعنى : مقدرين الخلود.
وليس كذلك النبوة ، فإنه لا سبيل إلى أن تكون موجودة وقت وجود البشارة بإسحاق لعدم إسحاق.
قلت : هذا سؤال دقيق السلك ضيق المسلك ، والذي يحل الإشكال أنه لا بد من تقدير مضاف محذوف وذلك قوله : { وبشرناه } بوجود إسحاق نبياً ، أي بأن يوجد مقدرة نبوته ، فالعامل في الحال الوجود ، لا فعل البشارة؛ وبذلك يرجع نظير قوله تعالى : { فادخولها خالدين } { من الصالحين } حال ثانية ، وورودها على سبيل الثناء والتقريظ ، لأن كل نبي لا بد أن يكون من الصالحين. انتهى.
{ وباركنا عليه وعلى إسحاق } : أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا ، وبأن أخرجنا أنبياء بني إسرائيل من صلبه.
{ ومن ذريتهما محسن وظالم } : فيه وعيد لليهود ومن كان من ذريتهما لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وفيه دليل على أن البر قد يلد الفاجر ، ولا يلحقه من ذلك عيب ولا منقصة.

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)

{ الكرب العيظم } : تعبد القبط لهم ، ثم خوفهم من جيش فرعون ، ثم البحر بعد ذلك ، والضمير في { ونصرناهم } عائد على موسى وهارون وقومهما؛ وقيل : عائد على موسى وهارون فقط ، تعظيماً لهما بكناية الجماعة.
و { هم } : يجوز أن يكون فصلاً وتوكيداً أو بدلاً.
و { الكتاب المستبين } : التوراة ، كما قال تعالى : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } و { الصراط المستقيم } : هو الإسلام وشرع الله.
و { إلياس } ، قال ابن مسعود وقتادة : هو إدريس عليه السلام.
ونقلوا عن ابن مسعود ، وابن وثاب ، والأعمش ، والمنهال بن عمر ، والحكم بن عتيبة الكوفي أنهم قرأوا : وإن إدريس لمن المرسلين ، وهو محمولة عندي على تفسيره ، لأن المستفيض عن ابن مسعود أنه قرأ : { وإن إلياس } ، وأيضاً تفسيره إلياس بأنه إدريس لعله لا يصح عنه ، لأن إدريس في التاريخ المنقول كان قبل نوح.
وفي سورة الأنعام ذكر إلياس ، وأنه ذرية إبراهيم ، أو من ذرية نوح على ما يحتمله قوله تعالى : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا } { ومن ذريته داود } وذكر في جملة هذه الذرية إلياس ، وقيل : إلياس من أولاد هارون.
قال الطبري : هو إلياس بن ياسين ابن فنحاص بن العيزار بن هارون.
وقرأ الجمهور : { وإن إلياس } ، بهمزة قطع مكسورة.
وقرأ عكرمة ، والحسن : بخلاف عنهما؛ والأعرج ، وأبو رجاء ، وابن عامر ، وابن محيصن : بوصل الألف ، فاحتمل أن يكون وصل همزة القطع ، واحتمل أن يكون اسمه ياسا ، ودخلت عليه أل ، كما دخلت على أليسع.
وفي حرف أبيّ ومصحفه : وإن إيليس ، بهمزة مكسورة ، بعدها ياء ساكنة ، بعدها لام مكسورة ، بعدها ياء ساكنة وسين مفتوحة.
وقرىء : وإن أدراس ، لغة في إدريس ، كأبراهام في إبراهيم.
{ أتدون بعلاً } : أي أتعبدون بعلاً ، وهو علم لصنم لهم ، قاله الضحاك والحسن وابن زيد.
قيل : وكان من ذهب ، طوله عشرون ذراعاً ، وله أربعة أوجه ، فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياء ، وكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة ، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس ، وهم أهل بعلبك من بلاد الشام ، وبه سميت مدينتهم بعلبك.
وقال عكرمة ، وقتادة : البعل : الرب بلغة اليمن.
وسمع ابن عباس رجلاً ينشد ضالة ، فقال له رجل : أنا بعلها ، فقال ابن عباس : الله أكبر ، أتدعون بعلاً؟ ويقال : من بعل هذه الدار ، أي ربها؟ والمعنى على هذا : أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله؟ وقالت فرقة : إن بعلاً اسم امرأة أتتهم بضلالة فاتبعوها.
وقرىء : أتدعون بعلاء ، بالمد على وزن حمراء ، ويؤنس هذه القراءة قول من قال : إنه اسم امرأة.
وقرأ الكوفيون ، وزيد بن عليّ : { الله ربَّكم وربَّ آبائكم } ، بالنصب في الثلاثة بدلاً من { أحسن } ، أو عطف بيان إن قلنا إن إضافة التفضيل محضة؛ وباقي السبعة بالرفع ، أي هو الله؛ أو يكون استئنافاً مبتدأ وربكم خبره.

وروي عن حمزة أنه إذا وصل نصب ، وإذا قطع رفع.
{ فكذبوه } : أي كذبه قومه ، إما في قوله : { الله ربكم } هذه النسب ، أو فكذبوه فيما جاء به من عند الله من الأمر بالتوحيد وترك الصنم والايمان بما جاءت به الرسل.
ومحضرون : مجموعون للعذاب.
{ إلا عباد الله المخلصين } : استثناء يدل على أن من قومه مخلصين لم يكذبوه ، فهو استثناء متصل من ضمير { فكذبوه } ، ولا يجوز أن يكون استثناء من { فإنهم لمحضرون } ، لأنهم كانوا يكونون مندرجين فيمن كذب ، ويكونون { عباد الله المخلصين } ، وذلك لا يمكن ولا يناسب أن يكون استثناء منقطعاً ، إذ يصير المعنى : لكن عباد الله المخلصين من غير قومه لا يحضرون للعذاب ، ولا مسيس لهؤلاء الممسوسين بالآية التي فيها قصة إلياس هذه.
وقرأ زيد بن عليّ ، ونافع ، وابن عامر : على آل ياسين.
وزعموا أن آل مفصولة في المصحف ، وياسين اسم لإلياس.
وقيل : اسم لأبي إلياس ، لأنه إلياس بن ياسين ، وآل ياسين هو ابنه إلياس.
وقيل : ياسين هو اسم محمد صلى الله عليه وسلم.
وقرأ باقي السبعة : { على الياسين } ، بهمزة مكسورة ، أي الياسين ، جمع المنسوبين إلى الياس معه ، فسلم عليهم.
وهذا يدل على أن من قومه من كان اتبعه على الدين ، وكل واحد ممن نسب إليه كأنه إلياس ، فلما جمعت ، خففت ياء النسبة بحذف إحداهما كراهة التضعيف ، فالتفى ساكنان : الياء فيه وحرف العلة الذي للجمع ، فحذفت لالتقائهما ، كما قالوا : الأشعرون والأعجمون والخبيبون والمهلبون.
وحكى أبو عمرو أن منادياً نادى يوم الكلاب : ههلك اليزيديون.
وقال الزمخشري : لو كانا جمعاً ، لعرف بالألف واللام.
وقرأ أبو رجاء ، والحسن : على الياسين ، بوصل الألف على أنه جمع يراد به إلياس وقومه المؤمنون ، وحذفت ياء النسب ، كما قالوا : الأشعرون ، والألف واللام دخلت على الجمع ، واسمه على هذا ياس.
وقرأ ابن مسعود ، ومن ذكر معه أنه قرأ إدريس : سلام على إدراسين.
وعن قتادة : وإن إدريس.
وقرأ : على إدريس.
وقرأ ابن عليّ : إيليس ، كقراءته وإن إيليس لمن المرسلين.
{ إلا عجوزاً } : هي امرأة لوط ، وكانت كافرة ، إما مستترة بالكفر ، وإما معلنة به.
وكان نكاح الوثنيات عندهم جائزاً.
{ مصبحين } : أي داخلين في الأصباح.
والخطاب في { وإنكم } لقريش ، وكانت متاجرهم إلى الشأم على مدائن قوم لوط.
{ أفلا تعقلون } ، فتعتبرون بما جرى على من كذب الرسل.

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)

العراء : الأرض الفيحاء لا شجر فيها ولا يعلم ، قال الشاعر :
رفعت رجلاً لا أخاف عثارها . . .
ونبذت بالمين العراء ثيابي
اليقطين : يفعيل كاليفصيد ، من قطن : أقام بالمكان ، وهو بالمكان ، وهو ما كان من الشجر لا يقوم على ساق من عود ، كشجر البطيخ والحنظل والقثاء.
الساحة : الفناء ، وجمعها سوح ، قال الشاعر :
فكان سيان أن لا يسرحوا نعما . . .
أو يسرحوه بها واغبرت السوح
{ وإن يونس لمن المرسلين ، إذ أبق إلى الفلك المشحون ، فساهم فكان من المدحضين ، فالتقمه الحوت وهو مليم ، فلولا أنه كان من المسبحين ، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ، فنبذناه بالعراء وهو سقيم ، وأنبتنا عليه شجرة من يقطين ، وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ، فآمنوا فمتعناهم إلى حين ، فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون ، أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون ، ألا إنهم من إفكهم ليقولون ، ولد الله وإنهم لكاذبون ، أصطفى البنات على البنين ، ما لكم كيف تحكمون ، أفلا تذكّرون ، أم لكم سلطان مبين ، فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين }.
يونس بن متى من بني إسرائيل.
وروي أنه نبىء وهو ابن ثمان وعشرين سنة ، بعثه الله إلى قومه ، فدعاهم للإيمان فخالفوه ، فوعدهم بالعذاب ، فأعلمهم الله بيومه ، فحدده يونس لهم.
ثم إن قومه لما رأوا مخايل العذاب قبل أن يباشرهم تابوا وآمنوا ، فتاب الله عليهم وصرف العذاب عنهم.
وتقدم شرح قصته ، وأعدنا طرف منها ليفيد ما بين الذكرين.
قيل : ولحق يونس غضب ، فأبق إلى ركوب السفينة فراراً من قومه ، وعبر عن الهروب بالإباق ، إذ هو عبد الله ، خرج فاراً من غير إذن من الله.
وروي عن ابن مسعود أنه لما أبعدت السفينة في البحر ، ويونس فيها ، ركدت.
فقال أهلها : إن فيها لمن يحبس الله السفينة بسببه ، فلنقترع.
فأخذوا لكل سهماً ، على أن من طفا سهمه فهو ، ومن غرق سهمه فليس إياه ، فطفا سهم يونس.
فعلوا ذلك ثلاثاً ، تقع القرعة عليه ، فأجمعوا على أن يطرحوه.
فجاء إلى ركن منها ليقع منها ، فإذا بدابة من دواب البحر ترقبه وترصد له.
فانتقل إلى الركن الآخر ، فوجدها حتى استدار بالمركب وهي لا تفارقه ، فعلم أن ذلك من عند الله ، فترامى إليها فالتقمته.
ففي قصة يونس عليه السلام هنا جمل محذوفة مقدرة قبل ذكر فراره إلى الفلك ، كما في قصته في سورة الأنبياء في قوله : { إذ ذهب مغاضباً } هو ما بعد هذا ، وقوله : { فنادى في الظلمات } جمل محذوفة أيضاً.
وبمجموع القصص يتبين ما حذف في كل قصة منها.
{ فساهم فكان من المدحضين } : من المغلوبين ، وحقيقته من المزلقين عن مقام الظفر في الاستهام.
وقرىء : { وهو مليم } ، بفتح الميم ، وقياسه ملوم ، لأنه من لمته ألومه لوماً ، فهو من ذوات الواو ، ولكنه جيء به على أليم ، كما قالوا : مشيب ومدعى في مشوب ، ومدعو بناء على شيب ودعى.

{ من المسبحين } : من الذاكرين الله تعالى بالتسبيح والتقديس.
والظاهر أنه يريد ما ذكر في قوله في سورة الأنبياء : { فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } وقال ابن جبير : هو قوله سبحان الله.
وقالت فرقة : تسبيحه صلاة التطوع؛ فقال ابن عباس ، وقتادة ، وأبو العالية : صلاته في وقت الرخاء تنفعه في وقت الشدة.
وقال الضحاك بن قيس على منبره : اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة ، إن يونس كان عبداً ذاكراً ، فلما أصابته الشدة نفعه ذلك.
قال الله عز وجل : { فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون }.
وقال الحسن : تسبيحه : صلاته في بطن الحوت.
وروي أنه كان يرفع لحم الحوت بيديه يقول : لأبنين لك مسجداً حيث لم ينبه أحد قبلي.
وروي أن الحوت سافر مع السفينة رافعاً رأسه ليتنفس ويونس يسبح ، ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر ، فلفظه سالماً لم يتغير منه شيء ، فأسلموا.
والظاهر أن قوله للبث في بطنه إلى يوم البعث ، وعن قتادة : لكان بطن الحوت له قبراً إلى يوم القيامة.
وذكر في مدة لبثه في بطن الحوت أقوالاً متكاذبة ، ضربناً عن ذكرها صفحاً.
{ وهو سقيم } : روي أنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يولد ، قاله ابن عباس والسدي.
وقال ابن عباس ، وأبو هريرة ، وعمرو بن ميمون : اليقطين : القرع خاصة ، قيل : وهي التي أنبتها الله عليه ، وتجمع خصالاً ، برد الظل ، ونعومة الملمس ، وعظم الورق ، والذباب لا يقربها.
قيل : وماء ورقه إذا رش به مكان لم يقربه ذباب ، وقال أمية بن أبي الصلت :
فأنبت يقطيناً عليه برحمة . . .
من الله لولا الله ألفى ضياعيا
وفيما روي : إنك لتحب القرع ، قال : أجل ، هي شجرة أخي يونس.
وقيل : هي شجرة الموز ، تغطى بورقها ، واستظل بأغصانها ، وأفطر على ثمارها.
ومعنى { أنبتنا عليه شجرة } ، في كلام العرب : ما كان على ساق من عود ، فيحتمل أن يكون الله أنبتها ذات ساق يستظل بها وبورقها ، خرقاً للعادة ، فنبت وصح وحسن وجهه ، لأن ورق القرع أنفع شيء لمن ينسلخ جلده.
{ وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } ، قال الجمهور : رسالته هذه هي الأولى التي أبق بعدها ، ذكرها آخر القصص تنبيهاً على رسالته ، ويدل عليه : { فآمنوا فمتعناهم } ، وتمتيع تلك الأمة هو الذي أغضب يونس عليه السلام حتى أبق.
وقال ابن عباس ، وقتادة : هي رسالة أخرى بعد أن نبذه بالعراء ، وهي إلى أهل نينوى من ناحية الموصل.
وقال الزمخشري : المراد به ما سبق من إرساله إلى قومه ، وهم أهل نينوى.
وقيل : هو إرسال ثان بعد ما جري إليه إلى الأولين ، أو إلى غيرهم.
وقيل : أسلموا فسألوه أن يرجع إليهم فأبى ، لأن النبي إذا هاجر عن قومه لم يرجع إليهم مقيماً فيهم ، فقال لهم : إن الله باعث إليكم نبياً.

وقرأ الجمهور : { أو } ، قال ابن عباس بمعنى بل.
وقيل : بمعنى الواو وبالواو ، وقرأ جعفر بن محمد.
وقيل : للإبهام على المخاطب.
وقال المبرد وكثير من البصريين : المعنى على نظر البشر ، وحزرهم أن من وراءهم قال : هم مائة ألف أو يزيدون ، وهذا القول لم يذكر الزمخشري غيره.
قال : أو يزيدون في مرأى الناظر ، إذا رآها الرائي قال : هي مائة ألف أو أكثر.
والغرض الوصف بالكثرة ، والزيادة ثلاثون ألفاً ، قاله ابن عباس؛ أو سبعون ألفاً ، قاله ابن جبير؛ أو عشرون ألفاً ، رواه أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا صح بطل ما سواه.
{ فآمنوا } : روي أنهم خرجوا بالأطفال والأولاد والبهائم ، وفرقوا بينها وبين الأمهات ، وناحوا وضجوا وأخلصوا ، فرفع الله عنهم.
والتمتع هنا هو بالحياة ، والحين آجالهم السابقة في الأزل ، قاله قتادة والسدي.
والضمير في { فاستفتهم } ، قال الزمخشري : معطوف على مثله في أول السورة ، وإن تباعدت بينهما المسافة.
أمر رسوله باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أولاً ، ثم ساق الكلام موصولاً بعضه ببعض ، ثم أمر باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى. انتهى.
ويبعد ما قاله من العطف.
وإذا كانوا عدوا الفصل بجملة مثل قولك : كل لحماً واضرب زيداً وخبزاً ، من أقبح التركيب ، فكيف بجمل كثيرة وقصص متباينة؟ فالقول بالعطف لا يجوز ، والاستفتاء هنا سؤال على جهة التوبيخ والتقريع على قولهم البهتان على الله ، حيث جعلوا لله الإناث في قولهم : الملائكة بنات الله ، مع كراهتهم لهن ، ووأدهم إياهن ، واستنكافهم من ذكرهن.
وارتكبوا ثلاثة أنواع من الكفر : التجسيم ، لأن الولادة مختصة بالأجسام؛ وتفضيل أنفسهم ، حيث نسبوا أرفع الجنسين لهم وغيره لله تعالى؛ واستهانتهم بمن هو مكرم عند الله ، حيث أنثوهم ، وهم الملائكة.
بدأ أولاً بتوبيخهم على تفضيل أنفسهم بقوله : { ألربك البنات } ، وعدل عن قوله : { ألربكم } ، لما في ترك الإضافة إليهم من تحسينهم وشرف نبيه بالإضافة إليه.
وثنى بأن نسبة الأنوثة إلى الملائكة يقتضي المشاهدة ، فأنكر عليهم بقوله : { أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون } : أي خلقناهم وهم لا يشهدون شيئاً من حالهم ، كما قال في الأخرى : { أشهدوا خلقهم } وكما قال { ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم } ثم أخبر عنهم ثالثاً بأعظم الكفر ، وهو ادعاؤهم أنه تعالى قد ولد ، فبلغ إفكهم إلى نسبة الولد.
ولما كان هذا فاحشاً قال : { وإنهم لكاذبون }.
واحتمل أن تخص هذه الجملة بقولهم ولد الله ، ويكون تأكيد لقوله : { من إفكهم } ، واحتمل أن يعم هذا القول.
فإن قلت : لم قال : { وهم شاهدون } ، فخص علمهم بالمشاهدة؟ قلت : ما هو إلا استهزاء وتجهيل كقوله : { أشهدوا خلقهم } وذلك أنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة ، لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم ولا بإخبار صادق ، لا بطريق استدلال ولا نظر.

ويجوز أن يكون المعنى أنهم يقولون ذلك ، كالقائل قولاً عن ثلج صدر وطمأنينة نفس لإفراط جهلهم ، كأنهم قد شاهدوا خلقه.
وقرأ : { ولد الله } : أي الملائكة ولده ، والولد فعل بمعنى مفعول يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.
تقول : هذه ولدي ، وهؤلاء ولدي. انتهى.
وقرأ الجمهور : { أصطفى } ، بهمزة الاستفهام ، على طريقة الإنكار والاستبعاد.
وقرأ نافع في رواية إسماعيل وابن جماز وجماعة ، وإسماعيل عن أبي جعفر وشيبة : بوصل الألف ، وهو من كلام الكفار.
حكى الله تعالى شنيع قولهم ، وهو أنهم ما كفاهم أن قالوا ولد الله ، حتى جعلوا ذلك الولد بنات الله ، والله تعالى اختارهم على البنين.
وقال الزمخشري : بدلاً عن قولهم ولد الله ، وقد قرأ بها حمزة والأعمش ، وهذه القراءة ، وإن كان هذا محملها ، فهي ضعيفة؛ والذي أضعفها أن الإنكار قد اكتنف هذه الجملة من جانبيها ، وذلك قوله : { وإنهم لكاذبون } ، { ما لكم كيف تحكمون }.
فمن جعلها للإثبات فقد أوقعها دخيلة بين سببين ، وليست دخيلة بين نسيبين ، بل لها مناسبة ظاهرة مع قولهم ولد الله.
وأما قوله : { وإنهم لكاذبون } ، فهي جملة اعتراض بين مقالتي الكفر ، جاءت للتشديد والتأكيد في كون مقالتهم تلك هي من إفكهم.
{ ما لكم كيف تحكمون } : تقريع وتوبيخ واستفهام عن البرهان والحجة.
وقرأ طلحة بن مصرف : تذكرون ، بسكون الذال وضم الكاف.
{ أم لكم سلطان } : أي حجة نزلت عليكم من السماء ، وخبر بأن الملائكة بنات الله.
{ فأتوا بكتابكم } ، الذي أنزل عليكم بذلك ، كقوله : { أم أنزلنا عليهم سلطاناً } فهو يتكلم بما كانوا به يشركون.

وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)

الظاهر أن الجنة هم الشياطين ، وعن الكفار في ذلك مقالات شنيعة.
منها أنه تعالى صاهر سروات الجن ، فولد منهم الملائكة ، وهم فرقة من بني مدلج ، وشافه بذلك بعض الكفار أبا بكر الصديق.
{ ولقد علمت الجنة } : أي الشياطين ، أنها محضرة أمر الله من ثواب وعقاب ، قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري : إذا فسرت الجنة بالشياطين ، فيجوز أن يكون الضمير في { إنهم لمحضرون } لهم.
والمعنى أن الشياطين عالمون أن الله يحضرهم النار ويعذبهم ، ولو كانوا مناسبين له ، أو شركاء في وجوب الطاعة ، لما عذبهم.
وقيل : الضمير في { وجعلوا } لفرقة من كفار قريش والعرب ، والجنة : الملائكة ، سموا بذلك لاجتنابهم وخفائهم.
وقال الزمخشري : وإنما ذكرهم بهذا الاسم وضعاً منهم وتصغيراً لهم ، وإن كانوا معظمين في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم ، وفيه إشارة إلى أن من صفته الاجتنان والاستتار ، وهو من صفات الأجرام ، لا يصح أن يناسب من لا يجوز عليه ذلك. انتهى.
{ ولقد علمت الجنة } : أي الملائكة ، { إنهم } : أي الكفرة المدعين نسبة بين الملائكة وبين الله تعالى ، محضرون النار ، يعذبون بما يقولون.
وأضيف ذلك إلى علم من نسبوا لذلك ، مبالغة في تكذيب الناسبين.
ثم نزه تعالى نفسه عن الوصف الذي لا يليق به ، { إلا عباد الله } ، فإنهم يصفونه بصفاته.
وأما من المحضرون ، أي إلا عباد الله ، فإنهم ناجون مدة العذاب ، وتكون جملة التنزيه اعتراضاً على كلا القولين ، فالاستثناء منقطع.
والظاهر أن الواو في { وما تعبدون } للعطف ، عطفت ما تعبدون على الضمير في إنكم ، وأن الضمير في عليه عائد على ما ، والمعنى : قل لهم يا محمد : وما تعبدون من الأصنام ما أنتم وهم ، وغلب الخطاب.
كما تقول : أنت وزيد تخرجان عليه ، أي على عبادة معبودكم.
{ بفاتنين } : أي بحاملين بالفتنة عبادة ، إلا من قدر الله في سابق علمه أنه من أهل النار.
والضمير في { عليه } عائد على ما على حذف مضاف ، كما قلنا ، أي على عبادته.
وضمن فاتنين معنى : حاملين بالفتنة ، ومن مفعولة بفاتنين ، فرغ له العامل إذ لم يكن بفاتنين مفعولاً.
وقيل : عليه بمعنى : أي ما أنتم بالذي تعبدون بفاتنين ، وبه متعلق بفاتنين ، المعنى : ما أنتم فاتنين بذلك الذي عبدتموه إلا من سبق عليه القدر أنه يدخل النار.
وجعل الزمخشري الضمير في عليه عائداً على الله ، قال فإن قلت : كيف يفتنونهم على الله؟ قلت : يفسدونهم عليه بإغوائهم واستهوائهم من قولك : فتن فلان على فلان امرأته ، كما تقول : أفسدها عليه وخيبها عليه.
ويجوز أن تكون الواو في { وما تعبدون } بمعنى مع مثلها في قولهم : كل رجل وضيعته.
فكما جاز السكوت على كل رجل وضيعته ، جاز أن يسكت على قوله : { فإنكم وما تعبدون } ، لأن قوله : { وما تعبدون } ساد مسد الخبر ، لأن معناه فإنكم مع ما تعبدون ، والمعنى : فإنكم مع آلهتكم ، أي فإنكم قرناؤهم وأصحابهم لا تبرحون تعبدونهم.

ثم قال { ما أنتم عليه } : أي على ما تعبدون ، { بفاتنين } : بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال ، إلا من هو ضال منكم. انتهى.
وكون الواو في { وما تعبدون } واو مع غير متبادر إلى الذهن ، وقطع { ما أنتم عليه بفاتنين } عن إنكم وما تعبدون ليس بجيد ، لأن اتصافه به هو السابق إلى الفهم مع صحة المعنى ، فلا ينبغي العدول عنه.
وقرأ الحسن ، وابن أبي عبلة : صالوا الجحيم بالواو ، وهكذا في كتاب الكامل للهذلي.
وفي كتاب ابن خالويه عنهما : صال مكتوباً بغير واو ، وفي كتاب ابن عطية.
وقرأ الحسن : صالوا مكتوباً بالواو؛ وفي كتاب اللوامح وكتاب الزمخشري عن الحسن : صال مكتوباً بغير واو.
فمن أثبت الواو فهو جمع سلامة سقطت النون للإضافة.
حمل أولاً على لفظ من فأفرد ، ثم ثانياً على معناها فجمع ، كقوله : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } حمل في يقول على لفظ من ، وفي وما هم على المعنى ، واجتمع الحمل على اللفظ ، والمعنى في جملة واحدة ، وهي صلة للموصول ، كقوله : { إلا من كان هوداً أو نصارى } وقول الشاعر :
وأيقظ من كان منكم نياماً . . .
_@_ومن لم يثبت الواو احتمل أن يكون جمعاً ، وحذفت الواو خطأ ، كما حذفت في حالة الوصل لفظاً لأجل التقاء الساكنين.
واحتمل أن يكون صال مفرداً حذفت لامه تخفيفاً ، وجرى الإعراب في عينه ، كما حذف من قوله : { وجنى الجنتين دان } { وله الجوار المنشآت } برفع النون والجوار ، وقالوا : ما باليت به بالة ، أي بالية من بالى ، كعافية من عافى ، فحذفت لام باليت وبالية.
وقالوا بالة وبال ، بحذف اللام فيهما.
وقال الزمخشري : وقد وجه نحواً من الوجهين السابقين وجعلهما أولاً وثالثاً فقال : والثاني أن يكون أصله صائل على القلب ، ثم يقال : صال في صائل ، كقولهم : شاك في شائك. انتهى.
{ وما منا } : أي أحد ، { إلا له مقام معلوم } : أي مقام في العبادة والانتهاء إلى أمر الله ، مقصور عليه لا يتجاوزه.
كما روي : فمنهم راكع لا يقيم ظهره ، وساجد لا يرفع رأسه ، وهذا قول الملائكة ، وهو يقوي قول من جعل الجنة هم الملائكة تبرؤا عن ما نسب إليهم الكفرة من كونهم بنات الله ، وأخبروا عن حال عبوديتهم ، وعلى أي حالة هم فيها.
وفي الحديث : « أن السماء ما فيها موضع إلا وفيه ملك ساجد أو واقف يصلي » ، وعن ابن مسعود : « موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه » ، وحذف المبتدإ مع من جيد فصيح ، كما مر في قوله : { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنون } أي وأن من أهل الكتاب أحد.

وقال العرب : منا ظعن ومنا أقام ، يريد : منا فريق ظعن ومنا فريق أقام.
وقال الزمخشري : وما منا أحد إلا له مقام معلوم ، حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه ، كقوله :
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا . . .
بكفي كان من أرمي البشر
انتهى.
وليس هذا من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، لأن أحداً المحذوف مبتدأ.
وإلا له مقام معلوم خبره ، ولأنه لا ينعقد كلام من قوله : وما منا أحد ، فقوله : { إلا له مقام معلوم } هو محط الفائدة.
وإن تخيل أن { إلا له مقام معلوم } في موضع الصفة ، فقد نصوا على أن إلا لا تكون صفة إذا حذف موصوفها ، وأنها فارقت غير إذا؛ كانت صفة في ذلك ، ليتمكن غيره في الوصف وقلة تمكن إلا فيه ، وجعل ذلك كقوله : أنا ابن جلا ، أي ابن رجل جلا؛ وبكفي كان ، أي رجل كان ، وهذا عند النحويين من أقبح الضرورات.
{ وإنا لنحن الصافون } : أي أقدامنا في الصلاة ، أو أجنحتنا في الهواء ، أو حول العرش داعين للمؤمنين.
وقال الزهراوي : قيل إن المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة منذ نزلت هذه الآية ، ولا يصطف أحد من الملل غير المسلمين.
{ وإنا لنحن المسبحون } : أي المنزهون الله عن ما نسب إليه الكفرة ، أو المنزهون بلفظ التسبيح ، أو المصلون.
وينبغي أن يجعل قوله : { سبحان الله عما يصفون } من كلام الملائكة ، فتطرد الجمل وتنساق لقائل واحد ، فكأنه قيل : ولقد علمت الملائكة أن ناسبي ذلك لمحضرون للعذاب؛ وقالوا : سبحان الله ، فنزهوا عن ذلك واستثنوا من أخلص من عباد الله؛ وقالوا للكفرة : فإنكم وآلهتكم إلى آخره.
وكيف نكون مناسبيه ، ونحن عبيد بين يديه ، لكل منا مقام من الطاعة؟ إلى ما وصفوا به أنفسهم من رتبة العبودية.
وقيل : { وما منا إلا له مقام معلوم } ، هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي وما من المرسلين أحد إلا له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله ، من قوله تعالى : { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً.
ثم ذكر أعمالهم ، وأنهم المصطفون في الصلاة المنزهون الله عن ما يقول أهل الضلال.
والضمير في { ليقولون } لكفار قريش ، { لو أن عندنا ذكراً } : أي كتاباً من كتب الأولين الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل ، لأخلصنا العبادة لله ، ولم نكذب كما كذبوا.
{ فكفروا به } : أي فجاءهم الذكر الذي كانوا يتمنونه ، وهو أشرف الأذكار ، لأعجازه من بين الكتب.
{ فسوف يعلمون } عاقبة كفرهم ، وما يحل بهم من الانتقام.
وأكدوا قولهم بأن المخففة وباللام كونهم كانوا جادين في ذلك ، ثم ظهر منهم التكذيب والنفور البليغ ، كقوله : { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } { ولقد سبقت كلمتنا } : قرأ الجمهور بالإفراد لما انتظمت في معنى واحد عبر عنها بالإفراد.
وقرأ الضحاك : بالجمع ، والمراد الموعد بعلوهم على عدوهم في مقامات الحجاج وملاحم القتال في الدنيا ، وعلوهم عليهم في الآخرة.

وقال الحسن : ما غلب نبي في الحرب ، ولا قتل فيها.
{ فتول عنهم حتى حين } : أي إلى مدّة يسيرة ، وهي مدّة الكف عن القتال.
وعن السدّي : إلى يوم بدر ، ورجحه الطبري.
وقال قتادة : إلى موتهم.
وقال ابن زيد : إلى يوم القيامة.
{ وأبصرهم } : أي انظر إلى عاقبة أمرهم ، فسوف يبصرونها وما يحل بهم من العذاب والأسر والقتل ، أو سوف يبصرونك وما يتم لك من الظفر بهم والنصر عليهم.
وأمره بإبصارهم إشارة إلى الحالة المنتظرة الكائنة لا محالة ، وأنها قريبة كأنها بين ناظريه بحيث هو يبصرها ، وفي ذلك تسلية وتنفيس عنه عليه السلام.
{ أفبعذابنا يستعجلون } : استفهام توبيخ.
{ فإذا نزل } هو ، أي العذاب ، مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذره ، فأنكروه بحيث أنذر بهجومه قومه وبعض صناعهم ، فلم يلتفتوا إلى إنذراه ، ولا أخذوا أهبته ، ولا دبروا أمرهم تدبير ينجيهم حتى أناخ بفنائهم ، فشن عليهم الغارة ، وقطع دابرهم.
وكانت عادة مغازيهم أن يغيروا صباحاً ، فسميت الغارة صباحاً ، وإن وقعت في وقت آخر.
وما فصحت هذه الآية ، ولا كانت له الروعة التي يحسن بها ، ويرونك موردها على نفسك وطبعك إلا لمجيئها على طريقة التمثيل ، قاله الزمخشري.
وقرأ الجمهور : مبنياً للفاعل؛ وابن مسعود : مبنياً للمفعول؛ وساحتهم : هو القائم مقام الفاعل.
ونزل ساحة فلان ، يستعمل فيما ورد على الإنسان من خير أو شر؛ وسوء الصباح : يستعمل في حلول الغارات والرزايات؛ ومثل قول الصارخ : يا صباحاه؛ وحكم ساء هنا حكم بئس.
وقرأ عبد الله : فبئس ، والمخصوص بالذم محذوف تقديره : فساء صباح المنذرين صباحهم.
{ وتول عنهم حتى حين } : كرر الأمر بالتولي ، تأنيساً له عليه الصلاة والسلام ، وتسلية وتأكيد لوقوع الميعاد؛ ولم يقيد أمره بالإبصار ، كما قيده في الأول ، إما لاكتفائه به في الأول فحذفه اختصاراً ، وإما لما في ترك التقييد من جولان الذهن فيما يتعلق به الإبصار منه من صنوف المساءات ، والإبصار منهم من صنوف المساءات.
وقيل : أريد بالأول عذاب الدنيا ، وبالآخرة عذاب الآخرة.
وختم تعالى هذه السورة بتنزيهه عن ما يصفه المشركون ، وأضاف الرب إلى نبيه تشريفاً له بإضافته وخطابه ، ثم إلى العزة ، وهي العزة المخلوقة الكائنة للأنبياء والمؤمنين ، وكذلك قال الفقهاء من جهة أنها مربوبة.
وقال محمد بن سحنون وغيره : من حلف بعزة الله تعالى إلى يريد عزته التي خلقت بين عباده ، وهي التي في قوله : { رب العزة } ، فليست بيمين.
وقال الزمخشري : أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها ، كأنه قيل : ذو العزة ، كما تقول : صاحب صدق لاختصاصه بالصدق. انتهى.
فعلى هذا تنعقد اليمين بعزة الله لأنها صفة من صفاته.
قال : ويجوز أن يراد أنه ما من عزة لأحد من الملوك وغيرهم إلا وهو ربها ومالكها ، لقوله : { وتعزّ من تشاء } وعن علي ، كرم الله وجهه : «من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه : { سبحان ربك رب العزة } ، إلى آخر السورة.

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)

لات : هي لا ، ألحقت بها التاء كما ألحقت في ثم ورب ، فقالوا : ثمت وربت ، وهي تعمل عمل ليس في مذهب سيبويه ، وعمل إن في مذهب الأخفش.
فإن ارتفع ما بعدها ، فعلى الابتداء عنده؛ ولها أحكام ذكرت في علم النحو ، ويأتي شيء منها هنا عند ذكر القراءات التي فيها.
والمناص : المنجا والغوث ، يقال ناصه ينوصه : إذا فاته.
قال الفراء : النوص : التأخير ، يقال ناص عن قرنه ينوص نوصاً ومناصاً : أي فر وزاغ ، وأنشد لامرىء القيس :
أم ذكر سلمى ان نأتك كنوص . . .
واستناص طلب المناص
قال حارثة بن بدر : . . .
غمر الجراء إذا قصرت عنانه
بيدي استناص ورام جري المسحل . . .
وقال الجوهري : استناص : تأخر.
وقال النحاس : ناص ينوص : تقدم.
الوتد : معروف ، وكسر التاء أشهر من فتحها.
ويقال : وتد واتد ، كما يقال : شغل شاغل.
قال الأصمعي وأنشد :
لاقت على الماء جذيلاً واتداً . . .
ولم يكن يخلفها المواعدا
وقالوا : ودّ فأدغموه ، قال الشاعر :
تخرج الودّ إذا ما أشحذت . . .
وتواريه إذا ما تشتكر
وقالوا فيه : دت ، فأدغموا بإدال الدال تاء ، وفيه قلب الثاني للأول ، وهو قليل.
{ ص والقرآن ذي الذكر ، بل الذين كفروا في عزّة وشقاق ، كم أهلكنا من قبلكم من قرن فنادوا ولات حين مناص ، وعجبوا ان جاءهم منذر منهم وقال الكفارون هذا ساحر كذاب ، أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ، وانطلق الملأ منهم أن أمشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ، ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق ، أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب ، أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب ، أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما فليرتقبوا في الأسباب ، جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب ، كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد ، وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب ، إن كل إلا كذَّب الرسل فحق عقاب }.
هذه السورة مكية ، ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه لما ذكر عن الكفار أنهم كانوا يقولون : { لو أن عندنا ذكراً من الأولين } لأخلصوا العبادة لله.
وأخبر أنهم أتاهم الذكر فكفروا به.
بدأ في هذه السورة بالقسم بالقرآن ، لأنه الذكر الذي جاءهم ، وأخبر عنهم أنهم كافرون ، وأنهم في تعزز ومشاقة للرسول الذي جاء به؛ ثم ذكر من أهلك من القرون التي شاقت الرسل ليتعظوا.
« وروي أنه لما مرض أبو طالب ، جاءت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل ، فقام أبو جهل كي يمنعه ، وشكوه إلى أبي طالب ، فقال : يا ابن أخي ، ما تريد من قومك؟ فقال : يا عم ، إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب ، وتؤدّي إليهم الجزية بها العجم.
قال : وما الكلمة؟ قال : كلمة واحدة ، قال : وما هي؟ قال : لا إله إلا الله ، قال فقاموا وقالوا : أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ »

قال : فنزل فيهم القرآن : { ص والقرآن ذي الذكر } ، حتى بلغ ، { إن هذا إلا اختلاق }.
قرأ الجمهور : ص ، بسكون الدال.
وقرأ أبي ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، وأبو السمال ، وابن أبي عبلة ، ونصر بن عاصم : ص ، بكسر الدال ، والظاهر أنه كسر لالتقاء الساكنين.
وهو حرف من حروف المعجم نحو : ق ونون.
وقال الحسن : هو أمر من صادى ، أي عارض ، ومنه الصدى ، وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الصلبة الخالية من الأجسام ، أي عارض بعملك القرآن.
وعنه أيضاً : صاديت : حادثت ، أي حادث ، وهو قريب من القول الأول.
وقرأ عيسى ، ومحبوب عن أبي عمرو ، وفرقة : صاد ، بفتح الدال ، وكذا قرأ : قاف ونون ، بفتح الفاء والنون ، فقيل : الفتح لالتقاء الساكنين طلباً للتخفيف؛ وقيل : انتصب على أنه مقسم به ، حذف منه حرف القسم نحو قوله : ألله لأفعلن ، وهو اسم للسورة ، وامتنع من الصرف للعلمية والتأنيث ، وقد صرفها من قرأ صاد بالجر والتنوين على تأويل الكتاب والتنزيل ، وهو ابن أبي إسحاق في رواية.
وقرأ الحسن أيضاً : صاد ، بضم الدال ، فإن كان اسماً للسورة ، فخبر مبتدأ محذوف ، أي هذه ص ، وهي قراءة ابن السميفع وهارون الأعور؛ وقرأ قاف ونون ، بضم الفاء والنون.
وقيل : هو حرف دال على معنى من فعل أو من اسم ، فقال الضحاك : معناه صدق الله.
وقال محمد بن كعب : مفتاح أسماء الله محمد صادق الوعد صانع المصنوعات.
وقيل : معناه صدق محمد.
قال ابن عباس ، وابن جبير ، والسدّي : ذي الذكر : ذي الشرف الباقي المخلد.
وقال قتادة : ذي التذكرة ، للناس والهداية لهم.
وقيل : ذي الذكر ، للأمم والقصص والغيوب والشرائع وجواب القسم ، قيل : مذكور ، فقال الكوفيون والزجاج : هو قوله : { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } وقال الفراء : لا نجده مستقيماً في العربية لتأخره جداً عن قوله : { والقرآن }.
وقال الأخفش : هو { إن كل إلا كذّب الرسل } ، وقال قوم : { كم أهلكنا } ، وحذف اللام أي لكم ، لما طال الكلام؛ كما حذفت في { والشمس } ثم قال : { قد أفلح } حكاه الفراء وثعلب ، وهذه الأقوال يجب اطراحها.
وقيل : هو صاد ، إذ معناه : صدق محمد وصدق الله.
وكون صاد جواب القسم ، قاله الفراء وثعلب ، وهذا مبني على تقدم جواب القسم ، واعتقاد أن الصاد يدل على ما ذكروه.
وقيل : الجواب محذوف ، فقدره الحوفي : لقد جاءكم الحق ونحوه ، والزمخشري : إنه لمعجز ، وابن عطية : ما الأمر كما تزعمون ، ونحو هذا من التقدير.
ونقل أن قتادة والطبري قالا : هو محذوف قبل { بل } ، قال : وهو الصحيح ، وقدره ما ذكرنا عنه ، وينبغي أن يقدر ما أثبت هنا جواباً للقرآن حين أقسم به ، وذلك في قوله تعالى :

{ يس و القرآن الحكيم إنك لمن المرسلين } ويقوي هذا التقدير ذكر النذارة هنا في قوله : { وعجبوا أن جاءهم منذر منهم } ، وقال هناك : { لتنذر قوماً } فالرسالة تتضمن النذارة والبشارة ، وبل للانتقال من هذا القسم والمقسم عليه إلى حالة تعزز الكفار ومشاقهم في قبول رسالتك وامتثال ما جئت به ، واعتراف بالحق.
وقرأ حماد بن الزبرقان ، وسورة عن الكسائي ، وميمون عن أبي جعفر ، والجحدري من طريق العقيلي : في غرة ، بالغين المعجمة والراء ، أي في غفلة ومشاقة.
{ قبلهم } : أي قبل هؤلاء ذوي المنعة الشديدة والشقاق ، وهذا وعيد لهم.
{ فنادوا } : أي استغاثوا ونادوا بالتوبة ، قاله الحسن؛ أو رفعوا أصواتهم ، يقال : فلان أندى صوتاً : أي أرفع ، وذلك بعد معاينة العذاب ، فلم يك وقت نفع.
وقرأ الجمهور : { ولات حين } ، بفتح التاء ونصب النون ، فعلى قول سيبويه ، عملت عمل ليس ، واسمها محذوف تقديره : ولات الحين حين فوات ولا فرار.
وعلى قول الأخفش : يكون حين اسم لات ، عملت عمل إن نصبت الاسم ورفعت الخبر ، والخبر مخذوف تقديره : ولات أرى حين مناص.
وقرأ أبو السمال : ولات حين ، بضم التاء ورفع النون؛ فعلى قول سيبويه : حين مناص اسم لات ، والخبر محذوف؛ وعلى قول الأخفش : مبتدأ ، والخبر محذوف.
وقرأ عيسى بن عمر : ولات حين ، بكسر التاء وجر النون ، خبر بعد لات ، وتخريجه مشكل ، وقد تمحل الزمخشري في تخريج الخبر في قوله :
طلبوا صلحنا ولات حين أوان . . .
فأجبنا أن لات حين بقاء
قال : شبه أوان بإذ في قوله : وأنت إذ صحيح في أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض ، لأن الأصل : ولات أوان صلح.
فإن قلت : فما تقول في حين مناص ، والمضاف إليه قائم؟ قلت : نزل قطع المضاف والمضاف إليه ، وجعل تنوينه عوضاً من الضمير المحذوف ، ثم بنى الحين لكونه مضافاً إلى غير متمكن. انتهى.
هذا التمحل ، والذي ظهر لي في تخريج هذه القراءة الشاذة ، والبيت النادر في جر ما بعد لات : أن الجر هو على إضمار من ، كأنه قال : لات من حين مناص ، ولات من أوان صلح ، كما جروا بها في قولهم : على كم جذع بيتك؟ أي من جذع في أصح القولين ، وكما قالوا : لا رجل جزاه الله خيراً ، يريدون : لا من رجل ، ويكون موضع من حين مناص رفعاً على أنه اسم لات بمعنى ليس ، كما تقول : ليس من رجل قائماً ، والخبر محذوف ، وهذا على قول سيبويه ، أو على أنه مبتدأ أو الخبر محذوف ، على قول الأخفش.
وقال بعضهم : ومن العرب من يخفض بلات ، وأنشد الفراء :
ولتندمن ولات ساعة مندم . . .
_@_وخرج الأخفش ولات أوان على إضمار حين ، أي ولات حين أوان ، حذف حين وأبقى أوان على جره.
وقال أبو إسحاق : ولات أواننا ، فحذف المضاف إليه ، فوجب أن لا يعرب ، وكسره لالتقاء الساكنين؛ وهذا هو الوجه الذي قرره الزمخشري ، أخذه من أبي إسحاق الزجاج ، وأنشده المبرد : ولات أوان بالرفع.

وعن عيسى : ولات حين ، بالرفع ، مناص : بالفتح.
وقال صاحب اللوامح : فإن صح ذلك ، فلعله بنى حين على الضم ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير ، وأجراه مجرى قبل وبعد في الغاية ، وبنى مناص على الفتح مع لات ، على تقدير : لات مناص حين ، لكن لا إنما تعمل في النكرات في اتصالها بهن دون أن يفصل بينهما ظرف أو غيره ، وقد يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه. انتهى.
وقرأ عيسى أيضاً : ولات بكسر التاء ، وحين بنصب النون ، وتقدم تخريج نصب حين.
ولات روي فيها فتح التاء وضمها وكسرها والوقف عليها بالتاء ، قول سيبويه والفراء وابن كيسان والزجاج ، ووقف الكسائي والمبرد بالهاء ، وقوم على لا ، وزعموا أن التاء زيدت في حين؛ واختاره أبو عبيدة وذكر أن رآه في الإمام مخلوطاً تاؤه بحين ، وكيف يصنع بقوله : ولات ساعة مندم ، ولات أوان.
وقال الكلبي : كانوا إذا قاتلوا فاضطروا ، قال بعضهم لبعض : مناص ، أي عليكم بالفرار ، فلما أتاهم العذاب قالوا : مناص ، فقال الله : { ولات حين مناص }.
قال القشيري : فعلى هذا يكون التقدير : فنادوا مناص ، فحذف لدلالة ما بعده عليه ، أي ليس الوقت وقت ندائكم به ، وفيه نوع تحكم ، إذ كل من هلك من القرون يقول مناص عند الاضطرار. انتهى.
وقال الجرجاني : أي فنادوا حين لا مناص ، أي ساعة لا منجا ولا فوت.
فلما قدم لا وأخر حين اقتضى ذلك الواو ، كما تقتضي الحال إذا جعل مبتدأ وخبراً مثل : جاء زيد راكباً ، ثم تقول : جاء زيد وهو راكب ، فحين ظرف لقوله : { فنادوا }. انتهى.
وكون أصل هذه الجملة : فنادوا حين لا مناص ، وأن حين ظرف لقوله : { فنادوا } دعوى أعجمية مخالفة لنظم القرآن ، والمعنى على نظمه في غاية الوضوح ، والجملة في موضع الحال ، فنادوا وهم لات حين مناص ، أي لهم.
ولما أخبر تعالى عن الكفار أنهم في عزة وشقاق ، أردف بما صدر عنهم من كلماتهم الفاسدة ، من نسبتهم إليه السحر والكذب.
ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله : { وقال الكافرون } ، أي : وقالوا تنبيهاً على الصفة التي أوجبت لهم العجب ، حتى نسبوا من جاء بالهدى والتوحيد إلى السحر والكذب.
{ أجعل الآلهة إلهاً واحداً } ، قالوا : كيف يكون إله واحد يرزق الجميع وينظر في كل أمورهم؟ وجعل : بمعنى صير في القول والدعوى والزعم ، وذكر عجبهم مما لا يعجب منه.
والضمير في { وعجبوا } لهم ، أي استغربوا مجيء رسول من أنفسهم.
وقرأ الجمهور : { عجاب } ، وهو بناء مبالغة ، كرجل طوال وسراع في طويل وسريع.
وقرأ علي ، والسلمي ، وعيسى ، وابن مقسم : بشم الجيم ، وقالوا : رجل كرّام وطعام طياب ، وهو أبلغ من فعال المخفف.
وقال مقاتل : عجاب لغة أزد شنوءة.
والذين قالوا : { أجعل الآلهة إلهاً واحداً } ، قال ابن عباس : صناديد قريش ، وهم ستة وعشرون.

{ وانطلق الملأ منهم } : الظاهر انطلاقهم عن مجلس أبي طالب ، حين اجتمعوا هم والرسول عنده وشكوه على ما تقدّم في سبب النزول؛ ويكون ثم محذوف تقديره : يتحاورون.
{ أن امشوا } ، وتكون أن مفسرة لذلك المحذوف ، وامشوا أمر بالمشي ، وهو نقل الأقدام عن ذلك المجلس.
وقال الزمخشري : وأن بمعنى أي ، لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم ، فكان انطلاقهم مضمناً معنى القول والأمر بالمشي ، أي بعضهم أمر بعضاً.
وقيل : أمر الأشراف أتباعهم وأعوانهم.
ويجوز أن تكون أن مصدرية ، أي وانطلقوا بقولهم امشوا ، وقيل : الانطلاق هنا الاندفاع في القول والكلام ، وأن مفسرة على هذا ، والأمر بالمشي لا يراد به نقل الخطا ، إنما معناه : سيروا على طريقتكم ودوموا على سيرتكم.
وقيل : { امشوا } دعاء بكسب الماشية ، قيل : وهو ضعيف ، لأنه كان يلزم أن تكون الألف مقطوعة ، لأنه إنما يقال : أمشي الرجل إذا صار صاحب ماشية؛ وأيضاً فهذا المعنى غير متمكن في الآية.
وقال الزمخشري : ويجوز أنهم قالوا : امشوا ، أي أكثروا واجتمعوا ، من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها؛ ومنه الماشية للتفاؤل. انتهى.
وأمروا بالصبر على الآلهة ، أي على عبادتها والتمسك بها.
والإشارة بقوله : { إن هذا } أي ظهور محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلوه بالنبوة ، { لشيء يراد } : أي يراد منا الانقياد إليه ، أو يريده الله ويحكم بإمضائه ، فليس فيه إلا الصبر ، أو أن هذا الأمر شيء من نوائب الدهر مراد منا ، فلا انفكاك عنه ، وأن دينكم لشيء يراد ، أي يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه ، احتمالات أربعة.
وقال القفال : هذه كلمة تذكر للتهديد والتخويف ، المعنى : أنه ليس غرضه من هذا القول تقرير للدين ، وإنما غرضه أن يستولي علينا ، فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد.
{ ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة } ، قال ابن عباس ، ومجاهد ، ومحمد بن كعب ، ومقاتل : ملة النصارى ، لأن فيها التثليث ، ولا توحد.
وقال مجاهد ، وقتادة : ملة العرب : قريش ونجدتها.
وقال الفراء ، والزجاج : ملة اليهود والنصرانية ، أشركت اليهود بعزير ، وثلث النصارى.
وقيل : في الملة الآخرة التي كنا نسمع أنها تكون في آخر الزمان ، وذلك أنه قبل المبعث ، كان الناس يستشعرون خروج نبي وحدوث ملة ودين.
ويدل على صحة هذا ما روي من أقوال الأحبار أولي الصوامع ، وما روي عن الكهان شق وسطيح وغيرهما ، وما كانت بنو إسرائيل تعتقد من أنه يكون منهم.
وقيل : في الملة الآخرة ، أي لم نسمع من أهل الكتاب ولا الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة توحيد الله.
{ إن هذا إلا اختلاق } : أي افتعال وكذب.
{ أأنزل عليه الذكر من بيننا } : أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم وينزل عليه الكتاب من بينهم ، وهذا الإنكار هو ناشىء عن حسد عظيم انطوت عليه صدورهم فنطقت به ألسنتهم.

{ بل هم في شك من ذكري } : أي من القرآن الذي أنزلت على رسولي يرتابون فيه ، والإخبار بأنهم في شك يقتضي كذبهم في قولهم : { إن هذا إلا اختلاق }.
{ بل لما يذوقوا عذاب } : أي بعد ، فإذا ذاقوه عرفوا أن ما جاء به حق وزال عنهم الشك.
{ أم عندهم خزائن رحمة ربك } : أي ليسوا متصرفين في خزائن الرحمة ، فيعطون ما شاؤوا ، ويمنعون من شاؤوا ما شاؤوا ، ويصطفون للرسالة من أرادوا ، وإنما يملكها ويتصرف فيها { العزيز } : الذي لا يغالب ، { الوهاب } : ما شاء لمن شاء.
لما استفهم استفهام إنكار في قوله : { أم عندهم خزائن رحمة ربك } ، وكان ذلك دليلاً على انتفاء تصرفهم في خزائن رحمة ربك ، أتى بالإنكار والتوبيخ بانتفاء ما هو أعم فقال : { أم لهم ملك السموات والأرض } : أي ليس لهم شيء من ذلك.
{ فليرتقوا } : أي ألهم شيء من ذلك ، فليصعدوا ، { في الأسباب } ، الموصولة إلى السماء ، والمعارج التي يتوصل بها إلى تدبير العالم ، فيضعون الرسالة فيمن اختاروا.
ثم صغرهم وحقرهم ، فأخبر بما يؤول إليه أمرهم من الهزيمة والخيبة.
قيل : وما زائدة ، ويجوز أن تكون صفة أريد به التعظيم على سبيل الهزء بهم ، أو التحقير ، لأن مال الصفة تستعمل على هذين المعنيين.
و { هنالك } : ظرف مكان يشار به للبعيد.
والظاهر أنه يشار به للمكان الذي تفاوضوا فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بتلك الكلمات السابقة ، وهو مكة ، فيكون ذلك إخباراً بالغيب عن هزيمتهم بمكة يوم الفتح ، فالمعنى أنهم يصيرون مهزومين بمكة يوم الفتح.
وقيل : { هنالك } ، إشارة إلى الإرتقاء في الأسباب ، أي هؤلاء القوم إن راموا ذلك جند مهزوم.
وقيل : أشير بهنالك إلى جملة الأصنام وعضدها ، أي هم جند مهزوم في هذه السبيل.
وقال مجاهد ، وقتادة : الإشارة إلى يوم بدر ، وكان غيباً ، أعلم الله به على لسان رسوله.
وقيل : الإشارة إلى حصر عام الخندق بالمدينة.
وقال الزمخشري : وهنالك ، إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم من قولهم : لمن يندبه لأمر ليس من أهله ، لست هنالك. انتهى.
و { هنالك } ، يحتمل أن يكون في موضع الصفة لجند ، أي كائن هنالك؛ ويحتمل أن يكون متعلقاً بمهزوم ، وجند خبر مبتدأ محذوف ، أي هم جند ، ومهزوم خبره.
وقال أبو البقاء : جند مبتدأ ، وما زائدة ، وهنالك نعت ، ومهزوم الخبر. انتهى.
وفيه بعد لفصله عن الكلام الذي قبله.
ومعنى { من الأحزاب } : من جملة الأحزاب الذين تعصبوا في الباطل وكذبوا الرسل.
ولما ذكر تعالى أنه أهلك قبل قريش قروناً كثيرة لما كذبوا رسلهم ، سرد منهم هنا من له تعلق بعرفانه.
و { ذو الأوتاد } : أي صاحب الأوتاد ، وأصله من ثبات البيت المطنب بأوتاده.
قال الأفوه العوذي :
والبيت لا يبتنى إلا على عمد . . .
ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

فاستعير لثبات العز والملك واستقامة الأمر ، كما قال الأسود :
في ظل ملك ثابت الأوتاد . . .
_@_قاله الزمخشري ، وأخذه من كلام غيره.
وقال ابن عباس ، وقتادة ، وعطاء : كانت له أوتاد وخشب يلعب بها وعليها.
وقال السدي : كان يقتل الناس بالأوتاد ، ويسمرهم في الأرض بها.
وقال الضحاك : أراد المباني العظيمة الثابتة.
وقيل : عبارة عن كثرة أخبيته وعظم عساكره.
وقيل : كان يشج المعذب بين أربع سواري ، كل طرف من أطرافه إلى سارية مضروبة فيها وتد من حديد ، ويتركه حتى يموت.
روي معناه عن الحسن ومجاهد ، وقيل : كان يمده بين أربعة أوتاد في الأرض ، ويرسل عليه العقارب والحيات.
وقيل : يشدهم بأربعة أوتاد ، ثم يرفع صخرة فتلقى عليه فتشدخه.
وقال ابن مسعود ، وابن عباس ، في رواية عطية : الأوتاد : الجنود ، يشدون ملكه ، كما يقوي الوتد الشيء.
وقيل : بنى مناراً يذبح عليها الناس ، قاله ابن جبير.
{ أولئك الأحزاب } : أي الذين تحزبوا على أنبيائهم ، كما تحزب قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والظاهر أن الإشارة بأولئك إلى أقرب مذكور ، وهم قوم نوح ومن عطف عليهم؛ وفيه تفخيم لشأنهم وإعلاء لهم على من تحزب على رسول الله ، أي هؤلاء العظماء لما كذبوا عوقبوا ، وكذلك أنتم.
{ إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب } : فوجب عقابهم.
كذبت قوم نوح ، آذوا نوحاً فأغرقوا؛ وقوم هود فأهلكوا بالريح؛ وفرعون فأغرق؛ وثمود بالصيحة؛ وقوم لوط بالخسف؛ والأيكة بعذاب الظلة.
ومعنى { إن كل } : ما كان من قوم نوح فمن بعدهم ، { فحق عقاب } : أي وجب عقابهم ، فكذلك يحق عليكم أيها المكذبون بالرسول.
قال الزمخشري : { أولئك الأحزاب } ، قصد بهذه الإشارة الإعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم هم هم ، وأنهم الذين وجد منهم التكذيب ، ولقد ذكرت تكذيبهم أولاً في الجملة الخبرية على وجه الإبهام ، ثم جاء بالجملة الاستثنائية ، فأوضحه فيها بأن كل واحد من الأحزاب كذب الرسل ، لأنهم إذا كذبوا واحداً منهم ، فقد كذبوا جميعاً ، وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه ، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أولاً ، وبالاستثناء ثانياً ، وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشدّ العذاب وأبلغه.
ثم قال : { فحق عقاب } : أي فوجب لذلك أن أعاقبهم حق عقابهم. انتهى.

وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)

الفواق ، بضم الفاء وفتحها : الزمان الذي ما بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع ، وفي الحديث : « العبادة قدر فواق الناقة » وأفاقت الناقة إفاقة : اجتمعت الفيقة في ضرعها فهي مفيق ومفيقة ، عن أبي عمرو.
والفيقة : اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين ، ويجمع على أفواق ، وأفاويق جمع الجمع.
وقال أبو عبيدة والفراء ومؤرج : الفواق ، بالفتح : الإفاقة والاستراحة.
القط ، قال الفراء : الحظ والنصيب ، ومنه قيل للصك : القط ، وقال أبو عبيدة والكسائي : القط : الكتاب بالجوائز ، وقال الأعشى :
ولا الملك النعمان يوم لقيته . . .
بغبطته يعطي القطوط ويأفق
ويروى بأمته : أي بنعمته ، ويأفق : يصلح ، وهو في الكتاب أكثر استعمالاً.
قال أمية بن أبي الصلت :
قوم لهم ساحة أرض العراق وما . . .
يجبى إليهم بها والقط والعلم
ويجمع أيضاً على قططة ، وفي القليل قط وأقطاط.
تسور الحائط والسور وتسنمه والبعير : علا أعلاه.
والسور : حائط المدينة ، وهو غير مهموز.
الشطط : مجاوزة الحد وتخطي الحق.
وقال أبو عبيدة : شططت على فلان وأشططت : جرت في الحكم.
التسع : رتبة من العدد معروفة ، وكسر التاء أشهر من الفتح.
النعجة : الأنثى من بقر الوحش ومن الضأن ، ويكنى بها عن المرأة.
قال الشاعر :
هما نعجتان من نعاج تبالة . . .
لذي جؤذرين أو كبعض لدى هكر
وقال ابن عون :
أنا أبوهن ثلاث هنه . . .
رابعة في البيت صغراهنه
ونعجتي خمساً توفيهنه . . .
إلا فتى سجح يغذيهنه
عزة : غلبه ، يعزه عزاً؛ وفي المثل : من عزَّبزَّ ، أي من غلب سلب.
وقال الشاعر :
قطاة عزها شرك فباتت . . .
تجاذبه وقد علق الجناح
{ وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق ، وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ، اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب ، إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ، والطير محشورة كل له أواب ، وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ، وهل آتاك نبؤ الخصم إذ تسوروا المحراب ، إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط ، إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب ، قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقيل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب ، فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب }.
{ وما ينظر } : أي ينظر ، { هؤلاء } : إشارة إلى كفار قريش ، والإشارة بهؤلاء مقوية أن الإشارة باؤلئك هي للذين يلونها من قوم نوح وما عطف عليه.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأحزاب لاستحضارهم بالذكر ، أو لأنهم كالحضور عند الله.

انتهى.
وفيه بعد ، وهو إخبار منه تعالى صدقه الوجود.
والصيحة : ما نالهم من قتل وأسر وغلبة ، كما تقول؛ صاح فيهم الدهر.
وقال قتادة : توعدهم بصيحة القيامة والنفخ في الصور.
وقيل : بصيحة يملكون بها في الدنيا.
فالقول الأول فيه الانتظار من الرسول لشيء معين فيهم ، وعلى هذين القولين بمدرج عقوبة ، وتحت أمر خطر ما ينتظرون فيه إلا الهلكة.
وقرأ الجمهور : { من فواق } ، بفتح الفاء؛ والسلمي ، وابن وثاب ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وطلحة : بضمها ، فقيل : هما بمعنى واحد ، كقصاص الشعر.
وقال ابن زيد ، والسدي : بالفتح ، إفاقة من أفاق واستراح ، كجواب من أجاب.
قال ابن عباس : { من فواق } : من ترداد.
وقال مجاهد : من رجوع.
{ عجّل لنا قطّنا } : نصيبنا من الجنة لنتنعم به في الدنيا.
قاله الحسن وقتادة وابن جبير.
وقال أيضاً ، ومجاهد : نصيبنا من العذاب.
وقال أبو العالية والكلبي : صحفنا بإيماننا.
وقال السدي : المعنى : أرنا منازلنا من الجنة حتى نتابعك ، وعلى كل قول ، فإنما قالوا ذلك على سبيل الاستخفاف والاستهزاء.
ومعنى { قبل يوم الحساب } : أي الذين يزعمون أنه واقع في العالم ، إذ هم كفرة لا يؤمنون بالبعث.
ولما كانت مقالتهم تقتضي الاستخفاف ، أمر تعالى نبيه بالصبر على أذاهم ، وذكر قصصاً للأنبياء : داود وسليمان وأبوب وغيرهم ، وما عرض لهم ، فصبروا حتى فرج الله عنهم ، وصارت عاقبتهم أحسن عاقبة.
فكذلك أنت تصبر ، ويؤول أمرك إلى أحسن مآل ، وتبلغ ما تريد من إقامة دينك وإماتة الضلال.
وقيل : { اصبر على ما يقولون } ، وعظم أمر مخالفتهم لله في أعينهم ، وذكرهم بقصة داود وما عرض له ، وهو قد أوتي النبوة والملك ، فما الظن بكم مع كفركم وعصيانكم؟ انتهى.
وهو ملتقط من كلام الزمخشري مع تغيير بعض ألفاظه لا تناسب منصب النبوة.
وقيل : أمر بالصبر ، فذكر قصص الأنبياء ليكون برهاناً على صحة نبوته.
وقيل : { اصبر على ما يقولون } ، وحافظ على ما كلفت به من مصابرتهم ، وتحمل أذاهم ، واذكر داود وكرامته على الله ، وما عرض له ، ومالقي من عتب الله.
{ ذا الأيد } : أي ذا القوة في الدين والشرع والصدع بأمر الله والطاعة لله ، وكان من ذلك قوياً في بدنه.
والآوّاب : الرجّاع إلى طاعة الله ، قاله مجاهد وابن زيد.
وقال السدي : المسبح.
ووصفه بأنه أوأب يدل على أن ذا الأيد معناه : القوة في الدين.
ويقال : رجل أيد وأيد وذو أد وأياد : كل بمعنى ما يتقوى.
و { الإشراق } : وقت الإشراق.
قال ثعلب : شرقت الشمس ، إذا طلعت؛ وأشرقت : إذا أضاءت وصفت.
وفي الحديث ، أنه عليه السلام ، صلى صلاة الضحى وقال : « يا أم هانىء ، هذه صلاة الإشراق ، وفي هذين الوقتين كانت صلاة بني إسرائيل » وتقدّم كل الكلام في تسبيح الجبال في قصة داود في سورة الأنبياء ، وأتى بالمضارع باسم الفاعل دلالة على حدوث التسبيح شيئاً بعد شيء ، وحالاً بعد حال؛ فكأن السامع محاضر تلك الجبال سمعها تسبح.

ومثله قول الأعشى :
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة . . .
إلى ضوء نار في بقاع تحرق
أي : تحرق شيئاً فشيئاً.
ولو قال محرقة ، لم يدل على هذا المعنى.
وقرأ الجمهور : { والطير محشورة } ، بنصبهما ، عطفاً على الجبال يسبحن ، عطف مفعول على مفعول ، وحال على حال ، كقولك : ضربت هنداً مجردة ، ودعداً لابسة.
وقرأ ابن أبي عبلة ، والجحدري : والطير محشورة ، برفعهما ، مبتدأ وخبر ، أو جاء محشورة باسم المفعول ، لأنه لم يرد أنها تحشر شيئاً ، إذ حاشرها هو الله تعالى ، فحشرها جملة واحدة أدل على القدرة.
والظاهر عود الضمير في له على داود ، أي كل واحد من الجبل والطير لأجل داود ، أي لأجل تسبيحه.
سبح لأنها كانت ترجع تسبيحه ، ووضع الأواب موضع المسبح.
وقيل : الضمير عائد على الله ، أي كل من داود والجبال والطير أواب ، أي مسبح مرجع للتسبيح.
وقرأ الجمهور : { وشددنا } ، مخففاً : أي قوينا ، كقوله : { سنشد عضدك بأخيك } والحسن ، وابن أبي عبلة : بشد الدال ، وهي عبارة شاملة لما وهبه الله تعالى من قوة وجند ونعمة ، فالتخصيص ببعض الأشياء لا يظهر.
وقال السدي : بالجنود.
قيل : كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مسلم يحرسونه ، وهذا بعيد في العادة؛ وقيل : بهيبة قذفها الله له في قلوب قومه.
و { الحكمة } هنا : النبوة ، أو الزبور ، أو الفهم في الدين ، أو كل كلام ، ولقن الحق أقوال.
{ وفصل الخطاب } ، قال علي والشعبي : إيجاب اليمين على المدعى عليه ، والبينة على المدعي.
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي : القضاء بين الناس بالحق وإصابته وفهمه.
وقال الشعبي : كلمة أما بعد ، لأنه أول من تكلم بها وفصل بين كلامين.
قال الزمخشري : لأنه يفتتح إذا تكلم في الأمر الذي له شأن بذكر الله وتحميده ، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه ، فصل بينه وبين ذكر الله بقوله : أما بعد.
ويجوز أن يراد بالخطاب : القصد الذي ليس له فيه اختصار مخل ، ولا إشباع ممل؛ ومنه ما جاء في صفة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصل لا نذر ولا هذر. انتهى.
ولما كان تعالى قد كمل نفس نبيه داود بالحكمة ، أردفه ببيان كمال خلقه في النطق والعبادة فقال : { وفصل الخطاب }.
{ وهل أتاك نبؤ الخصم } : لما أنثى تعالى على داود عليه السلام بما أثنى ، ذكر قصته هذه ، ليعلم أن مثل قصته لا يقدح في الثناء عليه والتعظيم لقدره ، وإن تضمنت استغفاره ربه ، وليس في الاستغفار ما يشعر بارتكاب أمر يستغفر منه ، وما زال الاستغفار شعار الأنبياء المشهود لهم بالعصمة.
ومجيء مثل هذا الاستفهام إنما يكون لغرابة ما يجيء معه من القصص ، كقوله : { وهل أتاك حديث موسى } فيتهيأ المخاطب بهذا الإستفهام لما يأتي بعده ويصغي لذلك.

وذكر المفسرون في هذه القصة أشياء لا تناسب مناصب الأنبياء ، ضربنا عن ذكرها صفحاً ، وتكلمنا على ألفاظ الآية.
والنبأ : الخبر ، فالخبر أصله مصدر ، فلذلك تصلح للمفرد والمذكر وفروعهما ، وهنا جاء للجمع ، ولذلك قال : { إذ تسورو } : إذ دخلوا ، كما قال الشاعر :
وخصم يعدون الدخول كأنهم . . .
قروم غيارى كل أزهر مصعب
والظاهر أنهم كانوا جماعة ، فلذلك أتى بضمير الجمع.
فإن كان المتحاكمان اثنين ، فيكون قد جاء معهم غيرهم على جهة المعاضدة أو المؤانسة ، ولا خلاف أنهم كانوا ملائكة ، كذا قال بعضهم.
وقيل : كانا أخوين من بني إسرائيل لأب وأم ، والأول أشهر.
وقيل : الخصم هنا اثنان ، وتجوز في العبارة فأخبر عنهما أخبار ما زاد على اثنين ، لأن معنى الجمع في التثنية.
وقيل : معنى خصمان : فريقان ، فيكون تسوروا ودخلوا عائداً على الخصم الذي هو جمع الفريقين ، ويدل على أن خصمان بمعنى فريقان قراءة من قرأ : بغى بعضهم على بعض.
وقال تعالى : { هذا خصمان اختصموا في ربهم } بمعنى : فأما إن هذا أخي.
وما روي أنه بعث إليه ملكان ، فالمعنى : أن التحاكم كان بين اثنين ، ولا يمتنع أن يصحبهما غيرهما.
وأطلق على الجميع خصم ، وعلى الفريقين خصمان ، لأن من جاء مع متخاصم لمعاضدة فهو في سورة خصم ، ولا يبعد أن تطلق عليه التسمية ، والعامل في الظرف ، وهو إذ أتاك ، قاله الحوفي ورد بأن إتيان النبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقع إلا في عهده ، لا في عهد داود.
وقال ابن عطية ، وأبو البقاء : العامل فيه نبأ ورد بما رد به ما قبله أن النبأ الواقع في عهد داود عليه السلام لا يصح إتيانه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا أردت بالنبأ القصة في نفسها ، لم يكن ناصباً.
وقيل : العامل فيه محذوف تقديره : وهل أتاك تخاصم الخصم؟ قاله الزمخشري.
ويجوز أن ينتصب بالخصم ، لما فيه من معنى الفعل.
وإذ دخلوا بدل من إذ الأولى؛ وقيل : ينتصب بتسوروا.
وروي أن الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين ، فطلبا أن يدخلا عليه ، فوجداه في يوم عبادته ، فمنعهما ، فتسورا عليه المحراب ، فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان.
قال ابن عباس : جزأ زمانه أربعة أجزاء : يوماً للعبادة ، ويوماً للقضاء ، ويوماً للاشتغال بخواص أموره ، ويوماً لجميع بني إسرائيل ، فيعظهم ويبكيهم.
فجاءوه في غير القضاء ، ففزع منهم لأنهم نزلوا عليه من فوق ، وفي يوم الاحتجاب ، والحرس حوله لا يتركون من يدخل عليه ، فخاف أن يؤذوه.
وقيل : كان ذلك ليلاً ، ويحتمل أن يكون فزعه من أجل أن أهل ملكته قد استهانوه حتى ترك بعضهم الاستئذان ، فينكون فزعه على فساد السيرة ، لا من الداخلين.
وقال أبو الأحوص : فزع منهم لأنهما دخلا عليه ، وكل منهما آخذ برأس صاحبه.

وقيل : فزع منهم لما رأى من تسورهم على موضع مرتفع جداً لا يمكن أن يرتقي إليه بعد أشهر مع أعوان وكثرة عدد.
وقيل : إنهما قالا : لم نتوصل إليك إلا بالتسور لمنع الحجاب ، وخفنا تفاقم الأمر بيننا ، فقبل داود عذرهم.
ولما أدركوا منه الفزع قالوا : { لا تخف } ، أي لسنا ممن جاء إلا لأجل التحاكم.
{ خصمان } : يحتمل أن يكون هذا موصولاً بقولهما : { لاتخف } ، بادر بإخبار ما جاءا إليه.
ويحتمل أن يكون سألهم : ما أمركم؟ فقالوا : خصمان ، أي نحن خصمان.
{ بغى } : أي جار ، { بعضنا على بعض } ، كما قال الشاعر :
ولكن الفتى حمل بن بدر . . .
بغى والبغي مرتعه وخيم
وقرأ أبو يزيد الجراد ، عن الكسائي : خصمان ، بكسر الخاء؛ وفي أمرهم له ونهيهم ببعض فظاظة على الحكام ، حمل على ذلك ما هم فيه من التخاصم والتشاجر ، واستدعوا عدله من غير ارتياب في أنه يحكم بالعدل.
وقرأ الجمهور : { ولا تشطط } ، مفكوكاً من أشط رباعياً؛ وأبو رجاء ، وابن أبي عبلة ، وقتادة ، والحسن ، وأبو حيوة : تشطط ، من شط ثلاثياً.
وقرأ قتادة أيضاً : تشط ، مدغماً من أشط.
وقرأ زر : تشاطط ، بضم التاء وبالألف على وزن تفاعل ، مفكوكاً.
وعن قتادة أيضاً : تشطط من شطط ، { سواء الصراط } : وسط طريق الحق ، لا ميل فيه من هنا ولا هنا.
{ إن هذا أخي } : هو قول المدعي منهما ، وأخي عطف بيان عند ابن عطية ، وبدل أو خبر لأن عند الزمخشري.
والأخوّة هنا مستعارة ، إذ هما ملكان ، لكنهما لما ظهرا في صورة انسانين تكلما بالأخوّة ، ومجازها أنها إخوة في الدين والإيمان ، أو على معنى الصحبة والمرافقة ، أو على معنى الشركة والخلطة لقوله : { وإن كثيراً من الخلطاء } ، وكل واحدة من هذه الأخوات تقتضي منع الاعتداء ، ويندب إلى العدل.
وقرأ الجمهور : { تسع وتسعون } ، بكسر التاء فيهما.
وقرأ الحسن ، وزيد بن علي : بفتحها.
وقرأ الجمهور : { نعجة } ، بفتح النون؛ والحسن ، وابن هرمز : بكسر النون ، وهي لغة لبعض بني تميم.
قيل : وكنى بالنعجة عن الزوجة.
{ فقال أكفلنيها } : أي ردها في كفالتي.
وقال ابن كيسان : اجعلها كفلي ، أي نصيبي.
وقال ابن عباس : أعطنيها؛ وعنه ، وعن ابن مسعود : تحول لي عنها؛ وعن أبي العالية : ضمها إلي حتى أكفلها.
{ وعزني في الخطاب } ، قال الضحاك : إن تكلم كان أفصح مني ، وإن حارب كان أبطش مني.
وقال ابن عطية : كان أوجه مني وأقوى ، فإذا خاطبته كان كلامه أقوى من كلامي ، وقوته أعظم من قوتي.
وقال الزمخشري : جاءني محجاج لم أقدر أن أورد عليه ما أرده به.
وأراد بالخطاب : مخاطبة المحاج المجادل ، أو أراد خطيب المرأة ، وخطبها هو فخاطبني خطاباً : أي غالبني في الخطبة ، فغلبني حيث زوجها دوني؛ وقيل : غلبني بسلطانه ، لأنه لما سأله لم يستطع خلافه.
قال الحافظ أبو بكر بن العربي : كان ببلادنا أمير يقال له سيري بن أبي بكر ، فكلمته في أن يسأل لي رجلاً حاجة ، فقال لي : أما علمت أن طلب السلطان للحاجة غضب لها؟ فقلت : أما إذا كان عدلاً فلا.

وقرأ أبو حيوة ، وطلحة : وعزني ، بتخفيف الزاي.
قال أبو الفتح : حذف الزاي الواحدة تخفيفاً ، كما قال أبو زبيد :
أحسن به فهز إليه شوس . . .
وروي كذلك عن عاصم.
وقرأ عبيد الله ، وأبو وائل ، ومسروق ، والضحاك ، والحسن ، وعبيد بن عمير : وعازني ، بألف وتشديد الزاي : أي وغالبني.
والظاهر إبقاء لفظ النعجة على حقيقتها من كونها أنثى الضأن ، ولا يكنى بها عن المرأة ، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك لأن ذلك الإخبار كان صادراً من الملائكة ، على سبيل التصوير للمسئلة والفرض لها مرة غير تلبس بشيء منها ، فمثلوا بقصة رجل له نعجة ، ولخليطه تسع وتسعون ، فأراد صاحبه تتمة المائة ، فطمع في نعجة خليطة ، وأراد انتزاعها منه؛ وحاجة في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده ، ويدل على ذلك قوله : { وإن كثيراً من الخلطاء } ، وهذا التصوير والتمثيل أبلغ في المقصود وأدل على المراد.
{ قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه } : ليس هذا ابتداء من داود ، عليه السلام ، إثر فراغ لفظ المدعي ، ولا فتيا بظاهر كلامه قبل ظهور ما يجب ، فقيل ذلك على تقدير ، أي لئن كان ما تقول ، { لقد ظلمك }.
وقيل : ثم محذوف ، أي فأقر المدعي عليه فقال : { لقد ظلمك } ، ولكنه لم يحك في القرآن اعتراف المدّعي عليه ، لأنه معلوم من الشرائع كلها ، إذ لا يحكم الحاكم إلا بعد إجابة المدّعى عليه.
فأما ما قاله الحليمي من أنه رأى في المدّعي مخايل الضعف والهضيمة ، فحمل أمره على أنه مظلوم ، كما تقول ، فدعاه ذلك إلى أن لا يسأل المدعى عليه ، فاستعجل بقوله : { لقد ظلمك } ، فقوله ضعيف لا يعول عليه.
وروي أن داود ، عليه السلام ، لما سمع كلام الشاكي قال للآخر : ما تقول؟ فأقر فقال له : لئن لم ترجع إلى الحق لأكسرن الذي فيه عيناك ، وقال للثاني : { لقد ظلمك } ؛ فتبسما عند ذلك وذهبا ، ولم يرهما لحينه ، ورأى أنهما ذهبا نحو السماء بمرأى منه.
وأضاف المصدر إلى المفعول ، وضمن السؤال معنى الإضافة ، أي بإضافة نعجتك على سبيل السؤال والطلب ، ولذلك عداه بإلى.
{ وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض } : هذا من كلام داود ، ويدل على أن زمانه كان فيه الظلم والاعتداء كثيراً.
والخلطاء : الشركاء الذين خلطوا أموالهم ، الواحد خليط.
قصد داود بهذا الكلام الموعظة الحسنة ، والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الصلحاء الذين حكم لهم بالقلة ، وأن يكره إليهم الظلم ، وأن يسلي المظلوم عن ما جرى عليه من خليطه ، وأن له في أكثر الخلطاء أسوة.
وقرىء : ليبغي ، بفتح الياء على تقدير حذف النون الخفيفة ، وأصله : ليبغين ، كما قال_@_ :
اضرب عنك الهموم طارقها . . .
_@_ يريد : اضربن ، ويكون على تقدير قسم محذوف ذلك القسم ، وجوابه خير لأن.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46