كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

وقال ابن عطية : { ما غشيهم } إبهام أهول من النص على قدر ما ، وهو كقوله { إذ يغشى السدرة ما يغشى } والظاهر أن الضمير في { غشيهم } في الموضعين عائد على فرعون وقومه ، وقيل الأول على فرعون وقومه ، والثاني على موسى وقومه.
وفي الكلام حذف على هذا القول تقديره فنجا موسى وقومه ، وغرّق فرعون وقومه.
وقال الزجّاج : وقرىء وجنوده عطفاً على فرعون.
{ وأضل فرعون قومه } أي من أول مرة إلى هذه النهاية ويعني الضلال في الدين.
وقيل : أضلهم في البحر لأنهم غرقوا فيه ، واحتج به القاضي على مذهبه فقال : لو كان الضلال من خلق الله لما جاز أن يقال : { وأضل فرعون قومه } بل وجب أن يقال : الله أضلهم لأن الله تعالى ذمه بذلك فكيف يكون خالقاً للكفر لأن من ذم غيره بفعل شيء لا بد أن يكون المذموم فاعلاً لذلك الفعل وإلاّ استحق الذام الذم انتهى.
وهو على طريقة الاعتزال { وما هدى } أي ما هداهم إلى الدين ، أو ما نجا من الغرق ، أو ما هتدى في نفسه لأن { هدى } قد يأتي بمعنى اهتدى.
{ يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم } ذكرهم تعالى بأنواع نعمه وبدأ بإزالة ما كانوا فيه من الضرر من الإذلال والخراج والذبح وهي آكد أن تكون مقدمة على المنفعة الدنيوية لأن إزالة الضرر أعظم في النعمة من إيصال تلك المنفعة ، ثم أعقب ذلك بذكر المنفعة الدينية وهو قوله { وواعدناكم جانب الطور الأيمن } إذ أنزل على نبيهم موسى كتاباً فيه بيان دينهم وشرح شريعتهم ، ثم يذكر المنفعة الدنيوية وهو قوله { ونزلنا عليكم المن والسلوى } والظاهر أن الخطاب لمن نجا مع موسى بعد إغراق فرعون.
وقيل : لمعاصري الرسول صلى الله عليه وسلم اعتراضاً في أثناء قصة موسى توبيخاً لهم إذ لم يصبر سلفهم على أداء شكر نعم الله فهو على حذف مضاف ، أي أنجينا آباءكم من تعذيب آل فرعون.
وخاطب الجميع بواعدناكم وإن كان الموعودون هم السبعين الذين اختارهم موسى عليه السلام لسماع كلام الله ، لأن سماع أولئك السبعين تعود منفعته على جميعهم إذ تطمئن قلوبهم وتسكن وتقدم الكلام في { جانب الطور الأيمن } في سورة مريم ، وعلى { وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى } في سورة البقرة.
وقرأ حمزة والكسائي وطلحة : قد أنجيتكم وواعدتكم ما رزقتكم بتاء الضمير ، وباقي السبعة بنون العظمة وحميد نجَّيناكم بتشديد الجيم من غير ألف قبلها وبنون العظمة وتقدم خلاف أبي عمرو وفي واعد في البقرة.
والطيبات هنا الحلال اللذيذ لأنه جمع الوصفين.
وقرىء { الأيمن } قال الزمخشري بالجر على الجوار نحو جحر ضب خرب انتهى.
وهذا من الشذوذ والقلة بحيث ينبغي أن لا تخرّج القراءة عليه ، والصحيح أنه نعت للطور لما فيه من اليمن وأما لكونه على يمين من يستقبل الجبل ، ونهاهم عن الطغيان فيما رزقهم وهو أن يتعدوا حدود الله فيها بأن يكفروها ويشغلهم اللهو والنعم عن القيام بشكرها ، وأن ينفقوها في المعاصي ويمنعوا الحقوق الواجبة عليهم فيها.

وقرأ زيد بن علي ولا تَطْغُوا فيه بضم الغين.
وعن ابن عباس { ولا تطغوا فيه } لا يظلم بعضكم بعضاً فيأخذه من صاحبه يعني بغير حق.
وعن الضحاك ومقاتل : لا تجاوزوا حدَّ الإباحة.
وعن الكلبي : لا تكفروا النعمة أي لا تستعينوا بنعمتي على مخالفتي.
وقرأ الجمهور { فَيَحِلَّ } بكسر الحاء { ومن يحلِلْ } بكسر اللام أي فيجب ويلحق.
وقرأ الكسائي بضم الحاء ولام يحلُل أي ينزل وهي قراءة قتادة وأبي حيوة والأعمش وطلحة ووافق ابن عتيبة في يحلل فضم ، وفي الإقناع لأبي علي الأهوازي ما نصه ابن غزوان عن طلحة لا يحلن عليكم { غضبي } بلام ونون مشددة وفتح اللام وكسر الحاء أي : لا تتعرضوا للطغيان فيه فيحل عليكم غضبي من باب لا أرينك هنا وفي كتاب اللوامح قتادة وعبد الله بن مسلم بن يسار وابن وثاب والأعمش فَيُحَّلُ بضم الياء وكسر الحاء من الإحلال فهو متعد من حل بنفسه ، والفاعل فيه مقدر ترك لشهرته وتقديره فيحل به طغيانكم { غضبي } عليكم ودل على ذلك { ولا تطغوا } فيصير { غضبي } في موضع نصب مفعول به.
وقد يجوز أن يسند الفعل إلى { غضبي } فيصير في موضع رفع بفعله ، وقد حذف منه المفعول للدليل عليه وهو العذاب أو نحوه انتهى.
{ فقد هوى } كنى به عن الهلاك ، وأصله أن يسقط من جبل فيهلك يقال هوى الرجل أي سقط ، ويشبه الذي يقع في ورطة بعد أن بنجوة منها بالساقط ، أو { هوى } في جهنم وفي سخط الله وغضب الله عقوباته ، ولذلك وصف بالنزول.
ولما حذر تعالى من الطغيان فيما رزق وحذر من حلول غضبه فتح باب الرجاء للتائبين وأتى بصيغة المبالغة وهي قوله { وإني لغفار لمن تاب } قال ابن عباس من الشرك { وآمن } أي وحد الله { وعمل صالحاً } أدى الفرائض { ثم اهتدى } لزم الهداية وأدامها إلى الموافاة على الإسلام.
وقيل : معناه لم يشك في إيمانه.
وقيل : ثم استقام.
قال ابن عطية : والذي تقوى في معنى { ثمّ اهتدى } أن يكون ثم حفظ معتقداته من أن يخالف الحق في شيء من الأشياء ، فإن الاهتداء على هذا الوجه غير الإيمان وغير العمل.
وقال الزمخشري : الاهتداء هو الاستقامة والثبات على الهدى المذكور وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح ، ونحوه : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } وكلمة التراخي دلت على تباين المنزلتين دلالتها على تباين الوقتين في جاءني زيد ثم عمر ، وأعني أن منزلة الاستقامة على الخبر مباينة لمنزلة الخبر نفسه لأنها أعلى منه وأفضل.

وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)

لما نهض موسى عليه السلام ببني إسرائيل إلى جانب الطور الأيمن حيث كان الموعد أن يكلم الله موسى بما فيه شرف العاجل والآجل ، رأى على وجه الاجتهاد أن يقدم وحده مبادراً إلى أمر الله وحرصاً على القرب منه وشوقاً إلى مناجاته ، واستخلف هارون على بني إسرائيل وقال لهم موسى : تسيرون إلى جانب الطور فلما انتهى موسى عليه السلام وناجى ربه ، زاده في الأجل عشراً وحينئذ وقفه على استعجاله دون القوم ليخبره موسى أنهم على الأثر فيقع الإعلام له بما صنعوا { وما } استفهام أي أي شيء عجل بك عنهم.
قال الزمخشري : وكان قد مضى مع النقباء إلى الطور على الموعد المضروب ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه وينجز ما وعد به بناء على اجتهاده ، وظن أن ذلك أقرب إلى رضا الله ، وزال عنه أنه عز وجل ما وقت أفعاله إلا نظراً إلى دواعي الحكمة وعلماً بالمصالح المتعلقة بكل وقت ، فالمراد بالقوم النقباء انتهى.
والظاهر أن قوله عز وجل { عن قومك } يريد به جميع بني إسرائيل كما قد بيّنا قبل لا السبعين.
وقال الزمخشري : وليس يقول من جوز أن يراد جميع قومه وأن يكون قد فارقهم قبل الميعاد وجه صحيح ما يأباه قوله { هم أولاء على أثري } انتهى.
{ وما أعجلك } سؤال عن سبب العجلة وأجاب بقوله { هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى } لأن قوله { وما أعجلك } تضمن تأخر قومه عنه ، فأجاب مشيراً إليهم لقربهم منه إنهم على أثره جائين للموعد ، وذلك على ما كان عهد إليهم أن يجيئوا للموعد.
ثم ذكر السبب الذي حمله على العجلة وهو ما تضمنه قوله { وعجلت إليك رب لترضى } من طلبه رضا الله تعالى في السبق إلى ما وعده ربه ومعنى { إليك } إلى مكان وعدك و { لترضى } أي ليدوم رضاك ويستمر ، لأنه تعالى كان عنه راضياً.
وقال الزمخشري : فإن قلت : { ما أعجلك } سؤال عن سبب العجلة ، فكان الذي ينطبق عليه من الجواب أن يقال : طلب زيادة رضاك والشوق إلى كلامك وينجز موعدك وقوله { هم أولاء على أثري } كما ترى غير منطبق عليه.
قلت : قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين أحدهما إنكار العجلة في نفسها ، والثاني السؤال عن سبب المستنكر والحامل عليه ، فكان أهم الأمرين إلى موسى بسط العذر وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه ، فاعتل بأنه لم يوجد مني إلاّ تقدم يسير مثله لا يعتد به في العادة ولا يحتفل به ، وليس بيني وبين من سبقته إلا مسافة قريبة يتقدم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمهم ، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال { وعجلت إليك رب لترضى } ولقائل أن يقول : حارَ لِما وَرَد عليه من التهيب لعتاب الله فأذهله ذلك عن الجواب المنطبق المترتب على حدود الكلام انتهى.

وفيه سوء أدب على الأنبياء عليهم السلام.
وقرأ الحسن وابن معاذ عن أبيه أولائي بياء مكسورة وابن وثاب وعيسى في رواية { أولاء } بالقصر.
وقرأت فرقة أولاي بياء مفتوحة.
وقرأ عيسى ويعقوب وعبد الوارث عن أبي عمرو وزيد بن علي إثري بكسر الهمزة وسكون الثاء.
وحكى الكسائي أثْرِي بضم الهمزة وسكون الثاء وتروى عن عيسى.
وقرأ الجمهور { أولاء } بالمد والهمز على { أَثَرِي } بفتح الهمز والثاء و { على أثري } يحتمل أن يكون خبراً بعد خبر ، أو في موضع نصب على الحال.
قال : { فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري } أي اختبرناهم بما فعل السامري أو ألقيناهم في فتنة أي ميل مع الشهوات ووقوع في اختلاف { من بعدك } أي من بعد فراقك لهم.
وقال الزمخشري : أراد بالقوم المفتونين الذين خلفهم مع هارون ، وكانوا ستمائة ألف ما نجا من عبادة العجل إلاّ اثنا عشر ألفاً فإن قلت : في القصة أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة وحسبوا أربعين مع أيامها ، وقالوا قد أكملنا العدة ثم كان أمر العجل بعد ذلك ، فكيف التوفيق بين هذا وبين قوله تعالى لموسى عند مقدمه { إنا قد فتنا قومك من بعدك } ؟ قلت : قد أخبر الله تعالى عن الفتنة المترقبة بلفظ الموجودة الكائنة على عادته ، وافترض السامري غيبته فعزم على إضلالهم غب انطلاقه.
وأخذ في تدبير ذلك فكان بدء الفتنة موجوداً انتهى.
وقرأ الجمهور : { وأضلهم } فعلاً ماضياً.
وقرأ أبو معاذ وفرقة وأضَلُهم برفع اللام مبتدأ والسامري خبره وكان أشدهم ضلالاً لأنه ضال في نفسه مضل غيره.
وفي القراءة الشهري أسند الضلال إلى السامري لأنه كان السبب في ضلالهم ، وأسند الفتنة إليه تعالى لأنه هو الذي خلقها في قلوبهم.
و { السامري } قيل اسمه موسى بن ظفر.
وقيل : منجا وهو ابن خالة موسى أو ابن عمه أو عظيم من بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة ، أو علج من كرمان ، أو من باجرما أو من اليهود أو من القبط آمن بموسى وخرج معه ، وكان جاره أو من عبّاد البقر وقع في مصر فدخل في بني إسرائيل بظاهره وفي قلبه عبادة البقر أقوال وتقدم في الأعراف كيفية اتخاذ العجل وقبل ذلك في البقرة فأغنى عن إعادته هنا.
{ فرجع موسى إلى قومه } وذلك بعدما استوفى الأربعين وانتصب { غضبان أسفاً } على الحال ، والأسف أشد الغضب.
وقيل : الحزن وغضبه من حيث له قدرة على تغيير منكرهم ، وأسفه وهو حزنه من حيث علم أنه موضع عقوبة لا يد له بدفعها ولا بد منها.
قال ابن عطية : والأسف في كلام العرب متى كان من ذي قدرة على من دونه فهو غضب ، ومتى كان من الأقل على الأقوى فهو حزن ، وتأمل ذلك فهو مطرد ، ثم أخذ موسى عليه السلام يوبخهم على إضلالهم والوعد الحسن ما وعدهم من الوصول إلى جانب الطور الأيمن وما بعد ذلك من الفتوح في الأرض والمغفرة لمن تاب وآمن وغير ذلك مما وعد الله أهل طاعته.

وقال الزمخشري : وعدهم الله بعدما استوفى الأربعين أن يعطيهم التوراة التي فيها هدى ونور ، ولا وعد أحسن من ذاك وأجمل.
وقال الحسن : الوعد الحسن الجنة.
وقيل : أن يسمعهم كلامه والعهد الزمان ، يريد مفارقته لهم يقال طال عهدي بكذا أي طال زماني بسبب مفارقتك ، وعدوه أن يقيموا على أمره وما تركهم عليه من الإيمان فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل انتهى.
وانتصب { وعداً } على المصدر والمفعول الثاني ليعدكم محذوف أو أطلق الوعد ويراد به الموعود فيكون هو المفعول الثاني وفي قوله { أفطال } إلى آخره توقيف على أعذار لم تكن ولا تصح لهم وهو طول العهد حتى يتبين لهم خلف في الموعد وإرادة حلول غضب الله ، وذلك كله لم يكن ولكنهم عملوا عمل من لم يتدبر.
وسُمِّي العذاب غضباً من حيث هو ناشىء عن الغضب فإن جعل بمعنى الإرادة فصفة ذات أو عن ظهور النقمة والعذاب فصفة فعل.
و { موعدي } مصدر يحتمل أن يضاف إلى الفاعل أي أوجدتموني أخلفت ما وعدتكم من قول العرب : فلان أخلف وعد فلان إذا وجده وقع فيه الخلف قاله المفضل ، وأن يضاف إلى المفعول وكانوا وعدوه أن يتمسكوا بدين الله وسنة موسى عليه السلام ولا يخالفوا أمر الله أبداً فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل.
وقرأ الأخوان والحسن والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وقعنب بِمُلْكِنا بضم الميم.
وقرأ زيد بن عليّ ونافع وعاصم وأبو جعفر وشيبة وابن سعدان بفتحها وباقي السبعة بكسرها.
وقرأ عمر رضي الله عنه بِمَلَكِنا بفتح الميم واللام وحقيقته بسلطاننا ، فالملك والملك بمنزلة النقض والنقض.
والظاهر أنها لغات والمعنى واحد وفرق أبو عليّ وغيره بين معانيها فمعنى الضم أنه لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك بسلطانه وإنما أخلفناه بنظر أدّى إليه ما فعل السامري ، فليس المعنى أن لهم ملكاً وإنما هذا كقول ذي الرّمة :
لا يشتكي سقط منها وقد رقصت . . .
بها المفاوز حتى ظهرها حدب
أي لا يكون منها سقطة فتشتكي ، وفتح الميم مصدر من ملك والمعنى ما فعلنا ذلك بأنا ملكنا الصواب ولا وقفنا له ، بل غلبتنا أنفسننا وكسر الميم كثر استعماله فيما تحوزه اليد ولكنه يستعمل في الأمور التي يبرمها الإنسان ومعناها كمعنى التي قبلها.
والمصدر في هذين الوجهين مضاف إلى الفاعل والمفعول مقدر أي { بملكنا } الصواب.
وقال الزمخشري؛ أي { ما أخلفنا موعدك } بأن ملكنا أمرنا أي لو ملكنا أمرنا وخلينا ورأينا لما أخلفناه ، ولكن غُلبنا من جهة السامري وكيده.

وقرأ الأخوان وأبو عمرو وابن محيصن بفتح الحاء والميم وأبو رجاء بضم الحاء وكسر الميم.
وقرأ باقي السبعة وأبو جعفر وشيبة وحميد ويعقوب غير روح كذلك إلا أنهم شدّدوا الميم ، والأوزار الأثقال أطلق على ما كانوا استعاروا من لقيط برسم التزين أوزاراً لثقلها ، أو لسبب أنهم أثموا في ذلك فسميت أوزاراً لما حصلت الأوزار التي هي الآثام بسببها.
والقوم هنا القبط.
وقيل : أمرهم بالاستعارة موسى.
وقيل : أمر الله موسى بذلك.
وقيل : هو ما ألقاه البحر مما كان على الذين غرقوا.
وقيل : الأوزار التي هي الآثام من جهة أنهم لم يردوها إلى أصحابها ، ومعنى أنهم حملوا الآثام وقذفوها على ظهورهم كما جاؤهم يحملون أوزارهم على ظهورهم.
وقيل معنى { فقذفناها } أي الحليّ على أنفسنا وأولادنا.
وقيل { فقذفناها } في النار أي ذلك الحليّ ، وكان أشار عليهم بذلك السامري فحفرت حفرة وسجرت فيها النار وقذف كل من معه شيء ما عنده من ذلك في النار.
وقذف السامري ما معه.
ومعنى { فكذلك } أي مثل قذفنا إياها { ألقى السامري } ما كان معه.
وظاهر هذه الألفاظ أن العجل لم يصنعه السامري.
وقال الزمخشري : { فكذلك ألقى السامري } أراهم أنه يلقي حلياً في يده مثل ما ألقوا وإنما ألقى التربة التي أخدها من موطىء حيزوم فرس جبريل عليه السلام ، أوحى إليه وليه الشيطان أنها إذا خالطت مواتاً صار حيواناً فأخرج لهم السامري من الحفرة عجلاً خلقه الله من الحلي التي سبكتها النار تخور كخور العجاجيل.
والمراد بقوله { إنا قد فتنا قومك } هو خلق العجل للامتحان أي امتحناهم بخلق العجل وحملهم السامري على الضلال وأوقعهم فيه حين قال لهم { هذا إلهكم وإله موسى } انتهى.
وقيل : معنى { جسداً } شخصاً.
وقيل : لا يتغذى ، وتقدم الكلام على قوله { له خوار } في الأعراف.
والضمير في { فقالوا } لبني إسرائيل أي ضلوا حين قال كبارهم لصغارهم و { هذا } إشارة إلى العجل.
وقيل : الضمير في { فقالوا } عائد على السامري أخبر عنه بلفظ الجمع تعظيماً لجرمه.
وقيل : عليه وعلى تابعيه.
وقرأ الأعمش فنَسِيْ بسكون الياء ، والظاهر أن الضمير في { فَنَسِيَ } عائد على السامري أي { فنسي } إسلامه وإيمانه قاله ابن عباس ، أو فترك ما كان عليه من الدين قاله مكحول ، وهو كقول ابن عباس أو { فنسي } أن العجل { لا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً } و { فنسي } الاستدلال على حدوث الأجسام وأن الإله لا يحل في شيء ولا يحل فيه شيء وعلى هذه الأقوال يكون { فنسي } إخباراً من الله عن السامري.
وقيل : الضمير عائد على موسى عليه السلام أي { فنسي } موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهكم أو { فنسي } الطريق إلى ربه ، وكلا هذين القولين عن ابن عباس.
أو { فنسي } موسى إلهه عندكم وخالفه في طريق آخر قاله قتادة ، وعلى هذه الأقوال يكون من كلام السامري.

ثم بيَّن تعالى فساد اعتقادهم بأن الألوهية لا تصلح لمن سلبت عنه هذه الصفات فقال : { أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً } وهذا كقول إبراهيم لأبيه { لمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } والرؤية هنا بمعنى العلم ، ولذلك جاء بعدها أن المخففة من الثقيلة كما جاء { ألم يروا أنه لا يكلمهم } بأن الثقيلة وبرفع يرجع قرأ الجمهور.
وقرأ أبو حيوة { أن لا يرجع } بنصب العين قاله ابن خالويه.
وفي الكامل ووافقه على ذلك وعلى نصب { ولا يملك } الزعفراني وابن صبيح وأبان والشافعي محمد بن إدريس الإمام المطلبي جعلوها أن الناصبة للمضارع وتكون الرؤية من الإبصار.

وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)

اللحية معروفة وتجمع على لِحَى بكسر اللام وضمها.
{ ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري قال يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي قال فما خطبك يا سامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سوّلت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعداً لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفاً إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً }.
أشفق هارون على نفسه وعليهم وبذل لهم النصيحة ، وبيَّن أن ما ذهبوا إليه من أمر العجل إنما هو فتنة إذ كان مأموراً من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن أخيه موسى عليه السلام { اخلفني في قومي } الآية ولا يمكنه أن يخالف أمر الله وأمر أخيه.
وروي أن الله أوحى إلى يوشع إني مهلك من قومك أربعين ألفاً فقال : يا رب فما بال الأخيار؟ قال : إنهم لم تغضبوا لغضبي ، والمضاف إليه المقطوع عنه من قبل قدره الزمخشري من قبل أن يقول لهم السامري ما قال ، كأنهم أول ما وقعت عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة افتتنوا به واستحسنوه قبل أن ينطق السامري بادر هارون عليه السلام بقوله { إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن }.
وقال ابن عطية : أخبر عز وجل أن هارون قد كان قال لهم في أول حال العجل إنما هي فتنة وبلاء وتمويه من السامري ، وإنما ربكم الرحمن الذي له القدرة والعلم والخلق والاختراع { فاتبعوني } إلى الطور الذي واعدكم الله تعالى إليه { وأطيعوا أمري } فيما ذكرته لكم انتهى.
والضمير في { به } عائد على العجل ، زجرهم أولاً هارون عن الباطل وإزالة الشبهة بقوله { إنما فتنتم به } ثم نبههم على معرفة ربهم وذكر وصف الرحمة تنبيهاً على أنهم متى تابوا قبلهم وتذكيراً لتخليصهم من فرعون زمان لم يوجد العجل ، ثم أمرهم باتباعه تنبيهاً على أنه نبيّ يجب أن يتبع ويطاع أمره.
وقرأ الحسن وعيسى وأبو عمرو في رواية وأن ربكم بفتح الهمزة والجمهور بكسرها ، والمصدر المنسبك منها في موضع خبر مبتدأ محذوف تقديره والأمر { إن ربكم الرحمن } فهو من عطف جملة على جملة ، وقدره أبو حاتم ولأن ربكم الرحمن.
وقرأت فرقة أنما وأن ربكم بفتح الهمزتين وتخريج هذه القراءة على لغة سليم حيث يفتحون أن بعد القول مطلقاً.

ولما وعظهم هارون ونبههم على ما فيه رشدهم اتبعوا سبيل الغي و { قالوا لن نبرح } على عبادته مقيمين ملازمين له ، وغيوا ذلك برجوع موسى وفي قولهم ذلك دليل على عدم رجوعهم إلى الاستدلال وأخذ بتقليدهم السامري ودلالة على أن { لن } لا تقتضي التأبيد خلافاً للزمخشري إذ لو كان من موضوعها التأبيد لما جازت التغيية بحتى لأن التغيية لا تكون إلا حيث يكون الشيء محتملاً فيزيل ذلك الاحتمال بالتغيية.
وقبل قوله { قال يا هارون } كلام محذوف تقديره فرجع موسى ووجدهم عاكفين على عبادة العجل { قال يا هارون } وكان ظهور العجل في سادس وثلاثين يوماً وعبدوه وجاءهم موسى بعد استكمال الأربعين ، فعتب موسى على عدم اتباعه لما رآهم قد ضلوا و { لا } زائدة كهي في قوله { ما منعك أن لا تسجد } وقال عليّ بن عيسى دخلت { لا } هنا لأن المعنى ما دعاك إلى أن لا تتبعني ، وما حملك على أن لا تتبعني بمن معك من المؤمنين { أفعصيت أمري } يريد قوله { اخلفني } الآية.
وقال الزمخشري : ما منعك أن تتبعني في الغضب لله وشدّة الزجر على الكفر والمعاصي ، وهلا قاتلت من كفر بمن آمن وما لك لم تباشر الأمر كما كنت أباشره أنا لو كنت شاهداً ، أو ما لك لم تلحقني.
وفي ذلك تحميل للفظ ما لا يحتمله وتكثير ولما كان قوله تتبعني لم يذكر متعلقه كان الظاهر أن لا تتبعني إلى جبل الطور ببني إسرائيل فيجيء اعتذار هارون بقوله { إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل } إذ كان لا يتبعه إلاّ المؤمنون ويبقى عباد العجل عاكفين عليه كما قالوا { لن نبرح عليه عاكفين } ويحتمل أن يكون المعنى تتبعني تسير بسيري في الإصلاح والتسديد ، فيجيء اعتذاره أن الأمر تفاقم فلو تقويت عليه تقاتلوا واختلفوا فكان تفريقاً بينهم وإنما لاينت جهدي.
وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي بِلَحْيَتِي بفتح اللام وهي لغة أهل الحجاز.
وكان موسى عليه السلام شديد الغضب لله ولدينه ، ولما رأى قومه عبدوا عجلاً من دون الله بعد ما شاهدوا من الآيات العظام لم يتمالك أن أقبل على أخيه قابضاً على شعر رأسه ، وكان كثير الشعر وعلى شعر وجهه يجره إليه فأبدى عذره فإنه لو قاتل بعضهم ببعض لتفرقوا وتفانوا ، فانتظرتك لتكون المتدراك لهم ، وخشيت عتابك على اطراح ما وصيتني به والعمل بموجبها.
وتقدّم الكلام على { ابن أم } قراءة وإعراباً وغير ذلك.
وقرأ أبو جعفر ولم تُرْقِبْ بضم التاء وكسر القاف مضارع أرقب.
ولما اعتذر له أخوه رجع إلى مخاطبة الذي أوقعهم في الضلال وهو السامري وتقدّم الكلام في الخطب في سورة يوسف.
وقال ابن عطية { ما خطبك } كما تقول ما شأنك وما أمرك ، لكن لفظة الخطب تقتضي انتهاراً لأن الخطب مستعمل في المكاره فكأنه قال : ما نحسك وما شؤمك ، وما هذا الخطب الذي جاء من قبلك انتهى.

وهذا ليس كما ذكر ألا ترى إلى قوله قال { فما خطبكم أيها المرسلون } وهو قول إبراهيم لملائكة الله فليس هذا يقتضي انتهاراً ولا شيئاً مما ذكر.
وقال الزمخشري : خطب مصدر خطب الأمر إذا طلبه ، فإذا قيل لمن يفعل شيئاً ما خطبك ، فمعناه ما طلبك له انتهى.
ومنه خطبة النكاح وهو طلبه.
وقيل : هو مشتق من الخطاب كأنه قال له : ما حملك على أن خاطبت بني إسرائيل بما خاطبت وفعلت معهم ما فعلت { قال : بصرت بما لم يبصروا به }.
قال أبو عبيدة : علمت ما لم يعلموا.
وقال الزجاج : بصر بالشيء إذا علمه وأبصر إذا نظر.
وقيل : بصر به وأبصره بمعنى واحد.
وقرأ الأعمش وأبو السماك : بَصِرْتُ بكسر الصاد بما لم تَبْصَروا بفتح الصاد.
وقرأ عمرو بن عبيد بُصُرْتُ بضم الباء وضم الصاد بما لم تُبْصَروا بضم التاء وفتح الصاد مبنياً للمفعول فيهما.
وقرأ الجمهور { بَصُرْتُ } بضم الصاد وحمزة والكسائي وأبو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن مناذر وابن سعدان وقعنب تبصروا بتاء الخطاب لموسى وبني إسرائيل وباقي السبعة { يبصروا } بياء الغيبة.
وقرأ الجمهور { فقبضت قبضة } بالضاد المعجمة فيهما أي أخذت بكفي مع الأصابع.
وقرأ عبد الله وأبي وابن الزبير وحميد والحسن بالصاد فيهما ، وهو الأخذ بأطراف الأصابع.
وقرأ الحسن بخلاف عنه وقتادة ونصر بن عاصم بضم القاف والصاد المهملة ، وأدغم ابن محيصن الضاد المنقوطة في تاء المتكلم وأبقى الإطباق مع تشديد التاء.
وقال المفسرون { الرسول } هنا جبريل عليه السلام ، وتقديره من { أثر } فرس { الرسول } وكذا قرأ عبد الله ، والأثر التراب الذي تحت حافره { فنبذتها } أي ألقيتها على الحليّ الذي تصور منه العجل فكان منها ما رأيت.
وقال الأكثرون رأى السامري جبريل يوم فلق البحر ، وعن عليّ رآه حين ذهب موسى إلى الطور وجاءه جبريل فأبصره دون الناس.
وقال الزمخشري : فإن قلت : لمَ سماه { الرسول } دون جبريل وروح القدس؟ قلت : حين حل ميعاد الذهاب إلى الطور أرسل الله إلى موسى جبريل راكب حيزوم فرس الحياة ليذهب به ، فأبصره السامري فقال : إن لهذا لشأناً فقبض القبضة من تربة موطئه ، فلما سأله موسى عن قصته قال قبضت من أثر فرس المرسل إليك يوم حلول الميعاد ، ولعله لم يعرف أنه جبريل انتهى.
وهو قول عليّ مع زيادة.
وقال أبو مسلم الأصبهاني : ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون ، وهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام ، وأثره سنته ورسمه الذي أمر به ، فقد يقول الرجل : فلان يقفو أثر فلان ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه ، والتقدير أن موسى لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القول في العجل { قال بصرت بما لم يبصروا به } أي عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق ، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول أي شيئاً من دينك { فنبذتها } أي طرحتها.

فعند ذلك أعلم موسى بما له من العذاب في الدنيا والآخرة وإنما أراد لفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له : ما يقول الأمير في كذا أو بماذا يأمر الأمير ، وتسميته رسولاً مع جحده وكفره ، فعلى مذهب من حكى الله عنه قوله { يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } فإن لم يؤمنوا بالإنزال قيل : وما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق إلاّ أن فيه مخالفة المفسرين.
قيل : ويبعد ما قالوه أن جبريل ليس معهوداً باسم رسول ، ولم يجر له فيما تقدم ذكر حتى تكون اللام في الرسول لسابق في الذكر ، ولأن ما قالوه لا بد من إضمار أي من أثر حافر فرس الرسول والإضمار خلاف الأصل ، ولأن اختصاص السامري برؤية جبريل ومعرفته من بين الناس يبعد جداً ، وكيف عرف أن حافر فرسه يؤثر هذا الأثر الغريب العجيب من إحياء الجماد به وصيرورته لحماً ودماً؟ وكيف عرف جبريل يتردّد إلى نبيّ وقد عرف نبوّته وصحت عنده فحاول الإضلال؟ ويكف اطلع كافر على تراب هذا شأنه؟ فلقائل أن يقول : لعل موسى اطلع على شيء آخر يشبه هذا فلأجله أتى بالمعجزات ، فيصير ذلك قادحاً فيما أتوا به من الخوارق انتهى.
ما رجح به هذا القائل قول أبي مسلم الأصبهاني.
{ وكذلك سوَّلت لي نفسي } أي كما حدث ووقع قربت لي نفسي وجعلته لي سولاً وإرباً حتى فعلته ، وكان موسى عليه السلام لا يقتل بني إسرائيل إلا في حد أو وحي ، فعاقبه باجتهاد نفسه بأن أبعده ونحاه عن الناس وأمر بني إسرائيل باجتنابه واجتناب قبيلته وأن لا يواكلوا ولا يناكحوا ، وجعل له أن يقول مدة حياته { لا مساس } أي لا مماسّة ولا إذاية.
وقال الزمخشري : عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطم منها وأوحش ، وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعاً كلياً ، وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضاً ، وإذا اتفق أن يماس أحداً رجلاً أو امرأة حمّ الماسّ والممسوس فتحامى الناس وتحاموه ، وكان يصيح { لا مساس } ويقال إن قومه باق فيهم ذلك إلى اليوم انتهى.
وكون الحمى تأخذ الماس والممسوس قول قتادة والأمر بالذهاب حقيقة ، ودخلت الفاء للتعقيب إثر المحاورة وطرده بلا مهلة زمانية ، وعبر بالمماسة عن المخالطة لأنها أدنى أسباب المخالطة فنبه بالأدنى على الأعلى ، والمعنى لا مخالطة بينك وبين الناس فنفر من الناس ولزم البرية وهجر البرية وبقي مع الوحوش إلى أن استوحش وصار إذا رأى أحداً يقول { لا مساس } أي لا تمسني ولا أمسك.

وقيل : ابتلي بعذاب قيل له { لا مساس } بالوسواس وهو الذي عناه الشاعر بقوله :
فأصبح ذلك كالسامري . . .
إذ قال موسى له لا مساسا
ومنه قول رؤبة :
حتى تقول الأزد لا مساسا . . .
وقيل : أراد موسى قتله فمنعه الله من قتله لأنه كان شيخاً.
قال بعض شيوخنا وقد وقع مثل هذا في شرعنا في قصة الثلاثة الذين خلفوا أمر الرسول عليه السلام أن لا يكلموا ولا يخالطوا وأن يعتزلوا نساءهم حتى تاب الله عليهم.
وقرأ الجمهور { لا مِسَاس } بفتح السين والميم المكسورة و { مساس } مصدر ماس كقتال من قاتل ، وهو منفي بلا التي لنفي الجنس ، وهو نفي أريد به النهي أي لا تمسني ولا أمسك.
وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب بفتح الميم وكسر السين.
فقال صاحب اللوامح : هو على صورة نزال ونظار من أسماء الأفعال بمعنى أنزل وأنظر ، فهذه الأسماء التي بهذه الصيغة معارف ولا تدخل عليها لا النافية التي تنصب النكرات نحو لا مال لك ، لكنه فيه نفي الفعل فتقديره لا يكون منك مساس ، ولا أقول مساس ومعناه النهي أي لا تمسني انتهى.
وظاهر هذا أن مساس اسم فعل.
وقال الزمخشري { لا مساس } بوزن فجار ونحوه قولهم في الظباء :
إن وردن الماء فلا عباب . . .
وإن فقدنه فلا إباب
وهي أعلام للمسة والعبة والأبة وهي المرة من الأب وهو الطلب.
وقال ابن عطية { لا مساس } هو معدول عن المصدر كفجار ونحوه ، وشبهه أبو عبيدة وغيره بنزال ودراك ونحوه ، والشبه صحح من حيث هي معدولات ، وفارقه في أن هذه عدلت عن الأمر ومساس وفجار عدلت عن المصدر.
ومن هذا قول الشاعر :
تميم كرهط السامري وقوله . . .
ألا لا يريد السامري مساس
انتهى.
فكلام الزمخشري وابن عطية يدل على أن مساس معدول عن المصدر الذي هو المسة ، كفجار معدولاً عن الفجرة { وإن لك موعداً } أي في يوم القيامة.
وقرأ الجمهور { لن تُخْلَفَهُ } بالتاء المضمومة وفتح اللام على معنى لن يقع فيه خلف بل ينجزه لك الله في الآخرة على الشرك والفساد بعدما عاقبك في الدنيا.
وقال الزمخشري : وهذا من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفاً.
قال الأعشى :
أثوى وقصر ليله ليزوّدا . . .
فمضى وأخلف من قتيلة موعدا
وقرأ ابن كثير والأعمش وأبو عمرو بضم التاء وكسر اللام أي لن تستطيع الروغان عنه والحيدة فتزول عن موعد العذاب.
وقرأ أبو نهيك : لن تَخْلُفُه بفتح التاء وضم اللام هكذا بالتاء منقوطة من فوق عن أبي نهيك في نقل ابن خالويه.
وفي اللوامح أبو نهيك لن يَخْلُفه بفتح الياء وضم اللام وهو من خلفه يخلفه إذا جاء بعده أي الموعد الذي لك لا يدفع قولك الذي تقوله فيما بعد { لا مساس } بالفعل فهو مسند إلى الموعد أو الموعد لن يختلف ما قدر لك من العذاب في الآخرة.

وقال سهل : يعني أبا حاتم لا يعرف لقراءة أبي نهيك مذهباً انتهى.
وقرأ ابن مسعود والحسن بخلاف عنه نخلفه بالنون وكسر اللام أي لا ننقص مما وعدنا لك من الزمان شيئاً.
وقال ابن جني لن يصادفه مخلفاً.
وقال الزمخشري : لن يخلفه الله.
حكى قوله عز وجل كما مر في { لأهب لك } انتهى.
ثم وبخ موسى عليه السلام السامري بما أراد أن يفعل بالعجل الذي اتخذه إلهاً من الاستطالة عليه بتغيير هيئته ، فواجهه بقوله { وانظر إلى إلهك } وخاطبه وحده إذ كان هو رأس الضلال وهو ينظر لقولهم { لن نبرح عليه عاكفين } وأقسم { لنحرقنه } وهو أعظم فساد الصورة { ثم لننسفنه في اليم } حتى تتفرق أجزاؤه فلا يجتمع ، ويظهر أنه لما كان قد أخذ السامري القبضة من أثر فرس جبريل وهو داخل البحر حالة تقدم فرعون وتبعه فرعون في الدخول ناسب أن ينسف ذلك العجل الذي صاغه السامري من الحليّ الذي كان أصله للقبط.
وألقى فيه القبضة في البحر ليكون ذلك تنبيهاً على أن ما كان به قيام الحياة آل إلى العدم.
وأُلقي في محل ما قامت به الحياة وإن أموال القبط قذفها الله في البحر بحيث لا ينتفع بها كما قذف الله أشخاص مالكيها في البحر وغرقهم فيه.
وقرأ الجمهور ونصر بن عاصم لابن يعمر { ظَلْتَ } بظاء مفتوحة ولام ساكنة.
وقرأ ابن مسعود وقتادة والأعمش بخلاف عنه وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن يعمر بخلاف عنه كذلك إلا أنهم كسروا الظاء ، وعن ابن يعمر ضمها وعن أُبَيّ والأعمش ظللت بلامين على الأصل ، فأما حذف اللام فقد ذكره سيبويه في الشذوذ يعني شذوذ القياس لا شذوذ الاستعمال مع مست وأصله مسست وأحست أصله أحسست ، وذكر ابن الأنباري همت وأصله هممت ولا يكون ذلك إلاّ إذا سكن آخر الفعل نحو ظلت إذ أصله ظللت.
وذكر بعض من عاصرناه أن ذلك منقاس في كل مضاعف العين واللام في لغة بني سليم حيث تسكن آخر الفعل.
وقد أمعنّا الكلام على هذه المسألة في شرح التسهيل من تأليفنا ، فأما من كسر الظاء فلأنه نقل حركة اللام إلى الظاء بعد نزع حركتها تقديراً ثم حذف اللام ، وأما من ضمها فيكون على أنه جاء في بعض اللغات على فعل بضم العين فيهما ، ونقلت ضمة اللام إلى الظاء كما نقلت في حالة الكسر على ما تقرر.
وقرأ الجمهور { لنحرّقنه } مشدداً مضارع حرَّق مشدداً.
وقرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر وأبو رجاء والكلبي مخففاً من أحرق رباعياً.
وقرأ عليّ وابن عباس وحميد وأبو جعفر في رواية وعمرو بن فائد بفتح النون وسكون الحاء وضم الراء ، والظاهر أن حرق وأحرق هو بالنار.

وأما القراءة الثالثة فمعناها لنبردنه بالمبرد يقال حرق يحرق ويحرق بضم راء المضارع وكسرها.
وذكر أبو عليّ أن التشديد قد يكون مبالغة في حرق إذا برد بالمبرد.
وفي مصحف أُبَيّ وعبد الله لنذبحنه ثم لنحرقنه ثم لننسفنه وتوافق هذه القراءة من روى أنه صار لحماً ودماً ذا روح ، ويترتب الإحراق بالنار على هذا ، وأما إذا كان جماداً مصوغاً من الحليّ فيترتب برده لا إحراقه إلا إن عنى به إذابته.
وقال السّدي : أمر موسى بذبح العجل فذبح وسال منه الدم ثم أحرق ونسف رماده.
وقيل : بردت عظامه بالمبرد حتى صارت بحيث يمكن نسفها.
وقرأ الجمهور { لَنَنسِفَنَّهُ } بكسر السين.
وقرت فرقة منهم عيسى بضم السين.
وقرأ ابن مقسم : لِنُنَسِّفنه بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين.
والظاهر وقول الجمهور أن موسى تعجل وحده فوقع أمر العجل ، ثم جاء موسى وصنع بالعجل ما صنع ثم خرج بعد ذلك بالسبعين على معنى الشفاعة في ذنب بني إسرائيل وأن يطلعهم أيضاً على أمر المناجاة ، فكان لموسى عليه السلام نهضتان.
وأسند مكي خلاف هذا أن موسى كان مع السبعين في المناجاة وحينئذ وقع أمر العجل ، وأن الله أعلم موسى بذلك فكتمه عنهم وجاء بهم حتى سمعوا لغط بني إسرائيل حول العجل ، فحينئذ أعلمهم موسى انتهى.
ولما فرغ من إبطال ما عمله السامري عاد إلى بيان الدين الحق فقال { إنما إلهكم الله } وقرأ الجمهور { وسع } فانتصب علماً على التمييز المنقول من الفاعل ، وتقدم نظيره في الأنعام.
وقرأ مجاهد وقتادة وسَّع بفتح السين مشددة.
قال الزمخشري : وجهه أن { وسعْ } متعد إلى مفعول واحد وهو كل شيء.
وأما { عِلماً } فانتصابه على التمييز وهو في المعنى فاعل ، فلما ثقل نقل إلى التعدية إلى مفعولين فنصبهما معاً على المفعولية ، لأن المميز فاعل في المعنى كما تقول : خاف زيد عمراً خوّفت زيداً عمراً ، فترد بالنقل ما كان فاعلاً مفعولاً.
وقال ابن عطية { وسع } بمعنى خلق الأشياء وكثرها بالاختراع فوسعها موجودات انتهى.

كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)

نسف ينسف بكسر سين المضارع وضمها نسفاً فرّق وذرى.
وقال ابن الأعرابي : قلع من الأصل.
الزرقة : لون معروف ، يقال : زرقت عينه وازرَّقت وازراقت ، القاع قال ابن الأعرابي : الأرض الملساء لا نبات فيها ولا بناء.
وقال الجوهري : المستوي من الأرض.
ومنه قول ضرار بن الخطاب :
ليكونن بالبطاح قريش . . .
فقعة القاع في أكف الإماء
والجمع أقوع وأقواع وقيعان.
وحكى مكي أن القاع في اللغة المكان المنكشف.
وقال بعض أهل اللغة : القاع مستنقع الماء.
الصفصف : المستوى الأملس.
وقيل : الذي لا نبات فيه ، وهو مضاعف كالسبسب.
الأمت : التل.
والعوج : التعوج في الفجاج قاله ابن الأعرابي.
الهمس : الصوت الخفي قاله أبو عبيدة.
وقيل : وطء الأقدام.
قال الشاعر :
وهن يمشين بنا هميساً . . .
ويقال للأسد الهموس لخفاء وطئه ، ويقال همس الطعام مضغه.
عنا يعنو : ذل وخضع ، وأعناه غيره أذلة.
وقال أمية بن أبي الصلت :
مليك على عرش السماء مهيمن . . .
لعزته تعنو الوجوه وتسجد
الهضم : النقص تقول العرب : هضمت لك حقي أي حططت منه ، ومنه هضيم الكشحين أي ضامرهما وفي الصحاح : رجل هضيم ومتهضم مظلوم وتهضمه واهتضمه ظلمه.
وقال المتوكل الليثي :
إن الأذلة واللئام لمعشر . . .
مولاهم المتهضم المظلوم
{ كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكراً من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً.
خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملاً.
يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشراً نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوماً.
ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً.
فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكراً فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علماً }.
ذلك إشارة إلى نبأ موسى وبني إسرائيل وفرعون أي كقصنا هذا النبأ الغريب نقص عليك من أنباء الأمم السابقة ، وهذا فيه ذكر نعمة عظيمة وهي الإعلام بأخبار الأمم السالفة ليتسلى بذلك ويعلم أن ما صدر من الأمم لرسلهم وما قاست الرسل منهم ، والظاهر أن الذكر هنا القرآن امتن تعالى عليه بإيتائه الذكر المشتمل على القصص والأخبار الدال ذلك على معجزات أوتيها.

وقال مقاتل : { ذكراً } بياناً.
وقال أبو سهل : شرفاً وذكراً في الناس.
{ من أعرض عنه } أي عن القرآن بكونه لم يؤمن به ولم يتبع ما فيه.
وقرأ الجمهور { يحمل } مضارع حمل مخففاً مبنياً للفاعل.
وقرأت فرقة منهم داود بن رفيع : يُحَمِّل مشدد الميم مبنياً للمفعول لأنه يكلف ذلك لا أنه يحمله طوعاً و { وزراً } مفعول ثان و { وزراً } ثقلاً باهظاً يؤده حمله وهو ثقل العذاب.
وقال مجاهد : إثماً.
وقال الثوري شركاً والظاهر أنه عبَّر عن العقوبة بالوزر لأنه سببها ولذلك قال { خالدين فيه } أي في العذاب والعقوبة وجمع خالدين ، والضمير في { لهم } حملاً على معنى من بعد الحمل على لفظها في أعرض وفي فإنه يحمل ، والمخصوص بالذم محذوف أي وزرهم و { لهم } للبيان كهي في { هيت لك } لا متعلقة بساء { وساء } هنا هي التي جرت مجرى بئس لا ساء التي بمعنى أحزن وأهم لفساد المعنى.
ويوم ننفخ بدل من يوم القيامة.
وقرأ الجمهور { يُنفخ } مبنياً للمفعول { ونحشر } بالنن مبنياً للفاعل بنون العظمة.
وقرأ أبو عمرو وابن محيصن وحميد : ننفخ بنون العظمة لنحشر أسند النفخ إلى الآمرية ، والنافخ هو إسرافيل ولكرامته أسند ما يتولاه إلى ذاته المقدسة و { الصور } تقدم الكلام فيه في الأنعام.
وقرىء يَنْفُخُ ويَحْشُرُ بالياء فيهما مبنياً للفاعل.
وقرأ الحسن وابن عياض في جماعة { في الصور } على وزن درر والحسن : يُحْشَرُ ، بالياء مبنياً للمفعول ، ويَحْشُرُ مبنياً للفاعل ، وبالياء أي ويحشر الله.
والظاهر أن المراد بالزرق زرقة العيون ، والزرقة أبغض ألوان العيون إلى العرب لأن الروم أعداؤهم وهم زرق العيون ، ولذلك قالوا في صفة العدو : أسود الكبد ، أصهب السبال ، أزرق العين.
وقال الشاعر :
وما كنت أخشى أن تكون وفاته . . .
بكفي سبنتي أزرق العين مطرق
وقد ذكر في آية أخرى أنهم يحشرون سود الوجوه ، فالمعنى تشويه الصورة من سواد الوجه وزرقة العين وأيضاً فالعرب تتشاءم بالزرقة.
قال الشاعر :
لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر . . .
ألا كل عليسى من اللؤم أزرق
وقيل : المعنى عمياً لأن العين إذا ذهب نورها ازرقَّ ناظرها ، وبهذا التأويل يقع الجمع بين قوله { زرقاً } في هذه الآية و { عمياً } في الآية الأخرى.
وقيل : زرق ألوان أبدانهم ، وذلك غاية في التشويه إذ يجيؤن كلون الرماد وفي كلام العرب يسمى هذا اللون أزرق ، ولا تزرق الجلود إلا من مكابدة الشدائد وجفوف رطوبتها.
وقيل : { زرقاً } عطاشاً والعطش الشديد يرد سواد العين إلى البياض ، ومنه قولهم سنان أزرق وقوله :
فلما وردن الماء زرقاً جمامه . . .
أي ابيض ، وذكرت الآيتان لابن عباس فقال : ليوم القيامة حالات فحالة يكونون فيها زرقاً وحالة يكونون عمياً.
{ يتخافتون } يتسارّون لهول المطلع وشدة ذهاب أذهانهم قد عزب عنهم قدر المدة التي لبثوا فيها { إن لبثتم } أي في دار الدنيا أو في البرزح أو بين النفختين في الصور ثلاثة أقوال ، ووصف ما لبثوا فيه بالقصر لأنها لما يعاينون من الشدائد كانت لهم في الدنيا أيام سرور ، وأيام السرور قصار أو لذهابها عنهم وتقضيها ، والذاهب وإن طالت مدته قصير بالانتهاء ، أو لاستطالتهم الآخرة وأنها أبد سرمد يستقصر إليها عمر الدنيا ، ويقال لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة و { إذ } معمولة لأعلم.

و { أمثلهم } أعدلهم.
و { طريقة } منصوبة على التمييز.
{ إلاّ يوماً } إشارة لقصر مدة لبثهم.
و { إلا عشراً } يحتمل عشر ليال أو عشرة أيام ، لأن المذكر إذا حذف وأبقي عدده قد لا يأتي بالتاء.
حكى الكسائي عن أبي الجراح : صمنا من الشهر خمساً ، ومنه ما جاء في الحديث ثم أتبعه بست من شوال ، يريد ستة أيام وحسن الحذف هنا كون ذلك فاصلة رأس آية ذكر أولاً منتهى أقل العدد وهو العشر ، وذكر أعدلهم طريقة أقل العدد ، وهو اليوم الواحد ودل ظاهر قوله { إلاّ يوماً } على أن المراد بقولهم { عشراً } عشرة أيام.
وضمير الغائب في { ويسألونك } عائد على قريش منكري البعث أو على المؤمنين سألوا عن ذلك ، أو على رجل من ثقيف وجماعة من قومه أقوال ثلاثة.
والكاف خطاب للرّسول صلى الله عليه وسلم ، والظاهر وجود السؤال ويبعد قول من قال إنه لم يكن سؤال بل المعنى أن يسألوك { عن الجبال فقل } فضمن معنى الشرط ، فلذلك أجيب بالفاء وروي أن الله يرسل على الجبال ريحاً فيدكدكها حتى تكون كالعهن المنفوش ، ثم يتوالى عليها حتى يعيدها كالهباء المنبث فذلك هو النسف ، والظاهر عود الضمير في { فيذرها } على الجبال أي بعد النسف تبقى { قَاعاً } أي مستوياً من الأرض معتدلاً.
وقيل فيذر مقارها ومراكزها.
وقيل : يعود على الأرض وإن لم يجر لها ذكر لدلالة الجبال عليها.
وقال ابن عباس { عوجاً } ميلاً { ولا أمتاً } أثراً مثل الشراك.
وعنه أيضاً { عوجاً } وادياً { ولا أمتاً } رابية.
وعنه أيضاً الأمت الارتفاع.
وقال قتادة { عوجاً } صدعاً { ولا أمتاً } أكمة.
وقيل : الأمت الشقوق في الأرض.
وقيل : غلظ مكان في الفضاء والجبل ويرق في مكان حكاه الصولي.
وقيل : كان الأمت في الآية العوج في السماء تجاه الهواء ، والعوج في الأرض مختص بالأرض.
وقال الزمخشري : فإن قلت : قد فرقوا بين العوج والعوج فقالوا : العِوَج بالكسر في المعاني ، والعَوَج بالفتح في الأعيان والأرض ، فكيف صح فيها المكسور العين؟ قلت : اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء والملاسة ونفي الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون ، وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسوّيتها وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلاحة ، واتفقتم على أن لم يبق فيها اعوجاج قط ثم استطلعت رأي المهندس فيها وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية لعثر فيها على عوج في غير موضع لا يدرك بذلك بحاسة البصر ، ولكن بالقياس الهندسي فنفى الله عز وجل ذلك العوج الذي دق ولطف عن الإدراك اللهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة ، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلاّ بالقياس دون الإحساس لحق بالمعاني فقيل فيه عوج بالكسر.

الأمت النتوء اليسير ، يقال : مدّ حبله حتى ما فيه أمت انتهى.
{ يومئذ } أي يوم إذ ينسف الله الجبال { يتبعون } أي الخلائق { الداعي } داعي الله إلى المحشر نحو قوله { مهطعين إلى الداع } وهو إسرافيل يقوم على صخرة بيت المقدس يدعو الناس فيقبلون من كل جهة يضع الصور في فيه ، ويقول : أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرّقة هلم إلى العرض على الرحمن.
وقال محمد بن كعب : يجمعون في ظلمة قد طويت السماء وانتثرت النجوم فينادي مناد فيموتون موته.
وقال عليّ بن عيسى { الداعي } هنا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعوهم إلى الله فيعوجون على الصراط يميناً وشمالاً ويميلون عنه ميلاً عظيماً ، فيومئذ لا ينفعهم اتباعه ، والظاهر أن الضمير في { له } عائد على { الداعي } نفى عنه العوج أي { لا عوج } لدعائه يسمع جميعهم فلا يميل إلى ناس دون ناس.
وقيل : هو على القلب أي { لا عوج } لهم عنه بل يأتون مقبلين إليه متبعين لصوته من غير انحراف.
وقال الزمخشري : أي لا يعوج له مدعوّ بل يستوون إليه انتهى.
وقيل { لا عوج له } في موضع وصف لمنعوت محذوف أي اتباعاً { لا عوج له } فيكون الضمير في { له } عائداً على ذلك المصدر المحذوف.
وقال ابن عطية يحتمل أن يريد به الإخبار أي لا شك فيه ، ولا يخالف وجوده خبره ويحتمل أن يريد لا محيد لأحد عن اتباعه ، والمشي نحو صوته والخشوع التطامن والتواضع وهو في الأصوات استعارة بمعنى الخفاء.
والاستسرار للرحمن أي لهيبة الرحمن وهو مطلع قدرته.
وقيل هو على حذف مضاف أي وخشع أهل الأصوات والهمس الصوت الخفي الخافت ، ويحتمل أن يريد بالهمس المسموع تخافتهم بينهم وكلامهم السر ، ويحتمل أن يريد صوت الأقدام وأن أصوات النطق ساكنة.
وقال الزمخشري : { إلا همساً } وهو الركز الخفي ومنه الحروف المهموسة.
وقيل : هو من همس الإبل وهو صوت إخفافها إذا مشت ، أي لا يسمع إلا خَفْقُ الأقدام ونقلها إلى المحشر انتهى.
وعن ابن عباس وعكرمة وابن جبير : الهمس وطء الإقدام ، واختاره الفراء والزجاج وعن ابن عباس أيضاً تحريك الشفاه بغير نطق ، وعن مجاهد الكلام الخفي ويؤيده قراءة أُبَيّ فلا ينطقون { إلا همساً } وعن أبي عبيدة الصوت الخفي يومئذ بدل من { يومئذ يتبعون } أو يكون التقدير يوم إذ { يتبعون } ويكون منصوباً بلا تنفع و { منْ } مفعول بقوله { لا تنفع }.
و { له } معناه لأجله وكذا في ورضي له أي لأجله ، ويكون من للمشفوع له أو بدل من الشفاعة على حذف مضاف أي إلاّ شفاعة من أذن له أو منصوب على الاستثناء على هذا التقدير ، أو استثناء منقطع فنصب على لغة الحجاز ، ورفع على لغة تميم ، ويكون { من } في هذه الأوجه للشافع والقول المرضي عن ابن عباس لا إله إلا الله.

والظاهر أن الضمير في { أيديهم وما خلفهم } عائد على الخلق المحشورين وهم متبعو الداعي.
وقيل : يعود على الملائكة.
وقيل : على الناس لا بقيد الحشر والاتباع ، وتقدم تفسير هذه الجملة في آية الكرسي في البقرة ، والضمير في { به } عائد على { ما } أي { ولا يحيطون } بمعلوماته { علماً } والظاهر عموم { الوجوه } أي وجوه الخلائق ، وخص { الوجوه } لأن آثار الذل إنما تظهر في أول { الوجوه }.
وقال طلق بن حبيب : المراد سجود الناس على الوجوه والآراب السبعة ، فإن كان روى أن هذا يكون يوم القيامة فتكون الآية إخباراً عنه ، واستقام المعنى وإن كان أراد في الدنيا فليس ذلك بملائم للآيات التي قبلها وبعدها.
وقال الزمخشري : المراد بالوجود وجوه العصاة وأنهم إذا عاينوا يوم القيامة الخيبة والشقوة وسوء الحساب صارت وجوههم عانية أي ذليلة خاضعة مثل وجوه العناة وهم الأسارى ونحوه { فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا } { ووجوه يومئذ باسرة } و { القيوم } تقدم الكلام عليه في البقرة.
{ وقد خاب } أي لم ينجح ولا ظفر بمطلوبه ، والظلم يعم الشرك والمعاصي وخيبة كل حامل بقدر ما حمل من الظلم ، فخيبة المشرك دائماً وخيبة المؤمن العاصي مقيدة بوقت في العقوبة إن عوقب.
ولما خص الزمخشري الوجوه بوجوه العصاة قال في قوله { وقد خاب من حمل ظلماً } أنه اعتراض كقولك : خابوا وخسروا حتى تكون الجملة دخلت بين العصاة وبين من يعمل من الصالحات ، فهذا عنده قسيم { وعنت الوجوه }.
وأما ابن عطية فجعل قوله { ومن يعمل } - إلى - { هضماً } معادلاً لقوله { وقد خاب من حمل ظلماً } لأنه جعل { وعنت الوجوه } عامة في وجوه الخلائق.
و { من الصالحات } بيسير في الشرع لأن { من } للتبعيض والظلم مجاوزة الحد في عظم سيئاته ، والهضم نقص من حسناته قاله ابن عباس.
وقال قتادة : الظلم أن يزاد من ذنب غيره.
وقال ابن زيد : الظلم أن لا يجزى بعمله.
وقيل : الظلم أن لا يجزى بعمله ، وقيل : الظلم أن يأخذ من صاحبه فوق حقه ، والهضم أن يكسر من حق أخيه فلا يوفيه له كصفة المطفقين يسترجحون لأنفسهم إذا اكتالوا ويخسرون إذا كالوا انتهى.
والظلم والهضم متقاربان.
قال الماوردي : والفرق أن الظلم منع الحق كله والهضم منع بعضه.
وقرأ الجمهور { فلا يخاف } على الخبر أي فهو لا يخاف.
وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد فلا يَخَفْ على النهي { وكذلك } عطف على كذلك نقص أي ومثل ذلك الإنزال أو كما أنزلنا عليك هذه الآيات المضمنة الوعيد أنزلنا القرآن كله على هذه الوتيرة مكررين فيه آيات الوعيد ليكونوا بحيث يراد منهم ترك المعاصي أو فعل الخير والطاعة ، والذكر يطلق على الطاعة والعبادة.

وقيل : كما قدرنا هذه الأمور وجعلناها حقيقة بالمرصاد للعباد كذلك حذرنا هؤلاء أمرها و { أنزلناه قرآناً عربياً } وتوعدنا فيه بأنواع { من الوعيد لعلهم } بحسب توقع الشر وترجيهم { يتقون } الله ويخشون عقابه فيؤمنون ويتذكرون نعمه عندهم ، وما حذرهم من أليم عقابه هذا تأويل فرقة في قوله { أو يحدث لهم ذكراً } وقالت فرقة : معناه أو يكسبهم شرفاً ويبقي عليهم إيمانهم ذكراً صالحاً في الغابرين.
وقيل : المعنى كما رغبنا أهل الإيمان بالوعد حذرنا أهل الشرك بالوعيد { وصرّفنا فيه من الوعيد } كالطوفان والصيحة والرجفة والمسخ ، ولم يذكر الوعد لأن الآية سيقت مساق التهديد { لعلهم يتقون } أي ليكونوا على رجاء من أن يوقع في قلوبهم الاتقاء أو يتقون أن ينزل بهم ما نزل بمن تقدّمهم أي { يحدث لهم ذكراً } أي عظة وفكراً واعتباراً.
وقال قتادة : ورعاً.
وقيل : أنزل القرآن ليصيروا محترزين عمالاً ينبغي { أو يحدث لهم ذكراً } يدعوهم إلى الطاعات ، وأسند ترجي التقوى إليهم وترجي إحداث الذكر للقرآن لأن التقوى عبارة عن انتفاء فعل القبيح ، وذلك استمرار على العدم الأصلي فلم يسند القرآن وأسند إحداث الذكر إلى القرآن لأنه أمر حدث بعد أن لم يكن والظاهر أن أو هنا لأحد الشيئين.
قيل : { أو } كهي في جالس أو ابن سيرين أي لا تكن خالياً منهما.
وقرأ الحسن { أو يحدث } ساكنة الثاء.
وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو حيوة والحسن في رواية والجحدري وسلام ، أو نحدث بالنون وجزم الثاء ، وذلك حمل وصل على وقف أو تسكين حرف الإعراب استثقالاً لحركته نحو قول جرير :
أو نهر تيري فلا تعرفكم العرب . . .
ولما كان فيما سبق تعظيم القرآن في قوله { وقد آتيناك من لدنّا ذكراً } { وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً } ذكر عظمة منزله تعالى ثم ذكر هاتين الصفتين وهي صفة { الملك } التي تضمنت القهر ، والسلطنة والحق وهي الصفة الثابتة له إذ كل من يدعي إلهاً دونه باطل لا سيما الإله الذي صاغوه من الحلي ومضمحل ملكه ومستعار ، وتقدّم أيضاً صفة سلطانه يوم القيامة وعظم قدرته وذلة عبيده وحسن تلطفه بهم ، فناسب تعاليه ووصفه بالصفتين المذكورتين ، ولما ذكر القرآن وإنزاله قال على سبيل الاستطراد طالباً منه التأني في تحفظ القرآن { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقْضَى إليك وحيه } أي تأن حتى يفرغ الملقى إليك الوحي ولا تساوق في قراءتك قراءته وإلقاءه ، كقوله تعالى { لا تحرك به لسانك لتعجل به } وقيل : معناه لا تبلغ ما كان منه مجملاً حتى يأتيك البيان.
وقيل : سبب الآية " أن امرأة شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن زوجها لطمها ، فقال لها «بينكما القصاص» " ثم نزلت { الرجال قوامون على النساء } ونزلت هذه بمعنى الأمر بالتثبت في الحكم بالقرآن.

وقيل : كان إذا نزل عليه الوحي أمر بكتبه للحين ، فأمر أن يتأنى حتى يفسر له المعاني ويتقرر عنده.
وقال الماوردي : معناه ولا تسأل قبل أن يأتيك الوحي إن أهل مكة وأسقف نجران قالوا : يا محمد أخبرنا عن كذا وقد ضربنا لك أجلاً ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه ، وفشت المقالة بين اليهود قد غلب محمد فنزلت { ولا تعجل بالقرآن } أي بنزوله.
وقال أبو مسلم { ولا تعجل } بقراءته في نفسك أو في تأديته إلى غيرك أو في اعتقاد ظاهره أو في تعريف غيرك ما يقتضيه ظاهره احتمالات.
{ من قبل أن يقضى إليك وحيه } أي تمامه أو بيانه احتمالات ، فالمراد إذاً أن لا ينصب نفسه ولا غيره عليه حتى يتبين بالوحي تمامه أو بيانه أو هما جميعاً ، لأنه يجب التوقف في المعنى لما يجوز أن يحصل عقيبه من استثناء أو شرط أو غيرهما من المخصصات ، وهذه العجلة لعله فعلها باجتهاده عليه السلام انتهى.
وفيه بعض تلخيص.
وقرأ الجمهور : { يُقضى إليك } مبنياً للمفعول { وحيه } مرفوع به.
وقرأ عبد الله والجحدري والحسن وأبو حيوة ويعقوب وسلام والزعفراني وابن مقسم نقضي بنون العظمة مفتوح الياء وحيه بالنصب.
وقرأ الأعمش كذلك إلا أنه سكن الياء من يقضي.
قال صاحب اللوامح : وذلك على لغة من لا يرى فتح الياء بحال إذا انكسر ما قبلها وحلت طرفاً انتهى.
{ وقل رب زدني علماً } قال مقاتل أي قرآناً.
وقيل : فهماً.
وقيل : حفظاً وهذا القول متضمن للتواضع لله والشكر له عند ما علم من ترتيب التعلم أي علمتني مآرب لطيفة في باب التعلم وأدباً جميلاً ما كان عندي ، فزدني علماً.
وقيل : ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلاّ في طلب العلم.

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)

عرى يُعَرَّى لم يكن على جلده شيء يقيه.
قال الشاعر :
وإن يعرين إن كسى الجواري . . .
فتنبو العين عن كرم عجاف
ضحى يضحي : برز للشمس.
قال عمرو بن أبي ربيعة :
رأت رجلاً أيما إذا الشمس عارضت . . .
فيضحي وأما بالعشي فيحضر
الضنك : الضيق والشدّة ، ضنك عيشه يضنك ضناكة وضنكاً ، وامرأة ضناك كثيرة اللحم صار جلدها به.
{ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإمّا يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولَعذاب الآخرة أشد وأبقى }.
تقدّمت قصة آدم في البقرة والأعراف والحجر والكهف ، ثم ذكر ههنا لما تقدّم { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق } كان من هذا الإنباء قصة آدم ليتحفظ بنوه من وسوسة الشيطان ويتنبهوا على غوائله ، ومن أطاع الشيطان منهم ذكر بما جرى لأبيه آدم معه وأنه أوضحت له عداوته ، ومع ذلك نسي ما عهد إليه ربه وأيضاً لما أمر بأن يقول { رب زدني علماً } كان من ذلك ذكر قصة آدم وذكر شيء من أحواله فيها لم يتقدّم ذكرها ، فكان في ذلك مزيد علم له عليه السلام ، والعهد عند الجمهور الوصية.
والظاهر أن المضاف إليه المحذوف بعد قوله { من قبل } تقديره { من قبل } هؤلاء الذين صرف لهم من الوعيد في القرآن لعلهم يتقون ، وهم الناقضو عهد الله والتاركو الإيمان.
وقال الحسن : { من قبل } الرسول والقرآن.
وقيل : { من قبل } أن يأكل من الشجرة.
وقال الطبري : المعنى أن يعرض يا محمد هؤلاء الكفرة عن آياتي ويخالفوا رسلي ويطيعوا إبليس ، فقدما فعل ذلك أبوهم آدم.
قال ابن عطية : وهذا ضعيف وذلك أن كون آدم مثالاً للكفار الجاحدين بالله ليس بشيء ، وآدم عليه السلام إنما عصى بتأويل ففي هذا غضاضته عليه السلام ، وإنما الظاهر في هذه الآية إما أن يكون ابتداء قصص لا تعلق له بما قبله ، وإما أن يجعل تعلقه إنما هو لما عهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن لا يعجل بالقرآن مثل له بنبيّ قبله عهد إليه { فنسي } فعرف ليكون أشد في التحذير وأبلغ في العهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال الزمخشري : يقال في أوامر الملوك ووصاياهم : تقدم الملك إلى فلان وأوغر عليه وعزم عليه وعهد إليه ، عطف الله سبحانه وتعالى قصة آدم على قوله { وصرّفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون } والمعنى وأقسم قسماً لقد أمرنا أباهم آدم ووصيناه أن لا يقرب الشجرة ، وتوعدناه بالدخول في جملة الظالمين إن قربها وذلك { من قبل } وجودهم و { من قبل } أن نتوعدهم فخالف إلى ما نُهي عنه وتوعد في ارتكابه مخالفتهم ، ولم يلتفت إلى الوعيد كما لا يلتفتون كأنه يقول : إن أساس أمر بني آدم على ذلك وعرقهم راسخ فيه انتهى.
والظاهر أن النسيان هنا الترك إن ترك ما وصى به من الاحتراس عن الشجرة وأكل ثمرتها.
وقال الزمخشري : يجوز أن يراد بالنسيان الذي هو نقيض الذكر وأنه لم يعن بالوصية العناية الصادقة ولم يستوثق منها بعقد القلب عليها وضبط النفس حتى تولد من ذلك النسيان انتهى.
وقاله غيره.
وقال ابن عطية : ونسيان الذهول لا يمكن هنا لأنه لا يتعلق بالناسي عقاب انتهى.
وقرأ اليماني والأعمش فَنُسِّيَ بضم النون وتشديد السين أي نسّاه الشيطان ، والعزم التصميم والمضي.
قال الزمخشري : أي على ترك الأكل وأن يتصلب في ذلك تصلباً يؤيس الشيطان من التسويل له ، والوجود يجوز أن يكون بمعنى العلم ومفعولاه { له عزماً } وأن يكون نقيض العدم كأنه قال وعد منا { له عزماً } انتهى.
وقيل { ولم نجد له عزماً } على المعصية وهذا يتخرج على قول من قال إنه فعل نسياناً.
وقيل : حفظاً لما أمر به.
وقيل : صبراً عن أكل الشجرة.
وقيل { عزماً } في الاحتياط في كيفية الاجتهاد.
وتقدم الكلام على نظير قوله { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس أبى } و { أبى } جملة مستأنفة مبينة أن امتناعه من السجود إنما كان عن إباء منه وامتناع ، والظاهر حذف متعلق { أبى } وأنه يقدر هنا ما صرح به في الآية الأخرى { أبى أن يكون مع الساجدين } وقال الزمخشري { أبى } جملة مستأنفة كأنه جواب قائل قال : لمَ لمْ يسجد؟ والوجه أن لا يقدر له مفعول وهو السجود المدلول عليه بقوله { اسجدوا } وأن يكون معناه أظهر الإباء وتوقف وتثبط انتهى.
و { هذا } إشارة إلى إبليس و { عدو } يطلق على الواحد والمثنى والمجموع ، عرف تعالى آدم عداوة إبليس له ولزوجته ليحذراه فلن يغنيَ الحذر عن القدر ، وسبب العداوة فيما قيل إنّ إبليس كان حسوداً فلما رأى آثار نعم الله على آدم حسده وعاداه.
وقيل : العداوة حصلت من تنافي أصليهما إذ إبليس من النار وآدم من الماء والتراب { فلا يخرجنكما } النهي له والمراد غيره أي لا يقع منكما طاعة له في إغوائه فيكون ذلك سبب خروجكما من الجنة ، وأسند الإخراج إليه وإن كان المخرج هو الله تعالى لما كان بوسوسته هو الذي فعل ما ترتب عليه الخروج { فتشقى } يحتمل أن يكون منصوباً بإضمار أن في جواب النهي ، وأن يكون مرفوعاً على تقدير فأنت تشقى.

وأسند الشقاء إليه وحده بعد اشتراكه مع زوجه في الإخراج من حيث كان هو المخاطب أولاً والمقصود بالكلام ولأن في ضمن شقاء الرجل شقاء أهله ، وفي سعادته سعادتها فاختصر الكلام بإسناده إليه دونها مع المحافظة على الفاصلة.
وقيل : أراد بالشقاء التعب في طلب القوت وذلك راجع إلى الرجل.
وعن ابن جبير : أهبط له ثور أحمر يحرث عليه فيأكل بكد يمينه وعرق جبينه.
وقرأ شيبة ونافع وحفص وابن سعدان { وإنك لا تظمأ } بكسر همزة وإنك.
وقرأ الجمهور بفتحها فالكسر عطف على أن لك ، والفتح عطف على المصدر المنسبك من أن لا تجوع ، أي أن لك انتفاء جوعك وانتفاء ظمئك ، وجاز عطف { أنك } على أن لاشتراكهما في المصدر ، ولو باشرتها إن المكسورة لم يجز ذلك وإن كان على تقديرها ألا ترى أنها معطوفة على اسم إن ، وهو أن لا تجوع لكنه يجوز في العطف ما لا يجوز في المباشرة ، ولما كان الشبع والري والكسوة والسكن هي الأمور التي هي ضرورية للإنسان اقتصر عليها لكونها كافية له.
وفي الجنة ضروب من أنواع النعيم والراحة ما هذه بالنسبة إليها كالعدم فمنها الأمن من الموت الذي هو مكدر لكل لذة ، والنظر إلى وجه الله سبحانه ورضاه تعالى عن أهلها ، وأن لا سقم ولا حزن ولا ألم ولا كبر ولا هرم ولا غل ولا غضب ولا حدث ولا مقاذير ولا تكليف ولا حزن ولا خوف ولا ملل ، وذكرت هذه الأربعة بلفظ النفي لأثبات أضدادها وهو الشبع والري والكسوة والسكن ، وكانت نقائضها بلفظ النفي وهو الجوع والعُري والظمأ والضحو ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة التي حذره منها حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها.
قال ابن عطية : وكان عرف الكلام أن يكون الجوع مع الظمأ والعُري مع الضحاء لأنها تتضاد إذ العُري نفسه البرد فيؤذي والحر يفعل ذلك بالضاحي ، وهذه الطريقة مهيع في كلام العرب أن يقرن النسب.
ومنه قول امرىء القيس :
كأني لم أركب جواداً للذة . . .
ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبأ الرق الروي ولم أقل . . .
لخيلي كري كرة بعد إجفال
وقد ذهب بعض الأدباء إلى أن بيتي امرىء القيس كافطاني للنسب ، وأن ركوب الخيل للصيد وغيره من الملاذ يناسب تبطن الكاعب انتهى.
وقيل : هذا الجواب على قدر السؤال لما أمر الله آدم بسكنى الجنة قال : إلهي ألي فيها ما آكل؟ ألي فيها ما ألبس؟ ألي فيها ما أشرب؟ ألي فيها ما أستظل به؟ وقيل : هي مقابلة معنوية ، فالجوع خلو الباطن ، والتعري خلو الظاهر ، والظمأ إحراق الباطن ، والضحو إحراق الظاهر فقابل الخلو بالخلو والإحراق بالإحراق.

وقيل : جمع امرؤ القيس في بيتيه بين ركوب الخيل للذة والنزهة ، وبين تبطن الكاعب للذة الحاصلة فيهما ، وجمع بين سباء الرق وبين قوله لخيله كري لما فيهما من الشجاعة ولما عيب على أبي الطيب قوله :
وقفت وما في الموت شك لواقف . . .
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال هَزْمَى كليمة . . .
ووجهك وضاح وثغرك باسم
فقال : إن كنت أخطأت فقد أخطأ امرؤ القيس.
وتقدم الكلام في { فوسوس } والخلاف في كيفيتها في الأعراف ، وتعدى وسوس هنا بإلى وفي الأعراف باللام ، فالتعدي بإلى معناه أنهى الوسوسة إليه والتعدّي بلام الجر ، قيل معناه : لأجله ولما وسوس إليه ناداه باسمه ليكون أقبل عليه وأمكن للاستماع ، ثم عرض عليه ما يلقى بقوله { هل أدلك } على سبيل الاستفهام الذي يشعر بالنضح.
ويؤثر قبول من يخاطبه كقول موسى { هل لك إلى أن تزكى } وهو عرض فيه مناصحة ، وكان آدم قد رغبه الله تعالى في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله { فلا يخرجنكما } الآية ورغبة إبليس في دوام الراحة بقوله : { هل أدلك } فجاءه إبليس من الجهة التي رغبه الله فيها.
وفي الأعراف { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة } الآية.
وهنا { هل أدلك } والجمع بينهما أن قوله { هل أدلك } يكون سابقاً على قوله { ما نهاكما } لما رأى إصغاءه وميله إلى ما عرض عليه انتقل إلى الإخبار والحصر.
ومعنى { على شجرة الخلد } أي الشجرة التي مَن أكل منها خلد وحصل له ملك لا يخلق ، وهذا يدل لقراءة الحسن بن عليّ وابن عباس إلا أن تكونا ملكين بكسر اللام { فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } تقدم الكلام على نحو هذه الآية في الأعراف { وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى } قال الزمخشري عن ابن عباس : لا شبهة في أن آدم صلوات الله عليه لم يمتثل ما رسم الله له وتخطى فيه ساحة الطاعة ، وذلك هو العصيان.
ولما عصى خرج فعله من أن يكون رشداً وخيراً فكان غياً لا محالة لأن الغيَّ خلاف الرشد.
ولكن قوله { عصى آدم ربه فغوى } بهذا الإطلاق وهذا التصريح ، وحيث لم يقل وزل آدم وأخطأ وما أشبه ذلك مما يعبر به عن الزلات والفرطات فيه لطف بالمكلفين ومزجرة بليغة وموعظة كافة ، وكأنه قيل لهم : انظروا واعتبروا كيف نعتب على النبيّ المعصوم حبيب الله الذي لا يجوز عليه اقتراف الصغيرة غير المنفرة زلته بهذه الغلظة وبهذا اللفظ الشنيع ، فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من السيئات والصغائر فضلاً عن أن تجسروا عن التورط في الكبائر ، وعن بعضهم { فغوى } فسئم من كثرة الأكل ، وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المسكور ما قبلها ألفاً فيقول في فنى وبقى فنا وبقا ، وهم بنو طيىء تفسير خبيث انتهى.

وقال القاضي أبو بكر بن العربي : لا يجوز لأحدنا اليوم أن يخبر بذلك عنه عليه السلام إلاّ إذا ذكرناه في أثناء قوله تعالى أو قول نبيه عليه السلام ، فإما أن يبتدىء ذلك من قبل نفسه فليس بجائز لنا في آبائنا الأدنين إلينا المماثلين لنا ، فكيف ففي أبينا الأقدم الأعظم الأكرم النبيّ المقدم الذي اجتباه الله وتاب عليه وغفر له.
قال القرطبي : وإذا كان هذا في المخلوق لا يجوز والإخبار عن صفات الله كاليد والرجل والأصبع والجنب والنزول إلى غير ذلك أولى بالمنع ، وأنه لا يجوز الابتداء بشيء من ذلك إلاّ في أثناء قراءة كتابه أو سنة رسول عليه السلام ، ولهذا قال الإمام مالك بن أنس : من وصف شيئاً من ذات الله مثل قوله تعالى { وقالت اليهود يد الله مغلولة } فأشار بيده إلى عنقه قطعت يده وكذلك في السمع والبصر يقطع ذلك منه لأنه شبه الله سبحانه بنفسه.
{ ثم اجتباه } أي اصطفاه وقربه وتاب عليه أي قبل توبته { وهدى } أي هداه للنبوة أو إلى كيفية التوبة ، أو هداه رشده حتى رجع إلى الندم.
والضمير في { اهبطا } ضمير تثنية وهو أمر لآدم وحواء جعل هبوطهما عقوبتهما و { جميعاً } حال منهما.
وقال ابن عطية : ثم أخبرهما بقوله { جميعاً } أن إبليس والحية مهبطان معهما ، وأخبرهما أن العداوة بينهم وبين أنسالهم إلى يوم القيامة انتهى.
ولا يدل قوله { جميعاً } أن إبليس والحية يهبطان معهما لأن { جميعاً } حال من ضمير الاثنين أي مجتمعين ، والضمير في { بعضكم لبعض } ضمير جمع.
قيل : يريد إبليس وبنيه وآدم وبنيه.
وقيل : أراد آدم وذريته ، فالعداوة واقعة بينهم والبغضاء لاختلاف الأديان وتشتت الآراء.
وقيل : آدم وإبليس والحية.
وقال أبو مسلم الأصبهاني : الخطاب لآدم عليه السلام ولكونهما جنسين صح قوله { اهبطا } ولأجل اشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرة صح قوله { فإما يأتينكم مني هدى }.
وقال الزمخشري : لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصلي البشر والسببين اللذين منهما نشؤوا وتفرعوا جعلا كأنهما البشر في أنفسهما فخوطبا مخاطبتهم ، فقيل { فإما يأتينكم } على لفظ الجماعة ، ونظيره إسنادهم الفعل إلى السبب وهو في الحقيقة للمسبب انتهى.
و { هدى } شريعة الله.
وعن ابن عباس ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم تلا { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } والمعنى أن الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضل في الدنيا عن طريق الدين ، فمن اتبع كتاب الله وامتثل أوامره وانتهى عن نواهيه نجا من الضلال ومن عقابه.

وعن ابن جبير من قرأ القرآن واتبع ما فيه عصمه الله من الضلالة ووقاه سوء الحساب.
وقال أبو عبد الله الرازي : وهذه الآية تدل على أن المراد بالهدى الذي ذكره الله تعالى اتباع الأدلة واتباعها لا يتكامل إلاّ بأن يستدل بها ، وبأن يعمل بها ، ومن هذه حاله فقد ضمن تعالى أن لا يضل ولا يشقى في الآخرة لأنه تعالى يهديه إلى الجنة.
وقيل { لا يضل ولا يشقى } في الدنيا.
فإن قيل : المنعم بهدى الله قد يلحقه الشقاء في الدنيا.
قلنا : المراد لا يضل في الدين ولا يشقى بسبب الدين فإن حصل بسبب آخر فلا بأس انتهى.
ولما ذكر تعالى من اتبع الهدى أتبعه بوعيد من أعرض عن ذكره ، والذكر يقع على القرآن وعلى سائر الكتب الإلهية.
وضنك : مصدر يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع ، والمعنى النكد الشاق من العيش والمنازل ومواطن الحرب ربحوها.
ومنه قول عنترة :
إن المنية لو تمثل مثلت . . .
مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل
وعن ابن عباس : نزلت هذه الآية في الأسود بن عبد الأسد المخزومي ، والمراد ضغطة القبر تختلف فيه أضلاعه.
وقال الحسن وقتادة والكلبي : هو الضيق في الآخرة في جهنم فإن طعامهم فيها الضريع والزقوم وشرابهم الحميم والغسلين ، ولا يموتون فيها ولا يحيون ، وقال عطاء : المعيشة الضنك معيشة الكافر لأنه غير موقن بالثواب والعقاب.
وقال ابن جبير : يسلب القناعة حتى لا يشبع.
وقال أبو سعيد الخدري والسدّي : هو عذاب القبر ، ورواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال الجوهري : المعيشة الضنك في الدنيا ، والمعنى أن الكافر وإن كان متسع الحال والمال فمعه من الحرص والأمل والتعذيب بأمور الدنيا والرغبة وامتناع صفاء العيش لذلك ما تصير معيشته ضنكاً وقالت فرقة { ضنكاً } بأكل الحرام.
ويستدل على أن المعيشة الضنك قبل يوم القيامة { ونحشره يوم القيامة أعمى } وقوله : { ولَعذاب الآخرة أشد وأبقى } فكأنه ذكر نوعاً من العذاب ، ثم ذكر أن عذاب الآخرة أشد وأبقى ، وحسن قول الجمهور الزمخشري فقال : ومعنى ذلك أن مع الدين التسليم والقناعة والتوكل على الله وعلى قسمته ، فصاحبه ينفق ما رزقه بسماح وسهولة فيعيش عيشاً طيباً كما قال تعالى { فلنحيينه حياة طيبة } والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطيح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق ، فعيشه ضنك وحاله مظلمة انتهى.
وقرأ الحسن ضنكي بألف التأنيث ولا تنوين وبالإمالة بناؤه صفة على فعلى من الضنك.
وقرأ الجمهور { ضنكاً } بالتنوين وفتحة الكاف فتحة إعراب.
وقرأ الجمهور { ونحشره } بالنون ، وفرقة منهم أبان بن تغلب بسكون الراء فيجوز أن يكون تخفيفاً ، ويجوز أن يكون جرماً بالعطف على موضع { فإن له معيشة ضنكاً } لأنه جواب الشرط ، وكأنه قيل { ومن أعرض عن ذكري } تكن له معيشة ضنك { ونحشره } ومثله

{ من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم } في قراءة من سكن ويذرهم.
وقرأت فرقة ويحشره بالياء.
وقرىء ويحشره بسكون الهاء على لفظ الوقف قاله الزمخشري.
ونقل ابن خالويه هذه القراءة عن أبان بن تغلب والأحسن تخريجه على لغة بني كلاب وعقيل فإنهم يسكنون مثل هذه الهاء.
وقرىء { لربه لكنود } والظاهر أن قوله { أعمى } المراد به عمى البصر كما قال { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً } وقيل : أعمى البصيرة.
قال ابن عطية : ولو كان هذا لم يحس الكافر بذلك لأنه مات أعمى البصيرة ويحشر كذلك.
وقال مجاهد والضحاك ومقاتل وأبو صالح وروي عن ابن عباس : { أعمى } عن حجته لا حجة له يهتدي بها.
وعن ابن عباس يحشر بصيراً ثم إذا استوى إلى المحشر { أعمى }.
وقيل : { أعمى } عن الحيلة في دفع العذاب عن نفسه كالأعمى الذي لا حيلة له فيما لا يراه.
وقيل { أعمى } عن كل شيء إلاّ عن جهنم.
وقال الجبائي : المراد من حشره { أعمى } لا يهتدي إلى شيء.
وقال إبراهيم بن عرفة : كل ما ذكره الله عز وجل في كتابه فذمه فإنما يريد عَمَى القلب قال تعالى فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
وقال مجاهد : معنى { لم حشرتني أعمى } أي لا حجة لي وقد كنت عالماً بحجتي بصيراً بها أحاجّ عن نفسي في الدنيا انتهى.
سأل العبد ربه عن السبب الذي استحق به أن يحشر أعمى لأنه جهله ، وظن أنه لا ذنب له فقال له جل ذكره { كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } أي مثل ذلك أنت ، ثم فسر بأن آياتنا أتتك واضحة مستنيرة فلم تنظر إليها بعين المعتبر ، ولم تتبصر وتركتها وعميت عنها فكذلك اليوم نتركك على عماك ولا نزيل غطاءه عن عينيك قاله الزمخشري.
والنسيان هنا بمعنى الترك لا بمعنى الذهول ، ومعنى { تُنْسَى } تترك في العذاب { وكذلك نجزي } أي مثل ذلك الجزاء { نجزي من أسرف } أي من جاوز الحد في المعصية ثم أخبر تعالى أن عذاب الآخرة أشد أي من عذاب الدنيا لأنه أعظم منه { وأبقى } أي منه لأنه دائم مستمر وعذاب الدنيا منقطع.
وقال الزمخشري : والحشر على العمى الذي لا يزوال أبداً أشد من ضيق العيش المنقضي ، أو أراد ولتركنا إياه في العمى { أشد وأبقى } من تركه لآياتنا.

أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)

زهرة : بفتح الهاء وسكونها نحو نهر ونهر ما يروق من النور ، وسراج زاهر له بريق ، والأنجم الزهر المضيئة ، وأزهر الشجر بدا زهره وهو النور.
{ أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى.
ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجل مسمى فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى.
ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى.
وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ولو أنا أهلكناهم بعذاب قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى.
قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى }.
قرأ الجمهور { يهد } الياء.
وقرأ فرقة منهم ابن عباس والسلمي بالنون ، وبخهم تعالى وذكرهم العبر بمن تقدم من القرون ، ويعني بالإهلاك الإهلاك الناشىء عن تكذيب الرسل وترك الإيمان بالله واتباع رسله ، والفاعل ليهد ضمير عائد على الله تعالى ، ويؤيد هذا التخريج قراءة نهد بالنون ومعناه نبين وقاله الزجاج.
وقيل : الفاعل مقدر تقديره الهدى والآراء والنظر والاعتبار.
وقال ابن عطية : وهذا أحسن ما يقدر به عندي انتهى.
وهو قول المبرد وليس بجيد إذ فيه حذف الفاعل وهو لا يجوز عند البصريين ، وتحسينه أن يقال الفاعل مضمر تقديره { يهد } هو أي الهدى.
وقال أبو البقاء : الفاعل ما دل عليه { أهلكنا } والجملة مفسرة له.
قال الحوفي { كم أهلكنا } قد دل على هلاك القرون ، فالتقدير أفلم نبين لهم هلاك من { أهلكنا } { من القرون } ومحو آثارهم فيتعظوا بذلك.
وقال الزمخشري : فاعل { لم يهد } الجملة بعده يريد ألم يهد لهم هذا بمعناه ومضمونه ونظيره قوله تعالى { وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين } أي تركنا عليه هذا الكلام ، ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو الرسول انتهى.
وكون الجملة فاعلاً هو مذهب كوفي ، وأما تشبيهه وتنظيره بقوله { تركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين } فإن تركنا عليه معناه معنى القول فحكيت به الجملة كأنه قيل وقلنا عليه ، وأطلقنا عليه هذا اللفظ والجملة تحكي بمعنى القول كما تحكى بلفظه ، وأحسن التخاريج الأول وهو أن يكون الفاعل ضميراً عائداً على الله كأنه قال { أفلم } يبين الله ومفعول يبين محذوف ، أي العبر بإهلاك القرون السابقة ثم قال { كم أهلكنا } أي كثيراً أهلكنا ، فكم مفعوله بأهلكنا والجملة كأنها مفسرة للمفعول المحذوف ليهد.

وقال الحوفي : قال بعضهم هي في موضع رفع فاعل { يهد } وأنكر هذا على قائله لأن كم استفهام لا يعمل فيها ما قبلها انتهى.
وليست كم هنا استفهاماً بل هي خبرية.
وقال أبو البقاء : { يهد لهم } في فاعله وجهان أحدهما ضمير اسم الله تعالى أي ألم يبين الله لهم وعلق { يهد } هنا إذ كانت بمعنى يعلم كما علقت في قوله تعالى { وتبين لكم كيف فعلنا بهم } انتهى.
و { كم } هنا خبرية والخبرية لا تعلق العامل عنها ، وإنما تعلق عنه الاستفهامية.
وقرأ ابن السميفع : يُمَشُّون بالتشديد مبنياً للمفعول لأن المشي يخلق خطوة بخطوة وحركة بحركة وسكوناً بسكون ، فناسب البناء للمفعول والضمير في { يمشون } عائد على ما عاد عليه لهم وهم الكفار الموبخون يريد قريشاً ، والعرب يتقلبون في بلاد عاد وثمود والطوائف التي كانت قريش تمر عليها إلى الشام وغيره ، ويعاينون آثار هلاكهم و { يمشون في مساكنهم } جملة في موضع الحال من ضمير { لهم } والعامل { يهد } أي ألم نبين للمشركين في حال مشيهم في مساكن من أهلك من الكفار.
وقيل : حال من مفعول { أهلكنا } أي أهلكناهم غارين آمنين متصرّفين في مساكنهم لم يمنعهم عن التمتع والتصرف مانع من مرض ولا غيره ، فجاءهم الإهلاك بغتة على حين غفلة منهم به.
{ إن في ذلك } أي في ذلك التبيين بإهلاك القرون الماضية { لآيات لأولي النهى } أي العقول السليمة.
ثم بين تعالى الوجه الذي لأجله لا يترك العذاب معجلاً على من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم والكلمة السابقة هي المعدة بتأخير جزائهم في الآخرة قال تعالى : { بل الساعة موعدهم } تقول : لولا هذه العدة لكان مثل إهلاكنا عاداً وثموداً لازماً هؤلاء الكفرة ، واللزام إما مصدر لازم وصف به وإما فعال بمعنى مفعل أي ملزم كأنه آلة للزوم ، ولفظ لزومه كما قالوا لزاز خصم.
وقال أبو عبد الله الرازي : لا شبهة أن الكلمة إخبار الله تعالى ملائكته وكتبه في اللوح المحفوظ أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم وإن كذبوا يؤخرون ولا يفعل بهم ما فعل بغيرهم من الاستئصال انتهى.
والأجل أجل حياتهم أو أجل إهلاكهم في الدنيا أو عذاب يوم القيامة ، أقوال : فعلى الأول يكون العذاب ما يلقى في قبره وما بعده.
وعلى الثاني : قتلهم بالسيف يوم بدر.
وعلى الثالث : هو عذاب جهنم.
وفي صحيح البخاري « أن يوم بدر هو اللزام وهو البطشة الكبرى » والظاهر عطف { وأجل مسمى } على كلمة وأخر المعطوف عن المعطوف عليه ، وفصل بينهما بجواب { لولا } لمراعاة الفواصل ورؤوس الآي ، وأجاز الزمخشري أن يكون { وأجل } معطوفاً على الضمير المستكن في كان قال أي { لكان } الأخذ العاجل { وأجل مسمى } لازمين له كما كانا لازمين لعاد وثمود ، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل انتهى.

ثم أمره تعالى بالصبر على ما يقول مشركو قريش ، وهم الذين عاد الضمير عليهم في { أفلم يهد لهم } وكانوا يقولون أشياء قبيحة مما نص الله عنهم في كتابه ، فأمره تعالى بالصبر على أذاهم والاحتمال لما يصدر من سوء أخلاقهم ، وأمره بالتسبيح والحمد لله و { بحمد ربك } في موضع الحال ، أي وأنت حامد لربك.
والظاهر أنه أمر بالتسبيح مقروناً بالحمد ، وإما أن يراد اللفظ أي قل سبحان الله والحمد لله ، أو أريد المعنى وهو التنزيه والتبرئة من السوء والثناء الجميل عليه.
وقال أبو مسلم : لا يبعد حمله على التنزيه والإجلال ، والمعنى اشتغل بتنزيه الله في هذه الأوقات.
قال أبو عبد الله الرازي : وهذا القول أقرب إلى الظاهر وإلى ما تقدم ذكره لأنه صبره أولاً { على ما يقولون } من التكذيب ومن إظهار الكفر والشرك الذي يليق بذلك أن يؤمر بتنزيهه عن قولهم حتى يكون مظهراً لذلك وداعياً ، ولذلك ما جمع كل الأوقات أو يراد المجاز فيكون المراد الصلاة فقبل طلوع الشمس صلاة الصبح وقبل غروبها صلاة العصر { ومن آناء الليل } المغرب والعتمة { وأطراف النهار } الظهر وحده.
قال ابن عطية : ويحتمل اللفظ أن يراد قول سبحان الله وبحمده من بعد صلاة الصبح إلى ركعتي الضحى وقبل غروب الشمس ، فقد قال عليه السلام : « من سبح عند غروب الشمس سبعين تسبيحة غربت بذنوبه » انتهى.
وقال الزمخشري : { وقبل غروبها } يعني الظهر والعصر لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس وغروبها ، وتعمد { آناء الليل } { وأطراف النهار } مختصاً لها بصلاتك ، وذلك أن أفضل الذكر ما كان بالليل لاجتماع القلب وهدوّ الرجل والخلو بالرب.
وقال تعالى : { إن ناشئة الليل } وقال : { أمّن هو قانت آناء الليل } الآيتين.
ولأن الليل وقت السكون والراحة فإذا صرف إلى العبادة كانت على النفس أشد وأشق وللبدن أتعب وأنصب ، فكانت أدخل في معنى التكليف وأفضل عند الله وقد تناول التسبيح في { آناء الليل } صلاة العتمة { وفي أطراف النهار } صلاة المغرب وصلاة الفجر على التكرار إرادة الاختصاص كما اختصت في قوله { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } عند بعض المفسرين انتهى.
وجاء هنا { وأطراف النهار } وفي هود { وأقم الصلاة طرفي النهار } فقيل : جاء على حد قوله :
ومهمهين قذفين مرتين . . .
ظهراهما مثل ظهور الترسين
جاءت التثنية على الأصل والجمع لا من اللبس إذ النهار ليس له إلاّ طرفان.
وقيل : هو على حقيقة الجمع الفجر الطرف الأول ، والظهر والعصر من الطرف الثاني ، والطرف الثالث المغرب والعشاء.
وقيل : النهار له أربعة أطراف عند طلوع الشمس ، وعند غروبها ، وعند زوال الشمس ، وعند وقوفها للزوال.
وقيل : الظهر في آخر طرف النهار الأول ، وأول طرف النهار الآخر ، فهي في طرفين منه ، والطرف الثالث غروب الشمس وهو وقت المغرب.
وقيل : يجعل النهار للجنس فلكل يوم طرف فيتكرر بتكرره.

وقيل : المراد بالأطراف الساعات لأن الطرف آخر الشيء.
وقرأ الجمهور : { وأطراف } بنصب الفاء وهو معطوف على { ومن آناء الليل }.
وقيل : معطوف على { قبل طلوع الشمس } وقرأ الحسن وعيسى بن عمر { وأطراف } بخفض الفاء عطفاً على { آناء }.
{ لعلك ترضى } أي تثاب على هذه الأعمال بالثواب الذي تراه وأبرز ذلك في صورة الرجاء والطمع لا على القطع.
وقيل : لعل من الله واجبة.
وقرأ أبو حيوة وطلحة والكسائي وأبو بكر وأبان وعصمة وأبو عمارة عن حفص وأبو زيد عن المفضل وأبو عبيد ومحمد بن عيسى الأصبهاني تُرْضَى بضم التاء أي يرضيك ربك.
ولما أمره تعالى بالصبر وبالتسبيح جاء النهي عن مد البصر إلى ما متع به الكفرة يقال : مد البصر إلى ما متع به الكفار ، يقال : مد نظره إليه إذا أدام النظر إليه ، والفكرة في جملته وتفصيله.
قيل : والمعنى على هذا ولا تعجب يا محمد مما متعناهم به من مال وبنين ومنازل ومراكب وملابس ومطاعم ، فإنما ذلك كله كالزهرة التي لا بقاء لها ولا دوام ، وإنها عما قليل تفنى وتزول.
والخطاب وإن كان في الظاهر للرسول صلى الله عليه وسلم فالمراد أمته وهو كان صلى الله عليه وسلم أبعد شيء عن النظر في زينة الدنيا وأعلق بما عند الله من كل أحد ، وهو القائل في الدنيا « ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أريد به وجه الله » وكان شديد النهي عن الاغترار بالدنيا والنظر إلى زخرفها { ولا تمدن } أبلغ من لا تنظر لأن مد البصر يقتضي الإدامة والاستحسان بخلاف النظر ، فإنه قد لا يكون ذلك معه والعين لا تمدّ فهو على حذف مضاف أي { لا تمدن } نظر { عينيك } والنظر غير الممدد معفو عنه.
وذلك مثل من فاجأ الشيء ثم غض بصره.
والنظر إلى الزخارف مركوز في الطبائع فمن رأى منها شيئاً أحب إدمان النظر إليه ، وقد شدّد المتقون في غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة مركوباً وملبوساً وغيرهما لأنهم إنما اتخذوها لعيون النظارة حتى يفتخروا بها ، فالناظر إليها محصل لغرضهم وكالمغرى لهم على اتخاذها.
وانتصب { أزواجاً } على أنه مفعول به ، والمعنى أصنافاً من الكفرة و { منهم } في موضع الصفة لأزواجاً أي أصنافاً وأقواماً من الكفرة.
كما قال : { وآخر من شكله أزواج } وأجاز الزمخشري أن ينتصب { أزواجاً } عن الحال من ضمير { به } و { متعنا } مفعوله منهم كأنه قيل إلى الذي متعنا به وهو أصناف بعضهم ، وناساً منهم.
و { زهرة } منصوب على الذم أو مفعول ثان لمتعنا على تضمينه معنى أعطينا أو بدل من محل الجار والمجرور ، أو بدل من { أزواجاً } على تقدير ذوي زهرة ، أو جعلهم { زهرة } على المبالغة أو منصوب بفعل محذوف يدل عليه { متعنا } أي جعلنا لهم { زهرة } أو حال من الهاء ، أو ما على تقدير حذف التنوين من { زهرة } لالتقاء الساكنين وخبر { الحياة } على البدل من { ما } وكل هذه الأعاريب منقول والأخير اختاره مكي ، وردّ كونه بدلاً من محل { ما } لأن فيه الفصل بالبدل بين الصلاة وهي { متعنا } ومعمولها وهو { لنفتنهم } فالبدل وهو { زهرة }.

وقرأ الجمهور { زَهْرَة } بسكون الهاء.
وقرأ الحسن وأبو البر هيثم وأبو حيوة وطلحة وحميد وسلام ويعقوب وسهل وعيسى والزهري بفتحها.
وقرأ الأصمعي عن نافع لِنُفْتِنَهم بضم النون من أفتنه إذا جعل الفتنة واقعة فيه ، والزهرة والزهرة بمعنى واحد كالجهرة والجهرة.
وأجاز الزمخشري في { زهرة } المفتوح الهاء أن يكون جمع زاهر نحو كافر وكفرة ، وصفهم بأنهم زاهر وهذه الدنيا الصفاء ألوانهم مما يلهون ويتنعمون وتهلل وجوههم وبهاء زيهم وشارتهم بخلاف ما عليه المؤمنون والصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب ، ومعنى { لنفتنهم فيه } أي لنبلوهم حتى يستوجبوا العذاب لوجود الكفران منهم أو لنعذبهم في الآخرة بسببه.
{ ورزق ربك خير وأبقى } أي ما ذخر لهم من المواهب في الآخرة { خير } مما متع به هؤلاء في الدنيا { وأبقى } أي أدوم.
وقيل : ما رزقهم وإن كان قليلاً خير مما رزقوا وإن كان كثير الحلية ذلك وحرمية هذا.
وقيل : ما رزقت من النبوة والإسلام.
وقيل : ما يفتح الله على المؤمنين من البلاد والغنائم.
وقيل : القناعة.
وقيل : ثواب الله على الصبر وقلة المبالاة بالدنيا.
ولما أمره تعالى بالتسبيح في تلك الأوقات المذكورة ونهاه عن مد بصره إلى ما متع به الكفار أمره تعالى بأن يأمر أهله بالصلاة التي هي بعد الشهادة آكد أركان الإسلام ، وأمره بالاصطبار على مداومتها ومشاقها وأن لا يشتغل عنها ، وأخبره تعالى أن لا يسأله أن يرزق نفسه وأن لا يسعى في تحصيل الرزق ويدأب في ذلك ، بل أمره بتفريغ باله لأمر الآخرة ويدخل في خطابه عليه السلام أمته.
وقرأ الجمهور { نَرْزُقُكَ } بضم القاف.
وقرأت فرقة : منهم وابن وثاب بإدغام القاف في الكاف وجاء ذلك عن يعقوب.
قال صاحب اللوامح : وإنما امتنع أبو عمرو من إدغام مثله بعد إدغامه { نرزقكم } ونحوها لحلول الكاف منه طرفاً وهو حرف وقف ، فلو حرك وقفاً لكان وقوفه على حركة وكان خروجاً عن كلامهم.
ولو أشار إلى الفتح لكان الفتح أخف من أن يتبعض بل خروج بعضه كخروج كله ، ولو سكن لأجحف بحرف.
ولعل من أدغم ذهب مذهب من يقول جعفر وعامر وتفعل فيشدد وقفاً أو أدغم على شرط أن لا يقف بحال فيصير الطرف كالحشو انتهى.
و { العاقبة } أي الحميدة أو حسن العاقبة لأهل التقوى { وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه } هذه عادتهم في اقتراح الآيات كأنهم جعلوا ما ظهر من الآيات ليس بآيات ، فاقترحوا هم ما يختارون على ديدنهم في التعنت فأجيبوا بقوله { أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى } أي القرآن الذي سبق التبشير به وبإيحائي من الرسل به في الكتب الإلهية السابقة المنزّلة على الرسل ، والقرآن أعظم الآيات في الإعجاز وهي الآية الباقية إلى يوم القيامة.

وفي هذا الاستفهام توبيخ لهم.
وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص { تأتهم } بالتاء على لفظ بينة.
وقرأ باقي السبعة وأبو بحرية وابن محيصن وطلحة وابن أبي ليلى وابن مناذر وخلف وأبو عبيدة وابن سعدان وابن عيسى وابن جبير الأنطاكي يأتهم بالياء لمجاز تأنيث الآية والفصل.
وقرأ الجمهور بإضافة { بينة } إلى { ما } وفرقة منهم أبو زيد عن أبي عمرو بالتنوين و { ما } بدل.
قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون ما نفياً وأريد بذلك ما في القرآن من الناسخ والفصل مما لم يكن في غيره من الكتب.
وقرأت فرقة بنصب { بينة } والتنوين و { ما } فاعل بتأتهم و { بينة } نصب على الحال ، فمن قرأ يأتهم بالياء فعلى لفظ { ما } ومن قرأ بالتاء راعى المعنى لأنه أشياء مختلفة وعلوم من مضى وما شاء الله.
وقرأ الجمهور { في الصُحُف } بضم الحاء ، وفرقة منهم ابن عباس بإسكانها والضمير في ضمن قبله يعود على البينة لأنها في معنى البرهان ، والدليل قاله الزمخشري والظاهر عوده على الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله : { لولا أرسلت إلينا رسولاً } ولذلك قدره بعضهم قبل إرساله محمداً إليهم والذل والخزي مقترنان بعذاب الآخرة.
وقيل { نذل } في الدنيا و { نخزَى } في الآخرة.
وقيل : الذل الهوان والخزي الافتضاح.
وقرأ الجمهور { نُذل ونَخزى } مبنياً للفاعل ، وابن عباس ومحمد بن الحنفية وزيد بن علي والحسن في رواية عباد والعمري وداود والفزاري وأبو حاتم ويعقوب مبنياً للمفعول.
{ قل كل متربص فتربصوا } أي منتظر منا ومنكم عاقبة أمره ، وفي ذلك تهديد لهم ووعيد وأفرد الخبر وهو { متربّص } حملاً على لفظ { كل } كقوله { قل كل يعمل على شاكلته } والتربص التأني والانتظار للمفرج و { من أصحاب } مبتدأ وخبر علق عنه { فستعلمون } وأجاز الفراء أن تكون ما موصولة بمعنى الذي فتكون مفعولة بفستعلمون و { أصحاب } خبر مبتدأ محذوف تقديره الذي هم أصحاب ، وهذا جار على مذهب الكوفيين إذ يجيزون حذف مثل هذا الضمير مطلقاً سواء كان في الصلة طول أم لم يكن وسواء كان الموصول أياً أم غيره.
وقرأ الجمهور { السوي } على وزن فعيل أي المستوي.
وقرأ أبو مجلز وعمران بن حدير السواء أي الوسط.
وقرأ الجحدري وابن يعمر السوأى على وزن فعلى أنث لتأنيث { الصراط } وهو مما يذكر ويؤنث تأنيث الأسواء من السوأى على ضد الاهتداء قوبل به { ومن اهتدى } على الضد ومعناه { فستعلمون } أيها الكفار من على الضلال ومن على الهدى ، ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس الصراط السوء وقد روي عنهما أنهما قرآ السوأى على وزن فعلى ، فاحتمل أن يكون أصله السووي إذ روي ذلك عنهما فخفف الهمزة بإبدالها واواً وأدغم ، واحتمل أن يكون فعلى من السواء أبدلت ياؤه واواً وأدغمت الواو وفي الواو ، وكان القياس أنه لما بني فعلى من السواء ان يكون السويا فتجتمع واو وياء ، وسبقت إحداهما بالسكون فتقلب الواو ياء وتدغم في الياء ، فكان يكون التركيب السيا.

وقرىء السُوَيّ بضم السين وفتح الواو وشد الياء تصغير السوء.
قاله الزمخشري ، وليس بجيد إذ لو كان تصغير سوء لثبتت همزته في التصغير ، فكنت تقول سؤيي والأجود أن يكون تصغير سواء كما قالوا في عطاء عطي.
ومن قرأ السوأى أو السوء كان في ذلك مقابلة لقوله { ومن اهتدى } وعلى قراءة الجمهور لم تراع المقابلة في الاستفهام.

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)

هذه السورة مكية بلا خلاف ، وعن عبد الله : الكهف ، ومريم ، وطه ، والأنبياء من العتاق الأول ، وهن من تلادي أي من قديم ما حفظت وكسبت من القرآن كالمال التلاد.
ومناسبة هذه السورة لما قبلها أنه لما ذكر { قل كل متربص فتربصوا } قال مشركو قريش : محمد يهددنا بالمعاد والجزاء على الأعمال وليس بصحيح ، وإن صح ففيه بعد فأنزل الله تعالى { اقترب للناس حسابهم } ، و { اقترب } افتعل بمعنى الفعل المجرد وهو قرب كما تقول : ارتقب ورقب.
وقيل : هو أبلغ من قرب للزيادة التي في البناء.
والناس مشركو مكة.
وقيل : عام في منكري البعث ، واقتراب الحساب اقتراب وقته والحساب في اللغة إخراج الكمية من مبلغ العدد ، وقد يطلق على المحسوب وجعل ذلك اقتراباً لأن كل ما هو آت وإن طال وقت انتظاره قريب ، وإنما البعيد هو الذي انقرض أو هو مقترب عند الله كقوله { وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون } أو باعتبار ما بقي من الدنيا فإنه أقصر وأقل مما مضى.
وفي الحديث : « بعثت أنا والساعة كهاتين » قال الشاعر :
فما زال من يهواه أقرب من غد . . .
وما زال من يخشاه أبعد من أمس
و { للناس } متعلق باقترب.
وقال الزمخشري : هذه اللام لا تخلو من أن تكون صلة لاقترب ، أو تأكيداً لإضافة الحساب إليهم كما تقول أزف للحي رحيلهم ، الأصل أزف رحيل الحي ثم أزف للحي رحيلهم ونحوه ما أورده سيبويه في باب ما يثنى فيه المستقر توكيداً عليك زيد حريص عليك ، وفيك زيد راغب فيك ومنه قولهم : لا أبا لك لأن اللام مؤكدة لمعنى الإضافة ، وهذا الوجه أغرب من الأول انتهى يعني بقوله صلة أنها تتعلق باقترب ، وأما جعله اللام تأكيداً لإضافة الحساب إليهم مع تقدم اللام ودخولها على الاسم الظاهر فلا نعلم أحداً يقول ذلك ، وأيضاً فيحتاج إلى ما يتعلق به ولا يمكن تعلقها بحسابهم لأنه مصدر موصول ولا يتقدم معموله عليه ، وأيضاً فالتوكيد يكون متأخراً عن المؤكد وأيضاً فلو أخر في هذا التركيب لم يصح.
وأما تشبيهه بما أورد سيبويه فالفرق واضح لأن عليك معمول لحريص ، وعليك الثانية متأخرة توكيداً وكذلك فيك زيد راغب فيك يتعلق فيك براغب ، وفيك الثانية توكيد ، وإنما غره في ذلك صحة تركيب حساب الناس.
وكذلك أزف رحيل الحي فاعتقد إذا تقدّم الظاهر مجروراً باللام وأضيف المصدر لضميره أنه من باب فيك زيد راغب فيك وليس مثله ، وأمّا لا أبا لك فهي مسألة مشكلة وفيها خلاف ، ويمكن أن يقال فيها ذلك لأن اللام جاورت الإضافة ولا يقاس على مثلها غيرها لشذوذها وخروجها عن الأقيسة ، وقد أمعنّا الكلام عليها في شرح التسهيل والواو في { وهم } واو الحال.

وأخبر عنهم بخبرين ظاهرهما التنافي لأن الغفلة عن الشيء والإعراض عنه متنافيان ، لكن يجمع بينهما باختلاف حالين أخبر عنهم أولاً أنهم لا يتفكرون في عاقبة بل هم غافلون عما يؤول إليه أمرهم.
ثم أخبر عنهم ثانياً أنهم إذا نبهوا من سنة الغفلة وذكروا بما يؤول إليه أمر المحسن والمسيء أعرضوا عنه ولم يبالوا بذلك ، والذكر هنا ما ينزل من القرآن شيئاً بعد شيء.
وقيل المراد بالذكر أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الشريعة ووعظه وتذكيره ووصفه بالحدوث إذا كان القرآن لنزوله وقتاً بعد وقت.
وسئل بعض الصحابة عن هذه الآية فقال محدث النزول محدث المقول.
وقال الحسن بن الفضل : المراد بالذكر هنا النبيّ صلى الله عليه وسلم بدليل { هل هذا إلا بشر مثلكم } وقال : { قد أنزل الله إليكم ذكراً رسولاً } وقد احتجت المعتزلة على حدوث القرآن بقوله { محدث } وهي مسألة يبحث فيها في علم الكلام.
وقرأ الجمهور { محدث } بالجر صفة لذكر على اللفظ ، وابن أبي عبلة بالرفع صفة لذكر على الموضع ، وزيد بن عليّ بالنصب على الحال { من ذكر } إذ قد وصف بقوله { من ربهم } ويجوز أن يتعلق { من ربهم } بيأتيهم.
و { استمعوه } جملة حالية وذو الحال المفعول في { ما يأتيهم } { وهم يلعبون } جملة حالية من ضمير { استمعوه } و { لاهية } حال من ضمير { يلعبون } أو من ضمير { استمعوه } فيكون حالاً بعد حال ، واللاهية من قول العرب لهى عنه إذا ذهل وغفل يلهى لهياً ولهياناً ، أي وإن فطنوا لا يجدي ذلك لاستيلاء الغفلة والذهول وعدم التبصر بقلوبهم.
وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى { لاهية } بالرفع على أنه خبر بعد خبر لقوله { وهم }.
و { النجوى } من التناجي ولا يكون إلا خفية فمعنى { وأسرّوا } بالغوا في إخفائها أو جعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم ولا يعلم أنهم متناجون.
وقال أبو عبيد : { أسروا } هنا من الأضداد يحتمل أن يكون أخفوا كلامهم ، ويحتمل أن يكون أظهروه ومنه قول الفرزدق :
فلما رأى الحجاج جرد سيفه . . .
أسر الحروري الذي كان أضمرا
وقال التبريزي : لا يستعمل في الغالب إلاّ في الإخفاء ، وإنما { أسروا } الحديث لأنه كان ذلك على طريق التشاور ، وعادة المتشاورين كتمان سرهم عن أعدائهم ، وأسروها ليقولوا للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين إن ما تدعونه حقاً فأخبرونا بما أسررناه وجوزوا في إعراب { الذين ظلموا } وجوهاً الرفع والنصب والجر ، فالرفع على البدل من ضمير { وأسروا } إشعاراً أنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به قاله المبرد ، وعزاه ابن عطية إلى سيبويه أو على أنه فاعل ، والواو في { أسروا } علامة للجمع على لغة أكلوني البراغيث قاله أبو عبيدة والأخفش وغيرهما.
قيل وهي لغة شاذة.
قيل : والصحيح أنها لغة حسنة ، وهي من لغة أزدشنوءة وخرج عليه قوله { ثم عموا وصموا كثير منهم }

وقال شاعرهم :
يلومونني في اشتراء . . .
النخيل أهلي وكلهم ألوم
أو على أن { الذين } مبتدأ { وأسروا النجوى } خبره قاله الكسائي فقدّم عليه ، والمعنى : وهؤلاء { أسروا النجوى } فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم أنه ظلم ، أو على أنه فاعل بفعل القول وحذف أي يقول { الذين ظلموا } والقول كثيراً يضمر واختاره النحاس قال ويدل على صحة هذا أن بعده هل هذا إلا بشر مثلكم.
وقيل التقدير أسرها الذين ظلموا.
وقيل : { الذين } خبر مبتدأ محذوف ، أي هم { الذين } والنصب على الذم قاله الزجاج ، أو على إضمار أعني قاله بعضهم.
والجر على أن يكون نعتاً للناس أو بدلاً في قوله { اقترب للناس } قاله الفراء وهو أبعد الأقوال.
{ هل هذا إلاّ بشر مثلكم } استفهام معناه التعجب أي كيف خص بالنبوة دونكم مع مماثلته لكم في البشرية ، وإنكارهم وتعجبهم من حيث كانوا يرون أن الله لا يرسل إلاّ ملكاً.
و { أفتأتون السحر } استفهام معناه التوبيخ و { السحر } عنوا به ما ظهر على يديه من المعجزات التي أعظمها القرآن والذكر المتلو عليهم ، أي أفتحضرون { السحر وأنتم تبصرون } أنه سحر وأن من أتى به هو { بشر مثلكم } فكيف تقبلون ما أتى به وهو سحر ، وكانوا يعتقدون أن الرسول من عند الله لا يكون إلا ملكاً وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بمعجزة فهو ساحر ومعجزته سحر ، وهاتان الجملتان الاستفهاميتان الظاهر أنهما متعلقتان بقوله : { وأسروا النجوى } وأنهما محكيتان بقوله للنجوى لأنه بمعنى القول الخفي ، فهما في موضع نصب على المفعول بالنجوى.
وقال الزمخشري : في محل النصب بدلاً من { النجوى } أي { وأسروا } هذا الحديث ويجوز أن يتعلق بقالوا مضمراً انتهى.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وأيوب وخلف وابن سعدان وابن جبير الأنطاكي وابن جرير { قال ربي } على معنى الخبر عن نبيه عليه الصلاة والسلام.
وقرأ باقي السبعة قل على الأمر لنبيه صلى الله عليه وسلم { يعلم } أقوالكم هذه ، وهو يجازيكم عليها و { القول } عام يشمل السر والجهر ، فكان في الإخبار بعلمه القول علم السر وزيادة ، وكان آكد في الاطلاع على نجواهم من أن يقول يعلم سرهم.
ثم بين ذلك بقوله { وهو السميع العليم } { السميع } لأقوالكم { العليم } بما انطوت عليه ضمائركم.
ولما ذكر تعالى عنهم أنهم قالوا إن ما أتى به سحر ذكر اضطرابهم في مقالاتهم فذكر أنهم أضربوا عن نسبة السحر إليه و { قالوا } ما يأتي به إنما هو { أضغاث أحلام } وتقدم تفسيرها في سورة يوسف عليه السلام ، ثم أضربوا عن هذا فقالوا { بل افتراه } أي اختلقه وليس من عند الله ، ثم أضربوا عن هذا فقالوا { بل هو شاعر } وهكذا المبطل لا يثبت على قول بل يبقى متحيراً ، وهذه الأقوال الظاهر أنها صدرت من قائلين متفقين انتقلوا من قول إلى قول أو مختلفين قال كل منهم مقالة.

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون تنزيلاً من الله لأقوالهم في درج الفساد ، وأن قولهم الثاني أفسد من الأول ، والثالث أفسد من الثاني وكذلك الرابع من الثالث انتهى.
وقال ابن عطية ثم حكى قول من قال إنه شاعر وهي مقالة فرقة عامّية لأن بنات الشعر من العرب لم يخف عليهم بالبديهة ، وإن مباني القرآن ليست مباني شعر.
وقال أبو عبد الله الرازي : حكى الله عنهم هذه الأقوال الخمسة وترتيب كلامهم أن كونه بشراً مانع من كونه رسولاً لله سلمنا أنه غير مانع ، ولكن لا نسلم أن هذا القرآن ثم إما أن يساعد على أن فصاحة القرآن خارجة عن مقدار البشر قلنا لم لا يجوز أن يكون ذلك سحراً وإن لم يساعد عليه فإن ادعينا كونه في نهاية الركاكة قلنا إنه أضغاث أحلام ، وإن ادعينا أنه متوسط بين الركاكة والفصاحة قلنا إنه افتراء ، وإن ادعينا أنه كلام فصيح قلنا إنه من جنس فصاحة سائر الشعر ، وعلى جميع هذه التقديرات لا يثبت كونه معجزاً.
ولما فرغوا من تقدير هذه الاحتمالات قالوا { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } اقترحوا من الآيات ما لا إمهال بعدها كالآيات في قوله { لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } قال الزمخشري : صحة التشبيه في قوله { كما أرسل الأولون } من حيث إنه في معنى كما أتى الأولون بالآيات ، لأن إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات ، ألا ترى أنه لا فرق بين أن تقول أتى محمد بالمعجزة ، وأن تقول : أرسل محمد بالمعجزة انتهى.
والكاف في { كما أرسل } يجوز أن يكون في موضع النعت لآية ، وما أرسل في تقدير المصدر والمعنى بآية مثل آية إرسال { الأولين } ، ويجوز أن يكون في النعت لمصدر محذوف أي إتياناً مثل إرسال { الأولين } أي مثل إتيانهم بالآيات ، وهذه الآية التي طلبوها هي على سبيل اقتراحهم ، ولم يأت الله بآية مقترحة إلا أتى بالعذاب بعدها.
وأراد تعالى تأخير هؤلاء وفي قولهم { كما أرسل الأولون } دلالة على معرفتهم بإتيان الرسل.
ثم أجاب تعالى عن قولهم { فليأتنا بآية } بقوله { ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون } والمراد بهم قوم صالح وقوم فرعون وغيرهما ، ومعنى { أهلكناها } حكمنا بإهلاكها بما اقترحوا من الآيات { أفهم يؤمنون } استبعاد وإنكار أي هؤلاء أعني من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعهدوا أنهم يؤمنون عندها ، فلما جاءتهم نكثوا فأهلكهم الله ، فلو أعطينا هؤلاء ما اقترحوا لكانوا أنكث من أولئك ، وكان يقع استئصالهم ولكن حكم الله تعالى بإبقائهم ليؤمن من آمن ويخرج منهم مؤمنين.
ولما تقدم من قولهم { هل هذا إلا بشر مثلكم } وأن الرسول لا يكون إلاّ من عند الله من جنس البشر قال تعالى راداً عليهم { وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً } أي بشراً ولم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا ، ثم أحالهم على { أهل الذكر } فإنهم وإن كانوا مشايعين للكفار ساعين في إخماد نور الله لا يقدرون على إنكار إرسال البشر.

وقوله { إن كنتم لا تعلمون } من حيث إنّ قريشاً لم يكن لها كتاب سابق ولا إثارة من علم.
والظاهر أن { أهل الذكر } هم أحبار أهل الكتابين وشهادتهم تقوم بها الحجة في إرسال الله البشر هذا مع موافقة قريش في ترك الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فشهادتهم لا مطعن فيها.
وقال عبد الله بن سلام : أنا من أهل الذكر.
وقيل : هم أهل القرآن.
وقال علي : أنا من أهل الذكر.
وقال ابن عطية : لا يصلح أن يكون المسؤول أهل القرآن في ذلك الوقت لأنهم كانوا خصومهم انتهى.
وقيل { أهل الذكر } هم أهل التوراة.
وقيل : أهل العلم بالسير وقصص الأمم البائدة والقرون السالفة ، فإنهم كانوا يفحصون عن هذه الأشياء وإذا كان { أهل الذكر } أريد بهم اليهود والنصارى فإنهم لما بلغ خبرهم حد التواتر جاز أن يسألوا ولا يقدح في ذلك كونهم كفاراً.
وقرأ الجمهور : يوحي مبنياً للمفعول.
وقرأ طلحة وحفص { نوحي } بالنون وكسر الحاء و { الجسد } يقع على ما لا يتغذى من الجماد.
وقيل : يقع على المتعذي وغيره ، فعلى القول الأول يكون النفي قد وقع على { الجسد } وعلى الثاني يكون مثبتاً ، والنفي إنما وقع على صفته ووحد الجسد لإرادة الجنس كأنه قال : ذوي ضرب من الأجساد ، وهذا رد لقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام ، وهذه الجملة من تمام الجواب للمشركين الذين قالوا { هل هذا إلاّ بشر مثلكم } لأن البشرية تقتضي الجسمية الحيوانية ، وهذه لا بد لها من مادة تقوم بها ، وقد خرجوا بذلك في قولهم { هل هذا إلاّ بشر مثلكم } يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ، ولما أثبت أنهم كانوا أجساداً يأكلون الطعام بين أنهم مآلهم إلى الفناء والنفاد ، ونفى عنهم الخلود وهو البقاء السرمدي أو البقاء المدة المتطاولة أي هؤلاء الرسل بشر أجساد يطعمون ويموتون كغيرهم من البشر ، والذي صاروا به رسلاً هو ظهور المعجزة على أيديهم وعصمتهم من الصفات القادحة في التبليغ وغيره.
{ ثم صدقناهم الوعد } ذكر تعالى سيرته مع أنبيائه فكذلك يصدق نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما وعدهم به من النصر وظهور الكلمة ، فهذه عدة للمؤمنين ووعيد للكافرين و { صدقناهم الوعد } من باب اختار وهو ما يتعدى الفعل فيه إلى واحد وإلى الآخر بحرف جر ، ويجوز حذف ذلك الحرف أي في { الوعد } وهو باب لا ينقاس عند الجمهور ، وإنما يحفظ من ذلك أفعال قليلة ذكرت في النحو ونظير { صدقناهم الوعد } قولهم : صدقوهم القتال وصدقني سن بكره وصدقت زيداً الحديث و { من نشاء } هم المؤمنون ، والمسرفون هم الكفار المفرطون في غيهم وكفرهم ، وكل من ترك الإيمان فهو مفرط مسرف وإنجاؤهم من شر أعدائهم ومن العذاب الذي نزل بأعدائهم.

ولما توعدهم في هذه الآية أعقب ذلك بوعده بنعمته عليهم فقال { لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم } والكتاب هو القرآن.
وعن ابن عباس : { ذكركم } شرفكم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، وعن الحسن ذكر دينكم ، وعن مجاهد فيه حديثكم ، وعن سفيان مكارم أخلاقكم ومحاسن أعمالكم.
وقيل : تذكرة لتحذروا ما لا يحل وترغبوا فيما يجب.
وقال صاحب التحرير : الذي يقتضيه سياق الآيات أن المعنى فيه ذكر مشانئكم ومثالبكم وما عاملتهم به أنبياء الله من التكذيب والعناد ، فعلى هذا تكون الآية ذماً لهم وليست من تعداد النعم عليهم ، ويكون الكلام على سياقه ويكون معنى قوله { هل هذا إلاّ بشر مثلكم } { أفلا تعقلون } إنكاراً عليهم على إهمالهم المتدبر والتفكر المؤديين إلى اقتضاء الغفلة.
وقال ابن عطية : يحتمل أن يريد فيه شرفكم وذكركم آخر الدهر كما نذكر عظام الأمور ، وفي هذا تحريض ثم أكد التحريض بقوله { أفلا تعقلون } وحركهم بذلك إلى النظر.
وقال الزمخشري نحوه قال : { ذكركم } شرفكم وصيتكم كما قال { وإنه لذكر لك ولقومك } أو موعظتكم أو فيه مكارم الأخلاق التي كنتم تطلبون بها الثناء ، وحسن الذكر كحسن الجوار والوفاء بالعهد وصدق الحديث وأداء الأمانة والسخاء وما أشبه ذلك.

وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)

لما رد الله تعالى عليهم ما قالوه بالغ تعالى في زجرهم بذكر ما أهلك من القرى ، فقال : { وكم قصمنا } والمراد أهلها إذ لا توصف القرية بالظلم كقوله { من هذه القرية الظالم أهلها } قال ابن عباس : الإنشاء إيجاد الشيء من غير سبب أنشأه فنشأ وهو ناشىء والجمع نشاء كخدم ، والقصم أفظع الكسر عبر به عن الإهلاك الشديد { وكم } تقتضي التكثير ، فالمعنى كثيراً من أهل القرى أهلكنا إهلاكاً شديداً مبالغاً فيه.
وما روي عن ابن عباس أنها حضوراء قرية باليمن ، وعن ابن وهب عن بعض رجاله أنهما قريتان باليمن بطر أهلهما فيحمل على سبيل التمثيل لا على التعيين في القرية ، لأن { كم } تقتضي التكثير.
ومن حديث أهل حضوراء أن الله بعث إليهم نبياً فقتلوه ، فسلط الله عليهم بخت نصر كما سلطه على أهل بيت المقدس بعث إليهم جيشاً فهزموه ، ثم بعث آخر فهزموه ، ثم خرج إليهم بنفسه فهزمهم في الثالثة ، فلما أخذ القتل فيهم ركضوا هاربين.
{ فلما أحسوا بأسنا } أي باشروه بالإحساس والضمير في { أحسوا } عائد على أهل المحذوف من قوله { وكم قصمنا من قرية } ولا يعود على قوله { قوماً آخرين } لأنه لم يذكر لهم ذنب يركضون من أجله ، والضمير في { منها } عائد على القرية ، ويحتمل أن يعود على { بأسنا } لأنه في معنى الشدة ، فأنث على المعنى ومن على هذا السبب ، والظاهر أنهم لما أدركتهم مقدمة العذاب ركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين.
قيل : ويجوز أن شبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين لدوابهم فهم { يركضون } الأرض بأرجلهم ، كما قال { اركض برجلك } وجواب لما { إذا } الفجائية وما بعدها ، وهذا أحد الدلائل على أن لما في هذا التركيب حرف لا ظرف ، وقد تقدم لنا القول في ذلك.
وقوله : { لا تركضوا } قال ابن عطية : يحتمل أن يكون من قول رجال بخت نصر على الرواية المتقدمة ، فالمعنى على هذا أنهم خدعوهم واستهزؤا بهم بأن قالوا للهاربين منهم : لا تفروا وارجعوا إلى منازلكم { لعلكم تسألون } صلحاً أو جزية أو أمراً يتفق عليه ، فلما انصرفوا أمر بخت نصر أن ينادي فيهم يا لثارات النبيّ المقتول فقتلوا بالسيف عن آخرهم ، هذا كله مروي ويحتمل أن يكون قوله : { لا تركضوا } إلى آخر الآية من كلام ملائكة العذاب ، وصف قصة كل قرية وأنه لم يرد تعيين حضوراء ولا غيرها ، فالمعنى على هذا أن أهل هذه القرى كانوا باغترارهم يرون أنهم من الله بمكان وأنه لو جاءهم عذاب أو أمر لم ينزل بهم حتى يتخاصموا ويسألوا عن وجه تكذيبهم لنبيهم فيحتجون هم عند ذلك بحجج تنفعهم في ظنهم ، فلما نزل العذاب دون هذا الذي أملوه وركضوا فارين نادتهم الملائكة على وجه الهزء بهم.

{ لا تركضوا وارجعوا } { لعلكم تسألون } كما كنتم تطمعون لسفه آرائكم.
وقال الزمخشري : يحتمل أن يكون يعني القائل بعض الملائكة ، أو من ثم من المؤمنين ، أو يجعلون خلقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل ، أو يقوله رب العزة ويسمعه ملائكته لينفعهم في دينهم أو يلهمهم ذلك فيحدثوا به نفوسهم.
{ وارجعوا إلى ما أترفتم فيه } من العيش الرافه والحال الناعمة ، والإتراف إبطار النعمة وهي الترفة { لعلكم تسألون } غداً عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة ، أو { ارجعوا } واجلسوا كما كنتم في مجالسكم وترتبوا في مراتبكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم ومن تملكون أمره وينفذ فيه أمركم ونهيكم ، ويقولوا لكم : بم تأمرون وماذا ترسمون ، وكيف نأتي ونذر كعادة المنعمين المخدمين ، أو يسألكم الناس في أنديتكم المعاون في نوازل الخطوب ويستشيرونكم في المهمات والعوارض ويستشفون بتدابيركم ويستضيئون بآرائكم أو يسألكم الوافدون عليكم والطماع ، ويستمطرون سحائب أكفكم ويميرون إخلاف معروفكم وأياديكم إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رياء الناس وطلب الثناء ، أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكماً إلى تهكم وتوبيخاً إلى توبيخ انتهى.
ونداء الويل هو على سبيل المجاز كأنهم قالوا : يا ويل هذا زمانك ، وتقدم تفسير الويل في البقرة.
والظلم هنا الإشراك وتكذيب الرسل وإيقاع أنفسهم في الهلاك ، واسم { زالت } هو اسم الإشارة وهو { تلك } وهو إشارة إلى الجملة المقولة أي فما زالت تلك الدعوى { دعواهم }.
قال المفسرون : فما زالوا يكررون تلك الكلمة فلم تنفعهم كقوله { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } والدعوى مصدر دعا يقال : دعا دعوى ودعوة كقوله { وآخر دعواهم } لأن المويل كأنه يدعو الويل.
وقال الحوفي : وتبعه الزمخشري وأبو البقاء : { تلك } اسم { زالت } و { دعواهم } الخبر ، ويجوز أن يكون { دعواهم } اسم { زالت } و { تلك } في موضع الخبر انتهى.
وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء قاله الزجاج قبلهم ، وأما أصحابنا المتأخرون فاسم كان وخبرها مشبه بالفاعل والمفعول ، فكما لا يجوز في باب الفاعل والمفعول إذا ألبس أن يكون المتقدم الخبر والمتأخر الاسم لا يجوز ذلك في باب كان ، فإذا قلت : كان موسى صديقي لم يجز في موسى إلى أن يكون اسم كان وصديقي الخبر ، كقولك : ضرب موسى عيسى ، فموسى الفاعل وعيسى المفعول ، ولم ينازع في هذا من متأخري أصحابنا إلاّ أبو العباس أحمد بن عليّ عُرِّف بابن الحاج وهو من تلاميذ الأستاذ أبو عليّ الشلوبين ونبهائهم ، فأجاز أن يكون المتقدم هو المفعول والمتأخر هو الفاعل وأن ألبس فعلى ما قرره جمهور الأصحاب يتعين أن يكون { تلك } اسم { زالت } و { دعواهم } الخبر.
وقوله : { حصيداً } أي بالعذاب تركوا كالصحيد { خامدين } أي موتى دون أرواح مشبهين بالنار إذا طفئت و { حصيداً } مفعول ثان.
قال الحوفي : و { خامدين } نعت لحصيداً على أن يكون { حصيداً } بمعنى محصودين يعني وضع المفرد ويراد به الجمع ، قال : ويجوز أن يجعل { خامدين } حالاً من الهاء والميم.

وقال الزمخشري : { جعلناهم } مثل الحصيد شبههم في استئصالهم واصطلامهم كما تقول : جعلناهم رماداً أي مثل الرماد ، والضمير المنصوب هو الذي كان مبتدأ والمنصوبان بعده كانا خبرين له ، فلما دخل عليهما جعل نصبهما جميعاً على المفعولية.
فإن قلت : كيف ينصب جعل ثلاثة مفاعيل؟ قلت : حكم الاثنين الآخرين حكم الواحد لأن معنى قولك : جعلته حلواً حامضاً جعلته للطعمين ، وكذلك معنى ذلك { جعلناهم } جامعين لمماثلة الحصيد والخمود ، والخمود عطف على المماثلة لا على الحصيد انتهى.
ولما ذكر تعالى قصم تلك القرى الظالمة أتبع ذلك بما يدل على أنه فعل ذلك عدلاً منه ومجازاة على ما فعلوا وأنه إنما أنشأ هذا العالم العلوي المحتوي على عجائب من صنعه وغرائب من فعله ، وهذا العالم السفلي وما أودع فيه من عجائب الحيوان والنبات والمعادن وما بينهما من الهواء والسحاب والرياح على سبيل اللعب بل لفوائد دينية تقضي بسعادة الأبد أو بشقاوته ، ودنياوية لا تعد ولا تحصى كقوله { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً } وقوله { ما خلقناهما إلاّ بالحق } قال الكرماني : اللعب فعل يدعو إليه الجهل يروق أوله ولا ثبات له ، وإنما خلقناهما لنجازي المحسن والمسيء ، وليستدل بهما على الوحدانية والقدرة انتهى.
و { لو أردنا أن نتخذ لهواً } أصل اللهو ما تسرع إليه الشهوة ويدعو إليه الهوى ، وقد يكنى به عن الجماع ، وأما هنا فعن ابن عباس والسدّي هو الولد.
وقال الزجاج : هو الولد بلغة حضرموت.
وعن ابن عباس : إن هذا رد على من قال { اتخذ الله ولداً } وعنه أن اللهو هنا اللعب.
وقيل : اللهو هنا المرأة.
وقال قتادة : هذا في لغة أهل اليمن ، وتكون رداً على من ادعى أن لله زوجة ومعنى { من لدنا } من عندنا بحيث لا يطلع عليه أحد لأنه نقص فستره أولى.
وقال السدّي : من السماء لا من الأرض.
وقيل : من الحور العين.
وقيل : من جهة قدرتنا.
وقيل : من الملائكة لا من الإنس رداً لولادة المسيح وعزير.
وقال الزمخشري : بين أن السبب في ترك اتخاذ اللهو واللعب وانتفائه عن أفعالي أن الحكمة صارفة عنه ، وإلاّ فأنا قادر على اتخاذه إن كنت فاعلاً لأني على كل شيء قدير انتهى.
ولا يجيء هذا إلاّ على قول من قال : اللهو هو اللعب ، وأما من فسره بالولد والمرأة فذلك مستحيل لا تتعلق به القدرة.
والظاهر أن { أن } هنا شرطية وجواب الشرط محذوف ، يدل عليه جواب { لو } أي إن كنا فاعلين اتخذناه إن كنا ممن يفعل ذلك ولسنا ممن يفعله.
وقال الحسن : وقتادة وجريج { أن } نافية أي ما كنا فاعلين.
{ بل نقذف } أي نرمي بسرعة { بالحق } وهو القرآن { على الباطل } وهو الشيطان قاله مجاهد ، وقال كل ما في القرآن من الباطل فهو الشيطان.

وقيل : بالحق بالحجة على الباطل وهو شبههم ووصفهم الله بغير صفاته من الولد وغيره.
وقيل : الحق عام في القرآن والرسالة والشرع ، والباطل أيضاً عام كذلك و { بل } إضراب عن اتخاذ اللعب واللهو ، والمعنى أنه يدحض الباطل بالحق واستعار لذلك القذف والدمغ تصويراً لإبطاله وإهداره ومحقه ، فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة مثلاً قذف به على جرم رخو أجوف فدمغه أي أصاب دماغه ، وذلك مهلك في البشر فكذلك الحق يهلك الباطل.
وقرأ عيسى بن عمر { فيدمغه } بنصب الغين ، قال الزمخشري : وهو في ضعف قوله :
سأترك منزلي لبني تميم . . .
وألحق بالحجاز فأستريحا
وقرىء { فيدمُغه } بضم الميم انتهى.
و { لكم الويل } خطاب للكفار أي الخزي والهم مما تصفون أي تصفونه مما لا يليق به تعالى من اتخاذ الصاحبة والولد ونسبة المستحيلات إليه.
وقيل { لكم } خطاب لمن تمسك بتكذيب الرسل ونسب القرآن إلى أنه سحر وأضغاث أحلام ، وهو المعنى بقوله { مما تصفون } وأبعد من ذهب إلى أنه التفات من ضمير الغيبة في { فما زالت تلك دعواهم } إلى ضمير الخطاب ، ثم أخبر تعالى أن من في السموات والأرض ملك له فاندرج فيه من سموه بالصاحبة والولد ومن عنده هم الملائكة ، واحتمل أن يكون معطوفاً على { من } فيكونون قدر اندرجوا في الملائكة بطريق العموم لدخولهم في { من } وبطريق الخصوص بالنص على أنهم من عنده ، ويكون { لا يستكبرون } جملة حالية منهم أو استئناف إخبار ، واحتمل أن يكون ومن عنده مبتدأ وخبره { لا يستكبرون } وعند هنا لا يراد بها ظرف المكان لأنه تعالى منزه عن المكان ، بل المعنى شرف المكانة وعلو المنزلة ، والظاهر أن قوله { وله من في السموات والأرض } استئناف إخبار بأن جميع العالم ملكه.
وقيل : يحتمل أن يكون معادلاً لقوله { ولكم الويل مما تصفون } كأنه يقسم الأمر في نفسه أي للمتخلفين هذه المقالة الويل ، ولله تعالى من في السموات والأرض انتهى.
والمراد أن الملائكة مكرمون منزلون لكرامتهم على الله منزلة المقرّبين عند الملوك على طريق التمثيل والبيان لشرفهم وفضلهم ، ويقال : حسر البعير واستحسر كَلَّ وتعب وحسرته أنا فهو متعد ولازم ، وأحسرته أيضاً ، وقال الشاعر :
بها جيف الحسرى فإما عظامها . . .
فبيض وأما جلدها فصليب
قال الزمخشري : فإن قلت : الاستحسار مبالغة في الحسور ، وكان الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور قلت : في الاستحسار بيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور وأقصاه ، وأنهم أخفاء لتلك العبادات الباهظة بأن يستحسروا فيما يفعلون انتهى.
{ يسبحون } هم الملائكة بإجماع الأمة وصفهم بتسبيح دائم.
وعن كعب : جعل الله لهم التسبيح كالنفس وطرف العين للبشر يقع منهم دائماً دون أن يلحقهم فيه سآمة ، وفي الحديث : " «إني لأسمع أطيط السماء وحق لها أن تئط ليس فيها موضع راحة إلا وفيه ملك ساجد أو قائم ".

أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)

لما ذكر تعالى الدلائل على وحدانيته وأن من في السموات والأرض كلهم ملك له ، وأن الملائكة المكرمين هم في خدمته لا يفترون عن تسبيحه وعبادته ، عاد إلى ما كان عليه من توبيخ المشركين وذمهم وتسفيه أحلامهم و { أم } هنا منقطعة تتقدر ببل والهمزة ففيها إضراب وانتقال من خبر إلى خبر ، واستفهام معناه التعجب والإنكار أي { اتخذوا آلهة من الأرض } يتصفون بالإحياء ويقدرون عليها وعلى الإماتة ، أي لم يتخذوا آلهة بهذا الوصف بل اتخذوا آلهة جماداً لا يتصف بالقدرة على شيء فهي غير آلهة لأن من صفة الإله القدرة على الإحياء والإماتة.
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم ، وهم أبعد شيء عن هذه الدعوى لأنهم مع إقرارهم بأن الله خالق السموات والأرض وبأنه قادر على المقدورات كلها وعلى النشأة الأولى منكرين للبعث ، وكان عندهم من قبيل المحال الخارج عن قدرة القادر فكيف يدعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة؟ قلت : الأمر كما ذكرت ولكنهم بادعائهم الإلهية يلزمهم أن يدعوا لها الإنشاء لأنه لا يستحق هذا الاسم إلاّ القادر على كل مقدور ، والإنشاء من جملة المقدورات وفيه باب من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل ، وإشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده لأن الإلهية لما صحت صح معها الاقتدار على الإبداء والإعادة ونحو قوله { من الأرض } قولك : فلان من مكة أو من المدينة ، تريد مكي أو مدني ، ومعنى نسبتها إلى الأرض الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض لا أن الآلهة أرضية وسماوية ، من ذلك حديث الأمة التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " «أين ربك؟» فأشارت إلى السماء فقال : «إنها مؤمنة» " لأنه فهم منها أن مرادها نفي الآلهة الأرضية التي هي الأصنام لا إثبات السماء مكاناً لله تعالى.
ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض لأنها إما أن تنحت من بعض الحجارة أو تعمل من بعض جواهر الأرض.
فإن قلت : لا بد من نكتة في قوله { هم } قلت : النكتة فيه إفادة معنى الخصوصية كأنه قيل { أم اتخذوا آلهة } لا تقدر على الإنشاء إلا هم وحدهم انتهى.
و { اتخذوا } هنا يحتمل أن يكون المعنى فيها صنعوا وصوروا ، و { من الأرض } متعلق باتخذوا ، ويحتمل أن يكون المعنى جعلوا الآلهة أصناماً من الأرض كقوله { أتتخذ أصناماً آلهة } وقوله { واتخذ الله إبراهيم خليلاً } وفيه معنى الإصطفاء والاختيار.
وقرأ الجمهور : { ينشرون } مضارع أنشر ومعناه يحيون.
وقال قطرب : معناه يخلقون كقوله { أفمن يخلق كمن لا يخلق } وقرأ الحسن ومجاهد { ينشرون } مضارع نشر ، وهما لغتان نشر وانشر متعديان ، ونشر يأتي لازماً تقول : أنشر الله الموتى فنشروا أي فحيوا ، والضمير في { فيهما } عائد على السماء والأرض وهما كناية عن العالم.

و { إلا } صفة لآلهة أي آلهة غير { الله } وكون { إلا } يوصف بها معهود في لسان العرب ومن ذلك ما أنشد سيبويه رحمه الله :
وكل أخ مفارقه أخوه . . .
لعمر أبيك إلا الفرقدان
قال الزمخشري : فإن قلت : ما منعك من الرفع على البدل؟ قلت : لأن لو بمنزلة إن في أن الكلام معه موجب والبدل لا يسوغ إلا في الكلام غير الموجب ، كقوله { ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك } وذلك لأن أعم العام يصح نفيه ولا يصح إيجابه ، والمعنى لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة شتى غير الواحد الذي هو فاطرهما { لفسدتا } وفيه دلالة على أمرين أحدهما : وجوب أن لا يكون مدبرهما إلاّ واحداً ، والثاني أن لا يكون ذلك الواحد إلاّ إياه وحده كقوله { إلا الله }.
فإن قلت : لم وجب الأمران قلت : لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف.
وعن عبد الملك بن مروان حين قتل عمرو بن سعيد الأشدق كان والله أعز عليّ من دم ناظري ولكن لا يجتمع فحلان في شول وهذا ظاهر.
وأما طريقة التمانع فللمتكلمين فيها تجادل وطراد ولأن هذه الأفعال محتاجة إلى تلك الذات المتميزة بتلك الصفات حتى تثبت وتستقر.
وقال ابن عطية : وذلك بأنه كان يبغي بعضهم على بعض ويذهب بما خلق ، واقتضاب القول في هذا أن الهين لو فرضنا بينهما الاختلاف في تحريك جسم ولا تحريكه فمحال أن تتم الإرادتان ، ومحال أن لا تتم جميعاً ، وإذا تمت الواحدة كان صاحب الأخرى عاجزاً وهذا ليس بإله ، وجواز الاختلاف عليهما بمنزلة وقوعه منهما ، ونظر آخر وذلك أن كل جزء يخرج من العدم إلى الوجود فمحال أن تتعلق به قدرتان ، فإذا كانت قدرة أحدهما توجده ففي الآخر فضلاً لا معنى له في ذلك الجزء ثم يتمادى النظر هكذا جزأ جزأ.
وقال أبو عبد الله الرازي : لو فرضنا موجودين واجبيَ الوجود لذاتهما فلا بد أن يشتركا في الوجود ولا بد أن يمتاز كل واحد منهما عن الآخر بمعيته وما به المشاركة غير ما به الممايزة ، فيكون كل واحد مشاركاً للآخر وكل مركب فهو مفتقر إلى آخر ممكن لذاته ، فإذا واجب الوجود ليس إلاّ واحداً فكل ما عدا هذا فهو محدث ، ويمكن جعل هذا تفسيراً لهذه الآية لأنا لما دللنا على أنه يلزم من فرض موجودين واجبين أن لا يكون شيء منهما واجباً ، وإذا لم يوجد الواجب لم يوجد شيء من هذه الممكنات ، فحينئذ يلزم الفساد في كل العالم.
وقال أبو البقاء : لا يجوز أن يكون بدلاً لأن المعنى يصير إلى قولك { لو كان فيهما } { إلا الله لفسدتا } ألا ترى أنك لو قلت : ما جاءني قومك إلاّ زيد على البدل لكان المعنى جاءني زيد وحده.

وقيل : يمتنع البدل لأن ما قبله إيجاب ولا يجوز النصب على الاسثناء لوجهين ، أحدهما أنه فاسد في المعنى وذلك أنك إذا قلت : لو جاءني القوم إلاّ زيداً لقتلتهم كان معناه أن القتل امتنع لكون زيد مع القوم ، فلو نصب في الآية لكان المعنى فساد السموات والأرض امتنع لوجود الله مع الآلهة ، وفي ذلك إثبات الإله مع الله ، وإذا رفعت على الوصف لا يلزم مثل ذلك لأن المعنى { لو كان فيهما } غير { الله لفسدتا }.
والوجه الثاني أن { آلهة } هنا نكرة ، والجمع إذا كان نكرة لم يستثن منه عند جماعة من المحققين لأنه لا عموم له بحيث يدخل فيه المستثنى لولا الاستثناء انتهى.
وأجاز أبو العباس المبرد في { إلاّ الله } أن يكون بدلاً لأن ما بعد لو غير موجب في المعنى ، والبدل في غير الواجب أحسن من الوصف.
وقد أمعنّا الكلام على هذه المسألة في شرح التسهيل.
وقال الأستاذ أبو عليّ الشلوبين في مسألة سيبويه : لو كان معنا رجل إلاّ زيد لغلبنا أن المعنى لو كان معنا رجل مكان زيد لغلبنا فإلاّ بمعنى غير التي بمعنى مكان.
وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الصائغ : لا يصح المعنى عندي إلاّ أن تكون { إلاّ } في معنى غير الذي يراد بها البدل أي { لو كان فيهما آلهة } عوض واحد أي بدل الواحد الذي هو { الله لفسدتا } وهذا المعنى أراد سيبويه في المسألة التي جاء بها توطئة انتهى.
ولما أقام البرهان على وحدانيته وانفراده بالألوهية نزه نفسه عما وصفه به أهل الجهل بقوله { فسبحان الله } ثم وصف نفسه بأنه مالك هذا المخلوق العظيم الذي جميع العالم هو متضمنهم ثم وصف نفسه بكمال القدرة ونهاية الحكم فقال { لا يسأل عما يفعل } إذ له أن يفعل في ملكه ما يشاء ، وفعله على أقصى درجات الحكمة فلا اعتراض ولا تعقب عليه ، ولما كانت عادة الملوك أنهم لا يسألون عما يصدر من أفعالهم مع إمكان الخطأ فيها ، كان ملك الملوك أحق بأن لا يسأل هذا مع علمنا أنه لا يصدر عنه إلاّ ما اقتضته الحكمة العارية عن الخلل والتعقب ، وجاء { عما يفعل } إذ الفعل جامع لصفات الأفعال مندرج تحته كل ما يصدر عنه من خلق ورزق ونفع وضر وغير ذلك ، والظاهر في قوله { لا يسأل } العموم في الأزمان.
وقال الزجّاج : أي في القيامة { لا يُسْأَل } عن حكمه في عباده { وهم يُسْأَلُون } عن أعمالهم.
وقال ابن بحر : لا يحاسب وهم يحاسبون.
وقيل : لا يؤاخذ وهم يؤاخذون انتهى.
{ وهم يسألون } لأنهم مملوكون مستعبدون واقع منهم الخطأ كثيراً فهم جديرون أن يقال لهم لم فعلتم كذا.
وقرأ الحسن : لا يُسَل ويُسَلُون بفتح السين نقل حركة الهمزة إلى السين وحذف الهمزة.

ثم كرر تعالى عليهم الإنكار والتوبيخ فقال : { أم اتخذوا من دونه آلهة } استفظاعاً لشأنهم واستعظاماً لكفرهم ، وزاد في هذا التوبيخ قوله { من دونه } فكأنه وبخهم على قصد الكفر بالله عز وجل ، ثم دعاهم إلى الإتيان بالحجة على ما اتخذوا ولا حجة تقوم على أن الله تعالى شريكاً لا من جهة العقل ولا من جهة النقل ، بل كتب الله السابقة شاهدة بتنزيهه تعالى عن الشركاء والأنداد كما في الوحي الذي جئتكم به { هذا ذكر من معي } أي عظة للذين معي وهم أمته { وذكر } للذين { من قبلي } وهم أمم الأنبياء ، فالذكر هنا مراد به الكتب الإلهية ويجوز أن يكون { هذا } إشارة إلى القرآن.
والمعنى فيه ذكر الأولين والآخرين فذكر الآخرين بالدعوة وبيان الشرع لهم ، وذكر الأولين بقص أخبارهم وذكر الغيوب في أمورهم.
والمعنى على هذا عرض القرآن في معرض البرهان أي { هاتوا برهانكم } فهذا برهاني في ذلك ظاهر.
وقرأ الجمهور : بإضافة { ذكر } إلى { من } فيهما على إضافة المصدر إلى المفعول كقوله { بسؤال نعجتك } وقرىء بتنوين { ذكر } فيهما و { من } مفعول منصوب بالذكر كقوله { أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً } وقرأ يحيى بن يعمر وطلحة بتنوين { ذكر } فيهما وكسر ميم { من } فيهما ، ومعنى { معي } هنا عندي ، والمعنى { هذا ذكر من } عندي و { من قبلي } أي أذكركم بهذا القرآن الذي عندي كما ذكر الأنبياء من قبلي أممهم ، ودخول { من } على مع نادر ، ولكنه اسم يدل على الصحبة والاجتماع أُجري مجرى الظرف فدخلت عليه { من } كما دخلت على قبل وبعد وعند ، وضعَّف أبو حاتم هذه القراءة لدخول { من } على مع ولم ير لها وجهاً.
وعن طلحة { ذكر } منوناً { معي } دون { مِن } { وذكر } منوناً { قبلي } دون { من }.
وقرأت فرقة { وذكر من } بالإضافة { وذكر } منوناً { من قبلي } بكسر ميم من.
وقرأ الجمهور { الحق } بالنصب والظاهر نصبه على المفعول به فلا يعلمون أي أصل شرهم وفسادهم هو الجهل وعدم التمييز بين الحق والباطل ، ومن ثم جاء الإعراض عنه.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المنصوب أيضاً على معنى التوكيد لمضمون الجملة السابقة كما تقول : هذا عبد الله الحق لا الباطل ، فأكد نسبة انتفاء العلم عنهم ، والظاهر أن الإعراض متسبب عن انتفاء العلم لما فقدوا التمييز بين الحق والباطل أعرضوا عن الحق.
وقال ابن عطية ثم حكم عليهم تعالى بأن { أكثرهم لا يعلمون الحق } لإعراضهم عنه وليس المعنى { فهم معرضون } لأنهم لا يعلمون بل المعنى { فهم معرضون } ولذلك { لا يعلمون الحق } وقرأ الحسن وحميد وابن محيصن { الحق } بالرفع.
قال صاحب اللوامح : ابتداءً والخبر مضمر ، أو خبر والمبتدأ قبله مضمر.
وقال ابن عطية : هذا القول هو { الحق } والوقف على هذه القراءة على { لا يعلمون }.
وقال الزمخشري : وقرىء { الحق } بالرفع على توسيط التوكيد بين السبب والمسبب ، والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل انتهى.

ولما ذكر انتفاء علمهم الحق وإعراضهم أخبر أنه ما أرسل { من رسول } إلاّ جاء مقرراً لتوحيد الله وإفراده بالإلهية والأمر بالعبادة.
ولما كان { من رسول } عاماً لفظاً ومعنى ، أفرد على اللفظ في قوله إلاّ يوحى إليه ثم جمع على المعنى في قوله { فاعبدون } ولم يأت التركيب فاعبدني ، ويحتمل أن يكون الأمر له ولأمته ، وهذه العقيدة من توحيد الله لم تختلف فيها النبوّات وإنما وقع الاختلاف في أشياء من الأحكام.
وقرأ الأخوان والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى والقطعي وابن غزوان عن أيوب وخلف وابن سعدان وابن عيسى وابن جرير { نوحي } بالنون وباقي السبعة بالياء وفتح الحاء ، واختلف عن عاصم.
ثم نزه تعالى نفسه عما نسبوا إليه من الولد.
قيل : ونزلت في خزاعة حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، وقالت النصارى نحو هذا في عيسى واليهود في عزير ثم أضرب تعالى عن نسبة الولد إليه فقال { بل عباد مكرمون } ويشمل هذا اللفظ الملائكة وعزيراً والمسيح ، ويظهر من كلام الزمخشري أنه مخصوص بالملائكة قال : نزلت في خزاعة حيث قالوا : الملائكة بنات الله نزه ذاته عن ذلك ، ثم أخبر عنهم بأنهم { عباد } والعبودية تنافي الولادة إلا أنهم { مكرمون } مقربون عندي مفضلون على سائر العباد لما هم عليه من أحوال وصفات ليست لغيرهم ، فذلك هو الذي غرَّ منهم من زعم أنهم أولادي تعاليت عن ذلك علواً كبيراً انتهى.
وقرأ عكرمة { مكرمون } بالتشديد والجمهور بالتخفيف ، وقرأ { لا يسبِقونه } بكسر الباء.
وقرىء بضمها من سابقني فسبقته أسبقه ، والمعنى أنهم يتبعون قوله ولا يقولون شيئاً حتى يقوله : فلا يسبق قولهم قوله.
وأل في بالقول نابت مناب الضمير على مذهب الكوفيين أي بقولهم وكذا قال الزمخشري : والمراد بقولهم فأنيبت اللام مناب الإضافة أو الضمير محذوف أي بالقول منهم ، وذلك على مذهب البصريين.
{ وهم بأمره يعملون } فكما أن قولهم تابع لقوله كذلك فعلهم مبني على أمره لا يعملون عملاً ما لم يؤمروا به ، وهذه عبارة عن توغلهم في طاعته والامتثال لأمره.
ثم أخبر تعالى أنه { يعلم ما بين أيديهم } أي ما تقدم من أفعالهم وأقوالهم ، والحوادث التي لها إليهم تسبب وما تأخر وعلمه بذلك يجري مجرى السبب لطاعتهم لما علموه عالماً بجميع المعلومات وظواهرهم وبواطنهم كان ذلك داعياً لهم إلى نهاية الخضوع والدؤوب على العبادة.
قال ابن عباس : { يعلم } ما قدموا وما أخروا من أعمالهم.
وقال نحوه عمار بن ياسر ، قال : ما عملوا وما لم يعملوا بعد ، وقيل { ما بين أيديهم } الآخرة { وما خلفهم } الدنيا.
وقيل عكس ذلك.
وقيل { يعلم } ما كان قبل أن خلقهم وما كان بعد خلقهم.
ولما كانوا مقهورين تحت أمره وملكوته وهو محيط بهم لم يجسروا على أن يشفعوا إلاّ لمن ارتضاه الله وأهله للشفاعة في زيادة الثواب والتعظيم ، ثم { هم } مع ذلك { من خشيته مشفقون } متوقعون حذرون لا يأمنون مكر الله.

وقال ابن عباس : { لمن ارتضى } هو من قال : لا إله إلا الله وشفاعتهم : الاستغفار.
وقال مجاهد : لمن ارتضاه الله أن يشفع.
وقيل : شفاعتهم في القيامة وفي الصحيح أنهم يشفعون في الدنيا والآخرة.
وبعد أن وصف كرامتهم عليه وأثنى عليهم وأضاف إليهم تلك الأفعال السنية فاجأ بالوعيد الشديد وأنذر بعذاب جهنم من ادعى منهم أنه إله وذلك على سبيل العرض والتمثيل مع علمه بأنه لا يكون كقوله { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } قصد بذلك تفظيع أمر الشرك وتعظيم شأن التوحيد.
وقرأ الجمهور { نجزيه } بفتح النون.
وقرأ أبو عبد الرحمن المقري بضمها أراد نجزئه بالهمز من أجزائي كذا كفاني ، ثم خفف الهمزة فانقلبت ياء كذلك أي مثل هذا الجزاء { نجزي الظالمين } وهم الكافرون والواضعون الشيء في غير موضعه ، وأداة الشرط تدخل على الممكن والممتنع نحو قوله { لئن أشركت.
}

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)

هذا استفهام توبيخ لمن ادعى مع الله آلهة ، ودلالة على تنزيهه عن الشريك ، وتوكيد لما تقدم من أدلة التوحيد ، ورد على عبدة الأوثان من حيث إنّ الإله القادر على هذه المخلوقات المتصرف فيها التصرف العجيب ، كيف يجوز في العقل أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر لا يضر ولا ينفع والرؤية هنا من رؤية القلب.
وقيل : من رؤية البصر وذلك على الاختلاف في الرتق والفتق.
وقرأ ابن كثير وحميد وابن محيصن ألم يَرَ بغير واو العطف والجمهور { أو لم } بالواو.
{ كانتا } قال الزجاج : السموات جمع أريد به الواحد ، ولهذا قال { كانتا رتقاً } لأنه أراد السماء والأرض ، ومنه أن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا جعل السموات نوعاً والأرضين نوعاً ، فأخبر عن النوعين كما أخبر عن اثنين كما تقول : أصلحت بين القوم ومر بنا غنمان أسودان لقطيعي غنم.
وقال الحوفي : قال { كانتا رتقاً } والسموات جمع لأنه أراد الصنفين ، ومنه قول الأسود بن يعفر :
إن المنية والحتوف كلاهما . . .
يوفي المحارم يرقبان سوادي
لأنه أراد النوعين.
وقال أبو البقاء : الضمير يعود على الجنسين.
وقال الزمخشري : وإنما قال { كانتا } دون كنّ لأن المراد جماعة { السموات } وجماعة { الأرض } ونحوه قولهم : لقاحان سوداوان إن أراد جماعتان فعل في المضمر ما فعل في المظهر.
وقال ابن عطية : وقال { كانتا } من حيث هما نوعان ونحوه قول عمرو بن شييم :
ألم يحزنك أن جبال قيس . . .
وتغلب قد تباينت انقطاعا
قال ابن عباس والحسن وعطاء والضحاك وقتادة : كانتا شيئاً واحداً ففصل الله بينهما بالهواء.
وقال كعب : خلق الله السموات والأرض بعضها على بعض ثم خلق ريحاً بوسطها ففتحها بها وجعل السموات سبعاً والأرضين سبعاً.
وقال مجاهد والسدّي وأبو صالح : كانت السموات والأرض مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات ، وكذلك الأرضون كانت مرتتقة طبقة واحدة ففتقها وجعلها سبعاً.
وقالت فرقة : السموات والأرض رتق بالظلمة وفتقها الله بالضوء.
وقالت فرقة : السماء قبل المطر رتق ، والأرض قبل النبات رتق { ففتقناهما } بالمطر والنبات كما قال { والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع } قال ابن عطية : وهذا قول حسن يجمع العبرة وتعديد النعمة والحجة للمحسوس بين ، ويناسب قوله { وجعلنا من الماء كل شيء حيّ } أي من الماء الذي أوجده الفتق انتهى.
وعلى هذين القولين تكون الرؤية من البصر وعلى ما قبلهما من رؤية القلب ، وجاء تقريرهم بذلك لأنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه فقام مقام المرئي المشاهد ، ولأن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل فلا بد للتباين دون التلاصق من مخصص ، وهو الله سبحانه وقرأ الجمهور { رتْقاً } بسكون التاء وهو مصدر يوصف به كزور وعدل فوقع خبراً للمثنى.

وقرأ الحسن وزيد بن عليّ وأبو حيوة وعيسى { رتقاً } بفتح التاء وهو اسم المرتوق كالقبض والنفض ، فكان قياسه أن يبني ليطابق الخبر الاسم.
فقال الزمخشري : هو على تقدير موصوف أي { كانتا } شيئاً { رتقاً }.
وقال أبو الفضل الرازي : الأكثر في هذا الباب أن يكون المتحرك منه اسماً بمعنى المفعول والساكن مصدر ، أو قد يكونان مصدرين لكن المتحرك أولى بأن يكون في معنى المفعول لكن هنا الأولى أن يكونا مصدرين فأقيم كل واحد منهما مقام المفعولين ، ألا ترى أنه قال { كانتا رتقاً } فلو جعلت أحدهما اسماً لوجب أن تثنيه فلما قال { رتقاً } كان في الوجهين كرجل عدل ورجلين عدل وقوم عدل انتهى.
{ وجعلنا } إن تعدت لواحد كانت بمعنى وخلقنا من الماء كل حيوان أي مادته النطفة قاله قطرب وجماعة أو لما كان قوامه الماء المشروب وكان محتاجاً إليه لا يصبر عنه جعل مخلوقاً منه كقوله { خلق الإنسان من عجل } قاله الكلبي وغيره ، وتكون الحياة على هذا حقيقة ويكون كل شيء عاماً مخصوصاً إذ خرج منه الملائكة والجن وليسوا مخلوقين من نطفة ولا محتاجين للماء.
وقال قتادة : أي خلقنا كل نام من الماء فيدخل فيه النبات والمعدن ، وتكون الحياة فيهما مجازاً أو عبر بالحياة عن القدر المشترك بينهما وبين الحيوان وهو النموّ ويكون أيضاً على هذا عاماً مخصوصاً ، وإن تعدّت { جعلنا } لاثنين فالمعنى صيرنا { كل شيء حي } بسبب من الماء لا بد له منه.
وقرأ الجمهور { حي } بالخفض صفة لشيء.
وقرأ حميد حياً بالنصب مفعولاً ثانياً لجعلنا ، والجار والمجرور لغو أي ليس مفعولاً ثانياً ل { جعلنا } { أفلا يؤمنون } استفهام إنكار وفيه معنى التعجب من ضعف عقولهم ، والمعنى أفلا يتدبرون هذه الأدلة ويعملوا بمقتضاها ويتركوا طريقة الشرك ، وأطلق الإيمان على سببه وقد انتظمت هذه الآية دليلين من دلائل التوحيد وهي من الأدلة السماوية والأرضية.
ثم ذكر دليلاً آخر من الدلائل الأرضية فقال : { وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم } وتقدم شرح نظير هذه الجملة في سورة النحل { وجعلنا فيها فجاجاً سبلاً } وهذا دليل رابع من الدلائل الأرضية ، والظاهر أن الضمير في { فيها } عائد على الأرض.
وقيل يعود على الرواسي ، وجاء هنا تقديم { فجاجاً } على قوله { سبلاً } وفي سورة نوح { لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً } فقال الزمخشري : وهي يعني { فجاجاً } صفة ولكن جعلت حالاً كقوله :
لمية موحشاً طلل . . .
يعني أنها حال من سبل وهي نكرة ، فلو تأخر { فجاجاً } لكان صفة كما في تلك الآية ولكن تقدم فانتصب على الحال قال : فإن قلت : ما الفرق بينهما من جهة المعنى؟ قلت : وجهان أحدهما إعلام بأنه جعل فيها طرقاً واسعة ، والثاني بأنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة فهو بيان لما أبهم ثمة انتهى.
يعني بالإبهام أن الوصف لا يلزم أن يكون الموصوف متصفاً به حالة الإخبار عنه ، وإن كان الأكثر قيامه به حالة الإخبار عنه ، ألا ترى أنه يقال : مررت بوحشي القاتل حمزة ، فحالة المرور لم يكن قائماً به قتل حمزة ، وأما الحال فهي هيئة ما تخبر عنه حالة لإخبار { لعلهم يهتدون } في مسالكهم وتصرّفهم.

وما رفع وسمك على شيء فهو سقف.
قال قتادة : حفظ من البلى والتغير على طول الدهر.
وقيل : حفظ من السقوط لإمساكه من غير علاقة ولا عماد.
وقيل : حفظ من الشرك والمعاصي.
وقال الفراء : حفظ من الشياطين بالرجوم.
وعن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى السماء فقال : « إن السماء سقف مرفوع وموج مكفوف يجري كما يجري السهم محفوظاً من الشياطين » وإذا صح هذا الحديث كان نصاً في معنى الآية.
{ وهم عن آياتها } أي عن ما وضع الله فيها من الأدلة والعبر بالشمس والقمر وسائر النيرات ومسايرها وطلوعها وغروبها على الحساب القويم والترتيب العجيب الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة.
وقرأ الجمهور { عن آياتها } بالجمع.
وقرأ مجاهد وحميد عن آيتها بالإفراد ، فيجوز أنه جعل الجعل أو السقف أو الخلق أي خلق السماء آية واحدة تحوي الآيات كلها ، ويجوز أنه أراد بها الجمع فجعلها اسم الجنس ، ودل على ذلك كثرة ما في السماء من الآيات.
والمعنى { وهم عن } الاعتبار بآياتها { معرضون } وقال الزمخشري : هم يتفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع الدنياوية كالاستضاءة بقمريها والاهتداء بكواكبها وحياة الأرض والحيوان بأمطارها { وهم عن } كونها آية بينة على الخالق { معرضون }.
والتنوين في { كلٌّ } عوض من المضاف إليه ، والفلك الجسم الدائر دورة اليوم والليلة.
وعن ابن عباس والسدّي : الفلك السماء.
وقال أكثر المفسرين : الفلك موج مكفوف تحت السماء تجري فيه الشمس والقمر.
وقال قتادة : الفلك استدارة بين السماء والأرض يدور بالنجوم مع ثبوت السماء.
وقيل : الفلك القطب الذي تدور عليه النجوم وهو قطب الشمال.
وقيل : لكل واحد من السيارات فلك ، وفلك الأفلاك يحركها حركة واحدة من المشرق إلى المغرب.
وقال الضحاك : الفلك ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم ، والظاهر أنه جسم وفيه الاختلاف المذكور والظاهر أن كلاًّ يسبح في فلك واحد.
قيل : ولكل واحد فلك يخصه فهو كقولهم : كساهم الأمير حلة أي كسى كل واحد ، وجاء { يسبحون } بواو الجمع العاقل ، فأما الجمع فقيل ثم معطوف محذوف وهو والنجوم ، ولذلك عاد الضمير مجموعاً ولو لم يكن ثم معطوف محذوف لكان يسبحان مثنى.
وقال الزمخشري : الضمير للشمس والقمر ، والمراد بهما جنس الطوالع كل يوم وليلة جعلوها متكاثرة لتكاثر مطالعها وهو السبب في جمعها بالشموس والأقمار ، وإلاّ فالشمس واحدة والقمر واحد انتهى.
وحسن ذلك كونه جاء فاصلة رأس آية ، وأما كونه ضمير من يعقل ولم يكن التركيب يسبحن.

فقال الفراء : لما كانت السباحة من أفعال الآدميين جاء ما أسند إليهما مجموعاً من يعقل كقوله { رأيتهم لي ساجدين } قال أبو عبد الله الرازي : وعلى قول أبي عليّ بن سينا سبب ذلك أنها عنده تعقل انتهى.
وهذه الجملة يحتمل أن تكون استئناف إخبار فلا محل لها ، أو محلها النصب على الحال من { الشمس والقمر } لأن { الليل والنهار } لا يتصفان بأنهما يجريان { في فلك } فهو كقولك : رأيت زيداً وهنداً متبرجة والسباحة : العوم والذي يدل عليه الظاهر أن الشمس والقمر هما اللذان يجريان في الفلك ، وأن الفلك لا يجري.
{ وما جعلنا } الآية.
قيل : إن بعض المسلمين قال : إن محمداً لن يموت وإنما هو مخلد ، فأنكر ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت.
وقيل : طعن كفار مكة عليه بأنه بشر يأكل الطعام ويموت فكيف يصح إرساله.
وقال الزمخشري : كانوا يقدرون أنه سيموت فيشمتون بموته فنفى الله عنه الشماتة بهذا أي قضى الله أن لا يخلد في الدنيا بشراً فلا أنت ولا هم إلاّ عرضة للموت فإن مت أيبقى هؤلاء؟ وفي معناه قول الإمام الشافعي رضي الله عنه :
تمنى رجال أن أموت وإن أمت . . .
فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى . . .
تزود لأخرى مثلها فكأن قد
وقول الآخر :
فقل للشامتين بنا أفيقوا . . .
سيلقى الشامتون كما لقينا
والفاء في { أفإن متّ } للعطف قدّمت عليها همزة الاستفهام لأن الاستفهام له صدر الكلام ، دخلت على إن الشرطية والجملة بعدها جواب للشرط ، وليست مصب الاستفهام فتكون الهمزة داخلة عليها ، واعترض الشرط بينهما فحذف جوابه هذا مذهب سيبويه.
وزعم يونس أن تلك الجملة هي مصب الاستفهام والشرط معترض بينهما وجوابه محذوف.
قال ابن عطية : وألف الاستفهام داخلة في المعنى على جواب الشرط انتهى.
وفي هذه الآية دليل لمذهب سيبويه إذ لو كان على ما زعم يونس لكان التركيب { أفإن مت } هم { الخالدون } بغير فاء ، وللمذهبين تقرير في علم النحو.
{ كل نفس ذائقة الموت } تقدم تفسير هذه الجملة { ونبلوكم } نختبركم وقدم الشر لأن الابتلاء به أكثر ، ولأن العرب تقدم الأقل والأردأ ، ومنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات.
وعن ابن عباس : الخير والشر هنا عام في الغنى والفقر ، والصحة والمرض ، والطاعة والمعصية ، والهدى والضلال.
قال ابن عطية : هذان الأخيران ليسا داخلين في هذا لأن من هدى فليس هذه اختياراً ولا من أطاع.
بل قد تبين خيره.
والظاهر أن المراد من الخير والشر هنا كل ما صح أن يكون فتنة وابتلاء انتهى.
وعن ابن عباس أيضاً : بالشدة والرخاء أتصبرون على الشدة وتشكرون على الرخاء أم لا.
وقال الضحاك : الفقر والمرض والغنى والصحة.
وقال ابن زيد : المحبوب والمكروه ، وانتصب { فتنة } على أنه مفعول له أو مصدر في موضع الحال ، أو مصدر من معنى { نبلوكم } { وإلينا ترجعون } فنجازيكم على ما صدر منكم في حالة الابتلاء من الصبر والشكر ، وفي غير الابتلاء.
وقرأ الجمهور { تُرجعون } بتاء الخطاب مبنياً للمفعول.
وقرأت فرقة بالتاء مفتوحة مبنياً للفاعل.
وقرأت فرقة بضم الياء للغيبة مبنياً للمفعول على سبيل الالتفات.

وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)

قال السدّي ومقاتل : " مرّ الرسول عليه الصلاة والسلام بأبي جهل وأبي سفيان ، فقال أبو جهل : هذا نبي عبد مناف ، فقال أبو سفيان : وما تنكرون أن يكون نبياً في بني عبد مناف ، فسمعهما الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لأبي جهل : «ما تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمك الوليد بن المغيرة ، وأما أنت يا أبا سفيان فإنما قلت ما قلت حمية» " فنزلت.
ولما كان الكفار يغمهم ذكر آلهتهم بسوء شرعوا في الاستهزاء وتنقيص من يذكرهم على سبيل المقابلة و { إن } نافية بمعنى ما ، والظاهر أن جواب { إذا } هو { إن يتخذونك } وجواب إذا بإن النافية لم يرد منه في القرآن إلا هذا وقوله في القرآن { وإذا رأوك إن يتخذونك إلاّ هزواً } ولم يحتج إلى الفاء في الجواب كما لم تحتج إليه ما إذا وقعت جواباً كقوله { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } ما كان حجتهم بخلاف أدوات الشرط ، فإنها إذا كان الجواب مصدراً بما النافية فلا بد من الفاء ، نحو إن تزورنا فما نسيء إليك.
وفي الجواب لاذا بأن وما النافيتين دليل واضح على أن { إذا } ليست معمولة للجواب ، بل العامل فيها الفعل الذي يليها وليست مضافة للجملة خلافاً لأكثر النحاة.
وقد استدللنا على ذلك بغير هذا من الأدلة في شرح التسهيل.
وقيل : جواب { إذا } محذوف وهو يقولون المحكي به قولهم { أهذا الذي يذكر آلهتكم } وقوله { إن يتخذونك إلاّ هزواً } كلام معترض بين { إذا } وجوابه و { يتخذونك } يتعدى إلى اثنين ، والثاني { هزواً } أي مهزوأ به ، وهذا استفهام فيه إنكار وتعجيب.
والذكر يكون بالخير وبالشر ، فإذا لم يذكر متعلقه فالقرينة تدل عليه ، فإن كان من صديق فالذكر ثناء أو من غيره فذم ، ومنه { سمعنا فتى يذكرهم } أي بسوء ، وكذلك هنا { أهذا الذي يذكر آلهتكم }.
ثم نعى عليه إنكارهم عليه ذكر آلهتهم بهذه الجملة الحالية وهي { وهم بذكر الرحمن هم كافرون } أي ينكرون وهذه حالهم يكفرون بذكر الرحمن ، وهو ما أنزل من القرآن فمن هذه حاله لا ينبغي أن ينكر على من يغيب آلهتهم ، والظاهر أن هذه الجملة حال من الضمير في يقولون المحذوف.
وقال الزمخشري : والجملة في موضع الحال أي { يتخذونك هزواً } وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية وهي الكفر بالله انتهى.
فجعل الجملة الحالية العامل فيها { يتخذونك هزواً } المحذوفة وكررهم على سبيل التوكيد.
وروي أنها نزلت حين أنكروا لفظة { الرحمن } وقالوا : ما نعرف الرحمن إلاّ في اليمامة ، والمراد بالرحمن هنا الله ، كأنه قيل { وهم بذكر } الله ولما كانوا يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى الإقرار والعلم نهاهم تعالى عن الاستعجال وقدم أولاً ذم { الإنسان } على إفراط العجلة وأنه مطبوع عليها ، والظاهر أنه يراد بالإنسان هنا اسم الجنس وكونه { خلق } { من عجل } وهو على سبيل المبالغة لما كان يصدر منه كثيراً.

كما يقول لمكثر اللعب أنت من لعب ، وفي الحديث « لست من دد ولا دد مني » وقال الشاعر :
وإنّا لمما يضرب الكبش ضربة . . .
على رأسه تلقى اللسان من الفم
لما كانوا أهل ضرب الهام وملازمة الحرب قال : إنهم من الضرب ، وبهذا التأويل يتم معنى الآية ويترتب عليه قوله { سأريكم آياتي } أي آيات الوعيد { فلا تستعجلون } في رؤيتكم العذاب الذي تستعجلون به ، ومن يدعي القلب فيه وهو أبو عمرو وإن التقدير خلق العجل من الإنسان وكذا قراءة عبد الله على معنى أنه جعل طبيعة من طبائعه وجزأ من أخلاقه ، فليس قوله بجيد لأن القلب الصحيح فيه أن لا يكون في كلام فصيح وإن بابه الشعر.
قيل : فمما جاء في الكلام من ذلك قول العرب : إذا طلعت الشعرى استوى العود على الحر باء.
وقالوا : عرضت الناقة على الحوض وفي الشعر قوله :
حسرت كفي عن السربال آخذه . . .
وقال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدّي والضحاك ومقاتل والكلبي { الإنسان } هنا آدم.
قال مجاهد : لما دخل الروح رأسه وعينيه رأى الشمس قاربت الغروب فقال : يا رب عجل تمام خلقي قبل أن تغيب الشمس.
وقال سعيد : لما بلغت الروح ركبتيه كاد يقوم فقال الله { خلق الإنسان من عجل }.
وقال ابن زيد : خلقه الله يوم الجمعة على عجلة في خلقه.
وقال الأخفش { من عجل } لأن الله قال له كن فكان.
وقال الحسن : { من عجل } أي ضعيف يعني النطفة.
وقيل : خلق بسرعة وتعجيل على غير تريب الآدميين من النطفة والعلقة والمضغة ، وهذا يرجع لقول الأخفش.
وقيل : { من عجل } من طين والعجل بلغة حمير الطين.
وأنشد أبو عبيدة لبعض الحميريين :
النبع في الصخرة الصماء منبته . . .
والنخل منبته في الماء والعجل
وقيل : { الإنسان } هنا النضر بن الحارث والذي ينبغي أن تحمل الآية عليه هو القول الأول وهو الذي يناسب آخرها.
والآيات هنا قيل : الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة ، أي يأتيكم في وقته.
وقيل : أدلة التوحيد وصدق الرسول.
وقيل : آثار القرون الماضية بالشام واليمن ، والقول الأول أليق أي سيأتي ما يسوؤكم إذا دمتم على كفركم ، كأنه يريد يوم بدر وغيره في الدنيا وفي الآخرة.
وقال الزمخشري : فإن قلت : لم نهاهم عن الاستعجال مع قوله { خلق الإنسان من عجل } وقوله { وكان الإنسان عجولاً } أليس هذا من تكليف ما لا يطاق؟ قلت : هذا كما ركب فيه من الشهوة وأمره أن يغلبها لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة انتهى.
وهو على طريق الاعتزال.
وقرأ مجاهد وحميد وابن مقسم { خَلَقَ } مبنياً للفاعل { الإنسان } بالنصب أي { خلق } الله { الإنسان } وقوله { متى هذا الوعد } استفهام على جهة الهزء ، وكان المسلمون يتوعدونهم على لسان الشرع و { متى } في موضع الجر لهذا فموضعه دفع ، ونقل عن بعض الكوفيين أن موضع { متى } نصب على الظرف والعامل فيه فعل مقدر تقديره يكون أو يجيء ، وجواب { لو } محذوف لدلالة الكلام عليه ، وحذفه أبلغ وأهيب من النص عليه فقدره ابن عطية لما استعجلوا ونحوه ، وقدره الزمخشري لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال.

وقيل : لعلموا صحة البعث.
وقيل : لعلموا صحة الموعود.
وقال الحوفي : لسارعوا إلى الإيمان.
وقال الكسائي : هو تنبيه على تحقيق وقوع الساعة وحين يراد به وقت الساعة يدل على ذلك ، بل تأتيهم بغتة انتهى.
و { حين } قال الزمخشري : مفعول به ليعلم أي لو يعلمون الوقت الذي يستعجلون عنه بقولهم { متى هذا الوعد } وهو وقت صعب شديد تحيط بهم النار من وراء وقدام ، ولكن جهلهم به هو الذي هونه عندهم.
قال : ويجوز أن يكون { يعلم } متروكاً فلا تعدية بمعنى { لو } كان معهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين ، و { حين } منصوب بمضمر أي { حين لا يكفون عن وجوههم النار } يعلمون أنهم كانوا على الباطل ، وينتفي عنهم هذا الجهل العظيم أي لا يكفونها انتهى.
والذي يظهر أن مفعول { يعلم } محذوف لدلالة ما قبله أي لو يعلم الذين كفروا مجيء الموعود الذي سألوا عنه واستنبطوه.
و { حين } منصوب بالمفعول الذي هو مجيء ويجوز أن يكون من باب الإعمال على حذف مضاف ، وأعمل الثاني والمعنى لو يعلمون مباشرة النار حين لا يكفونها عن وجوههم ، وذكر الوجوه لأنها أشرف ما في الإنسان وعجل حواسه ، والإنسان أحرص على الدفاع عنه من غيره من أعضائه ، ثم عطف عليها الظهور والمراد عموم النار لجميع أبدانهم ولا أحد يمنعهم من العذاب { بل تأتيهم بغتة } أي تفجؤهم.
قال ابن عطية { بل تأتيهم } استدراك مقدر قبله نفي تقديره إن الآيات لا تأتي بحسب اقتراحهم انتهى.
والظاهر أن الضمير في { تأتيهم } عائد على النار : وقيل : على الساعة التي تصبرهم إلى العذاب.
وقيل : على العقوبة.
وقال الزمخشري : في عود الضمير إلى النار أو إلى الوعد لأنه في معنى النار وهي التي وعدوها ، أو على تأويل العدة والموعدة أو إلى الحين لأنه في معنى الساعة أو إلى البعثة انتهى.
وقرأ الأعمش بل يأتيهم بالياء بغتة بفتح الغين فيبهتهم بالياء والضمير عائد إلى الوعد أو الحين قاله الزمخشري.
وقال أبو الفضل الرازي : لعله جعل النار بمعنى العذاب فذكر ثم رد ردّها إلى ظاهر اللفظ { ولا هم ينظرون } أي يؤخرون عما حل بهم ، ولما تقدم قوله { إن يتخذونك إلاّ هزواً } سلاه تعالى بأن من تقدمه من الرسل وقع من أممهم الاستهزاء بهم ، وأن ثمرة استهزائهم جنوها هلاكاً وعقاباً في الدنيا والآخرة ، فكذلك حال هؤلاء المستهزئين.

وتقدم تفسير مثل هذه الآية في الأنعام.
ثم أمره تعالى أن يسألهم من الذي يحفظكم في أوقاتكم من بأس الله أي لا أحد يحفظكم منه ، وهو استفهام تقريع وتوبيخ.
وفي آخر الكلام تقدير محذوف كأنه ليس لهم مانع ولا كالىء ، وعلى هذا النفي تركيب بل في قوله { بل هم عن ذكر ربهم معرضون } قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري : بل هم معرضون عن ذكره لا يخطرونه ببالهم فضلاً أن يخافوا بأسه حتى إذا رزقوا الكلاءة منه عرفوا من الكالىء وصلحوا للسؤال عنه ، والمراد أنه أمر رسوله بسؤالهم عن الكالىء ثم بيّن أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم انتهى.
وقرأ أبو جعفر والزهري وشيبة : يكلُوكم بضمة خفيفة من غير همز.
وحكى الكسائي والفراء يكلَوكم بفتح اللام وإسكان الواو.
{ أم لهم آلهة } بمعنى بل ، والهمزة كأنه قيل بل ألهم آلهة فأضرب ثم استفهم { تمنعهم } من العذاب.
وقال الحوفي { من دوننا } متعلق بتمنعهم انتهى.
قيل : والمعنى ألهم آلهة تجعلهم في منعة وعز من أن ينالهم مكروه من جهتنا.
وقال ابن عباس : في الكلام تقديم وتأخير ، تقديره أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم تقول : منعت دونه كففت أذاه فمن دوننا هو من صلة { آلهة } أي أم لهم آلهة دوننا أو من صلة { تمنعهم } أي { أم لهم } مانع من سوانا.
ثم استأنف الإخبار عن آلهتهم فبيَّن أن ما ليس بقادر على نصر نفسه ومنعها ولا بمصحوب من الله بالنصر والتأييد كيف يمنع غيره وينصره؟ وقال ابن عباس { يصحبون } يمنعون.
وقال مجاهد : ينصرون.
وقال قتادة : لا يصحبون من الله بخير.
وقال الشاعر :
ينادي بأعلى صوته متعوذاً . . .
ليصحب منا والرماح دوان
وقال مجاهد : يحفظون.
وقال السدّي : لا يصحبهم من الملائكة من يدفع عنهم ، والظاهر عود الضمير في { ولا هم } على الأصنام وهو قول قتادة.
وقيل : على الكفار وهو قول ابن عباس ، وفي التحرير مدار هذه الكلمة يعني { يصحبون } على معنيين أحدهما أنه من صحب يصحب ، والثاني من الإصحاب أصحب الرجل منعه من الآفات.

بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)

{ هؤلاء } إشارة إلى المخاطبين قبل وهم كفار قريش ، ومن اتخذ آلهة من دون الله أخبر تعالى أنه متع { هؤلاء } الكفار { وآباءهم } من قبلهم بما رزقهم من حطام الدنيا حتى طالت أعمارهم في رخاء ونعمة ، وتدعسوا في الضلالة بإمهاله تعالى إياهم وتأخيرهم إلى الوقت الذي يأخذهم فيه { أفلا يرون أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون } تقدم تفسير هذه الجملة في آخر الرعد.
واقتصر الزمخشري من تلك الأقوال على معنى أنّا ننقص أرض الكفر ودار الحرب ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها وردها دار إسلام قال : فإن قلت : أي فائدة في قوله { نأتي الأرض } ؟ قلت : الفائدة فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدي المسلمين ، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها ناقصة من أطرافها انتهى.
وفي ذلك تبشير للمؤمنين بما يفتح الله عليهم ، وأكثر المفسرين على أنها نزلت في كفار مكة وفي قولهم : { أفهم الغالبون } دليل على ذلك إذ المعنى أنهم هم الغالبون ، فهو استفهام فيه تقريع وتوبيخ حيث لم يعتبروا بما يجري عليهم.
ثم أمره تعالى أن يقول { إنما أنذركم بالوحي } أي أعلمكم بما تخافون منه بوحي من الله لا من تلقاء نفسي ، وما كان من جهة الله فهو الصدق الواقع لا محالة كما رأيتم بالعيان من نقصان الأرض من أطرافها ، ثم أخبر أنهم مع إنذارهم معرضون عما أنذروا به فالإنذار لا يجدي فيهم إذ هم صم عن سماعه.
ولما كان الوحي من المسموعات كان ذكر الصمم مناسباً و { الصم } هم المنذرون ، فأل فيه للعهد وناب الظاهر مناب المضمر لأن فيه التصريح بتصامهم وسد أسماعهم إذا أنذروا ، ولم يكن الضمير ليفيد هذا المعنى ونفي السماع هنا نفي جدواه.
وقرأ الجمهور { يَسمع } بفتح الياء والميم { الصم } رفع به و { الدعاء } نصب.
وقرأ ابن عامر وابن جبير عن أبي عمرو وابن الصلت عن حفص بالتاء من فوق مضمومة وكسر الميم { الصم الدعاء } بنصبهما والفاعل ضمير المخاطب وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقرأ كذلك إلا أنه بالياء من نحت أي { ولا يسمع } الرسول وعنه أيضاً { ولا يسمع } مبنياً للمفعول { الصم } رفع به ذكره ابن خالويه.
وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي عن اليزيدي عن أبي عمرو { يُسمِع } بضم الياء وكسر الميم { الصم } نصباً { الدعاء } رفعاً بيسمع ، أسند الفعل إلى الدعاء اتساعاً والمفعول الثاني محذوف ، كأنه قيل : ولا يسمع النداء الصم شيئاً.
ثم أخبر تعالى أن هؤلاء الذين صموا عن سماع ما أنذروا به إذا نالهم شيء مما أنذروا به ، ولو كان يسيراً نادوا بالهلاك وأقروا بأنهم كانوا ظالمين ، نبهوا على العلة التي أوجبت لهم العذاب وهو ظلم الكفر وذلوا وأذعنوا.

قال ابن عباس : { نفحة } طرف وعنه هو الجوع الذي نزل بمكة.
وقال ابن جريج : نصيب من قولهم نفح له من العطاء نفحة إذا أعطاه نصيباً وفي قوله { ولئن مستهم نفحة } ثلاث مبالغات لفظ المس ، وما في مدلول النفح من القلة إذ هو الربح اليسير أو ما يرضخ من العطية ، وبناء المرة منه ولم يأت نفح فالمعنى أنه بأدنى إصابة من أقل العذاب أذعنوا وخضعوا وأقروا بأن سبب ذلك ظلمهم السابق.
ولما ذكر حالهم في الدنيا إذا أصيبوا بشيء استطرد لما يكون في الآخرة التي هي مقر الثواب والعقاب ، فأخبر تعالى عن عدله وأسند ذلك إلى نفسه بنون العظمة فقال { ونضع الموازين } وتقدم الكلام في الموازين في أول الأعراف ، واختلاف الناس في ذلك هل ثم ميزان حقيقة وهو قول الجمهور أو ذلك على سبيل التمثيل عن المبالغة في العدل التام وهو قول الضحاك وقتادة؟ قالا : ليس ثم ميزان ولكنه العدل والقسط مصدر وصفت به الموازين مبالغة كأنها جعلت في أنفسها القسط ، أو على حذف مضاف أي ذوات { القسط } ويجوز أن يكون مفعولاً لأجله أي لأجل { القسط }.
وقرىء القصط بالصاد.
واللام في { ليوم القيامة } قال الزمخشري : مثلها في قولك : جئت لخمس ليال خلون من الشهر.
ومنه بيت النابغة :
ترسمت آيات لها فعرفتها . . .
لستة أعوام وذا العام سابع
انتهى.
وذهب الكوفيون إلى أن اللام تكون بمعنى في ووافقهم ابن قتيبة من المتقدمين ، وابن مالك من أصحابنا المتأخرين ، وجعل من ذلك قوله { القسط ليوم القيامة } أي في يوم ، وكذلك لا يجليها لوقتها إلاّ هو أي في وقتها وأنشد شاهداً على ذلك لمسكين الدارمي :
أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم . . .
كما قد مضى من قبل عاد وتبع
وقول الآخر :
وكل أب وابن وإن عمرا معاً . . .
مقيمين مفقود لوقت وفاقد
وقيل اللام هنا للتعليل على حذف مضاف ، أي لحساب يوم القيامة و { شيئاً } مفعول ثان أو مصدر.
وقرأ الجمهور : { مثقال } بالنصب خبر { كان } أي وإن كان الشيء أو وإن كان العمل وكذا في لقمان ، وقرأ زيد بن عليّ وأبو جعفر وشيبة ونافع { مثقال } بالرفع على الفاعلية و { كان } تامة.
وقرأ الجمهور { أتينا } من الإتيان أي جئنا بها ، وكذا قرأ أُبي أعني جئنا وكأنه تفسير لأتينا.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن جبير وابن أبي إسحاق والعلاء بن سيابة وجعفر بن محمد وابن شريح الأصبهاني آتينا بمده على وزن فاعلنا من المواتاة وهي المجازاة والمكافأة ، فمعناه جازينا بها ولذلك تعدى بحرف جر ، ولو كان على أفعلنا من الإيتاء بالمد على ما توهمه بعضهم لتعدى مطلقاً دون جاز قاله أبو الفضل الرّازي.
وقال الزمخشري : مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء انتهى.

وقال ابن عطية على معنى : و { أتينا } من المواتاة ، ولو كان آتينا أعطينا لما تعدت بحرف جرّ ، ويوهن هذه القراءة أن بدل الواو المفتوحة همزة ليس بمعروف ، وإنما يعرف ذلك في المضمومة والمكسورة انتهى.
وقرأ حميد : أثبنا بها من الثواب وأنث الضمير في { بها } وهو عائد على مذكر وهو { مثقال } لإضافته إلى مؤنث { كفى بنا حاسبين } فيه توعد وهو إشارة إلى ضبط أعمالهم من الحساب وهو العدّ والإحصاء ، والمعنى أنه لا يغيب عنا شيء من أعمالهم.
وقيل : هو كناية عن المجازاة ، والظاهر أن { حاسبين } تمييز لقبوله من ، ويجوز أن يكون حالاً.
ولما ذكر ما أتى به رسوله صلى الله عليه وسلم من الذكر وحال مشركي العرب معه ، وقال : { قل إنما أنذركم بالوحي } أتبعه بأنه عادة الله في أنبيائه فذكر ما آتى { موسى وهارون } إشارة إلى قصتهما مع قومهما مع ما أوتوا من الفرقان والضياء والذكر ، ثم نبه على ما آتى رسوله من الذكر المبارك ثم استفهم على سبيل الذكر على إنكارهم ثم نبه على ما آتى رسوله صلى الله عليه وسلم.
و { الفرقان } التوراة وهو الضياء ، والذكر أي كتاباً هو فرقان وضياء ، وذكر ويدل على هذا المعنى قراءة ابن عباس وعكرمة والضحاك ضياء وذكراً بغير واو في ضياء.
وقالت فرقة : القرآن ما رزقه الله من نصره وظهور حجته وغير ذلك ، مما فرق بين أمره وأمر فرعون والضياء التوراة ، والذكر التذكرة والموعظة أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم أو الشرف والعطف بالواو يؤذن بالتغاير.
وعن ابن عباس { الفرقان } الفتح لقوله { يوم الفرقان } وعن الضحاك : فلق البحر.
وعن محمد بن كعب : المخرج من الشبهات و { الذين } صفة تابعة أو مقطوعة برفع أو نصب أو بدل.
ولما ذكر التقوى ذكر ما أنتجته وهو خشية الله والإشفاق من عذاب يوم القيامة والساعة القيامة وبالغيب.
قال الجمهور : يخافونه ولم يروه.
وقال مقاتل : يخافون عذابه ولم يروه.
وقال الزجاج : يخافونه من حيث لا يراهم أحد ورجحه ابن عطية.
وقال أبو سليمان الدمشقي : يخافونه إذا غابوا عن أعين الناس ، والإشفاق شدة الخوف ، واحتمل أن يكون قوله { وهم من الساعة مشفقون } استئناف إخبار عنهم ، وأن يكون معطوفاً على صلة { الذين } ، وتكون الصلة الأولى مشعرة بالتجدّد دائماً كأنها حالتهم فيما يتعلق بالدنيا ، والصلة الثانية من مبتدأ وخبر عنه بالاسم المشعر بثبوت الوصف كأنها حالتهم فيما يتعلق بالآخرة.
ولما ذكر ما آتى موسى وهارون عليهما السلام أشار إلى ما آتى محمداً صلى الله عليه وسلم فقال { وهذا } أي القرآن { ذكر مبارك } أي كثير منافعه غزير خبره ، وجاء هنا الوصف بالاسم ثم بالجملة جرياً على الأشهر وتقدم الكلام على قوله في الأنعام { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } وبينا هناك حكمة تقديم الجملة على الاسم { أفأنتم له منكرون } استفهام إنكار وتوبيخ وهو خطاب للمشركين ، والضمير في { له } عائد على ذكر وهو القرآن ، وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم إذا أنكر ذلك المشركون كما أنكر أسلاف اليهود ما أنزل الله على موسى عليه السلام.

وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)

التمثال : الصورة المصنوعة مشبهة بمخلوق من مخلوقات الله تعالى ، مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به.
قال الشاعر :
ويا رب يوم قد لهوت وليلة . . .
بآنسة كأنها خط تمثال
الجذ : القطع.
قال الشاعر :
بنو المهلب جذ الله دابرهم . . .
أمسوا رماداً فلا أصل ولا طرف
{ ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهنّ وأنا على ذلكم من الشاهدين وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذاً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون }.
لما تقدم الكلام في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أتبع ذلك بثلاثة عشر نبياً غير مراعي في ذكرهم الترتيب الزماني ، وذكر بعض ما نال كثيراً منهم من الابتلاء كل ذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وليتأسى بهم فيما جرى عليه من قومه.
وقرأ الجمهور { رُشْده } بضم الراء وسكون الشين.
وقرأ عيسى الثقفى { رَشَدة } بفتح الراء والشين وأضاف الرشد إلى { إبراهيم } بمعنى أنه رشد مثله وهو رشد الأنبياء وله شأن أيّ شأن ، والرشد النبوة والاهتداء إلى وجوه الصلاح في الدين والدنيا ، أو هما داخلان تحت الرشد أو الصحف والحكمة أو التوفيق للخير صغيراً أقوال خمسة ، والمضاف إليه من قبل محذوف وهو معرفة ولذلك بنى { قبل } أي { من قبل } موسى وهارون قاله الضحاك كقوله في الأنعام { ونوحاً هدينا من قبل } أي من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وأبعد من ذهب إلى أن التقدير { من قبل } بلوغه أو { من قبل } نبوته يعني حين كان في صلب آدم.
وأخذ ميثاق الأنبياء ، أو من قبل محمد صلى الله عليه وسلم لأنها محذوفات لا يدل على حذفها دليل بخلاف { من قبل } موسى وهارون لتقدم ذكرهما.
وقربه ، والضمير في { به } الظاهر أنه عائد على إبراهيم.
وقيل : على الرشد وعلمه تعالى أنه علم منه أحوالاً عجيبة وأسراراً بديعة فأهله لخلته كقوله : الله أعلم حيث يجعل رسالاته ، وهذا من أعظم المدح وأبلغه إذ أخبر تعالى أنه آتاه الرشد وأنه عالم بما آتاه به عليه السلام.
ثم استطرد من ذلك إلى تفسير الرشد وهو الدعاء إلى توحيد الله ورفض ما عبد من دونه.
و { إذ } معمولة لآتينا أو { رشدة } و { عالمين } وبمحذوف أي اذكر من أوقات رشده هذا الوقت ، وبدأ أولاً بذكر أبيه لأنه الأهم عنده في النصيحة وإنقاذه من الضلال ثم عطف عليه { قومه } كقوله { وأنذر عشيرتك الأقربين } وفي قوله { ما هذه التماثيل } تحقير لها وتصغير لشأنها وتجاهل بها مع علمه بها وبتعظيمهم لها.

وفي خطابه لهم بقوله { أنتم } استهانة بهم وتوقيف على سوء صنيعهم ، وعكف يتعدى بعلى كقوله { يعكفون على أصنام لهم } فقيل { لها } هنا بمعنى عليها كما قيل في قوله { وإن أسأتم فلها } والظاهر أن اللام في { لها } لام التعليل أي لتعظيمها ، وصلة { عاكفون } محذوفة أي على عبادتها.
وقيل : ضمن { عاكفون } معنى عابدين فعداه باللام.
وقال الزمخشري : لم ينو للعاكفين محذوفاً وأجراه مجرى ما لا يتعدى كقوله فاعلون العكوف لها أو واقفون لها انتهى.
ولما سألهم أجابوه بالتقليد البحت ، وأنه فعل آبائهم اقتدوا به من غير ذكر برهان ، وما أقبح هذا التقليد الذي أدى بهم إلى عبادة خشب وحجر ومعدن ولجاجهم في ذلك ونصرة تقليدهم وكان سؤاله إياهم عن عبادة التماثيل وغايته أن يذكروا شبهة في ذلك فيبطلها ، فلما أجابوه بما لا شبهة لهم فيه وبدا ضلالهم { قال : لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين } أي في حيرة واضحة لا التباس فيها ، وحكم بالضلال على المقلدين والمقلدين وجعل الضلال مستقراً لهم و { أنتم } توكيد للضمير الذي هو اسم { كان } قال الزمخشري : و { أنتم } من التأكيد الذي لا يصح الكلام مع الإخلال به لأن العطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع ونحوه { اسكن أنت وزوجك الجنة } انتهى ، وليس هذا حكماً مجمعاً عليه فلا يصح الكلام مع الإخلال به لأن الكوفيين يجيزون العطف على الضمير المتصل المرفوع من غير تأكيد بالضمير المنفصل المرفوع ، ولا فصل وتنظيره ذلك : باسكن أنت وزوجك الجنة مخالف لمذهبه في { اسكن أنت وزوجك } لأنه يزعم أن وزوجك ليس معطوفاً على الضمير المستكن في { اسكن } بل قوله : { وزوجك } مرتفع على إضمار ، وليسكن فهو عنده من عطف الجمل وقوله هذا مخالف لمذهب سيبويه.
ولما جرى هذا السؤال وهذا الجواب تعجبوا من تضليله إياهم إذ كان قد نشأ بينهم وجوزوا أن ما قاله هو على سبيل المزاح لا الجد ، فاستفهموه أهذا جد منه أم لعب والضمير في { قالوا } عائد عى أبيه وقومه و { بالحق } متعلق بقولهم { أجئتنا } ولم يريدوا حقيقة المجيء لأنه لم يكن عنهم غائباً فجاءهم وهو نظير { قال أو لو جئتك بشيء مبين } والحق هنا ضد الباطل وهو الجد ، ولذلك قابلوه باللعب ، وجاءت الجملة اسمية لكونها أثبت كأنهم حكموا عليه بأنه لاعب هازل في مقالته لهم ولكونها فاصلة.
ثم أضرب عن قولهم وأخبر عن الجد وأن المالك لهم والمستحق العبادة هو ربهم ورب هذا العالم العلوي والعالم السفلي المندرج فيه أنتم ومعبوداتكم نبه على الموجب للعبادة وهو منشىء هذا العالم ومخترعه من العدم الصرف.
والظاهر أن الضمير في { فطرهن } عائد على السموات والأرض ، ولما لم تكن السموات والأرض تبلغ في العدد الكثير منه جاء الضمير ضمير القلة.
وقيل في { فطرهن } عائد على التماثيل.

قال الزمخشري : وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم انتهى.
وقال ابن عطية : { فطرهن } عبارة عنها كأنها تعقل ، هذه من حيث لها طاعة وانقياد وقد وصفت في مواضع بما يوصف به من يعقل.
وقال غير { فطرهن } أعاد ضمير من يعقل لما صدر منهن من الأحوال التي تدل على أنها من قبيل من يعقل ، فإن الله أخبر بقوله { قالتا أتينا طائعين } وقوله صلى الله عليه وسلم : « أطلت السماء وحق لها أن تئط » انتهى.
وكأن ابن عطية وهذا القائل تخيلاً أن هن من الضمائر التي تخص من يعقل من المؤنثات وليس كذلك بل هو لفظ مشترك بين من يعقل وما لا يعقل من المؤنث المجموع ومن ذلك قوله { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } والضمير عائد على الأربعة الحرم ، والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى ربوبيته تعالى ووصفه بالاختراع لهذا العالم و { من } للتبعيض أي الذين يشهدون بالربوبية كثيرون ، وأنا بعض منهم أي ما قلته أمر مفروغ منه عليه شهود كثيرون فهو مقال مصحح بالشهود.
و { على ذلكم } متعلق بمحذوف تقديره { وأنا } شاهد { على ذلكم من الشاهدين } أو على جهة البيان أي أعني { على ذلكم } أو باسم الفاعل وإن كان في صلة أل لاتساعهم في الظرف والمجرور أقوال تقدمت في { إني لكما لمن الناصحين } وبادرهم أولاً بالقول المنبه على دلالة العقل فلم ينتفعوا بالقول ، فانتقل إلى القول الدال على الفعل الذي مآله إلى الدلالة التامّة على عدم الفائدة في عبارة ما يتسلط عليه بالكسر والتقطيع وهو لا يدفع ولا يضر ولا ينفع ولا يشعر بما ورد عليه من فك أجزائه فقال : { وتالله لأكيدن أصنامكم } وقرأ الجمهور { وتالله } بالتاء.
وقرأ معاذ بن جبل وأحمد بن حنبل بالله بالباء بواحدة من أسفل.
قال الزمخشري : فإن قلت : ما الفرق بين التاء والباء؟ قلت : إن الباء هي الأصل والتاء بدل من الواو المبدل منها ، وإن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب ، كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده وتأتيه لأن ذلك كان أمراً مقنوطاً منه لصعوبته وتعذره ، ولعمري إن مثله صعب متعذر في كل زمان خصوصاً في زمن نمرود مع عتوّه واستكباره وقوّة سلطانه وتهالكه على نصر دينه ولكن :
إذا الله سنى عقد شيء تيسرا . . .
انتهى.
أما قوله الباء هي الأصل إنما كانت أصلاً لأنها أوسع حروف القسم إذ تدخل على الظاهر ، والمضمر ويصرح بفعل القسم معها وتحذف وأما أن التاء بدل من واو القسم الذي أبدل من باء القسم فشيء قاله كثير من النحاة ، ولا يقوم على ذلك دليل وقد رد هذا القول السهيلي والذي يقتضيه النظر أنه ليس شيء منها أصلاً لآخر.
وأما قوله : إن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب فنصوص النحاة أن التاء يجوز أن يكون معها تعجب ، ويجوز أن لا يكون واللام هي التي يلزمها التعجب في القسم.

والكيد الاحتيال في وصول الضرر إلى المكيد ، والظاهر أن هذه الجملة خاطب بها أباه وقومه وأنها مندرجة تحت القول من قوله { قال بل ربكم }.
وقيل : قال ذلك سرًّا من قومه وسمعه رجل واحد.
وقيل : سمعه قوم من ضعفتهم ممن كان يسير في آخر الناس يوم خرجوا إلى العيد وكانت الأصنام سبعين.
وقيل : اثنين وسبعين.
وقرأ الجمهور { تولوا مدبرين } مضارع ولّى.
وقرأ عيسى بن عمر { تولوا } فحذف إحدى التاءين وهي الثانية على مذهب البصريين.
والأولى على مذهب هشام وهو مضارع تولى وهو موافق لقوله { فتولوا عنه مدبرين } ومتعلق { تولوا } محذوف أي إلى عيدكم.
وروي أن آزر خرج به في يوم عيد لهم فبدؤوا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاماً خرجوا به معهم ، وقالوا : لن ترجع بركة الآلهة على طعامنا فذهبوا ، فلما كان في الطريق ثنى عزمه عن المسير معهم فقعد وقال : إني سقيم.
وقال الكلبي : كان إبراهيم من أهل بيت ينظرون في النجوم ، وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلا مريضاً فأتاهم إبراهيم بالذي هم فيه فنظر قبل يوم العيد إلى السماء وقال لأصحابه : إني أشتكي غداً وأصبح معصوب الرأس فخرجوا ولم يتخلف أحد غيره ، وقال { وتالله لأكيدن } إلى آخره وسمعه رجل فحفظه ثم أخبر به فانتشر انتهى.
وفي الكلام حذف تقديره فتولوا إلى عيدهم فأتى إبراهيم الأصنام { فجعلهم جذاذاً } قال ابن عباس : حطاماً.
وقال الضحاك : أخذ من كل عضوين عضواً.
وقيل : وكانت الأصنام مصطفة وصنم منها عظيم مستقبل الباب من ذهب وفي عينيه درتان مضيئتان ، فكسرها بفأس إلا ذلك الصنم وعلق الفأس في عنقه.
وقيل : علقه في يده.
وقرأ الجمهور { جُذاذاً } بضم الجيم والكسائي وابن محيصن وابن مقسم وأبو حيوة وحميد والأعمش في رواية بكسرها ، وابن عباس وأبو نهيك وأبو السماك بفتحها وهي لغات أجودها الضم كالحطام والرفات قاله أبو حاتم.
وقال اليزيدي { جذاذاً } بالضم جمع جذاذة كزجاج وزجاجة.
وقيل : بالكسر جمع جذيذ ككريم وكرام.
وقيل : الفتح مصدر كالحصاد بمعنى المحصود فالمعنى مجذوذين.
وقال قطرب في لغاته الثلاث هو مصدر لا يثنى ولا يجمع.
وقرأ يحيى بن وثاب : جذاذاً بضمتين جمع جذيذ كجديد وجدد.
وقرىء جُذَذاً بضم الجيم وفتح الذال مخففاً من فعل كسر وفي سرر جمع سرير وهي لغة لكلب ، أو جمع جذة كقبة وقبب.
وأتى بضمير من يعقل في قوله { فجعلهم } إذ كانت تعبد وقوله { إلا كبيراً لهم } استثناء من الضمير في { فجعلهم } أي فلم يكسره ، والضمير في { لهم } يحتمل أن يعود على الأصنام وأن يعود على عباده ، والكبر هنا عظم الجثة أو كبيراً في المنزلة عندهم لكونهم صاغوه من ذهب وجعلوا في عينيه جوهرتين تضيئان بالليل ، والضمير في { إليه } عائد على إبراهيم أي فعل ذلك ترجياً منه أن يعقب ذلك رجعه إليه وإلى شرعه.

قال الزمخشري : وإنما استبقى الكبير لأنه غلب في ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه لما تسامعوه من إنكار لدينهم وسبه لآلهتهم فيبكتهم بما أجاب به من قوله { بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم } وقال ابن عطية : يحتمل أن يعود إلى الكبير المتروك ولكن يضعف ذلك دخول الترجي في الكلام انتهى وهو قول الكلبي.
قال الزمخشري : ومعنى هذا لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات ، فيقولون ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحاً والفأس على عاتقك قال : هذا بناء على ظنه بهم لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها أو قاله مع علمه أنهم لا يرجعون إليه استهزاء بهم واستجهالاً ، وإن قياس حال من يسجد له ويؤهل للعبادة أن يرجع إليه في حل المشكل فإن قلت : فإذا رجعوا إلى الصنم بمكابرتهم لعقولهم ورسوخ الإشراك في أعراقهم فأي فائدة دينية في رجوعهم إليه حتى يجعله إبراهيم صلوات الله عليه غرضاً؟ قلت : إذا رجعوا إليه تبين أنه عاجز لا ينفع ولا يضر وظهر أنهم في عبادته على أمرعظيم.

قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)

النكس : قلب الشيء بحيث يصير أعلاه أسفل ، ونكس رأسه بالتشديد والتخفيف طأطأ حتى صار أعلاه أسفل.
{ قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم قالوا فائتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون }.
في الكلام محذوف تقديره : فلما رجعوا من عيدهم إلى آلهتهم ورأوا ما فعل بها استفهموا على سبيل البحث والإنكار فقالوا : { من فعل هذا } أي التكسير والتحطيم إنه لظالم في اجرتائه على الآلهة المستحقة للتعظيم والتوقير { قالوا } أي قال الذين سمعوا قوله { وتالله لأكيدن أصنامكم } { يذكرهم } أي بسوء.
قال الفراء : يقول الرجل للرجل لئن ذكرتني لتندمن أي بسوء.
قال الزمخشري : فإن قلت : ما حكم الفعلين بعد { سمعنا فتى } وأي فرق بينهما؟ قلت : هما صفتان لفتى إلا أن الأول وهو يذكرهم لا بد منه لسمع لأنك لا تقول : سمعت زيداً وتسكت حتى تذكر شيئاً مما يسمع ، وأما الثاني فليس كذلك انتهى.
وأما قوله : هما صفتان فلا يتعين ذلك لما أذكره إما سمع فإما أن يدخل على مسموع أو غيره إن دخلت على مسموع فلا خلاف أنها تتعدى إلى واحد نحو : سمعت كلام زيد ومقالة خالد ، وإن دخلت على غير مسموع فاختلف فيها.
فقيل : إنها تتعدى إلى اثنين وهو مذهب الفارسي ، ويكون الثاني مما يدل على صوت فلا يقال سمعت زيداً يركب ، ومذهب غيره أن سمع يتعدى إلى واحد والفعل بعده إن كان معرفة في موضع الحال منها أو نكرة في موضع الصفة ، وكلا المذهبين يستدل لهما في علم النحو فعلى هذا المذهب الآخر يتمشى قول الزمخشري أنه صفة لفتى ، وأما على مذهب أبي عليّ فلا يكون إلاّ في موضع المفعول الثاني لسمع.
وأما { يقال له إبراهيم } فيحتمل أن يكون جواباً لسؤال مقدر لما قالوا { سمعنا فتى يذكرهم } وأتوا به منكراً قيل : من يقال له فقيل له إبراهيم ، وارتفع { إبراهيم } على أنه مقدر بجملة تحكى بقال ، إما على النداء أي { يقال له } حين يدعى يا { إبراهيم } وإما على خبر مبتدأ محذوف أي هو { إبراهيم } أو على أنه مفرد مفعول لما لم يسم فاعله ، ويكون من الإسناد للفظ لا لمدلوله ، أي يطلق عليه هذا اللفظ وهذا الآخر هو اختيار الزمخشري وابن عطية ، وهو مختلف في إجازته فذهب الزجاجي والزمخشري وابن خروف وابن مالك إلى تجويز نصب القول للمفرد مما لا يكون مقتطعاً من جملة نحو قوله :

إذا ذقت فاها قلت طعم مدامة . . .
ولا مفرداً معناه معنى الجملة نحو قلت : خطبة ولا مصدراً نحو قلت قولاً ، ولا صفة له نحو : قلت حقاً بل لمجرد اللفظ نحو قلت زيداً.
ومن النحويين من منع ذلك وهو الصحيح إذ لا يحفظ من لسانهم قال : فلان زيداً ولا قال ضرب ولا قال ليت ، وإنما وقع القول في كلام العرب لحكاية الجمل وذهب الأعلم إلى أن { إبراهيم } ارتفع بالإهمال لأنه لم يتقدمه عامل يؤثر في لفظه ، إذ القول لا يؤثر إلاّ في المفرد المتضمن لمعنى الجملة فبقي مهملاً والمهمل إذا ضم إلى غيره ارتفع نحو قولهم : واحد واثنان إذا عدّوا ولم يدخلوا عاملاً لا في اللفظ ولا في التقدير ، وعطفوا بعض أسماء العدد على بعض ، والكلام على مذهب الأعلم وإبطاله مذكور في النحو.
{ قالوا فأتوا } أي أحضروه { على أعين الناس } أي معايناً بمرأى منهم فعلى أعين الناس في موضع الحال و { على } معناها الاستعلاء المجازي كأنه لتحديقهم إليه وارتفاع أبصارهم لرؤيته مستعل على أبصارهم { لعلهم يشهدون } عليه بما سمع منه أو بما صدر منه من تكسير أصنامهم ، أو يشهدون ما يحل به من عذابنا أو غلبنا له المؤدي إلى عذابه.
وقيل : { الناس } هنا خواص الملك وأولياؤه وفي الكلام حذف تقديره { فأتوا به } على تلك الحالة من نظر الناس إليه.
{ قالوا أأنت فعلت هذا } أي الكسر والتهشيم { بآلهتنا } وارتفاع { أنت } المختار أنه بفعل محذوف يفسره { فعلت } ولما حذف انفصل الضمير ، ويجوز أن يكون مبتدأ وإذا تقدم الاسم في نحو هذا التركيب على الفعل كان الفعل صادراً واستفهم عن فاعله وهو المشكوك فيه ، وإذا تقدم الفعل كان الفعل مشكوكاً فيه فاستفهم عنه أوقع أو لم يقع ، والظاهر أن { بل } للإضراب عن جملة محذوفة أي قال لم أفعله إنما الفاعل حقيقة هو الله { بل فعله كبيرهم } وأسند الفعل إلى { كبيرهم } على جهة المجاز لما كان سبباً في كسر هذه الأصنام هو تعظيمهم وعبادتهم له ولما دونه من الأصنام كان ذلك حاملاً على تحطيمها وكسرها فأسند الفعل إلى الكبير إذ كان تعظيمهم له أكثر من تعظيمهم ما دونه ، وقال قريباً من هذا الزمخشري.
ويحتمل أن يكون فعل الكبير متقيداً بالشرط فيكون قد علق على ممتنع أي فلم يكن وقع أي إن كان هؤلاء الأصنام { ينطقون } ويخبرون من الذي صنع بهم ذلك فالكبير هو الذي صنع ذلك وأشار إلى نحو من هذا ابن قتيبة.
وقال الزمخشري : هذا من تعاريض الكلام ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها إلا أذهان الراضة من علماء المعاني ، والقول فيه إن قصد إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم ، وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم ، وهذا كما قال لك صاحبك وقد كتبت إليه كتاباً بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط : أأنت كتبت هذا وصاحبك أميّ لا يحسن الخط أو لا يقدر إلاّ على خرمشة فاسدة؟ فقلت له : بل كتبته أنت كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك ولا إثباته للأمي أو المخرمش لأن إثباته والأمر دائر بينكما للعاجز منكما استهزاءً وإثبات للقادر ، ويجوز أن يكون حكاية لما يعود إلى تجويزه مذهبهم كأنه قال لهم : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبد ويدعي إلهاً أن يقدر على هذا وأشد منه.

ويحكى أنه قال { فعله كبيرهم } هذا غضب أن يعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها انتهى.
ومن جعل الفاعل بفعله ضميراً يعود على قوله فتى أو على ابراهيم أو قال آخر بغير المطابق لمصلحة دينية ، واستدل بما روي في الحديث أو وقف على { بل فعله } أي فعله من فعله وجعل { كبيرهم هذا } مبتدأ وخبراً وهو الكسائي أو أصله { فعلة } بمعنى لعله وخفف اللام وهو الفراء مستدلاً بقراءة ابن السميفع { فعله } بمعنى لعله مشدد اللام فهم بعداء عن طريق الفصاحة { فرجعوا إلى أنفسهم } أي إلى عقولهم حين ظهر لهم ما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام من أن الأصنام التي أهّلوها للعبادة ينبغي أن تسأل وتستفسر قبل ، ويحتمل أن يكون { فرجعوا } أي رجع بعضهم إلى بعض { فقالوا إنكم أنتم الظالمون } في سؤالكم إبراهيم حين سألتموه ولم تسألوها ذكره ابن جرير ، أو حين عبدتم ما لا ينطق قاله ابن عباس ، أو حين لم تحفظوا آلهتكم قاله وهب ، أو في عبادة الأصاغر مع هذا الكبير قاله وهب أيضاً ، أو حين أبهتهم إبراهيم والفأس في عنق الكبير قاله مقاتل وابن إسحاق أو { الظالمون } حقيقة حيث نسيتم إبراهيم إلى الظلم في قولكم { إنه لمن الظالمين } إذ هذه الأصنام مستحقة لما فعل بها.
{ ثم نكسوا على رؤوسهم } أي ارتكبوا في ضلالهم وعلموا أن الأصنام لا تنطق فساءهم ذلك حين نبه على قيام الحجة عليهم وهي استعارة للذي يرتطم في غيه كأنه منكوس على رأسه وهي أقبح هيئة للإنسان ، فكان عقله منكوس أي مقلوب لانقلاب شكله ، وجعل أعلاه أسفله فرجوعهم إلى أنفسهم كناية عن استقامة فكرهم ونكسهم كناية عن مجادلتهم ومكابرتهم.
ويحتمل أن يكون { نكسوا على رؤوسهم } كناية عن تطأطىء رؤوسهم وتنكيسها إلى الأرض على سبيل الخجل والانكسار مما بهتهم به إبراهيم من قول الحق ودمغهم به فلم يطيقوا جواباً.
و { لقد علمت } جواب قسم محذوف معمول لقول محذوف في موضع الحال أي قائلين { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون } فكيف تقول لنا { فاسألوهم } إنما قصدت بذلك توبيخاً ويحتمل أن يكون النكس للفكرة فيما يجيبون به.

وقال مجاهد { نكسوا على رؤوسهم } أي ردّت السفلة على الرؤساء و { علمت } هنا معلقة ، والجملة المنفية في موضع مفعولي علمت إن تعدت إلى اثنين أو في موضع مفعول واحد إن تعدت لواحد.
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم وابن الجارود والبكراوي كلاهما عن هشام بتشديد كاف { نكّسوا } وقرأ رضوان بن المعبود { نكسوا } بتخفيف الكاف مبنياً للفاعل أي نكسوا أنفسهم.
ولما ظهرت الحجة عليهم أخذ يقرعهم ويوبخهم بعباده تماثيل ما لا ينفع ولا يضر ، ثم أبدى لهم التضجر منهم ومن معبوداتهم وتقدم الخلاف في قراءة { أف } واللغات فيها واللام في { لكم } لبيان المتأفف به أي لكم ولآلهتكم ، هذا التأفف ثم نبههم على ما به يدرك حقائق الأشياء وهو العقل فقال : { أفلا تعقلون } أي قبح ما أنتم عليه وهو استفهام توبيخ وإنكار.

قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)

البرد : مصدر برد ، يقال : برد الماء حرارة الجوف يبردها.
قال الشاعر :
وعطل قلوصي في الركاب فإنها . . .
ستبرد أكباداً وتبكي بواكيا
النفش : رعي الماشية بالليل بغير راع ، والهمل بالنهار بلا راع ، الغوص : الدخول تحت الماء لاستخراج ما فيه.
قال الشاعر :
أو درة صدفية غواصها بهج . . .
متى يرها يهل ويسجد
{ قالوا حرّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ولوطاً آتيناه حكماً وعلماً ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين ونوحاً إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماً وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك وكنا لهم حافظين }.
ولما نبههم على قبيح مرتكبهم وغلبهم بإقامة الحجة عليهم لاذوا بالإيذاء له والغضب لآلهتهم واختاروا أشد العذاب وهو الإحراق بالنار التي هي سبب للإعدام المحض والإتلاف بالكلية وكذا كل من أقيمت عليه الحجة وكانت له قدرة يعدل إلى المناصبة والإذاية كما كانت قريش تفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دمغهم بالحجة وعجزوا عن معارضة ما آتاهم به عدلوا إلى الانتقام وإيثار الاغتيال ، فعصمه الله والظاهر أن قول { قالوا حرّقوه } أي قال بعضهم لبعض.
وقيل : أشار بإحراقه نمروذ.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما : رجل من أعراب العجم.
قال الزمخشري : يريد الأكراد.
وقال ابن عطية : روي أنه رجل من الأكراد من أعراب فارس أي باديتها فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، وذكروا لهذا القائل اسماً مختلفاً فيه لا يوقف منه على حقيقة لكونه ليس مضبوطاً بالشكل والنقط ، وهكذا تقع أسماء كثيرة أعجمية في التفاسير لا يمكن الوقوف منها على حقيقة لفظ لعدم الشكل والنقط فينبغي اطراح نقلها.
وروي أنهم حين هموا بإحراقه حبسوه ثم بنوا بيتاً كالحظيرة بكوثى واختلفوا في عدة حبسه وفي عرض الحظيرة وطولها ، ومدة جمع الحطب ، ومدة الإيقاد ، ومدة سنه إذ ذاك ، ومدة إقامته في النار وكيفية ما صارت أماكن النار اختلافاً متعارضاً تركنا ذكره واتخذوا منجنيقاً.

قيل : بتعليم إبليس إذ كان لم يصنع قبل فشد إبراهيم رباطاً ووضع في كفة المنجنيق ورمى به فوقع في النار.
وروي أن جبريل عليه السلام جاءه وهو في الهواء فقال : ألك حاجة؟ فقال : أما إليك فلا ، وذكر المفسرون أشياء صدرت من الوزغ والبغل والخطاف والضفدع والعضرفوط الله أعلم بذلك.
وعن ابن عباس : إنما نجا بقوله حسبي الله ونعم الوكيل.
قيل : وأطل نمروذ من الصرح فإذا إبراهيم في روضة ومعه جليس له من الملائكة فقال إني مقرب إلى آلهك فذبح أربعة آلاف بقرة.
وكف عن ابراهيم ، وكان إبراهيم إذ ذاك ابن ست عشرة سنة ، وقد أكثر الناس في حكاية ما جرى لإبراهيم والذي صح هو ما ذكره تعالى من أنه ألقي في النار فجعلها الله عليه { برداً وسلاماً } وخرج منها سالماً فكانت أعظم آية والظاهر أن القائل { قلنا يا نار } هو الله تعالى.
وقيل : جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى.
وعن ابن عباس : لو لم يقل : { وسلاماً } لهلك إبراهيم من البرد ، ولو لم يقل على إبراهيم لما أحرقت نار بعدها ولا اتقدت انتهى.
ومعنى { وسلاماً } سلامة ، وأبعد من ذهب إلى أنها هنا تحية من الله ولو كانت تحية لكان الرفع أولى بها من النصب.
والمعنى ذات برد وسلام فبولغ في ذلك كان ذاتها برد وسلام ، ولما كانت النار تنفعل لما أراده الله منها كما ينفعل من يعقل عبر عن ذلك بالقول لها والنداء والأمر.
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف بردت النار وهي نار؟ قلت : نزع الله عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحر والإحراق وأبقاها على الإضاءة والإشراق والاشتعال ، كما كانت والله على كل شيء قدير ، ويجوز أن يدفع بقدرته عن جسم إبراهيم أدنى حرها ويذيقه فيها عكس ذلك كما يفعل بخزنة جهنم ، ويدل عليه قوله { على إبراهيم } انتهى.
وروي أنهم قالوا هي نار مسجورة لا تحرق فرموا فيها شيخاً منهم فاحترق وأرادوا به كيداً.
قيل : هو إلقاؤه في النار { فجعلناهم الأخسرين } أي المبالغين في الخسران وهو إبطال ما راموه جادلوا إبراهيم فجدلهم وبكتَّهم وأظهر لهم وأقر عقولهم ، وتقووا عليه بالأخذ والإلقاء فخلصه الله.
وقيل : سلط عليهم ما هو من أحقر خلقه وأضعفه وهو البعوض يأكل من لحومهم ويشرب من دمائهم ، وسلط الله على نمروذ بعوضة واختلف في كيفية إذايتها له وفي مدة إقامتها تؤذيه إلى أن مات منها.
والضمير في { ونجيناه } عائد على إبراهيم وضمن معنى أخرجناه بنجاتنا إلى الأرض ولذلك تعدى { نجيناه } بإلى ويحتمل أن يكون { إلى } متعلقاً بمحذوف أي منتهياً { إلى الأرض } فيكون في موضع الحال ، ولا تضمين في { ونجيناه } على هذا و { الأرض } التي خرجا منها هي كوثى من أرض العراق ، والأرض التي صار إليها هي أرض الشام وبركتها ما فيها من الخصب والأشجار والأنهار وبعث أكثر الأنبياء منها.

وقيل : مكة قاله ابن عباس ، كما قال { إن أول بيت } الآية.
وقيل أرض مصر وبركتها نيلها وزكاة زروعها وعمارة مواضعها.
وروي أن ابراهيم خرج مهاجراً إلى ربه ومعه لوط وكان ابن أخيه ، فآمنت به سارة وهي ابنة عمه فأخرجها معه فارًّا بدينه ، وفي هذه الخرجة لقي الجبار الذي رام أخذها منه فنزل حران ومكث زماناً بها.
وقيل : سارة ابنة ملك حرّان تزوجها إبراهيم وشرط عليه أبوها أن لا يغيرها ، والصحيح أنها ابنة عمه هاران الأكبر ، ثم قدم مصر ثم خرج منها إلى الشام فنزل السبع من أرض فلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة على مسيرة يوم وليلة من السبع أو أقرب فبعثه الله نبياً.
والنافلة العطية قاله مجاهد وعطاء أو الزيادة كالمتطوع به إذا كان إسحاق ثمرة دعائه رب هب لي من الصاحين ، وكان { يعقوب } زيادة من غير دعاء.
وقيل : النافلة ولد الولد فعلى الأول يكون مصدراً كالعاقبة والعافية وهو من غير لفظ { وهبنا } بل من معناه ، وعلى الآخرين يراد به { يعقوب } فينتصب على الحال ، و { كلاًّ } يشمل من ذكر إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب.
{ يهدون بأمرنا } يرشدون الناس إلى الدين.
و { أئمة } قدوة لغيرهم.
{ وأوحينا إليهم } أي خصصناهم بشرف النبوة لأن الإيحاء هو التنبئة.
قال الزمخشري : { فعل الخيرات } أصله أن يفعل { فعل الخيرات } ثم فعلا الخيرات وكذلك { إقام الصلاة وإيتاء الزكاة } انتهى.
وكان الزمخشري لما رأى أن { فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة } ليس من الأحكام المختصة بالموحي إليهم بل هم وغيرهم في ذلك مشتركون ، بني الفعل للمفعول حتى لا يكون المصدر مضافاً من حيث المعنى إلى ضمير الموحى ، فلا يكون التقدير فعلهم الخيرات وإقامهم الصلاة وإيتاؤهم الزكاة ، ولا يلزم ذلك إذ الفاعل مع المصدر محذوف ، ويجوز أن يكون مضافاً من حيث المعنى إلى ظاهر محذوف يشمل الموحى إليهم وغيرهم ، أي فعل المكلفين الخيرات ، ويجوز أن يكون ذلك مضافاً إلى الموحى إليهم أي أن يفعلوا الخيرات ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، وإذا كانوا قد أُوحِي إليهم ذلك فأتباعهم جارون مجراهم في ذلك ولا يلزم اختصاصهم به ثم اعتقاد بناء المصدر للمفعول الذي لم يسم فاعله مختلف فيه أجاز ذلك الأخفش والصحيح منعه ، فليس ما اختاره الزمخشري مختاراً.
وقال ابن عطية : والإقام مصدر وفي هذا نظر انتهى.
وأي نظر في هذا وقد نص سيبويه على أنه مصدر بمعنى الإقامة ، وإن كان الأكثر الإقامة بالتاء وهو المقيس في مصدر أفعل إذا اعتلت عينه وحسن ذلك هنا أنه قابل { وإيتاء } وهو بغير تاء فتقع الموازنة بين قوله { وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة } وقال الزجّاج : فحذفت الهاء من إقامة لأن الإضافة عوض عنها انتهى.

وهذا قول الفراء زعم أن تاء التأنيث قد تحذف للإضافة وهو مذهب مرجوح.
ولما ذكر تعالى ما أنعم على إبراهيم ما أنعم به على من هاجر معه فارًّا بدينه وهو لوط ابن أخيه وانتصب { ولوطاً } على الاشتغال والحكم الذي أوتيه النبوة.
وقيل : حسن الفصل بين الخصوم في القضاء.
وقيل : حفظ صحف إبراهيم ، ولما ذكر الحكم ذكر ما يكون به وهو العلم و { القرية } سدوم وكانت قراهم سبعاً وعبر عنها بالواحدة لاتفاق أهلها على الفاحشة ، وكانت من كورة فلسطين إلى حد السراة إلى حد نجد بالحجاز ، قلب منها تعالى ستاً وأبقى منها زغر لأنها كانت محل لوط وأهله ومن آمن به أي { ونجيناه من } أهل { القرية } أي خلصناه منهم أو من العذاب الذي حل بهم ، ونسب عمل { الخبائث } إلى القرية مجازاً وهو لأهلها وانتصب { الخبائث } على معنى { تعمل } الأعمال أو الفعلات الخبيثة وهي ما ذكره تعالى في غير هذه السورة مضافاً إلى كفرهم بالله وتكذيبهم نبيه ، وقوله { إنهم } يدل على أن التقدير من أهل القرية { وأدخلناه في رحمتنا } أي في أهل رحمتنا أو في الجنة ، سماها رحمة إذ كانت أثر الرحمة.
ولما ذكر تعالى قصة إبراهيم وهو أبو العرب وتنجيته من أعدائه ذكر قصة أبي العالم الإنسي كلهم وهو الأب الثاني لآدم لأنه ليس أحد من نسله من سام وحام ويافث ، وانتصب { نوحاً } على إضمار اذكر أي واذكر { نوحاً } أي قصته { إذ نادى } ومعنى نادى دعا مجملاً بقوله { إني مغلوب } فانتصر مفصلاً بقوله { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } والكرب أقصى الغم والأخذ بالنفس ، وهو هنا الغرق عبر عنه بأول أحوال ما يأخذ الغريق ، وغرقت في بحر النيل ووصلت إلى قرار الأرض ولحقني من الغم والكرب ما أدركت أن نفسي صارت أصغر من البعوضة ، وهو أول أحوال مجيء الموت.
{ ونصرناه من القوم } عداه بمن لتضمنه معنى { نجيناه } بنصرنا { من القوم } أو عصمناه ومنعناه أي من مكروه القوم لقوله { فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا } وقال الزمخشري : هو نصر الذي مطاوعه انتصر ، وسمعت هذلياً يدعو على سارق : اللهم انصرهم منه أي اجعلهم منتصرين منه ، وهذا معنى في نصر غير المتبادر إلى الذهن.
وقال أبو عبيدة { من } بمعنى على أي { ونصرناه } على { القوم } { فأغرقناهم } أي أهلكناهم بالغرق.
و { أجمعين } تأكيد للضمير المنصوب.
وقد كثر التوكيد بأجمعين غير تابع لكلهم في القرآن ، فكان ذلك حجة على ابن مالك في زعمه أن التأكيد بأجمعين قليل ، وأن الكثير استعماله تابعاً لكلهم.
{ وداود وسليمان } عطف على { ونوحاً }.
قال الزمخشري : { وإذ } بدل منهما انتهى.
والأجود أن يكون التقدير واذكر { داود وسليمان } أي قصتهما وحالهما { إذ يحكمان } وجعل ابن عطية { وداود وسليمان } معطوفين على قوله { ونوحاً } { ونوحاً } معطوفاً على قوله { ولوطاً } فيكون ذلك مشتركاً في العامل الذي هو { آتينا } المقدرة الناصبة للوط المفسرة بآتينا فالتقدير وآتينا نوحاً وداود وسليمان أي آتيناهم { حكماً وعلماً } ولا يبعد ذلك وتقدير اذكر قاله جماعة.

وكان داود ملكاً نبياً يحكم بين الناس فوقعت هذه النازلة ، وكان ابنه إذ ذاك قد كبر وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم وكانوا يدخلون إلى داود من باب آخر ، فتخاصم إليه رجل له زرع وقيل كرم و { الحرث } يقال فيهما وهو في الزرع أكثر ، وأبعد عن الاستعارة دخلت حرثه غنم رجل فأفسدت عليه ، فرأى داود دفعها إلى صاحب الحرث فعلى أنه كرم رأى أن الغنم تقاوم ما أفسدت من الغلة وعلى أنه زرع رأى أنها تقاوم الحرث والغلة ، فخرجا على سليمان فشكى صاحب الغنم فجاء سليمان فقال : يا نبيّ الله إني أرى ما هو أرفق بالجميع ، أن يأخذ صاحب الغنم الحرث يقوم عليه ويصلحه حتى يعود كما كان ، ويأخذ صاحب الحرث الغنم في تلك المدة ينتفع بمرافقها من لبن وصوف ونسل ، فإذا عاد الحرث إلى حاله صرف كل مال صاحبه إليه فرجعت الغنم إلى ربها والحرث إلى ربه فقال داود : وفقت يا بني وقضى بينهما بذلك.
والظاهر أن كلاًّ من داود وسليمان حكم بما ظهر له وهو متوجه عنده فحكمهما باجتهاد وهو قول الجمهور ، واستدل بهذه الآية على جواز الاجتهاد.
وقيل : حكم كل واحد منهما بوحي من الله ونسخ حكم داود بحكم سليمان ، وإن معنى { ففهمناها سليمان } أي فهمناه القضاء الفاصل الناسخ الذي أراد الله أن يستقر في النازلة.
وقرأ عكرمة فأفهمناها عُدِّي بالهمزة كما عُدِّي في قراءة الجمهور بالتضعيف والضمير في { ففهمناها } للحكومة أو الفتوى ، والضمير في { لحكمهم } عائد على الحاكمين والمحكوم لهما وعليهما ، وليس المصدر هنا مضافاً لا إلى فاعل ولا مفعول ، ولا هو عامل في التقدير فلا ينحل بحرف مصدري.
والفعل به هو مثل له ذكاء ذكاء الحكماء وذهن ذهن الأذكياء وكان المعنى وكنا للحكم الذي صدر في هذه القضية { شاهدين } فالمصدر هنا لا يراد به العلاج بل يراد به وجود الحقيقة.
وقرأ { لحكمهما } ابن عباس فالضمير لداود وسليمان.
ومعنى { شاهدين } لا يخفى علينا منه شيء ولا يغيب.
قال الزمخشري : فإن قلت : ما وجه كل واحدة من الحكومتين؟ قلت : أمّا وجه حكومة داود فلأن الضرر لما وقع بالغنم سلمت بجنايتها إلى المجني عليه كما قال أبو حنيفة في العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى بذلك أو يفديه ، وعند الشافعي يبيعه في ذلك أو يفديه ، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث ، ووجه حكومة سليمان أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم ، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان.

فإن قلت : فلو وقعت هذه الواقعة في شريعتنا ما حكمها؟ قلت : أبو حنيفة وأصحابه لا يرون فيه ضماناً بالليل والنهار إلاّ أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد ، والشافعي يوجب الضمان انتهى.
والظاهر أن كلاًّ من الحكمين صواب لقولهه { وكلا آتينا حكماً وعلماً }.
والظهر أن { يسبحن } جملة حالية من { الجبال } أي مسبحات.
وقيل : استئناف كأن قائلاً قال : كيف سخرهن؟ فقال : { يسبحن } قيل : كان يمر بالجبال مسبحاً وهي تجاوبه.
وقيل : كانت تسير معه حيث سار ، والظاهر وقوع التسبيح منها بالنطق خلق الله فيها الكلام كما سبح الحصى في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع الناس ذلك ، وكان داود وحده يسمعه قاله يحيى بن سلام.
وقيل : كل واحد.
قال قتادة : { يسبحن } يصلين.
وقيل : يسرن من السباحة.
وقال الزمخشري : كما خلقه يعني الكلام في الشجرة حين كلم موسى انتهى.
وهو قول المعتزلة ينفون صفة الكلام حقيقة عن الله تعالى.
وقيل : إسناد التسبيح إليهن مجاز لما كانت تسير بتسيير الله حملت من رآها على التسبيح فأسند إليها ، والأكثرون على تسبيحهن هو قول سبحان الله.
وانتصب { والطير } عطفاً على { الجبال } ولا يلزم من العطف دخوله في قيد التسبيح.
وقيل : هو مفعول معه أي يسبحن مع الطير.
وقرىء { والطيرُ } مرفوعاً على الابتداء والخبر محذوف أي مسخر لدلالة سخرنا عليه ، أو على الضمير المرفوع في { يسبحن } على مذهب الكوفيين وهو توجيه قراءة شاذة.
وقال الزمخشري : فإن قلت : لم قدمت { الجبال } على { الطير } ؟ قلت : لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة ، وأدخل في الإعجاز لأنها جماد والطير حيوان ناطق انتهى.
وقوله : ناطق إن عنى به أنه ذو نفس ناطقة كما يقولون في حد الإنسان أنه حيوان ناطق فيلزم أن يكون الطير إنساناً ، وإن عنى أنه متكلم كما يتكلم الإنسان فليس بصحيح وإنما عنى به مصوّت أي له صوت ، ووصف الطير بالنطق مجاز لأنها في الحقيقة لا نطق لها.
وقوله { وكنا فاعلين } أي فاعلين هذه الأعاجيب من تسخير الجبال وتسبيحهنّ والطير لمن نخصه بكرامتنا { وعلمناه صنعة لبوس لكم } اللبوس الملبوس فعول بمعنى مفعول كالركوب بمعنى المركوب ، وهو الدرع هنا.
واللبوس ما يلبس.
قال الشاعر :
عليها أسود ضاريات لبوسهم . . .
سوابغ بيض لا يخرّقها النبل
قال قتادة : كانت صفائح فأول من سردها وحلقها داوود فجمعت الخفة والتحصين.
وقيل : اللبوس كل آلة السلاح من سيف ورمح ودرع وبيضة وما يجري مجرى ذلك ، وداود أول من صنع الدروع التي تسمى الزرد.
قيل : نزل ملكان من السماء فمرا بداود فقال أحدهما للآخر : نعم الرجل إلاّ أنه يأكل من بيت المال ، فسأل الله أن يرزقه من كسبه فألان له الحديد فصنع منه الدروع امتن تعالى عليه بإيتائه حكماً وعلماً وتسخير الجبال والطير معه وتعليم صنعة اللبوس ، وفي ذلك فضل هذه الصنعة إذ أسند تعليمها إياه إليه تعالى.

ثم امتن علينا بها بقوله { ليحصنكم من بأسكم } أي ليكون وقاية لكم في حربكم وسبب نجاة من عدوّكم.
وقرىء { لُبوس } بضم اللام والجمهور بفتحها.
وقرأ الجمهور : ليحصنكم بياء الغيبة أي الله فيكون التفاتاً إذ جاء بعد ضمير متكلم في { وعلمناه } ويدل عليه قراءة أبي بكر عن عاصم بالنون وهي قراءة أبي حنيفة ومسعود بن صالح ورويس والجعفي وهارون ويونس والمنقري كلهم عن أبي عمرو ليحصنكم داود ، واللبوس قيل أو التعليم.
وقرأ ابن عامر وحفص والحسن وسلام وأبو جعفر وشيبه وزيد بن علي بالتاء أي { لتحصنكم } الصنعة أو اللبوس على معنى الدرع ودرع الحديد مؤنثة وكل هذه القراءات الثلاث بإسكان الحاء والتخفيف.
وقرأ الفقيمي عن أبي عمرو وابن أبي حماد عن أبي بكر بالياء من تحت وفتح الحاء وتشديد الصاد ، وابن وثاب والأعمش بالتاء من فوق والتشديد واللام في { لكم } يجوز أن تكون للتعليل فتتعلق بعلمناه ، أي لأجلكم وتكون { لتحصنكم } في موضع بدل أعيد معه لام الجراذ الفعل منصوب بإضمار إن فتتقدّر بمصدر أي { لكم } لإحصانكم { من بأسكم } ويجوز أن تكون { لكم } صفة للبوس فتتعلق بمحذوف أي كائن لكم ، واحتمل أن يكون ليحصنكم تعليلاً للتعليم فيتعلق بعلمناه ، وأن يكون تعليلاً للكون المحذوف المتعلق به { لكم } { فهل أنتم شاكرون } استفهام يتضمن الأمر أي اشكروا الله على ما أنعم به عليكم كقوله { فهل أنتم منتهون } أي انتهوا عما حرم الله.
ولما ذكر تعالى ما خص به نبيه داود عليه السلام ذكر ما خص به ابنه سليمان عليه السلام ، فقال { ولسليمان الريح } وجاء التركيب هنا حين ذكر تسخير الريح لسليمان باللام ، وحين ذكر تسخير الجبال جاء بلفظ مع فقال { وسخرنا مع داود الجبال } وكذا جاء { يا جبال أوبي معه } وقال فسخرنا له الريح تجري بأمره ، وذلك أنه لما اشتركا في التسبيح ناسب ذكر مع الدالة على الاصطحاب ، ولما كانت الريح مستخدمة لسليمان أضيفت إليه بلام التمليك لأنها في طاعته وتحت أمره.
وقرأ الجمهور { الريح } مفرداً بالنصب.
وقرأ ابن هرمز وأبو بكر في رواية بالرفع مفرداً.
وقرأ الحسن وأبو رجاء الرياح بالجمع والنصب.
وقرأ بالجمع والرفع أبو حيوة فالنصب على إضمار سخرنا ، والرفع على الابتداء و { عاصفة } حال العامل فيها سخرنا في قراءة من نصب { الريح } وما يتعلق به الجار في قراءة من رفع ويقال : عصفت الريح فهي عاصف وعاصفة ، ولغة أسد أعصفت فهي معصف ومعصفة ، ووصفت هذه الريح بالعصف وبالرخاء والعصف الشدة في السير والرخاء اللين.
فقيل : كان ذلك بالنسبة إلى الوقت الذي يريد فيه سليمان أحد الوصفين فلم يتحد الزمان.

وقيل : الجمع بين الوصفين كونها رخاء في نفسها طيبة كالنسيم عاصفة في عملها تبعد في مدة يسيرة كما قال تعالى { غدوّها شهر ورواحها شهر } وقيل : الرخاء في البداءة والعصف بعد ذلك في التقول على عادة البشر في الإسراع إلى الوطن ، وهذا القول راجع إلى اختلاف الزمان وجريها بأمره طاعتها له على حسب ما يريد ، ويأمر.
و { الأرض } أرض الشام وكانت مسكنه ومقر ملكه.
وقيل : أرض فلسطين.
وقيل : بيت المقدس.
قال الكلبي كان يركب عليها من اصطخر إلى الشام.
قيل : ويحتمل أن تكون { الأرض } التي يسير إليها سليمان كائنة ما كانت ووصفت بالبركة لأنه إذا حل أرضاً أصلحها بقتل كفارها وإثبات الإيمان فيها وبث العدل ، ولا بركة أعظم من هذا.
والظاهر : أن { التي باركنا } صفة للأرض.
وقال منذر بن سعيد : الكلام تام عند قوله { إلى الأرض } و { التي باركنا فيها } صفة للريح ففي الآية تقديم وتأخير ، يعني إن أصل التركيب ولسليمان الريح { التي باركنا فيها } عاصفة تجري بأمره { إلى الأرض }.
وعن وهب : كان سليمان إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير وقام له الجن والإنس حتى يجلس على سريره ، وكان لا يقعد عن الغزو فيأمر بخشب فيمد والناس عليه والدواب وآلة الحرب ، ثم يأمر العاصف فيقله ثم يأمر الرخاء فتمر به شهراً في رواحة وشهراً في غدوه.
وعن مقاتل : نسجت له الشياطين بساطاً ذهباً في إبريسم فرسخاً في فرسخ ، ووضعت له في وسطه منبراً من ذهب يقعد عليه وحوله كراسي من ذهب يقعد عليها الأنبياء ، وكراسي من فضة يقعد عليها العلماء ، وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين ، والطير تظله من الشمس ، وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ومن الرواح إلى الصباح ، وقد أكثر الأخباريون في ملك سليمان ولا ينبغي أن يعتمد إلاّ على ما قصه الله في كتابه وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما كانت هذه الاختصاصات في غاية الغرابة من المعهود ، أخبر تعالى أن علمه محيط بالأشياء يجريها على ما سبق به علمه ، ولما ذكر تعالى تسخير الريح له وهي جسم شفاف لا يعقل وهي لا تدرك بالبصر ذكر تسخير الشياطين له ، وهم أجسام لطيفة تعقل والجامع بينهما أيضاً سرعة الانتقال ألا ترى إلى قوله { قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } { ومن } في موضع نصب أي وسخرنا { من الشياطين من يغوصون } أو في موضع رفع على الابتداء ، والخبر في الجار والمجرور قبله.
والظاهر أن { من } موصولة.
وقال أبو البقاء : هي نكرة موصوفة ، وجمع الضمير في { يغوصون } حملاً على معنى { من } وحسن ذلك تقدم جمع قبله كما قال الشاعر :

وإن من النسوان من هي روضة . . .
يهيج الرياض قبلها وتصوح
لما تقدم لفظ النسوان حمل على معنى من فأنث ، ولم يقل من هو روضة والمعنى { يغوصون } له في البحار لاستخراج اللآلىء ، ودل الغوص على المغاص فيه وعلى ما يغاص لاستخراجه وهو الجوهر ، فلذلك لم يذكر أو قال له أي لسليمان لأن الغائص قد يغوص لنفسه ولغيره ، فذكر أن الغوص ليس لأنفسهم إنما هو لأجل سليمان وامتثالهم أمره والإشارة بذلك إلى الغوص أي دون الغوص من بناء المدائن والقصور كما قال { يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل } الآية.
وقيل : الحمام والنورة والطاحون والقوارير والصابون من استخراجهم.
{ وكنا لهم حافظين } أي من أن يزيغوا عن أمره أو يبدّلوا أو يغيروا أو يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون فيه.
وقيل : { حافظين } أن يهيجوا أحداً في زمان سليمان.
وقيل { حافظين } حتى لا يهربوا.
قيل : سخر الكفار دون المؤمنين ، ويدل عليه إطلاق لفظ { الشياطين } وقوله { حافظين } والمؤمن إذا سخر في أمر لا يحتاج إلى حفظ لأنه لا يفسد ما عمل ، وتسخير أكثف الأجسام لداود وهو الحجر إذ أنطقه بالتسبيح والحديد إذ جعل في أصابعه قوة النار حتى لان له الحديد ، وعمل منه الزرد ، وتسخير ألطف الأجسام لسليمان وهو الريح والشياطين وهم من نار.
وكانوا يغوصون في الماء والماء يطفىء النار فلا يضرهم ، دليل واضح على باهر قدرته وإظهار الضد من الضد وإمكان إحياء العظم الرميم ، وجعل التراب اليابس حيواناً فإذا أخبر به الصادق وجب قبوله واعتقاد وجوده انتهى.

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)

النون : الحوت ويجمع على نينان ، وروي : النينان قبله الحمر.
الفرج : يطلق على الحر والذكر مقابل الحر وعلى الدبر.
قال الشاعر :
وأنت إذا استدبرته شد فرجه . . .
مضاف فويق الأرض ليس بأعزل
{ وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظنّ أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين }.
طوّل الأخباريون في قصة أيوب ، وكان أيوب رومياً من ولد إسحاق بن يعقوب ، استنبأه الله وبسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله ، وكان له سبع بنين وسبع بنات ، وله أصناف البهائم وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد ، لكل عبد امرأة وولد ونخيل ، فابتلاه الله بذهاب ولده انهدم عليهم البيت فهلكوا وبذهاب ماله وبالمرض في بدنه ثمان عشرة سنة.
وقيل دون ذلك فقالت له امرأته يوماً لو دعوت الله فقال لها : كم كانت مدة الرخاء؟ فقالت : ثمانين سنة ، فقال : أنا أستحي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي ، فلما كشف الله عنه أحياء ولده ورزقه مثلهم ونوافل منهم.
وروي أن امرأته ولدت بعد ستة وعشرين ابناً وذكروا كيفية في ذهاب ماله وأهله وتسليط إبليس عليه في ذلك الله أعلم بصحتها.
وقرأ الجمهور { أني } بفتح الهمزة وعيسى بن عمر بكسرها إما على إضمار القول أي قائلاً { أني } وإما على إجراء { نادى } مجرى قال وكسر إني بعدها وهذا الثاني مذهب الكوفيين ، والأول مذهب البصريين و { الضُّر } بالفتح الضرر في كل شيء ، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال فرق بين البناءين لافتراق المعنيين ، وقد ألطف أيوب في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب ولم يعين الضر الذي مسه.
واختلف المفسرون في ذلك على سبعة عشر قولاً أمثلها أنه نهض ليصلي فلم يقدر على النهوض ، فقال { مسني الضر } إخباراً عن حالة لا شكوى لبلائه رواه أنس مرفوعاً ، والألف واللام في { الضر } للجنس تعم { الضر } في البدن والأهل والمال.
وإيتاء أهله ظاهره أن ما كان له من أهل رده عليه وأحياهم له بأعيانهم ، وآتاه مثل أهله مع أهله من الأولاد والأتباع ، وذكر أنه جعل له مثلهم عدة في الآخرة.

وانتصب { رحمة } على أنه مفعول من أجله أي لرحمتا إياه { وذكرى } منا بالإحسان لمن عندنا أو { رحمة } منا لأيوب { وذكرى } أي موعظة لغيره من العابدين ، ليصبروا كما صبر حتى يثابوا كما أثيب.
وقال أبو موسى الأشعري ومجاهد : كان ذو الكفل عبداً صالحاً ولم يكن نبياً.
وقال الأكثرون : هو نبي فقيل : هو إلياس.
وقيل : زكريا.
وقيل : يوشع ، والكفل النصيب والحظ أي ذو الحظ من الله المحدود على الحقيقة.
وقيل : كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه وضعف ثوابهم.
وقيل : في تسميته ذا الكفل أقوال مضطربة لا تصح.
وانتصب { مغاضباً } على الحال.
فقيل : معناه غضبان وهو من المفاعلة التي لا تقتضي اشتراكاً ، نحو : عاقبت اللص وسافرت.
وقيل { مغاضباً } لقومه أغضبهم بمفارقته وتخوفهم حلول العذاب ، وأغضبوه حين دعاهم إلى الله مدة فلم يجيبوه فأوعدهم بالعذاب ، ثم خرج من بينهم على عادة الأنبياء عند نزول العذاب قبل أن يأذن الله له في الخروج.
وقيل { مغاضباً } للملك حزقيا حين عينه لغزو ملك كان قد عاب في بني إسرائيل فقال له يونس : آلله أمرك بإخراجي؟ قال : لا ، قال فهل سماني لك؟ قال : لا ، قال ههنا غيري من الأنبياء ، فألح عليه فخرج { مغاضباً } للملك.
وقول من قال { مغاضباً } لربه وحكى في المغاضبة لربه كيفيات يجب اطّراحه إذ لا يناسب شيء منها منصب النبوة ، وينبغي أن يتأول لمن قال ذلك من العلماء كالحسن والشعبي وابن جبير وغيرهم من التابعين ، وابن مسعود من الصحابة بأن يكون معنى قولهم { مغاضباً } لربه أي لأجل ربه ودينه ، واللام لام العلة لا اللام الموصلة للمفعول به.
وقرأ أبو شرف مغضباً اسم مفعول.
{ فظن أن لن نقدر عليه } أي نضيق عليه من القدر لا من القدرة ، وقيل : من القدرة بمعنى { أن لن نقدّر عليه } الابتلاء.
وقرأ الجمهور { نقدر } بنون العظمة مخففاً.
وقرأ ابن أبي ليلى وأبو شرف والكلبي وحميد بن قيس ويعقوب بضم الياء وفتح الدال مخففاً ، وعيسى والحسن بالياء مفتوحة وكسر الدال ، وعليّ بن أبي طالب واليماني بضم الياء وفتح القاف والدال مشددة ، والزهري بالنون مضمومة وفتح القاف وكسر الدال مشددة.
{ فنادى في الظلمات } في الكلام جمل محذوفة قد أوضحت في سورة والصافات ، وهناك نذكر قصته إن شاء الله تعالى وجمع { الظلمات } لشدة تكاثفها فكأنها ظلمة مع ظلمة.
وقيل : ظلمات بطن الحوت والبحر والليل.
وقيل : ابتلع حوته حوت آخر فصار في ظلمتي بطنَي الحوتين وظلمة البحر.
وروي أن يونس سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر ، و { أن } في { أن لا إله إلا أنت } تفسيرية لأنه سبق { فنادى } وهو في معنى القول ، ويجوز أن يكون التقدير بأنه فتكون مخففة من الثقيلة حصر الألوهية فيه تعالى ثم نزهه عن سمات النقص ثم أقر بما بعد ذلك.

وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم : « ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلاّ استجيب له » و { الغم } ما كان ناله حين التقمه الحوت ومدة بقائه في بطنه.
وقرأ الجمهور : { ننجي } مضارع أنجى ، والجحدري مشدداً مضارع نجّى.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر نجى بنون مضمومة وجيم مشددة وياء ساكنة ، وكذلك هي في مصحف الإمام ومصاحف الأمصار بنون واحدة ، واختارها أبو عبيد لموافقة المصاحف فقال الزجّاج والفارسي هي لحن.
وقيل : هي مضارع أدغمت النون في الجيم ورد بأنه لا يجوز إدغام النون في الجيم التي هي فاء الفعل لاجتماع المثلين كما حذفت في قراءة من قرأ ونزل الملائكة يريد وننزل الملائكة ، وعلى هذا أخرجها أبو الفتح.
وقيل : هي فعل ماض مبني لما لم يسم فاعله وسكنت الياء كما سكنها من قرأ وذر وإما بقي من الربا والمقام مقام الفاعل ضمير المصدر أي نجى ، هو أي النجاء المؤمنين كقراءة أبي جعفر { ليجزي قوماً } أي وليجزي هو أي الجزاء ، وقد أجاز إقامة غير المفعول من مصدر أو ظرف مكان أو ظرف زمان أو مجرور الأخفش والكوفيون وأبو عبيد ، وذلك مع وجود المفعول به وجاء السماع في إقامة المجرور مع وجود المفعول به نحو قوله :
أتيح لي من العدا نذيراً . . .
به وقيت الشر مستطيرا
وقال الأخفش : في المسائل ضرب الضرب الشديد زيداً ، وضرب اليومان زيداً ، وضرب مكانك زيداً وأعطى إعطاء حسن أخاك درهماً مضروباً عبده زيداً.
وقيل : ضمير المصدر أقيم مقام الفاعل و { المؤمنين } منصوب بإضمار فعل أي { وكذلك ننجي } هو أي النجاء { ننجي المؤمنين } والمشهور عند البصريين أنه متى وجد المفعول به لم يقم غيره إلا أن صاحب اللباب حكى الخلاف في ذلك عن البصريين ، وأن بعضهم أجاز ذلك.
{ لا تذرني فرداً } أي وحيداً بلا وارث ، سأل ربه أن يرزقه ولداً يرثه ثم رد أمره إلى الله فقال { وأنت خير الوارثين } أي إن لم ترزقني من يرثني فأنت خير وارث ، وإصلاح زوجه بحسن خلقها ، وكانت سيئة الخلق قاله عطاء ومحمد بن كعب وعون بن عبد الله.
وقيل : إصلاحها للولادة بعد أن كانت عاقراً قاله قتادة.
وقيل : إصلاحها رد شبابها إليها ، والضمير في { إنهم } عائد على الأنبياء السابق ذكرهم أي إن استجابتنا لهم في طلباتهم كان لمبادرتهم الخير ولدعائهم لنا.
{ رغباً ورهباً } أي وقت الرغبة ووقت الرهبة ، كما قال تعالى { يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه } وقيل : الضمير يعود على { زكريا } و { زوجه } وابنهما يحيى.
وقرأت فرقة يدعونا حذفت نون الرفع وطلحة بنون مشددة أدغم نون الرفع في ن ضمير النصب.
وقرأ ابن وثاب والأعمش ووهب بن عمرو والنحوي وهارون وأبو معمر والأصمعي واللؤلؤي ويونس وأبو زيد سبعتهم عن أبي عمر و { رغباً ورهباً } بالفتح وإسكان الهاء ، والأشهر عن الأعمش بضمتين فيهما.

وقرأ فرقة : بضم الراءين وسكون الغين والهاء ، وانتصب { رغباً ورهباً } على أنهما مصدران في موضع الحال أو مفعول من أجله.
{ والتي أحصنت فرجها } هي مريم بنت عمران أم عيسى عليه السلام ، والظاهر أن الفرج هنا حياء المرأة أحصنته أي منعته من الحلال والحرام كما قالت { ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً } وقيل : الفرج هنا جيب قميصها منعته من جبريل لما قرب منها لينفخ حيث لم يعرف ، والظاهر أن قوله { فنفخنا فيها من روحنا } كناية عن إيجاد عيسى حياً في بطنها ، ولا نفخ هناك حقيقة ، وأضاف الروح إليه تعالى على جهة التشريف.
وقيل : هناك نفخ حقيقة وهو أن جبريل عليه السلام نفخ في جيب درعها وأسند النفخ إليه تعالى لما كان ذلك من جبريل بأمره تعالى تشريفاً.
وقيل : الروح هنا جبريل كما قال { فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها } والمعنى { فنفخنا فيها } من جهة جبريل وكان جبريل قد نفخ من جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها.
قال الزمخشري : فإن قلت : نفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه قال الله تعالى { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي } أي أحييته ، وإذا ثبت ذلك كان قوله { فنفخنا فيها من روحنا } ظاهر الإشكال لأنه يدل على إحياء مريم.
قلت : معناه نفخنا الروح في عيسى فيها أي أحييناه في جوفها ، ونحو ذلك أن يقول الزمار نفخت في بيت فلان أي نفخت في المزمار في بيته انتهى.
ولا إشكال في ذلك لأنه على حذف مضاف أي { فنفخنا في } ابنها { من روحنا } وقوله قلت معناه نفخنا الروح في عيسى فيها استعمل نفخ متعدياً ، والمحفوظ أنه لا يتعدى فيحتاج في تعديه إلى سماع وغير متعد استعمله هو في قوله أي نفخت في المزمار في بيته انتهى.
ولا إشكال في ذلك.
وأفرد { آية } لأن حالهما لمجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير فحل ، وإن كان في مريم آيات وفي عيسى آيات لكنه هنا لحظ أمر الولادة من غير ذكر ، وذلك هو آية واحدة وقوله { للعالمين } أي لمن اعتبر بها من عالمي زمانها فمن بعدهم ، ودل ذكر مريم مع الأنبياء في هذه السورة على أنها كانت نبية إذ قرنت معهم في الذكر ، ومن منع تنبؤ النساء قال : ذكرت لأجل عيسى وناسب ذكرهما هنا قصة زكريا وزوجه ويحيى للقرابة التي بينهم.

إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)

الحدب : المسنم من الأرض كالجبل والكدية والقبر ونحوه.
النسلان : مقاربة الخطو مع الإسراع قال الشاعر :
عسلان الذئب أمسى قارباً . . .
برد الليل عليه فنسل
الحصب : الحطب بلغة الحبشة إذا رمى به في النار قبل وقبل أن يرمي به لا يسمى حصباً.
وقيل : الحصب ما توقد به النار.
{ إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون }.
والظاهر أن قوله { أمتكم } خطاب لمعاصري الرسول صلى الله عليه وسلم و { هذه } إشارة إلى ملة الإسلام ، أي إن ملة الإسلام هي ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها لا تنحرفون عنها ملة واحدة غير مختلفة ، ويحتمل أن تكون { هذه } إشارة إلى الطريقة التي كان عليها الأنبياء المذكورون من توحيد الله تعالى هي طريقتكم وملتكم طريقة واحدة لا اختلاف فيها في أصول العقائد ، بل ما جاء به الأنبياء من ذلك هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل : معنى { أمة واحدة } مخلوقة له تعالى مملوكة له ، فالمراد بالأمة الناس كلهم.
وقيل : الكلام يحتمل أن يكون متصلاً بقصة مريم وابنها أي { وجعلناها وابنها آية للعالمين } بأن بعث لهم بملة وكتاب ، وقيل لهم { إن هذه أمتكم } أي دعا الجميع إلى الإيمان بالله وعبادته.
ثم أخبر تعالى أنهم بعد ذلك اختلفوا { وتقطعوا أمرهم } وقرأ الجمهور { أمتكم } بالرفع خبر إن { أمة واحدة } بالنصب على الحال ، وقيل بدل من { هذه } وقرأ الحسن { أمتكم } بالنصب بدل من { هذه }.
وقرأ أيضاً هو وابن إسحاق والأشهب العقيلي وأبو حيوة وابن أبي عبلة والجعفي وهارون عن أبي عمرو والزعفراني { أمتكم أمة واحدة } برفع الثلاثة على أن { أمتكم } و { أمة واحدة } خبر { إن } أو { أمة واحدة } بدل من { أمتكم } بدل نكرة من معرفة ، أو خبر مبتدأ محذوف أي هي { أمة واحدة } والضمير في { وتقطعوا } عائد على ضمير الخطاب على سبيل الالتفات أي وتقطعتم.
ولما كان هذا الفعل من أقبح المرتكبات عدل عن الخطاب إلى لفظ الغيبة كأن هذا الفعل ما صدر من المخاطب لأن في الإخبار عنهم بذلك نعياً عليهم ما أفسدوه ، وكأنه يخبر غيرهم ما صدر من قبيح فعلهم ويقول ألا ترى إلى ما ارتكب هؤلاء في دين الله جعلوا أمر دينهم قطعاً كما يتوزع الجماعة الشيء لهذا نصيب ولهذا نصيب ، تمثيلاً لاختلافهم ثم توعدهم برجوع هذه الفرقة المختلفة إلى جزائه.

وقيل : كل من الثابت على دينه الحق والزائغ عنه إلى غيره.
وقرأ الأعمش زبراً بفتح الباء جمع زبرة ، ثم ذكر حال المحسن وأنه لا يكفر سعيه والكفران مثل في حرمان الثواب كما أن الشكر مثل في إعطائه إذا قيل لله شكور ولا لنفي الجنس فهو أبلغ من قوله فلا يكفر سعيه ، والكتابة عبارة عن إثبات عمله الصالح في صحيفة الأعمال ليثاب عليه ، ولا يضيع ، والكفران مصدر كالكفر.
قال الشاعر :
رأيت أناساً لا تنام جدودهم . . .
وجدي ولا كفران لله نائم
وفي حرف عبد الله لا كفر و { لسعيه } متعلق بمحذوف ، أي نكفر { لسعيه } ولا يكون متعلقاً بكفران إذ لو كان متعلقاً به لكان اسم لا مطولاً فيلزم تنوينه.
وقرأ الجمهور { وحرام } وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وطلحة والأعمش وأبو حنيفة وأبو عمرو في رواية وحِرْم بكسر الحاء وسكون الراء.
وقرأ قتادة ومطر الوراق ومحبوب عن أبي عمرو بفتح الحاء وسكون الراء.
وقرأ عكرمة وحُرِمٌ بكسر الراء والتنوين.
وقرأ ابن عباس وعكرمة أيضاً وابن المسيب وقتادة أيضاً بكسر الراء وفتح الحاء والميم على المضي بخلاف عنهما ، وأبو العالية وزيد بن عليّ بضم الراء وفتح الحاء والميم على المضي.
وقرأ ابن عباس أيضاً بفتح الحاء والراء والميم على المضيّ.
وقرأ اليماني وحُرِّمَ بضم الحاء وكسر الراء مشددة وفتح الميم.
وقرأ الجمهور { أهلكناها } بنون العظمة.
وقرأ السلمي وقتادة بتاء المتكلم ، واستعير الحرام للمتنع وجوده ومنه { إن الله حرمهما على الكافرين } ومعنى { أهلكناها } قدرنا إهلاكها على ما هي عليه من الكفر ، فالإهلاك هنا إهلاك عن كفر و { لا } في { لا يرجعون } صلة وهو قول أبي عبيد كقولك : ما منعك أن لا تسجد ، أي يرجعون إلى الإيمان والمعنى وممتنع على أهل قرية قدرنا عليهم إهلاكهم لكفرهم رجوعهم في الدنيا إلى الإيمان إلى أن تقوم القيامة ، فحينئذ يرجعون ويقولون { يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا } وغياً بما قرب من مجيء الساعة وهو فتح { يأجوج ومأجوج } وقرىء { إنهم } بالكسر فيكون الكلام قد تم عند قوله { أهلكناها } ويقدر محذوف تصير به { وحرام على قرية أهلكناها } جملة أي ذاك ، وتكون إشارة إلى العمل الصالح المذكور في قسيم هؤلاء المهلكين ، والمعنى { وحرام على } أهل { قرية } قدرنا إهلاكهم لكفرهم عمل صالح ينجون به من الإهلاك ثم أكد ذلك وعلله بأنهم { لا يرجعون } عن الكفر ، فكيف لا يمتنع ذلك فالمحذوف مبتدأ والخبر { وحرام } وقدره بعضهم متقدماً كأنه قال : والإقالة والتوبة حرام.
وقراءة الجمهور بالفتح تصح على هذا المعنى وتكون { لا } نافية على بابها والتقدير لأنهم لا يرجعون.

وقيل { أهلكناها } أي وقع إهلاكنا إياهم ويكون رجوعهم إلى الدنيا فيتوبون بل هم صائرون إلى العذاب.
وقيل : الإهلاك بالطبع على القلوب ، والرجوع هو إلى التوبة والإيمان.
وقال الزجاج { وحرام على قرية أهلكناها } حكمنا بإهلاكها أن نتقبل أعمالهم لأنها { لا يرجعون } أي لا يتوبون ، ودل على هذا المعنى قوله قبل { فلا كفران لسعيه } أي يتقبل عمله ثم ذكر هذا عقيبه وبين أن الكافر لا يتقبل عمله.
وقال أبو مسلم بن بحر { حرام } ممتنع و { أنهم لا يرجعون } انتقام الرجوع إلى الآخرة ، وإذا امتنع الانتفاء وجب الرجوع فالمعنى أنه يجب رجوعهم إلى الحياة في الدار الآخرة ويكون الغرض إنكار قول من ينكر البعث ، وتحقيق ما تقدم من أنه لا كفران لسعي أحد وأنه يجزى على ذلك يوم القيامة.
وقيل : الحرام يجيء بمعنى الواجب يدل عليه { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا } وترك الشرك واجب.
وقالت الخنساء :
حرام علي أن لا أرى الدهر باكيا . . .
على شجوه إلاّ بكيت على صخر
وأيضاً فمن الاستعمال إطلاق الضمير على ضده ، وعلى هذا فقال مجاهد والحسن { لا يرجعون } عن الشرك.
وقال قتادة ومقاتل إلى الدنيا.
قال ابن عطية : ويتجه في الآية معنى ضمنه وعيد بيّن وذلك أنه ذكر من عمل صالحاً وهو مؤمن ثم عاد إلى ذكر الكفرة الذين من كفرهم ومعتقدهم أنهم لا يحشرون إلى رب ولا يرجعون إلى معاد فهم يظنون بذلك أنه لا عقاب ينالهم ، فجاءت الآية مكذبة لظن هؤلاء أي وممتنع على الكفرة المهلكين { أنهم لا يرجعون } بل هم راجعون إلى عقاب الله وأليم عذابه ، فيكون لا على بابها والحرام على بابه.
وكذلك الحرم فتأمله انتهى.
و { حتى } قال أبو البقاء متعلقة في المعنى بحرام أي يستمر الامتناع إلى هذا الوقت ولا عمل لها في { إذا }.
وقال الحوفي { حتى } غاية ، والعمل فيها ما دل عليه المعنى من تأسفهم على ما فرطوا فيه من الطاعة حين فاتهم الاستدراك.
وقال الزمخشري : فإن قلت : بم تعلقت { حتى } واقعة غاية له وأية الثلاث هي؟ قلت : هي متعلقة بحرام ، وهي غاية له لأن امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم القيامة ، وهي { حتى } التي تحكي الكلام ، والكلام المحكي الجملة من الشرط والجزاء أعني إذا وما في حيزها انتهى.
وقال ابن عطية : هي متعلقة بقوله { وتقطعوا } ويحتمل على بعض التأويلات المتقدمة أن تعلق بيرجعون ، ويحتمل أن تكون حرف ابتداء وهو الأظهر بسبب { إذ } لأنها تقتضي جواباً هو المقصود ذكره انتهى.
وكون { حتى } متعلقة فيه بعد من حيث ذكر الفصل لكنه من جهة المعنى جيد ، وهو أنهم لا يزالون مختلفين غير مجتمعين على دين الحق إلى قرب مجيء الساعة ، فإذا جاءت الساعة انقطع ذلك الاختلاف وعلم الجميع أن مولاهم الحق وأن الدين المنجي هو كان دين التوحيد.

وجواب { إذا } محذوف تقديره { قالوا يا ويلنا } قاله الزجاج وجماعة أو تقديره ، فحينئذ يبعثون { فإذا هي شاخصة }.
أو مذكور وهو واقترب على زيادة الواو قاله بعضهم ، وهو مذهب الكوفيين وهم يجيزون زيادة الواو والفاء في فإذا هي قاله الحوفي.
وقال الزمخشري : وإذا هي المفاجأة وهي تقع في المفاجآت سادة مسد الفاء لقوله تعالى { إذا هم يقنطون } فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط ، فيتأكد ولو قيل { إذا هي شاخصة } كان سديداً.
وقال ابن عطية : والذي أقول أن الجواب في قوله { فإذا هي شاخصة } وهذا هو المعنى الذي قصد ذكره لأنه رجوعهم الذي كانوا يكذبون به وحرّم عليهم امتناعه ، وتقدم الخلاف في { فتحت } في الأنعام ووافق ابن عامر أبو جعفر وشيبة وكذا التي في الأنعام والقمر في تشديد التاء ، والجمهور على التخفيف فيهن و { فتحت يأجوج } على حذف مضاف أي سد { يأجوج ومأجوج } وتقدم الخلاف في قراءة { يأجوج ومأجوج } والظاهر أن ضمير { وهم } عائد على { يأجوج ومأجوج } أي يطلعون من كل ثنية ومرتفع ويعمون الأرض.
وقيل : الضمير للعالم ويدل عليه قراءة عبد الله وابن عباس من كل جدث بالثاء المثلثة وهو القبر.
وقرىء بالفاء الثاء للحجاز والفاء لتميم وهي بدل من الثاء كما أبدلوا الثاء منها قالوا وأصله مغفور.
وقرأ الجمهور { ينسلون } بكسر السين وابن أبي إسحاق وأبو السمال بضمها { واقترب الوعد الحق } أي الوعد بالبعث الحق الذي لا شك فيه { واقترب } قيل : أبلغ في القرب من قرب وضمير { هي } للقصة كأنه قيل : فإذا القصة والحادثة { أبصار الذين كفروا } { شاخصة } ويلزم أن تكون { شاخصة } الخبر و { أبصار } مبتدأ ، ولا يجوز ارتفاع أبصار شاخصة لأنه يلزم أن تكون بعد ضمير الشأن ، أو القصة جملة تفسر الضمير مصرح بجزأيها ، ويجوز ذلك على مذهب الكوفيين.
وقال الزمخشري : { هي } ضمير مبهم توضحه الأبصار وتفسره كما فسر الذين ظلموا وأسروا انتهى.
ولم يذكر غير هذا الوجه وهو قول للفراء.
قال الفراء : { هي } ضمير الأبصار تقدمت لدلالة الكلام ومجيء ما يفسرها وأنشد على ذلك قول الشاعر :
فلا وأبيها لا تقول خليلتي . . .
إلاّ قرّ عني مالك بن أبي كعب
وذكر أيضاً الفراء أن { هي } عماد يصلح في موضعها هو وأنشد :
بثوب ودينار وشاة ودرهم . . .
فهل هو مرفوع بما ههنا رأس
وهذا لا يتمشى إلا على أحد قولي الكسائي في إجازته تقديم الفصل مع الخبر على المبتدأ أجاز هو القائم زيد على أن زيد هو المبتدأ والقائم خبره ، وهو عماد وأصل المسألة زيد هو القائم ، ويقول : أصله هذه فإذا { أبصار الذين كفروا } هي { شاخصة } فشاخصة خبر عن { أبصار } وتقدم مع العماد ، ويجيء على مذهب من يجيز العماد قبل خبره نكرة ، وذكر الثعلبي وجهاً آخر وهو أن الكلام ثم عند قوله : { فإذا هي } أي بارزة واقعة يعني الساعة ، ثم ابتدأ فقال { شاخصة أبصار الذين كفروا } وهذا وجه متكلف متنافر التركيب.

وروى حذيفة لو أن رجلاً اقتنى فلو أبعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة يعني في مجيء الساعة إثر خروجهم.
{ يا ويلنا } معمول لقول محذوف.
قال الزمخشري : تقديره يقولون وهو في موضع الحال من الذين كفروا وتقدم قول الزجاج أن هذا القول جواب { إذا } والشخوص إحداد النظر دون أن يطرف في غفلة من هذا انتهى.
أي مما وجدنا الآن وتبينا من الحقائق ثم أضربوا عن قولهم { قد كنا في غفلة } وأخبروا بما قد كانوا تعمدوه من الكفر والإعراض عن الإيمان فقالوا { بل كنا ظالمين } والخطاب بقوله { إنكم وما تعبدون من دون الله } للكفار المعاصرين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا سيما أهل مكة ومعبوداتهم هي الأصنام.
وقرأ الجمهور { حصب } بالحاء والصاد المهملتين ، وهو ما يحصب به أي يرمى به في نار جهنم.
وقبل أن يرمي به لا يطلق عليه حصب إلا مجازاً.
وقرأ ابن السميفع وابن أبي عبلة ومحبوب وأبو حاتم عن ابن كثير بإسكان الصاد ، ورويت عن ابن عباس وهو مصدر يراد به المفعول أي المحصوب.
وقرأ ابن عباس : بالضاد المعجمة المفتوحة وعنه إسكانها ، وبذلك قرأ كثير عزة : والحضب ما يرمى به في النار ، والمحضب العود أو الحديدة أو غيرهما مما تحرك به النار.
قال الشاعر :
فلا تك في حربنا محضباً . . .
فتجعل قومك شتى شعوبا
وقرأ أُبي وعليّ وعائشة وابن الزبير وزيد بن علي حطب بالطاء ، وجمع الكفار مع معبوداتهم في النار لزيادة غمهم وحسرتهم برؤيتهم معهم فيها إذ عذبوا بسببهم ، وكانوا يرجون الخير بعبادتهم فحصل لهم الشر من قبلهم ولأنهم صاروا لهم أعداء ورؤية العدوّ مما يزيد في العذاب.
كما قال الشاعر :
واحتمال الأذى ورؤية جابيه . . .
غذاء تضنى به الأجسام
{ أنتم لها } أي للنار { واردون } الورود هنا ورود دخول { لو كان هؤلاء } أي الأصنام التي تبعدونها { آلهة ما وردوها } أي ما دخلوها ودل على أنه ورود دخول قوله { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } وقرأ الجمهور { آلهة } بالنصب على خبر { كان }.
وقرأ طلحة بالرفع على أن في { كان } ضمير الشأن { وكل فيها } أي كل من العابدين ومعبوداتهم.
{ لهم فيها زفير } وهو صوت نفس المغموم يخرج من القلب ، والظاهر أن الزفير إنما يكون ممن تقوم به الحياة وهم العابدون والمعبودون ممن كان يدعي الإلهية كفرعون وكغلاة الإسماعيلية الذين كانوا ملوك مصر من بني عبيد الله أول ملوكهم ، ويجوز أن يجعل الله للأصنام التي عبدت حياة فيكون لها زفير.
وقال الزمخشري : إذا كانوا هم وأصنامهم في قرن واحد جاز أن يقال لهم فيها إن لم يكن الزافرين إلاّ وهم فيها { لا يسمعون } وروي عن ابن مسعود أنهم يجعلون في توابيت من نار فلا يسمعون وقال تعالى { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً } وفي سماع الأشياء روح فمنع الله الكفار ذلك في النار.
وقيل { لا يسمعون } ما يسرهم من كلام الزبانية.

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)

السجل : الصحيفة.
{ إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين قل إنما يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين قل رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون }.
سبب نزول { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } قول ابن الزبعري حين سمع { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : قد خصمتك ورب الكعبة ، أليس اليهود عبدوا عزيراً والنصارى عبدوا المسيح ، وبنو مليح عبدوا الملائكة فقال صلى الله عليه وسلم : « هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك » فأنزل الله تعالى : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } الآية.
وقيل : لما اعترض ابن الزبعري قيل لهم : ألستم قوماً عرباً أو ما تعلمون أن من لمن يعقل وما لما لا يعقل ، فعلى القول الأول يكون ابن الزبعري قد فهم من قوله { وما تعبدون } العموم فلذلك نزل قوله { إن الذين سبقت لهم } الآية تخصيصاً لذلك العموم ، وعلى هذا القول الثاني يكون ابن الزبعري رام مغالطة ، فأجيب بأن من لمن يعقل وما لما لا يعقل فبطل اعتراضه.
{ والحسنى } الخصلة المفضلة في الحسن تأنيث الأحسن ، إما السعادة وإما البشرى بالثواب ، وإما التوفيق للطاعة.
والظاهر من قوله { مبعدون } فما بعده أن من سبقت له الحسنى لا يدخل النار.
وروي أن علياً كرم الله وجهه قرأ هذه الآية ثم قال : أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف ، ثم أقيمت الصلاة فقام يجرّ رداءه وهو يقول { لا يسمعون حسيسها } والحسيس الصوت الذي يحس من حركة الأجرام ، وهذا الإبعاد وانتفاء سماع صوتها قيل هو قبل دخول الجنة.
وقيل : بعد دخولهم واستقرارهم فيها ، والشهوة طلب النفس اللذة.
وقال ابن عطية : وهذه صفة لهم بعد دخولهم الجنة لأن الحديث يقتضي أنه في الموقف تزفر جهنم زفرة لا يبقى نبيّ ولا ملك إلاّ جثا على ركبتيه و { الفزع الأكبر } عام في كل هول يكون في يوم القيامة فكان يوم القيامة بجملته هو { الفزع الأكبر } وإن خصص بشيء فيجب أن يقصد لا عظم هو له انتهى.

وقيل : { الفزع الأكبر } وقوع طبق جهنم عليها قاله الضحاك.
وقيل : النفخة الأخيرة.
وقيل : الأمر بأهل النار إلى النار ، روي عن ابن جبير وابن جريج والحسن.
وقيل : ذبح الموت.
وقيل : إذا نودي { اخسؤوا فيها ولا تكلمون } وقيل { يوم نطوي السماء } ذكره مكي.
{ وتتلقاهم الملائكة } بالسلام عليهم.
وعن ابن عباس : تلقاهم الملائكة بالرحمة عند خروجهم من القبور قائلين لهم { هذا يومكم الذي كنتم توعدون } بالكرامة والثواب والنعيم.
وقرأ أبو جعفر { لا يحزنهم } مضارع أحزن وهي لغة تميم ، وحزن لغة قريش ، والعامل في يوم { لا يحزنهم } و { تتلقاهم } وأجاز أبو البقاء أن يكون بدلاً من العائد المحذوف في { توعدون } فالعامل فيه { توعدون } أي أيوعدونه أو مفعولاً باذكر أو منصوباً بأعني.
وأجاز الزمخشري أن يكون العامل فيه { الفزع } وليس بجائز لأن { الفزع } مصدر وقد وصف قبل أخذ معموله فلا يجوز ما ذكر.
وقرأ الجمهور { نطوي } بنون العظمة.
وفرقة منهم شيبة بن نصاح يطوي بياء أي الله ، وأبو جعفر وفرقة بالتاء مضمومة وفتح الواو و { السماء } رفعاً والجمهور { السجل } على وزن الطمر.
وأبو هريرة وصاحبه وأبو زرعة بن عمرو بن جرير بضمتين وشد اللام ، والأعمش وطلحة وأبو السماك { السجل } بفتح السين والحسن وعيسى بكسرهما ، والجيم في هاتين القراءتين ساكنة واللام مخففة.
وقال أبو عمر : وقراءة أهل مكة مثل قراءة الحسن.
وقال مجاهد { السجل } الصحيفة.
وقيل : هو مخصوص من الصحف بصحيفة العهد ، والمعنى طياً مثل طي السجل ، وطي مصدر مضاف إلى المفعول ، أي ليكتب فيه أو لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة ، والأصل { كطيّ } الطاوي { السجل } فحذف الفاعل وحذفه يجوز مع المصدر المنحل لحرف مصدري ، والفعل ، وقدره الزمخشري مبنياً للمفعول أي كما يُطْوَى السجل.
وقال ابن عباس وجماعة { السجل } ملك يطوى كتب بني آدم إذا رفعت إليه.
وقالت فرقة : هو كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذين القولين يكون المصدر مضافاً للفاعل.
وقال أبو الفضل الرازي : الأصح أنه فارسي معرب انتهى.
وقيل : أصله من المساجلة وهي من { السجل } وهو الدلو ملأى ماء.
وقال الزجاج : هو رجل بلسان الحبش.
وقرأ الجمهور : للكتاب مفرداً وحمزة والكسائي وحفص { للكتب } جمعاً وسكن التاء الأعمش.
وقال الزمخشري : { أول خلق } مفعول نعيد الذي يفسره { نعيده } والكاف مكفوفة بما ، والمعنى نعيد أول الخلق كما بدأناه تشبيهاً للإعادة بالإبداء في تناول القدرة لهما على السواء فإن قلت : وما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه قلت : أو له إيجاده من العدم ، فكما أوجده أولاً عن عدم يعيده ثانياً عن عدم.
فإن قلت : ما بال خلق منكراً؟ قلت : هو كقولك : هو أول رجل جاءني تريد أول الرجال ، ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجلاً رجلاً فكذلك معنى { أول خلق } أول الخلائق لأن الخلق مصدر لا يجمع ووجه آخر ، وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره نعيده وما موصولة ، أي نعيد مثل الذي بدأناه { نعيده } و { أول خلق } ظرف لبدأناه أي أول ما خلق أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ الثابت في المعنى انتهى.

والظاهر أن الكاف ليست مكفوفة كما ذكر بل هي جارة وما بعدها مصدرية ينسبك منها مع الفعل مصدر هو في موضع جر بالكاف.
و { أول خلق } مفعول { بدأنا } والمعنى نعيد أول خلق إعادة مثل بدأتنا له ، أي كما أبرزناه من العدم إلى الوجود نعيده من العدم إلى الوجود.
في ما قدره الزمخشري تهيئة { بدأنا } لأن ينصب { أول خلق } على المفعولية.
وقطعه عنه من غير ضرورة تدعو إلى ذلك وارتكاب إضمار يعيد مفسراً بنعيده وهذه عجمة في كتاب الله ، وأما قوله : ووجه آخر وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره { نعيده } فهو ضعيف جداً لأنه مبني على أن الكاف اسم لا حرف ، فليس مذهب الجمهور إنما ذهب إلى ذلك الأخفش وكونها اسماً عند البصريين غير مخصوص بالشعر.
وقال ابن عطية : يحتمل معنيين أحدهما : أن يكون خبراً عن البعث أي كما اخترعنا الخلق أولاً على غير مثال كذلك ننشئهم تارة أخرى فنبعثهم من القبور.
والثاني أن يكون خبراً عن أن كل شخص يبعث يوم القيامة على هيئته التي خرج بها إلى الدنيا ويؤيده «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً» { كما بدأنا أول خلق نعيده } وقوله { كما بدأنا } الكاف متعلقة بقوله { نعيده } انتهى.
وانتصب { وعداً } على أنه مفعول مصدر مؤكداً لمضمون الجملة الخبرية قبله { إنّا كنا فاعلين } تأكيد لتحتم الخبر أي نحن قادرون على أن نفعل و { الزبور } الظاهر أنه زبور داود وقاله الشعبي ، ومعنى هذه الآية موجود في زبور داودوقرأناه فيه و { الذكر } التوراة قاله ابن عباس.
وقيل { الزبور } ما بعد التوراة من الكتب و { الذكر } التوراة وقيل { الزبور } يعم الكتب المنزلة و { الذكر } اللوح المحفوظ.
{ الأرض } قال ابن عباس أرض الجنة.
وقيل : الأرض المقدسة { يرثها } أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
والإشارة في قوله { إن في هذا } أي المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعيد والوعيد والمواعظ البالغة لبلاغاً كفاية يبلغ بها إلى الخير.
وقيل : الإشارة إلى القرآن جملة ، وكونه عليه السلام رحمة لكونه جاءهم بما يسعدهم.
{ وللعالمين } قيل خاص بمن آمن به.
وقيل : عام وكونه { رحمة } للكافر حيث أخر عقوبته ، ولم يستأصل الكفار بالعذاب قال معناه ابن عباس.
قال : عوفي مما أصاب غيرهم من الأمم من مسخ وخسف وغرق وقذف وأخر أمره إلى الآخرة.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون معناه { وما أرسلناك } للعالمين { إلا رحمة } أي هو رحمة في نفسه وهدى بين أخذ به من أخذ وأعرض عنه من أعرض انتهى.

ولا يجوز على المشهور أن يتعلق الجار بعد { إلا } بالفعل قبلها إلا أن كان العامل مفرغاً له نحو ما مررت إلاّ بزيد.
وقال الزمخشري : إنما تقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم كقولك : إنما زيد قائم وإنما يقوم زيد وقد اجتمع ، المثلان في هذه الآية لأن { إنما يوحى إليّ } مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد و { إنما إلهكم إله واحد } بمنزلة إنما زيد قائم ، وفائدة اجتماعهما الدلالة على أن الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مقصور على استئثار الله بالوحدانية انتهى.
وأما ما ذكره في { إنما } إنها لقصر ما ذكر فهو مبني على إنما للحصر وقد قررنا أنها لا تكون للحصر ، وإنما مع أن كهي مع كان ومع لعل ، فكما أنها لا تفيد الحصر في التشبيه ولا الحصر في الترجي فكذلك لا تفيده مع أن وأما جعله { أنما } المفتوحة الهمزة مثل مكسورتها يدل على القصر ، فلا نعلم الخلاف إلاّ في { إنما } بالكسر ، وأما بالفتح فحرف مصدري ينسبك منع مع ما بعدها مصدر ، فالجملة بعدها ليست جملة مستقلة ، ولو كانت إنما دالة على الحصر لزم أن يقال إنه لم يوح إليه شيء إلاّ التوحيد.
وذلك لا يصح الحصر فيه إذ قد أوحى له أشياء غير التوحيد وفي الآية دليل على تظافر المنقول للمعقول وأن النقل أحد طريقي التوحيد ، ويجوز في ما من { إنما } أن تكون موصولة.
{ فهل أنتم مسلمون } استفهام يتضمن الأمر بإخلاص التوحيد والانقياد إلى الله تعالى { آذنتكم } أعلمتكم وتتضمن معنى التحذير والنذارة { على سواء } لم أخص أحداً دون أحد ، وهذا الإيذان هو إعلام بما يحل بمن تولى من العقاب وغلبة الإسلام ، ولكني لا أدري متى يكون ذلك و { إن } نافية و { أدري } معلقة والجملة الاستفهامية في موضع نصب بأدري ، وتأخر المستفهم عنه لكونه فاصلة إذ لو كان التركيب { أقريب } { ما توعدون } { أم بعيد } لم تكن فاصلة وكثيراً ما يرجح الحكم في الشيء لكونه فاصلة آخر آية.
وعن ابن عامر في رواية { وإن أدري } بفتح الياء في الآيتين تشبيهاً بياء الإضافة لفظاً ، وإن كانت لام الفعل ولا تفتح إلاّ بعامل ، وأنكر ابن مجاهد فتح هذه الياء والمعنى أنه تعالى لم يعلمني علمه ولم يطلعني عليه ، والله هو العالم الذي لا يخفى عليه شيء.
{ وإن أدري لعله فتنة } أي لعل تأخير هذا الموعد امتحان لكم لننظر كيف تعملون ، أو يمتنع لكم إلى حين ليكون ذلك حجة وليقع الموعد في وقت هو حكمة ، ولعل هنا معلقه أيضاً وجملة الترجي هي مصب الفعل ، والكوفيون يجرون لعل مجرى هل ، فكما يقع التعليق عن هل كذلك عن لعل ، ولا أعلم أحداً ذهب إلى أن لعل من أدوات التعليق وإن كان ذلك ظاهراً فيها كقوله

{ وما يدريك لعل الساعة قريب } { وما يدريك لعله يزكى } وقيل { إلى حين } إلى يوم القيامة.
وقيل : إلى يوم بدر.
وقرأ الجمهور { قل رب } أمراً بكسر الباء.
وقرأ حفص قال وأبو جعفر { رب } بالضم.
قال صاحب اللوامح : على أنه منادى مفرد وحذف حرف النداء فيما جاز أن يكون وصفاً لأي بعيد بابه الشعر انتهى.
وليس هذا من نداء النكرة المقبل عليها بل هذا من اللغات الجائزة في يا غلامي ، وهي أن تبنيه على الضم وأنت تنوي الإضافة لما قطعته عن الإضافة وأنت تريدها بنيته ، فمعنى { رب } يا ربي.
وقرأ الجمهور { احكم } على الأمر من حكم.
وقرأ ابن عباس وعكرمة والجحدري وابن محيصن ربي بإسكان الياء أحكم جعله أفعل التفضيل فربي أحكم مبتدأ وخبر.
وقرأت فرقة أحكم فعلاً ماضياً.
وقرأ الجمهور { تصفون } بتاء الخطاب.
وروي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ على أُبيّ على ما يصفون بياء الغيبة ، ورويت عن ابن عامر وعاصم.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)

هذه السورة مكية إلا { هذان خصمان } إلى تمام ثلاث آيات قاله ابن عباس ومجاهد ، وعن ابن عباس أيضاً إنهن أربع آيات إلى قوله { عذاب الحريق } وقال الضحاك : هي مدنية.
وقال قتادة : إلاّ من قوله { وما أرسلنا من قبلك من رسول } - إلى قوله - { عذاب مقيم } وقال الجمهور : منها مكي ومنها مدني.
ومناسبة أول هذه السورة لما قبلها أنه ذكر تعالى حال الأشقياء والسعداء وذكر الفزع الأكبر وهو ما يقول يوم القيامة ، وكان مشركو مكة قد أنكروا المعاد وكذبوه بسبب تأخر العذاب عنهم.
نزلت هذه السورة تحذيراً لهم وتخويفاً لما انطوت عليه من ذكر زلزلة الساعة وشدّة هولها ، وذكر ما أعد لمنكرها وتنبيههم على البعث بتطويرهم في خلقهم ، وبهمود الأرض واهتزازها بعد بالنبات ، والظاهر أن قوله { يا أيها الناس } عام.
وقيل : المراد أهل مكة ، ونبه تعالى على سبب اتقائه وهو ما يؤول إليه من أهوال الساعة وهو على حذف مضاف أي { اتقوا } عذاب { ربكم } ، والزلزلة الحركة المزعجة وهي عند النفخة الأولى.
وقيل : عند الثانية.
وقيل : عند قول الله يا آدم ابعث بعث النار.
وقال الجمهور : في الدنيا آخر الزمان ويتبعها طلوع الشمس من مغربها.
وعن الحسن : يوم القيامة.
وعن علقمة والشعبي : عند طلوع الشمس من مغربها ، وأضيفت إلى الساعة لأنها من أشراطها ، والمصدر مضاف للفاعل فالمفعول المحذوف وهو الأرض يدل عليه { إذا زلزلت الأرض زلزالها } والناس ونسبة الزلزلة إلى { الساعة } مجاز ، ويجوز أن يضاف إلى المفعول به على طريقة الاتساع في الظرف ، فتكون { الساعة } مفعولاً بها وعلى هذه التقادير يكون ثم { زلزلة } حقيقة.
وقال الحسن : أشد الزلزال ما يكون مع قيام الساعة.
وقيل : الزلزلة استعارة ، والمراد أشد الساعة وأهوال يوم القيامة و { شيء } هنا يدل على إطلاقه على المعدوم لأن الزلزلة لم تقع بعد ، ومن منع إيقاعه على المعدوم قال : جعل الزلزلة شيئاً لتيقن وقوعها وصيرورتها إلى الوجود.
وذكر تعالى أهول الصفات في قوله { ترونها } الآية لينظروا إلى تلك الصفة ببصائرهم ويتصوروها بعقولهم ليكون ذلك حاملاً على تقواه تعالى إذ لا نجاة من تلك الشدائد إلاّ بالتقوى.
وروي أن هاتين الآيتين نزلتا ليلاً في غزوة بني المصطلق فقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة ، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام وقت النزول ولم يطبخوا قدراً ، وكانوا من بين حزين باك ومفكر.
والناصب ليوم { تذهل } والظاهر أن الضمير المنصوب في { ترونها } عائداً على الزلزلة لأنها المحدث عنها ، ويدل على ذلك وجود ذهول المرضعة ووضع الحمل هذا إذا أريد الحقيقة وهي الأصل ، ويكون ذلك في الدنيا.
وعن الحسن { تذهل } المرضعة عن ولدها لغير فطام { وتضع } الحامل ما في بطنها لغير تمام.

وقالت فرقة : الضمير يعود على { الساعة } فيكون الذهول والوضع عبارة عن شدة الهول في ذلك اليوم ، ولا ذهول ولا وضع هناك كقولهم : يوم يشيب فيه الوليد.
وجاء لفظ { مرضعة } دون مرضع لأنه أريد به الفعل لا النسب ، بمعنى ذات رضاع.
وكما قال الشاعر :
كمرضعة أولاد أخرى وضيعت . . .
بني بطنها هذا الضلال عن القصد ، والظاهر أن ما في قوله { عما أرضعت } بمعنى الذي ، والعائد محذوف أي أرضعته ، ويقويه تعدي وضع إلى المفعول به في قوله { حملها } لا إلى المصدر.
وقيل : ما مصدرية أي عن إرضاعها.
وقال الزمخشري : المرضعة هي التي في حال الإرضاع تلقم ثديها الصبي ، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به.
فقيل { مرضعة } ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة ، وخص بعض نحاة الكوفة أم الصبيّ بمرضعة والمستأجرة بمرضع وهذا باطل بقول الشاعر :
كمرضعة أولاد أخرى وضيعت . . .
البيت فهذه { مرضعة } بالتاء وليست أمَّا للذي ترضع.
وقول الكوفيين إن الوصف الذي يختص بالمؤنث لا يحتاج فيه إلى التاء لأنها إنما جيء بها للفرق مردود بقول العرب مرضعة وحائضة وطالقة.
وقرأ الجمهور { تذهل كل } بفتح التاء والهاء ورفع كل ، وابن أبي عبلة واليماني بضم التاء وكسر الهاء أي { تذهل } الزلزلة أو الساعة كل بالنصب ، والحمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة.
وقرأ الجمهور { وترى } بالتاء مفتوحة خطاب المفرد وزيد بن علي بضم التاء وكسر الراء أي وترى الزلزلة أو الساعة.
وقرأ الزعفراني وعباس في اختياره بضم التاء وفتح الراء ، ورفع { الناس } وأنث على تأويل الجماعة.
وقرأ أبو هريرة وأبو زرعة بن عمرو بن جرير وأبو نهيك كذلك إلا أنهم نصبوا { الناس } عدّى { ترى } إلى مفاعيل ثلاثة أحدها الضمير المستكن في { ترى } وهو ضمير المخاطب مفعول لم يسم فاعله ، والثاني والثالث { الناس سكارى } أثبت أنهم { سكارى } على طريق التشبيه ثم نفى عنهم الحقيقة وهي السكر من الخمر ، وذلك لما هم فيه من الحيرة وتخليط العقل.
وقرأ الجمهور { سُكارى } فيهما على وزن فعالى وتقدم ذكر الخلاف في فعالى بضم الفاء أهو جمع أو اسم جمع.
وقرأ أبو هريرة وأبو نهيك وعيسى بفتح السين فيهما وهو جمع تكسير واحده سكران.
وقال أبو حاتم : هي لغة تميم.
وقرأ الأخوان وابن سعدان ومسعود بن صالح سُكرى فيهما ، ورويت عن الرسول صلى الله عليه وسلم رواها عمران بن حصين وأبو سعيد الخدري وهي قراءة عبد الله وأصحابه وحذيفة.
وقال سيبويه : وقوم يقولون سكرى جعلوه مثل مرضى لأنهما شيئان يدخلان على الإنسان ، ثم جعلوا روبى مثل سكرى وهم المستثقلون نوماً من شرب الرائب.

قال أبو علي الفارسي : ويصح أن يكون جمع سكر كزمنى وزمن ، وقد حكى سيبويه : رجل سكر بمعنى سكران فيجيء سكرى حينئذ لتأنيث الجمع.
وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة وابن جبير والأعمش سُكرى بضم السين فيهما.
قال أبو الفتح : هو اسم مفرد كالبشرى وبهذا أفتاني أبو عليّ انتهى.
وقال الزمخشري : هو غريب.
وقال أبو الفضل الرازي : فعلى بضم الفاء من صفة الواحدة من الإناث لكنها لما جعلت من صفات الناس وهم جماعة أجريت الجماعة بمنزلة المؤنث الموحد انتهى.
وعن أبي زرعة أيضاً سُكرى بفتح السين بسُكرى بضمها.
وعن ابن جبير أيضاً سكرى بالفتح من غير ألف { بسكارى } بالضم والألف.
وعن الحسن أيضاً { سكارى } بسكرى.
وقال أو لا ترونها على خطاب الجمع جعلوا جميعاً رائيين لها.
ثم قال { وترى } على خطاب الواحد لأن الرؤية معلقة بكون الناس على حال السكر ، فجعل كل واحد رائياً لسائرهم غشيهم من خوف عذاب الله ما أذهب عقولهم وردهم في حال من يذهب السكر عقله وتمييزه ، وجاء هذا الاستدراك بالإخبار عن { عذاب الله } أنه { شديد } لما تقدم ما هو بالنسبة إلى العذاب كالحالة اللينة وهو الذهول والوضع ورؤية الناس أشباه السكارى ، وكأنه قيل : وهذه أحوال هينة { ولكن عذاب الله شديد } وليس بهين ولا لين لأن لكن لا بد أن تقع بين متنافيين بوجه ما وتقدم الكلام فيها.
{ ومن الناس من يجادل في الله } أي في قدرته وصفاته.
قيل : نزلت في أبي جهل.
وقيل : في أُبيّ بن خلف والنضر بن الحارث.
وقيل : في النضر وكان جدلاً يقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين ، ولا يقدر الله على إحياء من بَلي وصار تراباً والآية في كل من تعاطى الجدال فيما يجوز على الله وما لا يجوز من الصفات والأفعال ، ولا يرفع إلى علم ولا برهان ولا نصفة.
والظاهر أن قوله { كل شيطان مريد } هو من الجن كقوله { وإن يدعون إلاّ شيطاناً مريداً } وقيل : يحتمل أن يكون من الإنس كقوله { شياطين الإنس والجن } لما ذكر تعالى أهوال يوم القيامة ذكر من غفل عن الجزاء في ذلك اليوم وكذب به.
وقرأ زيد بن عليّ { ويتبع } خفيفاً ، والظاهر أن الضمير في { عليه } عائد على { من } لأنه المحدث عنه ، وفي { أنه } و { تولاه } وفي { فإنه } عائد عليه أيضاً ، والفاعل يتولى ضمير { من } وكذلك الهاء في { يضله } ويجوز أن تكون الهاء في هذا الوجه أنه ضمير الشأن ، والمعنى أن هذا المجادل لكثرة جداله بالباطل واتباعه الشيطان صار إماماً في الضلال لمن يتولاه ، فشأنه أن يضل من يتولاه.
وقيل : الضمير في { عليه } عائد على { كل شيطان مريد } قاله قتادة ولم يذكر الزمخشري غيره ، وأورد ابن عطية القول الأول احتمالاً.
وقال ابن عطية : ويظهر لي أن الضمير في { أنه } الأولى للشيطان والثانية لمن الذي هو للمتولي.

قال الزمخشري : والكتبة عليه مثل أي إنما { كتب } إضلال من يتولاه { عليه } ورقم به لظهور ذلك في حاله.
وقرأ الجمهور { كُتِبَ } مبنياً للمفعول.
وقرىء { كَتَبَ } مبنياً للفاعل أي كتب الله.
وقرأ الجمهور : { أنه } بفتح الهمزة في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله ، { فأنه } بفتحها أيضاً ، والفاء جواب { من } الشرطية أو الداخلة في خبر { من } إن كانت موصولة.
و { فأنه } على تقدير فشأنه أنه { يضله } أي إضلاله أو فله أن يضله.
وقال الزمخشري : فمن فتح فلأن الأول فاعل { كتب } بعني به مفعولاً لم يسم فاعله ، قال : والثاني عطف عليه انتهى.
وهذا لا يجوز لأنك إذا جعلت { فأنه } عطفاً على { أنه } بقيت بلا استيفاء خبر لأن { من تولاه } { من } فيه مبتدأة ، فإن قدرتها موصولة فلا خبر لها حتى يستقل خبراً لأنه وإن جعلتها شرطية فلا جواب لها إذ جعلت { فأنه } عطفاً على { أنه } ومثل قول الزمخشري قال ابن عطية قال { وأنه } في موضع رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله ، وأنه الثانية عطف على الأولى مؤكدة مثلها ، وخطا خطأ لما بيناه.
وقرأ الأعمش والجعفي عن أبي عمر و { إنه } { فإنه } بكسر الهمزتين.
وقال ابن عطية : وقرأ أبو عمرو { إنه من تولاه فإنه يضله } بالكسر فيهما انتهى ، وليس مشهوراً عن أبي عمرو.
والظاهر أن ذلك من إسناد { كتب } إلى الجملة إسناداً لفظياً أي { كتب } عليه هذا الكلام كما تقول : كتب أن الله يأمر بالعدل.
وقال الزمخشري : أو عن تقدير قبل أو على المفعول الذي لم يسم فاعله الكتب ، والجملة من { أنه من تولاه } في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله لقيل المقدرة ، وهذا لا يجوز عند البصريين لأن الفاعل عندهم لا يكون جملة فلا يكون ذلك مفعولاً لم يسم فاعله ، وأما الثاني فلا يجوز أيضاً على مذهب البصريين لأنه لا تكسر أن بعد ما هو بمعنى القول ، بل بعد القول صريحة ، ومعنى { ويهديه } ويسوقه وعبر بلفظ الهداية على سبيل التهكم.
ولما ذكر تعالى من يجادل في قدرة الله بغير علم وكان جدالهم في الحشر والمعاد ذكر دليلين واضحين على ذلك أحدهما في نفس الإنسان وابتداء خلقه ، وتطوره في مراتب سبع وهي التراب ، والنطفة ، والعلقة ، والمضغة ، والإخراج طفلاً ، وبلوغ الأشدّ ، والتوفي أو الرد إلى الهرم.
والثاني في الأرض التي تشاهدون تنقلها من حال إلى حال فإذا اعتبر العاقل ذلك ثبت عنده جوازه عقلاً فإذا ورد خبر الشرع بوقوعه وجب التصديق به وأنه واقع لا محالة.
وقرأ الحسن { من البَعث } بفتح العين وهي لغة فيه كالحلب والطرد في الحلب والطرد ، والكوفيون إسكان العين عندهم تخفيف يقيسونه فيما وسطه حرف حلق كالنهر والنهر والشعر والشعر ، والبصريون لا يقيسونه وما ورد من ذلك هو عندهم مما جاء فيه لغتان.

والمعنى إن ارتبتم في البعث فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم { من تراب } أي أصلكم آدم وسلط الفعل عليهم من حيث هم من ذريته ، أو باعتبار وسائط التولد لأن المني ودم الطمث يتولدان من الأغذية والأغذية حيوان ونبات ، والحيوان يعود إلى النبات ، والنبات من الأرض والماء والنطفة المني.
وقيل { نطفة } آدم قاله النقاش.
والعلقة قطعة الدم الجامدة ومعنى { وغير مخلقة } أي ليست كاملة ولا ملساء فالمضغ متفاوتة لذلك تفاوتوا طولاً وقصراً وتماماً ونقصاناً.
وقال مجاهد { غير مخلقة } هي التي تستسقط وقاله قتادة والشعبي وأبو العالية.
ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة وكل واحد منها مختص بخلق حسن تضعيف الفعل لأن فيه خلقاً كثيرة.
وقرأ ابن أبي عبلة { مخلقة } بالنصب وغير بالنصب أيضاً نصباً على الحال من النكرة المتقدمة ، وهو قليل وقاسه سيبويه.
قال الزمخشري : و { لنبين لكم } بهذا التدريج قدرتنا وإن من قدر على خلق البشر { من تراب } أولاً { ثم من نطفة } ثانياً ولا تناسب بين التراب والماء ، وقدر على أن يجعل النطفة { علقة } وبينهما تباين ظاهر ثم يجعل العلقة { مضغة } والمضغة عظاماً قدر على إعادة ما أبداه ، بل هذا أدخل في القدرة وأهون في القياس وورود الفعل غير معدي إلى المبين إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يكتنهه الفكر ولا يحيط به الوصف انتهى.
و { لنبين } متعلق بخلقناكم.
وقيل { لنبين } لكم أمر البعث.
قال ابن عطية : وهو اعتراض بين الكلامين.
وقال الكرماني : يعني رشدكم وضلالكم.
وقيل { لنبين لكم } أن التخليق هو اختيار من الفاعل المختار ، ولولاه ما صار بعضه غير مخلق.
وقرأ ابن أبي عبلة ليبين لكم ويقر بالياء.
وقرأ يعقوب وعاصم في رواية { ونقر } بالنصب عطفاً على { لنبين }.
وعن عاصم أيضاً ثم يخرجكم بنصب الجيم عطفاً على { ونقر } إذا نصب.
وعن يعقوب { ونقر } بفتح النون وضم القاف والراء من قر الماء صبه.
وقرأ أبو زيد النحوي ويقر بفتح الياء والراء وكسر القاف وفي الكلام لابن حبار { لنبين } { ونقر } { ونخرجكم } بالنصب فيهن.
المفضل وبالياء فيهما مع النصب ، أبو حاتم وبالياء والرفع عمر بن شبة انتهى.
قال الزمخشري : والقراءة بالرفع إخبار بأنه تعالى يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره من ذلك.
{ إلى أجل مسمى } وهو وقت الوضع وما لم يشأ إقراره مجته الأرحام أو أسقطته.
والقراءة بالنصب تعليل معطوف على تعليل والمعنى { خلقناكم } مدرجين هذا التدريج لغرضين أحدهما : أن نبين قدرتنا والثاني أن { نقر في الأرحام } من نقر حتى يولدوا وينشؤوا ويبلغوا حد التكليف فأكلفهم.
ويعضد هذه القراءة قوله { ثم لتبلغوا أشدكم } انتهى.
وقرأ يحيى بن وثاب { ما نشاء } بكسر النون والأجل المسمى مختلف فيه بحسب جنين جنين فساقط وكامل أمره خارج حياً ووحد { طفلاً } لأنه مصدر في الأصل قاله المبرد والطبري ، أو لأن الغرض الدلالة على الجنس ، أو لأن معنى يخرجكم كل واحد كقولك : الرجال يشبعهم رغيف أي يشبع كل واحد.

وقال الزمخشري : الأشد كمال القوة والعقل والتمييز ، وهو من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد كالأشدة والقيود وغير ذلك وكأنها مشدة في غير شيء واحد فبنيت لذلك على لفظ الجمع انتهى.
وتقدم الكلام في الأشد ومقداره من الزمان.
وإن من الناس من قال إنه جمع شدة كأنعم جمع نعمة وأما القيود : فعن أبي عمرو الشيباني إن واحدة قيد { ومنكم من يتوفى } وقرىء { يتوفى } بفتح الياء أي يُسْتَوْفَى أجله ، والجمهور بالضم أي بعد الأشد وقبل الهرم ، وهو { أرذل العمر } والخرف ، فيصبر إلى حالة الطفولية ضعيف البنية سخيف العقل ، ولا زمان لذلك محدود بل ذلك بحسب ما يقع في الناس وقد نرى من علت سنه وقارب المائة أو بلغها في غاية جودة الذهن والإدراك مع قوة ونشاط ، ونرى من هو في سن الاكتهال وقد ضعفت بنيته أوضح تعالى أنه قادر على إنهائه إلى حالة الخرف كما أنه كان قادراً على تدريجه إلى حالة التمام ، فكذلك هو قادر على إعادة الأجساد التي درجها في هذه المناقل وإنشائها النشأة الثانية.
و { لكيلا } يتعلق بقوله { يرد } قال الكلبي { لكيلا } يعقل من بعد عقله الأول شيئاً.
وقيل { لكيلا } يستفيد علماً وينسى ما علمه.
وقال الزمخشري : أي ليصير نسَّاءً بحيث إذا كسب علماً في شيء لم ينشب أن ينساه ويزل عنه علمه حتى يسأل عنه من ساعته ، يقول لك من هذا؟ فتقول : فلان فما يلبث لحظة إلا سألك عنه.
وروى عن أبي عمرو ونافع تسكين ميم { العمر }.
{ وترى الأرض هامدة } هذا هو الدليل الثاني الذي تضمنته ، والدليل الأول الآية ، ولما كان الدليل الأول بعض مراتب الخلقة فيه غير مرتبين قال { إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم } فلم يحل في جميع رتبه على الرؤية ، ولما كان هذا الدليل الثاني مشاهداً للأبصار أحال ذلك على الرؤية فقال { وترى } أيها السامع أو المجادل { الأرض هامدة } ولظهوره تكرر هذا الدليل في القرآن و { الماء } ماء المطر والأنهار والعيون والسواني واهتزازها تخلخلها واضطراب بعض أجسامها لأجل خروج النبات { وربت } أي زادت وانتفخت.
وقرأ أبو جعفر وعبد الله بن جعفر وخالد بن إلياس وأبو عمرو في رواية وربأت بالهمز هنا وفي فصلت أي ارتفعت وأشرفت ، يقال : فلان يربأ بنفسه عن كذا : أي يرتفع بها عنه.
قال ابن عطية : ووجهها أن يكون من ربأت القوم إذا علوت شرفاً من الأرض طليعة فكان الأرض بالماء تتطاول وتعلو انتهى.
ويقال ربيء وربيئة.
وقال الشاعر :
بعثنا ربيئاً قبل ذلك مخملاً . . .
كذئب الغضا يمشي الضراء ويتقى
ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم وتطورهم في تلك المراتب ، ومن إحياء الأرض حاصل بهذا وهو حقيقته تعالى فه الثابت الموجود القادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور وقد وعد بالبعث وهو قادر عليه فلا بد من كيانه.
وقوله { وأن الساعة } إلى آخره توكيد لقوله { وأنه يحيي الموتى } والظاهر أن قوله { وأن الساعة آتية } ليس داخلاً في سبب ما تقدم ذكره ، فليس معطوفاً على أنه الذي يليه ، فيكون على تقدير.
والأمر { أن الساعة } وذلك مبتدأ وبأن الخبر.
وقيل ذلك منصوب بمضمر أي فعلنا ذلك.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)

الظاهر أن المجادل في هذه الآية غير المجادل في الآية قبلها ، فعن محمد بن كعب أنها نزلت في الأخنس بن شريق.
وعن ابن عباس في أبي جهل.
وقيل : الأولى في المقلدين وهذه في المقلدين ، والجمهور على أنها والتي قبلها في النضر كررت مبالغة في الذم ، ولكون كل واحدة اشتملت على زيادة ليست في الأخرى.
وقد قيل فيه : إنه نزلت فيه بضع عشرة آية.
وقال ابن عطية : وكرر هذه على وجه التوبيخ ، فكأنه يقول : هذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان { ومن الناس } مع ذلك { من يجادل } فكان الواو واو الحال ، والآية المتقدمة الواو فيها واو العطف عطفت جملة الكلام على ما قبلها ، والآية على معنى الإخبار وهي ههنا مكررة للتوبيخ انتهى.
ولا يتخيل أن الواو في { ومن الناس من يجادل } واو حال ، وعلى تقدير الجملة التي قدّرها قبله لو كان مصرحاً بها لم يتقدّر بإذ فلا تكون للحال ، وإنما هي للعطف قسم المخذولين إلى مجادل { في الله بغير علم } متبع لشيطان مريد ، ومجادل { بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير } إلى آخره ، وعابد ربه على حرف والمراد بالعلم العلم الضروري ، وبالهدى الاستدلال والنظر لأنه يهدي إلى المعرفة ، وبالكتاب المنير الوحي أي { يجادل } بغير واحد من هذه الثلاثة.
وانتصب { ثاني عطفه } على الحال من الضمير المستكن في { يجادل } قال ابن عباس : متكبراً ، ومجاهد : لاوياً عنقه بقبح ، والضحاك : شامخاً بأنفه وابن جريج : مجاهد وأهل مكة وأبو عمرو في رواية { ليَضل } بفتح الياء أي { ليضل } في نفسه والجمهور بضمها أي { ليُضل } غيره ، وهو يترتب على إضلاله كثرة العذاب ، إذ عليه وزر من عمل به.
ولما كان مآل جداله إلى الإضلال كان كأنه علة له ، وكذلك لما كان معرضاً عن الهدى مقبلاً على الجدال بالباطل كان كالخارج من الهدى إلى الضلال.
والخزي في الدنيا ما لحقه يوم بدر من الأسر والقتل والهزيمة ، وقد أسر النضر.
وقيل : يوم بدر بالصفراء.
و { الحريق } قيل طبقة من طباق جهنم ، وقد يكون من إضافة الموصوف إلى صفته أي العذاب الحريق أي المحرق كالسميع بمعنى المسمع.
وقرأ زيد بن عليّ فأذيقه بهمزة المتكلم ذلك إشارة إلى الخزي والإذاقة ، وجوزوا في إعراب ذلك هذا ما جوزوا في إعراب ذلك بأن الله هو الحق.
وتقدم المراد في { بما قدمت يداك } أي باجترامك وبعدل الله فيك إذ عصيته ، ويحتمل أن يكون وأن الله مقتطعاً ليس ذلك في السبب والتقدير والأمر أن الله.
قال ابن عطية : والعبيد هنا ذكروا في معنى مسكنتهم وقلة قدرتهم ، فلذلك جاءت هذه الصيغة انتهى.
وهو يفرق بين العبيد والعباد وقد رددنا عليه تفرقته في أواخر آل عمران في قوله

{ وأن الله ليس بظلام للعبيد } وشرحنا هنا قوله { بظلام }.
من { يعبد الله } نزلت في أعراب من أسلم وغطفان تباطؤوا عن الإسلام وقالوا : نخاف أن لا ينصر محمد فينقطع ما بيننا وبين حلفائنا من يهود فلا يقرونا ولا يؤونا.
وقيل : في أعراب لا يقين لهم يسلم أحدهم فيتفق تثمير ماله وولادة ذكر وغير ذلك من الخير ، فيقول : هذا دين جيد أو ينعكس حاله فيتشاءم ويرتد كما جرى للعرنيين قال معناه ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم.
وعن ابن عباس : في شيبة بن ربيعة أسلم قبل ظهور الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلما أوحى إليه ارتد.
وقيل : " في يهودي أسلم فأصيب فتشاءم بالإسلام ، وسأل الرسول إلا قاله فقال : «إن الإسلام لا يقال» " فنزلت.
وعن الحس : هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه.
وقال ابن عيسى : على ضعف يقين.
وقال أبو عبيد { على حرف } على شك.
وقال ابن عطية { حرف } على انحراف منه عن العقيدة البيضاء ، أو على شفا منها معداً للزهوق.
وقال الزمخشري { على حرف } على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه ، وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون وطمأنينة كالذي يكون على طرف من العسكر ، فإن أحسن بظفر وغنيمة قرّ واطمأنّ وإلاّ فرّ وطار على وجهه انتهى.
وخسرانه الدنيا إصابته فيها بما يسوؤه من ذهاب ماله وفقد أحبائه فلم يسلم للقضاء.
وخسران الآخرة حيث حرم ثواب من صبر فارتد عن الإسلام.
وقرأ مجاهد وحميد والأعرج وابن محيصن من طريق الزعفراني وقعنب والجحدري وابن مقسم خاسر الدنيا اسم فاعل نصباً على الحل.
وقرىء خاسر اسم فاعل مرفوعاً على تقدير وهو خاسر.
وقال الزمخشري : والرفع على الفاعلية ووضع الظاهر موضع الضمير وهو وجه حسن انتهى.
وقرأ الجمهور : { خسر } فعلاً ماضياً وهو استئناف إخبار ، ويجوز أن يكون في موضع الحال ولا يحتاج إلى إضمار قد لأنه كثر وقوع الماضي حالاً في لسان العرب بغير قد فساغ القياس عليه ، وأجاز أبو الفضل الرازي أن يكون بدلاً من قوله { انقلب على وجهه } كما كان يضاعف بدلاً من يلق.
وتقدم تفسير { الضلال البعيد } في قوله { ضلالاً بعيداً } ونفى هنا الضر والنفع وأثبتهما في قوله { لمن ضره أقرب من نفعه } وذلك لاختلاف المتعلق ، وذلك أن قوله { ما لا ينفعه } هو الأصنام والأوثان ، ولذلك أتى التعبير عنها بما التي لا تكون لآحاد من يعقل.
وقوله { يدعو لمن ضره } هو من عبد باقتضاء ، وطلب من عابديه من المدعين الإلهية كفرعون وغيره من ملوك بني عبيد الذين كانوا بالمغرب ثم ملكوا مصر ، فإنهم كانوا يدعون الإلهية ويطاف بقصرهم في مصر وينادون بما ينادي به رب العالمين من التسبيح والتقديس ، فهؤلاء وإن كان منهم نفع مّا لعابديهم في دار الدنيا فضررهم أعظم وأقرب من نفعهم ، إذ هم في الدنيا مملوكون للكفار وعابدون لغير الله ، وفي الآخرة معذبون العذاب الدائم ولهذا كان التعبير هنا بمن التي هي لمن يعقل ، وعلى هذا فتكون الجملتان من إخبار الله تعالى عمن يدعو إلهاً غير الله.

وقال الزمخشري : فإن قلت : الضر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين وهذا تناقض قلت : إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم ، وذلك أن الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جماداً لا يملك ضراً ولا نفعاً وهو يعتقد فيه بجهله وضلالته أن سينتفع به ، ثم قال يوم القيامة يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله النار بعبادتها ، ولا يرى أثر الشفاعة التي ادعاها لها { لمن ضره أقرب من نفعه ، لبئس المولى ولبئس العشير } وكرر يدعوا كأنه قال { يدعو } { يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه } ثم قال { لمن ضره } بكونه معبوداً { أقرب من نفعه } بكونه شفيعاً { لبئس المولى } انتهى.
فجعل الزمخشري المدعو في الآيتين الأصنام وأزال التعارض باختلاف القائلين بالجملة الأولى من قول الله تعالى إخباراً عن حال الأصنام.
والجملة الثانية من كلام عباد الأصنام يقولون ذلك في الآخرة ، وحكى الله عنهم ذلك وأنهم أثبتوا ضراً بكونهم عبدوه ، وأثبتوا نفعاً بكونهم اعتقدوه شفيعاً.
فالنافي هناك غير المثبت هنا ، فزال التعارض على زعمه والذي أقول إن الصنم ليس له نفع ألبتة حتى يقال { ضره أقرب من نفعه }.
وأجاب بعضهم عن زعم من زعم أن الظاهر الآيتين يقتضي التعارض بأنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها ولكن عبادتها نسب الضرر إليها كقوله { رب إنهن أضللن كثيراً من الناس } أضاف الإضلال إليهم إذ كانوا سبب الضلال ، فكذا هنا نفي الضرر عنهم لكونها ليست فاعلة ثم أضافه إليها لكونها سبب الضرر.
وقال آخرون : هي في الحقيقة لا تضر ولا تنفع بين ذلك في الآية الأولى ثم أثبت لها الضر والنفع في الثانية على طريق التسليم ، أي ولو سلمنا كونها ضارة نافعة لكان ضرها أكثر من نفعها ، وتكلف المعربون وجوهاً فقالوا { يدعو } إما أن يكون لها تعلق بقوله { لمن ضره } أولاً إن لم يكن لها تعلق فوجوه.
أحدها : أن يكون توكيداً لفظياً ليدعو الأولى ، فلا يكون لها معمول.
الثاني : أن تكون عاملة في ذلك من قوله { ذلك هو الضلال } وقدم المفعول الذي هو { ذلك } وجعل موصولاً بمعنى الذي قاله أبو علي الفارسي ، وهذا لا يصح إلا على قول الكوفيين إذ يجيزون في اسم الإشارة أن يكون موصولاً ، والبصريون لا يجيزون ذلك إلاّ في ذا بشرط أن يتقدمها الاستفهام بما أو من.
الثالث : أن يكون { يدعو } في موضع الحال ، { وذلك } مبتدأ وهو فصل أو مبتدأ وحذف الضمير من { يدعو } أي يدعوه وقدره مدعواً وهذا ضعيف ، لأن يدعوه لا يقدر مدعواً إنما يقدر داعياً ، فلو كان يدعى مبنياً للمفعول لكان تقديره مدعواً جارياً على القياس.

وقال نحوه الزجاج وإن كان له تعلق بقوله { لمن ضره } فوجوه.
أحدها : ما قاله الأخفش وهو أن { يدعو } بمعنى يقول و { من } مبتدأ موصول صلته الجملة بعده.
وهي { ضره أقرب من نفعه } وخبر المبتدأ محذوف ، تقديره إله وإلهي.
والجملة في موضع نصب محكية بيدعو التي هي بمعنى يقول ، قيل : هو فاسد المعنى لأن الكافر لم يعتقد قط أن الأوثان ضرها أقرب من نفعها.
وقيل : في هذا القول يكون { لبئس } مستأنفاً لأنه لا يصح دخوله في الحكاية لأن الكفار لا يقولون عن أصنامهم { لبئس المولى }.
الثاني : أن { يدعو } بمعنى يسمي ، والمحذوف آخراً هو المفعول الثاني ليسمى تقديره إلهاً وهذا لا يتم إلاّ بتقدير زيادة اللام أي يدعو من ضره.
الثالث : أن يدعو شبه بأفعال القلوب لأن الدعاء لا يصدر إلاّ عن اعتقاد ، والأحسن أن يضمن معنى يزعم ويقدر لمن خبره ، والجملة في موضع نصب ليدعو أشار إلى هذا الوجه الفارسي.
الرابع : ما قاله الفراء وهو أن اللام دخلت في غير موضعها والتقدير { يدعو } من لضره أقرب من نفعه ، وهذا بعيد لأن ما كان في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول.
الخامس : أن تكون اللام زائدة للتوكيد ، و { من } مفعول بيدعو وهو ضعيف لأنه ليس من مواضع زيادة اللام ، لكن يقويه قراءة عبد الله يدعو من ضره بإسقاط اللام ، وأقرب التوجيهات أن يكون { يدعو } توكيداً ليدعو الأول؛ واللام في { لمن } لام الابتداء ، والخبر الجملة التي هي قسم محذوف ، وجوابه { لبئس المولى } والظاهر أن { يدعو } يراد به النداء والاستغاثة.
وقيل : معناه بعيد ، و { المولى } هنا الناصر والعشير الصاحب المخالط.
ولما ذكر تعالى حالة من يعبده على حرف وسفه رأيه وتوعده بخسرانه في الآخرة عقبة بذكر حال مخالفيهم من أهل الإيمان وما وعدهم به من الوعد الحسن ، ثم أخذ في توبيخ أولئك الأولين كأنه يقول هؤلاء العابدون على حرف صحبهم القلق وظنوا أن الله لن ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم وأتباعه ، ونحن إنما أمرناهم بالصبر وانتظار وعدنا ، فمن ظن غير ذلك فليمدد بسبب ويختلق وينظر هل يذهب بذلك غيظه ، قال هذا المعنى قتادة ، وهذا على جهة المثل السائر قولهم : دونك الحبل فاختنق ، يقال ذلك للذي يريد من الأمر ما لا يمكنه ، فعلى هذا تكون الهاء في { ينصره } للرسول صلى الله عليه وسلم وهو قول ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدّي ، واختاره الفراء والزجاج فالمعنى إن لن ينصر الله محمداً في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه ، وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام ممن كذبه ، والرسول وإن لم يجر له ذكر في الآية ففيها ما يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله { إن الله يدخل الذين آمنوا } وظانّ ذلك قوم من المسلمين لشدة غيظهم على المشركين ، يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر أو أعراب استبطؤوا ظهور الرسول صلى الله عليه وسلم فتباطؤوا عن الإسلام.

والظاهر أن الضمير في { ينصره } عائد على { من } لأنه المذكور ، وحق الضمير أن يعود على المذكور وهو قول مجاهد.
وحمل بعض قائلي هذا القول النصر هنا على الرزق كما قالوا : أرض منصورة أي ممطورة.
وقال الشاعر :
وإنك لا تعطي امراً فوق حقه . . .
ولا تملك الشق الذي أنت ناصره
أي معطيه.
وقال : وقف علينا سائل من بني بكر فقال : من ينصرني نصره الله ، فالمعنى من كان يظن أن لن يرزقه الله فيعدل عن دين محمد لهذا الظن كما وصف في قوله { وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه } فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق ، فإن ذلك لا يبلغه إلاّ ما قدر له ولا يجعله مرزوقاً أكثر مما قسم له ، ويحتمل على هذا القول أن يكون النصر على بابه أي من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فيغتاظ لانتفاء نصره فليمدد ، ويدل على قوله فيغتاظ قوله { هل يذهبن كيده ما يغيظ } ويكون معنى قوله { فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع } فليتحيل بأعظم الحيل في نصرة الله إياه ثم ليقطع الحبل { فلينظر هل يذهبن كيده } وتحيله في إيصال النصر إليه الشيء الذي يغيظه من انتفاء نصره بتسلط أعدائه عليه.
وقال الزمخشري : هذا كلام دخله اختصار والمعنى : أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة ، فمن كان يظن من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك ويطمع فيه ويغيظه أنه لا يظفر بمطلوبه فليستقص وسعه وليستفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه بأن يفعل ما يفعل من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى مدّ حبلاً إلى سماء بيته فاختنق ، { فلينظر } وليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه ، وسمي الاختناق قطعاً لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه ، ومنه قيل للبهر القطع وسمى فعله كيداً لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره أو على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده ، إنما كاد به نفسه ، والمراد ليس في يده إلاّ ما ليس بمذهب لما يغيظه.
وقيل { فليمدد } بحبل { إلى السماء } المظلة وليصعد عليه فليقطع الوحي أن ينزل عليه وهذا قول ابن زيد.
وقيل : الضمير في { ينصره } عائد على الدين والإسلام.
قال ابن عطية : وأبين وجوه هذه الآية أن يكون مثلاً ويكون النصر المعروف والقطع الاختناق والسماء الارتفاع في الهواء سقف أو شجرة أو نحوه فتأمله ، وما في { ما يغيظ } بمعنى الذي ، والعائد محذوف أو مصدرية.
وكذلك أي ومثل ذلك الإنزال { أنزلنا } القرآن كله { آيات بينات } أي لا تفاوت في إنزال بعضه ولا إنزال كله والهاء في { أنزلناه } للقرآن أضمر للدّلالة عليه كقوله { حتى توارت بالحجاب } والتقدير والأمر { إن الله يهدي من يريد } أي يخلق الهداية في قلبك يريد هدايته لا خالق للهداية إلاّ هو.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)

لما ذكر قبل { أن الله يهدي من يريد } عقب ببيان من يهديه ومن لا يهديه ، لأن ما قبله يقتضي أن من لا يريد هدايته لا يهديه يدل إثبات الهداية لمن يريد على نفيها عمن لا يريد ، والذين أشركوا هم عبدة الأوثان والأصنام ، ومن عبد غير الله.
قال الزمخشري : ودخلت { إن } على كل واحد جزأي الجملة لزيادة التأكيد ، ونحوه قول جرير :
إنَّ الخليفة إنْ الله سربله . . .
سربال ملك به ترجى الخواتيم
وظاهر هذا أنه شبه البيت بالآية ، وكذلك قرنه الزجاج بالآية ولا يتعين أن يكون البيت كالآية لأن البيت يحتمل أن يكون خبر إن الخليفة قوله : به ترجى الخواتيم ، ويكون إن الله سربله سربال ملك جملة اعتراضية بين اسم إن وخبرها بخلاف الآية فإنه يتعين قوله { إن الله يفصل } وحسن دخول { إن } على الجملة الواقعة خبراً طول الفصل بينهما بالمعاطيف ، والظاهر أن الفصل بينهم يوم القيامة هو بصيرورة المؤمنين إلى الجنة والكافرين إلى النار ، وناسب الختم بقوله { شهيداً } الفصل بين الفرق.
وقال الزمخشري : الفصل مطلق يحتمل الفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعاً فلا يجازيهم جزاءً واحداً بغير تفاوت ، ولا يجمعهم في موطن واحد.
وقيل { يفصل بينهم } يقضي بين المؤمنين والكافرين ، والظاهر أن السجود هنا عبارة عن طواعية ما ذكر تعالى والانقياد لما يريده تعالى ، وهذا معنى شمل من يعقل وما لا يعقل ، ومن { يسجد } سجود التكليف ومن لا يسجده ، وعطف على ما من عبد من دون الله ففي { السموات } الملائكة كانت تعبدها و { الشمس } عبدتها حمير.
وعبد { القمر } كنانة قاله ابن عباس.
والدبران تميم.
والشعرى لخم وقريش.
والثريا طيىء وعطارداً أسد.
والمرزم ربيعة.
و { في الأرض } من عبد من البشر والأصنام المنحوتة من { الجبال والشجر } والبقر وما عبد من الحيوان.
وقرأ الزهري { والدواب } بتخفيف الباء.
قال أبو الفضل الرازي ولا وجه لذلك إلاّ أن يكون فراراً من التضعيف مثل ظلت وقرن ولا تعارض بين قوله { ومن في الأرض } لعمومه وبين قوله { وكثير من الناس } لخصوصه لأنه لا يتعين عطف { وكثير } على ما قبله من المفردات المعطوفة الداخلة تحت يسجد إذ يجوز إضمار { يسجد له } كثير من الناس سجود عبادة دل عليه المعنى لا أنه يفسره { يسجد } الأول لاختلاف الاستعمالين ، ومن يرى الجمع بين المشركين وبين الحقيقة والمجاز يجيز عطف { وكثير من الناس } على المفردات قبله ، وإن اختلف السجود عنده بنسبته لما لا يعقل ولمن يعقل ويجوز أن يرتفع على الابتداء ، والخبر محذوف يدل على مقابلة الذين في الجملة بعده أي { وكثير من الناس } مثاب.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون { من الناس } خبراً له أي { من الناس } الذين هم الناس على الحقيقة وهم الصالحون والمتقون ، ويجوز أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فعطفت كثير على كثير ثم ، عبر عنهم بحق عليهم العذاب كأنه قال { وكثير } { وكثير من الناس حق } عليهم { العذاب } انتهى.

وهذان التخريجان ضعيفان.
وقرأ جناح بن حبيش وكبير حق بالباء.
وقال ابن عطية { وكثير حق عليه العذاب } يحتمل أن يكون معطوفاً على ما تقدم أي { وكثير حق عليه العذاب } يسجد أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكاره ، ونحو ذلك قاله مجاهد وقال سجوده بظله.
وقرىء { وكثير } حقاً أي { حق عليهم العذاب } حقاً.
وقرىء { حق } بضم الحاء ومن مفعول مقدم بيهن.
وقرأ الجمهور { من مكرم } اسم فاعل.
وقرأ ابن أبي عبلة بفتح الراء على المصدر أي من إكرام.
قال الزمخشري : ومن أهانه الله كتب عليه الشقاوة لما سبق في علمه من كفره أو فسقه ، فقد بقي مهاناً لمن يجد له مكرماً أنه يفعل ما يشاء من الإكرام والإهانة ، ولا يشاء من ذلك إلاّ ما يقتضيه عمل العاملين واعتقاد المعتقدين انتهى.
وفيه دسيسة الاعتزال.
ولما ذكر تعالى أهل السعادة وأهل الشقاوة ذكر ما دار بينهم من الخصومة في دينه ، فقال { هذان } قال قيس بن عباد وهلال بن يساف ، نزلت في المتبارزين يوم بدر حمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث برز والعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة.
وعن عليّ : أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يديّ الله تعالى ، وأقسم أبو ذر على هذا ووقع في صحيح البخاري أن الآية فيهم.
وقال ابن عباس : الإشارة إلى المؤمنين وأهل الكتاب وقع بينهم تخاصم ، قالت اليهود : نحن أقدم ديناً منكم فنزلت.
وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن وعاصم والكلبي الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم ، وخصم مصدر وأريد به هنا الفريق ، فلذلك جاء { اختصموا } مراعاة للمعنى إذ تحت كل خصم أفراد ، وفي رواية عن الكسائي { خِصمان } بكسر الخاء ومعنى { في ربهم } في دين ربهم.
وقرأ ابن أبي عبلة اختصما ، راعى لفظ التثنية ثم ذكر تعالى ما أعدّ للكفار.
وقرأ الزعفراني في اختياره : { قطعت } بتخفيف الطاء كأنه تعالى يقدر لهم نيراناً على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة ، والظاهر أن هذا المقطع لهم يكون من النار.
وقال سعيد بن جبير { ثياب } من نحاس مذاب وليس شيء إذا حمي أشد حرارة منه ، فالتقدير من نحاس محمى بالنار.
وقيل : الثياب من النار استعارة عن إحاطة النار بهم كما يحيط الثوب بلابسه.
وقال وهب : يكسى أهل النار والعري خير لهم ، ويحيون والموت خير لهم.
ولما ذكر ما يصب على رؤوسهم إذ يظهر في المعروف أن الثوب إنما يغطى به الجسد دون الرأس فذكر ما يصيب الرأس من العذاب.

وعن ابن عباس : لو سقطت من الحميم نقطة على جبال الدنيا لأذابتها ولما ذكر ما يعذب به الجسد ظاهره وما يصب على الرأس ذكر ما يصل إلى باطن المعذب وهو الحميم الذي يذيب ما في البطن من الحشا ويصل ذلك الذوب إلى الظاهر وهو الجلد فيؤثر في الظاهر تأثيره في الباطن كما قال تعالى { فقطع أمعاءهم } وقرأ الحسن وفرقة { يصهر } بفتح الصاد وتشديد الهاء.
وفي الحديث : « إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلب ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان » والظاهر عطف { والجلود } على { ما } من قوله { يصهر به ما في بطونهم } وأن { الجلود } تذاب كما تذاب الأحشاء.
وقيل : التقدير وتخرق { الجلود } لأن الجلود لا تذاب إنما تجتمع على النار وتنكمش وهذا كقوله :
علفتها تبناً وماء بارداً . . .
أي وسقيتها ماء.
والظاهر أن الضمير في { ولهم } عائد على الكفار ، واللام للاستحقاق.
وقيل : بمعنى على أي وعليهم كقوله { ولهم اللعنة } أي وعليهم.
وقيل : الضمير يعود على ما يفسره المعنى وهو الزبانية.
وقال قوم منهم الضحاك : المقامع المطارق.
وقيل : سياط من نار وفي الحديث : « لو وضع مقمع منها في الأرض مث اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض » و { من غم } بدل من منها بدل اشتمال ، أعيد معه الجار وحذف الضمير لفهم المعنى أي من غمها ، ويحتمل أن تكون من للسبب أي لأجل الغم الذي يلحقهم ، والظاهر تعليق الإعادة على الإرادة للخروج فلا بد من محذوف يصح به المعنى ، أي من أماكنهم المعدة لتعذيبهم { أعيدوا فيها } أي في تلك الأماكن.
وقيل { أعيدوا فيها } بضرب الزبانية إياهم بالمقامع { وذوقوا } أي ويقال لهم ذوقوا.
ولما ذكر تعالى ما أعد لأحد الخصمين من العذاب ذكر ما أعد من الثواب للخصم الآخر.
وقرأ الجمهور { يُحلونْ } بضم الياء وفتح الحاء وتشديد الللام.
وقرىء بضم الياء والتخفيف.
وهو بمعنى المشدد.
وقرأ ابن عباس { يحلون } بفتح الياء واللام وسكون الحاء من قولهم : حلى الرجل وحليت المرأة إذا صارت ذات حلي والمرأة ذات حلي والمرأة حال.
وقال أبو الفضل الرازي : يجوز أن يكون من حَلي يعيني يحلى إذا استحسنته ، قال فتكون { من } زائدة فيكون المعنى يستحسنون فيها الأساورة الملبوسة انتهى.
وهذا ليس بجيد لأنه جعل حلى فعلاً متعدياً ولذلك حكم بزيادة { من } في الواجب وليس مذهب البصريين ، وينبغي على هذا التقدير أن لا يجوز لأنه لا يحفظ لازماً فإن كان بهذا المعنى كانت { من } للسبب أي بلباس أساور الذهب يحلون بعين من يراهم أي يحلى بعضهم بعين بعض.
قال أبو الفضل الرازي : ويجوز أن تكون { من } حليت به إذا ظفرت به ، فيكون المعنى { يحلون فيها } بأساور فتكون { من } بدلاً من الباء ، والحلية من ذلك فإما إذا أخذته من حليت به فإنه الحلية ، وهو من الياء وإن أخذته من حلي بعيني فإنه من الحلاوة من الواو انتهى.

ومن معنى الظفر قولهم : لم يحل فلان بطائل ، أي لم يظفر.
والظاهر أن { من } في { من أساور } للتبعيض وفي { من ذهب } لابتداء الغاية أي أنشئت من ذهب.
وقال ابن عطية : { من } في { من أساور } لبيان الجنس ، ويحتمل أن تكون للتبيعض.
وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في الكهف.
وقرأ ابن عباس من أسور بفتح الراء من غير ألف ولا هاء ، وكان قياسه أن يصرفه لأنه نقص بناؤه فصار كجندل لكنه قدر المحذوف موجوداً فمنعه الصرف.
وقرأ عاصم ونافع والحسن والجحدري والأعرج وأبو جعفر وعيسى بن عمر وسلام ويعقوب { ولؤلؤاً } هنا وفي فاطر بالنصب وحمله أبو الفتح على إضمار فعل وقدره الزمخشري ويؤتون { لؤلؤاً } ومن جعل { من } في { من أساور } زائدة جاز أن يعطف { ولؤلؤاً } على موضع { أساور } وقيل يعطف على موضع { من أساور } لأنه يقدر و { يحلون } حلياً { من أساور }.
وقرأ باقي السبعة والحسن أيضاً وطلحة وابن وثاب والأعمش.
وأهل مكة ولؤلؤ بالخفض عطفاً على { أساور } أو على { ذهب } لأن السوار يكون من ذهب ولؤلؤ ، يجمع بعضه إلى بعض.
قال الجحدري : الألف ثابتة بعد الواو في الإمام.
وقال الأصمعي : ليس فيها ألف ، وروى يحيى عن أبي بكر همز الأخير وإبدال الأولى.
وروى المعلى بن منصور عنه ضد ذلك.
وقرأ الفياض : ولولياً قلب الهمزتين واواً صارت الثانية واواً قبلها ضمة ، عمل فيها ما عمل في أدل من قلب الواو ياء والضمة قبلها كسرة.
وقرأ ابن عباس وليلياً أبدل الهمزتين واوين ثم قلبهما ياءين اتبع الأولى للثانية.
وقرأ طلحة ولول مجروراً عطفاً على ما عطف عليه المهموز.
و { الطيب من القول } إن كانت الهداية في الدنيا فهو قول لا إله إلاّ الله ، والأقوال الطيبة من الأذكار وغيرها ، ويكون الصراط طريق الإسلام وإن كان إخباراً عما يقع منهم في الآخرة فهو قولهم : الحمد لله الذي صدقنا وعده وما أشبه ذلك من محاورة أهل الجنة ، ويكون الصراط الطريق إلى الجنة.
وعن ابن عباس : هو لا إله إلا الله والحمد لله زاد ابن زيد والله أكبر.
وعن السدّي القرآن.
وحكى الماوردي : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعن ابن عباس : هو الحمد لله الذي صدقنا وعده ، والظاهر أن { الحميد } وصف لله تعالى.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يرد بالحميد نفس الطريق ، فأضاف إليه على حد إضافته في قوله : دار الآخرة.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46