كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

وقيل : بغيرها من أرض الحجاز ، فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم وطمعوا أن يكون غير الرجم حدهما ، وكان في التوراة رجم ، فأنكروا ذلك أن يكون في التوراة وافتضحوا إذ أحضروها ، وحكم الرسول فيهما بالرجم وأنفذه.
وقال قتادة : السبب أنّ بني النضير كانوا إذا غزوا بني قريظة ، فإن قتل قرظي نضيرياً قتل به ، أو نضيري قرظياً أعطى الدية.
وقيل : كانت دية القرظي على نصف دية النضيري ، فلما جاء الرسول المدينة طلبت قريظة الاستواء لأنهما ابناء عم ، وطلبت الحكومة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت بنو النضير : إنْ حكم بما نحن عليه فخذوه ، وإلا فاحذروا.
وقال السدي : نزلت في رجل من الأنصار وهذا بعيد من مساق الآية.
وذكروا أن هذا الرجل هو أبو لبابة بن عبد المنذر ، أشارت إليه قريظة يوم حصرهم علام ينزل من الحكم ، فأشار إلى حلقه بمعنى أنه الذبح.
وقال الشعبي : نزلت في قوم من اليهود قتل واحد منهم آخر ، فكلفوا رجلاً من المسلمين أن يسأل الرسول قالوا : فإنْ أفتى بالدية قبلنا ، وإن أفتى بالقتل لم نقبل.
وهذا نحو من قول قتادة في النضير وقريظة.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما بين أحكام الحرابة والسرقة ، وكان في ذكر المحاربين أنهم يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً ، أمره تعالى أن لا يحزن ولا يهتم بأمر المنافقين ، وأمر اليهود من تعنتهم وتربصهم به وبمن معه الدوائر ونصبهم له حبائل المكروه ، وما يحدث لهم من الفساد في الأرض.
ونصب المحاربة لله ولرسوله وغير ذلك من الرذائل الصادرة عنهم.
ونداؤه تعالى له : يا أيها الرسول هنا ، وفي { يا أيها الرسول بلغ } ويا أيها النبي في مواضع تشريف وتعظيم وتفخيم لقدره ، ونادى غيره من الأنبياء باسمه فقال : { يا آدم اسكن } و { يا نوح اهبط } { يا ابراهيم قد صدّقت الرؤيا } { يا موسى إني اصطفيتك } { يا عيسى إني متوفيك } { يا يحيى خذ الكتاب } وقال مجاهد وعبد الله بن كثير : من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، هم اليهود المنافقون ، وسماعون للكذب هم اليهود.
والمعنى على هذا : لا تهتم بمسارعة المنافقين في الكفر واليهود بإظهار ما يلوح لهم من آثار الكفر وهو كيدهم للإسلام وأهله ، فإنّ ناصرك عليهم ويقال : أسرع فيه السبب ، وأسرع فيه الفساد ، إذا وقع فيه سريعاً.
ومسارعتهم في الكفر وقوعهم وتهافتهم فيه.
أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها ، وتكون من الأولى والثانية على هذا تنبيهاً وتقسيماً للذين يسارعون في الكفر ، ويكون سماعون خبر مبتدأ محذوف أي : هم سماعون ، والضمير عائد على المنافقين وعلى اليهود.
ويدل على هذا المعنى قراءة الضحاك : سماعين ، وانتصابه على الذم نحو قوله :
أقارع عوف لا أحاول غيرها . . .
وجوه قرود تبتغي من تخادع

ويجوز أن يكون : { ومن الذين هادوا } استئنافاً ، وسماعون مبتدأ وهم اليهود ، وبأفواههم متعلق بقالوا لا بآمنا والمعنى : أنهم لم يجاوز قولهم أفواههم ، إنما نطقوا بالإيمان خاصة دون اعتقاد.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى : لا يحزنك المسارعون في الكفر من اليهود ، وصفهم بأنهم قالوا : آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم إلزاماً منهم ذلك من حيث حرفوا توراتهم وبدلوا أحكامها ، فهم يقولون بأفواههم : نحن مؤمنون بالتوراة وبموسى ، وقلوبهم غير مؤمنة من حيث بدلوا وجحدوا ما فيها من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما ينكرونه.
ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى بعد هذا { وما أولئك بالمؤمنين } ويجيء على هذا التأويل قوله : من الذين قالوا كأنه قال : ومنهم ، ولكنْ صرّح بذكر اليهود من حيث الطائفة السماعة غير الطائفة التي تبدّل التوراة على علم منها انتهى.
وهو احتمال بعيد متكلف ، وسماعون من صفات المبالغة ، ولا يراد به حقيقة السماع إلا إن كان للكذب مفعولاً من أجله ، ويكون المعنى : إنهم سماعون منك أقوالك من أجل أن يكذبوا عليك ، وينقلون حديثك ، ويزيدون مع الكلمة أضعافها كذباً.
وإن كان للكذب مفعولاً به لقوله : سماعون ، وعدى باللام على سبيل التقوية للعامل ، فمعنى السماع هنا قبولهم ما يفتريه أحبارهم ويختلقونه من الكذب على الله وتحريف كتابه من قولهم : الملك يسمع كلام فلان ، ومنه « سمع الله لمن حمده » وتقدم ذكر الخلاف في قراءة يحزنك ثلاثياً ورباعياً.
وقرأ السلمي : يسرعون بغير ألف من أسرع.
وقرأ الحسن وعيسى بن عمر : للكذب بكسر الكاف وسكون الذال.
وقرأ زيد بن عليّ : الكذب بضم الكاف والذال جمع كذوب ، نحو صبور وصبر ، أي : سماعون للكذب الكذب.
{ سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } فيحتمل أن يكون المعنى : سماعون لكذب قوم آخرين لم يأتوك أي كذبهم ، والذين لم يأتوه يهود فدك.
وقيل : يهود خيبر.
وقيل : أهل الرأيين.
وقيل : أهل الخصام في القتل والدية.
ويحتمل أن يكون المعنى : سماعون لأجل قوم آخرين ، أي هم عيون لهم وجواسيس يسمعون منك وينقلون لقوم آخرين ، وهذا الوصف يمكن أن يتصف به المنافقون ، ويهود المدينة.
وقيل : السماعون بنو قريظة ، والقوم الآخرون يهود خيبر.
وقيل لسفيان بن عيينة : هل جرى ذكر الجاسوس في كتاب الله؟ فقال : نعم.
وتلا هذه الآية سماعون لقوم آخرين ، لم يأتوك : صفة لقوم آخرين.
ومعنى لم يأتوك : لم يصلوا إلى مجلسك وتجافوا عنك لما فرط منهم من شدّة العداوة والبغضاء ، فعلى هذا الظاهر أن المعنى : هم قائلون من الأحبار كذبهم وافتراؤهم ، ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك.
{ يحرّفون الكلم من بعض مواضعه } قرئ الكلم بكسر الكاف وسكون اللام أي : يزيلونه ويميلونه عن مواضعه التي وضعها الله فيها.

قال ابن عباس والجمهور : هي حدود الله في التوراة ، وذلك أنهم غيروا الرجم أي : وضعوا الجلد مكان الرجم.
وقال الحسن : يغيرون ما يسمعون من الرسول عليه السلام بالكذب عليه.
وقيل : بإخفاء صفة الرسول.
وقيل : بإسقاط القود بعد استحقاقه.
وقيل : بسوء التأويل.
قال الطبري : المعنى يحرفون حكم الكلام ، فحذف للعلم به انتهى.
ويحتمل أن يكون هذا وصفاً لليهود فقط ، ويحتمل أن يكون وصفاً لهم وللمنافقين فيما يحرفونه من الأقوال عند كذبهم ، لأن مبادىء كذبهم يكون من أشياء قيلت وفعلت ، وهذا هو الكذب الذي يقرب قبوله.
ومعنى من بعد مواضعه : قال الزجاج من بعد أن وضعه الله مواضعه ، فأحلّ حلاله وحرّم حرامه.
{ يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه } الإشارة بهذا قيل : إلى التحميم والجلد في الزنا.
وقيل : إلى قبول الدية في أمر القتل.
وقيل : على إبقاء عزة النضير على قريظة ، وهذا بحسب الاختلاف المتقدم في سبب النزول.
وقال الزمخشري : إن أوتيتم ، هذا المحرّف المزال عن مواضعه فخذوه واعلموا أنه الحق ، واعملوا به انتهى.
وهو راجع لواحد مما ذكرناه ، والفاعل المحذوف هو الرسول أي : إن أتاكم الرسول هذا.
{ وإن لم تؤتوه فاحذروا } أي : وإنْ أفتاكم محمد بخلافه فاحذروا وإياكم من قبوله فهو الباطل والضلال.
وقيل : فاحذروا أن تعلموه بقوله السديد.
وقيل : أن تطلعوه على ما في التوراة فيأخذكم بالعمل به.
وقيل : فاحذروا أن تسألوه بعدها ، والظاهر الأول لأنه مقابل لقوله : فخذوه.
فالمعنى : وإن لم تؤتوه وأتاكم بغيره فاحذروا قبوله.
{ ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً } قال الحسن وقتادة : فتنته أي عذابه بالنار.
ومنه يوم هم على النار يفتنون أي يعذبون.
وقال الزجاج : فضيحته.
وقيل : اختباره لما يظهر به أمره.
وقيل : إهلاكه.
وقال ابن عباس ومجاهد : كفره وإضلاله ، يقال : فتنه عن دينه صرفه عنه ، وأصله فلن يقدر على دفع ما يريد الله منه.
وقال الزمخشري : ومن يرد الله فتنته تركه مفتوناً وخذلانه ، فلن تستطيع له من لطف الله وتوفيقه شيئاً انتهى.
وهذا على طريقة الاعتزال.
وهذه الجملة جاءت تسلية للرسول وتخفيفاً عنه من ثقل حزنه على مسارعتهم في الكفر.
وقطعاً لرجائه من فلاحهم.
{ أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } أي سبق لهم في علم الله ذلك ، وأن يكونوا مدنسين بالكفر.
وفي هذا وما قبله ردّ على القدرية والمعتزلة.
وقال الزمخشري : أولئك الذين لم يرد الله أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم ، لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أنها لا تنفع ولا تنجع فيها.
إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم انتهى.
وهو على مذهبه الاعتزالي.
{ لهم في الدنيا خزي } أي ذل وفضيحة.
فخزي المنافقين بهتك سترهم وخوفهم من القتل إن اطلع على كفرهم المسلمون ، وخزي اليهود تمسكنهم وضرب الجزية عليهم ، وكونهم في أقطار الأرض تحت ذمّة غيرهم وفي إيالته.

وقال مقاتل : خزي قريظة بقتلهم وسبيهم ، وخزي بني النضير بإجلائهم.
{ ولهم في الآخرة عذاب عظيم } وصف بالعظم لتزايده فلا انقضاء له ، أو لتزايد ألمه أو لهما.
{ سماعون للكذب أكالون للسحت } قال الحسن : يسمعون الكلام ممن يكذب عندهم في دعواه فيأتيهم برشوة فيأخذونها.
وقال أبو سليمان : هم اليهود ويسمعون الكذب ، وهو قول بعضهم لبعض : محمد كاذب ليس بنبي ، وليس في التوراة الرجم ، وهم يعلمون كذبهم.
وقيل : الكذب هنا شهادة الزور انتهى.
وهذا الوصف إن كان قوله أوّلاً : سماعون للكذب ، وصفاً لبني إسرائيل.
وتقدم أن السحت المال الحرام.
واختلف في المراد به هنا ، فعن ابن مسعود : أنه الرشوة في الحكم ، ومهر البغي ، وحلوان الكاهن ، وثمن الكلب ، والنرد ، والخمر ، والخنزير ، والميتة ، والدم ، وعسب الفحل ، وأجرة النائحة والمغنية ، والساحر ، وأجر مصوّر التماثيل ، وهدية الشفاعة.
قالوا وسمي سحتاً المال الحرام لأنه يسحت الطاعات أو بركة المال أو الدين أو المروءة وعن ابن مسعود ومسروق : أن المال المأخوذ على الشفاعة سحت.
وعن الحسن : أنّ ما أكل الرجل من مال من له عليه دين سحت.
وقيل لعبد الله : كنا نرى أنه ما أخذ على الحكم يعنون الرشا ، قال : ذلك كفر ، قال تعالى { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون }.
وقال أبو حنيفة : إذا ارتشى الحاكم يعزل ، وفي الحديث : « كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به » وقال علي وأبو هريرة : كسب الحجام سحت ، يعني أنه يذهب المروءة ، وما ذكر في معنى السحت فهو من أمثلة المال الذي لا يحل كسبه.
ومن أعظم السحت الرشوة في الحكم ، وهي المشار إليها في الآية.
كان اليهود يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام.
وعن الحسن : كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمه فأراه إياها ، وتكلم بحاجته ، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه ، فيأكل الرشوة ويسمع الكذب.
وقرأ النحويان وابن كثير : السحت بضمتين.
وقرأ باقي السبعة : بإسكان الحاء.
وزيد بن علي وخارجة بن مصعب عن نافع : بفتح السين وإسكان الحاء ، وقرىء بفتحتين.
وقرأ عبيد بن عمير : بكسر السين وإسكان الحاء ، فبالضم والكسر والفتحتين اسم المسحوت كالدهن والرّعي والنبض ، وبالفتح والسكون مصدر أريد به المفعول كالصيد بمعنى المصيد ، أو سكنت الحاء طلباً للخفة.
{ فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } أي فإن جاؤوك للحكم بينهم فأنت مخير بين أن تحكم ، أو تعرض.
والظاهر بقاء هذا الحكم من التخيير لحكام المسلمين.
وعن عطاء ، والنخعي ، والشعبي ، وقتادة ، والأصم ، وأبي مسلم ، وأبي ثور : أنهم إذا ارتفعوا إلى حكام المسلمين ، فإن شاؤوا حكموا وإن شاؤوا أعرضوا.

وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وعطاء الخراساني ، وعمر بن عبد العزيز ، والزهري : التخيير منسوخ بقوله : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } فإذا جاؤوا فليس للإمام أن يردهم إلى أحكامهم.
والمعنى عند غيرهم : وأن احكم بينهم بما أنزل الله إذا اخترت الحكم بينهم دون الإعراض عنهم.
وعن أبي حنيفة : إنْ احتكموا إلينا حملوا على حكم الإسلام ، وأقيم الحدّ على الزاني بمسلمة ، والسارق من مسلم.
وأما أهل الحجاز فلا يرون إقامة الحدود عليهم ، يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو أعظم من الحدود ، ويقولون : إنّ رجم اليهوديين كان قبل نزول الجزية.
وقال ابن عطية : الأمة مجمعة على أنّ حاكم المسلمين يحكم بين أهل الذمة في التظالم ، ويتسلط عليهم في تغيير ، ومن ذلك حبس السلع المبيعة وغصب المال.
فأما نوازل الأحكام التي لا تظالم فيها ، وإنما هي دعاء ومحتملة ، فهي التي يخير فيها الحاكم انتهى.
وفيه بعض تلخيص.
وظاهر الآية يدل على مجيء المتداعيين إلى الحاكم ، ورضاهما بحكمه كاف في الإقدام على الحكم بينهما.
وقال ابن القاسم : لا بد مع ذلك من رضا الأساقفة والرهبان ، فإنْ رضي الأساقفة دون الخصمين ، أو الخصمان دون الأساقفة ، فليس له أن يحكم.
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، والزهري ، وغيرهم : فإن جاؤوك يعني أهل نازلة الزانيين ، ثم الآية تتناول سائر النوازل.
وقال قوم : في قتيل اليهود من قريظة والنضير.
وقال قوم : التخيير مختص بالمعاهدين لازمة لهم.
ومذهب الشافعي : أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه ، لأنّ في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغاراً لهم ، فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب عليه أن يحكم بينهم ، بل يتخير في ذلك ، وهو التخيير الذي في الآية وهو مخصوص بالمعاهدين.
وروي عن الشافعي مثل قول عطاء والنخعي.
{ وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً } أي أنت آمن من ضررهم ، منصور عليهم على كل حال.
وكانوا يتحاكمون إليه لطلب الأيسر والأهون عليهم ، فالجلد مكان الرجم ، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة بينهم شق عليهم وتكرهوا إعراضه عنهم ، وكانوا خلقاء بأن يعادوه ويضروه ، فأمنه الله منهم ، وأخبره أنهم ليسوا قادرين على شيء من ضرره.
{ وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } أي : وإن أردت الحكم بالقسط بالعدل كما تحكم بين المسلمين.
والقسط : هو المبين في قوله { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ، وهو صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلا بالقسط ، فهو أمر معناه الخبر أي : فحكمك لا يقع إلا بالعدل ، لأنك معصوم من اتباع الهوى.
{ إن الله يحب المقسطين } وأنت سيدهم ، فمحبته إياك أعظم من محبته إياهم.
وفيه حث على توخي القسط وإيثاره ، حيث ذكر الله أنه يحب من اتصف به.
{ وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله } هذا تعجيب من تحكيمهم إياه مع أنهم لا يؤمنون به ولا بكتابه.

وفي كتابهم الذي يدعون الإيمان به حكم الله تعالى نص جلي ، فليسوا قاصدين حكم الله حقيقة ، وإنما قصدوا بذلك أن يكون عنده صلى الله عليه وسلم رخصة فيما تحاكموا إليه فيه اتباعاً لأهوائهم ، وأنهماكاً في شهواتهم.
ومن عدل عن حكم الله في كتابه الذي يدعي أنه مؤمن به إلى تحكيم من لا يؤمن به ولا بكتابه ، فهو لا يحكم إلا رغبة فيما يقصده من مخالفة كتابه.
وإذا خالفوا كتابهم لكونه ليس على وفق شهواتهم ، فلأنْ يخالفوك إذا لم توافقهم أولى وأحرى.
والواو في : وعندهم ، للحال وعندهم التوراة مبتدأ وخبر ، وقوله : فيها.
حكم الله ، حال من التوراة ، وارتفع حكم على الفاعلية بالجار والمجرور أي : كائناً فيها حكم الله.
ويجوز أن يكون فيها في موضع رفع خبراً عن التوراة كقولك : وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله.
أو لا محل له ، وتكون جملة مبينة ، لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم كما تقول : عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره؟ وهذان الإعرابان للزمخشري.
{ ثم يتولون من بعد ذلك } أي من بعد تحكيمك الموافق لما في كتابهم ، لأن التعجيب من التحكيم إنما كان بعد صدوره منهم ، ثم تولوا عنه ولم يرضوا به.
وقال ابن عطية : من بعد ذلك ، أي من بعد حكم الله في التوراة وما أشبهه من الأمور التي خالفوا فيها أمر الله انتهى.
وهذه الجملة مستأنفة أي : ثم هم يتولون بعد.
وهي أخبار من الله بتوليهم على عادتهم في أنهم إذا وضح لهم الحق أعرضوا عنه وتولوا.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : علام عطف ثم يتولون؟ ( قلت ) : على يحكمونك انتهى.
ويكون إذ ذاك داخلاً في الاستفهام الذي يراد به التعجب ، أي ثمّ كيف يتولون بعد ذلك ، فيكون قد تعجب من تحكيمهم إياه ، ثم من توليهم عنه.
أي : كيف رضوا به ثم سخطوه؟.
{ وما أولئك بالمؤمنين } ظاهره نفي الإيمان عنهم ، أي : من حكم الرسول ، وخالف كتابه ، وأعرض عما حكم له ، إذ وافى كتابه فهو كافر.
وقيل : هو إخبار عنهم أنهم لا يؤمنون أبداً ، فهو خبر عن المستقبل لا الماضي.
وقيل : نفي الإيمان بالتوراة وبموسى عنهم.
وقيل : هو تعليق بقوله : وكيف يحكمونك ، أي اعجب لتحكيمهم إياك ، وليسوا بمؤمنين بك ، ولا معتقدين في صحة حكمك ، وذلك يدل على أنهم إنما قصدهم تحصيل منافع الدنيا وأغراضهم الفاسدة دون اتباع الحق.
{ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } قال ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن : نزلت في الجاحدين حكم الله ، وهي عامة في كل من جحد حكم الله.
وقال البراء بن عازب : نزل { يا أيها لرسول - إلى - فأولئك هم الكافرون } في اليهود خاصة وذكر قصة رجم اليهوديين.

وقيل لحذيفة : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } نزلت في بني إسرائيل؟ قال نعم.
وقال الحسن وأبو مجلز وأبو جعفر : هي في اليهود.
وقال الحسن : هي علينا واجبة.
وقال قتادة : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لما نزلت هذه الآية : : « نحن نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان » وفي الآية ترغيب لليهود بأن يكونوا كمتقدميهم من مسلمي أحبارهم ، وتنبيه المنكرين لوجوب الرجم.
وقال جماعة : الهدى والنور سواء ، وكرر للتأكيد.
وقال قوم : ليسا سواء ، فالهدى محمول على بيان الأحكام ، والنور والبيان للتوحيد والنبوة والمعاد.
قال الزمخشري : يهدي للعدل والحق ، ونور يبين ما استبهم من الأحكام.
وقال ابن عطية : الهدى الإرشاد المعتقد والشرائع ، والنور ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها.
وقيل : المعنى فيها بيان أمر الرسول وما جاءوا يستفتون فيه.
{ يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } ظاهر قوله : النبيون ، الجمع.
قالوا : وهم من لدن موسى إلى عيسى.
وقال عكرمة : محمد ومن قبله من الأنبياء.
وقيل : النبيون الذين هم على دين ابراهيم.
وقال الحسن والسدي : هو محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك حين حكم على اليهود بالرجم وذكره بلفظ الجمع كقوله : { أم يحسدون الناس } { والذين أسلموا } وصف مدح الأنبياء كالصفات التي تجري على الله تعالى ، وأريد بإجرائها التعريض باليهود والنصارى ، حيث قالت اليهود : إن الأنبياء كانوا يهوداً ، والنصارى قالت : كانوا نصارى ، فبين أنهم كانوا مسلمين ، كما كان ابراهيم عليه السلام.
ولذلك جاء : { هو سماكم المسلمين من قبل } ونبه بهذا الوصف أنّ اليهود والنصارى بعداء من هذا الوصف الذي هو الإسلام ، وأنه كان دين الأنبياء كلهم قديماً وحديثاً.
والظاهر أنّ الذين هادوا متعلق بقوله : يحكم بها النبيون.
وقيل : بأنزلنا.
وقيل : التقدير هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون.
وفي قوله : للذين هادوا ، تنبيه على أنهم ليسوا مسلمين ، بل هم بعداء من ذلك.
واللام في للذين هادوا إذا علقت بيحكم للاختصاص ، فيشمل من يحكم له ومن يحكم عليه.
وقيل : ثم محذوف أي : للذين هادوا وعليهم.
وقيل : اللام بمعنى على ، أي على الذين هادوا.
{ والربانيون والأحبار } هما بمعنى واحد ، وهم العلماء.
قاله الأكثرون ومنهم : ابن قتيبة والزجاج.
وقال مجاهد : الربانيون الفقهاء العلماء ، وهم فوق الأحبار.
وقال السدي : الربانيون العلماء ، والأحبار الفقهاء.
وقال ابن زيد : الربانيون الولاة ، والأحبار العلماء.
وقيل : الربانيون علماء النصارى ، والأحبار علما اليهود ، وقد تقدم شرح الرباني.
وقال الزمخشري : والربانيون والأحبار الزهاد ، والعلماء من ولد هارون الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا ، دين اليهود.
وقال السدي : المراد هنا بالربانيين والأحبار الذين يحكمون بالتوراة ابنا صوريا كان أحدهما ربانياً ، والآخر حبراً ، وكانا قد أعطيا النبي عهداً أن لا يسألهما عن شيء من أمر التوراة إلا أخبراه به ، فسألهما عن أمر الرجم فأخبراه به على وجهه ، فنزلت الآية مشيرة إليهما.

قال ابن عطية : وفي هذا نظر.
والرواية الصحيحة أن ابنا صوريا وغيرهم جحدوا أمر الرجم ، وفضحهم فيه عبد الله بن سلام ، وإنما اللفظ في كل حبر مستقيم فيما مضى من الزمان ، وأما في مدة محمد صلى الله عليه وسلم فلو وجد لأسلم ، فلم يسم حبراً ولا ربانياً انتهى.
{ بما استحفظوا من كتاب الله } الباء في بما للسبب ، وتتعلق بقوله : يحكم.
واستفعل هنا للطلب ، والمعنى : بسبب ما استحفظوا.
والضمير في استحفظوا عائد على النبيين والربانيين والأحبار أي : بسبب ما طلب الله منهم حفظهم لكتاب الله وهو التوراة ، وكلفهم حفظها ، وأخذ عهده عليهم في العمل بها والقول بها ، وقد أخذ الله على العلماء حفظ الكتاب من وجهين : أحدهما : حفظه في صدورهم ودرسه بألسنتهم.
والثاني : حفظه بالعمل بأحكامه واتباع شرائعه.
وهؤلاء ضيعوا ما استحفظوا حتى تبدلت التوراة.
وفي بناء الفعل للمفعول وكون الفعل للطلب ما يدل على أنه تعالى لم يتكفل بحفظ التوراة ، بل طلب منهم حفظها وكلفهم بذلك ، فغيروا وبدلوا وخالفوا أحكام الله بخلاف كتابنا ، فإنّ الله تعالى قد تكفل بحفظه ، فلا يمكن أن يقع فيه تبديل ولا تغيير.
قال تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } وقيل : الضمير في استحفظوا عائد على الربانيين والأحبار فقط.
والذين استحفظهم التوراة هم الأنبياء.
{ وكانوا عليه شهداء } الظاهر أنّ الضمير عائد على كتاب الله أي : كانوا عليه رقباء لئلا يبدل.
والمعنى يحكم بأحكام التوراة النبيون بين موسى وعيسى ، وكان بينهما ألف نبي للذين هادوا يحملونهم على أحكام التوراة لا يتركونهم أن يعدلوا عنها ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملهم على حكم الرجم وإرغام أنوفهم ، وإبائهم عليهم ما اشتهوه من الجلد.
وقيل : الهاء تعود على الحكم أي : وكانوا شهداء على الحكم.
وقيل : عائد على الرسول أي : وكانوا شهداء على أنه نبي مرسل.
{ فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } هذا نهي للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم ، وإذهابهم فيها وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل بخشية سلطان ظالم ، أو خيفة أذية أحد من الغرماء والأصدقاء.
ولا تستعطوا بآيات الله ثمناً قليلاً وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس ، كما حرف أحبار اليهود كتاب الله وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلباً للرياسة فهلكوا.
وهذا نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم والتحيل للدنيا بالدين.
وروى أبو صالح عن ابن عباس أن معناه : لا تخشوا الناس في إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم والعمل بالرجم ، واخشون في كتمان ذلك.
ولما كان الإقدام على تغيير أحكام الله سببه شيئآن : الخوف ، والرغبة ، وكان الخوف أقوى تأثيراً من الرغبة ، قدم النهي عن الخوف على النهي عن الرغبة والطمع.

والظاهر أنّ هذا الخطاب لليهود على سبيل الحكاية ، والقول لعلماء بني إسرائيل.
وقال مقاتل : الخطاب ليهود المدينة قيل لهم : لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرجم ، واخشوني في كتمانه انتهى.
وهذا وإن كان خطاباً لعلماء بني إسرائيل ، فإنه يتناول علماء هذه الأمة.
وقال ابن جريج : هو خطاب لهذه الأمة أي لا تخشوا الناس كما خشيت اليهود الناس ، فلم يقولوا الحق.
{ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ظاهر هذا العموم ، فيشمل هذه الأمة وغيرهم ممن كان قبلهم ، وإن كان الظاهر أنه في سياق خطاب اليهود ، وإلى أنها عامة في اليهود وغيرهم.
ذهب ابن مسعود ، وابراهيم ، وعطاء ، وجماعة ولكنْ كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق يعني : إنّ كفر المسلم ليس مثل كفر الكافر ، وكذلك ظلمه وفسقه لا يخرجه ذلك عن الملة قاله : ابن عباس وطاووس.
وقال أبو مجلز : هي مخصوصة باليهود والنصارى وأهل الشرك وفيهم نزلت.
وبه قال : أبو صالح قال : ليس في الإسلام منها شيء.
وروي في هذا حديث عن البراء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : : « أنها الثلاثة في الكافرين » قال عكرمة ، والضحاك : هي في أهل الكتاب ، وقاله : عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وذكر أبو عبيدة هذه الأقوال فقال : إنّ بشراً من الناس يتأوّلون الآيات على ما لم تنزل عليه ، وما أنزلت هذه الآيات إلا في حيين من يهود قريظة والنضير ، وذكر حكاية القتل بينهم.
وقال الحسن : نزلت في اليهود وهي علينا واجبة.
وقيل لحذيفة : أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل؟ فقال : نعم ، الإخوة لكم بنو إسرائيل أن كانت لكم كل حلوة ولهم كل مرة ، لتسلكن طريقهم قدّ الشرك ، وعن ابن عباس ، واختاره ابن جرير : إنّ الكافرين والظالمين والفاسقين أهل الكتاب ، وعنه نعم القوم أنتم ما كان من حلو فلكم ، وما كان من مرّ فهو لأهل الكتاب.
من جحد حكم الله كفر ، ومن لم يحكم به وهو مقر به ظالم فاسق.
وعن الشعبي : الكافرون في أهل الإسلام ، والظالمون في اليهود ، والفاسقون في النصارى.
وكأنه خصص كل عام منها بما تلاه ، إذ قبل الأولى : { فإن جاؤك فاحكم بينهم } و { فإن حكمت فاحكم } { وكيف يحكمونك } و { يحكم بها النبيون } وقبل الثانية : { وكتبنا عليهم فيها } وقبل الثالثة : وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه } الآية.
وقال الزمخشري : ومن لم يحكم بما أنزل الله مستهيناً به ، فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون ، وصف لهم بالعتوّ في كفرهم حين ظلموا آيات الله بالاستهزاء والاستهانة وتمرّدوا بأن حكموا بغيرها انتهى.
وقال السدّي : من خالف حكم الله وتركه عامداً وتجاوزه وهو يعلم ، فهو من الكافرين حقاً ، ويحمل هذا على الجحود ، فهو الكفر ضد الإيمان كما قال : ابن عباس.

واحتجت الخوارج بهذه الآية على أنّ كل من عصى الله تعالى فهو كافر ، وقالوا : هي نص في كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر ، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله فوجب أن يكون كافراً.
وأجيبوا : بأنها نزلت في اليهود ، فتكون مختصة بهم.
وضعف بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ومنهم من قال : تقديره ومن لم يحكم بما أنزل الله من هؤلاء الذين سبق ذكرهم قبل ، وهذا ضعيف ، لأنّ من شرط وهي عام ، وزيادة ما قدر زيادة في النقص ، وهو غير جائز.
وقيل : المراد كفر النعمة ، وضعف بأنّ الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدّين.
وقال ابن الأنباري : فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفار ، وضعف بأنه عدول عن الظاهر.
وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني : ما أنزل صيغة عموم ، فالمعنى : من أتى بضد حكم الله في كل ما أنزل الله ، والفاسق لم يأت بضد حكم الله إلا في القليل وهو العمل ، أما في الاعتقاد والإقرار فهو موافق.
وضعف بأنه لو كان كذلك لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفاتهم حكم الله في الرجم.
وأجمع المفسرون على أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في واقعة الرجم ، فدل على سقوطه هذا.
وقال عكرمة : إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه ، أما من عرف أنه حكم الله وأقر بلسانه أنه حكم الله ، إلا أنه أتى بما يضاد ، فهو حاكم بما أنزل الله ، لكنه تارك له ، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية.
{ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسنّ بالسنّ والجروح قصاص } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى بين في التوراة أن حكم الزاني المحصن الرجم ، وغيره اليهود ، وبين هنا أنّ في التوراة : أن النفس بالنفس وغيره اليهود أيضاً ، ففضلوا بني النضير على بني قريظة ، وخصوا إيجاب القود على بني قريظة دون بني النضير.
ومعنى وكتبنا : فرضنا.
وقيل : قلنا والكتابة بمعنى القول ويجوز أن يراد الكتابة حقيقة ، وهي الكتابة في الألواح ، لأن التوراة مكتوبة في الألواح ، والضمير في فيها عائد على التوراة ، وفي : عليهم ، على الذين هادوا.
وقرأ نافع ، وحمزة ، وعاصم : بنصب ، والعين وما بعدها من المعاطيف على التشريك في عمل أنّ النصب ، وخبر أنّ هو المجرور ، وخبر والجروح قصاص.
وقدَّر أبو عليّ العامل في المجرور مأخوذ بالنفس إلى آخر المجرورات ، وقدره الزمخشري أولاً : مأخوذة بالنفس مقتولة بها إذا قتلها بغير حق ، وكذلك العين مفقوأة بالعين ، والأنف مجدوع بالأنف ، والأذن مأخوذة مقطوعة بالأذن ، والسن مقلوعة بالسن.

وينبغي أن يحمل قول الزمخشري : مقتولة ومفقوأة ومجدوع مقطوعة على أنه تفسير المعنى لا تفسير الإعراب ، لأن المجرور إذا وقع خبراً لا بد أن يكون العامل فيه كوناً مطلقاً ، لا كوناً مقيداً.
والباء هنا باء المقابلة والمعاوضة ، فقدر ما يقرب من الكون المطلق وهو مأخوذ.
فإذا قلت : بعت الشاء شاة بدرهم ، فالمعنى مأخوذ بدرهم ، وكذلك الحر بالحر ، والعبد بالعبد.
التقدير : الحر مأخوذ بالحر ، والعبد مأخوذ بالعبد.
وكذلك هذا الثوب بهذا الدرهم معناه مأخوذ بهذا الدرهم.
وقال الحوفي : بالنفس يتعلق بفعل محذوف تقديره : يجب ، أو يستقر.
وكذا العين بالعين وما بعدها مقدر الكون المطلق ، والمعنى : يستقر قتلها بقتل النفس.
وقرأ الكسائي : برفع والعين وما بعدها.
وأجاز أبو عليّ في توجيه الرفع وجوهاً.
الأول : أنّ الواو عاطفة جملة على جملة ، كما تعطف مفرداً على مفرد ، فيكون والعين بالعين جملة اسمية معطوفة على جملة فعلية وهي : وكتبنا ، فلا تكون تلك الجمل مندرجة تحت كتبنا من حيث اللفظ ، ولا من حيث التشريك في معنى الكتب ، بل ذلك استئناف إيجاب وابتداء تشريع.
الثاني : أنّ الواو عاطفة جملة على المعنى في قوله : إن النفس بالنفس ، أي : قل لهم النفس بالنفس ، وهذا العطف هو من العطف على التوهم ، إذ يوهم في قوله : إن النفس بالنفس ، إنه النفس بالنفس ، والجمل مندرجة تحت الكتب من حيث المعنى ، لا من حيث اللفظ.
الثالث : أن تكون الواو عاطفة مفرداً على مفرد ، وهو أن يكون : والعين معطوفاً على الضمير المستكن في الجار والمجرور ، أي بالنفس هي والعين وكذلك ما بعدها.
وتكون المجرورات على هذا أحوالاً مبينة للمعنى ، لأن المرفوع على هذا فاعل ، إذ عطف على فاعل.
وهذان الوجهان الأخيران ضعيفان : لأن الأول منهما هو المعطوف على التوهم ، وهو لا ينقاس ، إنما يقال منه ما سمع.
والثاني منهما فيه العطف على الضمير المتصل المرفوع من غير فصل بينه وبين حرف العطف ، ولا بين حرف العطف والمعطوف بلا ، وذلك لا يجوز عند البصريين إلا في الضرورة ، وفيه لزوم هذه الأحوال.
والأصل في الحال أن لا تكون لازمة.
وقال الزمخشري : الرفع للعطف على محل : أنّ النفس ، لأن المعنى : وكتبنا عليهم النفس بالنفس ، إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا ، وإما أنّ معنى الجملة التي هي قولك : النفس بالنفس ، مما يقع عليه الكتب كما تقع عليه القراءة يقول : كتبت الحمد لله ، وقرأت سورة أنزلناها.
وكذلك قال الزجاج : لو قرىء أنّ النفس لكان صحيحاً انتهى.
وهذا الذي قاله الزمخشري هو الوجه الثاني من توجيه أبي علي ، إلا أنه خرج عن المصطلح فيه ، وهو أن مثل هذا لا يسمى عطفاً على المحل ، لأن العطف على المحل هو العطف على الموضع ، وهذا ليس من العطف على الموضع ، لأن العطف على الموضع هو محصور وليس هذا منه ، وإنما هو عطف على التوهم.

ألا ترى أنا لا نقول أن قوله : إنّ النفس بالنفس في موضع رفع ، لأن طالب الرفع مفقود ، بل نقول : إنّ المصدر المنسبك من أنّ واسمها وخبرها لفظه وموضعه واحد وهو النصب ، والتقدير : وكتبنا عليهم فيها النفس بالنفس ، إمّا لإجراء كتبنا مجرى قلنا ، فحكيت بها الجملة : وإمّا لأنهما مما يصلح أن يتسلط الكتب فيها نفسه على الجملة لأنّ الجمل مما تكتب كما تكتب المفردات ، ولا نقول : إن موضع أنّ النفس بالنفس وقع بهذا الاعتبار.
وقرأ العربيان وابن كثير : بنصب والعين ، والأنف ، والأذن ، والسن ، ورفع والجروح.
وروي ذلك عن : نافع.
ووجه أبو علي : رفع والجروح على الوجوه الثلاثة التي ذكرها في رفع والعين وما بعدها.
وروي أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ أنّ النفس بتخفيف أن ، ورفع العين وما بعدها فيحتمل أن وجهين : أحدهما : أن تكون مصدرية مخففة من أنّ ، واسمها ضمير الشأن وهو محذوف ، والجملة في موضع رفع خبر أنّ فمعناها معنى المشدّدة العاملة في كونها مصدرية.
والوجه الثاني : أن تكون أن تفسيرية التقدير أي : النفس بالنفس ، لأن كتبنا جملة في معنى القول.
وقرأ أبيّ بنصب النفس ، والأربعة بعدها.
وقرأ : وأنْ الجروح قصاص بزيادة أن الخفيفة ، ورفع الجروح.
ويتعين في هذه القراءة أن تكون المخففة من الثقيلة ، ولا يجوز أن تكون التفسيرية من حيث العطف ، لأن كتبنا تكون عاملة من حيث المشدّدة غير عاملة من حيث التفسيرية ، فلا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك ، فإذا لم يكن عمل فلا تشريك.
وقرأ نافع : والأذن بالأذْن بإسكان الذال معرفاً ومنكراً ومثنى حيث وقع.
وقرأ الباقون : بالضم.
فقيل : هما لغتان ، كالنكر والنكر.
وقيل : الإسكان هو الأصل ، وإنما ضم اتباعاً.
وقيل : التحريك هو الأصل ، وإنما سكن تخفيفاً.
ومعنى هذه الآية : أن الله فرض على بني إسرائيل أنّ من قتل نفساً بحد أخذ نفسه ، ثم هذه الأعضاء كذلك ، وهذا الحكم معمول به في ملتنا إجماعاً.
والجمهور على أنّ قوله أنّ النفس بالنفس عموم يراد به الخصوص في المتماثلين.
وقال قوم : يقتل الحر بالعبد والمسلم بالذمي ، وبه قال أبو حنيفة : وأجمعوا على أنّ المسلم لا يقتل بالمستأمن ولا بالحربي ، ولا يقتل والد بولده ، ولا سيد بعبده.
وتقتل جماعة بواحد خلافاً لعلي ، وواحد بجماعة قصاصاً ، ولا يجب مع القود شيء من المال.
وقال الشافعي : يقتل بالأول منهم وتجب دية الباقين ، قد مضى الكلام في ذلك في البقرة في قوله : { كتب عليكم القصاص في القتلى } الآية.
وقال ابن عباس : كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت.
وقال أيضاً : رخص الله تعالى لهذه الأمة ووسع عليها بالدية ، ولم يجعل لبني إسرائيل دية فيما نزل على موسى وكتب عليهم.
وقال الثوري : بلغني عن ابن عباس أنه نسخ

{ الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد } قوله : أن النفس بالنفس ، والظاهر في قوله : النفس بالنفس العموم ، ويخرج منه ما يخرج بالدليل ، ويبقى الباقي على عمومه.
والظاهر في قوله : العين بالعين فتفقأ عين الأعور بعين من كان ذا عينين ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ، وروي عن عثمان وعمر في آخرين : أن عليه الدية.
وقال مالك : إن شاء فقأ وإن شاء أخذ الدية كاملة.
وبه قال : عبد الملك بن مروان ، وقتادة ، والزهري ، والليث ، ومالك ، وأحمد ، والنخعي.
وروى نصف الدية عن : عبد الله بن المغفل ، ومسروق ، والنخعي ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والشافعي.
قال ابن المنذر : وبه نقول.
وتفقأ اليمنى باليسرى ، وتقلع الثنية بالضرس ، وعكسهما لعموم اللفظ ، وبه قال ابن شبرمة.
وقال الجمهور : هذا خاص بالمساواة ، فلا تؤخذ يمنى بيسرى مع وجودها إلا مع الرضا.
ولو فقأ عيناً لا يبصر بها فعن زيد بن ثابت : فيها مائة دينار ، وعن عمر : ثلث ديتها.
وقال مسروق ، والزهري ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأبو ثور ، وابن المنذر : فيها حكومة.
ولو أذهب بعض نور العين وبقي بعض ، فمذهب أبي حنيفة : فيها الارش.
وعن علي : اختبار بصره ، ويعطى قدر ما نقص من مال الجاني.
وفي الأجفان كلها الدية ، وفي كل جفن ربع الدية قاله : زيد بن ثابت ، والحسن ، والشعبي ، وقتادة ، وابراهيم ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي.
وقال الشعبي : في الجفن الأعلى ثلث الدية ، وفي الأسفل ثلثاها.
واختلف فيمن قطع أنفاً هل يجري فيها القصاص أم لا؟ فقال أبو حنيفة : إذا قطعه من أصله فلا قصاص فيه ، وإنما فيه الدية.
وروي عن أبي يوسف : أن في ذلك القصاص إذا استوعب.
واختلف في كسر الأنف : فمالك يرى القود في العمد منه ، والاجتهاد في الخطأ.
وروي عن نافع : لا دية فيه حتى يستأصله.
وروي عن علي : أنه أوجب القصاص في كسره.
وقال الشافعي : إن جبر كسره ففيه حكومة ، وما قطع من المارن بحسابه ، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والشعبي ، وبه قال الشافعي : وفي المارن إذا قطع ولم يستأصل الأنف الدية كاملة ، قاله : مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابه.
والمارن ما لان من الأنف ، والأرنبة والروثة طرف المارن.
ولو أفقده الشم أو نقصه : فالجمهور على أنّ فيه حكومة عدل.
والأذن بالأذن يقتضي وجوب القصاص إذا استوعب ، فإن قطع بعضها ففيه القصاص إذا عرف قدره.
وقال الشافعي : في الأذنين الدية ، وفي إحداهما نصفها.
وقال مالك : في الأذنين حكومة ، وإنما الدية في السمع ، ويقاس نقصاه كما يقاس في البصر.
وفي إبطاله من إحداهما نصف الدية ولو لم يكن يسمع إلا بها.
والسن بالسن يقتضي أنّ القلع قصاص ، وهذا لا خلاف فيه ، ولو كسر بعضها.
والأسنان كلها سواء : ثناياها ، وأنيابها ، وأضراسها ، ورباعياتها ، في كل واحدة خمس من الإبل من غير فضل.

وبه قال : عروة ، وطاووس ، وقتادة ، والزهري ، والثوري ، وربيعة ، والأوزاعي ، وعثمان البتي ، ومالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق.
وروي عن علي ، وابن عباس ، ومعاوية.
وروى ابن المسيب عن عمر : أنه قضى فيما أقبل من الفم بخمس فرائض وذلك خمسون ديناراً ، كل فريضة عشر دنانير ، وفي الأضراس بعير بعير.
قال ابن المسيب : فلو أصيب الفم كله في قضاء عمر نقصت الدية ، أو في قضاء معاوية زادت ، ولو كنت إنا لجعلتها في الأضراس بعيرين بعيرين.
قال عمر : الأضراس عشرون ، والأسنان اثنا عشر : أربع ثنايا ، وأربع رباعيات ، وأربع أنياب.
والخلاف إنما هو في الأضراس لا في الأسنان ، ففي قضاء عمر الدية ثمانون ، وفي قضاء معاوية مائة وستون.
وعلى قول ابن المسيب مائة ، وهي الدية كاملة من الإبل.
وقال عطاء في الثنيتين والرباعيتين والنابين : خمس خمس ، وفيما بقي بعيران بعيران ، أعلى الفم وأسفله سواء.
ولو قلعت سن صبي لم يثغر فنبتت فقال أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي : لا شيء على القالع.
إلا أن مالكاً والشافعي قالا : إذا نبتت ناقصة الطول عن التي تقاربها أخذ له من ارشها بقدر نقصها.
وقالت طائفة : فيها حكومة ، وروي ذلك عن الشعبي ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
ولو قلعت سن كبير فأخذ ديتها ثم نبتت فقال مالك : لا يرد ما أخذ.
وقال أبو حنيفة وأصحابه : يرد ، والقولان عن الشافعي.
ولو قلعت سن قوداً فردها صاحبها فالتحمت فلا يجب قلعها عند أبي حنيفة ، وبه قال عطاء الخراساني وعطاء بن أبي رباح.
وقال الشافعي وأحمد وإسحاق : يجبر على القلع ، به قال ابن المسيب ، ويعيد كل صلاة صلاها بها.
وكذا لو قطعت أذنه فردها في حرارة الدم فالتزقت ، وروي هذا القول عن عطاء أبو بكر بن العربي قال : وهو غلط.
ولو قلع سناً زائدة فقال الجمهور : فيها حكومة ، فإن كسر بعضها أعطى بحساب ما نقص منها ، وبه قال : مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد.
قال الأدفوي : وما علمت فيه خلافاً.
وقال زيد بن ثابت : في السن الزائدة ثلث السن ، ولو جنى على سن فاسودت ثم عقلها ، روي ذلك عن زيد ، وابن المسيب ، وبه قال : الزهري ، والحسن ، وابن سيرين ، وشريح ، والنخعي ، وعبد الملك بن مروان ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والثوري.
وروي عن عمران : فيها ثلث ديتها ، وبه قال : أحمد وإسحاق.
وقال النخعي والشافعي وأبو ثور : فيها حكومة ، فإن طرحت بعد ذلك ففيها عقلها ، وبه قال الليث وعبد العزيز بن أبي سلمة ، وإنْ اسود بعضها كان بالحساب قاله : الثوري.
والجروح قصاص أي ذات قصاص.
ولفظ الجروح عام ، والمراد به الخصوص ، وهو ما يمكن فيه القصاص.
وتعرف المماثلة ولا يخاف فيها على النقص ، فإن خيف كالمأمومة وكسر الفخذ ونحو ذلك فلا قصاص فيها.

ومدلول : والجروح قصاص ، يقتضي أن يكون الجرح بمثله ، فإن لم يكن بمثله فليس بقصاص.
واختلفوا في القصاص بين الرجال والنساء ، وبين العبد والحر.
وجميع ما عدا النفس هو من الجراحات التي أشار إليها بقوله : والجروح قصاص ، لكنه فصل أول الآية وأجمل آخرها ليتناول ما نص عليه وما لم ينص ، فيحصل العموم.
معنى : وإن لم يحصل لفظاً.
ومن جملة الجروح الشجاج فيما يمكن فيه القصاص ، فلا خلاف في وجوبها فيه ، وما لا فلا قصاص فيه كالمأمومة.
وقال أبو عبيد : فليس في شيء من الشجاج قصاص إلا في الموضحة خاصة ، لأنه ليس شيء منها له حد ينتهي إليه سواها ، وأما غيرها من الشجاج ففيه ديته انتهى.
وقال غيره : في الخارصة القصاص بمقدارها إذا لم يخش منها سراية ، وأقاد ابن الزبير من المأمومة ، وأنكر الناس عليه.
قال عطاء : ما علمنا أحداً أقاد منها قبله.
وأما الجروح في اللحم فقال : فقد ذكر بعض أهل العلم أن القصاص فيها ممكن بأن يقاس بمثل ، ويوضع بمقدار ذلك الجرح.
{ فمن تصدق به فهو كفارة له } المتصدق صاحب الحق.
ومستو في القصاص الشامل للنفس والأعضاء وللجروح التي فيها القصاص ، وهو ضمير يعود على التصدق أي : فالتصدق كفارة للمتصدق ، والمعنى : أنّ من تصدق بجرحه يكفر عنه ، قاله : عبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمرو ، وعبد الله بن عمرو ، وجابر ، وأبو الدرداء ، وقتادة ، والحسن ، والشعبي.
وذكر أبو الدرداء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله بذلك درجة وحط عنه خطيئة " وذكر مكي حديثاً من طريق الشعبي : » أنه يحط عنه من ذنوبه ما عفى عنه من الدية« وعن عبد الله بن عمر : يهدم عنه ذنوبه بقدر ما تصدق.
وقيل : الضمير في له عائد على الجاني وإنْ لم يتقدّم له ذكر ، لكنه يفهم من سياق الكلام ، ويدل عليه المعنى.
والمعنى : فذلك العفو والتصدق كفارة للجاني يسقط عنه ما لزمه من القصاص.
وكما أن القصاص كفارة كذلك العفو كفارة ، وأجر العافي على الله تعالى قاله : ابن عباس ، والسبيعي ، ومجاهد ، وابراهيم ، والشعبي ، وزيد بن أسلم ، ومقاتل.
وقيل : المتصدق هو الجاني ، والضمير في له يعود عليه.
والمعنى : إذا جنى جان فجهل وخفى أمره فتصدق هو بأن عرف بذلك ومكن من نفسه ، فذلك الفعل كفارة لذنبه.
وقال مجاهد : إذا أصاب رجل رجلاً ولم يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب فهو كفارة للمصيب.
وأصاب عروة عند الركن إنساناً وهم يستلمون فلم يدر المصاب من أصابه فقال له عروة : أنا أصبتك ، وأنا عروة بن الزبير ، فإن كان يلحقك بها بأس فأنا بها.
وعلى هذا القول يحتمل أن يكون تصدق تفعل من الصدقة ، ويحتمل أن يكون من الصدق.

وقرأ أبي : فهو كفارة له يعني : فالتصدق كفارته ، أي الكفارة التي يستحقها له لا ينقص منها ، وهو تعظيم لما فعل لقوله : { فأجره على الله } وترغيب في العفو.
وتأول قوم الآية على معنى : والجروح قصاص ، فمن أعطى دية الجرح وتصدق به فهو كفارة له إذا رضيت منه وقبلت.
وفي مصحف أبي : ومن يتصدق به فإنه كفارة له.
{ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } ناسب فيما تقدم ذكر الكافرين ، لأنه جاء عقيب قوله : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } الآية ففي ذلك إشارة إلى أنه لا يحكم بجميعها ، بل يخالف رأساً.
ولذلك جاء : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } وهذا كفر ، فناسب ذكر الكافرين.
وهنا جاء عقيب أشياء مخصوصة من أمر القتل والجروح ، فناسب ذكر الظلم المنافي للقصاص وعدم التسوية ، وإشارة إلى ما كانوا قرروه من عدم التساوي بين بني النضير وبني قريظة.
{ وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة } مناسبة هذه الآية قبلها أنه لما ذكر تعالى أنّ التوراة يحكم بها النبيون ، ذكر أنه قفاهم بعيسى تنبيهاً على أنه من جملة الأنبياء ، وتنويهاً باسمه ، وتنزيهاً له عما يدعيه اليهود فيه ، وأنه من جملة مصدقي التوراة.
ومعنى : قفينا ، أتينا به ، يقفو آثارهم أي يتبعها.
والضمير في آثارهم يعود على النبيين من قوله : يحكم بها النبيون } وقيل : على الذين كتبت عليهم هذه الأحكام.
وعلى آثارهم ، متعلق بقفينا ، وبعيسى متعلق به أيضاً.
وهذا على سبيل التضمين أي : ثم جئنا على آثارهم بعيسى ابن مريم قافياً لهم ، وليس التضعيف في قفينا للتعدية ، إذ لو كان للتعدية ما جاء مع الباء المعدية ، ولا تعدى بعلى.
وذلك أن قفا يتعدى لواحد قال تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم } وتقول : قفا فلان الأثر إذا اتبعه ، فلو كان التضعيف للتعدي لتعدى إلى اثنين منصوبين ، وكان يكون التركيب : ثم قفينا على آثارهم عيسى ابن مريم ، وكان يكون عيسى هو المفعول الأول ، وآثارهم المفعول الثاني ، لكنه ضمن معنى جاء وعدي بالياء ، وتعدى إلى آثارهم بعلى.
وقال الزمخشري : قفيته مثل عقبته إذا اتبعته ، ثم يقال : قفيته بفلان وعقبته به ، فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء.
( فإن قلت ) : فأين المفعول الأول في الآية؟ ( قلت ) : هو محذوف ، والظرف الذي هو على آثارهم كالسادّ مسده ، لأنه إذا قفي به على أثره فقد قفي به إياه انتهى.
وكلامه يحتاج إلى تأويل ، وذلك أنه جعل قفيته المضعف بمعنى قفوته ، فيكون فعل بمعنى فعل نحو : قدر الله ، وقدر الله ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها فعل ، ثم عداه بالباء ، وتعدية المتعدي لمفعول بالباء لثان قلّ أن يوجد ، حتى زعم بعضهم أنه لا يوجد.
ولا يجوز فلا يقال : في طعم زيد اللحم ، أطعمت زيداً باللحم ، والصحيح أنه جاء على قلة تقول : دفع زيد عمراً ، ثم تعديه بالباء فتقول : دفعت زيداً بعمرو.

أي : جعلت زيداً يدفع عمراً ، وكذلك صك الحجر الحجر.
ثم تقول : صككت الحجر بالحجر أي جعلته يصكه.
وأما قوله : المفعول الأول محذوف الظرف كالساد مسده فلا يتجه ، لأنّ المفعول هو مفعول به صريح ، ولا يسد الظرف مسده ، وكلامه مفهم التضمين وإن لم يصرح به.
ألا ترى إلى قوله : لأنه إذا قفى به أثره فقد قفى به إياه؟ وقول الزمخشري : فقد قفى به إياه فصل الضمير ، وحقه أن يكون متصلاً ، وليس من مواضع فصل لو قلت : زيد ضربت بسوط إيتاه لم يجز إلا في ضرورة شعر ، فإصلاحه زيد ضربته بسوط ، وانتصب مصدقاً على الحال من عيسى.
ومعنى : لما بين يديه ، لما تقدمه من التوراة لأنها جاءت قبله ، كما أن الرسول بين يدي الساعة.
وتقدم الكلام في هذا.
وتصديقه إياها هو بكونه مقراً أنها كتاب منزل من الله حقاً واجب العمل به قبل ورود النسخ ، إذ شريعته مغايرة لبعض ما فيها.
{ وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور } هذه الجملة معطوفة على قوله : وقفينا.
وفيه تعظيم عيسى عليه السلام بأن الله آتاه كتاباً إلهيّاً.
وتقدمت قراءة الحسن الإنجيل بفتح الهمزة ، وما ذكروه في اشتقاقه إن كان عربياً.
وقوله : فيه هدى ونور ، في موضع الحال ، وارتفاع هدى على الفاعلية بالجار والمجرور ، إذ قد اعتمد بأن.
وقع حالاً لذي حال أي : كائناً فيه هدى.
ولذلك عطف عليه { ومصدقاً لما بين يديه من التوراة } والضمير في يديه عائد على الإنجيل ، والمعنى : أن عيسى وكتابه الذي أنزل عليه هما مصدقان لما تقدمهما من التوراة ، فتظافر على تصديقه الكتاب الإلهي المنزل ، والنبي المرسل المنزل عليه ذلك الكتاب.
ومعنى كونه فيه هدى أنه يشتمل على دلائل التوحيد ، وتنزيه الله عن الولد والصاحبة والمثل والضد ، وعلى الإرشاد والدعاء إلى الله تعالى ، وإلى إحياء أحكام التوراة ، والنور هو ما فيه مما يستضاء به إذ فيه بيان أحكام الشريعة وتفاصيلها.
قال ابن عطية : ومصدقاً حال مؤكدة معطوفة على موضع الجملة التي هي فيه هدى ، فإنها جملة في موضع الحال انتهى.
وإنما قال : إن مصدقاً ، حال مؤكدة من حيث المعنى ، لأنه يلزم من كون الإنجيل كتاباً إلاهيا أن يكون مصدقاً للكتب الإلهية ، لكن قوله : معطوفة على الجملة التي هي فيه هدى ، فإنها جملة في موضع الحال قول مرجوح ، لأنّا قد بينا أنّ قوله : فيه هدى ونور من قبيل المفرد لا من قبيل الجملة ، إذ قدرناه كائناً فيه هدى ونور ، ومتى دار الأمر بين أن يكون الحال مفرداً أو جملة ، كان تقدير المفرد أجود على تقدير أنه جملة يكون ذلك من القليل ، لأنها جملة اسمية ، ولم تأت بالواو ، وإن كان يغني عن الرابط الذي هو الضمير ، لكن الأحسْن والأكثر أن يأتي بالواو ، حتى أنّ الفراء زعم أن عدم الواو شاذ ، وإن كان ثم ضمير ، وتبعه على ذلك الزمخشري.

قال علي بن أبي طالب : ومصدقاً معطوف على مصدقاً الأول انتهى.
ويكون إذ ذاك حالاً من عيسى ، كرره على سبيل التوكيد ، وهذا فيه بعد من جهة التركيب واتساق المعانى ، وتكلفه أن يكون وآتيناه الإنجيل جملة حالية معطوفة على مصدّقاً.
{ وهدى وموعظة للمتقين } قرأ الضحاك : وهدى وموعظة بالرفع ، وهو هدى وموعظة.
وقرأ الجمهور : بالنصب حالاً معطوفة على قوله : ومصدقاً ، جعله أولاً فيه هدى ونور ، وجعله ثانياً هدى وموعظة.
فهو في نفسه هدى ، وهو مشتمل على الهدى ، وجعله هدى مبالغة فيه إذ كان كتاب الإنجيل مبشراً برسول الله صلى الله عليه وسلم والدلالة منه على نبوته ظاهرة.
ولما كانت أشد وجوه المنازعة بين المسلمين واليهود والنصارى ذلك ، أعاد الله ذكر الهدى تقريراً وبياناً لنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، ووصفه بالموعظة لاشتماله على نصائح وزواجر بليغة ، وخصصها بالمتقين لأنهم هم الذين ينتفعون بها ، كما قال تعالى : { هدى للمتقين } فهم المقصودون في علم الله تعالى ، وإن كان الجميع يدعي ويوعظ ، ولكنه على غير المتقين عمى وحسرة ، وأجاز الزمخشري أن ينتصب هدى وموعظة على أنهما مفعول لهما لقوله : وليحكم.
قال : كأنه قيل : وللهدي والموعظة آتيناه الإنجيل ، وللحكم بما أنزل الله فيه من الأحكام.
وينبغي أن يكون الهدى والموعظة مسندين في المعنى إلى الله ، لا إلى الإنجيل ، ليتحد المفعول من أجله مع العامل في الفاعل ، ولذلك جاء منصوباً.
ولما كان : وليحكم ، فاعله غير الله ، أتى معدي إليه بلام العلة.
ولاختلاف الزمان أيضاً ، لأن الإيتاء قارن الهداية والموعظة في الزمان ، والحكم خالف فيه لاستقباله ومضيه في الإيتاء ، فعدى أيضاً لذلك باللام ، وهذا الذي أجازه الزمخشري خلاف الظاهر.
قال الزمخشري : فإن نظمت هدى وموعظة في سلك مصدّقاً فما تصنع بقوله : وليحكم؟ ( قلت ) : أصنع به كما صنعت بهدى وموعظة ، حين جعلتهما مفعولاً لهما ، فأقدر : ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله آتيناه إياه انتهى.
وهو جواب واضح.
{ وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه } أمر تعالى أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه من الأحكام ويكون هذا الأمر على سبيل الحكاية ، وقلنا لهم : احكموا ، أي حين إيتائه عيسى أمرناهم بالحكم بما فيه إذ لا يمكن ذلك أن يكون بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ شريعته ناسخة لجميع الشرائع ، أو بما أنزل الله فيه مخصوصاً بالدلائل الدالة على نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول الأصم ، أو بخصوص الزمان إلى بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو عبر بالحكم بما أنزل الله فيه عن عدم تحريفه وتغييره.

فالمعنى : وليقرأه أهل الإنجيل على الوجه الذي أنزل لا يغيرونه ولا يبدلونه ، وهذا بعيد.
وظاهر الأمر يرد قول من قال : إن عيسى كان متعبداً بأحكام التوراة.
وقال تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } ولهذا القائل أن يقول : بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة.
والذي يظهر أن الأحكام في الإنجيل قليلة ، وإنما أكثره زواجر.
وتلك الأحكام المخالفة لأحكام التوراة أمروا بالعمل بها ، ولهذا جاء : ولأحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم }.
وقرأ الجمهور : وليحكم بلام الأمر ساكنة ، وبعض القراء يكسرها.
وقرأ أبيّ : وأن ليحكم بزيادة أن قبل لام كي ، وتقدّم كلام الزمخشري فيما يتعلق به.
وقال ابن عطية : والمعنى وآتيناه الإنجيل ليتضمن الهدى والنور والتصديق ، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه انتهى.
فعطف وليحكم على توهم علة ولذلك قال : ليتضمن الهدى.
والزمخشري جعله معطوفاً على هدى وموعظة ، على توهم النطق باللام فيهما كأنه قال : وللهدى والموعظة وللحكم أي : جعله مقطوعاً مما قبله ، وقدر العامل مؤخراً أي : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه آتيناه إياه.
وقول الزمخشري أقرب إلى الصواب ، لأن الهدي الأول والنور والتصديق لم يؤت بها على سبيل العلة ، إنما جيء بقوله : فيه هدى ونور ، على معنى كائناً فيه ذلك ومصدقاً ، وهذا معنى الحال ، والحال لا يكون علة.
فقول ابن عطية : ليتضمن كيت وكيت ، وليحكم ، بعيد.
{ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } ناسب هنا ذكر الفسق ، لأنه خرج عن أمر الله تعالى إذ تقدم قوله : وليحكم ، وهو أمر.
كما قال تعالى : { اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربه } أي : خرج عن طاعة أمره تعالى.
فقد اتضح مناسبة ختم الجملة الأولى بالكافرين ، والثانية بالظالمين ، والثالثة بالفاسقين.
وقال ابن عطية : وتكرير هذه الصفات لمن لم يحكم بما أنزل الله هو على جهة التوكيد ، وأصوب ما يقال فيها : أنها تعم كل مؤمن وكافر ، فيجيء كل ذلك في الكافر على أتم وجوهه ، وفي المؤمن على معنى كفر المعصية وظلمها وفسقها.
وقال القفال : هي لموصوف واحد كما تقول : من أطاع الله فهو البر ، ومن أطاع فهو المؤمن ، ومن أطاع فهو المتقي.
وقيل : الأول في الجاحد ، والثاني والثالث في المقر التارك.
وقال الأصم : الأول والثاني في اليهود ، والثالث في النصارى.
وعلى قول ابن عطية يعم كل كافر ومؤمن ، يكون إطلاق الكافرين والظالمين والفاسقين عليهم للاشتراك في قدر مشترك.
{ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } لما ذكر تعالى أنه أنزل التوراة فيها هدى ونور ، ولم يذكر من أنزلها عليه لاشتراك كلهم في أنها نزلت على موسى ، فترك ذكره للمعرفة بذلك ، ثم ذكر عيسى وأنه آتاه الإنجيل ، فذكره ليقروا أنه من جملة الأنبياء ، إذ اليهود تنكر نبوّته ، وإذا أنكرته أنكرت كتابه ، فنص تعالى عليه وعلى كتابه.

ثم ذكر إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر الكتاب ، ومن أنزله مقرّراً لنبوّته وكتابه ، لأن الطائفتين ينكرون نبوته وكتابه.
وجاء هنا ذكر المنزل إليه بكاف الخطاب ، لأنه أنص على المقصود.
وكثيراً ما جاء ذلك بلفظ الخطاب لأنه لا يلبس البتة وبالحق : ملتبساً بالحق ومصاحباً له لا يفارقه ، لما كان متضمناً حقائق الأمور ، فكأنه نزل بها.
ويحتمل أن يتعلق بأنزلنا أي : أنزلناه بأن حق ذلك ، لا أنه وجب على الله ، لكنه حق في نفسه.
والألف واللام في الكتاب للعهد وهو القرآن بلا خلاف.
وانتصب مصدقاً على الحال لما بين يديه ، أي : لما تقدمه من الكتاب.
الألف واللام فيه للجنس ، لأنه عنى به جنس الكتب المنزلة ، ويحتمل أن تكون للعهد ، لأنه لم يرد به ما يقع عليه اسم الكتاب على الإطلاق ، وإنما أريد نوع معلوم منه ، وهو ما أنزل السماء سوى القرآن.
والفرق بينهما أنه في الأوّل يحتاج إلى تقدير الصفة ، وأنها حذفت ، والتقدير : من الكتاب الإلهي.
وفي الثاني لا يحتاج إلى هذا التقدير ، لأن العهد في الاسم يتضمن الاسم به جميع الصفات التي للاسم ، فلا يحتاج إلى تقدير حذف.
ومهيمناً عليه أي أميناً عليه ، قاله ابن عباس في رواية التيمي ، وابن جبير ، وعكرمة ، وعطاء ، والضحاك ، والحسن.
وقال ابن جريج : القرآن أمين على ما قبله من الكتب ، فما أخبر أهل الكتاب عن كتابهم فإن كان في القرآن فصدّقوا ، وإلا فكذبوا.
وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : شاهداً.
وبه قال الحسن أيضاً وقتادة ، والسدّي ، ومقاتل ، وقال ابن زيد : مصدّقاً على ما أخبر من الكتب ، وهذا قريب من القول الأول.
وقال الخليل : المهيمن هو الرقيب الحافظ.
ومنه قوله :
إن الكتاب مهيمن لنبينا . . .
والحق يعرفه ذوو الألباب
وحكاه الزجاج ، وبه فسر الزمخشري قال : ومهيمناً رقيباً على سائر الكتب ، لأنه يشهد لها بالصحة والبيان انتهى.
وقال الشاعر :
مليك على عرش السماء مهيمن . . .
لعزته تعنو الوجوه وتسجد
فسر بالحافظ ، وهذا في صفات الله.
وأما في القرآن فمعناه أنه حافظ للدّين والأحكام.
وقال الضحاك أيضاً : معناه قاضياً.
وقال عكرمة أيضاً : معناه دالاً.
وقال ابن عطية : وقد ذكر أقوالاً أنه شاهد ، وأنه مؤتمن ، وأنه مصدّق ، وأنه أمين ، وأنه رقيب ، قال : ولفظة المهيمن أخص من هذه الألفاظ ، لأن المهيمن على الشيء هو المعنى بأمره الشاهد على حقائقه الحافظ لحامله ، فلا يدخل فيه ما ليس منه ، والقرآن جعله الله مهيمناً على الكتب يشهد بما فيها من الحقائق وعلى ما نسبه المحرّفون إليها ، فيصحح الحقائق ويبطل التحريف.
وقرأ مجاهد وابن محيصن : ومهيمناً بفتح الميم الثانية ، جعله اسم مفعول أي مؤمن عليه ، أي : حفظ من التبديل والتغيير.

والفاعل المحذوف هو الله أو الحافظ في كل بلد ، لو حذف منه حرف أو حركة أو سكون لتنبه له وأنكر ذلك.
وردّ ففي قراءة اسم الفاعل الضمير في عليه عائد على الكتاب الثاني.
وفي قراءة اسم المفعول عائد على الكتاب الأول ، وفي كلا الحالين هو حال من الكتاب الأول لأنه معطوف على مصدّقاً والمعطوف على الحال حال.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قراءته بالفتح وقال : معناه محمد مؤتمن على القرآن.
قال الطبري : فعلى هذا يكون مهيمناً حالاً من الكاف في إليك.
وطعن في هذا القول لوجود الواو في ومهيمناً ، لأنها عطف على مصدّقاً ، ومصدّقاً حال من الكتاب لا حال من الكاف ، إذ لو كان حالاً منها لكان التركيب لما بين يديك بكاف الخطاب ، وتأويله على أنه من الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعيد عن نظم القرآن ، وتقديره : وجعلناك يا محمد مهيمناً عليه أبعد.
وأنكر ثعلب قول المبرد وابن قتيبة أنّ أصله مؤتمن.
{ فاحكم بينهم بما أنزل الله } ظاهره أنه أمر أن يحكم بما أنزل الله ، وتقدم قول من قال : إنها ناسخة لقوله : { أو أعرض عنهم } وقول الجمهور : إنْ اخترت أن تحكم بينهم بما أنزل الله ، وهذا على قول من جعل الضمير في بينهم عائداً على اليهود ، ويكون على قول الجمهور أمر ندب ، وإن كان الضمير للمتحاكمين عموماً ، فالخطاب للوجوب ولا نسخ.
{ ولا تتبع أهواءهم } أي لا توافقهم في أغراضهم الفاسدة من التفريق في القصاص بين الشريف والوضيع ، وغير ذلك من أهوائهم التي هي راجعة لغير الدين والشرع.
{ عما جاءك من الحّق } الذي هو القرآن.
وضمن تتبع معنى تنحرف ، أو تنصرف ، فلذلك عدي بعن أي : لا تنحرف أو تتزحزح عما جاءك متبعاً أهواءهم ، أو بسبب أهوائهم.
وقال أبو البقاء : عما جاءك في موضع الحال أي : عادلاً عما جاءك ، ولم يضمن تتبع معنى ما تعدى بعن ، وهذا ليس بجيد.
لأنّ عن حرف ناقص لا يصلح أن يكون حالاً من الجنة ، كما لا يصلح أن يكون خبراً ، وإذا كان ناقصاً فإنه يتعدى بكون مقيد لا بكون مطلق ، والكون المقيد لا يجوز حذفه.
{ لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } الظاهر أنّ المضاف إليه كل المحذوف هو : أمة أي : لكل أمّة.
والخطاب في منكم للناس أي : أيها الناس لليهود شرعة ومنهاج ، وللنصارى كذلك ، قاله : عليّ ، وقتادة والجمهور ، ويعنون في الأحكام.
وأما المعتقد فواحد لجميع العالم توحيد ، وإيمان بالرسل ، وكتبها وما تضمنته من المعاد ، والجزاء الأخروي.
وقد ذكر تعالى جماعة من الأنبياء شرائعهم مختلفة ثم قال : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } والمعنى في المعتقدات.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المراد الأنبياء ، لا سيما وقد تقدم ذكرهم وذكر ما أنزل عليهم ، وتجيء الآية مع هذا الاحتمال تنبيهاً لمحمد صلى الله عليه وسلم أي : فاحفظ شرعك ومنهاجك لئلا تستزلك اليهود وغيرهم في شيء منه انتهى.

فيكون المحذوف المضاف إليه لكلّ نبي ، أي : لكل نبيّ منكم أيها الأنبياء.
والشرعة والمنهاج لفظان لمعنى واحد أي : طريقاً ، وكرر للتوكيد كما قال الشاعر :
وهند أتى من دونها النأي والبعد . . .
وقال ابن عباس والحسن وغيرهما : سبيلاً وسنة.
وقال مجاهد : الشرعة والمنهاج دين محمد صلى الله عليه وسلم ، فيكون المعنى لكل منكم أيها الناس جعلنا هذا الدين الخالص فاتبعوه ، والمراد بذلك إنّا أمرناكم باتباع دين محمد إذ هو ناسخ للأديان كلها.
وقال المبرد : الشرعة ابتداء الطريق ، والمنهاج الطريق المستمر.
وقال ابن الأنباري : الشرعة الطريق الذي ربما كان واضحاً وغير واضح ، والمنهاج لا يكون إلا واضحاً.
وقيل : الشرعة الدين ، والمنهاج الدليل.
وقيل : الشرعة النبي ، والمنهاج الكتاب.
قال ابن عطية : والمنهاج بناء مبالغة من النهج ، ويحتمل أن يراد بالشرعة الأحكام ، وبالمنهاج المعتقد أي هو واحد في جميعكم ، وفي هذا الاحتمال بعد انتهى.
قيل : وفي هذا دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا.
وقرأ النخعي وابن وثاب : شَرعة بفتح الشين ، والظاهر أنّ جعلنا بمعنى صيرنا ، ومفعولها الثاني هو لكل ، ومنكم متعلق بمحذوف تقديره : أعني منكم.
قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون منكم صفة لكل ، لأنَّ ذلك يوجب الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي الذي لا تشديد فيه للكلام ، ويوجب أيضاً أن يفصل بين جعلتا وبين معمولها وهو شرعة انتهى.
فيكون في التركيب كقولك : من كل ضربت تميمي رجلاً ، وهو لا يجوز.
{ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } أي ولو شاء الله أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكموها أي جماعة متفقة على شريعة واحدة في الضلال.
وقيل لجعلكم أمة واحدة على الحق.
{ ولكن ليبلوكم فيما آتاكم } أي : ولكن لم يشأ ذلك ليختبركم فيما آتاكم من الكتب.
وقال الزمخشري : من الشرائع المختلفة ، هل تعلمون بها مذعنين معتقدين أنها مصالح قد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات ، معترفين بأن الله تعالى لم يقصد باختلافها إلا ما اقتضته الحكمة ، أم تتبعون الشبه وتفرطون في العمل انتهى؟ وقال ابن جريج وغيره : ولكنه لم يشأ ، لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم من الكتب والشرائع ، فليس لهم إلا أن يجدوا في امتثال الأوامر.
{ فاستبقوا الخيرات } أي ابتدروا الأعمال الصالحة قاله : مقاتل.
وهي التي عاقبتها أحسن الأشياء.
وقال ابن عباس والضحاك : الخيرات الإيمان بالرسول.
{ إلى الله مرجعكم جميعاً } هو استئناف في معنى التعليل لأمره تعالى باستباق الخيرات ، كأنه يقول : يظهر ثمرة استباق الخيرات والمبادرة إليها في وقت الرجوع إلى الله تعالى ومجازاته.
{ فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } أي فيخبركم بأعمالكم ، وهي كناية عن المجازاة بالثواب والعقاب ، وهو أخبار إيقاع.
قال ابن جرير : قد بين ذلك في الدنيا بالدلالة والحجج ، وغداً يبينه بالمجازاة انتهى.
وبهذا التنبيه يظهر الفضل بين المحق والمبطل ، والمسبق والمقصر في العمل.
ونبأ هنا جاءت على وضعها الأصلي من تعديتها إلى واحد بنفسها ، وإلى آخر بحرف الجر ، ولم يضمنها معنى أعلم فيعديها إلى ثلاثة.

وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)

{ وأن احكم بينهم بما أنزل الله } قال ابن عباس : قال بعض اليهود لبعض منهم ابن صوريا وشاس بن قيس وكعب بن أسيد : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فأتوه فقالوا : يا محمد قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم ، وإنْ اتبعناك اتبعك كل اليهود ، وبيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك ، فأبى ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت.
وقال مقاتل : قال جماعة من بني النضير له : هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا بني قريظة في أمر الدماء كما كنا عليه من قبل ، ونبايعك؟ فنزلت.
قال القاضي أبو يعلى : وليس هذه الآية تكراراً لما تقدم ، وإنما نزلت في شيئين مختلفين : أحدهما : شأن الرجم ، والآخر التسوية انتهى.
وهذه الآية ناسخة عند قوم للتخيير الذي في قوله : { أو أعرض عنهم } وتقدم ذكر ذلك وأجازوا في : وأن احكم ، أن يكون في موضع نصب عطفاً على الكتاب ، أي : والحكم.
وفي موضع جر عطفاً على بالحق ، وفي موضع رفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر مؤخراً ، والتقدير : وحكمك بما أنزل أنزل الله أمرنا وقولنا.
أو مقدماً والتقدير : ومن الواجب حكمك بما أنزل الله.
وقيل : أنْ تفسيرية ، وأبعد ذلك من أجل الواو ، ولا يصح ذلك بأن يقدر قبل فعل الأمر فعلاً محذوفاً فيه معنى القول أي : وأمرناك أن احكم ، لأنه يلزم من ذلك حذف الجملة المفسرة بأن وما بعدها ، وذلك لا يحفظ من كلام العرب.
وقُرىء بضم النون من : وأن احكم ، اتباعاً لحركة الكاف ، وبكسرها على أصل التقاء الساكنين.
والضمير في بينهم عائد على اليهود.
وقيل : على جميع المتحاكمين.
{ ولا تتبع أهوائهم } تقدم شرح هذه الجملة.
{ واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } أي يستزلوك.
وحذره عن ذلك ، وإنْ كان مأيوساً من فتنتهم إياه لقطع أطماعهم ، وقال : عن بعض ، لأن الذي سألوه هو أمر جزئي ، سألوه أن يقضي لهم فيه على خصومهم فأبى منه.
وموضع أن يفتنوك نصب على البدل ، ويكون مفعولاً من أجله.
{ فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } أي فإنْ تولوا عن الحكم بما أنزل الله وأرادوا غيره.
ومعنى : أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ، أن يعذبهم ببعض آثامهم.
وأبهم بعضاً هنا ويعني به والله أعلم التولي عن حكم الله وإرادة خلافه ، فوضع ببعض ذنوبهم موضع ذلك ، وأراد أنهم ذوو ذنوب جمة كثيرة لا العدد ، وهذا الذنب مع عظمه وهذا الإبهام فيه تعظيم التولي ، وفرط إسرافهم في ارتكابه ، ونظيره قول لبيد :
أو يرتبط بعض النفوس حمامها . . .
أراد نفسه وقصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام ، كأنه قال : نفساً كبيرة أو نفساً أي نفس ، وهذا الوعد بالمصيبة قد أنجزه له تعالى بقصة بني قينقاع وقصة قريظة والنضير وإجلاء عمر رضي الله عنه أهل خيبر وفدك وغيرهم.

قال ابن عطية : وخصص إصابتهم ببعض الذنوب ، لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا وذنوبهم فيها نوعان : نوع يخصهم كشرب الخمر وزناهم ورشاهم ، ونوع يتعدى إلى النبي والمؤمنين كممالأتهم للكفار ، وأقوالهم في الدين ، فهذا النوع هو الذي توعدهم الله به في الدنيا ، وإنما يعذبون بكل الذنوب في الآخرة.
وقال ابن عطية أيضاً : فإن تولوا قبله محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر تقديره : لا تتبع واحذر ، فإن حكموك مع ذلك واستقاموا فنعما ذلك ، وإن تولوا فاعلم.
ويحسن أن يقدر هذا المحذوف المعادل لقوله : لفاسقون انتهى.
ولا يحتاج إلى تقدير هذا.
{ وإن كثيراً من الناس لفاسقون } أي متمردون مبالغون في الخروج عن طاعة الله.
وقال ابن عباس : المراد بالفسق هنا الكفر.
وقال مقاتل : المعاصي.
وقال ابن زيد : الكذب وظاهر الناس العموم ، وإنْ كان السياق في اليهود ، وجاء بلفظ العموم لينبه من سواهم.
ويحتمل أن يكون الناس للعهد ، وهم اليهود الذين تقدم ذكرهم.
{ أفحكم الجاهلية يبغون } هذا استفهام معناه الإنكار على اليهود ، حيث هم أهل كتاب وتحليل وتحريم من الله تعالى ، ومع ذلك يعرضون عن حكم الله ويختارون عليه حكم الجاهلية ، وهو بمجرد الهوى من مراعاة الأشرف عندهم ، وترجيح الفاضل عندهم في الدنيا على المفضول ، وفي هذا أشد النعي عليهم حيث تركوا الحكم الإلهي بحكم الهوى والجهل.
وقال الحسن : هو عام في كل من يبتغي غير حكم الله.
والحكم حكمان : حكم بعلم ، فهو حكم الله.
وحكم بجهل فهو حكم الشيطان.
وسئل عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض فقرأ هذه الآية.
وقرأ الجمهور : أفحكمَ بنصب الميم ، وهو مفعول يبغون.
وقرأ السلمي ، وابن وثاب ، وأبو رجاء ، والأعرج : أفحكمُ الجاهلية برفع الميم على الابتداء.
والظاهر أن الخبر هو قوله : يبغون ، وحسن حذف الضمير قليلاً في هذه القراءة كون الجملة فاصلة.
وقال ابن مجاهد : هذا خطأ.
قال ابن جني : وليس كذلك ، وجد غيره أقوى منه وقد جاء في الشعر انتهى.
وفي هذه المسألة خلاف بين النحويين.
وبعضهم يجيز حذف هذا الضمير في الكلام ، وبعضهم يخصه بالشعر ، وبعضهم يفصل.
وهذه المذاهب ودلائلها مذكورة في علم النحو.
وقال الزمخشري : وإسقاط الراجع عنه كإسقاطه عن الصلة في «أهذا الذي بعث الله رسولاً« وعن الصفة في : الناس رجلان ، رجل أهنت ورجل أكرمت.
وعن الحال في : مررت بهند تضرب زيداً انتهى.
فإنْ كان جعل الإسقاط فيه مثل الإسقاط في الجواز والحسن ، فليس كما ذكر عند البصريين ، بل حذفه من الصلة بشروط الحذف فصيح ، وحذفه من الصفة قليل ، وحذفه من الخبر مخصوص بالشعر ، أو في نادر.
وإن كان شبهه به من حيث مطلق الإسقاط فهو صحيح.

وقال ابن عطية : وإنما تتجه القراءة على أن يكون التقدير : أفحكم الجاهلية حكم تبغون ، فلا تجعل تبغون خبراً بل تجعل صفة خبر محذوف ، ونظيره : { من الذين يحرفون } تقديره قوم يحرفون انتهى.
وهو توجيه ممكن.
وقرأ قتادة والأعمش : أفحكَمَ بفتح الحاء والكاف والميم ، وهو جنس لا يراد به واحد كأنه قيل : أحكام الجاهلية وهي إشارة إلى الكهان الذين كانوا يأخذون الحلوان وهي رشا الكهان ، ويحكمون لهم بحسبه وبحسب الشهوات ، أرادوا بسفههم أن يكون خاتم النبيين حكماً كأولئك الحكام.
وقرأ الجمهور : يبغون بالياء على نسق الغيبة المتقدّمة.
وقرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب ، وفيه مواجهتهم بالإنكار والرّدع والزجر ، وليس ذلك في الغيبة ، فهذه حكمة الالتفات والخطاب ليهود قريظة والنضير.
{ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } أي لا أحد أحسن من الله حكماً.
وتقدّم { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } فجاءت هذه الآية مشيرة لهذا المعنى والمعنى : أن حكم الله هو الغاية في الحسن وفي العدل.
وهو استفهام معناه التقرير ، ويتضمن شيئاً من التكبر عليهم.
واللام في : لقوم يوقنون ، للبيان فتتعلق بمحذوف أي : في هيت لك وسقياً لك أي : هذا الخطاب.
وهذا الاستفهام لقوم يوقنون قاله الزمخشري.
وقال ابن عطية : وحسن دخول اللام في لقوم من حيث المعنى يبين ذلك ، ويظهر لقوم يوقنون.
وقيل : اللام بمعنى عند أي عند قوم يوقنون ، وهذا ضعيف.
وقيل : تتعلق بقوله : حكماً ، أي أن أحكم الله للمؤمن على الكافر.
ومتعلق يوقنون محذوف تقديره : يوقنون بالقرآن قاله ابن عباس.
وقيل : يوقنون بالله تعالى قاله مقاتل.
وقال الزجاج : يوقنون يثبتون عهد الله تعالى في حكمه ، وخصوا بالذكر لسرعة إذعانهم لحكم الله وأنهم هم الذين يعرفون أن لا أعدل منه ولا أحسن حكماً.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)

الدائرة : واحدة الدوائر ، وهي صروف الدهر ، ودوله ، ونوازله.
وقال الشاعر :
ويعلم أن الدائرات تدور . . .
اللعب معروف وهو مصدر على غير قياس ، وفعله لعب يلعب.
الإطفاء : الإخماد حتى لا يبقى أثر.
الإفك : بفتح الهمزة مصدر أفكه يأفكه ، أي قلبه وصرفه.
ومنه : { أجئتنا لتأفكنا } يؤفك عنه من أفك.
قال عروة بن أذينة :
إن كنت عن أحسن المروءة مأ . . .
فوكاً ففي آخرين قد أفكوا
وقال أبو زيد : المأفوك المأفون ، وهو الضعيف العقل.
وقال أبو عبيدة : رجل مأفوك لا يصيب خيراً ، وائتفكت البلدة بأهلها انقلبت ، والمؤتفكات مدائن قوم لوط عليه السلام قلبها الله تعالى.
والمؤتفكات أيضاً الرياح التي تختلف مهابّها.
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } قال الزهري وغيره : سبب نزولها ولها قصة عبد الله بن أبيّ واستمساكه بحلف يهود ، وتبرؤ عبادة بن الصامت من حلفهم عند انقضاء بدر وعبادة ، في قصة فيها طول هذا ملخصها.
وقال عكرمة : سببها أمر أبي لبابة بن عبد المنذر وإشارته إلى قريظة أنه الذبح حين استفهموه عن رأيه في نزولهم عن حكم سعد بن معاذ.
وقال السدّي : لما نزل بالمسلمين أمر أحد فزع منهم قوم ، وقال بعضهم لبعض : نأخذ من اليهود عهداً يعاضدونا إن ألمت بنا قاصمة من قريش أو سائر العرب.
وقال آخرون : بل نلحق بالنصارى فنزلت.
وقيل : هي عامّة في المنافقين أظهروا الإيمان وظاهروا اليهود والنصارى.
نهى تعالى المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى ينصرونهم ويستنصرون بهم ، ويعاشرونهم معاشرة المؤمنين.
وقراءة أبيّ وابن عباس : أرباباً مكان أولياء ، بعضهم أولياء بعض جملة معطوفة من النهي مشعرة بعلة الولاية وهو اجتماعهم في الكفر والممالأة على المؤمنين ، والظاهر أن الضمير في بعضهم يعود على اليهود والنصارى.
وقيل : المعنى على أن ثمّ محذوفاً والتقدير : بعض اليهود أولياء بعض ، وبعض النصارى أولياء بعض ، لأن اليهود ليسوا أولياء النصارى ، ولا النصارى أولياء اليهود ، ويمكن أن يقال : جمعهم في الضمير على سبيل الإجمال ، ودل ما بينهم من المعاداة على التفصيل ، وأنّ بعض اليهود لا يتولى إلا جنسه ، وبعض النصارى كذلك.
قال الحوفي : هي جملة من مبتدأ وخبر في موضع النعت لأولياء ، والظاهر أنها جملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب.
{ ومن يتولهم منكم فإنه منهم } قال ابن عباس : فإنه منهم في حكم الكفر ، أي ومن يتولهم في الدين.
وقال غيره : ومن يتولهم في الدنيا فإنه منهم في الآخرة.
وقيل : ومن يتولهم منكم في العهد فإنه منهم في مخالفة الأمر.
وهذا تشديد عظيم في الانتفاء من أهل الكفر ، وترك موالاتهم ، وإنحاء عبد الله بن أبي ومن اتصف بصفته.
ولا يدخل في الموالاة لليهود والنصارى من غير مصافاة ، ومن تولاهم بأفعاله دون معتقده ولا إخلال بإيمان فهو منهم في المقت والمذمّة ، ومن تولاهم في المعتقد فهو منهم في الكفر.

وقد استدل بهذا ابن عباس وغيره على جواز أكل ذبائح نصارى العرب ، وقال : من دخل في دين قوم فهو منهم.
وسئل ابن سيرين عن رجل يبيع داره لنصراني ليتخذها كنيسة : فتلا هذه الآية.
وفي الحديث : « لا تراءى ناراهما » وقال عمر لأبي موسى في كاتبه النصراني : لا تكرموهم إذ أهانهم الله ، ولا تأمنوهم إذ خوّنهم الله ، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله تعالى.
وقال له أبو موسى لا قوام للصرة إلا به ، فقال عمر : مات النصراني والسلام.
{ إن الله لا يهدي القوم الظالمين } ظاهره العموم والمعنى على الخصوص ، أي : من سبق في علم الله أنه لا يهتدي.
قال ابن عطية : أو يراد التخصيص مدة الظلم والتلبس بفعله ، فإن الظلم لا هدى فيه ، والظالم من حيث هو ظالم ليس بمهتد في ظلمه.
وقال أبو العالية : الظالم من أبي أن يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وقال ابن إسحاق : أراد المنافقين.
وقيل : الظالم هو الذي وضع الولاية في غير موضعها.
وقال الزمخشري قريباً من هذا ، قال : يعني الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفر يمنعهم الله ألطافه ، ويخذلهم مقتاً لهم انتهى.
وهو على طريقة الاعتزال.
{ فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، والذين في قلوبهم مرض عبد الله بن أبيّ ومن تبعه من المنافقين ، أو من مؤمني الخزرج متابعة جهالة وعصبية ، فهذا الصنف له حصة من مرض القلب قاله ابن عطية.
ومعنى يسارعون فيهم : أي في موالاتهم ويرغبون فيها.
وتقدّم الكلام في المرض في أول البقرة.
وقرأ ابراهيم بن وثاب : فيرى بالياء من تحت ، والفاعل ضمير يعود على الله ، أو الرأي.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الذين فاعل ترى ، والمعنى : أن يسارعوا ، فحذفت أن إيجازاً انتهى.
وهذا ضعيف لأنّ حذف إنْ من نحو هذا لا ينقاس.
وقرأ قتادة والأعمش : يسرعون بغير ألف من أسرع ، وفترى أن كانت من رؤية العين كان يسارعون حالاً ، أو من رؤية القلب ففي موضع المفعول الثاني ، يقولون : نخشى أن تصيبنا دائرة ، هذا محفوظ من قول عبد الله بن أُبيّ ، وقاله معه منافقون كثيرون.
قال ابن عباس : معناه نخشى أن لا يتم أمر محمد فيدور الأمر علينا.
وقيل : الدائرة من جدب وقحط.
ولا يميروننا ولا يقرضوننا.
وقيل : دائرة تحوج إلى يهود وإلى معونتهم.
{ فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده } هذا بشارة للرسول والمؤمنين بوعده تعالى بالفتح والنصرة.
قال قتادة : عنى به القضاء في هذه النوازل والفتاح الفاضي.

وقال السدّي : يعني به فتح مكة.
قال ابن عطية : وظاهر الفتح في هذه الآية ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلو كلمته فيستغني عن اليهود.
وقيل : فتح بلاد المشركين.
وقيل : فتح قرى اليهود ، يريدون قريظة والنضير وفدك وما يجري مجراهما.
وقيل : الفتح الفرج ، قاله ابن قتيبة.
وقيل في قوله تعالى : أو أمر من عنده } هو إجلاء بني النضير وأخذ أموالهم ، لم يكن للناس فيه فعل بل طرح الله في قلوبهم الرعب فأعطوا بأيديهم من غير أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب ، وقتل قريظة وسبي ذراريهم قاله : ابن السائب ومقاتل.
وقيل : إذلالهم حتى يعطوا الجزية.
وقيل : الخصب والرّخاء قاله ابن قتيبة.
وقال الزجاج : إظهار أمر المنافقين وتربصهم الدوائر.
وقال ابن عطية : ويظهر أنّ هذا التقسيم إنما هو لأن الفتح الموعود به هو مما ترتب على سعي النبي وأصحابه ونسب جدهم وعملهم ، فوعد الله تعالى إمّا بفتح يقتضي تلك الأعمال ، وإما بأمر من عنده يهلك أعداء الشرع ، هو أيضاً فتح لا يقع للبشر فيه تسبب انتهى.
{ فيصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين } أي يصيرون نادمين على ما حدثتهم أنفسهم أنّ أمر النبي لا يتم ، ولا تكون الدولة لهم إذا أتى الله بالفتح أو أمر من عنده.
وقيل : موالاتهم.
وقرأ ابن الزبير : فتصبح الفساق جعل الفساق مكان الضمير.
قال ابن عطية : وخص الإصباح بالذكر لأنّ الإنسان في ليله مفكر ، فعند الصباح يرى الحالة التي اقتضاها فكره انتهى.
وتقدم لنا نحو من هذا الكلام ، وذكرنا أن أصبح تأتي بمعنى صار من غير اعتبار كينونة في الصباح ، واتفق الحوفي وأبو البقاء على أن قوله : فيصبحوا معطوف على قوله : { أن يأتي } وهو الظاهر ، ومجور ذلك هو الفاء ، لأن فيها معنى التسبب ، فصار نظير الذي يطير فيغضب زيد الذباب ، فلو كان العطف بغير الفاء لم يصح ، لأنه كان يكون معطوفاً على أن يأتي خبر لعسى ، وهو خبر عن الله تعالى ، والمعطوف على الخبر خبر ، فيلزم أن يكون فيه رابط إن كان مما يحتاج إلى الرابط ، ولا رابط هنا ، فلا يجوز العطف.
لكنّ الفاء انفردت من بين سائر حروف العطف بتسويغ الاكتفاء بضمير واحد فيما تضمن جملتين من صلة كما مثله ، أو صفة نحو مررت برجل يبكي فيضحك عمرو ، أو خبر نحو زيد يقوم فيقعد بشر.
وجوز أن لا يكون معطوفاً على أن يأتي ، ولكنه منصوب بإضمار أن بعد الفاء في جواب التمني ، إذ عسى تمنّ وترج في حق البشر ، وهذا فيه نظر.
{ ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم لمعكم } قال المفسرون : لما أجلى بني النضير تأسف المنافقون على فراقهم ، وجعل المنافق يقول لقريبه المؤمن إذا رآه جادًّا في معاداة اليهود : هذا جزاؤهم منك طال ، والله ما أشبعوا بطنك ، فلما قتلت قريظة لم يطق أحد من المنافقين ستر ما في نفسه ، فجعلوا يقولون : أربعمائة حصدوا في ليلة؟ فلما رأى المؤمنون ما قد ظهر من المنافقين قالوا : أهؤلاء أي المنافقون الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم لمعكم؟ والمعنى : يقول بعضهم لبعض تعجباً من حالهم إذ أغلظوا بالإيمان للمؤمنين أنهم معكم ، وأنهم معاضدوكم على اليهود ، فلما حلّ باليهود ما حل ظهر من المنافقين ما كانوا يسرّونه من موالاة اليهود والتمالؤ على المؤمنين.

ويحتمل أن يقول المؤمنون ذلك لليهود ، ويكون الخطاب في قوله : إنهم لمعكم لليهود ، لأن المنافقين حلفوا لليهود بالمعاضدة والنصرة كما قال تعالى حكاية عنهم : { وإن قوتلتم لننصرنكم } فقالوا ذلك لليهود يجسرونهم على موالاة المنافقين ، وأنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئاً ، ويغتبطون بما منّ الله عليهم من إخلاص الإيمان وموالاة اليهود.
وقرأ الابنان ونافع : بغير واو ، كأنه جواب قائل ما يقول المؤمنون حينئذ.
فقيل : يقول الذين آمنوا ، وكذا هي في مصاحف أهل مكة والمدينة.
وقرأ الباقون : بالواو ، ونصب اللام أبو عمرو ، ورفعها الكوفيون.
وروى علي بن نصر عن أبي عمر : والرفع والنصب ، وقالوا : وهي في مصاحف الكوفة وأهل المشرق.
والواو عاطفة جملة على جملة ، هذا إذا رفع اللام ، ومع حذف الواو الاتصال موجود في الجملة الثانية ، ذكر من الجملة السابقة إذ الذين يسارعون وقالوا : نخشى ، ويصبحوا هم الذين قيل فيهم : أهؤلاء الذين أقسموا ، وتارة يكتفي في الاتصال بالضمير ، وتارة يؤكد بالعطف بالواو.
والظاهر أنّ هذا القول هو صادر من المؤمنين عند رؤية الفتح كما قدمنا.
قيل : ويحتمل أن يكون في وقت الذين في قلوبهم مرض يقولون : { نخشى أن تصيبنا دائرة } وعندما ظهر سؤالهم في أمر بني قينقاع وسؤال عبد الله بن أبي فيهم ، ونزل الرسول إياهم له ، وإظهار عبد الله أن خشية الدوائر هي خوفه على المدينة ومن بها من المؤمنين ، وقد علم كل مؤمن أنه كاذب في ذلك ، فكان فعله ذلك موطناً أن يقول المؤمنون ذلك.
وأما قراءة ويقول بالنصب ، فوجهت على أنّ هذا القول لم يكن إلا عند الفتح ، وأنه محمول على المعنى ، فهو معطوف على أن يأتي ، إذ معنى : فعسى الله أن يأتي ، معنى فعسى أن يأتي الله ، وهذا الذي يسميه النحويون العطف على التوهم ، يكون الكلام في قالب فيقدره في قالب آخر ، إذ لا يصح أن يعطف ضمير اسم الله ولا شيء منه.
وأجاز ذلك أبو البقاء على تقدير ضمير محذوف أي : ويقول الذين آمنوا به ، أي بالله.
فهذا الضمير يصح به الربط ، أو هو معطوف على أن يأتي على أن يكون أن يأتي بدلاً من اسم الله لا خبراً ، فتكون عسى إذ ذاك تامة لا ناقصة ، كأنك قلت : عسى أن يأتي ، ويقول : أو معطوف على فيصبحوا ، على أن يكون قوله : فيصبحوا منصوباً بإضمار أن جواباً لعسى ، إذ فيها معنى التمني.

وقد ذكرنا أنّ في هذا الوجه نظر ، أو هل هو تجري عسى في الترجي مجرى ليت في التمني؟ أم لا تجري؟ وذكر هذا الوجه ابن عطية عن أبي يعلى ، وتبعه ابن الحاجب ، ولم يذكر ابن الحاجب غيره.
وعسى من الله واجبة فلا ترجى فيها ، وكلا الوجهين قبله تخريج أبي عليّ.
وخرجه النحاس على أن يكون معطوفاً على قوله : { بالفتح } بأن يفتح ، ويقول : ولا يصحّ هذا لأنه قد فصل بينهما بقوله : أو أمر من عنده ، وحقه أن يكون بلعه لأن المصدر ينحل لأن والفعل ، فالمعطوف عليه من تمامه ، فلا يفصل بينهما.
وهذا إن سلم أنّ الفتح مصدر ، فيحل لأن والفعل.
والظاهر أنه لا يراد به ذلك ، بل هو كقولك : يعجبني من زيد ذكاؤه وفهمه ، لا يراد به انحلاله ، لأن والفعل وعلى تقدير ذلك فلا يصح أيضاً ، لأن المعنى ليس على : فعسى الله أن يأتي ، بأن يقول الذين آمنوا كذا.
ولأنه يلزم من ذلك الفصل بين المتعاطفين بقوله : { فيصبحوا } وهو أجنبي من المتعاطفين ، لأن ظاهر فيصبحوا أن يكون معطوفاً على أن يأتي ، ونظيره قولك : هند الفاسقة أراد زيد إذايتها بضرب أو حبس وإصباحها ذليلة ، وقول أصحابه : أهذه الفاسقة التي زعمت أنها عفيفة؟ فيكون وقول معطوفاً على بضرب.
وقال ابن عطية : عندي في منع جواز عسى الله أن يقول المؤمنون نظر ، إذ الذين نصرهم يقولون : ننصره بإظهار دينه ، فينبغي أن يجوز ذلك انتهى.
وهذا الذي قاله راجع إلى أن يصير سبباً لأنه صار في الجملة ضمير عائد على الله ، وهو تقديره بنصره وإظهار دينه ، وإذا كان كذلك فلا خلاف في الجواز.
وإنما منعوا حيث لا يكون رابط وانتصاب جهد على أنه مصدر مؤكد ، والمعنى : أهؤلاء هم المقسمون باجتهاد منهم في الإيمان أنهم معكم؟ ثم ظهر الآن من موالاتهم اليهود ما أكذبهم في أيمانهم.
ويجوز أن ينتصب على الحال ، كما جوّزوا في فعلته جهدك وقوله : إنهم لمعكم ، حكاية لمعنى القسم لا للفظهم ، إذ لو كان لفظهم لكان إنا لمعكم.
{ حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين } ظاهره أنه من جملة ما يقوله المؤمنون اعتماداً في الإخبار على ما حصل في اعتقادهم أي : بطلت أعمالهم إن كانوا يتكفلونها في رأي العين.
قال الزمخشري : وفيه معنى التعجب كأنه قيل : ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم! ويحتمل أن يكون إخباراً من الله تعالى ، ويحتمل أن لا يكون خبراً بل دعاء إما من الله تعالى ، وإما من المؤمنين.
وحبط العمل هنا هو على معنى التشبيه ، وإلا فلا عمل له في الحقيقة فيحبط وجوز الحوفي أن يكون حبطت أعمالهم خبراً ثانياً عن هؤلاء ، والخبر الأول هو قوله الذين أقسموا ، وأن يكون الذين ، صفة لهؤلاء ، ويكون حبطت هو الخبر.

وقد تقدم ذكر قراءة أبي واقد والجراح حبطت بفتح الباء وأنها لغة.
{ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } وابن كعب والضحاك والحسن وقتادة وابن جريج وغيرهم : نزلت خطاباً للمؤمنين عامة إلى يوم القيامة.
ومن يرتد جملة شرطية مستقلة ، وهي إخبار عن الغيب.
وتعرض المفسرون هنا لمن ارتد في قصة طويلة نختصرها ، فنقول : ارتد في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم مذ حج ورئيسهم عبهلة بن كعب ذو الخمار ، وهو الأسود العنسي قتله فيروز على فراشه ، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله ، وسمى قاتله ليلة قتل.
ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد ، وأتى خبر قتله في آخر ربيع الأول وبنو حنيفة رئيسهم مسيلمة قتله وحشي ، وبنو أسد رئيسهم طليحة بن خويلد هزمه خالد بن الوليد ، وأفلت ثم أسلم وحسن إسلامه.
هذه ثلاث فرق ارتدت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتنبأ رؤساؤهم.
وارتد في خلافة أبي بكر رضي الله عنه سبع فرق.
فزارة قوم عيينة بن حصن ، وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري ، وسليم قوم الفجاه بن عبد يا ليل ، ويربوع قوم مالك بن نويرة ، وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر وقد تنبأت وتزوجها مسيلمة وقال : الشاعر :
أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها . . .
وأصبحت أنبياء الله ذكرانا
وقال أبو العلاء المعري :
أمت سجاح ووالاها مسيلمة . . .
كذابة في بني الدنيا وكذاب
وكندة قوم الأشعث ، وبكر بن وائل بالبحرين قوم الحظم بن يزيد.
وكفى الله أمرهم على يدي أبي بكر رضي الله عنه.
وفرقة في عهد عمر : غسان قوم جبلة بن الأيهم نصرته اللطمة وسيرته إلى بلد الروم بعد إسلامه.
وفي القوم الذين يأتي الله بهم : أبو بكر وأصحابه ، أو أبو بكر وعمر وأصحابهما ، أو قوم أبي موسى ، أو أهل اليمن ألفان من البحر وخمسة آلاف من كندة وبجيلة ، وثلاثة آلاف من أخلاط الناس جاهدوا أيام القادسية أيام عمر.
أو الأنصار ، أو هم المهاجرون ، أو أحياء من اليمن من كندة وبجيلة وأشجع لم يكونوا وقت النزول قاتل بهم أبو بكر في الردة ، أو القربى ، أو علي بن أبي طالب قاتل الخوارج أقوال تسعة.
وفي المستدرك لأبي عبد الله الحاكم بإسناد : أنه لما نزلت أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى الأشعري فقال قوم : هذا.
وهذا أصح الأقوال ، وكان لهم بلاء في الإسلام زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعامة فتوح عمر على أيديهم.
وقرأ نافع وابن عامر : من يرتدد بدالين مفكوكاً ، وهي لغة الحجاز.
والباقون بواحدة مشددة وهي لغة تميم.

والعائد على اسم الشرط من جملة الجزاء محذوف لفهم المعنى تقديره : فسوف يأتي الله بقوم غيرهم ، أو مكانهم.
ويحبونه معطوف على قوله : يحبهم ، فهو في موضع جر.
وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المنصوب تقديره : وهم يحبونه انتهى.
وهذا ضعيف لا يسوغ مثله في القرآن.
ووصف تعالى هؤلاء القوم بأنه يحبهم ويحبونه ، محبة الله لهم هي توفيقهم للإيمان كما قال تعالى : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان } وإثابته على ذلك وعلى سائر الطاعات ، وتعظيمه إياهم ، وثناؤه عليهم ، ومحبتهم له طاعته ، واجتناب نواهيه ، وامتثال مأموراته.
وقدم محبته على محبتهم إذ هي أشرف وأسبق.
وقال الزمخشري : وأما ما يعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله ، وأمقتهم للشرع ، وأسوأهم طريقة ، وإن كانت طريقته عند أمثاله من السفهاء والجهلة شيئاً وهم : الفرقة المنفعلة والمتفعلة من الصوف وما يدينون به من المحبة والعشق والتغني على كراسيهم خربها الله ، وفي مراقصهم عطلها الله ، بأبيات الغزل المقولة في المردان الذين يسمونهم شهداء الله وصعقاتهم التي تشبه صعقة موسى عند دك الطور ، فتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ومن كلماته كما أنه بذاته يحبهم ، كذلك يحبون ذاته ، فإن الهاء راجعة إلى الذات دون النعوت والصفات.
ومنها الحب شرطه أن تلحقه سكرات المحبة ، فإذا لم يكن ذلك لم يكن فيه حقيقة انتهى كلام الزمخشري رحمه الله تعالى.
وقال بعض المعاصرين : قد عظم أمر هؤلاء المنفعلة عند العامة وكثر القول فيهم بالحلول والوحدة ، وسر الحروف ، وتفسير القرآن على طريق القرامطة الكفار الباطنية ، وادعاء أعظم الخوارق لأفسق الفساق ، وبغضهم في العلم وأهله ، حتى أن طائفة من المحدثين قصدوا قراءة الحديث على شيخ في خانقاتهم يروي الحديث فبنفس ما قرأوا شيئاً من حديث الرسول.
خرج شيخ الشيوخ الذين هم يقتدون به ، وقطع قراءة الحديث ، وأخرج الشيخ المسمع والمحدثين وقال : روحوا إلى المدارس شوشتم علينا.
ولا يمكنون أحداً من قراءة القرآن جهراً ، ولا من الدرس للعلم.
وقد صح أنّ بعضهم ممن يتكلم بالدهر على طريقتهم ، سمع ناساً في جامع يقرؤون القرآن فصعد كرسيه الذي يهدر عليه فقال : يا أصحابنا شوشوا علينا ، وقام نافضاً ثوبه ، فقام أصحابه وهو يدلهم لقراء القرآن ، فضربوهم أشد الضرب ، وسلّ عليهم السيف من اتباع ذلك الهادر وهو لا ينهاهم عن ذلك.
وقد علم أصحابه كلاماً افتعلوه على بعض الصالحين حفظهم إياه يسردونه حفظاً كالسورة من القرآن ، وهو مع ذلك لا يعلمهم فرائض الوضوء ، ولا سننه ، فضلاً عن غيرها من تكاليف الإسلام.
والعجب أن كلاً من هؤلاء الرؤوس يحدث كلاماً جديداً يعلمه أصحابه حتى يصير لهم شعاراً ، ويترك ما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الأدعية المأثورة المأمور بها.
وفي كتاب الله تعالى على غثاثة كلامهم ، وعاميته ، وعدم فصاحته ، وقلة محصوله ، وهم مستمسكون به كأنه جاءهم به وحي من الله.

ولن ترى أطوع من العوام لهؤلاء يبنون لهم الخوانق والربط ، ويرصدون لهم الأوقاف ، وهم أبغض الناس في العلم والعلماء ، وأحبهم لهذه الطوائف.
والجاهلون لأهل العلم أعداء.
{ أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } هو جمع ذليل لا جمع ذلول الذي هو نقيض الضعف ، لأن ذلولاً لا يجمع على أذلة بل ذلل ، وعدي أذلة بعلى وإن كان الأصل باللام ، لأنه ضمنه معنى الحنو والعطف كأنه قال : عاطفين على المؤمنين على وجه التذلل والتواضع.
قيل : أو لأنه على حذف مضاف التقدير : على فضلهم على المؤمنين ، والمعنى أنهم يذلون ويخضعون لمن فضلوا عليه مع شرفهم وعلو مكانهم ، وهو نظير قوله : { أشداء على الكفار رحماء بينهم } وجاءت هذه الصفة بالاسم الذي فيه المبالغة ، لأن أذلة جمع ذليل وأعزة جمع عزيز ، وهما صفتا مبالغة ، وجاءت الصفة قبل هذا بالفعل في قوله : { يحبهم ويحبونه } لأن الاسم يدل على الثبوت ، فلما كانت صفة مبالغة ، وكانت لا تتجدد بل هي كالغريزة ، جاء الوصف بالاسم.
ولما كانت قبل تتجدد ، لأنها عبارة عن أفعال الطاعة والثواب المترتب عليها ، جاء الوصف بالفعل الذي يقتضي التجدد.
ولما كان الوصف الذي يتعلق بالمؤمن أوكد ، ولموصوفه الذي قدم على الوصف المتعلق بالكافر ، ولشرف المؤمن أيضاً.
ولما كان الوصف الذي بين المؤمن وربه أشرف من الوصف الذي بين المؤمن والمؤمن ، قدّم قوله يحبهم ويحبونه على قوله : أذلة على المؤمنين.
وفي هذه الآية دليل على بطلان قول من ذهب إلى أن الوصف إذا كان بالاسم وبالفعل لا يتقدم الوصف بالفعل على الوصف بالاسم إلا في ضرورة الشعر نحو قوله :
وفرع يغشى المتن أسود فاحم . . .
إذ جاء ما ادعى أنه يكون في الضرورة في هذه الآية ، فقدم يحبهم ويحبونه وهو فعل على قوله : أذلة وهو اسم.
وكذلك قوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } وقرىء شاذاً أذلة ، وهو اسم وكذا أعزة نصباً على الحال من النكرة إذا قربت من المعرفة بوصفها.
وقرأ عبد الله : غلظاء على الكافرين مكان أعزة.
{ يجاهدون في سبيل الله } أي في نصرة دينه.
وظاهر هذه الجملة أنها صفة ، ويجوز أن تكون استئناف أخبار.
وجوز أبو البقاء أن تكون في موضع نصب حالاً من الضمير في أعزة.
{ ولا يخافون لومة لائم } أي هم صلاب في دينه ، لا يبالون بمن لام فيه.
فمتى شرعوا في أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، أمضوه لا يمنعهم اعتراض معترض ، ولا قول قائل هذان الوصفان أعني : الجهاد والصلابة في الدين هما نتيجة الأوصاف السابقة ، لأنّ من أحب الله لا يخشى إلا إياه ، ومن كان عزيزاً على الكافر جاهد في إخماده واستئصاله.
وناسب تقديم الجهاد على انتفاء الخوف من اللائمين لمحاورته أعزة على الكافرين ، ولأن الخوف أعظم من الجهاد ، فكان ذلك ترقياً من الأدنى إلى الأعلى.

ويحتمل أن تكون الواو في : ولا يخافون ، واو الحال أي : يجاهدون ، وحالهم في المجاهدة غير حال المنافقين ، فإنهم كانوا موالين لليهود ، فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود وتخاذلوا وخذلوا حتى لا يلحقهم لوم من جهتهم.
وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله ، لا يخافون لومة لائم.
ولومة للمرة الواحدة وهي نكرة في سياق النفي.
فتعم أي : لا يخافون شيئاً قط من اللوم.
{ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } الظاهر أنّ ذلك إشارة إلى ما تقدّم من الأوصاف التي تحلى بها المؤمن.
ذكر أنَّ ذلك هو فضل من الله يؤتيه من أراد ، ليس ذلك بسابقة ممن أعطاه إياه ، بل ذلك على سبيل الإحسان منه تعالى لمن أراد الإحسان إليه.
وقيل : ذلك إشارة إلى حب الله لهم وحبهم له.
وقيل : إشارة إلى قوله : أذلة على المؤمنين ، وهو لين الجانب ، وترك الترفع على المؤمن.
قال الزمخشري : يؤتيه من يشاء ممن يعلم أنّ لطفاً انتهى.
وفيه دسيسة الاعتزال.
ويؤتيه استئناف ، أو خبر بعد خبر أو حال.
{ والله واسع عليم } أي واسع الإحسان والإفضال عليم بمن يضع ذلك فيه.
{ إنما وليكم الله ورسوله } لما نهاهم عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ، بيّن هنا من هو وليهم ، وهو الله ورسوله.
وفسر الولي هنا بالناصر ، أو المتولي الأمر ، أو المحب.
ثلاثة أقوال ، والمعنى : لا وليّ لكم إلا الله.
وقال : وليكم بالأفراد ، ولم يقل أولياؤكم وإن كان المخبر به متعدداً ، لأن ولياً اسم جنس.
أو لأنّ الولاية حقيقة هي لله تعالى على سبيل التأصل ، ثم نظم في سلكه من ذكر على سبيل التبع ، ولو جاء جمعاً لم يتبين هذا المعنى من الأصالة والتبعية.
وقرأ عبد الله : مولاكم الله.
وظاهر قوله : والذين آمنوا ، عموم من آمن من مضى منهم ومن بقي قاله الحسن.
وسئل الباقر عمن نزلت فيه هذه الآية ، أهو على؟ فقال : عليّ من المؤمنين.
وقيل : الذين آمنوا هو عليّ رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل ، ويكون من إطلاق الجمع على الواحد مجازاً.
وقيل ابن سلام وأصحابه.
وقيل : عبادة لما تبرأ من حلفائه اليهود.
وقيل : أبو بكر رضي الله عنه ، قاله عكرمة.
{ والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } هذه أوصاف ميز بها المؤمن الخالص الإيمان من المنافق ، لأن المنافق لا يدوم على الصلاة ولا على الزكاة.
قال تعالى : { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } وقال تعالى : { أشحة على الخير } ولما كانت الصحابة وقت نزول هذه الآية من مقيمي صلاة ومؤتي زكاة ، وفي كلتا الحالتين كانوا متصفين بالخضوع لله تعالى والتذلل له ، نزلت الآية بهذه الأوصاف الجليلة.
والركوع هنا ظاهره الخضوع ، لا الهيئة التي في الصلاة.

وقيل : المراد الهيئة ، وخصت بالذكر لأنها من أعظم أركان الصلاة ، فعبر بها عن جميع الصلاة ، إلا أنه يلزم في هذا القول تكرير الصلاة لقوله : يقيمون الصلاة.
ويمكن أن يكون التكرار على سبيل التوكيد لشرف الصلاة وعظمها في التكاليف الإسلامية.
وقيل : المراد بالصلاة هنا الفرائض ، وبالركوع التنفل.
يقال : فلان يركع إذا تنفل بالصلاة.
وروي أنّ علياً رضي الله عنه تصدّق بخاتمه وهو راكع في الصلاة.
والظاهر من قوله : وهم راكعون ، أنها جملة اسمية معطوفة على الجمل قبلها ، منتظمة في سلك الصلاة.
وقيل : الواو للحال أي : يؤتون الزكاة وهم خاضعون لا يشتغلون على من يعطونهم إياها ، أي يؤتونها فيتصدقون وهم ملتبسون بالصلاة.
وقال الزمخشري.
( فإن قلت ) : الذين يقيمون ما محله؟ ( قلت ) : الرفع على البدل من الذين آمنوا ، أو على هم الذين يقيمون انتهى.
ولا أدري ما الذي منعه من الصفة إذ هو المتبادر إلى الذهن ، لأن المبدل منه في نية الطرح ، وهو لا يصح هنا طرح الذين آمنوا لأنه هو الوصف المترتب عليه صحة ما بعده من الأوصاف.
{ ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } يحتمل أن يكون جواب مَن محذوفاً لدلالة ما بعده عليه ، أي : يكن من حزب الله ويغلب.
ويحتمل أن يكون الجواب : فإن حزب الله ، ويكون من وضع الظاهر موضع المضمر أي : فإنهم هم الغالبون.
وفائدة وضع الظاهر هنا موضع المضمر الإضافة إلى الله تعالى فيشرفون بذلك ، وصاروا بذلك أعلاماً.
وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمر حزبهم.
وقال الزمخشري : ويحتمل أنْ يريد حزب الله والرسول والمؤمنين ، ويكون المعنى : ومن يتولهم فقد تولى حزب الله ، واعتضد بمن لا يغالب انتهى.
وهو قلق في التركيب.
قال ابن عطية : أي فإنه غالب كل من ناوأه ، وجاءت العبارة عامة أنّ حزب الله هم الغالبون اختصاراً ، لأن هذا المتولي هو من حزب الله ، وحزب الله غالب ، فهذا الذي تولى الله ورسوله غالب.
ومن يراد بها الجنس لا مفرد ، وهم هنا يحتمل أن يكون فصلاً ، ويحتمل أن يكون مبتدأ.
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزؤاً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء } قال ابن عباس : كان رفاعة بن زيد وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثم نافقاً ، وكان رجال من المسلمين يوادونهما فنزلت.
ولما نهى تعالى المؤمنين عن اتخاذ الكفار والنصارى أولياء ، نهى عن اتخاذ الكفار أولياء يهوداً كانوا أو نصارى ، أو غيرهما.
وكرر ذكر اليهود والنصارى بقوله : من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، وإن كانوا مندرجين في عموم الكفار على سبيل النص على بعض أفراد العام لسبقهم في الذكر في الآيات قبل ، ولأنه أوغل في الاستهزاء ، وأبعد انقياداً للإسلام ، إذ يزعمون أنهم على شريعة إلهية.

ولذلك كان المؤمنون من المشركين في غاية الكثرة ، والمؤمنون من اليهود والنصارى في غاية القلة.
وقيل : أريد بالكفار المشركون خاصة ، ويدل عليه قراءة عبد الله : ومن الذين أشركوا.
قال ابن عطية : وفرقت الآية بين الكفار وبين الذين أوتوا الكتاب ، من حيث الغالب في اسم الكفر أن يقع على المشركين بالله إشراك عبادة الأوثان ، لأنّهم أبعد شأواً في الكفر.
وقد قال : { جاهد الكفار والمنافقين } ففرق بينهم إرادة البيان.
والجميع كفار ، وكانوا عبدة الأوثان ، هم كفار من كل جهة.
وهذه الفرق تلحق بهم في حد الكفر ، وتخالفهم في رتب.
فأهل الكتاب يؤمنون بالله وببعض الأنبياء ، والمنافقون يؤمنون بألسنتهم انتهى.
وقال الزمخشري : وفصل المستهزئين بأهل الكتاب على المشركين خاصة انتهى.
ومعنى الآية : أنّ من اتخذ دينكم هزواً ولعباً لا يناسب أنْ يتخذ ولياً ، بل يعادي ويبغض ويجانب.
واستهزاؤهم قيل : بإظهار الإسلام ، وإخفاء الكفر.
وقيل : بقولهم للمسلمين : احفظوا دينكم ودوموا عليه فإنه الحق ، وقول بعضهم لبعض : لعبنا بعقولهم وضحكنا عليهم.
وقال ابن عباس : ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم ، وتقدم القول في القراءة في هزؤاً.
وقرأ النحويان : والكفار خفضاً.
وقرأ أبي : ومن الكفار بزيادة من.
وقرأ الباقون : نصباً وهي رواية الحسين الجعفي عن أبي عمرو ، وإعراب الجر والنصب واضح.
{ واتقوا الله إن كنتم مؤمنين } لما نهى المؤمنون عن اتخاذهم أولياء ، أمرهم بتقوى الله ، فإنها هي الحاملة على امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
أي : اتقوا الله في موالاة الكفار ، ثم نبه على الوصف الحامل على التقوى وهو الإيمان أي : من كان مؤمناً حقاً يأبى موالاة أعداء الدّين.
{ وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً } قال الكلبي : كانوا إذا نودي بالصلاة قام المسلمون إليها فتقول اليهود : قاموا لا قاموا ، صلوا لا صلوا ، ركعوا لا ركعوا ، على طريق الاستهزاء والضحك فنزلت.
وقال السدي : كان نصراني بالمدينة يقول إذا سمع المؤذن يقول : أشهد أن محمداً رسول الله ، أحرق الكاذب ، فطارت شرارة في بيته فاحترق هو وأهله ، فنزلت.
وقيل : حسد اليهود الرسول حين سمعوا الآذان وقالوا : ابتدعت شيئاً لم يكن للأنبياء ، فمن أين لك الصياح كصياح العير؟ فما أقبحه من صوت.
فأنزل الله هذه الآية.
وأنزل : { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله } الآية انتهى.
والمعنى : إذا نادى بعضكم إلى الصلاة ، لأن الجميع لا ينادون.
ولما قدم أنهم الذين اتخذوا الدين هزواً ولعباً اندرج في ذلك جميع ما انطوى عليه الدّين ، فجرد من ذلك أعظم أركان الدين ونص عليه بخصوصه وهي الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه ، فنبه على أنّ من استهزأ بالصلاة ينبغي أن لا يتخذ ولياً ويطرد ، فهذه الآية جاءت كالتوكيد للآية قبلها.
وقال بعض العلماء : في هذه الآية دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب ، لا بالمنام وحده انتهى.
ولا دليل في ذلك على مشروعيته لأنه قال وإذا ناديتم ، ولم يقل نادوا على سبيل الأمر ، وإنما هذه جملة شرطية دلت على سبق المشروعية لا على إنشائها بالشرط.

والظاهر أن الضمير في اتخذوها عائد على الصلاة ، ويحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من ناديتم أي : اتخذوا المناداة والهزء والسخرية واللعب الأخذ في غير طريق.
{ ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } أي ذلك الفعل منهم ، ونفي العقل عنهم لما لم ينتفعوا به في الدين ، واتخذوا دين الله هزواً ولعباً ، فعل من لا عقل له.
{ قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وإنّ أكثركم فاسقون } قال ابن عباس : أتى نفر من يهود فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال : أؤمن بالله : { وما أنزل إلينا - إلى قوله - ونحن له مسلمون } فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى ، ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ، ولا ديناً شراً من دينكم ، فنزلت.
والمعنى : هل تعيبون علينا ، أو تنكرون ، وتعدون ذنباً ، أو نقيصة ما لا ينكر ولا يعاب ، وهو الإيمان بالكتب المنزلة كلها؟ وهذه محاورة لطيفة وجيزة تنبه الناقم على أنه ما نقم عليه إلا ما لا ينقم ولا يعد عيباً ونظيره قول الشاعر :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم . . .
بهن فلول من قراع الكتائب
والخطاب قيل : للرسول ، وهو بمعنى ما النافية.
وقرأ الجمهور : تنقمون بكسر القاف ، والماضي نقم بفتحها ، وهي التي ذكرها ثعلب في الفصيح.
ونقم بالكسر ، ينقم بالفتح لغة حكاها الكسائي وغيره.
وقرأ بها أبو حيوة والنخعي وابن أبي عبلة وأبو البر هشيم ، وفسر تنقمون بتسخطون وتتكرهون وتنكرون وتعيبون وكلها متقاربة.
وإلا أن آمنا استثناء فرغ له الفاعل.
وقرأ الجمهور : أنزل مبنياً للفاعل ، وذلك في اللفظين ، وقرأهما أبو نهيك : مبنيين للفاعل ، وقرأ نعيم بن ميسرة : وإن أكثركم فاسقون بكسر الهمزة ، وهو واضح المعنى ، أمره تعالى أن يقول لهم هاتين الجملتين ، وتضمنت الأخبار بفسق أكثرهم وتمردهم.
وقرأ الجمهور : بفتح همزة أن وخرج ذلك على أنها في موضع رفع ، وفي موضع نصب ، وفي موضع جر.
فالرّفع على الابتداء.
وقدر الزمخشري الخبر مؤخراً محذوفاً أي : وفسق أكثركم ثابت معلوم عندكم ، لأنكم علمتم أنا على الحق ، وأنكم على الباطل ، إلا أنّ حب الرّياسة والرشا يمنعكم من الاعتراف.
ولا ينبغي أن يقدم الخبر إلا مقدماً أي : ومعلوم فسق أكثركم ، لأن الأصح أن لا يبدأ بها متقدّمة إلا بعد أما فقط.
والنصب من وجوه : أحدها : أن يكون معطوفاً على أن آمنا أي : ما تنقمون منا إلا إيماننا وفسق أكثركم ، فيدخل الفسق فيما نقموه ، وهذا قول أكثر المتأوّلين.
ولا يتجه معناه لأنهم لا يعتقدون فسق أكثرهم ، فكيف ينقمونه ، لكنه يحمل على أن المعنى ما تنقمون منا إلا هذا المجموع من إنا مؤمنون وأكثركم فاسقون ، وإن كانوا لا يسلمون إن أكثرهم فاسقون ، كما تقول : ما تنقم مني إلا أني صدّقت وأنت كذبت ، وما كرهت مني إلا أني محبب إلى الناس وأنت مبغض ، وإن كان لا يعترف أنه كاذب ولا أنه مبغض ، وكأنه قيل : ما تنقمون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا في الإسلام وأنتم خارجون.

والوجه الثاني : أن يكون معطوفاً على إن آمنا ، إلا أنه على حذف مضاف تقديره : واعتقادنا فيكم أن أكثركم فاسقون ، وهذا معنى واضح.
ويكون ذلك داخلاً في ما تنقمون حقيقة.
الثالث : أن تكون الواو واو مع ، فتكون في موضع نصب مفعولاً معه التقدير : وفسق أكثرهم أي : تنقمون ذلك مع فسق أكثركم والمعنى : لا يحسن أن تنقموا مع وجود فسق أكثركم كما تقول : تسيء إلي مع أني أحسنت إليك.
الرابع : أن تكون في موضع نصب مفعول بفعل مقدّر يدل عليه ، هل تنقمون تقديره : ولا تنقمون أنّ أكثركم فاسقون.
والجرّ على أنه معطوف على قوله : بما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وبأن أكثركم فاسقون ، والجر على أنه معطوف على علة محذوفة التقدير : ما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم.
ويدل عليه تفسير الحسن بفسقكم نقمتم ذلك علينا.
فهذه سبعة وجوه في موضع إن وصلتها ، ويظهر وجه ثامن ولعله يكون الأرجح ، وذلك أنّ نقم أصلها أن تتعدّى بعلى ، تقول : نقمت على الرجل أنقم ، ثم تبنى منها افتعل فتعدّى إذ ذاك بمن ، وتضمن معنى الإصابة بالمكروه.
قال تعالى : { ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام } ومناسبة التضمين فيها أنّ من عاب على شخص فعله فهو كاره له لا محالة ومصيبه عليه بالمكروه ، وإن قدر ، فجاءت هنا فعل بمعنى افتعل لقولهم : وقد رأوه ، ولذلك عدّيت بمن دون التي أصلها أن يعدي بها ، فصار المعنى : وما تنالون منا أو وما تصيبوننا بما نكره إلا أن آمنا أي : لأنْ آمنا ، فيكون أن آمنا مفعولاً من أجله ، ويكون وإن أكثركم فاسقون معطوفاً على هذه العلة ، وهذا والله أعلم سبب تعديته بمن دون على ، وخص أكثركم بالفسق لأن فيهم من هدي إلى الإسلام ، أو لأنّ فساقهم وهم المبالغون في الخروج عن الطاعة هم الذين يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون تقرّباً إلى الملوك ، وطلباً للجاه والرياسة ، فهم فساق في دينهم لا عدول ، وقد يكون الكافر عدلاً في دينه ، ومعلوم أنّ كلهم لم يكونوا عدولاً في دينهم ، فلذلك حكم على أكثرهم بالفسق.
{ قل هل أنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت } الخطاب بالأمر للرسول صلى الله عليه وسلم وتضمن الخطاب لأهل الكتاب الذين أمر أن يناديهم أو يخاطبهم بقوله تعالى : يا أهل الكتاب هل تنقمون منا ، هذا هو الظاهر.

قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون ضمير الخطاب للمؤمنين أي : قل يا محمد للمؤمنين هل أنبئكم بشر من حال هؤلاء الفاسقين في وقت الرجوع إلى الله ، أولئك أسلافهم الذين لعنهم الله وغضب عليهم ، وتكون الإشارة بذلك إلى حالهم انتهى.
فعلى هذا الإضمار يكون قوله : بشرّ أفعل تفضيل باقية على أصل وضعها من كونها تدل على الاشتراك في الوصف ، وزيادة الفضل على المفضل عليه في الوصف ، فيكون ضلال أولئك الأسلاف وشرهم أكثر من ضلال هؤلاء الفاسقين ، وإن كان الضمير خطاباً لأهل الكتاب ، فيكون شرّ على بابها من التفضيل على معتقد أهل الكتاب إذ قالوا : ما نعلم ديناً شرًّا من دينكم.
وفي الحقيقة لا ضلال عند المؤمنين ، ولا شركة لهم في ذلك مع أهل الكتاب ، وذلك كما ذكرنا إشارة إلى دين المؤمنين ، أو حال أهل الكتاب ، فيحتاج إلى حذف مضاف : إما قبله ، وإما بعده.
فيقدر قبله : بشرّ من أصحاب هذه الحال ، ويقدر بعده : حال من لعنه الله ولكون { لعنه الله } إن اسم الإشارة يكون على كل حال من تأنيث وتثنية وجمع كما يكون للواحد المذكر ، فيحتمل أن يكون ذلكم من هذه اللغة ، فيصير إشارة إلى الأشخاص كأنه قال : بشرّ من أولئكم ، فلا يحتاج إلى تقدير مضاف ، لا قبل اسم الإشارة ، ولا بعده ، إذ يصير من لعنه الله تفسير أشخاص بأشخاص.
ويحتمل أن يكون ذلكم أيضاً إشارة إلى متشخص ، وأفرد على معنى الجنس كأنه قال : قل هل أنبئكم بشر من جنس الكتابي ، أو من جنس المؤمن ، على اختلاف التقديرين اللذين سبقا ، ويكون أيضاً من لعنه الله تفسير شخص بشخص.
وقرأ النخعي وابن وثاب : أنبئكم من أنبأ ، وابن بريدة ، والأعرج ، ونبيج ، وابن عمران : مثوبة كمعورة.
والجمهور : من نبأ ومثوبة كمعونة.
وتقدّم توجيه القراءتين في { لمثوبة من عند الله } وانتصب مثوبة هنا على التمييز ، وجاء التركيب الأكثر الأفصح من تقديم المفضل عليه على التمييز كقوله : { ومن أصدق من الله حديثاً } وتقديم التمييز على المفضل أيضاً فصيح كقوله : { ومَن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله } وهذه المثوبة هي في الحشر يوم القيامة.
فإن لوحظ أصل الوضع فالمعنى مرجوعاً ، ولا يدل إذ ذاك على معنى الإحسان.
وإن لوحظ كثرة الاستعمال في الخير والإحسان ، فوضعت المثوبة هنا موضع العقوبة على طريقة بينهم في : « تحية بينهم ضرب وجيع » { فبشرهم بعذاب أليم } ومن في موضع رفع كأنه قيل : من هو؟ فقيل : هو من لعنه الله.
أو في موضع جر على البدل من قوله : بشر.
وجوّزوا أن يكون في موضع نصب على موضع بشر أي : أنبئكم من لعنه الله.
ويحتمل من لعنه الله أن يراد به أسلاف أهل الكتاب كما تقدّم ، أو الأسلاف والأخلاف ، فيندرج هؤلاء الحاضرون فيهم.

والذي تقتضيه الفصاحة أن يكون من وضع الظاهر موضع الضمير تنبيهاً على الوصف الذي حصل به كونه شراً مثوبة ، وهي اللعنة والغضب.
وجعل القردة والخنازير منهم ، وعبد الطاغوت ، وكأنه قيل : قل هل أنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله أنتم أي : هو أنتم.
ويدل على هذا المعنى قوله بعد : { وإذا جاءُوكم قالوا آمنا } فيكون الضمير واحداً.
وقرأ أبي وعبد الله : من غضب الله عليهم ، وجعلهم قردة وخنازير ، وجعل هنا بمعنى صير.
وقال الفارسي : بمعنى خلق ، لأن بعده وعبد الطاغوت ، وهو معتزلي لا يرى أنّ الله يصير أحداً عابد طاغوت.
وتقدّم الكلام في مسخهم قردة في البقرة.
وأما الذين مسخوا خنازير فقيل : شيوخ أصحاب السبت ، إذ مسح شبانهم قردة قاله : ابن عباس.
وقيل : أصحاب مائدة عيسى.
وذكرت أيضاً قصة طويلة في مسخ بني إسرائيل خنازير ملخصها : أنّ امرأة منهم مؤمنة قاتلت ملك مدينتها ومن معه ، وكانوا قد كفروا بمن اجتمع إليها ممن دعته إلى الجهاد ثلاث مرات وأتباعها يقتلون ، وتنفلت هي ، فبعد الثالثة سببت واستبرأت في دينها ، فمسخ الله أهل المدينة خنازير في ليلتهم تثبيتاً لها على دينها ، فلما رأتهم قالت : اليوم علمت أن الله أعز دينه وأقره ، فكان المسخ خنازير على يدي هذه المرأة ، وتقدم تفسير الطاغوت.
وقرأ جمهور السبعة : وعبد الطاغوت.
وقرأ أبيّ : وعبدوا الظاغوت.
وقرأ الحسن في رواية : وعبد الطاغوت بإسكان الباء.
وخرجه ابن عطية : على أنه أراد وعبداً منوّناً فحذف التنوين كما حذف في قوله : { ولا ذاكر الله إلا قليلاً } ولا وجه لهذا التخريج ، لأن عبداً لا يمكن أن ينصب الطاغوت ، إذ ليس بمصدر ولا اسم فاعل ، والتخريج الصحيح أن يكون تخفيفاً من عبد بفتحها كقولهم : في سلف سلف.
وقرأ ابن مسعود في رواية : عُبد بضم الباء نحو شرف الرجل أي : صار له عبد كالخلق والأمر المعتاد قاله : ابن عطية : وقال الزمخشري : أي صار معبوداً من دون الله كقولك : أمر إذا صار أميراً انتهى.
وقرأ النخعيّ وابن القعقاع والأعمش في رواية هارون ، وعبد الطاغوت مبنياً للمفعول ، كضرب زيد.
وقرأ عبد الله في رواية : وعبدت الطاغوت مبنياً للمفعول ، كضربت المرأة.
فهذه ست قراءآت بالفعل الماضي ، وإعرابها واضح.
والظاهر أنّ هذا المفعول معطوف على صلة من وصلت بلعنه ، وغضب ، وجعل ، وعبد ، والمبني للمفعول ضعفه الطبري وهو يتجه على حذف الرابط أي : وعبد الطاغوت فيهم أو بينهم.
ويحتمل أن يكون وعبد ليس داخلاً في الصلة ، لكنه على تقدير من ، وقد قرأ بها مظهرة عبد الله قرأ ، ومن عبد فإما عطفاً على القردة والخنازير ، وإما عطفاً على من قوله : من لعنه الله.
وقرأ أبو واقد الأعرابي : وعباد الطاغوت جمع عابد ، كضرّاب زيد.

وقرأ ابن عباس في رواية ، وجماعة ، ومجاهد ، وابن وثاب : وعبد الطاغوت جمع عبد ، كرهن ورهن.
وقال ثعلب : جمع عابد كشارف وشرف.
وقال الزمخشري تابعاً للأخفش : جمع عبيد ، فيكون إذ ذاك جمع جمع وأنشدوا :
أنسب العبد إلى آبائه . . .
اسود الجلدة من قوم عبد
وقرأ الأعمش وغيره : وعبد الطاغوت جمع عابد ، كضارب وضرب.
وقرأ بعض البصريين : وعباد الطاغوت جمع عابد كقائم وقيام ، أو جمع عبد.
أنشد سيبويه :
أتوعدني بقومك يا ابن حجل . . .
اسابات يخالون العبادا
وسمى عرب الحيرة من العراق لدخولهم في طاعة كسرى : عباداً.
وقرأ ابن عباس في رواية : وعبيد الطاغوت جمع عبيد ، نحو كلب وكليب.
وقرأ عبيد بن عمير : وأعبد الطاغوت جمع عبد كفلس وأفلس.
وقرأ ابن عباس وابن أبي عبلة : وعبد الطاغوت يريد وعبدة جمع عابد ، كفاجر وفجرة ، وحذف التاء للإضافة ، أو اسم جمع كخادم وخدم ، وغائب وغيب.
وقرىء : وعبدة الطاغوت بالتاء نحو فاجر وفجرة ، فهذه ثمان قراءات بالجمع المنصوب عطفاً على القردة والخنازير مضافاً إلى الطاغوت.
وقرىء وعابدي.
وقرأ ابن عباس في رواية : وعابدوا.
وقرأ عون العقيلي : وعابد ، وتأولها أبو عمرو على أنها عآبد.
وهذان جمعا سلامة أضيفا إلى الطاغوت ، فبالتاء عطفاً على القردة والخنازير ، وبالواو عطفاً على من لعنه الله أو على إضمارهم.
ويحتمل قراءة عون أن يكون عابد مفرداً اسم جنس.
وقرأ أبو عبيدة : وعابد على وزن ضارب مضافاً إلى لفظ الشيطان ، بدل الطاغوت.
وقرأ الحسن : وعبد الطاغوت على وزن كلب.
وقرأ عبد الله في رواية : وعبد على وزن حطم ، وهو بناء مبالغة.
وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة : وعبد على وزن يقظ وندس ، فهذه أربع قراءات بالمفرد المراد به الجنس أضيفت إلى الطاغوت.
وفي القراءة الأخيرة منها خلاف بين العلماء.
قال نصير النحوي صاحب الكسائي وهو وهم ممن قرأ به ، وليسأل عنه العلماء حتى نعلم أنه جائز.
وقال الفراء : إن يكن لغة مثل حذر وعجل فهو وجه ، وإلا فلا يجوز في القراءة.
وقال أبو عبيد : إنما معنى العبد عندهم إلا عبد ، يريدون خدم الطاغوت ، ولم نجد هذا يصح عن أحد من فصحاء العرب أن العبد يقال فيه عبد ، وإنما هو عبد وأعبد بالألف.
وقال أبو علي : ليس في أبنية المجموع مثله ، ولكنه واحد يراد به الكثرة ، وهو بناء يراد به المبالغة ، فكأن هذا قد ذهب في عبادة الطاغوت.
وقال الزمخشري : ومعناه العلو في العبودية كقولهم : رجل حذر فطن للبليغ في الحذر والفطنة.
قال الشاعر :
أبني لبيني أن أمكم . . .
أمة وإن أباكم عبد
انتهى.
وقال ابن عطية : عبد لفظ مبالغة كيقظ وندس ، فهو لفظ مفرد يراد به الجنس ، وبنى بناء الصفات لأن عبداً في الأصل صفة وإن كان يستعمل استعمال الأسماء ، وذلك لا يخرجه عن حكم الصفة ، ولذلك لم يمتنع أن يبني منه بناء مبالغة.

وأنشد أبني لبيني البيت ، وقال : ذكره الطبري وغيره بضم الباء انتهى.
وعد ابن مالك في أبنية أسماء الجمع فعلاً فقال : ومنها فعل كنحو سمر وعبد.
وقرأ ابن عباس فيما روى عنه عكرمة : وعبد الطاغوت جمع عابد كضارب وضرب ، ونصب الطاغوت أراد عبداً منوناً فحذف التنوين لالتقاء الساكنين كما قال : { ولا ذاكر الله إلا قليلاً } فهذه إحدى وعشرون قراءة بقراءة بريد ، تكون اثنين وعشرين قراءة.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف جاز أن يجعل الله منهم عباد الطاغوت؟ ( قلت ) : فيه وجهان : أحدهما : أنه خذلهم حتى عبدوها ، والثاني : أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به كقولهم : { واجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً } انتهى.
وهذا على طريق المعتزلة ، وتقدم تفسير الطاغوت.
وقرأ الحسن : الطواغيت.
وروي أنه لما نزلت كان المسلمون يعيرون اليهود يقولون : يا أخوة القردة والخنازير ، فينكسون رؤوسهم.
{ أولئك شر مكاناً } الإشارة إلى الموصوفين باللعنة وما بعدها ، وانتصب مكاناً على التمييز.
فإن كان ذلك في الآخرة أن يراد بالمكان حقيقة ، إذ هو جهنم ، وإن كان في الدنيا فيكون كناية واستعارة للمكانة في قوله : أولئك شر ، لدخوله في ياب الكناية كقولهم : فلان طويل النجاد وهي إشارة إلى الشيء بذكر لوزامه وتوابعه قبل المفضول ، وهو مكان المؤمنين ، ولا شر في مكانهم.
وقال الزجاج : شر مكاناً على قولكم وزعمكم.
وقال النحاس : أحسن ما قيل شرّ مكاناً في الآخرة من مكانكم في الدنيا ، لما يلحقكم من الشر.
وقال ابن عباس : مكانهم سقر ، ولا مكان أشد شراً منه.
والذي يظهر أن المفضول هو غيرهم من الكفار ، لأن اليهود جاءتهم البينات والرسل والمعجزات ما لم يجيء غيرهم كثرة ، فكانوا أبعد ناس عن اتباع الحق وتصديق الرسل وأوغلهم في العصيان ، وكفروا بأنواع من الكفر والرسل ، تنتابهم الغيبة بعد الغيبة ، فأخبر تعالى عنهم بأنهم شر من الكفار.
{ وأضل عن سواء السبيل } أي عن وسط السبيل ، وقصده : أي هم حائرون لا يهتدون إلى مستقيم الطريق.
{ وإذ جاءُوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به } ضمير الغيبة في جاؤوكم لليهود والمعاصرين للرسول وخاصة بالمنافقين منهم قاله : ابن عباس ، وقتادة ، والسدي ، وهو على حذف مضاف.
إذ ظاهر الضمير أنه عائد على من قبله التقدير : وإذا جاؤوكم أهلهم أو نساؤهم.
وتقدم من قولنا : أن يكون من لعنه الله إلى آخره عبارة عن المخاطبين في قوله : { قل يا أهل الكتاب } وأنه مما وضع الظاهر موضع المضمر فكأنه قيل : أنتم فلا يحتاج هذا إلى حذف مضاف.
كان جماعة من اليهود يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهرون له الإيمان نفاقاً فأخبر الله تعالى بشأنهم وأنهم يخرجون كما دخلوا ، لم يتعلقوا بشيء مما سمعوا من تذكير وموعظة ، فعلي هذا الخطاب في جاؤوكم للرسول ، وقيل : للمؤمنين الذين كانوا بحضرة الرسول.

وهاتان الجملتان حالان ، وبالكفر وبه حالان أيضاً أي : ملتبسين.
ولذلك دخلت قد تقريباً لها من زمان الحال ولمعنى آخر وهو : أن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متوقعاً لإظهار ما كتموه ، فدخل حرف التوقع وخالف بين جملتي الحال اتساعاً في الكلام.
وقال ابن عطية : وقوله : وهم ، تخليص من احتمال العبارة أن يدخل قوم بالكفر وهم قد خرجوا به ، فأزال الاحتمال قوله تعالى : وهم قد خرجوا به ، أي هم بأعيانهم انتهى.
والعامل في الحالين آمنا أي : قالوا ذلك وهذه حالهم.
وقيل : معنى هم للتأكيد في إضافة الكفر إليهم ، ونفى أن يكون من الرسول ما يوجب كفرهم من سوء معاملته لهم ، بل كان يلطف بهم ويعاملهم بأحسن معاملة.
فالمعنى : أنهم هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم ، لا أنك أنت الذي تسببت لبقائهم في الكفر.
والذي نقول : إن الجملة الإسمية الواقعة حالاً المصدرة بضمير ذي الحال المخبر عنها بفعل أو اسم يتحمل ضمير ذي الحال آكد من الجملة الفعلية ، من جهة أنه يتكرر فيها المسند إليه فيصير نظير : قام زيد زيد.
ولما كانوا حين جاءوا الرسول أو المؤمنين قالوا : آمنا ملتبسين بالكفر ، كان ينبغي لهم أن لا يخرجوا بالكفر ، لأن رؤيته صلى الله عليه وسلم كافية في الإيمان.
ألا ترى إلى قول بعضهم حين رأى الرسول : علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، مع ما يظهر لهم من خوارق الآيات وباهر الدلالات ، فكان المناسب أنهم وإن كانوا دخلوا بالكفر أن لا يخرجوا به ، بل يخرجون بالرسول مؤمنين ظاهراً وباطناً.
فأكد وصفهم بالكفر بأن.
كرر المسند إليه تنهبياً على تحققهم بالكفر وتماديهم عليه ، وأنَّ رؤية الرسول لم تجد عنهم ، ولم يتأثروا لها.
وكذلك إن كان ضمير الخطاب في : وإذا جاءوكم قالوا آمنا ، كان ينبغي لهم أن يؤمنوا ظاهراً وباطناً لما يرون من اختلاف المؤمنين وتصديقهم للرسول ، والاعتماد على الله تعالى والرغبة في الآخرة ، والزهد في الدنيا ، وهذه حال من ينبغي موافقته.
وكان ينبغي إذ شاهدوهم أن يتبعوهم على دينهم ، وأن يكون إيمانهم بالقول موافقاً لاعتقاد قلوبهم.
وفي الآية دليل على جواز مجيء حالين لذي حال واحد ، إن كانت الواو في : وهم ، واو حال ، لا واو عطف ، خلافاً لمن منع ذلك إلا في أفعل التفضيل.
والظاهر أنّ الدخول والخروج حقيقة.
وقيل : هما استعارة ، والمعنى : تقلبوا في الكفر أي دخلوا في أحوالهم مضمرين الكفر وخرجوا به إلى أحوال أخر مضمرين له ، وهذا هو التقلب.
والحقيقة في الدخول انفصال بالبدن من خارج مكان إلى داخله ، وفي الخروج انفصال بالبدن من داخله إلى خارجة.

{ والله أعلم بما كانوا يكتمون } أي من كفرهم ونفاقهم.
وقيل من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وفي هذا مبالغة في إفشاء ما كانوا يكتمونه من المكر بالمسلمين والكيد والعداوة.
{ وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون } يحتمل ترى أن تكون بصرية ، فيكون يسارعون صفة : وأن تكون علمية ، فيكون مفعولاً ثانياً.
والمسارعة : الشروع بسرعة.
والإثم الكذب.
والعدوان الظلم.
يدل قوله عن قولهم الإثم على ذلك ، وليس حقيقة الإثم الكذب ، إذ الإثم هو المتعلق بصاحب المعصية ، أو الإثم ما يختص بهم ، والعدوان ما يتعدى بهم إلى غيرهم.
أو الإثم الكفر ، والعدوان الاعتداء.
أو الإثم ما كتموه من الإيمان ، والعدوان ما يتعدى فيها.
وقيل : العدوان تعديهم حدود الله أقوال خمسة.
والجمهور على أن السحت هو الرشا ، وقيل : هو الربا ، وقيل : هو الرشا وسائر مكسبهم الخبيث.
وعلق الرؤية بالكثير منهم ، لأن بعصهم كان لا يتعاطى ذلك المجموع أو بعضه ، وأكثر استعمال المسارعة في الخير فكأن هذه المعاصي عندهم من قبيل الطاعات ، فلذلك يسارعون فيها.
والإثم يتناول كل معصية يترتب عليها العقاب ، فجرد من ذلك العدوان وأكل السحت ، وخصا بالذكر تعظيماً لهاتين المعصيتين وهما : ظلم غيرهم ، والمطعم الخبيث الذي ينشأ عنه عدم قبول الأعمال الصالحة.
وقرأ أبو حيوة : العِدوان بكسر ضمة العين ، وتقدم الكلام في ما بعد بئس في قوله : { بئسما اشتروا به } { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحب لبئس ما كانوا يصنعون } لولا تحضيض يتضمن توبيخ العلماء والعباد على سكوتهم عن النهي عن معاصي الله تعالى والأمر بالمعروف.
وقال العلماء : في ما في القرآن آية أشد توبيخاً منها للعلماء.
وقال الضحاك : ما في القرآن أخوف منها ، ونحوه ابن عباس.
والإثم هنا ظاهره الكفر ، أو يراد به سائر أقوالهم التي يترتب عليها الإثم.
وقرأ الجراح وأبو واقد : الربيون مكان الربانيون ، وابن عباس بئس ما كانوا يصنعون بغير لام قسم.
والظاهر أنّ الضمير في كانوا عائد على الربانيين ، والأحبار إذ هم المحدث عنهم والموبخون بعدم النهي.
قال الزمخشري : كل عامل لا يسمى صانعاً ، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه ، وكان المعنى في ذلك : أن مواقع المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها ، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره ، فإذا أفرط في الإنكار كان أشد حالاً من المواقع ، وظهر بذلك الفرق بين ذمِّ متعاطي الذنب ، وبين تارك النهي عنه ، حيث جعل ذلك عملاً وهذا صناعة.
وقد يقال : أنه غاير في ذلك لتفنن الفصاحة ، ولترك تكرار اللفظ.
وفي الحديث : « ما من رجل يجاور قوماً فيعمل بالمعاصي بين ظهرانيهم فلا يأخذون على يديه إلا أوشك أن يعمهم الله منه بعقاب ».

وأوحى إلى يوشع بهلاك أربعين ألفاً من خيار قومه ، وستين ألفاً من شرارهم فقال : يا رب ما بال الأخيار؟ فقال : إنهم لم يغضبوا لغضبى ، وواكلوهم وشاربوهم.
وقال مالك بن دينار : أوحى الله إلى الملائكة أن عذبوا قرية كذا ، فقالت الملائكة : إنّ فيها عبدك العابد فقال : أسمعوني ضجيجه ، فإنه لم يتمعر وجهه أي : لم يحمرّ غضباً.
وكتب بعض العلماء إلى عابد تزهد وانقطع في البادية : إنك تركت المدينة مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومهبط وحيه وآثرت البداوة.
فقال : كيف لا أترك مكاناً أنت رئيسه ، وما رأيت وجهك تمعر في ذات الله قط يوماً أو كلاماً هذا معناه أو قريب من معناه.
وأما زماننا هذا وعلماؤنا وعبادنا فحالهم معروف فيه ، ولم نر في أعصارنا من يقارب السلف في ذلك غير رجل واحد وهو أستاذنا أبو جعفر بن الزبير ، فإن له مقامات في ذلك مع ملوك بلاده ورؤسائهم حمدت فيها آثاره ، ففي بعضها ضرب ونهبت أمواله وخربت دياره ، وفي بعضها أنجاه من الموت فراره ، وفي بعضها جعل السجن قراره.
{ وقالت اليهود يد الله مغلولة } نزلت في فنخاص قاله : ابن عباس.
وقال مقاتل : فيه وفي ابن صوريا ، وعازر بن أبي عازر قالوا ذلك.
ونسب ذلك إلى اليهود ، لأن هؤلاء علماؤهم وهم أتباعهم في ذلك.
واليد في الجارحة حقيقة ، وفي غيرها مجاز ، فيراد بها النعمة تقول العرب : كم يدلي عند فلان ، والقوة والملك والقدرة.
قل : إن الفضل بيد الله ، قال الشاعر :
وأنت على أعباء ملكك ذو يد . . .
أي ذو قدرة ، والتأييد والنصر يد الله مع القاضي حين يقضي ، والقاسم حين يقسم.
وتأتي صلة { مما عملت أيدينا أنعاماً } أي مما عملنا { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } أي الذي له عقدة النكاح.
وظاهر قول اليهود إن لله يداً فإن كانوا أرادوا الجارحة فهو مناسب مذهبهم إذ هو التجسيم ، زعموا أن ربهم أبيض الرأس واللحية ، قاعد على كرسي.
وزعموا أنه فرغ من خلق السموات والأرض يوم الجمعة ، واستلقى على ظهره واضعاً إحدى رجليه على الأخرى للاستراحة.
وردّ الله تعالى ذلك بقوله : { ولم يعي بخلقهنّ } { وما مسنا من لغوب } وظاهر مساق الآية يدل على أنهم أرادوا بغلّ اليد وبسطها المجاز عن البخل والجود ، ومنه { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } ولا يقصد من يتكلم بهذا الكلام إثبات يد ولا غل ولا بسط ، ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازاً عنه ، كأنهما كلامان متعاقبان على حقيقة واحدة ، حتى أنه يستعمله في ملك لا يعطي عطاء قط ، ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وبسطها وقبضها.
وقال حبيب في المعتصم :
تعود بسط الكف حتى لو أنه . . .
ثناها لقبض لم تجبه أنامله
كنى بذلك عن المبالغة في الكرم.

وسبب مقالة اليهود ذلك على ما قال ابن عباس : هو أن الله كان يبسط لهم الرزق ، فلما عصوا أمر الرسول وكفروا به كف عنهم ما كان يبسط لهم فقالوا ذلك.
وقال قتادة : لما استقرض منهم قالوا ذلك وهو بخيل.
وقيل : لما استعان بهم في الديات.
وهذه الأسباب مناسبة لسياق الآية.
وقال قتادة أيضاً : لما أعان النصارى بخت نصر المجوسي على تخريب بيت المقدس قالت اليهود : لو كان صحيحاً لمنعنا منه ، فيده مغلولة.
وقال الحسن : مغلولة عن عذابهم فهي في معنى : { نحن أبناء الله وأحباؤه } وهذان القولان يدفعهما قوله : { بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء }.
وقال الكلبي : كانوا مخصبين وقالوا ذلك عناداً واستهزاء وتهكماً انتهى.
والظاهر أن قولهم : يد الله مغلولة خبر ، وأبعد من ذهب إلى أنه استفهام.
أيد الله مغلولة حيث قتر المعيشة علينا ، وإلى أنها ممسوكة عن العطاء ذهب : ابن عباس ، وقتادة ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج.
أو عن عذابهم إلا تحلة القسم بقدر عبادتهم العجل قاله : الحسن.
أو إلى أن يرد علينا ملكنا.
قال الطبري : غلت أيديهم خبر ، وإيعاد واقع بهم في جهنم لا محالة.
قاله الحسن : أو خبر عنهم في الدنيا جعلهم الله أبخل قوم قاله الزجاج.
وقال مقاتل : أمسكت عن الخير.
وقيل : هو دعاء عليهم بالبخل والنكد ، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله وأنكدهم.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغلِّ الأيدي حقيقة يغللون في الدنيا أسارى ، وفي الآخرة معذبين بإغلال جهنم.
والطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقول : سبني سب الله دابره ، لأن السب أصله القطع.
( فإن قلت ) : كيف جاز أن يدعو الله عليهم بما هو قبيح وهو البخل والنكد؟ ( قلت ) : المراد به الدعاء بالخذلان الذي تقسو به قلوبهم ، فيزيدون بخلاً إلى بخلهم ونكداً إلى نكدهم ، وبما هو مسبب عن البخل والنكد من لصوق العار بهم ، وسوء الأحدوثة التي تخزيهم ، وتمزّق أعراضهم انتهى كلامه.
وأخرجه جار على طريقة الاعتزال.
والذي يظهر أنّ قولهم : يد الله مغلولة ، استعارة عن إمساك الإحسان الصادر من المقهور على الإمساك.
ولذلك جاؤوا بلفظ مغلولة ، ولا يغل إلا المقهور ، فجاء قوله : غلت أيديهم ، دعاء عليهم بغل الأيدي ، فهم في كل بلد مع كل أمة مقهورون مغلوبون ، لا يستطيع أحد منهم أن يستطيل ولا أن يستعلي ، فهي استعارة عن ذلهم وقهرهم ، وأن أيديهم لا تنبسط إلى دفع ضر ينزل بهم ، وذلك مقابلة عما تضمنه قولهم : يد الله مغلولة ، وليست هذه المقالة بدعاً منهم فقد قالوا : { إن الله فقير ونحن أغنياء } { غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا } يحتمل أن يكون خبراً وأن يكون دعاء وبما قالوا يحتمل أن يكون يراد به مقالتهم هذه ويحتمل أن يكون عاماً فيما نسبوه إلى الله مما لا يجوز نسبته إليه ، فتندرج هذه المقالة في عموم ما قالوا.

وقرأ أبو السمال : بسكون العين كما قالوا : في عصر عصرون.
وقال الشاعر :
لو عصر منه البان والمسك انعصر . . .
ويحسن هذه القراءة أنها كسرة بين ضمتين ، فحسن التخفيف.
{ بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } معتقد أهل الحق أن الله تعالى ليس بجسم ولا جارحة له ، ولا يشبه بشيء من خلقه ، ولا يكيف ، ولا يتحيز ، ولا تحله الحوادث ، وكل هذا مقرر في علم أصول الدين.
والجمهور على أن هذا استعارة عن جوده وإنعامه السابغ ، وأضاف ذلك إلى اليدين جارياً على طريقة العرب في قولهم : فلان ينفق بكلتا يديه.
ومنه قوله :
يداك يدا مجد فكف مفيدة . . .
وكفّ إذا ما ضنّ بالمال تنفق
ويؤيد أنّ اليدين هنا بمعنى الإنعام قرينة الإنفاق.
ومن نظر في كلام العرب عرف يقيناً أن بسط اليد وقبضها استعارة للجود والبخل ، وقد استعملت العرب ذلك حيث لا يكون قال الشاعر :
جاد الحمى بسط اليدين بوابل . . .
شكرت نداه تلاعه ووهاده
وقال لبيد :
وغداة ريح قد وزعت وقرة . . .
قد أصبحت بيد الشمال زمامها
ويقال : بسط اليأس كفه في صدري ، واليأس معنى لا عين وقد جعل له كفاً.
قال الزمخشري : ومن لم ينظر في علم البيان عمى عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية ، ولم يتخلص من يد الطاعن إذا عبثت به ثم قال : ( فإن قلت ) : لم ثنيت اليد في بل يداه مبسوطتان وهي مفردة في يد الله مغلولة؟ ( قلت ) : ليكون رد قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفى البخل عنه ، وذلك أن غاية ما يبذله السخي بما له من نفسه ، وأن يعطيه بيديه جميعاً ، فبنى المجاز على ذلك انتهى.
وكلامه في غاية الحسن.
وقيل عن ابن عباس : يداه نعمتاه ، فقيل : هما مجازان عن نعمة الدين ونعمة الدّنيا ، أو نعمة سلامة الأعضاء والحواس ونعمة الرّزق والكفاية ، أو الظاهرة والباطنة ، أو نعمة المطر ونعمة النبات ، وما ورد مما يوهم التجسيم كهذا.
وقوله : { لما خلقت بيدي } و { مما عملت أيدينا } و { يد الله فوق أيديهم } و { لتصنع على عيني } و { تجري بأعيننا } و { هالك إلا وجهه } ونحوها.
فجمهور الأمة أنها تفسر على قوانين اللغة ومجاز الاستعارة وغير ذلك من أفانين الكلام.
وقال قوم منهم القاضي أبو بكر بن الطيب : هذه كلها صفات زائدة على الذات ، ثابتة لله تعالى من غير تشبيه ولا تجديد.
وقال قوم منهم الشعبي ، وابن المسيب ، والثوري : نؤمن بها ونقر كما نصت ، ولا نعين تفسيرها ، ولا يسبق النظر فيها.
وهذان القولان حديث من لم يمعن النظر في لسان العرب ، وهذه المسألة حججها في علم أصول الدين.
وقرأ عبد الله : بسيطتان يقال : يد بسيطة مطلقة بالمعروف.
في مصحف عبد الله : بسطان ، يقال : يده بسط بالمعروف وهو على فعل كما تقول : ناقة صرح ، ومشية سجح ، ينفق كيف يشاء هذا تأكيد للوصف بالسخاء ، وأنه لا ينفق إلا على ما تقتضيه مشيئته ، ولا موضع لقوله تنفق من الإعراب إذ هي جملة مستأنفة ، وقال الحوفي : يجوز أن يكون خبراً بعد خبر ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في مبسوطتان انتهى.

ويحتاج في هذين الإعرابين إلى أن يكون الضمير العائد على المبتدأ ، أو على ذي الحال محذوفاً التقدير : ينفق بهما.
قال الحوفي : كيف سؤال عن حال ، وهي نصب بيشاء انتهى.
ولا يعقل هنا كونها سؤالاً عن حال ، بل هي في معنى الشرط كما تقول : كيف تكون أكون ، ومفعول يشاء محذوف ، وجواب كيف محذوف يدل عليه ينفق المتقدم ، كما يدل في قولك : أقوم إن قام زيد على جواب الشرط والتقدير : ينفق كيف يشاء أن ينفق ينفق ، كما تقول : كيف تشاء أن أضربك أضربك ، ولا يجوز أن يعمل كيف ينفق لأن اسم بالشرط لا يعمل فيه ما قبله إلا إن كان جاراً ، فقد يعمل في بعض أسماء الشرط.
ونظير ذلك قوله : { فيبسطه في السماء كيف يشاء } { وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً } علق بكثير ، لأن منهم مَن آمن ومن لا يزداد إلا طغياناً ، وهذا إعلام للرّسول بفرط عتوهم إذ كانوا ينبغي لهم أن يبادروا بالإيمان بسبب ما أخبرهم به الله تعالى على لسان رسوله من الأسرار التي يكتمونها ولا يعرفها غيرهم ، لكنْ رتبوا على ذلك غير مقتضاه ، وزادهم ذلك طغياناً وكفروا ، وذلك لفرط عنادهم وحسدهم.
وقال الزجاج : كلما نزل عليك شيء كفروا به.
وقال مقاتل : وليزيدن بني النضير ما أنزل إليك من ربك من أمر الرجم والدّماء.
وقيل : المراد بالكثير علماء اليهود.
وقيل : إقامتهم على الكفر زيادة منهم في الكفر.
{ وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } قيل : الضمير في بينهم عائد على اليهود والنصارى ، لأنه جرى ذكرهم في قوله : { لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } ولشمول قوله : { يا أهل الكتاب } للفريقين وهذا قول : الحسن ، ومجاهد.
وقيل : هو عائد على اليهود ، إذ هم جبرية وقدرية وموحدة ومشبهة ، وكذلك فرق النصارى كالملكانية واليعقوبية والنسطورية.
والذي يظهر أن المعنى لا يزالون متباغضين متعادين ، فلا يمكن اجتماع كلمتهم على قتالك ، ولا يقدرون على ضررك ، ولا يصلون إليك ولا إلى أتباعك ، لأن الطائفتين لا توادّ بينهم فيجتمعان على حربك.
وفي ذلك إخبار بالمغيب ، وهو أنه لم يجتمع لحرب المسلمين جيشا يهود ونصارى مذ كان الإسلام إلى هذا الوقت.
وأشار إلى هذا المعنى الزمخشري بقوله : فكلهم أبداً مختلف وقلوبهم شتى ، لا يقع اتفاق بينهم ، ولا تعاضد انتهى.
والعداوة أخص من البغضاء ، لأن كل عدوّ مبغض ، وقد يبغض من ليس بعدوّ.
وقال ابن عطية : وكأنّ العداوة شيء يشهد يكون عنه عمل وحرب ، والبغضاء لا تتجاوز النفوس انتهى كلامه.

{ كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله } قال قوم : هو على حقيقته وليس استعارة ، وهو أن العرب كانت تتواعد للقتال ، وعلامتهم إيقاد نار على جبل أو ربوة ، فيتبادرون والجيش يسري ليلاً فيوقد من مرّ بهم ليلاً النار فيكون إنذاراً ، وهذه عادة لنا مع الروم على جزيرة الأندلس ، يكون قريباً من ديارهم رئية للمسلمين مستخف في جبل في غار ، فإذا خرج الكفار لحرب المسلمين أوقد نار ، فإذا رآها رئية آخر قد أعدّ للمسلمين في قريب من ذلك الجبل أوقد ناراً ، وهكذا إلى أن يصل الخبر للمسلمين في أقرب زمان ، ويعرف ذلك من أي جهة نهر من الكفار ، فيعدّ المسلمون للقائهم.
وقيل : إذا تراءى الجمعان وتنازل العسكران أوقدوا بالليل ناراً مخافة البيات ، فهذا أصل نار الحرب.
وقيل : كانوا إذا تحالفوا على الجدّ في حربهم أوقدوا ناراً وتحالفوا ، فعلى كون النار حقيقة يكون معنى إطفائها أنه ألقى الله الرعب في قلوبهم فخافوا أن يغشوا في منازلهم فيضعون ، فلما تقاعدوا عنهم أطفئوها ، وأضاف تعالى الإطفاء إليه إضافة المسبب إلى سببه الأصلي.
وقال الجمهور : هو استعارة ، وإيقاد النار عبارة عن إظهار الحقد والكيد والمكر بالمؤمنين والاغتيال والقتال ، وإطفاؤها صرف الله عنهم ذلك ، وتفرّق آرائهم ، وحل عزائمهم ، وتفرّق كلمتهم ، وإلقاء الرعب في قلوبهم.
فهم لا يريدون محاربة أحد إلا غلبوا وقهروا ، ولم يقم لهم نصر من الله تعالى على أحد ، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس.
وقيل : خالفوا اليهود فبعث الله عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم بطريق الرومي ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين.
وقال قوم : هذا مثل ضرب لاجتهادهم في المحاربة ، والتهاب شواظ قلوبهم ، وغليان صدورهم.
ومنه الآن حمى الوطيس للجد في الحرب ، وفلان مسعر حرب يهيجها ببسالته ، وضرب الإطفاء مثلاً لإرغام أنوفهم وخذلانهم في كل موطن.
قال مجاهد : هي تبشير للرسول بأنهم كلما حاربوه نصر عليهم ، وإشارة إلى حاضريه من اليهود.
وقال السدّي والربيع وغيرهما : هي إخبار عن أسلافهم منذ عصور هدّ الله ملكهم ، فلا ترفع لهم راية إلى يوم القيامة ، ولا يقاتلون جميعاً إلا في قرى محصنة.
وقال قتادة : لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذلّ الناس.
{ ويسعون في الأرض فساداً } يحتمل أن يريد بالسعي نقل الإقدام أي : لا يكتفون في إظهار الفساد إلا بنقل أقدامهم بعضهم لبعض ، فيكون أبلغ في الاجتهاد ، والظاهر أنه يراد به العمل.
والفعل أي : يجتهدون ، في كيد أهل الإسلام ومحوذ ذكر الرسول من كتبهم.
والأرض يجوز أن يراد بها الجنس ، أو أرض الحجاز ، فتكون أل فيه للعهد.
قال ابن عباس ومقاتل : فسادهم بالمعاصي.
وقال الزجاج : بدفع الإسلام ومحو ذكر الرسول من كتبهم.

وقيل : بسفك الدماء واستحلال المحارم.
وقيل : بالكفر.
وقيل : بالظلم ، وكل هذه الأقوال متقاربة.
{ والله لا يحب المفسدين } ظاهر المفسدين العموم ، فيندرج هؤلاء فيهم.
وقيل : أل للعهد ، وهم هؤلاء.
وانتفاء المحبة كناية عن كونه لا يعود عليهم بفضله وإحسانه ، فهؤلاء يثيبهم.
وإذا لم يثبهم فهو معاقبهم ، إذ لا واسطة بين العقاب والثواب.
{ ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم }.
قيل : المراد أسلافهم ، ودخل فيها المعاصرون بالمعنى.
والغرض الإخبار عن أولئك الذين أطفأ الله نيرانهم وأذلهم بمعاصيهم ، والذي يظهر أنهم معاصرو الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك ترغيب لهم في الدخول في الإسلام.
وذكر شيئين وهما : الإيمان ، والتقوى.
ورتب عليهم شيئين : قابل الإيمان بتكفير السيئات إذ الإسلام يجبّ ما قبله ، وترتب على التقوى وهي امتثال الأوامر واجتناب المناهي دخول جنة النعيم ، وإضافة الجنة إلى النعيم تنبيهاً على ما كانوا يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا.
وقيل : واتقوا أي : الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبعيسى عليه السلام.
وقيل : المعاصي التي لعنوا بسببها.
وقيل : الشرك.
قال الزمخشري : ولو أنهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وقرنوا إيمانهم بالتقوى التي هي الشريطة في الفوز بالإيمان ، لكفرنا عنهم تلك السيئات ، فلم نؤاخذهم بها ، ولأدخلناهم مع المسلمين الجنة.
وفيه إعلام بعظم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم ، ودلالة على سعة رحمة الله تعالى وفتحه باب التوبة على كل عاص وإن عظمت معاصيه وبلغت مبالغ سيئات اليهود والنصارى ، وأن الإيمان لا ينجى ولا يسعد إلا مشفوعاً بالتقوى كما قال الحسن : هذا العمود فأين الأطناب؟ انتهى كلامه.
وفيه من الاعتزال.
وقرنوا إيمانهم بالتقوى التي هي الشريطة في الفوز بالإيمان ، وقوله : وأن الإيمان لا ينجى ولا يسعد إلا مشفوعاً بالتقوى.
{ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } هذا استدعاء لإيمانهم ، وتنبيه لهم على اتباع ما في كتبهم ، وترغيب لهم في عاجل الدنيا وبسط الرزق عليهم فيها ، إذ أكثر ما في التوراة من الموعود به على الطاعات هو الإحسان إليهم في الدنيا.
ولمّا رغبهم في الآية قبل في موعود الآخرة من تكفير السيئات وإدخالهم الجنة ، رغبهم في هذه الآية في موعود الدنيا ليجمع لهم بين خيري الدنيا والآخرة ، وكان تقديم موعود الآخرة أهمّ لأنه هو الدائم الباقي ، والذي به النجاة السرمدية ، والنعيم الذي لا ينقضي.
ومعنى إقامة التوراة والإنجيل : هو إظهار ما انطوت عليه من الأحكام والتبشير بالرسول والأمر باتباعه كقولهم : أقاموا السوق أي حركوها وأظهروها ، وذلك تشبيه بالقائم من الناس إذ هي أظهر هيآته.
وفي قوله : والإنجيل دليل على دخول النصارى في لفظ أهل الكتاب.
وظاهر قوله : وما أنزل إليهم من ربهم ، العموم في الكتب الإلهية مثل : كتاب أشعياء ، وكتاب حزقيل ، وكتاب دانيال ، فإنها مملوءة من البشارة بمبعث الرسول.

وقيل : ما أنزل إليهم من ربهم هو القرآن.
وظاهر قوله : لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، أنه استعارة عن سبوغ النعم عليهم ، وتوسعة الرزق عليهم ، كما يقال : قد عمه الرزق من فرقه إلى قدمه ولا فوق ولا تحت حكاه الطبري والزجاج.
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدّي : لأعطتهم السماء مطرها وبركتها ، والأرض نباتها كما قال تعالى : { لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } وذكر النقاش من فوقهم من رزق الجنة ، ومن تحت أرجلهم من رزق الدنيا إذ هو من نبات الأرض.
وقيل : من فوقهم كثرة الأشجار المثمرة ، ومن تحت أرجلهم الزرع المغلة.
وقيل : من فوقهم الجنان اليانعة الثمار يجتنون ما تهدّل منها من رؤوس الشجر ، ويلتقطون ما تساقط منها على الأرض ، وتحت أرجلهم.
وقال تاج القراء : من فوقهم ما يأتيهم من كبرائهم وملوكهم ، ومن تحت أرجلهم ما يأتيهم من سفلتهم وعوامّهم ، وعبر بالأكل عن الأخذ ، لأنه أجل منافعه وأبلغ ما يحتاج إليه في ديمومة الحياة.
{ منهم أمّة مقتصدة } الضمير في منهم يعود على أهل الكتاب.
والأمة هنا يراد بها الجماعة القليلة للمقابلة لها بقوله : وكثير منهم.
والاقتصاد من القصد وهو الاعتدال ، وهو افتعل بمعنى اعتمل واكتسب أي : كانت أولاً جائزة ثم اقتصدت.
قيل : هم مؤمنو الفريقين عبد الله بن سلام وأصحابه ، وثمانية وأربعون من النصارى.
واقتصادهم هو الإيمان بالله تعالى.
وقال مجاهد : المقتصدة مسلمة أهل الكتاب قديماً وحديثاً ، ونحوه قول ابن زيد : هم أهل طاعة الله من أهل الكتاب.
وذكر الزجاج وغيره : أنها الطوائف التي لم تناصب الأنبياء مناصبة المتمرّدين المجاهدين.
وقال الزمخشري : مقتصدة حالها أمم في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال الطبري : من بني إسرائيل من يقتصد في عيسى فيقول : هو عبد الله ورسوله وروح منه ، والأكثر منهم غلافية فقال بعضهم : هو الإله ، وعلى هذا مشى الرّوم ومن دخل بآخره في ملة عيسى.
وقال بعضهم وهو الأكثر من بني إسرائيل : هو آدمي كغيره لغير رشده ، فتلخص في الاقتصاد أهو في حق عيسى؟ أو في المناصبة؟ أو في الإيمان؟ فإن كان في المناصبة فهل هو بالنسبة إلى الرسول وحده أم بالنسبة إلى الأنبياء؟ قولان.
وإن كان في الإيمان فهل هو في إيمان من آمن بالرسول من الفريقين أو من آمن قديماً وحديثاً؟ قولان.
{ وكثير منهم ساء ما يعملون } هذا تنويع في التفصيل.
فالجملة الأولى جاءت منهم أمة مقتصدة ، جاء الخبر الجار والمجرور ، والخبر الجملة من قوله : ساء ما يعملون ، وبين التركيبين تفاوت غريب من حيث المعنى.
وذلك أن الاقتصاد جعل وصفاً ، والوصف ألزم للموصوف من الخبر ، فأتى بالوصف اللازم في الطائفة الممدوحة ، وأخبر عنها بقوله : منهم ، والخبر ليس من شأنه اللزوم ولا سيما هنا ، فأخبر عنهم بأنهم من أهل الكتاب في الأصل ، ثم قد تزول هذه النسبة بالإسلام فيكون التعبير عنهم والإخبار بأنهم منهم ، باعتبار الحالة الماضية.

وأما في الجملة الثانية فإنهم منهم حقيقة لأنهم كفار ، فجاء الوصف بالإلزام ، ولم يجعل خبراً ، وجعل خبر الجملة التي هي ساء ما يعملون ، لأن الخبر ليس من شأنه اللزوم ، فهم بصدد أن يسلم ناس منهم فيزول عنهم الإخبار بمضمون هذه الجملة ، واختار الزمخشري في ساء أن تكون التي لا تنصرف ، فإن فيه التعجب كأنه قيل : ما أسوأ عملهم! ولم يذكر غير هذا الوجه.
واختار ابن عطية أن تكون المتصرفة تقول : ساء الأمر يسوء ، وأجاز أن تكون غير المتصرفة فتستعمل استعمال نعم وبئس كقوله : ساء مثلاً.
فالمتصرفة تحتاج إلى تقدير مفعول أي ساء ما كانوا يعملون بالمؤمنين ، وغير المتصرفة تحتاج إلى تمييز أي : ساء عملاً ما كانوا يعملون.
{ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } هذا نداء بالصفة الشريفة التي هي أشرف أوصاف الجنس الإنساني ، وأمر بتليغ ما أنزل إليه وهو صلى الله عليه وسلم قد بلغ ما أنزل إليه ، فهو أمر بالديمومة.
قال الزمخشري : جميع ما أنزل إليك ، وأي شيء أنزل غير مراقب في تبليغه أحداً ولا خائف أن ينالك مكروه.
وقال ابن عطية : أمر من الله لرسوله بالتبليغ على الاستيفاء والكمال ، لأنه قد قال : بلغ ، فإنما أمر في هذه الآية أن لا يتوقف على شيء مخافة أحد ، وذلك أنّ رسالته عليه السلام تضمنت الطعن على أنواع الكفرة وفساد أحوالهم ، فكان يلقى منهم عنتاً ، وربما خافهم أحياناً قبل نزول هذه الآية.
وعن ابن عباس عنه عليه السلام : « لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعاً وعرفت أن من الناس من يكذبني فأنزل الله هذه الآية ».
وقيل : هو أمر بتبليغ خاص أي : ما أنزل إليك من الرجم والقصاص الذي غيره اليهود في التوراة والنصارى في الإنجيل.
وقيل : أمر بتبليغ أمر زينب بنت جحش ونكاحها.
وقيل : بتبليغ الجهاد والحث عليه ، وأن لا يتركه لأجل أحد.
وقيل : أمر بتبليغ معائب آلهتهم ، إذ كان قد سكت عند نزول قوله : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } الآية عن عيبها وكل واحد من هذا التبليغ الخاص.
قيل : أنها نزلت بسببه ، والذي يظهر أنه تعالى أمنه من مكر اليهود والنصارى ، وأمره بتبليغ ما أنزل إليه في أمرهم وغيره من غير مبالاة بأحد ، لأن الكلام قبل هذه الآية وبعدها هو معهم ، فيبعد أن تكون هذه الآية أجنبية عما قبلها وعما بعدها.
{ وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } أي وإن لم تفعل بتبليغ ما أنزل إليك ، وظاهر هذا الجواب لا ينافي الشرط ، إذ صار المعنى : وإن لم تفعل لم تفعل ، والجواب لا بد أن يغاير الشرط حتى يترتب عليه.

فقال الزمخشري : فيه وجهان : أحدهما : أنه إذا لم يمتثل أمر الله في تبليغ الرسالة وكتمها كلها كأنه لم يبعث رسولاً ، كان أمراً شنيعاً.
وقيل : إن لم تبلغ منها أدنى شيء وإن كلمة واحدة فأنت كمن ركب الأمر الشنيع الذي هو كتمان كلها ، كما عظم قتل النفس بقوله : { فكأنما قتل الناس جميعاً } والثاني : أن يراد فإن لم تفعل ذلك ما يوجبه كتمان الوحي كله من العقاب ، فوضع السبب موضع المسبب ، ويعضده قوله عليه السلام : « فأوحى الله إليّ إن لم تبلغ رسالاتي لأعذبنك ».
وقال ابن عطية : أي إن تركت شيئاً فكأنك قد تركت الكل ، وصار ما بلغت غير معتد به.
فمعنى : وإن لم تفعل ، وإن لم تستوف.
ونحو هذا قول الشاعر :
سئلت فلم تبخل ولم تعط نائلا . . .
فسيان لا ذمّ عليك ولا حمد
أي إن لم تعط ما يعد نائلاً وألا تتكاذب البيت.
وقال أبو عبد الله الرازي : أجاب الجمهور بأنْ لم تبلغ واحداً منها كنت كمن لم يبلغ شيئاً.
وهذا ضعيف ، لأنّ من أتى بالبعض وترك البعض.
فإن قيل : إنه ترك الكل كان كاذباً ، ولو قيل : إن مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكل ، فهذا هو المحلل الممتنع ، فسقط هذا الجواب انتهى.
وما ضعف به جواب الجمهور لا يضعف به ، لأنه قال : فإنْ قيل أنه ترك الكل كان كاذباً ، ولم يقولوا ذلك إنما قالوا : إن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض ، فإن لم تؤدّ بعضها فكأنك أغفلت أداها جميعاً.
كما أنّ من لم يؤمن ببعضها كان كمن لا يؤمن بكلها لأداء كل منها بما يدلي به غيرها ، وكونها لذلك في حكم شيء واحد ، والشيء الواحد لا يكون مبلغاً غير مبلغ مؤمناً به غير مؤمن ، فصار ذلك التبليغ للبعض غير معتد به ، وأما ما ذكر من أنّ مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكل محال ممتنع ، فلا استحالة فيه.
ولله تعالى أن يرتب على الذنب اليسير العذاب العظيم ، وله تعالى أن يعفو عن الذنب العظيم ، ويؤاخذ بالذنب الحقير : { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } وقد ظهر ذلك في ترتيب العقوبات في الأحكام الشرعية ، رتب على من أخذ شيئاً بالاختفاء والتستر ، قطع اليد مع ردّ ما أخذه أو قيمته ، ورتب على من أخذ شيئاً بالقهر والغلبة والغصب ردّ ذلك الشيء أو قيمته إن فقد دون قطع اليد.
وقال أبو عبد الله الرازي : والأصح عندي أن يقال : إن هذا خرج على قانون قوله : أنا أبو النجم وشعري شعري ، ومعناه : أن شعرى بلغ في الكمال والفصاحة والمتانة بحيث متى قيل فيه انه شعرى فقد انتهى مدحه إلى الغاية التي لا يمكن أن يزاد عليها ، وهذا الكلام مفيد المبالغة التامة من هذا الوجه ، فكذا هاهنا.

قال : فإن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته ، يعني : أنه لا يمكن أن يصف البليغ بترك التهديد بأعظم من أنه ترك التعظيم ، فكان ذلك تنبيهاً على التهديد والوعيد.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر : رسالاته على الجمع.
وقرأ باقي السبعة : على التوحيد.
{ والله يعصمك من الناس } أي لا تبال في التبليغ ، فإن الله يعصمك فليس لهم تسليط على قتلك لا بمؤامرة ، ولا باغتيال ، ولا باسيتلاء عليك بأخذ وأسر.
قال محمد بن كعب : نزلت بسبب الأعرابي الذي اخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله انتهى ، وهو غورث بن الحرث ، وذلك في غزوة ذات الرقاع.
وروى المفسرون أنّ أبا طالب كان يرسل رجالاً من بني هاشم يحرسونه حتى نزل قوله : والله يعصمك من الناس ، فقال : إن الله قد عصمني من الجن والإنس ، فلا أحتاج إلى من يحرسني.
وقال ابن جريج : كان يهاب قريشاً فلما نزلت استلقى وقال : »من شاء فليخذلني مرتين أو ثلاثاً«.
وروى أبو أمامة حديث ركانة من : ولد هاشم مشركاً أفتك الناس وأشدهم ، تصارع هو والرسول ، فصرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ودعاه إلى الإسلام ، فسأله آية ، فدعا الشجرة فأقبلت إليه.
وقد انشقت نصفين ، ثم سأله ردها إلى موضعها فالتأمت وعادت ، فالتمسه أبو بكر وعمر فدلا عليه أنه خرج إلى واد أضم حيث ركانة ، فسارا نحوه واجتمعا به ، وذكرا أنهما خافا الفتك من ركانة ، فأخبرهما خبره معه وضحك ، وقرأ والله يعصمك من الناس.
وهذا ما قبله يدل على أنّ ذلك نزل بمكة أو في ذات الرقاع ، والصحيح أنها نزلت بالمدينة والرسول بها مقيم شهراً ، وحرسه سعد وحذيفة ، فنام حتى غط ، فنزلت ، فأخرج إليهما رأسه من قبة أدم وقال : " انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله لا أبالي من نصرني ومن خذلني " وأصل هذا الحديث في صحيح مسلم : وأما شج جبينه وكسر رباعيته يوم أحد فقيل : الآية نزلت بعد أحد ، فأما إن كانت قبله فلم تتضمن العصمة هذا الابتلاء ونحوه من أذى الكفار بالقول ، بل تضمنت العصمة من القتل والأسر ، وأما مثل هذه فيها الابتلاء الذي فيه رفع الدرجات واحتمال كل الأذى دون النفس في ذات الله ، وابتلاء الأنبياء أشد ، وما أعظم تكليفهم.
وأتى بلفظ يعصمك لأن المضارع يدل على الديمومة والاستمرار ، والناس عام يراد به الكفار يدل عليه ما بعده.
وتضمنت هذه الجملة الإخبار بمغيب ووجد على ما أخبر به ، فلم يصل إليه أحد بقتل ولا أسر مع قصداً لا عداء له مغالبة واغتيالاً.
وفيه دليل على صحة نبوّته ، إذ لا يمكن أن يكون إخباره بذلك إلا من عند الله تعالى ، وكذا جميع ما أخبر به.

{ إن الله لا يهدي القوم الكافرين } أي إنما عليك البلاغ لا الهداية ، فمن قضيت عليه بالكفر والموافاة عليه لا يهتدي أبداً ، فيكون خاصاً.
قال ابن عطية : وأما على العموم على أن لا هداية في الكفر ، ولا يهدي الله الكافر في سبيل كفره.
وقال الزمخشري : ومعناه أنه لا يمكنهم مما يريدون إنزاله ، بل من الهلاك انتهى.
وهو قول بعضهم لا يعينهم على بلوغ غرضهم منك.
وقيل : المعنى لا يهديهم إلى الجنة.
والظاهر من الهداية إذا أطلقت ما فسرناها به أولاً.
{ قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم } قال رافع بن سلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حريملة : يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ، وإنك تؤمن بالتوراة ونبوة موسى ، وأن ذلك حق؟ قال : « بلى ولكنكم أحدثتم وغيرتم وكتمتم » فقالوا : إنا نأخذ بما في أيدينا فإنه الحق ، ولا نصدقك ، ولا نتبعك فنزلت.
وتقدم الكلام على إقامة التوراة والإنجيل وما أنزل ، فأغنى عن إعادته.
ونفى أن يكونوا على شيء جعل ما هم عليه عدماً صُرِفاً لفساده وبطلانه فنفاه من أصله ، أو لا حظ فيه ، صفة محذوفة أي : على شيء يعتد به ، فيتوجه النفي إلى الصفة دون الموصوف.
{ وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً } تقدم تفسير هذه الجملة.
{ فلا تأس على القوم الكافرين } أي لا تحزن عليهم.
فأقام الظاهر مقام المضمر تنبيهاً على العلة الموجبة لعدم التأسف ، أو هو عام فيندرجون فيه.
وقيل : في قوله : { حتى تقيموا التوراة } جمع في الضمير ، والمقصود التفصيل أي : حتى يقيم أهل التوراة التوراة ، ويقيم أهل الإنجيل الإنجيل ، ولا يحتاج إلى ذلك إن أريد ما في الكتابين من التوحيد ، فإنّ الشرائع فيه متساوية.
{ إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } تقدم في البقرة تفسير مثل هذه الآية.
وقرأ عثمان ، وأبي وعائشة ، وابن جبير ، والجحدري : والصابئين.
قال الزمخشري : وبها قرأ ابن كثير.
وقرأ الحسن ، والزهري : والصابئون بكسر الباء وضم الياء ، وهو من تخفيف الهمز كقراءة : يستهزئون.
وقرأ القراء السبعة : والصابئون بالرفع ، وعليه مصاحف الأمصار ، والجمهور.
وفي توجيه هذه القراءة وجوه : أحدها : مذهب سيبويه والخليل ونحاة البصرة : أنه مرفوع بالابتداء ، وهو منوي به التأخير ، ونظيره : إنّ زيداً وعمرو قائم ، التقدير : إن زيداً قائم وعمرو قائم ، فحذف خبر عمرو لدلالة خبر إنّ عليه ، والنية بقوله : وعمرو ، التأخير.
ويكون عمرو قائم بخبره هذا المقدر معطوفاً على الجملة من أنّ زيداً قائم ، وكلاهما لا موضع له من الإعراب.

الوجه الثاني : أنه معطوف على موضع اسم إنّ لأنه قبل دخول إن كان في موضع رفع ، وهذا مذهب الكسائي والفراء.
أما الكسائي فإنه أجاز رفع المعطوف على الموضع سواء كان الاسم مما خفي فيه الإعراب ، أو مما ظهر فيه.
وأما الفراء فإنه أجاز ذلك بشرط خفاء الإعراب.
واسم إن هنا خفي فيه الإعراب.
الوجه الثالث : أنه مرفوع معطوف على الضمير المرفوع في هادوا : وروي هذا عن الكسائي.
ورد بأنّ العطف عليه يقتضي أنّ الصابئين تهودوا ، وليس الأمر كذلك.
الوجه الرابع : أن تكون إن بمعنى نعم حرف جواب ، وما بعده مرفوع بالابتداء ، فيكون والصابئون معطوفاً على ما قبله من المرفوع ، وهذا ضعيف.
لأن ثبوت أن بمعنى نعم فيه خلاف بين النحويين ، وعلى تقدير ثبوت ذلك من لسان العرب فتحتاج إلى شيء يتقدمها يكون تصديقاً له ، ولا تجيء ابتدائية أول الكلام من غير أن تكون جواباً لكلام سابق.
وقد أطال الزمخشري في تقدير مذهب سيبويه ونصرته ، وذلك مذكور في علم النحو ، وأورد أسئلة وجوابات في الآية إعرابية تقدم نظيرها في البقرة.
وقرأ عبد الله : يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون.
{ لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً } هذا إخبار بما صدر من أسلاف اليهود من نقض الميثاق الذي أخذه تعالى عليهم ، وما اجترحوه من الجرائم العظام من تكذيب الأنبياء وقتل بعضهم ، والذين هم بحضرة الرسول هم أخلاف أولئك ، فغير بدع ما يصدر منهم للرسول من الأذى والعصيان ، إذ ذاك شنشنة من أسلافهم.
{ كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون } تقدم تفسير مثل هذا في البقرة.
وقال الزمخشري هنا : ( فإن قلت ) : أين جواب الشرط؟ فإن قوله فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون ناب عن الجواب ، لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين ، ولأنه لا يحسن أن تقول : إن أكرمت أخي أخاك أكرمت.
( قلت ) : هو محذوف يدل عليه قوله : فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون ، كأنه قيل : كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه.
وقوله : فريقاً كذبوا ، جواب مستأنف لسؤال قاتل : كيف فعلوا برسلهم؟ انتهى قوله : فإن قلت : أين جواب الشرط؟ سمي قوله كلما جاءهم رسول شرطاً وليس بشرط ، بل كل منصوب على الظرف لإضافتها إلى المصدر المنسبك من ما المصدرية الظرفية ، والعامل فيها هو ما يأتي بعدما المذكورة ، وصلتها من الفعل كقوله : { كلما نضجت جلودهم بدلناهم } كلما { ألقوا فيها } وأجمعت العرب على أنه لا يجزم بكلما ، وعلى تسليم تسميته شرطاً فذكر أن قوله : فريقاً كذبوا ينبو عن الجواب لوجهين : أحدهما : قوله : لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين ، وليس كما ذكر ، لأن الرسول في هذا التركيب لا يراد به الواحد ، بل المراد به الجنس.
وأي نجم طلع ، وإذا كان المراد به الجنس انقسم إلى الفريقين : فريق كذب ، وفريق قتل.

والوجه الثاني قوله : ولأنه لا يحسن أن تقول إن أكرمت أخي أخاك أكرمت ، يعني أنه لا يجوز تقديم منصوب فعل للجواب عليه.
وليس كما ذكر ، بل مذهب البصريين والكسائي إن ذاك جائز حسن ، ولم يمنعه إلا الفراء وحده ، وهذا كله على تقدير تسليم إن كلما شرط ، وإلا فلا يلزم أن يعتذر بهذا ، بل يجوز تقديم منصوب الفعل العامل في كلما عليه.
فتقول في كلما جئتني أخاك أكرمت ، وعموم نصوص النحويين على ذلك ، لأنهم حين حصر ، وأما يجب تقديم المفعول به على العامل وما يجب تأخيره عنه قالوا : وما سوى ذلك يجوز فيه التقديم على العامل والتأخير عنه ، ولم يستثنوا هذه الصورة ، ولا ذكروا فيها خلافاً.
فعلى هذا الذي قررناه يكون العامل في كلما قوله : كذبوا ، وما عطف عليه ولا يكون محذوفاً.
وقال الحوفي وابن عطية : كلما ظرف ، والعامل فيه كذبوا.
وقال أبو البقاء : كذبوا جواب كلما انتهى.
وجاء بلفظ يقتلون على حكاية الحال الماضية استفظاعاً للقتل ، واستحضاراً لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها قاله الزمخشري.
ويحسن مجيئه أيضاً كونه رأس آية ، والمعنى : أنهم يكذبون فريقاً فقط ، وقتلوا فريقاً ولا يقتلونه إلا مع التكذيب ، فاكتفى بذكر القتل عن ذكر التكذيب أي : اقتصر ناس على كذيب فريق ، وزاد ناس على التكذيب القتل.
{ وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم } قال ابن الأنباري : نزلت في قوم كانوا على الكفر قبل البعثة ، فلما بعث الرسول كذبوه بغياً وحسداً ، فعموا وصموا لمجانبة الحق ، ثم تاب الله عليهم أي : عرضهم للتوبة بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإنْ لم يتوبوا ثم عموا وصموا كثير منهم لأنهم لم يجمعوا كلهم على خلافه انتهى.
والضمير في : وحسبوا ، عائد على بني إسرائيل ، وحسبانهم سببه اغترارهم بإمهال الله حين كذبوا الرسل وقتلوا ، أو وقوع كونهم أبناء الله وأحباءه في أنفسهم ، وأنهم لا تمسهم النار إلا مقدار الزمان الذي عبدوا فيه العجل ، وإمداد الله لهم بطول الأعمار وسعة الأرزاق ، أو وقوع كون الجنة لا يدخلها إلا من كان هوداً أو نصارى في أنفسهم ، واعتقادهم امتناع النسخ على شريعة موسى ، فكل من جاءهم من رسول كذبوه وقتلوه خمسة أقوال.
والفتنة هنا : الابتلاء والاختبار.
فقيل : في الدّنيا بالقحط والوباء وهو الطاعون ، أو القتل ، أو العداوة ، أو ضيق الحال ، أو القمل ، والضفادع ، والدم ، أو التيه ، وقتال الجبارين ، أو مجموع ما ذكر أقوال ثمانية.
وقيل : في الآخرة بالافتضاح على رؤوس الأشهاد ، أو هو يوم القيامة وشدته ، أو العذاب بالنار والخلود ثلاثة أقوال.
وقيل : الفتنة ما نالهم في الدنيا وفي الآخرة ، وسدت أنْ وصلتها مسد مفعولي حسب على مذهب سيبويه.
وقرأ الحرميان وعاصم وابن عامر : بنصب نون تكون بأنْ الناصبة للمضارع ، وهو على الأصل إذ حسب من الأفعال التي في أصل الوضع لغير المتيقن.

وقرأ النحويان وحمزة برفع النون ، وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف ، والجملة المنفية في موضع الخبر.
نزل الحسبان في صدورهم منزلة العلم ، وقد استعملت حسب في المتيقن قليلاً قال الشاعر :
حسبت التقى والجود خير تجارة . . .
رباحاً إذا ما المرء أصبح ثاقلاً
وتكون هنا تامة.
{ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ } قالت جماعة : توبتهم هذه ردهم إلى بيت المقدس بعد الإخراج الأول وعماهم وصممهم.
قيل : ولوجهم في شهواتهم فلم يبصروا الحق ، ولم يسمعوا داعي الله.
وقالت جماعة : توبتهم ببعث عيسى عليه السلام.
وقالت جماعة : بعث محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل : الأول : في زمان زكريا ويحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام ، ولتوفيق كثير منهم للإيمان.
والثاني : في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن جماعة به ، وأقام الكثير منهم على كفرهم.
وقيل : الأول عبادة العجل ثم التوبة عنه ، ثم الثاني بطلب الرؤية وهي محال غير معقول في صفات الله قاله : الزمخشري جرياً علي مذهبه الاعتزالي في إنكار رؤية الله تعالى.
وقال القفال في سورة بني إسرئيل؛ ما يجوز أن يكون تفسير لهذه الاية وقيل؛ الأول بعد موسى ثم تاب عليهم ببعث عيسى.
والثاني بالكفر بالرسول.
والذي يظهر أن المعنى حسب بنو إسرائيل حيث هم أبناء الرسل والأنبياء أن لا يبتلوا إذا عصوا الله ، فعصوا الله تعالى وكنى عن العصيان بالعمى والصمم ، ثم تاب الله عليهم إذ حلت بهم الفتنة برجوعهم عن المعصية إلى طاعة الله تعالى ، وبدىء بالعمى لأنه أول ما يعرض للمعرض عن الشرائع أن لا يبصر من أتاه بها من عند الله ، ثم لو أبصره لم يسمع كلامه ، فعرض لهم الصمم عن كلامه.
ولما كانوا قبل ذلك على طريق الهداية ، ثم عرض لهم الضلال ، نسب الفعل إليهم وأسند لهم ولم يأت ، فأعماهم الله وأصمهم كما جاء في قوله : { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم فأصمهم وأعمى أبصارهم } إذ هذا فيمن لم تسبق له هداية ، وأسند الفعل الشريف إلى الله تعالى في قوله : { ثم تاب الله عليهم } لم يأت ، ثم تابوا إظهاراً للاعتناء بهم ولطفه تعالى بهم.
وفي العطف بالفاء دليل على أنهم يعقب الحسبان عصيانهم وضلالهم ، وفي العطف بثمّ دليل على أنهم تمادوا في الضلال زماناً إلى أن تاب الله عليهم.
وقرأ النخعي وابن وثاب بضم العين والصاد وتخفيف الميم من عموا ، جرت مجرى زكم الرجل وأزكمه ، وحم وأحمه ، ولا يقال : زكمه الله ولا حمه الله ، كما لا يقال : عميته ولا صممته ، وهي أفعال جاءت مبنية للمفعول الذي لم يسم فاعله وهي متعَدّية ثلاثية ، فإذا بنيت للفاعل صارت قاصرة ، فإذا أردت بناءها للفاعل متعدية أدخلت همزة التنقل وهي نوع غريب في الأفعال.

وقال الزمخشري : وعموا وصموا بالضم على تقدير عماهم الله وصمهم أي : رماهم بالعمى والصمم كما يقال : نزكته إذا ضربته بالنيزك ، وركبته إذا ضربته بركبتك انتهى.
وارتفاع كثير على البدل من المضمر.
وجوّزوا أن يرتفع على الفاعل ، والواو علامة للجمع لا ضمير على لغة أكلوني البراغيث ، ولا ينبغي ذلك لقلة هذه اللغة.
وقيل : خبر مبتدأ محذوف تقديره هم أي : العمى والصم كثير منهم.
وقيل : مبتدأ والجملة قبله في موضع الخبر.
وضعف بأن الفعل قد وقع موقعه ، فلا ينوي به التأخير.
والوجه هو الإعراب الأول.
وقرأ ابن أبي عبلة : كثيراً منهم بالنصب.
{ والله بصير بما يعملون } هذا فيه تهديد شديد ، وناسب ختم الآية بهذه الجملة المشتملة على بصير ، إذ تقدّم قبله فعموا.
{ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } تقدم شرح هذه الجملة وقائلو ذلك : هم اليعقوبية ، زعموا أن الله تعالى تجلى في شخص عيسى عليه السلام.
{ وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم } ردّ الله تعالى مقالتهم بقول من يدعون إلهيته وهو عيسى ، أنه لا فرق بينه وبينهم في أنهم كلهم مربوبون ، وأمرهم بإخلاص العبادة ، ونبه على الوصف الموجب للعبادة وهو الربوبية.
وفي ذلك ردّ عليهم في فساد دعواهم ، وهو أن الذي يعظمونه ويرفعون قدره عما ليس له يردّ عليهم مقالتهم ، وهذا الذي ذكره تعالى عنه هو مذكور في إنجيلهم يقرؤونه ولا يعملون به ، وهو قول المسيح : يا معشر بني المعمودية.
وفي رواية : يا معشر الشعوب قوموا بنا إلى أبي وأبيكم ، وإلهي وإلهكم ، ومخلصي ومخلصكم.
{ إنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة ومأواه النار } الظاهر أنه كلام المسيح ، فهو داخل تحت القول.
وفيه أعظم ردع منه عن عبادته ، إذ أخبر أنه من عبد غير الله منعه الله دار من أفرده بالعبادة ، وجعل مأواه النار.
{ إن الله لا يغفر أن يشرك به } وقيل : هو من كلام الله تعالى مستأنف ، أخبر بذلك على سبيل الوعيد والتهديد.
وفي الحديث الصحيح من حديث عتبان بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله حرم النار على من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله » { وما للظالمين من أنصار } ظاهره أنه من كلام عيسى ، أخبرهم أنه من تجاوز ووضع الشيء غير موضعه فلا ناصر له ، ولا مساعد فيما افترى وتقوّل ، وفي ذلك ردع لهم عما انتحلوه في حقهم من دعوى أنه إله ، وأنه ظلم إذا جعلوا ما هو مستحل في العقل واجباً وقوعه ، أو فلا ناصر له ولا منجي من عذاب الله في الآخرة.
ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى ، أخبر أنهم ظلموا وعدلوا عن الحق في أمر عيسى وتقوّلهم عليه ، فلا ناصر لهم على ذلك.

{ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } هؤلاء هم الملكية من النصارى القائلون بالتثليث.
وظاهر قوله : ثالث ثلاثة ، أحد آلهة ثلاثة.
قال المفسرون : أرادوا بذلك أن الله تعالى وعيسى وأمه آلهة ثلاثة ، ويؤكده { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } { ما اتخذ صاحبة ولا ولداً } { أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله } وحكى المتكلمون عن النصارى أنهم يقولون : جوهر واحد ثلاثة أقانيم : أب ، وابن ، وروح قدس.
وهذه الثلاثة إله واحد ، كما أن الشمس تتناول القرص والشعاع والحرارة ، وعنوا بالأب الذات ، وبالابن الكلمة ، وبالروح الحياة.
وأثبتوا الذات والكلمة والحياة وقالوا : إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالحمر ، أو اختلاط اللبن بالماء ، وزعموا أن الأب إله ، والابن إله ، والروح إله ، والكل إله واحد.
وهذا معلوم البطلان ببديهة العقل أن الثلاثة لا تكون واحداً ، وأن الواحد لا يكون ثلاثة ، ولا يجوز في العربية في ثالث ثلاثة إلا الإضافة ، لأنك لا تقول ثلثت الثلاثة.
وأجاز النصب في الذي يلي اسم الفاعل الموافق له في اللفظ أحمد بن يحيى ثعلب ، وردّوه عليه جعلوه كاسم الفاعل مع العدد المخالف نحو : رابع ثلاثة ، وليس مثله إذ تقول : ربعت الثلاثة أي صيرتهم بك أربعة.
{ وما من إله إلا إله واحد } معناه لا يكون إله في الوجود إلا متصفاً بالوحدانية ، وأكد ذلك بزيادة من الاستغراقية وحصر إلهيته في صفة الوحدانية.
وإله رفع على البدل من إله على الموضع.
وأجاز الكسائي اتباعه على اللفظ ، لأنه يجيز زيادة من في الواجب ، والتقدير : وما إله في الوجود إلا إله واحد أي : موصوف بالوحدانية لا ثاني له وهو الله تعالى.
{ وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم } أي عما يفترون ويعتقدون في عيسى من أنه هو الله ، أو أنه ثالث ثلاثة ، أوعدهم بإصابة العذاب الأليم لهم في الدنيا بالسبي والقتل ، وفي الآخرة بالخلود في النار ، وقدم الوعيد على الاستدلال بسمات الحدوث إبلاغاً في الزجر أي : هذه المقالة في غاية الفساد ، بحيث لا تختلف العقول في فسادها ، فلذلك توعد أوّلاً عليها بالعذاب ، ثم اتبع الوعيد بالاستدلال بسمات الحدوث على بطلانها.
وليمسنّ اللام فيه جواب قسم محذوف قبل أداة الشرط ، وأكثر ما يجيء هذا التركيب وقد صحبت أن اللام المؤذنة بالقسم المحذوف كقوله : { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم } ونظير هذه الآية : { وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } ومثله : { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } ومعنى مجيء إن بغير باء ، دليل على أنه قبل إنْ قسم محذوف إذ لولا نية القسم لقال : فإنكم لمشركون الذين كفروا أي : الذين ثبتوا على هذا الاعتقاد.

وأقام الظاهر مقام المضمر ، إذ كان الربط يحصل بقوله : ليمسنهم ، لتكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله : لقد كفر وللإعلام بأنهم كانوا بمكان من الكفر ، إذ جعل الفعل في صلة الذين وهي تقتضي كونها معلومة للسامع مفروغاً من ثبوتها ، واستقرارها لهم ومن في منهم للتبعيض ، أي كائناً منهم ، والربط حاصل بالضمير ، فكأنه قيل : كافرهم وليسوا كلهم بقوا على الكفر ، بل قد تاب كثير منهم من النصرانية.
ومن أثبت أنّ مَن تكون لبيان الجنس أجاز ذلك هنا ، ونظره بقوله : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } { أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه } هذا لطف بهم واستدعاء إلى التنصل من تلك المقالة الشنعاء بعد أن كرّر عليهم الشهادة بالكفر.
والفاء في أفلا للعطف ، حجزت بين الاستفهام ولا النافية ، والتقدير : فألا.
وعلى طريقة الزمخشري تكون قد عطفت فعلاً على فعل ، كأن التقدير : أيثبتون على الكفر فلا يتوبون ، والمعنى على التعجب من انتفاء توبتهم وعدم استغفارهم ، وهم أجدر الناس بذلك ، لأن كفرهم أقبح الكفر ، وأفضح في سوء الاعتقاد ، فتعجب من كونهم لا يتوبون من هذا الجرم العظيم.
وقال الفراء : هو استهفام معناه الأمر كقوله : { فهل أنتم منتهون } قال : إنما كان بمعنى الأمر ، لأنّ المفهوم من الصيغة طلب التوبة والحث عليها ، فمعناه : توبوا إلى الله واستغفروه من ذنبكم القولين المستحيلين انتهى.
وقال ابن عطية : رفق جل وعلا بهم بتحضيضه إياهم على التوبة وطلب المغفرة انتهى.
وما ذكروه من الحث والتحضيض على التوبة من حيث المعنى ، لا من حيث مدلول اللفظ ، لأن أفلا غير مدلول ألا التي للحض والحث.
{ والله غفور رحيم } نبه تعالى على هذين الوصفين اللذين بهما يحصل قبول التوبة والغفران للحوبة ، والمعنى : كيف لا توجد التوبة من هذا الذنب وطلب المغفرة والمسؤول منه ذلك متصف بالغفران التام والرحمة الواسعة لهؤلاء وغيرهم؟
{ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } لما رد على النصارى قولهم الأول بقول المسيح : { اعبدو الله ربي وربكم } والثاني بقوله : { وما من إله إلا إله واحد } أثبت له الرسالة بصورة الحصر ، أي ما المسيح ابن مريم شيء مما تدعيه النصارى من كونه إلهاً وكونه أحد آلهة ثلاثة ، بل هو رسول من جنس الرسل الذين خلوا وتقدموا ، جاء بآيات من عند الله كما جاءوا ، فإن أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص على يده ، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى ، وفلق البحر ، وطمس على يد موسى ، وإن خلقه من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر وأنثى.
وفي قوله : إلا رسول رد على اليهود حيث ادعوا كذبه في دعوى الرسالة ، وحيث ادعوا أنه ليس لرشده.
وقرأ حطان : من قبله رسل بالتنكير.
{ وأمه صدِّيقة } هذا البناء من أبنية المبالغة ، والأظهر أنه من الثلاثي المجرد ، إذ بناء هذا التركيب منه سكيت وسكير ، وشريب وطبيخ ، من سكت وسكر ، وشرب وطبخ.

ولا يعمل ما كان مبنياً من الثلاثي المتعدي كما يعمل فعول وفعال ومفعال ، فلا يقال : زيد شريب الماء ، كما تقول : ضراب زيداً ، والمعنى : الإخبار عنها بكثرة الصدق.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون من التصديق ، وبه سمي أبو بكر الصديق.
ولم يذكر الزمخشري غير أنه من التصديق.
وهذا القول خلاف الظاهر من هذا البناء.
قال الزمخشري : وأمه صديقة أي وما أمه لا كبعض النساء المصدقات للأنبياء المؤمنات بهم ، فما منزلتهما إلا منزلة بشرين : أحدهما نبي ، والآخر صحابي ، فمن أين اشتبه عليكم أمرهما حتى وصفتموهما بما لم يوصف به سائر الأنبياء وصحابتهم؟ مع أنه لا تميز ولا تفاوت بينهما وبينهم بوجه من الوجوه انتهى.
وفيه تحميل لفظ القرآن ما ليس فيه ، من ذلك أن قوله : وأمه صديقة ليس فيه إلا الإخبار عنها بصفة كثرة الصدق ، وجعله هو من باب الحصر فقال : وما أمه إلا كبعض النساء المصدقات إلى آخره ، وهكذا عادته يحمل ألفاظ القرآن ما لا تدل عليه.
قال الحسن : صدقت جبريل عليه السلام لما أتاها كما حكى تعالى عنها : { وصدقت بكلمات ربها وكتبه } وقيل : صدقت بآيات ربها ، وبما أخبر به ولدها.
وقيل : سميت بذلك لمبالغتها في صدق حالها مع الله ، وصدقها في براءتها مما رمتها به اليهود.
وقيل : وصفها بصديقة لا يدل على أنها نبية ، إذ هي رتبة لا تستلزم النبوة.
قال تعالى : { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين } ومن ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، ولا يلزم من تكليم الملائكة بشراً نبوته فقد كلمت الملائكة قوماً ليسوا بأنبياء لحديث الثلاثة : الأقرع ، والأعمى ، والأبرص.
فكذلك مريم.
{ كانا يأكلان الطعام } هذا تنبيه على سمة الحدوث ، وتبعيد عما اعتقدته النصارى فيهما من الإلهية ، لأنّ من احتاج إلى الطعام وما يتبعه من العوارض لم يكن إلا جسماً مركباً من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وغير ذلك ، وهو مما يدل على مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام ، ولا حاجة تدعو إلى قولهم : كانا يأكلان الطعام كناية عن خروجه ، وإن كان قد قاله جماعة من المفسرين ، وإنما ذلك تنبيه على سمات الحدوث.
والحاجة إلى التغذي المفتقر إليه الحيوان في قيامه المنزه عنه الإله ، قال تعالى : { وهو يطعِم ولا يطعَم } وإن كان يلزم من الاحتياج إلى أكل الطعام خروجه ، فليس مقصوداً من اللفظ مستعاراً له ذلك.
وهذه الجملة استئناف إخبار عن المسيح وأمه منبهة كما ذكرنا على سمات الحدوث ، وأنهما مشاركان للناس في ذلك ، ولا موضع لهذه من الجملة من الإعراب.
{ انظر كيف نبين لهم الآيات } أي الاعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان ما اعتقدوه ، وهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم.

وفي ضمن ذلك الأمر لأمته في ضلال هؤلاء وبعدهم عن قبول ما نبهوا عليه.
{ ثم انظر أنى يؤفكون } كرر الأمر بالنظر لاختلاف المتعلق ، لأن الأول : أثر بالنظر في كونه تعالى أوضح لهم الآيات وبينها بحيث لا يقع معها لبس ، والأمر الثاني : هو بالنظر في كونهم يصرفون عن استماع الحق وتأمله ، أو في كونهم يقلبون ما بين لهم إلى الضد منه ، وهذان أمرا تعجيب.
ودخلت ثم لتراخي ما بين العجبين ، وكأنه يقتضي العجب من توضيح الآيات وتبيينها ، ثم ينظر في حال من بينت له فيرى إعراضهم عن الآيات أعجب من توضيحها ، لأنه يلزم من تبيينها تبينها لهم والرجوع إليها ، فكونهم أفكوا عنها أعجب.

قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)

{ قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرّاً ولا نفعاً } لما بين تعالى بدليل النقل والعقل انتفاء الإلهية عن عيسى ، وكان قد توعدهم ثم استدعاهم للتوبة وطلب الغفران ، أنكر عليهم ووبخهم من وجه آخر وهو عجزه وعدم اقتداره على دفع ضرر وجلب نفع ، وأنّ مَن كان لا يدفع عن نفسه حريّ أن لا يدفع عنكم.
والخطاب للنصارى ، نهاهم عن عبادة عيسى وغيره ، وأن ما يعبدون من دون الله مساويهم في العجز وعدم القدرة.
والمعنى : ما لا يملك لكم إيصال خير ولا نفع.
قيل : وعبر بما تنبيهاً على أول أحواله ، إذْ مرّت عليه أزمان حالة الحمل لا يوصف بالعقل فيها ، ومن هذه صفته فكيف يكون إلهاً ، أو لأنها مبهمة كما قال سيبويه.
وما : مبهمة تقع على كل شيء ، أو أريد به ما عبد من دون الله ممن يعقل ، وما لا يعقل.
وعبر بما تغليباً لغير العاقل ، إذ أكثر ما عبد من دون الله هو ما لا يعقل كالأصنام والأوثان ، أو أريد النوع أي : النوع الذي لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً كقوله : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } أي النوع الطيب ، ولما كان إشراكهم بالله تضمن القول والاعتقاد جاء الختم بقوله :
{ والله هو السميع العليم } أي السميع لأقوالكم ، العليم باعتقادكم وما انطوت عليه نياتكم.
وفي الإخبار عنه بهاتين الصفتين تهديد ووعيد على ما يقولونه ويعتقدونه ، وتضمنت الآية الإنكار عليهم حيث عبدوا من دونه من هو متصف بالعجز عن دفع ضرر أو جلب نفع.
قيل : ومن مرّت عليه مدد لا يسمع فيها ولا يعلم ، وتركوا القادر على الإطلاق السميع للأصوات العليم بالنيات.
{ قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق } ظاهره نداء أهل الكتاب الحاضرين زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويتناول من جاء بعدهم.
ولما سبق القول في أباطيل اليهود وأباطيل النصارى ، جمع الفريقان في النهي عن الغلوّ في الدين.
وانتصب غير الحق وهو الغلو الباطل ، وليس المراد بالدين هنا ما هم عليه ، بل المراد الدين الحق الذي جاء به موسى وعيسى.
قال الزمخشري : الغلو في الدين غلوان : غلو حق ، وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون من أهل العدل والتوحيد ، وغلو باطل وهو أن يجاوز الحق ويتعداه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه كما يفعل أهل الأهواء والبدع انتهى.
وأهل العدل والتوحيد هم أئمة المعتزلة ، وأهل الأهواء والبدع عنده هم أهل السنة ، ومن عدا المعتزلة.
ومن غلو اليهود إنكار نبوة عيسى ، وادعاؤهم فيه أنه الله.
ومن غلوّ النصارى ما تقدّم من اعتقاد بعضهم فيه أنه الله ، وبعضهم أنه أحد آلهة ثلاثة.

وانتصاب غير هنا على الصفة أي : غلوّاً غير الحق.
وأبعد مَن ذهب إلى أنها استثناء متصل ، ومن ذهب إلى أنها استثناء ويقدره : لكن الحق فاتبعوه.
{ ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل } هؤلاء القوم هم أسلاف اليهود والنصارى ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم كثيراً ، ثم عين ما ضلوا عنه وهو السبيل السوي الذي هو وسط في الدين وهو خيرها فلا إفراط ولا تفريط ، بل هو سواء معتدل خيار.
وقيل : الخطاب للنصارى ، وهو ظاهر كلام الزمخشري قال : قد ضلوا من قبل هم أئمتهم في النصرانية كانوا على الضلال قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وأضلوا كثيراً ممن شايعهم على التثليث ، وضلوا لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سواء السبيل حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه.
وقال ابن عطية : هذه المخاطبة هي للنصارى الذين غلوا في عيسى ، والقوم الذين نهى النصارى عن اتباع أهوائهم والذي دعا إلى هذا التأويل أن النصارى في غلوهم ليسوا على هوى بني إسرائيل ، بل هم في الضد بالأقوال ، وإنما اجتمعوا في اتباع موضع الهوى.
فالآية بمنزلة قولك لمن تلومه على عوج : هذه الطريقة طريقة فلان تمثله بآخر قد اعوج نوعاً من الاعوجاج وإن اختلفت نوازله.
ووصف تعالى اليهود بأنهم ضلوا قديماً ، وأضلوا كثيراً من أتباعهم ، ثم أكد الأمر بتكرار قوله : وضلوا عن سواء السبيل.
وذهب بعض المتأولين إلى أنّ المعنى : يا أهل الكتاب من النصارى لا تتبعوا أهواء هؤلاء اليهود الذين ضلوا من قبل أي : ضل أسلافهم ، وهم قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم ، وأضلوا كثيراً من المنافقين ، وضلوا عن سواء السبيل الآن بعد وضوح الحق انتهى.
ولا حاجة لإخراج الكلام عن ظاهره من أنه نداء لأهل الكتاب طائفتي : اليهود ، والنصارى.
وأن قوله : ولا تتبعوا أهواء قوم ، هم أسلافهم.
فإن الزائغ عن الحق كثيراً ما يعتذر أنه على دين أبيه وطريقته ، كما قالوا : { إنا وجدنا آباءنا على أمة } فنهوا عن اتباع أسلافهم ، وكان في تنكير قوم تحقير لهم.
وما ذهب إليه الزمخشري تخصيص لعموم من غير داعية إليه.
وما ذهب إليه ابن عطية أيضاً تخصيص وتأويل بعيد في قوله : ولا تتبعوا أهواء قوم أن المراد بهم اليهود ، وأن المعنى : لا تكونوا على هوى كما كان اليهود على هوى ، لأن الظاهر النهي عن اتباع أهواء أولئك القوم.
وأبعد من ذهب إلى أنّ الضلال الأول عن الدّين ، والثاني عن طريق الجنة.
{ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم } قال ابن عباس : لعنوا بكل لسان.
لعنوا على عهد موسى في التوراة ، وعلى عهد داود في الزبور ، وعلى عهد عيسى في الإنجيل ، وعلى عهد محمد في القرآن.

وروى ابن جريج : أنه اقترن بلعنتهم على لسان داود أن مسخوا خنازير ، وذلك أن داود مرّ على نفر وهم في بيت فقال : من في البيت؟ قالوا : خنازير على معنى الاحتجاب ، قال : اللهم خنازير ، فكانوا خنازير.
ثم دعا عيسى على من افترى عليه وعلى أمه ولعنهم.
وروي عن ابن عباس : لعن على لسان داود أصحاب السبت ، وعلى لسان عيسى الذين كفروا بالمائدة.
وقال أكثر المفسرين : إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود : اللهم العنهم واجعلهم آية ، فمسخوا قردة.
ولما كفر أصحاب عيسى بعد المائدة قال عيسى : اللهم عذب من كفر بعدما أكل من المائدة عذاباً لم تعذبه أحداً من العالمين ، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت ، فأصبحوا خنازير ، وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي.
وقال الأصم وغيره : بشّر داود وعيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولعنا من كذبه.
وقيل : دعوا على من عصاهما ولعناه.
وروي أن داود قال : اللهم ليلبسوا اللعنة مثل الرّداء ومثل منطقة الحقوين ، اللهم اجعلهم آية ومثالاً لخلقك.
والظاهر من الآية الإخبار عن أسلاف اليهود والنصارى أنهم ملعونون.
وبناء الفعل للمفعول يحتمل أن يكون الله تعالى هو اللاعن لهم على لسان داود وعيسى ، ويحتمل أن يكونا هما اللاعنان لهم.
ولما كانوا يتبجحون بأسلافهم وأنهم أولاد الأنبياء ، أخبروا أنّ الكفار منهم ملعونون على لسان أنبيائهم.
واللعنة هي الطرد من رحمة الله ، ولا تدل الآية على اقتران اللعنة بمسخ.
والأفصح أنه إذا فرق منضماً الجزئين اختير الإفراد على لفظ التثنية وعلى لفظ الجمع ، فكذلك جاء على لسان مفرداً ولم يأت على لساني داود وعيسى ، ولا على ألسنة داود وعيسى.
فلو كان المنضمان غير متفرّقين اختير لفظ الجمع على لفظ التثنية وعلى الإفراد نحو قوله : { فقد صغت قلوبكما } والمراد باللسان هنا الجارحة لا اللغة ، أي الناطق بلعنتهم هو داود وعيسى.
{ ذلك بما عصوا } أي ذلك اللعن كان بسبب عصيانهم ، وذكر هذا على سبيل التوكيد ، وإلا فقد فهم سبب اللعنة بإسنادها إلى من تعلق به الوصف الدال على العلية ، وهو الذين كفروا.
كما تقول : رجم الزاني ، فيعلم أنّ سببه الزنا.
كذلك اللعن سببه الكفر ، ولكن أكد بذكره ثانية في قوله : ذلك بما عصوا.
{ وكانوا يعتدون } يحتمل أن يكون معطوفاً على عصوا ، فيتقدر بالمصدر أي : وبكونهم يعتدون ، يتجاوزون الحد في العصيان والكفر ، وينتهون إلى أقصى غاياته.
ويحتمل أن يكون استئناف إخبار من الله بأنه كان شأنهم وأمرهم الاعتداء ، ويقوي هذا ما جاء بعده كالشرح وهو قوله :
{ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } ظاهره التفاعل بمعنى الاشتراك أي : لا ينهى بعضهم بعضاً ، وذلك أنهم جمعوا بن فعل المنكر والتجاهر به ، وعدم النهي عنه.

والمعصية إذا فعلت وقدرت على العبد ينبغي أن يستتر بها من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر ، فإذا فعلت جهاراً وتواطؤاً على عدم الإنكار كان ذلك تحريضاً على فعلها وسبباً مثيراً لإفشائها وكثرتها.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف وقع ترك التناهي عن المنكر تفسيراً للمعصية؟ ( قلت ) : من قبل أنّ الله تعالى أمر بالتناهي ، فكان الإخلال به معصية وهو اعتداء ، لأنّ في التناهي حسماً للفساد.
وفي حديث عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع ، فإنه لا يحل لك.
ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك ، أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ثم قرأ لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل الآية إلى قوله فاسقون ثم قال : والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن به على يد الظالم ولتأطرنه عن الحق اطراً ، أو ليضرب الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعنكم كما لعنهم » أخرجه الترمذي.
ومعنى لتأطرنه لتردنه.
وقيل : التفاعل هنا بمعنى الافتعال يُقال : انتهى عن الأمر وتناهى عنه إذا كف عنه ، كما تقول : تجاوزوا واجتوزوا.
والمعنى : كانوا لا يمتنعون عن منكر.
وظاهر المنكر أنه غير معين ، فيصلح إطلاقه على أيّ منكر فعلوه.
وقيل : صيد السمك يوم السبت.
وقيل : أخذ الرشا في الحكم.
وقيل : أكل الربا وأثمان الشحوم.
ولا يصح التناهي عما فعل ، فإما أن يكون المعنى أرادوا فعله كما ترى آلات أمارات الفسق وآلاته تسوى وتهيأ فينكر ، وإما أن يكون على حذف مضاف أي : معاودة منكر أو مثل منكر.
{ لبئس ما كانوا يفعلون } ذم لما صدر عنهم من فعل المنكر وعدم تناهيهم عنه.
وقال الزمخشري : تعجيب من سوء فعلهم ، مؤكداً لذلك بالقسم ، فيا حسرتا على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المنكر وقلة عنايتهم به كأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كتاب الله ، وما فيه من المبالغات في هذا الباب انتهى.
وقال حذّاق أهل العلم : ليس من شروط الناهي أن يكون سليماً من المعصية ، بل ينهي العصاة بعضهم بعضاً.
وقال بعض الأصوليين : فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهي بعضهم بعضاً ، واستدل بهذه الآية لأن قوله : لا يتناهون وفعلوه ، يقتضي اشتراكهم في الفعل ، وذمهم على ترك التناهي.
وفي الحديث : « لا يزال العذاب مكفوف عن العباد ما استتروا بمعاصي الله ، فإذا أعلنوها فلم ينكروها استحقوا عقاب الله تعالى ».
ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا } الظاهر عود الضمير في : منهم ، على بني إسرائيل فقال مقاتل : كثيراً منهم هو من كان بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم يتولون الكفار وعبدة الأوثان ، والمراد كعب بن الأشرف وأصحابه الذين استجلبوا المشركين على الرسول ، وعلى هذا يكون ترى بصرية ، ويحتمل أن تكون من رؤية القلب ، فيحتمل أن يراد أسلافهم أي : ترى الآن إذ أخبرناك.

وقيل : كثيراً منهم منافقو أهل الكتاب كانوا يتولون المشركين.
وقيل : هو كلام منقطع من ذكر بني إسرائيل عني به المنافقون تولوا اليهود روي ذلك عن ابن عباس ومجاهد.
{ لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم } تقدّم الكلام على إعراب ما قال الزمخشري في قوله : أن سخط الله ، أنه هو المخصوص بالذم ومحله الرفع كأنه قيل : لبئس زادهم إلى الآخرة سخط الله عليهم ، والمعنى موجب سخط الله عليهم انتهى.
ولا يصح هذا الإعراب إلا على مذهب الفرّاء ، والفارسي في أنّ ما موصولة ، أو على مذهب من جعل في بئس ضميراً ، وجعل ما تمييزاً بمعنى شيئاً ، وقدّمت صفة التمييز.
وأما على مذهب سيبويه فلا يستوي ذلك ، لأن ما عنده اسم تام معرفة بمعنى الشيء ، والجملة بعده صفة للمخصوص المحذوف ، والتقدير : لبئس الشيء قدّمت لهم أنفسهم ، فيكون على هذا أن سخط الله في موضع رفع بدل من ما انتهى.
ولا يصح هذا سواء كانت موصولة ، أم تامة ، لأن البدل يحل محل المبدل منه ، وأن سخط لا يجوز أن يكون فاعلاً لبئس ، لأن فاعل نعم وبئس لا يكون أن والفعل.
وقيل : إن سخط في موضع نصب بدلاً من الضمير المحذوف في قدّمت ، أي : قدّمته كما تقول : الذي ضربت زيداً أخوك تريد ضربته زيداً.
وقيل : على إسقاط اللام أي : لأن سخط.
{ وفي العذاب هم خالدون } لما ذكر ما قدّموا إلى الآخرة زاداً ، وذمّه بأبلغ الذم ، ذكر ما صاروا إليه وهو العذاب وأنهم خالدون فيه ، وأنه ثمرة سخط الله ، كما أن السخط ثمرة العصيان.
{ ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء } إن كان المراد بقوله : { ترى كثيراً منهم } أسلافهم ، فالنبي داود وعيسى أو معاصري الرسول ، فالنبي هو محمد صلى الله عليه وسلم ، والذين كفروا عبدة الأوثان.
والمعنى : لو كانوا يؤمنون إيماناً خالصاً غير نفاق ، إذ موالاة الكفار دليل على النفاق.
والظاهر في ضمير كانوا وضمير الفاعل في ما اتخذوهم أنه يعود على كثيراً منهم ، وفي ضمير المفعول أنه يعود على الذين كفروا.
وقال القفال وجهاً آخر وهو : أن يكون المعنى ولو كان هؤلاء المتولون من المشركين يؤمنون بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم ما اتخذهم هؤلاء اليهود أولياء.
والوجه الأول أولى ، لأن الحديث إنما هو عن قوله كثيراً منهم ، فعود الضمائر على نسق واحد أولى من اختلافها.
وجاء جواب لو منفياً بما بغير لام ، وهو الأفصح ، ودخول اللام عليه قليل نحو قوله :
لو أن بالعلم تعطى ما تعيش به . . .
لما ظفرت من الدنيا بنقرون
{ ولكن كثيراً منهم فاسقون } خص الكثير بالفسق ، إذ فيهم قليل قد آمن.
والمخبر عنهم أولاً هو الكثير ، والضمائر بعده له ، وليس المعنى.
ولكنّ كثيراً من ذلك الكثير.
ولكنه لما طال أعيد بلفظه ، وكان من وضع الظاهر بلفظه موضع الضمير ، إذ كان السياق يكون : ما اتخذوهم أولياء ، ولكنهم فاسقون.
فوضع الظاهر موضع هذالضمير.

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)

القَسَّ بفتح القاف تتبّع الشيء.
قال رؤبة :
أصبحن عن قَسّ الأذى غوافلا . . .
يمشين هوناً حُرَّداً بهاللا
ويقال قَسَّ الأثر تتبعه ، وقصه أيضاً.
والقسَّ : رئيس النصارى في الدين والعلم ، وجمعه قسوس ، سمي بالمصدر لتتبعه العلم والدّين ، وكذلك القِسّيس فِعّيل كالشِّرِّيب ، وجمع القِسِّيس بالواو والنون ، وجمع أيضاً على قَساوِسَة ، قال أمية بن أبي الصلت :
لو كان منقلب كانت قساوسة . . .
يحييهم الله في أيديهم الزُّبُرُ
قال الفرّاء : هو مثلُ مَهَالبة ، كثرت السيئات فأبدلوا إحداهنّ واواً ، يعني أن قياسه قساسنة.
وزعم ابن عطية أن القسّ بفتح القاف وكسرها ، والقِسّيس اسم أعجمي عُرّب.
الطمع قريب من الرجا ، يقال منه : طمع يطمع طمعاً وطماعةً وطماعيةً؛ قال الشاعر :
طماعية أن يغفر الذنب غافر . . .
واسم الفاعل طمع.
الرّجس اسم لكل ما يستقذر من عمل ، يقال : رجس الرجل يرجس رجساً إذا عمل عملاً قبيحاً ، وأصله من الرجس ، وهو شدّة الصوت بالرّعد؛ قال الراجز :
مِنْ كلّ رجاس يسوق الرّجسا . . .
وقال ابن دريد : الرجز الشر ، والرجز العذاب ، والركس العذَرة والنتن ، والرجس يقال للأمرين.
الرمح معروف ، وجمعه في القِلّة أرماح ، وفي الكثرة رماح ، وَرَمَحَهُ : طعنه بالرمح ، ورجل رامح : أي ذو رمح ولا فعل له من معنى ذي رمح ، بل هو كلابن وتامر ، وثور رامح : له قرنان ، قال ذو الرّمة :
وكائن ذعرناه من مهاة ورامح . . .
بلاد الورى ليست لها ببلاد
والرّماح : الذي يتخذ الرمح وصنعة الرماحة.
الوبال : سوء العاقبة ، ومرعى وبيل : يتأذى به بعد أكله.
البرّ : خلاف البحر.
وقال الليث : يستعمل نكرة ، يقال : جلست بَرّاً وخرجت برّاً ، وقال الأزهري : هي من كلام المولدين ، وفي حديث سلمان « إن لكل أمر جوانيّاً وبرانيّاً » كنى بذلك عن السرّ والعلانية ، وهو من تغيير النسب.
{ لتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا }.
قال قتادة نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة مما جاء به عيسى ، آمنوا بالرسول ، فأثنى الله عليهم ، قيل هو النجاشي وأصحابه تلا عليهم جعفر بن أبي طالب حين هاجر إلى الحبشة سورة مريم فآمنوا وفاضت أعينهم من الدمع ، وقيل هم وفد النجاشي مع جعفر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكانوا سبعين بعثهم إلى الرسول عليهم ثياب الصوف ، اثنان وستون من الحبشة ، وثمانية من الشام ، وهم بحير الراهب وإدريس وأشرف وثمامة وقثم ودريد وأيمن ، فقرأ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم يس ، فبكوا وآمنوا وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى ، فأنزل الله فيهم هذه الآية.
وروي عن مقاتل والكلبي أنهم كانوا أربعين من بني الحارث بن كعب من نجران ، واثنين وثمانين من الحبشة ، وثمانية وستين من الشام.

وروي عن ابن جبير قريب من هذا ، وظاهر اليهود العموم من كان بحضرة الرسول من يهود المدينة وغيرهم ، وذلك أنهم مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم وعلى العتوّ والمعاصي ، واستشعارهم اللعنة وضرب الذلة والمسكنة ، فتحرّرت عداوتهم وكيدهم وحسدهم وخبثهم ، وفي الحديث : « ما خلا يهوديان بمسلم إلا همّا بقتله » وفي وصف الله إياهم بأنهم أشدّ عداوة إشعار بصعوبة إجابتهم إلى الحق ، ولذلك قلّ إسلام اليهود.
وقيل { اليهود } هنا هم يهود المدينة لأنهم هم الذين مالؤوا المشركين على المسلمين.
وعطف { الذين أشركوا } على { اليهود } جعلهم تبعاً لهم في ذلك إذ كان اليهود أشدّ في العداوة ، إذ تباينوا هم والمسلمون في الشريعة لا في الجنس ، إذ بينهم وشائج متصلة من القرابات والأنساب القريبة فتعطفهم على كل حال الرحم على المسلمين ، ولأنهم ليسوا على شريعة من عند الله ، فهم أسرع للإيمان من كلّ أحد من اليهود والنصارى ، وعطفوا هنا كما عطفوا في قوله : { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا } واللام في { لتجدن } هي الملتقى بها القسم المحذوف.
وقال ابن عطية : هي لام الابتداء ، وليس بمرضيّ ، و { الناس } هنا الكفار ، أي ولتجدن أشدّ الكفار عداوة.
{ ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } أي هم ألين عريكةً وأقرب ودًّا.
ولم يصفهم بالودّ إنما جعلهم أقرب من اليهود والمشركين ، وهي أمّة لهم الوفاء والخلال الأربع التي ذكرها عمرو بن العاص في صحيح مسلم ، ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه ديناً وإيماناً ، ويبغضون أهل الفسق ، فإذا سالموا فسلمهم صافٍ ، وإذا حاربوا فحربهم مدافعة ، لأن شرعهم لا يأمرهم بذلك ، وحين غلب الروم فارس سُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لغلبة أهل الكتاب لأهل عبادة النار ، ولإهلاك العدوّ الأكبر بالعدوّ الأصغر إذ كان مخوفاً على أهل الإسلام ، واليهود ليسوا على شيء من أخلاق النصارى ، بل شأنهم الخبث والليّ بالألسنة ، وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يترقب ما يغتالك به ألا ترى إلى ما حكى تعالى عنهم { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأمّيين سبيل } وفي قوله تعالى : { الذين قالوا إنا نصارى } إشارة إلى أنهم ليسوا متمسكين بحقيقة النصرانية ، بل ذلك قول منهم وزعم ، وتعلق { للذين آمنوا } الأول بعداوة والثاني بمودة.
وقيل هما في موضع النعت ووصف العداوة بالأشد والمودّة بالأقرب دليل على تفاوت الجنسين بالنسبة إلى المؤمنين ، فتلك العداوة أشد العداوات وأظهرها ، وتلك المودة أقرب وأسهل ، وظاهر الآية يدلّ على أنّ النصارى أصلح حالاً من اليهود وأقرب إلى المؤمنين مودة ، وعلى هذا الظاهر فسر الآية على من وقفنا على كلامه.
قال بعضهم : وليس على ظاهره وإنما المراد أنهم أكثر أسباب مودة من اليهود ، وذلك ذم لهم ، فإن من كثرت أسباب مودته كان تركه للمودة أفحش ، ولهذا قال أبو بكر الرازي : من الجهال من يظن أن في هذه الآية مدحاً للنصارى وإخباراً بأنهم خير من اليهود ، وليس كذلك لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم يدل عليه ما ذكره في نسق التلاوة من إخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله وبالرسول ، ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أنعم في مقالتي الطائفتين أن مقالة النصارى أقبح وأشد استحالة وأظهر فساداً من مقالة اليهود ، لأن اليهود تقرّ بالتوحيد في الجملة وإن كان فيها مشبهة ببعض ما اعتقدته في الجملة من التوحيد بالتشبيه؛ انتهى كلام أبي بكر الرازي والظاهر ما قاله المفسرون وغيره من أن النصارى على الجملة أصلح حالاً من اليهود ، وقد ذكر المفسرون فيما تقدم ما فضل به النصارى على اليهود من كرم الأخلاق ، والدخول في الإسلام سريعاً ، وليس الكلام وارداً بسبب العقائد ، وإنما ورد بسبب الانفعال للمسلمين ، وأما قوله لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول ليس كما ذكر ، بل صدر الآية يقتضي العموم لأنه قال : { ولتجدن أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } ثم أخبر أن من هذه الطائفة علماء وزهاد ومتواضعين وسريعي استجابة للإسلام وكثيري بكاء عند سماع القرآن ، واليهود بخلاف ذلك والوجود يصدق قرب النصارى من المسلمين وبعد اليهود.

{ ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون } الإشارة بذلك إلى أقرب المودة عليه ، أي منهم علماء وعباد وأنهم قوم فيهم تواضع واستكانة ، وليسوا مستكبرين واليهود على خلاف ذلك لم يكن فيهم قط أهل ديارات ولا صوامع وانقطاع عن الدنيا ، بل هم معظمون متطاولون لتحصيلها حتى كأنهم لا يؤمنون بآخرة ولذلك لا يرى فيهم زاهد ، والرهبان جمع راهب كفارس وفرسان والرهب والرهبة الخشية.
وقيل الرهبان مفرد كسلطان وأنشدوا :
لو عاينت رهبان دير في القلل . . .
تحدر الرهبان تمشي وتزل
ويروي ونزل ، والقسيس تقدم شرحه في المفردات.
وقال ابن زيد : هو رأس الرهبان.
وقيل : العالم.
وقيل : رافع الصوت بالقراءة.
وقيل : الصديق ، وفي هذا التعليل دليل على جلاله العلم ، وأنه سبيل إلى الهداية ، وعلى حسن عاقبة الانقطاع ، وأنه طريق إلى النظر في العاقبة على التواضع ، وأنه سبب لتعظيم الموحد إذ يشهد من نفسه ومن كل محدث أنه مفتقر للموجد فيعظم عند مخترع الأشياء البارىء { وإذا ما سمعوا ما أنزل إلى رسول الله ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق } هذا وصف برقة القلوب والتأثر بسماع القرآن ، والظاهر أن الضمير يعود على قسيسين ورهباناً فيكون عامّاً ، ويكون قد أخبر عنهم بما يقع من بعضهم كما جرى للنجاشي حيث تلا عليه جعفر سورة مريم إلى قوله { ذلك عيسى ابن مريم } وسورة طه إلى قوله

{ وهل أتاك حديث موسى } فبكى وكذلك قومه الذين وفدوا على الرسول حين قرأ عليها { يس } فبكوا.
وقال ابن عطية ما معناه : صدر الآية عام في النصارى و { إذا ما سمعوا } عام في من آمن من القادمين من أرض الحبشة ، إذ ليس كل النصارى يفعل ذلك ، بل هم الذين بعثهم النجاشي ليروا النبي صلى الله عليه وسلم ويسمعوا ما عنده ، فلما رأوه وتلا عليهم القرآن فاضت أعينهم من خشية الله تعالى ، انتهى.
وقال السديّ : لما رجعوا إلى النجاشي آمن وهاجر بمن معه فمات في الطريق ، فصلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون واستغفروا له ، و { ترى } من رؤية العين وأسند الفيض إلى الأعين وإن كان حقيقة للدموع كما قال :
ففاضت دموع العين مني صبابة . . .
إقامة للمسبب مقام السبب ، لأن الفيض مسبب عن الامتلاء ، فالأصل ترى أعينهم تمتلىء من الدمع حتى تفيض ، لأن الفيض على جوانب الإناء ناشىء عن امتلائه ، قال الشاعر :
قوارض تأتيني ويحتقرونها . . .
وقد يملأ الماء الإناء فيفعم
ويحتمل أنه أسند الفيض إلى الأعين على سبيل المبالغة في البكاء لما كانت تفاض فيها جعلت الفائضة بأنفسها على سبيل المجاز والمبالغة ، و { من } في { من الدمع } قال أبو البقاء : فيه وجهان أحدهما : أن مِن لابتداء الغاية أي فيضها من كثرة الدموع والثاني : أن يكون حالاً ، والتقدير تفيض مملوءة من الدمع مما عرفوا من الحق ، ومعناها من أجل الذي عرفوه ، و { من الحق } حال من العائد المحذوف أو حال من ضمير الفاعل في { عرفوا }.
وقيل : { من } في { من الدمع } بمعنى الباء أي بالدمع.
وقال الزمخشري : { من الدمع } من أجل البكاء من قولك دمعت عينه دمعاً.
( فإن قلت ) : أي فرق بين مِن ومِن في قوله : { مما عرفوا من الحق } ( قلت ) : الأول لابتداء الغاية على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق ، وكان من أجله وسببه ، والثانية لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا ، ويحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم ، انتهى.
والجملة من قوله : { وإذا سمعوا } تحتمل الاستئناف ، وتحتمل أن تكون معطوفة على خبر إنهم.
وقرىء : { ترى أعينهم } على البناء لما لم يسمّ فاعله { يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين } المراد بآمنا أنشأنا الإيمان الخاص بهذه الأمة الإسلامية.
والشاهدون : قال ابن عباس وابن جريج وغيرهما : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقالوا ذلك هم شهداء على سائر الأمم ، كما قال تعالى : { لتكونوا شهداء على الناس } قال الزمخشري : وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك ، انتهى.
وقال الطبري : معناه ولو قيل معناه { مع الشاهدين } بتوحيدك من جميع العالم من تقدم ومن تأخر لكان صواباً.
وقيل : مع الذين يشهدون بالحق.
وقال الزجاج المراد بالشاهدين الأنبياء ، والمؤمنون ، والكتابة في اللوح المحفوظ.
وقيل : معناه أثبتنا من قولهم كتب فلان في الجند أي ثبت ، و { يقولون } في موضع نصب على الحال ، قاله ابن عطية وأبو البقاء ، ولم يبينا ذا الحال ولا العامل فيها ، ولا جائز أن يكون حالاً من الضمير في أعينهم لأنه مجرور بالإضافة لا موضع له من رفع ولا نصب إلا على مذهب من ينزل الخبر منزلة المضاف إليه ، وهو قول خطأ ، وقد بينا ذلك في كتاب منهج السالك من تأليفنا ، ولا جائز أن يكون حالاً من ضمير الفاعل في { عرفوا } لأنها تكون قيداً في العرفان وهم قد عرفوا الحق في هذه الحال وفي غيرها ، فالأولى أن تكون مستأنفة ، أخبر تعالى عنهم بأنهم التبسوا بهذا القول ، والمعنى أنهم عرفوا الحق بقلوبهم ونطقت به وأقرت ألسنتهم.

{ وما لنا لا نؤمنُ بالله وما جاءنا من الحق } هذا إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان منهم مع قيام موجبه وهو عرفان الحق.
قال الزمخشري والتبريزي : وموجب الإيمان هو الطمع في دخولهم مع الصالحين ، والظاهر أن قولهم ذلك هو الظاهر لأنفسهم على سبيل المكالمة معها لدفع الوساوس والهواجس ، إذ فراق طريقة وسلوك أخرى لم ينشأ عليها مما يصعب ويشق ، أو قول بعض من آمن لبعض على سبيل التثبت أيضاً ، أو قولهم ذلك على سبيل المحاجة لمن عارضهم من الكفار ، لما رجعوا إليهم ولا موهم على الإيمان أي ، وما يصدنا عن الإيمان بالله وحده.
وقد لاح لنا الصواب وظهر الحق النير.
وروي عن ابن عباس أن اليهود أنكروا عليهم ولاموهم فأجابوهم بذلك و { لا نؤمن } في موضع الحال ، وهي المقصودة وفي ذكرها فائدة الكلام ، وذلك كما تقول : جاء زيد راكباً جواباً لمن قال : هل جاء زيد ماشياً أو راكباً ، والعامل فيها هو متعلق به الجار والمجرور ، أي : أي شيء يستقرّ لنا ويجعل في انتفاء الإيمان عنا ، وفي مصحف عبد الله وما لنا لا نؤمن بالله وما أنزل علينا ربنا ونطمع وينبغي أن يحمل ذلك على تفسير قوله تعالى { وما جاءنا من الحق } لمخالفته ما أجمع عليه المسلمون من سواد المصحف.
{ ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين } الأحسن والأسهل أن يكون استئناف إخبار منهم بأنهم طامعون في إنعام الله عليهم بدخولهم مع الصالحين ، فالواو عاطفة جملة على جملة ، و { ما لنا لا نؤمن } { لا } عاطفة على نؤمن أو على { لا } نؤمن ولا على أن تكون الواو واو الحال ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه.
وقال الزمخشري : والواو في { ونطمع } واو الحال ، والعامل في الحال معنى الفعل العامل في لا نؤمن ، ولكن مفيداً بالحال الأولى لأنك لو أزلتها وقلت : وما لنا نطمع لم يكن كلاماً ، انتهى.
وماذكره من أن الحالين العامل فيهما واحد وهو ما في اللام من معنى الفعل ، كأنه قيل : أي شيء حصل لنا غير مؤمنين طامعين ليس بجيد ، لأن الأصح أنه لا يجوز أن يقضي العامل حالين لذي حال واحد لا بحرف عطف إلا أفعل التفضيل ، فالأصح أنه يجوز فيه ذلك ، وذوا الحال هنا واحد وهو الضمير المجرور بلام لنا ، ولأنه أيضاً تكون الواو دخلت على المضارع ، ولا تدخل واو الحال على المضارع إلا بتأويل ، فيحتاج أن يقدر : ونحن نطمع.

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون { ونطمع } حالاً من { لا نؤمن } على أنهم أنكروا على أنفسهم لأنهم لا يوحدون الله ، ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين ، انتهى.
وهذا ليس بجيد لأن فيه دخول واو الحال على المضارع ويحتاج إلى تأويل.
وقال الزمخشري : وأن يكون معطوفاً على { لا نؤمن } على معنى وما لنا لا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصالحين أو على معنى : وما لنا لا نجمع بينهما بالدخول في الإسلام لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في صحبة الصالحين ، انتهى.
ويظهر لي وجه غير ما ذكروه وهو أن يكون معطوفاً على نؤمن على أنه منفي كنفي نؤمن ، التقدير : وما لنا لا نؤمن ولا نطمع فيكون في ذلك إنكار لانتفاء إيمانهم وانتفاء طمعهم مع قدرتهم على تحصيل الشيئين : الإيمان والطمع في الدخول مع الصالحين و { مع } على بابها من المعية ، وقيل : بمعنى في والصالحون أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس أو الرسول وأصحابه ، قاله ابن زيد ، أو المهاجرون الأولون ، قاله مقاتل.
وقيل : التقدير أن يدخلنا الجنة { فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين } ظاهره أن الإثابة بما ذكر مترتبة على مجرد القول ، ولا بد أن يقترن بالقول الاعتقاد ويبين أنه مقترن به أنه قال : { مما عرفوا من الحق } فوصفهم بالمعرفة ، فدل على اقتران القول بالعلم ، وقال : { وذلك جزاء المحسنين } فإما أن يكون من وضع الظاهر موضع المضمر تنبيهاً على هذا الوصف بهم ، وأنهم أثيبوا لقيام هذا الوصف بهم ، وهو رتبة الإحسان ، وهي التي فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : « أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك » ولا إخلاص ولا علم أرفع من هذه الرتبة ، وإما أن يكون أريد به العموم فيكونون قد اندرجوا في المحسنين على أن هذه الإثابة لم تترتب على مجرد القول اللفظي ، ولذلك فسره الزمخشري بقوله بما قالوا بما تكلموا به من اعتقاد وإخلاص من قولك : هذا قول فلان أي اعتقاده وما يذهب إليه انتهى.
وفسروا هذا القول بقولهم : { وما لنا لا نؤمن بالله } والذي يظهر أنه عنى به قولهم { يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين } لأنه هو الصريح في إيمانهم ، وأما قوله : { لا نؤمن بالله } فليس فيه تصريح بإيمانهم ، وإنما هو إنكار على انتفاء الإيمان منهم مع قيام موجبه ، فلا تترتب عليه الإثابة.

وقرأ الحسن { فآتاهم } من الإيتاء بمعنى الإعطاء لا من الإثابة ، والإثابة أبلغ من الإعطاء ، لأنه يلزم أن يكون عن عمل بخلاف الإعطاء ، فإنه لا يلزم أن يكون عن عمل ولذلك جاء أخيراً { وذلك جزاء المحسنين } نبه على أن تلك الإثابة هي جزاء ، والجزاء لا يكون إلا عن عمل { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } اندرج في { الذين كفروا وكذبوا } اليهود والنصارى وغيرهم لما ذكر ما للمؤمن ذكر ما أعد للكافر.
{ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ذكروا سبب نزولها في قصة طويلة ملخصها أن جماعة من الصحابة عزموا على التقشف المفرط والعبادة المفرطة الدائمة من الصيام الدائم وترك إتيان النساء واللحم والودك والطيب ولبس المسوح والسياحة في الأرض وجبّ المذاكير ، فنهاهم الرسول عن ذلك ونزلت.
وقيل : حرم عبد الله بن رواحة عشاه ليلة نزل به ضيف لكون امرأته انتظرته ولم تبادر إلى إطعام ضيفه ، فحرمته هي إن لم يذقه ، فحرمه الضيف ، فقال عبد الله : قربي طعامك ، كلوا بسم الله ، فأكلوا جميعاً وأخبر الرسول بذلك ، فقال « أحسنت ».
وقيل في سبب نزولها غير ذلك.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه تعالى لما مدح النصارى بأن منهم قسيسين ورهباناً وعادتهم الاحتراز عن طيبات الدنيا ومستلذاتها أوهم ذلك ترغيب المسلمين في مثل ذلك التقشف والتبتل بيّن تعالى أنّ الإسلام لا رهبانية فيه ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أما أنا فأقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء وأنالُ الطيب ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ».
وأكل صلى الله عليه وسلم الدجاج والفالوذج وكان يعجبه الحلوى والعسل والطيبات هنا المستلذات من الحلال ومعنى لا تحرّموها لا تمنعوا أنفسكم منها لمنع التحريم ولا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً ، وهذا هو المناسب لسبب النزول.
وقيل المعنى : لا تحرموا ما تريدون تحصيله لأنفسكم من الحلال بطريق غير مشروع كالغصب والربا والسرقة ، بل توصلوا بطريق مشروع من ابتياع واتهاب وغيرهما.
وقيل معناه لا تعتقدوا تحريم ما أحلّه الله لكم.
وقيل : لا تحرّموا على نفسكم بالفتوى.
وقيل لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين لقوله : { لم تحرم ما أحل الله لك } وقيل : خلط المغصوب بالمملوك خلطاً لا يتميز منه فيحرم الجميع ويكون ذلك سبباً لتحريم ما كان حلالاً { ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } هذا نهي عن الاعتداء فيدخل فيه جميع أنواع الاعتداء ولا سيما ما نزلت الآية بسببه.
قال الحسن : لا تجاوزوا ما حدّ لكم من الحلال إلى الحرام ، واتبعه الزمخشري فقال : ولا تتعدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم ، وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وإبراهيم : لا تعتدوا بالخنا وتحريم النساء ، وقال عكرمة أيضاً : لا تسيروا بغير سيرة الإسلام ، وقال السدي وعكرمة أيضاً : هو نهي عن هذه الأمور المذكورة من تحريم ما أحل الله ، فهو تأكيد لقوله { لا تحرموا } وقيل : ولا تعتدوا بالإسراف في تناول الطيبات كقوله :

{ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } { وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً } تقدم تفسير مثلها في قوله : { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } تأكيد للوصية بما أمر به وزاده تأكيداً بقوله : { الذي أنتم به مؤمنون } لأن الإيمان به يحمل على التقوى في امتثال ما أمر به واجتناب ما نهي عنه.
{ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الايمان } تقدم الكلام في تفسير نظير هذه الجملة ، ومعنى { عقدتم } وثقتم بالقصد والنية ، وقرأ الحرميان وأبو عمر بتشديد القاف ، وقرأ الأخوان وأبو بكر بتخفيفها ، وابن ذكوان بألف بين العين والقاف ، وقرأ الأعمش بما عقدت الأيمان جعل الفعل للأيمان فالتشديد إما للتكثير بالنسة إلى الجمع ، وأما لكونه بمعنى المجرد نحو قدّر وقدر ، والتخفيف هو الأصل ، وبالألف بمعنى المجرد نحو جاوزت الشيء وجزته ، وقاطعته وقطعته ، أي هجرته.
وقال أبو علي الفارسي : عاقدتم يحتمل أمرين أحدهما أن يكون كطارقت النعل وعاقبت اللص ، انتهى ، وليس مثله لأنك لا تقول طرقت النعل ولا عقبت اللص بغير ألف ، وهذا تقول فيه عاقدت اليمين وعقدت ياليمين ، وقال الحطيئة :
قوم إذا عاقدوا عقداً لجارهم . . .
فجعله بمعنى المجرد وهو الظاهر كما ذكرناه.
قال أبو علي : والأحرى أن يراد به فاعلت التي تقتضي فاعلين كأن المعنى بما عاقدتم عليه الأيمان عداه بعلى لما كان بمعنى عاهد ، قال : بما عاهد عليه الله كما عدى { ناديتم إلى الصلاة } بإلى ، وبابها أن تقول ناديت زيداً { وناديناه من جانب الطور الأيمن } لما كانت بمعنى دعوت إلى كذا قال مما دعا إلى الله ثم اتسع فحذف الجار ونقل الفعل إلى المفعول ، ثم المضمر العائد من الصلة إلى الموصول ، إذ صار بما عاقدتموه الأيمان ، كما حذف من قوله { فاصدع بما تؤمر } انتهى ، وجعل عاقد لاقتسام الفاعلية والمفعولية لفظاً والاشتراك فيهما معنى بعيد إذ يصير المعنى أن اليمين عاقدته كما عاقدها إذ نسب ذلك إليه وهو عقدها هو على سبيل الحقيقة ، ونسبة ذلك إلى اليمين هو على سبيل المجاز لأنها لم تعقده بل هو الذي عقدها.
وأما تقديره بما عاقدتم عليه وحذف حرف الجر ، ثم الضمير على التدريج الذي ذكره فهو أيضاً بعيد ، وليس تنظيره ذلك بقوله { فاصدع بما تؤمر } بسديد لأن أمر يتعدى بحرف الجر تارة وبنفسه تارة إلى المفعول الثاني وإن كان أصله الحذف تقول أمرتُ زيداً الخير ، وأمرته بالخير ، ولأنه لا يتعين في { فاصدع بما تؤمر } أن تكون ما موصولة بمعنى الذي ، بل يظهر أنها مصدرية فلا يحتاج إلى عائد ، وكذلك هنا الأولى أن تكون ما مصدرية ، ويقوي ذلك ويحسنه المقابلة بعقد اليمين للمصدر الذي هو باللغو في أيمانكم ، لأن اللغو مصدر ، فالأولى مقابلته بالمصدر لا بالموصول.

وقال الزمخشري : والمعنى : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم ، فحذف وقت المؤاخذة ، لأنه كان معلوماً عندهم أو بنكث ما عقدتم ، فحذف المضاف انتهى؛ واليمين المنعقدة بالله أو بأسمائه أو صفاته.
وقال الإمام أحمد : إذا حلف بالنبيّ صلى الله عليه وسلم انعقدت يمينه لأنه حلف بما لم يتم الإيمان إلا به ، وفي بعض الصفات تفصيل.
وخلاف ذكر في الفقه.
{ فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } الكفارة الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها ، والضمير في «فكفارته» عائد على ما إن كانت موصولة اسمية ، وهو على حذف مضاف كما تقدم ، وإن كانت مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من المعنى وهو إثم الحنث وإن لم يجر له ذكر صريح لكن يقتضيه المعنى ، ومساكين أعمّ من أن يكونوا ذكوراً أو إناثاً أو من الصنفين ، والظاهر تعداد الأشخاص ، فلو أطعم مسكيناً واحداً لكفارة عشرة أيام لم يجزه ، وبه قال مالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة يجزىء ، وتعرّضت الآية لجنس ما يطعم منه وهو من أوسط ما تطعمون ولم تتعرض لمقدار ما يطعم كل واحد هذا الظاهر ، وقد رأى مالك وجماعة أن هذا التوسط هو في القدر ، وبه قال عمر وعليّ وابن عباس ومجاهد ، ورأى جماعة أنه في الصنف ، وبه قال ابن عمر والأسود وعبيدة والحسن وابن سيرين ، وقال ابن عطية : الوجه أن يطعم بلفظ الوسط القدر والصنف؛ انتهى.
وروي عن زيد بن ثابت وابن عباس والحسن وعطاء وابن المسيب مدّ لكلّ مسكين بمدّ الرسول ، وبه قال مالك والشافعي ، وروي عن عمر وعليّ وعائشة نصف صاع من برّ أو صاع من تمر ، وبه قال أبو حنيفة ، والظاهر أنه لا يجزىء إلا الإطعام بما فيه كفاية وقتاً واحداً يسدّ به الجوعة ، فإن غداهم وعشاهم أجزأه ، وبه قال عليّ ومحمد بن كعب والقاسم وسالم والشعبي وإبراهيم وقتادة والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك ، وقال ابن جبير والحكم والشافعي : من شرط صحة الكفارة تمليك الطعام للفقراء ، فإن غدّاهم وعشاهم لم يجزه ، والظاهر أنه لا يشترط الإدام ، وقال ابن عمر : أوسط ما يطعم الخبز والتمر والخبز والزبيب وخير ما نطعم أهلينا الخبز واللحم وعن غيره الخبز والسمن ، وأحسنه التمر مع الخبز ، وروي عن ابن مسعود مثله ، وقال ابن حبيب : لا يجزىء الخبز قفاراً ولكن بإدام زيت أو لبن أو لحم ونحوه ، والظاهر أن المراعي ما يطعم أهليه الذين يختصون به ، أي من أوسط ما يطعم كل شخص شخص أهله ، وقيل المراعي عيش البلد ، فالمعنى من أوسط ما تطعمون أيها الناس أهليكم في الجملة من مدينة أو صقع ، و { من أوسط } في موضع مفعول ثان لإطعام ، والأول هو { عشرة مساكين } أي طعاماً من أوسط والعائد على { ما } من { تطعمون } في موضع محذوف أي تطعمونه وقرأ الجمهور { أهليكم } وجمع أهل بالواو والنون شاذّ في القياس.

وقرأ جعفر الصادق { أهاليكم } جمع تكسير وبسكون الياء ، قال ابن جني : أهال بمنزلة ليال ، واحدها أهللة وليلاة ، والعرب تقول : أهل وأهلة ومنه قوله :
وأهلة ودّ قد سريت بودّهم . . .
.
وقال الزمخشري والأهالي اسم جمع لأهل كالليالي في جمع ليلة والأراضي في جمع أرض ، وأما تسكين الياء في أهاليكم فهو كثير في الضرورة ، وقيل في السعة كما قال زهير :
يطيع العوالي ركبت كل لهدم . . .
شبهت الياء بالألف فقدرت فيها جميع الحركات.
{ أو كسوتهم } هذا معطوف على قوله { إطعام } والظاهر أن كسوة هي مصدر وإن كان يستعمل للثوب الذي يستر ، ولما لم يذكر مقدار ما يطعم لم يذكر مقدار الكسوة وظاهر مطلق الكسوة وأجمعوا على أن القلنسوة بانفرادها لا تجزىء ، وقال بعضهم : الكسوة في الكفارة إزار وقميص ورداء ، وروي عن ابن عمر أو ثوبان لكل مسكين.
قاله أبو موسى الأشعريّ وابن سيرين والحسن : وراعى قوم الزي والكسوة المتعارفة ، فقال بعضهم : لا يجزىء الثوب الواحد إلا إذا كان جامعاً لما قد يتزين به كالكساء والملحفة ، وقال النخعي : ليس القميص والدرع والخمار ثوباً جامعاً ، وقال الحسن والحكم : تجزىء عمامة يلف بها رأسه ، وقال مجاهد يجزىء كل شيء إلا التبان ، وقال عطاء وابن عباس وأبو جعفر ومنصور : الكسوة ثوب قميص أو رداء أو إزار ، وقال ابن عباس تجزىء العباءة أو الشملة ، وقال طاوس والحسن : ثوب لكل مسكين ، وعن ابن عمر إزار وقميص أو كساء ، وهل يجزىء إعطاء كساوي عشرة أنفس لشخص واحد في عشرة أيام فيه خلاف كالإطعام ، وقرأ النخعي وابن المسيب وابن عبد الرحمن { كسوتهم } بضم الكاف ، وقرأ ابن جبير وابن السميفع { أَو كاسوتهم } بكاف الجر على أسوة ، قال الزمخشري : المعنى أو مثل ما تطعمون أهليكم إسرافاً كان أو تقتيراً لا تنقصونهم عن مقدار نفقتهم ولكن تساوون بينهم وبينهم ( فإن قلت ) : ما محل الكاف؟ ( قلت ) الرفع ، قيل : إن قوله { أو كسوتهم } عطف على محل { من أوسط } فدل على أنه ليس قوله { من أوسط } في موضع مفعول ثان بالمصدر بل انقضى عنده الكلام في قوله { إطعام عشرة مساكين } ثم أضمر مبتدأ أخبر عنه بالجار والمجرور يبينه ما قبله تقديره طعامهم من أوسط ، وعلى ما ذكرناه من أن { من أوسط } في موضع نصب تكون الكاف في { كاسوتهم } في موضع نصب لأنه معطوف على محل { من أوسط } وهو عندنا منصوب ، وإذا فسرت { كاسوتهم } في الطعام بقيت الآية عارية من ذكر الكسوة ، وأجمع العلماء على أن الحانث مخير بين الإطعام والكسوة والعتق وهي مخالفة لسواد المصحف ، وقال بعضهم { أَو كاسوتهم } في الكسوة ، والظاهر أنه لا يجزىء إخراج قيمة الطعام والكسوة وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة ، يجزىء ، والظاهر أنه لم يقيد المساكين بوصف فيجوز صرف ذلك إلى الذميّ والعبد وبه قال أبو حنيفة ، وقال غيره لا يجزىء ، واتفقوا على أنه لا يجزىء دفع ذلك إلى المرتدّ.

{ أو تحرير رقبة } تسمية الإنسان رقبة تسمية الكل بالجزء وخص بذلك لأن الرقبة غالباً محل للتوثق والاستمساك فهو موضع الملك ، وكذلك أطلق عليه رأس ، والتحرير يكون بالإخراج عن الرق وعن الأسر وعن المشقة وعن التعب ، وقال الفرزدق :
أبني غدانة إنني حررتكم . . .
فوهبتكم لعطية بن جعال
أي حررتكم من الهجا ، والظاهر حصول الكفارة بتحرير ما يصدر عليه رقبة من غير اعتبار شيء آخر فيجزىء عتق الكفار وبه قال داود وجماعة من أهل الظاهر ، وقال أبو حنيفة يجزىء الكافر ومن به نقص يسير من ذوي العاهات ، واختار الطبري إجزاء الكافر ، وقال مالك : لا يجزىء كافر ولا أعمى ولا أبرص ولا مجنون ، وقال ابن شهاب وجماعة : وفرق النخعي فأجاز عتق من يعمل أشغاله ويخدم ومنع عتق من لا يعمل كالأعمى والمقعد وأشل اليدين.
{ فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } أي فمن لم يجد أحد هذه الثلاثة من الإطعام والكسوة والعتق فلو كان ماله في غير بلده ووجد من يسلفه لم ينتقل إلى الصوم أو لم يجد من يسلفه فقيل لا يلزمه انتظار ماله من بلده ويصوم وهو الظاهر لأنه غير واجد الآن ، وقيل ينتظر والظاهر أنه إذا كان عنده فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقتهم يومه وليلته وعن كسوتهم بقدر ما يطعم أو يكسو فهو واجد.
وبه قال أحمد وإسحاق والشافعي ومالك ، وقال مالك إلا أن يخاف الجوع أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيه ، وقال ابن جبير : إن لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم ، وقال قتادة إذا لم يكن إلا قدر ما يكفر به صام ، وقال الحسن إذا كان له درهمان أطعم ، وقال أبو حنيفة إذا لم يكن عنده نصاب فهو غير واجد ، وقال آخرون جائز لمن لم يكن عنده فضل على رأس ماله الذي يتصرّف به في معاشه أو يصوم ، والظاهر أنه لا يشترط التتابع.
وبه قال مالك والشافعي في أحد قوليه ، وقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وطاوس وأبو حنيفة : يشترط.
وقرأ أبيّ وعبد الله والنخعي.
{ أيام متتابعات } واتفقوا على أن العتق أفضل ، ثم الكسوة ، ثم الإطعام وبدأ الله بالأيسر فالأيسر على الحال ، وهذه الكفارة التي نص الله عليها لازمة للحر المسلم ، وإذا حنث العبد فقال سفيان وأبو حنيفة والشافعي ليس عليه إلا الصوم لا يجزئه غيره ، وحكى ابن نافع عن مالك لا يكفر بالعتق لأنه لا يكون له ولاء ولكن يكفر بالصدقة إن أذن له سيده ، والصوم أصوب ، وحكى ابن القاسم عنه أنه قال إن أطعم أو كسى بإذن السيد فما هو بالبين وفي قلبي منه شيء ، ولو حلف بصدقة ماله فقال الشعبي وعطاء وطاوس لا شيء عليه ، وقال الشافعي وإسحاق وأبو ثور : عليه كفارة بمين ، وقال أبو حنيفة : مقدار نصاب ، وقال بعضهم : مقدار زكاته ، وقال مالك : ثلث ماله ولو حلف بالمشي إلى مكة ، فقال ابن المسيب والقاسم : لا شيء عليه ، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور : كفارة يمين ، وقال أبو حنيفة : يلزمه الوفاء به فإن عجز عن المشي لزمه أن يحج راكباً ولو حلف بالعتق ، فقال عطاء : يتصدّق بشيء ، وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة : عليه كفارة يمين لا العتق ، وقال الجمهور : يلزمه العتق ومن قال الطلاق لازم له فقال المهدوي : أجمع كل من يعتمد على قوله إن الطلاق لازم لمن حلف به وحنث.

{ ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } أي ذلك المذكور واستدل بها الشافعي على جواز التكفير بعد اليمين.
وقيل الحنث وفيها تنبيه على أن الكفارة لا تكون إلا بعد الحنث فهم يقدّرون محذوفاً أي إذا حلفتم وحنثتم.
{ واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون } قال الزمخشري أي بروا فيها ولا تحنثوا ، أراد الأيمان التي الحنث فيها معصية لأن الأيمان اسم جنس يجوز إطلاقه على بعض الجنس وعلى كله ، وقيل احفظوها بأن تكفروها ، وقيل احفظوها كيف حلفتم بها ولا تنسوها تهاوناً بها.
{ كذلك } أي مثل ذلك البيان { يبين الله لكم آياته } إعلام شريعته وأحكامه.
{ لعلكم تشكرون } نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج منه.
{ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } نزلت بسبب قصة سعد بن أبي وقاص حين شرب طائفة من الأنصار والمهاجرين فتفاخروا ، فقال سعد : المهاجرون خير فرماه أنصاري بلحي جمل ففزر أنفه ، وقيل بسبب قول عمر اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً ، وقيل بسبب قصة حمزة وعليّ حين عقر شارف عليّ وقال : هل أنتم إلا عبيد لأبي وهي قصة طويلة ، وقيل كان أمر الخمر ونزول الآيات بتدريج ، فنزل { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } وقيل بسبب قراءة بعض الصحابة وكان منتشياً في صلاة المغرب { قل يا أيها الكافرون } على غير ما أنزلت ، ثم عرض ما عرض بسبب شربها من الأمور المؤدّية إلى تحريمها حتى نزلت هذه الآية ، وقال ابن عباس : نزلت بسبب حيين من الأنصار ثملوا وعربدوا فلما صحوا جعل كل واحد يرى أثراً بوجهه وبجسده فيقول : هذا فعل فلان ، فحدثت بينهم ضغائن ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما أمر تعالى بأكل ما رزقهم حلالاً طيباً ونهاهم عن تحريم ما أحله لهم مما لا إثم فيه وكان المستطاب المستلذ عندهم الخمر والميسر وكانوا يقولون الخمر تطرد الهموم وتنشط النفس وتشجع الجبان وتبعث على المكارم ، والميسر يحصل به تنمية المال ولذة الغلبة بيَّن تعالى تحريم الخمر والميسر لأن هذه اللذة يقارنها مفاسد عظيمة في الخمر إذهاب العقل وإتلاف المال ولذلك ذم بعض حكماء الجاهلية إتلاف المال بها وجعل ترك ذلك مدحاً فقال :

أخي ثقة لا تتلف الخمر ماله . . .
ولكنه قد يهلك المال نائله
وتنشأ عنها مفاسد أخر من قتل النفس وشدّة البغضاء وارتكاب المعاصي لأن ملاك هذه كلها العقل فإذا ذهب العقل أتت هذه المفاسد ، والميسر فيه أخذ المال بالباطل ، وهذا الخطاب للمؤمنين والذي منعوا منه في هذه الآية هي شهوات وعادات ، فأما الخمر فكانت لم تحرم بعد وإنما نزل تحريمها بعد وقعة أحد سنة ثلاث من الهجرة ، وأما الميسر ففيه لذة وغلبة ، وأما الأنصاب فإن كانت الحجارة التي يذبحون عندها وينحرون فحكم عليها بالرجس دفعاً لما عسى أن يبقى في قلب ضعيف الإيمان من تعظيمها وإن كانت الأنصاب التي تعبد من دون الله فقرنت الثلاثة بها مبالغة في أنه يجب اجتنابها كما يجب اجتناب الأصنام ، وأما الأزلام التي كان الأكثرون يتخذونها في أحدها لا وفي الآخر نعم ، والآخر غفل وكانوا يعظمونها ومنها ما يكون عند الكهان ومنها ما يكون عند قريش في الكعبة وكان فيها أحكام لهم ، ومن هذا القبيل الزجر بالطير وبالوحش وبأخذ الفأل في الكتب ، ونحوه مما يصنعه الناس اليوم وقد اجتمعت أنواع من التأكيد في الآية منها التصدير بإنما وقران الخمر والميسر بالأصنام إذا فسرنا الأنصاب بها وفي الحديث « مدمن الخمر كعابد وثن » والإخبار عنها بقوله رجس وقال تعالى : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } ووصفه بأنه من عمل الشيطان والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت ، والأمر بالاجتناب وترجية الفلاح وهو الفوز باجتنابه فالخيبة في ارتكابه ، وبدىء بالخمر لأن سبب النزول إنما وقع بها من الفساد ولأنها جماع الإثم.
وكانت خمر المدينة حين نزولها الغالب عليها كونها من العسل ومن التمر ومن الزبيب ومن الحنطة ومن الشعير وكانت قليلة من العنب ، وقد أجمع المسلمون على تحريم القليل والكثير من خمر العنب التي لم تمسها نار ولا خالطها شيء والأكثر من الأمة على أن ما أسكر كثيره فقليه حرام ، والخلاف فيما لا يسكر قليه ويسكر كثيره من غير خمر العنب مذكور في كتب الفقه ، قال ابن عطية : وقد خرّج قوم تحريم الخمر من وصفها برجس ، وقد وصف تعالى في آية أخرى الميتة والدم ولحم الخنزير بأنها رجس فيجيء من ذلك أن كل رجس حرام وفي هذا نظر والاجتناب أن تجعل الشيء جانباً وناحية انتهى.

ولما كان الشيطان هو الداعي إلى التلبس بهذه المعاصي والمغري بها جعلت من عمله وفعله ونسبت إليه على جهة المجاز والمبالغة في كمال تقبيحه كما جاء { فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان } والضمير في { فاجتنبوه } عائد على الرجس المخبر عنه من الأربعة فكان الأمر باجتنابه متناولاً لها ، وقال الزمخشري ( فإن قلت ) إلامَ يرجع الضمير في قوله { فاجتنبوه } ( قلت ) إلى المضاف المحذوف كأنه قيل إنما شأن الخمر والميسر أو تعاطيهما أو ما أشبه ذلك ولذلك قال رجس من عمل الشيطان انتهى ، ولا حاجة إلى تقدير هذا المضاف بل الحكم على هذه الأربعة أنفسها أنها رجس أبلغ من تقدير ذلك المضاف لقوله تعالى : { إنما المشركون نجس } { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } ذكر تعالى في الخمر والميسر مفسدتين إحداهما دنيوية والأخرى دينية فأما الدنيوية فإنها تثير الشرور والحقود وتؤول بشاربها إلى التقاطع وأكثر ما تستعمل في جماعة يقصدون التآنس باجتماعهم عليها والتودد والتحبب فتعكس عليهم الأمر ويصيرون إلى التباغض لأنها مزيلة للعقل الذي هو ملاك الأشياء ، قد يكون في نفس الرجل الشيء الذي يكتمه بالعقل فيبوح به عند السكر فيؤدّي إلى التلف ، ألا ترى إلى ما جرى إلى سعد وحمزة ، وما أحسن ما قال قاضي الجماعة أبو القاسم أحمد بن يزيد بن بقي ، وكان فقيهاً عالماً على مذهب أهل الحديث ، فيما قرأته على القاضي العالم أبي الحسن بن عبد العزيز بن أبي الأحوص عنه رضي الله عنهما بكرمه :
ألا إنما الدنيا كراح عتيقة . . .
أراد مديروها بها جلب الأنس
فلما أداروها أنارت حقودهم . . .
فعاد الذي راموا من الأنس بالعكس
وأما الميسر فإن الرجل لا يزال يقامر حتى يبقى سليباً لا شيء له ، وينتهي من سوء الصنيع في ذلك أن يقامر حتى على أهله وولده فيؤدّي به ذلك إلى أن يصير أعدى عدوّ لمن قمره وغلبه لأن ذلك يؤخذ منه على سبيل القهر والغلبة ولا يمكن امتناعه من ذلك ولذلك قال بعض الجاهلية :
لو يسيرون بخيل قد يسرت بها . . .
وكلّ ما يسر الأقوام مغروم
وأما الدينية فالخمر لغلبة السرور بها والطرب على النفوس والاستغراق في الملاذ الجسمانية تلهي عن ذكر الله وعن الصلاة ، والميسر إن كان غالباً به انشرحت نفسه ومنعه حب الغلب والقهر والكسب عن ذكر الله تعالى ، وإن كان مغلوباً فما حصل له من الانقباض والندم والاحتيال على أنه يصير غالباً لا يخطر بقلبه ذكر الله لأنه تعالى لا يذكره إلا قلب تفرغ له واشتغل به عما سواه ، وقد شاهدنا من يلعب بالنرد والشطرنج يجري بينهم من اللجاج والحلف الكاذب وإخراج الصلاة عن أوقاتها ما يربأ المسلم عنه بنفسه ، هذا وهم يلعبون بغير جعل شيء لمن غلب فكيف يكون حالهم إذا لعبوا على شيء فأخذه الغالب وأفرد الخمر والميسر هنا وإن كانا قد جمعا مع الأنصاب والأزلام تأكيداً لقبح الخمر والميسر وتبعيداً عن تعاطيهما فنزلا في الترك منزلة ما قد تركه المؤمنون من الأنصاب والأزلام والعداوة تتعلق بالأمور الظاهرة ، وعطف على هذا ما هو أشد وهو البغضاء لأن متعلقها القلب لذلك عطف على ذكر الله ما هو ألزم وأوجب وآكد وهو الصلاة ، وفيما ينتجه الخمر والميسر من العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة أقوى دليل على تحريمها ، وعلى أن ينتهي المسلم عنهما ولذلك جاء بعده { فهل أنتم مسلمون } وهذا الاستفهام من أبلغ ما ينهى عنه كأنه قيل قد تلي عليكم ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية التي توجب الانتهاء فهل أنتم منتهون أم باقون على حالكم مع علمكم بتلك المفاسد.

وجعل الجملة اسمية والمواجهة لهم بأنتم أبلغ من جعلها فعلية.
وقيل هو استفهام يضمن معنى الأمر أي فانتهوا ولذلك قال عمر انتهينا يا رب.
وذكر أبو الفرج بن الجوزي عن بعض شيوخه أن جماعة كانوا يشربونها بعد نزول هذه الآية ، ويقولون إنما قال تعالى : { فهل أنتم منتهون } فقال بعضهم انتهينا.
وقال بعضهم لم ننته فلما نزل { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم } حرمت لأن الإثم اسم للخمر ولا يصح هذا ، وقال التبريزي هذا استفهام ذم معناه الأمر أي انتهوا معناه اتركوا وانتقلوا عنه إلى غيره من الموظف عليكم انتهى.
ووجه ما ذكر من الذمّ أنه نبه على مفاسد تتولد من الخمر والميسر يقضي العقل بتركهما من أجلها لو لم يرد الشرع بذلك فكيف وقد ورد الشرع بالترك ، وقد تقدم من قوله في البقرة أن جماعة من الجاهلية لم يشربوا الخمر صوتاً لعقولهم عما يفسدها وكذلك في الإسلام قبل نزول تحريمها.
{ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا } هذا أمر بطاعة الله تعالى وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه وأمر بالحذر من عاقبة المعصية ، وناسب العطف في { وأطيعوا } على معنى قوله { فهل أنتم منتهون } إذ تضمن هذا معنى الأمر وهو قوله { فانتهوا }.
وقيل الأمر بالطاعة هذا مخصوص أي أطيعوا فيما أمرتم به من اجتناب ما أمرتم باجتنابه واحذروا ما عليكم في مخالفة هذا الأمر ، وكرر وأطيعوا على سبيل التأكيد والأحسن أن لا يقيد الأمر هنا بل أمروا أن يكونوا مطيعين دائماً حذرين خاشين لأن الحذر مدعاة إلى عمل الحسنات واتقاء السيئات.

{ فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين } أي فإن أعرضتم فليس على الرسول إلا أن يبلغ أحكام الله وليس عليه خلق الطاعة فيكم ، ولا يلحقه من توليكم شيء بل ذلك لاحق بكم وفي هذا من الوعيد البالغ ما لا خفاء به إذ تضمن أن عقابكم إنما يتولاه المرسل لا الرسول وما كلف الرسول من أمركم غير تبليغكم ، ووصف البلاغ بالمبين إما لأنه بيِّن في نفسه واضح جلي وإما لأنه مبين لكم أحكام الله تعالى وتكاليفه بحيث لا يعتريها شبهة بل هي واضحة نيرة جلية.
وذهب الجمهور إلى أن هذه الآية دلت على تحريم الخمر وهو الظاهر وقد حلف عمر فيها وبلغه أن قوماً شربوها بالشام وقالوا هي حلال فاتفق رأيه ورأي عليّ على أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا لأنهم اعتقدوا حلها ، والجمهور على أنها نجسة العين لتسميتها رجساً ، والرجس النجس المستقذر ، وذهب ربيعة والليث والمزني وبعض المتأخرين من البغداديين إلى أنها ظاهرة واختلفوا هل كان المسكر منها مباحاً قبل التحريم أم لا.
{ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين } قال ابن عباس والبراء وأنس لما نزل تحريم الخمر قال قوم كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر فنزلت فأعلم تعالى أن الذمّ والجناح إنما يتعلق بفعل المعاصي والذين ماتوا قبل التحريم ليسوا بعاصين ، والظاهر من سبب النزول أن اللفظ عام ومعناه الخصوص.
وقيل هي عامّة والمعنى أنه لا حرج على المؤمن فيما طعم من المستلذات إذا ما اتقى ما حرم الله منها وقضية من شربها قيل التحريم من صور العموم ، وهذه الآية شبيهة بآية تحويل القبلة حين سألوا عمن مات على القبلة الأولى ، فنزلت { وما كان الله ليضيع إيمانكم } و { فيما طعموا } قيل من الخمر والطعم حقيقة في المأكولات مجاز في المشروب وفي اليوم قيل مما أكلوه من القمار فيكون فيه حقيقة ، وقيل منهما وعنى بالطعم الذوق وهو قدر مشترك بينهما ، وكررت هذه الجمل على سبيل المبالغة والتوكيد في هذه الصفات ولا ينافي التأكيد العطف بثم فهو نظير قوله { كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون } وذهب قوم إلى تباين هذه الجمل بحسب ما قدروا من متعلقات الأفعال فالمعنى إذا ما اتقوا الشرك والكبائر وآمنوا الإيمان الكامل وعملوا الصالحات ثم اتقوا ثبتوا وداموا على الحالة المذكورة ثم اتقوا وأحسنوا انتهوا في التقوى إلى امتثال ما ليس بفرض من النوافل في الصلاة والصدقة أو غير ذلك وهو الإحسان.
وإلى قريب من هذا ذهب الزمخشري ، قال { إذا ما اتقوا } ما حرم عليهم وآمنوا وثبتوا على الإيمان والعمل الصالح وازدادوا { ثم اتقوا وآمنوا } ثبتوا على التقوى والإيمان { ثم اتقوا وأحسنوا } ثبتوا على اتقاء المعاصي { وأحسنوا } أعمالهم وأحسنوا إلى الناس واسوهم بما رزقهم الله من الطيبات انتهى.

وقيل الرتبة الأولى لماضي الزمان والثانية للحال والثالثة للاستقبال ، وقيل الاتقاء الأول هو في الشرك والتزام الشرع والثاني في الكبائر والثالث في الصغائر ، وقيل غير هذا مما لا إشعار للفظ به ، ومعنى الآية ثناء على أولئك ، الذين كانوا على هذه الصفة وحمد لهم في الإيمان والتقوى والإحسان إذ كانت الخمر غير محرمة إذ ذاك فالإثم مرفوع عمن التبس بالمباح إذا كان مؤمناً متقياً محسناً وإن كان يؤول ذلك المباح إلى التحريم فتحريمه بعد ذلك لا يضر المؤمن المتقي المحسن وتقدم شرح الإحسان وأن الرسول صلى الله عليه وسلم فسره في حديث سؤال جبريل فيجب أن لا يتعدى تفسيره.
{ يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم } نزلت عام الحديبية وأقام صلى الله عليه وسلم بالتنعيم فكان الوحش والطير يغشاهم في رحالهم وهم محرمون ، وقيل كان بعضهم أحرم وبعضهم لم يحرم فإذا عرض صيد اختلفت أحوالهم واشتبهت الأحكام ، وقيل قتل أبو اليسر حمار وحش برمحه فقيل قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنهم لما أمرهم أن لا يحرموا الطيبات وأخرج من ذلك الخمر والميسر وهما حرامان دائماً ، أخرج بعده من الطيبات ما حرم في حال دون حال ، وهو الصيد وكان الصيد مما تعيش به العرب وتتلذذ باقتناصه ولهم فيه الإشعار والأوصاف الحسنة ، والظاهر أن الخطاب بقوله { يا أيها الذين آمنوا } عام للمحل والمحرم لكن لا يتحقق الابتلاء إلا مع الإحرام أو الحرم.
وقال ابن عباس هو للمحرمين ، وقال مالك هو للمحلين والمعنى ليختبرنكم الله ابتلاهم الله به مع الإحرام أو الحرم ، والظاهر أن قوله { بشيء من الصيد } يقتضي تقليلاً ، وقيل ليعلم أنه ليس من الابتلاء العظيم كالابتلاء بالأنفس والأموال بل هو تشبيه بما ابتلي به أهل أيلة من صيد السمك وأنهم كانوا لا يصبرون عند هذا الابتلاء فكيف يصبرون عند ما هو أشدّ منه ومن في { من الصيد } للتبعيض في حال الحرمة إذ قد يزول الإحرام ويفارق الحرم فصيد بعض هذه الأحوال بعض الصيد على العموم ، وقال الطبري وغيره من صيد البر دون البحر ، وقال ابن عطية ويجوز أن تكون من لبيان الجنس ، قال الزجاج وهذا كما تقول قال لأمتحننك بشيء من الرزق وكما قال تعالى : { فاجتنبوا الرجس من الشيطان } والمراد بالصيد المأكول لأن الصيد ينطلق على المأكول وغير المأكول.
قال الشاعر :
صيد الملوك أرانب وثعالب . . .
وإذا ركبت فصيدي الأبطال
وقال زهير :
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ما . . .
كذب الليث عن أقرانه صدقا
ولهذا قال أبو حنيفة إذا قتل المحرم ليثاً أو ذئباً ضارياً أو ما يجري مجراه فعليه الجزاء بقتله.

{ تناله أيديكم ورماحكم } أي بعض منه يتناول بالأيدي لقرب غشيانه حتى تتمكن منه اليد وبعض بالرماح لبعده وتفرقه فلا يوصل إليه إلا بالرمح ، وقال ابن عباس { أيديكم } فراخ الطير وصغار الوحش ، وقال مجاهد الأيدي الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفر والرماح تنال كبار الصيد ، قيل وما قاله مجاهد غير جائز لأن الصيد اسم للمتوحش الممتنع دون ما لا يمتنع انتهى ، يعني أنه لا يطلق على البيض صيد ولا يمتنع ذلك تسمية للشيء بما يؤول إليه ، قال ابن عطية والظاهر أن الله خص الأيدي بالذكر لأنها أعظم تصرفاً في الاصطياد وفيها تدخل الجوارح والحبالات وما عمل باليد من فخاخ وشباك وخص الرماح بالذكر لأنها أعظم ما يجرح به الصيد وفيها يدخل السهم ونحوه ، واحتج بعض الناس على أن الصيد للآخذ لا للمثير بهذه الآية لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئاً.
وقرأ النخعي وابن وثاب يناله بالياء منقوطة من أسفل والجملة من قوله { تناله } في موضع الصفة لقوله { بشيء } أو في موضع الحال منه إذ قد وصف وأبعد من زعم أنه حال من الصيد.
{ ليعلم الله من يخافه بالغيب } هذا تعليل لقوله { ليبلونكم } ومعنى { ليعلم } ليتميز من يخاف عقابه تعالى وهو غائب منتظر في الآخرة فيبقى الصيد ممن لا يخافه فيقدم عليه قاله الزمخشري ، وقال ابن عطية ليستمرّ عليه وهو موجود إذ قد علم الله ذلك في الأزل ، وقال الكلبي لم يزل الله تعالى عالماً وإنما عبر بالعلم عن الرؤية ، وقيل هو على حذف مضاف أي ليعلم أولياء الله ، وقيل المعنى ليعلموا أن الله يعلم من يخافه بالغيب أي في السر حيث لا يراه أحد من الناس فالخائف لا يصيد وغير الخائف يصيد ، وقيل يعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم ، وقيل ليظهر المعلوم وهو خوف الخائف وبالغيب في موضع نصب على الحال ومعناه أن الخائف غائب عن رؤية الله تعالى ومثله { من خشي الرحمن بالغيب } و { يخشون ربهم بالغيب } وقال عليه السلام : « فإن لم تكن تراه فإنه يراك ».
وقال الطبري معناه في الدنيا حيث لا يرى العبد ربه فهو غائب عنه ، قال ابن عطية والظاهر أن المعنى بالغيب من الناس أي في الخلوة من خاف الله انتهى.
عن الصيد من ذات نفسه انتهى.
وقرأ الزهري { ليعلم الله } من أعلم.
قال ابن عطية أي ليعلم عباده انتهى.
فيكون من أعلم المنقولة من علم المتعدية إلى واحد تعدى عرف فحذف المفعول الأول وهو عباده لدلالة المعنى عليه وبقي المفعول الثاني وهو { من يخافه }.
{ فمن اعتدى بعد ذلك } المعنى فمن اعتدى بالمخالفة فصاد وذلك إشارة إلى النهي الذي تضمنه معنى الكلام السابق وتقديره فلا يصيدوا يدل عليه قوله { ليعلم الله من يخافه بالغيب }.

{ فله عذاب أليم } قيل في الآخرة.
وقيل في الدنيا.
قال ابن عباس يوسع بطنه وظهره جلداً ويسلب ثيابه.
{ يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } { الذين آمنوا } عام وصرح هنا بالنهي عن قتل الصيد في حال كونهم حرماً والحرم جمع حرام والحرام المحرم والكائن بالحرم ، ومن ذهب إلى أن اللفظ يراد به معناه استدل بقوله { وأنتم حرم } على منع المحرم والكائن بالحرم من قتل الصيد ومن لم يذهب إلى ذلك ، قال المعنى يحرمون بحج أو عمرة وهو قول الأكثر.
وقيل المعنى وأنتم في الحرم والظاهر النهي عن قتل الصيد وتكون الآية قبل هذه دلت بمعناها على النهي عن الاصطياد فيستفاد من مجموع الآيتين النهي عن الاصطياد والنهي عن قتل الصيد والظاهر عموم الصيد وقد خص هذا العموم بصيد البر لقوله : { أحل لكم صيد البحر }.
وقيل وبالسنة بالحديث الثابت « خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الغراب والحدأة والفأرة والكلب العقور » فاقتصر على هذه الخمسة الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وقاس مالك على الكلب العقور كل ما كلب على الناس وغيرهم ورآه داخلاً في لفظه من أسد ونمر وفهد وذئب وكل سبع عاد فقال له أن يقتلها مبتدئاً بها لا هزبر وثعلب وضبع فإن قتلها فدى.
وقال مجاهد والنخعي لا يقتل من السباع إلا ما عدا عليه وروي نحوه عن ابن عمر.
وقال أصحاب الرأي أن بدأه بالسبع قتله ولا فدية وإن ابتدأه المحرم فقتله فدى.
وقال مالك في فراخ السباع قبل أن تفترس لا ينبغي للمحرم قتلها ، وثبت عن عمر أمره المحرمين بقتل الحيات وأجمع الناس على إباحة قتلها وثبت عن عمر إباحة قتل الزنبور لأنه في حكم العقرب وذوات السموم في حكم الحية كالأفعى والرتيلا ومذهب أبي حنيفة وجماعة أن الصيد هو ما توحش مأكولاً كان أو غير مأكول.
فعلى هذا لو قتل المحرم سبعاً لا يؤكل لحمه ضمن ولا يجاوز قيمة شاة ، وقال زفر بالغاً ما بلغ ، وقال قوم الصيد هو ما يؤكل لحمه فعلى هذا لا يجب الضمان في قتل السبع وهو قول الشافعي ولا في قتل الفواسق الخمس ولا الذئب وإذا كان الصيد مما حل أكله فقتله المحرم ولو بالذبح فمذهب أبي حنيفة ومالك أنه غير مذكى فلا يؤكل لحمه وبه قال ابن المسيب وأحد قولي الحسن ومذهب الشافعي إن ذبح المحرم الصيد ذكاه ، وقال الحكم وعمرو بن دينار وسفيان يحل للحلال أكله وهو أحد قولي الحسن.
{ ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم } الظاهر تقييد القتل بالعمد فمن لم يتعمد فقتل خطأ بأن كان ناسياً لإحرامه أو رماه ظاناً أنه ليس بصيد فإذا هو صيد أو عدل سهمه الذي رماه لغير صيد فأصاب صيداً فلا جزاء عليه ، وروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير وطاوس وعطاء وسالم وبه قال أبو ثور وداود والطبري وهو أحد قولي الحسن البصري ومجاهد وأحمد بن حنبل ، وقال ابن عباس فيما أسنده عنه الدارقطني إنما التكفير في العمد وإنما غلظوا في الخطأ لئلا يعودوا ، وقيل خرج مخرج الغالب فالحق به النادر ، وقيل ذكر التعمد لأن مورد الآية في من تعمد لقصة أبي اليسر إذ قتل الحمار متعمداً وهو محرم ومذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم أن الخطأ بنسيان أو غيره كالعمد والعمد أن يكون ذاكراً لإحرامه قاصداً للقتل وروي ذلك عن عمرو بن عباس وطاوس والحسن وإبراهيم والزهري ، قال الزهري جزاء العمد بالقرآن والخطأ والنسيان بالسنة ، قال القاضي أبو بكر بن العربي إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن عمرو بن عباس فنعماً هي وأحسن بها أسوة ، وقال مجاهد معناه متعمداً لقتله ناسياً لإحرامه فإن كان ذاكراً لإحرامه فهذا أجل وأعظم من أن يكفر وقد حل ولا حج له لارتكابه محظور إحرامه فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة أو أحدث فيها ، قال ومن أخطأ فذلك الذي عليه الجزاء ، وقال نحوه ابن جريج ، وروي عن مجاهد أنه لا جزاء عليه في قتله متعمداً ويستغفر الله وحجه تام ، وقرأ الكوفيون { فجزاء } بالتنوين { مثل } بالرفع فارتفاع جزاء على أنه خبر لمبتدأ محذوف الخبر تقديره فعليه جزاء ومثل صفة أي فجزاء يماثل ما قتل.

وقرأ عبد الله { فجزاؤه مثل } على الابتداء والخبر.
وقرأ باقي السبعة { فجزاء مثل } برفع جزاء وإضافته إلى مثل ، فقيل مثل كأنها مقحمة كما تقول مثلك من يفعل كذا أي أنت تفعل كذا فالتقدير فجزاء ما قتل ، وقيل ذلك من إضافة المصدر إلى المفعول ويدل على هذا التقدير قراءة السلمي { فجزاء } بالرفع والتنوين { مثل ما قتل } بالنصب.
وقرأ محمد بن مقاتل { فجزاء مثل ما قتل } بنصب جزاء ومثل والتقدير فليخرج جزاء مثل ما قتل ومثل صفة لجزاء.
وقرأ الحسن { من النعم } سكن العين تخفيفاً كما قالوا الشعر ، وقال ابن عطية هي لغة و { من النعم } صفة لجزاء سواء رفع { جزاء } و { مثل } أو أضيف { جزاء } إلى { مثل } أي كائن من النعم ويجوز في وجه الإضافة أن يتعلق من النعم بجزاء إلا في وجه الأول لأن جزاء مصدر موصوف فلا يعمل.
ووهم أبو البقاء في تجويزه أن يكون من النعم حالاً حل الضمير في قتل يعني من الضمير المنصوب المحذوف في قتل العائد ، على ما قال لأن المقتول يكون من النعم وليس المعنى على ذلك ، لأن الذي هو من النعم هو ما يكون جزاء لا الذي يقتله المحرم ، ولأن النعم لا تدخل في اسم الصيد والظاهر في المثلية أنها مثلية في الصورة والخلقة والصغر والعظم وهو قول الجمهور.

وروي ذلك عن عمرو بن عوف وابن عباس والضحاك والسدّي وابن جبير وقتادة وبه قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن ، وتفاصيل ما يقابل كل مقتول من الصيد قد طول بها جماعة من المفسرين ولم يتعرض لفظ القرآن لها وهي مذكورة في كتب الفقه
وذهب جماعة من التابعين إلى أن المماثلة هي في القيمة يقوم الصيد المقتول ثم يشتري بقيمته طعاماً من الأنعام ثم يهدى وهو قول النخعي وعطاء وأحد قولي مجاهد.
وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف يشتري بالقيمة هدياً إن شاء وإن شاء اشترى طعاماً فأعطى كل مسكين نصف صاع وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوماً ، وقال قوم المثلية فيما وجد له مثل صورة وما لم يوجد له مثل فالمثلية في القيمة وقد تعصب أبو بكر الرازي والزمخشري لمذهب أبي حنيفة.
ولفظ الآية ينبو عن مذهبه إذ ظاهر الآية يقتضي التخيير بين أن يجزىء هدياً من النعم مثل ما قتل وأن يكفر بطعام مساكين وأن يصوم عدل الصيام.
والظاهر أن الجزاء لا يكون إلا في القتل لا في أخذ الصيد ولا في جنسه ولا في أكله وفاقاً للشافعي وخلافاً لأبي حنيفة إذ قال عليه جزاء ما أكل يعني قيمته وخالفه صاحباه فقالا لا شيء عليه سوى الاستغفار لأنه تناول منه ، ولا في الدلالة عليه خلافاً لأبي حنيفة وأشهب إذ قالا يضمن الدار الجزاء ، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عوف ، وقال الشافعي ومالك وأبو ثور لا يضمن الدال والجزاء على القاتل ولا في جرحه ونقص قيمته بذلك ، وقال المزني عليه شيء ، وقال بعض أهل العلم إذا نقص من قيمته مثلاً العشر فعليه عشر قيمته ، وقال داود لا شيء عليه ، والظاهر أنه لو اجتمع محرمون في صيد لم يجب عليهم إلا جزاء واحد لأنه لا ينسب القتل إلى كل واحد منهم.
فأما المقتول فهو واحد يجب أن يكون المثل واحد ، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وقال أبو حنيفة ومالك والثوري يجب على كل واحد منهم جزاء واحد ، والظاهر أنه إذا حمل قوله { وأنتم حرم } على عنييه وهما محرمون بحج أو عمرة ومحرمون بمعنى داخلين الحرم وإن كانوا محلين ، أنه إذا قتل المحلون صيداً في الحرم أنه يلزمهم جزاء واحد ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال مالك على كل واحد جزاء كامل وظاهر قوله { من النعم } أنه لا يشترط سن فيجزىء الجفر والعناق على قدر الصيد وبه قال أبو يوسف ومحمد ، وقال أبو حنيفة لا يجوز أن يهدي إلا ما يجزىء في الأضحية وهدي القرآن والظاهر من تقييد المنهيين عن القتل بقوله { وأنتم حرم } أنه لو صاد الحلال بالحل ثم ذبحه في الحرم فلا ضمان وهو حلال وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة عليه الجزاء.

{ يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة } أي يحكم بمثل ما قتل.
قال ابن وهب من السنة أن يخير الحكمان من قتل الصيد كما خيره الله في أن يخرج هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً ، فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظراً لما أصاب وأدنى الهدي شاة ، وما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام ثم خير بين أن يطعمه أو يصوم مكان كل مدّ يوماً وكذلك قال مالك ، والظاهر أنه يحكم به عدلان وكذلك فعل عمر في حديث قبيصة بن جابر استدعى عبد الرحمن بن عوف وحكما في ظبي بشاة وفعل ذلك جرير وابن عمر والظاهر أن العدلين ذكران فلا يحكم فيه امرأتان عدلتان ، وقرأ جعفر بن محمد { يحكم به ذوا عدل } على التوحيد أي يحكم به من يعدل منكم ولا يريد به الوحدة ، وقيل أراد به الإمام.
والظاهر أن الحكمين يحكمان في جزاء الصيد باجتهادهما وذلك موكول إليهما وبه قال أبو حنيفة ومالك وجماعة من أهل العلم ، وقال الشافعي الذي له مثل من النعم وحكمت فيه الصحابة بحكم لا يعدل عنه إلى غيره وما لم تحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى اجتهادهما فينظران إلى الأجناس الثلاثة من الأنعام فكل ما كان أقرب شبهاً به يوجبانه ، والظاهر أن الحكمين لا يكون أحدهما قاتل الصيد وهو قول مالك ، وقال الشافعي : إن كان القتل خطأ جاز أن يكون أحدهما أو عمداً فلا لأنه يفسق به واستدل بقوله تعالى : { يحكم به ذوا عدل منكم } على إثبات القياس لأنه تعالى فرض تعيين المثل إلى اجتهاد الناس وظنونهم.
وجوّزوا في انتصاب قوله { هدياً } أن يكون حالاً من { جزاء } فيمن وصفه بمثل لأن الصفة خصصته فقرب من المعرفة وأن يكون بدلاً من مثل في قراءة من نصب مثلاً أو من محله في قراءة من خفضه وأن ينتصب على المصدر والظاهر أنه حال من قوله به ومعنى { بالغ الكعبة } أن ينحر بالحرم ويتصدّق به حيث شاء عند أبي حنيفة ، وقال الشافعي بالحرم ، وقرأ الأعرج { هدياً } بكسر الدال وتشديد الياء والجملة من قوله يحكم في موضع الصفة لقوله فجزاء أي حاكم به ذوا عدل وفي قوله { منكم } دليل على أنهما من المسلمين وذكر الكعبة لأنها أم الحرام قالوا والحرم كله منحر لهذا الهدي فما وقف به يعرفه من هدي الجزاء ينحر بمنى وما لم يوقف به فينحر بمكة وفي سائر بقاع الحرم بشرط أن يدخل من الحل ولا بد أن يجمع فيه بين حل وحرم حتى يكون بالغاً الكعبة.

{ أو كفارة طعام مساكين } قرأ الصاحبان بالإضافة والإضافة تكون بأدنى ملابسة إذ الكفارة تكون كفارة هدي وكفارة طعام وكفارة صيام ولا التفات إلى قول الفارسي ولم يصف الكفارة إلى الطعام لأنها ليست للطعام إنما هي لقتل الصيد ، وأما ما ذهب إليه الزمخشري من زعمه أن الإضافة مبينة كأنه قيل أو كفارة من طعام مساكين ، كقولك خاتم فضة ، بمعنى خاتم من فضة فليست من هذا الباب لأن خاتم فضة من باب إضافة الشيء إلى جنسه والطعام ليس جنساً للكفارة إلا بتجوز بعيد جدّاً ، وقرأ باقي السبعة بالتنوين ورفع { طعام } وقرأ كذلك الأعرج وعيسى بن عمر إلا أنهما أفردا مسكين على أنه اسم جنس ، قال أبو علي { طعام } عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة.
انتهى؛ وهذا على مذهب البصريين لأنهم شرطوا في البيان أن يكون في المعارف لا في النكرات فالأولى أن يعرب بدلاً وقد أجمل في مقدار الطعام وفي عدد المساكين والظاهر أنه يكفي أقل ما ينطلق عليه جمع مساكين ، وقال إبراهيم وعطاء ومجاهد والقاسم يقوّم الصيد دراهم ثم يشتري بالدراهم طعاماً فيطعم كل مسكين نصف صاع ، وروي هذا عن ابن عباس وبتقويم الصيد قال أبو حنيفة ، وقال مجاهد وعطاء وابن عباس والشافعي وأحمد يقوّم الهدي ثم يشتري بقيمة الهدى طعاماً ، وقال مالك أحسن ما سمعت ، إنه يقوّم الصيد فينظركم ثمنه من الطعام فيطعم لكل مسكين مدّاً ويصوم مكان كل مدّ يوماً.
{ أَو عدل ذلك صياماً } الأظهر أن يكون ذلك إشارة إلى أقرب مذكور وهو الطعام والطعام المذكور غير معين في الآية لا كيلاً ولا وزناً فيلزم من ذلك أن يكون الصيام أيضاً غير معين عدداً والصيام مبني على الخلاف في الطعام أهو مدّ أو مدّان.
وبالمدّ قال ابن عباس ومالك وبالمدّين قال الشافعي وعن أحمد القولان ، وجوّزوا أن يكون ذلك إشارة إلى الصيد المقتول وفي الظبي ثلاثة أيام وفي الإبل عشرون يوماً وفي النعامة وحمار الوحش ثلاثون يوماً قاله ابن عباس ، وقال ابن جبير ثلاثة أيام إلى عشرة أيام والظاهر عدم تقييد الإطعام والصوم بمكان وبه قال جماعة من العلماء فحيث ما شاء كفر بهما ، وقال عطاء وغيره الهدي والإطعام بمكة والصوم حيث شاء ، وقرأ الجمهور { أو عدل } بفتح العين ، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مصرف والجحدري بكسرها وتقدم تفسيرها في أوائل البقرة.
والظاهر أن أو للتخيير أي ذلك فعل أجزأه موسراً كان أو معسراً وهو قول الجمهور ، وقال ابن عباس وإبراهيم وحماد بن سلمة لا ينتقل إلى الإطعام إلا إذا لم يجد هدياً ولا إلى الصوم إلا إن لم يجد ما يطعم والظاهر أن التخيير راجع إلى قاتل الصيد وهو قول الجمهور ، وقال محمد بن الحسن الخيار إلى الحكمين والظاهر أن الواجب أحد هذه الثلاثة فلا يجمع بين الإطعام والصيام بأن يطعم عن يوم ويصوم في كفارة واحدة وأجاز ذلك أصحاب أبي حنيفة وانتصب { صياماً } على التمييز على العدل كقولك على التمرة مثلها زبداً لأن المعنى أو قدر ذلك صياماً.

{ ليذوق وبال أمره } الذوق معروف واستعير هنا لما يؤثر من غرامة وإتعاب النفس بالصوم والوبال سوء عاقبة ما فعل وهو هتك حرمة الإحرام بقتل الصيد ، قال الزمخشري ليذوق متعلق بقوله { فجزاء } أي فعليه أن يجازى أو يكفر ليذوق انتهى.
وهذا لا يجوز إلا على قراءة من أضاف { فجزاء } أو نون ونصب { مثل } وأما على قراءة من نوّن ورفع { مثل } فلا يجوز أن تتعلق اللام به لأن { مثل } صفة لجزاء وإذا وصف المصدر لم يجز لمعموله أن يتأخر عن الصفة لو قلت أعجبني ضرب زيد الشديد عمراً لم يجز فإن تقدم المعمول على الوصف جاز ذلك والصواب أن تتعلق هذه القراءة بفعل محذوف التقدير جوزي بذلك ليذوق ووقع لبعض المعربين أنها تتعلق بعدل ذلك وهو غلط.
{ عفا الله عما سلف } أي في جاهليتكم من قتلكم الصيد في الحرم.
قال الزمخشريّ لأنهم كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم ، وكان الصيد فيها محرماً انتهى ، وقال ابن زيد : عما سلف لكم أيها المؤمنون من قتل الصيد قبل هذا النهي والتحريم.
{ ومن عاد فينتقم الله منه } أي ومن عاد في الإسلام إلى قتل الصيد فإن كان مستحِلاًّ فينتقم الله منه في الآخرة ويكفر أو ناسياً لإحرامه كفر بإحدى الخصال الثلاث أو عاصياً بأن يعود متعمّداً عالماً بإحرامه فلا كفّارة عليه وينتقم الله منه بإلزام الكفّارة فقط وكلما عاد فهو يكفر.
وقال ابن عباس : إن كان متعمداً عالماً بإحرامه فلا كفارة عليه وينتقم الله منه.
وبه قال شريح والنخعي والحسن ومجاهد وابن زيد وداود وظاهر و { من عاد } لعموم ألا ترى أنّ { من } شرطيّة أو موصولة تضمنت معنى الشرط فتعمّ خلافاً لقوم إذ زعموا أنها مخصوصة بشخص بعينه وأسندوا إلى زيد بن العلاء أنّ رجلاً أصاب صيداً وهو مُحرِم فتجوز له ثم عاد فأرسل الله عليه ناراً فأحرقته وذلك قوله تعالى : { ومن عاد فينتقم الله منه } وعلى تقدير صحة هذا الحديث لا تكون هذه القضية تخص عموم الآية إذ هذا الرجل فرد من أفراد العموم ظهر انتقام الله منه والفاء في { فينتقم } جواب الشرط أو الداخلة على الموصول المضمّن معنى الشرط وهو على إضمار مبتدأ أي فهو ينتقم الله منه.
{ والله عزيز ذو انتقام } أي عزيز لا يغالب إذا أراد أن ينتقم لم يغالبْه أحد ، وفي هذه الجملة تذكار بنقم الله وتخويف.
{ أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة } قال الكلبي : نزلت في بني مدلج وكانوا ينزلون في أسياف البحر سألوا عما نضب عنه الماء من السمك فنزلت ، والبحر هنا الماء الكثير الواسع وسواء في ذلك النهر والوادي والبركة والعين لا يختلف الحكم في ذلك.

وقيل المراد بالبحر هنا البحر الكبير ، وعليه يدل سبب النزول ، وما عداه محمول عليه.
وأما طعامه فروي عن أبي بكر وعمر وابن عمر أنه ما قذفه البحر وطفا عليه.
وقال ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وهذا ينظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم « الحل ميتته ».
وقال قتادة وابن جبير والنخعي وابن المسيب ومجاهد والسدّي صيده طرّيه وطعامه المملوح منه ، وروي هذا عن ابن عباس وزيد بن ثابت ، قال أبو عبد الله وهذا ضعيف لأن الذي صار مالحاً قد كان طرياً وصيداً في أول الأمر فيلزم التكرار ، وقال قوم : طعامه الملح الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات ونحوه ، وقال الحسن : طعامه صوب ساحله ، وقيل : طعامه كل ما سقاه الماء فأنبت لأنه نبت من ماء البحر ، وقيل : صيد البحر ما صيد لأكل وغيره كالصدف لأجل اللؤلؤ وبعض الحيوانات لأجل عظامها وأسنانها وطعامه المأكول منه خاصة عطف خاص على عام وعدم تقييد الحل يدل على التحليل للمحرم والحلال والصيد المصيد وأضيف إلى المقرّ الذي يكون فيه والظاهر أنه يحل أكل كل ما صيد من أنواع مخلوقاته حتى الذي يسمي خنزير الماء وكلب الماء وحية الماء والسرطان والضفدع وهو قول ابن أبي ليلى ومالك والأوزاعي ، وقال الليث : لا يؤكل خنزير الماء ولا إنسان الماء وتؤكل ميتته وكلبه وفرسه ، وقال أبو حنيفة والثوري فيما روى عنه أبو إسحاق الفزاري لا يؤكل من حيوان الماء إلا السمك ولا يؤكل طافية ولا الضفدع ولا كلبه ولا خنزيره وقال : هذه من الخبائث ، قال الرازي : ما صيد من البحر حيتان وجميع أنواعها حلال وضفادع وجميع أنواعها حرام واختلفوا فيما سوى هذين.
وقال الزمخشري : صيد البحر مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل وطعامه وما يطعم من صيده والمعنى أحلّ لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده عند أبي حنيفة ، وعند ابن أبي ليلى جميع ما يصاد منه على أن تفسير الآية عنده أحلّ لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه انتهى.
وتفسير { وطعامه } بقوله وأن تطعموه خلاف الظاهر ويكون على قول ابن أبي ليلى الضمير عائداً على صيد البحر والظاهر عوده على البحر وأنه يراد به المطعوم لا الإطعام ويدل على ذلك ظاهر لفظ { وطعامه } وقراءة ابن عباس وعبد الله بن الحرث وطُعمه بضم الطاء وسكون العين وانتصب { متاعاً } قال ابن عطية على المصدر والمعنى متّعكم به متاعاً تنتفعون به وتأتدمون؛ وقال الزمخشري متاعاً لكم مفعول له أي أحلّ لكم تمتيعاً لكم وهو في المفعول له بمنزلة قوله تعالى :

{ ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة } في باب الحال لأنّ قوله { متاعاً لكم } مفعول له مختصّ بالطعام كما أن { نافلة } حال مختصة بيعقوب يعني أحل لكم طعامه تمتيعاً تأكلونه طرياً ولسيارتكم يتزوّدونه قديداً كما تزوّد موسى عليه السلام في مسيره إلى الخضر انتهى.
وتخصيصه المفعول له بقوله : { وطعاماً } جار على مذهبه مذهب أبي حنيفة بأن صيد البحر منه ما يؤكل وما لا يؤكل وأنّ قوله وطعامه هو المأكول منه وأنه لا يقع التمتيع إلا بالمأكول منه طريّاً وقديداً وعلى مذهب غيره يجوز أن يكون مفعولاً له باعتبار صيد البحر وطعامه ، والخطاب في { لكم } لحاضري البحر ومدنه والسيارة المسافرون وقال مجاهد : الخطاب لأهل القرى والسيارة ، أهل الأمصار وكأنه يريد أهل قرى البحر والسيارة من أهل الأمصار غير أهل تلك القرى يجلبونه إلى أهل الأمصار وهذا الاختلاف في أنه يستوي فيه المقيم والمسافر والبادي والحاضر والطري والمملوح.
{ وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً } حرم الله تعالى الصيد على المحرم بقوله { غير محلي الصيد وأنتم حرم وإذا حللتم فاصطادوا } وبقوله { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } بهذه الآية وكرر ذلك تغليظاً لحكمه والظاهر تحريم صيد البر على المحرِم من جميع الجهات صيد ولكل من صيد من أجله أو من غير أجله.
وروي ذلك عن عليّ وابن عباس ، وابن عمر وطاوس وابن جبير وأبي الشعثاء والثوري وإسحاق وعن أبي هريرة وعطاء وابن جبير أنهم أجازوا للمحرِم أكل ما صاده الحلال لنفسه أو لحلال مثله ، وقال آخرون يحرم على المحرم أن يصيد فأما إن اشتراه من مالك له فذبحه وأكله فلا يحرم وفعل ذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وقال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد : يأكل ما صاده الحلال إن لم يصده لأجله فإن صيد من أجله فلا يأكل فإن أكل ، فقال مالك : عليه الجزاء وبه قال الأوزاعي والحسن بن صالح وقال الشافعي لا جزاء عليه.
وقال أبو حنيفة وأصحابه أكلُ المحرمِ الصيدَ جائز إذا اصطاده الحلال ولم يأمر المحرم بصيده ولا دلّ عليه ، وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما يصنع أبو حنيفة بعموم قوله صيد البر ، ( قلت ) : قد أخذ أبو حنيفة بالمفهوم من قوله { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً } لأنّ ظاهره أنه صيد المحرِمين دون صيد غيرهم فكأنه قيل وحرم عليكم ما صدتم في البحر فيخرج منه مصيد غيرهم ومصيدهم حين كانوا غير محرمين ويدل عليه قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم }. انتهى.
وهذه مكابرة من الزمخشري في الظاهر بل الظاهر في قوله صيد البر العموم سواء صاده المحرم أم الحلال.
وقرأ ابن عباس و { حرم } مبنيّاً للفاعل و { صيد } بالنصب { ما دمتم حرماً } بفتح الحاء والراء.

وقرأ يحيى { ما دمتم } بكسر الدال وهي لغة يقال دمت تدام ولا خلاف في أن ما لا زوال له من البحر أنه صيد بحر ومن البر أنه صيد بر واختلف فيما يكون في أحدهما وقد يحيا في الآخر ، فقال عطاء وابن جبير وأبو مجلز ومالك وغيرهم : هو من صيد البر إن قتله المحرم فداه.
وذكر أبو مجلز من ذلك الضفدع والسلحفاة والسرطان ، وروي عن عطاء أنه يراعي أكثر عيشه وسئل عن ابن الماء أصيد برّ أم بحر؟ فقال حيث يكون أكثر فهو منه وحيث يفرخ منه وهو قول أبي حنيفة والصواب في ابن ماء أنه صيد طائر يرعى ويأكل الحب.
وقال الحافظ أبو بكر بن العربي الصحيح المنع من الحيوان الذي يكون في البر والبحر لأنه تعارض فيه دليل تحريم ودليل تحليل فيغلب دليل التحريم احتياطاً.
{ واتقوا الله الذي إليه تحشرون } هذا فيه تنبيه وتهديد وجاء عقيب تحليل وتحريم وذكر الحشر إذ فيه يظهر من أطاع وعصى.

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)

{ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد }.
مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة وذلك أنه تعالى ذكر تعظيم الإحرام بالنهي عن قتل الوحش فيه بحيث شرع بقتله ما شرع وذكر تعظيم الكعبة بقوله { هدياً بالغ الكعبة } ، فذكر تعالى في هذه الآية أنه جعل الكعبة قياماً للناس أي ركز في قلوبهم تعظيمها بحيث لا يقع فيها أذى أحد ، وصارت وازعة لهم من الأذى وهم في الجاهلية الجهلاء لا يرجون جنة ولا يخافون ناراً إذ لم يكن لهم ملك يمنعهم من أذى بعضهم فقامت لهم حرمة الكعبة مقام حرمة الملك هذا مع تنافسهم وتحاسدهم ومعاداتهم وأخذهم بالثأر ، ولذلك جعل الثلاثة المذكورة بعد الكعبة قياماً للناس فكانوا لا يهيجون أحداً في الشهر الحرام ولا من ساق الهدي لأنه لا يعلم أنه لم يجيء لحرب ولا من خرج يريد البيت بحج أو عمرة فتقلد من لحي الشجر ولا من قضى نسكه فتقلد من شجر الحرم ، ولما بعثت قريش زمن الحديبية إلى المؤمنين الحلس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هذا رجل يعظم الحرمة فألقوه بالبدن مشعرة » فلما رآها الحلس عظم عليه ذلك وقال ما ينبغي أن يصد هؤلاء ورجع عن رسالة قريش ، وجعل هنا بمعنى صيَّر.
وقيل جعل بمعنى بين وينبغي أن يحمل هذا على تفسير المعنى إذ لم ينقل جعل مرادفة لهذا المعنى لكنه من حيث التصيير يلزم منه التبيين والحكم ، ولما كان لفظ الكعبة قد أطلقه بعض العرب على غير البيت الحرام كالبيت الذي كان في خثعم يسمى كعبة اليمانية ، بين تعالى أن المراد هنا بالكعبة البيت الحرام ، وهو بدل من الكعبة أو عطف بيان ، وقال الزمخشري : البيت الحرام عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح كما تجيء الصفة كذلك انتهى.
وليس كما ذكر لأنهم ذكروا في شرط عطف البيان الجمود فإذا كان شرطه أن يكون جامداً.
لم يكن فيه إشعار بمدح إذ ليس مشتقاً وإنما يشعر بالمدح المشتق إلا أن يقال أنه لما وصف عطف البيان بقوله الحرام اقتضى المجموع المدح فيمكن ذلك والقيام مصدر كالصيام ويقال هذا قيام له وقوام له وكأنهم ذهبوا في قيام إلى أنه ليس مصدراً بل هو اسم كالسواك فلذلك صحت الواو قال : قوام دنيا وقيام دين.
إذا لحقت تاء التأنيث لزمت التاء قالوا القيامة واختلفوا في تفسير قوله { قياماً للناس } فقيل باتساع الرزق عليهم إذ جعلها تعالى مقصودة من جميع الآفاق وكانت مكة لا زرع ولا ضرع ، وقيل بامتناع الإغارة في الحرم ، وقيل بسبب صيرورتهم أهل الله فكل أحد يتقرب إليهم ، وقيل بما يقام فيها من المناسك وفعل العبادات ، وروي عن ابن عباس ، وقيل : يأمن من توجه إليها وروي عنه ، وقيل بعدم أذى من أخرجوه من جر جريرة ولجأ إليها ، وقيل ببقاء الدين ما حجت واستقبلت ، وقال عطاء لو تركوه عاماً واحداً لم ينظروا ولم يؤخروا.

وقال أبو عبد الله الرازي لا يبعد حمله على جميع الوجوه ، لأن قوام المعيشة بكثرة المنافع وبدفع المضار وبحصول الجاه والرئاسة وبحصول الدين والكعبة سبب لحصول هذه الأقسام انتهى.
وقرأ ابن عامر قيماً بغير ألف فإن كان أصله قياماً بالألف وحذفت فقيل حكم هذا أن يجيء في الشعر وإن كان مصدراً على فعل فكان قياسه أن تصح فيه الواو كعوض ، وقرأ الجحدري قيماً بفتح القاف وتشديد الياء المكسورة وهو كسيد اسم يدل على ثبوت الوصف من غير تقييد بزمان ولفظ الناس عام ، فقيل المراد العموم ، وقيل المراد العرب ، قال أبو عبد الله بن أبي الفضل وحس هذا المجاز أن أهل كل بلدة إذا قالوا الناس فعلوا كذا لا يريدون بذلك إلا أهل بلدتهم فلذلك خوطبوا على وفق عادتهم انتهى.
والشهر الحرام ظاهره الإفراد ، فقيل هو ذو الحجة وحده وبه بدأ الزمخشري قال لأن لاختصاصه من بين الأشهر المحرمة برسم الحج شأناً قد عرفه الله انتهى ، وقيل المراد الجنس فيشمل الأشهر الحرم الأربعة الثلاثة بإجماع من العرب وشهر مضر وهو رجب كان كثير من العرب لا يراه ولذلك يسمى شهر الله إذ كان تعالى قد ألحقه في الحرمة بالثلاثة فنسبه وسدده ، والمعنى شهر آل الله وهو شهر قريش وله يقول عوف بن الأحوص :
وشهر بني أمية والهدايا . . .
إذا سيقت مصرحها الدماء
ولما كانت الكعبة موضعاً مخصوصاً لا يصل إليه كل خائف جعل الله الأشهر الحرم والهدي والقلائد قياماً للناس كالكعبة.
{ ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض } الظاهر أن الإشارة هي للمصدر المفهوم أي ذلك الجعل لهذه الأشياء قياماً للناس وأمناً لهم ليعلموا أنه تعالى يعلم تفاصيل الأمور الكائنة في السموات والأرض ومصالحكم في دنياكم ودينكم فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم ، وأجاز الزمخشري أن تكون الإشارة إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره ، وقال الزجاج الإشارة إلى ما نبأ به تعالى من الأخبار بالمغيبات والكشف عن الأسرار مثل قوله { سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } ومثل إخباره بتحريفهم الكتب أي ذلك الغيب الذي أنبأكم به على لسان رسوله يدلكم على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض.
وقيل الإشارة إلى صرف قلوب الناس إلى مكة في الأشهر المعلومة فيعيش أهلها معهم ولولا ذلك ماتوا جوعاً لعلمه بما في مصالحهم وليستدلوا على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض.

{ وأن الله بكل شيء عليم } هذا عموم تندرج فيه الكليات والجزئيات كقوله تعالى { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها.
{ } { اعلموا أن الله شديد العقاب } هذا تهديد إذ أخبر أن عقابه شديد لمن انتهك حرمته.
{ وأن الله غفور رحيم } وهذا توجيه بالغفران والرحمة لمن حافظ على طاعة الله أو تاب عن معاصيه.
{ ما على الرسول إلا البلاغ } لما تقدم الترغيب والترهيب أخبر تعالى أن كلف رسوله بالتبليغ وهو توصيل الأحكام إلى أمته وهذا فيه تشديد على إيجاب القيام بما أمر به تعالى ، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ وقامت عليه الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم في التفريط.
قال ابن عطية هي إخبار للمؤمنين ولا يتصور أن يقال هي أنه موادعة منسوخة بآيات القتال بل هذه حال من آمن بهذا وشهد شهادة الحق فإنه عصم من الرسول ماله ودمه فليس على الرسول في جهته أكثر من التبليغ. انتهى.
وذكر بعض المفسرين الخلاف فيها أهي محكمة أم منسوخة بآية السيف والرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل يجوز أن يكون اسم جنس والمعنى ما على كل من أرسل إلا البلاغ والبلاغ والبلوغ مصدران لبلغ وإذا كان مصدر البلغ فبلاغ الشرائع مستلزم لتبليغ من أرسل بها فعبر باللازم عن الملزوم ويحتمل أن يكون مصدر البلغ المشدد على حذف الزوائد فمعنى البلاغ التبليغ.
{ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } جملة فيها تهديد إذ أخبر تعالى أنه مطلع على حال العبد ظاهراً وباطناً فهو مجازيه على ذلك ثواباً أو عقاباً ، ويحتمل أن يكون المعنى أنه تعالى ألزم رسوله التبليغ للشريعة وألزمكم أنتم تبليغها فهو العالم بما تبدون منها وما تكتمونه فيجازيكم على ذلك وكان ذلك خطاباً لأمته إذا كان الإبداء والكتم يمكن صدورهما منهم بخلاف الرسول فإنه يستحيل عليه أن يكتم شيئاً من شرائع الله تعالى.
{ قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث } روى جابر أن رجلاً قال : يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي ، فهل ينفعني ذلك المال إذا عملته في طاعة الله تعالى؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله لا يقبل إلا الطيب » فنزلت هذه الآية تصديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما حذر عن المعصية ورغب في التوبة بقوله : { اعلموا أن الله شديد العقاب } الآية.
وأتبعه في التكليف بقوله : { ما على الرسول إلا البلاغ } ثم بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله : { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية.
فقال هل يستوي الخبيث والطيب ، الآية أو يقال لما بين أن عقابه شديد لمن عصى وأنه غفور رحيم لمن أطاع بين أنه لا يستوي المطيع والعاصي وإن كان من العصاة والكفار كثرة فلا يمنعه كثرتهم من عقابه ، والظاهر أن الخبيث والطيب عامان فيندرج تحتهما حلال المال وحرامه وصالح العمل وفاسده وجيد الناس ورديئهم وصحيح العقائد وفاسدها والخبيث من هذا كله لا يصلح ولا يحب ولا يحسن له عاقبة والطيب ولو قل نافع جيد العاقبة وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى :

{ والبلد الطيب يخرج نباته } الآية.
والخبيث فاسد الباطن في الأشياء حتى يظن بها الصلاح والطيب خلاف ذلك وقد خصص بعض المتقدمين هنا الخبيث والطيب ببعض ما يقتضيه عموم اللفظ ، فقال ابن عباس والحسن هو الحلال والحرام ، وقال السدي هو المؤمن والكافر وذكر الماوردي قولاً أنه المطيع والعاصي وقولاً آخر أنه الجيد والرديء ، وقيل : الطيب المعرفة والطاعة والخبيث الجهل والمعصية والأحسن حمل هذه الأقوال على أنها تمثيل للطيب والخبيث لأقصر اللفظ عليها ، وقوله : { ولو أعجبك كثرة الخبيث } ظاهره أنه من جملة المأمور بقوله ووجه كاف الخطاب في قوله { ولو أعجبك } أن المعنى ولو أعجبك أيها السامع أو أيها المخاطب وأما أن لا يكون من جملة ما أمر بقوله ويكون خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم فقد ذكر بعضهم أنه يحتمل ذلك والأولى القول الأول أو يحمل على أنه خطاب له في الظاهر والمراد غيره.
{ فاتقوا الله يا اولي الألباب لعلكم تفلحون } أي اتقوه في إيثار الطيب وإن قل على الخبيث وإن كثر ، قال الزمخشري ومن حق هذه الآية أن يكفح بها المجبرة إذا افتخروا بالكثرة.
قال شاعرهم :
وكاثر بسعدٍ إنّ سعداً كثيرة . . .
ولا ترجُ من سعدٍ وفاء ولا نصرا
وقال آخر :
لا يدهمنك من دهمائهم عدد . . .
فإنّ جلَّهم كلَّهم بقرُ
وهو على عادته من تسمية أهل السنة مجبرة وذمهم وخص تعالى الخطاب والنداء بأولي الألباب لأنهم المتقدمون في تمييز الطيب والخبيث فلا ينبغي لهم إهمال ذلك.
قال ابن عطية وكأن الإشارة إلى لب التجربة الذي يزيد على لب التكليف بالجبلة والفطنة المستنبطة والنظر البعيد انتهى.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)

{ أشياء } مذهب سيبويه والخليل أنها لفعاء مقلوبة من فعلاء ، والأصل شيئاً من مادة شيء ، وهو اسم جمع كطرفاء وحلفاء ومذهب غيرهما أنها جمع.
واختلفوا فقال الكسائي وأبو حاتم ، هو جمع شيء كبيت وأبيات ، وقال الكسائي لم تنصرف أشياء لشبه آخرها بآخر حمراء ولكثرة استعمالها والعرب تقول أشياوان كما تقول حمراوان.
ذهب الفراء والأخفش إلى أنها جمع على وزن أفعلاء ، قال الفراء شيء مخفف من شيء كما قالوا هوناً في جمع هين المخفف من هين ، وقال الأخفش ليس مخففاً من شيء بل هو فعل جمع على أفعلاء فاجتمع في هذين القولين همزتان لام الكلمة وهمزة التأنيث فقلبت الهمزة التي هي لام الكلمة ياء لانكسار ما قبلها ثم حذفت الياء التي هي عين الكلمة استخفافاً ، وذهب قوم إلى أن وزن شيء في الأصل شيء كصديق وأصدقاء ، ثم حذفت الهمزة الأولى وفتحت ياء المد لكون ما بعدها ألفاً ، قال ووزنها في هذا القول إلى أفياء وفي القول الذي قبله أفلاء ، وتقرير هذه المذاهب صحة وإبطالاً مذكور في علم التصريف.
البحيرة فعيلة بمعنى مفعولة كالنطيحة بمعنى المنطوحة ، قال أبو عبيدة هي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن في آخرها ذكر شقوا أذنها وخلوا سبيلها لا تركب ولا تحلب ولا تطرد عن ماء ولامرعى ، وروي نحوه عن ابن عباس إلا أنه لم يذكر عنه آخرها ذَكَر ، وقال قتادة وينظر في الخامس فإذا كان ذكراً ذبحوه وأكلوه وإن كانت أنثى شقوا أذن الأنثى وقالوا هي بحيرة ، فلم تركب ولم تطرد عن ماء ولا مرعى وإذا لقيها ألمعي لم يركبها تحرّجاً وتخوراً منه.
روي عن عكرمة وزاد ، حرم على النساء لحمها ولبنها فإذا ماتت حلت للنساء ، وقال ابن سيدة البحيرة هي التي خليت بلا راع ، وقال مجاهد البحيرة ما نتجت السائبة من أنثى شق أذنها وخلّى سبيلها مع أمها في الفلا لم تركب ولم تحلب كما فعل بأمها ، وقال ابن المسيب هي التي تمنع درها للطواغيت فلا يحلبها ، وقيل هي الناقة إذا ولدت خمساً أو سبعاً شقوا أذنها.
وقال ابن عطية إذا نتجت الناقة عشرة أبطن شقوا أذنها نصفين طولاً فهي مبحورة وتركت ترعى وترد الماء ولا ينتفع منها بشيء ويحرم لحمها إذا ماتت على النساء ويحل للرّجال ، وقيل البحيرة السقب وإذا ولد يحزوا أذنه ، وقالوا اللهم إن عاش فعفى وإن مات فذكي فإذا مات أكل ، ويظهر من اختلاف هذه النقول أن العرب كانت تختلف طرائقها في البحيرة فصار لكلّ منها في ذلك طريقة وهي كلها ضلال.
السائبة فاعلة من ساب إذا جرى على وجه الأرض يقال ساب الماء وسابت الحية ، وقيل هي السيبة اسم الفاعل بمعنى المفعول نحو قولهم

{ عيشة راضية } أي مرضية ، قال أبو عبيدة كان الرّجل إذا قدم من سفر أو نذر نذراً أو شكر نعمة سيب بعيراً فكان بمنزلة البحيرة في جميع ما حلوا لها ، وقال الفراء إذا ولدت الناقة عشرة أبطن إناث سيبت فلم تركب ولم تحلب ولم يجزّ لها وبر ولم يشرب لها لبن إلا ولد أو ضيف ، وقال ابن عباس السائبة هي التي تسيب للأصنام أي تعتق ، وكان الرجل يسبب من ماله شيئاً فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها للسبيل ، وقال الشافعي كانوا ينذرون تسبيب الناقة ليحج حجة عليها ، وقيل السائبة العبد يعتق على أن لا يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث.
الوصيلة هي في الغنم على قول الأكثرين ، روى أبو صالح عن ابن عباس أنها الشاة تنتج سبعة أبطن فإن كان السابع أنثى لم تنتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت فيأكلها الرّجال والنساء وإن كان ذكراً ، ونحوه أكلوه جميعاً.
فإذا كان ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فتترك مع أخيها فلا تذبح ومنافعها للرّجال دون النساء فإذا ماتت اشترك الرّجال والنساء فيها ، وقال ابن قتيبة إن كان السابع ذكراً ذبح فأكل منه الرجال دون النساء وقالوا خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن كانت أنثى تركت في الغنم وإن كانت ذكراً وأنثى فكما في قول ابن عباس ، وقال ابن إسحاق هي الشاة تنتج عشرة أبطن متواليات في خمسة أبطن وما ولدت بعد ذلك فللذكور دون الإناث ، وقال الفراء هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين فإذا ولدت في سابعها عناقاً وجدياً قيل وصلت أخاها فجرت مجرى السائبة ، وقال الزجاج هي الشاة التي تلد أنثى فلهم أو ذكراً فلآلهتهم ، وقال أبو عبيدة نحوه وزاد إذا ولدت ذكراً وأنثى معاً قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوه لمكانها ، وروى الزهري عن ابن المسيب أنها الناقة البكر تبتكر في أول النتاج بالأنثى ثم تثنى بالأنثى فيستقونها لطواغيتهم ويقولون وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر ، وقيل هي الشاة تلد ثلاثة أبطن أو خمسة فإن كان آخرها جدياً ذبحوه لآلهتهم أو عناقاً استحيوها وقالوا هذه العناق وصلت أخاها فمنعته من الذبح.
الحامي اسم فاعل من حمى وهو الفحل من الإبل ، قال ابن مسعود وابن عباس واختاره أبو عبيدة والزجاج هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن فيقولون قد حمى ظهره فيسيبونه لأصنامهم فلا يحمل عليه شيء ، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس واختاره الفراء أنه الفحل يولد لولد ولده ، وقال عطاء هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن فيظهر من بين أولاده عشرة إناث من بناته وبنات بنانه ، وقال ابن زيد هو الذي ينتج له سبع إناث متواليات وذكر الماوردي عن الشافعي أنه يضرب في إبل الرجل عشر سنين.

الحبس المنع من التصرف يقال حبست أحبس واحتبست فرساً في سبيل الله فهو محبس وحبيس وقفته للغزو.
وعثر على الرجل اطلع عليه مشتق من العثرة التي هي الوقوع وذلك أن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه فلما عثر به اطلع عليه ونظر ما هو فلذلك قيل لكل من اطلع على أمر كان خفيًّا عليه قد عثر عليه ويقال قد عثر عليه وقد أعثر عليه إذا أطلعه عليه ومنه { وكذلك أعثرنا عليهم } أي اطلعنا ، وقال الليث عثر يعثر عثوراً هجم على أمر لم يهجم عليه غيره وعثر عثرة وقع على شيء.
المائدة الخوان الذي عليه طعام فإذا لم يكن عليه طعام فليس بمائدة ، قال أبو عبد الله هي فاعلة بمعنى مفعولة وهي من العطاء والممتاد المطلوب منه العطاء ماده أعطاه وامتاده استعطاه.
وقال الزجاج هي فاعلة من ماد يميد تحرك فكأنها تميد بما عليها ، وقال ابن قتيبة المائدة الطعام من ماده يميده أعطاه كأنها تميد الآكلين أي تطعمهم وتكون فاعلة بمعنى مفعول بها أي ميد بها الآكلون.
وقيل من الميد وهو الميل وهذا قريب من قول الزجاج.
{ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لك تسؤكم } روى البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن أنس قال : قال رجل : يا رسول الله من أبي قال « أبوك فلان » ونزلت الآية.
وفي حديث أنس أيضاً أن رجلاً قال : أين مدخلي يا رسول الله؟ قال : « النار » وإن السائل من أبي هو عبد الله بن حذافة وفي غير حديث أنس ، فقام آخر فقال من أبي فقال « أبوك سالم مولى شيبة » وقيل نزلت بسبب سؤالهم عن الحج أفي كل عام؟ فسكت فقال أفي كل عام؟ قال : « لا ولو قلت نعم لوجبت ».
روي هذا عن عليّ وأبي هريرة وأبي أمامة وابن عباس ، وقيل السائل سراقة بن مالك ، وقيل عكاشة بن محصن الأسدي ، وقيل محصن ، وقيل رجل من بني أسد.
وقيل الأقرع بن حابس ، وقال الحسن : سألوا عن أمور الجاهلية التي عفا الله عنها ولا وجه للسؤال عما عفا الله عنه ، وقال ابن جبير ورواه مجاهد عن ابن عباس : سألوا عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ولذلك جاء ذكرها بعدها وروي عن عكرمة أنهم سألوا الآيات والمعجزات.
وذكر أبو سليمان الدمشقي أنها نزلت في تسهيم الفرائض ، وروي أنه تعالى لما بين أمر الكعبة والهدي والقلائد وأعلم أن حرمتها هو تعالى الذي شرعها إذ هي أمور قديمة من لدن إبراهيم عليه السلام ، ذهب ناس من العرب إلى السؤال عن سائر أحكام الجاهلية هل تلحق بذلك أم لا؟ إذ كانوا قد اعتقدوا الجميع سنة لا يفرقون بين ما هو من عند الله وما هو من تلقاء الشيطان ، والظاهر من الروايات أن الأعراب ألحوا عليه بأنواع من السؤالات فزجروا عن ذلك بهذه الآية ، وقيل نزلت في حجاج اليمامة حين أراد المسلمون أن يوقعوا بهم فنهوا عن الإيقاع بهم وإن كانوا مشركين ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما قال :

{ ما على الرسول إلا البلاغ } صار كأنه قيل ما بلغه الرسول فخذوه وكونوا منقادين له وما لم يبلغه فلا تسألوا عنه ولا تخوضوا فيه فربما جاءكم بسبب الخوض الفاسد تكاليف تشق عليكم ، قاله أبوعبد الله الرازي وفيه بعض تلخيص ، وقال أيضاً هذا متصل بقوله { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } فاتركوا الأمور على ظواهرها ولا تسألوا عن أحوال مختلفة والجملة الشرطية وما عطف عليها من الشرط في موضع الصفة لأشياء والمعنى لا تكثروا مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم إن أفتى لكم بها وكلفكم إياها تغمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها قاله الزمخشري وبناه على ما نقل في سبب النزول أنه سئل عن الحج ، وقرأ الجمهور { إن تبد لكم } بالتاء مبنيّاً للمفعول ، وقرأ ابن عباس ومجاهد مبنيّاً للفاعل ، وقرأ الشعبي بالياء مفتوحة من أسفل وضم الدال { يسؤكم } بالياء فيهما مضمومة في الأول ومفتوحة في الثاني ، وقال ابن عطية والتحرير إن يبدها الله تعالى.
{ وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } قال ابن عباس معناه لا تسألوا عن أشياء في ضمن الإخبار عنها مساءة لكم إما لتكليف شرعي يلزمكم وإما لخبر يسوءكم ، مثل الذي قال من أبي؟ ولكن إذا نزل القرآن بشيء وابتدأكم ربكم بأمر فحينئذ إن سألتم عن بيانه بين لكم وأبدى انتهى.
قال ابن عطية : فالضمير في قوله { عنها } عائد على نوعها لا على الأول التي نهى عن السؤال عنها.
قال : ويحتمل أن يكون في معنى الوعيد كأنه قال لا تسألوا وإن سألتم لقيتم غب ذلك وصعوبته لأنكم تكلفون وتستعجلون ما يسوءكم كالذي قيل له إنه في النار انتهى.
وقال الزمخشري { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن } أي عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي وهو ما دام الرسول بين أظهركم يوحى إليه { تبد لكم } تلك التكاليف { التي تسوءكم } وتؤمروا بتحملها فتعرّضوا أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها انتهى.
وعلى هذا يكون الضمير في { عنها } عائداً على أشياء نفسها لا على نوعها والذي يظهر أنهم نهوا عن السؤال عن أشياء وصفت بوصفين أحدهما أنها إن سألوا عنها أبديت لهم وقت نزول القرآن فيكون { حين } ظرفاً لقوله { تبد لكم } لا لقوله { وإن تسألوا عنها } والوصف الثاني أنها إن أبديت لهم ساءتهم وهذا الوصف وإن تقدم مرتب على الوصف المتأخر وإنما تقدم لأنه أردع لهم عن المسألة عن تلك الأشياء أن يسألوا عنها لأنهم إذا أخبروا أنهم تسوءهم تلك المسألة إذا أبديت كانت أنفر عن أن يسألوا بعد ، فما كان هذا الوصف أزجر عن السؤال قدّم وتأخر الوصف في الذكر الذي ليس فيه زجر ولا ردع واتكل في ذلك على فهم المعنى مع أن غطف الوصف الثاني بالواو يقتضي التشريك فقط دون الترتيب ، ولا يدل قوله { وإن تسألوا عنها } على جواز السؤال كما زعم بعضهم فقال : الضمير عائد على أشياء فكيف يفعل أشياء بأعيانها أن يكون السؤال عنها ممنوعاً وجائزاً معاً.

ويؤكد هذا قوله بعد : { قَد تبين الرشد من الغي } يعني : ظهرت الدلائل ووضحت البينات ، ولم يبق بعدها إلاَّ طريق القسر والإلجاء وليس بجائز لأنه ينافي التكليف ، وهذا الذي قاله أبو مسلم والقفال لائق بأصول المعتزلة ، ولذلك قال الزمخشري : لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، ولكن على التمكين والإختيار ، ونحوه قوله : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } أي : لو شاء لقسرهم على الإيمان ، ولكنه لم يفعل ، وبنى الأمر على الأختيار.
والدين هنا ملة الإسلام واعتقاده ، والألف واللام للعهد ، وقيل : بدل من الإضافة أي : في دين الله.
{ قد تبين الرشد من الغيّ } أي : استبان الإيمان من الكفر ، وهذا يبين أن الدين هو معتقد الإسلام.
وقرأ الجمهور : الرشد ، على وزن القفل ، والحسن : الرشد ، على وزن العنق.
وأبو عبد الرحمن : الرشد ، على وزن الجبل ، ورويت هذه أيضاً عن الشعبي ، والحسن ومجاهد.
وحكى ابن عطية عن أبي عبد الرحمن : الرشاد ، بالألف.
والجمهور على إدغام دال ، قد ، في : تاء ، تبين.
وقرىء شاذاً بالإظهار ، وتبين الرشد ، بنصب الأدلة الواضحة وبعثة الرسول الداعي إلى الإيمان ، وهذه الجملة كأنها كالعلة لانتفاء الإكراه في الدين ، لأن وضوح الرشد واستبانته تحمل على الدخول في الدين طوعاً من غير إكراه ، ولا موضع لها من الإعراب.
{ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } الطاغوت : الشيطان.
قاله عمر ، ومجاهد ، والشعبي ، والضحاك ، وقتادة ، والسدّي.
أو : الساحر ، قاله ابن سيرين ، وأبو العالية.
أو : الكاهن ، قاله جابر ، وابن جبير ، ورفيع ، وابن جريح.
أو : ما عبد من دون الله ممن يرضى ذلك : كفرعون ، ونمروذ ، قاله الطبري.
أو : الأصنام ، قاله بعضهم.
وينبغي أن تجعل هذه الأقوال كلها تمثيلاً ، لأن الطاغوت محصور في كل واحد منها.
قال ابن عطية وقدّم ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت. انتهى.
وناسب ذلك أيضاً اتصاله بلفط الغي ، ولأن الكفر بالطاغوت متقدّم على الإيمان بالله ، لأن الكفر بها هو رفضها ، ورفض عبادتها ، ولم يكتف بالجملة الأولى لأنها لا تستلزم الجملة الثانية ، إذ قد يرفض عبادتها ولا يؤمن بالله ، لكن الإيمان يستلزم الكفر بالطاغوت ، ولكنه نبه بذكر الكفر بالطاغوت على الانسلاخ بالكلية ، مما كان مشتبهاً به ، سابقاً له قبل الإيمان ، لأن في النصية عليه مزيد تأكيد على تركه.
وجواب الشرط : فقد استمسك ، وأبرز في صورة الفعل الماضي المقرون بقد الدالة في الماضي على تحقيقه ، وإن كان مستقبلاً في المعنى لأنه جواب الشرط ، إشعاراً بأنه مما وقع استمساكه وثبت وذلك للمبالغة في ترتيب الجزاء على الشرط ، وأنه كائن لا محالة لا يمكن أن يتخلف عنه ، و : بالعروة ، متعلق باستمسك ، جعل ما تمسك به من الإيمان عروة ، وهي في الأجرام موضع الإمساك وشد الأيدي شبه الإيمان بذلك.

ومن سأل عن الحج وأين ناقتي وما في بطن ناقتي غير سؤال القوم الذين تقدموا ، فقال الزمخشري الضمير في { سألها } ليس براجع إلى أشياء حتى يجب تعديته بعن ، وإنما هو راجع إلى المسألة التي دل عليها { لا تسألوا } يعني قد سأل هذه المسألة قوم من الأولين ثم أصبحوا أي بمرجوعها كافرين ، وذلك أن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا. انتهى.
وقال ابن عطية نحواً من قول الزمخشري قال : ومعنى هذه الآية أن هذه السؤالات التي هي تعنتات وطلب شطط واقتراحات ومباحثات قد سألها قبلكم الأمم ثم كفروا بها.
انتهى ، ولا يستقيم ما قالاه إلا على حذف مضاف وقد صرح به بعض المفسرين ، فقال قد سأل أمثالها أي أمثال هذه المسألة أو أمثال هذه السؤالات ، وقرأ الجمهور سألها بفتح السين والهمزة ، وقرأ النخعي بكسر السين من غير همز يعني بالكسر والإمالة ، وجعل الفعل من مادّة سين وواو ولام لا من مادّة سين وهمزة ولام ، وهما لغتان ذكرهما سيبويه ، ومن كلام العرب هما يتساولان بالواو وإمالة النخعي سأل مثل إمالة حمزة خاف.
والقوم قال ابن عباس هم قوم عيسى سألوا المائدة ثم كفروا بها بعد أن شرط عليهم العذاب الذي لا يعذبه أحداً من العالمين ، وقال ابن زيد أيضاً هم قوم موسى سألوا في ذبح البقرة وشأنها ، وقال ابن زيد أيضاً هم الذين قالوا لنبيَ لهم { ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله } وقيل قوم موسى سألوا أن يريهم الله جهرة فصار ذلك وبالاً عليهم ، وقيل قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها بعد أن دخلوا على الاشتراط في قوله تعالى : { لها شرب ولكم يوم معلوم } وبعد اشتراط العذاب عليهم إن مسوها بسوء ، وقال مقاتل كان بنو إسرائيل يسألون أنبياءهم عن أشياء فإذا أخبروهم بها تركوا قولهم ولم يصدّقوهم فأصبحوا بتلك الأشياء كافرين ، وقال السدّي كقريش في سؤالهم أن يجعل الله لهم الصفا ذهباً ، قال ابن عطية إنما يتجه في قريش مثال سؤالهم آية فلما شق القمر كفروا انتهى ، وقال بعض المتأخرين القوم قريش سألوا أموراً ممتنعة كما أخبر تعالى { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } وهذا لا يستقيم إلا إن أريد بمن قبلهم آباؤهم الذين ماتوا في ابتداء التنزيل ، قال أبو البقاء العكبري { من قبلكم } متعلق بسألها ، ولا يجوز أن يكون صفة لقوم ولا حالاً لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة ولا حالاً منها ولا خبراً عنها انتهى.

وهذا الذي ذكره صحيح في ظرف الزمان المجرد من الوصف أما إذا وصف فذكروا أنه يكون خبراً تقول نحن في يوم طيب وأما قبل وبعد فالحقيقة أنهما وصفان في الأصل فإذا قلت جاء زيد قبل عمرو فالمعنى جاء زيد زماناً أي في زمان متقدم على زمان مجيء عمرو ، ولذلك صح أن يقع صلة للموصول ولم يلحظ فيه الوصف وكان ظرف زمان مجرداً لم يجز أن يقع صلة ، قال تعالى : { والذين من قبلكم } ولا يجوز والذين اليوم وقد تكلمنا على هذا في أول البقرة ومعنى { ثم أصبحوا } ثم صاروا ولا يراد أن كفرهم مقيد بالصباح.
{ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } مناسبة هذه لما قبلها أنه تعالى لما نهى عن سؤال ما لم يأذن فيه ولا كلفهم إياه منع من التزام أمور ليست مشروعة من الله تعالى ، ولما سأل قوم عن هذه الأحكام التي كانت في الجاهلية هل تلحق بأحكام الكعبة بين تعالى أنه لم يشرع شيئاً منها ، أو لما ذكر المحللات والمحرمات في الشرع عاد إلى الكلام في المحللات والمحرمات من غير شرع ، وفي حديث روي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « أن أول من غير دين إسماعيل عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف نصب الأوثان وسبب السائبة وبحر البحيرة وحمى الحامي » ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر قصبه في النار ، وروي أنه كان ملك مكة ، وروى زيد بن أسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « قد عرفت أول من بحر البحيرة هو رجل من مدلج كانت له ناقتان فجدع ذانهما وحرم ألبانهما وركوب ظهورهما قال : فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه ».
قال الزمخشري يعني { ما جعل الله } ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير والتسييب وغير ذلك ، وقال ابن عطية و { جعل } في هذه الآية لا يتجه أن تكون بمعنى خلق الله لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها ولا هي بمعنى صير لعدم المفعول الثاني ، وإنما هي بمعنى ما سن ولا شرع ، ولم يذكر النحويون في معاني جعل شرع ، بل ذكروا أنها تأتي بمعنى خلق وبمعنى ألقى وبمعنى صير ، وبمعنى الأخذ في الفعل فتكون من أفعال المقاربة.
وذكر بعضهم بمعنى سمى وقد جاء حذف أحد مفعولي ظن وأخواتها إلا أنه قليل والحمل على ما سمع أولى من إثبات معنى لم يثبت في لسان العرب فيحتمل أن يكون المفعول الثاني محذوفاً ، أي ما صير الله بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حامياً مشروعة بل هي من شرع غير الله ،

{ والأنعام خلقها لكم } خلقها الله تعالى رفقاً لعباده ونعمة عددها عليهم ومنفعة بالغة وأهل الجاهلية قطعوا طريق الانتفاع بها وإذهاب نعمة الله بها ، قال ابن عطيّة وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا تجوز الأحباس والأوقاف وقاسوا على البحيرة والسائبة والفرق بيّن ولو عمد رجل إلى ضيعة له فقال هذه تكون حبساً لا تجتنى ثمرتها ولا تزرع أرضها ولا ينتفع منها بنفع لجاز أن يشبه هذا بالبحيرة والسائبة ، وأما الحبس المتعين طريقة واستمرار الانتفاع به فليس من هذا ، وحسبك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب في مال له : « اجعله حبساً لا يباع أصله » وحبس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.
{ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } قال الزمخشري بتحريم ما حرموا.
{ وأكثرهم لا يعقلون } فلا ينسبوا التحريم حتى يفتروا ولكنهم يقلدون في تحريمها كبارهم انتهى.
نص الشعبي وغيره أن المفترين هم المبتدعون وأن الذين لا يعقلون هم الأتباع ، وقال ابن عباس { الذين كفروا } يريد عمرو بن لحي وأصحابه ، وقيل في { لا يعقلون } أي الحلال من الحرام ، وقال قتادة : { لا يعقلون } أن هذا التحريم من الشيطان لا من الله ، وقال محمد بن موسى : { الذين كفروا } هنا هم أهل الكتاب والذين { لا يعقلون } هم أهل الأوثان ، قال ابن عطية وهذا تفسير من انتزاع آخر الآية عما تقدمها وارتبط بها من المعنى وعما أخبر أيضاً من قوله { وإذا قيل لهم } انتهى.
وقال مكي ذكر أهل الكتاب هنا لا معنى له إذ ليس في هذا صنع ولا شبه وإنما ذكر ذلك عن مشركي العرب فهم الذين عنوا بذلك.
{ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون }.
تقدّم تفسير مثل هذه الآية في سورة البقرة وهنا { تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا } وهناك { اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } وهنا { لا يعلمون شيئاً } وهناك { لا يعقلون شيئاً } والمعنى في هذا التغاير لا يكاد يختلف ومعنى { إلى ما أنزل الله } أي من القرآن الذي فيه التحريم الصحيح ومعنى { حسبنا } : كافينا وقول ابن عطية : معنى { حسبنا } كفانا ليس شرحاً بالمرادف إذ شرح الاسم بالفعل ، وقال ابن عطية في { أولو } : ألف التوقيف دخلت على واو العطف كأنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى والتزموا شنيع القول وإنما التوقيف توبيخ لهم كأنهم يقولون بعده : نعم ، ولو كان كذلك انتهى.
وقوله في الهمزة ألف التوقيف عبارة لم أقف عليها من كلام النحاة يقولون همزة الإنكار همزة التوبيخ وأصلها همزة الاستفهام ، وقوله : كأنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى يعني فكان التقدير قالوا : فاعتنى بالهمزة فقدّمت لقوله :

{ ولم يسيروا في الأرض } وليس كما ذكر من أنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى على ما نبينه إن شاء الله تعالى ، وقال الزمخشري والواو في قوله : { أولو كان آباؤهم } واو الحال وقد دخلت عليها همزة الإنكار والتقدير أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم { لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون } ، والمعنى أن الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة. انتهى.
وجعل الزمخشري الواو ، في { أَولو } ، واو الحال وهو مغاير لقول ابن عطية أنها واو العطف لا من الجهة التي ذكرها ابن عطية واو الحال لكن يحتاج ذلك إلى تبيين ، وذلك أنه قد تقدم من كلامنا أن لو التي تجيء هذا المجيء هي شرطية وتأتي لاستقصاء ما قبلها والتنبيه على حاله داخلة فيما قبلها وإن كان مما ينبغي أن لا تدخل ، فقوله : « أعطوا السائل ولو جاء على فرس وردّوا السائل ولو بظلف محرق واتقوا النار ولو بشق تمرة ».
وقول الشاعر :
قوم إذا حاربو شدّوا مآزرهم . . .
دون النساء ولو باتت بإطهار
فالمعنى أعطوا السائل على كل حال ولو على الحالة التي تشعر بالغنى وهي مجيئه على فرس ، وكذلك يقدر ما ذكرنا من المثل على ما يناسب فالواو عاطفة على حال مقدرة فمن حيث هذا العطف صح أن يقال إنها واو الحال وقد تقدم الكلام على ذلك بأشبع من هذا فالتقدير في الآية أحسبهم أتباع ما وجدوا عليه آباءهم على كل حال ولو في الحالة التي تنفي عن آبائهم العلم والهداية فإنها حالة ينبغي أن لا يتبع فيها الآباء لأن ذلك حال من غلب عليه المفرط.
{ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم } قال أبو أمية الشعباني : سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية فقال : لقد سألت عنها خبيراً سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « أمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحاً مطاعاً وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك بخويصة نفسك وذر عوامّهم فإن وراءكم أياماً أجر العامل فيها كأجر خمسين منكم ».
وهذا أصح ما يقال في تأويل هذه الآية لأنه عن الرسول وعليه الصحابة بلغ أبا بكر الصديق أن بعض الناس تأول الآية على أنه لا يلزم الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر ، فصعد المنبر وقال : أيها الناس لا تغتروا بقول الله : { عليكم أنفسكم } فيقول أحدكم : عليّ نفسي فوالله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم وليسوا منكم سوء العذاب ، وعن عمر أن رجلاً قال له : إني لأعمل بأعمال البر كلها إلا في خصلتين قال : وما هما قال لا آمر ولا أنهى ، فقال له عمر لقد طمست سهمين من سهام الإسلام إن شاء غفر لك وإن شاء عذبك ، وعن ابن مسعود ليس هذا زمان هذه الآية قولوا الحق ما قبل منكم فإذا ردّ عليكم فعليكم أنفسكم ، وقيل لابن عمر في بعض أوقات الفتن : لو تركت القول في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا :

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46