كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

والتمثيل الثاني أبلغ لأنه أدلّ على فرط الحيرة وشدة الأمر ، ولذلك أخر فصار ارتقاء من الأهون إلى الأغلظ.
وقد رام بعض المفسرين ترتب أحوال المنافقين وموازنتها في المثل من الصيب والظلمات والرعد والبرق والصواعق ، فقال : مثل الله القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال ، وعما هم بالظلمات والوعيد والزجر بالرعد والنور والحجج الباهرة التي تكاد أحياناً أن تبهرهم بالبرق وتخوفهم بجعل أصابعهم ، وفضح نفاقهم وتكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة ونحوها بالصواعق ، وهذا قول من ذهب إلى أنه من التمثيل المفرق الذي يقابل منه شيء شيئاً من الممثل ، وستأتي بقية الأقوال في ذلك ، إن شاء الله تعالى.
وقرىء : أو كصايب ، وهو اسم فاعل من صاب يصوب وصيب ، أبلغ من صايب ، والكاف في موضع رفع لأنها معطوفة على ما موضعه رفع.
والجملة من قوله : { ذهب الله بنورهم } إذا قلنا ليست جواب لما جملة اعتراض فصل بها بين المعطوف والمعطوف عليه ، وكذلك أيضاً { صم بكم عمي } إذا قلنا إن ذلك من أوصاف المنافقين.
فعلى هذين القولين تكون الجملتان جملتي اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه ، وقد منع ذلك أبو علي ، وردّ عليه بقول الشاعر :
لعمرك والخطوب مغيرات . . .
وفي طول المعاشرة التقالي
لقد باليت مظعن أمّ أوفى . . .
ولكن أمّ أوفى لا تبالي
ففصل بين القسم وجوابه بجملتي الاعتراض.
من السماء متعلق بصيب فهو في موضع نصب ومن فيه لابتداء الغاية ، ويحتمل أن تكون في موضع الصفة فتعلق بمحذوف ، وتكون من إذ ذاك للتبعيض ، ويكون على حذف مضاف التقدير ، أو كمطر صيب من أمطار السماء ، وأتى بالسماء معرفة إشارة إلى أن هذا الصيب نازل من آفاق السماء ، فهو مطبق عام.
قال الزمخشري : وفيه أن السحاب من السماء ينحدر ، ومنها يأخذ ماءه ، لا كزعم من زعم أنه يأخذه من البحر ، ويؤيده قوله تعالى : { وينزل من السماء من جبال فيها من برد } انتهى كلامه.
وليس في الآيتين ما يدل على أنه لا يكون منشأ المطر من البحر ، إنما تدل الآيتان على أن المطر ينزل من السماء ، ولا يظهر تناف بين أن يكون المطر ينزل من السماء ، وأن منشأه من البحر.
والعرب تسمي السحاب بنات بحر ، يعني أنها تنشأ من البحار ، قال طرفة :
لا تلمني إنها من نسوة . . .
رقد الصيف مقاليت نزر
كبنات البحر يمأدن كما . . .
أنبت الصيف عساليج الخضر
وقد أبدلوا الباء ميماً فقالوا : بنات المحر ، كما قالوا : رأيته من كثب ومن كثم.
وظلمات : مرتفع بالجار والمجرور على الفاعلية ، لأنه قد اعتمد إذا وقع صفة ، ويجوز أن تكون فيه من موضع الحال من النكرة المخصصة بقوله : { من السماء } ، إما تخصيص العمل ، وإما تخصيص الصفة على ما قدمناه من الوجهين في إعراب من السماء ، وأجازوا أن يكون ظلمات مرفوعاً بالابتداء ، وفيه في موضع الخبر.

والجملة في موضع الصفة ، ولا حاجة إلى هذا لأنه إذا دار الأمر بين أن تكون الصفة من قبيل المفرد ، وبين أن تكون من قبيل الجمل ، كان الأولى جعلها من قبيل المفرد وجمع الظلمات ، لأنه حصلت أنواع من الظلمة.
فإن كان الصيب هو المطر ، فظلماته ظلمة تكاثفه وانتساجه وتتابع قطره ، وظلمة : ظلال غمامه مع ظلمة الليل.
وإن كان الصيب هو السحاب ، فظلمة سجمته وظلمة تطبيقه مع ظلمة الليل.
والضمير في فيه عائد على الصيب ، فإذا فسر بالمطر ، فمكان ذلك السحاب ، لكنه لما كان الرعد والبرق ملتبسين بالمطر جعلا فيه على طريق التجوّز ، ولم يجمع الرعد والبرق ، وإن كان قد جمعت في لسان العرب ، لأن المراد بذلك المصدر كأنه قيل : وإرعاد وإبراق ، وإن أريد العينان فلأنهما لما كانا مصدرين في الأصل ، إذ يقال : رعدت السماء رعداً وبرقت برقاً ، روعي حكم أصلهما وإن كان المعنى على الجمع ، كما قالوا : رجل خصم ، ونكرت ظلمات ورعد وبرق ، لأن المقصود ليس العموم ، إنما المقصود اشتمال الصيب على ظلمات ورعد وبرق.
والضمير في يجعلون عائد على المضاف المحذوف للعلم به ، لأنه إذا حذف ، فتارة يلتفت إليه حتى كأنه ملفوظ به فتعود الضمائر عليه كحاله مذكوراً ، وتارة يطرح فيعود الضمير الذي قام مقامه.
فمن الأول هذه الآية وقوله تعالى : { أو كظلمات في بحر لجِّيِّ يغشاه موج من فوقه } ، التقدير ، أو كذي ظلمات ، ولذلك عاد الضمير المنصوب عليه في قوله : يغشاه.
ومما اجتمع فيه الالتفات والاطراح قوله تعالى : { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون } المعنى من أهل قرية فقال : فجاءها ، فأطرح المحذوف وقال : أو هم ، فالتفت إلى المحذوف.
والجملة من قوله : يجعلون لا موضع لها من الإعراب ، لأنها جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل : يجعلون ، وقيل : الجملة لها موضع من الإعراب وهو الجر لأنها في موضع الصفة لذوي المحذوف ، كأنه قيل : جاعلين ، وأجاز بعضهم أن تكون في موضع نصب على الحال من الضمير الذي هو الهاء في فيه.
والراجع على ذي الحال محذوف ثابت الألف واللام عنه التقدير من صواعقه.
وأراد بالأصابع بعضها ، لأن الأصبع كلها لا تجعل في الأذن ، إنما تجعل في الأنملة ، لكن هذا من الاتساع ، وهو إطلاق كل على بعض ، ولأن هؤلاء لفرط ما يهولهم من إزعاج الصواعق كأنهم لا يكتفون بالأنملة ، بل لو أمكنهم السد بالأصبع كلها لفعلوا ، وعدل عن الاسم الخاص لما يوضع في الأذن إلى الاسم العام ، وهو الأصبع ، لما في ترك لفظ السبابة من حسن أدب القرآن ، وكون الكنايات فيه تكون بأحسن لفظ ، لذلك ما عدل عن لفظ السبابة إلى المسبحة والمهللة وغيرها من الألفاظ المستحسنة ، ولم تأت بلفظ المسبحة ونحوها لأنها ألفاظ مستحدثة ، لم يتعارفها الناس في ذلك العهد ، وإنما أحدثت بعداً.

وقرأ الحسن : من الصواقع ، وقد تقدم أنها لغة تميم ، وأخبرنا أنها ليست من المقلوب ، والجعل هنا بمعنى الإلقاء والوضع كأنه قال : يضعون أصابعهم ، ومن تتعلق بقوله يجعلون ، وهي سببية ، أي من أجل الصواعق وحذر الموت مفعول من أجله ، وشروط المفعول من أجله موجودة فيه ، إذ هو مصدر متحد بالعامل فاعلاً وزماناً ، هكذا أعربوه ، وفيه نظر لأن قوله : من الصواعق هو في المعنى مفعول من أجله ، ولو كان معطوفاً لجاز ، كقول الله تعالى : { ابتغاء مرضات الله } وتثبيتاً من أنفسهم ، وقول الراجز :
يركب كل عاقر جمهور . . .
مخافة وزعل المحبور
والهول من تهول الهبور . . .
وقالوا أيضاً : يجوز أن يكون مصدراً ، أي يحذرون حذر الموت ، وهو مضاف للمفعول.
وقرأ قتادة ، والضحاك بن مزاحم ، وابن أبي ليلى : حذار الموت ، وهو مصدر حاذر ، قالوا وانتصابه على أنه مفعول له.
الإحاطة هنا : كناية عن كونه تعالى لا يفوتونه ، كما لا يفوت المحاط المحيط به ، فقيل : بالعلم وقيل : بالقدرة ، وقيل : بالإهلاك.
وهذه الجملة اعتراضية لأنها دخلت بين هاتين الجملتين اللتين هما : يجعلون أصابعهم ، { ويكاد البرق } وهما من قصة واحدة.
وقد تقدم لنا أن هذا التمثيل من التمثيلات المركبة ، وهو الذي تشبه فيه إحدى الجملتين بالأخرى في أمر من الأمور ، وإن لم يكن آحاد إحدى الجملتين شبيهة بآحاد الجملة الأخرى ، فيكون المقصود تشبيه حيرة المنافقين في الدين والدنيا بحيرة من انطفأت نارة بعد إيقادها ، وبحيرة من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق.
وهذا الذي سبق أنه المختار.
وقالوا : أيضاً : يكون من التشبيه المفرق ، وهو أن يكون المثل مركباً من أمور ، والممثل يكون مركباً أيضاً ، وكل واحد من المثل مشبه لكل واحد من الممثل.
وقد تقدم قولان من جعل هذا المثل من التمثيل المفرق.
والثالث : أن الصيب مثل للإسلام والظلمات ، مثل لما في قلوبهم من النفاق والرعد والبرق ، مثلان لما يخوفون به.
والرابع : البرق مثل للإسلام والظلمات ، مثل للفتنة والبلاء.
والخامس : الصيب : الغيث الذي فيه الحياة مثل للإسلام والظلمات ، مثل لإسلام المنافقين وما فيه من إبطان الكفر ، والرعد مثل لما في الإسلام من حقن الدماء والاختلاط بالمسلمين في المناكحة والموازنة ، والبرق وما فيه من الصواعق مثل لما في الإسلام من الزجر بالعقاب في العاجل والآجل ، ويروى معنى هذا عن الحسن.
والسادس : أن الصيب والظلمات والرعد والبرق والصواعق كانت حقيقة أصابت بعض اليهود ، فضرب الله مثلاً بقصتهم لبقيتهم ، وروي في ذلك حديث عن ابن مسعود ، وابن عباس.
السابع : أنه مثل ضربه الله للخير والشر الذي أصاب المنافقين ، فكأنهم كانوا إذا كثرت أموالهم وولدهم الغلمان ، أو أصابوا غنيمة أو فتحاً قالوا : دين محمد صدق ، فاستقاموا عليه ، وإذا هلكت أموالهم وأولادهم وأصابهم البلاء قالوا : هذا من أجل دين محمد ، فارتدوا كفاراً.

الثامن : أنه مثل الدنيا وما فيها من الشدة والرخاء والنعمة والبلاء بالصيب الذي يجمع نفعاً بإحيائه الأرض وإنباته النبات وإحياء كل دابة والانتفاع به للتطهير وغيره من المنافع ، وضراً بما يحصل به من الإغراق والإشراق ، وما تقدمه من الظلمات والصواعق بالإرعاد والإبراق ، وأن المنافق يدفع آجلاً بطلب عاجل النفع ، فيبيع آخرته وما أعد الله له فيها من النعيم بالدنيا التي صفوها كدر ومآله بعد إلى سقر.
التاسع : أنه مثل للقيامة لما يخافونه من وعيد الآخرة لشكهم في دينهم وما فيه من البرق ، بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم ، ومثل ما فيه من الصواعق بما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل.
العاشر : ضرب الصيب مثل لما أظهر المنافقون من الإيمان والظلمات بضلالهم وكفرهم الذي أبطنوه ، وما فيه من البرق بما علاهم من خير الإسلام وعلتهم من بركته ، واهتدائهم به إلى منافعهم الدنيوية ، وأمنهم على أنفسهم وأموالهم وما فيه من الصواعق ، بما اقتضاه نفاقهم وما هم صائرون إليه من الهلاك الدنيوي والأخروي.
وقد ذكروا أيضاً أقوالاً كلها ترجع إلى التمثيل التركيبي : الأول : شبه حال المنافقين بالذين اجتمعت لهم ظلمة السحاب مع هذه الأمور ، فكان ذلك أشد لحيرتهم ، إذ لا يرون طريقاً ، ولا من أضاء له البرق ثم ذهب كانت الظلمة عنده أشد منها لو لم يكن فيها برق.
الثاني : أن المطر ، وإن كان نافعاً إلا أنه لما ظهر في هذه الصورة صار النفع به زائلاً ، كذلك إظهار الإيمان نافع للمنافق لو وافقه الباطن ، وأما مع عدم الموافق فهو ضر.
الثالث : أنه مثل حال المنافقين في ظنهم أن ما أظهروه نافعهم وليس بنافعهم بمن نزلت به هذه الأمور مع الصواعق ، فإنه يظن أن المخلص له منها جعل أصابعه في أذانه وهو لا ينجيه ذلك مما يريد الله به من موت أو غيره.
الرابع : أنه مثل لتأخر المنافق عن الجهاد فراراً من الموت بمن أراد دفع هذه الأمور بجعل أصابعهم في آذانهم.
الخامس : أنه مثل لعدم إخلاص المنافق من عذاب الله بالجاعلين أصابعهم في آذانهم ، فإنهم وإن تخلصوا من الموت في تلك الساعة ، فإن الموت من ورائهم.

يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)

يكاد : مضارع كاد التي هي من أفعال المقاربة ، ووزنها فعل يفعل ، نحو خاف يخاف ، منقلبة عن واو ، وفيها لغتان : فعل كما ذكرناه ، وفعل ، ولذلك إذا اتصل بها ضمير الرفع لمتكلم أو مخاطب أو نون إناث ضموا الكاف فقالوا : كدت ، وكدت ، وكدن ، وسمع نقل كسر الواو إلى الكاف ، مع ما إسناده لغير ما ذكر قول الشاعر :
وكيدت ضباع القف يأكلن جثتي . . .
وكيد خراش عند ذلك ييتم
يريد ، وكادت ، وكاد ، وليس ، من أفعال المقاربة ما يستعمل منها مضارع إلا : كاد ، وأوشك.
وهذه الأفعال هي من باب كان ، ترفع الاسم وتنصب الخبر ، إلا أن خبرها لا يكون إلا مضارعاً ، ولها باب معقود في النحو ، وهي نحو من ثلاثين فعلاً ذكرها أبو إسحاق البهاري في كتابه ( شرح جمل الزجاجي ).
وقال بعض المفسرين : يكاد فعل ينفي المعنى مع إيجابه ويوجبه مع النفي ، وقد أنشدوا في ذلك شعراً يلغز فيه بها ، وهذا الذي ذكر هذا المفسر هو مذهب أبي الفتح وغيره ، والصحيح عند أصحابنا أنها كسائر الأفعال في أن نفيها نفي وإيجابها إيجاب ، والاحتجاج للمذهبين مذكور في كتب النحو.
الخطف : أخذ الشيء بسرعة.
كل : للعموم ، وهو اسم جمع لازم للإضافة ، إلا أن ما أضيف إليه يجوز حذفه ويعوض منه التنوين ، وقيل : هو تنوين الصرف ، وإذا كان المحذوف معرفة بقيت كل على تعريفها بالإضافة ، فيجيء منها الحال ، ولا تعرف باللام عند الأكثرين ، وأجاز ذلك الأخفش ، والفارسي ، وربما انتصب حالاً ، والأصل فيها أن تتبع توكيداً كأجمع ، وتستعمل مبتدأ ، وكونها كذلك أحسن من كونها مفعولاً ، وليس ذلك بمقصور على السماع ولا مختصاً بالشعر خلافاً لزاعمه.
وإذا أضيفت كل إلى نكرة أو معرفة بلام الجنس حسن أن تلي العوامل اللفظية ، وإذا ابتدىء بها مضافة لفظاً إلى نكرة طابقت الأخبار وغيرها ما تضاف إليه وإلى معرفة ، فالأفصح إفراد العائد أو معنى لا لفظاً ، فالأصل ، وقد يحسن الإفراد وأحكام كل كثيرة.
وقد ذكرنا أكثرها في كتابنا الكبير الذي سميناه بالتذكرة ، وسردنا منها جملة لينتفع بها ، فإنها تكررت في القرآن كثيراً.
المشي : الحركة المعروفة.
لو : عبارة سيبويه ، إنها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وهو أحسن من قول النحويين إنها حرف امتناع لامتناع لاطراد تفسير سيبويه ، رحمه الله ، في كل مكان جاءت فيه لو ، وانخرام تفسيرهم في نحو : لو كان هذا إنساناً لكان حيواناً ، إذ على تفسير الإمام يكون المعنى ثبوت الحيوانية على تقدير ثبوت الإنسانية ، إذ الأخص مستلزم الأعم ، وعلى تفسيرهم ينخرم ذلك ، إذ يكون المعنى ممتنع الحيوانية لأجل امتناع الإنسانية ، وليس بصحيح ، إذ لا يلزم من انتفاء الإنسانية انتفاء الحيوانية ، إذ توجد الحيوانية ولا إنسانية.

وتكون لو أيضاً شرطاً في المستقبل بمعنى أن ، ولا يجوز الجزم بها خلافاً لقوم ، قال الشاعر :
لا يلفك الراجوك إلا مظهرا . . .
خلق الكرام ولو تكون عديماً
وتشرب لو معنى التمني ، وسيأتي الكلام على ذلك عند قوله تعالى : { فلو أن لنا كرة فتبرأ منهم } إن شاء الله تعالى ، ولا تكون موصولة بمعنى أن خلافاً لزاعم ذلك.
شاء : بمعنى أراد ، وحذف مفعولها جائز لفهم المعنى ، وأكثر ما يحذف مع لو ، لدلالة الجواب عليه.
قال الزمخشري : ولقد تكاثر هذا الحدف في شاء وأراد ، يعني حذف مفعوليهما ، قال : لا يكادون يبرزون هذا المفعول إلا في الشيء المستغرب ، نحو قوله :
فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته . . .
وقوله تعالى : { لو أرادنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه } و { لو راد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى } انتهى كلامه.
قال صاحب التبيان ، وذلك بعد أن أنشد قوله :
فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته . . .
عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
متى كان مفعول المشيئة عظيماً أو غريباً ، كان الأحسن أن يذكر نحو : لو شئت أن ألقى الخليفة كل يوم لقيته ، وسر ذكره أن السامع منكر لذلك ، أو كالمنكر ، فأنت تقصد إلى إثباته عنده ، فإن لم يكن منكراً فالحذف نحو : لو شئت قمت.
وفي التنزيل : { لو نشاء لقلنا مثل هذا } انتهى.
وهو موافق لكلام الزمخشري.
وليس ذلك عندي على ما ذهبنا إليه من أنه إذا كان في مفعول المشيئة غرابة حسن ذكره ، وإنما حسن ذكره في الآية والبيت من حيث عود الضمير ، إذ لو لم يذكر لم يكن للضمير ما يعود عليه ، فهما تركيبان فصيحان ، وإن كان أحدهما أكثر.
فأحدهما الحذف ودلالة الجواب على المحذوف ، إذ يكون المحذوف مصدراً دل عليه الجواب ، وإذا كانوا قد حذفوا أحد جزأي الإسناد ، وهو الخبر في نحو : لولا زيد لأكرمتك ، للطول بالجواب ، وإن كان المحذوف من غير جنس المثبت فلأن يحذف المفعول الذي هو فضلة لدلالة الجواب عليه ، إذ هو مقدر من جنس المثبت أولى.
والثاني : أن يذكر مفعول المشيئة فيحتاج أن يكون في الجواب ضمير يعود على ما قبله ، نحو قوله تعالى : { لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه } وقول الشاعر :
فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته . . .
وأما إذا لم يدل على حذفه دليل فلا يحذف ، نحو قوله تعالى : { لمن شاء منكم أن يستقيم } { لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر }.
الشيء : ما صح أن يعلم من وجه ويخبر عنه ، قال سيبويه ، رحمه الله ، وإنما يخرج التأنيث من التذكير ، ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أو أنثى؟ والشيء مذكر ، وهو عندنا مرادف للموجود ، وفي إطلاقه على المعدوم بطريق الحقيقة خلاف ، ومن أطلق ذلك عليه فهو أنكر النكرات ، إذ يطلق على الجسم والعرض والقديم والمعدوم والمستحيل.

القدرة : القوة على الشيء والاستطاعة له ، والفعل قدر ومصادره كثيرة : قدر ، قدرة ، وبتثليث القاف ، ومقدرة ، وبتثليث الدال : وقدر ، أو قدر ، أو قدر ، أو قدار ، أو قدار ، أو قدراناً ، ومقدراً ، ومقدراً.
الجملة من قوله : { يكاد البرق يخطف أبصارهم } لا موضع لها من الإعراب إذ هي مستأنفة جواب قائل قال : فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقيل : { يكاد البرق يخطف أبصارهم } ، ويحتمل أن تكون في موضع جر صفة لذوي المحذوفة التقدير كائد البرق يخطف أبصارهم ، والألف واللام في البرق للعهد ، إذ جرى ذكره نكرة في قوله : { فيه ظلمات ورعد وبرق } ، فصار نظير : لقيت رجلاً فضربت الرجل ، وقوله تعالى : { أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول } وقرأ مجاهد ، وعلي بن الحسين ، ويحيى بن زيد : يخطف بسكون الخاء وكسر الطاء ، قال ابن مجاهد : وأظنه غلطاً واستدل على ذلك بأن أحداً لم يقرأ بالفتح إلا من خطِف الخطفة.
وقال الزمخشري : الفتح ، يعني في المضارع أفصح ، انتهى.
والكسر في طاء الماضي لغة قريش ، وهي أفصح ، وبعض العرب يقول : خطف بفتح الطاء ، يخطف بالكسر.
قال ابن عطية ، ونسب المهدوي هذه القراءة إلى الحسن وأبي رجاء ، وذلك وهم.
وقرأ علي ، وابن مسعود : يختطف.
وقرأ أُبي : يتخطف.
وقرأ الحسن أيضاً : يخطف ، بفتح الياء والخاء والطاء المشددة.
وقرأ الحسن أيضاً ، والجحدري ، وابن أبي إسحاق : يخطف ، بفتح الياء والخاء وتشديد الطاء المكسورة ، وأصله يختطف.
وقرأ الحسن أيضاً ، وأبو رجاء ، وعاصم الجحدري ، وقتادة : يخطف ، بفتح الياء وكسر الخاء والطاء المشددة.
وقرأ أيضاً الحسن ، والأعمش : يخطف ، بكسر الثلاثة وتشديد الطاء.
وقرأ زيد بن علي : يخطف ، بضم الياء وفتح الخاء وكسر الطاء المشددة من خطف ، وهو تكثير مبالغة لا تعدية.
وقرأ بعض أهل المدينة : يخطف ، بفتح الياء وسكون الخاء وتشديد الطاء المكسورة ، والتحقيق أنه اختلاس لفتحة الخاء لا إسكان ، لأنه يؤدّي إلى التقاء الساكنين على غير حد التقائهما.
فهذا الحرف قرىء عشر قراءات : السبعة يخطف ، والشواذ : يخطف يختطف يتخطف يخطف وأصله يتخطف ، فحذف التاء مع الياء شذوذاً ، كما حذفها مع التاء قياساً.
يخطف يخطف يخطف يخطف ، والأربع الأخر أصلها يختطف فعرض إدغام التاء في الطاء فسكنت التاء للإدغام فلزم تحريك ما قبلها ، فإما بحركة التاء ، وهي الفتح مبينة أو مختلسة ، أو بحركة التقاء الساكنين ، وهي الكسر.
وكسر الياء اتباع لكسرة الخاء ، وهذه مسألة إدغام اختصم به ، وهي مسألة تصريفية يختلف فيها اسم الفاعل واسم المفعول والمصدر ، وتبيين ذلك في علم التصريف.
ومن فسر البرق بالزجر والوعيد قال : يكاد ذلك يصيبهم.
ومن مثله بحجج القرآن وبراهينه الساطعة قال : المعنى يكاد ذلك يبهرهم.
وكل : منصوب على الظرف وسرت إليه الظرفية من إضافته لما المصدرية الظرفية لأنك إذا قلت : ما صحبتني أكرمتك ، فالمعنى مدّة صحبتك لي أكرمك ، وغالب ما توصل به ما هذه بالفعل الماضي ، وما الظرفية يراد بها العموم ، فإذا قلت : أصحبك ما ذر لله شارق ، فإنما تريد العموم.

فكل هذه أكدت العموم الذي أفادته ما الظرفية ، ولا يراد في لسان العرب مطلق الفعل الواقع صلة لما ، فيكتفى فيه بمرة واحدة ، ولدلالتها على عموم الزمان جزم بها بعض العرب.
والتكرار الذي يذكره أهل أصول الفقه والفقهاء في كلما ، إنما ذلك فيها من العموم ، لا إن لفظ كلما وضع للتكرار ، كما يدل عليه كلامهم ، وإنما جاءت كل توكيداً للعموم المستفاد من ما الظرفية ، فإذا قلت : كلما جئتني أكرمتك ، فالمعنى أكرمك في كل فرد فرد من جيئاتك إلي.
وما أضاء : في موضع خفض بالإضافة ، إذ التقدير كل إضاءة ، وهو على حذف مضاف أيضاً ، معناه : كلّ وقت إضاءة ، فقام المصدر مقام الظرف ، كما قالوا : جئتك خفوق النجم.
والعامل في كلما قوله : مشوا فيه ، وأضاء عند المبرد هنا متعد التقدير ، كلما أضاء لهم البرق الطريق.
فيحتمل على هذا أن يكون الضمير في فيه عائداً على المفعول المحذوف ، ويحتمل أن يعود على البرق ، أي مشوا في نوره ومطرح لمعانه ، ويتعين عوده على البرق فيمن جعل أضاء لازماً ، أي : كلما لمع البرق مشوا في نوره ، ويؤيد هذا قراءة ابن أبي عبلة : كلما ضاء ثلاثياً ، وقد تقدّم أنها لغة.
وفي مصحف أُبيّ : مرّوا فيه ، وفي مصحف ابن مسعود : مضوا فيه.
وهذه الجملة استئناف ثالث كأنه قيل : فأضاء لهم في حالتي وميض البرق وخفائه ، قيل : كلما أضاء لهم إلى آخره.
وقرأ يزيد بن قطيب والضحاك : وإذا أظلم مبنياً للمفعول ، وأصل أظلم أن لا يتعَدّى ، يقال : أظلم الليل.
وظاهر كلام الزمخشري أن أظلم يكون متعدياً بنفسه لمفعول ، فلذلك جاز أن يبنى لما لم يسم فاعله.
قال الزمخشري : أظلم على ما لم يسم فاعله ، وجاء في شعر حبيب بن أوس الطائي :
هما أظلما حاليّ ثمت أجليا . . .
ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب
وهو أن كان محدثاً لا يستشهد بشعره في اللغة ، فهو من علماء العربية ، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه.
ألا ترى إلى قول العلماء الدليل عليه بيت الحماسة ، فيقتنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه ، انتهى كلامه.
فظاهره كما قلنا أنه متعدّ وبناؤه لما لم يسم فاعله ، ولذلك استأنس يقول أبي تمام : هما أظلما حالي ، وله عندي تخريج غير ما ذكر الزمخشري ، وهو أن يكون أظلم غير متعدّ بنفسه لمفعول ، ولكنه يتعدّى بحرف جر.
ألا ترى كيف عدى أظلم إلى المجرور بعلى؟ فعلى هذا يكون الذي قام مقام الفاعل أو حذف هو الجار والمجرور ، فيكون في موضع رفع ، وكان الأصل : وإذا أظلم الليل عليهم ، ثم حذف ، فقام الجار والمجرور مقامه ، نحو : غضب زيد علي عمرو ، ثم تحذف زيداً وتبني الفعل للمفعول فتقول : غضب على عمرو ، فليس يكون التقدير إذ ذاك : وإذا أظلم الله الليل ، فحذفت الجلالة وأقيم ضمير الليل مقام الفاعل.

وأما ما وقع في كلام حبيب فلا يستشهد به ، وقد نقد على أبي علي الفارسي الاستشهاد بقول حبيب :
من كان مرعى عزمه وهمومه . . .
روض الأماني لم يزل مهزولا
وكيف يستشهد بكلام من هو مولد ، وقد صنف الناس فيما وقع له من اللحن في شعره؟ ومعنى قاموا : ثبتوا ووقفوا ، وصدرت الجملة الأولى بكلما ، والثانية بإذا.
قال الزمخشري : لأنهم حراص على وجود ما هممهم به معقودة من إمكان المشي وتأتيه ، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها ، وليس كذلك التوقف والتحبس ، انتهى كلامه.
ولا فرق في هذه الآية عندي بين كلما وإذا من جهة المعنى ، لأنه متى فهم التكرار من : { كلما أضاء لهم مشوا فيه } لزم منه أيضاً التكرار في أنه إذا أظلم عليهم قاموا ، لأن الأمر دائر بين إضاءة البرق والإظلام ، فمتى وجد هذا فقد هذا ، فيلزم من تكرار وجود هذا تكرار عدم هذا ، على أن من النحويين من ذهب إلى أن إذاً تدل على التكرار ككلما ، وأنشد :
إذا وجدت أوار الحب في كبدي . . .
أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
قال : فهذا معناه معنى كلما.
وفي تأويل هذه الآية أقوال.
قال ابن عباس والسدي : كلما أتاهم القرآن بما يحبونه تابعوه.
وقال قتادة : إضاءة البرق حصول ما يرجونه من سلامة نفوسهم وأموالهم ، فيسرعون إلى متابعته.
وقال مقاتل : البرق الإسلام ، ومشيهم فيه إهتداؤهم ، فإذا تركوا ذلك وقعوا في ضلالهم.
وقيل : إضاءته لهم : تركهم بلا ابتلاء ، ومشيهم فيه : إقامتهم على المسالمة بإظهار ما يظهرونه ، وقيل : كلما سمع المنافقون القرآن وحججه أنسوا ومشوا معه ، فإذا نزل ما يعمون فيه أو يكلفونه قاموا ، أي ثبتوا على نفاقهم.
وقيل : كلما توالت عليهم النعم قالوا : دين حق ، وإذا نزلت بهم مصيبة سخطوا وثبتوا على نفاقهم.
وقيل : كلما خفي نفاقهم مشوا ، فإذا افتضحوا قاموا ، وقيل : كلما أضاء لهم الحق اتبعوه ، فإذا أظلم عليهم بالهوى تركوه.
وقيل : ينتفعون بإظهار الإيمان ، فإذا وردت محنة أو شدة على المسلمين تحيروا ، كما قام أولئك في الظلمات متحيرين.
قال الزمخشري : وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون ، إذا صادفوا من البرق خفقة مع خوف أن يخطف أبصارهم ، انتهزوا تلك الخفقة فرصة فحطوا خطوات يسيرة ، فإذا خفي وفتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة ، انتهى كلامه.
ومفعول شاء هنا محذوف للدلالة عليه التقدير : ولو شاء الله إذهاب سمعهم وأبصارهم.
والكلام في الباء في بسمعهم كالكلام فيها في : { ذهب الله بنورهم } ، وتوحيد السمع تقدم الكلام عليه عند الكلام على قوله : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم }.

وقرأ ابن أبي عبلة : لأذهب بأسماعهم وأبصارهم ، فالباء زائدة التقدير لأذهب أسماعهم ، كما قال بعضهم : مسحت برأسه ، يريد رأسه ، وخشنت بصدره ، يريد صدره ، وليس من مواضع قياس زيادة الباء ، وجمعه الإسماع مطابق لجمع الإبصار.
ومعنى الجملة : أن ذهاب الله بسمعهم وأبصارهم كان يقع على تقدير مشيئة الله ذلك.
وقيل : المعنى لإهلاكهم ، لأن في هلاكهم ذهاب سمعهم وأبصارهم.
وقيل : وعيد بإذهاب الأسماع والأبصار من أجسادهم حتى لا يتوصلوا بهما إلى مالهم ، كما لم يتوصلوا بهما إلى ما عليهم.
وقيل : لأظهر عليهم بنفاقهم فذهب منهم عز الإسلام.
وقيل : لأذهب أسماعهم فلا يسمعون الصواعق فيحذرون ، ولأذهب أبصارهم فلا يرون الضوء ليمشوا.
وقيل ، عن ابن عباس : لذهب بسمعهم وأبصارهم لما تركوا من الحق بعد معرفته.
وقيل : لعجل لهم العقوبة في الدنيا ، فذهب بسمعهم وأبصارهم ، فلم ينتفعوا بها في الدنيا ، لأنهم لم يستعملوها في الحق فينتفعوا بها في أخراهم.
وقيل : لزاد في قصيف الرعد فأصمهم وفي ضوء البرق فأعماهم.
وقيل : لأوقع بهم ما يتخوفونه من الزجر والوعيد.
وقيل : لفضحهم عند المؤمنين وسلطهم عليهم.
وقال الزمخشري : لذهب سمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق.
وظاهر الكلام أن هذا كله مما يتعلق بذوي صيب ، فصرف ظاهره إلى أنه مما يتعلق بالمنافقين غير ظاهر ، وإنما هذا مبالغة في تحير هؤلاء السفر وشدة ما أصابهم من الصيب الذي اشتمل على ظلمات ورعد وبرق ، بحيث تكاد الصواعق تصمهم والبرق يعميهم.
ثم ذكر أنه لو سبقت المشيئة بذهاب سمعهم وأبصارهم لذهبت ، وكما اخترنا في قوله { ذهب الله بنورهم } إلى آخره أنه مبالغة في حال المستوقد ، كذلك اخترنا هنا أن هذا مبالغة في حالة السفر ، وشدة المبالغة في حال المشبه بهما يقتضي شدة المبالغة في حال المشبه ، فهو وإن لم تكن هذه الجزئيات التي للمشبه به ثابتة للمشبه بنظائرها ثابتة له ، ولا سيما إذا كان التمثيل من قبيل التمثيلات المفردة.
وأما على ما اخترناه من أنه من التمثيلات المركبة ، فتكون المبالغة في التشبيه بما آل إليه حال المشبه به ، وقد تقدم الكلام على ذلك قبل ، وخص السمع والأبصار في قوله : { لذهب بسمعهم وأبصارهم } لتقدم ذكرهما في قوله : { في آذانهم } ، وفي قوله : { يخطف أبصارهم }.
وقال بعضهم : تقدم ذكر الرعد والصواعق ، ومدركهما السمع ، والظلمات والبرق ، ومدركهما : البصر ، ثم قال : لو شاء أذهب ذلك من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم ، أعقب تعالى ما علقه على المشيئة بالإخبار عنه تعالى بالمقدرة لأن بهما تمام الأفعال ، أعني القدرة والإرادة وأتى بصيغة المبالغة إذ لا أحق بها منه تعالى.
وعلى كل شيء : متعلق بقوله : قدير ، وفي لفظ قدير ما يشعر بتخصيص العموم ، إذ القدرة لا تتعلق بالمستحيلات.
وقد تقدم لنا بعض كلام على تناسق الآي التي تقدم الكلام عليها ، ونحن نلخص ذلك هنا ، فنقول : افتتح تعالى هذه السورة بوصف كلامه المبين ، ثم بين أنه هدى لمؤمني هذه الأمة ومدحهم ، ثم مدح من ساجلهم في الإيمان وتلاهم من مؤمني أهل الكتاب ، وذكر ما هم عليه من الهدى في الحال ومن الظفر في المآل ، ثم تلاهم بذكر أضدادهم المختوم على قلوبهم وأسماعهم المغطي أبصارهم الميؤوس من إيمانهم ، وذكر ما أعد لهم من العذاب العظيم ، ثم أتبع هؤلاء بأحوال المنافقين المخادعين المستهزئين وأخر ذكرهم وإن كانوا أسوأ أحوالاً من المشركين ، لأنهم اتصفوا في الظاهر بصفات المؤمنين وفي الباطن بصفات الكافرين ، فقدم الله ذكر المؤمنين ، وثنّى بذكر أهل الشقاء الكافرين ، وثلّث بذكر المنافقين الملحدين ، وأمعن في ذكر مخازيهم فأنزل فيهم ثلاث عشرة آية ، كل ذلك تقبيح لأحوالهم وتنبيه على مخازي أعمالهم ، ثم لم يكتف بذكر ذلك حتى أبرز أحوالهم في صورة الأنفال ، فكان ذلك أدعى للتنفير عما اجترحوه من قبيح الأفعال.

فانظر إلى حسن هذا السياق الذي نوقل في ذروة الإحسان وتمكن في براعة أقسام البديع وبلاغة معاني البيان.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

يا : حرف نداء ، وزعم بعضهم أنها اسم فعل معناها : أنادي ، وعلى كثرة وقوع النداء في القرآن لم يقع نداء إلا بها ، وهي أعم حروف النداء ، إذ ينادي بها القريب والبعيد والمستغاث والمندوب.
وأمالها بعضهم ، وقد تتجرد للتنبيه فيليها المبتدأ والأمر والتمني والتعليل ، والأصح أن لا ينوي بعدها منادي.
أي : استفهام وشرط وصفة ووصلة لنداء ما فيه الألف واللام ، وموصولة ، خلافاً لأحمد بن يحيى ، إذ أنكر مجيئها موصولة ، ولا تكون موصوفة خلافاً للأخفش.
ها : حرف تنبيه ، أكثر استعمالها مع ضمير رفع منفصل مبتدأ مخبر عنه باسم إشارة غالباً ، أو مع اسم إشارة لا لبعد ، ويفصل بها بين أي في النداء وبين المرفوع بعده ، وضمها فيه لغة بني مالك من بني أسد ، يقولون : يا أيه الرجل ، ويا أيتها المرأة.
الخلق : الاختراع بلا مثال ، وأصله التقدير ، خلقت الأديم قدرته ، قال زهير :
ولأنت تفرى ما خلقت . . .
وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى
قال قطرب : الخلق هو الإيجاد على تقدير وترتيب ، والخلق والخليقة تنطلق على المخلوق ، ومعنى الخلق والإيجاد ، والإحداث ، والإبداع ، والإختراع ، والإنشاء ، متقارب.
قيل : ظرف زمان ، ولا يعمل فيها عامل فيخرجها عن الظرفية إلا من ، وأصلها وصف ناب عن موصوفه لزوماً ، فإذا قلت : قمت قبل زيد ، فالتقدير قمت زماناً قبل زمان قيام زيد ، فحذف هذا كله وناب عنه قبل زيد.
لعل : حرف ترجّ في المحبوبات ، وتوقع في المحدورات ، ولا تستعمل إلا في الممكن ، لا يقال : لعل الشباب يعود ، ولا تكون بمعنى كي ، خلافاً لقطرب وابن كيسان ، ولا استفهاماً خلافاً للكوفيين ، وفيها لغات لم يأت منها في القرآن إلا الفصحى ، ولم يحفظ بعدها نصب الاسمين ، وحكى الأخفش أن من العرب من يجزم بلعل ، وزعم أبو زيد أن ذلك لغة بني عقيل.
الفراش : الوطاء الذي يقعد عليه وينام ويتقلب عليه.
البناء : مصدر ، وقد يراد به المنقول من بيت أو قبة أو خباء أو طراف وأبنية العرب أخبيتهم.
الماء : معروف ، وقال بعضهم : هو جوهر سيال به قوام الحيوان ووزنه فعل وألفه منقلبة من واو وهمزته بدل من هاء يدل عليه : مويه ، ومياه ، وأمواه.
الثمرة : ما تخرجه الشجرة من مطعوم أو مشموم.
الند : المقاوم المضاهى مثلاً كان أو ضداً أو خلافاً.
وقال أبو عبيدة والمفضل : الند : الضد ، قال ابن عطية ، وهذا التخصيص تمثيل لا حصر.
وقال غيره : الند : الضد المبغض المناوي من الندود ، وقال المهدوي : الند : الكفؤ والمثل ، هذا مذهب أهل اللغة سوى أبي عبيدة.
فإنه قال : الضد.
قال الزمخشري : الند : المثل ، ولا يقال إلا للمثل المخالف للبارىء ، قال جرير :
أتيما تجعلون إلي نداً . . .
وما تيم لذي حسب نديد

وناددت الرجل : خالفته ونافرته ، من ند ندوداً إذا نفر.
ومعنى قولهم : ليس لله ند ولا ضد ، نفى ما يسد مسده ونفي ما ينافيه.
يا أيها الناس : خطاب لجميع من يعقل ، قاله ابن عباس ، أو اليهود خاصة ، قاله الحسن ومجاهد ، أو لهم وللمنافقين ، قاله مقاتل ، أو لكفار مشركي العرب وغيرهم ، قاله السّدي ، والظاهر قول ابن عباس لأن دعوى الخصوص تحتاج إلى دليل.
ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وصفاتهم وأحوالهم وما يؤول إليه حال كل منهم ، انتقل من الإخبار عنهم إلى خطاب النداء ، وهو التفات شبيه بقوله : { إياك نعبد } ، بعد قوله : { الحمد لله رب العالمين } ، وهو من أنواع البلاغة كما تقدم ، إذ فيه هز للسامع وتحريك له ، إذ هو خروج من صنف إلى صنف ، وليس هذا انتقالاً من الخطاب الخاص إلى الخطاب العام ، كما زعم بعض المفسرين ، إذ لم يتقدم خطاب خاص إلا إن كان ذلك تجوزاً في الخطاب بأن يعني به الكلام ، فكأنه قال : انتقل من الكلام الخاص إلى الكلام العام ، قال هذا المفسر ، وهذا من أساليب الفصاحة ، فإنهم يخصون ثم يعمون.
ولهذا لما نزل : { وأنذر عشيرتك الأقربين } دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخص وعم ، فقال : « يا عباس عم محمد لا أغني عنك من الله شيئاً ، ويا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً ، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئاً » وقال الشاعر :
يا بني اندبوا ويا أهل بيتي . . .
وقبيلي عليّ عاماً فعاما
انتهى كلامه.
وروي عن ابن عباس ومجاهد وعلقمة أنهم قالوا : كل شيء نزل فيه : { يا أيها الناس } فهو مكي ، و { يا أيها الذين آمنوا } فهو مدني.
أما في { يا أيها الذين آمنوا } فصحيح ، وأما في { يا أيها الناس } فيحمل على الغالب ، لأن هذه السورة مدنية ، وقد جاء فيها يا أيها الناس.
وأي في أيها منادى مفرد مبني على الضم ، وليست الضمة فيه حركة إعراب خلافاً للكسائي والرياشي ، وهي وصلة لنداء ما فيه الألف واللام ما لم يمكن أن ينادي توصل بنداء أي إلى ندائه ، وهي في موضع نصب ، وهاء التنبيه كأنها عوض مما منعت من الإضافة وارتفع الناس على الصفة على اللفظ ، لأن بناء أي شبيه بالإعراب ، فلذلك جاز مراعاة اللفظ ، ولا يجوز نصبه على الموضع ، خلافاً لأبي عثمان.
وزعم أبو الحسن في أحد قوليه أن أيا في النداء موصولة وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ محذوف ، فإذا قال : يا أيها الرجل ، فتقديره : يا من هو الرجل.
والكلام على هذا القول وقول أبي عثمان مستقصى في النحو.
اعبدوا ربكم : ولما واجه تعالى الناس بالنداء أمرهم بالعبادة ، وقد تقدم تفسيرها في قوله تعالى : { إياك نعبد } ، والأمر بالعبادة شمل المؤمنين والكافرين.

لا يقال : المؤمنون عابدون ، فيكف يصح الأمر بما هم ملتبسون به؟ لأنه في حقهم أمر بالازدياد من العبادة ، فصح مواجهة الكل بالعبادة ، وانظر لحسن مجيء الرب هنا ، فإنه السيد والمصلح ، وجدير بمن كان مالكاً أو مصلحاً أحوال العبد أن يخص بالعبادة ولا يشرك مع غيره فيها.
والخطاب ، إن كان عاماً ، كان قوله : { الذي خلقكم } صفة مدح ، وإن كان لمشركي العرب كانت للتوضيح ، إذ لفظ الرب بالنسبة إليهم مشترك بين الله تعالى وبين آلهتهم ، ونبه بوصف الخلق على استحقاقه العبادة دون غيره ، { أفمن يخلق كم لا يخلق } أو على امتنانه عليهم بالخلق على الصورة الكاملة ، والتمييز عن غيرهم بالعقل ، والإحسان إليهم بالنعم الظاهرة والباطنة ، أو على إقامة الحجة عليهم بهذا الوصف الذي لا يمكن أن يشرك معه فيه غيره ، ووصف الربوبية والخلق موجب للعبادة ، إذ هو جامع لمحبة الاصطناع والاختراع ، والمحب يكون على أقصى درجات الطاعة لمن يحب.
وقالوا : المحبة ثلاث ، فزادوا محبة الطباع كمحبة الوالد لولده ، وأدغم أبو عمر وخلقكم ، وتقدّم تفسير الخلق في اللغة ، وإذا كان بمعنى الاختراع والإنشاء فلا يتصف به إلا الله تعالى.
وقد أجمع المسلمون على أن لا خالق إلا الله تعالى ، وإذا كان بمعنى التقدير ، فمقتضى اللغة أنه قد يوصف به غير الله تعالى ، كبيت زهير.
وقال تعالى : { فتبارك الله أحسن الخالقين } { وإذ تخلق من الطين } وقال أبو عبد الله البصري ، أستاذ القاضي عبد الجبار : إطلاق اسم الخالق على الله تعالى محال ، لأن التقدير والتسوية عبارة عن الفكر والظن والحسبان ، وذلك في حق الله تعالى محال.
وكأنّ أبا عبد الله لم يعلم أن الخلق في اللغة يطلق على الإنشاء ، وكلام البصري مصادم لقوله تعالى : { هو الله الخالق البارئ } إذ زعم أنه لا يطلق اسم الخالق على الله ، وفي اللغة والقرآن والإجماع ما يرد عليه.
وعطف قوله : { والذين من قبلكم } على الضمير المنصوب في خلقكم ، والمعطوف متقدّم في الزمان على المعطوف عليه وبدأ به ، وإن كان متأخراً في الزمان ، لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره ، إذ أقرب الأشياء إليه نفسه ، ولأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة ، فتنبيههم أولاً على أحوال أنفسهم آكد وأهم ، وبدأ أولاً بصفة الخلق ، إذ كانت العرب مقرة بأن الله خالقها ، وهم المخاطبون ، والناس تبع لهم ، إذ نزل القرآن بلسانهم.
وقرأ ابن السميفع : وخلق من قبلكم ، جعله من عطف الجمل.
وقرأ زيد بن علي : { والذين من قبلكم } بفتح ميم من ، قال الزمخشري : وهي قراءة مشكلة ووجهها على أشكالها أن يقال : أقحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيداً ، كما أقحم جرير في قوله :
يا تيم تيم عدي لا أبا لكم . . .
تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه ، وكإقحامهم لام الإضافة بين المضاف والمضاف إليه في لا أبا لك ، انتهى كلامه.

وهذا التخريج الذي خرج الزمخشري قراءة زيد عليه هو مذهب لبعض النحويين زعم أنك إذا أتيت بعد الموصول بموصول آخر في معناه مؤكد له ، لم يحتج الموصول الثاني إلى صلة ، نحو قوله :
من النفر اللائي الذين أذاهم . . .
يهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا
فإذا وجوابها صلة اللائي ، ولا صلة للذين ، لأنه إنما أتى به للتأكيد.
قال أصحابنا : وهذا الذي ذهب إليه باطل ، لأن القياس إذا أكد الموصول أن تكرره مع صلته لأنها من كماله ، وإذا كانوا أكدوا حرف الجر أعادوه مع ما يدخل عليه لافتقاره إليه ، ولا يعيدونه وحده إلا في ضرورة ، فالأحرى أن يفعل مثل ذلك بالموصول الذي الصلة بمنزلة جزء منه.
وخرج أصحابنا البيت على أن الصلة للموصول الثاني وهو خبر مبتدأ محذوف ، ذلك المبتدأ والموصول في موضع الصلة للأول تقديره من النفر اللائي هم الذين أذا هم ، وجاز حذف المبتدأ وإضماره لطول خبره ، فعلى هذا يتخرج قراءة زيد أن يكون قبلكم صلة من ، ومن خبر مبتدأ محذوف ، وذلك المبتدأ وخبره صلة للموصول الأول وهو الذين ، التقدير والذين هم من قبلكم.
وعلى قراءة الجمهور تكون صلة الذين قوله : { من قبلكم } ، وفي ذلك إشكال ، لأن الذين أعيان ، ومن قبلكم جار ومجرور ناقص ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة ، فكذلك الوصل به إلا على تأويل ، وتأويله أنه يؤول إلى أن ظرف الزمان إذا وصف صح وقوعه خبراً نحو : نحن في يوم طيب ، كذلك يقدر هذا والذين كانوا من زمان قبل زمانكم.
وهذا نظير قوله تعالى : { كالذين من قبلكم } وإنما ذكر { والذين من قبلكم } ، وإن كان خلقهم لا يقتضي العبادة علينا لأنهم كالأصول لهم ، فخلق أصولهم يجري مجرى الأنعام على فروعهم ، فذكرهم عظيم إنعامه تعالى عليهم وعلى أصولهم بالإيجاد.
وليست لعل هنا بمعنى كي لأنه قول مرغوب عنه ولكنها للترجي والأطماع ، وهو بالنسبة إلى المخاطبين ، لأن الترجي لا يقع من الله تعالى إذ { هو عالم الغيب والشهادة } وهي متعلقة بقوله : { اعبدوا ربكم } ، فكأنه قال : إذا عبدتم ربكم رجوتم التقوى ، وهي التي تحصل بها الوقاية من النار والفوز بالجنة.
قال ابن عطية : ويتجه تعلقها بخلقكم لأن كل مولود يوجد على الفطرة فهو بحيث يرجى أن يكون متقياً.
ولم يذكر الزمخشري غير تعلقها بخلقكم ، قال : لعل واقعة في الآية موقع المجاز لا الحقيقة ، لأن الله تعالى خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف ، وركب فيهم العقول والشهوات ، وأزاح العلة في أقدارهم وتمكينهم ، وهداهم النجدين ، ووضع في أيديهم زمام الاختيار ، وأراد منهم الخير والتقوى ، فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا لترجح أمرهم ، وهم مختارون بين الطاعة ، والعصيان ، كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل ، انتهى كلامه.

وهو مبني على مذهبه الاعتزالي من أن العبد مختار ، وأنه لا يريد الله منه إلا فعل الخير ، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الدين.
والذي يظهر ترجيحه أن يكون : { لعلكم تتقون } متعلقاً بقوله : { اعبدوا ربكم }.
فالذي نُودوا لأجله هو الأمر بالعبادة ، فناسب أن يتعلق بها ذلك وأتى بالموصول وصلته على سبيل التوضيح أو المدح للذي تعلقت به العبادة ، فلم يجأ بالموصول ليحدث عنه بل جاء في ضمن المقصود بالعبادة.
وأما صلته فلم يجأ بها لإسناد مقصود لذاته ، إنما جيء بها لتتميم ما قبلها.
وإذا كان كذلك فكونها لم يجأ بها لإسناد يقتضي أن لا يهتم بها فيتعلق بها ترج أو غيره ، بخلاف قوله : اعبدوا ، فإنها الجملة المفتتح بها أولاً والمطلوبة من المخاطبين.
وإذا تعلق بقوله : اعبدوا ، كان ذلك موافقاً ، إذ قوله : اعبدوا خطاب ، ولعلكم تتقون خطاب.
ولما اختار الزمخشري تعلقه بالخلق قال : فإن قلت كما خلق المخاطبين لعلهم يتقون ، فكذلك خلق الذين من قبهلم ، لذلك قصره عليهم دون من قبلهم ، قلت : لم يقصره عليهم ولكن غلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادتهم جميعاً ، انتهى كلامه.
وقد تقدم ترجيح تعلقه بقوله : اعبدوا ، فيسقط هذا السؤال.
وقال المهدوي : لعل متصلة باعبدوا لا بخلقكم ، لأن من درأه الله عز وجل لجهنم لم يخلقه ليتقي.
والمعنى عند سيبويه : افعلوا ذلك على الرجاء والطمع أن تتقوا ، انتهى كلامه.
ولما جعل الزمخشري لعلكم تتقون متعلقاً بالخلق قال : فإن قلت : فهلا قيل : تعبدون لأجل اعبدوا أو اتقوا المكان تتقون ليتجاوب طرفا النظم؟ قلت : ليست التقوى غير العبادة حتى يؤدي ذلك إلى تنافر النظم ، وإنما التقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده ، فإذا قال : { اعبدوا ربكم الذي خلقكم } للاستيلاء على أقصى غايات العبادة كان أبعث على العبادة وأشد إلزاماً لها وأثبت لها في النفوس ، انتهى كلامه.
وهو مبني على مذهبه في أن الخلق كان لأجل التقوى ، وقد تقدم ذلك.
وأما قوله : ليتجاوب طرفا النظم فليس بشيء لأنه لا يمكن هنا تجاوب طرفي النظم لأنه يصير المعنى : اعبدوا ربكم لعلكم تتقون ، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون ، وهذا بعيد في المعنى ، إذ هو مثل : اضرب زيداً لعلك تضربه ، واقصد خالداً لعلك تقصده.
ولا يخفى ما في هذا من غثاثة اللفظ وفساد المعنى ، والقرآن متنزه عن ذلك.
والذي جاء به القرآن هو في غاية الفصاحة ، إذ المعنى أنهم أمروا بالعبادة على رجائهم عند حصولها حصول التقوى لهم ، لأن التقوى مصدر اتقى ، واتقى معناه اتخاذ الوقاية من عذاب الله ، وهذا مرجو حصوله عند حصول العبادة.
فعلى هذا ، العبادة ليست نفس التقوى ، لأن الاتقاء هو الاحتراز عن المضار ، والعبادة فعل المأمور به ، وفعل المأمور به ليس نفس الاحتراز بل يوجب الاحتراز ، فكأنه قال : اعبدوه فتحترزوا عن عقابه ، فإن أطلق على نفس الفعل اتقاء فهو مجاز ، ومفعول يتقون محذوف.

قال ابن عباس : الشرك ، وقال الضحاك : النار ، أو معناه تطيعون ، قاله مجاهد : ومن قال المعنى الذي خلقكم راجين للتقوى.
قال بعض المفسرين : فيه بعد من حيث إنه لو خلقهم راجين للتقوى كانوا مطيعين مجبولين عليها ، والواقع خلاف ذلك ، انتهى كلامه.
ويعني أنهم لو خلقوا وهم راجون للتقوى لكان ذلك مركوزاً في جبلتهم ، فكان لا يقع منهم غير التقوى وهم ليسوا كذلك ، بل المعاصي هي الواقعة كثيراً ، وهذا ليس كما ذكر ، وقد يخلق الإنسان راجياً لشيء فلا يقع ما يرجوه ، لأن الإنسان في الحقيقة ليس له الخيار فيما يفعله أو يتركه ، بل نجد الإنسان يعتقد رجحان الترك في شيء ثم هو يفعله ، ولقد صدق الشاعر في قوله :
علمي بقبح المعاصي حين أركبها . . .
يقضي بأني محمول على القدر
فلا يلزم من رجاء الإنسان لشيء وقوع ما يرتجي ، وإنما امتنع ذلك التقدير ، أعني تقدير الحال ، من حيث إن لعل للإ نشاء ، فهي وما دخلت عليه ليست جملة خبرية فيصح وقوعها حالاً.
قال الطبري : هذه الآية ، يريد : { يا أيها الناس اعبدوا } من أدلّ دليل على فساد قول من زعم أن تكليف ما لا يطاق غير جائز ، وذلك أن الله عز وجل أمر بعبادته من آمن به ومن كفر بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون.
والموصول الثاني في قوله : { الذي جعل } يجوز رفعه ونصبه ، فرفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف ، فهو رفع على القطع ، إذ هو صفة مدح ، قالوا : أو على أنه مبتدأ خبره قوله : { فلا تجعلوا لله أنداداً } ، وهو ضعيف لوجهين : أحدهما : أن صلة الذي وما عطف عليها قد مضيا ، فلا ينابسب دخول الفاء في الخبر.
الثاني : أن ذلك لا يتمشى إلا على مذهب أبي الحسن ، لأن من الروابط عنده تكرار المبتدأ بمعناه ، فالذي مبتدأ ، و { فلا تجعلوا لله أنداداً } جملة خبرية ، والرابط لفظ الله من لله كأنه قيل : { فلا تجعلوا لله أنداداً } ، وهذا من تكرار المبتدأ بمعناه.
ولا نعرف إجازة ذلك إلا عن أبي الحسن.
أجاز أن تقول : زيد قام أبو عمرو ، وإذا كان أبو عمرو كنية لزيد ، ونص سيبويه على منع ذلك.
وأما نصبه فيجوز أن يكون على القطع ، إذ هو وصف مدح ، كما ذكرنا ، ويجوز أن يكون وصفاً لما كان له وصفاً الذي خلقكم ، وهو ربكم ، قالوا : ويجوز نصبه على أن يكون نعتاً لقوله : { الذي خلقكم } ، فيكون نعتاً للنعت ونعت النعت مما يحيل تكرار النعوت.
والذي نختاره أن النعت لا ينعت ، بل النعوت كلها راجعة إلى منعوت واحد ، إلا إن كان ذلك النعت لا يمكن تبعيته للمنعوت ، فيكون إذ ذاك نعتاً للنعت الأول ، نحو قولك : يا أيها الفارس ذو الجمة.

وأجاز أبو محمد مكي نصبه بإضمار أعني ، وما قبله ليس بملتبس ، فيحتاج إلى مفسر له بإضمار أعني ، وأجاز أيضاً نصبه بتتقون ، وهو إعراب غث ينزه القرآن عن مثله.
وإنما أتى بقوله الذي دون واو لتكون هذه الصفة وما قبلها راجعين إلى موصوف واحد ، إذ لو كانت بالواو لأوهم ذلك موصوفاً آخر ، لأن العطف أصله المغايرة.
وجعل : بمعنى صير ، لذلك نصبت الأرض.
وفراشاً ، ولكم متعلق بجعل ، وأجاز بعضهم أن ينتصب فراشاً وبناء على الحال ، على أن يكون جعل بمعنى خلق ، فيتعدى إلى واحد ، وغاير اللفظ كما غاير في قوله : { خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور } لأنه قصد إلى ذكر جملتين ، فغاير بين اللفظين لأن التكرار ليس في الفصاحة ، كاختلاف اللفظ والمدلول واحد.
وأدغم أبو عمرو لام جعل في لام لكم ، والألف واللام في الأرض يجوز أن تكون للجنس الخاص ، فيكون المراد أرضاً مخصوصة ، وهي كل ما تمهد واستوى من الأرض وصلح أن يكون فراشاً.
ويجوز أن تكون لاستغراق الجنس ، ويكون المراد بالفراش مكان الاستقرار واللبث لكل حيوان.
فالوهد مستقر بني آدم وغيرهم من الحيوانات ، والجبال والحزون مستقر لبعض الآدميين بيوتاً أو حصوناً ومنازل ، أو لبعض الحيوانات وحشاً وطيراً يفترشون منها أوكاراً ، ويكون الامتنان على هذا مشتملاً على كل من جعل الأرض له قراراً.
وغلب خطاب من يعقل على من لا يعقل ، أو يكون خطاب الامتنان وقع على من يعقل ، لأن ما عداهم من الحيوانات معد لمنافعهم ومصالحهم ، فخلقها من جملة المنة على من يعقل.
وقرأ يزيد الشامي : بساطاً ، وطلحة : مهاداً.
والفراش ، والمهاد ، والبساط ، والقرار ، والوطاء نظائر.
وقد استدل بعض المنجمين بقوله : { جعل لكم الأرض فراشاً } على أن الأرض مبسوطة لا كرية ، وبأنها لو كانت كرية ما استقر ماء البحار فيها.
أما استدلاله بالآية فلا حجة له في ذلك ، لأن الآية لا تدل على أن الأرض مسطحة ولا كرية ، إنما دلت على أن الناس يفترشونها كما يتقلبون بالمفارش ، سواء كانت على شكل السطح أو على شكل الكرة ، وأمكن الافتراش فيها لتباعد أقطارها واتساع جرمها.
قال الزمخشري : وإذا كان يعني الافتراش سهلاً في الجبل ، وهو وتد من أوتاد الأرض ، فهو أسهل في الأرض ذات الطول والعرض.
وأما استدلاله باستقرار ماء البحار فيها فليس بصحيح ، قالوا : لأنه يجوز أن تكون كرية ويكون في جزء منها منسطح يصلح للاستقرار ، وماء البحر متماسك بأمر الله تعالى لا بمقتضى الهيئة ، انتهى قولهم.
ويجوز أن يكون بعض الشكل الكري مقراً للماء إذا كان الشكل ثابتاً غير دائر ، أما إذا كان دائراً فيستحيل عادة قراره في مكان واحد من ذلك الشكل الكريّ.
وهذه مسألة يتكلم عليها في علم الهيئة.

وقوله تعالى : { والسماء بناء } : هو تشبيه بما يفهم كقوله تعالى : { والسماء بنيناها بأيد } شبهت بالقبة المبنية على الأرض ، ويقال لسقف البيت بناء ، والسماء للأرض كالسقف ، روي هذا عن ابن عباس وجماعة.
وقيل : سماها بناء ، لأن سماء البيت يجوز أن يكون بناء غير بناء ، كالخيام والمضارب والقباب ، لكن البناء أبلغ في الإحكام وأتقن في الصنعة وأمنع لوصول الأذى إلى من تحته ، فوصف السماء بالأبلغ والأتقن والأمنع ، ونبه بذلك على إظهار قدرته وعظيم حكمته ، إذ المعلوم أن كل بناء مرتفع لا يتهيأ إلا بأساس مستقر على الأرض أو بعمد وأطناب مركوزة فيها ، والسماء في غاية ما يكون من العظم ، وهي سبع طباق بعضها فوق بعض ، وعليها من أثقال الأفلاك وأجناس الأملاك وأجرام الكواكب التي لا يعبر عن عظمها ولا يحصي عددها ، وهي مع ذلك بغير أساس يمسكها ولا عمد تقلها ولا أطناب تشدها ، وهي لو كانت بعمد وأساس كانت من أعظم المخلوقات وأحكم المبدعات ، فكيف وهي عارية عن ذلك ممسكة بالقدرة الإلهية : { إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا } وقيل : سميت بناء لتماسكها كما يتماسك البناء بعضه ببعض.
وأنزل من السماء : يجوز أن يراد به السحاب ، ويجوز أن يراد به السماء المعروفة.
فعلى الأول الجامع بينهما هو القدر المشترك من السمو ، ولا يجوز الإضمار لأنه غير الأول ، وعلى الثاني فحسن الإظهار دون الإضمار هنا كون السماء الأولى في ضمن جملة ، والثانية جملة صالحة بنفسها أن تكون صلة تامة لولا عطفها ، ومن متعلقة بأنزل وهي لابتداء الغاية ، ويحتمل أن تتعلق بمحذوف على أن تكون في موضع الحال من ماء ، لأنه لو تأخر لكان نعتاً فلما تقدم انتصب على الحال ، ومعناها إذ ذاك التبعيض ، ويكون في الكلام مضاف محذوف أي من مياه السماء ونكر.
ماء لأن المنزل لم يكن عاماً فتدخل عليه الألف واللام وإنما هو ما صدق عليه الاسم.
فأخرج به : والهاء في به عائدة إلى الماء ، والباء معناها السببية.
فالماء سبب للخروج ، كما أن ماء الفحل سبب في خلق الولد ، وهذه السببية مجاز ، إذ الباري تعالى قادر على أن ينشىء الأجناس ، وقد أنشأ من غير مادة ولا سبب ، ولكنه تعالى لما أوجد خلقه في بعض الأشياء عند أمر ما ، أجرى ذلك الأمر مجرى السبب لا أنه سبب حقيقيّ.
ولله تعالى في إنشاء الأمور منتقلة من حال إلى حال حكم يستنصر بها ، لم يكن في إنشائها دفعة واحدة من غير انتقال أطوار ، لأن في كل طور مشاهدة أمر من عجيب التنقل وغريب التدريج تزيد المتأمل تعظيماً للباري.
من الثمرات : من للتبعيض ، والألف واللام في الثمرات لتعريف الجنس وجمع لاختلاف أنواعه ، ولا ضرورة تدعو إلى ارتكاب أن الثمرات من باب الجموع التي يتفاوت بعضها موضع بعض لالتقائهما في الجمعية ، نحو :

{ كم تركوا من جنات } و { ثلاثة قروء } فقامت الثمرات مقام الثمر أو الثمار على ما ذهب إليه الزمخشري ، لأن هذا من الجمع المحلى بالألف واللام ، فهو وإن كان جمع قلة ، فإن الألف واللام التي للعموم تنقله من الاختصاص لجمع القلة للعموم ، فلا فرق بين الثمرات والثمار ، إذ الألف واللام للاستغراق فيهما ، ولذلك رد المحققون على من نقد على حسان قوله :
لنا الجفنات الغر يل معن في الضحى . . .
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
بأن هذا جمع قلة ، فكان ينبغي على زعمه أن يقول : الجفان وسيوفنا ، وهو نقد غير صحيح لما ذكرناه من أن الاستغراق ينقله ، وأبعد من جعل من زائدة ، وجعل الألف واللام للاستغراق لوجهين : أحدهما : زيادة من في الواجب ، وقيل معرفة ، وهذا لا يقول به أحد من البصريين والكوفيين إلا الأخفش.
والثاني : أنه يلزم منه أن يكون جميع الثمرات التي أخرجها رزقاً لنا ، وكم من شجرة أثمرت شيئاً لا يمكن أن يكون رزقاً لنا ، وإن كانت للتبعيض كان بعض الثمار رزقاً لنا وبعضها لا يكون رزقاً لنا ، وهو الواقع.
وناسب في الآية تنكير الماء وكون من دالة على التبعيض وتنكير الرزق ، إذ المعنى : وأنزل من السماء بعض الماء فأخرج به بعض الثمرات بعض رزق لكم ، إذ ليس جميع رزقهم هو بعض الثمرات ، إنما ذلك بعض رزقهم ، ومن الثمرات يحتمل أن يكون في موضع المفعول به بأخرج ، ويكون على هذا رزقاً منصوباً على الحال إن أُريد به المرزوق كالطحن والرعي ، أو مفعولاً من أجله إن أريد به المصدر ، وشروط المفعول له فيه موجودة ، ويحتمل أن يكون متعلقاً بأخرج ، ويكون رزقاً مفعولاً بأخرج.
وقرأ ابن السميفع : من الثمرة على التوحيد ، يريد به الجمع كقولهم : فلان أدركت ثمرة بستانه ، يريدون ثماره.
وقولهم : للقصيدة كلمة ، وللقرية مدرة ، لا يريدون بذلك الإفراد.
ولكم : إن أريد بالرزق المصدر كانت الكاف مفعولاً به واللام منوية لتعدّي المصدر إليه نحو : ضربت ابني تأديباً له ، أي تأديبه ، وإن أريد به المرزوق كان في موضع الصفة فتتعلق اللام بمحذوف ، أي كائناً لكم ، ويحتمل أن تكون لكم متعلقاً بأخرج ، أي فأخرج لكم به من الثمرات رزقاً.
وانتهى عند قوله : رزقاً لكم ذكر خمسة أنواع من الدلائل : اثنين من الأنفس خلقهم وخلق من قبلهم ، وثلاثة من غير الأنفس كون الأرض فراشاً وكون السماء بناءً ، والحاصل من مجموعهما تقدم خلق الإنسان لأنه أقرب إلى معرفته ، وثنّى بخلق الآباء ، وثلث بالأرض لأنها أقرب إليه من السماء ، وقدّم السماء على نزول المطر وإخراج الثمرات ، لأن هذا كالأمر المتولد بين السماء والأرض والأثر متأخر عن المؤثر.
وقيل : قدم المكلفين لأن خلقهم أحياء قادرين أصل لجميع النعم.
وأما خلق السماء والأرض والماء والثمر ، فإنما ينتفع به بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة والعقل.

وقد اختلف أيهما أفضل ، ومن قال السماء أفضل قال : لأنها متعبد الملائكة وما فيها من بقعة عصى الله فيه ، ولأن آدم لما عصاه قال : لا تسكن جواري ، ولتقديم السماء على الأرض في أكثر الآيات ، ولأن فيها العرش والكرسي واللوح المحفوظ والقلم ، وأنها قبلة الدعاء.
ومن قال الأرض أفضل قال : لأن الله وصف منها بقاعاً بالبركة ، ولأن الأنبياء مخلوقون منها ، ولأنها مسجد وطهور.
{ فلا تجعلوا لله أنداداً } ظاهره أنه نهى عن اتخاذ الأنداد ، وسموا أنداداً على جهة المجاز من حيث أشركوهم معه تعالى في التسمية بالإلهية ، والعبادة صورة لا حقيقة لأنهم لم يكونوا يعبدونهم لذواتهم بل للتقرب إلى الله تعالى ، وكانوا يسمون الله إله الآلهة ورب الأرباب ، ومن شابه شيئاً في وصف مّا قيل : هو مثله وشبهه ونده في ذلك الوصف دون بقية أوصافه ، والنهي عن اتخاذ الأنداد بصورة الجمع هو على حسب الواقع لأنهم لم يتخذوا له تعالى نداً واحداً ، وإنما جعلوا له أنداداً كثيرة ، فجاء النهي على ما كانوا اتخذوه ، ولذلك قال زيد بن عمرو بن نفيل :
أرباً واحداً أم ألف رب . . .
أدين إذا تقسمت الأمور
وقرأ زيد بن علي بن محمد بن السميفع : نداً على التوحيد ، وهو مفرد في سياق النهي ، فالمراد به العموم ، إذ ليس المعنى : فلا تجعلوا لله نداً واحداً بل أنداداً ، وهذا النهي متعلق في بالأمر قوله : { اعبدوا ربكم } ، أي فوحدوه وأخلصوا له العبادة ، لأن أصل العبادة هو التوحيد.
قال الزمخشري : متعلق بلعل ، على أن ينتصب تجعلوا انتصاب فأَطَّلِعَ في قوله : { لعلي أبلغ الأسباب ، أسباب السموات فأَطَّلِعَ إلى إله موسى } في رواية حفص عن عاصم ، أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه ، انتهى كلامه.
فعلى هذا لا تكون لا ناهية بل نافية ، وتجعلوا منصوب على جواب الترجي ، وهو لا يجوز على مذهب البصريين ، إنما ذهب إلى جواز ذلك الكوفيون ، أجروا لعل مجرى هل.
فكما أن الاستفهام ينصب الفعل في جوابه فكذلك الترجي.
فهذا التخريج الذي أخرجه الزمخشري لا يجوز على مذهب البصريين ، وفي كلامه تعليق لعلكم تتقون بخلقكم ، ألا ترى إلى تقديره أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه؟ فلا تشبهوه بخلقه ، وهو جار على ما مر من مذهبه الاعتزالي ، ويجوز أن يكون متعلقاً بالذي إذا جعلته خبر مبتدأ محذوف ، أي هو الذي جعل لكم هذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية ، فلا تجعلوا له أنداداً.
والظاهر في هذا القول هو ما قدمناه أولاً من تعلقه بقوله : { اعبدوا ربكم }.
{ وأنتم تعلمون } : جملة حالية ، وفيها من التحريك إلى ترك الأنداد وإفراد الله بالوحدانية ما لا يخفى ، أي أنتم من ذوي العلم والتمييز بين الحقائق والإدراك للطائف الأشياء والاستخراج لغوامض الدلائل ، في الرتبة التي لا تليق لمن تحلى بها أن يجعل لله نداً وهو خلقه.

إذ ذاك فعل من كان أجهل العالم وأبعدهم عن الفطنة وأكثرهم تجويزاً للمستحيلات.
ومفعول تعلمون متروك لأن المقصود إثبات أنهم من أهل العلم والمعرفة.
والتمييز تخصيص العلم بشيء ، قال معناه ابن قتيبة ، لأنه فسر تعلمون بمعنى تعقلون ، وقيل : هو محذوف اختصاراً تقديره : وأنتم تعلمون أنه خلق السموات وأنزل الماء ، وفعل ما شرحه في هذه الآيات.
ومعنى هذا مروي عن ابن عباس وقتادة ومقاتل ، أو أنتم تعلمون أنه ليس ذلك في كتابيكم التوراة والإنجيل.
وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس ، أو أنه لا ند له ، قاله مجاهد ، أو أنتم تعلمون أنه لا يقدر على فعل ما ذكره أحد سواه ، ذكره علي بن عبيد الله ، أو وأنتم تعلمون أنها حجارة ، قاله أبو محمد بن الخشاب ، أو وأنتم تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت ، أو وأنتم تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله كقوله : { هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } قالهما الزمخشري والمخاطب بقوله : فلا تجعلوا ظاهره أنه للناس المأمورين باعبدوا ربكم ، وقد تقدمت أقاويل السلف في ذلك.
قال ابن فورك : ويحتمل أن يكون الخطاب للمؤمنين ، المعنى : فلا ترتدوا أيها المؤمنون وتجعلوا لله أنداداً بعد علمكم أن العلم هو نفي الجهل بأن الله واحد.
قال أبو محمد بن عطية ، هذه الآية تعطي أن الله تعالى أغنى الإنسان بنعمه هذه عن كل مخلوق ، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا ، فقد أخذ بطرف من جعل نداً ، انتهى.
وقول أبي محمد يعطي أن الله أغنى الإنسان ، خطأ في التركيب ، لأن أعطى لا تنوب أنّ ومعمولاها مناب مفعوليها ، بخلاف ظن ، فإنها تنوب مناب مفعوليها ، ولذلك ذكر في علم العربية.
قال بعض المفسرين : اختص تعالى بهذه المخلوقات وهي : الخلقة البشرية ، والبنيتان الأرضية والسماوية ، لأنها محل الاعتبار ومسرح الإبصار ومواطن المنافع الدنيوية والأخروية ، وبها يقوم الدليل على وجود الصانع وقدرته وحكمته وحياته وإرادته ، وغير ذلك من صفاته الذاتية والفعلية ، وانفراده بخلقها وأحكامها ، وقدم الخلقة البشرية ، وإن كانت للعالم الأصغر ، لما فيها من بدائع الصنعة ما لا يعبر عنه وصف لسان ولا يحيط بكنهه فكرجنان ، وظهور حسن الصنعة في الأشياء اللطيفة الجرم أعظم منه في الأجرام العظام ، ولأن اعتبار الإنسان بنفسه في تقلب أحواله أقرب إلى ذهنه.
قال تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } أو لأن العرب عادتها تقديم الأهم عندها والمعتنى به ، قال : وهو تعالى بإصلاح حال البنية البشرية أكثر اهتماماً من غيرها من المخلوقات ، لأنها أشرف مخلوقاته وأكرمها عليه.
قال تعالى : { ولقد كرمنا بني آدم } الآية ، ولأنه تعالى خلق هذه الأشياء منافع لبني آدم وأعدها نعماً يمتن بها عليهم ، وذكر المنعم عليه يتقدم على ذكر النعمة.

ثم إنه تعالى لما عرفهم أنه خالقهم أخبرهم أنه جعل لهم مكاناً يستقرون عليه ، إذ كانت حكمته اقتضت ذلك ، فيستقرون فيه جلوساً ونوماً وتصرفاً في معايشهم ، وجعل منه سهلاً للقرار والزرع ، ووعراً للاعتصام ، وجبالاً لسكون الأرض من الاضطراب.
ثم لما منّ عليهم بالمستقر أخبرهم بجعل ما يقيهم ويظلهم ، وجعله كالخيمة المضروبة عليهم ، وأشهدهم فيها من غرائب الحكمة بأن أمسكها فوقهم بلا عمد ولا طنب لتهتدي عقولهم ، أنها ليست مما يدخل تحت مقدور البشر ، ثم نبههم على النعمة العظمى ، وهي إنزال المطر الذي هو مادة الحياة وسبب اهتزاز الأرض بالنبات ، وأجناس الثمرات.
وقدم ذكر الأرض على السماء ، وإن كانت أعظم في القدرة وأمكن في الحكمة ، وأتم في النعمة وأكبر في المقدار ، لأن السقف والبنيان ، فيما يعهد ، لا بد له من أساس وعمد مستقر على الأرض ، فبدأ بذكرها ، إذ على متنها يوضع الأساس وتستقر القواعد ، إذ لا ينبغي ذكر السقف أولاً قبل ذكر الأرض التي تستقر عليها قواعده ، أو لأن الأرض خلقها متقدم على خلق السماء ، فإنه تعالى خلق الأرض ومهد رواسيها قبل خلق السماء.
قال تعالى : { قال أئنكم لتكفرون } إلى آخر الآيات ، أو لأن ذلك من باب الترقي بذكر الأدنى إلى ذكر الأعلى.
وقد تضمنت هاتان الآيتان من بدائع الصنعة ، ودقائق الحكمة ، وظهور البراهين ، ما اقتضى تعالى أنه المنفرد بالإيجاد ، المتكفل للعباد ، دون غيره من الأنداد ، التي لا تخلق ولا ترزق ولا لها نفع ولا ضر ، ألا لله الخلق والأمر.
قال بعض أصحاب الإشارات : لما امتن تعالى عليهم بأنه خلقهم والذين من قبهلم ، ضرب لهم مثلاً يرشدهم إلى معرفة كيفية خلقهم ، وأنهم وإن كانوا متوالدين بين ذكر وأنثى ، مخلوقين { من نطفة إذا تمنى } ، هو تعالى خالقهم على الحقيقة ، ومصوّرهم في الأرحام كيف يشاء ، ومخرجهم طفلاً ، ومربيهم بما يصلحهم من غذاء وشراب ولباس ، إلى غير ذلك من المنافع التي تدعو حاجتهم إليها فجعل الأرض التي هي فراش مثل الأم التي يفترشها الزوج ، وهي أيضاً تسمى فراشاً ، وشبه السماء التي علت على الأرض بالأب الذي يعلو على الأم ويغشاها ، وضرب الماء النازل من السماء مثلاً للنطفة التي تنزل من صلب الأب ، وضرب ما يخرج من الأرض من الثمرات بالولد الذي يخرج من بطن الأم ، يؤنس تعالى بذلك عقولهم ويرشدها إلى معرفة كيفية التخليق ، ويعرفها أنه الخالق لهذا الولد والمخرج له من بطن أمه ، كما أنه الخالق للثمرات ومخرجها من بطون أشجارها ، ومخرج أشجارها من بطن الأرض ، فإذا أوضح ذلك لهم أفردوه بالإلهية ، وخصوه بالعبادة ، وحصلت لهم الهداية.

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)

إن : حرف ثنائي الوضع يكون شرطاً ، وهو أصل أدواته ، وحرف نفي ، وفي إعماله إعمال ما الحجازية خلاف ، وزائداً مطرداً بعد ما النافية ، وقبل مدة الإنكار ، ولا تكون بمعنى إذ خلافا لزاعمه ، ولا يعد من مواضعه المخففة من الثقيلة لأنها ثلاثية الوضع ، ولذلك اختلف حكمها في التصغير.
العبد : لغة المملوك الذكر من جنس الإنسان ، وهو راجع لمعنى العبادة ، وتقدم شرحها.
الإتيان : المجيء ، والأمر منه : ائت ، كما جاء في لفظ القرآن ، وشذ حذف فائه في الأمر قياساً واستعمالاً ، قال الشاعر :
تِ لي آل عوف فاندهم لي جماعة . . .
وسلٍ آل عوف أي شيء يضيرها
وقال آخر :
فإن نحن لم ننهض لكم فنبركم . . .
فتوناً قفوا دوناً إذن بالجرائم
السورة : الدرجة الرفيعة.
ألم تر أن الله أعطاك سورة؟ وسميت سورة القرآن بها لأن قارئها يشرف بقراءتها على من لم تكن عنده ، كسور البناء.
وقيل : لتمامها وكمالها ، ومنه قيل للناقة التامة : سورة ، أو لأنها قطعة من القرآن ، من أسأرت ، والسؤر فاصلها الهمز وخففت ، قاله أبو عبيدة ، والهمز فيها لغة.
من مثله : المماثلة تقع بأدنى مشابهة ، وقد ذكر سيبويه ، رحمه الله ، أن : مررت برجل مثلك ، يحتمل وجوهاً ثلاثة ، ولفظه مثل لازمة الإضافة لفظاً ، ولذلك لحن بعض المولدين في قوله :
ومثلك من يملك الناس طراً . . .
على أنه ليس في الناس مثل
ولا يكون محلاً خلافاً للكوفيين.
وله في باب الصفة ، إذا جرى على مفرد ومثنى ومجموع ، حكم ذكر في النحو.
الدعاء : الهتف باسم المدعو.
الشهداء : جمع شهيد ، للمبالغة ، كعليم وعلماء ، ولا يبعد أن يكون جمع شاهد ، كشاعر وشعراء ، وليس فعلاء باب فاعل ، دون : ظرف مكان ملازم للظرفية الحقيقية أو المجازية ، ولا يتصرف فيه بغير من.
قال سيبويه : وأما دونك فلا يرفع أبداً.
قال الفراء : وقد ذكر دونك وظروفاً نحوها لا تستعمل أسماء مرفوعة على اختيار ، وربما رفعوا.
وظاهر قول الأخفش : جواز تصرفه ، خرج قوله تعالى { ومنا دون ذلك } على أنه مبتدأ وبني لإضافته إلى المبنى ، وقد جاء مرفوعاً في الشعر أيضاً ، قال الشاعر :
ألم ترني أني حميت حقيبتي . . .
وباشرت حد الموت والموت دونها
وتجيء دون صفة بمعنى رديء ، يقال : ثوب دون ، أي رديء ، حكاه سيبويه في أحد قوليه ، فعلى هذا يعرب بوجوه الإعراب ويكون دون مشتركاً.
الصدق : يقابله الكذب ، وهو مطابقة الخبر للمخبر عنه.
لن : حرف نفي ثنائي الوضع بسيط ، لا مركب من لا إن خلافاً للخليل في أحد قوليه ، ولا نونها بدل من ألف ، فيكون أصلها لا خلافاً للفرّاء ، ولا يقتضي النفي على التأييد خلافاً للزمخشري في أحد قوليه ، ولن هي أقصر نفياً من لا إذ لن تنفي ما قرب ، ولا يمتد معنى النفي فيها كما يمتد في لا خلافاً لزاعمه ، ولا يكون دعاء خلافاً لزاعمه ، وعملها النصب ، وذكروا أن الجزم بها لغة ، وأنشد ابن الطراوة :

لن يخب الآن من رجائك من . . .
حرك دون بابك الحلقة
ولها أحكام كثيرة ذكرت في النحو.
الوقود : اسم لما يوقد به ، وقد سمع مصدراً ، وهو أحد المصادر التي جاءت على فعول ، وهي قليلة ، لم يحفظ منها ، فيما ذكر ، الأستاذ أبو الحسن بن عصفور سوى هذا ، والوضوء والطهور والولوع والقبول ، الحجارة : جمع الحجر ، والتاء فيها التأكيد تأنيث الجمع كالفحولة.
أُعدّت : هيئت.
{ وإن كنتم في ريب } نزلت في جميع الكفار.
وقال ابن عباس ومقاتل : نزلت في اليهود ، وسبب ذلك أنهم قالوا : هذا الذي يأتينا به محمد لا يشبه الوحي وإنا لفي شك منه ، والأظهر القول الأول.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما احتج تعالى عليهم بما يثبت الوحدانية ويبطل الإشراك ، وعرفهم أن من جعل لله شريكاً فهو بمعزل من العلم والتمييز ، أخذ يحتج على من شك في النبوة بما يزيل شبهته ، وهو كون القرآن معجزة ، وبين لهم كيف يعلمون أنه من عند الله أم من عنده ، بأن يأتوا هم ومن يستعينون به بسورة هذا ، وهم الفصحاء البلغاء المجيدون حوك الكلام ، من الثار والنظام والمتقلبون في أفانين البيان ، والمشهود لهم في ذلك بالإحسان.
ولما كانوا في ريب حقيقة ، وكانت إن الشرطية إنما تدخل على الممكن أو المحقق المبهم زمان وقوعه ، ادعى بعض المفسرين أن إن هنا معناها : إذا ، لأن إذا تفيد مضي ما أضيفت إليه ، ومذهب المحققين أن إن لا تكون بمعنى إذا.
وزعم المبرد ومن وافقه أن لكان الماضية الناقصة معان حكماً ليست لغيرها من الأفعال الماضية ، فلقوة كان زعم أن إن لا يقلب معناها إلى الاستقبال ، بل يكون على معناه من المضي إن دخلت عليه إن ، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أن كان كغيرها من الأفعال ، وتأولوا ما ظاهره ما ذهب إليه المبرد ، إما على إضمار يكن بعد إن نحو : { إن كان قميصه قدّ } أي إن يكن كان قميصه ، أو على أن المراد به التبيين ، أي أن يتبين كون قميصه قدّ.
فعلى قول أبي العباس يكون كونهم في ريب ماضياً ، ويصير نظير ما لو جاء إن كنت أحسنت إليّ فقد أحسنت إليك ، إذا حمل على ظاهره ولم يتأول.
ولهذا قال بعض المفسرين في قوله : { وإن كنتم في ريب } : جرى كلام الله فيه على التحقيق ، مثال قول الرجل لعبده : إن كنت عبدي فأطعني لأن الله تعالى عالم بما تكنه القلوب ، قال : وبين هذا أن سبب نزول هذه الآية قول اليهود : وإنا لفي شك مما جاء به ، وجعلها بمعنى إذا وكان ماضيه اللفظ والمعنى ، أو مثل قول القائل : إن كنت عبدي فأطعني ، فراراً من جعل ما بعد إن مستقبل المعنى وذلك ممكن ، ولا تنافي بين إن كانوا في ريب فيما مضى وإن تعلق على كونهم في ريب في المستقبل ، لأن الماضي من الجائز أن يستدام ، بأن يظهر لمعتقد الريب فيما مضى خلاف ذلك فيزول عنه الريب ، فقيل : وإن كنتم ، أي : وإن تكونوا في ريب ، باستصحاب الحالة الماضية التي سبقت لكم ، فأتوا ، وهذا مثل من يقول لولده العاق له : إن كنت تعصيني فارحل عني ، فمعناه : إن تكن في المستقبل تعصيني فارحل عني ، لا يريد التعليق على الماضي ، ولا أن إن بمعنى إذا ، إذ لا تنافي بين تقدّم العصيان وتعليق الرحيل على وقوعه في المستقبل ، ولا حاجة إلى جعل ما يثبت حرفيته بمعنى إذا الظرفية.

وقد تقدّم لنا أنه لا تنافي بين قوله تعالى : { لا ريب فيه } وبين قوله : { وإن كنتم في ريب } عند الكلام على قوله : { لا ريب فيه }.
وفي ريب من تنزيل المعاني منزلة الإجرام.
ومن تحتمل ابتداء الغاية والسببية ، ولا يجوز أن تكون للتبعيض.
وما موصولة ، أي من الذي نزلنا ، والعائد محذوف ، أي نزلناه ، وشرط حذفه موجود.
وأجاز بعضهم أن تكون ما نكرة موصوفة ، وقد تقدم لنا الكلام على ما النكرة الموصوفة ، ونزلنا التضعيف فيه هنا للنقل ، وهو المرادف لهمزة النقل.
ويدل على مرادفتهما في هذه الآية قراءة يزيد بن قطيب مما أنزلنا بالهمزة ، وليس التضعيف هنا دالاً على نزوله منجماً في أوقات مختلفة ، خلافاً للزمخشري ، قال : فإن قلت لم قيل : مما نزلنا على لفظ التنزيل دون الإنزال؟ قلت : لأن المراد النزول على التدريج والتنجيم ، وهو من مجازه لمكان التحدي.
وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري في تضعيف عين الكلمة هنا ، هو الذي يعبر عنه بالتكثير ، أي يفعل ذلك مرة بعد مرة ، فيدل على هذا المعنى بالتضعيف ويعبر عنه بالكثرة.
وذهل الزمخشري عن إن ذلك إنما يكون غالباً في الأفعال التي تكون قبل التضعيف متعدية ، نحو : جرحت زيداً ، وفتحت الباب ، وقطعت ، وذبحت ، لا يقال : جلس زيد ، ولا قعد عمرو ، ولا صوم جعفر ، ونزلنا لم يكن متعدياً قبل التضعيف إنما كان لازماً ، وتعديه إنما يفيده التضعيف أو الهمزة ، فإن جاء في لازم فهو قليل.
قالوا : مات المال ، وموّت المال ، إذا كثر ذلك فيه ، وأيضاً ، فالتضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة وقوع الفعل ، أما أن يجعل اللازم متعدياً فلا ، ونزلنا قبل التضعيف كان لازماً ولم يكن متعدياً ، فيكون التعدي المستفاد من التضعيف دليلاً على أنه للنقل لا للتكثير ، إذ لو كان للتكثير ، وقد دخل على اللازم ، بقي لازماً نحو : مات المال ، وموّت المال.
وأيضاً فلو كان التضعيف في نزل مفيداً للتنجيم لاحتاج قوله تعالى :

{ لولا نُزِّل عليه القرآن جملة واحدة } إلى تأويل ، لأن التضعيف دال على التنجيم والتكثير ، وقوله : { جملة واحدة } ينافي ذلك.
وأيضاً فالقراءات بالوجهين في كثير مما جاء يدل على أنهما بمعنى واحد.
وأيضاً مجيء نزل حيث لا يمكن فيه التكثير والتنجيم إلا على تأويل بعيد جداً يدل على ذلك.
قال تعالى : { وقالوا لولا نزل عليه آية } وقال تعالى : { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً } ليس المعنى على أنهم اقترحوا تكرير نزول الآية ، ولا أنه علق تكرير نزول ملك رسول على تقدير كون ملائكة في الأرض ، وإنما المعنى ، والله أعلم ، مطلق الإنزال.
وفي نزلنا التفات لأنه انتقال من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم ، لأن قبله { اعبدوا ربكم } و { فلا تجعلوا لله أنداداً }.
فلو جرى الكلام على هذا السياق لكان مما نزل على عبده ، لكن في هذا الالتفات من التفخيم للمنزل والمنزل عليه ما لا يؤديه ضمير غائب ، لا سيما كونه أتى بنا المشعرة بالتعظيم التام وتفخيم الأمر ونظيره ، { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا } وتعدي نزل بعلى إشارة إلى استعلاء المنزل على المنزل عليه وتمكنه منه ، وأنه قد صار كالملابس له ، بخلاف إلى فإنها تدل على الانتهاء والوصول.
ولهذا المعنى الذي أفادته على تكرار ذلك في القرآن في آيات ، قال تعالى : { نزل عليك الكتاب بالحق } { طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } { هو الذي أنزل عليك الكتاب } وفي إضافة العبد إليه تعالى تنبيه على عظيم قدره ، واختصاصه بخالص العبودية ، ورفع محله وإضافته إلى نفسه تعالى ، واسم العبد عام وخاص ، وهذا من الخاص :
لا تدعني إلا بيا عبدها . . .
لأنه أشرف أسمائي
ومن قرأ : على عبادنا بالجمع ، فقيل : يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته ، قاله الزمخشري ، وصار نظير قوله تعالى : أن يقولوا : { إنما أنزل الكتاب على ظائفتين من قبلنا } لأن جدوى المنزل والهداية الحاصلة به من امتثال التكاليف ، والموعود على ذلك لا يختص بل يشترك فيه المتبوعون والتباع ، فجعل كأنه نزل عليهم.
وذلك نوع من المجاز يجعل فيه من لم يباشر الشيء إذا كان مكلفاً به منزلة من باشر ، ويحتمل أن يريد به النبيين الذين أنزل عليهم الوحي ، والكتب والرّسول أول مقصود بذلك ، وأسبق داخل في العموم ، لأنه هو الذي طلب معاندوه بالتحدي في كتابه ، ويكون ذلك خطاباً لمنكري النبوات ، كما قال تعالى ، حكاية عن بعضهم : { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } ويحتمل أن يراد بالمفرد الجمع.
وتبينه هذه القراءة كقوله تعالى : { واذكر عبدنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار } في قراءة من أفرد ، فيكون إذ ذاك للجنس.
فأتوا بسورة : طلب منهم الإتيان بمطلق سورة ، وهي القطعة من القرآن التي أقلها ثلاث آيات ، فلم يقترح عليهم الإتيان بسورة طويلة فتعنتوا في ذلك ، بل سهل عليهم وأراح عليهم بطلب الإتيان بسورة ما ، وهذا هو غاية التبكيت والتخجيل لهم.

فإذا كنتم لا تقدرون أنتم ولا معاضدوكم بالإتيان بسورة من مثله ، فكيف تزعمون أنه من جنس كلامكم؟ وكيف يلحقكم في ذلك ارتياب أنه من عند الله؟
وقد تعرض الزمخشري هنا لذكر فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سوراً ، وليس ذلك من علم التفسير ، وإنما هو من فوائد التفصيل والتسوير.
من مثله : الهاء عائدة على ما ، أو على عبدنا ، والراجح الأول وهو قول أكثر المفسرين ورجحانه من وجوه : أحدها : أن الارتياب أولاً إنما جيء به منصباً على المنزل لا على المنزل عليه ، وإن كان الريب في المنزل ريباً في المنزل عليه بالالتزام ، فكان عود الضمير عليه أولى.
الثاني : أنه قد جاء في نظير هذه الآية وهذا السياق قوله : { فأتوا بسورة من مثله } ، { فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } { على أن يأتوا مثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } الثالث : اقتضاء ذلك كونهم عاجزين عن الإتيان ، سواء اجتمعوا أو انفردوا ، وسواء كانوا أميين أم كانوا غير أميين ، وعوده على المنزل يقتضي كون آحاد الأدميين عاجزاً عنه ، لأنه لا يكون مثله إلا الشخص الواحد الأمي.
فأما لو اجتمعوا أو كانوا قارئين فلا شك أن الإعجاز على الوجه الأول أقوى ، فإذا جعلنا الضمير عائداً على المنزل ، فمن : للتبعيض وهي في موضع الصفة لسورة أي بسورة كائنة من مثله.
ويظهر من كلام الزمخشري تناقض في من هذه قال : من مثله متعلق بسورة صفة لها ، أي بسورة كائنة من مثله فقوله متعلق بسورة يقتضي أن يكون معمولاً لها ، وقوله صفة لها ، أي بسورة كائنة من مثله يقتضي أن لا يكون معمولاً لها فتناقض كلامه ودافع آخره أوله ، ولكن يحمل على أنه لا يريد التعلق الصناعي كتعلق الباء في نحو : مروري بزيد حسن ، لكنه يريد التعلق المعنوي ، أي تعلق الصفة بالموصوف ، واحترز من القول الآخر أنها تتعلق بقوله : فأتوا ، فلا يكون من مثله عائداً على المنزل ، على ما سيأتي تبيينه إن شاء الله.
وأجاز المهدوي وأبو محمد بن عطية أن تكون لبيان الجنس على تقدير أن يكون الضمير عائداً على المنزل ، وتفسر المثلية بنظمه ورصفه وفصاحة معانيه التي تعرفونها ، ولا يعجزهم إلا التأليف الذي خص به القرآن ، أو في غيوبه وصدقه ، وأجازا على هذا الوجه أيضاً أن تكون زائدة ، وستأتي الأقوال في تفسير المثلية على عود الضمير إلى المنزل ، إن شاء الله.
وقد اختلف النحويون في إثبات هذا المعنى لمن ، والذي عليه أصحابنا أن من لا تكون لبيان الجنس ، والفرق بين كونها للتبعيض ولبيان الجنس مذكور في كتب النحو.
وأما كونها زائدة في هذا الموضع فلا يجوز ، على مذهب الكوفيين وجمهور البصريين.

وفي المثلية على كون الضمير عائداً على المنزل أقوال : الأول : من مثله في حسن النظم ، وبديع الرصف ، وعجيب السرد ، وغرابة الأسلوب وإيجازه وإتقان معانيه.
الثاني : من مثله في غيوبه من إخباره بما كان وبما يكون.
الثالث : في احتوائه على الأمر ، والنهي ، والوعد ، والوعيد ، والقصص ، والحكم ، والمواعظ ، والأمثال.
الرابع : من مثله في صدقه وسلامته من التبديل والتحريف.
الخامس : من مثله ، أي كلام العرب الذي هو من جنسه.
السادس : في أنه لا يخلق على كثرة الرد ، ولا تمله الأسماع ، ولا يمحوه الماء ، ولا تغنى عجائبه ، ولا تنتهي غرائبه ، ولا تزول طلاوته على تواليه ، ولا تذهب حلاوته من لهوات تاليه.
السابع : من مثله في دوام آياته وكثرة معجزاته.
الثامن : من مثله ، أي مثله في كونه من كتب الله المنزلة على من قبله ، تشهد لكم بأن ما جاءكم به ليس هو من عند الله ، كما قال تعالى : { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } وإن جعلنا الضمير عائداً على المنزل عليه ، فمن متعلقة بقوله : فأتوا من مثل الرسول بسورة.
ومعنى من على هذا الوجه ابتداء الغاية ، ويجوز أن تكون في موضع الصفة فتتعلق بمحذوف.
وهي أيضاً لابتداء الغاية ، أي بسورة كائنة من رجل مثل الرسول ، أي ابتداء كينونتها من مثله.
وفي المثلية على كون الضمير عائداً على المنزل على أقوال : الأول : من مثله من أمي لا يحسن الكتابة على الفطرة الأصلية.
الثاني : من مثله لم يدارس العلماء ، ولم يجالس الحكماء ، ولم يؤثر عنه قبل ذلك تعاطي الأخبار ، ولم يرحل من بلده إلى غيره من الأمصار.
الثالث : من مثله على زعمكم أنه ساحر شاعر مجنون.
الرابع : من مثله من أبناء جنسه وأهل مدرته ، وذكر المثل في قوله : من مثله هو على سبيل الفرض على أكثر الأقوال التي فسرت بها المماثلة ، إذا كان الضمير عائداً على المنزل ، وعلى بعضها لا يكون على سبيل الفرض ، وهو على قول من فسر أنه أراد بالمثل : كلام العرب الذي هو من جنسه ، وأما إذا كان عائداً على المنزل عليه فليس على سبيل الفرض ، لوجود أمي لا يحسن الكتابة ، ولوجود من لم يدارس العلماء ، ولوجود من هو ساحر على زعمهم ذلك في المنزل عليه.
واختار الزمخشري أن لا مثل ولا نظير.
قال بعد أن فسر المثل على تقدير عود الضمير على المنزل : فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب وعلو الطبقة في حسن النظم ، وعلى تقدير عوده على المنزل عليه ، أو فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشراً عربياً أو أمياً لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء ، قال الزمخشري ، ولا قصد إلى مثل ونظير هنالك ، ولكنه نحو قول القبعثري للحجاج ، وقال له : لأحملنك على الأدهم مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب.

أراد من كان على صفة الأمير من السلطان والقوة وبسطة اليد ، ولم يقصد أحداً يجعله مثلاً للحجاج.
انتهى كلام الزمخشري.
وعلى ما فسرت به المماثلة إذ جعل الضمير عائداً على المنزل عليه ، وقد تقدم بيان وجود المثل ، وعلى أنه عائد على المنزل يمكن وجوده في بعض تفاسير المماثلة.
فقول الزمخشري : لا مثل ولا نظير مع تفسيره المماثلة في كونه بشراً عربياً أو أمياً لم يقرأ الكتب ليس بصحيح ، لأن المماثل في هذا الشيء الخاص موجود.
ولما طلب منهم المعارضة بسورة على تقدير حصولهم في ريب من كونه من عند الله ، لم يكتف بقولهم ذلك بأنفسهم ، حتى طلب منهم أن يدعو شهداءهم على الاجتماع على ذلك والتظافر والتعاون والتناصر ، فقال : { وادعوا شهداءكم } ، وفسر هنا ادعوا : باستغيثوا.
قال أبو الهيثم : الدعاء طلب الغوث ، دعا : استغاث وباستحضروا دعا فلان فلاناً إلى الحاكم ، استحضره ، وشهداؤهم : آلهتهم ، فإنهم كانوا يعتقدون أنهم يشهدون لهم عند الله ، قاله ابن عباس ، والسدي ، ومقاتل ، والفراء ، أو من يشهدهم ويحضرهم من الأعوان والأنصار ، قاله ابن قتيبة.
وروي عن ابن عباس ، أو من يشهد لكم ، أن ما تأتون به مثل القرآن ، روي عن مجاهد وكونه جمع شهيد أحسن من جمع شاهد لجريانه على قياس جمع فعيل نحو : هذا ولما في فعيل من المبالغة وكأنه أشار إلى أن يأتوا بشهداء بالغين في الشهادة يصلحون أن تقام بهم الحجة.
{ من دون الله } : تتعلق بادعوا ، أي وادعوا من دون الله شهداءكم ، أي لا تستشهدوا بالله فتقولوا : الله يشهد أن ما ندعيه حق ، كما يقول العاجز عن إقامة البينة : بل ادعوا من الناس الشهداء الذين شهادتهم تصحح بها الدعاوى ، فكأنه قال : وادعوا من غير الله من يشهد لكم ، ويحتمل أن يتعلق من دون الله بشهداءكم.
والمعنى : ادعوا من اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق ، أو أعوانكم من دون الله ، أي من دون أولياء الله الذين يستعينون بهم دون الله ، أو يكون معنى من دون الله : بين يدي الله ، كما قال الأعشى :
تريك القذى من دونها وهي دونه . . .
أي تريك القذى قدامها ، وهي قدام القذى لرقتها وصفائها.
وأمره تعالى إياهم بالمعارضة وبدعاء الأنصار والأعوان ، مع علمه أنهم لا يقدرون على ذلك ، أمر تهكم وتعجيز.
وقد بين تعالى بعد ذلك أن ذلك لا يقع منهم سيما تفسير الشهداء بآلهتهم لأنها جماد لا تنطق ، فالأمر بأن يستعينوا بما لا ينطق في معارضة المعجز غاية التهكم بهم ، فظاهر قوله : { إن كنتم صادقين } معناه : في كونكم في ريب من المنزل على عبدنا أنه من عندنا ، وقيل : فيما تقتدرون عليه من المعارضة.
وقد حكى عنهم في آية أخرى :

{ لو نشاء لقلنا مثل هذا } لكن لم يجر ذكر المعارضة في هذه الآية ، إلا أن كونهم في ريب يقتضي عندهم أنه ليس من عند الله ، وما لم يكن من عند الله فهو عندهم تمكن معارضته ، فيحتمل أن يكون المعنى : إن كنتم صادقين في القدرة على المعارضة.
ولما كان أمره تعالى إياهم بالإتيان بسورة من مثله أمر تهكم وتعجيز لأنهم غير قادرين على ذلك ، انتقل إلى إرشادهم ، إذ ليسوا بقادرين على المعارضة ، وأمرهم باتقاء النار التي أعدت لمن كذب ، وأتى بإن ، وإن كان من مواضع إذا تهكماً بهم ، كما يقول القائل : أن غلبتك لم أبق عليك ، وهو يعلم أنه غالب ، أو أتى بإن على حسب ظنهم ، وإن المعجز منهم كان قبل التأمل ، كالمشكوك فيه عندهم لاتكالهم على فصاحتهم.
ومعنى : { فإن لم تفعلوا } فإن لم تأتوا ، وعبر عن الإتيان بالفعل ، والفعل يجري مجرى الكناية ، فيعبر به عن كل فعل ، ويغنيك عن طول ما تكنى عنه.
قال الزمخشري : لو لم يعدل عن لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل لاستطيل أن يقال : فإن لم تأتوا بسورة من مثله ، ولن تأتوا بسورة من مثله ، ولا يلزم ما قال الزمخشري ، لأنه لو قيل : فإن لم تأتوا ولن تأتوا ، كان المعنى على ما ذكر ويكون قد حذف ذلك اختصاراً ، كما حذف اختصاراً مفعول لم تفعلوا ولن تفعلوا.
ألا ترى أن التقدير : فإن لم تفعلوا الإتيان بسورة من مثله ولن تفعلوا لإتيان بسورة من مثله فهما سيان في الحذف؟ وفي كتاب ابن عطية تعليل غريب لعمل لم الجزم ، قال : وجزمت لم لأنها أشبهت لا في التبرئة في أنهما ينفيان ، فكما تحذف لا تنوين الاسم ، كذلك تحذف لم الحركة أو العلامة من الفعل.
وفي قوله : { ولن تفعلوا } إثارة لهممهم ليكون عجزهم بعد ذلك أبلغ وأبدع ، وفي ذلك دليلان على إثبات النبوة.
أحدهما : صحة كون المتحدي به معجزاً ، الثاني : الإخبار بالغيب من أنهم لن يفعلوا ، وهذا لا يعلمه إلا الله تعالى ، ويدل على ذلك أنهم لو عارضوه لتوفرت الدواعي على نقله خصوصاً من الطاعنين عليه ، فإذا لم ينقل دل على أنه إخبار بالغيب وكان ذلك معجزه.
وأما ما أتى به مسيلمة الكذاب في هذره ، وأبو الطيب المتنبي في عبره ونحوهما ، فلم يقصدوا به المعارضة ، إنما ادعوا أنه نزل عليهم وحي بذلك ، فأتوا من ذلك باللفظ الغث ، والمعنى السخيف ، واللغة المهجنة ، والأسلوب الرذل ، والفقرة غير المتمكنة ، والمطلع المستقبح ، والمقطع المستوهن ، بحيث لو قرن ذلك بكلامهم في غير ما ادّعوا أنه وحي ، كان بينهما من التفاوت في الفصاحة والتباين في البلاغة ما لا يخفى عمن له يسير تمييز في ذلك.
فكيف الجهابذة النقاد والبلغاء الفصحاء ، فسلبهم الله فصاحتهم بادعائهم وافترائهم على الله الكذب.
وقوله : { ولن تفعلوا } جملة اعتراض ، فلا موضع لها من الإعراب ، وفيها من تأكيد المعنى ما لا يخفى ، لأنه لما قال : فإن لم تفعلوا ، وكان معناه نفي في المستقبل مخرجاً ذلك مخرج الممكن ، أخبر أن ذلك لا يقع ، وهو إخبار صدق ، فكان في ذلك تأكيد أنهم لا يعارضونه.

واقتران الفعل بلن مميز لجملة الإعتراض من جملة الحال ، لأن جملة الحال لا تدخل عليها لن ، وكان النفي بلن في هذه الجملة دون لا ، وإن كانتا أختين في نفي المستقبل ، لأن في لن توكيداً وتشديداً ، تقول لصاحبك : لا أقيم غداً ، فإن أنكر عليك قلت : لن أقيم غداً ، كما تفعل في : أنا مقيم ، وإنني مقيم ، قاله الزمخشري ، وما ذكره هنا مخالف لما حكي عنه أن لن تقتضي النفي على التأبيد.
وأما ما ذهب إليه ابن خطيب زملكي من أن لن تنفي ما قرب وأن لا يمتد النفي فيها ، فكاد يكون عكس قول الزمخشري.
وهذه الأقوال ، أعني التوكيد والتأبيد ونفي ما قرب : أقاويل المتأخرين ، وإنما المرجوع في معاني هذه الحروف وتصرفاتها لأئمة العربية المقانع الذين يرجع إلى أقاويلهم.
قال سيبويه ، رحمه الله : ولن نفي لقوله : سيفعل ، وقال : وتكون لا نفياً لقوله : تفعل ، ولم تفعل ، انتهى كلامه.
ويعني بقوله : تفعل ، ولم تفعل المستقبل ، فهذا نص منه أنهما ينفيان المستقبل إلا أن لن نفي لما دخلت عليه أداة الاستقبال ، ولا نفي للمضارع الذي يراد به الاستقبال.
فلن أخص ، إذ هي داخلة على ما ظهر فيه دليل الاستقبال لفظاً.
ولذلك وقع الخلاف في لا : هل تختص بنفي المستقبل ، أم يجوز أن تنفي بها الحال؟ وظاهر كلام سيبويه ، رحمه الله ، هنا أنها لا تنفي الحال ، إلا أنه قد ذكر في الاستثناء من أدواته لا يكون ولا يمكن حمل النفي فيه على الاستقبال لأنه بمعنى إلا ، فهو للإنشاء ، وإذا كان للإنشاء فهو حال ، فيفيد كلام سيبويه في قوله : وتكون لا نفياً لقوله يفعل ، ولم يفعل هذا الذي ذكر في الاستثناء ، فإذا تقرر هذا الذي ذكرناه ، كان الأقرب من هذه الأقوال قول الزمخشري : أولاً : من أن فيها توكيداً وتشديداً لأنها تنفي ما هو مستقبل بالأداة ، بخلاف لا ، فإنها تنفي المراد به الاستقبال مما لا أداة فيه تخلصه له ، ولأن لا قد ينفى بها الحال قليلاً ، فلن أخص بالاستقبال وأخص بالمضارع ، ولأن ولن تفعلوا أخصر من ولا تفعلون ، فلهذا كله ترجيح النفي بلن على النفي بلا.
فاتقوا النار : جواب للشرط ، وكنى به عن ترك العناد ، لأن من عاند بعد وضوح الحق له استوجب العقاب بالنار.
واتقاء النار من نتائج ترك العناد ومن لوازمه.
وعرف النار هنا لأنه قد تقدم ذكرها نكرة في سورة التحريم ، والتي في سورة التحريم نزلت بمكة ، وهذه بالمدينة.
وإذا كررت النكرة سابقة ذكرت ثانية بالألف واللام ، وصارت معرفة لتقدمها في الذكر ووصفت بالتي وصلتها.

والصلة معلومة للسامع لتقدم ذكر قوله : { ناراً وقودها الناس والحجارة } أو لسماع ذلك من أهل الكتاب قبل نزول الآية ، والجمهور على فتح الواو.
وقرأ الحسن باختلاف ، ومجاهد وطلحة وأبو حياة وعيسى بن عمر الهمداني بضم الواو.
وقرأ عبيد بن عمير وقيدها على وزن فعيل.
فعلى قراءة الجمهور وقراءة ابن عمير هو الحطب ، وعلى قراءة الضم هو المصدر على حذف مضاف ، أي ذو وقودها لأن الناس والحجارة ليسا هما الوقود ، أو على أن جعلوا نفس الوقود مبالغة ، كما يقول : فلان فخر بلده ، وهذه النار ممتازة عن غيرها بأنها تتقد بالناس والحجارة ، وهما نفس ما يحرق ، وظاهر هذا الوصف أنها نار واحدة ولا يدل على أنها نيران شتى قوله تعالى : { قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة } ولا قوله تعالى : { فأنذرتكم ناراً تلظى } لأن الوصف قد يكون بالواقع لا للامتياز عن مشترك فيه ، والناس يراد به الخصوص ممن شاء الله دخولها ، وإن كان لفظه عاماً ، والحجارة الأصنام ، وكانا وقوداً للنار مقرونين معاً ، كما كانا في الدنيا حيث نحتوها وعبدوها آلهة من دون الله.
ويوضحه قوله تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حَصَبُ جهنم } أو حجارة الكبريت ، روي ذلك عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن جريج.
واختصت بذلك لما فيه من سرعة الالتهاب ، ونتن الرائحة ، وعظم الدخان ، وشدة الالتصاق بالبدن ، وقوة حرها إذا حميت.
وقيل : هو الكبريت الأسود ، أو حجارة مخصوصة أعدت لجهنم ، إذا اتقدت لا ينقطع وقودها.
وقيل : إن أهل النار إذا عيل صبرهم بكوا وشكوا ، فينشىء الله سحابة سوداء مظلمة ، فيرجون الفرج ، ويرفعون رؤوسهم إليها ، فتمطر عليهم حجارة عظاماً كحجارة الرحى ، فتزداد النار إيقاداً والتهاباً أو الحجارة ما اكتنزوه من الذهب والفضة تقذف معهم في النار ويكوون بها.
وعلى هذه الأقوال لا تكون الألف واللام في الحجارة للعموم بل لتعريف الجنس.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنها تجوز أن تكون لاستغراق الجنس ، ويكون المعنى أن النار التي وعدوا بها صالحة لأن تحرق ما ألقي فيها من هذين الجنسين ، فعبر عن صلاحيتها واستعدادها بالأمر المحقق ، قال : وإنما ذكر الناس والحجارة تعظيماً لشأن جهنم وتنبيهاً على شدّة وقودها ، ليقع ذلك من النفوس أعظم موقع ، ويحصل به من التخويف ما لا يحصل بغيره ، وليس المراد الحقيقة.
وما ذهب إليه هذا الذاهب من أن هذا الوصف هو بالصلاحية لا بالفعل غير ظاهر ، بل الظاهر أن هذا الوصف واقع لا محالة بالفعل ، ولذلك تكرر الوصف بذلك ، وليس في ذلك أيضاً ما يدل على أنها ليس فيها غير الناس والحجارة ، بدليل ما ذكر في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها ، وقدم الناس على الحجارة لأنهم العقلاء الذين يدركون الآلام والمعذبون ، أو لكونهم أكثر إيقاداً للنار من الجماد لما فيهم من الجلود واللحوم والشحوم والعظام والشعور ، أو لأن ذلك أعظم في التخويف.

فإنك إذا رأيت إنساناً يحرق ، أقشعرّ بدنك وطاش لبك ، بخلاف الحجر.
قال ابن عطية : وفي قوله تعالى : { أعدّت } ردّ على من قال : إن النار لم تخلق حتى الآن ، وهو القول الذي سقط فيه منذر بن سعيد ، انتهى كلامه.
ومعناه أنه زعم أن الإعداد لا يكون إلا للموجود ، لأن الإعداد هو التهيئة والإرصاد للشيء ، قال الشاعر :
أعددت للحدثان سابغة وعداءً علندا . . .
أي هيأت.
قالوا : ولا يكون ذلك إلا للموجود.
قال بعضهم : أو ما كان في معنى الموجود نحو قوله تعالى : { أعدّ الله لهم مفغرة وأرجراً عظيماً } ومنذر الذي ذكره ابن عطية كان يعرف بالبلوطي ، وكان قاضي القضاة بالأندلس ، وكان معتزلياً في أكثر الأصول ظاهرياً في الفروع ، وله ذكر ومناقب في التواريخ ، وهو أحد رجالات الكمال بالأندلس.
وسرى إليه ذلك القول من قول كثير من المعتزلة ، وهي مسألة تذكر في أصول الدين وهو : أن مذهب أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان على الحقيقة.
وذهب كثير من المعتزلة والجهمية والنجاومية إلى أنهما لم يخلقا بعد ، وأنهما سيخلقان.
وقرأ عبد الله اعتدت : من العتاد بمعنى العدة.
وقرأ ابن أبي عبلة : أعدها الله للكافرين ، ولا يدل إعدادها للكافرين على أنهم مخصوصون بها ، كما ذهب إليه بعض المتأولين من أن نار العصاة غير نار الكفار ، بل إنما نص على الكافرين لانتظام المخاطبن فيهم ، إذ فعلهم كفر.
وقد ثبت في الحديث الصحيح إدخال طائفة من أهل الكبائر النار ، لكنه اكتفى بذكر الكفار تغليباً للأكثر على الأقل ، أو لأن الكافر لن يشتمل من كفر بالله وكفر بأنعمه ، أو لأن من أخرج منها من المؤمنين لم تكن معدة له دائماً بخلاف الكفار.
والجملة من قوله : أعدت للكافرين في موضع الحال من النار ، والعامل فيها : فاتقوا ، قاله أبو البقاء ، وفي ذلك نظر ، لأن جعله الجملة حالاً يصير المعنى : فاتقوا النار في حال إعدادها للكافرين ، وهي معدّة للكافرين ، اتقوا النار أو لم يتقوها ، فتكون إذ ذاك حالاً لازمة.
والأصل في الحال التي ليست للتأكيد أن تكون منتقلة ، والأولى عندي أن تكون الجملة لا موضع لها من الإعراب ، وكأنها سؤال جواب مقدّر كأنه لما وصفت بأن وقودها الناس والحجارة قيل : لمن أعدت؟ فقيل : أعدت للكافرين.

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)

البشارة : أول خبر يرد على الإنسان من خير كان أو شر ، وأكثر استعماله في الخبر ، وظاهر كلام الزمخشري.
أنه لا يكون إلا في الخير ، ولذلك قال : تأول { فبشرهم بعذاب أليم } وهو محجوج بالنقل.
قيل عن سيبويه : هو خبر يؤثر في البشرة من حزن أو سرور.
قال بعضهم : ولذا يقيد في الحزن ، والبشارة : الجمال ، والبشير : الجميل ، قاله ابن دريد ، وتباشير الفجر : أوائله.
وفي الفعل لغتان : التشديد ، وهي اللغة العليا ، والتخفيف : وهي لغة أهل تهامة.
وقد قرىء باللغتين في المضارع في مواضع من القرآن ، ستأتي إن شاء الله.
الصلاح : يقابله الفساد.
الجنة : البستان الذي سترت أشجاره أرضه ، وكل شيء ستر شيئاً فقد أجنه ، ومن ذلك الجنة والجنة والجن والمجن والجنين.
المفضل الجنة : كل بستان فيه ظل ، وقيل : كل أرض كان فيها شجر ونخل فهي جنة ، فإن كان فيها كرم فهي : فردوس.
تحت : ظرف مكان لا يتصرف فيه بغير من ، نص على ذلك أبو الحسن.
قال العرب : تقول تحتك رجلاك ، لا يختلفون في نصب التحت.
النهر : دون البحر وفوق الجدول ، وهل هو نفس مجرى الماء أو الماء في المجرى المتسع قولان ، وفيه لغتان : فتح الهاء ، وهي اللغة العالية ، والسكون ، وعلى الفتح جاء الجمع أنهاراً قياساً مطرداً إذ أفعال في فعل الاسم الصحيح العين لا يطرد ، وإن كان قد جاءت منه ألفاظ كثيرة ، وسمي نهراً لاتساعه ، وأنهر : وسع ، والنهار لاتساع ضوئه.
التشابه : تفاعل من الشبه والشبه المثل.
وتفاعل تأتي لستة معان : الاشتراك في الفاعلية من حيث اللفظ ، وفيها وفي المفعولية من حيث المعنى ، والإبهام ، والرَّوم ، ومطاوعة فاعل الموافق أفعل ، ولموافقة المجرد وللإغناء عنه.
الزوج : الواحد الذي يكون معه آخر ، واثنان : زوجان.
ويقال للرجل : زوج ، ولامرأته أيضاً زوج وزوجة أقل.
وذكر الفراء أن زوجاً المراد به المؤنث فيه لغتان : زوج لغة أهل الحجاز ، وزوجة لغة تميم وكثير من قيس وأهل نجد ، وكل شيء قرن بصاحبه فهو زوج له ، والزوج : الصنف ومنه : زوج بهيج ، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً.
الطهارة : النظافة ، والفعل طهر بفتح الهاء وهو الأفصح ، وطهر بالضم ، واسم الفاعل منهما طاهر.
فعلى الفتح قياس وعلى الضم شاذ نحو : حمض فهو حامض ، وخثر فهو خاثر.
الخلود : المكث في الحياة أو الملك أو المكان مدّة طويلة لا انتهاء لها وهل يطلق على المدّة الطويلة التي لها انتهاء بطريق الحقيقة أو بطريق المجاز قولان ، وقال زهير :
فلو كان حمد يخلد الناس لم تمت . . .
ولكن حمد الناس ليس بمخلد
ويقال : خلد بالمكان أقام به ، وأخلد إلى كذا ، سكن إليه ، والمخلد : الذي لم يشب ، ولهذا المعنى ، أعني من السكون والاطمئنان ، سمي هذا الحيوان اللطيف الذي يكون في الأرض خلداً.

وظاهره هذه الاستعمالات وغيرها يدل على أن الخلد هو المكث الطويل ، ولا يدل على المكث الذي لا نهاية له إلا بقرينة.
واختار الزمخشري فيه : أنه البقاء اللازم الذي لا ينقطع ، تقوية لمذهبه الاعتزالي في أن من دخل النار لم يخرج منها بل يبقى فيها أبداً.
والأحاديث الصحيحة المستفيضة دلت على خروج ناس من المؤمنين الذين دخلوا النار بالشفاعة من النار ، ومناسبة قوله تعالى : وبشر لما قبله ظاهره ، وذلك أنه لما ذكر ما تضمن ذكر الكفار وما تؤول إليه حالهم في الآخرة ، وكان ذلك من أبلغ التخويف والإنذار ، أعقب ما تضمن ذكر مقابليهم وأحوالهم وما أعد الله لهم في الآخرة من النعيم السرمدي.
وهكذا جرت العادة في القرآن غالباً متى جرى ذكر الكفار وما لهم أعقب بالمؤمنين وما لهم وبالعكس ، لتكون الموعظة جامعة بين الوعيد والوعد واللطف والعنف ، لأن من الناس من لا يجذبه التخويف ويجذبه اللطف ، ومنهم من هو بالعكس.
والمأمور بالتبشير قيل : النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : كل من يصلح للبشارة من غير تعيين.
قال الزمخشري : وهذا أحسن وأجزل لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به ، انتهى كلامه.
والوجه الأول عندي أولى ، لأن أمره صلى الله عليه وسلم لخصوصيته بالبشارة أفخم وأجزل ، وكأنه ما اتكل على أن يبشر المؤمنين كل سامع ، بل نص على أعظمهم وأصدقهم ليكون ذلك أوثق عندهم وأقطع في الإخبار بهذه البشارة العظيمة ، إذ تبشيره صلى الله عليه وسلم تبشير من الله تعالى.
والجملة من قوله : وبشر معطوفة على ما قبلها ، وليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب مشاكل من أمر أو نهي بعطف عليه ، إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين ، فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين ، كما تقول : زيد يعاقب بالقيد والإزهاق ، وبشر عمراً بالعفو والإطلاق ، قال هذا الزمخشري وتبعه أبو البقاء فقال : الواو في وبشر عطف بها جملة ثواب المؤمنين على جملة عقاب الكافرين ، انتهى كلامه.
وتلخص من هذا أن عطف الجمل بعضها على بعض ليس من شرطه أن تتفق معاني الجمل ، فعلى هذا يجوز عطف الجملة الخبرية على الجملة غير الخبرية ، وهذه المسألة فيها اختلاف.
ذهب جماعة من النحويين إلى اشتراط اتفاق المعاني ، والصحيح أن ذلك ليس بشرط ، وهو مذهب سيبويه.
فعلى مذهب سيبويه يتمشى إعراب الزمخشري وأبي البقاء.
وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون قوله : وبشر معطوفاً على قوله : فاتقوا النار ، ليكون عطف أمر على أمر.
قال الزمخشري : كما تقول يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنتيم ، وبشر يا فلان بني أسد بإحسان إليهم ، وهذا الذي ذهبا إليه خطأ لأن قوله : فاتقوا جواب للشرط وموضعه جزم ، والمعطوف على الجواب جواب ، ولا يمكن في قوله : وبشر أن يكون جواباً لأنه أمر بالبشارة ومطلقاً ، لا على تقدير إن لم تفعلوا ، بل أمر أن يبشر الذين آمنوا أمراً ليس مترتباً على شيء قبله ، وليس قوله : وبشر على إعرابه مثل ما مثل به من قوله : يا بني تميم إلخ ، لأن قوله : احذروا لا موضع له من الإعراب ، بخلاف قوله : فاتقوا.

فلذلك أمكن فيما مثل به العطف ولم يمكن في وبشر.
وقرأ زيد بن علي : وبشر فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول.
قال الزمخشري : عطفاً على أعدت انتهى.
وهذا الإعراب لا يتأتى على قول من جعل أعدت جملة في موضع الحال ، لأن المعطوف على الحال حال ، ولا يتأتى أن يكون وبشر في موضع الحال ، فالأصح أن تكون جملة معطوفة على ما قبلها ، وإن لم تتفق معاني الجمل ، كما ذهب إليه سيبويه وهو الصحيح ، وقد استدل لذلك بقول الشاعر :
تناغى غزالاً عند باب ابن عامر . . .
وكحل مآقيك الحسان بإثمد
وبقول امرىء القيس :
وإن شفائي عبرة إن سفحتها . . .
وهل عند رسم دارس من معوّل
وأجاز سيبويه : جاءني زيد ، ومن أخوك العاقلان ، على أن يكون العاقلان خبر ابتداء مضر.
وقد تقدم لنا أن الزمخشري يخص البشارة بالخبر الذي يظهر سرور المخبر به.
وقال ابن عطية : الأغلب استعماله في الخير ، وقد يستعمل في الشر مقيداً به منصوصاً على الشر للمبشر به ، كما قال تعالى : { فبشرهم بعذاب أليم } ومتى أطلق لفظ البشارة فإنما يحمل على الخير ، انتهى كلامه.
وتقدم لنا ما يخالف قوليهما من قول سيبويه وغيره ، وأن البشارة أول خبر يرد على الإنسان من خير كان أو شر ، قالوا : وسمي بذلك لتأثيره في البشرة ، فإن كان خيراً أثر المسرة والانبساط ، وإن كان شراً أثر القبض والانكماش.
قال تعالى : { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان } وقال تعالى : { فبشرهم بعذاب أليم } وجعل الزمخشري هذا العكس في الكلام الذي يقصد به استهزاء الزائد في غيظه المستهزأ به وتألمه.
وقيل : معناه ضع هذا موضع البشارة منهم ، قالوا : والصحيح أن كل خبر غير البشرة خيراً كان أو شراً بشارة ، قال الشاعر :
يبشرني الغراب ببين أهل . . .
فقلت له ثكلتك من بشير
وقال آخر :
وبشرتني يا سعد أن أحبتي . . .
جفوني وأن الود موعده الحشر
والتضعيف في بشر من التضعيف الدال على التكثير فيما قال بعضهم ، ولا يتأتى التكثير في بشر إلا بالنسبة إلى المفاعيل ، لأن البشارة أول خبر يسر أو يحزن على المختار ، ولا يتأتى التكثير فيه بالنسبة إلى المفعول الواحد ، فبالنسبة إليه يكون فعل فيه مغنياً عن فعل ، لأن الذي ينطق به مشدداً غير العرب الذين ينطقون به مخففاً ، كما بينا قبل.
وكون مفعول بشر موصولاً بجملة فعلية ماضية ولم يكن اسم فاعل ، دلالة على أن مستحق التبشير بفضل الله من وقع منه الإيمان وتحقق به وبالأعمال الصالحة.

والصالحات : جمع صالحة ، وهي صفة جرت مجرى الأسماء في إيلائها العوامل ، قال الحُطيئة :
كيف الهجاء وما ينفك صالحة . . .
من آل لام بظهر الغيب تأتيني
فعلى هذا انتصابها على أنها مفعول بها ، والألف واللام في الصالحات للجنس لا للعموم ، لأنه لا يكاد يمكن أن يعمل المؤمن جميع الصالحات ، لكن يعمل جملة من الأعمال الصحيحة المستقيمة في الدين على حسب حال المؤمن في مواجب التكليف.
والفرق بين لام الجنس إذا دخلت على المفرد ، وبينها إذا دخلت على الجمع ، أنها في المفرد يحتمل أن يراد بها واحد من الجنس ، وفي الجمع لا يحتمله.
قال عثمان بن عفان : الصالح ما أخلص لله تعالى ، وقال معاذ بن جبل : ما احتوى على أربعة : العلم والنية والصبر والإخلاص ، وقال سهل بن عبد الله : ما وافق الكتاب والسنة ، وقال علي بن أبي طالب : الصلوات في أوقاتها وتعديل أركانها وهيآتها ، وقيل : الأمانة ، وقيل : التوبة والاختيار ، قول الجمهور : وهو كل عمل صالح أريد به الله.
قال ابن عطية : وفي قوله تعالى : { وعملوا الصالحات } ردّ على من يقول : إن لفظة الإيمان بمجردها تقتضي الطاعات ، لأنه لو كان ذلك ما أعادها ، انتهى كلامه.
وفي ذلك أيضاً دليل على أن الذين أمر الله بأن يبشروا هم من جمعوا بين الإيمان والأعمال الصالحات ، وأن من اقتصر على الإيمان فقط دون الأعمال الصالحات لا يكون مبشراً.
من هذه الآية : وبشر يتعدى لمفعولين : أحدهما بنفسه ، والآخر بإسقاط حرف الجر.
فقوله : { أن لهم جنات } هو في موضع هذا المفعول ، وجاز حذف حرف الجر مع أن قياساً مطرداً ، واختلفوا بعد حذف الحرف ، هل موضع أن ومعموليها جر أم نصب؟ فمذهب الخليل والكسائي : أن موضعه جر ، ومذهب سيبويه والفراء : أن موضعه نصب ، والاستدلال في كتب النحو.
وجنات : جمع جنة ، جمع قلة ، فروي عن ابن عباس أنها سبع جنات.
وقال قوم : هي ثمان جنات.
وزعم بعض المفسرين أن في تضاعيف الكتاب والسنة ما يدل على أنها أكثر من العدد الذي أشار إليه ابن عباس وغيره ، قال : فإنه قال : { إن المتقين في جنات ونهر } { ولمن خاف مقام ربه جنتان } { ومن دونهما جنتان } { عندها جنة المأوى } { جنات عدن } وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما ، وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن » وهذا الذي أورده هذا المفسر لا يدل على أنها أكثر مما روي عن ابن عباس.
وقال الزمخشري : الجنة اسم لدار الثواب كلها ، وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاق العاملين ، لكل طبقة منهم جنة من تلك الجنان ، انتهى كلامه.

وقد دس فيه مذهبه الاعتزالي بقوله : على حسب استحقاق العاملين.
وقد جاء في القرآن ذكر الجنة مفردة ومجموعة ، فإذا كانت مفردة فالمراد الجنس ، واللام في لهم للاختصاص ، وتقديم الخبر هنا آكد من تقديم المخبر عنه لقرب عود الضمير على الذين آمنوا ، فهو أسر للسامع ، والشائع أنه إذا كان الاسم نكرة تعين تقديمه { أئن لنا لأجراً } ولم يذكر في الآية الموافاة على الإيمان فإن الردة تحبطه ، وذلك مفهوم من غير هذه الآية.
وأما الزمخشري فجرى على مذهبه الاعتزالي من أنه يشترط في استحقاق الثواب بالإيمان والعمل ، أن لا يحبطهما المكلف بالكفر والإقدام على الكبائر ، وأن لا يندم على ما أوجده من فعل الطاعة وترك المعصية ، وزعم أن اشتراط ذلك كالداخل تحت الذكر.
وقد علم من مذهب أهل السنة أن من وافى على الإيمان فهو من أهل الجنة ، سواء كان مرتكباً كبيرة أم غير مرتكب ، تائباً أو غير تائب ، ومن قال : إن من زائدة والتقدير تجري تحتها ، أو بمعنى في ، أي في تحتها ، فغير جار على مألوف المحققين من أهل العربية ، بل هي متعلقة بتجري ، وهي لابتداء الغاية.
وإذا فسرنا الجنات بأنها الأشجار الملتفة ذوات الظل ، فلا يحتاج إلى حذف.
وإذا فسرناها بالأرض ذات الأشجار ، احتاج ، إذ يصير التقدير من تحت أشجارها أو غرفها ومنازلها.
وقيل : عبر بتحتها عن أسافلها وأصولها.
وقيل : المعنى في تجري من تحتها : أي بأمر سكانها واختيارهم ، فعبر بتحتها عن قهرهم لها وجريانها على حكمهم ، كما قيل فيم قوله تعالى ، حكاية عن فرعون : { وهذه الأنهار تجري من تحتي } أي بأمري وقهري.
وهذا المعنى لا يناسب إلا لو كانت التلاوة : أن لهم جنات تجري من تحتهم ، فيكون نظير من تحتي إذا جعل على حذف مضاف ، أي من تحت أهلها ، استقام المعنى الذي ذكر أنه لا يناسب ، إذ ليس المعنى بأمر الجنات واختيارها.
وقيل : المعنى في من تحتها : من جهتها.
وقد روي عن مسروق : أن أنهار الجنة تجري في غير أخاديد ، وأنها تجري على سطح أرض الجنة منبسطة.
وإذا صح هذا النقل ، فهو أبلغ في النزهة ، وأحلى في المنظر ، وأبهج للنفس.
فإن الماء الجاري ينبسط على وجه الأرض جوهره فيحسن اندفاعه وتكسره ، وأحسن البساتين ما كانت أشجاره ملتفة وظله ضافياً وماؤه صافياً منساباً على وجه أرضه ، لا سيما الجنة ، حصباؤها الدر والياقوت واللؤلؤ ، فتنكسر تلك المياه على ذلك الحصى ، ويجلو صفاء الماء بهجة تلك الجواهر ، وتسمع لذلك الماء المتكسر على تلك اليواقيت واللآلىء له خريراً ، قال شيخنا الأديب البارع أبو الحكم مالك بن المرحل المالقي ، رحمه الله تعالى ، من كلمة :
وتحدث الماء الزلال مع الحصى . . .
فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى

خرج الترمذي من حديث حكيم بن معاوية ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إن في الجنة بحر الماء ، وبحر العسل ، وبحر اللبن ، وبحر الخمر ، ثم تشقق الأنهار بعده » ويؤيد هذا الحديث قوله تعالى : { فيها أنهار من ماء غير آسن } الآية.
ولما كانت الجنة لا تشوق ، والروض لا يروق إلا بالماء الذي يقوم لها مقام الأرواح للأشباح ، ما كاد مجيء ذكرها إلا مشفوعاً بذكر الأنهار ، مقدماً هذا الوصف فيها على سائر الأوصاف.
قال ابن عطية : نسب الجري إلى النهر ، وإنما يجري الماء وحده توسعاً وتجوزاً ، كما قال تعالى : { واسئل القرية } وكما قال الشاعر :
نبئت أن النار بعدك أوقدت . . .
واستب بعدك يا كليب المجلس
انتهى كلامه.
وناقض قوله هذا ما شرح به الأنهار قبله بنحو من خمسة أسطر قال : والأنهار المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة ، انتهى كلامه.
والألف واللام في الأنهار للجنس ، قال الزمخشري : أو يراد أنهارها ، فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة ، كقوله تعالى : { واشتعل الرأس شيباً } وهذا الذي ذكره الزمخشري ، وهو أن الألف واللام تكون عوضاً من الإضافة ، ليس مذهب البصريين ، بل شيء ذهب إليه الكوفيون ، وعليه خرج بعض الناس قوله تعالى : { مفتحة لهم الأبواب } أي أبوابها.
وأما البصريون فيتأولون هذا على غير هذا الوجه ويجعلون الضمير محذوفاً ، أي الأبواب منها ، ولو كانت الألف واللام عوضاً من الإضافة لما أتى بالضمير مع الألف واللام ، وقال الشاعر :
قطوب رحيب الجيب منها رقيقة . . .
بجس الندامى بضة المتجرد
ويجوز أن تكون الألف واللام للعهد الثابت في الذهن من الأنهار الأربعة المذكورة في سورة القتال.
وجاء هذا الجمع بصيغة جمع القلة إشارة إلى الأنهار الأربعة ، إن قلنا : إن الألف واللام فيها للعهد ، أو إشارة إلى أنهار الماء ، وهي أربعة أو خمسة ، في الصحيح.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الجنة فقال : « نهران باطنان : الفرات والنيل ، ونهران ظاهران : سيحان وجيحان » وفي رواية سيحون وجيحون ، وعن أنس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ماء الكوثر قال : « ذاك نهر أعطانيه الله تعالى ، يعني في الجنة ، ماؤه وأشدّ بياضاً من اللبن وأحلى من العسل » الحديث.
وإن كانت أنهاراً كثيرة فيكون ذلك من إجراء جمع القلة مجرى جمع الكثرة ، كما جاء العكس على جهة التوسع والمجاز لاشتراكهما في الجمعية.
{ كلما رزقوا } ، تقدّم الكلام على كلما عند قوله تعالى : { كلما أضاء لهم } ، وبينا كيفية التكرار فيها على خلاف ما يفهم أكثر الناس ، والأحسن في هذه الجملة أن تكون مستأنفة لا موضع لها من الإعراب ، وأنه لما ذكر أن من آمن وعمل الصالحات لهم جنات صفتها كذا ، هجس في النفوس حيث ذكرت الجنة الحديث عن ثمار الجنات ، وتشوقت إلى ذكر كيفية أحوالها ، فقيل لهم : { كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً } ، وأجيز أن تكون الجملة لها موضع من الإعراب : نصب على تقدير كونها صفة للجنات ، ورفع : على تقدير خبر مبتدأ محذوف.

ويحتمل هذا وجهين : إما أن يكون المبتدأ ضميراً عائداً على الجنات ، أي هي { كلما رزقوا منها } ، أو عائداً على { الذين آمنوا } ، أي هم كلما رزقوا ، والأولى الوجه الأول لاستقلال الجملة فيه لأنها في الوجهين السابقين تتقدّر بالمفرد ، فهي مفتقرة إلى الموصوف ، أو إلى المبتدأ المحذوف.
وأجاز أبو البقاء أن تكون حالاً من الذين آمنوا تقديره مرزوقين على الدوام ، ولا يتم له ذلك إلا على تقدير أن يكون الحال مقدرة ، لأنهم وقت التبشير لم يكونوا مرزوقين على الدوام.
وأجاز أيضاً أن تكون حالاً من جنات لأنها نكرة قد وصفت بقوله : تجري ، فقربت من المعرفة ، وتؤول أيضاً إلى الحال المقدرة.
والأصل في الحال أن تكون مصاحبة ، فلذلك اخترنا في إعراب هذه الجملة غير ما ذكره أبو البقاء.
ومن : في قوله : منها ، هي لابتداء الغاية ، وفي : من مثمرة كذلك ، لأنه بدل من قوله : منها ، أعيد معه حرف كقوله تعالى : { كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها } على أحد الاحتمالين ، وكلتاهما تتعلق برزقوا على جهة البدل ، كما ذكرناه ، لأن الفعل لا يقضي حرفي جر في معنى واحد إلا بالعطف ، أو على طريقة البدل ، وهذا البدل هو بدل الاشتمال.
وقد طول الزمخشري في إعراب قوله : من ثمرة ، ولم يفصح بالبدل ، لكن تمثيله يدل على أنه مراده ، وأجاز أن يكون من ثمرة بياناً على منهاج قولك : رأيت منك أسداً ، تريد أنت أسد ، انتهى كلامه.
وكون من للبيان ليس مذهب المحققين من أهل العربية ، بل تأولوا ما استدل به من أثبت ذلك ، ولو فرضنا مجيء من للبيان ، لما صح تقديرها للبيان هنا ، لأن القائلين بأن من للبيان قدروها بمضمر وجعلوه صدراً لموصول صفة ، إن كان قبلها معرفة ، نحو : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } أي الرجس الذي هو الأوثان ، وإن كان قبلها نكرة ، فهو يعود على تلك النكرة نحو : من يضرب من رجل ، أي هو رجل ، ومن هذه ليس قبلها ما يصلح أن يكون بياناً له ، لا نكرة ولا معرفة ، إلا إن كان يتمحل لذلك أنها بيان لما بعدها ، وأن التقدير : كلما رزقوا منها رزقاً من ثمرة ، فتكون من مبينة لرزقاً ، أي : رزقاً هو ثمرة ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير.
فهذا ينبغي أن ينزه كتاب الله عن مثله.
وأما : رأيت منك أسداً ، فمن لابتداء الغاية أو للغاية ابتداء وانتهاء ، نحو : أخذته منك ، ولا يراد بثمرة الشخص الواحد من التفاح أو الرمان أو غير ذلك ، بل المراد ، والله أعلم ، النوع من أنواع الثمار.

قال الزمخشري : وعلى هذا ، أي على تقدير أن تكون من بياناً يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمار ، والجنات الواحدة ، انتهى كلامه.
وقد اخترنا أن من لا تكون بياناً فلا نختار ما ابتنى عليه ، مع أن قوله : والجنات الواحدة مشكل يحتاج فهمه إلى تأمل ، ورزقاً هنا هو المرزوق ، والمصدر بعيد جداً لقوله : { هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً } ، فإن المصدر لا يؤتى به متشابهاً ، إنما هذا من الإخبار عن المرزوق لا عن المصدر.
{ قالوا هذا الذي رزقنا من قبل } ، قالوا : هو العامل في كلما ، وهذا الذي : مبتدأ معمول للقول.
فالجملة في موضع مفعول ، والمعنى : هذا ، مثل : الذي رزقنا ، فهو من باب ما الخبر شبه به المبتدأ ، وإنما احتيج إلى هذا الإضمار ، لأن الحاضر بين أيديهم في ذلك الوقت يستحيل أن يكون عين الذي تقدم إن رزقوه ، ثم هذه المثلية المقدرة حذفت لاستحكام الشبه ، حتى كأن هذه الذات هي الذات ، والعائد على الذي محذوف ، أي رزقناه ، ومن متعلقة برزقاً ، وهي لابتداء الغاية.
وقيل : مقطوع عن الإضافة ، والمضاف إليه معرفة محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره من قبله : أي من قبل المرزوق.
واختلف المفسرون في تفسير ذلك ، فقال ابن عباس ، والضحاك ، ومقاتل : معناه رزق الغداة كرزق العشي.
وقال يحيى بن أبي كثير ، وأبو عبيد : ثمر الجنة إذا جني خلفه مثله ، فإذا رأوا ما خلف المجني اشتبه عليهم.
فقالوا : هذا الذي رزقنا من قبل ، وقال مجاهد ، وابن زيد : يعني بقوله : من قبل في الدنيا ، والمعنى أنه مثله في الصورة ، فالقبلية على القولين الأولين تكون في الجنة ، وعلى هذا القول تكون في الدنيا.
وقال بعض المفسرين : معناه هذا الذي وعدنا في الدنيا أن نرزقه في الآخرة ، فعلى هذا القول يكون المبتدأ ، هو نفس الخبر ، ولا يكون التقدير مثل : وعبر عن الوعد بمتعلقه وهو الرزق ، وهو مجاز ، فلصدق الوعد به صار كأنهم رزقوه في الدنيا ، وكون الخبر يكون غير المبتدأ أيضاً مجاز ، إلا أن هذا المجاز أكثر وأسوغ.
وعلى هذا القول تكون القبلية أيضاً في الدنيا ، لأن الوعد وقع فيها إلا أن كون القبلية في الدنيا يبعده دخول من على قبل لأنها لابتداء الغاية ، فهذا موضع قبل لا موضع من ، لأن بين الزمانين تراخياً كثيراً ، ومن تشعر بابتداء القبلية فتنافي التراخي والابتداء.
وإذا كانت القبلية في الآخرة كان في ذلك إشكال من حيث إن الرزق الأول الذي رزقوه لا يكون له مثل رزقوه قبل لأن الفرض أنه أول ، فإذا كان أول لم يكن قبله شيء رزقوه.
قال ابن عطية : هذا إشارة إلى الجنس ، أي هذا من الجنس الذي رزقناه من قبل ، انتهى كلامه.
وليس هذا إشارة إلى الجنس ، بل هذا إشارة إلى الرزق.

وكيف يكون إشارة إلى الجنس وقد فسر قوله بعد من الجنس الذي رزقناه من قبل؟ فكأنه قال : هذا الجنس من الجنس الذي رزقنا من قبل ، وأنت ترى هذا التركيب كيف هو.
ولعل الناقل صحف مثل بمن ، فكان التقدير هذا الجنس مثل الجنس الذي رزقنا من قبل ، وإلا ظهر أنه تصحيف ، لأن لتقدير من الجنس بعيد ، وإنما يصح ذلك على ضرب من التجوز من إطلاق كل ، ويراد به بعض فتقول : هذا من بني تميم ، ثم تتجوز فتقول : هذا بنو تميم ، تجعله كل بني تميم مجازاً توسعاً.
ومعمول القول جملة خبرية يخاطب بها بعضهم بعضاً ، وليس ذلك على معنى التعجب ، قاله : جماعة.
وقال ابن عباس : يقولون ذلك على طريق التعجب.
قال الحسن ومجاهد : يرزقون الثمرة ثم يرزقون بعدها مثل صورتها ، والطعم مختلف ، فهم يتعجبون لذلك ويخبر بعضهم بعضاً.
قال ابن عباس : ليس في الجنة شيء مما في الدنيا سوى الأسماء ، وأما الذوات فمتباينة.
وقراءة الجمهور : وأتوا مبنياً للمفعول وحذف الفاعل للعلم به ، وهو الخدم والولدان.
يبين ذلك قراءة هارون الأعور والعتكي.
وأتوا به على الجمع ، وهو إضمار لدلالة المعنى عليه.
ألا ترى إلى قوله تعالى : { يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق } إلى قوله تعالى : { وفاكهة مما يتخيرون } فدل ذلك على أن الولدان هم الذين يأتون بالفاكهة ، والضمير في قوله تعالى : به ، عائد على الرزق ، أي : وأتوا بالرزق الذي هو من الثمار ، كما أن هذا إشارة إليه.
قال الزمخشري : قال قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : وأتوا به؟ قلت : إلى المرزوق في الدنيا والآخرة ، لأن قوله : { هذا الذي رزقنا من قبل } انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين ، انتهى كلامه.
أي لما كان التقدير هذا مثل الذي رزقناه كان قد انطوى على المرزوقين معاً.
ألا ترى أنك إذا قيل : زيد مثل حاتم ، كان منطوياً على ذكر زيد وحاتم؟ وما ذكره الزمخشري غير ظاهر الآية ، لأن ظاهر الكلام يقتضي أن يكون الضمير عائداً على مرزوقهم في الآخرة فقط ، لأنه هو المحدث عنه والمشبه بالذي رزقوه من قبل ، مع أنه إذا فسرت القبلية بما في الجنة تعين أن لا يعود الضمير إلا إلى المرزوق في الجنة ، كأنه قال : وأتوا بالمرزوق في الجنة متشابهاً ، ولا سيما إذا أعربت الجملة حالاً ، إذ يصير التقدير قالوا : هذا مثل الذي رزقنا من قبل.
وقد أتوا به متشابهاً ، أي قالوا ذلك في هذه الحال ، وكان الحامل على القول المذكور كونه أتوا به متشابهاً.
ومجيء الجملة المصدرة بماض حالاً ومعها الواو على إضمار قد جائز في فصيح الكلام.
قال تعالى : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم } أي وقد كنتم الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا ، أي وقد قعدوا.
وقال الذي نجا منهما : { وادَّكر بعد أمة } أي وقد ادّكر إلى غير ذلك مما خرج على أنه حال ، وكذلك أيضاً لا يستقيم عوده إلى المرزوق في الدارين إذا كانت الجملة معطوفة على قوله تعالى : { قالوا هذا الذي رزقنا من قبل } لأن الإتيان إذ ذاك يستحيل أن يكون ماضياً معنى لازماً في حيز كلما ، والعامل فيها يتعين هنا أن يكون مستقبل المعنى ، وإن كان ماضي اللفظ لأنها لا تخلو من معنى الشرط.

ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة تضمنت الإخبار عن الإتيان بهذا الذي رزقوه متشابهاً.
وقول الزمخشري في عود الضمير إلى المرزوق في الدنيا والآخرة لا يظهر أيضاً ، لأن هذه الجمل إنما جاءت محدثاً بها عن الجنة وأحوالها ، وكونه يخبر عن المرزوق في الدنيا والآخرة أنه متشابه ، ليس من حديث الجنة إلا بتكلف.
فالظاهر ما ذكرناه أولاً من عود الضمير إلى الذي أشير إليه بهذا فقط ، وانتصب متشابهاً على الحال من الضمير في به ، وهي حال لازمه ، لأن التشابه ثابت له ، أتوا به أو لم يؤتوا به ، والتشابه قيل : في الجودة والخيار ، فإن فواكه الجنة ليس فيها رديء ، قاله قتادة ، وذلك كقوله تعالى : { كتاباً متشابهاً } قال ابن عطية : كأنه يريد متناسباً في أن كل صنف هو أعلى جنسه ، فهذا تشابه مّا أو في اللون ، وهو مختلف في الطعم ، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد ، أو في الطعم واللذة والشهوة ، وإن اختلفت ألوانه ، أو متشابه بثمر الدنيا في الاسم مختلف في اللون والرائحة والطعم ، أو متشابه بثمر الدنيا في الصورة لا في القدر والطعم ، قاله عكرمة وغيره.
وروى ابن المبارك حديثاً يرفعه.
قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم.
" أقبل أعرابي يوماً فقال : يا رسول الله ، ذكر الله في الجنة شجرة مؤذية ، وما كنت أرى في الجنة شجرة مؤذية تؤذي صاحبها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما هي؟» قال : السدرة ، فإن لها شوكاً مؤذياً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أليس يقول في سدر مخضود ، خضد الله الشوك ، فجعل مكان كل شوكة ثمرة ، فإنها لتنبت ثمراً يفتق من الثمرة منها على اثنين وسبعين لوناً طعاماً ما فيه لون يشبه الآخر؟» " واختار الزمخشري أن ثمر الجنة متشابه بثمر الدنيا ، وأطلق القول في كونه كان مشابهاً لثمر الدنيا ، ولم يكن أجناساً أخر.
وملخص ما ذكر أن الإنسان يأنس بالمألوف ، وإذا رأى غير المألوف نفر عنه طبعه ، وإذا ظفر بشيء مما ألفه وظهر له فيه مزية ، وتفاوت في الجنس ، سر به واغتبط بحصوله.
ثم ذكر ما ورد في مقدار الرمانة والنبقة والشجرة وكيفية نخل الجنة والعنقود والأنهار ما يوقف عليه في كتابه.
وليس في الآية ما يدل على ما اختاره الزمخشري.
والأظهر أن يكون المعنى ثبوت التشابه له ، ولم يقيد التشابه بل أطلق ، فتقييده يحتاج إلى دليل.

ولما كانت مجامع اللذات في المسكن البهي والمطعم الشهي والمنكح الوضي ، ذكرها الله تعالى فيما يبشر به المؤمنون.
وقد بدأ بالمسكن لأن به الاستقرار في دار المقام ، وثنى بالمطعم لأن به قوام الأجسام ، ثم ذكر ثالثاً الأزواج لأن بها تمام الالتئام ، فقال تعالى : { ولهم فيها أزواج } والأولى أن تكون هذه الجملة مستأنفة.
كما اخترنا في قوله : { كلما رزقوا } لأن جعلها استئنافاً يكون في ذلك اعتناء بالجملة ، إذ سيقت كلاماً تاماً لا يحتاج إلى ارتباط صناعي ، ومن جعلها صفة فقد سلك بها مسلك غير ما هو أصل للحمل.
وارتفاع أزواج على الابتداء ، وكونه لم يشرك في العامل في جنات يدل على ما قلناه من الاستئناف أيضاً ، وخبر أزواج في المجرور الذي هو لهم وفيها متعلق بالعامل في لهم الذي هو خبر.
والأزواج من جموع القلة ، لأن زوجاً جمع على زوجة نحو : عود وعودة ، وهو من جموع الكثرة ، لكنه ليس في الكثير من الكلام مستعملاً ، فلذلك استغنى عنه بجمع القلة توسعاً وتجوزاً.
وقد ورد في الحديث الصحيح ما يدل على كثرة الأزواج من الحور وغيرهم.
وأريد هنا بالأزواج : القرناء من النساء اللاتي تختص بالرجل لا يشركه فيها غيره.
ومطهرة : صفة للأزواج مبنية على طهرت كالواحدة المؤنثة.
وقرأ زيد بن علي : مطهرات ، فجمع بالألف والتاء على طهرن.
قال الزمخشري : هما لغتان فصيحتان ، يقال : النساء فعلن ، وهن فاعلات ، والنساء فعلت ، وهي فاعلة ، ومنه بيت الحماسة :
وإذا العذارى بالدخان تقنت . . .
واستعجلت نصب القدور فملت
والمعنى : وجماعة أزواج مطهرة ، انتهى كلامه.
وفيه تعقب أن اللغة الواحدة أولى من الأخرى ، وذلك أن جمع ما لا يعقل ، إما أن يكون جمع قلة ، أو جمع كثرة إن كان جمع كثرة فمجيء الضمير على حد ضمير الواحدة أولى من مجيئه على حد ضمير الغائبات ، وإن كان جمع قلة فالعكس ، نحو : الأجذاع انكسرن ، ويجوز انكسرت ، وكذلك إذا كان ضميراً عائداً على جمع العاقلات الأولى فيه النون من التاء ، فإذا بلغن أحلهن ، والوالدات يرضعن ، ولم يفرقوا في ذلك بين جمع القلة والكثرة كما فرقوا في جمع ما لا يعقل.
فعلى هذا الذي تقرر تكون قراءة زيد الأولى إذ جاءت في الظاهر على ما هو أولى.
ومجيء هذه الصفة مبنية للمفعول ، ولم تأت ظاهرة أو ظاهرات ، أفخم لأنه أفهم أن لها مظهراً وليس إلا الله تعالى.
وقراءة عبيد بن عمير مطهرة ، وأصله متطهرة ، فأدغم.
وفي كلام بعض العرب ما أحوجني إلى بيت الله فاطهر به أطهرة ، أي : فأتطهر به تطهرة ، وهذه القراءة مناسبة لقراءة الجمهور ، لأن الفعل مما يحتمل أن يكون مطاوعاً نحو : طهرته فتطهر ، أي أن الله تعالى طهرهن فتطهرن.

وهذه الأزواج التي وصفها الله بالتطهيران كن من الحور العين ، كما روي عن عبد الله.
فمعنى التطهير : خلقهن على الطهارة لم يعلق بهن دنس ذاتي ولا خارجي وإن كن من بني آدم ، كما روي عن الحسن : عن عجائزكم الرمص العمص يصرن شواب ، فقيل : مطهرة من العيوب الذاتية وغير الذاتية ، وقيل : مطهرة من الأخلاق السيئة والطبائع الرديئة ، كالغضب والحدة والحقد والكيد المكر ، وما يجري مجرى ذلك ، وقيل : مطهرة من الفواحش والخنا والتطلع إلى غير أزواجهن ، وقيل : مطهرة من الأدناس الذاتية ، مثل الحيض والنفاس والجنابة والبول والتغوط وغير ذلك من المقادير الحادثة عن الأعراض المنقبلة إلى فساد : كالبخر والذفر والصنان والقيح والصديد ، أو إلى غير فساد : كالدمع والعرق والبصاق والنخامة.
وقيل : مطهرة من مساوىء الأخلاق ، لا طمحات ولا مرجات ولا يغرن ولا يعزن.
وقال النخعي : الولد.
وقال يمان : من الإثم والأذى ، وكل هذه الأقوال لا يدل على تعيينها قوله تعالى : { مطهرة } لكن ظاهر اللفظ يقتضي أنهن مطهرات من كل ما يشين ، لأن من طهره الله تعالى ووصفه بالتطهير كان في غاية النظافة والوضاءة.
ولما ذكر تعالى مسكن المؤمنين ومطعهمهم ومنحكهم ، وكانت هذه الملاذ لا تبلغ درجة الكمال مع توقع خوف الزوال ، ولذلك قيل :
أشد الغم عندي في سرور . . .
تيقن عنه صاحبه ارتحالا
أعقب ذلك تعالى بما يزيل تنغيص التنعم بذكر الخلود في دار النعيم ، فقال تعالى : { وهم فيها خالدون }.
وقد تقدم ذكر الخلاف في الخلود ، وأن المعتزلة تذهب إلى أنه البقاء الدائم الذي لا ينقطع أبداً ، وأن غيرهم يذهب إلى أنه البقاء الطويل ، انقطع أو لم ينقطع ، وأن كون نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار سرمدي لا ينقطع ، ليس مستفاداً من لفظ الخلود بل من آيات من القرآن وأحاديث صحاح من السنة ، قال تعالى : { خالدين فيها أبداً } ، وقال تعالى : { وما هم منها بمخرجين } وفي الحديث : « يا أهل الجنة خلود بلا موت » وفي حديث أخرجه مسلم في وصف أهل الجنة : « وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً » إلى غير ذلك من الآي والأحاديث.

إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)

الحياء : تغير وإنكار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم ، ومحله الوجه ، ومنبعه من القلب ، واشتقاقه من الحياة ، وضده : القحة ، والحياء ، والاستحياء ، والانخزال ، والانقماع ، والانقلاع ، متقاربة المعنى ، فتنوب كل واحدة منها مناب الأخرى.
أن : حرف ثنائي الوضع ينسبك منه مع الفعل الذي يليه مصدر ، وعمله في المضارع النصب ، إن كان معرباً ، والجزم بها لغة لبني صباح ، وتوصل أيضاً بالماضي المتصرف ، وذكروا أنها توصل بالأمر ، وإذا نصبت المضارع فلا يجوز الفصل بينهما بشيء.
وأجاز بعضهم الفصل بالظرف ، وأجاز الكوفيون الفصل بينها وبين معمولها بالشرط.
وأجازوا أيضاً إلغاءها وتسليط الشرط على ما كان يكون معمولاً لها لولاه ، وأجاز الفراء تقديم معمول معمولها عليها ، ومنعه الجمهور.
وأحكام أن الموصولة كثيرة ، ويكون أيضاً حرف تفسير خلافاً للكوفيين ، إذ زعموا أنها لا تأتي تفسيراً ، وسيأتي الكلام على التفسيرية عند قوله تعالى : { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي } إن شاء الله تعالى.
وتكون أن أيضاً زائدة وتطرد زيادتها بعد لما ، ولا تفيد إذ ذاك غير التوكيد ، خلافاً لمن زاد على ذلك أنها تفيد اتصال الفعل الواقع جواباً بالفعل الذي زيدت قبله ، وبعد القسم قبل لو والجواب خلافاً لمن زعم أنها إذ ذاك رابطة لجملة القسم بالمقسم عليه إذا كان لو والجواب ، ولا تكون أن للمجازاة خلافاً للكوفيين ، ولا بمعنى أن المكسورة المخففة من الثقيلة خلافاً للفارسي ، ولا للنفي ، ولا بمعنى إذ ، ولا بمعنى لئلا خلافاً لزاعمي ذلك.
وأما أن المخففة من الثقيلة فحرف ثلاثي الوضع ، وسيأتي الكلام عليه عند أول ما يذكر ، إن شاء الله تعالى.
والضرب : إمساس جسم بجسم بعنف ويكنى به عن السفر في الأرض ويكون بمعنى الصنع والاعتمال.
وروى اضطرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب.
والبعوضة : واحد البعوض ، وهي طائر صغير جداً معروف ، وهو في الأصل صفة على فعول كالقطوع فغلبت ، واشتقاقه من البعض بمعنى القطع.
أما : حرف ، وفيه معنى الشرط ، وبعضهم يعبر عنها بحرف تفصيل ، وبعضهم بحرف إخبار ، وأبدل بنو تميم الميم الأولى ياء فقالوا : أيما.
وقال سيبويه في تفسير أما : أن المعنى مهما يكن من شيء فزيد ذاهب ، والذي يليها مبتدأ وخبر وتلزم الفاء فيما ولي الجزاء الذي وليها ، إلا إن كانت الجملة دعاء فالفاء فيما يليها ولا يفصل بغيرها من الجمل بينها وبين الفاء ، وإذا فصل بها فلا بد من الفصل بينها وبين الجملة بمعمول يلي أما ، ولا يجوز أن يفصل بين أما وبين الفاء بمعمول خبر أن وفاقاً لسيبويه وأبي عثمان ، وخلافاً للمبرد وابن درستويه ، ولا بمعمول خبر ليت ولعل خلافاً للفراء.
ومسألة أما علماً ، فعالم لزم أهل الحجاز فيه النصب وتختاره تميم ، وتوجيه هاتين المسألتين مذكور في النحو.

الحق : الثابت الذي لا يسوغ إنكاره.
حق الأمر ثبت ووجب ومنه : { حقت كلمة ربك } والباطل مقابله ، وهو المضمحل الزائل ، ماذا : الأصل في ذا أنها اسم إشارة ، فمتى أريد موضوعها الأصلي كانت ماذا جملة مستقلة ، وتكون ما استفهامية في موضع رفع بالابتداء وذا خبره.
وقد استعملت العرب ماذا ثلاثة استعمالات غير الذي ذكرناه أولاً : أحدها : أن تكون ما استفهاماً وذا موصولاً بدليل وقوع الاسم جواباً لها مرفوعاً في الفصيح ، وبدليل رفع البدل قال الشاعر :
ألا تسألان المرء ماذا يحاول . . .
أنحب فيقضى أم ضلال وباطل
الثاني : أن تكون ماذا كلها استفهاماً ، وهذا الوجه هو الذي يقول بعض النحويين فيه : إن ذا لغو ولا يريد بذلك الزيادة بل المعنى أنها ركبت مع ما وصارت كلها استفهاماً ، ويدل على هذا الوصف وقوع الاسم جواباً لها منصوباً في الفصيح ، وقول العرب : عماذا تسأل بإثبات ألف ما ، وقول الشاعر :
يا خزر تغلب ماذا بال نسوتكم . . .
لا يستفقن إلى الديرين تحتانا
ولا يصح موصولية ذاهنا ، الثالث : أن تكون ما مع ذا اسماً موصولاً ، وهو قليل ، قال الشاعر :
دعي ماذا علمت سأتقيه . . .
ولكن بالمغيب نبئيني
فعلى هذا الوجه والأول يكون الفعل بعدها صلة لا موضع له من الإعراب ولا يتسلط على ماذا : وعلى الوجه الثاني يتسلط على ماذا إن كان مما يمكن أن يتسلط.
وأجاز الفارسي أن تكون ماذا نكرة موصوفة وجعل منه : دعي ماذا علمت.
الإرادة : طلب نفسك الشيء وميل قلبك إليه ، وهي نقيض الكرهة ، ويأتي الكلام عليها مضافة إلى الله تعالى ، إن شاء الله.
الفسوق : الخروج ، فسقت الرطبة : خرجت ، والفاسق شرعاً : الخارج عن الحق ، ومضارعه جاء على يفعل ويفعل.
النقض : فك تركيب الشيء وردّه إلى ما كان عليه أولاً ، فنقض البناء هدمه ، ونقض المبرم حله.
والعهد : الموثق ، وعهد إليه في كذا : أوصاه به ووثقه عليه.
والعهد في لسان العرب على ستة محامل : الوصية ، والضمان ، والأمر ، والالتقاء ، والرؤية ، والمنزل.
والميثاق : العهد المؤكد باليمين.
والميثاق والتوثقة : كالميعاد بمعنى الوعد ، والميلاد بمعنى الولادة.
الخسار : النقصان أو الهلاك ، كيف : اسم ، ودخول حرف الجر عليها شاذ ، وأكثر ما تستعمل استفهاماً ، والشرط بها قليل ، والجزم بها غير مسموع من العرب ، فلا نجيزه قياساً ، خلافاً للكوفيين وقطرب ، وقد ذكر خلاف فيها : أهي ظرف أم اسم غير طرف؟ والأول عزوه إلى سيبويه ، والثاني إلى الأخفش والسيرافي ، والبدل منها والجواب إذا كانت مع فعل مستغن منصوبان ، ومع ما لا يستغنى مرفوع إن كان مبتدأ ، ومنصوب إن كان ناسخاً.
أمواتاً : جمع ميت ، وهو أيضاً جمع ميتة ، وجمعهما على أفعال شذوذ ، والقياس في فيعل إذا كسر فعائل.
الاستواء : الاعتدال والاستقامة ، استوى العود وغيره : إذا استقام واعتدل ، ثم قيل : استوى إليه كالسهم المرسل ، إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء ، والتسوية : التقويم والتعديل.

{ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً مّا بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما كفروا فيقولون ماذا أراد بهذا مثلاً } ، الآيات.
قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومقاتل ، والفراء : نزلت في اليهود لما ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه بالعنكبوت ، والذباب ، والتراب ، والحجارة ، وغير ذلك مما يستحقر ويطرح.
قالوا : إن الله أعز وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه المحقرات ، فردّ الله عليهم بهذه الآية.
وقال الحسن ، ومجاهد ، والسدّي ، وغيرهم : نزلت في المنافقين ، قالوا : لما ضرب الله تعالى المثل بالمستوقد والصيب قالوا : الله أعلى وأعظم أن يضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء التي لا بال لها ، فرد الله عليهم بهذه الآية ، وقيل نزلت في المشركين ، والكل محتمل ، إذ اشتملت على نقض العهد ، وهو من صفة اليهود ، لأن الخطاب بوفاء العهد إنما هو لبني إسرائيل ، وعلى الكافرين { والذين في قلوبهم مرض } وهم المشركون والمنافقون ، وكلهم كانوا في إيذائه صلى الله عليه وسلم متوافقين.
وقد نص من أول السورة إلى هنا ذكر ثلاث طوائف ، وكلهم من الذين كفروا ، قاله القفال ، قال : ويجوز أن ينزل ذلك ابتداء من غير سبب.
وقال الربيع بن أنس : هذا مثل ضربه الله تعالى للدنيا وأهلها ، وأن البعوضة تحيا ما جاعت ، فإذا شبعت وامتلأت ماتت.
كذلك مثل أهل الدنيا إذا امتلؤوا منها كان سبباً لهلاكهم ، وقيل : ضرب ذلك تعالى مثلاً لأعمال العباد أنه لا يمتنع أن يذكر ما قل منها أو كثر ليجازي عليها ثواباً أو عقاباً ، وإلا ظهر في سبب النزول القولان الأولان.
ومناسبة هذه الآية ظاهرة ، إذ قد جرى قبل ذكر المثل بالمستوقد والصيب ، ونزل التمثيل بالعنكبوت والذباب ، فأنكر ذلك الجهلة وأهل العناد ، واستغربوا ما ليس بمستغرب ولا منكر ، إذ التمثيل يكشف المعنى ويوضح المطلوب.
وقد تقدم الكلام في فائدته عند قوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } والعاقل إذا سمع التمثيل استبان له به الحق ، وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور والأجناس والحشرات والهوام ، ولسان العرب ملآن من ذلك ، ألا ترى إلى قول الشاعر :
وإني لألقى من ذوي الضغن منهم . . .
وما أصبحت تشكو من الوجد ساهره
كما لقيت ذات الصفا من حليفها . . .
وما انفكت الأمثال في الناس سائره
فذكر قصة ذات الصفا ، وهي حية كانت قد قتلت قرابة حليفها ، فتواثقا بالله على أنها تدي ذلك القتيل ولا تؤذيها ، إلى آخر القصة المذكورة في ذلك الشعر.
والأمثال مضروبة في الإنجيل بالأشياء الحقيرة كالنخالة والدود والزنابير.
وكذلك أيضاً قرأت أمثالاً في الزبور.
فإنكار ضرب الأمثال جهالة مفرطة أو مكابرة واضحة ، ومساق هذه الجملة مصدرة بأن يدل على التوكيد.

وقرأ الجمهور : يستحيي بياءين ، والماضي : استحيا ، وهي لغة أهل الحجاز ، واستفعل هنا جاء للإغناء عن الثلاثي المجرد : كاستنكف ، واستأثر ، واستبد ، واستعبر ، وهو من المعاني التي جاء لها استفعل.
وقد تقدم ذكرها عند قوله : { وإياك نستعين } وهذا هنا من الحياء.
وفي كلام الزمخشري ما يدل على أن استحيا ليس مغنياً عن المجرد بل هو موافق للمجرد ، وهو أحد المعاني أيضاً الذي جاء لها استفعل.
قال الزمخشري : يقال حيي الرجل كما يقال : نسي وخشي وشظي الفرس ، إذا اعتلت هذه الأعضاء جعل الحيي لما يعبر به عن الانكسار ، والتغير منكسر القوة منتقض الحياة ، كما قالوا : فلان هلك حياء من كذا ، ومات حياء ، ورأيت الهلال في وجهه من شدة الحياء ، وذاب حياء ، وجمد في مكانه خجلاً ، انتهى كلامه.
فظاهره أنه يقال : من الحياء حيي الرجل ، فيكون استحيا على ذلك موافقاً للمجرد ، وعلى ما نقلناه قبل يكون مغنياً عن المجرد.
وقرأ ابن كثير في رواية شبل ، وابن محيصن ، ويعقوب : يستحي بياء واحدة ، وهي لغة بني تميم ، يجرونها مجرى يستبي.
قال الشاعر :
ألا تستحي منا ملوك وتتقي . . .
محارمنا لا يبوء الدم بالدم
والماضي : استحى ، قال الشاعر :
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه . . .
كرعن بسيت في إناء من الورد
واختلف النحاة في المحذوفة ، فقيل لام الكلمة ، فالوزن يستفع ، فنقلت حركة العين إلى الفاء وسكنت العين فصارت يستفع.
وقيل المحذوف العين ، فالوزن يستيفل ثم نقلت حركة اللام إلى الفاء وسكنت اللام فصارت يستفل.
وأكثر نصوص الأئمة على أن المحذوف هو العين.
وقد تكلمنا على هذه المسألة في ( كتاب التكميل لشرح التسهيل ) من تأليفنا ، وليس هذا الحذف مختصاً بالماضي والمضارع ، بل يكون أيضاً في سائر التصرفات ، كاسم الفاعل ، واسم المفعول ، وغير ذلك.
وهذا الفعل مما نقلوا أنه يكون متعدياً بنفسه ، ويكون متعدياً بحرف جر ، يقال : استحييته واستحييت منه.
فعلى هذا يحتمل { أن يضرب } أن يكون مفعولاً به على أن يكون الفعل تعدى إليه بنفسه ، أو تعدى إليه على إسقاط حرف الجر.
وفي ذلك الخلاف الذي ذكرناه في قوله تعالى : { أن لهم جنات } أذلك في موضع نصب بعد حذف حرف الجر أم في موضع جر؟.
واختلف المفسرون في معنى الاستحياء المنسوب إلى الله تعالى نفيه ، فقيل : المعنى لا يترك ، فعبر بالحياء عن الترك ، قاله الزمخشري وغيره ، لأن الترك من ثمرات الحياء ، لأن الإنسان إذا استحيا من فعل شيء تركه ، فيكون من باب تسمية المسبب باسم السبب.
وقيل : المعنى لا يخشى ، وسميت الخشية حياء لأنها من ثمراته ، ورجحه الطبري.
وقد قيل في قوله تعالى : { وتخشى الناس } أن معناه تستحي من الناس.
وقيل : المعنى لا يمتنع.
وكل هذه الأقوال متقاربة من حيث المعنى ، يجوز أن يوصف الله تعالى بها ، وهذه التأويلات هي على مذهب من يرى التأويل في الأشياء التي موضوعها في اللغة لا ينبغي أن يوصف الله تعالى به ، وقيل : ينبغي أن تمر على ما جاءت ، ونؤمن بها ولا نتأولها ونكل علمها إليه تعالى ، لأن صفاته تعالى لا يطلع على ماهيتها الخلق.

والذي عليه أكثر أهل العلم أن الله تعالى خاطبنا بلسان العرب ، وفيه الحقيقة والمجاز ، فما صح في العقل نسبته إليه نسبناه إليه ، وما استحال أوّلناه بما يليق به تعالى ، كما نؤول فيما ينسب إلى غيره مما لا يصح نسبته إليه ، والحياء بموضوع اللغة لا يصح نسبته إلى الله تعالى ، فلذلك أوله أهل العلم ، وقد جاء منسوباً إلى الله مثبتاً فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً » ، وأول بأن هذا جار على سبيل التمثيل مثل تركه تخييب العبد من عطائه لكرمه بترك من ترك رد المحتاج إليه حياء منه ، وقد يجوز أيضاً في الاستحياء ، فنسب إلى ما لا يصح منه بحال ، كالبيت الذي أنشدناه قبل وهو :
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه . . .
قال أبو التمام :
هو الليث ليث الغاب بأساً ونجدة . . .
وإن كان أحيا منه وجهاً وأكرما
ويجوز أن يكون قوله تعالى : { لا يستحيي } على سبيل المقابلة ، لأنه روي أن الكفار قالوا : ما يستحي رب محمد أن يضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت ومجيء الشيء على سبيل المقابلة ، وإن لم يكن من جنس ما قوبل به ، شائع في لسان العرب ، ومنه : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } ، وجاء ذكر الاستحياء منفياً عن الله تعالى ، وإن كان إثباته بموضوع اللغة لا يصح نسبته إلى الله تعالى ، فكل أمر مستحيل على الله تعالى إثباته ، يصح أن ينفي عن الله تعالى ، وبذلك نزل القرآن وجاءت السنة.
ألا ترى إلى قوله تعالى : { لا تأخذه سنة ولا نوم } { لم يلد ولم يولد } { ما اتخذ الله من ولد } { وهو يطعِم ولا يطعَم } ونقول : الله تعالى ليس بجسم.
فالإخبار بانتفاء هذه الأشياء هو الصدق المحض ، وليس انتفاء الشيء مما يدل على تجويزه على من نفي عنه ، ولا صحة نسبته إليه ، كما ذهب إليه أبو بكر بن الطيب وغيره.
زعم أن ما لا يجوز على الله إثباتاً يجب أن لا يطلق على طريق النفي ، قال : فيما ورد من ذلك هو بصورة النفي وليس بنفي على الحقيقة ، وكثرة ذلك ، أعني نفي الشيء عما لا يصح إثباته ، له كثير في القرآن ولسان العرب ، بحيث لا يحصر ما ورد من ذلك.
ويضرب : قيل معناه : يبين ، وقيل : يذكر ، وقيل : يضع ، من ضربت عليهم الذلة ، وضرب البعث على بني فلان ، ويكون يضرب قد تعدى إلى واحد ، وقيل يضرب : في معنى يجعل ويصير ، كما تقول : ضربت الطين لبناً ، وضربت الفضة خاتماً.

فعلى هذا يتعدى لاثنين ، والأصح أن ضرب لا يكون من باب ظن وأخواتها ، فيتعدى إلى اثنين ، وبطلان هذا المذهب مذكور في كتب النحو.
وما : إذا نصبت بعوضة زائدة للتأكيد أو صفة للمثل تزيد النكرة شياعاً ، كما تقول : ائتني برجلٍ ما ، أي : أيّ رجل كان.
وأجاز الفراء ، وثعلب ، والزجاج : أن تكون ما نكرة ، وينتصب بدلاً من قوله : مثلاً.
وقرأ الجمهور : بنصب بعوضة.
واختلف في توجيه النصب على وجوه :
أحدها : أن تكون صفة لما ، إذا جعلنا ما بدلاً من مثل ، ومثلاً مفعول بيضرب ، وتكون ما إذ ذاك قد وصفت باسم الجنس المتنكر لإبهام ما ، وهو قول الفراء.
الثاني : أن تكون بعوضة عطف بيان ، ومثلاً مفعول بيضرب.
الثالث : أن تكون بدلاً من مثل.
الرابع : أن يكون مفعولاً ليضرب ، وانتصب مثلاً حالاً من النكرة مقدمة عليها.
والخامس : أن تكون مفعولاً ليضرب ثانياً ، والأول هو المثل على أن يضرب يتعدى إلى اثنين.
والسادس : أن تكون مفعولاً أول ليضرب ، ومثلاً المفعول الثاني.
والسابع : أن تكون منصوباً على تقدير إسقاط الجار ، والمعنى { أن يضرب مثلاً } ما بين { بعوضة فما فوقها } ، وحكوا له عشرون ما ناقة فجملاً ، ونسبه ابن عطية لبعض الكوفيين ، ونسبه المهدوي للكوفيين ، ونسبه غيرهما للكسائي والفراء ، ويكون : مثلاً مفعولاً بيضرب على هذا الوجه ، وأنكر هذا النصب ، أعني نصب بعوضة على هذا الوجه ، أبو العباس.
وتحرير نقل هذا المذهب : أن الكوفيين يزعمون أن ما تكون جزاء في الأصل وتحول إلى لفظ الذي ، فينتصب ما بعدها ، سواء كان نكرة أم غير نكرة ، ويعطف عليه بالفاء فقط ، وتلزم ولا يصلح مكانها الواو ، ولا ثم ، ولا أو ، ولا لا ، ويجعلون النصب في ذلك الاسم على حذف مضاف ، وهو بين.
فلما حذف بين ، قام هذا مقامه في الإعراب.
ويقدرون الفاء بإلى ، وقد جاء التصريح بها في بعض المواضع.
حكى الكسائي عن العرب : مطرنا ما زبالة فالثعلبية ، وما منصوبة بمطرنا.
وحكى الكسائي والفراء عن العرب : هي أحسن الناس ما قرنا ، وانتصاب ما في هذه المسألة على التفسير ، وتقول : هي حسنة ما قرنها إلى قدمها.
قال الفراء : أنشدنا أعرابي من بني سليم :
يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم . . .
ولا حبال محب واصل تصل
وقال الكسائي : سمعت أعرابياً نظر إلى الهلال فقال : الحمد لله ما إهلالك إلى سرارك ، وحكى الفراء عن العرب : الشنق ما خما فعشرين.
والمعنى فيما تقدم ما بين كذا إلى كذا ، وما في هذا المعنى لا تسقط ، فخطأ أن يقول : مطرنا زبالة فالثعلبية.
وهذا الذي ذهب إليه الكوفيون لا يعرفه البصريون ، ورده إلى قواعد البصريين مذكور في غير هذا ، والذي نختاره من هذه الأعاريب أن ضرب يتعدى إلى اثنين هو الصحيح ، وذلك الواحد هو مثلاً لقوله تعالى : ضرب مثل ، ولأنه المقدم في التركيب ، وصالح لأن ينتصب بيضرب.

وما : صفة تزيد النكرة شياعاً ، لأن زيادتها في هذا الموضع لا تنقاس.
وبعوضة : بدل لأن عطف البيان مذهب الجمهور فيه أنه لا يكون في النكرات ، إنما ذهب إلى ذلك الفارسي ، ولأن الصفة بأسماء الأجناس لا تنقاس.
وقرأ الضحاك ، وإبراهيم بن أبي عبلة ، ورؤبة بن العجاج ، وقطرب : بعوضة بالرفع ، واتفق المعربون على أنه خبر ، ولكن اختلفوا فيما يكون عنه خبراً ، فقيل : خبر مبتدأ محذوف تقديره هو بعوضة ، وفي هذا وجهان : أحدهما : أن هذه الجملة صلة لما ، وما موصولة بمعنى الذي ، وحذف هذا العائد وهذا الإعراب لا يصح إلا على مذهب الكوفيين ، حيث لم يشترطوا في جواز حذف هذا الضمير طول الصلة.
وأما البصريون فإنهم اشترطوا ذلك فير غير أيّ من الموصولات ، وعلى مذهبهم تكون هذه القراءة على هذا التخريج شاذة ، ويكون إعراب ما على هذا التخريج بدلاً ، التقدير : مثلاً الذي هو بعوضة.
والوجه الثاني : أن تكون ما زائدة أو صفة وهو بعوضة وما بعده جملة ، كالتفسير لما انطوى عليه الكلام السابق ، وقيل : خبر مبتدأ ملفوظ به وهو ما ، على أن تكون استفهامية.
قال الزمخشري ، لما استنكفوا من تمثيل الله لأصنامهم بالمحقرات قال : إن الله لا يستحيي أن يضرب للأنداد ما شاء من الأشياء المحقرة بله فما فوقها ، كما يقال ، فلأن لا يبالي بما وهب ما دينار وديناران ، والمختار الوجه الثاني لسهولة تخريجه ، لأن الوجه الأول لا يجوز فصيحاً على مذهب البصريين ، والثاني فيه غرابة واستبعاد عن معنى الاستفهام ، وما من قوله : فما معطوفة على قوله بعوضة إن نصبنا لما موصولة وصلتها الظرف ، أو موصوفة وصفتها الظرف ، والموصوفة أرجح.
وإن رفعنا بعوضة ، وكانت ما موصولة فعطف ما الثانية عليها أو استفهاماً ، فذلك من عطف الجمل ، أو كانت البعوضة خبراً لهو محذوفة ، وما زائدة ، أو صفة فعطف على البعوضة ، إما موصولة أو موصوفة ، وما فوقها الظاهر أنه يعني في الحجم كالذباب والعنكبوت ، قاله ابن عباس : ويكون ذكر البعوضة تنبيهاً على الصغر ، وما فوقها تنبيهاً على الكبر ، وبه قال أيضاً قتادة ، وابن جريج ، وقيل : المعنى فما فوقها في الصغر ، أي وما يزيد عليها في الصغر ، كما تقول : فلان أنذل الناس ، فيقال لك : هو فوق ذلك ، أي أبلغ وأعرق في النذالة ، قاله أبو عبيدة ، والكسائي.
وقال ابن قتيبة : فوق من الأضداد ينطلق على الأكثر والأقل ، فعلى قول من قال بأن اللفظ المشترك يحمل على معانيه ، يكون دلالة على ما هو أصغر من البعوضة وما هو أكبر.
وقيل : أراد ما فوقها وما دونها ، فاكتفى بأحد الشيئين عن الآخر لدلالة المعنى عليها ، كما اكتفى في قوله :

{ سرابيل تقيكم الحر } عن قوله : والبرد ، ورجح القول بالفوقية في الصغر بأن المقصود من التمثيل تحقير الأوثان ، وكلما كان المشبه به أشد حقارة كان المقصود من هذا الباب أكمل ، وبأن الغرض هنا أن الله لا يمتنع عن التمثيل بالشيء الحقير ، وبأن الشيء كلما كان أصغر كان الاطلاع على أسراره أصعب.
فإذا كان في نهاية الصغر لم يحط به إلا علم الله سبحانه ، فكان التمثيل به أقوى في الدلالة على كمال الحكمة من التمثيل بالكبير ، والذي نختاره القول الأول لجريان فوق على مشهور ما استقر فيها في اللغة ، وفي المعنى الذي أسند الله إليه عدم الاستحياء من أجله في ضرب المثل بهذه المصغرات والمستضعفات وجوه : أحدها : أن البعوضة قد أوجدها على الغاية القصوى من الإحكام وحسن التأليف والنظام ، وأظهر فيها ، مع صغر حجمها ، من بدائع الحكمة كمثل ما أظهره في الفيل الذي هو في غاية الكبر وعظم الخلقة.
وإذا كل واحد منهما قد استوفى نصاب حسن الصنعة وبدائع التأليف والصنعة ، فضرب المثل بالصغير والكبير سيان عنده إذا كانا في توفية الحكمة سواء.
الثاني : أن البعوضة لما كانت من أصغر ما خلق الله تعالى خصها بالذكر في القلة ، فلا يستحي أن يضرب المثل في الشيء الكبير بالكبير والحقير بالحقير ، وله المثل الأعلى في ضرب الأمثال.
الثالث : أن في البعوضة ، مع صغر حجمها وضعف بنيانها ، من حسن التأليف ودقيق الصنع ، من اختصار الخصر ودقة الخرطوم ولطيف تكوين الأعضاء ولين البشرة ، ما يعجز أن يحاط بوصفه ، وهي مع ذلك تبضع بشوكة خرطومها ، مع لينها ، جلد الجاموس والفيل ، وتهتدي إلى مراق البشرة بغير دليل ، فلا يستحيي الله تعالى أن يضرب بها المثل ، إذ ليس في وسع أحد من البشر أن يخلق مثلها ولا أقل منها ، كما قال تعالى : { لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له } الرابع : أن المثل بالذباب والبعوض والعنكبوت ، وما يجري مجراه ، أتى به تعالى في غاية ما يكون من التمثيل ، وأحسن ما يكون من التشبيه ، لأن الذي جعلها مثلاً لهم في غاية ما يكون من الحقارة ، وضعف القوة ، وخسة الذات والفعل ، فلو شبههم بغير ذلك ما حسن موقع التشبيه ، ولا عذب مذاق التمثيل ، إذ الشيء لا يشبه إلا بما يماثله ويشاكله ، ومن أتى بالشيء على وجهه فلا يستحيا منه.
وتصدير الجملتين بأما التي معناها الشرط مشعر بالتوكيد ، إذ هي أبلغ من : فالذين آمنوا يعلمون ، والذين كفروا يقولون ، إذ قد تقرر أن ما برز في حيز أما من الخبر كان واقعاً لا محالة ، وما مفيد ذلك ومثيره إلا ترتب الحكم على معنى الشرط ، والضمير في أنه عائد على المثل ، وقيل : هو عائد على المصدر المفهوم من يضرب كأنه قال : فيعلمون أن ضرب المثل.

وقيل : هو عائد على المصدر المفهوم من لا يستحي ، أن فيعلمون أن انتفاء الاستحياء من ذكر الحق ، وإلا ظهر الأول لدلالة قوله تعالى : { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } فميز الله تعالى المشار إليه هنا بالمثل.
والتقسيم ورد على شيء واحد ، فظهر أنه عائد على المثل ، وأخبر عن المؤمنين بالعلم لأنه الجزم المطابق لدليل ، وأخبر عن الكافرين بالقول ، وهو اللفظ الجاري على اللسان ، وجعل متعلقه الجملة الاستفهامية الشاملة للاستغراق والاستبعاد والاستهزاء ، وهي قوله : { ماذا أراد الله }.
وقد تقدم الكلام على أقسام ماذا ، وهي ههنا تحتمل وجهين من تلك الأقسام.
أحدهما : أن تكون ما استفهاماً في موضع رفع بالابتداء ، وذا بمعنى الذي خبر عن ما.
وأراد صلة لذا الموصولة والعائد محذوف ، إذ فيه شروط جواز الحذف ، والتقدير ما الذي أراده الله.
والثاني : أن تكون ماذا كلها استفهاماً ، وتركيب ذا مع ما ، وتكون مفعولاً بإرادة التقدير ، أي شيء أراده الله ، وهذان الوجهان فصيحان.
قال ابن عطية : واختلف النحويون في ماذا فقيل : هي بمنزلة اسم واحد بمعنى أي شيء أراد الله ، وقيل : ما اسم وذا اسم آخر بمعنى الذي ، فما في موضع رفع بالابتداء وذا خبره.
انتهى كلام ابن عطية ، وظاهره اختلاف النحويين في ماذا هنا وليس كذلك ، إذ هما وجهان سائغان فصيحان في لسان العرب وليست مسألة خلاف عند النحويين ، بل كل من شدا طرفاً من علم النحو يجوز هذين الوجهين في ماذا هنا ، وكذا كل من وقفنا على كلامه من المفسرين والمعربين ذكروا الوجهين في ماذا هنا.
والإرادة بالتفسير اللغوي ، وهي ميل القلب إلى الشيء ، يستحيل نسبتها إلى الله تعالى.
قال بعض المفسرين : الإرادة ماهية يجدها العاقل من نفسه ويدرك التفرقة البديهية بينها وبين علمه وقدرته ولذته وألمه.
وقال المتكلمون : إنها صفة تقتضي رجحان طرفي الجائز على الآخر في الإيقاع ، لا في الوقوع ، واحترز بهذا القيد الأخير من القدرة.
وأهل السنة يعتقدون أن الله مريد بإرادة واحدة أزلية موجودة بذاته ، والقدرية المعتزلة والنجارية والجهمية وبعض الرافضة نفوا الصفات التي أثبتها أهل السنة ، والبهشمية والبصريون من المعتزلة يقولون بحدوث إرادة الله تعالى لا في محل ، والكرّامية تقول بحدوثها فيه تعالى ، وإنها إرادات كثيرة ، وأكثرهم زعموا مع القول بالحدوث أنه يستحيل فيها العدم ، ومنهم من قال يجوز عدمها ، وهذه المسألة يبحث فيها في أصول الدين.
وانتصاب مثلاً على التمييز عند البصريين ، أي من مثل ، وأجاز بعضهم نصبه على الحال من اسم الإشارة ، أي متمثلاً به ، والعامل فيه اسم الإشارة ، وهو كقولك : لمن حمل سلاحاً رديئاً ، ماذا أردت بهذا سلاحاً ، فنصبه من وجهين : التمييز والحال من اسم الإشارة.
وأجاز بعضهم أن يكون حالاً من الله تعالى ، أي متمثلاً.
وأجاز الكوفيون أن يكون منصوباً على القطع ، ومعنى هذا أنه كان يجوز أن يعرب بإعراب الاسم الذي قبله ، فإذا لم تتبعه في الإعراب وقطعته عنه نصب على القطع ، وجعلوا من ذلك.

وعالين قنوانا من البسر أحمرا . . .
فأحمر عندهم من صفات البسر ، إلا أنه لما قطعته عن إعرابه نصبته على القطع وكان أصله من البسر الأحمر ، كذلك قالوا : ما أراد الله بهذا المثل.
فلما لم يجر على إعراب هذا ، انتصب مثلاً على القطع ، وإذا قلت : عبد الله في الحمام عرياناً ، ويجيء زيد راكباً ، فهذا ونحوه منصوب على القطع عند الكسائي.
وفرق الفراء فزعم أن ما كان فيما قبله دليل عليه فهو المنصوب على القطع ، ومالاً فمنصوب على الحال ، وهذا كله عند البصريين منصوب على الحال ، ولم يثبت البصريون النصب على القطع.
والاستدلال على بطلان ما ذهب إليه الكوفيون مذكور في مبسوطات النحو ، والمختار انتصاب مثل على التمييز ، وجاء على معنى التوكيد لأنه من حيث أشير إليه علم أنه مثل ، فجاء التمييز بعده مؤكداً للاسم الذي أشير إليه علم أنه مثل ، فجاء التمييز بعده مؤكداً للاسم الذي أشير إليه.
{ يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً } : جملتان مستأنفتان جاريتان مجرى البيان والتفسير للجملتين السابقتين المصدرتين بإما ، ووصف تعالى العالمين بأنه الحق ، والسائلين عنه سؤال استهزاء بالكثرة ، وإن كان قد قال تعالى : { وقليل من عبادي الشكور } { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } { وقليل مّا هم } ، فلا تنافي بينهما لأن الكثرة والقلة أمران نسبيان ، فالمهتدون في أنفسهم كثير ، وإذا وصفوا بالقلة فبالنسبة إلى أهل الضلال ، أو تكون الكثرة بالنسبة إلى الحقيقة ، والقلة بالنسبة إلى الأشخاص ، فسموا كثيراً ذهاباً إلى الحقيقة ، كما قال الشاعر :
إن الكرام كثير في البلاد وإن . . .
قلوا كما غيرهم قلوا وإن كثروا
واختار بعض المعربين والمفسرين أن يكون قوله تعالى : { يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً } في موضع الصفة لمثل ، وكان المعنى : { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } يفرق به الناس إلى ضلال وإلى هداية ، فعلى هذا يكون من كلام الذين كفروا.
وهذا الوجه ليس بظاهر ، لأن الذي ذكر أنّ الله لا يستحيي منه هو ضرب مثل مّا ، أي مثل : كان بعوضة ، أو ما فوقها ، والذين كفروا إنما سألوا سؤال استهزاء وليسوا معترفين بأن هذا المثل { يضل الله به كثيراً ويهدي به كثيراً } ، إلا أن ضمن معنى الكلام أن ذلك على حسب اعتقادكم وزعمكم أيها المؤمنون فيمكن ذلك ، ولكن كونه إخباراً من الله تعالى هو الظاهر ، وإسناد الضلال إلى الله تعالى إسناد حقيقي كما أن إسناد الهداية كذلك ، فهو خالق الضلال والهداية ، وقد تؤول هنا الإضلال بالإضلال عن طريق الجنة ، والإضلال عن الدين في اللغة هو الدعاء إلى تقبيح الدين وتركه ، وهو الإضلال المضاف إلى الشيطان ، والإضلال بهذا المعنى منتف عن الله بالإجماع.

والزمخشري على طريقته الاعتزالية يقول : إسناد الضلال إلى الله تعالى إسناد إلى السبب ، لأنه لما ضرب به المثل فضل به قوم واهتدى به قوم تسبب لضلالهم وهداهم.
وقيل : يضل بمعنى يعذب ، كقوله تعالى : { إن المجرمين في ضلال وسعر } ، قاله بعض المعتزلة ، وردّ القفال هذا وقال : بل المراد في الشاهد في ضلال عن الحق وجوز ابن عطية أن يكون قوله : { يضلّ به كثيراً } من كلام الكفار ، ويكون قوله : { ويهدي به كثيراً } إلى آخر الآية ، من كلام الله تعالى.
وهذا الذي جوزه ليس بظاهر لأنه إلباس في التركيب ، لأن الكلام إما أن يجري على أنه من كلام الكفار ، أو يجري على أنه من كلام الله.
وإما أن يجري بعضه على أنه من كلام الكفار وبعضه من كلام الله تعالى من غير دليل على ذلك فإنه يكون إلباساً في التركيب ، وكتاب الله منزه عنه.
وقرأ زيد بن علي : يضلّ به كثير ويهدي به كثير وما يضل به إلا الفاسقون ، في الثلاثة على البناء للمفعول.
وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة ، في الثلاثة على البناء للفاعل الظاهر ، مفتوح حرف المضارعة.
قال عثمان بن سعيد الصيرفي : هذه قراءة القدرية.
وروي عن ابن مسعود أنه قرأ : يضلّ بضمّ الياء في الأول ، وما يضلّ به بفتح الياء ، والفاسقون بالواو ، وكذا أيضاً في القراءتين السابقتين ، وهي قراءات متجهة إلى أنها مخالفة للمصحف المجمع عليه.
والظاهر أن الضمير في به في الثلاثة عائد على مثلاً ، وهو على حذف المضاف ، أي يضرب المثل.
وقيل : الضمير في به من قوله : { يضل به } ، أي بالتكذيب في به من قوله : { ويهدي به كثيراً } ، أي بالتصديق.
ودلّ على ذلك قوة الكلام في قوله تعالى : { فأما الذين آمنوا فيعلمون } { وأما الذين كفروا فيقولون }.
ومعنى : { وما يضلّ به إلا الفاسقين } ، أي : وما يكون ذلك سبباً للضلالة إلا عند من خرج عن الحق.
وقال بعض أهل العلم : معنى يضلّ ويهدي : الزيادة في الضلال والهدى ، لا أن ضرب المثل سبب للضلالة والهدى ، فعلى هذا يكون التقدير : نزيد من لم يصدق به وكفر ضلالاً على ضلالة ، ومن آمن به وصدق إيماناً على إيمانه.
والفاسقين : مفعول يضلّ لأنه استثناء مفرغ ، ومنع أبو البقاء أن يكون منصوباً على الاستثناء.
ويكون مفعول يضل محذوفاً تقديره : وما يضل به أحداً إلا الفاسقين ، وليس بممتنع ، وذلك أن الاسم بعد إلا : إما أن يفرغ له العامل ، فيكون على حسب العامل نحو : ما قام إلا زيد ، وما ضربت إلا زيداً ، وما مررت إلا بزيد ، إذا جعلت زيداً وبزيد معمولاً للعامل قبل لا ، أو لا يفرغ.
وإذا لم يفرغ ، فأما أن يكون العامل طالباً مرفوعاً ، فلا يجوز إلا ذكره قبل إلا ، وإضماره إن كان مما يضمر ، أو منصوباً ، أو مجروراً ، فيجوز حذفه لأنه فضلة وإثباته.

فإن حذفته كان الاسم الذي بعد إلا منصوباً على الاستثناء فتقول : ما ضربت إلا زيداً ، تريد ما ضربت أحداً إلا زيداً ، وما مررت إلا عمراً ، تريد ما ضربت أحداً إلا زيداً ، وما مررت إلا عمراً ، قال الشاعر :
نجا سالم والنفس منه بشدقه . . .
ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا
يريد ولم ينج بشيء إلا جفن سيف ، وإن أثبته ، ولم يحذفه ، فله أحكام مذكورة.
فعلى هذا الذي قد قعده النحويون يجوز في الفاسقين أن يكون معمولاً ليضل ، ويكون من الاستثناء المفرغ ، ويجوز أن يكون منصوباً على الاستثناء ، ويكون معمول يضل قد حذف لفهم المعنى ، والفاسق هو الخارج من طاعة الله تعالى.
فتارة يكون ذلك بكفر وتارة يكون بعصيان غير الكفر.
قال الزمخشري : الفاسق في الشريعة : الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة ، وهو النازل بين المنزلتين ، أي بين منزلة المؤمن والكافر.
وقالوا : إن أول من حد له هذا الحد أبو حذيفة واصل بن عطاء ، رضي الله عنه وعن أشياعه.
وكونه بين بين ، أي حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح ، ويوارث ، ويغسل ، ويصلي عليه ، ويدفن في مقابر المسلمين ، وهو كالكافر في الذم ، واللعن ، والبراءة منه ، واعتقاد عداوته ، وأن لا تقبل شهادته.
ومذهب مالك بن أنس والزيدية أن الصلاة لا تجزي خلفه ، ويقال للخلفاء المردة من الكفار الفسقة ، وقد جاء الاستعمالان في كتاب الله تعالى : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } ، يريد اللمز والتنابز ، { إن المنافقين هم الفاسقون } انتهى كلام الزمخشري.
وهو جار على مذهبه الاعتزالي ، والذي عليه سلف هذه الأمة : أن من كان مؤمناً وفسق بمعصية دون الكفر ، فإنه فاسق بفسقه مؤمن بإيمانه ، وأنه لم يخرج بفسقه عن الإيمان ، ولا بلغ حد الكفر.
وذهبت الخوارج إلى أن من عصى وأذنب ذنباً فقد كفر بعد إيمانه.
ومنهم من قال : من أذنب بعد الإيمان فقد أشرك.
ومنهم من قال : كل معصية نفاق ، وإن حكم القاضي بعد التصديق أنه منافق.
وذهبت المعتزلة إلى ما ذكره الزمخشري ، وذكر أن لأصل هذه المسألة سموا معتزلة ، فإنهم اعتزلوا قول الأمة فيها ، فإن الأمة كانوا على قولين ، فأحدثوا قولاً ثالثاً فسموا معتزلة لذلك ، وهذه المسألة مقررة في أصول الدين.
{ الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } : يحتمل النصب والرفع.
فالنصب من وجهين : إما على الاتباع ، وإما على القطع ، أي أذم الذين.
والرفع من وجهين : إما على القطع ، أي هم الذين ، وإما على الابتداء ، ويكون الخبر الجملة من قوله : { أولئك هم الخاسرون }.
وعلى هذا الإعراب تكون هذه الجملة كأنها كلام مستأنف ، لا تعلق لها بما قبلها إلا على بعد ، فالأولى من هذا الإعراب الأعاريب التي ذكرناها وأولاها الاتباع ، وتكون هذه الصفة صفة ذم ، وهي لازمة ، إذ كل فاسق ينقض العهد ويقطع ما أمر الله بوصله.

واختلفوا في تفسير العهد على أقوال : أحدها : أنه وصية الله إلى خلقه ، وأمره لهم بطاعته ، ونهيه لهم عن معصيته في كتبه المنزلة وعلى ألسنة أنبيائه المرسلة ، ونقضهم له تركهم العمل به.
الثاني : أنه العهد الذي أخذه الله عليهم حين أخرجهم من أصلاب آبائهم في قوله : { وإذ أخذ ربك } الآية ، ونقضهم له كفر ، بعضهم بربوبيته ، وبعضهم بحقوق نعمته.
الثالث : ما أخذه الله عليهم في الكتب المنزلة من الإقرار بتوحيده والاعتراف بنعمه والتصديق لأنبيائه ورسله ، وبما جاؤوا به في قوله : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين آوتوا الكتاب } الآية ، ونقضهم له نبذه وراء ظهورهم ، وتبديل ما في كتبهم من وصفه صلى الله عليه وسلم.
الرابع : ما أخذه الله تعالى على الأنبياء ومتبعيهم أن لا يكفروا بالله ولا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأن ينصروه ويعظموه في قوله تعالى : { وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم } الآية ، ونقضهم له إنكارهم لنبوته وتغييرهم لصفته.
الخامس : إيمانهم به صلى الله عليه وسلم ورسالته قبل بعثه ونقضهم له جحدهم لنبوته ولصفته.
السادس : ما جعله في عقولهم من الحجة على توحيده وتصديق رسوله ، بالنظر في المعجزات الدالة على إعجاز القرآن وصدقه ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ونقضهم هو تركهم النظر في ذلك وتقليدهم لآبائهم.
السابع : الأمانة المعروضة على السموات والأرض التي حملها الإنسان ، ونقضهم تركهم القيام بحقوقها.
الثامن : ما أخذه عليهم من أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم ، ونقضهم عودهم إلى ما نهوا عنه ، وهذا القول يدل على أن المخاطب بذلك بنو إسرائيل.
التاسع : هو الإيمان والتزام الشرائع ، ونقضه كفره بعد الإيمان.
وهذه الأقوال التسعة منها ما يدل على العموم في كل ناقض للعهد ، ومنها ما يدل على أن المخاطب قوم مخصوصون ، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف الذي وقع في سبب النزول ، والعموم هو الظاهر.
فكل من نقض عهد الله من مسلم وكافر ومنافق أو مشرك أو كتابي تناوله هذا الذم ، ومن متعلقة بقوله ينقضون ، وهي لابتداء الغاية ، ويدل على أن النقض حصل عقيب توثق العهد من غير فصل بينهما ، وفي ذلك دليل على عدم اكتراثهم بالعهد ، فإثر ما استوثق الله منهم نقضوه.
وقيل : من زائدة وهو بعيد ، والميثاق مفعول من الوثاقة ، وهو الشدّ في العقد ، وقد ذكرنا أنه العهد المؤكد باليمين.
وليس المعنى هنا على ذلك ، وإنما كنى به عن الالتزام والقبول.
قال أبو محمد بن عطية : هو اسم في موضع المصدر ، كما قال عمرو بن شييم :
أكفراً بعد رد الموت عني . . .
وبعد عطائك المائة الرتاعا
أراد بعد إعطائك ، انتهى كلامه.
ولا يتعين ما ذكر ، بل قد أجاز الزمخشري أن يكون بعد التوثقة ، كما أن الميعاد بمعنى الوعد ، والميلاد بمعنى الولادة ، وظاهر كلام الزمخشري أن يكون مصدراً ، والأصل في مفعال أن يكون وصفاً نحو : مطعام ومسقام ومذكار.

وقد طالعت كلام أبي العباس بن الحاج ، وكلام أبي عبد الله بن مالك ، وهما من أوعب الناس لأبنية المصادر ، فلم يذكرا مفعالاً في أبنية المصادر.
والضمير في ميثاقه عائد على العهد لأنه المحدث عنه ، وأجيز أن يكون عائداً على الله تعالى ، أي من توثيقه عليهم ، أو من بعد ما وثق به عهده على اختلاف التأويلين في الميثاق.
قال أبو البقاء : أن أعدت الهاء على اسم الله كان المصدر مضافاً إلى الفاعل ، وإن أعدتها إلى العهد كان مضافاً إلى المفعول ، وهذا يدل على أن الميثاق عنده مصدر.
{ ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } : وما موصولة بمعنى الذي ، وفيه خمسة أقوال : أحدها : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قطعوه بالتكذيب والعصيان ، قاله الحسن وفيه ضعف ، إذ لو كان كما قال لكان من مكان ما.
الثاني : القول : أمر الله أن يوصل بالعمل فقطعوا بينهما ، قالوا : ولم يعملوا ، يشير إلى أنها نزلت في المنافقين { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } الثالث : التصديق بالأنبياء ، أمروا بوصله فقطعوه بتكذيب بعض وتصديق بعض.
الرابع : الرحم والقرابة ، قاله قتادة ، وهذا يدل على أنه أراد كفار قريش ومن أشبههم.
الخامس : أنه على العموم في كل ما أمر الله به أن يوصل ، وهذا هو الأوجه ، لأن فيه حمل اللفظ على مدلوله من العموم ، ولا دليل واضح على الخصوص.
وأجاز أبو البقاء أن تكون ما نكرة موصوفة ، وقد بينا ضعف القول بأن ما تكون موصوفة خصوصاً هنا ، إذ يصير المعنى : ويقطعون شيئاً أمر الله به أن يوصل ، فهو مطلق ولا يقع الذم البليغ والحكم بالفسق والخسران بفعل مطلق ما ، والأمر هو استدعاء الأعلى الفعل من الأدنى ، قال الزمخشري : وبعثه عليه ، وهي نكتة اعتزالية لطيفة ، قال : وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور ، لأن الداعي الذي يدعو إليه من لا يتولاه شبه بآمر يأمره به ، فقيل له : أمر تسمية للمفعول به بالمصدر كأنه مأمور به ، كما قيل له : شأن ، والشأن الطلب والقصد ، يقال شأنت شأنه ، أي قصدت قصده ، وأمر يتعدى إلى اثنين ، والأول محذوف لفهم المعنى ، أي ما أمر الله به ، وأن يوصل في موضع جر بدل من الضمير في به تقديره به وصله ، أي ما أمرهم الله بوصله ، نحو قول الشاعر :
أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص . . .
فتقصر عنها حقبة وتبوص
أي أمن ذكر سلمى نأيها.
وأجاز المهدوي وابن عطية وأبو البقاء أن تكون أن يوصل في موضع نصب بدلاً من ما ، أي وصله ، والتقدير : ويقطعون وصل ما أمر الله به.
وأجاز المهدوي وابن عطية أن تكون في موضع نصب مفعولاً من أجله ، وقدره المهدوي كراهية أن يوصل ، فيكون الحامل على القطع لما أمر الله كراهية أن يوصل.

وحكى أبو البقاء وجه المفعول من أجله وقدره لئلا ، وأجاز أبو البقاء أن يكون أن يوصل في موضع رفع ، أي هو أن يوصل.
وهذه الأعاريب كلها ضعيفة ، ولولا شهرة قائلها لضربت عن ذكرها صفحاً.
والأول الذي اخترناه هو الذي ينبغي أن يحمل عليه كلام الله وسواه من الأعاريب ، بعيد عن فصيح الكلام بله أفصح الكلام وهو كلام الله.
{ ويفسدون في الأرض } ، فيه أربعة أقوال : أحدها : استدعاؤهم إلى الكفر ، والترغيب فيه ، وحمل الناس عليه.
الثاني : إخافتهم السبيل ، وقطعهم الطريق على من هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم.
الثالث : نقض العهد.
الرابع : كل معصية تعدى ضررها إلى غير فاعلها.
وقال ابن عطية : يعبدون غير الله ، ويجوزون في الأفعال ، إذ هي بحسب شهواتهم ، وهذا قريب من القول الرابع.
وقد تقدّم ما معنى في الأرض ، والتنبيه على ذكر الأرض ، عند الكلام على قوله : { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض } فأغنى عن إعادته هنا.
وقد تضمنت هذه الآية الكبيرة نوعاً من البديع يسميه أرباب البيان : بالطباق.
وقد تقدّم شيء منه ، وهو أن تأتي بالشيء وضدّه ، ووقع هنا في قوله تعالى : { بعوضة فما فوقها } ، فإنهما دليلان على الحقير والكبير ، وفي قوله : { فأما الذين آمنوا } ، { وأما الذين كفروا } ، وفي قوله تعالى : { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } ، وفي قوله : { ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } ، وفي قوله : { ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل }.
وجاء في هذه الثلاثة الأخيرة مناسبة الطباق ، وهو أن كل أول منها كائن بعد مقابله ، فالضلال بعد الهداية لقوله : كل مولود يولد على الفطرة ، ولدخول أولاد الذين كفروا الجنة إذا ماتوا قبل البلوغ ، والنقض بعد التوثقة ، والقطع بعد الوصل.
فهذه ثلاثة تناسبت في الطباق.
وفي وصل الذين بالمضارع وعطف المضارعين عليه دليل على تجدد النقض والقطع والإفساد ، وإشعار أيضاً بالديمومة ، وهو أبلغ في الذم ، وبناء يوصل للمفعول هو أبلغ من بنائه للفاعل ، لأنه يشمل ما أمر الله بأن يصلوه أو يصله غيرهم.
وترتيب هذه الصلات في غاية من الحسن ، لأنه قد بدأ أولاً بنقض العهد ، وهو أخص هذه الثلاث ، ثم ثنى بقطع ما أمر الله بوصله ، وهو أعم من نقض العهد وغيره ، ثم أتى ثالثاً بالإفساد الذي هو أعم من القطع ، وكلها ثمرات الفسق ، وأتى باسم الفاعل صلة للألف واللام ليدل على ثبوتهم في هذه الصفة ، فيكون وصف الفسق لهم ثابتاً ، وتكون النتائج عنه متجدّدة متكررة ، فيكون الذم لهم أبلغ لجمعهم بين ثبوت الأصل وتجدّد فروعه ونتائجه ، ولما ذكر أوصاف الفاسقين أشار إليهم بقوله : { أولئك } ، أي : أولئك الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة من النقض والقطع والإفساد.

{ هم الخاسرون } : وفسر الخاسرون بالناقصين حظوظهم وشرفهم ، وبالهالكين ، وسبب خسرانهم استبدالهم النقض بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والإفساد بالإصلاح ، وعقابها بالثواب ، وقيل : الخاسرون المغبونون بفوت المثوبة ولزوم العقوبة وقيل : خسروا نعيم الآخرة ، وقيل : خسروا حسناتهم التي عملوها ، أحبطوها بكفرهم.
والآية في اليهود ، ولهم أعمال في شريعتهم وفي المنافقين ، وهم يعملون في الظاهر عمل المخلصين.
قال القفال : الخاسر اسم عام يقع على كل من عمل عملاً يجزى عليه.
{ كيف } : قد تقدم أنه اسم استفهام عن حال ، وصحبه معنى التقرير والتوبيخ ، فخرج عن حقيقة الاستفهام.
وقيل : صحبه الإنكار والتعجب ، أي إن من كان بهذه المثابة من القدرة الباهرة والتصرف التام والمرجع إليه آخراً فيثيب ويعاقب ، لا يليق أن يكفر به.
والإنكار بالهمزة إنكار لذات الفعل ، وبكيف إنكار لحاله؛ وإنكار حاله إنكار لذاته ، لأن ذاته لا تخلو من حال يقع فيها ، فاستلزم إنكار الحال إنكار الذات ضرورة ، وهو أبلغ ، إذ يصير ذلك من باب الكناية حيث قصد إنكار الحال ، والمقصود إنكار وقوع ذات الكفر.
قال الزمخشري : وتحريره أنه إذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها ، وقد علم أن كل موجود لا ينفك من حال وصفة عند وجوده ، ومحال أن يوجد تغير صفة من الصفات ، كان إنكاراً لوجوده على الطريق البرهاني ، انتهى كلامه.
وهذا الخطاب فيه التفات ، لأن الكلام قبل كان بصورة الغيبة ، ألا ترى إلى قوله : { وأما الذين كفروا } إلى آخره؟ وفائدة هذا الالتفات أن الإنكار إذا توجه إلى المخاطب كان أبلغ من توجهه إلى الغائب لجواز أن لا يصله الإنكار ، بخلاف من كان مخاطباً ، فإن الإنكار عليه أردع له عن أن يقع فيما أنكر عليه.
والناصب ل { كيف تكفرون }.
وأتى بصيغة تكفرون مضارعاً ولم يأت به ماضياً وإن كان الكفر قد وقع منهم ، لأن الذي أنكر أو تعجب منه الدوام على ذلك ، والمضارع هو المشعر به ولئلا يكون ذلك توبيخاً لمن وقع منه الكفر ثم آمن ، إذ لو جاء كيف كفرتم { بالله } لاندرج في ذلك من كفرتم آمن كأكثر الصحابة رضي الله عنهم.
والواو في قوله : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } : واو الحال ، نحو قوله تعالى : { وقال الذي نجا منهما وادّكر بعد أمةٍ } { ونادى نوح ابنه وكان في معزل } قال الزمخشري : فإن قلت فكيف صح أن يكون حالا ، وهو ماض؟ ولا يقال : جئت وقام الأسير ، ولكن : وقد قام ، إلا أن يضمر قد.
قلت : لم تدخل الواو على كنتم أمواتاً وحده ، ولكن على جملة قوله : كنتم أمواتاً إلي ترجعون ، كأنه قيل : كيف تكفرون بالله وقصتكم هذه وحالكم أنكم كنتم أمواتاً نطفاً في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء؟ { ثم يميتكم } بعد هذه الحياة؟ { ثم يحييكم } بعد الموت ثم يحاسبكم؟ انتهى كلامه.

ونحن نقول : إنه على إضمار قد ، كما ذهب إليه أكثر الناس ، أي وقد كنتم أمواتاً فأحياكم.
والجملة الحالية عندنا فعلية.
وأما أن نتكلف ونجعل تلك الجملة اسمية حتى نفر من إضمار قد ، فلا نذهب إلى ذلك ، وإنما حمل الزمخشري على ذلك اعتقاده أن جميع الجمل مندرجة في الحال ، ولذلك قال : فإن قلت ، بعض القصة ماض وبعضها مستقبل ، والماضي والمستقبل كلاهما لا يصح أن يقع حالاً حتى يكون فعلاً حاضراً وقت وجود ما هو حال عنه ، فما الحاضر الذي وقع حالاً؟ قلت : هو العلم بالقصة ، كأنه قيل : كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة ، وبأولها وبآخرها؟ انتهى كلامه.
ولا يتعين أن تكون جميع الجمل مندرجة في الحال ، إذ يحتمل أن يكون الحال قوله : وكنتم أمواتاً فأحياكم ، ويكون المعنى كيف تكفرون بالله وقد خلقكم فعبر عن الخلق بقوله تعالى : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } ، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم : « أن تجعل لله نداً وهو خلقك » أي أن من أوجدك بعد العدم الصرف حر أن لا تكفر به ، لأنه لا نعمة أعظم من نعمة الاختراع ، ثم نعمة الاصطناع ، وقد شمل النعمتين قوله تعالى : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } لأن بالإحياء حصلتا.
ألا ترى أنها تضمنت الجملة الإيجاد والإحسان إليك بالتربية والنعم إلى زمان أن توجه عليك إنكار الكفر؟ ولما كان مركوزاً في الطباع ومخلوقاً في العقول أن لا خالق إلا الله ، { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } كانت حالاً تقتضي أن لا تجامع الكفر ، فلا يحتاج إلى تكلف.
إن الحال هو العلم بهذه الجملة.
وعلى هذا الذي شرحناه يكون قوله تعالى : { ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون } جملاً أخبر الله تعالى بها مستأنفة لا داخلة تحت الحال ، ولذلك غاير فيها بحرف العطف وبصيغة الفعل عما قبلها من الحرف والصيغة.
ومن جعل العلم بمضمون هذه الجمل هو الحال ، جعل تمكنهم من العلم بالإحياء الثاني والرجوع لما نصب على ذلك من الدلائل التي توصل إليه بمنزلة حصول العلم.
فحصوله بالإماتتين والإحياء الأول ، وكثير من الناس علموا ثم عاندوا ، وفي ترتيب هاتين الموتتين والحياتين اللاتي ذكر الله تعالى وامتن عليها بها أقوال : الأول : أن الموت الأول : العدم السابق قبل الخلق ، والإحياء الأول : الخلق ، والموت الثاني : المعهود في دار الدنيا ، والحياة الثانية : البعث للقيامة ، قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد.
الثاني : أن الموت الأول : المعهود في الدنيا ، والإحياء الأول : هو في القبر للمسألة ، والموت الثاني : في القبر بعد المسألة ، والإحياء الثاني : البعث ، قاله ابن عباس وأبو صالح.
الثالث : أن الموت الأول : كونهم في أصلاب آبائهم ، والإحياء الأول : الإخراج من بطون الأمهات ، والموت الثاني : المعهود ، والإحياء الثاني : البعث ، قاله قتادة.
الرابع : أن الموت الأول : هو الذي اعتقب إخراجهم من صلب آدم نسماً كالذر ، والإحياء الأول : إخراجهم من بطون أمهاتهم ، والموت الثاني : المعهود ، والإحياء : البعث ، قاله ابن زيد.

الخامس : أن الموت الأول : مفارقة نطفة الرجل إلى الرحم فهي ميتة إلى نفخ الروح فيحييها بالنفخ ، والموت الثاني : المعهود ، والإحياء الثاني : البعث.
السادس : أن الموت الأول هو الخمول ، والإحياء الأول : الذكر والشرف بهذا الدين والنبي الذي جاءكم ، والموت الثاني : المعهود ، والإحياء الثاني : البعث ، قاله ابن عباس.
السابع : أن الموت الأول : كون آدم من طين ، والإحياء الأول : نفخ الروح فيه فحييتم بحياته ، والموت الثاني : المعهود ، والإحياء الثاني : البعث.
واختار ابن عطية القول الأول وقال : هو أولى الأقوال ، لأنه لا محيد للكفار عن الإقرار به في أول ترتيبه ، ثم إن قوله : وكنتم أمواتاً ، وإسناده آخراً الإماتة إليه ، مما يقوي ذلك القول ، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتاً معدومين ثم للإحياء في الدنيا ثم للإماتة فيها ، قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها.
انتهى كلامه ، وهو كلام حسن.
وللمنسوبين إلى علم الحقائق أقوال تخالف ما تقدم : أحدها : أمواتاً بالشرك فأحياكم بالتوحيد.
الثاني : أمواتاً بالجهل فأحياكم بالعلم.
الثالث : أمواتاً بالاختلاف فأحياكم بالائتلاف.
الرابع : أمواتاً بحياة نفوسكم وإماتتكم بإماتة نفوسكم وإحياء قلوبكم.
الخامس : أمواتاً عنه فأحياكم به ، قاله الشبلي.
السادس : أمواتاً بالظواهر فأحياكم بمكاشفة السرائر ، قاله ابن عطاء.
السابع : أمواتاً بشهودكم فأحياكم بمشاهدته ثم يميتكم عن شواهدكم ثم يحييكم بقيام الحق عنه ثم إليه ترجعون من جميع ما لكم ، قاله فارس.
واختار الزمخشري : أن الموت الأول كونهم نطفاً في أصلاب آبائهم فجعلهم أحياء ، ثم يميتهم بعد هذه الحياة ، ثم يحييهم بعد الموت ، ثم يحاسبهم.
وجوز أيضاً أن يكون المراد بالإحياء الثاني : الإحياء في القبر ، وبالرجوع : النشور ، وأن يراد بالإحياء الثاني أيضاً النشور ، وبالرجوع : المصير إلى الجزاء.
وهذا الذي جوز أن يراد به الإحياء في القبر لا يفهم منه أنه يحيا للمسألة في القبر ، ولا لأن ينعم فيه أو يعذب لأنه ليس مذهبه ، لأن المعتزلة وأتباعهم أنكروا عذاب القبر ، وأهل السنة والكرامية أثبتوه بلا خلاف بينهم ، إلا أن أهل السنة يقولون : يحيا الميت الكافر فيعذب في قبره ، والفاسق يجوز أن يعذب في قبره ، والكرامية تقول : يعذب وهو ميت.
والأحاديث الصحيحة قد استفاضت بعذاب القبر ، فوجب القول به واعتقاده.
واختار صاحب المنتخب أن المراد بقوله : أمواتاً أي تراباً ونطفاً ، لأن ابتداء خلق آدم من التراب ، وخلق سائر المكلفين من أولاده ، إلا عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، من النطف.
قال : واختلفوا ، فالأكثرون على أن إطلاق اسم الميت على الجماد مجاز ، لأن الميت من يحله الموت ، ولا بد أن يكون بصفة من يجوز أن يكون حياً في العادة ، والقول بأنه حقيقة في الجماد مروي عن قتادة ، انتهى كلامه.

وتفسيره الأموات بالتراب والنطف لا يظهر ذلك في التراب ، لأن المخلوق من التراب لم يتصف بالصفة التي أنكرت أو تعجب منها وقتاً قط ، فكيف يندرج في قوله : { وكنتم أمواتاً } ؟ والذي نختاره أن كونهم أمواتاً ، ومن وقت استقرارهم نطفاً في الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها ، وأن الحياة الأولى نفخ الروح بعد تلك الأطوار من النطفة والعلقة والمضغة واكتساء العظام لحماً.
والإماتة الثانية هي المعهودة ، والإحياء هو البعث بعد الموت.
ويكون الإحياء الأول والموت الأول ، والإحياء الثاني حقيقة ، وأما كونهم أمواتاً ، فمن ذهب إلى أن الجماد يوصف بالموت حقيقة فيكون إذ ذاك حقيقة ، ومن ذهب إلى المجاز فهو مجاز سائغ قريب ، لأنه على كل حال موجود ، فقرب اتصافه بالموت ، بخلاف من زعم أنه أريد به كونه معدوماً وكونه في الصلب.
أو حين كان آدم طيناً ، فإن المجاز في ذلك بعيد لأن ذلك عدم صرف ، والعدم الذي لم يسبقه وجود يبعد فيه أن يسمى موتاً ، ألا ترى ما أطلق عليه في اللفظ لفظ الموت مما لا تحله الحياة كيف يكون موجوداً لا عدماً صرفاً؟ { وآية لهم الأرض الميتة } { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } { إن الذي أحياها لمحيي الموتى } { وجعلنا من الماء كل شيء حيّ } وتقول العرب : أرض موات.
وأما قول من ذهب إلى أن الموت الأول : هو الخمول ، والإحياء الأول : هو التنويه والذكر ، فمجاز بعيد هنا ، لأنه متى أمكن الحمل على الحقيقة أو المجاز الحقيقة أو المجاز القريب كان أولى.
وقد أمكن ذلك بما ذكرناه ، ثم أكثر تلك الأقاويل يبعد فيها التعقيب بالفاء في قوله : فأحياكم ، لأن بين ذاك الموت والإحياء مدة طويلة ، وعلى ما اخترناه تكون الفاء دالة على معناها من التعقيب.
ومن قال : إن الموت الأول : هو المعهود ، والإحياء الأول هو للمسألة ، فيكون فيه الماضي قد وضع موضع المستقبل مجاز التحقق وقوعه ، أي وتكونون أمواتاً فيحييكم ، كقوله : { أتى أمر الله }.
وقد استدل بهذه الآية قوم على نفي عذاب القبر ، لأنه ذكر تعالى موتتين وحياتين ، ولم يذكر حياة بين إحيائهم في الدنيا وإحيائهم في الآخرة.
قالوا : ولا يجوز أن يستدل بقوله تعالى : { ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } لأنه من كلام الكفار ، ولأن كثيراً من الناس أثبتوا حياة الذر في صلب آدم.
والجواب : أنه لا يلزم من عدم ذكر هذه الحياة للمسألة عدمها قبل وأيضاً ، فيمكن أن يكون قوله : ثم يحييكم هو للمسألة ، ولذلك قال : ثم إليه ترجعون ، فعطف بثم التي تقتضي التراخي في الزمان.
والرجوع إلى الله تعالى حاصل عقب الحياة التي للبعث ، فدل ذلك على أن تلك الحياة المذكورة هي للمسألة.
قال الحسن : ذكر الموت مرتين هنا لأكثر الناس ، وأما بعضهم فقد أماتهم ثلاث مرات ، { أو كالذي مر على قرية }

الآيات.
وفي قوله تعالى : { فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم } دليل على اختصاصه تعالى بذلك ، ودليل على النشر والحشر.
والظاهر في قوله تعالى : { ثم إليه ترجعون } أن الهاء عائدة على الله سبحانه وتعالى ، لأن الضمائر السابقة عائدة عليه تعالى ، ويكون ذلك على حذف مضاف ، أي إلى جزائه من ثواب أو عقاب.
وقيل : عائدة على الجزاء على الأعمال.
وقيل : عائدة على الموضع الذي يتولى الله الحكم بينكم فيه.
وقيل : عائدة على الإحياء المدلول عليه بقوله : فأحياكم.
وشرح هذا أنكم ترجعون بعد الحياة الثانية إلى الحال التي كنتم عليها في ابتداء الحياة الأولى ، من كونكم لا تملكون لأنفسكم شيئاً.
واستدلت المجسمة بقوله : { ثم إليه ترجعون } ، على أنه تعالى في مكان ولا حجة لهم في ذلك.
وقرأ الجمهور : ترجعون مبنياً للمفعول من رجع المتعدي.
وقرأ مجاهد ، ويحيى بن يعمر ، وابن أبي إسحاق ، وابن محيصن ، والفياض بن غزوان ، وسلام ، ويعقوب : مبنياً للفاعل ، حيث وقع في القرآن من رجع اللازم ، لأن رجع يكون لازماً ومتعدياً.
وقراءة الجمهور أفصح ، لأن الإسناد في الأفعال السابقة هو إلى الله تعالى ، { فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم } ، فكان سياق هذا الإسناد أن يكون الفعل في الرجوع مسنداً إليه ، لكنه كان يفوت تناسب الفواصل والمقاطع ، إذ كان يكون الترتيب : { ثم إليه مرجعكم } فحذف الفاعل للعلم به وبنى الفعل للمفعول حتى لا يفوت التناسب اللفظي.
وقد حصل التناسب المعنوي بحذف الفاعل ، إذ هو وقبل البناء للمفعول مبني للفاعل.
وأما قراءة مجاهد ، ومن ذكر معه ، فإنه يفوت التناسب المعنوي ، إذ لا يلزم من رجوع الشخص إلى شيء أن غيره رجعه إليه ، إذ قد يرجع بنفسه من غير رادّ.
والمقصود هنا إظهار القدرة والتصرف التام بنسبة الإحياء والإماتة ، والإحياء والرجوع إليه تعالى ، وإن كنا نعلم أن الله تعالى هو فاعل الأشياء جميعها.
وفي قوله تعالى : { ثم إليه ترجعون } من الترهيب والترغيب ما يزيد المسيء خشية ويرده عن بعض ما يرتكبه ، ويزيد المحسن رغبة في الخير ويدعوه رجاؤه إلى الازدياد من الإحسان ، وفيها رد على الدهرية والمعطلة ومنكري البعث ، إذ هو بيده الإحياء والإماتة والبعث وإليه يرجع الأمر كله.
{ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } : مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وهو أنه لما ذكر أن من كان منشئاً لكم بعد العدم ومفنياً لكم بعد الوجود وموجداً لكم ثانية ، إما في جنة ، وإما إلى نار ، كان جديراً أن يعبد ولا يجحد ، ويشكر ولا يكفر.
ثم أخذ يذكرهم عظيم إحسانه وجزيل امتنانه من خلق جميع ما في الأرض لهم ، وعظيم قدرته وتصرفه في العالم العلوي ، وأن العالم العلوي والعالم السفلي بالنسبة إلى قدرته على السواء ، وأنه عليم بكل شيء.

ولفظة هو من المضمرات وضع للمفرد المذكر الغائب ، وهو كلي في الوضع كسائر المضمرات ، جرى في النسبة المخصوصة حالة الاستعمال ، فما من مفرد مذكر غائب إلا ويصح أن يطلق عليه هو ، ولكن إذا أسند لهذا الاسم شيء تعين.
ومشهور لغات العرب تخفيف الواو مفتوحة ، وشددتها همدان ، وسكنتها أسد وقيس ، وحذف الواو مختص بالشعر.
ولهؤلاء المنسوبين إلى علم الحقائق وإلى التصوف كلام غريب بالنسبة لمعقولنا ، رأيت أن أذكره هنا ليقع الذكر فيه.
قالوا : أسماء الله تعالى على ثلاثة أقسام : مظهرات ، ومضمرات ، ومستترات.
فالمظهرات : أسماء ذات ، وأسماء صفات ، وهذه كلها مشتقة ، وأسماء الذات مشتقة وهي كثيرة ، وغير المشتق واحد وهو الله.
وقد قيل : إنه مشتق ، والذي ينبغي اعتقاده أنه غير مشتق ، بل اسم مرتجل دال على الذات.
وأما المضمرات فأربعة : أنا في مثل : { الله لا إله إلا أنا } ، وأنت في مثل : { لا إله إلا أنت سبحانك } ، وهو في مثل : { هو الذي خلق لكم } ونحن في مثل : { نحن نقص عليك } قالوا : فإذا تقرر هذا فالله أعظم أسمائه المظهرات الدالة على الذات ، ولفظة هو من أعظم أسمائه المظهرات والمضمرات للدلالة على ذاته ، لأن أسماءه المشتقة كلها لفظها متضمن جواز الاشتراك لاجتماعهما في الوصف الخاص ، ولا يمنع أن يكون أحد الوصفين حقيقة والآخر مجازاً من الاشتراك ، وهو اسم من أسماء الله تعالى ينبىء عن كنه حقيقته المخصوصة المبرأة عن جميع جهات الكثرة من حيث هو هو.
فلفظة هو توصلك إلى الحق وتقطعك عما سواه ، فإنك لا بد أن يشرك مع النظر في معرفة ما يدل عليه الاسم المشتق النظر في معرفة المعنى الذي يشتق منه ، وهذا الاسم لأجل دلالته على الذات ينقطع معه النظر إلى ما سواه ، اختاره الجلة من المقربين مداراً لذكرهم ومناراً لكل أمرهم فقالوا : يا هو ، لأن لفظة هو إشارة بعين المشار إليه بشرط أن لا يحضر هناك شيء سوى ذلك الواحد ، والمقربون لا يخطر في عقولهم وأرواحهم موجود آخر سوى الذي دلت عليه إشارته ، وهو اسم مركب من حرفين وهما : الهاء والواو ، والهاء أصل والواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية ، والجمع في هما وهم ، والأصل حرف واحد يدل على الواحد الفرد.
انتهى ما نقل عن بعض من عاصرناه في هو بالنسبة إلى الله تعالى مقرراً لما ذكروه ومعتقداً لما حبروه.
ولهم في لفظة أنا وأنت وهو كلام غريب جداً بعيد عما تكلم عليها به أهل اللغة والعربية ، وحديث هؤلاء المنتمين إلى هذه العلوم لم يفتح لي فيه ببارقة ، ولا ألممت فيه إلى الآن بغادية ولا طارقة ، نسأل الله تعالى أن ينور بصائرنا بأنوار الهداية ، وأن يجنبنا مسالك الغواية ، وأن يلهمنا إلى طريق الصواب ، وأن يرزقنا اتباع الأمرين النيرين : السنة والكتاب.

ولكم : متعلق بخلق ، واللام فيه ، قيل : للسبب ، أي لأجلكم ولانتفاعكم ، وقدر بعضهم لاعتباركم.
وقيل : للتمليك والإباحة ، فيكون التمليك خاصاً ، وهو تمليك ما ينتفع الخلق به وتدعو الضرورة إليه.
وقيل : للاختصاص ، وهو أعم من التمليك ، والأحسن حملها على السبب فيكون مفعولاً من أجله لأنه بما في الأرض يحصل الانتفاع الديني والدنيوي.
فالديني : النظر فيه وفيما فيه من عجائب الصنع ولطائف الخلق الدالة على قدرة الصانع وحكمته ومن التذكير بالآخرة والجزاء ، وأما الدنيوي : فظاهر ، وهو ما فيه من المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمركب والمناظر البهية وغير ذلك.
وقد استدل بقوله : { خلق لكم } ، من ذهب إلى أن الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة ، فلكل أحد أن ينتفع بها ، وإذا احتمل أن يكون اللام لغير التمليك والإباحة ، لم يكن في ذلك دليل على ما ذهبوا إليه.
وقد ذهب قوم إلى أن الأشياء قبل ورود الشرع على الحظر ، فلا يقدم على شيء إلا بإذن.
وذهب قوم إلى أن الوقف لنا تعارض عندهم دليل القائلين بالإباحة ، ودليل القائلين بالحظر قالوا بالوقف.
وحكى أبو بكر بن فورك عن ابن الصائغ أنه قال : لم يخل العقل قط من السمع ، فلا نازلة إلا وفيها سمع ، أو لها تعلق به أثر لها حال تستصحب ، وإذا جعلنا اللام للسبب ، فليس المعنى أن الله فعل شيئاً لسبب ، لكنه لما فعل ما لو فعله غيره لفعله لسبب أطلق عليه لفظ السبب واندرج تحت قوله : { ما في الأرض جميعاً } ، جميع ما كانت الأرض مستقراً له من الحيوان والنبات والمعدن والجبال ، وجميع ما كان بواسطة من الحرف والأمور المستنبطة.
واستدل بعضهم بذلك على تحريم الطين ، قال : لأنه خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض.
وقد تقدم قبل هذا الإمتنان بجعل الأرض لنا فراشاً ، وهنا امتن بخلق ما فيها لنا وانتصب جميعاً على الحال من المخلوق ، وهي حال مؤكدة لأن لفظة ما في الأرض عام ، ومعنى جميعاً العموم.
فهو مرادف من حيث المعنى للفظة كل كأنه قيل : ما في الأرض كله ، ولا تدل على الاجتماع في الزمان ، وهذا هو الفارق بين معاً وجميعاً.
وقد تقدم شيء من ذلك عند الكلام على مع ، ومن زعم أن المعنى بقوله : ما في الأرض ، الأرض وما فيها ، فهو بعيد عن مدلول اللفظ ، لكنه تفسير معنى من هذا اللفظ ، ومن قوله تعالى : { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } فانتظم من هذين الأرض وما فيها خلق الله ذلك لنا.
وقال الزمخشري : إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء ، كما تذكر السماء ، ويراد بها الجهات العلوية ، جاز ذلك ، فإن الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية.
وقال بعض المنسوبين للحقائق : خلق لكم ليعد نعمه عليكم ، فتقتضي الشكرمن نفسك لتطلب المزيد منه.
وقال أبو عثمان : وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده وتسكن إلى ما ضمنه لك من جزيل العطاء في المعاد ، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك ، فإنه قد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وقبل التوحيد.

وقال ابن عطاء : خلق لكم ليكون الكون كله لك وتكون لله فلا تشتغل بما لك عما أنت له.
وقال بعض البغداديين : أنعم عليك بها ، فإن الخلق عبدة النعم لاستيلاء النعم عليهم ، فمن ظهر للحضرة أسقط عنه المنعم رؤية النعم.
وقال الثوري : أعلى مقامات أهل الحقائق الانقطاع عن العلائق : { ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سموات } : والعطف بثم يقتضي التراخي في الزمان ، ولا زمان إذ ذاك ، فقيل : أشار بثم إلى التفاوت الحاصل بين خلق السماء والأرض في القدر ، وقيل : لما كان بين خلق الأرض والسماء أعمال من جعل الرواسي والبركة فيها وتقدير الأقوات عطف بثم ، إذ بين خلق الأرض والاستواء تراخ يدل على ذلك : { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } الآية.
استوى أهل الحجاز على الفتح ، ونجد على الإمالة.
وقرىء في السبعة بهما ، وفي الاستواء هنا سبعة أقوال : أحدها : أقبل وعمد إلى خلقها وقصد من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر ، وهو استعارة من قولهم : استوى إليه كالسهم المرسل ، إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء ، قال معناه الفراء ، واختاره الزمخشري ، وبين ما الذي استعير منه.
الثاني : علا وارتفع من غير تكييف ولا تحديد ، قاله الربيع بن أنس ، والتقدير : علا أمره وسلطانه ، واختاره الطبري.
الثالث : أن يكون إلى بمعنى على ، أي استوى على السماء ، أي تفرد بملكها ولم يجعلها كالأرض ملكاً لخلقه ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :
فلما علونا واستوينا عليهم . . .
تركناهم صرعى لنسر وكاسر
ومعنى هذا الاستيلاء كما قال الشاعر :
قد استوى بشر على العراق . . .
من غير سيف ودم مهراق
الرابع : أن المعنى تحول أمره إلى السماء واستقر فيها ، والاستواء هو الاستقرار ، فيكون ذلك على حذف مضاف ، أي ثم استوى أمره إلى السماء ، أي استقر لأن أوامره وقضاياه تنزل إلى الأرض من السماء ، قاله الحسن البصري.
والخامس : أن المعنى استوى بخلقه واختراعه إلى السماء ، قاله ابن كيسان ، ويؤول المعنى إلى القول الأول.
السادس : أن المعنى كمل صنعه فيها ، كما تقول : استوى الأمر ، وهذا ينبو اللفظ عن الدلالة عليه.
السابع : أن الضمير في استوى عائد على الدخان ، وهذا بعيد جدًّا يبعده قوله تعالى : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } واختلاف الضمائر وعوده على غير مذكور ، ولا يفسره سياق الكلام.
وهذه التأويلات كلها فرار عما تقرر في العقول من أن الله تعالى يستحيل أن يتصف بالانتقال المعهود في غيره تعالى ، وأن يحل فيه حادث أو يحل هو في حادث ، وسيأتي الكلام على الاستواء بالنسبة إلى العرش ، إن شاء الله تعالى.

ومعنى التسوية : تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور ، أو إتمام خلقهن وتكميله من قولهم : درهم سواء ، أي وازن كامل تام ، أو جعلهن سواء من قوله : { إذ نسوّيكم بربِّ العالمين } أو تسوية سطوحها بالإملاس.
والضمير في فسوّاهن عائد على السماء على أنها جمع سماوة ، أو على أنه اسم جنس فيصدق إطلاقه على الفرد والجمع ، ويكون مراداً به هنا الجمع.
قال الزمخشري ، والضمير في فسواهن ضمير مبهم.
و { سبع سموات } تفسيره كقولهم : ربه رجلاً ، انتهى كلامه.
ومفهومه أنّ هذا الضمير يعود على ما بعده ، وهو مفسر به ، فهو عائد على غير متقدّم الذكر.
وهذا الذي يفسره ما بعده : منه ما يفسر بجملة ، وهو ضمير الشأن أو القصة ، وشرطها عند البصريين أن يصرح بجزأيها ، ومنه ما يفسر بمفرد ، أي غير جملة ، وهو الضمير المرفوع بنعم وبئس وما جرى مجراهما.
والضمير المجرور بربّ ، والضمير المرفوع بأول المتنازعين على مذهب البصريين ، والضمير المجعول خبره مفسراً له ، والضمير الذي أبدل منه مفسره في إثبات هذا القسم الأخير خلاف ، وذلك نحو : ضربتهم قومك ، وهذا الذي ذكره الزمخشري ليس واحداً من هذه الضمائر التي سردناها ، إلا أن تخيل فيه أن يكون سبع سموات بدلاً منه ومفسراً له ، وهو الذي يقتضيه تشبيه الزمخشري له بربه رجلاً ، وأنه ضمير مبهم ليس عائداً على شيء قبله ، لكن هذا يضعف بكون هذا التقدير يجعله غير مرتبط بما قبله ارتباطاً كلياً ، إذ يكون الكلام قد تضمن أنه تعالى استوى على السماء ، وأنه سوى سبع سموات عقيب استوائه السماء ، فيكون قد أخبر بإخبارين : أحدهما استواؤه إلى السماء والآخر : تسويته سبع سموات.
وظاهر الكلام أن الذي استوى إليه هو بعينه المستوي سبع سموات.
وقد أعرب بعضهم سبع سموات بدلاً من الضمير على أن الضمير عائد على ما قبله ، وهو إعراب صحيح ، نحو : أخوك مررت به زيد ، وأجازوا في سبع سموات أن يكون منصوباً على المفعول به ، والتقدير : فسوى منهن سبع سموات ، وهذا ليس بجيد من حيث اللفظ ومن حيث المعنى.
أما من حيث اللفظ فإن سوى ليس من باب اختار ، فيجوز حذف حرف الجر منه في فصيح الكلام ، وأما من حيث المعنى فلأنه يدل على أن السموات كثيرة ، فسوى منهن سبعاً ، والأمر ليس كذلك ، إذ المعلوم أن السموات سبع.
وأجازوا أيضاً أن يكون مفعولاً ثانياً لسوى ، ويكون معنى سوى : صير ، وهذا ليس بجيد ، لأن تعدى سوى لواحد هو المعلوم في اللغة ، { فسوَّاك فعدلك } { قادرين على أن نُسَوِّي بنانه } وأما جعلها بمعنى صير ، فغير معروف في اللغة.
وأجازوا أيضاً النصب على الحال ، فتلخص في نصب سموات أوجه البدل باعتبارين ، والمفعول به ، ومفعول ثان ، وحال ، والمختار البدل باعتبار عود الضمير على ما قبله والحال ، ويترجح البدل بعدم الاشتقاق.

وقد اختلف أهل العلم في أيهما خلق قبل ، فمنهم من قال : السماء خلقت قبل الأرض ، ومنهم من قال : الأرض خلقت قبل السماء ، وكل تعلق في الاستدلال بظواهر آيات يأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى.
والذي تدل عليه هذه الآية أن خلق ما في الأرض لنا متقدم على تسوية السماء سبعاً لا غير ، والمختار أن جرم الأرض خلق قبل السماء ، وخلقت السماء بعدها ، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء ، وبهذا يحتمل الجمع بين الآيات.
وقال بعضهم : وإنما خلق السموات سبعاً ، لأن السبعة والسبعين فيه دلالة على تضاعيف القوة والشدة ، كأنه ضوعف سبع مرات.
ومن شأن العرب أن يبالغوا بالسبعة والسبعين من العدد ، لما في ذكرها من دليل المضاعفة.
قال تعالى : { ذرعها سبعون ذراعاً } { إن تستغفر لهم سبعين مرة } والسبعة تذكر في جلائل الأمور : الأيام سبعة ، والسموات سبع ، والأرض سبع ، والنجوم التي هي أعلام يستدل بها سبعة : زُحل ، والمشتري ، وعطارد ، والمريخ ، والزهرة ، والشمس ، والقمر ، والبحار سبعة ، وأبواب جهنم.
وتسكين الهاء في هو وهي بعد الواو والفاء واللام وثم جائز ، وقل بعد كاف الجر وهمزة الاستفهام ، وندر بعد لكن ، في قراءة أبي حمدون ، { لكن هو الله ربي } ، وهو تشبيه بتسكين سبع وكرش ، شبه الكلمتان بالكلمة.
{ وهو بكل شيء عليم } : وقرأ بتسكين { وهو } أبو عمرو والكسائي وقالون ، وقرأ الباقون بضم الهاء على الأصل.
ووقف يعقوب على وهو بالهاء نحو : وهوه { بكل } متعلق بقوله : { عليم } ، وكان القياس التعدي باللام حالة التقديم ، أو بنفسه.
وأما حالة التأخير فبنفسه لأنه من فعل متعد ، وهو أحد الأمثلة الخمسة التي للمبالغة ، وقد حدث فيها بسبب المبالغة من الأحكام في فعلها ولا في اسم الفاعل ، وذلك أن هذا المبني للمبالغة المتعدي ، إما أن يكون فعله متعدياً بنفسه ، أو بحرف جر ، فإن كان متعدياً بحرف جر تعدى المثال بحرف الجر نحو : زيد صبور على الأذى زهيد في الدنيا ، لأن صبر يتعدى بعلى ، وزهد يتعدى بفي ، وإن كان متعدياً بنفسه ، فإما أن يكون ما يفهم علماً وجهلاً ، أو لا.
إن كان مما يفهم علماً أو جهلاً تعدى المثال بالباء نحو : زيد عليم بكذا ، وجهول بكذا ، وخبير بذلك ، وإن كان لا يفهم علماً ولا جهلاً فيتعدى باللام نحو قوله تعالى : { فعال لما يريد } وفي تعديها لما بعدها بغير الحرف ونصبها له خلاف مذكور في النحو ، وإنما خالفت هذه الأمثلة التي للمبالغة أفعالها المتعدية بنفسها ، لأنها بما فيها من المبالغة أشبهت أفعل التفضيل ، وأفعل التفضيل حكمه هكذا.
قال تعالى : { ربكم أعلم بكم } وقال الشاعر :
أعطى لفارهة حلو مراتعها . . .
وقال :
أكر وأحمى للحقيقة منهم . . .
فإن جاء بعده ما ظاهره أنه منصوب به نحو : قوله تعالى { إن ربك هو أعلم من يضل } وقول الشاعر :

وأضرب منا بالسيوف القوانسا . . .
أول بأنه معمول لفعل محذوف يدل عليه أفعال التفضيل.
{ شيء } : قد تقدم اختلاف الناس في مدلول شيء.
فمن أطلقه على الموجود والمعدوم كان تعلق العلم بهما من هذه الآية ظاهراً ، ومن خصه بالموجود فقط كان تعلق علمه تعالى بالمعدوم مستفاداً من دليل آخر غير هذه الآية.
{ عليم } ؛ قد ذكرنا أنه من أمثلة المبالغة ، وقد وصف تعالى نفسه بعالم وعليم وعلام ، وهذان للمبالغة.
وقد أدخلت العرب الهاء لتأكيد المبالغة في علامة ، ولا يجوز وصفه به تعالى.
والمبالغة بأحد أمرين : أما بالنسبة إلى تكرير وقوع الوصف سواء اتحد متعلقه أم تكثر ، وأما بالنسبة إلى تكثير المتعلق لا تكثير الوصف.
ومن هذا الثاني المبالغة في صفات الله تعالى ، لأن علمه تعالى واحد لا تكثير فيه ، فلما تعلق علمه تعالى بالجميع كلية وجزئية دقيقة ، وجليلة معدومة وموجودة ، وصف نفسه تعالى بالصفة التي دلت على المبالغة ، وناسب مقطع هذه الآية بالوصف بمبالغة العلم ، لأنه تقدم ذكر خلق الأرض والسماء والتصرف في العالم العلوي والسفلي وغير ذلك من الإماتة والإحياء ، وكل ذلك يدل على صدور هذه الأشياء عن العلم الكامل التام المحيط بجميع الأشياء.
وقال بعض الناس : العليم من كان علمه من ذاته ، والعالم من كان علمه متعدياً من غيره ، وهذا ليس بجيد لأن الله تعالى قد وصف نفسه بالعالم ، ولم يكن علمه بتعلم.
وفي تعميم قوله تعالى : { بكل شيء عليم } رد على من زعم أن علم الله تعالى متعلق بالكليات لا بالجزئيات ، تعالى الله عن ذلك.
وقالوا : علم الله تعالى يتميز على علم عباده بكونه واحداً يعلم به جميع المعلومات ، وبأنه لا يتغير بتغيرها ، وبأنه غير مستفاد من حاسة ولا فكر ، وبأنه ضروري لثبوت امتناع زواله ، وبأنه تعالى لا يشغله علم عن علم ، وبأن معلوماته تعالى غير متناهية.
وفي قولهم لا يشغله علم عن علم ، يريدون ، معلوم عن معلوم ، لأنه قد تقدم أن علم الله واحد ولا يشغله تعلق علم شيء عن تعلقه بشيء آخر.
وتضمن قوله تعالى : { إن الله لا يستحيي } إلى آخر قوله : { وهو بكل شيء عليم } : أن ما ضرب به المثل في كتابه : من مستوقد النار ، والصيب ، والذباب ، والعنكبوت ، وما يجري مجرى ذلك ، فيه عجائب من الحكم الخفية ، والجلية ، وبدائع الفصاحة العربية ، وموافقة المثل لما ضرب به ، وأنه لا يحسن في مثله إلا مثله ، وأنه تعالى لا يترك ذلك لما فيه من الحكم ومدح من عرف أن ذلك حق ، وذم من أنكره وعابه ، وأن في ضربه هدى لمن آمن ، وضلالاً لمن صد عنه ، وذم من نقض عهد الله وقطع ما يجب أن يوصل ، وأفسد في الأرض ، وإعلامه بأن ذلك سبب خسرانه ، والإعلام أن ناقضي عهده هو تعالى قادر على إحيائهم بعد الموت ، كما كان قادراً على إيجادهم بعد العدم ، وأنه جامعهم وباعثهم ومجازيهم بأعمالهم ، وفي ذلك أشد التخويف والتهديد.
ثم بعد التخويف ذكرهم تعالى بنعمه التي أنعمها عليهم : من خلق الأرض المقلة ، والسماء المظلة ، والمخلوقات المتعددة التي ينتفعون بها ويعتبرون بها ، ليجمع بذلك بين الترهيب والترغيب ، وهذه هي الموعظة التي يتعظ بها ذو العقل السليم والذهن المستقيم.
ثم ختم ذلك بالفضل الأكبر من إعلامهم بإحاطة علمه بجميع الأشياء من الابتداء إلى الانتهاء.

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

إذ : اسم ثنائي الوضع مبني لشبهه بالحرف وضعاً أو افتقاراً ، وهو ظرف زمان للماضي ، وما بعده جملة اسمية أو فعلية ، وإذا كانت فعلية قبح تقديم الاسم على الفعل وإضافته إلى المصدرة بالمضارع ، وعمل المضارع فيه مما يجعل المضارع ماضياً ، وهو ملازم للظرفية إلا أن يضاف إليه زمان ، ولا يكون مفعولاً به ، ولا حرفاً للتعليل أو المفاجأة ، ولا ظرف مكان ، ولا زائدة ، خلافاً لزاعمي ذلك ، ولها أحكام غير هذا ذكرت في النحو.
الملك : ميمه أصلية وهو فعل من الملك ، وهو القوة ، ولا حذف فيه ، وجمع على فعائله شذوذاً ، قاله أبو عبيدة ، وكأنهم توهموا أنه ملاك على وزن فعال ، وقد جمعوا فعالاً المذكر ، والمؤنث على فعائل قليلاً.
وقيل وزنه في الأصل فعأل نحو شمأل ثم نقلوا الحركة وحذفوا ، وقد جاء فيه ملأك ، فيحتمل أن يكون فعأ ، وعلى هذا تكون الهمزة زائدة في فاء الكلمة وعينها ، فمنهم من قال : الفاء لام ، والعين همزة ، من لاك إذا أرسل ، وهي لغة محكية ، فملك أصله ملأك ، فخفف بنقل الحركة والحذف إلى فعل ، قال الشاعر :
فلست لإنسى ولكن لملأك . . .
تنزل من جو السماء يصوب
فجاء به على الأصل ، وهذا قول أبي عبيدة ، واختاره أبو الفتح ، وملائكة على هذا القول مفاعلة.
ومنهم من قال الفاء همزة ، والعين لام من الألوكة ، وهي الرسالة ، فيكون على هذا أصله مألكاً ، ويكون ملأك مقلوباً ، جعلت فاؤه مكان عينه ، وعينه مكان فائه ، فعلى هذا القول يكون في وزنه معلاً.
ومنهم من قال : الفاء لام ، والعين واو ، ومن لاك الشيء : أداره في فيه ، وصاحب الرسالة يديرها في فيه ، فهو مفعل من ذلك ، نحو : معاذ ، ثم حذفوا العين تخفيفاً.
فعلى هذا القول يكون وزنه معلاً ، وملائكة على القول مفاعلة ، والهمزة أبدلت من واو كما أبدلت في مصائب.
وقال النضر بن شميل : الملك لا تشتق العرب فعله ولا تصرفه ، وهو مما فات علمه ، انتهى.
والتاء في الملائكة لتأنيث الجمع ، وقيل : للمبالغة ، وقد ورد بغير تاء ، قال الشاعر :
أنا خالد صلت عليك الملائك . . .
خليفة : فعيلة ، وفعيلة تأتي بمعنى الفاعل للمبالغة ، كالعليم ، أو بمعنى المفعول كالنطيحة ، والهاء للمبالغة.
السفك : الصب والإراقة ، لا يستعمل إلا في الدم ، ويقال : سفك وسفك وأسفك بمعنى ، ومضارع سفك يأتي على يفعل ويفعل.
الدماء : جمع دم ، ولأمه ياء أو واو محذوفة لقولهم : دميان ودموان ، وقصره وتضعيفه مسموعان من لسان العرب.
والمحذوف اللام ، قيل : أصله فعل ، وقيل : فعل ، التسبح : تنزيه الله وتبرئته عن السوء ، ولا يستعمل إلا لله تعالى ، وأصله من السبح ، وهو الجري.
والمسبح جار في تنزيه الله تعالى ، التقديس : التطهير ، ومنه بيت المقدس والأرض المقدسة ، ومنه القدس : السطل الذي يتطهر به ، والقداس : الجمان ، قال الشاعر :

كنظم قداس سلكه متقطع . . .
وقال الزمخشري : من قدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد.
علم : منقول من علم التي تتعدى لواحد ، فرقوا بينها وبين علم التي تتعدى لاثنين في النقل ، فعدوا تلك بالتضعيف ، وهذه بالهمزة ، قاله الأستاذ أبو علي الشلوبين ، وسيأتي لكلام عليه عند الشرح.
آدم : اسم أعجمي كآزر وعابر ، ممنوع الصرف للعلمية والعجمة ، ومن زعم أنه أفعل مشتق من الأدمة ، وهي كالسمرة ، أو من أديم الأرض ، وهو وجهها ، فغير صواب ، لأن الاشتقاق من الألفاظ العربية قد نص التصريفيون على أنه لا يكون في الأسماء الأعجمية ، وقيل : هو عبري من الأدام ، وهو التراب ، ومن زعم أنه فاعل من أديم الأرض فخطؤه ظاهراً لعدم صرفه ، وأبعد الطبري في زعمه أنه فعل رباعي سمي به.
العرض : إظهار الشيء حتى تعرف جهته.
الإنباء : الإخبار ، ويتعدى فعله الواحد بنفسه والثاني بحرف جر ، ويجوز حذف ذلك الحرف ، ويضمن معنى أعلم فيتعدى إلى ثلاثة.
هؤلاء : إسم إشارة للقريب ، وها : للتنبيه ، والاسم أولاء : مبني على الكسر ، وقد تبدل همزته هاء فيقال : هلاء ، قد يبنى على الضم فيقال : أولاء ، وقد تشبع الضمة قبل اللام فيقال : أولاء ، قاله قطرب.
وقد يقال : هؤلاء بحذف ألف ها وهمزة أولاء وإقرار الواو التي بعد تلك الهمزة ، حكاه الأستاذ أبو علي الشلوبين ، وأنشد قوله :
تجلد لا تقل هولاء هذا . . .
بكى لما بكى أسفاً عليكا
وذكر الفراء : أن المد في أولاء لغة الحجاز ، والقصر لغة تميم ، وزاد غيره أنها لغة بعض قيس وأسد ، وأنشد للأعشى :
هؤلاء ثم هؤلاء كلا . . .
أعطيت نعالاً محذوة بنعال
والهمزة عند أبي علي لام الفعل ، ففاؤه ولامه همزة ، وعند أبي العباس بدل من الياء وقعت بعد ألف فقلبت همزة.
سبحانك : معناه تنزيهك ، وسبحان اسم وضع موضع المصدر ، وهو مما ينتصب بإضمار فعل من معناه لا يجوز إظهاره ، وهو من الأسماء التي لزمت النصب على المصدرية ، ويضاف ويفرد ، فإذا أفرد كان منوناً ، نحو قول الشاعر :
سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به . . .
وقبلنا سبح الجودي والجمد
فقيل : صرفه ضرورة ، وقيل : لجعله نكرة غير منون ، نحو قول الشاعر :
أقول لما جاءني فخبره . . .
سبحان من علقمة الفاخر
جعله علماً فمنعه الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون.
وزعم بعض النحويين أنه إذا أفرد كان مقطوعاً عن الإضافة ، فعاد إليه التنوين ، ومن لم ينونه جعله بمنزلة قبل وبعد ، وقد ردّ هذا القول في كتب النحو.
الحكيم : فعيل بمعنى مفعل ، من أحكم الشيء : أتقنه ومنعه من الخروج عما يريده.
الإبداء : الإظهار ، والكتم : الإخفاء.
{ وإذ قال ربك للملائكة } : لم يرد في سبب نزول هذه الآيات شيء.
ومناسبتها لما قبلها أنه لما امتن عليهم بخلق ما في الأرض لهم ، وكان قبله إخراجهم من العدم إلى الوجود ، أتبع ذلك ببدء خلقهم ، وامتن عليهم بتشريف أبيهم وتكريمه وجعله خليفة وإسكانه دار كرامته ، وإسجاد الملائكة تعظيماً لشأنه وتنبيهاً على مكانه واختصاصه بالعلم الذي به كمال الذات وتمام الصفات ، ولا شك أن الإحسان إلى الأصل إحسان إلى الفرع ، وشرف الفرع بشرف الأصل.

واختلف المعربون في إذ ، فذهب أبو عبيدة وابن قتيبة إلى زيادتها ، وهذا ليس بشيء ، وكان أبو عبيدة وابن قتيبة ضعيفين في علم النحو.
وذهب بعضهم إلى أنها بمعنى قد ، التقدير : وقد قال ربك ، وهذا ليس بشيء ، وذهب بعضهم إلى أنه منصوب نصب المفعول به بأذكر ، أي واذكر : { إذ قال ربك } ، وهذا ليس بشيء ، لأن فيه إخراجها عن بابها ، وهو أنه لا يتصرف فيها بغير الظرفية ، أو بإضافة ظرف زمان إليها.
وأجاز ذلك الزمخشري وابن عطية وناس قبلهما وبعدهما ، وذهب بعضهم إلى أنها ظرف.
واختلوا ، فقال بعضهم : هي في موضع رفع ، التقدير : ابتداء خلقكم.
وقال بعضهم في موضع نصب ، التقدير : وابتداء خلقكم ، إذ قال ربك.
وناسب هذا التقدير لما تقدم قوله : { خلق لكم ما في الأرض جميعاً } وكلا هذين القولين لا تحرير فيه ، لأن ابتداء خلقنا لم يكن وقت قول الله للملائكة : { إني جاعل في الأرض خليفة } ، لأن الفعل العامل في الظرف لا بد أن يقع فيه ، أما أن يسبقه أو يتأخر عنه ، فلا لأنه لا يكون له ظرفاً.
وذهب بعضهم إلى أن إذ منصوب يقال بعدها ، وليس بشيء ، لأن إذ مضافة إلى الجملة بعدها والمضاف إليه لا يعمل في المضاف.
وذهب بعضهم إلى أن نصبها بأحياكم ، تقديره : { وهو الذي أحياكم } { إذ قال ربك } ، وهذا ليس بشيء لأنه حذف بغير دليل ، وفيه أن الإحياء ليس واقعاً في وقت قول الله للملائكة ، وحذف الموصول وصلته ، وإبقاء معمول الصلة.
وذهب بعضهم إلى أنه معمول لخلقكم من قوله تعالى : { اعبدوا ربكم الذي خلقكم } { إذ قال ربك } ، فتكون الواو زائدة ، ويكون قد فصل بين العامل والمعمول بهذه الجمل التي كادت أن تكون سوراً من القرآن ، لاستبداد كل آية منها بما سيقت له ، وعدم تعلقها بما قبلها التعلق الإعرابي.
فهذه ثمانية أقوال ينبغي أن ينزل كتاب الله عنها.
والذي تقتضيه العربية نصبه بقوله : { قالوا أتجعل } ، أي وقت قول الله للملائكة : { إني جاعل في الأرض } ، { قالوا أتجعل } ، كما تقول في الكلام : إذ جئتني أكرمتك ، أي وقت مجيئك أكرمتك ، وإذ قلت لي كذا قلت لك كذا.
فانظر إلى حسن هذا الوجه السهل الواضح ، وكيف لم يوفق أكثر الناس إلى القول به ، وارتبكوا في دهياء وخبطوا خبط عشواء.
وإسناد القول إلى الرب في غاية من المناسبة والبيان ، لأنه لما ذكر أنه خلق لهم ما في الأرض ، كان في ذلك صلاح لأحوالهم ومعايشهم ، فناسب ذكر الرب وإضافته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تنبيه على شرفه واختصاصه بخطابه ، وهز لاستماع ما يذكر بعد ذلك من غريب افتتاح هذا الجنس الإنساني ، وابتداء أمره ومآله.

وهذا تنويع في الخطاب ، وخروج من الخطاب العام إلى الخطاب الخاص ، وفي ذلك أيضاً إشارة لطيفة إلى أن المقبل عليه بالخطاب له الحظ الأعظم والقسم الأوفر من الجملة المخبر بها ، إذ هو في الحقيقة أعظم خلفائه ، ألا ترى إلى عموم رسالته ودعائه وجعل أفضل أنبيائه أمّ بهم ليلة إسرائه ، وجعل آدم فمن دونه يوم القيامة تحت لوائه ، فهو المقدم في أرضه وسمائه وفي دارَي تكليفه وجزائه.
واللام في للملائكة : للتبليغ ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها اللام ، فظاهر لفظ الملائكة العموم.
وقال بذلك قوم ، وقال قوم هو عام المراد به الخصوص ، وهم سكان الأرض من الملائكة بعد الجان.
وقيل : هم المحاربون مع إبليس.
ومعمول القول إني جاعل ، وكان ذلك مصدراً بأن ، لأن المقصود تأكيد الجملة المخبر بها ، وإن هذا واقع لا محالة وإن تكسر بعد القول ، ولفتحها بعده عند أكثر العرب شروط ذكرت في النحو ، وبنو سليم يفتحونها بعده من غير شرط ، وقال شاعرهم :
إذا قلت إني آيب أهل بلدة . . .
نزعت بها عنها الولية بالهجر
جاعل : اسم فاعل بمعنى الاستقبال ، ويجوز إضافته للمفعول إلا إذا فصل بينهما كهذا ، فلا يجوز ، وإذا جاز إعماله ، فهو أحسن من الإضافة ، نص على ذلك سيبويه ، وقال الكسائي : هما سواء ، والذي أختاره أن الإضافة أحسن ، وقد ذكرنا وجه اختيارنا ذلك في بعض ما كتبناه في العربية.
وفي الجعل هنا قولان : أحدهما : أنه بمعنى الخلق ، فيتعدى إلى واحد ، قاله أبو روق ، وقريب منه ما روي عن الحسن وقتادة أنه بمعنى فاعل ، ولم يذكر ابن عطية غير هذا.
والثاني : أنه بمعنى التصيير ، فيتعدى إلى اثنين.
والثاني هو في الأرض ، أي : مصير في الأرض خليفة ، قاله الفراء ، ولم يذكر الزمخشري غيره.
وكلا القولين سائغ ، إلا أن الأول عندي أجود ، لأنهم قالوا : { أتجعل فيها من يفسد فيها } ؟ فظاهر هذا أنه مقابل لقوله : { جاعل في الأرض خليفة }.
فلو كان الجعل الأول على معنى التصيير لذكره ثانياً ، فكان : أتجعل فيها خليفة من يفسد فيها؟ وإذا لم يأت كذلك ، كان معنى الخلق أرجح.
ولا احتياج إلى تقدير خليفة لدلالة ما قبله عليه ، لأنه إضمار ، وكلام بغير إضمار أحسن من كلام بإضمار ، وجعل الخبر اسم فاعل ، لأنه يدل على الثبوت دون التجدد شيئاً شيئاً.
والجعل : سواء كان بمعنى الخلق أو التصيير ، وكان آدم هو الخليفة على أحسن الفهوم ، لم يكن إلا مرة واحدة ، فلا تكرر فيه ، إذ لم يخلقه أو لم يصيره خليفة إلا مرة واحدة.
وقوله : في الأرض : ظاهره الأرض كلها ، وهو قول الجمهور.

وقيل : أرض مكة.
وروى ابن سابط هذا التفسير بأنها أرض مكة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن صح ذلك لم يعدل عنه ، قيل : ولذلك سمي وسطها بكة ، لأن الأرض بكت من تحتها ، واختصت بالذكر لأنها مقر من هلك قومه من الأنبياء ، ودفن بها نوح وهود وصالح بين المقام والركن ، وتكون الألف واللام فيها للعهد نحو : { فلن أبرح الأرض } { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض } { استضعفوا في الأرض } وقال الشاعر :
يقولون لي أرض الحجاز حديثة . . .
فقلت وما لي في سوى الأرض مطلب
وقرأ الجمهور : خليفة ، بالفاء ، ويحتمل أن يكون بمعنى الخالف ، ويحتمل أن يكون بمعنى المخلوف ، وإذا كان بمعنى الفاعل كان معناه : القائم مقام غيره في الأمر الذي جعل إليه.
والخليفة ، قيل : هو آدم لأنه خليفة عن الملائكة الذين كانوا في الأرض ، أو عن الجن بني الجان ، أو عن إبليس في ملك الأرض ، أو عن الله تعالى ، وهو قول ابن مسعود وابن عباس.
والأنبياء هم خلائف الله في أرضه ، واقتصر على آدم لأنه أبو الخلائف ، كما اقتصر على مضر وتميم وقيس ، والمراد القبيلة.
وقيل : ولد آدم لأنه يخلف بعضهم بعضاً : إذا هلكت أمة خلفتها أخرى ، قاله الحسن ، فيكون مفرداً أُريد به الجمع ، كما جاء : { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } { ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم } وقيل : الخليفة اسم لكل من انتقل إليه تدبير أهل الأرض والنظر في مصالحهم ، كما أن كل من ولى الروم : قيصر ، والفرس : كسرى ، واليمن : تبَّع.
وفي المستخلف فيه آدم قولان : أحدهما : الحكم بالحق والعدل.
الثاني : عمارة الأرض ، يزرع ويحصد ويبني ويجري الأنهار.
وقرأ زيد بن علي وأبو البرهسم عمران : خليقة ، بالقاف ومعناه واضح.
وخطاب الله الملائكة بقوله : { إني جاعل في الأرض خليفة } أن كان للملائكة الذين حاربوا مع إبليس الجن ، فيكون ذلك عاماً بأنه رافعهم إلى السماء ومستخلف في الأرض آدم وذريته.
وروي ما يدل على ذلك عن ابن عباس ، وهو ما ملخصه : أن الله أسكن الملائكة السماء ، والجن الأرض ، فعبدوا دهراً طويلاً ثم أفسدوا وحسدوا ، فاقتتلوا ، فبعث الله إليهم جنداً من الملائكة رأسهم إبليس ، وكان أشدهم وأعلمهم ، فهبطوا الأرض وطردوا الجن إلى شعف الجبال وبطون الأودية وجزائر البحور وسكنوها ، وخفف عنهم العبادة ، وأعطى الله إبليس ملك الأرض وملك سماء الدنيا وخزانة الجنة ، فكان يعبد تارة في الأرض وتارة في الجنة ، فدخله العجب وقال في نفسه : ما أعطاني الله هذا إلا أني أكرم الملائكة عليه.
فقال الله تعالى له ولجنوده : { إني جاعل في الأرض خليفة } بدلاً منكم ورافعكم إليّ ، فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة ، وقالوا : { أتجعل } الآية.
وإن كان الملائكة ، جميع الملائكة.
فسبب القول : إرادة الله أن يطلع الله الملائكة على ما في نفس إبليس من الكبر وأن يظهر ما سبق عليه في علمه.

روي عن ابن عباس ، وعن السدي ، عن أشياخه : وأن يبلو طاعة الملائكة ، قاله الحسن ، أو أن يظهر عجزهم عن الإحاطة بعلمه ، أو أن يعظم آدم بذكر الخلافة قبل وجوده ، ليكونوا مطمئنين له إذا وجدوا ، أو أن يعلمهم بخلقه ليسكن الأرض وإن كان ابتداء خلقه في السماء ، وأن يعلمنا أن نشاور ذوي الأحلام منا وأرباب المعرفة إذ استشار الملائكة اعتباراً لهم ، مع علمه بحقائق الأشياء ، أو أن يتجاوز الخطاب بما ذكر فيحصل منهم الاعتراف والرجوع عما كانوا يظنون من كمال العلم ، أو أن يظهر علو قدر آدم في العلم بقوله لآدم : { أنبئهم بأسمائهم } ، أو أن يعلمنا الأدب معه وامتثال الأمر ، عقلنا معناه أو لم نعقله ، لتحصل بذلك الطاعة المحضة أو أن تطمئن قلوب الملائكة حين خلق الله النار فخافت وسألت : لمن خلقت هذا؟ قال : لمن عصاني.
إذ لم يعلموا وجود خلق سواهم ، قاله ابن زيد.
وقال بعض أهل الإشارة في قوله : { إني جاعل في الأرض خليفة } : سابق العناية ، لا يؤثر فيه حدوث الجناية ، ولا يحط عن رتبة الولاية ، وذلك أنه تعالى نصب آدم خليفة عنه في أرضه مع علمه بما يحدث عنه من مخالفة أمره التي أوجبت له الإخراج من دار الكرامة وأهبطه إلى الأرض التي هي محل الأكدار ، ومع ذلك لم يسلبه ما ألبسه من خلع كرامته ، ولا حطه عن رتبة خلافته ، بل أجزل له في العطية فقال : { ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى } قال الشاعر :
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد . . .
جاءت محاسنه بألف شفيع
كان عمر ينقل الطعام إلى الأصنام والله يحبه ، قال الشاعر :
أتظنني من زلة أتعتب . . .
قلبي عليك أرق مما تحسب
ويقال إن الله سبحانه خلق ما خلق ولم يقل في شيء منها ما قال في حديث آدم ، حيث قال : { إني جاعل في الأرض خليفة }.
فظاهر هذا الخطاب تنبيه لشرف خلق الجنان وما فيها ، والعرش بما هو عليه من انتظام الأجزاء وكمال الصورة ، ولم يقل : إني خالق عرشاً أو جنة أو ملكاً ، وإنما قال ذلك تشريفاً وتخصيصاً لآدم.
قالوا تقدم أن الاختيار في العامل إذ هو ، قالوا : ومعموله الجملة من قوله : أتجعل؟ ولما كانت الملائكة لا تعلم الغيب ولا تسبق بالقول ، لم يكن قولهم : { أتجعل فيها } الآية ، إلا عن نبأ ومقدمة ، فقيل : الهمزة ، وإن كان أصلها للاستفهام ، فهو قد صحبه معنى التعجب ، قاله مكي وغيره ، كأنهم تعجبوا من استخلاف الله من يعصيه أو من يعصيان من يستخلفه في أرضه.
وقيل : هو استفهام على طريق الاستعظام ، والإكبار للاستخلاف والعصيان.
وقيل : هو استفهام معناه التقرير ، قاله أبو عبيدة ، قال الشاعر :
ألستم خير من ركب المطايا . . .
وأندى العالمين بطون راح

وعلى هذه الأقوال يكون علمهم بذلك قد سبق ، إما بإخبار من الله ، أو بمشاهدة في اللوح ، أو يكون ومخلوق غيرهم وهم معصومون ، أو قالوا ذلك بطريق القياس على من سكن الأرض فأفسد قبل سكنى الملائكة ، أو استنبطوا ذلك من لفظ خليفة ، إذ الخليفة من يكون نائباً في الحكم ، وذلك يكون عند التظالم.
وقيل : هو استفهام محض ، قاله أحمد بن يحيى ، وقدره : أتجعل هذا الخليفة على طريقة من تقدّم من الجن أم لا؟ وفسره أبو الفضل التجلي : أي أم تجعل من لا يفسد ، وقدره غيرهما ، ونحن نسبح بحمدك ، أم تتغير؟ فعلى الأقوال الثلاثة الأول لا معادل للاستفهام ، لأنه مذهوب به مذهب التعجب أو الاستعظام أو التقرير.
وعلى القول الرابع يكون المعادل مفعول أتجعل ، وهو من يفسد.
وعلى القول الخامس تكون المعادلة من الجملة الحالية التي هي قوله ، ونحن نسبح بحمدك.
وقرأ الجمهور : ويسفك بكسر الفاء ورفع الكاف.
وقرأ أبو حياة وابن أبي عبلة : بضم الفاء.
وقُرىء : ويسفك من أسفك ويسفك من سفك مشدّد الفاء.
وقرأ ابن هرمز : ويسفك بنصب الكاف ، فمن رفع الكاف عطف على يفسد ، ومن نصب فقال المهدوي : هو نصب في جواب الاستفهام ، وهو تخريج حسن وذلك أن المنصوب في جواب الاستفهام أو غيره بعد الواو بإضمار أن يكون المعنى على الجمع ، ولذلك تقدر الواو بمعنى مع ، فإذا قلت : أتأتينا وتحدثنا ونصبت ، كان المعنى على الجمع بين أن تأتينا وتحدثنا ، أي ويكون منك إتيان مع حديث ، وكذلك قوله :
أبيت ريان الجفون من الكرى . . .
وأبيت منك بليلة الملسوع
معناه : أيكون منك مبيت ريان مع مبيتي منك بكذا ، وكذلك هذا يكون منك جعل مفسد مع سفك الدماء.
وقال أبو محمد بن عطية : النصب بواو الصرف قال : كأنه قال من يجمع أن يفسد وأن يسفك ، انتهى كلامه.
والنصب بواو الصرف ليس من مذاهب البصريين.
ومعى واو الصرف : أن الفعل كان يستحق وجهاً من الإعراب غير النصب فيصرف بدخول الواو عليه عن ذلك الإعراب إلى النصب كقوله تعالى : { ويعلم الذين يجادلون } ، في قراءة من نصب ، وكذلك : { ويعلم الصابرين } فقياس الأول الرفع ، وقياس الثاني الجزم ، فصرفت الواو الفعل إلى النصب ، فسميت واو الصرف ، وهذا عند البصريين منصوب بإضمار أن بعد الواو.
والعجب من ابن عطية أنه ذكر هذا الوجه أولاً وثنى بقول الهدوي ، ثم قال : والأول أحسن.
وكيف يكون أحسن وهو شيء لا يقول به البصريون وفساده مذكور في علم النحو؟ ولما كانت الصلة يفسد ، وهو فعل في سياق الإثبات ، فلا يدل على التعميم في الفساد.
نصوا على أعظم الفساد ، وهو سفك الدماء ، لأنه به تلاشي الهياكل الجسمانية التي خلقها الله ، ولو لم ينصوا عليه لجاز أن لا يراد من قولهم : يفسد ، وكرر فيها لأن في ذلك تنبيهاً على أن ما كان محلاً للعبادة وطاعة الله كيف يصير محلاً للفساد؟ كما مر مثله في قوله :

{ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض } ولم يحتج إلى تكرير فيها بعد قوله : ويسفك ، اكتفاء بما سبق وتنكباً أن يكرروا فيها ثلاث مرات.
ألا ترى أنهم نقدوا على أبي الطيب قوله :
ونهب نفوس أهل النهب أولى . . .
بأهل النهب من نهب القماش
{ ونحن نسبح } : جملة حالية ، والتسبيح التنزيه ، قاله قتادة : أو رفع الصوت بذكر الله تعالى ، قاله المفضل : والخضوع والتذلل ، قاله ابن الأنباري ، أو الصلاة ، أي نصلي لك ، من المسبحين : أي من المصلين ، قاله ابن مسعود وابن عباس ، أو التعظيم ، أي ونحن نعظمك ، قاله مجاهد ، أو تسبيح خاص ، وهو : سبحان ذي الملك والملكوت ، سبحان ذي العظمة والجبروت ، سبحان الحيّ الذي لا يموت.
ويعرف هذا بتسبيح الملائكة ، أو بقول : سبحان الله وبحمده.
وفي حديث عن عبادة بن الصامت ، عن أبي ذر ، " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي الكلام أفضل قال : «ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده» " { بحمدك } : في موضع الحال ، والباء فيه للحال ، أي نسبح ملتبسين بحمدك ، كما تقول : جاء زيد بثيابه ، وهي حال متداخلة لأنها حال في حال.
وقيل : الباء للسبب ، أي بسبب حمدك ، والحمد هو الثناء ، والثناء ناشيء عن التوفيق للخير والإنعام على المثنى ، فنزل الناشىء عن السبب منزلة السبب فقال : ونحن نسبح بحمدك ، أي بتوفيقك وإنعامك ، والحمد مصدر مضاف إلى المفعول نحو قوله : من دعاء الخير ، أي بحمدنا إياك.
والفاعل عند البصريين محذوف في باب المصدر ، وإن كان من قواعدهم أن الفاعل لا يحذف وليس ممنوع في المصدر ، كما ذهب إليه بعضهم ، لأن أسماء الأجناس لا يضمر فيها ، لأنه لا يضمر إلا فيما جرى مجرى الفعل ، إذ الإضمار أصل في الفعل ، ولا حاجة تدعو إلى أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، كما ذهب إليه بعضهم ، وأن التقدير : ونحن نسبح ونقدس لك بحمدك ، فاعترض بحمدك بين المعطوف والمعطوف عليه لأن التقديم والتأخير مما يختص بالضرورة ، فلا يحمل كلام الله عليه ، وإنما جاء بحمدك بعد نسبح لاختلاط التسبيح بالحمد.
وجاء قوله بعد : { ونقدس لك } كالتوكيد ، لأن التقديس هو : التطهير ، والتسبيح هو : التنزيه والتبرئة من السوء ، فهما متقاربان في المعنى.
ومعنى التقديس كما ذكرنا التطهير ، ومفعوله أنفسنا لك من الأدناس ، قاله الضحاك وغيره ، أو أفعالنا من المعاصي ، قاله أبو مسلم ، أو المعنى : نكبرك ونعظمك.
قاله مجاهد وأبو صالح ، أو نصلي لك ، أو نتطهر من أعمالهم يعنون بني آدم.
حكى ذلك عن ابن عباس ، أو نطهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك ، واللام في لك فيل زائدة ، أي نقدّسك.
وقيل : لام العلة متعلقة بتقدّس ، قيل : أو بنسج وقيل : معدية للفعل ، كهي في سجدت لله ، وقيل : اللام للبيان كاللام بعد سقياً لك ، فتتعلق إذ ذاك بمحذوف دلّ عليه ما قبله ، أي تقديسنا لك.

والأحسن أن تكون معدية للفعل ، كهي في قوله : { يسبح لله } { وسبح الله } وقد أبعد من ذهب إلى أن هذه الجملة من قوله : { ونحن نسبح } استفهامية حذف منها أداة الاستفهام وأن التقدير ، أو نحن نسبح بحمدك ، أم نتغير ، بحذف الهمزة من غير دليل ، ويحذف معادل الجملة المقدرة دخول الهمزة عليها ، وهي قوله : أم نتغير ، وليس ذلك مثل قوله :
لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً . . .
بسبع رمين الجمر أم بثمان
يريد : أبسبع ، لأن الفعل المعلق قبل بسبع والجزء المعادل بعده يدلان على حذف الهمزة.
ولما كان ظاهر قول الملائكة : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدّس لك } ، مما لا يناسب أن يجاوبوا به الله ، إذ قال لهم : { إني جاعل في الأرض خليفة }.
وكان من القواعد الشرعية والعقائد الإسلامية عصمة الملائكة من المعاصي والاعتراض ، لم يخالف في ذلك إلا طائفة من الحشوية.
وهي مسألة يتكلم عليها في أصول الدين ، ودلائلها مبسوطة هناك ، احتاج أهل العلم إلى إخراج الآية السابقة عن ظاهرها وحملها كل قائل ممن تقدّم قوله على ما سبح له ، وقوي عنده من التأويل الذي هو سائغ في علم اللسان.
وقال بعض أهل الإشارات : الملائكة لما توهموا أن الله تعالى أقامهم في مقام المشورة بأن لهم وجه المصلحة في بقاء الخلافة فيمن يسبح ويقدس ، وأن لا ينقلها إلى من يفسد فيها ويسفك ، فعرضوا ذلك على الله ، وكان ذلك من جملة النصح في الاستشارة ، والنصح في ذلك واجب على المستشار ، ولله تعالى الحكم فيما يمضي من ذلك ويختار.
ومن أندر ما وقع في تأويل الآية ما ذهب إليه صاحب ( كتاب فك الأزرار ) ، وهو الشيخ صفي الدين أبو عبد الله الحسين بن الوزير أبي الحسن علي بن أبي المنصور الخزرجي ، قال : في ذلك الكتاب ظاهر كلام الملائكة يشعر بنوع من الاعتراض ، وهم منزهون عن ذلك ، والبيان ، أن الملائكة كانوا حين ورود الخطاب عليهم مجملين ، وكان إبليس مندرجاً في جملتهم ، فورد منهم الجواب مجملاً.
فلما انفصل إبليس عن جملتهم بإبائه وظهورإبليسيته واستكباره ، انفصل الجواب إلى نوعين : فنوع الاعتراض منه كان عن إبليس ، وأنواع الطاعة والتسبيح والتقديس كان عن الملائكة.
فانقسم الجواب إلى قسمين ، كانقسام الجنس إلى جنسين ، وناسب كل جواب من ظهر عنه والله أعلم.
انتهى كلامه.
وهو تأويل حسن ، وصار شبيهاً بقوله تعالى : { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا } ، لأن الجملة كلها مقولة ، والقائل نوعان ، فرد كل قول لمن ناسبه.
وقيل في قوله : { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } ، إشارة إلى جواز التمدح إلى من له الحكم في التولية ممن يقصد الولاية ، إذا أمن على نفسه الجور والحيف ، ورأى في ذلك مصلحة.

ولذلك جاز ليوسف ، على نبينا وعليه السلام ، طلبه الولاية ، ومدح نفسه بما فيها فقال : { اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم } قال : { إني أعلم } ، مضارع علم وما مفعولة بها موصولة ، قيل : أو نكرة موصوفة ، وقد تقدم : أنا لا نختار ، كونها نكرة موصوفة.
وأجاز مكي بن أبي طالب والمهدوي وغيرهما أن تكون أعلم هنا اسماً بمعنى فاعل ، وإذا كان كذلك جاز في ما أن تكون مجرورة بالإضافة ، وأن تكون في موضع نصب ، لأن هذا الاسم لا ينصرف ، وأجاز بعضهم أن تكون أفعل التفضيل.
والتقدير : أعلم منكم ، وما منصوبة بفعل محذوف يدل عليه أعلم ، أي علمت ، وأعلم ما لا تعلمون.
وهذا القول فيه خروج عن الظاهر وادعاء حذفين : أحدهما : حذف المفضل عليه وهو منكم.
والثاني : الفعل الناصب للموصول ، وأما ما أجازه مكي فهو مبني على أمرين غير صحيحين.
أحدهما : ادّعاء أن أفعل تأتي بمعنى فاعل ، وهذا قال به أبو عبيدة من المتقدمين ، وخالفه النحويون وردوا عليه قوله ، وقالوا : لا يخلوا أفعل من التفضيل ، وإن كان يوجد في كلام بعض المتأخرين أن أفعل قد يخلو من التفضيل ، وبنوا على ذلك جواز مسألة يوسف أفضل إخوته ، حتى أن بعضهم ذكر في جواز اقتياسه خلافاً ، تسليماً منه أن ذلك مسموع من كلام العرب فقال : واستعماله عارياً دون من مجرداً عن معنى التفضيل ، مؤولاً باسم فاعل أو صفة مشبهة ، مطرد عند أبي العباس ، والأصح قصره على السماع ، انتهى كلامه.
والأمر الثاني : أنه إذا سلم وجود أفعل عارياً من معنى التفضيل ، فهو يعمل عمل اسم الفاعل أم لا.
والقائلون بوجود ذلك لا يقولون بإعماله عمل اسم الفاعل إلا بعضهم ، فأجاز ذلك ، والصحيح ما ذهب إليه النحويون المتقدمون من كون أفعل لا يخلو من التفضيل ، ولا مبالاة بخلاف أبي عبيدة لأنه كان يضعف في النحو ، ولا بخلاف بعض المتأخرين لأنهم مسبوقون بما هو كالإجماع من المتقدمين ، ولو سلمنا إسماع ذلك من العرب ، فلا نسلم اقتياسه ، لأن المواضع التي أوردت دليلاً على ذلك في غاية من القلة ، مع أنها قد تؤولت.
ولو سلمنا اقتباس ذلك ، فلا نسلم كونه يعمل عمل اسم الفاعل.
وكيف نثبت قانوناً كلياً ولم نسمع من العرب شيئاً من أفراد تركيباته لا يحفظ : هذا رجل أضرب عمراً ، بمعنى ضارب عمراً ، ولا هذه امرأة أقتل خالداً ، بمعنى قاتلة خالداً ، ولا مررت برجل أكسى زيداً جبة ، بمعنى : كاس زيداً جبة.
وهل هذا إلا إحداث تراكيب لم تنطق العرب بشيء من نظيرها؟ فلا يجوز ذلك.
وكيف يعدل في كتاب الله عن الشيء الظاهر الواضح من كون أعلم فعلاً مضارعاً إلى هذا الذي هو؟ كما رأيت في علم النحو ، وإنما طولت في هذه المسألة لأنهم يسلكون ذلك في مواضع من القرآن سيأتي بيانها ، إن شاء الله تعالى ، فينبغي أن يتجنب ذلك.

ولأن استعمال أفعل عارية من معنى التفضيل مشهور عند بعض المتأخرين ، فنبهت على ما في ذلك ، والمسألة مستوفاة الدلائل.
نذكر في علم النحو : { ما لا تعلمون } الذي مدح الله به نفسه من العلم دونهم علمه ما في نفس إبليس مع البغي والمعصية ، قاله ابن عباس ومجاهد والسدي عن أشياخه أو علمه بأنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء وصالحون ، قاله قتادة ، أو علمه بمن يملأ جهنم من الجنة والناس ، قاله ابن زيد؛ أو علمه بعواقب الأمور فيبتلي من تظنون أنه مطيع فيؤديه الابتلاء إلى المعصية ، ومن تظنون أنه عاص فيؤديه الابتلاء إلى الطاعة فيطيع ، قاله الزجاج ، أو علمه بظواهر الأمور وباطنها ، جليها ودقيقها ، عاجلها وآجلها ، صالحها وفاسدها ، على اختلاف الأحوال والأزمان علماً حقيقياً ، وأنتم لا تعلمون ذلك ، أو علمه بغير اكتساب ولا نظر ولا تدبر ولا فكر ، وأنتم لا تعلمون المعلومات على هذا النسق.
أو علمه بأن معهم إبليس ، أو علمه باستعظامكم أنفسكم بالتسبيح والتقديس.
والذي يدل عليه ظاهر اللفظ أنه أخبرهم إذا تكلموا بالجملة السابقة التي هي أتجعل فيها بأنه يعلم ما لا تعلمونه.
وأبهم في إخباره الأشياء التي يعلمها دونهم ، فإذا كان كذلك ، فإخباره بأنه يجعل في الأرض خليفة يقتضي التسليم له والرجوع إليه فيما أراد أن يفعله والرضا بذلك ، لأن علمه محيط بما لا يحيط به علم عالم ، جل الله وعز.
والأحسن أن يفسر هذا المبهم بما أخبر به تعالى عنه من قوله ، قال : { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض } الآية.
{ وعلم آدم الأسماء كلها } : لما أخبر تعالى الملائكة عن وجه الحكمة في خلق آدم وذريته على سبيل الإجمال ، أراد أن يفصل ، فبين لهم من فضل آدم ما لم يكن معلوماً لهم ، وذلك بأن علمه الأسماء ليظهر فضله وقصورهم عنه في العلم ، فتأكد الجواب الإجمالي بالتفضيل.
ولا بد من تقدير جملة محذوفة قبل هذا ، لأنه بها يتم المعنى ويصح هذا العطف ، وهي : فجعل في الأرض خليفة.
ولما كان لفظ الخليفة محذوفاً مع الجملة المقدرة ، أبرزه في قوله : { وعلم آدم } ، ناصاً عليه ومنوهاً بذكره باسمه.
وأبعد من زعم أن : { وعلم آدم } معطوف على قوله ، قال من قوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل }.
وهل التعليم بتكليم الله تعالى له في السماء ، كما كلم موسى في الأرض ، أو بوساطة ملك أو بالإلهام؟ أقوال أظهرها أن الباري تعالى هو المعلم ، لا بواسطة ولا إلهام.
وقرأ اليماني ويزيد اليزيدي : وعلم آدم مبنياً للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به والتضعيف في علم للتعدية ، إذ كان قبل التضعيف يتعدى لواحد ، فعدى به إلى اثنين.

وليست التعدية بالتضعيف مقيسة ، إنما يقتصر فيه على مورد السماع ، سواء كان الفعل قبل التضعيف لازماً أم كان متعدياً ، نحو : علم المتعدية إلى واحد.
وأما إن كان متعدياً إلى اثنين ، فلا يحفظ في شيء منه التعدية بالتضعيف إلى ثلاث.
وقد وهم القاسم بن علي الحريري في زعمه في شرح الملحة له أن علم تكون منقولة من علم التي تتعدى إلى اثنين فتصير بالتضعيف متعدية إلى ثلاثة ، ولا يحفظ ذلك من كلامهم.
وقد ذهب بعض النحويين إلى اقتباس التعدية بالتضعيف.
قال الإمام أبو الحسين بن أبي الربيع في ( كتاب التلخيص ) من تأليفه : الظاهر من مذهب سيبويه أن النقل بالتضعيف سماع في المتعدي واللازم ، وفيما علمه أقوال : أسماء جميع المخلوقات ، قاله ابن عباس وابن جبير ومجاهد وقتادة ، أو اسم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وعزى إلى ابن عباس ، وهو قريب من الأول ، أو جميع اللغات ، ثم كلم كل واحد من بنيه بلغة فتفرقوا في البلاد ، واختص كل فرقة بلغة أو كلمة واحدة تفرع منها جميع اللغات ، أو أسماء النجوم فقط ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، أو أسماء الملائكة فقط ، قاله الربيع بن خيثم ، أو أسماء ذريته ، قاله الربيع بن زيد ، أو أسماء ذريته والملائكة ، قاله الطبري واختاره؛ أو أسماء الأجناس التي خلقها ، علماً أن هذا اسمه فرس ، وهذا اسمه بعير ، وهذا اسمه كذا ، وهذا اسمه كذا ، وعلمه أحوالها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ، واختاره الزمخشري ، أو أسماء ما خلق في الأرض ، قاله ابن قتيبة ، أو الأسماء بلغة ثم وقع الاصطلاح من ذريته في سواها ، أو علمه كل شيء حتى نحو سيبويه ، قاله أبو علي الفارسي ، أو أسماء الله عز وجل ، قاله الحكيم الترمذي ، أو أسماء من أسمائه المخزونة ، فعلم بها جميع الأسماء ، قاله الجريري ، أو التسميات.
ومعنى هذا علمه أن يسمي الأشياء ، وليس المعنى علمه الأسماء ، لأن التسمية غير الاسم ، قاله الجمهور ، وحالة تعليمه تعالى آدم ، هل عرض عليه المسميات أو وصفها له ولم يعرضها عليه قولان : قال بعض من عاصرناه : المختار أسماء ذريته ، وعرفه العاصي والمطيع ليعرف الملائكة بأسمائهم وأفعالهم رداً عليهم قولهم : { أتجعل فيها من يفسد فيها } ، الأسماء كلها يحتمل أسماء المسميات ، فحذف المضاف إليه لدلالة الأسماء عليه.
قال الزمخشري : وعوض منه اللام كقوله : { واشتعل الرأس شيباً } ، انتهى.
وقد تقدم لنا أن اللام عوض من الإضافة ليس مذهب البصريين ، ويحتمل أن يكون التقدير مسميات ، الأسماء ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ويترجح الأول ، وهو تعليق التعليم بالأسماء تعلق الأنباء به في قوله : { أنبئوني بأسماء هؤلاء } ، والآية التي بعدها ، ولم يقل : أنبئوني بهؤلاء ، ولا أنبئهم بهم.
ويترجح الثاني بقوله ، ثم عرضهم إذا حمل على ظاهره ، لأن الأسماء لا تجمع كذلك ، فدل على عوده على المسميات نحو قوله تعالى :

{ أو كظلمات في بحر لجي يغشاه } التقدير : أو كذي ظلمات ، فعاد الضمير من يغشاه على ذي المحذوفة ، القائم مقامها في الإعراب ظلمات.
والذي يدل عليه ظاهر اللفظ أن الله علم آدم الأسماء ولم يبين لنا أسماء مخصوصة ، بل دل قوله تعالى : { كلها } على الشمول ، والحكمة حاصلة بتعليم الأسماء ، وإن لم تعلم مسمياتها.
ويحتمل أن يريد بالأسماء المسميات ، فيكون من إطلاق اللفظ ويراد به مدلوله.
{ ثم عرضهم } : ثم : حرف تراخ ، ومهلة علم آدم ثم أمهله من ذلك الوقت إلى أن قال : { أنبئهم بأسمائهم } ليتقرر ذلك في قلبه ويتحقق المعلوم ثم أخبره عما تحقق به واستيقنه.
وأما الملائكة فقال لهم على وجه التعقيب دون مهلة { أنبئوني } ، فلما لم يتقدم لهم تعريف لم يخبروا ، ولما تقدم لآدم التعليم أجاب وأخبر ونطق إظهاراً لعنايته السابقة به سبحانه.
عرضهم خلقهم وعرضهم عليهم ، قاله ابن مسعود ، أو صورهم لقلوب الملائكة ، أو عرضهم وهم كالذر ، أو عرض الأسماء ، قاله ابن عباس ، وفيه جمعها بلفظة هم.
والظاهر أن ضمير النصب في عرضهم يعود على المسميات ، وظاهره أنه للعقلاء ، فيكون إذ ذاك المعنى بالأسماء أسماء العاقلين ، أو يكون فيهم غير العقلاء ، وغلب العقلاء.
وقرأ أبي ثم عرضها.
وقرأ عبد الله ثم عرضهن ، والضمير عائد على الأسماء ، فتكون هي المعروضة ، أو يكون التقدير مسمياتها ، فيكون المعروض المسميات لا الأسماء.
{ على الملائكة } : ظاهره العموم ، فقيل : هو مراد ، وقيل : الملائكة الذين كانوا مع إبليس في الأرض.
{ فقال } : الفاء : للتعقيب ، ولم يتخلل بين العرض والأمر مهلة بحيث يقع فيها تروٍّ أو فكر ، وذلك أجدر بعدم الإضافة.
{ أنبئوني } : أمر تعجيز لا تكليف.
وقرأ الأعمش : أنبوني ، بغير همز ، وقد استدل بقوله : أنبئوني على جواز تكليف ما لا يطاق ، وهو استدلال ضعيف ، لأنه على سبيل التبكيت ، ويدل عليه : { إن كنتم صادقين }.
{ بأسماء هؤلاء } : ظاهره حضور أشخاص حالة العرض على الملائكة ، ومن قال : إن المعروض إنما هي أسماء فقط ، جعل الإشارة إلى أشخاص الأسماء وهي غائبة ، إذ قد حضر ما هو منها بسبب وذلك أسماؤها وكأنه قال لهم : في كل اسم لأي شخص هذا الاسم ، وهذا فيه بعد وتكلف وخروج عن الظاهر بغير داعية إلى ذلك.
{ إن كنتم صادقين } : شرط جوابه محذوف تقديره فأنبئوني يدل عليه أنبئوني السابق ، ولا يكون انبؤني السابق هو الجواب ، هذا مذهب سيبويه وجمهور البصريين ، وخالف الكوفيون وأبو زيد وأبو العباس ، فزعموا أن جواب الشرط هو المتقدّم في نحو هذه المسألة ، هذا هو النقل المحقق ، وقد وهم المهدوي ، وتبعه ابن عطية ، فزعما أن جواب الشرط محذوف عند المبرد ، التقدير : فأنبئوني ، إلا إن كانا اطلعا على نقل آخر غريب عن المبرد يخالف مشهور ما حكاه الناس ، فيحتمل.

وكذلك وهم ابن عطية وغيره ، فزعما أنّ مذهب سيبويه تقديم الجواب على الشرط ، وأن قوله : أنبئوني المتقدم هو الجواب.
والصدق هنا هو الصواب ، أي إن كنتم مصيبين ، كما يطلق الكذب على الخطأ ، كذلك يطلق الصدق على الصواب.
ومتعلق الصدق فيه أقوال : { إن كنتم صادقين } إني لا أخلق خلقاً ، لا كنتم أعلم منه ، لأنه هجس في أنفسهم أنهم أعلم من غيرهم ، أو فيما زعمتم أن خلفائي يفسدون في الأرض ، أو فيما وقع في نفوسكم أني لا أخلق خلقاً إلا كنتم أفضل منه ، أو بأمور من أستخلفهم بعدكم ، أو إني إن استخلفتكم فيها سبحتموني وقدّستموني ، وإن استخلفت غيركم فيها عصاني ، أو في قولكم : إنه لا شيء مما يتعبد به الخلق إلا وأنتم تصلحون له وتقومون به ، قاله ابن مسعود وابن عباس ، أو في ذلك أنباء ، وجواب السؤال بالأسماء ، روي أن الملائكة حين خلق الله آدم قالت : يخلق ربنا ما شاء ، فلن يخلق خلقاً أعلم منا ولا أكرم عليه.
فأراد أن يريهم من علم آدم وكرامته خلاف ما ظنوا ، قالوا : ولقوله { إن كنتم صادقين } لم يجز لهم الاجتهاد ، إذ لو لم يقيد بالصدق ، وهو الإصابة ، لجاز الاجتهاد ، كما جاز للذي قال له : كم لبثت؟ ولم يشرط عليه الإصابة فلم يصب ولم يعنف.
وأبعد من ذهب إلى أن الصدق هنا ضد الكذب المتعارف لعصمة الملائكة ، كما أبعد من جعل إن بمعنى إذ ، فأخرجها عن الشرطية إلى الظرفية.
وإذا التقت همزتان مكسورتان من كلمتين نحو : هؤلاء إن كنتم ، فورش وقنبل يبدلان الثانية ياء ممدودة ، إلا أن ورشاً في : هؤلاء إن كنتم ، وعلى البغاء إن أردن ، يجعل الياء مكسورة ، وقالون والبزي يلينان الأولى ويحققان الثانية ، وعنهما في بالسوء إلا وجوه : أحدها : هذا الأصل الذي تقرر لهما.
الثاني : إبدال الهمزة الأولى واواً مكسورة وإدغام الواو الساكنة قبلها فيها وتحقيق الثانية.
الثالث : إبدال الهمزة الأولى ياء ، نحو : بالسوي.
الرابع : إبدالها واواً من غير إدغام ، نحو : السوو.
وقرأ أبو عمرو : بحذف الأولى ، وقرأ الكوفيون وابن عامر : بتحقيق الهمزتين.
{ قالوا سبحانك لا علم لنا } : أي تنزيهك عن الادعاء وعن الاعتراض.
وقيل : معناه تنزيه لك بعد تنزيه لفظه لفظ تثنية ، والمعنى كذلك كما قالوا في لبيك ، ومعناه : تلبية بعد تلبية.
وهذا قول غريب يلزم عنه أن مفرده يكون سبحا ، وأنه لا يكون منصوباً بل مرفوعاً ، وأنه لم تسقط النون للإضافة ، وأنه التزم فتحها.
والكاف في سبحانك مفعول به أضيف إليه.
وأجاز بعضهم أن يكون فاعلاً ، لأن المعنى تتزهت.
وقد ذكرنا ، حين تكملنا على المفردات ، أنه منصوب على معنى المصدر بفعل من معناه واجب الحذف.
وزعم الكسائي أنه منادي مضاف ، ويبطله أنه لا يحفظ دخول حرف النداء عليه ، ولو كان منادى لجاز دخول حول حرف النداء عليه ، ونقل لنا.

ولما سأل تعالى الملائكة ، ولم يكن عندهم علم بالجواب ، وكانوا قد سبق منهم قولهم : { أتجعل فيها من يفسد فيها } الآية ، أرادوا أن يجيبوا بعدم العلم إلا ما علمهم ، فقدموا بين يدي الجواب تنزيه الله اعتذاراً وأدباً منهم في الجواب ، وإشعاراً بأن ما صدر منهم قبل يمحوه هذا التنزيه لله تعالى ، فقالوا : سبحانك ، ثم أجابوا بنفي العلم بلفظ لا التي بنيت معها النكرة ، فاستغرف كل فرد من أنواع العلوم ، ثم استثنوا من ذلك ما علمهم هو تعالى ، فقالوا : { إلا ما علمتنا } ، وهذا غاية في ترك الدعوى والاستسلام التام للمعلم الأول الله تعالى.
قال أبو عثمان المغربي : ما بلاء الخلق إلا الدعاوى.
ألا ترى أن الملائكة لما قالوا : ونحن نسبح بحمدك ، كيف ردوا إلى الجهل حتى قالوا : لا علم لنا؟ وروي معنى هذا الكلام عن جعفر الصادق ، وخبر : لا علم ، في الجار والمجرور.
وتقدم لنا الكلام في لا ريب فيه ، ولا علم مثله ، فأغنى عن إعادته.
وما موصولة يحتمل أن تكون في موضع نصب على الاستثناء ، والأولى أن تكون في موضع رفع على البدل.
وحكى ابن عطية عن الزهراوي : أن موضع ما من قولهم : ما علمتنا ، نصب بعلمتنا ، وهذا غير معقول.
ألا ترى أن ما موصولة ، وأن الصلة : علمتنا ، وأن الصلة لا تعمل في الموصول ولكن يتكلف له وجه وهو أن يكون استثناء منقطعاً فيكون معنى إلا : لكن ، على التقدير الذي استقر في الاستثناء المنقطع ، وتكون ما شرطية منصوبة بعلمتنا ، ويكون الجواب محذوفاً كأنهم نفوا أولاً سائر العلوم ثم استدركوا أنه في المستقبل ، أي شيء علمهم علموه ، ويكون هذا أبلغ في ترك الدعوى ، إذ محوا أنفسهم من سائر العلوم ونفوا جميعها ، فلم يستثنوا لهم شيئاً سابقاً ماضياً تحلوا به ، بل صاروا إلى الجهل الصرف والتبري من كل علم.
وهذا الوجه ينافي ما روي أنه كان أعلمهم تعالى ، أو علموا باطلاع من اللوح بأنه سيكون في الأرض من يفسد ويسفك ، فإذا صح هذا كانوا قد بالغوا في نفي كل علم عنهم ، وجعلوا هذا العلم الخاص كالمعدوم ، ومن اعتقد أن الملائكة غير معصومين جعل قولهم ، لا علم لنا توبة ، ومن اعتقد بعصمتهم قال : قالوا ذلك على وجه الاعتراف بالعجز والتسليم بأنهم لا يعلمون إلا ما علموا ، أو قالوا : { أتجعل فيها } الآية ، لأنه أعلمهم بذلك ، وأما الأسماء فكيف يعلمونها وما أعلمهم ذلك؟ ولما نفوا العلم عن أنفسهم أثبتوه لله تعالى على أكمل أوصافه من المبالغة فيه ، ثم أردفوا الوصف بالعلم ، الوصف بالحكمة ، لأنه سبق قوله : { إني جاعل في الأرض خليفة }.
فلما صدر من هذا المجعول خليفة ، ما صدر من فضيلة العلم تبين لهم وجه الحكمة في قوله : وجعله خليفة.

فانظر إلى حسن هذا الجواب كيف قدموا بين يديه تنزيه الله ، ثم اعترفوا بالجهل ، ثم نسبوا إلى الله العلم والحكمة ، وناسب تقديم الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة ، لأنه المتصل به في قوله : { وعلم } ، { أنبئوني } ، { لا علم لنا }.
فالذي ظهرت به المزية لآدم والفضيلة هو العلم ، فناسب ذكره متصلاً به ، ولأن الحكمة إنما هي آثار وناشئة عنه ، ولذلك أكثر ما جاء في القرآن تقديم الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة.
ولأن يكون آخر مقالهم مخالفاً لأوله حتى يبين رجوعهم عن قولهم : { أتجعل فيها } ، وعلى القول بأن الحكيم هو ذو الحكمة ، يكون الحكيم صفة ذات ، وعلى القول بأنه المحكم لصنعته يكون صفة فعل.
وأنت : يحتمل أن يكون توكيداً للضمير ، فيكون في موضع نصب ، أو مبتدأ فيكون في موضع رفع ، والعليم مخبره ، أو فضلاً فلا يكون له موضع من الإعراب ، على رأي البصريين ، ويكون له موضع من الإعراب على رأي الكوفيين.
فعند الفراء موضعه على حسب الاسم قبله ، وعند الكسائي على حسب الاسم بعده ، والأحسن أن يحمل العليم الحكيم على العموم ، وقد خصه بعضهم فقال : العليم بما أمرت ونهيت ، الحكيم فيما قدرت وقضيت.
وقال آخر : العليم بالسر والعلانية ، والحكيم فيما يفعله وهو قريب من الأول.
{ قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم } : نادى آدم باسمه العلم ، وهي عادة الله مع أنبيائه ، قال تعالى : { يا نوح اهبط بسلام منا } { يا نوح إنه ليس من أهلك } { يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا } { يا موسى إني أنا الله } { ُيا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك } ، ونادى محمداً نبينا صلى الله عليه وسلم وعلى سائر الأنبياء بالوصف الشريف من الإرسال والإنباء فقال : { يا أيها الرسول } { يا أيها النبي } فانظر تفاوت ما بين هذا النداء وذاك النداء ، والضمير في أنبئهم عائد إلى الملائكة ، وفي بأسمائهم عائد على المعروضين على الخلاف السابق.
قال القشيري : من آثار العناية بآدم عليه السلام لما قال للملائكة : أنبئوني ، داخلهم من هيبة الخطاب ما أخذهم عنهم ، لا سيما حين طالبهم بإنبائهم إياه ما لم تحط بهم علمومهم.
ولما كان حديث آدم رده في الإنباء إليهم فقال : { أنبئهم بأسمائهم } ، ومخاطبة آدم للملائكة لم توجب الاستغراق في الهيبة.
فلما أخبرهم آدم عليه السلام بأسماء ما تقاصرت عنه علومهم ، ظهرت فضيلته عليهم فقال : { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات } ، يعني ما تقاصرت عنه علوم الخلق وأعلم ما تبدون من الطاعات وتكتمون من اعتقاد الخيرية على آدم.
انتهى كلام القشيري.
والجملة المفتتحة بالقول إذا كانت مرتباً بعضها على بعض في المعنى ، فالأصح في لسان العرب أنها لا يؤتى فيها بحرف ترتب ، اكتفاء بالتريب المعنوي ، نحو قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها } ، أتى بعده ، { قال إني أعلم } ، ونحو : { قالوا سبحانك } ، { قال يا آدم أنبئهم } ، ونحو :

{ قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله } { قال أنى يحيي هذه الله } ، { قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم } ، { قال بل لبثت مائة عام } { قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } ، { قال فخذ أربعة من الطير } وقد جاء في سورة الشعراء من ذلك عشرون موضعاً في قصة موسى ، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، في إرساله إلى فرعون ومحاورته معه ، ومحاورة السحرة ، إلى آخر القصة ، دون ثلاثة ، جاء منها اثنان جواباً وواحد كالجواب ، ونحو هذا في القرآن كثير.
وقرأ الجمهور : أنبئهم بالهمز وضم الهاء ، وهذا الأصل كما تقول : أكرمهم.
وروي عن ابن عباس : أنبئهم بالهمز وكسر الهاء ، ووجهه أنه أتبع حركة الهاء لحركة الباء ، ولم يعتد بالهمزة لأنها ساكنة ، فهي حاجز غير حصين.
وقرىء : أنبيهم ، بإبدال الهمزة ياء وكسر الهاء.
وقرأ الحسن والأعرج وابن كثير من طريق القواس : أنبهم ، على وزن أعطهم ، قال ابن جني : هذا على إبدال الهمزة ياء ، على أنك تقول : أنبيت ، كأعطيت ، قال : وهذا ضعيف في اللغة لأنه بدل لا تخفيف.
والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر.
انتهى كلام أبي الفتح.
وما ذكر من أنه لا يجوز إلا في ضرورة الشعر ليس بصحيح.
حكى الأخفش في الأوسط : أن العرب تحول من الهمزة موضع اللام ياء ، فيقولون : قريت ، وأخطيت ، وتوضيت ، قال : وربما حولوه إلى الواو ، وهو قليل ، نحو : رفوت ، والجيد : رفأت ، ولم أسمع : رفيت.
انتهى كلام الأخفش.
ودل ذلك على أنه ليس من ضرائر الشعر ، كما ذكر أبو الفتح ، وهو قوله تعالى : { أنبئهم بأسمائهم }.
وقوله : { فلما أنبأهم بأسمائهم } : جملة محذوفة ، التقدير : فأنبئهم بها ، فلما أنبأهم حذفت لفهم المعنى ، وفي قوله : أنبئوني ، فلما أنبأهم تنبيه على إعلام الله أنه قد أعلم الله أنه قد أعلم آدم من أحوالهم ما لم يعلمهم من حاله ، لأنهم رأوه قبل النفخ مصوراً ، فلم يعلموا ما هو ، وعلى أنه رفع درجة آدم عندهم ، لكونه قد علم لآدم ما لم يعلمهم ، وعلى إقامته مقام المفيد المعلم ، وإقامتهم مقام المستفيدين منه ، لأنه أمره أن يعلمهم أسماء الذين عرضهم عليهم وعلى أدبهم على ترك الأدب من حيث قالوا : { أتجعل فيها } ، فإن الطواعية المحضة ويكونوا مع عدم العلم بالحكمة فيما أمروا به ، وعدم الاطلاع على ذلك الأمر ومصلحته ومفسدته كهم مع العلم والاطلاع.
وكان الامتثال والتسليم ، بغير تعجب ولا استفهام ، أليق بمقامهم لطهارة ذواتهم وكمال صفاتهم.
وفي كتاب بعض من عاصرناه ، قالت المعتزلة : ظهر من آدم عليه السلام في علمه بالأسماء معجزة دالة على نبوته في ذلك الوقت ، والأقرب أنه كان مبعوثاً إلى حواء ، ولا يبعد أن يكون أيضاً مبعوثاً إلى من توجه التحدي إليهم من الملائكة ، لأن جميعهم ، وإن كانوا رسلاً ، فقد يجوز الإرسال إلى الرسول ، كبعثه إبراهيم عليه السلام إلى لوط عليه السلام ، واحتجوا بكونه ناقضاً للعادة.

ولقائل أن يقول : حصول العلم باللغة لمن علمه الله وعدم حصوله لمن لم يعلم ليس بناقض للعادة.
وأيضاً ، فالملائكة أما إن علموا وضع تلك الأسماء للمسميات فلا مزية أو لا ، فكيف علموا إصابته في ذلك؟ والجواب من وجهين : أحدهما : أنه ربما يكون لكل صنف منهم لغة ، ثم حضر جميعهم فعرف كل صنف إصابته في تلك اللغة ، إلا أنهم بأسرهم عجزوا عن معرفتها بأسرها.
الثاني : أن الله عرفهم الدليل على صدقه ، ولم لا يكون من باب الكرامات أو من باب الإرهاص؟ واحتج من قال : لم يكن نبياً ، بوجوه : أحدها : صدور المعصية عنه بعد ، وذلك غير جائز على النبي.
وثانيها : أنه لو كان مبعوثاً لكان إلى أحد ، لأن المقصود منه التبليغ ، وذلك لا يكون الملائكة ، لأنهم أفضل ، ولا حوّاء ، لأنها مخاطبة بلا واسطة بقوله : { ولا تقربا } ، ولا الجن ، لأنهم لم يكونوا في السماء.
وثالثها : قوله : { ثم اجتباه } ، وهذا يدل على أن الاجتباء كان بعد الزلة ، والنبي لا بد أن يكون مجتبى وقت كونه نبياً.
{ قال ألم أقل لكم } ؛ جواب فلما ، وقد تقدّم ذكر الخلاف في لما المقتضية للجواب ، أهي حرف أم ظرف؟ ورجحنا الأول وذكرنا أنه مذهب سيبويه.
وألم : أقل تقرير ، لأن الهمزة إذا دخلت على النفي كان الكلام في كثير من المواضع تقريراً نحو قوله تعالى : { ألست بربكم } { ألم نشرح لك صدرك } { ألم نربِّك فينا وليداً } ولذلك جاز العطف على جملة إثباتية نحو : ووضعنا ، ولبثت ، ولكم فيه ، تنبيههم بالخطاب وهزهم لسماع المقول ، نحو قوله : { ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً } نبهه في الثانية بالخطاب.
وقد تقدم أن اللام في نحو : قلت لك ، أو لزيد ، للتبليغ ، وهو أحد المعاني التي ذكرناها فيها.
{ إني أعلم } : ياء المتكلم المتحرك ما قبلها ، إذا لقيت همزة القطع المفتوحة ، جاز فيها وجهان : التحريك والإسكان ، وقرىء بالوجهين في السبعة ، على اختلاف بينهم في بعض ذلك ، وتفصيل ذلك مذكور في كتب القراءات.
وسكنوا في السبعة إجماعاً تفتني ألا ، { أرني أنظر } { فاتبعني أهدك } { وترحمني أكن } ولا يظهر بشيء من اختلافهم واتفاقهم علة إلا اتباع الرواية.
والخلاف الذي تقدم في أعلم من كونه منصوباً أو مجروراً جاز هنا ، وقد تقدم إيضاحه هناك فلا نعيده هنا.
وقد حكى ابن عطية عن المهدوي ما نصه : قال المهدوي : ويجوز أن يكون قوله : أعلم اسماً بمعنى التفضيل في العلم ، فتكون ما في موضع خفض بالإضافة.
قال ابن عطية : وإذا قدر الأول اسماً ، فلا بد من إضمار فعل ينصب غيب ، تقديره : إني أعلم من كل أعلم غيب ، وكونها في الموضعين فعلاً مضارعاً أخصر وأبلغ. انتهى.

وما نقله ابن عطية عن المهدوي وهم.
والذي ذكر المهدوي في تفسيره ما نصه : { وأعلم ما تبدون } ، يجوز أن ينتصب ما بأعلم على أنه فعل ، ويجوز أن يكون بمعنى عالم ، أو يكون ما جراً بالإضافة ، ويجوز أن يقدر التنوين في أعلم إذا قدرته بمعنى عالم وتنصب ما به ، فيكون بمعنى حواج بيت الله ، انتهى.
فأنت ترى أنه لم يذهب إلى أن أفعل للتفضيل وأنه لم يجز الجر في ما والنصب ، وتكون أفعل اسماً إلا إذا كان بمعنى فاعل لا أفعل تفضيل ، ولا يمكن أن يقال ما نقله ابن عطية عن المهدوي من جواز أن يكون أعلم أفعل بمعنى التفضيل ، وخفض ما بالإضافة ألبتة.
{ غيب السموات والأرض } : تقدم الكلام على هذه الألفاظ الثلاثة ، واختلف في الغيب هنا ، فقيل : غيب السموات : أكل آدم وحواء من الشجرة ، لأنها أول معصية وقعت في السماء ، وغيب الأرض : قتل قابيل هابيل ، لأنها أول معصية كانت في الأرض.
وقيل : غيب السموات ما قضاه من أمور خلقه ، وغيب الأرض ما فعلوه فيها بعد القضاء.
وقيل : غيب السموات ما غاب عن ملائكته المقربين وحملة عرشه مما استأثر به تعالى من أسرار الملكوت الأعلى ، وغيب الأرض ما أخفاه عن أنبيائه وأصفيائه من أسرار ملكوته الأدنى وأمور الآخرة الأولى.
{ وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } قال علي وابن مسعود وابن عباس ، رضوان الله عليهم أجمعين : ما تبدون : الضمير للملائكة ، وما كنتم تكتمون : يعني إبليس.
فيكون من خطاب الجمع ، ويراد به الواحد نحو : { إنّ الذين ينادونك } وروي أن إبليس مرّ على جسد آدم بين مكة والطائف قبل أن ينفخ فيه الروح فقال : لأمر مّا خلق هذا ، ثم دخل من فيه وخرج من دبره وقال : إنه خلق لا يتمالك لأنه أجوف ، ثم قال للملائكة الذين معه : أرأيتم إن فضل هذا عليكم وأمرتم بطاعته ما تصنعون؟ قالوا : نطيع الله ، فقال إبليس في نفسه : والله لئن سلّطت عليه لأهلكنه ، ولئن سلّط علي لأعصينه ، فهذا قوله تعالى : { وأعلم ما تبدون } الآية ، يعني : من قول الملائكة وكتم إبليس.
وقال الحسن وقتادة : ما أبدوه هو قولهم : { أتجعل فيها } ، وما كتموه قولهم : لن يخلق الله أكرم عليه منا ، وقيل : ما أبدوه قولهم : { أتجعل فيها } وما كتموه أضمروه من الطاعة لله والسجود لآدم.
وقيل : ما أبدوه هو الإقرار بالعجز ، وما كتموه الكراهية لاستخلاف آدم عليه السلام.
وقيل : هو عام فيما أبدوه وما كتموه من كل أمورهم ، وهذا هو الظاهر.
وأبرز الفعل في قوله : { وأعلم } ليكون متعلقه جملة مقصودة بالعامل ، فلا يكون معمولها مندرجاً تحت الجملة الأولى ، وهو يدل على الاهتمام بالإخبار ، إذ جعل مفرداً بعامل غير العامل ، وعطف قوله { وما كنتم تكتمون } هو من باب الترقي في الإخبار ، لأن علم الله تعالى واحد لا تفاوت فيه بالنسبة إلى شيء من معلوماته ، جهراً كان أو سراً ، ووصل ما بكنتم يدل على أن الكتم وقع فيما مضى ، وليس المعنى أنهم كتموا عن الله لأن الملائكة أعرف بالله وأعلم ، فلا يكتمون الله شيئاً ، وإنما المعنى أنه هجس في أنفسهم شيء لم يظهره بعضهم لبعض ، ولا أطلعه عليه ، وإن كان المعنى إبليس ، فقد تقدم أنه قال في نفسه : ما حكيناه قيل عنه ، فكتم ذلك عن الملائكة.
وقد تضمن آخر هذه الآية من علم البديع الطباق وهو قوله : { ما تبدون وما كنتم تكتمون }.

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)

السجود : التذلل والخضوع ، وقال ابن السكيت : هو الميل ، وقال بعضهم : سجد وضع جبهته بالأرض ، وأسجد : ميل رأسه وانحنى ، وقال الشاعر :
ترى ألا كم فيها سجداً للحوافر . . .
يريد أن الحوافر تطأ الأكم ، فجعل تأثر الأكم للحوافر سجوداً مجازاً ، وقال آخر :
كما سجدت نصرانة لم تحنف . . .
وقال آخر :
سجود النصارى لأحبارها . . .
يريد الإنحناء.
إبليس : اسم أعجميّ منع الصرف للعجمة والعلمية ، قال الزجاج : ووزنه فعليل ، وأبعد أبو عبيدة وغيره في زعمه أنه مشتق من الإبلاس ، وهو الإبعاد من الخير ، ووزنه على هذا ، أفعيل ، لأنه قد تقرر في علم التصريف أن الاشتقاق العربي لا يدخل في الأسماء الأعجمية ، واعتذر من قال بالاشتقاق فيه عن منع الصرف بأنه لا نظير له في الأسماء ، وردّنا : غريض ، وإزميل ، وإخريط ، وإجفيل ، وإعليط ، وإصليت ، وإحليل ، وإكليل ، وإحريض.
وقد قيل : شبه بالأسماء الأعجمية ، فامتنع الصرف للعلمية ، وشبه العجمة ، وشبه العجمة هو أنه وإن كان مشتقاً من الإبلاس فإنه لم يسم به أحد من العرب ، فصار خاصاً بمن أطلقه الله عليه ، فكأنه دليل في لسانهم ، وهو علم مرتجل.
وقد روي اشتقاقه من الإيلاس عن ابن عباس والسدي ، وما إخاله يصح.
الإباء : الامتناع ، قال الشاعر :
وأما أن تقولوا قد أبينا . . .
فشرّ مواطن الحسب الإباء
والفعل منه : أبي يأبى ، ولما جاء مضارعه على يفعل بفتح العين وليس بقياس أمرى ، كأنه مضارع فعل بكسر العين ، فقالوا فيه : يئبى بكسر حرف المضارعة ، وقد سمع فيه أبي بكسر العين فيكون يأبى على هذه اللغة قياساً ، ووافق من قال أبي بفتح العين على هذه اللغة.
وقد زعم أبو القاسم السعدي أن أبى يأتي بفتح العين لا خلاف فيه ، وليس بصحيح ، فقد حكى أبى بكسر العين صاحب المحكم.
وقد جاء يفعل في أربعة عشر فعلاً وماضيها فعل ، وليست عينه ولا لامه حرف حلق.
وفي بعضها سمع أيضاً فعل بكسر العين ، وفي بعض مضارعها سمع أيضاً يفعل ويفعل بكسر العين وضمها ، ذكرها التصريفيون.
الاستكبار والتكبر : وهو مما جاء فيه استفعل بمعنى تفعل ، وهو أحد المعاني الإثنى عشر التي جاءت لها استفعل ، وهي مذكورة في شرح نستعين.
{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين } لم يؤثر فيها سبب نزول سمعي ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أن الله تعالى لما شرف آدم بفضيلة العلم وجعله معلماً للملائكة وهم مستفيدون منه مع قولهم السابق : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء }.
أراد الله أن يكرم هذا الذي استخلفه بأن يسجد له ملائكته ، ليظهر بذلك مزية العلم على مزية العبادة.
قال الطبري : قصة إبليس تقريع لمن أشبهه من بني آدم ، وهم اليهود الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، مع علمهم بنبوته ، ومع قدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم.

وإذ : ظرف كما سبق فقيل بزيادتها.
وقيل : العامل فيها فعل مضمر يشيرون إلى ادكر.
وقيل : هي معطوفة على ما قبلها ، يعني قوله : { وإذ قال ربك } ، ويضعف الأول بأن الأسماء لا تزاد ، والثاني أنها لازم ظرفيتها ، والثالث لاختلاف الزمانين فيستحيل وقوع العامل الذي اخترناه في إذ الأولى في إذ هذه.
وقيل : العامل فيها أبى ، ويحتمل عندي أن يكون العامل في إذ محذوف دل عليه قوله : { فسجدوا } ، تقديره : انقادوا وأطاعوا ، لأن السجود كان ناشئاً عن الانقياد للأمر.
وفي قوله : { قُلْنَا } التفات ، وهو من أنواع البديع ، إذ كان ما قبل هذه الآية قد أخبر عن الله بصورة الغائب ، ثم انتقل إلى ضمير المتكلم ، { وأتى بنا } التي تدل على التعظيم وعلوّ القدرة وتنزيله منزلة الجمع ، لتعدد صفاته الحميدة ومواهبه الجزيلة.
وحكمة هذا الالتفات وكونه بنون المعظم نفسه أنه صدر منه الأمر للملائكة بالسجود ، ووجب عليهم الامتثال ، فناسب أن يكون الأمر في غاية من التعظيم ، لأنه متى كان كذلك كان أدعى لامتثال المأمور فعل ما أمر به من غير بطء ولا تأول لشغل خاطره بورود ما صدر من المعظم.
وقد جاء في القرآن نظائر لهذا ، منها : { وقلنا يا آدم اسكن } { وقلنا اهبطوا } { قلنا يا نار كوني برداً } ، وقلنا من بعده لبني إسرائيل : { 1اسكنوا الأرض } { وقلنا لهم ادخلوا الباب } { وقلنا لهم لا تعدوا } فأنت ترى هذا الأمر وهذا النهي كيف تقدّمهما الفعل المسند إلى المتكلم المعظم نفسه ، لأن الآمر اقتضى الاستعلاء على المأمور ، فظهر للمأمور بصفة العظمة ، ولا أعظم من الله تعالى ، والمأمورون بالسجود ، قال السدي : عامة الملائكة.
وقال ابن عباس : الملائكة الذين يحكمون في الأرض.
وقرأ الجمهور : للملائكة بجر التاء.
وقرأ أبو جعفر يزيد ابن القعقاع وسليمان بن مهران : بضم التاء ، اتباعاً لحركة الجيم ونقل أنها لغة أزدشنوءة.
قال الزجاج : هذا غلط من أبي جعفر ، وقال الفارسي : هذا خطأ ، وقال ابن جني : لأن كسرة التاء كسرة إعراب ، وإنما يجوز هذا الذي ذهب إليه أبو جعفر ، إذا كان ما قبل الهمزة ساكناً صحيحاً نحو : { وقالت اخرج } وقال الزمخشري : لا يجوز لاستهلاك الحركة الإعرابية بحركة الاتباع إلا في لغة ضعيفة كقولهم : { الحمد لله } ، انتهى كلامه.
وإذا كان ذلك في لغة ضعيفة ، وقد نقل أنها لغة أزدشنوءة ، فلا ينبغي أن يخطأ القارىء بها ولا يغلط ، والقارىء بها أبو جعفر ، أحد القراء المشاهير الذين أخذوا القرآن عرضاً عن عبد الله بن عباس وغيره من الصحابة ، وهو شيخ نافع بن أبي نعيم ، أحد القراء السبعة ، وقد علل ضم التاء لشبهها بألف الوصل ، ووجه الشبه أن الهمزة تسقط في الدرج لكونها ليست بأصل ، والتاء في الملائكة تسقط أيضاً لأنها ليست بأصل.

ألا تراهم قالوا : الملائك؟ وقيل : ضمت لأن العرب تكره الضمة بعد الكسرة لثقلها.
{ اسجدوا } : أمر ، وتقتضي هذه الصيغة طلب إيقاع الفعل في الزمان المطلق استقباله ، ولا تدل بالوضع على الفور ، وهذا مذهب الشافعي والقاضي أبي بكر بن الطيب ، واختاره الغزالي والرازي خلافاً للماليكة من أهل بغداد ، وأبي حنيفة ومتبعيه.
وهذه مسألة يبحث فيها في أصول الفقه ، وهذ الخلاف إنما هو حيث لا تدل قرينة على فور أو تأخير.
وأما هنا فالعطف بالفاء يدل على تعقيب القول بالفعل من غير مهلة ، فتكون الملائكة قد فهموا الفور من شيء آخر غير موضوع اللفظ ، فلذلك بادروا بالفعل ولم يتأخروا.
والسجود المأمور به والمفعول إيماء وخضوع ، قاله الجمهور ، أو وضع الجبهة على الأرض مع التذلل ، أو إقرارهم له بالفضل واعترافهم له بالمزية ، وهذا يرجع إلى معنى السجود اللغوي ، قال : فإن من أقر لك بالفضل فقد خضع لك.
{ لآدم } : من قال بالسجود الشرعي قال : كان السجود تكرمة وتحية له ، وهو قول الجمهور : علي وابن مسعود وابن عباس ، كسجود أبوي يوسف ، لا سجود عبادة ، أو لله تعالى ، ونصبه الله قبلة لسجودهم كالكعبة ، فيكون المعنى إلى آدم ، قاله الشعبي ، أو لله تعالى ، فسجد وسجدوا مؤتمين به ، وشرفه بأن جعله إماماً يقتدون به.
والمعنى في : { لآدم } أي مع آدم.
وقال قوم : إنما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم قبل أن يخلقه ، فالسجود امتثال لأمر الله ، والسجود له ، قاله مقاتل ، والقرآن يرد هذا القول.
وقال قوم : كان سجود الملائكة مرتين.
قيل : والإجماع يرد هذا القول ، والظاهر أن السجود هو بالجبهة لقوله : { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } وقيل : لا دليل في ذلك ، لأن الجاثي على ركبتيه واقع ، وأن السجود كان لآدم على سبيل التكرمة ، وقال بعضهم : السجود لله بوضع الجبهة ، وللبشر بالانحناء ، انتهى.
ويجوز أن يكون السجود في ذلك الوقت للبشر غير محرم ، وقد نقل أن السجود كان في شريعة من قبلنا هو التحية ، ونسخ ذلك في الإسلام.
وقيل : كان السجود لغير الله جائزاً إلى زمن يعقوب ، ثم نسخ ، وقال الأكثرون : لم ينسخ إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
" وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال في حديث عرض عليه الصحابة أن يسجدوا له : «لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا لله رب العالمين» " وأن معاذاً سجد للنبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عن ذلك.
قال ابن عطاء : لما استعظموا تسبيحهم وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريهم بذلك استغناءه عنهم وعن عبادتهم.
{ فسجدوا } ، ثم : محذوف تقديره : فسجدوا له ، أي لآدم.
دل عليه قول : { اسجدوا لآدم } ، واللام في لآدم للتبيين ، وهو أحد المعاني السبعة عشر التي ذكرناها عند شرح { الحمد لله }.

{ إلا إبليس } : هو مستنثى من الضمير في فسجدوا ، وهو استثناء من موجب في نحو هذه المسألة فيترجح النصب ، وهو استثناء متصل عند الجمهور : ابن مسعود وابن عباس وابن المسيب وقتادة وابن جريج ، واختاره الشيخ أبو الحسن والطبري ، فعلى هذا يكون ملكاً ثم أبلس وغضب عليه ولعن فصار شيطاناً.
وروى في ذلك آثار عن ابن عباس وقتادة وابن جبير ، وقد اختلف في اسمه فقيل : عزازيل ، وقيل : الحرث.
وقيل : هو استثناء منقطع ، وأنه أبو الجن ، كما أن آدم أبو البشر ، ولم يكن قط ملكاً ، قاله ابن زيد والحسن ، وروي عن ابن عباس.
وروي عن ابن مسعود وشهر بن حوشب : أنه من الجن الذين كانوا في الأض وقاتلتهم الملائكة ، فسبوه صغيراً وتعبد مع الملائكة وخوطب معهم ، واستدل على أنه ليس من الملائكة بقوله تعالى : { جاعل الملائكة رسلاً } فعم ، فلا يجوز على الملائكة الكفر ولا الفسق ، كما لا يجوز على رسله من البشر ، وبقوله : { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } ، وبقوله : { كان من الجن } وبأن له نسلاً ، بخلاف الملائكة ، والظاهر أنه استثناء متصل لتوجه الأمر على الملائكة ، فلو لم يكن منهم لما توجه الأمر عليه ، فلم يقع عليه ذم لتركه فعل ما لم يؤمر به.
وأما جاعل الملائكة رسلاً ، ولا يعصون الله ما أمرهم ، فهو عام مخصوص ، إذ عصمتهم ليست لذاتهم ، إنما هي بجعل الله لهم ذلك ، وأما إبليس فسلبه الله تعالى الصفات الملكية وألبسه ثياب الصفات الشيطانية.
وأما قوله تعالى : { كان من الجن } ، فقال قتادة : هم صنف من الملائكة يقال لهم الجنة.
وقال ابن جبير : سبط من الملائكة خلقوا من نار ، وإبليس منهم ، أو أطلق عليه من الجن لأنه لا يرى ، كما سمي الملائكة جنة ، أو لأنه سمي باسم ما غلب عليه ، أو بما كان من فعله ، أو لأن الملائكة تسمى جناً.
قال الأعشى في ذكر سليمان على نبينا وعليه السلام :
وسخر من جن الملائك تسعة . . .
قياماً لديه يعملون بلا أجر
{ أبى } : امتنع وأنف من السجود لآدم.
{ واستكبر } : تكبر وتعاظم في نفسه وقدم الإباء على الاستكبار ، وإن كان الاستكبار هو الأول ، لأنه من أفعال القلوب وهو التعاظم ، وينشأ عنه الإباء من السجود اعتباراً بما ظهر عنه أولاً ، وهو الامتناع من السجود ، ولأن المأمور به هو السجود ، فلما استثنى إبليس كان محكوماً عليه بأنه ترك السجود ، أو بأنه مسكوت عنه غير محكوم عليه على الاختلاف الذي نذكره قريباً إن شاء الله.
والمقصود : الإخبار عنه بأنه خالف حاله حال الملائكة.
فناسب أن يبدأ أولاً بتأكيد ما حكم به عليه في الاستثناء ، أو بإنشاء الإخبار عنه بالمخالفة ، والذي يؤدي هذا المعنى هو الإباء من السجود.
والخلاف الذي أشرنا إليه هو أنك إذا قلت : قام القوم إلا زيداً ، فمذهب الكسائي أن التخريج من الاسم ، وأن زيداً غير محكوم عليه ام ولا غيره ، فيحتمل أن يكون قد قام ، وأن يكون غير قائم.

ومذهب الفراء أن الاستثناء من القول ، والصحيح مذهبنا ، وهو أن الاسم مستثنى من الاسم وأن الفعل مستثنى من الفعل.
ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب النحو ، ومفعول أبي محذوف لأنه يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد ، قال الشاعر :
أبى الضيم والنعمان يحرق نابه . . .
عليه فأفضى والسيوف معاقله
والتقدير : أبى السجود ، وأبى من الأفعال الواجبة التي معناها النفي ، ولهذا يفرغ ما بعد إلا كما يفرغ لفعل المنفي ، قال تعالى : { ويأبى الله إلا أن يتم نوره } ولا يجوز : ضربت إلا زيداً على أن يكون استثناء مفرغاً لأن إلا لا تدخل في الواجب ، وقال الشاعر :
أبى الله إلا عدله ووفاءه . . .
فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
وأبى زيد الظلم : أبلغ من لم يظلم ، لأن نفي الشيء عن الشخص قد يكون لعجز أو غيره ، فإذا قلت : أبى زيد كذا ، دل على نفي ذلك عنه على طريق الامتناع والأنفة منه ، فلذلك جاء قوله تعالى : { أبى } ، لأن استثناء إبليس لا يدل إلا على أنه لم يسجد ، فلو اقتصر عليه لجاز أن يكون تخلفه عن السجود لأمر غير الإباء ، فنص على سبب كونه لم يسجد وهو الإباء والأنفة.
{ وكان في الكافرين } قيل : كان بمعنى صار ، وقيل : على بابها أي كان في علم الله لأنه لا خلاف أنه كان عالماً بالله قبل كفره.
فالمعنى : أنه كان في علم الله سيكون من الكافرين.
قال أبو العالية : من العاصين ، وصلة أل هنا ظاهرها الماضي ، فيكون قد سبق إبليس كفار ، وهم الجن الذين كانوا في الأرض ، أو يكون إبليس أول من كفر مطلقاً ، إن لم يصح أنه كان كفار قبله ، وإن صح ، فيفيد أول من كفر بعد إيمانه ، أو يراد الكفر الذي هو التغطية للحق ، وكفر إبليس قيل : جهل سلبه الله ما كان وهبه من العلم ، فخالف الأمر ونزع يده من الطاعة ، وقيل : كفر عناد ولم يسلب العلم بل كان الكبر مانعه من السجود.
قال ابن عطية : والكفر عناداً مع بقاء العلم مستبعد ، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن شاء ، انتهى كلامه.
وهذا الذي ذكره جوازه واقع بالفعل.
هذا فرعون كان عالماً بوحدانية الله وربوبيته دون غيره ، ومع ذلك حمله حب الرئاسة والإعجاب بما أوتي من الملك ، فادعى الألوهية مع علمه.
وأبو جهل ، كان يتحقق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ويعلم أن ما جاء به حق ، ومع ذلك أنكر نبوته ، وأقام على الكفر.
وكذلك الأخنس ، وأمية بن أبي الصلت ، وغيرهما ممن كفر عناداً ، مع علمهم بصدق الرسل ، وقد قسم العلماء الكفار إلى كافر بقلبه ولسانه ، كالدهرية والمنكرين رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكافر بقلبه مؤمن بلسانه وهم المنافقون ، ومؤمن بقلبه كافر بلسانه ، كفرعون ومن ذكر معه فلا ينكر الكفر مع وجود العلم.

وقد استدل المعتزلة بهذه الآية على أن المعصية توجب الكفر ، وأجيب بأنه كافر منافق وإن كان مؤمناً فإنما كفر لاستكباره واعتقاد كونه محقاً في ذلك التمرد ، واستدلاله على ذلك بقوله : { أنا خير منه } قال القشيري : لما كان إبليس مدة في دلال طاعته يختال في مراد موافقته ، سلموا له رتبة التقدم واعتقدوا فيه استحقاق التخصص ، فصار أمره كما قيل :
وكان سراج الوصل أزهر بيننا . . .
فهبت به ريح من البين فانطفا
سئل أبو الفتوح أحمد ، أخو أبي حامد الغزالي عن إبليس فقال : لم يدر ذلك المسكين أن أظافير القضاء إذا حكت أدمت وقسي القدر إذا رمت أصمت ، ثم أنشد :
وكنا وليلى في صعود من الهوى . . .
فلما توافينا ثبت وزلت

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)

أسكن ، أقم ، ومصدره السكنى كالرجعى ، والمعنى راجع إلى السكون ، وهو عدم الحركة.
وكان الساكن في المكان للبثه واستقراره فيه غير متحرك بالنسبة إلى غيره من الأماكن.
رغداً : أي واسعاً كثير الاعناء فيه ، قال امرؤ القيس :
بينما المرء تراه ناعماً . . .
يأمن الأحداث في عيش رغد
وتميم تسكن الغين.
وزعم بعض الناس أن كل اسم ثلاثي حلقي العين صحيح اللام يجوز فيه تحريك عينه وتسكينها ، مثل : بحر وبحر ، ونهر ونهر ، فأطلق هذا الإطلاق ، وليس كذلك ، بل ما وضع من ذلك على فعل بفتح العين لا يجوز فيه التسكين نحو : السحر لا يقال فيه السحر ، وإنما الكلام في فعل المفتوح الفاء الساكن العين ، وفي ذلك خلاف.
ذهب البصريون إلى أن فتح ما ورد من ذلك مقصور على السماع ، وهو مع ذلك مما وضع على لغتين ، لا أن أحدهما أصل للآخر.
وذهب الكوفيون إلى أن بعضه ذو لغتين ، وبعضه أصله التسكين ثم فتح.
وقد اختار أبو الفتح مذهب الكوفيين ، والاستدلال مذكور في كتب النحو.
حيث : ظرف مكان مبهم لازم الظرفية ، وجاء جره بمن كثيراً وبفي ، وإضافة لدى إليه قليلاً ، ولإضافتها لا ينعقد منها مع ما بعدها كلام ، ولا يكون ظرف زمان خلافاً للأخفش ، ولا ترفع اسمين نائبة عن ظرفين ، نحو : زيد حيث عمر ، وخلافاً للكوفيين ، ولا يجزم بها دون ما خلافاً للفراء ، ولا تضاف إلى المفرد خلافاً للكسائي ، وما جاء من ذلك حكمنا بشذوذ ، وهي مبنية وتعتقب على آخرها الحركات الثلاث ، ويجوز : حوث ، بالواو وبالحركات الثلاثة.
وحكى الكسائي أن إعرابها لغة بني فقعس.
القربان : معروف ، وهو الدنوّ من الشيء.
هذه : تكسر الهاء باختلاس وأشباع ، وتسكن ، ويقال : هذي بالياء ، والهاء فيما ذكروا بدل منها ، وقالوا : ذ بكسر الذال بغير ياء ولا هاء ، وهي تأنيث ذا ، وربما ألحقوا التاء لتأنيث ذا فقالوا ذات مبنية على الكسر.
الشجرة : بفتح الشين والجيم ، وبعض العرب تكسر الشين ، وإبدال الجيم ياء مع كسر الشين وفتحها منقول ، وخالف أبو الفتح في كون اليد بدلاً ، وقد أطلنا الكلام على ذلك في تأليفنا ( كتاب التكميل لشرح التسهيل ).
والشجر : ما كان على ساق ، والنجم : ما نجم وانبسط على الأرض ليس له ساق.
الظلم : أصله وضع الشيء في غير موضعه ، ثم يطلق على الشرك ، وعلى الجحد ، وعلى النقص.
والمظلومة : الأرض التي لم تمطر ، ومعناه راجع إلى النقص.
{ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } الآية : لم يؤثر فيها سبب نزول سمعي ، ومناسبتها لما قبلها : أن الله لما شرف آدم برتبة العلم وبإسجاد الملائكة له ، امتن عليه بأن أسكنه الجنة التي هي دار النعيم.
أباح له جميع ما فيها إلا الشجرة ، على ما سيأتي فيها ، إن شاء الله.

وقلنا : معطوف على الجملة السابقة التي هي قوله تعالى : { وإذا قلنا } : لا على قلنا وحده لاختلاف زمانيهما ، ومعمول القول المنادى وما بعده ، وفائدة النداء تنبيه المأمور له يلقى إليه من الأمر ، وتحريكه لما يخاطب به ، إذ هو من الأمور التي ينبغي أن يجعل لها البال ، وهو الأمر بسكنى الجنة.
قالوا : ومعنى الأمر هنا إباحة السكنى والإذن فيها ، مثل : { وإذا حللتم فاصطادوا } { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } لأن الاستقرار في المواضع الطيبة لا تدخل تحت التعبد ، وقيل : هو أمر وجوب وتكليف ، لأنه أمر بسكنى الجنة ، وبأن يأكل منها ، ونهاه عن شجرة واحدة.
والأصح أن الأمر بالسكنى وما بعده مشتمل على ما هو إباحة ، وهو الانتفاع بجميع نعيم الجنة ، وعلى ما هو تكليف ، وهو منعه من تناول ما نهى عنه.
وأنت : توكيد للضمير المستكن في أسكن ، وهذا أحد المواضع التي يستكن فيها الضمير وجوباً.
وزوجك : معطوف على ذلك الضمير المستكن ، وحسن العطف عليه تأكيده بأنت ، ولا يجوز عند البصريين العطف عليه دون تأكيد أو فصل يقوم مقام التأكيد ، أو فصل بلا بين حرف العطف والمعطوف ، وما سوى ذلك ضرورة وشاذ.
وقد روي : قم وزيد ، وأجاز الكوفيون العطف على ذلك الضمير من غير توكيد ولا فصل.
وتظافرت نصوص النحويين والمعربين على ما ذكرناه من أن وزوجك معطوف على الضمير المستكن في اسكن ، ويكون إذ ذاك من عطف المفردات.
وزعم بعض الناس أنه لا يجوز إلا أن يكون من عطف الجمل ، التقدير : ولتسكن زوجك ، وحذف : ولتسكن ، لدلالة اسكن عليه ، وأتى بنظائر من هذا الباب نحو : لا نخلفه نحن ولا أنت ، ونحو : تقوم أنت وزيد ، ونحو : ادخلوا أولكم وآخركم ، وقوله :
نطوف ما نطوف ثم يأوي . . .
ذوو الأموال منا والعديم
إذا أعربناه بدلاً لا توكيداً ، هو على إضمار فعل ، فتقديره عنده ، ولا تخلفه أنت ، ويقوم زيد ، وليدخل أولكم وآخركم ، ويأوي ذوو الأموال.
وزعم أنه استخرج ذلك من نص كلام سيبويه ، وليس كما زعم بل نص سيبويه على مسألة العطف في كتابه ، كما ذهب إليه النحويون.
قال سيبويه ، رحمه الله : وأما ما يقبح أن يشركه المظهر فهو الضمير المرفوع ، وذلك فعلت وعبد الله ، وأفعل وعبد الله ، ثم ذكر تعليل الخليل لقبحه ، ثم قال : نعته حسن أن يشركه المظهر ، وذلك قولك : ذهبت أنت وزيد.
وقال الله عز وجل : { اذهب وربك فقاتلا } { اواسكن أنت وزوجك الجنة } ، انتهى.
فهذا نص من سيبويه على أنه من عطف المظهر على المضمر ، وقد أجمع النحويون على جواز : تقوم عائشة وزيد ، ولا يمكن لزيد أن يباشر العامل ، ولا نعلم خلافاً أن هذا من عطف المفردات.
ولتكميل الكلام على هذه المسألة مكان غير هذا ، وتوجه الأمر بالسكنى على زوج آدم دليل على أنها كانت موجودة قبله ، وهو قول بعض المفسرين أنها خلقت من وقت علمه الله الأسماء وأنبأهم هو إياها.

نام نومة فخلقت من ضلعه الأقصر قبل دخول الجنة.
وأكثر أئمة التفسير أنها خلقت بعد دخول آدم الجنة.
استوحش بعد لعن إبليس وإخراجه من الجنة فنام ، فاستيقظ فوجدها عند رأسه قد خلقها الله من ضلعه الأيسر ، فسألها : من أنت؟ قالت : امرأة ، قال : ولم خلقت؟ قالت : تسكن إليّ ، فقالت له الملائكة ، ينظرون مبلغ علمه : ما اسمها؟ قال : حوّاء.
قالوا : لم سميت حوّاء؟ قال : لأنها خلقت من شيء حي.
وفي هذه القصة زيادات ذكرها المفسرون لا نطول بذكرها لأنها ليست مما يتوقف عليها مدلول الآية ولا تفسيرها.
وعلى هذا القول يتوجه الخطاب على المعدوم ، لأنه في علم الله موجود ، ويكون آدم قد سكن الجنة لما خلقت أمراً معاً بالسكنى ، لتسكن قلوبهم وتطمئن بالقرار في الجنة.
وقد تكلم بعض الناس على أحكام السكنى ، والعمرى ، والرقبى ، وذكر كلام الفقهاء في ذلك ، واختلافهم حين فسر قوله تعالى : { اسكن أنت وزوجك الجنة } ، وليس في الآية ما يدل على شيء مما ذكر.
الجنة : قال أبو القاسم البلخي ، وأبو مسلم الأصبهاني : كانت في الأرض ، قيل : بأرض عدن.
والهبوط : الانتقال من بقعة إلى بقعة ، كما في قوله : { اهبطوا مصراً } لأنها لو كانت دار الخلد لما لحقه الغرور من إبليس بقوله : { هل أدلك } ولأن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله : { وما هم منها بمخرجين } ولأن إبليس ملعون ، فلا يصل إلى جنة الخلد ، ولأن دار الثواب لا يفنى نعيمها لقوله : { أُكلها دائم } ولأنه لا يجوز في حكمته أن يبتدىء الخلق في جنة يخلدهم ، ولأنه لا نزاع في أنه تعالى خلق آدم في الأض ، ولم يذكر في هذه القصة أنه نقله إلى السماء.
ولو كان نقله إلى السماء لكان أولى بالذكر ، لأنه من أعظم النعم.
وقال الجبائي : كانت في السماء السابعة لقوله : { اهبطوا } ، ثم الهبوط الأول كان من تلك السماء إلى السماء الأولى ، والهبوط الثاني كان من السماء إلى الأرض.
وقالت الجمهور : هي في السماء ، وهي دار الثواب ، لأن الألف واللام في الجنة لا تفيد العموم ، لأن سكنى جميع الجنان محال ، فلا بد من صرفها إلى المعهود السابق ، والمعهود دار الثواب ، ولأنه ثبت في الصحيح في محاجة آدم موسى فقال له : يا آدم أنت أشقيت بنيك وأخرجتهم من الجنة؟ فلم ينازعه آدم في ذلك.
وقيل : هي السماء وليست دار الثواب ، بل هي جنة الخلد.
وقيل : في السماء جنة غير دار الثواب وغير جنة الخلد.
ورد قول من قال : إنها بستان في السماء ، فلم يصح أن في السماء بساتين غير بساتين الجنة.
ومما استدل به من قال : إنها في الأرض قوله تعالى :

{ لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً } { ولا لغو فيها ولا تأثيم } { وما هم منها بمخرجين } وقد لغا إبليس فيها وكذب وأخرج منها آدم وحوّاء ، ولأنها لو كانت دار الخلد لما وصل إليها إبليس ووسوس لهما حتى أخرجهما ، ولأن جنة الخلد دار نعيم وراحة وليست بدار تكليف.
وقد تكلف آدم أن لايأكل من الشجرة ، ولأن إبليس كان من الجن المخلوقين من نار السموم.
وقد نقل أنه كان من الجن الكفار الذين طردوا في الأرض ، ولو كانت جنة الخلد لما دخلتها ، ولأنها محل تطهير ، فكيف يحسن أن يقع فيها العصيان والمخالفة ويحل بها غير المطهرين؟.
وأجيب عن الآيات أنها محمولة على حالهم بعد دخول الاستقرار والخلود ، لا على دخولهم على سبيل المرور والجواز.
فقد صح دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة في ليلة المعراج وفي غيرها ، وأنه رآها في حديث الكسوف.
وأما دخول إبليس إليها فدخول تسليط لا تكريم ، وذلك إن صح قالوا : والصحيح أنه لم يدخل الجنة بل وقف على بابها وكلمهما ، وأراد الدخول فردته الخزنة ، وقيل : دخل في جوف الحية مستتراً.
وأما كونها ليست دار تكليف ، فذلك بعد دخولهم فيها للإقامة المستمرة والجزاء بالأعمال الصالحة.
وأما الدخول الذي يعقبه الخروج بسبب المخالفة ، فلا ينافي التكليف بل لا يكون خالياً منه.
{ وكُلا } : دليل على أن الخطاب لهما بعد وجود حوّاء ، لأن الأمر بالأكل للمعدوم فيه بعد ، إلا على تقدير وجوده ، والأصل في : كل أؤكل.
الهمزة الأولى هي المجتلبة للوصل ، والثانية هي فاء الكلمة ، فحذفت الثانية لاجتماع المثلين حذف شذوذ ، فوليت همزة الوصل الكاف ، وهي متحركة ، وإنما اجتلبت للساكن ، فلما زال موجب اجتلابها زالت هي.
قال ابن عطية وغيره : وحذفت النون من كلا للأمر ، انتهى كلامه.
وهذا الذي ذكر ليس على طريقة البصريين ، فإن فعل الأمر عندهم مبني على السكون ، فإذا اتصل به ضمير بارز كانت حركة آخره مناسبة للضمير ، فتقول : كلى ، وكلا ، وكلوا ، وفي الإناث يبقى ساكناً نحو : كلن.
وللمعتل حكم غير هذا ، فإذا كان هكذا فقوله : وكلا ، لم تكن فيه نون فتحذف للأمر ، وإنما يكون ما ذكره على مذهب الكوفيين ، حيث زعموا أن فعل الأمر معرب ، وأن أصل : كل التأكل ، ثم عرض فيه من الحذف بالتدريج إلى أن صار : كل.
فأصل كلا : لتأكلا ، وكان قبل دخول لام الأمر عليه فيه نون ، إذ كان أصله : تأكلان ، فعلى قولهم يتم قول ابن عطية : إن النون من كلا حذفت للأمر.
{ منها } : الضمير عائد على الجنة ، والمعنى على حذف مضاف ، أي من مطاعمها ، من ثمارها وغيرها ، ودل ذلك على إباحة الأكل لهما من الجنة على سبيل التوسعة ، إذ لم يحظر عليهما أكل ما ، إذ قال : { رغداً } ، والجمهور على فتح الغين.

وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب : بسكونها ، وقد تقدم أنهما لغتان ، وانتصاب رغداً ، قالوا : على أنه نعت لمصدر محذوف تقديره أكلا رغداً.
وقال ابن كيسان : هو مصدر في موضع الحال ، وفي كلا الإعرابين نظر.
أما الأول : فإن مذهب سيبويه يخالفه ، لأنها لا يرى ذلك ، وما جاء من هذا النوع جعله منصوباً على الحال من الضمير العائد على المصدر الدال عليه الفعل.
وأما الثاني : فإنه مقصور على السماع ، قال الزجاج : الرغد الكثير الذي لا يعنيك ، وقال مقاتل : الواسع ، وقال مجاهد : الذي لا يحاسب عليه ، وقيل : السالم من الإنكار الهني ، يقال : رغد عيش القوم ، ورغد ، بكسر الغين وضمها ، إذا كانوا في رزق واسع كثير ، وأرغد القوم : أخصبوا وصاروا في رغد من العيش.
وقالوا عيشة رغد بالسكون أيضاً.
{ حيث شئتما } : أباح لهما الأكل حيث شاءا فلم يحظر عليهما مكاناً من أماكن الجنة ، كما لم يحظر عليهما مأكولاً إلا ما وقع النهي عنه.
وشاء في وزنه خلاف ، فنقل عن سيبويه : أن وزنه فعل بكسر العين فنقلت حركتها إلى الشين فسكنت ، واللام ساكنة للضمير ، فالتقى ساكنان ، فحذفت لالتقاء الساكنين ، وكسرت الشين لتدل على أن المحذوف هو ياء ، كما صنعت في بعت.
{ ولا تقربا } : نهاهما عن القربان ، وهو أبلغ من أن يقع النهي عن الأكل ، لأنه إذا نهى عن القربان ، فكيف يكون الأكل منها؟ والمعنى : لا تقرباها بالأكل ، لا أن الإباحة وقعت في الأكل.
وحكى بعض من عاصرناه عن ابن العربي ، يعني القاضي أبا بكر ، قال : سمعت الشاشي في مجلس النضر بن شميل يقول : إذ قلت : لا تقرب ، بفتح الراء معناه : لا تلبس بالفعل ، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن ، وقد تقدم أن معنى : لا تقرب زيد : ألا تدن منه.
وفي هذه الحكاية عن ابن العربي من التخليط ما يتعجب من حاكيها ، وهو قوله : سمعت الشاشي في مجلس النضر بن شميل ، وبين النضر والشاشي من السنين مئون ، إلا إن كان ثم مكان معروف بمجلس النضر بن شميل فيمكن.
وقرىء : ولا تقربا بكسر التاء ، وهي لغة عن الحجازيين في فعل يفعل ، يكسرون حرف المضارعة التاء والهمزة والنون ، وأكثرهم لا يكسر الياء ، ومنهم من يكسرها ، فإن كان من باب : يوحل ، وكاسر ، وفاتح ، مع إقرار الواو وقلبها ألفاً.
{ هذه } : إشارة للحاضر القريب من المخاطب.
وقرأ ابن محيصن : هذي بالياء.
وقرأ الجمهور بالهاء.
{ الشجرة } : نعت لإسم الإشارة ، ويحتمل الإشارة أن تكون إلى جنس من الشجر معلوم ، ويحتمل أن تكون إلى شجرة واحدة من الجنس المعلوم ، وهذا أظهر ، لأن الإشارة لشخص ما يشار إليه.
قال ابن مسعود وابن عباس وابن جبير وجعدة بن هبيرة : هي الكرم ، ولذلك حرمت علينا الخمر ، وقال ابن عباس أيضاً ، وأبو مالك وقتادة : السنبلة ، وكان حبها ككلى البقر أحلى من العسل وألين من الزبد.

روي ذلك عن وهب.
ولما تاب الله على آدم جعلها غذاء لبنيه.
قال بعض الصحابة وقتادة : التين ، وقال علي : شجرة الكافور.
وقال الكلبي : شجرة العلم ، عليها من كل لون ، ومن أكل منها علم الخير والشر.
وقال وهب : شجرة الخلد ، تأكل منها الملائكة.
وقال أبو العالية : شجرة من أكل منها أحدث.
وقال بعض أهل الكتاب : شجرة الحنظل.
وقال أبو مالك : النخلة.
وقيل : شجرة المحنة.
وقيل : شجرة لم يعلمنا الله ما هي ، وهذا هو الأظهر ، إذ لا يتعلق بعرفانها كبير أمر ، وإنما المقصود إعلامنا أن فعل ما نهينا عنه سبب للعقوبة.
وقرىء : الشجرة بكسر الشين ، حكاها هارون الأعور عن بعض القراء.
وقرىء أيضاً الشيرة ، بكسر الشين والياء المفتوحة بعدها ، وكره أبو عمرو هذه القراءة وقال : يقرأ بها برابر مكة وسودانها ، وينبغي أن لا يكرهها ، لأنها لغة منقولة ، فيها قال الرياشي : سمعت أبا زيد يقول : كنا عند المفضل وعنده أعراب ، فقلت : إنهم يقولون شيرة ، فقالوا : نعم ، فقلت له : قل لهم يصغرونها ، فقالوا شييرة ، وأنشد الأصمعي :
نحسبه بين الأنام شيره . . .
وفي نهي الله آدم وزوجه عن قربان الشجرة دليل على أن سكناهما في الجنة لا تدوم ، لأن المخلد لا يؤمر ولا ينهى ولا يمنع من شيء.
فتكونا منصوب جواب النهي ، ونصبه عند سيبويه والبصريين بأن مضمرة بعد الفاء ، وعند الجرمي بالفاء نفسها ، وعند الكوفيين بالخلاف.
وتحرير القول في هذه المذاهب يذكر في كتب النحو.
وأجازوا أن يكون فتكونا مجزوماً عطفاً على تقربا ، قاله الزجاج وغيره ، نحو قوله :
فقلت له صوب ولا تجهدنه . . .
فيذرك من أعلى القطاة فتزلق
والأول أظهر لظهور السببية ، والعطف لا يدل عليها ، { من الظالمين } : قيل لأنفسكما بإخراجكما من دار النعيم إلى دار الشقاء ، أو بالأكل من الشجرة التي نهيتما عنها ، أو بالفضيحة بين الملأ الأعلى ، أو بمتابعة إبليس ، أو بفعل الكبيرة ، قاله الحشوية ، أو بفعل الصغيرة ، قاله المعتزلة ، أو بإلزامها ما يشق عليها من التوبة والتلافي ، قاله أبو علي ، أو بحط بعض الثواب الحاصل ، قاله أبو هاشم ، أو بترك الأولى ، قال قوم : هما أول من ظلم نفسه من الآدميين ، وقال قوم : كان قبلهم ظالمون شبهوا بهم ونسبوا إليهم.
وفي قوله : { فكتونا من الظالمين } دلالة على أن النهي كان على جهة الوجوب لا على جهة الندب ، لأن تاركه لا يسمى ظالماً.
قال بعض أهل الإشارات : الذي يليق بالخلق عدم السكون إلى الخلق ، وما زال آدم وحده بكل خير وبكل عافية ، فلما جاءه الشكل والزوج ، ظهر إتيان الفتنة وافتتاح باب المحنة ، وحين ساكن حواء أطاعها فيما أشارت عليه من الأكل ، فوقع فيما وقع.
ولقد قيل :
داء قديم في بني آدم . . .
صبوة إنسان بإنسان

وقال القشيري : كل ما منع منه توفرت دواعي ابن آدم للاقتراب منه.
هذا آدم عليه السلام أُبيح له الجنة بجملتها ، ونهي عن شجرة واحدة ، فليس في المنقول أنه مد يده إلى شيء من جملة ما أُبيح له ، وكأنه عيل صبره حتى ذاق ما نهي عنه ، هكذا صفة الخلق.
وقال : نبه على عاقبة دخول آدم الجنة من ارتكابه ما يوجب خروجه منها قوله تعالى : { إني جاعل في الأرض خليفة } فإذا أخبر تعالى بجعله خليفة في الأرض ، فكيف يمكن بقاؤه في الجنة؟ كان آدم لا أحد يوفيه في الرتبة يتوالى عليه النداء : يا آدم! ويا آدم! فأمسى وقد نزع عنه لباسه وسلب استئناسه ، والقدرة لا تكابر ، وحكم الله لا يعارض ، وقال الشاعر :
لله درهم من فتية بكروا . . .
مثل الملوك وراحوا كالمساكين

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)

أزل : من الزلل ، وهو عثور القدم.
يقال : زلت قدمه ، وزلت به النعل.
والزلل في الرأي والنظر مجاز ، وأزال : من الزوال ، وأصله التنحية.
والهمزة في كلا الفعلين للتعدية.
الهبوط : هو النزول ، مصدر هبط ، ومضارعه يهبط ويهبط بكسر الباء وضمها ، والهبوط بالفتح : موضع النزول.
وقال المفضل : الهبوط : الخروج عن البلدة ، وهو أيضاً الدخول فيها من الأضداد ، ويقال في انحطاط المنزلة مجازاً ، ولهذا قال الفراء : الهبوط : الذل ، قال لبيد :
إن يقنطوا يهبطوا يوماً وإن أُمروا . . .
بعض : أصله مصدر بعض يبعض بعضاً ، أي قطع ، ويطلق على الجزء ، ويقابله كل ، وهما معرفتان لصدور الحال منهما في فصيح الكلام ، قالوا : مررت ببعض قائماً ، وبكل جالساً ، وينوي فيهما الإضافة ، فلذلك لا تدخل عليهما الألف واللام ، ولذلك خطئوا أبا القاسم الزجاجي في قوله : ويبدل البعض من الكل ، ويعود الضمير على بعض ، إذا أريد به جمع مفرداً ومجموعاً.
وكذلك الخبر والحال والوصف يجوز إفراده إذ ذاك وجمعه.
العدو : من العداوة ، وهي مجاوزة الحدّ ، يقال : عدا فلان طوره إذا جاوزه ، وقيل : العداوة ، التباعد بالقلوب من عدوى الجبل ، وهما طرفاه ، سميا بذلك لبعد ما بينهما ، وقيل : من عدا : أي ظلم ، وكلها متقاربة في المعنى.
والعدو يكون للواحد والاثنين والجمع ، والمذكر والمؤنث ، وقد جمع فقيل : أعداء ، وقد أنث فقالوا : غدوة ، ومنه : أي عدوات أنفسهن.
وقال الفراء : قالت العرب للمرأة : عدوة الله ، وطرح بعضهم الهاء.
المستقر : مستفعل من القرار ، وهو اللبث والإقامة ، ويكون مصدراً وزماناً ومكاناً لأنه من فعل زائد على ثلاثة أحرف ، فيكون لما ذكر بصورة المفعول ، ولذلك سميت الأرض : القرارة ، قال الشاعر :
جادت عليه كل عين ثرّة . . .
فتركن كل قرارة كالدرهم
واستفعل فيه : بمعنى فعل استقر وقرّ بمعنى.
المتاع : البلغة ، وهو مأخوذ من متع النهار إذا ارتفع ، فينطلق على ما يتحصل للإنسان من عرض الدنيا ، ويطلق على الزاد وعلى الانتفاع بالنساء ، ومنه ، { فما استمتعتم به منهن } ، { ونكاح المتعة } ، { وعلى الكسوة } ، { ومتعوهن } ، وعلى التعمير ، { يمتعكم متاعاً حسناً } قالوا : ومنه أمتع الله بك ، أي أطال الله الإيناس بك ، وكله راجع لمعنى البلغة ، الحين : الوقت والزمان ، ولا يتخصص بمدة ، بل وضع المطلق منه.
تلقى : تفعل من اللقاء ، نحو تعدى من العدو ، قالوا : أو بمعنى استقبل ، ومنه : تلقى فلان فلاناً استقبله.
ويتلقى الوحي : أي يستقبله ويأخذه ويتلقفه ، وخرجنا نتلقى الحجيج : نستقبلهم ، وقال الشماخ :
إذا ما راية رفعت لمجد . . .
تلقاها عرابة باليمين
وقال القفال : التلقي التعرض للقاء ، ثم يوضع موضع القبول والأخذ ، ومنه وإنك لتلقى القرآن ، تلقيت هذه الكلمة من فلان : أخذتها منه.
الكلمة : اللفظة الموضوعة المعنى ، والكلمة : الكلام ، والكلمة : القصيدة سميت بذلك لاشتمالها على الكلمة والكلام ، ويجمع بحذف التاء فيكون اسم جنس ، نحو : نبقة ونبق.

التوبة : الرجوع ، تاب يتوب توباً وتوبة ومتاباً ، فإذا عدى بعلى ضمن معنى العطف.
تبع : بمعنى لحق ، وبمعنى تلا ، وبمعنى اقتدى.
والخوف : الفزع ، خاف ، يخاف خوفاً وتخوف تخوفاً ، فزع ، ويتعدى بالهمز وبالتضعيف ، ويكون للأمر المستقبل.
وأصل الحزن : غلظ الهم ، مأخوذ من الحزن : وهو ما غلظ من الأرض ، يقال : حزن يحزن حزناً وحزناً ، ويعدى بالهمزة وبالفتحة ، نحو : شترت عين الرجل ، وشترها الله ، وفي التعدية بالفتحة خلاف ، ويكون للأمر الماضي.
الآية : العلامة ، ويجمع آيا وآيات ، قال النابغة :
توهمت آيات لها فعرفتها . . .
لستة أعوام وذا العام سابع
ووزنها عند الخليل وسيبويه : فعلة ، فأعلت العين وسلمت اللام شذوذاً والقياس العكس.
وعند الكسائي : فاعلة ، حذفت العين لئلا يلزم فيه من الإدغام ما لزم في دابة ، فتثقل ، وعند الفراء : فعلة ، فأبدلت العين ألفاً استثقالاً للتضعيف ، كما أبدلت في قيراط وديوان ، وعند بعض الكوفيين : فعلة : استثقل التضعيف فقلبت الفاء الأولى ألفاً لانكسارها وتحرك ما قبلها ، وهذه مسألة ينهى الكلام عليها في علم التصريف.
الصحبة : الاقتران ، صحب يصحب ، والأصحاب : جمع صاحب ، وجمع فاعل : على أفعال شاذ ، والصحبة والصحابة : أسماء جموع ، وكذا صحب على الأصح خلافاً للأخفش ، وهي لمطلق الاقتران في زمان ما.
{ فأزلهما الشيطان عنها } : الهمزة : كما تقدم في أزل للتعدية ، والمعنى : جعلهما زلا بإغوائه وحملهما على أن زلاً وحصلا في الزلة ، هذا أصل همزة التعدية.
وقد تأتي بمعنى جعل أسباب الفعل ، فلا يقع إذ ذاك الفعل.
تقول : أضحكت زيداً فما ضحك وأبكيته فما بكى ، أي جعلت له أسباب الضحك وأسباب البكاء فما ترتب على ذلك ضحكه ولا بكاؤه ، والأصل هو الأول ، وقال الشاعر :
كميت يزل اللبد عن حال متنه . . .
كما زلت الصفواء بالمتنزل
معناه : فيما يشرح الشراح ، يزل اللبد : يزلقه عن وسط ظهره ، وكذلك قوله : يزل الغلام الخف عن صهواته : أي يزلقه.
وقيل أزلهما : أبعدهما.
تقول : زل عن مرتبته ، وزل عني ذاك ، وزل من الشهر كذا : أي ذهب وسقط ، وهو قريب من المعنى الأول ، لأن الزلة هي سقوط في المعنى ، إذ فيها خروج فاعلها عن طريق الاستقامة ، وبعده عنها.
فهذا جاء على الأصل من تعدية الهمزة.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وحمزة : فأزالهما ، ومعنى الإزالة : التنحية.
وروي عن حمزة وأبي عبيدة إمالة فأزالهما.
والشيطان : هو إبليس بلا خلاف هنا.
وحكوا أن عبد الله قرأ ، فوسوس لهما الشيطان عنها ، وهذه القراءة مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه ، فينبغي أن يجعل تفسيراً ، وكذا ما ورد عنه وعن غيره مما خالف سواد المصحف.
وأكثر قراءات عبد الله إنما تنسب للشيعة.
وقد قال بعض علمائنا : إنه صح عندنا بالتواتر قراءة عبد الله على غير ما ينقل عنه مما وافق السواد ، فتلك إنما هي آحاد ، وذلك على تقدير صحتها ، فلا تعارض ما ثبت بالتواتر.

وفي كيفية توصل إبليس إلى إغوائهما حتى أكلا من الشجرة أقاويل : قال ابن مسعود وابن عباس والجمهور : شافههما بدليل ، وقاسمهما ، قيل : فدخل إبليس الجنة على طريق الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء ، وقيل : دخل في جوف الحية.
وذكروا كيف كانت خلقة الحية وما صارت إليه ، وكيف كانت مكالمة إبليس لآدم.
وقد قصها الله تعالى أحسن القصص وأصدقه في سورة الأعراف وغيرها.
وقيل : لم يدخل إبليس الجنة ، بل كان يدنو من السماء فيكلمهما.
وقيل : قام عند الباب فنادى.
وقيل : لم يدخل الجنة بل كان ذلك بسلطانه الذي ابتلى به آدم وذريته ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم » وقيل : خاطبه من الأرض ولم يصعد إلى السماء بعد الطرد واللعن ، وكان خطابه وسوسة ، وقد أكثر المفسرون في نقل قصص كثير في قصة آدم وحواء والحية ، والله أعلم بذلك ، وتكلموا في كيفية حاله حين أكل من الشجرة ، أكان ذلك في حال التعمد ، أم في حال غفلة الذهن عن النهي بنسيان ، أم بسكر من خمر الجنة ، كما ذكروا عن سعيد بن المسيب.
وما أظنه يصح عنه ، لأن خمر الجنة ، كما ذكر الله تعالى ، { لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون } إلا إن كانت الجنة في الأرض ، على ما فسره بعضهم ، فيمكن أن يكون خمرها يسكر.
والذين قالوا : بالعمد ، قالوا : كان النهي نهي تنزيه ، وقيل : كان معه من الفزع عند إقدامه ما صير هذا الفعل صغيرة.
وقيل : فعله اجتهاداً ، وخالف لأنه تقدم الإشارة إلى الشخص لا إلى النوع ، فتركها وأكل أخرى.
والاجتهاد في الفروع لا يوجب العقاب.
وقيل كان الأكل كبيرة ، وقيل : أتاهما إبليس في غير صورته التي يعرفانها ، فلم يعرفاه ، وحلف لهما أنه ناصح.
وقيل : نسي عداوة إبليس ، وقيل : يجوز أن يتأول آدم { ولا تقربا } أنه نهي عن القربان مجتمعين ، وأنه يجوز لكل واحد أن يقرب ، والذي يسلك فيما اقتضى ظاهره بعض مخالفة تأويله على أحسن محمل ، وتنزيه الأنبياء عن النقائص.
وسيأتي الكلام على ما يرد من ذلك ، وتأويله على الوجه الذي يليق ، إن شاء الله.
وفي ( المنتخب ) للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي ما ملخصه : منعت الأمة وقوع الكفر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، إلا الفضيلية من الخوارج ، قالوا : وقد وقع منهم ذنوب ، والذنب عندهم كفر ، وأجاز الإمامية إظهار الكفر منهم على سبيل التقية ، واجتمعت الأمة على عصمتهم من الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ ، فلا يجوز عمداً ولا سهواً ، ومن الناس من جوز ذلك سهواً وأجمعوا على امتناع خطئهم في الفتيا عمداً واختلفوا في السهو.
وأما أفعالهم فقالت الحشوية : يجوز وقوع الكبائر منهم على جهة العمد.

وقال أكثر المعتزلة : بجواز الصغائر عمداً إلا في القول ، كالكذب.
وقال الجبائي : يمتنعان عليهم إلا على جهة التأويل.
وقيل : يمتنعان عليهم ، إلا على جهة السهو والخطأ ، وهم مأخوذون بذلك ، وإن كان موضوعاً عن أمتهم.
وقالت الرافضة : يمتنع ذلك على كل جهة.
واختلف في وقت العصمة فقالت الرافضة : من وقت مولدهم ، وقال كثير من المعتزلة : من وقت النبوة.
والمختار عندنا : أنه لم يصدر عنهم ذنب حالة النبوة البتة ، لا الكبيرة ولا الصغيرة ، لأنهم لو صدر عنهم الذنب لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة ، لعظيم شرفهم ، وذلك محال.
ولئلا يكونوا غير مقبولي الشهادة ، ولئلا يجب زجرهم وإيذاؤهم ، ولئلا يقتدى بهم في ذلك ، ولئلا يكونوا مستحقين للعقاب ، ولئلا يفعلون ضد ما أمرون به ، لأنهم مصطفون ، ولأن إبليس استثناهم في الاغواء.
انتهى ما لخصناه من المنتخب.
والقول في الدلائل لهذه المذاهب ، وفي إبطال ما ينبغي إبطاله منها مذكور في كتب أصول الدين.
عنها : الضمير عائد على الشجرة ، وهو الظاهر ، لأنه أقرب مذكور.
والمعنى : فحملهما الشيطان على الزلة بسببها.
وتكون عن إذ ذاك للسبب ، أي أصدر الشيطان زلتهما عن الشجرة كقوله تعالى : { وما فعلته من أمري } { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه } وقيل : عائد على الجنة ، لأنها أول مذكور ، ويؤيده قراءة حمزة وغيره : فأزالهما ، إذ يبعد فأزالهما الشيطان عن الشجرة.
وقيل : عائد على الطاعة ، قالوا بدليل قوله : { وعصى آدم ربه } فيكون إذ ذاك الضمير عائداً على غير مذكور ، إلا على ما يفهم من معنى قوله : { ولا تقربا } لأن المعنى : أطيعاني بعدم قربان هذه الشجرة.
وقيل : عائد على الحالة التي كانوا عليها من التفكه والرفاهية والتبوّء من الجنة ، حيث شاءا ، ومتى شاءا ، وكيف شاءا بدليل ، { وكلا منها رغداً } وقيل : عائد على السماء وهو بعيد.
{ فأخرجهما مما كانا فيه } من الطاعة إلى المعصية ، أو من نعمة الجنة إلى شقاء الدنيا ، أو من رفعة المنزلة إلى سفل مكانة الذنب ، أو رضوان الله ، أو جواره.
وكل هذه الأقوال متقاربة.
قال المهدوي : إذا جعل أزلهما من زل عن المكان ، فقوله : { فأخرجهما مما كانا فيه } توكيد.
إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر من الجنة ، انتهى.
والأولى أن يكون بمعنى كسبهما الزلة لا يكون بإلقاء.
قال ابن عطية : وهنا محذوف يدل عليه الظاهر تقديره : فأكلا من الشجرة ، ويعني أن المحذوف يتقدر قبل قوله : { فأزلهما الشيطان } ، ونسب الإزلال والإزالة والإخراج لإبليس على جهة المجاز ، والفاعل للأشياء هو الله تعالى.
{ وقلنا اهبطوا } : قرأ الجمهور بكسر الباء ، وقرأ أبو حياة : اهبطوا بضم الباء ، وقد ذكرنا أنهما لغتان.
والقول في : { وقلنا اهبطوا } مثل القول في : { وقلنا يا آدم اسكن } ولما كان أمراً بالهبوط من الجنة إلى الأرض ، وكان في ذلك انحطاط رتبة المأمور ، لم يؤنسه بالنداء ، ولا أقبل عليه بتنويهه بذكر اسمه.

والإقبال عليه بالنداء بخلاف قوله : { وقلنا يا آدم اسكن } ، والمخاطب بالأمر آدم وحوّاء والحية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، أو هؤلاء وإبليس ، قاله السدي عن ابن عباس ، أو آدم وإبليس ، قاله مجاهد ، أو هما وحواء ، قاله مقاتل ، أو آدم وحواء فحسب.
ويكون الخطاب بلفظ الجمع وإن وقع على التثنية نحو : { وكنا لحكمهم شاهدين } ذكره ابن الأنباري ، أو آدم وحواء والوسوسة ، قاله الحسن ، أو آدم وحواء وذريتهما ، قاله الفراء ، أو آدم وحواء ، والمراد هما وذريتهما ، ورجحه الزمخشري قال : لأنهما لما كانا أصل الأنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم.
والدليل عليه قوله : { قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدوّ } ويدل على ذلك قوله : { فمن تبع هداي } الآية ، وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم ، انتهى.
وفي قول الفراء خطاب من لم يوجد بعد ، لأن ذريتهما كانت إذ ذاك غير موجودة.
وفي قول من أدخل إبليس معهما في الأمر ضعف ، لأنه كان خرج قبلهما ، ويجوز على ضرب من التجوز.
قال كعب ووهب : أهبطوا جملة ونزلوا في بلاد متفرقة.
وقال مقاتل : أهبطوا متفرقين ، فهبط إبليس ، قيل بالأبلة ، وحواء بجدّة ، وآدم بالهند ، وقيل : بسرنديب بجبل يقال له : واسم.
وقيل : كان غذاؤه جوز الهند ، وكان السحاب يمسح رأسه فأورث ولده الصلع.
وهذا لا يصح إذ لو كان كذلك لكان أولاده كلهم صلعاً.
وروي عن ابن عباس : أن الحية أهبطت بنصيبين.
وروى الثعلبي : بأصبهان ، والمسعودي : بسجستان ، وهي أكثر بلاد الله حيات.
وقيل : بيسان.
وقيل : كان هذا الهبوط الأول من الجنة إلى سماء الدنيا.
وقيل : لما نزل آدم بسرنديب من الهند ومعه ريح الجنة ، علق بشجرها وأوديتها ، فامتلأ ما هناك طيباً ، فمن ثم يؤتى بالطيب من ريح آدم عليه السلام.
وذكر أبو الفرج بن الجوزي في إخراجه كيفية ضربنا صفحاً عن ذكرها ، قال : وأدخل آدم في الجنة ضحوة ، وأخرج منها بين الصلاتين ، فمكث فيها نصف يوم ، والنصف خمسمائة عام ، مما يعد أهل الدنيا ، والأشبه أن قوله : اهبطوا أمر تكليف ، لأن فيه مشقة شديدة بسبب ما كانا فيه من الجنة ، إلى مكان لا تحصل فيه المعيشة إلا بالمشقة ، وهذا يبطل قول من ظن أن ذلك عقوبة ، لأن التشديد في التكليف يكون بسبب الثواب.
فكيف يكون عقاباً مع ما في هبوطه وسكناه الأرض من ظهور حكمته الأزلية في ذلك ، وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في جنة ونار.
وكانت تلك الأكلة سبب هبوطه ، والله يفعل ما يشاء.
وأمره بالهبوط إلى الأرض بعد أن تاب عليه لقوله ثانية : { قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو } ، إن كان المخاطبون آدم وحواء وذريتهما ، كما قال مجاهد ، فالمراد ما عليه الناس من التعادي وتضليل بعضهم لبعض ، والبعضية موجودة في ذريتهما ، لأنه ليس كلهم يعادي كلهم ، بل البعض يعادي البعض.

وإن كان معهما إبليس أو الحية ، كما قاله مقاتل ، فليس بعض ذريتهما يعادي ذرية آدم ، بل كلهم أعداء لكل بني آدم.
ولكن بتحقق هذا بأن جعل المأمورون بالهبوط شيئاً واحداً وجزّؤوا أجزاء ، فكل جزء منها جزء من الذين هبطوا ، والجزء يطلق عليه البعض فيكون التقدير : كل جنس منكم معاد للجنس المباين له.
وقال الزجاج : إبليس عدوّ للمؤمنين وهم أعداؤه.
وقيل معناه : عداوة نفس الإنسان له وجوارحه ، وهذا فيه بعد ، وهذه الجملة في موضع الحال ، أي اهبطوا متعادين ، والعامل فيها اهبطوا.
فصاحب الحال الضمير في اهبطوا ، ولم يحتج إلى الواو لإغناء الرابط عنها ، واجتماع الواو والضمير في الجملة الإسمية الواقعة حالاً أكثر من انفراد الضمير.
وفي كتاب الله تعالى : { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة } وليس مجيئها بالضمير دون الواو شاذاً ، خلافاً للفراء ومن واقفه كالزمخشري.
وقد روى سيبويه عن العرب كلمته : فوه إلى فيّ ، ورجع عوده على بدئه ، وخرجه على وجهين : أحدهما : أن عوده مبتدأ وعلى بدئه خبر ، والجملة حال ، وهو كثير في لسان العرب ، نظمها ونثرها ، فلا يكون ذلك شاذاً.
وأجاز مكي بن أبي طالب أن تكون الجملة مستأنفة إخباراً من الله تعالى بأن بعضهم لبعض عدوّ ، فلا يكون في موضع الحال ، وكأنه فر من الحال ، لأنه تخيل أنه يلزم من القيد في الأمر أن يكون مأموراً به ، أو كالمأمور.
ألا ترى أنك إذا قلت قم ضاحكاً كان المعنى الأمر بإيقاع القيام مصحوباً بالحال فيكون مأموراً بها أو كالمأمور ، لأنك لم تسوّغ له القيام إلا في حال الضحك وما يتوصل إلى فعل المأمور إلا به مأمور به؟ والله تعالى لا يأمر بالعداوة ولا يلزم ما يتخيل من ذلك ، لأن الفعل إذا كان مأموراً به من يسند إليه في حال من أحواله ، لم تكن تلك الحال مأموراً بها ، لأن النسبة الحالية هي لنسبة تقييدية لا نسبة إسنادية.
فلو كانت مأموراً بها إذا كان العامل فيها امراً ، فلا يسوغ ذلك هنا ، لأن الفعل المأمور به إذا كان لا يقع في الوجود إلا بذلك القيد ، ولا يمكن خلافه ، لم يكن ذلك القيد مأموراً به ، لأنه ليس داخلاً في حيز التكليف ، وهذه الحال من هذا النوع ، قل يلزم أن يكون الله أمر بها ، وهذه الحال من الأحوال اللازمة.
وقوله : لبعض متعلق بقوله عدوّ ، واللام مقوية لوصول عدوّ إليه ، وأفرد عدوّ على لفظ بعض أو لأنه يصلح للجمع ، كما سبق ذكر ذلك عند الكلام على بعض وعلى عدوّ حالة الإفراد.
{ ولكن في الأرض مستقر } : مبتدأ وخبر.
لكم هو الخبر ، وفي الأرض متعلق بالخبر ، وحقيقته أنه معمول للعامل في الخبر ، والخبر هنا مصحح لجواز الابتداء بالنكرة ، ولا يجوز { في الأرض } أن يتعلق بمستقر ، سواء كان يراد به مكان استقرار كما قاله أبو العالية وابن زيد ، أو المصدر ، أي استقرار ، كما قاله السدي ، لأن اسم المكان لا يعمل ، ولأن المصدر الموصول لا يجوّز بعضهم تقديم معموله عليه ، ولا يجوز في الأرض أن يكون خبراً ، ولكم متعلق بمستقرّ لما ذكرناه ، أو في موضع الحال من مستقر ، لأن العامل إذ ذاك فيها يكون الخبر ، وهو عامل معنوي ، والحال متقدمة على جزأي الإسناد ، فلا يجوز ذلك ، وصار نظير : قائماً زيد في الدار ، أو قائماً في الدار زيد ، وهو لا يجوز بإجماع.

مستقرّ : أي مكان استقراركم حالتي الحياة والموت ، وقيل : هو القبر ، أو استقرار ، كما تقدم شرحه.
{ ومتاع } : المتاع ما استمتع به من المنافع ، أو الزاد ، أو الزمان الطويل ، أو التعمير.
{ إلى حين } : إلى الموت ، أو إلى قيام الساعة ، أو إلى أجل قد علمه الله ، قاله ابن عباس.
ويتعلق إلى بمحذوف ، أي ومتاع كائن إلى حين ، أو بمتاع ، أي واستمتاع إلى حين ، وهو من باب الأعمال ، أعمل فيه الثاني ولم يحتج إلى إضمار في الأول ، لأن متعلقه فضلة ، فالأولى حذفه ، ولا جائز أن يكون من أعمال الأول ، لأن الأولى أن لا يحذف من الثاني والأحسن حمل القرآن على الأولى.
والأفصح لا يقال إنه لا يجوز أن يكون من باب الإعمال ، وإن كان كل من مستقرّ ومتاع يقتضيه من جهة المعنى بسبب أن الأول لا يجوز أن يتعلق به إلى حين ، لأنه يلزم من ذلك الفصل بين المصدر ومعموله بالمعطوف ، والمصدر موصول فلا يفصل بينه وبين معموله ، لأن المصدر هنا لا يكون موصولاً ، وذلك أن المصدر منه ما يلحظ فيه الحدوث فيتقدر بحرف مصدري مع الفعل ، وهذا هو الموصول ، وإنما كان موصولاً باعتبار تقديره بذلك الحرف الذي هو موصول بالفعل ، وإلا فالمصدر من حيث هو مصدر لا يكون موصولاً ، ومنه ما لا يلحظ فيه الحدوث ، نحو قوله : لزيد معرفة بالنحو ، وبصر بالطب ، وله ذكاء ذكاء الحكماء.
فمثل هذا لا يتقدر بحرف مصدري والفعل ، حتى ذكر النحويون أن هذا المصدر إذا أضيف لم يحكم على الاسم بعده ، لا برفع ولا بنصب ، قالوا : فإذا قلت : يعجبني قيام زيد ، فزيد فاعل القيام تأويله يعجبني أن يقوم زيد ، وممكن أن زيداً يعرا منه القيام ، ولا يقصد فيه إلى إفادة المخاطب أنه فعل القيام فيما مضى ، أو يفعله فيما يستقبل ، بل تكون النية في الإخبار كالنية في : يعجبني خاتم زيد المحدود المعروف بصاحبه والمخفوض بالمصدر.
على هذه الطريقة لا يقضى عليه برفع ، ولا يؤكد ، ولا ينعت ، ولا يعطف عليه إلا بمثل ما يستعمل مع المخفوضات الصحاح ، انتهى.
فأنت ترى تجويزهم أن لا يكون موصولاً مع المصدر الذي يمكن أن يكون موصولاً ، وهو قولهم : يعجبني قيام زيد ، فكيف مع ما لا يجوز أن يكون موصولاً نحو : ما مثلنا به من قوله : له ذكاء ذكاء الحكماء ، وبصر بالطب ، ونحو ذلك ، فكذلك يكون مستقر ومتاع من قبيل ما لا يكون موصولاً.

ولا يمتنع أن يعمل في الجار والمجرور ، وإن لم يكن موصولاً ، كما مثلنا في قوله : له معرفة بالنحو ، لأن الظرف والجار والمجرور يعمل فيهما روائح الأفعال ، حتى الأسماء الأعلام ، نحو قولهم : أنا أبو المنهال بعض الأحيان ، وأنا ابن ماوية إذ جدّ النقر.
وأما أن تعمل في الفاعل ، أو المفعول به فلا.
وأما إذا قلنا بمذهب الكوفيين ، وهو أن المصدر إذا نوّن ، أو دخلت عليه الألف واللام ، تحققت له الاسمية وزال عنه تقدير الفعل ، فانقطع عن أن يحدث إعراباً ، وكانت قصته قصة زيد وعمرو والرجل والثوب ، فيمكن أيضاً أن يخرج عليه قوله تعالى : { مستقر ومتاع إلى حين } ، ولا يبعد على هذا التقدير تعلق الجار والمجرور بكل منهما ، لأنه يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما ، ولأن المصدر إذ ذاك لا يكون بأبعد في العمل في الظرف أو المجرور من الاسم العلم.
ويمكن أن يفسر قوله : { مستقر متاع إلى حين } بقوله : { قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون } وفي قَوله { إلى حين } دليل على عدم البقاء في الأرض ، ودليل على المعاد.
وفي هذه الآية التحذير عن مخالفة أمر الله بقصد أو تأويل ، وأن المخالفة تزيل عن مقام الولاية.
{ فتلقى آدم من ربه كلمات } ، تلقى : تفعل من اللقاء ، وهو هنا بمعنى التجرد ، أي لقي آدم ، نحو قولهم : تعداك هذا الأمر ، بمعنى عداك ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها تفعل ، وهي سبعة عشر معنى مطاوعة فعل ، نحو : كسرته فتكسر ، والتكلف نحو : تحلم ، والتجنب نحو : تجنب ، والصيرورة نحو : تألم ، والتلبس بالمسمى المشتق منه نحو : تقمص ، والعمل فيه نحو : تسحر ، والاتخاذ نحو : تبنيت الصبي ، ومواصلة العمل في مهلة نحو : تفهم ، وموافقة استفعل نحو : تكبر ، وموافقة المجرد نحو : تعدى الشيء ، أي عداه ، والإغناء عنه نحو : تكلم ، والإغناء عن فعل نحو : توبل ، وموافقة فعل نحو : تولى ، أي ولى ، والختل ، نحو : تعقلته ، والتوقع نحو : تخوفه ، والطلب نحو : تنجز حوائجه ، والتكثير نحو : تعطينا.
ومعنى تلقي الكلمات : أخذها وقبولها ، أو الفهم ، أو الفطانة ، أو الإلهام أو التعلم والعمل بها ، أو الاستغفار والاستقالة من الذنب.
وقول من زعم أن أصله : تلقن ، فأبدلت النون ألفاً ضعيف ، وإن كان المعنى صحيحاً ، لأن ذلك لا يكون إلا مما كان عينه ولامه من جنس واحد نحو : تظني ، وتقضى ، وتسرّى ، أصله : تظنن ، وتقضض ، وتسرر.
ولا يقال في تقبل : تقبى.
وقرأ الجمهور : برفع آدم ونصب الكلمات ، وعكس ابن كثير.
ومعنى تلقي الكلمات لآدم : وصولها إليه ، لأن من تلقاك فقد تلقيته فكأنه قال : فجاءت آدم من ربه كلمات.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46