كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

وفي ذكره تعالى لعل وعسى في نحو هذه المواضع ، وإن قال الناس ما قالوا ما لا يخفى على العارف الفطن من دقة مسلك التقوى ، وصعوبة إصابة رضا الله عز وجل ، وعزّة التوصل إلى رحمته وثوابه انتهى.
كلامه وهو جار على مذهبه من تقنيط العاصي غير التائب من رحمة ربه ، وولوعه بمذهبه يجعله يحمل ألفاظ القرآن ما لا يحتمله ، أو ما هو بعيد عنها.
وتقدم شرح أعدت للكافرين في أوائل البقرة.
{ وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون } قيل : أطيعوا الله في الفرائض ، والرسول في السنن.
وقيل : في تحريم الربا ، والرسول فيما بلغكم من التحريم.
وقيل : وأطيعوا الله والرسول فيما يأمركم به وينهاكم عنه.
فإن طاعة الرسول طاعة الله قال تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وقال المهدوي : ذكر الرسول زيادة في التبيين والتأكيد والتعريف بأن طاعته طاعة الله.
وقال ابن إسحاق : هذه الآية هي ابتداء المعاتبة في أمر أحد ، وانهزام من فرَّ ، وزوال الرماة من مركزهم.
وقيل : صيغتها الأمر ومعناها العتب على المؤمنين فيما جرى منهم من أكل الربا ، والمخالفة يوم أحد.
والرحمة من الله إرادة الخير لعبيده ، أو ثوابهم على أعمالهم.
وقد تضمنت هذه الآيات ضروباً من الفصاحة والبديع.
من ذلك العام المراد به الخاص : في من أهلك ، قال الجمهور : أراد به بيت عائشة.
فالاختصاص في : والله سميع عليم ، وفي : فليتوكل المؤمنون ، وفي : ما في السموات وما في الأرض ، وفي : يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء خص نفسه بذلك كقوله : { ومن يغفر الذنوب إلا الله } { نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم } وفي { العزيز الحكيم } لأن العز من ثمرات النصر ، والتدبير الحسن من ثمرات الحكمة.
والتشبيه : في ليقطع طرفاً ، شبه من قتل منهم وتفرّق بالشيء المقتطع الذي تفرقت أجزاؤه وانخرم نظامه ، وفي : ولتطمئن قلوبكم شبه زوال الخوف عن القلب وسكونه عن غليانه باطمئنان الرّجل الساكن الحركة.
وفي : فينقلبوا خائبين شبه رجوعهم بلا ظفر ولا غنيمة بمن أمل خيراً من رجل فأمّه ، فأخفق أمله وقصده.
والطباق : في نصركم وأنتم أذلة ، النصر إعزاز وهو ضد الذل.
وفي : يغفر ويعذب ، الغفران ترك المؤاخذة والتعذيب المؤاخذة بالذنب.
والتجوز بإطلاق التثنية على الجمع في : أن يفشلا.
وبإقامة اللام مقام إلى في : ليس لك أي إليك ، أو مقام على : أي ليس عليك.
والحذف والاعتراض في مواضع اقتضت ذلك والتجنيس المماثل في : أضعافاً مضاعفة.
وتسمية الشيء بما يؤول إليه في : لا تأكلوا سمَّى الأخذ أكلاً ، لأنه يؤول إليه.

وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)

الكظم : الإمساك على غيظ وغم.
والكظيم : الممتلىء أسفار ، وهو المكظوم.
وقال عبد المطلب :
فحضضت قومي واحتسبت قتالهم . . .
والقوم من خوف المنايا كظم
وكظم الغيظ رده في الجوف إذا كان يخرج من كثرته ، فضبطه ومنعه كظم له.
ويقال : كظم القربة إذا شدّها وهي ملأى.
والكظام : السير الذي يشد به فمها.
وكظم البعير : جرته ردها في جوفه ، أو حبسها قبل أن يرسلها إلى فيه.
ويقال : كظم البعير والناقة إذا لم يجترا ، ومنه قول الراعي :
فأفضن بعد كظومهن بجرة . . .
من ذي الأباطح أذرعين حقيلا
الحقيل : موضع ، والحقيل أيضاً نبت.
ويقال : لا تمنع الإبل جرتها إلا عند الجهد والفزع ، فلا تجتر.
ومنه قول أعشى باهلة يصف نحار الإبل :
قد تكظم البذل منه حين تبصره . . .
حتى تقطع في أجوافها الجرر
الإصرار : اعتزام الدوام على الأمر.
وترك الإقلاع عنه ، من صرّ الدنانير ربط عليها.
وقال أبو السمال :
علم الله أنها مني صرى . . .
أي عزيمة.
وقال الحطيئة يصف الخيل :
عوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا . . .
علاليها بالمحضرات أصرت
أي ثبتت على عدوها.
وقال آخر :
يصر بالليل ما تخفى شواكله . . .
يا ويح كل مصر القلب ختار
السنة : الطريقة.
وقال المفضل : الأمة وأنشد :
ما عاين الناس من فضل كفضلكم . . .
ولا رؤى مثله في سالف السنن
وسنة الإنسان الشيء الذي يعمله ويواليه ، كقول خالد الهذلي لأبي ذؤيب :
فلا تجزعن من سنة أنت سرتها . . .
فأول راض سنة من يسيرها
وقال سليمان بن قتيبة :
وإن الألى بالطف من آل هاشم . . .
تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
وقال لبيد :
من أمة سنت لهم آباؤهم . . .
ولكل قوم سنة وإمامها
وقال الخليل : سن الشيء صورة.
والمسنون المصور ، وسن عليهم شراً صبه ، والماء والدرع صبهما.
واشتقاق السنة يجوز أن يكون من أحد هذين المعنيين ، أو من سن السنان والنصل حدهما على المسن ، أو من سن الإبل إذا أحسن رعيها.
السير في الأرض : الذهاب.
وهن الشيء ضعف ، ووهنه الشيء أضعفه.
يكون متعدياً ولازماً.
وفي الحديث : « وهنتهم حمى يثرب والوهن » والوهن الضعف.
وقال زهير :
فأصبح الحبل منها واهناً خلقا . . .
القرح والقرح لغتان ، كالضعف والضعف ، والكره والكره : الفتحُ لغة الحجاز : وهو الجرح.
قال حندج :
وبدلت قرحاً دامياً بعد صحة . . .
لعل منايانا تحولن أبؤسا
وقال الأخفش : هما مصدران.
ومن قال : القَرح بالفتح الجرح ، وبالضم المد ، فيحتاج في ذلك إلى صحة نقل عن العرب.
وأصل الكلمة الخلوص ، ومنه : ماء قراح لا كدورة فيه ، وأرض قراح خالصة الطين ، وقريحة الرجل خالصة طبعه.
المداولة : المعاودة ، وهي المعاهدة مرة بعد مرة.
يقال : داولت بينهم الشيء فتداولوه.
قال :
يرد المياه فلا يزال مداويا . . .
في الناس بين تمثل وسماع

وأدلته جعلت له دولة وتصريفاً ، والدولة بالضم المصدر ، وبالفتح الفعلة الواحدة ، فلذلك يقال : في دولة فلان ، لأنها مرة في الدهر.
والدور والدول متقاربان ، لكن الدور أعم.
فإن الدولة لا تقال إلا في الحظ الدنيوي.
المحص كالفحص ، لكن الفحص يقال في إبراز الشيء عن خلال أشياء منفصلة عنه.
والمحص عن إبرازه عن أشياء متصلة به.
قال الخليل : التمحيص التخليص عن العيوب ، ويقال : محص الحبل إذا زال عنه بكثرة مره على اليد زبيره وأملس ، هكذا ساق الزجاج اللفظة الحبل.
ورواها النقاش : محص الجمل إذا زال عنه وبره وأملس.
وقال حنيف الحناتم : وقد ورد ماء اسمه طويلع ، إنك لمحص الرشاء ، بعيد المستقى ، مطل على الأعداء.
المعنى : أنه لبعده يملس حبله بمر الأيدي.
{ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين } قرأ ابن عامر ونافع : سارعوا بغير واو على الاستئناف ، والباقون بالواو على العطف.
لما أمروا بتقوى النار أمروا بالمبادرة إلى أسباب المغفرة والجنة.
وأمال الدوري في قراءة الكسائي : وسارعوا لكسرة الراء.
وقرأ أبي وعبد الله : وسابقوا والمسارعة : مفاعلة.
إذ الناس كل واحد منهم ليصل قبل غيره فبينهم في ذلك مفاعلة.
ألا ترى إلى قوله : { فاستبقوا الخيرات } والمسارعة إلى سبب المغفرة وهو الإخلاص ، قاله عثمان.
أو أداء الفرائض قاله علي.
أو الإسلام قاله : ابن عباس.
أو التكبيرة الأولى من الصلاة مع الإمام قاله : أنس ومكحول.
أو الطاعة قاله : سعيد بن جبير.
أو التوبة قاله : عكرمة.
أو الهجرة قاله : أبو العالية.
أو الجهاد قاله : الضحاك.
أو الصلوات الخمس قاله : يمان.
أو الأعمال الصالحة قاله : مقاتل.
وينبغي أن تحمل هذه الأقوال على التمثيل لا على التعيين والحصر.
قال الزمخشري : ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة الإقبال على ما يستحقان به انتهى.
وفي ذكر الاستحقاق دسيسة الاعتزال ، وتقدم ذكر المغفرة على الجنة لأنها السبب الموصل إلى الجنة ، وحذف المضاف من السموات أي : عرض السموات بعد حذف أداة التشبيه أي : كعرضٍ.
وبعد هذا التقدير اختلفوا ، هل هو تشبيه حقيقي؟ أو ذهب به مذهب السعة العظيمة؟ لما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في الغاية القصوى ، إذ السموات والأرض أوسع ما علمه الناس من مخلوقاته وأبسطه ، وخص العرض لأنه في العادة أدنى من الطول للمبالغة ، فعلى هذا لا يراد عرض ولا طول حقيقة قاله : الزجاج.
وتقول العرب : بلاد عريضة ، أي واسعة.
وقال الشاعر :
كأن بلاد الله وهي عريضة . . .
على الخائف المطلوب كفة حابل
والقول الأول مروي عن ابن عباس وغيره.
قال ابن عباس وسعيد بن جبير : والجمهور تقرن السموات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ، فذلك عرض الجنة ، ولا يعلم طولها إلا الله انتهى ولا ينكر هذا.
فقد ورد في الحديث في وصف الجنة وسعتها ما يشهد لذلك.

وأورد ابن عطية من ذلك أشياء في كتابه.
والجنة على هذا القول أكبر من السموات ، وهي ممتدّة في الطول حيث شاء الله.
وخص العرض بالذكر لدلالته على الطول ، والطول إذا ذكر لا يدل على سعة العرض ، إذ قد يكون العرض يسيراً كعرض الخيط.
وقال قوم : معناه كعرض السموات والأرض طباقاً ، لا بأنْ تقرب كبسط الثياب.
فالجنة في السماء وعرضها كعرضها ، وعرض ما وازاها من الأرضين إلى السابعة ، وهذه دلالة على العظيم.
وأغنى ذكر العرض عن ذكر الطول.
وقال ابن فورك : الجنة في السماء ، ويزاد فيها يوم القيامة ، وتقدم الكلام في الجنة أخلقت؟ وهو ظاهر القرآن.
ونص الآثار الصحيحة النبوية أم لم تخلق بعدُ؟ وهو قول : المعتزلة ، ووافقهم من أهل بلادنا القاضي منذر بن سعيد.
وأما قول ابن فورك أنه يزاد فيها فيحتاج إلى صحة نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الكلبي : الجنان أربع : جنة عدن ، وجنة المأوى ، وجنة الفردوس ، وجنة النعيم.
كل جنة منها كعرض السماء والأرض ، لو وصل بعضها ببعض ما علم طولها إلا الله.
وقال ابن بحر : هو من عرض المتاع على البيع ، لا العرض المقابل للطول.
أي لو عورضت بها لساوها نصيب كل واحد منكم ، وجاء إعدادها للمتقين فخصوا بالذكر تشريفاً لهم ، وإعلاماً بأنهم الأصل في ذلك ، وغيرهم تبع لهم في إعدادها.
وإن أريد بالمتقين متقو الشرك كان عاماً في كل مسلم طائع أو عاص.
{ الذين ينفقون في السراء والضراء } قال ابن عباس والكلبي ومقاتل : السراء اليسر ، والضراء العسر.
وقال عبيد بن عمير والضحاك : الرخاء والشدّة.
وقيل : في الحياة ، وبعد الموت بأن يوصي.
وقيل : في الفرح وفي الترح.
وقيل : فيما يسرّ كالنفقة على الولد والقرابة ، وفيما يضر كالنفقة على الأعداء.
وقيل : في ضيافة الغني والإهداء إليه ، وفيما ينفقه على أهل الضر ويتصدّق به عليهم.
وقيل : في المنشط والمكره.
ويحتمل التقييد بهاتين الحالتين ، ويحتمل أن يعني بهما جميع الأحوال ، لأن هاتين الحالتين لا يخلو المنفق أن يكون على إحداهما.
والمعنى : لا يمنعهم حال سرور ولا حال ابتلاء عن بذل المعروف.
وروي عن عائشة أنها تصدّقت بحبة عنب.
وعن بعض السلف ببصلة.
وابتدىء بصفة التقوى الشاملة لجميع الأوصاف الشريفة ، ثم جيء بعدها بصفة البذل ، إذ كانت أشق على النفس وأدل على الإخلاص.
وأعظم الأعمال للحاجة إلى ذلك في الجهاد ، ومواساة الفقراء.
ويجوز في الدين الاتباعُ والقطعُ للرفع والنصب.
{ والكاظمين الغيظ } أي الممسكين ما في أنفسهم من الغيظ بالصبر ، ولا يظهر له أثر ، والغيظ : أصل الغضب ، وكثيراً ما يتلازمان ، ولذلك فسره بعضهم هنا بالغضب.
والغيظ فعل نفساني لا يظهر على الجوارح ، والغضب فعل لها معه ظهور في الجوارح ، وفعل مّا ولا بد ، ولذلك أسند إلى الله تعالى إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم ، ولا يسند الغيظ إليه تعالى.

ووردت أحاديث في كظم الغيظ وهو من أعظم العبادة.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم : « من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمناً وإيماناً » وعنه عليه السلام : « ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجراً من جرعة غيظ في الله » وعن عائشة أن خادماً لها غاظها فقالت : لله در التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء.
وقال مقاتل : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية : « إن هذه في أمّتي لقليل وقد كانوا أكثر في الأمم الماضية » وأنشد أبو القاسم بن حبيب :
وإذا غضبت فكن وقوراً كاظماً . . .
للغيظ تبصر ما تقول وتسمع
فكفى به شرفاً تصبر ساعة . . .
يرضى بها عنك الإله ويدفع
{ والعافين عن الناس } أي الجناة والمسيئين.
وقال ابن عباس وأبو العالية والربيع : المماليك.
وهذا مثال ، إذ الأرقاء تكثر ذنوبهم لجهلهم وملازمتهم ، وإنفاذ العقوبة عليهم سبيل للقدرة عليهم.
وقال الحسن : والكاظمين الغيظ عن الأرقاء ، والعافين عن الناس إذا جهلوا عليهم.
ووردت أخبار نبوية في العفو منها : « ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله فليدخلوا الجنة ، فيقال : من ذا الذي أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا » ورواه أبو سفيان للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه.
ويجوز في الكاظمين والعافين القطع إلى النصب والاتباع ، بشرط اتباع الذين ينفقون { والله يحب المحسنين } الألف واللام للجنس ، فيتناول كل محسن.
أو للعهد فيكون ذلك إشارة إلى من تقدّم ذكره من المتصفين بتلك الأوصاف.
والأظهر الأول ، فيعم هؤلاء وغيرهم.
وهذه الآية في المندوب إليه.
ألا ترى إلى حديث جبريل عليه السلام : « ما الإيمان » فبين له العقائد « ما الإسلام »؟ فبين له الفرائض.
« ما الإحسان؟ » قال : « أن تعبد الله كأنك تراه » والمعنى : أن الله يحب المحسنين ، وهم الذين يوقعون الأعمال الصالحة ، مراقبين الله كأنهم مشاهدوه.
وقال الحسن : الإحسان أن تعم ولا تخص ، كالريح والمطر والشمس والقمر.
وقال الثوري : الإحسان أن تحسن إلى المسيء ، فإنَّ الإحسان إليه مناجزة كنقد السوق ، خذ مني وهات.
{ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } نزلت في قول الجمهور بسبب منهال التمار ، ويكنى : أبا مقبل ، أتته امرأة تشتري منه تمراً فضمها وقبلها ثم ندم.
وقيل : ضرب على عجزها.
والعطف بالواو مشعر بالمغايرة.
لمّا ذكر الصنف الأعلى وهم المتقون الموصوفون بتلك الأوصاف الجميلة ، ذكر مَنْ دونهم ممن قارف المعاصي وتاب وأقلع ، وليس من باب عطف الصفات واتحاد الموصوف.
وقيل : أنه من عطف الصفات ، وأنه من نعت المتقين روى ذلك عن الحسن.

قال ابن عباس : الفاحشة الزنا ، وظلم النفس ما دونه من النظر واللمسة.
وقال مقاتل : الفاحشة الزنا ، وظلم النفس سائر المعاصي.
وقال النخعي : الفاحشة القبائح ، وظلم النفس من الفاحشة وهو لزيادة البيان.
وقيل : جميع المعاصي وظلم النفس العمل بغير علم ولا حجة.
وقال الباقر : الفاحشة النظر إلى الأفعال ، وظلم النفس رؤية النجاة بالأعمال.
وقيل : الفاحشة الكبيرة ، وظلم النفس الصغيرة.
وقيل : الفاحشة ما تظوهر به من المعاصي ، وقيل : ما أخفى منها.
وقال مقاتل والكلبي : الفاحشة ما دون الزنا من قبله أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل ، وظلم النفس بالمعصية ، وقيل : الفاحشة الذنب الذي فيه تبعة للمخلوقين ، وظلم النفس ما بين العبد وبين ربه.
وهذه تخصيصات تحتاج إلى دليل.
وكثر استعمال الفاحشة في الزنا ، ولذلك قال جابر حين سمع الآية : زنوا ورب الكعبة.
ومعنى { اذكروا الله } ذكروا وعيده قاله : ابن جرير وغيره.
وقيل : العرض على الله قاله الضحاك.
أو السؤال عنه يوم القيامة قاله : الكلبي ومقاتل والواقدي.
وقيل : نهي الله.
وقيل : غفرانه.
وقيل : تعرضوا لذكره بالقلوب ليبعثهم على التوبة.
وقيل : عظيم عفوه فطمعوا في مغفرته.
وقيل : إحسانه فاستحيوا من إساءتهم.
وهذه الأقوال كلها على أن الذكر هو بالقلب.
وقيل : هو باللسان ، وهو الاستغفار.
ذكروا الله بقلوبهم : اللهم اغفر لنا ذنوبنا ، قاله : ابن مسعود ، وأبو هريرة ، وعطاء في آخرين.
وروي عن أبي هريرة « ما رأيت أكثر استغفاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم » ولا بدّ مع ذكر اللسان من مواطأة القلب ، وإلاّ فلا اعتبار بهذا الاستغفار.
ومن استغفر وهو مصرّفاً فاستغفاره يحتاج إلى استغفار.
والاستغفار سؤال الله بعد التوبة الغفران.
وقيل : ندموا وإن لم يسألوا.
والظاهر الأول.
ومفعول استغفروا الله محذوف لفهم المعنى ، أي فاستغفروا لذنوبهم.
وتقدم الكلام على هذا الفعل وتعديته.
{ ومن يغفر الذنوب إلا الله } جملة اعتراض المتعاطفين ، أو بين ذي الحال والحال.
وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة إعراباً في قوله : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } وهذه الجملة الاعتراضية فيها ترفيق للنفس ، وداعية إلى رجاء الله وسعة عفوه ، واختصاصه بغفران الذنب.
قال الزمخشري : وصف ذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة ، وأنَّ التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له ، وأنّه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه ، وأنّ عدله يوجب المغفرة للتائب ، لأنّ العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه وجب العفو والتجاوز.
وفيه تطييب لنفوس العباد ، وتنشيط للتوبة وبعث عليها ، وردع عن اليأس والقنوط.
وأنّ الذنوب وإنْ جلت فإنَّ عفوه أجل ، وكرمه أعظم.
والمعنى : أنه وحده معه مصححات المغفرة انتهى.
وهو كلام حسن ، غير أنه لم يخرج عن ألفاظ المعتزلة في قوله : وإنّ عدله يوجب المغفرة للتائب.

وفي قوله : وجب العفو والتجاوز ، ولو لم نعلم أن مذهبه الاعتزال لتأولنا كلامه بأن هذا الوجوب هو بالوعد الصادق ، فهو من جهة السمع لا من جهة العقل فقط.
{ ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } أي ولم يقيموا على قبيح فعلهم.
وهذه الجملة معطوفة على فاستغفروا ، فهي من بعض أجزاء الجزاء المترتب على الشرط.
ويجوز أن تكون الواو للحال ويكون حالاً من الفاعل في فاستغفروا فهي من بعض أجزاء الجزاء ، أي : فاستغفروا لذنوبهم غير مصرّين.
وما موصولة اسمية ، ويجوز أن تكون مصدرية.
قال قتادة : الإصرار المضي في الذنب قدماً.
وقال الحسن : هو إتيان الذنب حتى يتوب.
وقال مجاهد : لم يصرّوا لم يمضوا.
وقال السدي : هو ترك الاستغفار والسكوت عنه مع الذنب.
والجملة من قوله : { وهم يعلمون } قال الزمخشري : حال من فعل الإصرار ، وحرف النفي منصب عليهما معاً ، والمعنى : وليسوا ممن يصرّ على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهي عنها والوعيد عليها ، لأنه قد يعذر من لم يعلم قبح القبيح.
وفي هذه الآيات بيان قاطع أن الذين آمنوا على ثلاث طبقات : متقون ، وتائبون ، ومصرّون.
وأن الجنة للمتقين والتائبين منهم دون المصرين ، ومن خالف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه انتهى كلامه.
وآخره على طريقته الاعتزالية من : أن من مات مصرًّا دخل النار ولا يخرج منها أبداً.
وأجاز أبو البقاء أن يكون : وهم يعلمون حالاً من الضمير في فاستغفروا ، فإنْ أعربنا ولم يصرّوا جملة حالية من الضمير في فاستغفروا ، جاز أن يكون : وهم يعلمون حالاً منه أيضاً.
وإن كان ولم يصروا معطوفاً على فاستغفروا كان ما قاله أبو البقاء بعيداً للفصل بين ذي الحال والحال بالجملة.
وأما متعلق العلم فتقدم في كلام الزمخشري.
وقال أبو البقاء : وهم يعلمون المؤاخذة بها ، أو عفو الله عنها.
وقال ابن عباس والحسن : وهم يعلمون أن تركه أولى من التمادي.
وقال مجاهد وأبو عمارة : يعلمون أن الله يتوب على من تاب.
وقال السدي ومقاتل : يعلمون أنهم قد أذنبوا.
وقيل : يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها ، أطلق اسم العلم على الذكر لأنه من ثمرته.
وقال ابن إسحاق : يعلمون ما حرمت عليهم.
وقال الحسين بن الفضل : يعلمون أنّ لهم رباً يغفر الذنب.
وقال ابن بحر : يعلمون بالذنب.
وقيل : يعلمون العفو عن الذنوب وإن كثرت.
{ أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } أولئك إشارة إلى الصنفين.
وجوّز أن يكون مختصاً بالصنف الثاني ، ويكون : والذين إذا فعلوا مبتدأ ، وأولئك وما بعده خبره ، وجزاؤهم مغفرة مبتدأ وخبر في موضع خبر أولئك.
وثم محذوف أي : جزاء أعمالهم مغفرة من ربهم لذنوبهم.
وقال ابن عطية : أوجب على نفسه بهذا الخبر الصادق قبول توبة التائب ، وليس يجب عليه تعالى من جهة العقل شيء ، بل هو بحكم الملك لا معقب لأمره.

وقال الزمخشري : قال أجر العاملين بعد قوله جزاؤهم ، لأنهما في معنى واحد ، وإنما خالف بين اللفظين لزيادة التنبيه على أن ذلك جزاء واجب على عمل ، وأجر مستحق عليه ، لا كما يقول المبطلون.
وروي أن الله عزّ وجل أوحى إلى موسى عليه السلام : ما أقلَّ حياء من يطمعُ في جنتي بغير عمل ، كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي؟ وعن شهر بن حوشب : طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب ، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور ، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة.
وعن الحسن يقول الله يوم القيامة : جوزوا الصراط بعفوي ، وادخلوا الجنة برحمتي ، واقتسموها بأعمالكم.
وعن رابعة البصرية أنها كانت تنشد :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها . . .
إن السفينة لا تجري على اليبس
انتهى ما ذكره ، والبيت الذي كانت رابعة تنشده هو لعبد الله بن المبارك.
وكلام الزمخشري جار على مذهبه الاعتزال من أن الإيمان دون عمل لا ينفع في الآخرة.
{ ونعم أجر العاملين } المخصوص بالمدح محذوف تقديره : ونعم أجر العاملين ذلك ، أي المغفرة والجنة { قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } الخطاب للمؤمنين ، والمعنى : أنه إنْ ظهر عليكم الكفار يوم أحد فإن حسن العاقبة للمتقين ، وإنْ أديل الكفار فالعاقبة للمؤمنين.
وكذلكم كفاركم هؤلاء عاقبتهم إلى الهلاك.
وقال النقاش : الخطاب للكفار لقوله بعد { ولا تهنوا } ولما ذكر تعالى الجمل المعترضة في قصة أحد عاد إلى كمالها ، فخاطبهم بأنه إنْ وقعت إدالة الكفار فالعاقبة للمؤمنين.
والمعنى : قد تقدّمت ومضت.
وقال الزجاج : أهل سنن أي طرائق أو أمم ، على شرح المفضل أنّ السنة الأمة.
وقال الحسن : سنة أقضية في إهلاك الأمم السالفة عاد وثمود وغيرهم.
وقال ابن زيد : أمثال.
وقال ابن عباس : وقائع وطلب السير في الأرض ، وإن كانت أحوال من تقدّم تدرك بالأخبار دون السير.
لأن الأخبار إنما تكون ممن سار وعاين ، وعنه ينقل : فطلب منه الوجه الأكمل إذ للمشاهدة أثر أقوى من أثر السماع.
وقيل : السير هنا مجاز عن التفكر ، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس.
وقال الجمهور : النظر هنا من نظر العين.
وقال قوم : هو بالفكر.
والجملة الاستفهامية في موضع المفعول لانظروا لأنها معلقة وكيف في موضع نصب خبر كان.
والمعنى : ما سنة الله في الأمم المكذبين من وقائعه كما قال تعالى : { فكلاًّ أخذنا بذنبه } { وقتلوا تقتيلاً سنة الله في الذين خلوا من قبل }
وفي هذه الآية دلالة على جواز السفر في فجاج الأرض للاعتبار ، ونظر ما حوت من عجائب مخلوقات الله تعالى ، وزيارة الصالحين وزيارة الأماكن المعظمة كما يفعله سيّاح هذه الملة ، وجواز النظر في كتب المؤرخين لأنها سبيل إلى معرفة سير العالم وما جرى عليهم من المثلاث.

{ هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين } قال الحسن وقتادة وابن جريج والربيع : الإشارة إلى القرآن.
وقيل : الإشارة إلى قوله : { قد خلت من قبلكم سنن } قاله : ابن إسحاق ، والطبري ، وجماعة.
أيْ هذا تفسير للناس إنْ قبلوه.
وقال الشعبي : هذا بيان للناس من العمى.
وقال الزمخشري : هذا بيان للناس ، إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب.
يعني : حثهم على النظر في سوء عواقب المكذبين قبلهم ، والاعتبار بما يعاينون من آثار هلاكهم.
{ وهدى وموعظة للمتقين } يعني : أنه مع كونه بياناً وتنبيهاً للمكذبين فهو زيادة وتثبيت وموعظة للذين اتقوا من المؤمنين.
ويجوز أنْ يكون قد خلت جملة معترضة للبعث على الإيمان ، وما يستحق به ما ذكر من أجر العاملين.
ويكون قوله : هذا بيان إشارة إلى ما لخص وبين من أمر المتقين والتائبين والمصرين انتهى كلامه.
وهو حسن.
ولما كان ظاهراً واضحاً قال : بيان للناس.
ولما كانت الموعظة والهدى لا يكونان إلاّ لمَنْ اتقى خص بذلك المتقين ، لأن من عمى فكره وقسا فؤاده لا يهتدي ولا يتعظ ، فلا يناسب أن يضاف إليه الهدى والموعظة.
{ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين }.
لمّا انهزَم مَن انهزم من المؤمنين أقبل خالدٌ يريد أنْ يعلوَ الجبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يعلن علينا اللهم لا قوة لنا إلا بك » فنزلت قاله : ابن عباس.
وزاد الواقدي : أنّ رماة المسلمين صعدوا الجبل ورموا بحبل المشركين حتى هزموهم ، فذلك قوله : { وأنتم الأعلون }.
وقال القرطبي : وأنتم الغالبون بعد أحد ، فلم يخرجوا بعد ذلك إلا ظفروا في كل عسكر كان في عهده عليه السلام ، وفي كل عسكر كان بعدُ ولو لم يكن فيه إلاّ واحدٌ من الصحابة.
وقال الكلبي : نزلت بعد أحد حين أمروا بطلب القوم مع ما أصابهم من الجراح.
وقال : لا يخرج إلاّ من شهد معنا أمس ، فاشتدّ ذلك على المسلمين فنزلت.
نهاهم عن أن يضعفوا عن جهاد أعدائهم ، وعن الحزن على من استشهد من إخوانهم ، فإنّهم صاروا إلى كرامة الله قاله : ابن عباس.
أو لأجل هزيمتهم وقتلهم يوم أحد قاله : مقاتل.
أو لما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من شجّه وكسر رباعيته ذكره : الماوردي.
أو لما فات من الغنيمة ذكره : أحمد النيسابوري.
أو لمجموع ذلك.
وآنسهم بقوله : وأنتم الأعلون ، أي الغالبون وأصحاب العاقبة.
وهو إخبار بعلو كلمة الإسلام قاله : الجمهور ، وهو الظاهر.
وقيل : { أنتم الأعلون } ، أي قد أصبتم ببدر ضعف ما أصابوا منكم بأحد أسراً وقتلاً فيكونُ وأنتم الأعلون نصباً على الحال ، أي لا تحزنوا عالين أي منصورين على عدوكم انتهى.
وأما كونُه من علوهم الجبل كما أشير إليه في سبب النزول فروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير.

قال ابن عطية : ومن كرم الخلق أن لا يهن الإنسان في حربه وخصامه ، ولا يلين إذا كان محقاً ، وأن يتقصى جميع قدرته ، ولا يضرع ولو مات.
وإنما يحسن اللين في السلم والرضا ، ومنه قوله عليه السلام : « المؤمن هين لين والمؤمنون هينون لينون » وقال منذر بن سعيد : يجب بهذه الآية ألا يوادع العدو ما كانت للمسلمين قوة وشوكة ، فإن كانوا في قطر مّا على غير ذلك فينظر الإمام لهم في الأصلح انتهى.
وفي قوله : وأنتم الأعلون دلالة على فضيلة هذه الأمة ، إذ خاطبهم مثل ما خاطب موسى كليمه صلى الله عليه وسلم على نبينا وعليه ، إذ قال له : لا تخف إنك أنت الأعلى.
وتعلق قوله : إن كنتم مؤمنين بالنهي ، فيكون ذلك هزاً للنفوس يوجب قوة القلب والثقة بصنع الله ، وقلة المبالاة بالأعداء.
أو بالجملة الخبرية : أي إنْ صدقتم بما وعدكم وبشركم به من الغلبة.
ويكون شرطاً على بابه يحصل به الطعن على من ظهر نفاقه في ذلك اليوم ، أي : لا تكون الغلبة والعلو إلا للمؤمنين ، فاستمسكوا بالإيمان.
{ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } المعنى : إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم يوم بدر ، ثم لم يضعفوا إنْ قاتلوكم بعد ذلك ، فلا تضعفوا أنتم.
أو فقد مس القوم في غزوة أحد قبل مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوه ، فإنهم يألمون كما تألمون ، وترجون من الله ما لا يرجون.
وهذه تسلية منه تعالى للمؤمنين والتأسي فيه أعظم مسلاة.
وقالت الخنساء :
ولولا كثرة الباكين حولي . . .
على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن . . .
أعزي النفس عنه بالتأسي
والمثلية تصدق بأدنى مشابهة.
وقال ابن عباس والحسن : أصاب المؤمنين يوم أحد ما أصاب المشركين يوم بدر ، استشهد من المؤمنين يوم أحد سبعون.
وقال الزمخشري : قتل يومئذ أي يوم أحد خلق من الكفار ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { إذ تحسونهم بإذنه } فعلى قوله يكون مس القوم قرح مثله يوم بدر.
وأبعد من ذهب إلى أن القوم هنا الأمم التي قد خلت ، أي نال مؤمنهم من أذى كافرهم مثل الذي نالكم من أعدائكم.
ثم كانت العاقبة للمؤمنين ، فلكم بهم أسوة.
فإنّ تأسيكم بهم مما يخفف ألمكم ، ويثبت عند اللقاء أقدامكم.
وقرأ الإخوان وأبو بكر والأعمش من طريقة قُرح بضم القاف فيهما ، وباقي السبعة بالفتح ، والسبعة على تسكين الراء.
قال أبو علي : والفتح أولى انتهى.
ولا أولوية إذ كلاهما متواتر.
وقرأ أبو السمال وابن السميفع قَرَحَ بفتح القاف والراء ، وهي لغة : كالطرد والطرد ، والشل والشلل.
وقرأ الأعمش : إنْ تمسسكم بالتاء من فوق قروح بالجمع ، وجواب الشرط محذوف تقديره : فتأسوا فقد مس القوم قرح ، لأن الماضي معنى يمتنع أن يكون جواباً للشرط.

ومن زعم أن جواب الشرط هو فقد مس ، فهو ذاهل.
{ وتلك الأيام نداولها بين الناس } أخبر تعالى على سبيل التسلية أن الأيام على قديم الدهر لا تبقي الناس على حالة واحدة.
والمراد بالأيام أوقات الغلبة والظفر ، يصرفها الله على ما أراد تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء ، كما جاء الحرب سجال.
وقال :
فيوم علينا ويوم لنا . . .
ويوم نساء ويوم نسر
وسمع بعض العرب الأقحاح قارئاً يقرأ هذه الآية فقال : إنما هو نداولها بين العرب ، فقيل له : إنما هو بين الناس ، فقال : أنا الله ، ذهب ملك العرب ورب الكعبة.
وقرىء شاذاً.
يداً ، ولها بالياء.
وهو جار على الغيبة قبله وبعده.
وقراءة النون فيها التفات ، وإخبار بنون العظمة المناسبة لمداولة الأيام ، والأيام : صفة لتلك ، أو بدل ، أو عطف بيان.
والخبر نداولها ، أو خبر لتلك ، ونداولها جملة حالية.
{ وليعلم الله الذين آمنوا } هذه لام كي قبلها حرف العطف ، فتتعلق بمحذوف متأخر أي : فعلنا ذلك وهو المداولة ، أو نيل الكفار منكم.
أو هو معطوف على سبب محذوف هو وعامله أي : فعلنا ذلك ليكون كيت وكيت وليعلم.
هكذا قدّره الزمخشري وغيره ، ولم يعين فاعل العلة المحذوفة إنما كنى عنه بكيت وكيت ، ولا يكنى عن الشيء حتى يعرف.
ففي هذا الوجه حذف العلة ، وحذف عاملها ، وإبهام فاعلها.
فالوجه الأول أظهر إذ ليس فيه غير حذف العامل.
ويعلم هنا ظاهره التعدي إلى واحد ، فيكون كعرف.
وقيل : يتعدّى إلى اثنين ، الثاني محذوف تقديره : مميزين بالإيمان من غيرهم.
أي الحكمة في هذه المداولة : أنْ يصير الذين آمنوا متميزين عن من يدعي الإيمان بسبب صبرهم وثباتهم على الإسلام.
وعلم الله تعالى لا يتجدد ، بل لم يزل عالماً بالأشياء قبل كونها ، وهو من باب التمثيل بمعنى فعلنا ذلك فعْلَ مَنْ يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت.
وقيل : معناه ليظهر في الوجود إيمان الذين قد علم أزلاً أنهم يؤمنون ، ويساوق علمه إيمانهم ووجودهم ، وإلا فقد علمهم في الأزل.
إذْ علمه لا يطرأ عليه التغير.
ومثلُه أن يضرب حاكم رجلاً ثم يبين سبب الضرب ويقول : فعلت هذا التبيين لا ضرب مستحقاً معناه : ليظهر أن فعلي وافق استحقاقه.
وقيل : معناه وليعلمهم علماً يتعلق به الجزاء ، وهو أن يعلمهم موجوداً منهم الثبات.
وقيل : العلم باق على مدلوله ، وهو على حذف مضاف التقدير : وليعلم أولياء الله ، فأسند ذلك إلى نفسه تفخيماً.
{ ويتخذ منهم شهداء } أي بالقتل في سبيله ، فيكرمهم بالشهادة.
يعني يوم أحد.
وقد ورد في فضل الشهيد غير ما آية وحديث.
أو شهداء على الناس يوم القيامة أي وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بما يبتلي به صبركم على الشدائد من قوله تعالى :

{ لتكونوا شهداء على الناس } والقول الأول أظهر وأليق بقصة أحد.
{ والله لا يحب الظالمين } أي لا يحب من لا يكون ثابتاً على الإيمان صابراً على الجهاد.
وفيه إشارة إلى أن من انخذل يوم أحد كعبد الله بن أبي وأتباعه من المنافقين ، فإنهم بانخذالهم ، لم يطهر إيمانهم بل نجم نفاقهم ، ولم يصلحوا لاتخاذهم شهداء بأن يقتلوا في سبيل الله.
وذلك إشارة أيضاً إلى أن ما فعل من ادالة الكفار ، ليس سببه المحبة منه تعالى ، بل ما ذكر من الفوائد من ظهور إيمان المؤمن وثبوته ، واصطفائه من شاء من المؤمنين للشهادة.
وهذه الجملة اعترضت بين بعض الملل وبعض ، لما فيها من التشديد والتأكيد.
وأن مناط انتفاء المحبة هو الظلم ، وهو دليل على فحاشته وقبحه من سائر الأوصاف القبيحة.
{ وليمحص الله الذين آمنوا } أي يطهرهم من الذنوب ، ويخلصهم من العيوب ، ويصفيهم.
قال ابن عباس والحسن ومجاهد والسدي ومقاتل وابن قتيبة في آخرين : التمحيص الابتلاء والاختبار.
قال الشاعر :
رأيت فضيلاً كان شيئاً ملففا . . .
فكشفه التمحيص حتى بداليا
وقال الزجاج : التنقية والتخليص ، وذكره عن : المبرد ، وعن الخليل.
وقيل : التطهير.
وقال الفراء : هو على حذف مضاف ، أي وليمحص الله ذنوب الذين آمنوا.
{ ويمحق الكافرين } أي يهلكهم شيئاً فشيئاً.
والمعنى : أن الدولة إن كانت للكافرين على المؤمنين كانت سبباً لتمييز المؤمن من غيره ، وسبباً لاستشهاد من قتل منهم ، وسبباً لتطهير المؤمن من الذنب.
فقد جمعت فوائد كثيرة للمؤمنين ، وإن كان النصر للمؤمنين على الكافرين كان سبباً لمحقهم بالكلية واستئصالهم قاله : ابن عباس.
وقال ابن عباس أيضاً : ينقصهم ويقللهم ، وقاله : الفراء.
وقال مقاتل : يذهب دعوتهم.
وقيل : يحبط أعمالهم ، ذكره الزجاج ، فيكون على حذف مضاف.
والظاهر أن المراد بالكافرين هنا طائفة مخصوصة ، وهم الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لأنه تعالى لم يمحق كل كافر ، بل كثير منهم باق على كفره.
فلفظة الكافرين عام أريد به الخصوص.
قيل : وقابل تمحيص المؤمن بمحق الكافر ، لأن التمحيص إهلاك الذنوب ، والمحق إهلاك النفوس ، وهي مقابلة لطيفة في المعنى انتهى.
وفي ذكر ما يلحق المؤمن عند إدالة الكفار تسلية لهم وتبشير بهذه الفوائد الجليلة ، وأن تلك الإدالة لم تكن لهوانٍ بهم ، ولا تحط من أقدارهم ، بل لما ذكر تعالى.
وقد تضمنت هذه الآيات فنوناً من الفصاحة والبديع والبيان : من ذلك الاعتراض في : والله يحب المحسنين ، وفي : ومن يغفر الذنوب إلا الله ، وفي : والله لا يحب الظالمين.
وتسمية الشيء باسم سببه في : إلى مغفرة من ربكم.
والتشبيه في : عرضها السموات والأرض.
وقيل : هذه استعارة وإضافة الحكم إلى الأكثر في أعدّت للمتقين ، وهي معدة لهم ولغيرهم من العصاة.
والطباق في : السرّاء والضرّاء ، وفي : ولا تهنوا والأعلون ، لأن الوهن والعلو ضدان.
وفي آمنوا والظالمين ، لأن الظالمين هنا هم الكافرون ، وفي : آمنوا ويمحق الكافرين.

والعام يراد به الخاص في : والعافين عن الناس يعني من ظلمهم أو المماليك.
والتكرار في : واتقوا الله ، واتقوا النار ، وفي لفظ الجلالة ، وفي والله يحب ، وذكروا الله ، وفي وليعلم الله ، والله لا يحب ، وليمحص الله ، وفي الذين ينفقون ، والذين إذا فعلوا.
والاختصاص في : يحب المحسنين ، وفي : وهم يعلمون ، وفي : عاقبة المكذبين ، وفي : موعظة للمتقين ، وفي : إن كنتم مؤمنين ، وفي : لا يحب الظالمين ، وفي : وليمحص الله الذين آمنوا ، وفي : ويمحق الكافرين.
والاستعارة في : فسيروا ، على أنه من سير الفكر لا القدم ، وفي : وأنتم الأعلون ، إذا لم تكن من علو المكان ، وفي : تلك الأيام نداولها ، وفي : وليمحص ويمحق ، والإشارة في هذا بيان.
وفي : وتلك الأيام.
وإدخال حرف الشرط في الأمر المحقق في : إن كنتم مؤمنين ، إذا علق عليه النهي والحذف في عدة مواضع.

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)

كائن : كلمة يكثر بها بمعنى كم الخبرية.
وقلَّ الاستفهام بها.
والكاف للتشبيه ، دخلت على أي وزال معنى التشبيه ، هذا مذهب سيبويه والخليل ، والوقف على قولهما بغير تنوين.
وزعم أبو الفتح : أنّ أيا وزنه فعل ، وهو مصدر أوى يأوي إذا انضم واجتمع ، أصله : أوى عمل فيه ما عمل في طي مصدر طوي.
وهذا كله دعوى لا يقوم دليل على شيء منها.
والذي يظهر أنه اسم مبني بسيط لا تركيب فيه ، يأتي للتكثير مثل كم ، وفيه لغات : الأولى وهي التي تقدمت.
وكائن ومن ادعى أن هذه اسم فاعل من كان فقوله بعيد.
وكئن على وزن كعن ، وكأين وكيين ، ويوقف عليها بالنون.
وأكثر ما يجيء تمييزها مصحوباً بمن.
ووهم ابن عصفور في قوله : إنه يلزمه مِنْ ، وإذا حذفت انتصب التمييز سواء أولها أم لم يليها ، نحو قول الشاعر :
أطرد اليأس بالرجاء فكاين . . .
آلماً عم يسره بعد عسر
وقول الآخر :
وكائن لنا فضلاً عليكم ونعمة . . .
قديماً ولا تدرون ما من منعم
الرعب : الخوف ، رعبته فهو مرعوب.
وأصله من الملي.
يقال : سيل راعب يملأ الوادي ، ورعبت الحوض ملأته.
السلطان : الحجة والبرهان ، ومنه قيل للوالي : سلطان.
وقيل : اشتقاق السلطان من السليط ، وهو ما يضيء به السراج من دهن السمسم.
وقيل : السليط الحديد ، والسلاطة الحدة ، والسلاطة من التسليط وهو القهر.
والسلطان من ذلك فالنون زائدة.
والسليطة : المرأة الصخابة.
والسليط : الرجل الفصيح اللسان.
المثوى : مفعل من ثوى يثوي أقام.
يكون للمصدر والزمان والمكان ، والثواء : الإقامة بالمكان.
الحس : القتل الذريع ، يقال : حسه يحسه.
قال الشاعر :
حسسناهم بالسيف حساً فأصبحت . . .
بقيتهم قد شردوا وتبدّدوا
وجراد محسوس قتله البرد ، وسنة حسوس أتت على كل شيء.
التنازع : الاختلاف ، وهو من النزع وهو الجذب.
ونزع ينزع جذب ، وهو متعد إلى واحد.
ونازع متعد إلى اثنين ، وتنازع متعد إلى واحد.
قال :
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت . . .
هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } هذه الآية وما بعدها عتب شديد لمن وقعت منهم الهفوات يوم أحد.
واستفهم على سبيل الإنكار أنْ يظنَّ أحد أنْ يدخل الجنة وهو مخلّ بما افترض عليه من الجهاد والصبر عليه.
والمراد بنفي العلم انتفاء متعلقه ، لأنه منتف بانتفائه كما قال تعالى : { ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم } المعنى : لم يكن فيهم خير ، لأنّ ما لم يتعلق به علم الله تعالى موجوداً لا يكون موجوداً أبداً.
وأمْ هنا منقطعة في قول الأكثرين تتقدر ببل ، والهمزة على ما قرر في النحو.
وقيل : هي بمعنى الهمزة.
وقيل : أم متصلة.
قال ابن بحر : هي عديلة همزة تتقدر من معنى ما تتقدم ، وذلك أنَّ قوله :

{ إن يمسسكم قرح وتلك الأيام نداولها } إلى آخر القصة يقتضي أن يتبع ذلك : أتعلمون أن التكليف يوجب ذلك ، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة من غير اختبار وتحمل مشقة وأن تجاهدوا فيعلم الله ذلك منكم واقعاً.
انتهى كلامه.
وتقدّم لنا إبطال مثل هذا القول.
وهذا الاستفهام الذي تضمنته معناه الإنكار والإضراب الذي تضمنته أيضاً هو ترك لما قبله من غير إبطال وأخذ فيما بعده.
وقال أبو مسلم الأصبهاني : أم حسبتم نهيٌ وقع بلفظ الاستفهام الذي يأتي للتبكيت.
وتلخيصه : لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولما يقع منكم الجهاد.
لما قال : { ولا تهنوا ولا تحزنوا } كان في معنى : أتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به ، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر.
وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة ، وأوجب الصبر على تحمل مشاقها ، وبين وجوه مصالحها في الدين والدنيا.
فلما كان كذلك كان من البعد أن يصل الإنسان إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه القاعدة انتهى كلامه.
وظاهره : أن أم متصلة ، وحسبتم هنا بمعنى ظننتم الترجيحية ، وسدّ مسد مفعوليها أن وما بعدها على مذهب سيبويه ، وسد مسد مفعول واحد والثاني محذوف على مذهب أبي الحسن.
ولما يعلم : جملة حالية ، وهي نفي مؤكد لمعادلته للمثبت المؤكد بقد.
فإذا قلت : قد قام زيد ففيه من التثبيت والتأكيد ما ليس في قولك : قام زيد.
فإذا نفيته قلت : لما يقم زيد.
وإذا قلت : قام زيد كان نفيه لم يقم زيد ، قاله سيبويه وغيره.
وقال الزمخشري : ولما بمعنى لم ، إلا أن فيه ضرباً من التوقع فدلَّ على نفي الجهاد فيما مضى ، وعلى توقعه فيما يستقبل.
وتقول : وعدني أن يفعل كذا ، ولما تريد ، ولم يفعل ، وأنا أتوقع فعله انتهى كلامه.
وهذا الذي قاله في لما أنَّها تدل على توقع الفعل المنهى بها فيما يستقبل ، لا أعلم أحداً من النحويين ذكره.
بل ذكروا أنك إذا قلت : لما يخرج زيد دلَّ ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى متصلاً نفيه إلى وقت الإخبار.
أمّا أنها تدل على توقعه في المستقبل فلا ، لكنني وجدت في كلام الفراء شيئاً يقارب ما قاله الزمخشري.
قال : لما لتعريض الوجود بخلاف لم.
وقرأ الجمهور بكسر الميم لالتقاء الساكنين.
وقرأ ابن وثاب والنخعي بفتحها ، وخرج على أنه اتباع لفتحة اللام وعلى إرادة النون الخفيفة وحذفها كما قال الشاعر :
لا تهين الفقير علك أن . . .
تركع يوماً والدهر قد رفعه
وقرأ الجمهور : « ويعلم » برفع الميم فقيل : هو مجزوم ، وأتبع الميم اللام في الفتح كقراءة من قرأ : ولما يعلم بفتح الميم على أحد التخريجين.
وقيل : هو منصوب.
فعلى مذهب البصريين بإضمار أن بعد واو مع نحو ، لا تأكل السمك وتشرب اللبن.

وعلى مذهب الكوفيين بواو الصرف ، وتقرير المذهبين في علم النحو.
وقرأ الحسن وابن يعمر وأبو حيوة وعمرو بن عبيد بكسر الميم عطفاً على ولما يعلم.
وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو ويعلم برفع الميم.
قال الزمخشري : على أن الواو للحال كأنه قيل : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون انتهى.
ولا يصلح ما قال ، لأن واو الحال لا تدخل على المضارع ، لايجوز : جاء زيد ويضحك ، وأنت تريد جاء زيد يضحك ، لأن المضارع واقع موقع اسم الفاعل.
فكما لا يجوز جاء زيد وضاحكاً ، كذلك لا يجوز جاء زيد ويضحك.
فإنْ أوّلَ على أن المضارع خبرُ مبتدأ محذوف أمكن ذلك ، التقدير : وهو يعلم الصابرين كما أولوا قوله : نجوت وأرهنهم مالكاً ، أي وأنا أرهنهم.
وخرج غير الزمخشري قراءة الرفع على استئناف الاخبار ، أي : وهو يعلم الصابرين.
وفي إنكار الله تعالى على من ظنّ أنّ دخول الجنة يكون مع انتفاء الجهاد ، والصبر عند لقاء العدوّ دليل على فرضية الجهاد إذ ذاك ، والثبات للعدوّ وقد ذكر في الحديث : « أن التولي عند الزحف من السبع الموبقات »
{ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون } الخطاب للمؤمنين ، وظاهره العموم والمراد الخصوص.
وذلك أن جماعة من المؤمنين لم يحضروا غزوة بدر ، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج مبادراً يريد عير القريش ، فلم يظنوا حرباً ، وفاز أهل بدر بما فازوا به من الكرامة في الدنيا والآخرة ، فتمنوا لقاء العدوّ ليكون لهم يوم كيوم بدر ، وهم الذين حرضوا على الخروج لأحد.
فلما كان في يوم أحد ما كان من قتل عبد الله بن قميئة مصعب بن عمير الذّاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاناً أنه رسول الله وقال : قتلت محمداً وصرخ بذلك صارخ ، وفشاد ذلك في الناس انكفوا فارّين ، فدعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم « إلي عباد الله » حتى انحازت إليه طائفة واستعذروا عن انكفافهم قائلين : أتانا خبر قتلك ، فرعبت قلوبنا ، فولينا مدبرين ، فنزلت هذه الآية تلومهم على ما صدر منهم مع ما كانوا قرروا على أنفسهم من تمني الموت.
وعبر عن ملاقاة الرجال ومجالدتهم بالحديد بالموت ، إذ هي حالة تتضمن في الأغلب الموت ، فلا يتمناها إلا من طابت نفسه بالموت.
ومتمني الموت في الجهاد ليس متمنياً لغلبة الكافر المسلم ، إنما يجيء ذلك في الضمن لا أنه مقصود ، إنما مقصده نيل رتبة الشهادة لما فيه من الكرامة عند الله.
وأنشد عبد الله بن رواحة وقد نهض إلى موته وقال لهم : ردّكم الله تعالى فقال :
لكنني أسأل الرحمن مغفرة . . .
وضربة ذات فرع تقذف الزبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي . . .
رشد الله من غاز وقد رشدا

{ من قبل أن تلقوه } : أي من قبل أن تشاهدوا شدائده ومضائقه.
وضمير المفعول في تلقوه عائد على الموت ، وقيل : على العدوّ ، وأضمر لدلالة الكلام عليه.
والأوّل أظهر ، لأنه يعود على مذكور.
وقرأ النخعي والزهري : تلاقوه ومعناها ومعنى تلقوه سواء ، من حيثُ أنّ معنى لقي يتضمن أنه من اثنين ، وإنْ لم يكنْ على وزن فاعل.
وقرأ مجاهد من قبلُ بضم اللام مقطوعاً عن الإضافة ، فيكون موضع أنْ تلقوه نصباً على أنه بدل اشتمال من الموت.
فقد رأيتموه أي عاينتم أسبابه وهي الحرب المستعرة كما قال :
لقد رأيت الموت قبل ذوقه . . .
وقال :
ووجدت ريح الموت من تلقائهم . . .
في مأزق والخيل لم تتبدّد
وقيل : معنى الرؤية هنا العلم ، ويحتاج إلى حذف المفعول الثاني أي : فقد علمتم الموت حاضراً ، وحذف لدلالة المعنى عليه.
وحذف أحد مفعولي ظن وأخواتها عزيز جداً ، ولذلك وقع فيه الخلاف بين النحويين.
وقرأ طلحة بن مصرف.
فلقد رأيتموه باللام ، وأنتم تنظرون جملة حالية للتأكيد ، ورفع ما يحتمله رأيتموه من المجاز أو من الاشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية العين ، أي معاينين مشاهدين له حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا ، فعلى هذا يكون متعلق النظر متعلق الرؤية ، وهذا قول الأخفش ، وهو الظاهر.
وقيل : وأنتم بصراء أي ليس بأعينكم علة.
ويرجع معناه إلى القول الأول ، وقاله الزجاج والأخفش أيضاً.
وقيل : تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم وما فعل به.
وقيل : تنظرون نظر تأمل بعد الرؤية.
وقيل : تنظرون في أسباب النجاة والفرار ، وفي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هل قتل أم لا؟ وقيل : تنظرون ما تمنيتم وهو عائد على الموت.
وقيل : تنظرون في فعلكم الآن بعد انقضاء الحرب ، هل وفيتم أو خالفتم؟ فعلى هذا المعنى لا تكون جملة حالية ، بل هي جملة مستأنفة الاخبار أتى بها على سبيل التوبيخ.
فكأنه قيل : وأنتم حسباء أنفسكم فتملوا قبح فعلكم.
وهذه الآية وإن كانت صيغتها صيغة الخبر فمعناها العتب والإنكار على من انهزم يوم أحد ، وفيها محذوف أخيراً بعد قوله : فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ، أي تفرقهم بعد رؤية أسبابه وكشف الغيب ، أنَّ متعلق تمنيكم نكصتم عنه وقال ابن الأنباري : يقال : إنَّ معنى رأيتموه قابلتموه وأنتم تنظرون بعيونكم ، ولهذه العلة ذكر النظر بعد الرؤية حين اختلف معناهما ، لأن الأول بمعنى المقابلة والمواجهة والثاني بمعنى رؤية العين انتهى.
ويكون إذ ذاك ، وأنتم تنظرون جملة في موضع الحال المبينة لا المؤكدة إلا أن المشهور في اللغة أن الرؤية هي الإبصار ، لا المقابلة والمواجهة.
{ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } هذا استمرار في عتبهم آخر أن محمداً رسول كمن مضى من الرسل ، بلّغ عن الله كما بلغوا.

وليس بقاء الرسل شرطاً في بقاء شرائعهم ، بل هم يموتون وتبقى شرائعهم يلتزمها أتباعهم.
فكما مضت الرسل وانقضوا ، فكذلك حكمهم هو في ذلك واحد.
وقرأ الجمهور الرسل بالتعريف على سبيل التفخيم للرسل ، والتنويه بهم على مقتضى حالهم من الله.
وفي مصحف عبد الله رسل بالتنكير ، وبها قرأ : ابن عباس ، وقحطان بن عبد الله.
ووجهها أنه موضع تبشير لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في معنى الحياة ، ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك.
وهكذا يتصل في أماكن الاقتضاء به بالشيء ومنه : { وقليل من عبادي الشكور } { وما آمن معه إلا قليل } إلى غير ذلك.
ذكر هذا الفرق بين التعريف والتنكير في نحو هذا المساق أبو الفتح ، وقراءة التعريف أوجه ، إذ تدل على تساوي كل في الخلق والموت ، فهذا الرسول هو مثلهم في ذلك.
{ أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } لما صرخ بأن محمداً قد قتل ، تزلزلت أقدام المؤمنين ورعبت قلوبهم وأمعنوا في الفرار ، وكانوا ثلاث فرق : فرقة قالت : ما نصنع بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قاتلوا على ما قاتل عليه ، فقاتلوا حتى قتلوا ، منهم : أنس بن النضر.
وفرقة قالوا : نلقي إليهم بأيدينا فإنهم قومنا وبنو عمنا.
وفرقة أظهرت النفاق وقالوا : ارجعوا إلى دينكم الأوّل ، فلو كان محمد نبياً ما قتل.
وظاهر الانقلاب على العقبين هو الارتداد.
وقيل : هو بالفرار لا الارتداد.
وقد جاء هذا اللفظ في الارتداد والكفر في قوله : { لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } وهذه الهمزة هي همزة الاستفهام الذي معناه الإنكار.
والفاء للعطف ، وأصلها التقديم.
إذ التقدير : فأإن مات.
لكنهم يعتنون بالاستفهام فيقدّممونه على حرف العطف ، وقد تقدّم لنا مثل هذا وخلاف الزمخشري فيه.
وقال الخطيب كمال الدين الزملكاني : الأوجه أن يقدّر محذوف بعد الهمزة وقيل الفاء ، تكون الفاء عاطفة عليه.
ولو صرّح به لقيل : أتؤمنون به مدة حياته ، فإن مات ارتددتم ، فتخالفوا سنن اتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على ملل أنبيائهم بعد وفاتهم انتهى.
وهذه نزعة زمخشرية.
وقد تقدم الكلام معه في نحو ذلك.
وأن هذه الفاء إنما عطفت الجملة المستفهم عنها على الجملة الخبرية قبلها ، وهمزة الاستفهام داخلة على جملة الشرط وجزائه.
وجزاؤه ، هو انقلبتم ، فلا تغير همزة الاستفهام شيئاً من أحكام الشرط وجزائه.
فإذا كانا مضارعين كانا مجزومين نحو : أإن تأني آتك.
وذهب يونس إلى أن الفعل الثاني يبنى على أداة الاستفهام ، فينوي به التقديم ، ولا بد إذ ذاك من جعل الفعل الأول ماضياً لأن جواب الشرط محذوف ، ولا يحذف الجواب إلا إذا كان فعل الشرط لا يظهر فيه عمل لأداة الشرط ، فيلزم عنده أن تقول : أإن أكرمتني أكرمك.
التقدير فيه : أكرمك أن أكرمتني ، ولا يجوز عنده إنْ تكرمني أكرمك بجزمهما أصلاً ، ولا إن تكرمني أكرمك بجزم الأول ورفع الثاني إلا في ضرورة الشعر.

والكلام على هذه المسألة مستوفى في علم النحو.
فعلى مذهب يونس : تكون همزة الاستفهام دخلت في التقدير على انقلبتم ، وهو ماض معناه الاستقبال ، لأنه مقيد بالموت أو بالقتل.
وجواب الشرط عند يونس محذوف ، وبقول يونس : قال كثير من المفسرين في الآية قالوا : ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها ، لأن الغرض إنما هو أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد.
ودخلت إنْ هنا على المحقق وليس من مظانها ، لأنه أورد مورد المشكوك فيه للتردد بين الموت والقتل ، وتجويزُ قتله عند أكثر المخاطبين.
ألا ترى إليهم حين سمعوا أنه قتل اضطربوا وفروا ، وانقسموا إلى ثلاث فرق ، ومن ثبت منهم فقاتل حتى قتل؟ قال بعضهم : يا قوم إنْ كان محمد قد قتل فإنَّ رب محمد لم يقتل ، موتوا على ما مات عليه.
وقال بعضهم : إنْ كان محمد قد قتل فإنه قد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم.
فهذا يدل على تجويز أكثر المخاطبين لأن يقتل.
فأمَّا العلم بأنه لا يقتل من جهة قوله تعالى : { والله يعصمك من الناس } فهو مختص بالعلماء من المؤمنين وذوي البصيرة منهم ، ومن سمع هذه الآية وعرف سبب نزولها.
{ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً } أي مَنْ رجع إلى الكفر أو ارتدّ فاراً عن القتال وعن ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الجهاد على التفسيرين السابقين.
وهذه الجملة الشرطية هي عامة في أنَّ كل من انقلب على عقبيه فلا يضر إلا نفسه ، ولا يلحق من ذلك شيء لله تعالى ، لأنه تعالى لا يجوز عليه مضار العبد.
ولم تقع ردّة من أحد من المسلمين في ذلك اليوم إلا ما كان من قول المنافقين.
وقرأ الجمهور على عقبيه بالتثنية.
وقرأ ابن أبي إسحاق على عقبه بالإفراد ، وانتصاب شيئاً على المصدر.
أي : شيئاً من الضرر لا قليلاً ولا كثيراً.
والانقلاب على الأعقاب أو على العقبين أو العقب من باب التمثيل مثّل من يرجع إلى دينه الأول بمن ينقلب على عقبيه.
وتضمنت هذه الجملة الوعيد الشديد.
{ وسيجزي الله الشاكرين } وعد عظيم بالجزاء.
وجاء بالسين التي هي في قول بعضهم : قرينة التفسير في الاستقبال ، أي : لا يتأخر جزاء الله إياهم عنهم.
والشاكرين هم الذين صبروا على دينه ، وصدقوا الله فيما وعدوه ، وثبتوا.
شكروا نعمة الله عليهم بالإسلام ، ولم يكفروها ، كأنس بن النضر ، وسعد بن الربيع ، والأنصاري الذي كان يتشخط في دمه ، وغيرهم ممن ثبت ذلك اليوم.
والشاكرون لفظ عام يندرج فيه كل شاكر فعلاً وقولاً.
وقد تقدم الكلام على الشكر.
وظاهر هذا الجزاء أنه في الآخرة.
وقيل : في الدنيا بالرزق ، والتمكين في الأرض.
وفسروا الشاكرين هنا بالثابتين على دينهم قاله : علي.
وقال هو والحسن بن أبي الحسن أبو بكر ، أمير الشاكرين يشيران إلى ثباته يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واضطراب الناس إذ ذاك ، وثباته في أمر الردة وما قام به من أعباء الإسلام.

وفسر أيضاً بالطائعين.
{ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله } قال الزمخشري : المعنى أن موت الأنفس محال أنْ تكون إلا بمشيئة الله ، فأخرجه مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن الله له فيه تمثيلاً.
ولأن ملك الموت هو الموكل بذلك ، فليس له أن يقبض نفساً إلا بإذن من الله.
وهو على معنيين : أحدهما : تحريضهم على الجهاد ، وتشجيعهم على لقاء العدو ، بإعلامهم أن الحذر لا ينفع ، وأن أحداً لا يموت قبل بلوغ أجله وإنْ خاض المهالك واقتحم المعارك.
والثاني : ذكر ما صنع الله تعالى برسوله عند غلبة العدوّ ، والتفافهم عليه ، وإسلام قومه له نهزة للمختلسين من الحفظ والكلاء وتأخر الأجل انتهى كلام الزمخشري.
وهو حسن وهو بسط كلام غيره من المفسرين أنه لا تموت نفس إلا بأجل محتوم.
فالجبن لا يزيد في الحياة والشجاعة لا تنقص منها.
وفي هذه الجملة تقوية للنفوس على الجهاد ، وفيها تسلية في موت النبي صلى الله عليه وسلم.
وقول العرب : ما كان لزيد أن يفعل معناه انتفاء الفعل عن زيد وامتناعه.
فتارة يكون الامتناع في مثل هذا التركيب لكونه ممتنعاً عقلاً كقوله تعالى : { ما كان لله أن يتخذ من ولد } وقوله : { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } وتارة لكونه ممتنعاً عادة نحو : ما كان لزيد أن يطير.
وتارة لكونه ممتنعاً شرعاً كقوله تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً } وتارة لكونه ممتنعاً أدباً ، كقول أبي بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويفهم هذا من سياق الكلام.
ولا تتضمن هذه الصيغة نهياً كما يقوله بعضهم.
وقوله : لنفس ، المراد الجنس لا نفس واحدة.
ومعنى : إلا بإذن الله ، أي بتمكينه وتسويغه ذلك.
وقد تقدم شرح الإذن ، والأحسن فيه أنه تمكين من الشيء مع العلم به ، فإنْ انضاف إلى ذلك قول فيكون أمراً.
والمعنى : إلا بإذن الله للملك الموكل بالقبض.
وأن تموت في موضع اسم كان ، ولنفس هو في موضع الخبر ، فيتعلق بمحذوف.
وجعل بعضهم كان رائدة.
فيكون أن تموت في موضع مبتدأ ، ولنفس في موضع خبره.
وقدره الزجاج على المعنى فقال : وما كانت نفس لتموت ، فجعل ما كان اسماً خبراً ، وما كان خبراً اسماً ، ولا يريد بذلك الإعراب ، إنّما فسر من جهة المعنى.
وقال أبو البقاء : اللام في : لنفس ، للتبيين متعلقة بكان انتهى.
وهذا لا يتم إلا أن كانت كان تامة.
وقول من قال : هي متعلقة بمحذوف تقديره : وما كان الموت لنفس وإن تموت ، تبيين للمحذوف مرغوب عنه ، لأن اسم كان إن كانت ناقصة أو الفاعل إن كانت تامة لا يجوز حذفه ، ولما في حذفه أنْ لو جاز من حذف المصدر وإبقاء معموله ، وهو لا يجوز على مذهب البصريين.

{ كتاباً مؤجلاً } أي له أجل لا يتقدم ولا يتأخر وفي هذا رد على المعتزلة في قولهم بالأجلينْ والكتابة هنا عبارة عن القضاء ، وقيل : مكتوباً في اللوح المحفوظ مبيناً فيه.
ويحتمل هذا الكلام أن يكون جواباً لقولهم : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا.
وانتصاب كتاباً على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة والتقدير : كتب الله كتاباً مؤجلاً ونظيره : { كتاب الله عليكم } { صنع الله } { ووعد الله }.
وقيل : هو منصوب على الإغراء ، أي الزموا وآمنوا بالقدر وهذا بعيد.
وقال ابن عطية : كتاباً نصب على التمييز ، وهذا لا يظهر فإن التمييز كما قسمه النحاة ينقسم إلى منقول وغير منقول ، وأقسامه في النوعين محصورة ، وليس هذا واحداً منها.
{ ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها } هذا تعريض بالذين رغبوا في الغنائم يوم أحد واشتغلوا بها ، والذين ثبتوا على القتال فيه ولم يشغلهم شيء عن نصرة الدين ، وهذا الجزاء من إيتاء الله من أراد ثواب الدنيا مشروط بمشيئة الله تعالى ، كما جاء في الآية الأخرى : { عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد }
وقوله : « نؤته بالنون فيهما » وفي : سنجزي قراءة الجمهور وهو التفات ، إذ هو خروج من غيبة إلى تكلم بنون العظمة.
وقرأ الأعمش : يؤته بالياء فيهما وفي سيجزي ، وهو جار على ما سبق من الغيبة.
قال ابن عطية : وذلك على حذف الفاعل لدلالة الكلام عليه انتهى.
وهو وهم ، وصوابه : على إضمار الفاعل ، والضمير عائد على الله.
وظاهر التقسيم يقتضي اختصاص كل واحد بما أراد ، لأن من كانت نيته مقصورة على طلب دنياه لا نصيب له في الآخرة ، لكن من كانت نيته مقصورة على طلب الآخرة قد يؤتى نصيباً من الدنيا.
وللمفسرين فيها أقوال : نؤته نصيباً من الغنيمة لجهاده الكفار ، أو لم نحرمه ما قسمناه له إذ من طلب الدّنيا بعمل الآخرة نؤته منها ، وما له في الآخرة من نصيب.
أو هي خاصة في أصحاب أحد أو من أراد ثواب الدنيا بالتعرض لها بعمل النوافل مع مواقعة الكبائر جوزي عليها في الدنيا والآخرة.
{ وسنجزي الشاكرين } وعدٌ لمن شكر نعم الله فقصر همه ونيته على طلب ثواب الآخرة.
قال ابن فورك : وفيه إشارة إلى أنهم ينعمهم الله بنعيم الدنيا ، ولا يقصرهم على نعيم الآخرة.
وأظهر الحرميان ، وعاصم ، وابن عامر في بعض طرق من رواية هشام ، وابن ذكوان دال يرد عند ثواب ، وأدغم في الوصل.
وقرأ قالون والحلواني عن هشام من طريق : باختلاص الحركة ، وقرأ الباقون بالإشباع.
وأما في الوقف فبالسكون للجميع.

ووجه الإسكان أن الهاء لما وقعت موقع المحذوف الذي كان حقه لو لم يكن حرف علة أن يسكن ، فأعطيت الهاء ما تستحقه من السكون.
ووجه الاختلاس بأنه استصحب ما كان للهاء قبل أن تحذف الياء ، لأنه قبل الحذف كان أصله يؤتيه والحذف عارض فلا يعتدّ به.
ووجه الإشباع بأنّه جاز نظر إلى اللفظ وإنْ كانت الهاء متصلة بحركة والأولى ترك هذه التوجيهات.
فإنّ اختلاس الضمة والكسرة بعد متحرك لغة حكاها الكسائي عن بني عقيل وبني كلاب.
قال الكسائي : سمعت أعراب كلاب وعقيل يقولون : { إن الإنسان لربه لكنود } ولربه لكنود بغير تمام وله مال ، وله مال.
وغير بني كلاب وبني عقيل لا يوجد في كلامهم اختلاس ، ولا سكون في له وشبهه إلا في صورة نحو قول الشاعر :
له زجل كأنه صوت حاد . . .
إذا طلب الوسيقة أو زَمير
وقول الآخر :
واشرب الماء ما بي نحوه عطش . . .
إلا لأن عيونه سيل واديها
{ وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا } لما كان من المؤمنين ما كان يوم أحد وعتب عليهم الله ما حذر منهم في الآيات التي تقدمت ، أخبرهم بأنّ الأمم السالفة قتلت أنبياء لهم كثيرون أو قتل ربيون كثير معهم ، فلم يلحقهم ما لحقكم من الوهن والضعف ، ولا ثناهم عن القتال فجعهم بقتل أنبيائهم ، أو قتل ربيبهم ، بل مضوا قدماً في نصرة دينهم صابرين على ما حل بهم.
وقتل نبي أو أتباعه من أعظم المصاب ، فكذلك كان ينبغي لكم التأسي بمن مضى من صالحي الأمم السابقة ، هذا وأنتم خير الأمم ، ونبيكم خير الأنبياء.
وفي هذه الجملة من العتب لمن فرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقرأ الجمهور وكأين قالوا : وهي أصل الكلمة ، إذ هي أي دخل عليها كاف التشبيه ، وكتبت بنون في المصحف ، ووقف عليها أبو عمرو.
وسورة بن المبارك عن الكسائي بياء دون نون ، ووقف الجمهور على النون اتباعاً للرسم.
واعتل لذلك أبو علي الفارسي بما يوقف عليه في كلامه وذلك على عادة المعللين ، ومما جاء على هذه اللغة قول الشاعر :
وكائن في المعاسر من أناس . . .
أخوهم فرقهم وهم كرام
وقرأ ابن كثير : وكائن وهي أكثر استعمالاً في لسان العرب وأشعارها.
قال :.
وكائن رددنا عنكم من مدجج . . .
وقرأ ابن محيصين والأشهب العقيلي : وكأين على مثال كعين.
وقرأ بعض القراء من الشواذ كيئن ، وهو مقلوب قراءة ابن محيصين.
وقرأ ابن محيصين أيضاً فيما حكاه الداني كان على مثال كع وقال الشاعر :
كان صديق خلته صادق الإخا . . .
أبان اختياري أنه لي مداهن
وقرأ الحسن كي بكاف بعدها ياء مكسورة منونة.
وقد طول المفسرون ابن عطية وغيره بتعليل هذه التصرفات في كأين ، وبما عمل في كأين ، فلذلك أضربنا عن ذكره صفحاً.

وقرأ الحرميان وأبو عمرو قتل مبنياً للمفعول ، وقتادة كذلك ، إلا أنه شدّد التاء ، وباقي السبعة قاتل بألف فعلاً ماضياً.
وعلى كل من هذه القرآت يصلح أن يسند الفعل إلى الضمير ، فيكون صاحب الضمير هو الذي قتل أو قتل على معنى التكثير بالنسة لكثرة الأشخاص ، لا بالنسبة لفرد فرد.
إذ القتل لا يتكثر في كل فرد فرد.
أو هو قاتل ويكون قوله : معه ربيون محتملاً أن تكون جملة في موضع الحال ، فيرتفع ربيون بالابتداء ، والظرف قبله خبره ، ولم يحتج إلى الواو لأجل الضمير في معه العائد على ذي الحال ، ومحتملاً أن يرتفع ربيون على الفاعلية بالظرف ، ويكون الظرف هو الواقع حالاً التقدير : كائناً معه ربيون ، وهذا هو الأحسن.
لأن وقوع الحال مفرداً أحسن من وقوعه جملة.
وقد اعتمد الظرف لكونه وقع حالاً فيعمل وهي حال محكية ، فلذلك ارتفع ربيون بالظرف.
وإنْ كان العامل ماضياً لأنه حكى الحال كقوله تعالى : { وكلبهم باسط ذراعيه } وذلك على مذهب البصريين.
وأما الكسائي وهشام فإنه يجوز عندهما إعمال اسم الفاعل الماضي غير المعرف بالألف واللام من غير تأويل ، بكونه حكاية حال ، ويصلح أن يسند الفعل إلى ربيون فلا يكون فيه ضمير ، ويكون الربيون هم الذين قَتلوا أو قُتلوا أو قاتلوا ، وموضع كأين رفع على الابتداء.
والظاهر أن خبره بالجملة من قوله : قتل أو قتل أو قاتل ، سواء أرفع الفعل الضمير ، أم الربيين.
وجوزوا أن يكون قتل إذا رفع الضمير في موضع الصفة ومعه ربيون في موضع الخبر كما تقول : كم من رجل صالح معه مال.
أو في موضع الصفة فيكون قد وصف بكونه مقتولاً ، أو مقتلاً ، أو مقاتلاً ، وبكونه معه ربيون كثير.
ويكون خبر كأين قد حذف تقديره : في الدنيا أو مضى.
وهذا ضعيف ، لأن الكلام مستقل بنفسه لا يحتاج إلى تكلف إضمار.
وأما إذا رفع الظاهر فجوزوا أن تكون الجملة الفعلية من قتل ومتعلقاتها في موضع الصفة لنبي ، والخبر محذوف.
وهذا كما قلنا ضعيف.
ولما ذكروا أن أصل كأين هو أي دخلت عليها كاف التشبيه فجرتها ، فهي عاملة فيها ، كما دخلت على ذا في قولهم : له عندي كذا.
وكما دخلت على أنّ في قولهم : كأن ادعى أكثرهم إن كأن ، بقيت فيها الكاف على معنى التشبيه.
وإن كذا ، وكأن ، زال عنهما معنى التشبيه.
فعلى هذا لا تتعلق الكاف بشيء ، وصار معنى كأين معنى كم ، فلا تدل على التشبيه ألبتة.
وقال الحوفي : أما العامل في الكاف فإن حملناها على حكم الأصل فمحمول على المعنى ، والمعنى : إصابتكم كإصابة من تقدّم من الأنبياء وأصحابهم.
وإن حملنا الحكم على الانتقال إلى معنى كم ، كان العامل بتقدير الابتداء ، وكانت في موضع رفع وقتل الخبر.

ومن متعلقة بمعنى الاستقرار ، والتقدير الأول أوضح لحمل الكلام على اللفظ دون المعنى بما يجب من الخفض في أي.
وإذا كانت أي على بابها من معاملة اللفظ ، فمن متعلقة بما تعلقت به الكاف من المعنى المدلول عليه انتهى كلامه.
وهو كلام فيه غرابة.
وجرَّهم إلى التخليط في هذه الكلمة ادّعاؤهم بأنها مركبة من : كاف التشبيه ، وإن أصلها أي : فجرت بكاف التشبيه.
وهي دعوى لا يقوم على صحتها دليل.
وقد ذكرنا رأينا فيها أنها بسيطة مبنية على السكون ، والنون من أصل الكلمة وليس بتنوين ، وحملت في البناء على نظيرتها كم.
وإلى أن الفعل مسند إلى الضمير.
ذهب الطبري وجماعة ورجح ذلك بأن القصة هي سبب غزوة أحد ، وتخاذل المؤمنين حين قتل محمد صلى الله عليه وسلم ، فضرب المثل بنبي قتل.
ويؤيد هذا الترجيح قوله : أفإن مات أو قتل.
وقد قال ابن عباس في قوله : { وما كان لنبي أن يغل } النبي ، يقتل ، فكيف لا يخان؟ وإذا أسند لغير النبي كان المعنى تثبيت المؤمنين لفقد مَن فقد منهم فقط.
وإلى أن الفعل مسند إلى الربيين ذهب الحسن وجماعة.
قال هو وابن جبير : لم يقتل نبي في حرب قط.
وقال ابن : عطية قراءة من قرأ قاتل أعم في المدح ، لأنه يدخل فيها من قتل ومن بقي.
ويحسن عندي على هذه القراءة إسناد الفعل إلى الربيين ، وعلى قراءة قتل إسناده إلى نبي انتهى كلامه.
ونقول : قتل : يظهر أنها مدح ، وهي أبلغ في مقصود الخطاب ، لأنها نص في وقوع القتل ، ويستلزم المقاتلة.
وقاتل : لا تدل على القتل ، إذ لا يلزم من المقاتلة وجود القتل.
قد تكون مقاتلة ولا يقع قتل.
وما ذكر من أنه يحسن عنده ما ذكر لا يظهر حسنه ، بل القراءتان تحتملان الوجهين.
وقال أبو الفتح بن جني : في قراءة قتادة لا يحسن أن يستند الفعل إلى الربيين لما فيه من معنى التكثير الذي لا يجوز أن يستعمل في قتل شخص واحد.
فإن قيل : يستند إلى نبي مراعاة لمعنى كأين ، فالجواب : أن اللفظ قد مشى على جهة الإفراد في قوله : من نبي ، ودل الضمير المفرد في معه على أن المراد إنما هو التمثيل بواحد واحد ، فخرج الكلام على معنى كأين.
قال أبو الفتح : وهذه القراءة تقوي قول من قال لمن قتل وقاتل : إنما يستند إلى الربيين.
انتهى كلامه وليس بظاهر.
لأن كأين مثل كم ، وأنت خبير إذا قلت : كم من عانٍ فككته ، فأفردت.
راعيت لفظ كم ومعناها الجمع : وإذا قلت : كم من عان فككتهم ، راعيت معنى كم لا لفظها.
وليس معنى مراعاة اللفظ إلا أنك أفردت الضمير ، والمراد به الجمع.
فلا فرق من حيثُ المعنى بين فككته وفككتهم ، كذلك لا فرق بين قتلوا معهم ربيون وقتل معه ربيون ، وإنما جاز مراعاة اللفظ تارة ، ومراعاة المعنى تارة ، لأن مدلول كم وكأين كثير ، والمعنى جمع كثير.

وإذا أخبرت عن جمع كثير فتارةً تفرد مراعاة للفظ ، وتارةً تجمع مراعاة للمعنى كما قال تعالى : { أم يقولون نحن جميع منتصر.
سيهزم الجمع ويولون الدبر } فقال : منتصر ، وقال : ويولون.
فأفرد منتصر ، وجمع في يولون.
وقول أبي الفتح في جواب السؤال الذي فرضه : أن اللفظ قد جرى على جهة الإفراد في قوله : من نبي ، أي روعي لفظ كأين لكون تمييزها جاء مفرداً ، فناسب لما ميزت بمفرد أن يراعي لفظها ، والمعنى على الجمع.
وقوله : ودل الضمير المفرد في معه على أن المراد إنما هو التمثيل بواحد واحد ، هذا المراد مشترك بين أن يفرد الضمير ، أو يجمع.
لأن الضمير المفرد ليس معناه هنا إفراد مدلوله ، بل لا فرق بينه مفرداً ومجموعاً من حيث المعنى.
وإذ لا فرق فدلالته عامة ، وهي دلالته على كل فرد فرد.
وقوله : فخرج الكلام عن معنى كأين ، لم يخرج الكلام عن معنى كأين ، إنما خرج عن جمع الضمير على معني كأين دون لفظها ، لأنه إذا أفرد لفظاً لم يكن مدلوله مفرداً ، إنما يكون جمعاً كما قالوا : هو أحسن الفتيان وأجمله ، معناه : وأجملهم.
ومن أسند قتل أو قتل إلى ربيون ، فالمعنى عنده : قتل بعضهم.
كما تقول : قتل بنو فلان في وقعة كذا ، أي جماعة منهم.
والربي عابد الرب.
وكسر الراء من تغيير النسب ، كما قالوا : إمسي في النسبة إلى أمس ، قاله : الأخفش.
أو الجماعة قاله : أبو عبيدة.
أو منسوب إلى الرّبة وهي الجماعة ، ثم جمع بالواو والنون قاله : الزجاج.
أو الجماعة الكثيرة قاله : يونس بن حبيب.
وربيون منسوب إليها.
قال قطرب : جماعة العلماء على قول يونس ، وأمّا المفسرون فقال ابن مسعود ، وابن عباس : هم الألوف ، واختاره الفراء وغيره.
عدد ذلك بعض المفسرين فقال : هم عشرة آلاف.
وقال ابن عباس في رواية ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، والربيع : هم الجماعات الكثيرة ، واختاره ابن قتيبة.
وقال ابن عباس في رواية الحسن : هم العلماء الأتقياء الصبر على ما يصيبهم.
واختاره اليزيدي والزجاج.
وقال ابن زيد : الاتباع ، والربانيون الولاة.
وقال ابن فارس : الصالحون العارفون بالله.
وقيل : وزراء الأنبياء.
وقال الضحاك : الربية الواحدة ألف ، والربيون جمعها.
وقال الكلبي : الربية الواحدة عشرة آلاف.
وقال النقاش : هم المكثرون العلم من قولهم : ربا الشيء يربو إذا كثر.
وهذا لا يصح لاختلاف المادتين ، لأن ربا أصوله راء وباء وواو ، وأصول هذا راء وباء وباء.
وقرأ الجمهور بكسر الراء.
وقرأ علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وعكرمة ، والحسن ، وأبو رجاء ، وعمرو بن عبيد ، وعطاء بن السائب بضم الراء ، وهو من تغيير النسب.
كما قالوا : دُهري بضم الدال ، وهو منسوب إلى الدهر الطويل.
وقرأ ابن عباس فيما روى قتادة عنه : بفتح الراء.

قال ابن جني : هي لغة تميم ، وكلها لغات والضمير في وهنوا عائد على الربيين ، إن كان الضمير في قتل عائداً على النبي.
وإن كان ربيون مسنداً إليه الفعل مبنياً للفاعل ، فكذلك أو للمفعول ، فالضمير يعود على من بقي منهم ، إذ المعنى يدل عليه.
إذ لا يصح عوده على ربيون لأجل العطف بالفاء ، لما أصابهم في سبيل الله بقتل أنبيائهم أو ربيبهم.
وقرأ الجمهور : وهنوا بفتح الهاء.
وقرأ الأعمش ، والحسن ، وأبو السمال بكسرها.
وهما لغتان ، وهن يهن كوعد يعد ، ووهن يوهن كوجل يوجل.
وقرأ عكرمة وأبو السمال أيضاً : وهنوا بإسكان الهاء كما قالوا نعم في نعم ، وشهد في شهد.
وتميم تسكن عين فعل.
وما ضعفوا عن الجهاد بعد ما أصابهم ، وقيل : ما ضعف يقينهم ، ولا انحلت عزيمتهم.
وأصل الضعف نقصان القوة ، ثم يستعمل في الرأي والعقل.
وقرىء ضعَفوا بفتح العين وحكاها الكسائي لغة.
وما استكانوا قال ابن إسحاق : ما قعدوا عن الجهاد في دينهم.
وقال السدي : ما ذلوا.
وقال عطاء : ما تضرعوا.
وقال مقاتل : ما استسلموا.
وقال أبو العالية : ما جبنوا.
وقال المفضل : ما خشعوا.
وقال قتادة والربيع : ما ارتدوا عن نصرتهم دينهم ، ولكنهم قاتلوا على ما قاتل عليه نبيهم حتى لحقوا بربهم.
وكل هذه أقوال متقاربة.
وهذا تعريض لما أصابهم يوم أحد من الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم ، حين أراد بعضهم أن يعتضد بالمنافق عبد الله بن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان.
واستكان ظاهره أنه استفعل من الكون ، فتكون أصل ألفه واواً أو من قول العرب : مات فلان بكينة سوء ، أي بحالة سوء.
وكأنه يكينه إذا خضعه قال هذا : الأزهري وأبو علي.
فعلى قولهما أصل الألف ياء.
وقال الفراء وطائفة من النحاة : أنه افتعل من السكون ، وأشبعت الفتحة فتولد منها ألف.
كما قال : أعوذ بالله من العقراب ، يريد من العقرب.
وهذا الإشباع لا يكون إلا في الشعر.
وهذه الكلمة في جميع تصاريفها بنيت على هذا الحرف تقول : استكان بستكين فهو مستكين ومستكان له ، والإشباع لا يكون على هذا الحدّ.
{ والله يحب الصابرين } أي على قتال عدوهم قاله : الجمهور.
أو على دينهم وقتال الكفار.
والظاهر العموم لكل صابر على ما أصابه من قتل في سبيل الله ، أو جرح ، أو بلاء ، أو أذى يناله بقولٍ أو فعلٍ أو مصيبة في نفسه ، أو أهله أو ماله ، أو ما يجري مجرى ذلك.
وكثيراً ما تمدحت العرب بالصبر وحرصت عليه كما قال طرفة بن العبد :
وتشكي النفس ما أصاب بها . . .
فاصبري إنك من قوم صبر
إن تلاقي سفسيالاً بلغنا . . .
فرح الخير ولا تكبو الضبر

{ وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } لما ذكر ما كانوا عليه من الجلد والصبر وعدم الوهن والاستكانة للعدو ، وذلك كله من الأفعال النفسانية التي يظهر أثرها على الجوارح ، ذكر ما كانوا عليه من الإنابة والاستغفار والالتجاء إلى الله تعالى بالدعاء ، وحصر قولهم في ذلك القول ، فلم يكن لهم ملجأ ولا مفزع إلا إلى الله تعالى ، ولا قول إلا هذا القول.
لا ما كنتم عليه يوم أحد من الاضطراب ، واختلاف الأقوال.
فمن قائل : نأخذ أماناً من أبي سفيان ، ومن قائل : نرجع إلى ديننا ، ومن قائل ما قال حين فرّ.
وهؤلاء قد فجعوا بموت نبيهم أو ربيبهم لم يهنوا ، بل صبروا وقالوا هذا القول ، وهم ربيون أحبار هضماً لأنفسهم ، وإشعاراً أنَّ ما نزل من بلاد الدنيا إنما هو بذنوب من البشر ، كما كان في قصة أحد بعصيان من عصى.
وقرأ الجمهور قولهم بالنصب على أنه خبر كان.
وإن قالوا في موضع الاسم ، جعلوا ما كان أعرف الاسم ، لأن إنَّ وصلتها تتنزل منزلة الضمير.
وقولهم : مضاف للضمير ، يتنزل منزلة العلم.
وقرأت طائفة منهم حماد بن سلمة عن ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم فيما ذكره المهدوي برفع قولهم ، جعلوه اسم كان ، والخبران قالوا.
والوجهان فصيحان ، وإن كان الأول أكثر.
وقد قرىء : ثم لم تكن فتنتهم بالوجهين في السبعة ، وقدم طلب الاستغفار على طلب تثبيت الأقدام والنصرة ، ليكون طلبهم ذلك إلى الله عن زكاة وطهارة.
فيكون طلبهم التثبيت بتقديم الاستغفار حرياً بالإجابة ، وذنوبنا وإسرافنا متقاربان من حيث المعنى ، فجاء ذلك على سبيل التأكيد.
وقيل : الذنوب ما دون الكبائر ، والإسراف الكبائر.
وقال أبو عبيدة : الذنوب هي الخطايا ، وإسرافنا أي تفريطنا.
وقال الضحاك : الذنوب عام ، والإسراف في الأمر الكبائر خاصة.
والإقدام هنا قيل : حقيقة ، دعوا بتثبيت الأقدام في مواطىء الحرب ولقاء العدوّ كي لا تزلّ.
وقيل : المعنى شجّعْ قلوبنا على لقاء العدوّ.
وقيل : ثبت قلوبنا على دينك.
والأحسن حمله على الحقيقة لأنه من مظانها.
وثبوت القدم في الحرب لا يكون إلا من ثبوت صاحبها في الدين.
وكثيراً ما جاءت هذه اللفظة دائرة في الحرب ومع النصرة كقوله : { أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا } { إِن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } وقيل : اغفر لنا ذنوبنا في المخالفة ، وإسرافنا في الهزيمة ، وثبت أقدامنا بالمصابرة ، وانصرنا على القوم الكافرين بالمجاهدة.
قال ابن فورك : في هذا الدعاء ردّ على القدرية لقولهم : إن الله لا يخلق أفعال العبد ، ولو كان ذلك لم يسع أن يدعي فيما لم يفعله ، وفي هذا دليل على مشروعية الدعاء عند لقاء العدو ، وأن يدعو بهذا الدعاء المعين.
وقد جاء في القرآن أدعية أعقب الله بالإجابة فيها { فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة } قرأ الجحدري : فأثابهم من الإثابة.

ولمّا تقدم في دعائهم ما يتضمن الإجابة فيه الثوابين وهو قولهم : اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا ، فهذا يتضمن ثواب الآخرة.
وثبت أقدامنا وانصرنا يتضمن ثواب الدنيا ، أخبر تعالى أنه منحهم الثوابين.
وهناك بدأوا في الطلب بالأهم عندهم ، وهو ما ينشأ عنه ثواب الآخرة ، وهنا أخبر بما أعطاهم مقدماً.
ذكر ثواب الدنيا ليكون ذلك إشعاراً لهم بقبول دعائهم وإجابتهم إلى طلبهم ، ولأن ذلك في الزمان متقدم على ثواب الآخرة.
قال قتادة وابن إسحاق وغيرهما : ثواب الدنيا هو الظهور على عدوهم.
وقال ابن جريج : هو الظفر والغنيمة.
وقال الزمخشري : ثواب الدّنيا من النصرة والغنيمة والعز وطيب الذكر.
وقال النقاش : ليس إلا الظفر والغلبة ، لأن الغنيمة لم تحل إلا لهذه الأمّة.
وهذا صحيح ثبت في الحديث الصحيح : « وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي » وهي إحدى الخمس الذي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤتها أحد قبله.
وحسن ثواب الآخرة الجنة بلا خلاف قاله : ابن عطية.
وقيل : الأجر والمغفرة.
وخص ثواب الآخرة بالحسن دلالة على فضله وتقدمه ، وأنه هو المعتد به عنده { تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة } وترغيباً في طلب ما يحصله من العمل الصالح ومناسبة لآخر الآية.
قال علي : من عمل لدنياه أضرّ بآخرته ، ومن عمل لآخرته أضرّ بدنياه ، وقد يجمعهما الله تعالى لأقوام.
{ والله يحب المحسنين } « قد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحسان حين سئل عن حقيقته في حديث سؤال جبريل : » أن تعبد الله كأنك تراه « وفسره المفسرون هنا بأحد قولين ، وهو من أحسن ما بينه وبين ربه في لزوم طاعته ، أو من ثبت في القتال مع نبيه حتى يقتل أو يغلب.
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين } الخطاب عامّ يتناول أهل أحد وغيرهم.
وما زال الكفار مثابرين على رجوع المؤمنين عن دينهم ، ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء.
وودُّوا لو تكفرون ، لن تنفعكم { ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردُّونكم من بعد إيمانكم كفاراً } { ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم } وقيل : الخطاب خاص بمن كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنين يوم أحد.
فعلى الأول علق على مطلق طاعتهم الرد على العقب والانقلاب بالخسران وهذا غاية في التحرز منهم والمجانبة لهم ، فلا يطاعون في شيء ولا يشاورون ، لأن ذلك يستجر إلى موافقتهم ، ويكون الذين كفروا عاماً.
وعلى القول الثاني : يكون الذين كفروا خاصاً.
فقال عليّ وابن عباس : هم المنافقون قالوا للمؤمنين لما رجعوا من أحد : لو كان نبياً ما أصابه الذي أصابه فارجعوا إلى إخوانكم.
وقال ابن جريج : هم اليهود والنصارى وقاله : الحسن.

وعنه : إن تستنصحوا اليهود والنصارى وتقبلوا منهم لأنهم كانوا يستغوونهم ، ويوقعون لهم الشبه ، ويقولون : لو كان لكم نبياً حقاً لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم ، وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس ، يوماً له ويوماً عليه.
وقال السدي : هم أبو سفيان وأصحابه من عباد الأوثان.
وقال الحسن أيضاً : هو كعب وأصحابه.
وقال أبو بكر الرّازي : فيها دلالة على النهي عن طاعة الكفار مطلقاً ، لكن أجمع المسلمون على أنه لا يندرج تحته من وثقنا بنصحه منهم ، كالجاسوس والخرّيت الذي يهدي إلى الطريق ، وصاحب الرأي ذي المصلحة الظاهرة ، والزوجة تشير بصواب.
والردة هنا على العقب كناية عن الرجوع إلى الكفر.
وخاسرين : أي مغبونين ببيعكم الآخرة.
{ بل الله مولاكم } بل : لترك الكلام الأول من غير إبطال وأخذ في كلام غيره.
والمعنى : ليس الكفار أولياء فيطاعوا في شيء ، بل الله مولاكم.
وقرأ الحسن : بنصب الجلالة على معنى : بل أطيعوا الله ، لأن الشرط السابق يتضمن معنى النهي ، أي لا تطيعوا الكفار فتكفروا ، بل أطيعوا الله مولاكم.
{ وهو خير الناصرين } لما ذكر أنه مولاهم ، أي ناصرهم ذكر أنّه خير ناصر لا يحتاج معه إلى نصرة أحد ، ولا ولايته.
وفي هذا دلالة على أن من قاتل لنصر دين الله لا يخذل ولا يغلب لأن الله مولاه.
وقال تعالى : { إن تنصروا الله ينصركم } { إن ينصركم الله فلا غالب لكم } { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } أي هؤلاء الكفار ، وإنْ كانوا ظاهرين عليكم يوم أحد فإنا نخذلهم بإلقاء الرعب في قلوبهم.
وأتى بالسين القريبة الاستقبال ، وكذا وقع.
ألقى الله في قلوبهم الرّعب يوم أحد فانهزموا إلى مكة من غير سبب من المسلمين ، ولهم إذ ذاك القوة والغلبة.
وقيل : ذهبوا إلى مكة ، فلما كانوا ببعض الطريق قالوا : ما صنعنا شيئاً قتلنا منهم ثم تركناهم ونحن قاهرون ، ارجعوا فاستأصلوهم ، فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرّعب في قلوبهم فأمسكوا.
والإلقاء حقيقة في الإجرام ، واستعير هنا للجعل ، ونظيره : { والذين يرمون المحصنات } ومثله قول الشاعر :
هما نفثا في فيّ من فويهما . . .
على النابح العاوي أشد رجام
وقرأ الجمهور : سنلقي بالنون ، وهو مشعر بعظم ما يلقى ، إذ أسنده إلى المتكلم بنون العظمة.
وقرأ أيوب السختياني : سيلقي بالياء جرياً على الغيبة السابقة في قوله : { وهو خير الناصرين } وقدم في قلوبهم : وهو مجرور على المفعول للاهتمام بالمحل الملقى فيه قبل ذكر الملقى.
وقرأ ابن عامر والكسائي : الرعب بضم العين ، والباقون بسكونها.
فقيل : لغتان.
وقيل : الأصل السكون ، وضم اتباعاً كالصبح والصبح.
وقيل : الأصل الضم ، وسكن تخفيفاً ، كالرّسل والرسل.
وذكروا في إلقاء الرعب في قلوب الكفار يوم أحد قصة طويلة أردنا أن لا نخلي الكتاب من شيء منها ، فلخصنا منها أن علياً أخبر الرسول بأن أبا سفيان وأصحابه حين ارتحلوا ركبوا الإبل وجنبوا الخيل ، فسرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع الرسول إلى المدينة فتجهز واتبع المشركين إلى حمراء الأسد.

وأن معبد الخزاعي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو كافر ممتعض مما حل بالمسلمين ، وكانت خزاعة تميل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن المشركين هموا بالرجوع إلى القتال فخذلهم صفوان بن أمية ومعبد.
وقال معبد : خرجوا يتحرقون عليكم في جمع لم أر مثله ، ولم أر إلا نواصي خيلهم قد جاءتكم.
وحملني ما رأيت أني قلت في ذلك شعراً وأنشد :
كادت تهد من الأصوات راحلتي . . .
إذ سالت الأرض بالحرد الأبابيل
تردي بأسد كرام لا تنابله . . .
عند اللقاء ولا ميل مهازيل
فظلت أعدو أظن الأرض مائلة . . .
لما سموا برئيس غير مخذول
إلى آخر الشعر ، فوقع الرعب في قلوب الكفار.
وقوله : سنلقي ، وعد للمؤمنين بالنصر بعد أحد ، والظفر.
وقال : « نصرت بالرعب مسيرة شهر » وفيها دلالة على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أخبر عن الله بأنه يلقي الرعب في قلوبهم فكان كما أخبر به.
{ بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً } الباء للسبب ، وما مصدرية : أي بسبب إشراكهم بالله آلهة لم ينزل بإشراكها حجة ولا برهاناً ، وتسليط النفي على الإنزال ، والمقصود : نفي السلطان ، أي آلهة لا سلطان في إشراكها ، فينزل نحو قوله :
على لاحب لا يهتدى بمناره . . .
أي لا منار له فيهتدى به وقوله :
ولا ترى الضب بها ينجحر . . .
أي لا ينجحر الضب فيرى بها.
والمرادُ نفي السلطان والنزول معاً.
وكان الإشراك بالله سبباً لإلقاء الرعب ، لأنهم يكرهون الموت ويؤثرون الحياة ، إذ لم تتعلق آمالهم بالآخرة ولا بثواب فيها ولا عقاب ، فصار اعتقادهم ذلك مؤثراً في الرغبة في الحياة الدنيا كما قالوا : { وما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين } وفي قوله : ما لم ينزل به سلطاناً ، دليل على إبطال التقليد ، إذ لا برهان مع المقلد.
{ ومأواهم النار } أخبر تعالى بأن مصيرهم ومرجعهم إلى النار فهم في الدنيا مرعوبون وفي الآخرة معذبون ، بسبب إشراكهم.
فهو جالب لهم الشر في الدنيا والآخرة.
{ وبئس مثوى الظالمين } بالغ في ذم مثواهم والمخصوص بالذم محذوف ، أي : وبئس مثوى الظالمين النار.
وجعل النار مأواهم ومثواهم.
وبدأ بالمأوى وهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان ولا يلزم منه الثواء ، لأن الثواء دال على الإقامة ، فجعلها مأوى ومثوى كما قال تعالى : { والنار مثوى لهم } ونبه على الوصف الذي استحقوا به النار وهو الظلم ، ومجاوزة الحد إذ أشركوا بالله غيره.
كما قال : { إن الشرك لظلم عظيم }
{ ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون } هذا جواب لمن رجع إلى المدينة من المؤمنين قالوا : وعدنا الله النصر والإمداد بالملائكة ، فمن أي وجه أتينا فنزلت إعلاماً أنه تعالى صدقهم الوعد ونصرهم على أعدائهم أولاً ، وكان الإمداد مشروطاً بالصبر والتقوى.

واتفق من بعضهم من المخالفة ما نص الله في كتابه ، وجاءت المخاطبة بجمع ضمير المؤمنين في هذه الآيات ، وإنْ كان لم يصدر ما يعاتب عليه من جميعهم ، وذلك على طريقة العرب في نسبة ما يقع من بعضهم للجميع على سبيل التجوز ، وفي ذلك إبقاء على مع فعل وستر ، إذ لم يعين وزجر لمن لم يفعل أن يفعل.
وصدق الوعد : هو أنهم هزموا المشركين أولاً ، وكان لعلي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب والزبير وأبي دجانة وعاصم بن أبي الأفلح بلاء عظيم في ذلك اليوم ، وهو مذكور في السير.
وكان المشركون في ثلاثة آلاف ، ومعهم مائتا فرس.
والمسلمون في سبعمائة رجل.
وتعدت صدق هنا لى اثنين ، ويجوز أن تتعدى إلى الثاني بحرف جر ، تقول : صدقت زيداً الحديث ، وصدقت زيداً في الحديث ، ذكرها بعض النحويين في باب ما يتعدى إلى اثنين.
ويجوز أن يتعدى إلى الثاني بحرف الجر ، فيكون من باب استغفر.
واختاروا العامل في إذ صدقكم.
ومعنى تحسونهم : تقتلونهم.
وكانوا قتلوا من المشركين اثنين وعشرين رجلاً.
وقرأ عبيد بن عمير تحسونهم رباعياً من الإحساس ، أي تذهبون حسهم بالقتل.
وتمني القتل بوقت الفشل وهو : الجبن ، والضعف.
والتنازع وهو التجاذب في الأمر.
وهذا التنازع صدر من الرماة.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رتب الرماة على فم الوادي وقال : « اثبتوا مكانكم ، وإن رأيتمونا هزمناهم ، فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم » ووعدهم بالنصر إن انتهوا إلى أمره.
فلما انهزم المشركون قال بعض الرماة : قد انهزموا فما موقفنا هنا؟ الغنيمة الغنيمة ، الحقوا بالمسلمين.
وقال بعضهم : بل نثبت مكاننا كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل : التنازع هو ما صدر من المسلمين من الاختلاف حين صيح أن محمداً قد قتل.
والعصيان هو ذهاب من ذهب من الرماة من مكانه طلباً للنهب والغنيمة ، وكان خالد حين رأى قلة الرماة صاح في خيله وحمل على مَنْ بقي من الرماة فقتلهم ، وحمل على عسكر المسلمين فتراجع المشركون ، فأصيب من المسلمين يومئذ سبعون رجلاً.
{ من بعد ما أراكم ما تحبون } ، وهو ظفر المؤمنين وغلبتهم.
قال الزبير بن العوام : لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير ، إذ مالت الرماة إلى العسكر يريدون النهب ، وخلوا ظهورنا للخيل ، فأتينا من أدبارنا وصرخ صارخ : ألا إن محمداً قد قتل ، فانكفأنا وانكفأ القوم علينا.
وإذاً في قوله : إذا فشلتم ، قيل : بمعنى إذ ، وحتى حرف جر ولا جواب لها إذ ذاك ، ويتعلق بتحسونهم أي : تقتلونهم إلى هذا الوقت.

وقيل : حتى حرف ابتداء دخلت على الجملة الشرطية ، كما تدخل على جمل الابتداء والجواب ملفوظ به وهو قوله : وتنازعتم على زيادة الواو ، قاله : الفراء وغيره.
وثم صرفكم على زيادة ثم ، وهذان القولان واللذان قبلهما ضعاف.
والصحيح : أنه محذوف لدلالة المعنى عليه ، فقدره ابن عطية : انهزمتم.
والزمخشري : منعكم نصرة ، وغيرهما : امتحنتم.
والتقادير متقاربة.
وحذفُ جواب الشرط لفهم المعنى جائز لقوله تعالى : { فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية } تقديره فافعل ويظهر أن الجواب المحذوف غير ما قدروه وهو : انقسمتم إلى قسمين.
ويدل عليه ما بعده ، وهو نظير : { فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد } التقدير : انقسموا قسمين : فمنهم مقتصد لا يقال : كيف ، يقال : انقسموا فيمن فشل وتنازع ، وعصى.
لأن هذه الأفعال لم تصدر من كلهم ، بل من بعضهم كما ذكرناه في أول الكلام على هذه الآية.
وقال أبو بكر الرازي : دلت هذه الآية على تقدم وعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر على عدوهم ما لم يعصوا بتنازعهم وفشلهم ، وكان كما أخبر به هزموهم وقتلوا ، ودل ذلك على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي بأن الإخبار بالغيوب من خصائص الربوبية وصفات الألوهية لا يطلع عليها إلا من أطلعه الله عليها ، ولا ينتهي علمها إلينا إلا على لسان رسول يخبر بها عن الله تعالى.
{ منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } قال ابن عباس وجمهور المفسرين : الدنيا الغنيمة.
وقال ابن مسعود ، ما شعرنا أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان يوم أحد ، والذين أرادوا الآخرة هم الذين ثبتوا في مركزهم مع أميرهم عبد الله بن جبير في نفر دون العشرة قتلوا جميعاً ، وكان الرماة خمسين ذهب منهم نيف على أربعين للنهب وعصوا الأمر.
وممن أراد الآخرة من ثبت بعد تخلخل المسلمين فقاتل حتى قتل ، كأنس بن النضر وغيره ممن لم يضطرب في قتاله ولا في دينه.
وهاتان الجملتان اعتراض بين المعطوف عليه والمعطوف.
{ ثم صرفكم عنهم } أي جعلكم تنصرفون.
{ ليبتليكم } أي ليمتحن صبركم على المصائب وثباتكم على الإيمان عندها.
وقيل : صرفكم عنهم أي لم تتماد الكسرة عليكم فيستأصلوكم.
وقيل : المعنى لم يكلفكم طلبهم عقيب انصرافهم.
وتأولته المعتزلة على معنى : ثم انصرفتم عنهم ، فإضافته إلى الله تعالى بإخراجه الرعب من قلوب الكافرين ابتلاء للمؤمنين.
وقيل : معنى ليبتليكم أي لينزل بكم ذلك البلاء من القتل والتمحيص.
{ ولقد عفا عنكم } قيل : عن عقوبتكم على فراركم ، ولم يؤاخذكم به.
وقيل : برد العدو عنكم.
وقيل : بترك الأمر بالعود إلى قتالهم من فوركم.
وقيل : بترك الاستئصال بعد المعصية والمخالفة.
فمعنى عفا عنكم أبقى عليكم.
قال الحسن : قتل منهم جماعة سبعون ، وقتل عم النبي صلى الله عليه وسلم ، وشج وجهه وكسرت رباعيته.

وإنما العفو إن لم يستأصلهم هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي سبيل الله غضاب لله يقاتلون أعداء الله ، نهوا عن شيء فضيعوه ، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم.
يا فسق الفاسقين اليوم يحل كل كبيرة ، ويركب كل داهية ، ويسحب عليها ثيابه ، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم انتهى كلام الحسن.
والظاهر أن العفو إنما هو عن الذنب ، أي لم يؤاخذكم بالعصيان.
ويدل عليه قرينة قوله : وعصيتم.
والمعنى : أن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل بكم ، فعفا عنكم ، فهو إخبار بالعفو عما كان يستحق بالذنب من العقاب.
وقال بهذا : ابن جريج ، وابن إسحاق ، وجماعة.
وفيه مع ذلك تحذير.
{ والله ذو فضل على المؤمنين } أي في الأحوال ، أو بالعفو.
وتضمنت هذه الآيات من البيان والبديع ضروباً : من ذلك الاستفهام الذي معناه الإنكار في : أم حسبتم.
والتجنيس المماثل في : انقلبتم ومن ينقلب ، وفي ثواب الدنيا وحسن ثواب.
والمغاير في قولهم : إلا أن قالوا.
وتسمية الشيء باسم سببه في : تمنون الموت أي الجهاد في سبيل الله ، وفي قوله : وثبت أقدامنا فيمن فسر ذلك بالقلوب ، لأن ثبات الأقدام متسبب عن ثبات القلوب.
والالتفات في : وسنجزي الشاكرين.
والتكرار في : ولما يعلم ويعلم لاختلاف المتعلق.
أو للتنبيه على فضل الصابر.
وفي : أفإن مات أو قتل لأن العرف في الموت خلاف العرف في القتل ، والمعنى : مفارقة الروح الجسد فهو واحد.
ومن في ومن يرد ثواب الجملتين ، وفي : ذنوبنا وإسرافنا في قول من سوى بينهما ، وفي : ثواب وحسن ثواب.
وفي : لفظ الجلالة ، وفي : منكم من يريد الجملتين.
والتقسيم في : ومن يرد وفي منكم من يريد.
والاختصاص في : الشاكرين ، والصابرين ، والمؤمنين.
والطباق : في آمنوا أن تطيعوا الذين كفروا.
والتشبيه في : يردّوكم على أعقابكم ، شبه الرجوع عن الدين بالراجع القهقري ، والذي حبط عمله بالكفر بالخاسر الذي ضاع ربحه ورأس ماله وبالمنقلب الذي يروح في طريق ويغدو في أخرى ، وفي قوله : سنلقى.
وقيل : هذا كله استعارة.
والحذف في عدة مواضع.

إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)

الإصعاد : ابتداء السفر ، والمخرج.
والصعود : مصدر صعد رقى من سفل إلى علو ، قاله : الفراء ، وأبو حاتم والزجاج.
وقال القتبي : أصعد أبعد في الذهاب ، فكأنه إبعاد كإبعاد الارتفاع.
قال :
ألا أيهذا السائلي أين صعدت . . .
فإن لها في أرض يثرب موعدا
وأنشد أبو عبيدة :
قد كنت تبكيني على الاصعاد . . .
فاليوم سرحت وصاح الحادي
وقال المفضل : صعد ، وأصعد ، وصعد بمعنى واحد.
والصعيد : وجه الأرض.
وصعدة : إسم من أسماء الأرض.
وأصعد : معناه دخل في الصعيد.
فات الشيء أعجز إدراكه ، وهو متعد ، ومصدره : فوت ، وهو قياس فعل المتعدي.
النعاس : النوم الخفيف.
يقال : نعس ينعس نعاساً فهو ناعس ، ولا يقال : نعسان.
وقال الفراء : قد سمعتها ولكني لا أشتهيها.
المضجع : المكان الذي يتكأ فيه للنوم ، ومنه : { واهجروهن في المضاجع } والمضاجع : المصارع ، وهي أماكن القتل ، سميت بذلك لضجعة المقتول فيها.
الغزو القصد وكذلك المغزى ، ثم أطلق على قصد مخصوص وهو : الإيقاع بالعدو.
وتقول : غزا بني فلان ، أوقع بهم القتل والنهب وما أشبه ذلك.
وغزى : جمع غازٍ ، كعاف وعفى.
وقالوا : غزاء بالمد.
وكلاهما لا ينقاس.
أجرى جمع فاعل الصفة من المعتل اللام مجرى صحيحها ، كركع وصوام.
والقياس : فعله كقاض وقضاة.
ويقال : أغزت الناقة عسر لقاحها.
وأتان مغزية تأخر نتاجها ثم تنتج.
يقال : لأن الشيء يلين ، فهو ليّن.
والمصدر : لين ولَيان بفتح اللام ، وأصله في الجرم وهو نعومته ، وانتفاء خشونته ، ولا يدرك إلا باللمس.
ثم توسعوا ونقلوه إلى المعاني.
الفظاظة الجفوة في المعاشرة قولاً وفعلاً.
قال الشاعر في ابنة له :
أخشى فظاظة عم أو جفاء أخ . . .
وكنت أخشى عليها من أذى الكلم
الغلظ : أصله في الجرم ، وهو تكثر أجزائه.
ثم يستعمل في قلة الانفعال والإشفاق والرحمة.
كما قال :
يبكي علينا ولا نبكي على أحد . . .
لنحن أغلظ أكباداً من الإبل
الانفضاض : التفرق.
وفضضت الشيء كسرتُه ، وهو تفرقة أجزائه.
الخذل والخذلان : هو الترك في موضع يحتاج فيه إلى التارك.
وأصله : من خذل الظبي ، ولهذا قيل لها : خاذل إذا تركتها أمها.
وهذا على النسب أي ذات خذل ، لأن المتروكة هي الخاذل بمعنى مخذولة ، ويقال : خاذلة.
قال الشاعر :
بجيد مغزلة إدماء خاذلة . . .
من الظباء تراعي شادناً خرقا
ويقال أيضاً لها : خذول فعول ، بمعنى مفعول.
قال :
خذول تراعي ربرباً بخميلة . . .
تناول أطراف البريد وترتدي
الغلول : أخذ المال من الغنيمة في خفاء.
والفعل منه غلَّ يَغُلُّ بضم الغين.
والغل الضغن ، والفعل منه غلَّ يغِلُ بكسر الغين.
وقال أبو علي : تقول العرب : أغل الرجل إغلالاً ، خان في الأمانة.
قال النمر :
جزى الله عني جمرة بن نوفل . . .
جزاء مغل بالأمانة كاذب
وقال بعض النحويين : الغلول مأخوذ من الغلل وهو الماء الجاري في أصول الشجر والروح.

ويقال أيضاً في الغلول : أغل إغلالاً وأغلّ الحارز سرق شيئاً من اللحم مع الجلد.
ويقال : أغله وجده غالاً كقولك : أبخلته وجدته بخيلاً.
السخط مصدر سخط ، جاء على القياس.
ويقال فيه : السُخْطُ بضم السين وسكون الخاء.
ويقال : مات فلان في سخطة الملك أي في سخطة.
والسخط الكراهة المفرطة ، ويقابله الرضا.
{ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم } هذه الجمل التي تضمنت التوبيخ والعتب الشديد.
إذ هو تذكار بفرار من فرّ وبالغ في الهرب ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إليه.
فمن شدّة الفرار واشتغاله بنفسه وهو يروم نجاتها لم يصغ إلى دعاء الرسول ، وهذا من أعظم العتب حيث فرّ ، والحالة أن رسول الله يدعوه إليه.
وقرأ الجمهور : تصعدون مضارع أصعد ، والهمزة في أصعد للدخول.
أي : دخلتم في الصعيد ، ذهبتم فيه.
كما تقول : أصبح زيد ، أي دخل في الصباح.
فالمعنى : إذ تذهبون في الأرض.
وتبين ذلك قراءة أبي : إذ تصعدون في الوادي.
وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن ومجاهد وقتادة واليزيدي : تصعدون من صعد في الجبل إذا ارتقى إليه.
وقرأ أبو حيرة : تصعدون من تصعد في السلم ، وأصله : تتصعدون ، فحذفت إحدى التاءين على الخلاف في ذلك ، أي تاء المضارعة؟ أم تاء تفعل؟ والجمع بينهما أنهم أولاً أصعدوا في الوادي لما أرهقهم العدو ، وصعدوا في الجبل.
وقرأ ابن محيصن وابن كثير في رواية شبل : يصعدون ولا يلوون بالياء على الخروج من الخطاب إلى الغائب.
والعامل في إذا ذكر محذوفة.
أو عصيتم ، أو تنازعتم ، أو فشلتم ، أو عفا عنكم ، أو ليبتليكم ، أو صرفكم ، وهذان عن الزمخشري ، وما قبله عن ابن عطية.
والثلاثة قبله بعيدة لطول الفصل.
والأول جيد ، لأنَّ ما قبل إذ جمل مستقلة يحسن السكوت عليها ، فليس لها تعلق إعرابي بما بعدها ، إنما تتعلق به من حيث أنَّ السياق كله في قصة واحدة.
وتعلقه بصرفكم جيد من حيث المعنى ، وبعفا عنكم جيد من حيث القرب.
ومعنى ولا تلوون على أحد : أي لا ترجعون لأحد من شدة الفرار.
يقال : لوى بكذا ذهب به.
ولوى عليه : كر عليه وعطف.
وهذا أشد في المبالغة من قوله :
أخو الجهد لا يلوي على من تعذرا لأنه في الأية نفي عام ، وفي هذا نفي خاص ، وهو على من تعذرا ، وقال دريد ابن الصمة : وهل يرد المنهزم شيء؟ وقرىء تلو من بإبدال الواو همزة وذلك لكراهة اجتماع الواوين وقياس هذه الواو المضمومة ، أن لا تبدل همزة لأن الضمة فيها عارضة ، ومتى وقعت الواو غير ، وهي مضمومة فلا يجوز الإبدال منها همزة إلا بشرطين أحدهما : أن تكون الضمة لازمة.
الثاني : أن لا تكون يمكن تخفيفها بالإسكان.
مثال ذلك : فووج وفوول.
وغوور.
فهنا يجوز فؤوج وقؤول وغؤور بالهمز.

ومثل كونها عارضة : هذا دلوك.
ومثل إمكان تخفيفها بالإسكان : هذا سور ، ونور ، جمع سوار ونوار.
فإنك تقول فيهما : سور ونور.
ونبه بعض أصحابنا على شرط آخر وهو لا بد منه ، وهو : أن لا يكون مدغماً فيها نحو : تعود ، فلا يجوز فيه تعود بإبدال الواو المضمومة همزة.
وزاد بعض النحويين شرطاً آخر وهو : أن لا تكون الواو زائدة نحو : الترهوك وهذا الشرط ليس مجمعاً عليه.
وقرأ الحسن : تلون ، وخرجوها على قراءة من همز الواو ، ونقل الحركة إلى اللام ، وحذف الهمزة.
قال ابن عطية : وحذفت إحدى الواوين الساكنين ، وكان قد قال في هذه القراءة : هي قراءة متركبة على قراءة من همز الواو المضمومة ، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام انتهى.
وهذا كلام عجيب تخيل هذا الرجل أنه قد نقلت الحركة إلى اللام فاجتمع واوان ساكنان ، إحداهما : الواو التي هي عين الكلمة ، والأخرى : واو الضمير.
فحذفت إحدى الواوين لأنهما ساكنتان ، وهذا قول من لم يمعن في صناعة النحو.
لأنها إذا كانت متركبة على لغة من همز الواو ثم نقل حركتها إلى اللام ، فإن الهمزة إذ ذاك تحذف ، ولا يلتقي واوان ساكنان.
ولو قال : استثقلت الضمة على الواو ، لأن الضمة كأنها واو ، فصار ذلك كأنه جمع ثلاث واواوت ، فتنقلب الضمة إلى اللام ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الأولى منهما ، ولم يبهم في قوله إحدى الواوين لأمكن ذلك في توجيه هذه القراءة الشاذة ، أما أنْ يبنى ذلك على أنه على لغة من همز على زعمه ، فلا يتصور.
ويحتمل أن يكون مضارع ولي وعدي بعلي ، على تضمين معنى العطف.
أي : لا تعطفون على أحد.
وقرأ الأعمش وأبو بكر في رواية عن عاصم : تلوون من ألوى ، وهي لغة في لوى.
وظاهر قوله على أحد العموم.
وقيل : المراد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعبر بأحد عنه تعظيماً له وصوناً لاسمه أن يذكر عند ذهابهم عنه ، قاله : ابن عباس والكلبي.
وقرأ حميد بن قيس على أُحُد بضم الهمزة والحاء ، وهو الجبل.
قال ابن عطية : والقراءة الشهيرة أقوى ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على الجبل إلا بعد ما فرّ الناس عنه ، وهذه الحال من إصعادهم إنما كانت وهو يدعوهم انتهى.
وقال غيره : الخطاب فيه لمن أمعن في الهرب ولم يصعد الجبل على من صعد.
ويجوز أن يكون أراد بقوله : ولا تلوون على أحد ، أي من كان على جبل أحد ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه الذين صعدوا.
وتلوون هو من ليّ العنق ، لأن مَن عرج على الشيء يلوي عنقه ، أو عنان دابته.
والألف واللام في الرسول للعهد.
ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، روي أنه كان يقول : « إليّ عباد الله » والناس يفرون عنه.

وروي : « أي عباد الله ارجعوا » قاله : ابن عباس : وفي رواية : « ارجعوا إليّ فإني رسول الله من يكر له الجنة » وهو قول : السدي ، والربيع.
قال القرطبي : وكان دعاؤه تغيير للمنكر ، ومحال أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم المنكر وهو الانهزام ثم لا ينهى عنه.
ومعنى في أخراكم : أي في ساقتكم وجماعتكم الأخرى ، وهي المتأخرة.
يقال : جئت في آخر الناس وأخراهم ، كما تقول : في أولهم وأولاهم بتأويل مقدّمتهم وجماعتهم الأولى.
وفي قوله : في أخراكم دلالة عظيمة على شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الوقوف على أعقاب الشجعان وهم فرار والثبات فيه إنما هو للأبطال الأنجاد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس.
قال سلمة : كنا إذا احمرّ البأس اتقيناه برسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ فأثابكم غماً بغم } الفاعل بأثابكم هو الله تعالى.
وقال الفراء : الإثابة هنا بمعنى المغالبة انتهى.
وسمي الغم ثواباً على معنى أنه قائم في هذه النازلة مقام الثواب الذي كان يحصل لولا الفرار.
فهو نظير قوله :
تحية بينهم ضرب وجيع . . .
وقوله :
أخاف زياد أن يكون عطاؤه . . .
أداهم سوداً أو محدرجة سمرا
جعل القيود والسياط عطاء ، ومحدرجة بمعنى مدحرجة.
والباء في بغم : إمّا أن تكون للمصاحبة ، أو للسبب.
فإن كانت للمصاحبة وهي التي عبر بعضهم عنها بمعنى : مع.
والمعنى : غماً مصاحباً لغم ، فيكون الغمان إذ ذاك لهم.
فالأول : هو ما أصابهم من الهزيمة والقتل.
والثاني : إشراف خالد بخيل المشركين عليهم ، قاله : ابن عباس ، ومقاتل.
وقيل : الغم الأوّل سببه فرارهم الأوّل ، والثاني سببه فرارهم حين سمعوا أن محمداً قد قتل قاله : مجاهد.
وقيل : الأوّل ما فاتهم من الغنيمة وأصابهم من الجراح والقتل.
والثاني حين سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل ، قاله : قتادة والربيع.
وقيل : عكس هذا الترتيب ، وعزاه ابن عطية إلى قتادة ومجاهد.
وقيل : الأول ما فاتهم من الغنيمة والفتح.
والثاني : إشراف أبي سفيان عليهم ، ذكره الثعلبي.
وقيل : الأول هو قتلهم وجراحهم وكل ما جرى في ذلك المأزق.
والثاني : إشراف أبي سفيان على النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه ، قاله : السدي ومجاهد أيضاً وغيرهما.
وعبر الزمخشري عن هذا المعنى وهو اجتماع الغمين لهم بقوله : غماً بعد غم ، وغماً متصلاً بغم من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والجرح ، والقتل ، وظفر المشركين ، وفوت الغنيمة ، والنصر انتهى كلامه.
وقوله : غماً بعد غم تفسير للمعنى ، لا تفسير إعراب.
لأن الباء لا تكون بمعنى بعد.
وإن كان بعضهم قد ذهب إلى ذلك.
ولذلك قال بعضهم : إن المعنى غماً على غم ، فينبغي أن يحمل على تفسير المعنى ، وإن كان بعضهم قد ذهب إلى ذلك.

وإن كانت الباء للسبب وهي التي عبر بعضهم عنها أنها بمعنى الجزاء ، فيكون الغم الأوّل للصحابة.
والثاني قال الحسن وغيره : متعلقه المشركون يوم بدر.
والمعنى : أثابكم غماً بالغم الذي أوقع على أيديكم بالكفار يوم بدر.
قال ابن عطية : فالباء على هذا باء معادلة ، كما قال أبو سفيان يوم بدر : والحرب سجال.
وقال قوم منهم الزجاج ، وتبعه الزمخشري : متعلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : جازاكم غماً بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر المؤمنين بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير في : فأثابكم للرسول ، أي فآساكم في الاغتمام ، وكما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرهما غمه ما نزل بكم ، فأثابكم عما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله ، ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم ، وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم ، كيلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر الله ، ولا على ما أصابكم من غلبة العدوّ انتهى كلامه.
وهو خلاف الظاهر.
لأن المسند إليه الأفعال السابقة هو الله تعالى ، وذلك في قوله : { ولقد صدقكم الله وعده } وقوله : { ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } { ولقد عفا عنكم } والله فيكون قوله : والله فيكون قوله : فأثابكم مسنداً إلى الله تعالى.
وذكر الرسول إنما جاء في جملة حالية نعى عليهم فرارهم مع كون من اهتدوا على يده يدعوهم ، فلم يجيء مقصوداً لأن يحدث عنه ، إنما الجملة التي ذكر فيها في تقدير المفرد إذ هي حال.
وقال الزمخشري : فأثابكم عطف على صرفكم انتهى.
وفيه بعدٌ لطول الفصل بين المتعاطفين.
والذي يظهر أنه معطوف على تصعدون ولا تلوون ، لأنه مضارع في معنى الماضي ، لأن إذ تصرف المضارع إلى الماضي ، إذ هي ظرف لما مضى.
والمعنى : إذ صعدتم وما لويتم على أحد فأثابكم.
{ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } اللام لام كي ، وتتعلق بقوله : فأثابكم.
فقيل : لا زائدة لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحزن.
فالمعنى : على أنه غمهم ليحزنهم عقوبة لهم على تركهم موافقتهم قاله : أبو البقاء وغيره.
وتكون كهي في قوله : { لئلا يعلم أهل الكتاب } إذ تقديره : لأن يعلم.
ويكون أعلمهم بذلك تبكيتاً لهم ، وزجراً أنْ يعودوا لمثله.
والجمهور على أن لا ثابتة على معناها من النفي.
واختلفوا في تعليل الإثابة بانتفاء الحزن على ما ذكر.
فقال الزمخشري : لكيلا تحزنوا لتتمرّنوا على تجرع الغموم ، وتضروا باحتمال الشدائد ، فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ، ولا على مصيب من المضار انتهى.
فجعل العلة في الحقيقة ثبوتية ، وهي التمرن على تجرع الغموم والاعتياد لاحتمال الشدائد ، ورتب على ذلك انتفاء الحزن ، وجعل ظرف الحزن هو مستقبل لا تعلق به بقصة أحد ، بل لينتفي الحزن عنكم بعد هذه القصة.
وقال ابن عطية : المعنى لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم ، فأنتم أذيتم أنفسكم.

وعادة البشر أنَّ جاني الذنب يصبر للعقوبة ، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما وقع هو مع ظنه البراءة بنفسه انتهى.
وهذا تفسير مخالف لتفسير الزمخشري.
ومن المفسرين من ذهب إلى أن قوله : لكيلا تحزنوا متعلق بقوله : ولقد عفا عنكم ، ويكون الله أعلمهم بذلك تسلية لمصابهم وعوضاً لهم عن ما أصابهم من الغم ، لأن عفوه يذهب كل غم.
وفيه بعد لطول الفصل ، ولأن ظاهره تعلقه بمجاور ، وهو فأثابكم.
قال ابن عباس : والذي فاتهم من الغنيمة ، والذي أصابهم من الفشل والهزيمة ، ومما تحتمله الآية : أنه لما ذكر اصعادهم وفرارهم مجدّين في الهرب في حال ادعاء الرسول صلى الله عليه وسلم إليه بالرجوع عن الهرب والانحياز إلى فئته ، كان الجد في الهرب سبباً لاتصال الغموم بهم ، وشغلهم بأنفسهم طلباً للنجاة من الموت ، فصار ذلك أي : شغلهم بأنفسهم واغتمامهم المتصل بهم من جهة خوف القتل سبباً لانتفاء الحزن على فائت من الغنيمة ، ومصاب من الجراح والقتل لإخوانهم ، كأنه قيل : صاروا في حالة من اغتمامهم واهتمامم بنجاة أنفسهم بحيث لا يخطر لهم ببال حزن على شيء فايت ولا مصاب وإن جل ، فقد شغلهم بأنفسهم لينتفي الحزن منهم.
{ والله خبير بما تعملون } هذه الجملة تقتضي تهديداً ، وخص العمل هنا وإن كان تعالى خبيراً بجميع الأحوال من الأعمال والأقوال والنيات ، تنبيهاً على أعمالهم من تولية الأدبار والمبالغة في الفرار ، وهي أعمال تخشى عاقبتها وعقابها.
{ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً } الأمنة : الأمن ، قاله : ابن قتيبة وغيره.
وفرق آخرون فقالوا : الأمنة تكون مع بقاء أسباب الخوف ، والأمن يكون مع زوال أسبابه.
وقرأ الجمهور : أمنة بفتح الميم ، على أنه بمعنى الأمن.
أو جمع آمن كبار وبرره ، ويأتي إعرابه.
وقرأ النخعي وابن محيصن : أمْنة بسكون الميم ، بمعنى الأمن.
ومعنى الآية : امتنان الله عليهم بأمنهم بعد الخوف والغم ، بحيث صاروا من الأمن ينامون.
وذلك أن الشديد الخوف والغم لا يكاد ينام.
ونقل المفسرون ما أخبرت به الصحابة من غلبة النوم الذي غشيهم كأبي طلحة : والزبير ، وابن مسعود.
واختلفوا في الوقت الذي غشيهم فيه النعاس.
فقال الجمهور : حين ارتحل أبو سفيان من موضع الحرب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي وكان من المتحيزين إليه : « إذهب فانظر إلى القوم فإنْ كانوا جنبوا الخيل فهم ناهضون إلى مكة ، وإن كانوا على خيلهم فهم عائدون إلى المدينة فاتقوا الله واصبروا » ووطنهم على القتال ، فمضى علي ثم رجع فأخبر : أنهم جنبوا الخيل ، وقعدوا على أثقالهم عجالاً ، فأمن المؤمنون المصدقون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألقى الله تعالى عليهم النعاس.
وبقي المنافقون الذين في قلوبهم مرض لا يصدقون ، بل كان ظنهم أنّ أبا سفيان يؤم المدينة ، فلم يقع على أحد منهم نوم ، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنيوية.

وثبت في البخاري من حديث أبي طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، فجعل يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه ، وفي طريق رفعت رأسي فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته.
وهذا يدل على أنهم غشيهم النعاس وهم في المصاف وسياق الآية والحديث الأول يدلان على خلاف ذلك.
قال تعالى { فأثابكم غماً بغم }.
والغم كان بعد أن كسروا وتفرقوا عن مصافهم ورحل المشركون عنهم.
والجمع بين هذين القولين : أن المصاف الذي أخبر عنه أبو طلحة كان في الجبل بعد الكسرة ، أشرف عليهم أبو سفيان من علو في الخيل الكثيرة ، فرماهم من كان انحاز إلى الجبل من الصحابة بالحجارة ، وأغنى هناك عمر حتى أنزلوهم ، وما زالوا صافين حتى جاءهم خبر قريش أنهم عزموا على الرّحيل إلى مكة ، فأنزل الله عليهم النعاس في ذلك الموطن ، فأمنوا ولم يأمن المنافقون.
والفاعل بأنزل ضمير يعود على الله تعالى ، وهو معطوف على فأثابكم.
وعليكم يدل على تجلل النعاس واستعلائه وغلبته ، ونسبة الإنزال مجاز لأن حقيقته في الإجرام.
وأعربوا أمنة مفعولاً بأنزل ، ونعاساً بدل منه ، وهو بدل اشتمال.
لأن كلاًّ منهما قد يتصور اشتماله على الآخر ، أو يتصور اشتمال العامل عليهما على الخلاف في ذلك.
أو عطف بيان ، ولا يجوز على رأي الجمهور من البصريين لأن من شرط عطف البيان عندهم أن يكون في المعارف.
أو مفعول من أجله وهو ضعيف ، لاختلال أحد الشروط وهو : اتحاد الفاعل ، ففاعل الإنزال هو الله تعالى ، وفاعل النعاس هو المنزل عليهم ، وهذا الشرط هو على مذهب الجمهور من النحويين.
وقيل : نعاساً هو مفعول أنزل ، وأمنة حال منه ، لأنه في الأصل نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال.
التقدير : نعاساً ذا أمنة ، لأن النعاس ليس هو إلا من.
أو حال من المجرور على تقدير : ذوي أمنة.
أو على أنه جمع آمن ، أي آمنين ، أو مفعول من أجله أي لأمنة قاله : الزمخشري ، وهو ضعيف بما ضعفنا به قول من أعرب نعاساً مفعولاً من أجله.
{ يغشى طائفة منكم } هم المؤمنون.
ويدل هذا على أن قوله : ثم أنزل عليكم ، عام مخصوص ، لأنه في الحقيقة ما أنزل إلا على من آمن.
وقرأ حمزة والكسائي : تغشى بالتاء حملاً على لفظ أمنة هكذا قالوا.
وقالوا : الجملة في موضع الصفة ، وهذا ليس بواضح ، لأن النحويين نصوا على أن الصفة مقدمة على البدل وعلى عطف البيان إذا اجتمعت.
فمن أعرب نعاساً بدلاً أو عطف بيان لا يتم له ذلك ، لأنه مخالف لهذه القاعدة ، ومن أعربه مفعولاً من أجله ففيه أيضاً الفصل بين النعت والمنعوت بهذه الفضلة.
وفي جواز ذلك نظر مع ما نبهنا عليه من فوات الشرط وهو : اتحاد الفاعل.

فإن جعلت تغشى جملة مستأنفة وكأنها جواب لسؤال من سأل : ما حكم هذه الأمنة؟ فأخبر تعالى تغشى طائفة منكم ، جاز ذلك.
وقال ابن عطية : أسند الفعل إلى ضمير المبدل منه انتهى.
لما أعرب نعاساً بدلاً من أمنة ، كان القياس أن يحدث عن البدل لا عن المبدل منه ، فحدث هنا عن المبدل منه ، فحدث هنا عن المبدل منه.
فإذا قلت : إن هنداً حسنها فاتن ، كان الخبر عن حسنها ، هذا هو المشهور في كلام العرب.
وأجاز بعض أصحابنا أن يخبر عن المبدل منه كما أجاز ذلك ابن عطية في الآية ، واستدل على ذلك بقوله :
إن السيوف غدوها ورواحها . . .
تركت هوازن مثل قرن الأعضب
ويقول الآخر :
وكأنه لهق السراة كأنه . . .
ما حاجبيه معين بسواد
فقال : تركت ، ولم يقل تركاً.
وقال معين : ولم يقل معينان ، فأعاد الضمير على المبدل منه وهو السيوف ، والضمير في كأنه ولم يعد على البدل وهي : غدوها ورواحها وحاجبيه.
وما زائدة بين المبدل منه والبدل.
ولا حجة فيما استدل به لاحتمال أن يكون انتصاب غدوها ورواحها على الظرف لا على البدل ، ولاحتمال أن يكون معين خبراً عن حاجبيه ، لأنه يجوز أن يخبر عن الاثنين اللذين لا يستغني أحدهما عن الآخر ، كاليدين والرجلين والعينين والحاجبين إخبار الواحد.
كما قال :
لمن زحلوقه زل . . .
بها العينان تنهل
وقال :
وكأنّ في العينين حبّ قرنفل . . .
أو سنبلاً كحلت به فانهلت
فقال تنهل وكحلت له ، ولم يقل تنهلان ولا كحلتا به.
وهذا كما أجازوا أن يخبر عن الواحد من هذين أخبار المثنى ، قال :
إذا ذكرت عيني الزمان الذي مضى . . .
بصحراء فلج ظلتا تكفان
فقال : ظلتا ولم يقل : ظلت تكف.
وقرأ الباقون : يغشى بالياء ، حمله على لفظ النعاس.
{ وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله } قال مكي : أجمع المفسرون على أن هذه الطائفة هم المنافقون ، وقالوا : غشي النعاس أهل الإيمان والإخلاص ، فكان سبباً لأمنهم وثباتهم.
وعرى منه أهل النفاق والشك ، فكان سبباً لجزعهم وانكشافهم عن مراتبهم في مصافهم انتهى.
ويقال : أهمني الشيء ، أي : كان من همي وقصدي.
أي : مما أهم به وأقصد.
وأهمني الأمر أقلقني وأدخلني في الهم ، أي الغم.
فعلى هذا اختلف المفسرون في قد أهمتهم أنفسهم.
فقال قتادة والرّبيع وابن إسحاق وأكثرهم : هو بمعنى الغم ، والمعنى : أن نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة قد جلبت إليهم خوف القتل ، وهذا معنى قول الزمخشري : أو قد أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الغموم والأشجان ، فهم في التشاكي.
وقال بعض المفسرين : هو مِن هَمَّ بالشيء أراد فعله.
والمعنى : أهمتهم أنفسهم المكاشفة ونبذ الدين.
وهذا القول من قال : قد قتل محمد فلترجع إلى ديننا الأول ، ونحو هذا من الأقوال.

وقال الزمخشري في قوله : قد أهمتهم أنفسهم ، ما بهم إلا همّ أنفسهم ، لا هم الدّين ، ولا هم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين انتهى.
فيكون من قولهم : أهمني الشيء أي : كان من همي وإرادتي.
والمعنى : أهمهم خلاص أنفسهم خاصة ، أي : كان من همهم وإرادتهم خلاص أنفسهم فقط ، ومن غير الحق يظنون أن الإسلام ليس بحق ، وأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب ويزول.
ومعنى ظن الجاهلية عند الجمهور : المدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام ، كما قال : { حمية الجاهلية } { ولا تبرجن تبرج الجاهلية } وكما تقول : شعر الجاهلية.
وقال ابن عباس : سمعت أبي في الجاهلية يقول : اسقنا كأساً دهاقاً.
وقال بعض المفسرين : المعنى ظن الفرقة الجاهلية ، والإشارة إلى أبي سفيان ومن معه ، ونحا إلى هذا القول : قتادة والطبري.
قال مقاتل : ظنوا أن أمره مضمحل.
وقال الزجاج : إن مدّته قد انقضت.
وقال الضحاك عن ابن عباس : ظنوا أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل.
وقيل : ظن الجاهلية إبطال النبوّات والشرائع.
وقيل : يأسهم من نصر الله وشكهم في سابق وعده بالنصرة.
وقيل : يظنون أن الحق ما عليه الكفار ، فلذلك نصروا.
وقيل : كذبوا بالقدر.
قال الزمخشري : وظن الجاهلية كقولك : حاتم الجود ورجل صدق ، تريد الظن المختص بالملة الجاهلية.
ويجوز أنْ يراد ظن أهل الجاهلية ، أي لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون بالله.
انتهى وظاهر قوله : هل لنا من الأمر من شيء الاستفهام؟ فقيل : سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، هل لهم معاشر المسلمين من النصر والظهور على العدوّ شيء أي نصيب؟ وأجيبوا بقوله : { قل إن الأمر كله لله } وهو النصر والغلبة.
{ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } ، { وإن جندنا لهم الغالبون }.
وقيل : المعنى ليس النصر لنا ، بل هو للمشركين.
وقال قتادة وابن جريج : قيل لعبد الله بن أبيّ بن سلول : قتل بنو الخزرج ، فقال : وهل لنا من الأمر من شيء؟ يريد : أن الرأي ليس لنا ، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا ولم نخرج ولم يقتل أحد منا.
وهذا منهم قول بأجلين.
وذكر المهدوي وابن فورك : أن المعنى لسنا على حق في اتباع محمد.
ويضعف هذا التأويل الرد عليهم بقوله : قل.
فأفهم أن كلامهم إنما هو في معنى سوء الرأي في الخروج ، وأنه لو لم يخرج لم يقتل أحد.
وعلى هذا المعنى وما قبله من قول قتادة وابن جريج يكون الاستفهام معناه النفي.
ولما أكد في كلامهم بزيادة من في قوله : من شيء ، جاء الكلام مؤكداً بأنَّ ، وبولغ في توكيد العموم بقوله : كله لله.
فكان الجواب أبلغ.
والخطاب بقوله : قل ، متوجه إلى الرسول بلا خلاف.
والذي يظهر أنه استفهام باق على حقيقته ، لأنهم أجيبوا بقوله : قل إن الأمر كله لله.

ولو كان معناه النفي لم يجابوا بذلك ، لأنّ من نفى عن نفسه أن يكون له شيء من الأمر لا يجاوب بذلك ، إلا إنْ قدر مع جملة النفي جملة ثبوتية لغيرهم ، فكان المعنى : ليس لنا من الأمر من شيء بل لغيرنا ممن حملنا على الخروج وأكرهنا عليه ، فيمكن أن يكون ذلك جواباً لهذا المقدّر.
وهذه الجملة الجوابية معترضة بين الجمل التي أخبر الله بها عنهم.
والواو في قوله : وطائفة ، واو الحال.
وطائفة مبتدأ ، والجملة المتصلة به خبره.
وجاز الابتداء بالنكرة هنا إذ فيه مسوغان : أحدهما : واو الحال وقد ذكرها بعضهم في المسوغات ، ولم يذكر ذلك أكثر أصحابنا وقال الشاعر :
سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا . . .
محياك أخفى ضوؤه كل شارق
والمسوغ الثاني : أن الموضع موضع تفصيل.
إذ المعنى : يغشى طائفة منكم ، وطائفة لم يناموا ، فصار نظير قوله :
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له . . .
بشق وشق عندنا لم يحوّل
ونصب طائفة على أن تكون المسألة من باب الاشتغال على هذا التقدير من الإعراب جائز.
ويجوز أن يكون قد أهمتهم في موضع الصفة ، ويظنون الخبر.
ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً ، والجملتان صفتان ، التقدير : ومنكم طائفة.
ويجوز أن يكون يظنون حالاً من الضمير في أهمتهم ، وانتصاب غير الحق.
قال أبو البقاء : على أنه مفعول أول لتظنون ، أي أمراً غير الحق ، وبالله الثاني.
وقال الزمخشري : غير الحق في حكم المصدر ، ومعناه : يظنون بالله ظن الجاهلية ، وغير الحق تأكيد ليظنون كقولك : هذا القول غير ما تقول ، وهذا القول لا قولك ، انتهى.
فعلى هذا لم يذكر ليظنون مفعولين ، وتكون الباء ظرفية كما تقول : ظننت بزيد.
وإذا كان كذلك لم تتعد ظننت إلى مفعولين ، وإنما المعنى : جعلت مكان ظني زيداً.
وقد نص النحويون على هذا.
وعليه :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج . . .
سراتهم في السائريّ المسرد
أي : اجعلوا مكان ظنكم ألفي مدجج.
وانتصاب ظن على أنه مصدر تشبيهي ، أي : ظناً مثل ظن الجاهلية.
ويجوز في : يقولون أن يكون صفة ، أو حالاً من الضمير في يظنون ، أو خبراً بعد خبر على مذهب من يجيز تعداد الأخبار في غير ما اتفقوا على جواز تعداده.
ومن شيء في موضع مبتدأ ، إذ من زائدة ، وخبره في لنا ، ومن الأمر في موضع الحال ، لأنه لو تأخر عن شيء لكان نعتاً له ، فيتعلق بمحذوف.
وأجاز أبو البقاء أن يكون من الأمر هو الخبر ، ولنا تبيين وبه تتم الفائدة كقوله تعالى : { ولم يكن له كفواً أحد } وهذا لا يجوز : لأن ما جاء للتبيين العامل فيه مقدر ، وتقديره : أعني لنا هو جملة أخرى ، فيبقى المبتدأ والخبر جملة لا تستقل بالفائدة ، وذلك لا يجوز.
وأما تمثيله بقوله : ولم يكن له كفواً أحد فهما لا سواء ، لأن له معمول لكفواً ، وليس تبييناً.

فيكون عامله مقدراً ، والمعنى : ولم يكن أحد كفواً له ، أي مكافياً له ، فصار نظير لم يكن له ضار بالعمرو ، فقوله : لعمرو ليس تبينناً ، بل معمولاً لضارب.
وقرأ الجمهور كله بالنصب تأكيداً للأمر.
وقرأ أبو عمر : وكله على أنه مبتدأ ، ويجوز أن يعرب توكيداً للأمر على الموضع على مذهب من يجيز ذلك وهو : الجرمي ، والزجاج ، والفراء.
قال ابن عطية : ورجح الناس قراءة الجمهور ، لأن التأكيد أملك بلفظة كلّ انتهى.
ولا ترجيح ، إذ كل من القراءتين متواتر ، والابتداء بكل كثير في لسان العرب.
{ يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } قيل : معناه يتسترون بهذه الأقوال التي ليست بمحض كفر ، بل هي جهالة.
ويحتمل أن يكون إخباراً عما يخفونه من الكفر الذي لا يقدرون أن يظهروا منه أكثر من هذه النزغات.
وقيل : الذي أخفوه قولهم : لو كنا في بيوتنا ما قتلنا هاهنا.
وقيل : الندم على حضورهم مع المسلمين بأحد.
{ يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } قال الزبير بن العوام فيما أسند عنه الطبري : والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف والنعاسُ يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم حين قال : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا.
ومعتب هذا شهد بدراً ، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره ، وكان مغموصاً عليه بالنفاق.
والمعنى : ما قتل إشرافنا وخيارنا ، وهذا إطلاق اسم الكل على البعض مجازاً.
وقوله : يقولون ، يجوز أن يكون هو الذي أخفوه ، فيكون ذلك تفسيراً بعد إبهام قوله : ما لا يبدون لك.
ومعناه : يقولون في أنفسهم أو بعضهم لبعض.
وقوله : من الأمر ، فسَّر الأمر هنا بما فسر في قول عبد الله بن أبي بن سلول : هل لنا من الأمر من شيء.
فقيل : المعنى لو كان الأمر كما قال محمد إن الأمر كله لله ولأوليائه وإنهم الغالبون ، لما غلبنا قط ، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة ، وقيل : من الرأي والتدبير.
وقيل : من دين محمد.
أي لسنا على حق في اتباعه.
وجواب لو هو الجملة المنفية بما.
وإذا نفيت بما فالفصيح أن لا تدخل عليه اللام.
قيل : وفي قصة أحد اضطراب.
ففي أولها أن عبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين رجعوا ولم يشهدوا أحداً ، فعلى هذا يكون قالوا هذا بالمدينة ، ولم يقتل أحد منهم ولا من أصحابهم بالمدينة ، وإنما قتلوا بأحد ، فكيف جاء قوله هاهنا ، وحديث الزبير في سماعه معتباً يقول ذلك دليل على أن معتباً حضر أحداً؟ فإن صح حديث الزبير فيكون قد تخلف عن عبد الله بعض المنافقين وحضر أحداً ، فيتجه قوله هاهنا ، وإنْ لم يصح فيوجه قوله : هاهنا إلى أنه إشارة إلى أحد إشارة القريب الحاضر لقرب أحد من المدينة.

{ قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } هذا النوع عند علماء البيان يسمى الاحتجاج النظري : وهو أن يذكر المتكلم معنى يستدلّ عليه بضروب من المعقول نحو : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } { قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } { أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر } وبعضهم يسميه : المذهب الكلامي.
ومنه قول الشاعر :
جرى القضاء بما فيه فإن تلم . . .
فلا ملام على ما خط بالقلم
وكتب : بمعنى فرض ، أو قضى وحتم ، أو خط في اللوح ، أو كتب ذلك الملك عليهم وهم أجنة ، أقوال.
ومعنى الآية : أنه لو تخلفتم في البيوت لخرج من حتم عليه القتل إلى مكان مصرعه فقتل فيه ، وهذا رد على قول معتب ، ودليل على أن كل امرىء له أجل واحد لا يتعداه.
فإنْ قيل : فهو الأجل الذي سبق له في الأزل وإلاّ مات لذلك الأجل ، ولا فرق بين موته وخروج روحه بالقتل ، أو بأي أسباب المرض ، أو فجأه من غير مرض هو أجل واحد لكل امرىء وإن تعددت الأسباب.
وقد تكلم الزمخشري هنا بألفاظ مسهبة على عادته.
فقال : لو كنتم في بيوتكم يعني من علم الله أنه يقتل ويصرع في هذه المصارع وكتب ذلك في اللوح المحفوظ ، لم يكن بد من وجوده.
فلو قعدتم في بيوتكم لبرز من بينكم الذين علم الله أنهم يقتلون إلى مضاجعهم وهي مصارعهم ، ليكون ما علم أنه يكون.
والمعنى : أن الله كتب في اللوح قتل من يقتل من المؤمنين ، وكتب مع ذلك أنهم الغالبون لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم ، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله.
وإنما ينكبون به في بعض الأوقات.
تمحيص لهم ، وترغيب في الشهادة ، وحرصهم على الشهادة مما يحرضهم على الجهاد فتحصل الغلبة.
انتهى كلامه.
وهو نوع من الخطابة والمعنى في الآية واضح جداً لا يحتاج إلى هذا التطويل.
وقرأ الجمهور : لبرز ، ثلاثياً مبنياً للفاعل.
أي لصاروا في البراز من الأرض.
وقرأ أبو حيوة : لبرّز مبنياً للمفعول مشدّد الراء ، عدي برز بالتضعيف.
وقرأ الجمهور : كتب مبنياً للمفعول ، ورفع القتل.
وقرىء : كتب مبنياً للفاعل ، ونصب القتل.
وقرأ الحسن والزهري : القتالُ مرفوعاً.
وتحتمل هذه القراءة الاستغناء عن المنافقين ، أي : لو تخلفتم أنتم لبرز المطيعون المؤمنون الذين فرض عليهم القتال ، وخرجوا طائعين إلى مواضع استشهادهم ، فاستغنى بهم عنكم.
{ وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم } تقدم معنى الابتلاء والتمحيص.
فقيل : المعنى إنّ الله فرض عليكم القتال ولم ينصركم يوم أحد ليختبر صبركم ، وليمحص عنكم سيئاتكم إنْ تبتم وأخلصتم.
وقيل : ليعاملكم معاملة المختبر.
وقيل : ليقع منكم مشاهدة علمه غيباً كقوله : { فينظر كيف تعملون }

وقيل : هو على حذف مضاف.
أي : وليبتلي أولياء الله ما في صدوركم ، فأضافه إليه تعالى تفخيماً لشأنه.
والواو قيل : زائدة.
وقيل : للعطف على علة محذوفة ، أي : ليقضي الله أمره وليبتلي.
وقال ابن بحر : عطف على ليبتليكم ، لما طال الكلام أعاده ثم عطف عليه ليمحص.
وقيل : تتعلق اللام بفعل متأخر ، التقدير : وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة.
وكان متعلق الابتلاء ما انطوت عليه الصدور وهي القلوب كما قال : { ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } ومتعلق التمحيص وهو التصفية والتطهير ما انطوت عليه القلوب من النيات والعقائد.
{ والله عليم بذات الصدور } تقدم تفسير مثل هذه الجملة ، وجاء بها عقيب قوله : وليمحص ما في قلوبكم على معنى : أنه عليم بما انطوت عليه الصدور ، وما أضمرته من العقائد ، فهو يمحص منها ما أراد تمحيصه.
{ إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } خطب عمر يوم الجمعة فقرأ آل عمران ، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها ، فلما انتهى إلى هذه الآية قال : لما كان يوم أحد فهزمنا مررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني انزوِ كأنني أروى ، والناس يقولون : قتل محمد ، فقلت : لا أجد أحداً يقول : قتل محمد إلا قتلته ، حتى اجتمعنا على الجبل ، فنزلت هذه الآية كلها.
وقال عكرمة : نزلت فيمن فرّ من المؤمنين فراراً كثيراً منهم : رافع بن المعلى ، وأبو حذيفة بن عتبة ، ورجل آخر.
والذين تولوا : كل من ولى الدبر عن المشركين يوم أحد قاله : عمر ، وقتادة ، والربيع.
أو كل من قرب من المدينة وقت الهزيمة قاله السدي.
أو رجال بأعيانهم قاله : ابن إسحاق منهم : عتبة بن عثمان الزرقي ، وأخوه سعد وغيرهما ، بلغوا الجلعب جبلاً بناحية المدينة مما يلي الأعوص فأقاموا به ثلاثاً ، ثم رجعوا إلى سول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : « لَقد ذهبتم فيها عريضة » ولم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ إلا ثلاثة عشر رجلاً أبو بكر ، وعلي ، وطلحة ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وباقيهم من الأنصار منهم : أبو طلحة ، وظاهر تولوا يدل على مطلق التولي يوم اللقاء ، سواء فرّ إلى المدينة ، أم صعد الجبل.
والجمع : اسم جمع.
ونص النحويون على أن اسم الجمع لا يثنى ، لكنه هنا أطلق يراد به معقولية اسم الجمع ، بل بعض الخصوصيات.
أي : جمع المؤمنين ، وجمع المشركين ، فلذلك صحت تثنيته.
ونظير ذلك قوله :
وكل رفيقي كلّ رحل وإن هما . . .
تعاطى القنا قوماً هما إخوان
فثنى قوماً لأنه أراد معنى القبيلة.
واستزل هنا استفعل لطلب ، أي طلب منهم الزلل ودعاهم إليه ، لأن ذلك هو مقتضى وسوسته وتخويفه ، هكذا قالوه.
ولا يلزم من طلب الشيء واستدعائه حصوله ، فالأولى أن يكون استفعل هنا بمعنى أفعل ، فيكون المعنى : أزلهم الشيطان ، فيدل على حصول الزلل ، ويكون استزل وأزل بمعنى واحد ، كاستبان وأبان ، واستبل وأبل كقوله تعالى :

{ فأزلهما الشيطان عنها } على أحد تأويلاته.
واستزلال الشيطان إياهم سابق على وقت التولي ، أي كانوا أطاعوا الشيطان واجترحوا ذنوباً قبل منعتهم النصر ففروا.
وقيل : الاستزلال هو توليهم ذلك اليوم.
أي : إنما استزلهم الشيطان في التولي ببعض ما سبقت لهم من الذنوب ، لأن الذنب يجرّ إلى الذنب ، فيكون نظير ذلك بما عصوا.
وفي هذين القولين يكون بعض ما كسبوا هو تركهم المركز الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثبات فيه ، فجرهم ذلك إلى الهزيمة.
ولا يظهر هذا لأنَّ الذين تركوا المركز من الرماة كانوا دون الأربعين ، فيكون من باب إطلاق اسم الكل على البعض.
وقال المهدوي : ببعض ما كسبوا هو حبهم الغنيمة ، والحرص على الحياة.
وذهب الزجاج وغيره إلى أن المعنى : إنْ الشيطان ذكرهم بذنوب لهم متقدمة ، فكرهوا الموت قبل التوبة منها والإقلاع عنها ، فأخروا الجهاد حتى يصلحوا أمرهم ويجاهدوا على حالة مرضية.
ولا يظهر هذا القول لأنهم كانوا قادرين على التوبة قبل القتال وفي حال القتال ، « والتائب من الذنب كمن لا ذنب له » وظاهر التولي : هو تولي الإدبار والفرار عن القتال ، فلا يدخل فيه من صعد إلى الجبل ، لأنه من متحيز إلى جهة اجتمع في التحيز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثبت معه فيها.
وظاهر هذا التولي أنه معصية لذكر استزلال الشيطان وعفو الله عنهم.
ومن ذهب إلى أن هذا التولي ليس معصية ، لأنهم قصدوا التحصن بالمدينة ، وقطع طمع العدو منهم ، لما سمعوا أن محمداً قد قتل.
أو لكونهم لم يسمعوا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم « إليّ عباد الله » للهول الذي كانوا فيه.
أو لكونهم كانوا سبعمائة والعدوّ ثلاثة آلاف ، وعند هذا يجوز الانهزام.
أو لكونهم ظنوا أن الرسول ما انحاز إلى الجبل ، وأنه يجعل ظهره المدينة.
فمذهبه خلاف الظاهر ، وهذه الأشياء يجوز الفرار معها.
وقد ذكر تعالى استزلال الشيطان إياهم وعفوه تعالى عنهم ، ولا يكون ذلك فيما يجوز فعله.
وجاء قوله : ببعض ما كسبوا ، ولم يجىء بما كسبوا ، لأنه تعالى يعفو عن كثير كما قال تعالى : { ويعفو عن كثير } فالاستزلال كان بسبب بعض الذنوب التي لم يعف عنها ، فجعلت سبباً للاستزلال.
ولو كان معفواً عنه لما كان سبباً للاستزلال.
{ ولقد عفا الله عنهم } الجمهور على أن معنى العفو هنا هو حط التبعات في الدنيا والآخرة.
وكذلك تأوله عثمان في محاورة جرت بينه وبين عبد الرحمن بن عوف ، قال له عبد الرحمن : قد كنت تولَّيْتَ مع من تولى يوم الجمع ، يعني يوم أحد.
فقال له عثمان : قال الله : { ولقد عفا الله عنهم } ، فكنت فيمن عفا الله عنه.

وكذلك ابن عمر مع الرجل العراقي حين نشده بحرمة هذا البيت : أتعلم أنَّ عثمان فرّ يوم أحد؟ أجابه : بأنه يشهد أن الله قد عفا عنه.
وقال ابن جريج : معنى عفا الله عنهم أنه لم يعاقبهم.
قال ابن عطية : والفرار من الزحف كبيرة من الكبائر بإجماع فيما علمت ، وعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم « في الموبقات مع الشرك وقتل النفس وغيرهما » انتهى ولما كان مذهب الزمخشري أن العفو والغفران عن الذنب لا يكون إلا لمن تاب ، وأنَّ الذنب إذا لم يتب منه لا يكون معه العفو ، دسّ مذهبه في هذه الجملة ، فقال : ولقد عفا الله عنهم لتوبتهم واعتذارهم انتهى.
{ إن الله غفور حليم } أي غفور الذنوب حليم لا يعاجل بالعقوبة.
وجاءت هذه الجملة كالتعليل لعفوه تعالى عن هؤلاء الذين تولوا يوم أحد ، لأنَّ الله تعالى واسع المغفرة ، واسع الحلم.
{ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزًى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } لما تقدم من قول المنافقين : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا ، وأخبر الله عنهم أنهم قالوا لإخوانهم : وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا ، وكان قولاً باطلاً واعتقاداً فاسداً نهى تعالى المؤمنين أنْ يكونوا مثلهم في هذه المقالة الفاسدة والاعتقاد السيىء.
وهو أن من سافر في تجارة ونحوها فمات ، أو قاتل فقتل ، لو قعد في بيته لعاش ولم يمت في ذلك الوقت الذي عرض نفسه للسفر فيه أو للقتال ، وهذا هو معتقد المعتزلة في القول بالأجلين ، والكفار القائلون.
قيل : هو عام ، أي اعتقاد الجميع هذا قاله : ابن إسحاق وغيره ، أو عبد الله بن أبي وأصحابه سمع منهم هذا القول قاله : مجاهد والسدي وغيرهما ، أو هو ومعتب وجدّ بن قيس وأصحابهم.
واللام في : لإخوانهم لام السبب ، أي لأجل إخوانهم.
وليست لام التبليغ ، نحو : قلت لك.
والإخوة هنا إخوة النسب ، إذ كان قتلى أحد من الأنصار وأكثرهم من الخزرج ، ولم يقتل من المهاجرين إلا أربعة.
وقيل : خمسة.
ويكون القائلون منافقي الأنصار جمعهم أب قريب ، أو بعيد ، أو إخوة المعتقد والتآلف ، كقوله : { فأصبحتم بنعمته إخواناً } وقال :
صفحنا عن بني ذهل . . .
وقلنا القوم إخوان
والضرب في الأرض : الإبعاد فيها ، والذهاب لحاجة الإنسان.
وقال السدي : الضرب هنا السير في التجارة.
وقال ابن إسحاق : السير في الطاعات.
وإذا ظرف لما يستقبل.
وقالوا : ماض ، فلا يمكن أن يعمل فيه.
فمنهم من جرده عن الاستقبال وجعله لمطلق الوقت بمعنى حين ، فاعمل فيه قال : وقال ابن عطية : دخلت إذا وهي حرف استقبال من حيث الذين اسم في إبهام يعم من قال في الماضي ، ومن يقول في المستقبل ، ومن حيث هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان.

قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف قيل إذا ضربوا في الأرض مع قالوا؟ ( قلت ) : هو حكاية الحال الماضية ، كقولك : حين تضربون في الأرض انتهى كلامه.
ويمكن إقرار إذا على ما استقر لها من الاستقبال ، والعامل فيها مضاف مستقبل محذوف ، وهو لا بدّ من تقدير مضاف غاية ما فيه أنّا نقدره مستقبلاً حتى يعمل في الظرف المستقبل ، لكنْ يكون الضمير في قوله : لو كانوا عائداً على إخوانهم لفظاً ، وعلى غيرهم معنى ، مثل قوله تعالى : { وما يعمّر من معمر ولا ينقص من عمره } وقول العرب : عندي درهم ونصفه.
وقول الشاعر :
قالت : ألا ليتما هذا الحمام لنا . . .
إلى حمامتنا ونصفه فقد
المعنى : من معمر آخر ونصف درهم آخر ، ونصف حمام آخر ، ونصف حمام آخر ، فعاد الضمير على درهم والحمام لفظاً لا معنى.
كذلك الضمير في قوله : لو كانو ، يعود على إخوانهم لفظاً.
والمعنى : لو كان إخواننا الآخرون.
ويكون معنى الآية : وقالوا مخافة هلاك إخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى : لو كان إخواننا الآخرون الذين تقدّم موتهم وقتلهم عندنا أي مقيمين لم يسافروا ما ماتوا وما قتلوا ، فتكون هذه المقالة تثبيطاً لإخوانهم الباقين عن الضرب في الأرض وعن الغزو ، وإيهاماً لهم أنْ يصيبهم مثل ما أصاب إخوانهم الآخرين الذين سبق موتهم وقتلهم بالضرب في الأرض والغزو ، ويكون العامل في إذا هلاك وهو مصدر ينحل بأنْ والمضارع ، أي مخافة أن يهلك إخوانهم الباقون إذا ضربوا في الأرض ، أو كانوا غزاً.
وهذا أبلغ في المعنى إذ عرضوا للأحياء بالإقامة لئلا يصيبهم ما أصاب من مات أو قتل.
قالوا : ويجوز أنْ يكون وقالوا في معنى.
ويقولون : وتعمل في إذا ، ويجوز أن يكون إذا بمعنى إذ فيبقى ، وقالوا على مضيه.
وفي الكلام إذ ذاك حذف تقديره : إذا ضربوا في الأرض فماتوا ، أو كانوا غزاً فقتلوا.
وما أجهل مَنْ يدعي أنّه لولا الضربُ في الأرض والغزو وترك القعود في الوطن لما مات المسافر ولا الغازي ، وأين عقل هؤلاء من عقل أبي ذؤيب على جاهليته حيث يقول :
يقولون لي : لو كان بالرمل لم يمت . . .
نسيبة والطرّاق يكذب قيلها
ولو أنني استودعته الشمس لارتقت . . .
إليه المنايا عينها ، ورسولها
قال الرازي : وذكر الغزو بعد الضرب ، لأن من الغزو ما لا يكون ضرباً ، لأن الضرب الإبعاد ، والجهاد قد يكون قريب المسافة ، فلذلك أفرد الغزو عن الضرب انتهى.
يعني : أَنّ بينهما عموماً وخصوصاً فتغايراً ، فصح إفراده ، إذ لم يندرج من جهة تحته.
وقيل : لا يفهم الغزو من الضرب ، وإنما قدم لكثرته كما قال تعالى : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله } وقرأ الجمهور غزاً بتشديد الزاي ، وقرأ الحسن والزهري بتخفيف الزاي.
ووجه على حذف أحد المضعفين تخفيفاً ، وعلى حذف التاء ، والمراد : غزاة.

وقال بعض من وجهٍ على أنّه حُذف التاء وهو : ابن عطية ، قال : وهذا الحذف كثير في كلامهم ، ومنه قول الشاعر يمدح الكسائي :
أبى الذمّ أخلاق الكسائي وانتحى . . .
به المجد أخلاق الأبوّ السوابق
يريد الأبوة.
جمع أب ، كما أن العمومة جمع عم ، والبنوّة جمع ابن.
وقد قالوا : ابن وبنوّ انتهى.
وقوله : وهذا الحذف كثير في كلامهم ليس كما ذكر ، بل لا يوجد مثل رام ورمى ، ولا حام وحمى ، يريد : رماة وحماة.
وإنْ أراد حذف التاء من حيث الجملة كثير في كلامهم فالمدعي إنما هو الحذف من فعله ، ولا نقول أنَّ الحذف أعني حذف التاء كثيرٌ في كلامهم ، لأنه يشعر أن بناء الجمع جاء عليها ، ثم حذفت كثيراً وليس كذلك ، بل الجمع جاء على فعول نحو : عم وعموم ، وفحل وفحول ، ثم جيء بالتاء لتأكيد معنى الجمع ، فلا نقول في عموم : أنه حذفت منه التاء كثيراً لأن الجمع لم يبن عليها ، بخلاف قضاة ورماة فإن الجمع بني عليها.
وإنما تكلف النحويون لدخولها فيما كان لا ينبغي أن تدخل فيه ، إنَّ ذلك على سبيل تأكيد الجمع ، لمَّا رأوا زائداً لا معنى له ذكروا أنّه جاء بمعنى التوكيد ، كالزوائد التي لا يفهم لها معنى غير التأكيد.
وأمّا البيت فالذي يقوله النحويون فيه : أنه مما شذ جمعه ولم يعل ، فيقال فيه : أبى كما قالوا : عصى في عصا ، وهو عندهم جمع على فعول ، وليس أصله أبوه.
ولا يجمع ابن على بنوّة ، وإنما هما مصدران.
والجملة من لو وجوابها هي معمول القول فهي في موضع نصب على المفعول ، وجاءت على نظم ما بعد إذا من تقديم نفي الموت على نفي القتل ، كما قدم الضرب على الغزو.
والضمير في : لو كانوا ، هو لقتلى أحد ، قاله : الجمهور.
أو للسرية الذين قتلوا ببئر معونة قاله : بكر بن سهل الدمياطي.
وقرأ الجمهور : وما قتلوا بتخفيف التاء.
وقرأ الحسن : بتشديدها للتكثير في المحال ، لا بالنسبة إلى محل واحد ، لأنه لا يمكن التكثير فيه.
{ ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } اختلفوا في هذه اللام فقيل : هي لام كي.
وقيل : لام الصيرورة.
فإذا كانت لام كي فبماذا تتعلق ، ولماذا يشار بذلك؟ فذهب بعضهم : إلى أنّها تتعلق بمحذوف يدل عليه معنى الكلام وسياقه ، التقدير : أوقع ذلك ، أي القول والمعتقد في قلوبهم ليجعله حسرة عليهم.
وإنما احتيج إلى تقدير هذا المحذوف لأنه لا يصح أن تتعلق اللام على أنها لام كي يقال : لأنهم لم يقولوا تلك المقالة ليجعل الله حسرة في قلوبهم ، فلا يصح ذلك أن يكون تعليلاً لقولهم ، وإنما قالوا ذلك تثبيطاً للمؤمنين عن الجهاد.
ولا يصح أن يتعلق بالنهي وهو : لا يكونوا كالذين كفروا.

لأن جعل الله ذلك حسرةً في قلوبهم ، لا يكون سبباً لنهي الله المؤمنين عن مماثلة الكفار.
قال الزمخشري : وقد أورد سؤالاً على ما تتعلق به ليجعل ، قال : أو لا يكونوا بمعنى : لا يكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ، ليجعله الله حسرة في قلوبهم خاصة ، ويصون منها قلوبكم انتهى كلمه.
وهو كلام شيخ لا تحقيق فيه ، لأن جعل الحسرة لا يكون سبباً للنهي كما قلنا ، إنما يكون سبباً لحصول امتثال النهي وهو : انتفاء المماثلة ، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم ، إذ لم يوافقوهم فيما قالوه واعتقدوه.
فلا تضربوا في الأرض ولا تغزوا ، فالتبس على الزمخشري استدعاء انتفاء المماثلة لحصول الانتفاء ، وفهم هذا فيه خفاء ودقة.
وقال ابن عيسى وغيره : اللام متعلقة بالكون ، أي : لا تكونوا كهؤلاء ليجعل الله ذلك حسرةً في قلوبهم دونكم انتهى.
ومنه أخذ الزمخشري قوله : لكن ابن عيسى نص على ما تتعلق به اللام ، وذاك لم ينص.
وقد بينا فساد هذا القول.
وإذا كانت لام الصيرورة والعاقبة تعلقت بقالوا ، والمعنى : أنهم لم يقولوا لجعل الحسرة ، إنما قالوا ذلك لعلة ، فصار مآل ذلك إلى الحسرة والندامة ، ونظروه بقوله فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً ، ولم يلتقطوه لذلك ، إنما آل أمره إلى ذلك.
وأكثر أصحابنا لا يثبتون للام هذا المعنى أعني أن تكون اللام للعاقبة والمآل وينسبون هذا المذهب للأخفش.
وأما الإِشارة بذلك فقال الزجاج : هو إشارة إلى الظن ، وهو أنهم إذا ظنوا أنهم لو لم يحضروا لم يقتلوا ، كان حسرتهم على من قتل منهم أشدّ.
وقال الزمخشري : ما معناه الإشارة إلى النطق والاعتقاد بالقول.
وقال ابن عطية : الإشارة بذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم ، جعل الله ذلك حسرة ، لأن الذي يتيقن أن كل موت وقتل بأجل سابق يجد برد اليأس والتسليم لله تعالى على قلبه ، والذي يعتقد أن حميمه لو قعد في بيته لم يمت يتحسر ويتلهف انتهى.
وهذه أقوال متوافقة فيما أشير بذلك إليه.
وقيل : الإِشارة بذلك إلى نهي الله تعالى عن الكون مثل الكافرين في هذا المعتقد ، لأنهم إذا رأوا أن الله قد وسمهم بمعتقد وأمر بخلافهم كان ذلك حسرة في قلوبهم.
وقال ابن عطية : ويحتمل عندي أن تكون الإشارة إلى النهي والانتهاء معاً ، فتأمله انتهى.
وهذه كلها أقوال تخالف الظاهر.
والذي يقتضيه ظاهر الآية أن الإشارة إلى المصدر المفهوم من قالوا ، وأن اللام للصيرورة ، والمعنى : أنهم قالوا هذه المقالة قاصدين التثبيط عن الجهاد والإبعاد في الأرض ، سواء كانوا معتقدين صحتها أو لم يكونوا معتقديها ، إذْ كثير من الكفار قائل بأجل واحد ، فخاب هذا القصد ، وجعل الله ذلك القول حسرة في قلوبهم أي غماً على ما فاتهم ، إذ لم يبلغوا مقصدهم من التثبيط عن الجهاد.

وظاهر جعل الحسرة وحصولها أنه يكون ذلك في الدنيا وهو الغم الذي يلحقهم على ما فات من بلوغ مقصدهم.
وقيل : الجعل يوم القيامة لما هم فيه من الخزي والندامة ، ولما فيه المسلمون من النعيم والكرامة.
وأسند الجعل إلى الله ، لأنه هو الذي يضع الغم والحسرة في قلوبهم عقوبة لهم على هذا القول الفاسد.
{ والله يحيي ويميت } رد عليهم في تلك المقالة الفاسدة ، بل ذلك بقضائه الحتم والأمر بيده.
قد يحيي المسافر والغازي ، ويميت المقيم والقاعد.
وقال خالد بن الوليد عنه موته : ما فيّ موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة ، وها أنا ذا أموت كما يموت البعير ، فلا نامت أعين الجبناء.
وقيل : هذه الجملة متعلقة بقوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا } أي : لا تقولوا مثل قولهم ، فإن الله هو المحيي ، من قدر حياته لم يقتل في الجهاد ، والمميت من قدر له الموت لم يبق وإن لم يجاهد ، قاله : الرازي.
وقال أيضاً : المراد منه إبطال شبهتهم ، أي لا تأثير لشيء آخر في الحياة والموت ، لأن قضاءه لا يتبدل.
ولا يلزم ذلك في الأعمال ، لأنَّ له أن يفعل ما يشاء انتهى.
ورد عليه هذا الفرق بين الموت والحياة وسائر الأعمال ، لأن سائر الأعمال مفروغ منها كالموت والحياة ، فما قدر وقوعه منها فلا بدّ من وقوعه ، وما لم يقدر فيستحيل وقوعه ، فإذاً لا فرق.
{ والله بما تعملون بصير } قال الراغب : علق ذلك بالبصر لا بالسمع ، وإنْ كان الصادر منهم قولاً مسموعاً لا فعلاً مرئياً.
لما كان ذلك القول من الكافر قصداً منهم إلى عمل يحاولونه ، فخص البصر بذلك كقولك لمن يقول شيئاً وهو يقصد فعلاً يحاوله : أنا أرى ما تفعله.
وقرأ ابن كثير والأخوان بما يعملون بالياء على الغيبة ، وهو وعيد للمنافقين.
وقرأ الباقون بالتاء على خطاب المؤمنين ، كما قال : لا تكونوا ، فهو توكيد للنهي ووعيد لمن خالف ، ووعد لمن امتثل.
{ ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون } تقدم قبل هذا تكذيب الكفار في دعواهم : أنّ من مات أو قتل في سفر وغزو لو كان أقام ما مات وما قتل ، ونهى المؤمنين عن أن يقولوا مثل هذه المقالة ، لأنها سبب للتخاذل عن الغزو وأخبر في هذه الجملة أنه أنْ تم ما يحذرونه من القتل في سبيل الله أو الموت فيه ، فما يحصل لهم من مغفرة الله ورحمته بسبب ذلك خير مما يجمعون من حطام الدنيا ومنافعها ، لو لم يهلكوا بالقتل أو الموت ، وأكد دلك بالقسم.
لأن اللام في لئن هي الموطئة للقسم ، وجواب القسم هو : لمغفرة.
وكان نكرة إشارة إلى أن أيسر جزء من المغفرة والرحمة خير من الدنيا ، وأنه كاف في فوز المؤمن.

وجاز الابتداء به لأنه وصف بقوله من الله.
وعطف عليه نكرة ومسوغ الابتداء بها ، كونها عطفت على ما يسوغ به الابتداء.
أو كونها موصوفة في المعنى إذ التقدير : ورحمة منه.
وثمَّ صفة أخرى محذوفة لا بدّ منها وتقديرها : ورحمة لكم.
وخير هنا على بابها من كونها افعل تفضيل ، كما روي عن ابن عباس : خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء.
وارتفاع خير على أنه خبر عن قوله : لمغفرة.
قال ابن عطية وتحتمل الآية أن يكون قوله : لمغفرة إشارة إلى القتل أو الموت في سبيل الله ، فسمى ذلك مغفرة ورحمة ، إذ هما مقترنان به.
ويجيء التقدير لذلك : مغفرة ورحمة.
وترتفع المغفرة على خبر الابتداء المقدر.
وقوله : خير صفة لا خبر ابتداء انتهى قوله.
وهو خلاف الظاهر.
وجواب الشرط الذي هو إنْ قتلتم محذوف ، لدلالة جواب القسم عليه.
وقول الزمخشري : سدَّ مسدَّ جواب الشرط إنْ عنى أنه حذف لدلالته عليه فصحيح ، وإنْ عنى أنه لا يحتاج إلى تقدير فليس بصحيح.
وظاهر الآية يدل على أنه جعلت المغفرة والرحمة لمن اتفق له أحد هذين : القتل في سبيل الله ، أو الموت فيه.
وقال الرازي : لمغفرة من الله إشارة إلى تعبده خوفاً من عقابه ، ورحمة إشارة إلى تعبده لطلب ثوابه انتهى.
وليس بالظاهر.
وقدم القتل هنا لأنه ابتداء إخبار ، فقدّم الأشرف الأهم في تحصيل المغفرة والرحمة ، إذ القتل في سبيل الله أعظم ثواباً من الموت في سبيله.
قال الراغب : تضمنت هاتان الآيتان إلزاماً هو جار مجرى قياسين شرطيين اقتضيا الحرص على القتل في سبيل الله تمثيله : إنْ قتلتم في سبيل الله ، أو متّم ، حصلت لكم المغفرة والرحمة ، وهما خير مما تجمعون.
فإذاً الموت والقتل في سبيل الله خير مما تجمعون.
ولئن متم أو قتلتم فالحشر لكم حاصل.
وإذا كان الموت والقتل لا بد منه والحشر فنتيجة ذلك أن القتل والموت اللذين يوجبان المغرفة والرحمة خير من القتل والموت اللذين لا يوجبانهما انتهى.
وقرأ الإبنان والأبوان بضم الميم في جميع القرآن ، وحفص في هذين أو متمم ، ولئن متم ، وكسر الباقون.
والضم أقيس وأشهر.
والكسر مستعمل كثيراً وهو شاذ في القياس ، جعله المازني من فعل يفعل ، نظير دمت تدوم ، وفضلت تفضل ، وكذا أبو علي ، فحكما عليه بالشذوذ.
وقد نقل غيرهما فيه لغتين إحداهما : فعل يفعل ، فتقول مات يموت.
والأخرى : فعل يفعل نحو مات يمات ، أصله موت.
فعلى هذا ليس بشاذ ، إذ هو مثل خاف يخاف ، فأصله موت يموت.
فمن قرأ بالكسر فعلى هذه اللغة ولا شذوذ فيه ، وهي لغة الحجاز يقولون : متم من مات يمات قال الشاعر :
عيشي ولا تومي بأن تماتي . . .
وسفلى مضر يقولون : مُتّم بضم الميم من مات يموت ، نقله الكوفيون : وقرأ الجمهور : تجمعون بالتاء على سياق الخطاب في قوله : ولئن قتلتم.

وقرأ قوم منهم حفص عن عاصم بالياء ، أي مما يجمعه الكفار المنافقون وغيرهم.
{ ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون } هذا خطاب عام للمؤمن والكافر.
أعلم فيه أن مصير الجميع إليه ، فيجازي كلاً بعمله.
هكذا قال بعضهم.
وكأنه لما رأى الموت والقتل أطلقا ولم يقيدا بذكر سبيل الله كما قيدا في الآية ، فهم أنَّ ذلك عام.
والظاهر أنّه خطاب للمؤمنين كالخطاب السابق ، ولذلك قدره الزمخشري : لإلى الرّحيم الواسع الرحمة المميت العظيم الثواب تحشرون.
قال : ولوقوع اسم الله هذا الموقع مع تقديمه وإدخال اللام على الحرف المتصل به سيان ليس بالخفي انتهى.
يشير بذلك إلى مذهبه : من أن التقديم يؤذن بالاختصاص ، فكان المعنى عنده : فإلى الله لا غيره تحشرون.
وهو عندنا لا يدل بالوضع على ذلك ، وإنما يدل التقديم على الاعتناء بالشيء والاهتمام بذكره ، كما قال سيبويه : وزاده حسناً هنا أنّ تأخر الفعل هنا فاضلة ، فلو تأخر المجرور لفات هذا الغرض وتضمنت الآية تحقير أمر الدنيا والحرص على الشهادة ، وأنَّ مصير العالم كلهم إلى الله ، فالموافاة على الشهادة أمثل بالمرء ليحرز ثوابها ويجده وقت الحشر.
وقدّم الموت هنا على القتل لأنها آية وعظ بالآخرة والحشر ، وتزهيد في الدنيا والحياة ، والموت فيها مطلق لم يقيد بشيء.
فإما أنْ يكونَ الخطاب مختصاً بمن خوطب قبلُ أو عاماً واندرج أولئك فيه ، فقدِّم لعمومه ، ولأنه أغلب في الناس من القتل ، فهذه ثلاثة مواضع.
ما ماتوا وما قتلوا : فقدم الموت على القتل لمناسبة ما قبله من قوله : { إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزاً } وتقدّم القتل على الموت بعد ، لأنه محل تحريض على الجهاد ، فقدم الأهم والأشرف.
وقدم الموت هنا لأنه الأغلب ، ولم يؤكد الفعل الواقع جواباً للقسم المحذوف لأنه فصل بين اللام المتلقى بها القسم وبينه بالجار والمجرور.
ولو تأخر لكان : لتحشرن إليه كقوله : ليقولن ما يحبسه.
وسواء كان الفصل بمعمول الفعل كهذا ، أو بسوف.
كقوله : { فلسوف تعلمون } أو بقد كقول الشاعر :
كذبت لقد أصبى على المرء عرسه . . .
وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي
قال أبو علي : الأصل دخول النون فرقاً بين لام اليمين ولام الابتداء ، ولام الابتداء لا تدخل على الفضلات ، فبدخول لام اليمين على الفضلة وقع الفصل ، فلم يحتج إلى النون.
وبدخولها على سوف وقع الفرق ، فلم يحتج إلى النون ، لأن لام الابتداء لا تدخل على الفعل إلا إذا كان حالاً ، أمّا إذا كان مستقبلاً فلا.
{ فبما رحمة من الله لنت لهم } متعلق الرحمة المؤمنون.
فالمعنى : فبرحمة من الله عليهم لِنْت لهم ، فتكون الرحمة امتن بها عليهم.
أي : دمثت أخلاقك ولان جانبك لهم بعدما خالفوا أمرك وعصوك في هذه القراءة ، وذلك برحمة الله إياهم.

وقيل : متعلق الرحمة المخاطب صلى الله عليه وسلم ، أي برحمة الله إياك جعلك لين الجانب موطأ الأكناف ، فرحمتهم ولنت لهم ، ولم تؤاخذهم بالعصيان والفرار وإفرادك للأعداء ، ويكون ذلك امتناناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويحتمل أن يكون متعلق الرحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعله على خلق عظيم ، وبعثه بتتميم محاسن الأخلاق والمؤمنين ، بأن لينه لهم.
وما هنا زائدة للتأكيد ، وزيادتها بين الباء وعن ومن والكاف ، وبين مجروراتها شيء معروف في اللسان ، مقرر في علم العربية.
وذهب بعض الناس إلى أنها منكرة تامة ، ورحمة بدل منها.
كأنه قيل : فبشيء أبهم ، ثم أبدل على سبيل التوضيح ، فقال : رحمة.
وكان قائل هذا يفر من الإطلاق عليها أنهار زائدة.
وقيل : ما هنا استفهامية.
قال الرازي : قال المحققون : دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين غير جائز ، وهنا يجوز أن تكون ما استفهامية للتعجب تقديره : فبأي رحمة من الله لنت لهم ، وذلك بأن جنايتهم لما كانت عظيمة ثم أنه ما أظهر البتة تغليظاً في القول ، ولا خشونة في الكلام ، علموا أنَّ هذا لا يتأتى إلا بتأييد رباني قبل ذلك انتهى كلامه.
وما قاله المحققون : صحيح ، لكنَّ زيادة ما للتوكيد لا ينكره في أماكنه من له أدنى تعلق بالعربية ، فضلاً عن مَنْ يتعاطى تفسير كلام الله ، وليس ما في هذا المكان مما يتوهمه أحد مهملاً فلا يحتاج ذلك إلى تأويلها بأن يكون استفهاماً للتعجب.
ثمّ إنَّ تقديره ذلك : فبأي رحمة ، دليل على أنّه جعل ما مضافة للرحمة ، وما ذهب إليه خطأ من وجهين : أحدهما : أنه لا تضاف ما الاستفهامية ، ولا أسماء الاستفهام غير أي بلا خلاف ، وكم على مذهب أبي إسحاق.
والثاني : إذا لم تصح الإضافة فيكون إعرابه بدلاً ، وإذا كان بدلاً من اسم الاستفهام فلا بدّ من إعادة همزة الاستفهام في البدل ، وهذا الرجل لحظ المعنى ولم يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام الألفاظ ، وكان يغنيه عن هذا الارتباك والتسلق إلى ما لا يحسنه والتسور عليه.
قول الزجاج في ما هذه؟ إنها صلة فيها معنى التوكيد بإجماع النحويين.
{ ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } بين تعالى أن ثمرة اللين هي المحبة ، والاجتماع عليه.
وأن خلافها من الجفوة والخشونة مؤد إلى التفرق ، والمعنى : لو شافهتهم بالملامة على ما صدر منهم من المخالفة والفرار لتفرّقوا من حولك هيبة منك وحياءً ، فكان ذلك سبباً لتفرّق كلمة الإسلام وضعف مادته ، وإطماعاً للعدو واللين والرفق ، فيكون فيما لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله تعالى.
وقال تعالى في حق الكفار : { واغلظ عليهم } وفي وصفه صلى الله عليه وسلم في الكتب المنزلة أنه ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق.
والوصفان قيل بمعنى واحد ، فجمعاً للتأكيد.

وقيل : الفظاظة الجفوة قولاً وفعلاً.
وغلظ القلب : عبارة عن كونه خلق صلباً لا يلين ولا يتأثر ، وعن الغلظ تنشأ الفظاظة تقدم ما هو ظاهر للحس على ما هو خاف ، وإنما يعلم بظهور أثره.
{ فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر } أمره تعالى بالعفو عنهم ، وذلك فيما كان خاصاً به من تبعة له عليهم ، وبالاستغفار لهم فيما هو مختص بحق الله تعالى وبمشاورتهم.
وفيها فوائد تطييب نفوسهم ، والرفع من مقدارهم بصفاء قلبه لهم ، حيث أهلهم للمشاورة ، وجعلهم خواص بعد ما صدر منهم ، وتشريع المشاورة لمن بعده ، والاستظهار برأيهم فيما لم ينزل فيه وحي.
فقد يكون عندهم من أمور الدنيا ما ينتفع به ، واختبار عقولهم ، فينزلهم منازلهم ، واجتهادهم فيما فيه وجه الصلاح.
وجرى على مناهج العرب وعادتها في الاستشارة في الأمور ، وإذا لم يشاور أحداً منهم حصل في نفسه شيء ، ولذلك عز على عليّ وأهل البيت كونهم استبد عليهم في المشورة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين ، وفيما ذا أمر أن يشاورهم.
قيل : في أمر الحرب والدنيا وقيل : في الدين والدنيا ما لم يرد نص ، ولذلك استشار في أسرى بدر.
وظاهر هذه الأوامر يقتضي أنه أمر بهذه الأشياء ، ولا تدل على تريب زماني.
وقال ابن عطية : أمر بتدريج بليغ ، أمر بالعفو عنهم فيما يخصه ، فإذا صاروا في هذه الدرجة أمر باستغفار فيما لله ، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلاً للاستشارة في الأمور انتهى.
وفيه بعض تلخيص ، ولا يظهر هذا التدريج من اللفظ ، ولكنْ هذه حكمة تقديم هذه الأوامر بعضها على بعض.
أمر أولاً بالعفو عنهم ، إذ عفوه عنهم مسقط لحقه ، ودليل على رضاه صلى الله عليه وسلم عليهم ، وعدم مؤاخذته.
ولما سقط حقه بعفوه استغفر لهم الله ليكمل لهم صفحه وصفح الله عنهم ، ويحصل لهم رضاه صلى الله عليه وسلم ورضا الله تعالى.
ولما زالت عنهم التبعات من الجانبين شاورهم إيذاناً بأنهم أهل للمحبة الصادقة والخلة الناصحة ، إذ لا يستشير الإنسان إلا من كان معتقداً فيه المودة والعقل والتجربة.
والظاهر أن قوله : فاعف عنهم أمرٌ له بالعفو.
وقيل : معناه سلني العفو عنهم لأعفو عنهم ، والمعفو عنه والمسؤول الاستغفار لأجله.
قيل : فرارهم يوم أحد ، وترك إجابته ، وزوال الرّماة عن مراكزهم.
وقيل : ما يبدون من هفواتهم وألسنتهم من السقطات التي لا يعتقدونها ، كمناداتهم من وراء الحجرات.
وقول بعضهم : إنْ كان ابن عمتك وجر رداءه حتى أثر في عنقه ، وغير ذلك مما وقع منهم على سبيل الهفوة.
ومن غريب النقول والمقول وضعيفه الذي ينزه عنه القرآن قول بعضهم : أن قوله تعالى : { وشاورهم في الأمر } ، أنه من المقلوب ، والمعنى : وليشاوروك في الأمر.
وذكر المفسرون هنا جملة مما ورد في المشاورة من الآيات والأحاديث والآثار.

وذكر ابن عطية : إن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير أهل العلم والدّين فعزله واجب ، هذا ما لا خلاف له.
والمستشار في الدّين عالم دين ، وقلَّ ما يكون ذلك إلا في عاقل.
قال الحسن : ما كمل دين امرىء لم يكمل عقله ، وفي الأمور الدنيوية عاقل مجرب وادفى المستشير انتهى كلام ابن عطية ، وفيه بعض تلخيص.
وقراءة الجمهور : في الأمر ، وليس على العموم.
إذ لا يشاور في التحليل والتحريم.
والأمر : اسم جنس يقع للكل وللبعض.
وقرأ ابن عباس : في بعض الأمر { فإذا عزمت فتوكل على الله } أي : فإذا عقدت قلبك على أمر بعد الاستشارة فاجعلْ تفويضك فيه إلى الله تعالى ، فإنه العالم بالأصلح لك ، والأرشد لأمرك ، لا يعلمه من أشار عليك.
وفي هذه الآية دليل على المشاورة وتخمير الرأي وتنقيحه ، والفكر فيه.
وإن ذلك مطلوب شرعاً خلافاً لما كان عليه بعض العرب من : ترك المشورة ، ومن : الاستبداد برأيه من غير فكر في عاقبة ، كما قال :
إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه . . .
ونكب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في رأيه غير نفسه . . .
ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
وقرأ الجمهور عزمت على الخطاب كالذي قبله.
وقرأ عكرمة وجابر بن زيد وأبو نهيك وجعفر الصادق عزمت بضم التاء على أنها ضمير لله تعالى والمعنى فإذا عزمت لك على شيء أي أرشدتك إليه وجعلتك تقصده ويكون قوله على الله من باب الالتفات إذ لو جرى على نسق ضم التاء لكان فتوكل عليّ ونظيره في نسبة العزم إلى الله على سبيل التجوز قول أم سلمة ، ثم عزم الله { إن الله يحب المتوكلين } حث على التوكل على الله ، إذ أخبر أنّه يحب من توكل عليه ، والمرءُ ساعٍ فيما يحصل له محبة الله تعالى.
وقد تضمنت هذه الآيات فنوناً من البيان والبديع والإبهام في : ولا تلوون على أحد ، فمن قال : هو الرسول أبهمه تعظيماً لشأنه ، ولأن التصريح فيه هضم لقدره.
والتجنيس المماثل في : غما بغمّ ، ثم أنزل عليكم من بعد الغمّ.
والطباق : في يخفون ويبدون ، وفي فاتكم وأصابكم.
والتجنيس المغاير في : تظنون وظن ، وفي فتوكل والمتوكلين.
وذكر بعضهم ذلك في فظاً ولا تفضوا ، وليس منه ، لأنه قد اختلفت المادّتان والتفسير بعد الإبهام في ما لا يبدون يقولون.
والاحتجاج النظري في : لو كنتم في بيوتكم والاعتراض في : قل إن الأمر كله لله.
والاختصاص في : بذات الصدور ، وفي بما تعملون بصير ، وفي يحب المتوكلين.
والإشارة في قوله : ليجعل الله ذلك حسرة.
والاستعارة في : إذا ضربوا في الأرض ، وفي لنت ، وفي غليظ القلب ، والتكرار في : ما ماتوا ، وما قتلوا ، وما بعدهما ، وفي : على الله إن الله.
وزيادة الحرف للتأكيد في : فبما رحمة.

والالتفات والحذف في عدة مواضع.
{ إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده } هذا التفات ، إذْ هو خروج من غيبة إلى الخطاب.
ولما أمره بمشاورتهم وبالتوكل عليه ، أوضح أنَّ ما صدر من النصر أو الخذلان إنما هو راجع لما يشاء.
وأنَّه متى نصركم لا يمكن أن يغلبكم أحد ، ومتى خذلكم فلا ناصر لكم فيما وقع لكم من النصر ، أو بكم من الخذلان كيومي : بدر وأحد ، فبمشيئته.
وفي هذا تسلية لهم عما وقع لهم من الفرار.
ثم أمرهم بالتوكل ، وناط الأمر بالمؤمنين ، فنبه على الوصف الذي يناسب معه التوكل وهو الإيمان ، لأن المؤمن مصدق بأن الله هو الفاعل المختار بيده النصر والخذلان.
وأشركهم مع نبيهم في مطلوبية التوكل ، وهو إضافة الأمور إلى الله تعالى وتفويضها إليه.
والتوكل على الله من فروض الإيمان ، ولكنه يقترن بالتشمير في الطاعة والجزامة بغاية الجهد ، ومعاطاة أسباب التحرز ، وليس الإلقاء باليد والإهمال لما يجب مراعاته بتوكل ، وإنما هو كما قال صلى الله عليه وسلم : « قيدها وتوكل » ونظير هذه الآية : { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده } والضمير في من بعده عائد على الله تعالى ، إمّا على حذف مضاف أي : من بعد خذلانه ، أي من بعد ما يخذل من الذي ينصر.
وإما أنْ لا يحتاج إلى تقدير هذا المحذوف ، بل يكون المعنى : إذا جاوزته إلى غيره وقد خذلك فمن ذا الذي تجاوزه إليه فينصرك؟ ويحتمل أن يكون الضمير عائداً على المصدر المفهوم من قوله : وإن يخذلكم ، أي : من بعد الخذلان.
وجاء جواب : إن ينصركم الله بصريح النفي العام ، وجواب وإن يخذلكم يتضمن النفي وهو الاستفهام ، وهو من تنويع الكلام في الفصاحة والتلطف بالمؤمنين حتى لا يصرّح لهم بأنه لا ناصر لهم ، بل أبرز ذلك في صورة الاستفهام الذي يقتضي السؤال عن الناصر ، وإن كان المعنى على نفي الناصر.
لكنْ فرَّقَ بين الصريح والمتضمن ، فلم يجر المؤمنين في ذلك مجرى الكفار الذي نص عليه بالصريح أنه لا ناصر لهم كقوله : { أهلكناهم فلا ناصر لهم } وظاهره النصرة أنها في لقاء العدو ، والإعانة على مكافحته ، والاستيلاء عليه.
وأكثر المفسرين جعلوا النصرة بالحجة القاهرة ، وبالعاقبة في الآخرة.
فقالوا : المعنى إنْ حصلت لكم النصرة فلا تعدوا ما يعرض من العوارض الدنيوية في بعض الأحوال غلبة ، وإن خذلكم في ذلك فلا تعدوا ما يحصل لكم من القهر في الدنيا نصرة ، فالنصرة والخذلان معتبران بالمآل.
وفي قوله : إن ينصركم الله إشارة إلى الترغيب في طاعة الله ، لأنه بين فيما تقدم أنّ من اتقى الله نصره.
وقال الزمخشري في قوله : وعلى الله ، وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه ، لعلمهم أنّه لا ناصر سواه ، ولأن إيمانكم يوجب ذلك ويقتضيه انتهى كلامه.

وأخذ الاختصاص من تقديم الجار والمجرور وذلك على طريقته ، بأن تقديم المفعول يوجب الحصر والاختصاص.
وقرأ الجمهور : يخذلكم من خذل.
وقرأ عبيد بن عمير : يخذلكم من أخذل رباعياً.
والهمزة فيه للجعل أي : يجعلكم { وما كان لنبي أن يغلّ } قال ابن عباس ، وعكرمة ، وابن جبير : فقدت قطيفة حمراء من المغانم يوم بدر فقال بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم : لعلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها ، فنزلت ، وقائل ذلك مؤمن لم يظن في ذلك حرجاً.
وقيل : منافق ، وروي أن المفقود سيف.
وقال النقاش : قالت الرماة يوم أحد : الغنيمة الغنيمة ، أيها الناس إنّا نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئاً فهو له ، فلما ذكروا ذلك قال : « خشيتم أن نغل » فنزلت.
وروي نحوه عن الكلبي ومقاتل.
وقيل غير هذا من ذلك ما قال ابن إسحاق : إنما نزلت إعلاماً بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتم شيئاً مما أمر بتبليغه.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها من حيث أنها تضمنت حكماً من أحكام الغنائم في الجهاد ، وهي من المعاصي المتوعد عليها بالنار كما جاء في قصة مدعم ، فحذرهم من ذلك.
وتقدم لنا الكلام في معنى ما كان لزيد أن يفعل.
وقرأ ابن عباس وابن كثير وأبو عمرو وعاصم أن يغلّ من غلّ مبنياً للفاعل ، والمعنى : أنه لا يمكن ذلك منه ، لأن الغلول معصية ، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من المعاصي ، فلا يمكن أن يقع في شيء منها.
وهذا النفي إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتوهم فيه ذلك ، ولا أن ينسب إليه شيء من ذلك.
وقرأ ابن مسعود وباقي السبعة : أن يُغَل بضم الياء وفتح الغين مبنياً للمفعول.
فقال الجمهور : هو من غل.
والمعنى : ليس لأحد أن يخونه في الغنيمة ، فهي نهي للناس عن الغلول في المغانم ، وخص النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر وإن كان ذلك حراماً مع غيره ، لأن المعصية بحضرة النبي أشنع لما يحب من تعظيمه وتوقيره ، كالمعصية بالمكان الشريف ، واليوم المعظم.
وقيل : هو من أغل رباعياً ، والمعنى : أنه يوجد غالاً كما تقول : أحمد الرجل وجد محموداً.
وقال أبو علي الفارسي : هو من أغل أي نسب إلى الغلول.
وقيل له : غللت كقولهم : أكفر الرجل ، نسب إلى الكفر.
{ ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } ظاهر هذا أنه يأتي بعين ما غل ، ورد ذلك في صحيح البخاري ومسلم.
ففي الحديث ذكر الغلول وعظمه وعظم أمره ، ثم قال : « لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : ما أملك لك من الله شيئاً ، قد أبلغتك »

الحديث وكذلك ما جاء في حديث ابن اللتبية : « والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئاً إلا جاء به يحمله يوم القيامة على رقبته إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر » وروي عنه أيضاً وفرس له حمجة وفي حديث مدعم : « أن الشملة التي غلت من المغانم يوم حنين لتشتعل عليه ناراً ومجيئه بما غلّ فضيحة له على رؤوس الاشهاد يوم القيامة » وقال الكلبي بمثل له ذلك الشيء الذي غله في النار ، ثم يقال له : انزل فخذه ، فينزل فيحمله على ظهره فإذا بلغ صومعته وقع في النار ، ثم كلف أن ينزل إليه فيخرجه ، يفعل ذلك به.
وقيل : يأتي حاملاً إثْم ما غلَّ.
وقيل : يؤخذ من حسناته عوض ما غل.
وقد وردت أحاديث كثيرة في تعظيم الغلول والوعيد عليه.
{ ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } هذه جملة معطوفة على الجملة الشرطية لما ذكر من مسألة الغلول ، وما يجري لصاحبها يوم القيامة.
ذكر أن ذلك الجزاء ليس مختصاً بمن غلّ ، بل كل نفس توفى جزاء ما كسبت من غير ظلم ، فصار الغال مذكوراً مرتين : مرّة بخصوصه ، ومرّة باندراجه في هذا العام ليعلم أنه غير متخلص من تبعة ما غل ، ومن تبعة ما كسبت من غير الغلول.
وتقدّم تفسير هذه الجملة ، فأغنى عن إعادته هنا.
{ أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } هذا لاستفهام معناه النفي ، أي ليس من اتبع رضا الله فامتثل أوامره واجتنب مناهيه كمن عصاه فباء بسخطه ، وهذا من الاستعارة البديعية.
جعل ما شرعه الله كالدليل الذي يتبعه من يهتدي به ، وجعل العاصي كالشخص الذي أمر بأن يتبع شيئاً عن اتباعه ورجع مصحوباً بما يخالف الاتباع.
وفي الآية من حيث المعنى حذف والتقدير : أفمن اتبع ما يؤول به إلى رضا الله عنه ، فباء برضاه كمن لم يتبع ذلك فباء بسخطه.
وقال سعيد بن جبير والضحاك والجمهور : أفمن اتبع رضوان الله فلم يغل كمن باء بسخط من الله حين غل.
وقال الزجاج : أفمن اتبع رضوان الله باتباع الرسول يوم أحد ، كمن باء بسخط من الله بتخلفه وهم جماعة من المنافقين.
وقال الزّجاج أيضاً : رضوان الله الجهاد ، والسخط الفرار.
وقيل : رضا الله طاعته ، وسخطه عقابه.
وقيل : سخطه معصيته قاله ابن إسحاق.
ويعسر ما يزعم الزمخشري من تقدير معطوف بين همزة الاستفهام وبين حرف العطف في مثل هذا التركيب ، وتقديره متكلف جداً فيه ، رجح إذ ذاك مذهب الجمهور : من أن الفاء محلها قبل الهمزة ، لكْن قدّمت الهمزة لأنْ الاستفهام له صدر الكلام.
وتقدّم اختلاف القراء في رضوان في أوائل هذه السورة ، والظاهر استئناف.

{ ومأواه جهنم } : أخبر أنَّ مَن باء بسخط من الله فمكانه الذي يأوي إليه هو جهنم ، وأفهم هذا أن مقابله وهو من اتبع رضوان الله مأواه الجنة.
ويحتمل أن تكون في صلة مَن فوصلها بقوله : باء.
وبهذه الجملة كان المعنى : كمن باء بسخط الله ، وآل إلى النار.
وبئس المصير : أي جهنم.
{ هم درجات } قال ابن عباس والحسن : لكل درجات من الجنة والنار.
وقال أبو عبيدة : كقوله : هم طبقات.
وقال مجاهد وقتادة : أي ذوو درجات ، فإن بعض المؤمنين أفضل من بعض.
وقيل : يعود على الغال وتارك الغلول ، والدرجة : الرتبة.
وقال الرازي : تقديره لهم درجات.
قال بعض المصنفين رادّاً عليه : اتبع الرّازي في ذلك أكثر المفسرين بجهله وجهلهم بلسان العرب ، لأن حذف لام الجر هنا لا مساغ له ، لأنه إنما تحذف لام الجر في مواضع الضرورة ، أو لكثرة الاستعمال ، وهذا ليس من تلك المواضع.
على أن المعنى دون حذفها حسن متمكن جداً ، لأنه لما قال : أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ، وكأنه منتظر للجواب قيل له في الجواب : لا ، ليسوا سواء ، بل هم درجات.
{ عند الله } على حسب أعمالهم.
وهذا معنى صحيح لا يحتاج معه إلى تقدير حذف اللام ، لو كان سائغاً كيف وهو غير سائغ انتهى كلام المصنف.
ويحمل تفسير ابن عباس والحسن أن المعنى : لكل درجات من الجنة والنار على تفسير المعنى ، لا تفسير اللفظ الأعرابي.
والظاهر من قولهم : هم درجات ، أن الضمير عائد على الجميع ، فهم متفاوتون في الثواب والعقاب ، وقد جاء التفاوت في العذاب كما جاء التفاوت في الثواب.
ومعنى عند الله على هذا القول : في حكم الله.
وقيل : الضمير يعود على أهل الرضوان ، فيكون عند الله معناها التشريف والمكانة لا المكان.
كقوله : { عند مليك مقتدر } والدرجات إذ ذاك مخصوصة بالجنة وهذا معنى قول : ابن جبير وأبي صالح ومقاتل ، وظاهر ما قاله مجاهد والسدّي.
والدرجات المنازل بعضها أغلى من بعض من المسافة أو في التكرمة.
وقرأ الجمهور درجات ، فهي مطابقة للفظ هم.
وقرأ النخعي درجة بالإفراء.
{ والله بصير بما يعملون } أي : عالم بأعمالهم ودرجاتها ، فمجازيهم على حسبها.
وتضمنت هذه الآيات الطباق في : ينصركم ويخذلكم ، وفي رضوان الله وبسخط.
والتكرار في : ينصركم وينصركم ، وفي الجلالة في مواضع.
والتجنيس المماثل : في يغل وما غل.
والاستفهام الذي معناه في : أفمن اتبع الآية.
والاختصاص في : فليتوكل المؤمنون ، وفي : وما كان لنبي ، وفي : بما يعملون خص العمل دون القول لأن العمل جل ما يترتب عليه الجزاء.
والحذف في عدة مواضع.

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)

{ لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } مناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما ذكر الفريقين : فريق الرضوان ، وفريق السخط ، وأنهم درجات عند الله مجملاً من غير تفصيل ، فصَّل أحوالهم وبدأ بالمؤمنين ، وذكر ما امتن عليهم به من بعث الرسول إليهم تالياً لآيات الله ، ومبيناً لهم طريق الهدى ، ومطهراً لهم من أرجاس الشرك ، ومنقذاً لهم من غمرة الضلالة بعد أن كانوا فيها.
وسلاهم عما أصابهم يوم أحد من الخذلان والقتل والجرح ، لما أنالهم يوم بدر من الظفر والغنيمة.
ثم فصَّل حال المنافقين الذين هم أهل السخط بما نص عليه تعالى.
ومعنى مَن تطوّل وتفضل ، وخص المؤمنين لأنهم هم المنتفعون ببعثه ، والظاهر عمومه.
فعلى هذا يكون معنى من أنفسهم من أهل ملتهم ، كما قال : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } والمعنى : من جنس بني آدم ، والامتنان بذلك لحصول الأنس بكونه من الإنس ، فيسهل المتلقى منه ، وتزول الوحشة والنفرة الطبيعية التي بين الجنسين المختلفين ، ولمعرفة قوى جنسهم.
فإذا ظهرت المعجزة أدركوا أنَّ ذلك ليس في قوى بني آدم ، فعلموا أنّه من عند الله ، فكان ذلك داعية إلى الإجابة.
ولو كان الرسول من غير الجنس لتخيل أن تلك المعجزة هي في طباعه ، أشار إلى هذه العلة الماتريدي.
وقيل : المراد بالمؤمنين العرب ، لأنه ليس حيٌّ من أحياء العرب إلا له فيهم نسب ، من قبل أمهاته ، إلا بني تغلب لنصرانيتهم قاله : النقاش ، فصار بعثه فيهم شرفاً لهم على سائر الأمم.
ويكون معنى من أنفسهم : أي من جنسهم عربياً مثلهم.
وقيل : من ولد إسماعيل ، كما أنهم من ولده.
قال ابن عباس وقتادة : قال من أنفسهم لكونه معروف النسب فيهم ، معروفاً بالأمانة والصدق.
قال أبو سليمان الدمشقي : ليسهل عليهم التعليم منه ، لموافقة اللسان.
وقال الماوردي : لأن شرفهم يتم بظهور نبي منهم انتهى.
والمنة عليهم بكونه من أنفسهم ، إذْ كان اللسان واحداً ، فيسهل عليهم أخذ ما يجب أخذه عنه.
وكانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة ، فكان ذلك أقرب إلى تصديقه والوثوق به.
وقرىء شاذاً : لمن منّ الله على المؤمنين بمن الجارة ومن مجرور بها بدل قد منّ.
قال الزمخشري : وفيه وجهان : أنْ يراد لمن منّ الله على المؤمنين منه أو بعثه فيهم ، فحذف لقيام الدلالة.
أو يكون إذ في محل الرفع كإذا في قولك : أخطب ما يكون الأمير ، إذ كان قائما بمعنى لمن مَنَّ الله على المؤمنين وقت بعثه انتهى.
أمّا الوجه الأوّل فهو سائغ ، وقد حذف المبتدأ مع من في مواضع منها : { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بها } { وما منا إلا له مقام } { وما دون ذلك } على قول.

وأما الوجه الثاني فهو فاسد ، لأنه جعل إذ مبتدأة ولم يستعملها العرب متصرفة ألبتة ، إنما تكون ظرفاً أو مضافاً إليها اسم زمان ، ومفعولة باذكر على قول.
أمّا أنْ تستعملَ مبتدأة فلم يثبت ذلك في لسان العرب ، ليس في كلامهم نحو : إذ قام زيد طويل وأنت تريد وقت قيام زيد طويل.
وقد قال أبو علي الفارسي : لم ترد إذ وإذا في كلام العرب إلا ظرفين ، ولا يكونان فاعلين ولا مفعولين ، ولا مبتدأين انتهى كلامه.
وأمّا قوله : في محل الرفع كإذا ، فهذا التشبيه فاسد ، لأن المشبه مرفوع بالابتداء ، والمشبه به ليس مبتدأ.
إنما هو ظرف في موضع الخبر على زعم من يرى ذلك.
وليس في الحقيقة في موضع رفع ، بل هو في موضع نصب بالعامل المحذوف ، وذلك العامل هو مرفوع.
فإذا قال النحاة : هذا الظرف الواقع خبراً في محل الرفع ، فيعنون أنه لما قام مقام المرفوع صار في محله ، وهو في التحقيق في موضع نصب كما ذكرنا.
وأما قوله في قولك : أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائماً ، فهذا في غاية الفساد.
لأن هذا الظرف على مذهب من يجعله في موضع خبر المبتدأ الذي هو أخطب ، لا يجيز أن ينطق به ، إنما هو أمر تقديري.
ونصّ أرباب هذا المذهب وهم القائلون بإعراب أخطب مبتدأ ، أنَّ هذه الحال سدت مسد الخبر ، وأنه مما يجب حذف الخبر فيه لسد هذه الحال مسده.
وفي تقرير هذا الخبر أربعة مذاهب ، ذكرت في مبسوطات النحو.
وقرأ الجمهور : من أنفُسهم بضم الفاء ، جمع نفس.
وقرأت فاطمة ، وعائشة ، والضحاك ، وأبو الجوزاء : من أنفَسهم بفتح الفاء من النفاسة ، والشيء النفيس.
وروي عن أنس أنه سمعها كذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى عليّ عنه عليه السلام : « أنا من أنفسكم نسباً وحسباً وصهراً ، ولا في آبائي من آدم إلى يوم ولدت سفاح كلها نكاح والحمد لله »
قيل : والمعنى من أشرفهم ، لأن عدنان ذروة ولد إسماعيل ، ومضر ذروة نزار بن معد بن عدنان ، وخندف ذروة مضر ، ومدركة ذروة خندف ، وقريش ذروة مدركة ، وذروة قريش محمد صلى الله عليه وسلم.
وفيما خطب به أبو طالب في تزويج خديجة رضي الله عنها وقد حضر معه بنو هاشم ورؤساء مضر : الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم ، وزرع اسماعيل ، وضئضىء معه ، وعنصر مضر ، وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه ، وجعل لنا بيتاً محجوجاً ، وحرماً آمناً ، وجعلنا الحكام على الناس ، ثم إنَّ ابن أخي هذا محمد بن عبد الله من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به ، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل.
وقال ابن عباس : ما خلق الله نفساً هي أكرم على الله من محمد رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما أقسم بحياة أحد غيره فقال : لعمرك.

{ يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } تقدّم تفسير هذه الجمل.
{ وإن كانوا من قبل } أي من قبل بعثه.
{ لفي ضلال } أي حيرة واضحة فهداهم به.
وإنْ هنا هي الخففة من الثقيلة ، وتقدّم الكلام عليها وعلى اللام في قوله : { وإن كانت لكبيرة } والخلاف في ذلك فأغنى عن إعادته هنا.
وقال الزمخشري : إنْ هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية ، وتقديره : وإنّ الشأن والحديث كانوا من قبل لفي ضلال مبين. انتهى.
وقال مكي : وقد ذكر أنه قبل إن نافية ، واللام بمعنى إلا ، أي : وما كانوا من قبلُ إلا في ضلال مبين ، قال : وهذا قول الكوفيين.
وأما سيبويه فإنه قال : إنْ مخففة من الثقيلة ، واسمها مضمر ، والتقدير على قوله : وإنهم كانوا من قبل في ضلال مبين.
فظهر من كلام الزمخشري أنه حين خففت حذف اسمها وهو ضمير الشأن والحديث.
ومن كلام مكي أنها حين خففت حذف اسمها وهو ضمير عائد على المؤمنين ، وكلا هذين الوجهين لا نعرف.
نحو : يا ذهب إليه.
إنما تقرر عندنا في كتب النحو ومن الشيوخ أنّك إذا قلت : إن زيداً قائم ثم خففت ، فمذهب البصريين فيها إذ ذاك وجهان : أحدهما : جواز الأعمال ، ويكون حالها وهي مخففة كحالها وهي مشدّدة ، إلا أنها لا تعمل في مضمر.
ومنع ذلك الكوفيون ، وهم محجوجون بالسماع الثابت من لسان العرب.
والوجه الثاني : وهو الأكثر عندهم أن تهمل فلا تعمل ، لا في ظاهر ، ولا في مضمر لا ملفوظ به ولا مقدّر ألبتة.
فإنْ وليها جملة اسمية ارتفعت بالابتداء والخبر ، ولزمت اللام في ثاني مضمونيها إن لم ينف ، وفي أولهما إن تأخر فنقول : إن زيد لقائم ومدلوله مدلول إن زيداً قائم.
وإنْ وليها جملة فعلية فلا بد عند البصريين أن تكون من فواتح الابتداء.
وإن جاء الفعل من غيرها فهو شاذ لا يقاس عليه عند جمهورهم.
والجملة من قوله : وإن كانوا ، حالية.
والظاهر أن العامل فيها هو : ويعلمهم ، فهو حال من المفعول.
{ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا } الهمزة للاستفهام الذي معناه الإنكار.
وقال ابن عطية : دخلت عليها ألف التقرير ، على معنى إلزام المؤمنين هذه المقالة في هذه الحال.
وقال الزمخشري : ولمّا نصب بقلتم وأصابتكم في محل الجرّ بإضافة لما إليه ، وتقديره : أقلتم حين أصابتكم ، وأنَّى هذا نصب لأنه مقول ، والهمزة للتقرير والتقريع.
( فإن قلت ) : على مَ عطفت الواو هذه الجملة؟ ( قلت ) : على ما مضى من قصة أحد من قوله : { ولقد صدقكم الله وعده } ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف ، فكأنه قال : أفعلتم كذا وقلتم حينئذ كذا؟انتهى.
أمّا العطف على ما مضى من قصة أحد من قوله : { ولقد صدقكم الله وعده }.

ففيه بعدٌ ، وبعيد أن يقع مثله في القرآن.
وأمّا العطف على محذوف فهو جار على ما تقرر في غير موضع من مذهبه ، وقد رددناه عليه.
وأما على مذهب الجمهور سيبويه وغيره قالوا : وأصلها التقديم ، وعطفت الجملة الاستفهامية على ما قبلها.
وأمّا قوله : ولما نصب إلى آخره وتقديره : وقلتم حينئذ كذا ، فجعل لمّا بمعنى حين فهذا ليس مذهب سيبويه ، وإنما هو مذهب أبي علي الفارسي.
زعم أنّ لمّا ظرف زمان بمعنى حين ، والجملة بعدها في موضع جرّ بها ، فجعلها من الظروف التي تجب إضافتها إلى الجمل ، وجعلها معمولة للفعل الواقع جواباً لها في نحو : لما جاء زيد عمرو ، فلما في موضع نصب بجاء من قولك : جاء عمرو.
وأمّا مذهب سيبويه فلما حرف لا ظرف ، وهو حرف وجوب لوجوب ، ومذهب سيبويه هو الصحيح.
وقد بينا فساد مذهب أبي علي من وجوه في كتابنا المسمى : بالتكميل.
والمصيبة : هي ما نزل بالمؤمنين يوم أحد من قتل سبعين منهم ، وكفهم عن الثبات للقتال.
وإسنادُ الإصابة إلى المصيبة هو مجاز ، كإسناد الإرادة إلى الجدار ، والمثلان اللذان أصابوهما.
قال ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، والربيع ، وجماعة : قتلهم يوم بدر سبعين ، وأسرهم سبعين ، فالمثلية وقعت في العدد من إصابة الرجال.
وقال الزجاج : قتلهم يوم بدر سبعين وقتلهم يوم أحد اثنين وعشرين ، فهو قتل بقتل ، ولا مدخل للأسرى في الآية ، لأنهم فدوا فلا مماثلة بين حالهم وبين قتل سبعين من المؤمنين ، وقيل : المثلية في الانهزام.
هزم المؤمنون الكفار يوم بدر ، وهزموهم أولاً يوم أحد ، وهزمهم المشركون في آخر يوم أحد.
وملخص ذلك : هل المثلية في الإصابة من قتل وأسر ، أو من قتل ، أو من هزيمة؟ ثلاثة أقوال ، والأظهر الأول.
لأن قوله : قد أصبتم مثليها هو على طريق التفضل منه تعالى على المؤمنين بإدالتهم على الكفار ، والتسلية لهم على ما أصابهم ، فيكون ذلك بالأبلغ في التسلية.
وتنبيههم على أنهم قتلوا منهم سبعين ، وأسروا سبعين أبلغ في المنة وفي التسلية.
وأدعى إلى أن يذكروا نعم الله عليهم السابقة ، وأن يتناسوا ما جرى عليهم يوم أحد.
وأنى هذا : جملة من مبتدأ وخبر ، وهي في موضع نصب على أنها معمولة لقوله : قلتم.
قالوا ذلك على سبيل التعجب والإنكار لما أصابهم ، والمعنى : كيف أصابنا هذا ونحن نقاتل أعداء الله ، وقد وعدنا بالنصر وإمداد الملائكة؟! فاستفهموا على سبيل التعجب عن ذلك.
وأنى سؤال عن الحال هنا ، ولا يناسب أن يكون هنا بمعنى أين أو متى ، لأنّ الاستفهام لم يقع عن المكان ولا عن الزمان هنا ، إنما الاستفهام وقع عن الحالة التي اقتضت لهم ذلك ، سألوا عنها على سبيل التعجب.
وقال الزمخشري : أنى هذا من أين هذا ، كقوله : { أنى لك هذا } لقوله : { من عند أنفسكم } وقوله : { من عند الله } انتهى كلامه.

والظرف إذا وقع خبر للمبتدأ ألا يقدر داخلاً عليه حرف جر غير في ، أما أنْ يقدَّر داخلاً عليه مِنْ فلا ، لأنه إنما انتصب على إسقاط في.
ولك إذا أضمر الظرف تعدى إليه الفعل بوساطة في إلاّ أن يتسع في الفعل فينصبه نصب التشبيه بالمفعول به ، فتقدير الزمخشري : أنى هذا ، من أين هذا تقدير غير سائغ ، واستدلاله على هذا التقدير بقوله : من عند أنفسكم ، وقوله : من عند الله ، وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ ، وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها.
وأمّا على ما قررناه ، فإنّ الجواب جاء على مراعاة المعنى ، لا على مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ.
وقد تقرر في علم العربية أن الجواب يأتي على حسب السؤال مطابقاً له في اللفظ ، ومراعى فيه المعنى لا اللفظ.
والسؤال بأنى سؤال عن تعيين كيفية حصول هذا الأمر ، والجواب بقوله : من عند أنفسكم يتضمن تعيين الكيفية ، لأنه بتعيين السبب تتعين الكيفية من حيث المعنى.
لو قيل على سبيل التعجب والإنكار : كيف لا يحج زيد الصالح ، وأجيب ذلك بأن يقال : بعدم استطاعته حصل الجواب وانتظم من المعنى ، أنه لا يحج وهو غير مستطيع.
{ قل هو من عند أنفسكم } الإضمار في هو راجع إلى المصيبة على المعنى ، لا على اللفظ.
وتقدم تفسير المصيبة في تفسير مقابل المثلين : أهو القتل المقابل للقتل والأسر ، أو المقابل للقتل فقط؟ أو الانهزام المقابل للانهزامين؟ والمعنى : أن سبب هذه المصيبة صدر من عند أنفسكم.
فقيل : هو الفداء الذي آثروه على القتل يوم بدر من غير إذن الله تعالى ، قال معناه : عمر بن الخطاب ، وعليّ ، والحسن ، وروى عليّ في ذلك : أنّه لما فرغت هزيمة المشركين يوم بدر جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : «يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم فداء الأسرى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين : أن يقدموا الأسرى فتضرب أعناقهم ، أو يأخذوا الفداء على أن يقتل من أصحابك عدة هؤلاء الأسرى ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ، فذكر ذلك لهم فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وأخواننا نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا ، ويستشهد منا عدتهم ، فليس في ذلك ما نكره».
فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلاً.
وقال الجمهور : هو مخالفة الرسول في الرأي حين رأى أن يقيم بالمدينة ويترك الكفار بشر مجلس ، فخالفوا وخرجوا حتى جرت القصة.
وقالت طائفة منهم ابن عباس ، ومقاتل : هو عصيان الرماة وتسبيبهم الهزيمة على المؤمنين.
وقد لخص الزمخشري هذه الأقوال الثلاثة أحسن تلخيص.
فقال : المعنى أنتم السبب فيما أصابكم لاختياركم الخروج من المدينة ، أو لتخليتكم المركز.
وعن عليّ : لأخذكم الفداء من أساري بدر قبل أن يؤذَن لكم انتهى.
ولم يعين الله تعالى السبب ما هو لطفاً بالمؤمنين في خطابه تعالى لهم.

والظاهر في قوله : { أنَّى هذا } هو من سؤال المؤمنين على سبيل التعجب.
وذكر الرازي أن الله لما حكي عن المنافقين طعنهم في الرسول بأن نسبوه إلى الغلول والخيانة ، حكى عنهم شبهة أخرى في هذه الآية وهي قولهم : لو كان رسولاً من عند الله لما انهزم عسكره يوم أحد ، وهو المراد من قولهم : أنَّى هذا.
فأجاب عنه بقوله : قل هو من عند أنفسكم ، أي هذا الانهزام إنما حصل بشؤم عصيانكم انتهى كلامه.
ودل على أن قوله : أنى هذا من كلام المنافقين.
وقال الماتريدي أيضاً : إنّه من كلام المنافقين.
والظاهر ما قلناه أنه من كلام المؤمنين ، وهم المخاطبون بقوله : { أو لما أصابتكم مصيبة } لأن المنافقين لم تصبهم مصيبة ، لأنهم رجعوا مع عبد الله بن أبي ولم يحضروا القتال ، إلا أن تجوز في قوله : أصابتكم مصيبة بمعنى أصابت أقرباءكم وأخوانكم ، فهو يمكن على بعد.
{ إن الله على كل شيء قدير } أي قادر على النصر ، وعلى منعه ، وعلى أن يصيب بكم تارة ، ويصيب منكم أخرى.
ونبه بذلك على أن ما أصابهم كان لوهن في دينهم ، لا لضعف في قدرة الله ، لأن من هو قادر على كل شيء هو قادر على دفاعهم على كل حال.
{ وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله } هو يوم أحد.
والجمعان ، جمع النبي صلى الله عليه وسلم وكفار قريش ، والخطاب للمؤمنين.
وما موصولة مبتدأ ، والخبر قوله : فبإذن الله ، وهو على إضمار أي : فهو بإذن الله.
ودخول الفاء هنا.
قال الحوفي : لما في الكلام من معنى الشرط لطلبته للفعل.
وقال ابن عطية : ودخلت الفاء رابطة مسددة.
وذلك للإبهام الذي في ما فأشبه الكلام الشرط ، وهذا كما قال سيبويه : الذي قام فله درهمان ، فيحسن دخول الفاء إذا كان القيام سبب الإعطاء انتهى كلامه.
وهو أحسن من كلام الحوفي ، لأن الحوفي زعم أن في الكلام معنى الشرط.
وقال ابن عطية : فأشبه الكلام الشرط.
ودخول الفاء على ما قاله الجمهور وقرروه قلق هنا ، وذلك أنهم قرّروا في جواز دخول الفاء على خبر الموصول أنّ الصلة تكون مستقلة ، فلا يجيزون الذي قام أمس فله درهم ، لأن هذه الفاء إنما دخلت في خبر الموصول لشبهه بالشرط.
فكما أن فعل الشرط لا يكون ماضياً من حيث المعنى ، فكذلك الصلة.
والذي أصابهم يوم التقى الجمعان هو ماض حقيقة ، فهو إخبار عن ماض من حيث المعنى.
فعلى ما قرّروه يشكل دخول الفاء هنا.
والذي نذهب إليه : أنه يجوز دخول الفاء في الخبر واصلة ماضية من جهة المعنى لورود هذه الآية ، ولقوله تعالى : { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } ومعلوم أن هذا ماض معنى مقطوع بوقوعه صلة وخبر ، أو يكون ذلك على تأويل : وما يتبين إصابته إياكم.

كما تأولوا : { إنْ كان قميصه قدّ } أي إن تبين كون قميصه قدّ.
وإذا تقرّر هذا فينبغي أن يحمل عليه قوله تعالى : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } فإن ظاهر هذه كلها أخبار عن الأمور الماضية.
ويكون المعنى على التبين المستقبل.
وفسر الإذن هنا بالعلم.
وعبر عنه به لأنه من مقتضايه قاله : الزَّجاج.
أو بتمكين الله وتخليته بين الجمعين قاله : القفال.
أو بمرأى ومسمع ، أو بقضائه وقدره.
وقال الزمخشري : فهو كائن بإذن الله ، استعار الإذن لتخلية الكفار ، وأنه لم يمنعهم منهم ليبتلهم ، لأن الآذن مخل بين المأذون له ومراده. انتهى.
وفيه دسيسة الاعتزال ، لأنَّ قتل الكفار للمؤمنين قبيح عنده ، فلا إذن فيه.
وقال ابن عطية : يحسن دخول الفاء إذا كان سبب الإعطاء ، وكذلك ترتيب هذه الآية.
فالمعنى : إنما هو وما أذن الله فيه فهو الذي أصاب ، لكنْ قدّم الأهم في نفوسهم والأقرب إلى حسهم.
والإذن : التمكين من الشيء مع العلم به انتهى كلامه.
لما كان من حيث المعنى أن الإصابة مترتبة على تمكين الله ، من ذلك حملُ الآية على ذلك ، وادّعى تقديماً وتأخيراً ، ولا تحتاج الآية إلى ذلك ، لأنه ليس شرطاً وجزاء فيحتاج فيه إلى ذلك ، بل هذا من باب الإخبار عن شيء ماض ، والإخبار صحيح.
أخبر تعالى أنّ الذي أصابهم يوم أحد كان لا محالة بإذن الله ، فهذا إخبار صحيح ، ومعنى صحيح ، فلا نتكلف تقديماً ولا تأخيراً ، ونجعله من باب الشرط والجزاء.
{ وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا } هو على حذف مضاف أي : وليعلم إيمان المؤمنين ، ويعلم نفاق الذين نافقوا.
أو المعنى : وليميز أعيان المؤمنين من أعيان المنافقين.
وقيل : ليكون العلم مع وجود المؤمنين والمنافقين مساوقاً للعلم الذي لم يزل ولا يزال.
وقيل : ليظهر إيمان هؤلاء ونفاق هؤلاء.
وقد تقدم تأويل مثل هذا في قوله : { لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب } وقالوا : تتعلق الآية بمحذوف أي : ولكذا فعل ذلك.
والذي يظهر أنه معطوف على قوله : بإذن الله ، عطف السبب على السبب.
ولا فرق بين الباء واللام ، فهو متعلق بما تعلقت به الباء من قوله : فهو كائن.
والذين نافقوا هنا عبد الله بن أبي وأصحابه.
{ وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا } القائل : رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل : عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري أبو جابر بن عبد الله لما انخذل عبدُ الله بن أبي في نحو ثلاثمائة تبعهم عبد الله فقال لهم : اتقوا الله ولا تتركوا نبيكم ، وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ، ونحو هذا من القول.
فقال عبد الله بن أبي : ما أرى أن يكون قتال ، ولو علمناه لكنا معكم.

فلما يئس منهم عبد الله قال : اذهبوا أعداء الله ، فسيغني الله عنكم ، ومضى حتى استشهد.
قال السدي : وابن جريج ، ومجاهد ، والحسن ، والضحاك ، والفرّاء : معناه : كثروا السواد وإن لم تقاتلوا فتدفعون القوم بالتكثير.
وقال أبو عون الأنصاري معناه : رابطوا ، وهو قريب من الأول ، لأن المرابط في الثغور دافع للعبد ، إذ لولاه لطرقها.
قال أنس : رأيت عبد الله بن أم مكتوم يوم القادسية وعليه درع بجر أطرافها ، وبيده راية سوداء ، فقيل له : أليس قد أنزل الله عذراً؟ قال : بلى ولكني أكثر المسلمين بنفسي.
وقيل : القتال بالأنفس ، والدفع بالأموال.
وقيل : المعنى أو ادفعوا حمية ، لأنه لمّا دعاهم أولاً إلى أن يقاتلوا في سبيل الله وجد عزائمهم منحلة عن ذلك ، إذ لا باعث لهم في ذلك لنفاقهم ، فاستدعى منهم أن يدفعوا عن الحوزة ، فنبه على ما يقاتل لأجله : إمّا لإعلاء الدين ، أو لحمى الذمار.
ألا ترى إلى قول قزمان : والله ما قاتلت إلا على أحساب قومي.
وقول الأنصاري وقد رأى قريشاً ترعى زرع قناة : أترعى زروع بني قيلة ولما تضارب ، مع أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن لا يقاتل أحد حتى يأمره.
وأو على بابها من أنها لأحد الشيئين.
وقيل : يحتمل أن تكون بمعنى الواو ، فطلب منهم الشيئين : القتال في سبيل الله ، والدفع عن الحريم والأهل والمال.
فكفار قريش لا تفرق بين المؤمن والمنافق في القتل والسبي والنهب ، والظاهر أن قوله : وقيل لهم ، كلام مستأنف.
قسم الأمر عليهم فيه بين أن يقاتلوا للآخرة ، أو يدفعوا عن أنفسهم وأهليهم وأموالهم.
حكى الله عنهم ما يدل على نفاقهم في هذا السؤال والجواب ، ويحتمل أن يكون قوله : وقيل لهم معطوف على نافقوا ، فيكون من الصلة.
{ قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم } إنما لم ترد بالفاء لأنه جواب لسؤال اقتضاه دعاؤهم إلى القتال كأنه قيل : فماذا قالوا؟ فقيل : قالوا لو نعلم ، ونعلمُ هنا في معنى علمنا ، لأنّ لو من القرائن التي تخلص المضارع لمعنى الماضي إذا كانت حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره ، فإذا كانت بمعنى إنْ الشرطية تخلص المضارع لمعنى الاستقبال.
ومضمون هذا الجواب أنهم علقوا الاتباع على تقدير وجود علم القتال ، وعلمهم للقتال منتف ، فانتفى الاتباع واخبارهم بانتفاء علم القتال منهم إمّا على سبيل المكابرة والمكايدة ، إذ معلوم أنه إذا خرج عسكران وتلاقيا وقد قصد أحدهما الآخر من شقة بعيدة في عدد كثير وعدد ، وخرج إليهم العسكر الآخر من بلدهم للقائهم قبل أن يصلوا بلدهم واثقين بنصر الله مقاتلين في سبيل الله ، وإن كانوا أقل من أولئك ، أنه سينشب بينهم قتال لا محالة ، فأنكروا علم ذلك رأساً لما كانوا عليه من النفاق والدغل والفرح بالاستيلاء على المؤمنين.
وإمّا على سبيل التخطئة لهم في ظنهم أن ذلك قتال في سبيل الله.

وليس كذلك ، إنما هو رمي النفوس في التهلكة ، إذ لا مقاومة لهم بحرب الكفار لكثرتهم وقلة المؤمنين ، لأن رأى عبد الله بن أبي كان في الإقامة بالمدينة وجعلها ظهراً للمؤمنين ، وما كان يستصوب الخروج كما مرّ ذكره في قصة أحد.
{ هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان } وجه الأقربية التي هي الزيادة في القرب إنهم كانوا يظهرون الإيمان ، ولم تكن تظهر لهم إمارة تدل على الكفر ، فلما انخذلوا عن المؤمنين وقالوا ما قالوا زادوا قرباً للكفر ، وتباعدوا عن الإيمان.
وقيل : هو على حذف مضاف أي : هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانخذال تقوية للمشركين.
وأقرب هنا افعل تفضيل ، وهي من القرب المقابل للبعد.
ويعدّي بإلى وباللام وبمن ، فيقال : زيد أقرب لكذا ، وإلى كذا ، ومن كذا من عمرو.
فمن الأولى ليست التي يتعدى بها افعل التفضيل مطلقاً في نحو : زيد أفضل من عمرو.
وحرفا الجر هنا يتعلقان بأقرب ، وهذا من خواص أفعل التفضيل إنه يتعلق به حرفا جر من جنس واحد ، وليس أحدهما معطوفاً على الآخر.
ولا بدلاً منه بخلاف سائر العوامل ، فإنه لا يتعلق به حرفا جر من جنس واحد إلا بالعطف ، أو على سبيل البدل.
فتقول : زيد بالنحو أبصر منه بالفقه.
والعامل في يومئذ أقرب.
ومنهم متعلق بأقرب أيضاً ، والجملة المعوض منها التنوين هي السابقة ، أي : هم قوم إذ قالوا : لو نعلم قتالاً لاتبعناكم.
وذهب بعض المفسرين فيما حكى النقاش : إلى أن أقرب ليس هو هنا المقابل للأبعد ، وإنما هو من القَرَب بفتح القاف والراء وهو المطلب ، والقارب طالب الماء ، وليلة القرب ليلة الوداد ، فاللفظة بمعنى الطلب.
ويتعين على هذا القول التعدية باللام ، ولا يجوز أن تعدّى بإلى ولا بمن التي لا تصحب كل أفعل التفضيل ، وصار نظير زيد أقرب لعمرو من بكر.
وأكثر العلماء على أن هذه الجملة تضمنت النص على كفرهم.
قال الحسن : إذا قال الله : أقرب ، فهو اليقين بأنهم مشركون.
كقوله : { مائة ألف أو يزيدون } فالزيادة لا شك فيها ، والمكلف لا ينفك عن الكفر أو الإيمان.
فلما دلت على الأقربية من الكفر لزم حصول الكفر.
وقال الواحدي في الوسيط : هذه الآية دليل على أنَّ من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر ، لأنه تعالى لم يطلق القول عليهم بتكفيرهم مع أنهم كانوا كافرين مع إظهارهم لقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله.
قال الماتريدي : أقرب أي ألزم على الكفر ، وأقبل له مع وجود الكفر منهم حقيقة ، لا على القرب إليه قبل الوقوع والوجود لقوله : { إن رحمت الله قريب من المحسنين } أي هي لهم لا على القرب قبل الوجود ، لكنهم لما كانوا أهل نفاق والكفر لم يفارق قلوبهم وما كان من إيمانهم ، كان بظاهر اللسان قد يفارقها في أكثر أوقاتهم ، وصفوا به.

ويحتمل أن يحمل على القرب من حيث كانوا شاكين في الأمر ، والشاك في أمر الكفر والإيمان تارك للإيمان ، فهو أقرب إلى الكفر.
أو من حيث قالوا للمؤمنين : { ألم نكن معكم } وللكافرين : { ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين } أو من حيث ما أظهروا من الإيمان كذب ، والكفر نفسه كذب.
فما أظهروا من الإيمان فهو كذب إلى الكذب الذي هم أقرب إليه وهو الكفر ، أو من حيث أنهم أحق به أن يعرفوا.
كما جعل الله لهم أعلاماً يعرفون بها ، أو من حيث لا يعبدون الله ولا يعرفونه ، بل هم عباد الأصنام لاتخاذهم لها أرباباً ، أو لتقرّبهم بها إلى الله ، فإذا أصابتهم شدّة فرعوا إلى الله ، والمؤمنون يرجعون إلى الله في الشدّة والرخاء.
{ يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } أي يظهرون من الإسلام ما يحقنون به دماءهم ، ويحفظون أهليهم من السبي ، وأموالهم من النهب.
وليس ما يظهرون ما تنطوي عليه ضمائرهم ، بل هو لا يتجاوز أفواههم ومخارج الحروف منها ، ولم تع قلوبهم منه شيئاً.
وذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم ، وأنَّ إيمانهم موجود في أفواههم معدوم في قلوبهم ، بخلاف إيمان المؤمنين في مواطأة عقد قلوبهم للفظ ألسنتهم.
قال ابن عطية : بأفواههم توكيد مثل : يطير بجناحيه انتهى.
ولا يظهر أنه توكيد ، إذِ القولُ ينطلق على اللساني والنفساني ، فهو مخصص لأحد الانطلاقين إلا إنْ قلنا : إنّ إطلاقه على النفساني مجاز ، فيكون إذ ذاك توكيداً لحقيقة القول.
{ والله أعلم بما يكتمون } أي من الكفر وعداوة الدين.
وقال : أعلم ، لأن علمه تعالى بهم علم إحاطة بتفاصيل ما يكتمونه وكيفياته ، ونحن نعلم بعض ذلك علماً مجملاً.
وتضمنت هذه الجملة التوعد الشديد لهم ، إذ المعنى : ترتب الجزاء على علمه تعالى بما يكتمون.
{ الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا } هذه الآية نظير قوله : { وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض } الآية وفسر الإخوان هنا بما فسر به هناك.
وتحتمل لام الجر ما احتملته في تلك ، وجوزوا في إعراب الذين وجوهاً : الرفع على النعت للذين نافقوا ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو على أنه بدل من الواو في يكتمون ، والنصب على الذم أي : أذم الذين ، والجرّ على البدل من الضمير في بأفواههم أو في قلوبهم.
والجملة من قوله : وقعدوا حالية أي : وقد قعدوا.
ووقوع الماضي حالاً في مثل هذا التركيب مصحوباً بقد ، أو بالواو ، أو بهما ، أو دونهما ، ثابت من لسان العرب بالسماع.
ومتعلق الطاعة هو ترك الخروج.
والقعود كما قعدوا هم ، وهذا منهم قول بالأجلين أي : لو وافقونا في التخلف والقعود ما قتلوا ، كما لم نقتل نحن.
وقرأ الحسن : ما قتلوا بالتشديد.
{ قل فادرؤا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } أكذبهم الله تعالى في دعواهم ذلك ، فكأنه قيل : القتل ضرب من الموت ، فإنْ كان لكم سبيل إلى دفعه عن أنفسكم بفعل اختياري فادفعوا عنها الموت ، وإن لم يكن ذلك دلّ على أنكم مبطلون في دعواكم.

والدرة : الدفع ، وتقدّمت مادته في قوله : { فادارأتم فيها } وقال دغفل النسابة :
صادف درء السيل درأ يدفعه . . .
والعبء لا تعرفه أو ترفعه
والمعنى : إنْ كنتم صادقين في دعواكم أنَّ التحيل والتحرز ينجي من الموت ، فجدّوا أنتم في دفعه ، ولن تجدوا إلى ذلك سبيلاً بل لا بد أن يتعلق بكم بعض أسباب المنون.
وهب أنكم على زعمكم دفعتم بالقعود هذا السبب الخاص ، فادفعوا سائر أسباب الموت ، وهذا لا يمكن لكم ألبتة.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فقد كانوا صادقين في أنهم دفعوا القتل عن أنفسهم بالقعود ، فما معنى قوله : إن كنتم صادقين؟ ( قلت ) : معناه أنّ النجاة من القتل يجوز أن يكون سببها القعود عن القتال ، وأن يكون غيره.
لأن أسباب النجاة كثيرة.
وقد يكون قتال الرجل نجاته ، ولو لم يقاتل لقتل ، فما يدريكم أن سبب نجاتكم القعود وإنكم صادقون في مقاتلتكم وما أنكرتم أن يكون السبب غيره؟ ووجه آخر : إن كنتم صادقين في قولكم : لو أطاعونا وقعدوا ما قتلوا ، يعني : أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين ، كما قتلوا مقاتلين.
وقوله : فادرؤا عن أنفسكم الموت ، استهزاءً بهم ، أي إن كنتم رجالاً دفاعين لأسباب الموت فادرؤا جميع أسبابه حتى لا تموتوا انتهى كلامه.
وهو حسن على طوله.
{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون } قيل : هم قتلى أحد ، وقيل : شهداء بئر معونة.
وقيل : شهداء بدر.
وهل سبب ذلك قول من استشهد وقد دخل الجنة فأكل كل من ثمارها : من يبلغ عنا إخواننا أنا في الجنة نرزق ، لا تزهدوا في الجهاد.
فقال الله : أنا أبلغ عنكم ، فنزلت.
أو قول من لم يستشهد من أولياء الشهداء : إذا أصابتهم نعمة نحن في النعمة والسرور ، وآباؤنا وأبناؤنا واخواننا في القبور ، فنزلت.
وقرأ الجمهور : ولا تحسبن بالتاء ، أي ولا تحسبن أيها السامع.
وقال الزمخشري : الخطاب لرسول صلى الله عليه وسلم ، أو لكل أحد.
وقرأ حميد بن قيس وهشام بخلاف عنه بالياء ، أي : ولا يحسبن هو ، أي : حاسب واحد.
قال ابن عطية : وأرى هذه القراءة بضم الياء ، فالمعنى : ولا يحسبن الناس انتهى.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الذين قتلوا فاعلاً ، ويكون التقدير : ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتاً ، أي : لا تحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً.
( فإن قلت ) : كيف جاز حذف المفعول الأوّل؟ ( قلت ) : هو في الأصل مبتدأ فحذف كما حذف المبتدأ في قوله : أحياء.
والمعنى : هم أحياء لدلالة الكلام عليها انتهى كلامه.
وما ذهب إليه من أن التقدير : ولا تحسبنهم الذين قتلوا أمواتاً لا يجوز ، لأنَّ فيه تقديم المضمر على مفسره ، وهو محصور في أماكن لا تتعدى وهي باب : رب بلا خلاف ، نحو : ربه رجلاً أكرمته ، وباب نعم وبئس في نحو : نعم رجلاً زيد على مذهب البصريين ، وباب التنازع على مذهب سيبويه في نحو : ضرباني وضربت الزيدين ، وضمير الأمر والشأن وهو المسمى بالمجهول عند الكوفيين نحو : هو زيد منطلق ، وباب البدل على خلاف فيه بين البصريين في نحو : مررت به زيد ، وزاد بعض أصحابنا أن يكون الظاهر المفسر خبراً للضمير ، وجعل منه قوله تعالى :

{ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدّنيا } التقدير عنده : ما الحياة إلا حياتنا الدّنيا.
وهذا الذي قدره الزمخشري ليس واحداً من هذه الأماكن المذكورة.
وأما سؤاله وجوابه فإنه قد يتمشى على رأي الجمهور في أنه : يجوز حذف أحد مفعولي ظن وأخواتها اختصاراً ، وحذف الاختصار هو لفهم المعنى ، لكنه عندهم قليل جداً.
قال أبو عليّ الفارسي : حذفه عزيز جداً ، كما أن حذف خبر كان كذلك ، وإن اختلفت جهتا القبح انتهى.
قول أبي علي.
وقد ذهب الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن ملكون الحضرمي الإشبيلي إلى منع ذلك اقتصاراً ، والحجة له وعليه مذكورة في علم النحو.
وما كان بهذه المثابة ممنوعاً عند بعضهم عزيزاً حذفه عند الجمهور ، ينبغي أن لا يحمل عليه كلام الله تعالى.
فتأويل مَن تأوّل الفاعل مضمراً يفسره المعنى ، أي : لا يحسبن هو أي أحد ، أو حاسب أولى.
وتنفق القراءتان في كون الفاعل ضميراً وإن اختلفت بالخطاب والغيبة.
وتقدم الكلام على معنى موت الشهداء وحياتهم في قوله : { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أمواتاً بل أحياء } فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وقرأ الحسن وابن عامر قتلوا بالتشديد.
وروي عن عاصم : قاتلوا.
وقرأ الجمهور : قتلوا مخففاً.
وقرأ الجمهور : بل أحياء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : بل هم أحياء.
وقرأ ابن أبي عبلة : أحياء بالنصب.
قال الزمخشري : على معنى بل أحسبهم أحياء انتهى.
وتبع في إضمار هذا الفعل الزجاج قال الزجاج : ويجوز النصب على معنى : بل أحسبهم أحياءً.
ورده عليه أبو علي الفارسي في الإغفال وقال : لا يجوز ذلك ، لأن الأمر يقين ، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة ، ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة.
فوجهُ قراءة ابن أبي عبلة أن يُضمر فعلاً غير المحسبة اعتقدهم أو اجعلهم ، وذلك ضعيف ، إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر انتهى كلام أبي علي.
وقوله : لا يجوز ذلك لأن الأمر يقين ، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة معناه : أنَّ المتيقن لا يعبر عنه بالمحسبة ، لأنها لا تكون لليقين.
وهذا الذي ذكره هو الأكثر ، وقد يقع حسب لليقين كما تقع ظن ، لكنه في ظن كثير ، وفي حسب قليل.
ومن ذلك في حسب قول الشاعر :
حسبت التقى والحمد خير تجارة . . .
رباحاً إذا ما المرء أصبح ثاقلا

وقول الآخر :
شهدت وفاتوني وكنت حسبتني . . .
فقيراً إلى أن يشهدوا وتغيبي
فلو قدر بعد : بل أحسبهم بمعنى أعلمهم ، لصحَّ لدلالة المعنى عليه ، لا لدلالة لفظ ولا تحسبن ، لاختلاف مدلوليهما.
وإذا اختلف المدلول فلا يدل أحدهما على الآخر.
وقوله : ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة غير مسلم ، لأنه إذا امتنع من حيث المعنى إضماره أضمر غيره لدلالة المعنى عليه لا اللفظ.
وقوله : أو اجعلهم ، هذا لا يصح ألبتة ، سواء كانت اجعلهم بمعنى اخلقهم ، أو صيرهم ، أو سمهم ، أو القهم.
وقوله : وذلك ضعيف أي النصب ، وقوله : إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر إن عنى من حيث اللفظ فصحيح ، وإن عنى من حيثُ المعنى فغير مسلم له ، بل المعنى يسوغ النصب على معنى اعتقدهم ، وهذا على تسليم إن حسب لا يذهب بها مذهب العلم.
ومعنى عند ربهم : بالمكانة والزلفى ، لا بالمكان.
قال ابن عطية : فيه حذف مضاف تقديره : عند كرامة ربهم ، لأن عند تقتضي غاية القرب ، ولذلك يصغر قاله سيبويه انتهى.
ويحتمل عند ربهم أن يكون خبراً ثانياً ، وصفة ، وحالاً.
وكذلك يرزقون : يجوز أن يكون خبراً ثالثاً ، وأن يكون صفة ثانية.
وقدَّم صفة الظرف على صفة الجملة ، لأن الأفصح هذا وهو : أن يقدم الظرف أو المجرور على الجملة إذا كانا وصفين ، ولأن المعنى في الوصف بالزلفى عند الله والقرب منه أشرف من الوصف بالرزق.
وأن يكون حالاً من الضمير المستكن في الظرف ، ويكون العامل فيه في الحقيقة هو العامل في الظرف.
قال ابن عطية : أخبر تعالى عن الشهداء أنهم في الجنة يرزقون ، هذا موضع الفائدة.
ولا محالة أنهم ماتوا ، وإنَّ أجسادهم في التراب ، وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين.
وفضّلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل ، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم.
فقوله : بل أحياء مقدمة لقوله : يرزقون ، إذ لا يرزق إلا حي.
وهذا كما يقول لمن ذم رجلاً.
بل هو رجل فاضل ، فتجيء باسم الجنس الذي تركب عليه الوصف بالفضل انتهى ما قاله ابن عطية.
ولا يلزم ما ذكره من أن لفظة أحياء جيء بها مجتلبة لذكر الرزق ، لكون الحياة مشتركاً فيها الشهيد والمؤمنون ، لأنه يجوز أن يكون هذا الإخبار بحياة الشهداء متقدماً على الإخبار بأن أرواح المؤمنين على العموم حية فاستفيد ، أو لا حياة أرواح الشهداء ، ثم جاء بعد الإخبار بحياة أرواح المؤمنين.
وأيضاً ففي ذكره النص على نقيض ما حسبوه وهو : كون الشهداء أمواتاً.
والبعد عن أن يراد بقوله : يرزقون ، ما يحتمله المضارع من الاستقبال.
فإذا سبقه ما يدل على الالتباس بالوصف حالة الإخبار كان حكم ما بعده حكمه ، إذ الأصل في الإخبار أن يكونَ من أسندت إليه متصفاً بذلك في الحال ، إلا إن دلت قرينة على مضي أو استقبال من لفظ أو معنى ، فيصار إليه.

{ فرحين بما آتاهم الله من فضله } أي مسرورين بما أعطاهم الله من قربه ، ودخول جنته ، ورزقهم فيها ، إلى سائر ما أكرمهم به ، ولا تعارض بين : فرحين ، وبين { إن الله لا يحب الفرحين } في قصة قارون.
لأنّ ذاك بالملاذ الدنيوية ، وهذا بالملاذ الأخروية.
ولذلك جاء قلْ بفضل الله وبرحمته ، فبذلك فليفرحوا وجاء : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون }
ومن يحتمل أن تكون للسبب ، أي : ما آتاهم الله متسبب عن فضله ، فتتعلق الباء بآتاهم.
ويحتمل أن تكون للتبعيض ، فتكون في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد على ما ، أي : بما آتاهموه الله كائناً من فضله.
ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية ، فتتعلق بآتاهم.
وجوّزوا في فرحين أن يكون حالاً من الضمير في يرزقون ، أو من الضمير في الظرف ، أو من الضمير في أحياء ، وأن يكون صفة لأحياء إذا نصب.
{ ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } وهم : جميع المؤمنين ، أي : يحصل لهم البشرى بانتفاء الخوف والحزن عن إخوانهم المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم في الشهادة ، فهم فرحون بما حصل لهم ، مستبشرون بما يحصل لإخوانهم المؤمنين قاله : الزجاج وابن فورك وغيرهما.
وقال قتادة وابن جريج والربيع وغيرهم : هم الشهداء الذين يأتونهم بعد من إخوانهم المؤمنين الذين تركوهم يجاهدون فيستشهدون ، فرحوا لأنفسهم ولمن يلحق بهم من الشهداء ، إذ يصيرون إلى ما صاروا إليه من كرامة الله تعالى.
قال ابن عطية : وليست استفعل في هذا الموضع بمعنى طلب البشارة ، بل هي بمعنى استغنى الله واستمجد المرخ والعفار.
انتهى كلامه.
أما قوله : ليست بمعنى طلب البشارة فصحيح ، وأما قوله : بل هي بمعنى استغنى الله واستمجد المرخ والعفار ، فيعني أنها تكون بمعنى الفعل المجرد كاستغنى بمعنى غني ، واستمجد بمعنى مجد ، ونقل أنه يقال : بشِر الرجل بكسر الشين ، فيكون استبشر بمعناه.
ولا يتعين هذا المعنى ، بل يجوز أن يكون مطاوعاً لأفعل ، وهو الأظهر أي : أبشره الله فاستبشر ، كقولهم : أكانه فاستكان ، وأشلاه فاستشلى ، وأراحه فاستراح ، وأحكمه فاستحكم ، وأكنه فاستكنّ ، وأمرّه فاستمرّ ، وهو كثير.
وإنما كان هذا الأظهر هنا ، لأنه من حيث المطاوعة يكون منفعلاً عن غيره ، فحصلت له البشرى بابشار الله له بذلك.
ولا يلزم هذا المعنى إذا كان بمعنى المجرد ، لأنه لا يدل على المطاوعة.
ومعنى : من خلفهم ، قد بقوا بعدهم ، وهم قد تقدّموهم إذا كان المعنى بالذين لم يلحقوا الشهداء ، وإن كان المعنيّ بهم المؤمنين فمعنى لم يلحقوا بهم أي : لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم.
{ أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } وجوزوا في إعراب ويستبشرون أن يكون معطوفاً على فرحين ومستبشرين كقوله : { صافات ويقبضن } أي قابضات وأن يكون على إضمارهم.
والواو للحال ، فتكون حالية من الضمير في فرحين ، أو من ضمير المفعولين في آتاهم ، أو للعطف.

ويكون مستأنفاً من باب عطف الجملة الاسمية أو الفعلية على نظيرها.
وإن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف ضمير الشأن ، وخبرها الجملة المنفية بلا.
وإن ما بعدها في تأويل مصدر مجرور على أنه بدل اشتمال من الذين ، فيكون هو المستبشر به في الحقيقة.
أو منصوب على أنه مفعول من أجله ، فيكون علة للاستبشار ، والمستبشر به غيره.
التقدير : لأنه لا خوف عليهم.
والذوات لا يستبشر بها فلا بد من تقدير مضاف مناسب ، وتقدّم تفسير : لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فأغني عن إعادته.
وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على ازدياد الطاعة ، والجد في الجهاد ، والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم ، وإحماد لحال من يرى نفسه في خير فيمتنى مثله لإخوانه في الله ، وبشرى للمؤمنين بالفوز في المآب قاله : الزمخشري.
وهو كلام حسن.
قيل : وتضمنت هذه الآيات من ضروب البديع ، الطباق في قوله : لقد منّ الله الآية ، إذ التقدير منّ الله عليهم بالهداية ، فيكون في هذا المقدّر.
وفي قوله : في ضلال مبين ، وفي : يقولون بأفواههم ، والقول ظاهر ويكتمون.
وفي قالوا لإخوانهم وقعدوا ، إذ التقدير حين خرجوا وقعدوا هم.
وفي : أمواتاً بل أحياء وفي : فرحين ويحزنون.
والتكرار في : وليعلم المؤمنين ، وليعلم الذين نافقوا الاختلاف متعلق العلم.
وفي فرحين ويستبشرون.
والتجنيس المغاير في : أصابتكم مصيبة ، والمماثل في : أصابتكم قد أصبتم.
والاستفهام الذي يراد به الإنكار في : أو لما أصابتكم.
والاحتجاج النظري في : قل فادرأوا عن أنفسكم.
والتأكيد في : ولا هم يحزنون.
والحذف في عدة مواضع لا يتم المعنى إلا بتقديرها.

يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

الحظ النصيب ، وإذا لم يقيد فإنما يستعمل في الخير.
ماز و ميز : فصل الشيء من الشيء.
قال يعقوب : هما لغتان بمعنى واحد انتهى.
والتضعيف ليس للنقل.
وقيل : التشديد أقرب إلى الفخامة وأكثر في الاستعمال ، ألا ترى أنهم استعملوا المصدر على نية التشديد فقالوا : التمييز ، ولم يقولوا الميز انتهى.
ويعني : ولم تقولوه مسموعاً ، وأما بطريق القياس فيقال.
وقيل : لا يكون ما زالا في كثير من كثير ، فأما واحد من واحد فيتميز على معنى يعزل ، ولهذا قال أبو معاذ : يقال : ميزت بين شيئين ، ومزت بين الأشياء.
اجتبى : اختار واصطفى ، وهي من جبيت الماء ، والمال وجبوتهما فاجتبى ، افتعل منه.
فيحتمل أن تكون اللام واو أو ياء.
{ يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } كرر الفعل على سبيل التوكيد ، إن كانت النعمة والفضل بياناً لمتعلق الاستبشار الأول ، قاله : الزمخشري.
قال : وكرّر يستبشرون ليعلق به ما هو بيان لقوله : { أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } من ذكر النعمة والفضل ، وأن ذلك أجر لهم على إيمانهم ، يجب في عدل الله وحكمته أن يحصل لهم ولا يضيع انتهى.
وهو على طريقة الاعتزال ، في ذكره وجوب الأجر وتحصيله على إيمانهم.
وسلك ابن عطية طريقة أهل السنة فقال : أكد استبشارهم بقوله : يستبشرون ، ثم بين بقوله : وفضل إدخالهم الجنة الذي هو فضل منه ، لا بعمل أحد ، وأما النعمة في الجنة والدرجات فقد أخبر أنها على قدر الأعمال انتهى.
وقال غيرهما : هو بدل من الأول ، فلذلك لم يدخل عليه واو العطف.
ومن ذهب إلى أنّ الجملة حال من الضمير في يحزنون ، ويحزنون هو العامل فيها ، فبعيد عن الصواب.
لأن الظاهر اختلاف المنفى عنه الحزن والمستبشر ، ولأن الحال قيد ، والحزن ليس بمقيد.
والظاهر أنَّ قوله : يستبشرون ليس بتأكيد للأول ، بل هو استئناف متعلق بهم أنفسهم ، لا بالذين لم يلحقوا بهم.
فقد اختلف متعلق الفعلين ، فلا تأكيد لأن هذا المستبشر به هو لهم ، وهو : نعمة الله عليهم وفضله.
وفي التنكير دلالة على بعض غير معين ، وإشارة إلى إبهام المراد تعظيماً لأمره وتنبيهاً على صعوبة إدراكه ، كما جاء فيها « ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر » والظاهر تباين النعمة والفضل للعطف ، ويناسب شرحهما أن ينزل على قوله : { للذين أحسنوا الحسنى } وزيادة فالحسنى هي النعمة ، والزيادة هي الفضل لقرينة قوله : أحسنوا وقوله { للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم }
وقال الزجاج : النعمة هي الجزاء والفضل زائد عليه قدر الجزاء.
وقيل : النعمة قدر الكفاية ، والفضل المضاعف عليها مع مضاعفة السرور بها واللذة.
وقيل : الفضل داخل في النعمة دلالة على اتساعها ، وأنها ليست كنعم الدنيا.

وقرأ الكسائي وجماعة : وإن الله بكسر الهمزة على الاستئناف ويؤيده قراءة عبد الله ومصحفه : والله لا يضيع أجر.
وقال الزمخشري : وعلى أن الجملة اعتراض ، وهي قراءة الكسائي انتهى.
وليست الجملة هنا اعتراضاً لأنها لم تدخل بين شيئين أحدهما يتعلق بالآخر ، وإنما جاءت لاستئناف أخبار.
وقرأ باقي السبعة والجمهور : بفتح الهمزة عطفاً على متعلق الاستبشار ، فهو داخل فيه.
قال أبو علي : يستبشرون بتوفير ذلك عليهم ، ووصوله إليهم ، لأنه إذا لم يضعه وصل إليهم ولم يبخسوه.
ولا يصح الاستبشار بأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ، لأن الاستبشار إنما يكون بما لم يتقدم به علم ، وقد علموا قبل موتهم إن الله لا يضيع أجر المؤمنين ، فهم يستبشرون بأن الله ما أضاع أجورهم حتى اختصهم بالشهادة ومنحهم أتم النعمة ، وختم لهم بالنجاة والفوز ، وقد كانوا يخشون على إيمانهم ، ويخافون سوء الخاتمة المحبطة للأعمال ، فلما رأوا ما للمؤمنين عند الله من السعادة وما اختصهم به من حسن الخاتمة التي تصحّ معها الأجور وتضاعف الأعمال ، استبشروا ، لأنهم كانوا على وجل من ذلك انتهى كلامه.
وفيه تطويل شبيه بالخطابة.
قيل : ويجوز أن يكون الاستبشار لمن خلفوه بعدهم من المؤمنين لما عاينوا منزلتهم عند الله.
{ الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم } قيل : الاستجابة كانت أثر الانصراف من أحدٍ.
استنفر الرسول لطلب الكفار ، فاستجاب له تسعون.
وذلك لمّا ذكر للرّسول أنّ أبا سفيان في جمع كثير ، فأبى الرسول إلا أن يطلبهم ، فسبقه أبو سفيان ودخل مكة فنزلت ، قاله : عمرو بن دينار.
وفي ذكر هذا السبب اختلاف في مواضع.
وقيل : الاستجابة كانت من العام القابل بعد قصة أحد ، حيث تواعد أبو سفيان ورسول الله صلى الله عليه وسلم موسم بدر ، فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان فارعب ، وبدا له الرّجوع وقال لنعيم بن مسعود : واعدت محمداً وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى ، وهو عام جدب لا يصلح لنا ، فثبطتهم عنا واعلمهم أنا في جمع كثير ففعل ، وخوفهم ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه وأقاموا ببدر ينتظرون أبا سفيان فنزلت.
قال معناه : مجاهد وعكرمة.
وقيل : لما كان الثاني من أحد وهو يوم الأحد ، نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس باتباع المشركين ، وقال : « لا يخرجن معنا إلا من شاهدنا بالأمس » وكانت بالناس جراحة وقرح عظيم ، ولكن تجلدوا ، ونهض معه مائتا رجل من المؤمنين حتى بلغ حمراء الأسد وهي : على ثمانية أميال من المدينة وأقام بها ثلاثة أيام ، وجرت قصة معبد بن أبي معبد ، وقد ذكرت ومرّت قريش ، فانصرف الرسول إلى المدينة فنزلت.
وروى أنه خرج أخوان وبهما جراحة شديدة ، وضعف أحدهما فكان أخوه يحمله عقبة ويمشي هو عقبة ، ولما لم تتم استجابة العبد لله إلا باستجابته للرسول جمع بينهما ، لأنّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

قيل : والاستجابتان مختلفتان ، فإنهما بالنسبة إلى الله بالتوحيد والعبادة ، وللرّسول بتلقي الرّسالة منه والنصيحة له.
والظاهر أنها استجابة واحدة ، وهو إجابتهم له حين انتدبهم لاتباع الكفار على ما نقل في سبب النزول.
والإحسان هنا ما هو زائد على الإيمان من الاتصاف بما يستحب مع الاتصاف بما يجب.
والظاهر إعراب الذين مبتدأ ، والجملة بعده الخبر.
وجوزوا الاتباع نعتاً ، أو بدلاً ، والقطع إلى الرفع والنصب.
ومن في منهم قال الزمخشري : للتبيين مثلها في قوله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً } لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا ، إلا بعضهم.
وعن عروة بن الزبير قالت لي عائشة : أن أبويك لممن استجابوا لله والرسول تعني : أبا بكر والزبير انتهى.
وقال أبو البقاء : منهم حال من الضمير في أحسنوا ، فعلى هذا تكون من للتبعيض وهو قول من لا يرى أن من تكون لبيان الجنس.
{ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } قيل : أريد بالناس الأول أبو نعيم بن مسعود الأشجعي ، وهو قول : ابن قتيبة ، وضعفه ابن عطية.
وبالثاني : أبو سفيان.
وتقدّم ذكر قصة نعيم وذكرها المفسرون مطولة ، وفيها : أنَّ أبا سفيان جعل له جعلاً على تثبيط الصحابة عن بدر الصغرى وذلك عشرة من الإبل ضمنها له سهيل بن عمرو ، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفزع الناس وخوفهم اللقاء ، فقال الرسول الله صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي » فأما الجبان فرجع ، وأما الشجاع فتجهز للقتال وقال : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فوافى بدراً الصغرى فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون : قد جمعوا لكم ، وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام ، فأقام ببدر ينتظر أبا سفيان ، وقد انصرف أبو سفيان من مجنة إلى مكة ، فسمى أهل مكة حسبة جيش السويق قالوا : إنما خرجتم لتشربوا السويق.
وكانت مع الصحابة تجارات ونفقات ، فباعوا وأصابوا للدّرهم درهمين ، وانصرفوا إلى المدينة غانمين ، وحسبها الرسول لهم غزوة ، وظفر في وجهة ذلك بمعاوية بن المغيرة بن العاص وأبي غزة الجمحي فقتلهما.
فعلى هذا القول أن المثبط أبو نعيم وحده ، وأطلق عليه الناس على سبيل المجاز ، لأنه من جنس الناس كما يقال : فلان يركب الخيل ، ويلبس البرود ، وما له إلا فرس واحد ، وبرد واحد ، قاله الزمخشري.
وقال أيضاً : ولأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامّونه ويصلون جناح كلامه ، ويثبطون مثل تثبيطه انتهى.
ولا يجيء هذا على تقدير السؤال وهو : أن نعيماً وحده هو المثبط ، لأنه قد انضاف إليه ناس ، فلا يكون إذ ذاك منفرداً بالتثبيط.

وقيل : الناس الأول ركب من عبد القيس مرّوا على أبي سفيان يريدون المدينة للميرة ، فجعل لهم جعلاً وهو حمل إبلهم زبيباً على أن يخبروا أنه جمع ليستأصل بقية المؤمنين ، فأخبروا بذلك ، فقال الرسول وأصحابه وهم إذ ذاك بحمراء الأسد : { حسبنا الله ونعم الوكيل } والناس الثاني قريش ، وهذا القول أقرب إلى مدلول اللفظ.
وجوزوا في إعراب الذين قال : أوجه الذين قبله ، والفاعل بزاد ضمير مستكن يعود على المصدر المفهوم من قال أي : فزادهم ذلك القول إيماناً.
وأجاز الزمخشري أن يعود إلى القول ، وأن يعود إلى الناس إذا أريد به نعيم وحده.
وهما ضعيفان ، من حيث أن الأول لا يزيد إيماناً إلا بالنطق به ، لا هو في نفسه.
ومن حيثُ أنَّ الثاني إذا أطلق على المفرد لفظ الجمع مجازاً فإن الضمائر تجزي على ذلك الجمع ، لا على المفرد.
فيقول : مفارقه شاب ، باعتبار الإخبار عن الجمع ، ولا يجوز مفارقه شاب ، باعتبار مفرقه شاب.
وظاهر اللفظ أن الإيمان يزيد ، ومعناه هنا : أنَّ ذلك القول زادهم تثبيتاً واستعداداً ، فزيادة الإيمان على هذا هي في الأعمال.
وقد اختلف العلماء في ذلك ، فقال قوم : يزيد وينقص باعتبار الطاعات ، لأنها من ثمرات الإيمان ، وينقص بالمعصية وهو : مذهب مالك ونسب للشافعي.
وقال قوم : من جهة أعمال القلوب كالنية والإخلاص والخوف والنصيحة.
وقال قوم : من طريق الأدلة وكثرتها وتظافرها على معتقد واحد.
وقال قوم : من طريق نزول الفرائض والإخبار في مدة الرسول.
وقال قوم : لا يقبل الزيادة والنقص ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وحكاه الباقلاني عن الشافعي.
وقال أبو المعالي في الإرشاد : زيادته من حيث ثبوته وتعاوره دائماً ، لأنه عرض لا يثبت زمانين ، فهو للصالح متعاقب متوال ، وللفاسق والغافل غير متوال ، فهذا معنى الزيادة والنقص.
وذهب قوم : إلى ما نطق به النص ، وهو أنه يزيد ولا ينقص ، وهو مذهب المعتزلة.
وروى شبهه عن ابن المبارك.
والذي يظهر أن الإيمان إذا أريد به التصديق فيعلق بشيء واحد : أنه تستحيل فيه الزيادة والنقص ، فإنما ذلك بحسب متعلقاته دون ذاته ، وحجج هذه الأقوال مذكورة في المصنفات التي تضمنت هذه المسألة ، وقد أفردها بعض العلماء بالتصنيف في كتاب.
ولما تقدّم من المثبطين إخبار بأنّ قريشاً قد جمعوا لكم ، وأمر منهم لهم بخشيتهم لهذا الجمع الذي جمعوه ، ترتب على هذا القول شيئان : أحدهما : قلبي وهو زيادة الإيمان ، وهو مقابل للأمر بالخشية.
فأخبر بحصول طمأنينة في القلب تقابل الخشية ، وأخبر بعد بما يقابل جمع الناس وهو : إنّ كافيهم شر الناس هو الله تعالى ، ثم أثنوا عليه تعالى بقوله : ونعم الوكيل ، فدلّ على أنّ قولهم : حسبنا الله هو من المبالغة في التوكل عليه ، وربط أمورهم به تعالى.

فانظر إلى براعة هذا الكلام وبلاغته ، حيث قوبل قول بقول ، ومتعلق قلب بمتعلق قلب.
وتقدّم الكلام في حسب في قوله : { فحسبه جهنم } ومن قولهم : أحسبه الشيء كفاه.
وحسب بمعنى المحسب ، أي الكافي ، أطلق ويراد به معنى اسم الفاعل.
ألا ترى أنه يوصف به فتقول : مررت برجل حسبك من رجل ، أي : كافيك.
فتصف به النكرة ، إذ إضافته غير محضة ، لكونه في معنى اسم الفاعل غير الماضي المجرد من أل.
وقال :
وحسبك من غنى شبع وريّ . . .
أي كافيك.
والوكيل : فعيل بمعنى مفعول ، أي الموكول إليه الأمور.
قيل : وهذه الحسبلة هي قول ابراهيم عليه السلام حين ألقي في النار.
والمخصوص بالمدح محذوف لفهم المعنى ، التقدير : ونعم الوكيل الله.
قال ابن الأنباري : الوكيل الرّب قاله : قوم انتهى.
والمعنى : أنه من أسماء صفاته تعالى كما تقول : القهار هو الله.
وقيل : هو بمعنى الولي والحفيظ ، وهو راجع إلى معنى الموكول إليه الأمور.
قال الفرّاء : والوكيل الكفيل { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم } أي : فرجعوا من بدر مصحوبين بنعمة من الله وهي : السلامة وحذر العدوّ إياهم ، وفضل : وهو الربح في التجارة.
كقوله : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } هذا الذي اختاره الزمخشري في تفسير هذا الانقلاب ، ولم يذكر غيره ، وهو قول مجاهد.
قال ابن عطية : والجمهور على أن معنى هذه الآية فانقلبوا بنعمة ، يريد : في السلامة والظهور ، وفي اتباع العدو ، وحماية الحوزة ، وبفضل في الأجر الذي حازوه ، والفخر الذي تخللوه ، وأنها في غزوة أحد في الخرجة إلى حمراء الأسد.
وشذ مجاهد وقال : في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر الصغرى ، وذكر قصة نعيم وأبي سفيان.
قال : والصواب ما قاله الجمهور : إن هذه الآية نزلت في غزوة حمراء الأسد ، انتهى كلامه.
والكلام في هذه الآية مبني على الخلاف في قوله : { الذين استجابوا لله والرّسول } وقد تقدّم ذكره عند ذكر تفسيرها.
وفرق بعضهم بين الانقلاب والرجوع ، بأن الانقلاب صيرورة الشيء إلى خلاف ما كان عليه.
قال : ويوضح هذا أنك تقول : انقلبت الخمر خلاًّ ، ولا تقول : رجعت الخمر خلاًّ انتهى كلامه ، وفي ذلك نظر.
وقيل : النعمة الأجر قاله : مجاهد.
وقيل : العافية والنصر.
قاله : الزجاج.
قيل : والفضل ربح التجارة قاله : مجاهد ، والسدي ، والزهري.
وتقدّم حكاية هذا القول عن مجاهد.
وقيل : أصابوا سرية بالصفراء فرزقوا منها قاله : مقاتل.
وقيل : الثواب ذكره الماوردي.
والجملة من قوله : لم يمسسهم سوء في موضع الحال ، أي سالمين.
وبنعمة حال أيضاً ، لأن الباء فيه باء المصاحبة ، أي : انقلبوا متنعمين سالمين.
والجملة الحالية المنفية بلم المشتملة على ضمير ذي الحال ، يجوز دخول الواو عليها ، وعدم دخولها.
فمن الأوّل قوله تعالى : { أو قال أوحي إليّ }

ولم يوح إليه شيء ، وقول الشاعر :
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم . . .
أذنب وإن كثرت فيّ الأقاويل
ومن الثاني قوله تعالى : { وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً } وقول قيس بن الأسلت :
واضرب القوس يوم الوغى . . .
بالسيف لم يقصر به باعي
ووهم الأستاذ أبو الحسن بن خروف في ذلك فزعم : أنها إذا كانت الجملة ماضية معنى لا لفظاً احتاجت إلى الواو كان فيها ضميراً ، ولم يكن فيها.
والمستعمل في لسان العرب ما ذكرناه.
واتباعهم رضوان الله هو بخروجهم إلى العدو ، وجراءتهم ، وطواعيتهم للرسول صلى الله عليه وسلم.
وختمها بقوله : والله ذو فضل عظيم ، مناسب لقوله : { بنعمة من الله وفضل } تفضل عليهم بالتيسير والتوفيق في ما فعلوه ، وفي ذلك تحسير لمن تخلف عن الخروج حيث حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء من الثواب في الآخرة والثناء الجميل في الدنيا.
وروي أنهم قالوا : هل يكون هذا غزواً؟ فأعطاهم الله تعالى ثواب الغزو ، ورضي عنهم.
وهذه عاقبة تفويض أمرهم إليه تعالى ، جازاهم بنعمته ، وفضله ، وسلامتهم واتباعهم رضاه.
{ إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } ما : هي الكافة لأنَّ عن العمل.
وهي التي يزعم معظم أهل أصول الفقه أنّها إذا لم تكن موصولة أفادت مع أنَّ الحصر.
وذلكم : إشارة إلى الركب المثبط.
وقيل : المراد بالشيطان نعيم بن مسعود ، أو أبو سفيان.
فعلى هذا الأقوال تكون الإشارة إلى أعيان.
وقيل : ذلكم إشارة إلى جميع ما جرى من أخبار الركب العبديين عن رسالة أبي سفيان ، وتحميل أبي سفيان ذلك الكلام ، وجزع من جزع منه من مؤمن أو متردّد.
فعلى هذا تكون الإشارة إلى معانٍ ، ولا بد إذ ذاك من تقدير مضاف محذوف تقديره : إنما ذلكم فعل الشيطان.
وقدّره الزمخشري قول الشيطان ، أي قول إبليس.
فتكون الإشارة على هذا التقدير إلى القول السابق وهو : أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم.
وعلى هذه الأقوال كلها فالخبر عن المبتدأ الذي هو ذلكم بالشيطان هو مجاز ، لأن الأعيان ليست من نفس الشيطان ، ولا ما جرى من قول فقط ، أو من قول ، وما انضم إليه مما صدر من العدوّ من تخويف ، وما صدر من جزع ، ليس نفس قول الشيطان ولا فعله ، وإنما نسب إليه وأضيف ، لأنه ناشىء عن وسوسته وإغوائه وإلقائه.
والتشديد في يخوّف للنقل ، كان قبله يتعدّى لواحد ، فلما ضعف صار يتعدّى لاثنين.
وهو من الأفعال التي يجوز حذف مفعوليها ، وأحدهما اقتصار أو اختصار ، أو هنا تعدّى إلى واحد ، والآخر محذوف.
فيجوز أن يكون الأوّل ويكون التقدير : يخوفكم أولياء ، أي شر أوليائه في هذا الوجه.
لأن الذوات لا تخاف ، ويكون المخوفون إذ ذاك المؤمنين ، ويجوز أن يكون المحذوف المفعول الثاني ، أي : يخوّف أولياءه شرّ الكفار ، ويكون أولياءه في هذا الوجه هم المنافقون ، ومَن في قلبه مرض المتخلفون عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي : أنه لا يتعدّى تخويفه المنافقين ، ولا يصل إليكم تخويفه.

وعلى الوجه الأوّل يكون أولياءه هم الكفار : أبو سفيان ومن معه.
ويدل على هذا الوجه قراءة ابن مسعود وابن عباس يخوفكم أولياءه ، إذ ظهر فيها أن المحذوف هو المفعول الأوّل.
وقرأ أبيّ والنخعي : يخوفكم بأوليائه ، فيجوز أن تكون الباء زائدة مثلها في يقرأن بالسور ، ويكون المفعول الثاني هو بأوليائه ، أي : أولياءه ، كقراءة الجمهور.
ويجوز أن تكون الباء للسبب ، ويكون مفعول يخوّف الثاني محذوفاً أي : يخوّفكم الشرّ بأوليائه ، فيكونون آلة للتخويف.
وقد حمل بعض المعربين قراءة الجمهور يخوف أولياءه على أن التقدير : بأوليائه ، فيكون إذ ذاك قد حذف مفعولاً يخوف لدلالة ، المعنى على الحذف ، والتقدير : يخوفكم الشرّ بأوليائه ، وهذا بعيد.
والأحسن في الإعراب أن يكون ذلكم مبتدأ ، والشيطان خبره ، ويخوف جملة حالية ، يدل على أن هذه الجملة حال مجيء المفرد منصوباً على الحال مكانها نحو قوله تعالى : { فتلك بيوتهم خاوية } { وهذا بعلي شيخاً } وأجاز أبو البقاء أن يكون الشيطان بدلاً أو عطف بيان ، ويكون يخوف خبراً عن ذلكم.
وقال الزمخشري : الشيطان خبر ذلكم ، بمعنى : إنما ذلكم المثبط هو الشيطان ، ويخوّف أولياءه جملة مستأنفة بيان لتثبيطه ، أو الشيطان صفة لاسم الإشارة ، ويخوف الخبر.
والمراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان انتهى كلامه.
فعلى هذا القول تكون الجملة لا موضع لها من الإعراب.
وإنما قال : والمراد بالشيطان نعيم ، أو أبو سفيان ، لأنه لا يكون صفة ، والمراد به إبليس.
لأنه إذا أريد به إبليس كان إذ ذاك علماً بالغلبة ، إذ أصله صفة كالعيوق ، ثم غلب على إبليس ، كما غلب العيوق على النجم الذي ينطلق عليه.
وقال ابن عطية : وذلكم في الإعراب ابتداء ، والشيطان مبتدأ آخر ، ويخوف أولياءه خبر عن الشيطان ، والجملة خبر الابتداء الأوّل.
وهذا الإعراب خبر في تناسق المعنى من أن يكون الشيطان خبر ذلكم ، لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة انتهى.
وهذا الذي اختاره إعراب لا يجوز ، إن كان الضمير في أولياءه عائداً على الشيطان ، لأن الجملة الواقعة خبراً عن ذلكم ليس فيها رابط يربطها بقوله : ذلكم ، وليست نفس المبتدأ في المعنى نحو قولهم : هجيري أبي بكر لا إله إلا الله ، وإنْ كان عائداً على ذلكم ، ويكون ذلك عن الشيطان جاز ، وصار نظير : إنما هند زيد يضرب غلامها والمعنى : إذ ذاك ، إنما ذلكم الركب ، أو أبو سفيان الشيطان يخوفكم أولياءه ، أي : أولياء الركب ، أو أبي سفيان.
والضمير المنصوب في تخافوهم الظاهر عوده على أولياءه ، هذا إذا كان المراد بقوله : أولياءه كفار قريش ، وغيرهم من أولياء الشيطان.
وإن كان المراد به المنافقين ، فيكون عائداً على الناس من قوله : { إن الناس قد جمعوا لكم } قوى نفوس المسلمين فنهاهم عن خوف أولياء الشيطان ، وأمر بخوفه تعالى ، وعلق ذلك على الإيمان.

أي إنَّ وصف الإيمان يناسب أن لا يخاف المؤمن إلا الله كقوله : { ولا يخشون أحداً إلا الله } وأبرز هذا الشرط في صفة الإمكان ، وإن كان واقعاً إذ هم متصفون بالإيمان ، كما تقول : إن كنت رجلاً فافعل كذا.
وأثبت أبو عمرو ياء وخافون وهي ضمير المفعول ، والأصل الإثبات.
ويجوز حذفها للوقف على نون الوقاية بالسكون ، فتذهب الدلالة على المحذوف { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً } لما نهى المؤمنين عن خوف أولياء الشيطان ، وأمرهم بخوفه وحده تعالى ، نهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن الحزن لمسارعة من سارع في الكفر.
والمعنى : لا يتوقع حزناً ولا ضرراً منهم ، ولذلك علله بقوله : إنهم لن يضروا الله شيئاً ، أي : لن يضروا نبي الله والمؤمنين.
والمنفي هنا ضرر خاص ، وهو إبطال الإسلام وكيده حتى يضمحلّ ، فهذا لن يقع أبداً ، بل أمرهم يضمحل ويعلو أمرك عليهم.
قيل : نزلت في المنافقين.
وقيل : نزلت في قوم ارتدوا.
وقيل : المراد كفار قريش.
وقيل : رؤساء اليهود.
والأولى حمله على العموم كقوله : { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } وقيل : مثير الحزن وهو شفقته صلى الله عليه وسلم ، وإيثاره إسلامهم حتى ينقذهم من النار ، فنهى عن المبالغة في ذلك كقوله تعالى : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } وقوله : { لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين } وهذا من فرط رحمته للناس ، ورأفته بهم.
وقرأ نافع : يحزنك من أحزن ، وكذا حيث وقع المضارع ، إلا في لا يحزنهم الفزع الأكبر ، فقرأه من حزن كقراءة الجماعة في جميع القرآن.
يقال : حزن الرّجل أصابه الحزن ، وحزنته جعلت فيه ذلك ، وأحزنته جعلته حزيناً.
وقرأ النحوي : يسرعون من أسرع في جميع القرآن.
قال ابن عطية : وقراءة الجماعة أبلغ ، لأن من يسارع غيره أشد اجتهاداً من الذي يسرع وحده.
وفي ضمن قوله : إنهم لن يضروا الله شيئاً دلالة على أنَّ وبال ذلك عائد عليهم ، ولا يضرون إلا أنفسهم.
وانتصب شيئاً على المصدر ، أي شيئاً من الضرر.
وقيل : انتصابه على إسقاط حرف الجر أي شيء { يريد الله أن لا يجعل لهم حظاً في الآخرة ولهم عذاب عظيم } بين تعالى أنَّ ما هم عليه من المسارعة في الكفر هو بإرادة الله تعالى ، أنهم لا يهديهم إلى الإيمان ، فيكون لهم نصيب من نعيم الآخرة.
فهذه تسلية منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في ترك الحرب ، لأن مراد الله منهم هو ما هم عليه ، ولهم بدل النعيم عذاب عظيم.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : هل قيل : لا يجعل الله لهم حظاً في الآخرة ، وأي فائدة في ذكر الإرادة؟ ( قلت ) : فائدته الإشعار بأن الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم قد خلص خلوصاً لم يبق معه صارف قط ، حين يسارعون في الكفر تنبيهاً على تماديهم في الطغيان وبلوغهم الغاية فيه ، حتى أن أرحم الراحمين يريد أن لا يرحمهم انتهى.

وفيه دسيسة اعتزال لأنه استشعر أن إرادته تعالى أن لا يجعل لهم حظاً في الآخرة موجبة ، أن سبب ذلك هو مريد له تعالى وهو : الكفر.
ومن مذهبه أنه تعالى لا يريد الكفر ولا يشاؤه ، فتأول تعلق إرادته بانتفاء حظهم من الآخرة بتعلقها بانتفاء رحمته لهم لفرط كفرهم.
ونقل الماوردي في يريد ثلاثة أقوال : أحدها : أنه يحكم بذلك.
والثاني : يريد في الآخرة أن يحرمهم ثوابهم لإحباط أعمالهم بكفرهم.
والثالث : يريد يحبط أعمالهم بما استحقوه من ذنوبهم قاله : ابن إسحاق.
{ إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئاً ولهم عذاب أليم } هذا عام في الكفار كلهم.
وقوله : { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } كان عاماً ، فكرر هذا على سبيل التوكيد وإن كان خاصاً بالمنافقين أو المرتدين أو كفار قريش ، فيكون ليس تكريراً على سبيل التأكيد ، بل حكم على العام بأنهم لن يضروا الله شيئاً.
ويندرج فيه ذلك الخاص أيضاً ، فيكون الحكم في حقهم على سبيل التأكيد ، ويكون قد جمع للخاص العذاب بنوعية من العظم والألم ، وهو أبلغ في حقهم في العذاب.
وجعل ذلك اشتراء.
من حيث تمكنهم من قبول الخير والشر ، فآثروا الكفر على الإيمان.
{ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } معنى نملي : نمهل ونمد في العمر.
والملاءة المدة من الدهر ، والملوان الليل والنهار.
ويقال : ملاك الله نعمته ، أي منحكها عمراً طويلاً ، وقرأ حمزة تحسبنّ بتاء الخطاب ، فيكون الذين كفروا مفعولاً أول.
ولا يجوز أن يكون : إنما نملي لهم خير ، في موضع المفعول الثاني ، لأنه ينسبك منه مصدر المفعول الثاني في هذا الباب هو الأول من حيث المعنى ، والمصدر لا يكون الذات ، فخرج ذلك على حذف مضاف من الأول أي : ولا تحسبن شأن الذين كفروا.
أو من الثاني أي : ولا تحسبن الذين كفروا أصحاب ، أنَّ الإملاء خير لأنفسهم حتى يصح كون الثاني هو الأول.
وخرجه الأستاذ أبو الحسن بن الباذش والزمخشري : على أن يكون إنما نملي لهم خير لأنفسهم بدل من الذين.
قال ابن الباذش : ويكون المفعول الثاني حذف لدلالة الكلام عليه ، ويكون التقدير : ولا تحسبن الذين كفروا خيرية إملائنا لهم كائنة أو واقعة.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف صح مجيء البدل ولم يذكر إلا أحد المفعولين ، ولا يجوز الاقتصار بفعل الحسبان على مفعول واحد؟ ( قلت ) : صح ذلك من حيث أن التعويل على البدل والمبدل منه في حكم المنحيّ ، ألا تراك تقول : جعلت متاعك بعضه فوق بعض مع امتناع سكوتك على متاعك انتهى كلامه.
وهذا التخريج الذي خرجه ابن الباذش والزمخشري سبقهما إليه الكسائي والفراء ، فالأوجه هذه القراءة التكرير والتأكيد.

التقدير : ولا تحسبن الذين كفروا ، ولا تحسبن أنما نملي لهم.
قال الفرّاء ومثله : هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم ، أي ما ينظرون إلا أن تأتيهم انتهى.
وقد ردّ بعضهم قول الكسائي والفراء فقال : حذف المفعول الثاني من هذه الأفعال لا يجوز عند أحد ، فهو غلط منهما انتهى.
وقد أشبعنا الكلام في حذف أحد مفعولي ظن اختصاراً فيما تقدم من قول الزمخشري في قوله : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } إن تقديره : ولا تحسبنهم.
وذكرنا هناك أنَّ مذهب ابن ملكون أنه لا يجوز ذلك ، وأن مذهب الجمهور الجواز لكنه عزيز جداً بحيث لا يوجد في لسان العرب إلا نادراً وأن القرآن ينبغي أن ينزه عنه.
وعلى البدل خرج هذه القراءة أبو إسحاق الزجاج ، لكن ظاهر كلامه أنها بنصب خير.
قال : وقد قرأ بها خلق كثير ، وساق عليها مثالاً قول الشاعر :
فما كان قيس هلكه هلك واحد . . .
ولكنه بنيان قوم تهدما
بنصب هلك الثاني على أن الأول بدل ، وعلى هذا يكون : إنما نملي بدل ، وخيراً : المفعول الثاني أي إملائنا خيراً.
وأنكر أبو بكر بن مجاهد هذه القراءة التي حكاها الزجاج ، وزعم أنه لم يقرأ بها أحد.
وابن مجاهد في باب القراءات هو المرجوع إليه.
وقال أبو حاتم : سمعت الأخفش يذكر قبح أن يحتج بها لأهل القدر لأنه كان منهم ، ويجعله على التقديم والتأخير كأنه قال : ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ، إنما نملي لهم خير لأنفسهم انتهى.
وعلى مقالة الأخفش يكون إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً في موضع المفعول الثاني ، وإنما نملي لهم خير مبتدأ وخبر ، أي إملاؤنا لهم خير لأنفسهم.
وجاز الابتداء بأن المفتوحة ، لأن مذهب الأخفش جواز ذلك.
ولإشكال هذه القراءة زعم أبو حاتم وغيره أنها لحن وردّوها.
وقال أبو علي الفارسي : ينبغي أن تكون الألف من إنما مكسورة في هذه القراءة ، وتكون إن وما دخلت عليه في موضع المفعول الثاني.
وقال مكي في مشكله : ما علمت أحداً قرأ تحسبن بالتاء من فوق ، وكسر الألف من إنما.
وقرأ باقي السبعة والجمهور يحسبنَّ بالياء ، وإعرابُ هذه القراءة ظاهر ، لأن الفاعل هو الذين كفروا ، وسدّت إنما نملي لهم خير مسد مفعولي يحسبنَّ كما تقول : حسبت أن زيداً قائم.
وتحتمل ما في هذه القراءة وفي التي قبلها أن تكون موصولة بمعنى الذي ، ومصدرية ، أي : أن الذي نملي ، وحذف العائد أي : عليه وفيه شرط جواز الحذف من كونه متصلاً معمولاً لفعل تام متعيناً للربط ، أو أنَّ إملائنا خير.
وجوّز بعضهم أن يسند الفعل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيكون فاعل الغيب كفاعل الخطاب ، فتكون القراءتان بمعنى واحد.
وقرأ يحيى بن وثاب : ولا يحسبن بالياء ، وإنما نملي بالكسر.

فإن كان الفعل مسنداً للنبي صلى الله عليه وسلم ، فيكون المفعول الأول الذين كفروا ، ويكون إنما نملي لهم جملة في موضع المفعول الثاني.
وإن كان مسنداً للذين كفروا فيحتاج يحسبن إلى مفعولين.
فلو كانت إنما مفتوحة سدت مسد المفعولين ، ولكن يحيى قرأ بالكسر ، فخرج على ذلك التعليق فكسرت إن ، وإن لم تكن اللام في حيزها.
والجملة المعلق عنها الفعل في موضع مفعولي يحسبن ، وهو بعيد : لحذف اللام نظير تعليق الفعل عن العمل ، مع حذف اللام من المبتدأ كقوله :
إني وجدت ملاك الشيمة الأدب . . .
أي لملاك الشيمة الأدب ، ولولا اعتقاد حذف اللام لنصب.
وحكى الزمخشري أن يحيى بن وثاب قرأ بكسر إنما الأولى ، وفتح الثانية.
ووجه ذلك على أن المعنى : ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً كما يفعلون ، وإنما هو ليتوبوا ويدخلوا في الإيمان.
والجملة من إنما نملي لهم خير لأنفسهم اعتراض بين الفعل ومعموله ، ومعناه : أن إملاءنا خير لأنفسهم إن عملوا فيه وعرفوا إنعام الله عليهم بتفسيح المدة ، وترك المعاجلة بالعقوبة.
وظاهر الذين كفروا العموم.
وقال ابن عباس : نزلت في اليهود والنصارى والمنافقين.
وقال عطاء : في قريظة والنضير.
وقال مقاتل : في مشركي مكة.
وقال الزجاج : هؤلاء قوم أعلم الله نبيه أنهم لا يؤمنون أبداً ، وليست في كل كافر ، إذ قد يكون الإملاء مما يدخله في الإيمان ، فيكون أحسن له.
وقال مكي : هذا هو الصحيح من المعاني.
وقال ابن عطية : معنى هذه الآية الرد على الكفار في قولهم : إنّ كوننا ظاهرين ممولين أصحة دليل على رضا الله بحالنا واستقامة طريقتنا عنده.
وأخبر الله تعالى أنَّ ذلك التأخير والإهمال إنما هو إملاء واستدراج لتكثير الآثام.
قال عبد الله بن مسعود : ما من نفس برّة ولا فاجرة إلا والموت خير لها أمّا البرّة فلتسرع إلى رحمة الله.
وقرأ : { وما عند الله خير للأبرار } وأما الفاجرة فلئلا تزداد إثماً ، وقرأ هذه الآية انتهى.
وقال الزمخشري : والإمّلاء لهم تحليتهم ، وشأنهم مستعار من أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء.
وقيل : هو إمهالهم وإطالة عمرهم ، والمعنى : أن الإملاء خير لهم من منعهم أو قطع آجالهم ، إنَّما نملي لهم جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها ، كأنه قيل : ما بالهم يحسبون الإملاء خيراً لهم ، فقيل : إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً.
( فإن قلت ) : كيف جاز أن يكون ازدياد الإثم غرضاً لله تعالى في إملائه لهم؟ ( قلت ) : هو علة الإملاء ، وما كلّ علة بغرض.
ألا تراك تقول : قعدت عن الغزو للعجز والفاقة ، وخرجت من البلد لمخافة الشرّ ، وليس شيء منها بغرض لك ، وإنما هي علل وأسباب.
فكذلك ازدياد الإثم جعل علة للإملاء ، وسبباً فيه.
( فإن قلت ) : كيف يكون ازدياد الإثم علة للإملاء ، كما كان العجز علة للقعود عن الحرب؟ ( قلت ) : لمّا كان في علم الله المحيط بكلّ شيء أنَّهم مزدادون إثماً ، فكان الإملاء وقع لأجله وبسببه على طريق المجاز انتهى كلامه.

وكله جار على طريقة المعتزلة.
وقال الماتريدي : المعتزلة تناولوها على وجهين : أحدهما : على التقديم والتأخير.
أي : ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادو إثماً ، إنما نملي لهم خير لأنفسهم.
الثاني : أنّ هذا إخبار منه سبحانه وتعالى عن حسبانهم فيما يؤول إليه أمرهم في العاقبة ، بمعنى أنهم حسبوا أن إمهالهم في الدّنيا وإصابتهم الصحة والسلامة والأموال خير لأنفسهم في العاقبة ، بل عاقبة ذلك شرٌّ.
وفي التأويل إفساد النظم ، وفي الثاني تنبيه على من لايجوز تنبيهه.
فإنّ الأخبار عن العاقبة يكون لسهو في الابتداء أو غفله ، والعالم في الابتداء لا ينبه نفسه انتهى كلامه.
وكتبوا ما متصلة بأن في الموضعين.
قيل : وكان القياس الأولى في علم الخط أن تكتب مفصوله ، ولكنها وقعت في الإمام متصلة فلا تخالف ، ونتبع سنة الإمام في المصاحف.
وأما الثانية ، فحقها أن تكتب متصلة لأنها كافة دون العمل ، ولا يجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي.
ولا مصدرية ، لأن لازم كي لا يصحّ وقوعها خبر للمبتدأ ولا لنواسخه.
وقيل : اللام في ليزدادوا للصيرورة.
{ ولهم عذاب مهين } هذه الواو في : ولهم ، للعطف.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فما معنى قوله : ولهم عذاب مهين على هذه القراءة ، يعني قراءة يحيى بن وثاب بكسر إنما الأولى وفتح الثانية؟ ( قلت ) : معناه ولا تحسبوا أن إملاءنا الزيادة الإثم وللتعذيب ، والواو للحال.
كأنه قيل : ليزدادوا إثماً معداً لهم عذاب مهين انتهى.
والذين نقلوا قراءة يحيى لم يذكروا أن أحداً قرأ الثانية بالفتح إلا هو ، إنما ذكروا أنه قرأ الأولى بالكسر.
ولكنّ الزمخشري من ولوعه بنصرة مذهبه يروم رد كل شيء إليه.
ولما قرر في هذه القراءة أنّ المعنى على نهي الكافر أن يحسب إنما يملي الله لزيادة الإثم ، وأنه إنما يملي لأجل الخير كان قوله : ولهم عذاب مهين يدفع هذا التفسير ، فخرج ذلك على أن الواو للحال حتى يزول هذا التدافع الذي بين هذه القراءة وبين ظاهر آخر الآية.
ووصف تعالى عذابه في مقاطع هذه الآيات الثلاث : بعظيم ، وأليم ، ومهين.
ولكل من هذه الصفات مناسبة تقتضي ختم الآية بها.
أما الأولى فإن المسارعة في الشيء والمبادرة في تحصيله والتحلي به يقتضي جلالة ما سورع فيه ، وأنه من النفاسة والعظم بحيث يتسابق فيه ، فختمت الآية بعظم الثواب وهو جزاؤهم على المسارعة في الكفر إشعاراً بخساسة ما سابقوا فيه.
وأما الثانية فإنه ذكر فيها اشتراء الكفر بالإيمان ، ومن عادة المشتري الاغتباط بما اشتراه والسرور به والفرح ، فختمت الآية لأن صفقته خسرت بألم العذاب ، كما يجده المشتري المغبون في تجارته.

وأما الثالثة فإنه ذكر الإملاء وهو الإمتاع بالمال والبنين والصحة وكان هذا الإمتاع سبباً للتعزز والتمتع والاستطاعة فختمت الآية بإهانة العذاب لهم.
وأن ذلك الإملاء المنتج عنه في الدنيا التعزز والاستطالة مآله في الآخرة إلى إهانتهم بالعذاب الذي يهين الجبابرة.
{ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } الخطاب في أنتم للمؤمنين ، والمعنى : على ما أنتم عليه أيها المؤمنون من اختلاطكم بالمنافقين.
وإشكال أمرهم وإجراء المنافق مجرى المؤمن ، ولكنه ميز بعضاً من بعض بما ظهر من هؤلاء وهؤلاء من الأقوال والأفعال قاله : مجاهد ، وابن جريج ، وابن إسحاق.
وقيل : الخطاب للكفار ، والمعنى : على ما أنتم عليه أيها الكفار من اختلاطكم بالمؤمنين قاله : قتادة ، والسدي.
قال السدي وغيره : قال الكفار في بعض جدلهم : أنت يا محمد تزعم في الرّجل منا أنّه من أهل النار ، وأنّه إذا اتبعك من أهل الجنة ، فكيف يصح هذا؟ ولكنْ أخبرنا بمن يؤمن منا ، وبمن يبقى على كفره ، فنزلت.
فقيل لهم : لا بد من التمييز.
وقال ابن عباس : وأكثر المفسرين الخطاب للكفار والمنافقين.
وقيل : الخطاب للمؤمنين والكافرين ، وهو قريب مما قاله الزمخشري : غاية ما فيه أنه بدل الكافرين بالمنافقين فقال : ( فإن قلت ) : لمن الخطابُ في أنتم؟ ( قلت ) : للمصدقين جميعاً من أهل الإخلاص والنفاق ، كأنه قيل : ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض ، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم ، لاتفاقكم على التصديق جميعاً حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه بإخباره بأحوالكم.
قال الزمخشري : ويجوز أن يراد لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب ، بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله قلوبهم كبذل الأرواح في الجهاد ، وإنفاق الأموال في سبيل الله ، فيجعل ذلك عياراً على عقائدكم ، وشاهداً بضمائركم ، حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق الاستدلال ، لا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها ، فإنّ ذلك مما استأثر الله به انتهى.
ومعنى هذا القول لابن كيسان.
قال ابن كيسان : المعنى ما يذركم على الإقرار حتى يختبركم بالشرائع والتكاليف ، فأخذه الزمخشري والقول الذي قبله ونمقهما ببلاغته وحسن خطابته.
وقيل : المعنى ما كان الله ليذر أولادكم الذين حكم عليهم بالإيمان على ما أنتم عليه من الشرك حتى يفرق بينكم وبينهم.
وقيل : كانوا يستهزؤون بالمؤمنين سراً فقال : لا يدعكم على ما أنتم عليه من الطعن فيهم والاستهزاء ، ولكن يمتحنكم لتفتضحوا ويظهر نفاقكم عندهم ، لا في دار واحدة ، ولكن يجعل لهم داراً أخرى يميز فيها الخبيث من الطيب ، فيجعل الخبيث في النار ، والطيب في الجنة.
والخبيث الكافر ، والطيب المؤمن ، وتمييزه بالهجرة والجهاد.
وقال مجاهد : الطيب المؤمن ، والخبيث المنافق ، ميز بينهما يوم أحد.

وقيل : الخببث الكافر ، والطيب المؤمن ، وتمييزه بإخراج أحدهما من صلب الآخر.
وقيل : تمييز الخبيث هو إخراج الذنوب من إحياء المؤمنين بالبلايا والرزايا.
وقيل : الخبيث العاصي ، والطيب المطيع ، والألف واللام في الخبيث والطيب للجنس أو للعهد ، إذ كان المعهود في ذلك الوقت أن الخبيث هو الكافر والطيب هو المؤمن كما قال : { الخبيثات للخبيثين } الآية.
واللام في قوله : ليذر هي المسماة لام الجحود ، وهي عند الكوفيين زائدة لتأكيد النفي ، وتعمل بنفسها النصب في المضارع.
وخبر كان هو الفعل بعدها فتقول : ما كان زيد يقوم ، وما كان زيد ليقوم ، إذا أكدت النفي.
ومذهب البصريين أنَّ خبر كان محذوف ، وأن النصب بعد هذه اللام بأن مضمرة واجبة الإضمار ، وأنَّ اللام مقوية لطلب ذلك المحذوف لما بعدها ، وأنَّ التقدير : ما كان الله مريداً ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه ، أي : ما كان مريداً لترك المؤمنين.
وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتابنا المسمى بالتكميل في شرح التسهيل.
وحتى للغاية المجرّدة ، والتقدير : إلى أن يميزها كذا قالوا ، وهو مشكل على أن تكون غاية على ظاهر اللفظ ، لأنه يكون المعنى : لا يتركهم مختلطين إلى أن يميز ، فيكون قد غيا نفي الترك إلى وجود التمييز ، فإذا وجد التمييز تركهم على ما هم عليه من الاختلاط ، وصار نظير ما أضرب زيداً إلى أن يجيء عمرو ، فمفهومه : إذا جاء عمرو ضربت زيداً ، وليس المراد من الآية هذا المعنى ، وإنما هي غاية لما تضمنه الكلام السابق من المعنى الذي يصح أن يكون غاية له.
ومعنى ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه : أنه تعالى يخلص ما بينكم بالابتلاء والامتحان ، إلى أن يميز الخبيث من الطيب.
وقرأ الأخوان : يميز من ميز ، وباقي السبعة يميز من ماز.
وفي رواية عن ابن كثير : يميز من أماز ، والهمزة ليست للنقل ، كما أن التضعيف ليس للنقل ، بل أفعل وفعل بمعنى الثلاثي المجرّد كحزن وأحزن ، وقدر الله وقدّر.
{ وما كان الله ليطلعكم على الغيب } لمّا قدم أنه تعالى هو الذي يميز الخبيث من الطيب وليس لهم تمييز ذلك ، أخبر أنه لا يطلع أحداً من المخاطبين على الغيب.
{ ولكن الله يجتبي } أي : يختار ويصطفي { من رسله من يشاء } فيطلعه على ما شاء من المغيبات.
فوقوع لكنَّ هنا لكون ما بعدها ضداً لما قبلها في المعنى.
إذ تضمن اجتباء من شاء من رسله اطلاعه إياه على ما أراد تعالى من علم الغيب ، فاطلاع الرسول على الغيب هو باطلاع الله تعالى بوحي إليه ، فيخبر بأنَّ في الغيب كذا من نفاق هذا وإخلاص هذا فهو عالم بذلك من جهة الوحي ، لا من جهة اطلاعه نفسه من غير واسطة وحي على المغيبات.
قال السدي وغيره : ليطلعكم على الغيب ، فيمن يؤمن ، ومن يبقى كافراً ، ولكنَّ هذا رسول مجتبى.

وقال مجاهد وابن جريج وغيره : هي في أمر أحدٍ أي : ليطلعكم على أنكم تهزمون ، أو تكفون عن القتال.
وقيل : ليطلعكم على المنافقين تصريحاً بهم ، وتسمية بأعيانهم ، ولكنْ بقرائن أفعالهم وأقوالهم.
والغيب هنا ما غاب عن البشر مما هو في علم الله تعالى من الحوادث التي تحدث ، ومن الأسرار التي في قلوب المنافقين ، ومن الأقوال التي يقولونها إذا غابوا عن الناس.
وقال الزجاج وغيره : روي أن بعض الكفار قال : لم لا يكون جميعنا أنبياء؟ فنزلت.
وقيل : قالوا : لِم لمْ يوحَ إلينا في أمر محمد؟ فنزلت.
وقيل : قالوا : نحن أكثر أموالاً وأولاداً فهلا كان الوحي إلينا ، فنزلت.
وقيل : كانت الشياطين يصعدون إلى السماء فيسترقون السمع ، فيأتون بأخبارها إلى الكهنة قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزلها الله بعد بعثته.
ولكن الله يصطفي من يشاء فيجعله رسولاً فيوحي إليه ، أي : ليس الوحي من السماء لغير الأنبياء.
وظاهر الآية هو ما قدّمناه من أنه تعالى هو الذي يميز بين الخبيث والطيب ، أخبر أنكم لا تدركون أنتم ذلك ، لأنه تعالى لم يطلعكم على ما أكنته القلوب من الإيمان والنفاق ، ولكنه تعالى يختار من رسله من يشاء فيطلعه على ذلك ، فتطلعون عليه من جهة الرسول بإخباره لكم عن ذلك بوحي الله.
وهذا معنى ما روي أيضاً عن السدي أنه قال : حكم بأنه يظهر هذا التمييز.
ثم بيّن بهذه الآية أنه لا يجوز أن يجعل هذا التمييز في عوام الناس بأن يطلعهم على غيبه فيقولون : إنَّ فلاناً منافق ، وفلاناً مؤمن.
بل سنة الله تعالى جارية بأنْ لا يطلع عوام الناس ، ولا سبيل لهم إلى معرفة ذلك إلا بالامتحان.
فأمّا معرفة ذلك على سبيل الاطلاع على الغيب فهو من خواص الأنبياء ، ولهذا قال تعالى : ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ، فيخصهم بإعلام أن هذا مؤمن وهذا منافق.
وهذه الأقوال كلها والتفاسير مشعرة بأنَّ هذا الغيب الذي نفى الله اطلاع الناس عليه راجع إلى أحوال المؤمنين والمنافقين ، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل العموم.
أي : ما كان الله ليجعلكم كلكم عالمين بالمغيبات من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عنه ، بل الله يخص من يشاء من عباده بذلك وهو الرسول ، فتندرج أحوال المنافق والمؤمن في هذا العام.
{ فآمنوا بالله ورسله } لما ذكر أنه تعالى يختار من رسله من يشاء فيطلعه على المغيبات ، أمر بالتصديق بالمجتبى ، والمجتبي ومن يشاء هو محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ ثبتت نبوته باطلاع الله إياه على المغيبات ، وإخباره لكم بها في غير ما موطن.
وجمع في قوله ورسله تنبيهاً على أنّ طريق إثبات نبوة جميع الأنبياء واحدة ، وهو ظهور المعجز على أيديهم.

قال الزمخشري في قوله تعالى : فآمنوا بالله ورسله ، بأن تقدروه حق قدره ، وتعلمونه وحده مطلعاً على الغيوب ، وأن ينزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عباداً مجتبين لا يعلمون إلا ما علمهم الله ، ولا يخبرون إلا بما أخبر الله به من الغيوب ، وليسوا من علم الغيب في شيء انتهى.
{ وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم } رتب حصول الأجر العظيم على الإيمان ، والمعنى : الإيمان السابق ، وهو الإيمان بالله ورسله ، وعلى التقوى وهي زائدة على الإيمان ، وكأنها مرادة في الجملة السابقة فكأنه قيل : فآمنوا بالله ورسله واتقوا الله.
{ ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم } قال السدي وجماعة : نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله.
وقال ابن عباس في رواية عطية ، ومجاهد وابن جريج وجماعة ، واختاره الزجاج : في أهل الكتاب وبخلهم وتبيان ما علمهم الله من أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل : نزلت في مانعي الزكاة المفروضة قاله : ابن مسعود ، وأبو هريرة ، وابن عباس في رواية أبي صالح والشعبي ومجاهد.
وقيل : في النفقة على العيال وذوي الأرحام.
ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل الأرواح في الجهاد في الآيات السابقة ، شرع في التحريض هنا على بذل الأموال في الجهاد وغيره ، وبيّن الوعيد الشديد لمن يبخل ، والبخل الشرعي عبارة عن منع بذل الواجب.
وقرأ حمزة تحسبن بالتاء ، فتكون الذين أول مفعولين لتحسبن ، وهو على حذف مضاف أي : بخل الذين.
وقرأ باقي السبعة بالياء.
فإنْ كان الفعل مسنداً إلى ضمير الرسول أو ضمير أحد ، فيكون الذين هو المفعول الأول على ذلك التقدير وإن كان الذين هو الفاعل ، فيكون المفعول الأول محذوفاً تقديره : بخلهم ، وحذف لدلالة يبخلون عليه.
وحذفه كما قلنا : عزيز جداً عند الجمهور ، فلذلك الأولى تخريج هذه القراءة على قراءة التاء من كون الذين هو المفعول الأول على حذف مضاف ، وهو فصل.
وقرأ الأعمش بإسقاط هو ، وخيراً هو المفعول بتحسبن.
قال ابن عطية : ودل قوله : يبخلون على هذا البخل المقدر ، كما دل السفيه على السفه في قول الشاعر :
إذا نهى السفيه جرى إليه . . .
وخالف والسفيه إلى خلاف
والمعنى : جرى إلى السفه انتهى.
وليست الدلالة فيهما سواء لوجهين : أحدهما أن الدال في الآية هو الفعل ، وفي البيت هو اسم الفاعل ، ودلالة الفعل على المصدر أقوى من دلالة اسم الفاعل ، ولذلك كثر إضمار المصدر لدلالة الفعل عليه في القرآن وكلام العرب ، ولم تكثر دلالة اسم الفاعل على المصدر إنما جاء في هذا البيت أو في غيره إنْ وجد.
والثاني أن في الآية حذفاً لظاهر ، إذ قدروا المحذوف بخلهم ، وأما في البيت فهو إضمار ، لا حذف.
ويظهر لي تخريج غريب في الآية تقتضيه قواعد العربية ، وهو أن تكون المسألة من باب الإعمال ، إذا جعلنا الفعل مسنداً للذين ، وذلك أن تحسبن تطلب مفعولين ، ويبخلون يطلب مفعولاً بحرف جر ، فقوله : ما آتاهم يطلبه يحسبن ، على أن يكون المفعول الأول ، ويكون هو فصلاً ، وخيراً المفعول الثاني ويطلبه يبخلون بتوسط حرف الجر ، فاعمل الثاني على الأفصح في لسان العرب ، وعلى ما جاء في القرآن وهو يبخلون.

فعدي بحرف الجر واحد معموله ، وحذف معمول تحسبن الأول ، وبقي معموله الثاني ، لأنه لم يتنازع فيه ، إنما التنازع بالنسبة إلى المفعول الأول.
وساغ حذفه وحده ، كما ساغ حذف المفعولين في مسألة سيبويه : متى رأيت أو قلت : زيد منطلق ، لأن رأيت وقلت في هذه المسألة تنازعا زيد منطلق ، وفي الآية : لم يتنازعا إلا في المفعول الواحد ، وتقدير المعنى : ولا تحسبن ما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم الناس الذين يبخلون به ، فعلى هذا التقدير والتخريج يكون هو فصلاً لما آتاهم المحذوف ، لا لتقديرهم بخلهم.
ونظير هذا التركيب ظن الذي مرّ بهند هي المنطلقة المعنى ، ظن هنداً الشخص الذي مرّ بها هي المنطلقة ، فالذي تنازعه الفعلان هو الاسم الأول ، فاعمل الفعل الثاني وبقي الأول يطلب محذوفاً ، ويطلب المفعول الثاني مثبتاً ، إذ لم يقع فيه التنازع.
ولما تضمن النهي انتفاء كون البخل أو المبخول به خيراً لهم ، وكان تحت الانتفاء قسمان : أحدهما أن لا خير ولا شر ، والآخر إثبات الشر ، أتى بالجملة التي تعين أحد القسمين وهو : إثبات كونه شراً لهم.
{ سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } هذا تفسير لقوله : { بل هو شر لهم } والظاهر حمله على المجاز ، أي سيلزمون عقابه إلزام الطوق ، وفي المثل لمن جاء بهنة تقلدها طوق الحمامة.
وقال إبراهيم النخعي : سيُجعل لهم يوم القيامة طوق من نار.
قال مجاهد وغيره : هو من الطاقة لا من التطويق ، والمعنى : سيحملون عقاب ما بخلوا به.
كقوله : { وعلى الذين يطوقونه } وقال مجاهد : سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به.
وهذا التفسير لا يناسب قوله : إن البخل هو العلم الذي تفضل الله عليهم به من أمر الرسول.
وقال أبو وائل : هو الرجل يرزقه الله مالاً فيمنع منه قرابته الحق الذي جعل الله لهم في ماله ، فيجعل حية يطوقها فيقول : ما لي ولك ، فيقول : أنا مالك.
وجاء في الحديث : « ما من ذي رحم يأتي ذا رحمة فيسأله من فضل عنده فيبخل به عليه إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ حتى يطوقه » والأحاديث في مثل هذا من منع الزكاة واكتناز المال كثيرة صحيحة.
{ ولله ميراث السموات والأرض } فيه قولان : أحدهما أنه تعالى له ملك جميع ما يقع من إرث في السموات والأرض ، وأنه هو المالك له حقيقة ، فكل ما يحصل لمخلوقاته مما ينسب إليهم ملكه هو مالكه حقيقة.

وهذا كان هو مالكه فما لكم تبخلون بشيء أنتم ممتعون به لا مالكوه حقيقة ، كما قال تعالى : { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } والقول الثاني : أنه خبر بفناء العالم ، وأنَّ جميع ما يخلقونه فهو وارثه.
وهو خطاب على ما يفهم البشر ، دلّ على فناء الجميع ، وأنه لا يبقى مالك إلا الله ، وإن كان ملكه على كل شيء لم يزل.
{ والله بما تعملون خبير } ختم بهذه الصفة ومعناها التهديد والوعيد على قبيح مرتكبهم من البخل.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : يعملون على الغيبة جرياً على يبخلون وسيطوّقون.
وقرأ الباقون : بالتاء على الالتفات ، فيكون ذلك خطاباً للباخلين.
وقال ابن عطية : وذلك على الرجوع من الغيبة إلى المخاطبة ، لأنه قد تقدّم { وإن تؤمنوا وتتقوا }. انتهى.
فلا يكون على قوله التفاتاً ، والأحسن الالتفات.
وتضمنت هذه الآيات فنوناً من البلاغة والبديع.
الاختصاص في : أجر المؤمنين.
والتكرار في : يستبشرون ، وفي : لن يضروا الله شيئاً ، وفي : اسمه في عدة مواضع ، وفي : لا يحسبن الذين كفروا ، وفي ذكر الإملاء.
والطباق في : اشتروا الكفر بالإيمان ، وفي : ليطلعكم على الغيب.
والاستعارة في : يسارعون ، وفي : اشتروا ، وفي : نملي وفي : ليزدادوا إثماً ، وفي : الخبيث والطيب.
والتجنيس المماثل في : فآمنوا وإن تؤمنوا.
والالتفات في : أنتم إن كان خطاباً للمؤمنين ، إذ لو جرى على لفظ المؤمنين لكان على ما هم عليه ، وإن كان خطاباً لغيرهم كان من تلوين الخطاب ، وفي : تعملون خبير فيمن قرأ بتاء الخطاب.
والحذف في مواضع.

لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)

الزبر : جمع زبور ، وهو الكتاب.
يقال : زبرت أي كتبت ، فهو بمعنى مفعول أي : مزبور ، كالركوب بمعنى المركوب.
وقال امرؤ القيس :
لمن طلل أبصرته فشجاني . . .
كخط زبور في عسيب يمان
ويقال : زبرته قرأته ، وزبرته حسنته ، وتزبرته زجرته.
وقيل : اشتقاق الزبور من الزبرة ، وهي القطعة من الحديد التي تركت بحالها.
الزحزحة : التنحية والإبعاد ، تكرير الزح وهو الجذب بعجلة ويقال : مكان زحزح أي بعيد.
الفوز : النجاة مما يحذر والظفر بما يؤمل ، وسميت الأرض القفر البعيدة المخوف من الهلاك فيها مفازة على سبيل التفاؤل ، لا من قطعها فاز.
وقيل : لأنها مظنة تفويز ، ومظنة هلاك.
تقول العرب : فوّز الرجل مات.
{ لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } نزلت في فنحاص بن عازوراء ، حاوره أبو بكر في الإسلام وأن يقرض الله قرضاً حسناً فقال : هذه المقالة فضربه أبو بكر ومنعه من قبله العهد ، فشكاه إلى الرسول وأنكر ما قال ، فنزلت تكذيباً لفنحاص ، وتصديقاً للصديق قاله : ابن عباس ، وعكرمة ، والسدّي ، ومقاتل ، وابن إسحاق رضي الله عنهم ، وساقوا القصة مطولة.
وقال قتادة : نزلت في حيي بن أخطب ، وقال هو أيضاً والحسن ومعمر وغيرهم : في اليهود.
وذكر أبو سليمان الدمشقي في الياس بن عمر.
ولما نزل { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } قال أو قالوا : إنما يستقرض الفقير الغني ، والظاهر أن قائل ذلك جمع ، فيمكن أن ذلك صدر من فنحاص أو حيي أولاً ، ثم تقاولها اليهود ، أو صدر ذلك من واحد فقط ، ونسب للجماعة على عادة كلام العرب في نسبتها إلى القبيلة فعل الواحد منها.
ومعنى لقد سمع الله : أنه لم يخف عليه تعالى مقالتهم ، ومقالتهم هذه إما على سبيل الاستهزاء بما نزل من طلب الإقراض ، وإما على سبيل الجدل والإلزام ، لأن من طلب الإقراض كان فقيراً.
وإما على الاعتقاد ، ولا يستبعد ذلك من عقولهم ، إذ قد حكى الله عنهم { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم } وأياماً كان من هذه الأسباب ، فذلك دليل على تمردهم في الكفر والمبالغة فيه ، حيث نسبوا الموجد الأشياء من العدم الصرف إلى الوجود الغني بذاته عما أوجده الوصف الدال على الافتقار لبعض ما أوجده ، ونسبوا العكس إلى أنفسهم ، وجاءت الجملة مؤكدة باللام مؤذنة بعلمه بمقالتهم ومؤكدة له ، وحيث نسبوا إلى الله ما نسبوا ، أكدوا الجملة بأن على سبيل المبالغة.
وحيث نسبوا إلى أنفسهم ما نسبوا لم يؤكدوا ، بل أخرجوا الجملة مخرج ما لا يحتاج إلى تأكيد ، كأنَّ الغنى وصف لهم لا يمكن فيه نزاع ، فيحتاج إلى أنْ يؤكد.
{ سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق } الظاهر إجراء الكتابة على أنها حقيقة ، قال ذلك كثير من العلماء.

وأنها تكتب الأعمال في صحف ، وأن تلك الصحف هي التي توزن ، ويحدث الله سبحانه وتعالى فيها الخفة والثقل بحسب ما كتب فيها من الخير والشر.
وقيل : سنكتب ما قالوا في القرآن حتى يعلم القوم شدة تعنتهم وحسدهم في الطعن عليه صلى الله عليه وسلم.
وذهب قوم : إلى أن الكتابة مجاز ومعناها الإحصاء للشيء وضبطه وعدم إهماله وكينونته في علم الله شيئاً محفوظاً لا ينسى ، كما يثبت المكتوب.
وذهب إلى أن معنى سنكتب : سنوجب عليهم في الآخرة جزاء ما قالوه في الدنيا كقوله : { كتب عليكم الصيام } وجاء سنكتب بلفظ المستقبل دون لفظ الماضي ، لأنه تضمن المجازاة على ما قالوه.
وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفى.
ونسب إليهم قتلهم الأنبياء ، وإن كان من فعل آبائهم ، لما كانوا راضين به.
وقد سموا أيضاً رسول الله صلى الله عليه وسلم وهموا بقتله ، ودل هذا القول وهذا الفعل على جميع الأقوال والأفعال القبيحة التي صدرت منهم.
إذ القول في هذه الآية أشنع الأقوال في الله تعالى ، والقتل أشنع الأفعال التي فعلوها مع أنبياء الله تعالى ، وتشريك القتل مع هذا القول يدل على أنهما يسببان في استحقاق العقاب.
ولما كان الصادر منهم قولاً وفعلاً ناسب أن يكون الجزاء قولاً وفعلاً ، فتضمن القول والفعل قوله تعالى : { ونقول ذوقوا عذاب الحريق }.
وفي الجمع بين القول والفعل أعظم انتقام ، ويقال للمنتقم منه : أحس وذق.
وقال أبو سفيان لحمزة رضي الله عنه لما طعنه وحشي : ذق عقق ، واستعير لمباشرة العذاب الذوق ، لأن الذوق من أبلغ أنواع المباشرة ، وحاستها متميزة جداً.
والحريق : المحرق فعيل بمعنى مفعل ، كأليم بمعنى مؤلم.
وقيل : الحريق طبقة من طباق جهنم.
وقيل : الحريق الملتهب من النار ، والنار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة ، والملتهبة أشدها.
والظاهر أنَّ هذا القول يكون عند دخولهم جهنم.
وقيل : قد يكون عند الحساب ، أو عند الموت.
وأنَّ وما بعدها محكى بقالوا.
وأجاز أبو البقاء أن يكون محكياً بالمصدر ، فيكون من باب الأعمال.
قال : وإعمالُ الأول أصلٌ ضعيف ، ويزداد ضعفاً لأن الثاني فعل والأول مصدر ، وإعمال الفعل أقوى.
والظاهر أنَّ ما فيما قالوا موصولة بمعنى الذي ، وأجيز أن تكون مصدرية.
وقرأ الجمهور : سنكتب وقتلهم بالنصب.
ونقول : بنون المتكلم المعظم.
أو تكون للملائكة.
وقرأ الحسن والأعرج سيكتب بالياء على الغيبة.
وقرأ حمزة : سيكتب بالياء مبنياً للمفعول ، وقتلهم بالرفع عطفاً على ما ، إذ هي مرفوعة بسيكتب ، ويقول بالياء على الغيبة.
وقرأ طلحة بن مصرّف : سنكتب ما يقولون.
وحكى الداني عنه : ستكتب ما قالوا بتاء مضمومة على معنى مقالتهم.
وقرأ ابن مسعود : ويقال ذوقوا.
ونقلوا عن أبي معاذ النحويّ أنّ في حرف ابن مسعود سنكتبُ ما يقولون ونقول لهم ذوقوا.
{ ذلك بما قدّمت أيديكم } الإشارة إلى ما تقدم من عقابهم ، ونسب ما قدموه من المعاصي القولية والفعلية والاعتقادية إلى الأيدي على سبيل التغليب ، لأن الأيدي تزاول أكثر الأعمال ، فكان كل عمل واقع بها.

وهذه الجملة داخلة في المقول ، وبخوا بذلك ، وذكر لهم السبب الذي أوجب لهم العقاب.
ويحتمل أن يكون خطاباً لمعاصري الرسول صلى الله عليه وسلم يوم نزل الآية ، فلا يندرج تحت معمول قوله ونقول.
{ وأن الله ليس بظلام للعبيد } هذا معطوف على قوله : بما قدمت أيديكم ، أي ذلك العقاب حاصل بسبب معاصيكم ، وعدل الله تعالى فيكم.
وجاء لفظ ظلام الموضوع للتكثير ، وهذا تكثير بسبب المتعلق.
وذهب بعضهم إلى أن فعالاً قد يجيء لا يراد به الكثرة ، كقول طرفة :
ولست بحلال التلاع مخافة . . .
ولكن متى يسترقد القوم أرفد
لا يريد أنه قد يحل التلاع قليلاً ، لأن عجز البيت يدفعه ، فدلّ على نفي البخل في كل حال ، وتمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة ، وقيل : إذا نفى الظلم الكثير اتبع القليل ضرورة ، لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم ، فإذا ترك الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضرر كان للظلم القليل المنفعة أترك.
وقال القاضي : العذاب الذي توعد أن يفعله بهم : لو كان ظالماً لكان عظيماً ، فنفاه على جد عظمه لو كان ثابتاً والعبيد جمع عبد ، كالكليب.
وقد جاء اسم الجمع على هذا الوزن نحو الضيفن وغيره من جمع التكسير ، جواز الإخبار عنه إخبار الواحد كأسماء الجموع ، وناسب لفظ هذا الجمع دون لفظ العباد ، لمناسبة الفواصل التي قبله مما جاءت على هذا الوزن ، كما ناسب ذلك في سورة فصلت ، وكما ناسب لفظ العباد في سورة غافر ما قبله وما بعده.
قال ابن عطية : وجمع عبداً في هذه الآية على عبيد لأنه مكان تشقيق وتنجية من ظلم انتهى كلامه.
ولا تظهر لي هذه العلة التي ذكرها في هذا الجمع.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فلم عطف قوله : وأن الله ليس بظلام للعبيد ، { على ما قدمت أيديكم } وكيف جعل كونه غير ظلام للعبيد شريكاً لاجتراحهم السيئات في استحقاقهم العذاب؟ ( قلت ) : معنى كونه غير ظلام للعبيد : أنه عادل عليهم ، ومن العدل أن يعاقب المسيء منهم ويثب المحسن انتهى.
وفيه رائحة الاعتزال.
{ الذين قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار } قال الكعبي : نزلت في كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، ووهب بن يهوذا ، وزيد بن مانوه ، وفنحاص بن عازوراء ، وحيي بن أخطب ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : تزعم أن الله بعثك إلينا رسولاً ، وأنزل عليك كتاباً ، وأن الله قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، فإن جئتنا به صدقناك.

وظاهر هذا القول أنه عهد إليهم في التوراة ، فقيل : كان هذا في التوراة ، ولكن كان تمام الكلام حتى يأتيكم المسيح ومحمد ، فإذا أتياكم فآمنوا بهما من غير قربان.
وقيل : كان أمر القرابين ثابتاً ، إلى أن نسخت على لسان المسيح.
وقيل : ذكرهم هذا العهد هو من كذبهم على الله تعالى ، وافترائهم عليه ، وعلى أنبيائه.
ومعنى عهد : وصي ، والعهد أخص من الأمر ، لأنه في كل ما يتطاول أمره ويبقى في غابر الزمان ، وتقدم تفسيره.
وتعدى نؤمن باللام كما في قوله : { فما آمن لموسى } يؤمن لله.
والقربان : ما يتقرّب به من شاة أو بقرة أو غير ذلك ، وهو في الأصل مصدر سمي المفعول به كالرهن ، وكان حكمه قديماً في الأنبياء.
ألا ترى إلى قصة ابني آدم ، وكان أكل النار ذلك القربان دليلاً على قبول العمل من صدقة أو عمل ، أو صدق مقالة.
وإذا لم تنزل النار فليس بمقبول ، وكانت النار أيضاً تنزل للغنائم فتحرقها.
وإسناد الأكل إلى النار مجاز واستعارة عن إذهاب الشيء وإفنائه ، إذ حقيقة الأكل إنما توجد في الحيوان المتغذي ، والقربان وأكل النار معجز للنبي يوجب الإيمان به ، فهو وسائر المعجزات سواء.
ولله أن يعين من الآيات ما شاء لأنبيائه ، وهذا نظير ما يقترحونه من الآيات على سبيل التبكيت والتعجيز.
وقد أخبر تعالى أنه لو نزل ما اقترحوه لما آمنوا.
والذين قالوا صفة للذين قالوا.
وقال الزجاج : الذين صفة للعبيد.
قال ابن عطية : وهذا مفسد للمعنى والوصف انتهى.
وهو كما قال.
وجوزوا قطعة للرّفع ، والنصب ، واتباعه بدلاً.
وفي أن لا نؤمن تقدير حرف جر ، فحذف وبقي على الخلاف فيه : أهو في موضع نصب أو جر؟ وأن يكون مفعولاً به على تضمين عهد معنى الزم ، فكأنه ألزمنا أن لا نؤمن.
وقرأ عيسى بن عمر بقرُبان بضم الراء.
قال ابن عطية : اتباعاً لضمة القاف ، وليس بلغة.
لأنه ليس في الكلام فُعُلان بضم الفاء والعين.
وحكى سيبويه السلطان بضم اللام ، وقال : إن ذلك على الاتباع انتهى.
ولم يقل سيبويه : إنَّ ذلك على الاتباع ، بل قال : ولا نعلم في الكلام فعلان ولا فعلان ، ولا شيئاً من هذا النحو لم يذكره.
ولكنه جاء فعلان وهو قليل ، قالوا : السلطان وهو اسم انتهى.
وقال الشارح : صاحب في اللغة لا يسكن ولا يتبع ، وكذا ذكر التصريفيون أنه بناء مستقبل.
قالوا فيما لحقه زيادتان بعد اللام وعلى فعلان ولم يجيء إلا اسماً : وهو قليل نحو سلطان.
{ قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين } رد الله تعالى عليهم وأكذبهم في اقتراحهم ، وألزمهم أنهم قد جاءتهم الرسل بالذي قالوه من الإتيان بالقربان الذي تأكله النار وبالآيات غيره ، فلم يؤمنوا بهم ، بل قتلوهم.

ولم يكتفوا بتكذيبهم حتى أوقعوا بهم شر فعل ، وهو إتلاف النفس بالقتل.
فالمعنى أن هذا منكم معشر اليهود تعلل وتعنت ، ولو جاءهم بالقربان لتعللوا بغير ذلك مما يقترحونه.
والاقتراح لا غاية له ، ولا يجاب طالبه إلا إذا أراد الله هلاكه ، كقصة قوم صالح وغيره.
وكذلك قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتراح قريش فأبى عليه السلام وقال : « بل أدعوهم وأعالجهم » ومعنى : إن كنتم صادقين في دعواكم أنّ الإيمان يلزم بإتيان البينات والقربان ، أو صادقين في أنّ الله عهد إليكم.
{ فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير } الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وذلك على سبيل التسلية لما ظهر كذبهم على الله بذكر العهد الذي افتروه ، وكان في ضمنه تكذيبه إذ علقوا الإيمان به على شيء مقترح منهم على سبيل التعنت ، ولم يجبهم الله لذلك ، فسلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأن هذا دأبهم ، وسبق منهم تكذيبهم لرسل جاءوا بما يوجب الإيمان من ظهور المعجزات الواضحة الدلالة على صدقهم ، وبالكتب السماوية الإلهية النيرة المزيلة لظلم الشبه.
والزبر : جمع زبور ، وهو الكتاب سمي بذلك قيل : لأنه مكتوب ، إذ يقال : زبره كتبه.
أو لكونه زاجراً من زبره زجره ، وبه سمي كتاب داود زبوراً لكثرة ما فيه من الزواجر والمواعظ ، أو لأحكامه.
والزبر : الأحكام.
وقال الزجاج : الزبور كل كتاب فيه حكمة.
قيل : والكتاب هو الزبر.
وجمع بين اللفظين على سبيل التأكيد ، أو لاختلاف معنييهما ، مع أن المراد واحد ، ولكن اختلف معنياهما من حيث الصفة.
وقيل : الكتاب هنا جنس للتوراة والإنجيل وغيرهما ، ويحتمل أن يراد بقوله : والزبر الزواجر من غير أن يراد به الكتب.
أي : جاؤوا بالمعجزات الواضحة والتخويفات والكتب النيرة.
وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه التقدير : وإن يكذبوك فتسلّ به.
ولا يمكن أن يكون فقد كذب رسل الجواب لمضيه ، إذ جواب الشرط مستقبل لا محالة لترتبه على المستقبل ، وما يوجد في كلام المعربين أنَّ مثل هذا من الماضي هو جواب الشرط ، فهو على سبيل التسامح لا الحقيقة.
وبنى الفعل للمفعول لأنه لم يقتصر في تكذيب الرسل على تكذيب اليهود وحدهم لأنبيائهم ، بل نبه على أنَّ من عادة اليهود وغيرهم من الأمم تكذيب الأنبياء ، فكان المعنى : فقد كذبت أمم من اليهود وغيرهم الرسل.
قيل : ونكر رسل لكثرتهم وشياعهم.
ومن قبلك : متعلق بكذب ، والجملة من قوله : جاؤوا في موضع الصفة لرسل انتهى.
والباء في بالبينات تحتمل الحال والتعدية ، أي : جاؤوا أممهم مصحوبين بالبينات ، أو جاؤوا البينات.
وقرأ الجمهور : والزبر.
وقرأ ابن عامر : وبالزبر ، وكذا هي في مصاحف أهل الشأم.
وقرأ هشام بخلاف عنه وبالكتاب.
وقرأ الجمهور : والكتاب.
وإعادة حرف الجر في العطف هو على سبيل التأكيد.

وكان ذكر الكتاب مفرداً وإنَّ كان مجموعاً من حيث المعنى لتناسب الفواصل ، ولم يلحظ فيه أن يجمع كالمعطوف عليهما لذلك.
{ كل نفس ذائقة الموت } تضمنت هذه الجملة وما بعدها الوعظ والتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدنيا وأهلها ، والوعد بالنجاة في الآخرة بذكر الموت ، والفكرة فيه تهون ما يصدر من الكفار من تكذيب وغيره.
ولمّا تقدّم ذكر المكذبين الكاذبين على الله من اليهود والمنافقين وذكرهم المؤمنين ، نبهوا كلهم على أنهم ميتون ومآلهم إلى الآخرة ، ففيها يظهر الناجي والهالك ، وأنَّ ما تعلقوا به في الدنيا من مال وأهل وعشيرة إنما هو على سبيل التمتع المغرور به ، كلها تضمحل وتزول ولا يبقى إلا ما عمله الإنسان ، وهو يوفاه في الآخرة ، يوفى على طاعته ومعصيته.
وقال محمد بن عمر الرازي : في هذه الآية دلالة على أن النفس لا تموت بموت البدن ، وعلى أن النفس.
غير البدن انتهى.
وهذه مكابرة في الدلالة ، فإنّ ظاهر الآية يدل على أن النفس تموت.
قال أيضاً : لفظ النفس مختص بالأجسام انتهى.
وقرأ اليزيدي : ذائقة بالتنوين ، الموت بالنصب ، وذلك فيما نقله عنه الزمخشري.
ونقلها ابن عطية عن أبي حيوة ، ونقلها غيرهما عن الأعمش ، ويحيى ، وابن أبي إسحاق.
وقرأ الأعمش فيما نقله الزمخشري ذائقة بغير تنوين الموت بالنصب ومثله :
فألفيته غر مستعتب . . .
ولا ذاكر الله إلا قليلا
حذف التنوين لالتقاء الساكنين ، كقراءة من قرأ { قل هو الله أحد.
الله الصمد } بحذف التنوين من أحد { وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } لفظ التوفية يدل على التكميل يوم القيامة ، فما قبله من كون القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ، هو بعض الأجور.
وما لم يدخل الجنة أو النار فهو غير موفى.
والذي يدل عليه السياق أنّ الأجور هي ما يترتب على الطاعة والمعصية ، وإن كان الغالب في الاستعمال أنّ الأجر هو ما يترتب على عمل الطاعة.
ولهذا قال ابن عطية : وخص تعالى ذكر الأجور لشرفها ، وإشارة إلى مغفرته لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمّته.
ولا محالة أنّ يوم القيامة يقع فيه توفية الأجور ، وتوفية العقوبات انتهى.
{ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } علق الفوز وهو نيل الحظ من الخير والنجاة من الشرّ على التنحية من النار ودخول الجنة ، لأن من لم ينج عن النار بل أدخلها ، وإن كان سيدخل الجنة لم يفز كمن يدخلها من أهل الكبائر.
ومن نحى عنها ولم يدخل الجنة كأصحاب الأعراف ، لم يفز أيضاً.
وروي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من سره أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه ، قيل : فاز معناه نجا »

وقيل : سبق.
وقيل : غنم.
{ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } المتاع : ما يستمتع به من آلات وأموال وغير ذلك.
وفسّره عكرمة : بالفأس ، والقصعة ، والقدر.
وفسره الحسن فقال : هو كخضرة النبات ، ولعب البنات لا حاصل له يلمع لمع السراب ، ويمر مرّ السحاب ، وهذا من عكرمة والحسن على سبيل التمثيل.
قال الزمخشري : شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه ، ثم يتبين له فساده ورداءته ، والشيطان هو المدلس.
الغرور انتهى.
وقال سعيد بن جبير : إنما هذا لمن آثرها على الآخرة ، فأمّا من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ.
وقال عكرمة أيضاً : متاع الغرور القوارير التي لا بد لها من الانكسار والفساد ، فكذلك أمر الدنيا كله.
وهذا تشبيه من عكرمة والغرور الخدع والترجئة بالباطل.
وقال عبد الرحمن بن سابط : متاع الغرور كزاد الراعي يزود الكف من التمر والشيء من الدقيق يشرب عليه اللبن ، يعني : أن متاع الدنيا قليل لا يكفي من تمتع به ولا يبلغه سفره.
ومن كلام العرب عشْ ولا تغتر.
أي : لا تجتزىء بما لا يكفيك.
وقال ابن عرفة : الغرور ما رأيت له ظاهراً حسناً وله باطن مكروه أو مجهول ، والشيطان غرور لأنه يحمل على مخبآت الناس ووراء ذلك ما يسوء.
قال : ومن هذا بيع الغرور ، وهو ما كان له ظاهر بيع وباطن مجهول.
وقال أبو مسلم الأصبهاني : وما الحياة الدنيا بحذف المضاف تقديره : وما نفع الحياة الدنيا إلا نفع الغرور.
أي : نفع يغفل عن النفع الحقيقي لدوامه ، وهو النفع في الحياة الأخروية.
وإضافة المتاع إلى الغرور أنْ جعل الغرور جمعاً فهو كقولك : نفع الغافلين.
وإنْ جعل مصدراً فهو كقولك : نفع إغفال ، أي إهمال فيورث الغفلة عن التأهب للآخرة.
وقرأ عبد الله بن عمر : المغرور بفتح الغين ، وفسَّر بالشيطان ويحتمل أن يكون فعولاً بمعنى مفعول ، أي : متاع المغرور ، أي : المخدوع.
وتضمنت هذه الآيات التجنيس المغاير في قوله : الذين قالوا : والمماثل في : قالوا ، وسنكتب ما قالوا ، وفي : كذبوك فقد كذب.
والطباق في : فقير وأغنياء ، وفي : الموت والحياة ، وفي : زحزح عن النار وأدخل الجنة.
والالتفات في : سنكتب ونقول ، وفي : أجوركم ، إذ تقدمه كل نفس.
والتكرار في : لفظ الجلالة ، وفي البينات.
والاستعارة في : سنكتب على قول من لم يجعل الكتابة حقيقة ، وفي : قدّمت أيديكم ، وفي : تأكله النار ، وفي : ذوقوا وذائقة.
والمذهب الكلامي في فلم قتلتموهم.
والاختصاص في : أيديكم.
والإشارة في : ذلك ، والشرط المتجوز فيه.
والزيادة للتوكيد في : وبالزبر وبالكتاب في قراءة من قرأ كذلك.
والحذف في مواضع.

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

الجنوب : جمع جنب وهو معروف.
المرابطة : الملازمة في الثغر للجهاد ، وأصلها من ربط الخيل.
{ لتبلونّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً } قيل : نزلت في قصة عبد الله بن أبي حين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قرأ عليهم الرسول القرآن : إنْ كان حقاً فلا تؤذنا به في مجالسنا.
وردّ عليه ابن رواحة فقال : اغشنا به في مجالسنا يا رسول الله.
وتسابَّ المسلمون والمشركون واليهود.
وقيل : فيما جرى بين أبي بكر وفنحاص.
وقيل : في كعب بن الأشرف كان يحرّض المشركين على الرسول وأصحابه في شعره ، وأعلمهم تعالى بهذا الابتلاء والسماع ليكونوا أحمل لما يرد عليهم من ذلك ، إذا سبق الإخبار به بخلاف من يأتيه الأمر فجأة فاته يكثر تألمه.
والآية مسوقة في ذمّ أهل الكتاب وغيرهم من المشركين ، فناسبت ما قبلها من الآيات التي جاءت في ذم أهل الكتاب وغيرهم من المشركين.
والظاهر في قوله : لتبلون أنهم المؤمنون.
وقال عطاء : المهاجرون ، أخذ المشركون رباعهم فباعوها ، وأموالهم فنهبوها.
وقيل : الابتلاء في الأموال هو ما أصيبوا به من نهب أموالهم وعددهم يوم أحد.
والظاهر أنّ هذا خطاب للمؤمنين بما سيقع من الامتحان في الأموال ، بما يقع فيها من المصائب والذهاب والإنفاق في سبيل الله وفي تكاليف الشرع ، والابتلاء في النفس بالشهوات أو الفروض البدنية أو الأمراض ، أو فقد الأقارب والعشائر ، أو بالقتل والجراحات والأسر ، وأنواع المخاوف أقوال.
وقدم الأموال على الأنفس على سبيل الترقي إلى الأشرف ، أو على سبيل الكثرة.
لأنّ الرّزايا في الأموال أكثر من الرّزايا في الأنفس.
والأذى : اسم جامع في معنى الضرر ، ويشمل أقوالهم في الرسول وأصحابه ، وفي الله تعالى وأنبيائه.
والمطاعن في الدين وتخطئة من آمن ، وهجاء كعب وتشبيه بنساء المؤمنين.
{ وإن تصبروا } على ذلك الابتلاء وذلك السماع.
{ وتتقوا فإن ذلك } أي فإن الصبر والتقوى.
{ من عزم الأمور } قيل : من أشدها وأحسنها.
والعزم : إمضاء الأمر المروّى المنقح.
وقال النقاش : العزم و الحزم بمعنى واحد ، الحاء مبدلة من العين.
قال ابن عطية : وهذا خطأ.
الحزم جودة النظر في الأمر ، ونتيجته الحذر من الخطأ فيه.
والعزم قصد الإمضاء ، والله تعالى يقول : { وشاورهم في الأمر فإذا عزمت } فالمشاورة وما كان في معناها هو الجزم.
والعرب تقول : قد أحزم لو أعزم.
وقال الزمخشري : من عزم الأمور من معزومات الأمور.
أي : مما يجب عليه العزم من الأمور.
أو مما عزم الله أن يكون ، يعني : أن ذلك عزمة من عزمات الله لا بد لكم أن تصبروا وتتقوا.
وقيل : من عزم الأمور من جدها.
وقال مجاهد في قوله : فإذا عزم الأمر ، أي فإذا وجد الأمر { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيينه للناس ولا تكتمونه } هم اليهود أخذ عليهم الميثاق في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فكتموه ونبذوه قاله : ابن عباس ، وابن جبير ، والسدي ، وابن جريج.

وقال قوم : هم اليهود والنصارى.
وقال الجمهور : هي عامة في كل من علمه الله علماً ، وعلماء هذا الأمة داخلون في هذا الميثاق.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر : بالياء فيهما على الغيبة ، إذ قبله الذين أوتوا الكتاب وبعده فنبذوه.
وقرأ باقي السبعة : بالتاء للخطاب ، وهي كقوله : { لا تعبدون إلا الله } قرىء بالتاء والياء ، والظاهر عود الضمير إلى الكتاب.
وقيل : هو للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل : للميثاق.
وقيل : للإيمان بالرسول لقوله :
{ لتؤمنن به ولتنصرنه } وارتفاع ولا تكتمونه لكونه وقع حالاً ، أي : غير كاتمين له وليس داخلاً في المقسم عليه.
قالوا وللحال لا للعطف ، كقوله : { فاستقيما ولا تتبعانّ } وقوله : ولا يسأل في قراءة من خفف النون ورفع اللام.
وقيل : الواو للعطف ، وهو من جملة المقسم عليه.
ولمّا كان منفياً بلا لم يؤكد ، تقول : والله لا يقوم زيد ، فلا تدخله النون.
وهذا الوجه عندي أعرب وأفصح ، لأن الأول يحتاج إلى إضمار مبتدأ ، قبل لا ، حتى تكون الجملة اسمية في موضع الحال ، إذ المضارع المنفي بلا لا تدخل عليه واو الحال.
وقرأ عبد الله : ليبينونه بغير نون التوكيد.
قال ابن عطية : وقد لا تلزم هذه النون لام التوكيد ، قاله : سيبويه انتهى.
وهذا ليس معروفاً من قول البصريين ، بل تعاقب اللام والنون عندهم ضرورة.
والكوفيون يجيزون ذلك في سعة الكلام ، فيجيزون : والله لا لأقوم ، ووالله أقومن.
وقال الشاعر :
وعيشك يا سلمى لأوقن إنني . . .
لما شئت مستحل ولو أنه القتل
وقال آخر :
يميناً لأبغض كل امرىء . . .
يزخرف قولاً ولا يفعل
وقرأ ابن عباس : ميثاق النبيين لتبيننه للناس ، فيعود الضمير في فنبذوه على الناس إذ يستحيل عوده على النبيين ، أي : فنبذه الناس المبين لهم الميثاق ، وتقدم تفسير معنى : { فنبذوه وراء ظهورهم } في قوله : { نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم }
{ واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون } وتقدم تفسير مثل هذه الجملة.
والكلام في إعراب ما بعد بئس فأغنى عن الإعادة.
{ لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم } نزلت في المنافقين كانوا يتخلفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو ، فإذا جاء استعذروا له ، فيظهر القبول ويستغفر لهم ، ففضحهم الله بهذه الآية قاله : أبو سعيد الخدري وابن زيد وجماعة.
وقال كثير من المفسرين : نزلت في أحبار اليهود.
وأتى تكون بمعنى فعل ، كقوله تعالى : { إنه كان وعده مأتياً } أي مفعولاً.
فمعنى بما أتوا بما فعلوا ، ويدل عليه قراءة أبى بما فعلوا.

وفي الذي فعلوه وفرحوا به أقوال : أحدها كتم ما سألهم عنه الرسول ، وإخبارهم بغيره ، وأروه أنهم قد أخبروه به واستحمدوا بذلك إليه قاله : ابن عباس.
الثاني ما أصابوا من الدنيا وأحبوا أن يقال : إنهم علماء قاله : ابن عباس أيضاً.
الثالث قولهم : نحن على دين ابراهيم ، وكتمهم أمر الرسول قاله : ابن جبير.
الرابع كتبهم إلى اليهود يهود الأرض كلها أن محمداً ليس بنبي ، فأثبتوا على دينكم ، فاجتمعت كلمتهم على الكفر به.
وقالوا : نحن أهل الصوم والصلاة وأولياء الله قاله : الضحاك والسدي.
الخامس قول يهود خيبر للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه : نحن على دينكم ، ونحن لكم ردء ، وهم مستمسكون بضلالهم ، وأرادوا أن يحمدهم بما لم يفعلوا قاله : قتادة.
السادس تجهيز اليهود جيشاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنفاقهم على ذلك الجيش قاله : النخعي.
السابع إخبار جماعة من اليهود للمسلمين حين خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرهم بأشياء عرفوها ، فحمدهم المسلمون على ذلك ، وأبطنوا خلاف ما أظهر ، وأذكره الزجاج.
الثامن اتباع الناس لهم في تبديل تأويل التوراة ، وأحبوا حمدهم إياهم على ذلك ، ولم يفعلوا شيئاً نافعاً ولا صحيحاً قاله : مجاهد.
التاسع تخلف المنافقين عن الغزو وحلفهم للمسلمين أنهم يسرّون بنصرهم ، وكانوا يحبون أن يقال أنهم في حكم المجاهدين قاله : أبو سعيد الخدري.
والأقوال السابقة غير هذا الأخير مبنية على أن الآية نزلت في اليهود.
قيل : ويجوز أن يكون شاملاً لكل من يأتي بحسنة فرح بها فرح إعجاب ، ويحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بالديانة والزهد ، وبما ليس فيه.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : لا يحسبن ولا يحسبنهم بالياء فيهما ، ورفع باء يحسبنهم على إسناد يحسبن للذين ، وخرجت هذه القراءة على وجهين : أحدهما ما قاله أبو عليّ : وهو أن لا يحسبن لم يقع على شيء ، والذين رفع به.
وقد تجيء هذه الأفعال لغواً لا في حكم الجمل المفيدة نحو قوله :
وما خلت أبقي بيننا من مودّة . . .
عراض المداكي المسنفات القلائصا
وقال الخليل : العرب تقول : ما رأيته يقول ذلك إلا زيد ، وما ظننته يقول ذلك إلا زيد.
قال ابن عطية : فتتجه القراءة بكون فلا يحسبنهم بدلاً من الأول ، وقد تعدّى إلى المفعولين وهما : الضمير وبمفازة ، واستغنى بذلك عن المفعولين ، كما استغنى في قوله :
بأي كتاب أم بأية سنة . . .
ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب
أي : وتحسب حبهم عاراً عليّ.
والوجه الثاني ما قاله الزمخشري : وهو أن يكون المفعول الأول محذوفاً على لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة ، بمعنى : لا يحسبن أنفسهم الذين يفرحون فائزين.
وفلا يحسبنهم تأكيد ، وتقدّم لنا الرد على الزمخشري في تقديره لا يحسبنهم الذين في قوله : { ولا يحسبن الذين كفروا أنما } وإن هذا التقدير لا يصح فيطلع هناك.

وتعدى في هذه القراءة فعل الحسبان إلى ضميريه المتصلين : المرفوع والمنصوب ، وهو مما يختص به ظننت وأخواتها ، ومن غيرها : وجدت ، وفقدت ، وعدمت ، وذلك مقرّر في علم النحو.
وقرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم : لا تحسبن ، وفلا تحسبنهم بتاء الخطاب ، وفتح الباء فيهما خطاباً للرسول ، وخرجت هذه القراءة على وجهين : أحدهما ذكره ابن عطية ، وهو أن المفعول الأول هو : الذين يفرحون.
والثاني محذوف لدلالة ما بعده عليه كما قيل آنفاً في المفعولين.
وحسن تكرار الفعل فلا يحسبنهم لطول الكلام ، وهي عادة العرب ، وذلك تقريب لذهن المخاطب.
والوجه الثاني ذكره الزمخشري ، قال : وأحد المفعولين الذين يفرحون ، والثاني بمفازة.
وقوله : فلا يحسبنهم توكيد تقديره لا يحسبنهم ، فلا يحسبنهم فائزين.
وقرىء لا تحسبن فلا تحسبنهم بتاء الخطاب وضم الباء فيهما خطاباً للمؤمنين.
ويجيء الخلاف في المفعول الثاني كالخلاف فيه في قراءة الكوفيين.
وقرأ نافع وابن عامر : لا يحسبن بياء الغيبة ، وفلا تحسبنهم بتاء الخطاب ، وفتح الباء فيهما ، وخرجت هذه القراءة على حذف مفعولي يحسبن لدلالة ما بعدهما عليهما.
ولا يجوز في هذه القراءة البدل الذي جوّز في قراءة ابن كثير وأبي عمرو لاختلاف الفعلين لاختلاف الفاعل.
وإذا كان فلا يحسبنهم توكيداً أو بدلاً ، فدخول الفاء إنما يتوجه على أن تكون زائدة ، إذ لا يصح أن تكون للعطف ، ولا أن تكون فاء جواب الجزاء.
وأنشدوا على زيادة الفاء قول الشاعر :
حتى تركت العائدات يعدنه . . .
يقلن فلا تبعد وقلت له : ابعد
وقال آخر :
لما اتقى بيد عظيم جرمها . . .
فتركت ضاحي : كفه يتذبذب
أي : لا تبعد ، وأي تركت.
وقرأ النخعي ومروان بن الحكم بما آتوا بمعنى : أعطوا.
وقرأ ابن جبير والسلمي : بما أوتوا مبنياً للمفعول.
وتقدّمت الأقوال في أتوا ، وبعضها يستقيم على هاتين القراءتين.
وفي حرف عبد الله بما لم يفعلوا بمفازة ، وأسقط فلا يحسبنهم.
ومفازة مفعلة من فاز ، وهي للمكان أي : موضع فوز ، أي : نجاة.
وقال الفرّاء : أي ببعد من العذاب ، لأن الفوز معناه التباعد من المكروه.
وفي هذه الآية دلالة على أن تزين الإنسان بما ليس فيه وحبه المدح عليه منهى عنه ومذموم شرعاً.
وقال تعالى : { لم تقولون مالا تفعلون } وفي الحديث الصحيح : « المتشبع بما ليس فيه كلابس ثوبي زور » وقد أخبر تعالى عنهم بالعذاب الأليم في قوله : ولهم عذاب أليم.
وناسب وصفه بأليم لأجل فرحهم ومحبتهم المحمدة على ما لم يفعلوا.
{ ولله ملك السموات والأرض والله على كل شيء قدير } ذكر تعالى أنهم من جملة ما ملك ، وأنه قادر عليهم ، فهم مملوكون مقهورون مقدور عليهم ، فليسوا بناجين من العذاب.
{ إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } تقدّم شرح نظير هذه الجملة في سورة البقرة.
ومعنى لآيات : العلامات واضحة على الصانع وباهر حكمته ، ولا يظهر ذلك إلا لذوي العقول ينظرون في ذلك بطريق الفكر والاستدلال ، لا كما تنظر البهائم.

وروي ابن جبير عن ابن عباس أن قريشاً قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهباً ، حين ذكرت اليهود والنصارى لهم بعض ما جاء به من المعجزات موسى عليهما السلام ، فنزلت هذه الآية.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة ، لأنه تعالى لمّا ذكر أنه مالك السموات والأرض ، وذكر قدرته ، ذكر أنّ في خلقهما دلالات واضحة لذوي العقول.
{ الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } الظاهر أن الذكر هو باللسان مع حضور القلب ، وأنه التحميد والتهليل والتكبير ، ونحو ذلك من الاذكار.
هذه الهيئات الثلاثة هي غالب ما يكون عليها المرء ، فاستعملت والمراد بها جميع الأحوال.
كما قالت عائشة : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه » وظاهر هذا الحديث والآية يدل على جواز ذكر الله على الخلاء.
وقال بجواز ذلك : عبد الله بن عمر ، وابن سيرين والنخعي.
وكرهه : ابن عباس ، وعطاء ، والشعبي.
وعن ابن عمر وعروة بن الزبير وجماعة أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى فجعلوا يذكروا الله فقال بعضهم : أما قال الله تعالى : قياماً وقعوداً؟ فقاموا يذكرون الله على أقدامهم.
وروي في الحديث : « من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله » وإلى أن المراد بالذكر هو الظاهر الذي ذكرناه.
ذهب ابن جريج والجمهور : والذكر من أعظم العبادات ، والأحاديث فيه كثيرة.
وقال ابن عباس وجماعة : المراد بالذكر الصلوات ، ففي حال العذر يصلونها قعوداً وعلى جنوبهم ، وسماها ذكراً لاشتمالها على الذكر.
وقيل : المراد بالذكر صلاة النفل يصليها كيف شاء.
وجلب المفسرون في هذه الآية أشياء من كيفية إيقاع الصلاة في القيام والقعود والاضطجاع ، وخلاف الفقهاء في ذلك ، ودلائلهم.
وذلك مقرر في علم الفقه.
وعلى الظاهر من تفسير الذكر فتقديم القيام ، لأن الذكر فيه أخف على الإنسان ، ثم انتقل إلى حالة القعود والذكر فيه أشق منه في حالة القيام ، لأن الإنسان لا يقعد غالباً إلا لشغل يشتغل به من صناعة أو غيرها.
ثم انتقل إلى هيئة الاضطجاع والذكر فيها أشق منه في هيئة القعود ، لأن الاضطجاع هو هيئة استراحة وفراغ عن الشواغل.
ويمكن في هذه الهيئات أن يكون التقديم لما هو أقصر زماناً ، فبدىء بالقيام لأنها هيئة زمانها في الغالب أقصر من زمان القعود ، ثم بالقعود إذ زمانه أطول ، وبالاضطجاع إذ زمانه أطول من زمان القعود.
ألا ترى أنَّ الليل جميعه هو زمان الاضطجاع ، وهو مقابل لزمان القعود والقيام ، وهو النهار؟ وأما إذا كان الذكر يراد به الصلاة المفروضة ، فالهيئات جاءت على سبيل الندرة.
فمن قدر على القيام لا يصلي قاعداً ، ومن قدر على القعود لا يصلي مضطجعاً ، وأما إذا كان يراد به صلاة النفل فالهيئات على سبيل الأفضلية ، إذ الأفضل التنفل قائماً ثم قاعداً ثم مضطجعاً.

وأبعد في التفسير من ذهب إلى أن المعنى : يذكرون الله قياماً بأوامره ، وقعوداً عن زواجره ، وعلى جنوبهم أي تجانبهم مخالفة أمره ونهيه.
وهذا شبيه بكلام أرباب القلوب ، وقريب من الباطنية.
وجوزوا في الذين النعت والقطع للرفع والنصب ، وعلى جنوبهم حال معطوفة على حال ، وهنا عطف المجرور على صريح الاسم.
وفي قوله : دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً عطف صريح الاسم على المجرور.
{ ويتفكرون في خلق السموات والأرض } الظاهر أنه معطوف على الصلة ، فلا موضع له من الإعراب.
وقيل : الجملة في موضع نصب على الحال ، عطفت على الحال قبلها.
ولما ذكر الذكر الذي محله اللسان ، ذكر الفكر الذي محله القلب.
ويحتمل خلق أن يراد به المصدر ، فإن الفكرة في الخلق لهذه المصنوعات الغريبة الشكل والقدرة على إنشاء هذه من العدم الصرف ، يدل على القدرة التامة والعلم والأحدية إلى سائر الصفات العلية.
وفي الفكر في ذلك ما يبهر العقول ، ويستغرق الخواطر.
ويحتمل أن يراد به المخلوق ، ويكون أضافه من حيث المعنى إلى الظرفين ، لا إلى المفعول ، والفكر في ما أودع الله في السموات من الكواكب النيرة والأفلاك التي جاء النصر فيها وما أودع في الأرض من الحيوانات والنبات والمعادن ، واختلاف أجناسها وأنواعها وأشخاصها أيضاً يبهر العقل ويكثر العبر
وفي كل شيء له آية . . .
تدل على أنه الواحد
ومر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال : « تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره » وقال بعض العلماء : المتفكر في ذات الله كالناظر في عين الشمس ، لأنه تعالى ليس كمثله شيء.
وإنما التفكر وانبساط الذهن في المخلوقات وفي مخلوق الآخرة.
وفي الحديث : « لا عبادة كتفكر » وذكر المفسرون من كلام الناس في التفكر ومن أعيان المتفكرين كثيراً ، رأينا أن لا نطول كتابنا بنقلها { ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } هذه الجملة محكية بقول محذوف تقديره : يقولون.
وهذا الفعل في موضع نصب على الحال ، والإشارة بهذا إلى الخلق إن كان المراد المخلوق ، أو إلى السموات والأرض لأنها في معنى المخلوق.
أي : ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلاً.
قيل : المعنى خلقاً باطلاً أي : لغير غاية ، بل خلقته وخلقت البشر لينظر فيه ، فيوحد ويعبد.
فمن فعل ذلك نعمته ، ومن ضل عن ذلك عذبته.
وقال الزمخشري : المعنى ما خلقته خلقاً باطلاً بغير حكمة بل خلقته لداعي حكمة عظيمة وهو : أن تجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفتك ، ووجوب طاعتك ، واجتناب معصيتك.
ولذلك وصل به قوله : فقنا عذاب النار ، ولأنه جزاء من عصى ولم يطع انتهى.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46