كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

وفارس لم يحلّ اليوم عدوته . . .
ولو إسراعاً وما هموا بإقبال
وقرىء بالعدية بقلب الواو لكسرة العين ولم يعتدّوا بالساكن لأنه حاجز غير حصين كما فعلوا ذلك في صبية وقنية ودنيا من قولهم هو ابن عمي دنيا والأصل في هذا التصحيح كالصفوة والذروة والربوة وفي حرف ابن مسعود { بالعدوة } العليا { وهم بالعدوة } السفلى ووادي بدر آخذين الشرق والقبلة منحرف إلى البحر الذي هو قريب من ذلك الصقع والمدينة من الوادي من موضع الوقعة منه في الشرق وبينهما مرحلتان ، وقرأ زيد بن علي القصيا وقد ذكرنا أنه القياس وذلك لغة تميم والأحسن أن يكون وهم { والركب } معطوفان على { أنتم } فهي مبتدآت تقسيم لحالهم وحال أعدائهم ويحتمل أن تكون الواوان فيهما واوي الحال وأسفل ظرف في موضع الخبر ، وقرأ زيد بن { على أسفل } بالرفع اتسع في الظرف فجعله نفس المبتدأ مجازاً { والركب } هم الأربعون الذين كانوا يقودون العِير عير أبي سفيان ، وقيل الإبل التي كانت تحمل أزواد الكفار وأمتعتهم كانت في موضع يأمنون عليها.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين وإن العِير كانت أسفل منهم ( قلت ) : الفائدة فيه الإخبار عن الحالة الدالة على قوّة شأن العدوّ وشوكته وتكامل عدّته وتمهد أسباب الغلبة له وضعف شأن المسلمين وشتات أمرهم وإن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعاً من الله تعالى ودليل على أن ذلك أمر لم يتيسّر إلا بحوله تعالى وقوته وباهر قدرته ، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضاً لا بأس بها ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار تسوخ فيها الأرجل ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة وكانت العِير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم وكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ليبعثهم الذبّ عن الحرم والغيرة على الحرم على بذل تجهيداتهم في القتال أن لا يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه فيجمع ذلك قلوبهم ويضبط هممهم ويوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطئهم ولا يخلو مراكزهم ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدتهم وفيه تصوير ما دبّر سبحانه من أمر وقعة بدر انتهى ، وهو كلام حسن.
وقال ابن عطية : كان الرّكب ومدبّر أمره أبو سفيان قد نكب عن بدر حين ندر بالنبي صلى الله عليه وسلم وأخذ سيف البحر فهو أسفل بالإضافة إلى أعلى الوادي من حيث يأتي.
{ ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم }.
كان الالتقاء على غير ميعاد.
قال مجاهد : أقبل أبو سفيان وأصحابه من الشام تجاراً لم يشعروا بأصحاب بدر ولم يشعر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بكفار قريش ولا كفار قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى التقوا على ماء بدر للسّقي كلهم فاقتتلوا فغلبهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأسروهم ، قال الطبريّ وغيره : المعنى لو تواعدتم على الاجتماع ثم علمتم كثرتهم وقلتكم لخالفتم ولم تجتمعوا معهم وقال معناه الزمخشري ، قال : { ولو تواعدتم } أنتم وأهل مكة وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه للقتال لخاف بعضكم بعضاً فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله وسببه له ، وقال المهدوي : المعنى { لاختلفتم } بالقواطع والعوارض القاطعة بالناس ، قال ابن عطية : وهذا أنبل يعني من قول الطبري وأصحّ وإيضاحه أن المقصد من الآية تبين نعمة الله وقدرته في قصة بدر وتيسيره ما تيسر من ذلك فالمعنى إذ هيّأ الله لكم هذه الحال { ولو تواعدتم } لها { لاختلفتم } إلا مع تيسير الله الذي تمّم ذلك وهذا كما تقول لصاحبك في أمر شاءه الله دون تعب كثير لو ثبنا على هذا وسعينا فيه لم يتم هكذا انتهى ، وقال الكرماني { ولو تواعدتم } أنتم والمشركون للقتال { لاختلفتم في الميعاد } أي كانوا لا يصدّقون مواعدتكم طلباً لغرتكم والجيلة عليكم ، وقيل المعنى { ولو تواعدتم } من غير قضاء الله أمر الحرب { لاختلفتم في الميعاد } { ليقضي الله أمراً } من نصر دينه وإعزاز كلمته وكسر الكفار وإذلالهم كان مفعولاً أي موجوداً متحققاً واقعاً وعبّر بقوله { مفعولاً } لتحقّق كونه.

قال ابن عطية : ليقضي أمراً قد قدّره في الأزل مفعولاً لكم بشرط وجودكم في وقت وجودكم وذلك كله معلوم عنده ، وقال الزمخشري : { ليقضي الله } متعلق بمحذوف أي { ليقضي الله أمراً } كان واجباً أن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك ، وقيل كان بمعنى { صار ليهلك } بدل من ليقضي فيتعلق بمثل ما تعلق به { ليقضي } ، وقيل يتعلق بقوله { مفعولاً } ، وقيل الأصل و { ليهلك } فحذف حرف العطف والظاهر أن المعنى ليقتل من قتل من كفار قريش وغيرهم عن بيان من الله وإعذار بالرسالة ويعيش من عاش عن بيان منه وأعذار لا حجة لأحد عليه ، وقال ابن إسحاق وغيره : ليكفر ويؤمن فالمعنى أنّ الله تعالى جعل قصة بدر عبرة وآية ليؤمن مَن آمن عن وضوح وبيان ويكفر من كفر عن مثل ذلك ، وقرأ الأعمش وعصمة عن أبي بكر عن عاصم : { ليهلك } بفتح اللام ، وقرأ نافع والبزي وأبو بكر { من حيي } بالفكّ وباقي السبعة بالإدغام وقال المتلمس :
فهذا أوان العرض حيّ ذبابه . . .
والفكّ والإدغام لغتان مشهورتان وختم بهاتين الصفتين لأنّ الكفر والإيمان يستلزمان النطق اللساني والاعتقاد الجناني فهو سميع لأقوالكم عليم بنياتكم.

{ إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكّن الله سلم إنه عليم بذات } الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وتظاهرت الروايات أنها رؤيا منام رأى الرسول صلى الله عليه وسلم فيها الكفار قليلاً فأخبر بها أصحابه فقويت نفوسهم وشجعت على أعدائهم ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين انتبه : « أبشروا لقد نظرت إلى مصارع القوم » والمراد بالقلّة هنا قلة القدر واليأس والنجدة وأنهم مهزومون مصروعون ولا يحمل على قلة العدد لأنه صلى الله عليه وسلم رؤياه حق وقد كان علم أنهم ما بين تسعمائة إلى ألف فلا يمكن حمل ذلك على قلّة العدد وروي عن الحسن أن معنى { في منامك } في عينك لأنها مكان النوم كما قيل للقطيفة المنامة لأنه ينام فيها فتكون الرؤية في اليقظة وعلى هذا فسّر النقاش وذكره عن المازني وما روي عن الحسن ضعيف ، قال الزمخشري وهذا تفسير فيه تعسّف وما أحسب الرواية فيه صحيحة عن الحسن وما يلائم علمه بكلام العرب وفصاحته والمعنى : { ولو أراكهم } في منامك { كثيراً لفشلتم } أي لخرتم وجبنتم عن اللقاء { ولتنازعتم في الأمر } أي تفرّقت آراؤكم في أمر القتال فكان يكون ذلك سبباً لانهزامكم وعدم إقدامكم على قتال أعدائكم لأنه لو رآهم كثيراً أخبركم برؤياه ففشلتم ولما كان الرسول عليه السلام محميّاً من الفشل معصوماً من النقائص أسند الفشل إلى مَن يمكن ذلك في حقّه فقال تعالى { لفشلتم } وهذا من محاسن القرآن ولكن الله سلم من الفشل والتنازع والاختلاف بإرايته له صلى الله عليه وسلم الكفار قليلاً فأخبرهم بذلك فقويت به نفوسهم { إنه عليم بذات الصدور } يعلم ما سيكون فيها من الجرأة والجبن والصبر والجزع { وإذ } بدل من { إذ } وانتصب { قليلاً }.
قال الزمخشري على الحال وما قاله ظاهر لأنّ أرى منقولة بالهمزة من رأى البصرية فتعدت إلى اثنين الأوّل كاف خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، والثاني ضمير الكفار فقليلاً وكثيراً منصوبان على الحال وزعم بعض النحويين أن أرى الحلمية تتعدى إلى ثلاثة كأعلم وجعل من ذلك قوله تعالى : { إذ يريكم الله في منامك قليلاً } فانتصاب قليلاً عنده على أنه مفعول ثالث وجواز حذف هذا المنصوب اقتصاراً يبطل هذا المذهب.
تقول رأيت زيداً في النوم وأراني الله زيداً في النوم.
{ وإذا يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً وإلى الله ترجع الأمور }.
هذه الرؤية هي يقظة لا منام وقلل الكفار في أعين المؤمنين تحقيراً لهم ولئلا يجبنوا عن لقائهم.
قال ابن مسعود : لقد قلّلوا في أعيننا حتى قلت لرجل : إلى جنبي أتراهم سبعين ، قال : أراهم مائة وهذا من عبد الله لكونه لم يسمع ما أعلم به الرسول صلى الله عليه وسلم من عددهم وقلّل المؤمنون في أعين الكفار حتى قال قائل منهم : إنما هم أكلة جزور وذلك قبل الالتقاء وذلك ليجترئوا على المؤمنين فتقع الحرب ويلتحم القتال ، إذ لو كثروا قبل اللقاء لأحجموا وتحيّلوا في الخلاص أو استعدوا واستنصروا ولما التحم القتال كثر الله المؤمنين في أعين الكفار فبهتوا وهابوا وفلت شوكتهم ورأوا ما لم يكن في حسابهم كما قال

{ يرونهم مثليهم رأي العين } وعظم الاحتجاج عليهم استيضاح الآية البينة من قلتهم أولاً وكثرتهم رخراً ورؤية كل من الطائفتين يكون بأن ستر الله بعضها عن بعض أو بأن أحدث في أعينهم ما يستقلّون به الكثير هذا إذا كانت الرؤية حقيقة وأما إذا كانت بمعنى التّخمين والحذر الذي يستعمله الناس فيمكن ذلك ، وعلى التقديرين لا يندرج الرسول في خطاب { وإذ يريكموهم } لأنه لا يجوز على أن يرى الكثير قليلاً لا حقيقة ولا تخميناً على أنه يحتمل أن يكون من باب تقليل القدر والمهابة والنجدة لا من باب تقليل العدد ألا ترى قولهم المرء كثيراً بأخيه وإلى قول الشاعر :
أروح وأغتدي سفهاً . . .
أكثر من أقلّ به
فهذا من باب التقليل والتكثير في المنزلة والقدر ، لا من باب تقليل العدد { ليقضي } أي فعل ذلك ليقضي والمفعول في الآيتين هو القصة بأسرها ، وقيل هما المعنيين من معاني القصة أريد بالأوّل الوعد بالنصرة يوم بدر وبالثاني الاستمرار عليها وتقدم تفسير { وإلى الله ترجع الأمور } واختلاف القراء في { ترجع } في سورة البقرة.
{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون } أي فئة كافرة حذف الوصف لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار واللقاء اسم للقتال غالب وأمرهم تعالى بالثبات وهو مقيد بآية الضعف وفي الحديث : « لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا » وأمرهم بذكره تعالى كثيراً في هذا الموطن العظيم من مصابرة العدو والتلاحم بالرماح وبالسيوف وهي حالة يقع فيها الذهول عن كل شيء فأمروا بذكر الله إذ هو تعالى الذي يفزع إليه عند الشدائد ويستأنس بذكره ويستنصر بدعائه ومن كان كثير التعلق بالله ذكره في كل موطن حتى في المواضع التي يذهل فيها عن كل شيء ويغيب فيها الحسّ { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } وحكى لي بعض الشجعان أنه حالة التحام القتال تأخذ الشجاع هزة وتعتريه مثل السكر لهول الملتقى فأمر المؤمنين بذكر الله في هذه الحالة العظيمة وقد نظم الشعراء هذا المعنى فذكروا أنهم في أشقّ الأوقات عليهم وأشدّها لم ينسوا مَحبوبَهم وأكثروا في ذلك فقال بعضهم :
ذكرت سليمى وحرّ الوغى . . .
كقلبي ساعة فارقتها
وأبصرت بين القنا قدّها . . .
وقد ملن نحوي فعانقتها

قال قتادة : افترض الله ذكره أشغل ما يكون العبد عند الضراب والسيوف ، وقال الزمخشري : فيه إشعار بأنّ على العبد أن لا يفتر عن ذكر الله أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون همّاً وأن يكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزّعة عن غيره ، وذكر أن الثبات وذكر الله سببا الفلاح وهو الظفر بالعدو في الدنيا والفوز في الآخرة بالثواب ، والظاهر أن الذكر المأمور به هو باللسان فأمر بالثبات بالجنان وبالذكر باللسان والظاهر أن لا يعين ذكر ، وقيل هو قول المجاهدين : الله أكبر الله أكبر عند لقاء الكفار ، وقيل الدعاء عليهم : اللهم اخذلهم اللهم دمرهم وشبهه ، وقيل دعاء المؤمنين لأنفسهم بالنصر والظفر والتثبيت كما فعل قوم طالوت فقالوا { ربنا أفرغ علينا صبراً وثبِّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } وقيل : حم لا ينصرون وكان هذا شعار المؤمنين عند اللقاء ، وقال محمد بن كعب : لو رخص ترك الذكر لرخص في الحرب ولذكرنا حيث أمر بالصمت ثم قيل له : واذكر ربك كثيراً ، وحكم هذا الذكر أن يكون خفياً إلا إن كان من الجميع وقت الحملة فحسن رفع الصوت به لأنه يفت في أعضاد الكفار وفي سنن أبي داود كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند القتال وعند الجنازة ، وقال ابن عباس : يكره التلثم عند القتال.
{ وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبِروا إن الله مع الصابرين } ، أمرهم تعالى بالطاعة لله ولرسوله ونهاهم عن التنازع وهو تجاذب الآراء وافتراقها والأظهر أن يكون { فتفشلوا } جواباً للنهي فهو منصوب ولذلك عطف عليه منصوب لأنه يتسبب عن التنازع الفشل وهو الخور والجبن عن لقاء العدو وذهاب الدولة باستيلاء العدو ويجوز أن يكون { فتفشلوا } مجزوماً عطفاً على { ولا تنازعوا } وذلك في قراءة عيسى بن عمر ويذهب بالياء وجزم الباء ، وقرأ أبو حيوة وإبان وعصمة عن عاصم ويذهب بالياء ونصب الباء ، وقرأ الحسن وابراهيم { فتفشِلوا } بكسر الشين ، قال أبو حاتم : وهذا غير معروف ، وقال غيره : هي لغة.
قال مجاهد : الريح والنصرة والقوة وذهبت ريح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ناغوه بأحد ، وقال الزمخشري : والريح الدّولة شبهت لنفوذ أمرها وتشبيه بالريح وهبوبها ، فقيل : هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره.
ومنه قوله :
أتنظران قليلاً ريث غفلتهم . . .
أم تعدوان فإنّ الريح للعادي
انتهى وهو قول أبي عبيدة إن الريح هي الدولة ومن استعارة الريح قول الآخر :
إذا هبت رياحك فاغتنمها . . .
فإن لكلّ عاصفة سكونا
ورواه أبو عبيدة ركوداً.
وقال شاعر الأنصار :
قد عودتهم صباهم أن يكون لهم . . .
ريح القتال وأسلاب الذين لقوا
وقال زيد بن علي ويذهب ريحكم معناه الرّعب من قلوب عدوكم ومنه قيل للخائف انتفخ سحره.
قال ابن عطية : وهذا حسن بشرط أن يعلم العدوّ بالتنازع فإذا لم يعلم فالذاهب قوة المتنازعين فينهزمون انتهى ، وقال ابن زيد وغيره الريح على بابها وروي في ذلك أن النصر لم يكن قط إلا بريح تهب فتضرب في وجوه الكفار واستند بعضهم في هذه المقالة إلى قوله صلى الله عليه وسلم

« نصرت بالصبا » ، وقال الحكم { وتذهب ريحكم } يعني الصّبا إذ بها نصر محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، وقال مقاتل { ريحكم } حدتكم ، وقال عطاء جلدكم ، وحكى التبريزي هيبتكم ، ومنه قول الشاعر :
كما حميناك يوم النّعف من شطط . . .
والفضل للقوم من ريح ومن عدد
{ ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدُّون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط }.
نزلت في أبي جهل وأصحابه خرجوا النصرة العِير بالقينات والمعازف ووردوا الجحفة فبعث خفاف الكناني وكان صديقاً له بهدايا مع ابنه وقال : إن شئت أمددناك بالرجال وإن شئت بنفسي مع من خفّ من قومي ، فقال أبو جهل : إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فوالله ما لنا بالله طاقة وإن كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا على الناس لقوة والله ، لا نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدراً فنشرب فيها الخمور وتعزف علينا القينات فإنّ بدراً مركز من مراكز العرب وسوق من أسواقهم حتى تسمع العرب مخرجنا فتهابنا آخر الأبد فوردوا بدراً فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القينات ، فنهى الله المؤمنين أن يكون مثل هؤلاء بطرين طربين مرائين بأعمالهم صادين عن سبيل الله ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم إن قريشاً أقبلت بفخرها وخيلائها تجادل وتكذب رسولك اللهم فاحثها الغداة » وفي قوله { والله بما يعملون محيط } وعيد وتهديد لمن بقي من الكفار.
{ وإذ زيّن لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب }.
{ أعمالهم } ما كانوا فيه من الشرك وعبادة الأصنام ومسيرهم إلى بدر وعزمهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا التزيين والقول والنكوص هل ذلك على سبيل المجاز أو الحقيقة قولان للمفسرين بدأ الزمخشري بالأوّل فقال : وسوس إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون وأوهمهم أنّ اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما تحبرهم فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم ، أي بطل كيده حين نزلت جنود الله وكذا عن الحسن كان ذلك على سبيل الوسوسة ولم يتمثل لهم انتهى ، ويكون ذلك من باب مجاز التمثيل ، وقال المهدويّ يضعف هذا القول إنّ قوله : { وإنّي جار لكم } ليس مما يلقى بالوسوسة انتهى ، ويمكن أن يكون صدور هذا القول على لسان بعض الغواة من الناس قال لهم ذلك بإغواء إبليس له ونسب ذلك إلى إبليس لأنه هو المتسبب في ذلك القول فيكون القول والنكوص صادرين من إنسان حقيقة والجمهور على أنّ إبليس تصور لهم فعن ابن عباس في صورة رجل من بني مدلج في جند من الشياطين معه راية ، وقيل جاءهم في طريقهم إلى بدر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وقد خافوا من بني بكر وكنانة لدخول كانت بينهم وكان من أشراف كنانة فقال : ما حكى الله عنه ومعنى { جار لكم } مجيركم من بني كنانة فلما رأى الملائكة تنزل نكص ، وقيل كانت يده في يد الحارث بن هشام فلما نكص قال له الحرث : إلى أن أتخذ لنا في هذه الحال فقال { إني أرى ما لا ترون } ودفع في صدر الحرث وانطلق وانهزموا فلما بلغوا مكة قالوا هزم الناس سراقة بن مالك فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان.

وفي الموطأ وغيره ما رؤي الشيطان في يوم قل ولا أحقر ولا أصغر في يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رأى يوم بدر قيل : وما رأى يا رسول الله قال : رأى الملائكة يريحها جبريل ، وقال الحسن : رأى إبليس جبريل يقود فرسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتجر ببردة وفي يده اللجام و { لكم } ليس متعلقاً بقوله : { لا غالب } لأنه كان يلزم تنوينه لأنه يكون اسم لا مطولاً والمطول يعرب ولا يبنى بل لكم في موضع رفع على الخبر أي كائن لكم وبما تعلق المجرور تعلّق الظرف و { اليوم } عبارة عن يوم بدر ويحتمل أن يكون قوله { وإني جار لكم } معطوفاً على { لا غالب لكم اليوم } ويحتمل أن تكون الواو للحال أي لا أحد يغلبكم وأنا جار لكم أعينكم وأنصركم بنفسي وبقومي و { الفئتان } جمعاً المؤمنين والكافرين ، وقيل فئة المؤمنين وفئة الملائكة { نكص على عقبيه } رجع في ضد إقباله وقال : { إني بريء منكم } مبالغة في الخذلان والانفصال عنهم لم يكتفِ بالفعل حتى أكد ذلك بالقول { ما لا ترون } رأي خرق العادة ونزول الملائكة { إني أخاف الله } ، قال قتادة وابن الكلبي معذرة كاذبة لم يخف الله قط ، وقال الزجاج وغيره : بل خاف مما رأى من الهول إنه يكون اليوم الذي أنظر إليه انتهى وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر } ويحتمل أنّ يكون { والله شديد العقاب } معطوفاً على معمول القول قال : ذلك بسطاً لعذره عندهم وهو متحقق أنّ عذاب الله شديد ويحتمل أن يكون من كلام الله استأنف تهديداً لإبليس ومن تابعه من مشركي قريش.
{ إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم } ، العامل في { إذ } { زيّن } أو { نكص } أو { سميع عليم } أو { اذكروا } أقوال وظاهر العطف التغاير.

فقيل { المنافقون } هم من الأوس والخزرج لما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم قال بعضهم : نخرج معه ، وقال بعضهم : لا نخرج { غرّ هؤلاء } أي المؤمنين { دينهم } فإنهم يزعمون أنهم على حق وأنهم لا يغلبون هذا معنى قول ابن عباس ، { والذين في قلوبهم مرض } قوم أسلموا ومنهم أقرباؤهم من الهجرة فأخرجتهم قريش معها كرهاً فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا وقالوا { غرّ هؤلاء دينهم } فقتلوا جميعاً ، منهم قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة والحرث بن زمعة بن الأسود وعلي بن أمية والعاصي بن منبه بن الحجاج ولم يذكر أنّ منافقاً شهد بدراً مع المسلمين إلا معتب بن قشير فإنه ظهر منه يوم أحد قوله : { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا } ، وقيل { والذين في قلوبهم مرض } هو من عطف الصّفات وهي لموصوف واحد وصفوا بالنفاق وهو إظهار ما يخفيه من المرض كما قال تعالى في قلوبهم مرض وهم منافقو المدينة ، وعن الحسن هم المشركون ويبعد هذا إذ لا يتّصف المشركون بالنفاق لأنهم مجاهرون بالعداوة لا منافقون ، وقال ابن عطية ، قال المفسّرون : إنّ هؤلاء الموصوفين بالنفاق ومرض القلوب إنما هم من أهل عسكر الكفار لما أشرفوا على المسلمين ورأوا قلّة عددهم قالوا مشيرين إلى المسلمين { غرّ هؤلاء دينهم } أي اغترّوا فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به وكنّى بالقلوب عن العقائد والمرض أعمّ من النفاق إذ يطلق مرض القلب على الكفر.
{ ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم } هذا يتضمن الردّ على من قال { غرّ هؤلاء دينهم } فكأنه قيل هؤلاء في لقاء عدوّهم هم متوكلون على الله فهم الغالبون ، { ومن يتوكل على الله } ينصره ويعزَّه { فإن الله عزيز } لا يغالب بقوة ولا بكثرة { حكيم } يضع الأشياء مواضعها أو حاكم بنصره من يتوكل عليه فيديل القليل على الكثير.
{ ولو ترى إذ يتوفّى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدّمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبِيد }.
{ لو } التي ليست شرطاً في المستقبل تقلب المضارع للمضي فالمعنى لو رأيت وشاهدت وحذف جواب لو جاز بليغ حذفه في مثل هذا لأنه يدلّ على التعظيم أي لرأيت أمراً عجيباً وشأناً هائلاً كقوله { ولو ترى إذ وقفوا على النار } ، والظاهر أنّ { الملائكة } فاعل { يتوفى } ويدلّ عليه قراءة ابن عامر والأعرج تتوفى بالتاء وذكر في قراءة غيرهما لأن تأنيث الملائكة مجاز وحسنه الفضل ، وقيل : الفاعل في هذه القراءة الفاعل ضمير الله و { الملائكة } مبتدأ والجملة حاليّة ، كهي في { يضربون } ، قال ابن عطية : ويضعفه سقوط واو الحال فإنها في الأغلب تلزم مثل هذا انتهى ، ولا يضعفه إذ جاء بغير واو في كتاب الله وفي كثير من كلام العرب و { الملائكة } ملك الموت وذكر بلفظ الجمع تعظيماً أو هو وأعوانه من الملائكة فيكون التوفي قبض أرواحهم أو الملائكة الممدّ بهم يوم بدر ، والتوفي قتلهم ذلك اليوم أو ملائكة العذاب فالتوفي سوقهم إلى النار أقوال ثلاثة ، والظاهر حقيقة الوجوه والإدبار كناية عن الأستاه.

قال مجاهد : وخصا بالضرب لأن الخزي والنكال فيهما أشد ، وقيل : ما أقبل منهم وما أدبر فيكون كناية عن جميع البدن وإذا كان ذلك يوم بدر فالظاهر أن الضّاربين هم الملائكة.
وقيل : الضمير عائد على المؤمنين أي يضرب المؤمنون فمن كان أمامهم من المؤمنين ضربوا وجوههم ومن كان وراءهم ضربوا أدبارهم فإن كان ذلك عند الموت ضربتهم الملائكة بسياط من نار ، وقوله { ذوقوا } هذا على إضمار القول من الملائكة أي ويقولون لهم { ذوقوا عذاب الحريق } ويكون ذلك يوم بدر وكانت لهم أسواط من نار يضربونهم بها فتشتغل جراحاتهم ناراً أو يقال لهم ذلك في الآخرة وهو كلام مستأنف من الله على سبيل التقريع للكافرين أما في الدنيا حالة الموت أي مقدّمة عذاب النار ، وأما في الآخرة ويحتمل ذلك وما يعده أن يكون من كلام الملائكة أو من كلام الله ، { ذلك } أي ذلك العذاب وهو مبتدأ خبره { بما قدّمت أيديكم } { وأنّ الله } عطف على ما أي ذلك العذاب بسبب كفركم وبسبب أنّ الله لا يظلمكم إذ أنتم مستحقّون العذاب فتعذيبكم عدل منه وتقدّم تفسير هذه الجملة في أواخر سورة آل عمران.
{ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إنّ الله قويّ شديد العقاب } تقدّم تفسير نظير هذه الآية في أوائل سورة آل عمران.
{ ذلك بأنّ الله لم يكُ مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بِأنفسهم وأنّ الله سميع عليم }.
{ ذلك } مبتدأ وخبره { بأن الله لم يكُ } أي ذلك العذاب أو الانتقام بسبب كذا وظاهر النعمة أنه يُراد به ما يكونون فيه من سعة الحال والرفاهية والعزّة والأمن والخصب وكثرة الأولاد والتغيير قد يكون بإزالة الذات وقد يكون بإزالة الصفات فقد تكون النعمة أذهبت رأساً وقد تكون قلّلت وأضعفت ، وقال القاضي أنعم الله عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع وتسهيل السبيل والمقصود أنْ يشتغلوا بالعبادة والشكر ويعدلوا عن الكفر فإذا صرفوا هذه الأمور إلى الكفر والفسق فقد غيّروا أنعم الله على أنفسهم فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم والمنح بالمحن وهذا من أوكد ما يدلّ على أنه تعالى لا يبتدىء أحداً بالعذاب والمضرّة وأنّ الذي يفعله لا يكون إلا جزاءً على معاص سلفت ولو كان تعالى خلقهم وخلق حياتهم وعقولهم ابتداءً للنار كما يقوله القوم لما صحّ ذلك انتهى.

قيل : وظاهر الآية يدلّ على ما قاله القاضي إلا أنه يمكن الحمل على الظاهر لأنه يلزم من ذلك أن يكون صفة الله معلّلة بفعل الإنسان ومتأثرة له وذلك محال في بديهة العقل وقد قام الدليل على أنّ حكمه وقضاءه سابق أوّلاً فلا يمكن أن يكون فعل إلا بقضائه وإرادته.
وقيل أشار بالنعمة إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعثه رحمة فكذّبوه فبدّل الله ما كانوا فيه من النعمة بالنقمة في الدنيا وبالعقاب في الآخرة قاله السدّي والظاهر من قوله { على قوم } العموم في كل من أنعم الله عليه من مسلم وكافر وبرّ وفاجر وأنه تعالى متى أنعم على أحد فلم يشكر بدّله عنها بالنقمة ، وقيل القوم هنا قريش أنعم الله تعالى عليهم ليشكروا ويفردوه بالعبادة فجحدوا وأشركوا في ألوهيته وبعث إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم فكذّبوه فلما غيروا ما اقتضته نعمة وحدّثتهم أنفسهم بأنّ تلك النِّعم من قبل أوثانهم وأصنامهم غير تعالى عليهم بنقمة في الدنيا وأعدّ لهم العذاب في العقبى ، وقال ابن عطية : ومثال هذا نعمة الله على قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم فكفروا وغيّروا ما كان يجب أن يكونوا عليه فغير الله تلك النعمة بأن نقلها إلى غيرهم من الأنصار وأحلّ بهم عقوبته انتهى.
وتغيير آل فرعون ومشركي مكة ومن يجري مجراهم بأن كانوا كفاراً ولم تكن لهم حالة مرضية فغيّروا تلك الحالة المسخوطة إلى أسخط منها من تكذيب الرّسل والمعاندة والتخريب وقتل الأنبياء والسعي في إبطال آيات الله فغير الله تعالى ما كان أنعم عليهم به وعاجلهم ولم يمهلهم وفي قول الزمخشري ذلك العذاب أو الانتقام بسبب أن الله تعالى لم ينبغ له ولم يصحّ في حكمته أن يغير نعمه عند قوم حتى يغيّروا ما بهم من الحال دسيسة الاعتزال { وأن الله سميع } لأقوال مكذّبي الرسول ، { عليم } بأفعالهم فهو مجازيهم على ذلك.
{ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذّبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين } قال قوم : هذا التكرير للتأكيد ، وقال ابن عطية : هذا التكرير لمعنى ليس للأوّل أو الأوّل أو الأوّل دأب في أنْ هلكوا لما كفروا وهذا الثاني دأب في أن لم يغير نعمتهم حتى يغيّروا ما بأنفسهم انتهى ، وقال قوم : كرّر لوجوه منها أن الثاني جرى مجرى التفصيل للأول لأنّ في ذلك ذكر إجرامهم وفي هذا ذكر إغراقهم وأُريد بالأول ما نزل بهم من العقوبة حال الموت وبالثاني ما نزل بهم من العذاب في الآخرة وفي الأوّل { بآيات الله } إشارة إلى إنكار دلائل الإلهية وفي الثاني { بآيات ربهم } إشارة إلى إنكار نعم من ربّاهم ودلائل تربيته وإحسانه علي كثرتها وتواليها وفي الأوّل اللام منه الأخذ ، وفي الثاني اللازم منه الهلاك والإغراق ، وقال الزمخشري في قوله تعالى : { بآيات ربهم } زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحقّ وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب ، وقال الكرماني يحتمل أن يكون الضمير في الآية الأولى في { كفروا } عائداً على قريش وفي الأخيرة في { كذّبوا } عائد على { آل فرعون والذين من قبلهم } انتهى.

وقيل فأهلكناهم هم الذين أهلكوا يوم بدر فيلزم من هذا القول أن يكون كذّبوا عائداً على كفار قريش ، وقال التبريزي { فأهلكناهم } قوم نوح بالطّوفان وعادا بالريح وثموداً بالصّيحة وقوم لوط بالخسف ، وفرعون وآله بالغرق ، وقوم شعيب بالظلّة ، وقوم داود بالمسخ وأهلك قريشاً وغيرها بعضهم بالفزغ وبعضهم بالسيف وبعضهم بالعدسة كأبي لهب ، وبعضهم بالغدة كعامر بن الطّفيل ، وبعضهم بالصاعقة كأويد بن قيس انتهى ، فيظهر من هذه الكلام أن الضمير في { كذّبوا } و { أهلكناهم } عائد على المشبه والمشبه به في { كدأب } إذ عمّ الضمير القبيلتين وإنما خصّ { آل فرعون } بالذكر وذكر الذي أهلكوا به وهو إغراقهم لأنه انضم إلى كفرهم دعوى الإلهية والرّبوبية لغير الله تعالى فكان ذلك أشنع الكفر وأفظعه ومراعاة لفظ كلّ إذا حذف ما أضيف إليه ومعناه جائزة واختير هنا مراعاة المعنى لأجل الفواصل إذ لو كان التركيب وكلّ كان ظالماً لم يقع فاصلة ، وقال الزمخشري { وكلهم } من غرقى القبط وقتلى قريش { كانوا ظالمين } أنفسهم بالكفر والمعاصي انتهى ، ولا يظهر تخصيص الزمخشري كلاًّ بغرقى القبط وقتلى قريش إذ الضمير في { كذبوا } وفي { فأهلكناهم } لا يختصّ بهما فالذي يظهر عموم المشبه به وهم آل فرعون والذين من قبلهم أو عموم المشبّه والمشبّه بهم.
{ إن شرّ الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتّقون }.
نزلت في بني قريظة منهم كعب بن الأشرف وأصحابه عاهدهم الرسول أن لا يمالئوا عليه فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح وقالوا نسينا وأخطأنا ثم عاهدهم فنكثوا مالؤوا معهم يوم الخندق وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم قال البغوي من روى أنه كعب بن الأشرف أخطأ ووهم بل يحتمل أنه كعب بن أسد فإنه كان سيّد قريظة ، وقيل : هم بنو قريظة والنضير ، وقيل : نفر من قريش من عبد الدّار حكاه التبريزي في تفسيره { فهم لا يؤمنون } إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون فلا يمكن أن يقع منهم إيمان ، قال ابن عباس شرّ الناس الكفار وشرّ الكفار المصرّون منهم وشرّ المصرّين الناكثون للعهود فأخبر تعالى أنهم جامعون لأنواع الشرّ الذين عاهدت بدل من الذين كفروا قاله الحوفي والزمخشري وأجاز أبو البقاء أن يكون خبر المبتدأ محذوف وضمير الموصول محذوف أي عاهدتهم منهم أي من الذين كفروا.
قال ابن عطية : يحتمل أن يكون { شرّ الدّواب } بثلاثة أوصاف : الكفر والموافاة عليه والمعاهدة مع النقض ، و { الذين } على هذا بدل بعض من كلّ ويحتمل أن يكون { الذين عاهدت } فرقة أو طائفة ثم أخط يصف حال المعاهدين بقوله { ثم ينقضون عهدهم في كل مرة } انتهى ، فعل هذا الاحتمال يكون الذين مبتدأ ويكون الخبر قوله { فإما تثقفنّهم } ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى اسم الشرط فكأنه قيل من يعاهد منهم أي من الكفار فإن تظفر بهم فاصنع كذا أو من للتّبعيض لأنّ المعادين بعض الكفار وهي في موضع الحال أي كائنين منهم ، وقيل : بمعنى مع ، وقيل : الكلام محمول على المعنى أي أخذت منهم العهد فتكون من على هذا التقدير لابتداء الغاية ، وقيل : { من } زائدة أي عاهدتهم وهذه الأقوال الثلاثة ضعيفة وأتى { ثم ينقضون } بالمضارع تنبيهاً على أنّ من شأنهم نقض العهد مرة بعد مرة تقديره { وهم لا يتّقون } لا يخافون عاقبة العدوّ ولا يبالون بما في نقض العهد من العار واستحقاق النار.

{ فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلّهم يذكرون } أي فإن تظفر بهم في الحرب وتتمكن منهم { فشرّد بهم من خلفهم } ، قال ابن عباس فنكّل بهم من خلفهم ، وقال ابن جبير : أنذر من خلفهم عن قتل من ظفر به وتنكيله فكان المعنى فإن تظفر بهم فاقتلهم قتلاً ذريعاً حتى يفرّ عنك من خلفهم ويتفرّق ولما كان التّشريد وهو التّطريد والإبعاد ناشئاً عن قتل من ظفر به في الحرب من المعاهدين الناقضين جعل جواباً للشرط إذ هو يتسبب عن الجواب ، وقالت فرقة فسمع بهم وحكاه الزهراوي عن أبي عبيدة ، وقال الزمخشري : من وراءهم من الكفرة حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد اعتباراً بهم واتعاظاً بحالهم ، وقال الكرماني : قيل التّشريد التخويف الذي لا يبقى معه القرار أي لا ترضَ منهم إلاّ الإيمان أو السيف.
وقرأ الأعمش بخلاف عنه فشرّذ بالذال وكذا في مصحف عبد الله قالوا ولم تحفظ هذه المادة في لغة العرب ، فقيل : الذال بدل من الدال كما قالوا لحم خراديل وخزاذيل ، وقال الزمخشري : فشرّذ بالذال المعجمة بمعنى ففرّق وكأنه مقلوب شذر من قولهم ذهبوا شذر ومنه الشّذَر الملتقط من المعدن لتفرّقه انتهى.
وقال الشاعر :
غرائر في كن وصون ونعمة . . .
تحلين ياقوتاً وشذراً مفقراً
وقال قطرب : بالذال المعجمة التنكيل وبالمهملة التفريق ، وقرأ أبو حيوة والأعمش بخلاف عنه { من خلفهم } جاراً ومجروراً ومفعول { فشرد } محذوف أي ناساً { من خلفهم } والضمير في { لعلّهم } يظهر أنه عائد على { من خلفهم } وهم المشرّدون أي لعلّهم يتعظون بما جرى لنا قضي العهد أو يتذكرون بوعدك إياهم وقيل : الضمير عائد إلى المثقوفين وفيه بعد لأن من قُتل لا يتذكر.
{ وإمّا تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين }.
الظاهر أنّ هذا استئناف كلام أخبره الله تعالى بما يصنع في المستقبل مع من يخاف منه خيانة إلى سالف الدهر.

وقال مجاهد هي في بني قريظة ولا يظهر ما قال لأن بني قريظة لم يكونوا في حد من خاف منه خيانة لأن خيانتهم كانت ظاهرة مشهورة ، ولقوله { من قوم } فلو كانت في بني قريظة { وإما تخافنّ } منهم ، وقال يحيى بن سلام : { تخافنّ } بمعنى تعلم وحكاه بعضهم أنه قول الجمهور ، وقيل الخوف على بابه فالمعنى أنه يظهر منهم مبادىء الشرّ وينقل عنهم أقوال تدلّ على الغدر فالمبادىء معلومة والخيانة التي هي غاية المبادىء مخوفة لا متيقنة ولفظ الخيانة دالّ على تقدم عهد لأنه من لا عهد بينك وبينه لا تكون محاربته خيانة فأمر الله تعالى نبيه إذا أحسّ من أهل عهد ما ذكرنا وخاف خيانتهم أن يلقي إليهم عهدهم وهو النّبذ ومفعول { فانبذ } محذوف التقدير { فانبذ إليهم } عهدهم أي ارمه واطرحه ، وفي قوله { فانبذ } عدم اكتراث به كقوله { فنبذوه وراء ظهورهم } { فنبذناهم في اليم } كما قال ، نبذ الحذاء المرقع ، وكأنه لا ينبذ ولا يرمي إلا الشيء التافه الذي لا يبالي به وقوّة هذا اللفظ تقتضي حربهم ومناجزتهم أن يستقصوا ومعنى على سواء أي على طريق مستو قصد وذلك أن تظهر لهم نبذ العهد وتخبرهم إخباراً مكشوفاً بيّناً إنك قطعت ما بينك وبينهم ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك { إنّ الله لا يحب الخائنين } فلا يكن منك إخفاءً للعهد قاله الزمخشري بلفظه وغيره كابن عباس بمعناه ، وقال الوليد بن مسلم : على سواء على مهل كما قال تعالى : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } الآية.
وقال الفرّاء المعنى { فانبذ إليهم } على اعتدال وسواء من الأمر أي بيّن لهم على قدر ما ظهر منهم لا تفرط ولا تفجأ بحرب بل افعل بهم مثل ما فعلوا بك يعني موازنة ومقايسة.
وقرأ زيد بن علي سواء بكسر السين وظاهر أنّ الله أن يكون تعليلاً لقوله : { فانبذ } أي { فانبذ إليهم على سواء } على تبعد من الخيانة { إنّ الله لا يحبّ الخائنين } ويحتمل أن يكون طعناً على الخائنين الذين عاهدهم الرسول ويحتمل على سواء أن يكون في موضع الحال من الفاعل في { فانبذ } أي كائناً على طريق قصد أو من الفاعل والمجرور أي كائنين على استواء في العلم أو في العداوة.
{ ولا تحسبنّ الذين كفروا سبقوا أنهم لا يعجزون } قال الزهري : نزلت فيمن أفلت من الكفار في بدر فالمعنى لا تظنهم ناجين مفلتين فإنهم لا يعجزون طالبهم بل لا بد من أخذهم ، قيل : وذلك في الدّنيا ولا يفوتون بل يظفرك الله بهم ، وقيل : في الآخرة قاله الحسن وقيل : { الذين كفروا } عام قاله ابن عباس وأعجز غلب وفات ، قال سويد :

وأعجزنا أبو ليلى طفيل . . .
صحيح الجلد من أثر السلاح
وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص ولا يحسبنّ بالياء أي { ولا يحسبن } الرسول أو حاسب أو المؤمن أو فيه ضمير يعود على من خلفهم فيكون مفعولاً يحسبنّ { الذين كفروا وسبقوا } القراءة باقي السبعة بالتاء خطاباً للرسول أو للسامع وجوّزوا أن يكون في قراءة الياء فاعل { لا يحسبنّ } هو { الذين كفروا } وخرج ذلك على حذف المفعول الأوّل لدلالة المعنى عليه تقديره أنفسهم سبقوا وعلى إضمار أن قبل سبقوا فحذفت وهي مرادة فسدّت مسدّ مفعولي { يحسبنّ } ويؤيّده قراءة عبد الله أنهم سبقوا ، وقيل التقدير ولا تحسبنهم { الذين كفروا } فحذف الضمير لكونه مفهوماً وقد ردّدنا هذا القول في أواخر آل عمران ، وعلى أنّ الفاعل هو الذين كفروا خرّج الزمخشري قراءة الياء وذكر نقل توجيهها على حذف المفعول إما الضمير وإما أنفسهم وإما حذف أن وإما أنّ الفعل وقع على أنهم لا يعجزون على أن لا صلة وسبقوا في موضع الحال يعني سابقين أو مفلتين هاربين وعلى { ولا تحسبن } قتيل المؤمنين الذين كفروا سبقوا ثم قال وهذه الأقاويل كلّها متمحلة وليست هذه القراءة التي تفرد بها حمزة بنيرة انتهى ، ولم يتفرّد بها حمزة كما ذكر بل قرأ بها ابن عامر وهو من العرب الذين سبقوا اللّحن وقرأ علي وعثمان وحفص عن عاصم وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وأبو عبد الرحمن وابن محيصن وعيسى والأعمش ، وتقدم ذكر توجيهها على غير ما نقل مما هو جيّد في العربية فلا التفات لقوله وليست بنيرة وتقدّم ذكر في فتح السين وكسرها في قوله { يحسبهم الجاهل أغنياء } وأما قوله : وقيل وقع على أنهم لا يعجزون على أن لا صلة فهذا لا يتأتى على قراءة حمزة لأنه يقرأ بكسر الهمزة ولو كان واقعاً عليه لفتح أن وإنما فتحها من السبعة ابن عامر وحده واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر ولا استبعاد فيها لأنها تعليل للنهي أي لا تحسبنّهم فائتين لأنهم لا يعجزون أي لا يقع منك حسبان لفوتهم لأنهم لا يعجزون أي لا يفوتون ، وقرأ الأعمش ولا يحسب بفتح السين والياء من تحت وحذف النون وينبغي أن يخرج على حذف النون الخفيفة لملاقاة الساكن فيكون كقوله :
لا تهين الفقير علّك أن . . .
تركع يوماً والدهر قد رفعه
وقرأ ابن محيصن لا تعجزوني بكسر النون وياء بعدها ، وقال الزجاج : الاختيار فتح النون ويجوز كسرها على أن المعنى أنهم لا يعجزونني وتحذف النون الأولى لاجتماع النونين كما قال الشاعر :
تراه كالثّغام يعل مسكا . . .
يسوء الغالبات إذا فليني
البيت لعمرو بن معدي كرب ، وقال أبو الحسن الأخفش في قول متمم بن نويرة :
ولقد علمت ولا محالة أنّني . . .
للحادثات فهل تريني أجزع

فهذا يجوز على الاضطرار فقال قوم : حذف النون الأولى وحذفها لا يجوز لأنها في موضع الإعراب ، وقال المبرّد أرى فيما كان مثل هذا حذف الثانية وكذا كان يقول في بيت عمرو ، وقرأ طلحة بكسر النون من غير تشديد ولا ياء ، وعن ابن محيصن تشديد النون وكسرها أدغم نون الإعراب في نون الوقاية وعنه أيضاً بفتح النون وتشديد الجيم وكسر النون ، قال النحاس : وهذا خطأ من وجهين أحدهما إنّ معنى عجزه ضعفه وضعف أمره والآخر أنه كان يجب أن يكون بنونين انتهى ، أما كونه بنون واحدة فهو جائز لا واجب وقد قرىء به في السبعة وأما عجزني مشدّداً فذكر صاحب اللوامح أن معناه بطأ وثبط قال وقد يكون بمعنى نسبني إلى العجز والتشديد في هذه القراءة من هذا المعنى فلا تكون القراءة خطأ كما ذكر النحاس.
{ وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدّو الله وعدوّكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون }.
لما اتفق في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا تكميل آلة ولا عدة وأمره تعالى بالتشريد وبنبذ العهد للناقضين كان ذلك سببلاً للأخذ في قتاله والتمالؤ عليه فأمره تعالى للمؤمنين بإعداد ما قدروا عليه من القوة للجهاد والإعداد الارصاد وعلّق ذلك بالاستطاعة لطفاً منه تعالى والمخاطبون هم المؤمنون والضمير في { لهم } عائد على الكفار المتقدّمي الذكر وهم المأمور بحربهم في ذلك الوقت ويعمّ من بعده.
وقيل : يعود على الذين ينبذ إليهم العهد والظاهر العموم في كل ما يتوقى به على حرب العدوّ مما أورده المفسّرون على سبيل الخصوص والمراد به التمثيل كالرّمي وذكور الخيل وقوّة القلوب واتفاق الكلمة والحصون المشيدة وآلات الحرب وعددها والأزواد والملابس الباهية حتى أنّ مجاهداً رؤي يتجهز للجهاد وعنده جوالق فقال هذا من القوة وأما ما ورد في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول " { وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة } ألا وإنّ القوة الرّمي ألا إن القوة الرمي " فمعناه والله أعلم أنّ معظم القوة وأنكاها للعدو الرمي كما جاء «الحجّ عرفة» وجاء في فضل الرمي أحاديث وعلى ما اخترناه من عموم القوة يكون قوله { ومن رباط الخيل } تنصيص على فضل رباط الخيل إذا كانت الخيل هي أصل الحروب والخير معقود بنواصيها وهي مراكب الفرسان الشجعان ، وقال أبو زيد الرّباط من الخيل الخمس فما فوقها وجماعة ربط وهي التي ترتبط يقال : منه ربط ربطاً وارتبط انتهى ، قال :
تلوم على ربط الجياد وحبسها . . .
وأوصى بها الله النبيّ محمداً
قال ابن عطية : { ورباط الخيل } جمع ربط ككلب وكلاب ولا يكثر ربطها إلاّ وهي كثيرة ويجوز أن يكون الرّباط مصدراً من ربط كصاح صياحاً لأنّ مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس وإن جعلناه مصدراً من رابط وكان ارتباط الخيل واتخاذها يفعله كل واحد لفعل آخر فيرابط المؤمنون بعضهم بعضاً فإذا ربط كل واحد منهم فرساً لأجل صاحبه فقد حصل بينهم رباط وذلك الذي حضّ في الآية عليه وقال قال صلى الله عليه وسلم :

« من ارتبط فرساً في سبيل الله فهو كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة انتهى ، فجوّز في رباط أن يكون جمعاً لربط وأن يكون مصدراً لربط والرابط وقوله : لأنّ مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس ليس بصحيح بل لها مصادر مُنقاسة ذكرها النحويون ، وقال الزمخشري والرّباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ويجوز أن تسمى بالرّباط الذي هو بمعنى المرابطة ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال ، وقرأ الحسن وأبو حيوة وعمرو بن دينار ومن ربط بضمّ الراء والباء وعن أبي حيوة والحسن أيضاً ربط بضمّ الراء وسكون الباء وذلك نحو كتاب وكتب وكتب ، قال ابن عطية : وفي جمعه وهو مصدر غير مختلف نظر انتهى ، ولا يتعيّن كونه مصدراً ألا ترى إلى قول أبي زيد إنه من الخيل الخمس فما فوقها وإنّ جماعها ربط وهي التي ترتبط والظاهر عموم الخيل ذكورها وإناثها.
وقال عكرمة : { رباط الخيل } إناثها وفسّر القوة بذكورها واستحبّ رباطها بعض العلماء لما فيها من النّتاج كما قال : بطونها كنز ، وقيل : { رباط الخيل } الذكور منها لما فيها من القوة والجلَد على القتال والكفاح والكرّ والفرّ والعدو والضمير في { به } عائد على ما من قوله { ما استطعتم } ، وقيل : على الإعداد ، وقيل : على القوّة ، وقيل : على { رباط } و { ترهبون } ، قالوا : حال من ضمير { وأعدّوا } أو من ضمير { لهم } ويحصل بهذا الارتباط والإرهاب فوائد منها : إنهم لا يقصدون دخول دار الإسلام وباشتداد الخوف قد يلتزمون الجزية أو يسلمون أو لا يعينون سائر الكفار ، وقرأ الحسن ويعقوب وابن عقيل لأبي عمرو و { ترهبون } مشدّداً عدي بالتضعيف كما عدى بالهمزة ، قال أبو حاتم وزعم عمرو أن الحسن قرأ يرهبون بالياء من تحت وخفّفها انتهى ، والضمير في يرهبون عائد على ما عاد عليه { لهم } وهم الكفار والمعنى أنّ الكفار إذا علموا بما أعددتم للحرب من القوة ورباط الخيل خوفوا من يليهم من الكفار وأرهبوهم إذ يعلمونهم ما أنتم عليه من الإعداد للحرب فيخافون منكم وإذا كانوا قد أخافوا من يليهم منكم فهو أشد خوفاً لكم.
وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد : تخزون به مكان ترهبون به وذكرها الطبري على جهة التفسير لا على جهة القراءة وهو الذي ينبغي لأنه مخالف لسواد المصحف ، وقرأ السلمي عدوًّا لله بالتنوين ولام الجر ، قال صاحب اللوامح : فقيل أراد به اسم الجنس ومعناه أعداء الله وإنما جعله نكرة بمعنى العامّة لأنها نكرة أيضاً لم تتعرف بالإضافة إلى المعرفة لأنه اسم الفاعل ومعناه الحال والاستقبال ولا يتعرف ذلك وإن أضيف إلى المعارف وأما { عدوّكم } فيجوز أن يكون كذلك نكرة ويجوز أن يكون قد تعرّف لإعادة ذكره ومثله رأيت صاحباً لكم فقال لي صاحبكم والله أعلم انتهى.

وذكر أولاً { عدوّ الله } تعظيماً لما هم عليه من الكفر وتقوية لذمّهم وأنه يجب لأجل عداوتهم لله أن يقاتلوا ويبغضوا ثم قال { وعدوّكم } على سبيل التحريض على قتالهم إذ في الطبع أن يعادي الإنسان من عاداه وأن يبغي له الغوائل والمراد بهاتين الصفتين من قرب من الكفار من ديار الإسلام من أهل مكة ومشركي العرب ، قيل ويجوز أن يراد جميع الكفار وآخرين من دونهم أصل دون أن تكون ظرف مكان حقيقة أو مجاز.
قال ابن عطية : { من دونهم } بمنزلة قولك دون أن تكون هؤلاء فدون في كلام العرب ومن دون تقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة التي فيها القول ومنه المثل : وأمر دون عبيدة الوزم ، قال مجاهد وآخرين : بنو قريظة ، وقال مقاتل : اليهود ، وقال السدّي : أهل فارس ، وقالت فرقة : كفار الجن ورجّحه الطبري واستند في ذلك إلى ما روي من أنّ صهيل الخيل تنفر الجنّ منه وأنّ الشياطين لا تدخل داراً فيها فرس الجهاد ونحو هذا ، وقالت فرقة : هم كل عدوّ للمسلمين غير الفرقة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرّد بهم من خلفهم ، وقال ابن زيد : هم المنافقون وهذا أظهر لأنه قال { لا تعلمونهم الله يعلمهم } أي لا تعلمون أعيانهم وأشخاصهم إذ هم متسترون عن أن تعلموهم بالإسلام فالعلم هنا كالمعرفة تعدى إلى واحد وهو متعلّق بالذوات وليس متعلقاً بالنسبة ومن جعله متعلقاً بالنسبة فقدّر مفعولاً ثانياً محذوفاً وقدره محاربين فقد أبعد لأنّ حذف مثل هذا دون تقدّم ذكر ممنوع عند بعض النحويين وعزيز جداً عند بعضهم فلا يحمل القرآن عليه مع إمكان حمل اللفظ على غيره وتمكنه من المعنى وقدّره بعضهم لا تعلمونهم فازغين راهِبين الله يعلّمهم بتلك الحالة والظاهر أن يكون إشارة إلى المنافقين كما قلنا على جهة الطّعن عليهم والتنبيه على سوء حالهم وليستريب بنفسه كلّ من يعلم منها نفاقاً إذا سمع الآية وبفزعهم ورهبتهم غنى كبير في ظهور الإسلام وعلوّه ، وقال القرطبي ما معناه لا ينبغي أن يعين قوله { وآخرين } لأنه تعالى قال { لا تعلمونهم الله يعلمهم } فكيف يدّعي أحد علماً بهم إلا أن يصحّ حديث فيه عن الرسول صلى الله عليه وسلم انتهى ، ثم حضّ تعالى على النفقة في سبيل الله من جهاد وغيره وكان الصحابة يحمل واحد الجماعة على الخيل والإبل وجهّز عثمان جيش العسرة بألف دينار يوفّ إليكم جزاؤه وثوابه من غير نقص ، وقيل هذه التوفية في الدنيا على ما أنفقوا مع ما أعدّ لهم في الآخرة من الثواب.

{ وإن جنحوا للسّلم فاجنح لها وتوكّل على الله إنه هو السميع العليم }.
جنح الرّجل إلى الآخر مال إليه وجنحت الإبل مالت أعناقها في السير.
قال ذو الرمة :
إذا مات فوق الرحل أحييت روحه . . .
بذكراك والعيس المراسيل جنح
وجنحَ الليل أقبل وأمال أطنابه إلى الأرض.
وقال النابغة يصف طيوراً تتبع الجيش :
جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله . . .
إذا ما التقى الجيشان أوّل غالب
ومنه قيل للأضلاع جوانح لأنها مالت على الحشوة ومنه الجناح لميله ، وقال النضر بن شميل : جنح الرّجل إلى فلان وجنح له إذا تابعه وخضع له والضمير في { جنحوا } عائد على الذين نبذ إليهم على سواء وهم بنو قريظة والنضير ، وقيل على مشركي قريش والعرب ، وقيل على قوم سألوا من الرسول صلى الله عليه وسلم قبول الجزية منهم وجنح يتعدى بإلى وباللام والسّلم يذكر ويؤنّث.
فقيل : التأنيث لغة ، وقيل على معنى المسالمة ، وقيل حملاً على النقيض وهو الحرب ، وقال الشاعر :
وأفنيت في الحرب آلاتها . . .
وعددت للسلم أوزارها
وتقدّم الخلاف في قراءة السين وكسرها والسّلم الصّلح لغة ، فقال قتادة هي موادعة المشركين ومهادنتهم وهذا راجع إلى رأي الإمام فإن رآه مصلحة فعل وإلا فلا ، وقيل نزلت في قوم معتب سألوا الموادعة فأمر الله نبيه الإجابة إليها ثم نسخت بقوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون } ، وقيل : أداء الجزية ، وقال الحسن : السلم الإسلام ، وعن ابن عباس نسخت بقوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون } ، وعن مجاهد بقوله { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ، قال الزمخشري : والصحيح أنّ الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبداً أو يجابوا إلى الهدنة أبداً ، وقرأ الأشهب العقيلي { فاجنح } بضمّ النون وهي لغة قيس والجمهور بفتحها وهي لغة تميم ، وقال ابن جني : القياس في فعل اللازم ضم عين الكلامة في المضارع وهي أقيس من يفعل بالكسر وأمره تعالى بالتوكل عليه فلا يبالي بهم وإن أبطنوا الخديعة في جنوحهم إلى السلم فإنّ الله كاف من توكّل عليه { وهو السميع } لأقوالهم { العليم } بنياتهم.
{ وإن يريدوا أن يخدعوك فإنّ حسبك الله هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكّن الله ألّف بينهم إنه عزيز }.
أي وإن يرد الجانحون للسّلم بأن يظهروا السلم ويبطنوا الخيانة والغدر مخادعة فاجنح لها فما عليك من نياتهم الفاسدة { فإنّ حسبك } وكافيك هو { الله } ومن كان الله حسبه لا يبالي بمن ينوي سوءاً ثم ذكره بما فعل معه أولاً من تأييده بالنّصر وبائتلاف المؤمنين على إعانته ونصره على أعدائه فكما لطف بك أوّلاً يلطف بك آخراً والمؤمنون هنا الأوس والخزرج وكان بين الطائفتين من العداوة للحروب التي جرت بينهم ما كان لولا الإسلام لينقضي أبداً ولكنه تعالى منّ عليهم بالإسلام فأبدلهم بالعداوة محبة وبالتباعد قرباً.

ومعنى { لو أنفقت ما في الأرض جميعاً } على تأليف قلوبهم واجتماعها على محبة بعضها بعضاً وكونها في الأوس والخزرج ، تظاهر به أقوال المفسرين ، وقال ابن مسعود : نزلت في المتحابّين في الله ، قال ابن عطية ولو ذهب ذاهب إلى عموم المؤمنين في المهاجرين والأنصار وجعل التأليف ما كان بين جمعهم فكل يألف في الله.
وقال الزمخشري : التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأوا من الآيات الباهرة لأنّ العرب لما فيهم من الحمية والعصبية والانطواء على الضغينة في أدنى شيء وإلقائه بين أعينهم إلى أن ينتقموا لا يكاد يأتلف منهم قلبان ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم واتحدوا وذلك لما نظم الله من ألفتهم وجمع من كلمتهم وأحدث بينهم من التحابّ والتوادّ وأماط عنهم من التباغض وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله ولا يقدر على ذلك إلاّ من يملك القلوب فهو يقلبها كما يشاء ويصنع فيها ما أراد انتهى ، وكلامه آخراً قريب من كلام أهل السنة لأنهم قالوا في هذه الآية دليل على أنّ العقائد والإرادات والكراهات من خلق الله لأنّ ما حصل من الألف هو بسبب الإيمان ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فلو كان الإيمان فعلاً للعبد لكانت المحبّة المترتبة عليه فعلاً للعبد وذلك خلاف صريح الآية ، وقال القاضي : لولا ألطاف الله تعالى ساعة ساعة ما حصلت هذه الأحوال فأضيفت إلى الله على هذا التأويل ونظيره أنه يضاف علم الولد وأدبه إلى أبيه لأجل أنه لم يحصل ذلك إلا بمعونة الأب وتربيته فكذلك هنا انتهى ، وهذا هو مذهب المعتزلة.
{ أيها النبيّ حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال ، وقال ابن عباس وابن عمر وأنس : في إسلام عمر ، قال ابن جبير : أسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر فنزلت ، والظاهر رفع { ومن } عطفاً على ما قبله وعلى هذا فسّره الحسن وجماعة أي { حسبك الله } و { المؤمنون } ، وقال الشعبي وابن زيد معنى الآية : حسبك الله وحسب من اتبعك ، قال ابن عطية : فمن في هذا التأويل في موضع نصب عطفاً على موضع الكاف لأنّ موضعها نصب على المعنى بيكفيك الذي سدّت { حسبك } مسدّها انتهى ، وهذا ليس بجيّد لأنّ حسبك ليس مما تكون الكاف فيه في موضع نصب بل هذه إضافة صحيحة ليست من نصب و { حسبك } مبتدأ مضاف إلى الضمير وليس مصدراً ولا اسم فاعل إلا أنّ قيل إنه عطف على التوهم كأنه توهم أنه قيل يكفيك الله أو كفاك الله ، ولكنّ العطف على التوهم لا ينقاس فلا يحمل عليه القرآن ما وجدت مندوحة عنه والذي ينبغي أن يحمل عليه كلام الشعبي وابن زيد هو أن يكون ومن مجرورة على حذف وحسب لدلالة { حسبك } عليه فيكون كقوله :

أكل امرىء تحسبين امرأ . . .
ونار توقد بالليل نارا
أي وكلّ نار فلا يكون من العطف على الضمير المجرور ، وقال ابن عطية : وهذا الوجه من حذف المضاف مكروه بأنه ضرورة الشعر انتهى ، وليس بمكروه ولا ضرورة وقد أجاز سيبوبه في الكلام وخرج عليه البيت وغيره من الكلام الفصيح ، قال الزمخشري { ومن اتبعك } الواو بمعنى مع وما بعده منصوب تقول وحسبك وزيداً درهم ولا يجرّ لأنّ عطف الظاهر المجرور على المكنى ممتنع.
قال :
فحسبك والضحّاك سيف مهند . . .
والمعنى كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصراً انتهى ، وهذا الذي قاله الزمخشري مخالف لكلام سيبويه ، قال سيبويه : قالوا حسبك وزيداً درهم لما كان فيه من معنى كفاك وقبح أن يحملوه على المضمر نووا الفعل كأنه قال حسبك ويحسب أخاك درهم ولذلك كفيك انتهى ، كفيك هو من كفاه يكفيه وكذلك قطّك تقول كفيك وزيداً درهم وقطّك وزيداً درهم وليس هذا من باب المفعول معه وإنما جاء سيبويه به حجة للحمل على الفعل للدلالة فحسبك يدلّ على كفاك ويحسبني مضارع أحسبني فلان إذا أعطاني حتى أقول حسبي فالناصب في هذا فعل يدلّ عليه المعنى وهو في كفيك وزيداً درهم أوضح لأنه مصدر للفعل المضمر أي ويكفي زيداً وفي قطّك وزيداً درهم التقدير فيه أبعد لأنّ قطّك ليس في الفعل المضمر شيء من لفظه إنما هو مفسر من حيث المعنى فقط وفي ذلك الفعل المضمر فاعل يعود على الدرهم والنية بالدرهم التقديم فيصير من عطف الجمل ولا يجوز أن يكون من باب الأعمال لأن طلب المبتدأ للخبر وعمله فيه ليس من قبيل طلب الفعل أو ما جرى مجراه ولا عمله فلا يتوهم ذلك ، وقال الزّجاج : حسب اسم فعل والكاف نصب والواو بمعنى مع انتهى ، فعالى هذا يكون { الله } فاعلاً لحسبك وعلى هذا التقدير يجوز في { ومن } أن يكون معطوفاً على الكاف لأنها مفعول باسم الفعل لا مجرور لأن اسم الفعل لا يضاف إلا أنّ مذهب الزُّجاج خطأ لدخول العوامل على { حسبك } تقول بحسبك درهم وقال تعالى : { فإنّ حسبك الله } ، ولم يثبت كونه اسم فعل في مكان فيعتقد فيه أنه يكون اسم فعل واسماً غير اسم فعل كرويد وأجاز أبو البقاء رفع { ومن } على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره وحسبك من اتبعك وعلى أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره { ومن اتبعك من المؤمنين } كذلك أي حسبهم الله ، وقرأ الشعبي { ومن أتبعك } بإسكان النون وأتبع على وزن أكرم.

{ يا أيها النبيّ حرّض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين }.
هاتان الجملتان شرطيّتان في ضمنهما الأمر بصبر عشرين لمائتين وبصبر مائة لألف ولذلك دخلها النسخ إذ لو كان خبراً محضاً لم يكن فيه النسخ لكنّ الشرط إذا كان فيه معنى التكليف جاز فيه النّسخ وهذا من ذلك ولذلك نسخ بقوله { الآن خفف الله عنكم } والتقييد بالصبر في أول كلّ شرط لفظاً هو محذوف من الثانية لدلالة ذكره في الأولى وتقييد الشرط الثاني بقوله : { من الذين كفروا } لفظاً هو محذوف من الشرط الأول في قوله : { يغلبوا مائتين } فانظر إلى فصاحة هذا الكلام حيث أثبت قيد من الجملة الأولى وحذف نظره من الثانية وأثبت قيد في الثانية وحذف من الأولى ولما كان الصبر شديد المطلوبيّة أثبت في أولى جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ثم ختمت الآية بقوله { والله مع الصابرين } مبالغةً في شدّة المطلوبيّة ولم يأتِ في جملتي التخفيف قيد الكفر اكتفاءً بما قبل ذلك وتظاهرت الروايات عن ابن عباس وغيره من الصحابة أنّ ثبات الواحد للعشرة كان فرضاً لما شقّ عليهم انتقل إلى ثبات الواحد للاثنين على سبيل التقرّب أيضاً ، وسواء كان فرضاً أم ندباً هو نسخ وقول من قال : إنه تخفيف لا نسخ كمكي بن طالب ضعيف.
قال مكي : إنما هو كتخفيف الفطر في السفر ولو صام لم يأتم وأجزأه ومناسبة هذه الأعداد أنّ فرضيّة الثبات أو نديبته كان أولاً في ابتداء الإسلام فكان العشرون تمثيلاً للسرية والمائة تمثيلاً للجيش فلما اتسع نطاق الإسلام وذلك بعد زمان كان المائة تمثيلاً للسّرايا والألف تمثيلاً للجيش وليس في أمره تعالى نبيه بتحريض المؤمنين على القتال دليل على ابتداء فرضية القتال بل كان القتال مفترضاً قبل هذه الآية وإنما جاءت هذه حثّاً على أمر كان وجب عليهم ونصّ تعالى على سبب الغلبة بأن الكفار قوم لا يفقهون ، والمعنى أنهم قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم فتفل نياتهم ويعدمون لجهلهم بالله نصرته فهو تعالى يخذلهم وذلك بخلاف من يقاتل على بصيرة وهو موعود من الله بالنصر والغلبة.
وعن ابن جريج : كان عليهم أن لا يفرّوا ويثبت الواحد للعشرة ، وكان رسول لله صلى الله عليه وسلم قد بعث حمزة في ثلاثين راكباً فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب ، قيل ثم ثقل عليهم ذلك وضجّوا منه وذلك بعد مدّة طويلة فنسخ وخفّف عنهم بمقاومة الواحد للاثنين ، وقال بعض العلماء الذي استقرّ حكم التكليف عليه بمقتضي هذه الآية إنّ كل مسلم بالغ وقف بإزاء المشركين عبداً كان أو حرّاً فالهزيمة عله محرّمة ما دام معه سلاحه يقاتل به فإن كان ليس معه سلاح فله أن ينهزم وإن قابله ثلاثة حلّت له الهزيمة والصبر أحسن ، وروى البيهقي وغيره : أنّ جيش مؤتة وكانوا ثلاثة آلاف من المسلمين وقفوا لمائتي ألف مائة ألف من الروم ومائة ألف من الأنباط وروي أنهم وقفوا لأربعمائة ألف والأوّل هو الصحيح وفي تاريخ فتح الأندلس أن طارقاً مولى موسى بن نصير سار في ألف رجل وسبعمائة رجل إلى الأندلس وذلك في رجب سنة ثلاث وتسعين من الهجرة فالتقى هو وملك الأندلس لذريق وكان في سبعين ألف عنان فزحف إليه طارق وصبر له فهزم الله الطاغية لذريق وكان الفتح انتهى وما زالت جزيرة الأندلس تلتقي الشرذمة القليلة منهم بالعدد الكثير من النصارى فيغلبونهم ، وأخبرنا من حضر الوقعة التي كانت في الديموس الصغير على اثني عشر ميلاً من مدينة غرناطة سنة تسع عشرة وسبعمائة وكان المسلمون ألفاً وسبعمائة فارس من الأندلسيين والبربر وكان النصارى مائة ألف راجل وستين ألف رامٍ وخمسة عشر ألف فارس بين رامٍ ومدرّع فصبروا لهم وأسروا أكابرهم وقتلوا ملك قشتالة دون جوان ونجا أخوه دون بطر مجروحاً وكان ملوك النصارى ملك قشتالة المذكور وملك إفرنسة وملك يوطقال وملك غلسية وملك قلعة رباح قد خرجوا عازمين على استئصال المسلمين من الجزيرة فهزمهم الله.

قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : لم كرر المعنى الواحد وهو مقاومة الجماعة لأكثر منها مرتين قبل التخفيف وبعده.
( قلت ) : للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة ولا تتفاوت لأن الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين للمائتين والمائة للألف فكذلك بين المائة للمائتين والألف للألفين انتهى ، ومعنى { بإذن الله } بإرادته وتمكينه وفي قوله { والله مع الصابرين } ترغيب في الثبات للقاء العدوّ وتبشير بالنصر والغلبة لأنه من كان الله معه هو الغالب ، وقرأ الأعمش حرص بالصاد المهملة وهو من الحرص وهو قريب من قراءة الجمهور بالضّاد ، وقرأ الكوفيون { يكن منكم مائة } على التذكير فيهما ورواها خارجة عن نافع ، وقرأ الحرميان وابن عامر على التأنيث ، وقرأ أبو عمر وعلى التذكير في الأول ولحظ يغلبوا والتأنيث في الثانية ولحظ { صابرة } ، وقرأ الأعرج على التأنيث كلها إلا قوله : { وإن يكن منكم ألف } فإنه على التذكير بلا خلاف ، وقرأ المفضل عن عاصم وعلم مبنيًّا للمفعول ، وقرأ الحرميان والعربيّان والكسائي وابن عمر والحسن والأعرج وابن القعقاع وقتادة وابن أبي إسحاق { ضعفاً } وفي الرّوم بضمّ الضاد وسكون العين وعيسى بن عمر بضمّهما وحمزة وعاصم بفتح الضاد وسكون العين وهي كلها مصادر ، وعن أبي عمرو بن العلاء ضمّ الضاد لغة الحجاز وفتحها لغة تميم ، وقرأ ابن القعقاع { ضعفاً } جمع ضعيف كظريف وظرفاء وحكاها النّقّاس عن ابن عباس ، فقيل الضّعف في الأبدان ، وقيل في البصيرة والاستقامة في الذين وكانوا متفاوتين في ذلك ، وقال الثعالبي الضّعف بفتح الضّاد في العقل والرأي والضعف في الجسم ، وقال ابن عطية وهذا قول تردّه القراءة انتهى.
{ ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم }.

لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)

{ لولا كتاب من الله سبق لمّسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً واتقو الله إن الله غفور رحيم }.
نزلت في أسرى بدر وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد استشار أبا بكر وعمر وعليّاً فأشار أبو بكر بالاستحياء وعمر بالقتل في حديث طويل يوقف عليه في صحيح مسلم ، وقرأ أبو الدرداء وأبو حيوة ما كان للنبي معرّفاً والمراد به في التنكير والتعريف الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن في التنكير إبهام في كون النفي لم يتوجه عليه معيناً وتقدّم مثل هذا التركيب وكيفية هذا النفي وهو هنا على حذف مضاف أي ما كان لأصحاب نبي أو لأتباع نبيّ فحذف اختصاراً ولذلك جاء الجمع في قوله { تريدون عرض الدنيا } ولم يجيء التركيب تريد أو يريد عرض الدنيا لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب ولا أراد عرض الدنيا قط ، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب وقد طول المفسرون في قصّة هؤلاء الأسارى ، وذلك مذكور في السّير وحذفناه نحن لأن في بعضه ما لا يناسب ذكره بالنسبة إلى مناصب الرسل.
وقرأ أبو عمرو أن تكون على تأنيث لفظ الجمع وباقي السبعة والجمهور على التذكير على المعنى ، وقرأ الجمهور والسبعة { أسرى } على وزن فعلى وهو قياس فعيل بمعنى مفعول إذا كان آفة كجريج وجرحى ، وقرأ يزيد بن القعقاع والمفضل عن عاصم أسارى وشبه فعيل بفعلان نحو كسلان وكسالى كما شبهوا كسلان بأسير فقالوا فيه جمعاً كسلى قاله سيبويه وهما شاذّان ، وزعم الزجاج أن أسارى جمع أسرى فهو جمع جمع وقد تقدم لنا ذكر الخلاف في فعلى أهو جمع أو اسم جمع وأنّ مذهب سيبويه أنه من أبنية الجموع ومدلول أسرى وأسارى واحد ، وقرأ أبو عمرو بن العلاء الأسرى هم غير الموثوقين عندما يؤخذون والأسارى هم الموثقون ربطاً ، وحكى أبو حاتم أنه سمع ذلك من العرب وقد ذكره أيضاً أبو الحسن الأخفش ، وقال العرب : لا تعرف هذا كلاهما عندهم سواء.
وقرأ أبو جعفر ويحيى بن يعمر ويحيى بن وثاب { حتى يثخن } مشدّداً عدوه بالتضعيف والجمهور بالتخفيف وعدوّه بالهمزة إذ كان قبل التعدية ثخن ومعنى { عرض الدنيا } ما أخذتم في فداء الأساري وكان فداء كل رجل عشرين أوقية ، وفداء العباس أربعون أوقية وعن ابن سيرين مائة أوقية ، والأوقية أربعون درهماً وستة دنانير ، وكانوا مالوا إلى الفداء ليقووا ما يصيبونه على الجهاد وإيثاراً للقرابة ورجاء الإسلام وكان الإثخان والقتل أهيب للكفار وأرفع لمنار الإسلام وكان ذلك إذ المسلمون قليل فلما اتسع نطاق الإسلام وعزّ أهله نزل فإما منا بعد وإما فداء ، وقرىء يريدون بالياء من تحت وسمى عرضاً لأنه حدث قليل اللبث ، وقرأ الجمهور { الآخرة } بالنصب ، وقرأ سليمان بن جمار المدنيّ بالجرّ واختلفوا في تقدير المضاف المحذوف فمنهم من قدّره { عرض الآخرة } ، قال : وحذف لدلالة عرض الدنيا عليه ، قال بعضهم : وقد حذف العرض في قراءة الجمهور وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب فنصب وممن قدّره عرض الآخرة الزمخشري قال على التقابل يعني ثوابها انتهى.

ونعني أنه لما أطلق على الفداء عرض الدنيا أطلق على ثواب الآخرة عرضاً على سبيل التقابل لا أن ثواب الآخرة زائل فإن كعرض الدنيا فسُمّي عرضاً على سبيل التقابل وإن كان لولا التقابل لم يسمَّ عرضاً وقدّره بعضهم عمل الآخرة أي المؤدّي إلى الثواب في الآخرة وكلهم جعله كقوله :
ونار توقد بالليل ناراً . . .
.
ويعنون في حذف المضاف فقط وإبقاء المضاف إليه على جرّه لأن جرّ مثل ونار جائز فصيح وذلك إذا لم يفصل بين المجرور وحرف العطف أو فصل بلا نحو ما مثل زيد ولا أخيه يقولان ذلك وتقدم المحذوف مثله لفظاً ومعنى وأما إذا فصل بينهما بغير لا كهذه القراءة فهو شاذّ قليل ، والله عزيز ينصر أولياءه ويجعل الغلبة لهم ويمكّنهم من أعدائهم قتلاً وأسراً حكيم يضع الأشياء مواضعها.
قال ابن عباس ومقاتل { لولا } أنّ الله كتب في أمّ الكتاب أنه سيحلّ لكم الغنائم { لمسّكم } فيما تعجّلتم منها ومن الفداء يوم بدر قبل أن تؤمروا بذلك { عذاب عظيم } ، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد : لو سبق أنه يعذبّ من أتى ذنباً على جهالة لعوقبتم ، وقال علي بن أبي طالب ومحمد بن علي بن الحسين وابن إسحاق : { سبق } أن لا يعذّب إلا بعد النهي ولم يكن نهاهم ، وقال الحسن وابن جبير وابن زيد وابن أبي نجيح عن مجاهد لولا ما سبق لأهل بدر إنّ الله لا يعذبهم لعذّبهم ، وقال الماورديّ لولا أن القرآن اقتضى غفران الصغائر لعذبهم ، وقال قوم : الكتاب السابق عفوه عنهم في هذا الذنب معيناً ، وقيل : هو أن لا يعذبهم والرسول فيه ، وقيل : ما كتبه على نفسه من الرحمة.
وقيل : سبق أنه لا يضلّ قوماً بعد إذ هداهم ، وقيل : سبق أنه سيحلّ لهم الغنائم والفداء ، قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن ، وقيل : سبق أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر لعذّبكم بأخذ الغنائم ، واختاره النحاس.
وقال قوم : الكتاب السابق هو القرآن والمعنى لولا الكتاب الذي سبق فآمنتم به وصدّقتم لمسّكم العذاب لأخذكم هذه المفاداة ، وقال الزمخشري : لولا حكم منه تعالى سبق إثباته في اللوح وهو أن لا يعاقب أحداً بخطأ وكان هذا خطأ في الاجتهاد لأنهم نظروا في أنّ استبقاءهم ربما كان سبباً في إسلامهم وتوبتهم وأنّ فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله وخفي عنهم أن قتلهم أعزّ للإسلام وأهْيب لمن وراءهم وأفل لشوكتهم انتهى.

وروي لو نزل في هذا الأمر عذاب لنجا منه عمر وفي حديث آخر وسعد بن معاذ وذلك أن رأيهما كان أن تقتل الأسارى.
والذي أقوله أنهم كانوا مأمورين أوّلاً بقتل الكفار في غير ما آية كقوله { واقتلوهم حيث وجدتموهم } { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } فلما كانت وقعة بدر وأسروا جماعة من المشركين اختلفوا في أخذ الفداء منهم وفي قتلهم فعوتب من رأى الفداء إذ كان قد تقدّم الأمر بالقتل حيث لم يستصحبوا امتثال الأمر ومالوا إلى الفداء وحرصوا على تحصيل المال ألا ترى إلى قول المقداد حين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة بن أبي معيط قال : أسيري يا رسول الله ، وقول مصعب بن عمير لمن أسر أخاه : شدّ يدك عليه فإن له أما مؤسرة ، ثم بعد هذه المعاتبة أمر الرسول بقتل بعض والمنّ بالإطلاق في بعض والفداء في بعض فكان ذلك نسخاً لتحتّم القتل ، ثم قال تعالى : { لولا كتاب من الله سبق } في تأييدكم ونصركم وقهركم أعداءكم حتى استوليتم عليهم قتلاً وأسراً ونهباً على قلّة عددكم وعددكم { لمسكم فيما أخذتم } من غنائمهم وفدائهم عذاب عظيم منهم لكونهم كانوا أكثر عدداً منكم وعدداً ولكنه سهل تعالى عليكم ولم يمسّكم منهم عذاب لا بقتل ولا أسر ولا نهب وذلك بالحكم السابق في قضائه أنه يسلّطكم عليهم ولا يسلّطهم عليكم فليس المعنى لمسكم من الله وإنما المعنى لمسكم من أعدائكم كما قال : { إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله } وقال : { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون } ثم قال تعالى : { فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً } أي مما غنمتم ومنه ما حصل بالفداء الذي أقره الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لا يفلتن منهم رجل إلا بفدية أو ضرب عنق وليس هذا الأمر منشأً لإباحة الغنائم إذ قد سبق تحليلها قبل يوم بدر ولكنه أمر يفيد التوكيد واندراج مال الفداء في عموم ما غنمتم إذ كان قد وقع العتاب في الميل للفداء ثم أقرّه الرسول وانتصب { حلالاً } على الحال من ما إن كانت موصولة أو من ضميره المحذوف أو على أنه نعت لمصدر محذوف أي أكلاً حلالاً وجوّزوا في ما إن تكون مصدرية وروي أنهم أمسكوا عن الغنائم ولم يمدّوا أيديهم إليها فنزلت ، وجعل الزمخشري قوله { فكلوا } متسبّباً عن جملة محذوفة هي سبب وأفادت ذلك الفاء وقدّرها قد أبحت لكم الغنائم فكلوا ، وقال الزجاج الفاء للجزاء والمعنى قد أحللت لكم الفداء فلكوا وأمر تعالى بتقواه لأن التقوى حاملة على امتثال أمر الله وعدم الإقدام على ما لم يتقدّم فيه إذن ففيه تحريض على التقوى من مال إلى الفداء ثم جاءت الصفتان مشعرتين بغفران الله ورحمته عن الذين مالوا إلى الفداء قبل الإذن ، وقال الزمخشري : معناه إذا اتقيتموه بعدما فرط منكم من استباحة الفداء قبل أن يؤذن لكم فيه غفر لكم ورحمكم وتاب عليكم ، وقال ابن عطية : وجاء قوله { واتقوا الله } اعتراضاً فصيحاً في أثناء القول لأن قوله { إن الله غفور رحيم } هو متصل بقوله { فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً } ، وقيل غفور لما أتيتم رحيم بإحلال ما غنمتم.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)

نزلت هذه الآية عقيب بدر في أسرى بدر أعلموا أنّ لهم ميلاً إلى الإسلام وأنهم يؤملونه إن فدوا ورجعوا إلى قومهم ، وقيل في عباس وأصحابه قالوا للرسول : آمنا بما جئت ونشهد أنك روسل الله لننصحن لك على قومنا ومعنى { في أيديكم } أي ملكتكم كان الأيدي قابضة عليهم والصحيح أن الأسارى كانوا سبعين والقتلى سبعين كما ثبت في صحيح مسلم وهو قول ابن عباس وابن المسيب وأبي عمرو بن العلاء ، وكان عليهم حين جيء بهم إلى المدينة شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال مالك : كانوا مشركين ومنهم العباس بن عبد المطلب أسره أبو اليسر كعب بن عمرو أخو بني سلمة وكان قصيراً والعباس ضخم طويل فلما جاء به قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « لقد أعانك عليه ملك » وعن العباس كنت مسلماً ولكنهم استكرهوني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن يكن ما تقول حقّاً فالله يجريك فأما ظاهر أمرك فقد كنت علينا » وكان أحد الذين ضمنوا إطعام أهل بدر وخرج بالذهب لذلك ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس إفِد ابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث ، فقال يا محمد تركتني أتكفف قريشاً ما بقيت ، فقال له : « أين المال الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها : لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل ، فقال العباس : وما يدريك قال : أخبرني به ربي » ، قال العباس : فأنا أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنت عبده ورسوله ، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتاباً في أمرك فأما إذا أخبرتني بذلك فلا ريب ، قال العباس فأبدلني الله خيراً من ذلك لي الآن عشرون عبداً إنّ أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي.
وروي أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مال البحرين ثمانون ألفاً فتوضّأ لصلاة الظهر وما صل حتى فرّقه وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ ما قدر على حمله وكان يقول : هذا خير مما أخذ مني وأرجو المغفرة ومعنى { إنْ يعلم الله } أنْ يتبين للناس علم الله { في قلوبكم خيراً } أي إسلاماً كما زعمتم بأن تظهروا الإسلام فإنه سيعطيكم أفضل مما أخذ منكم بالفداء وسيغفر لكم ما اجترحتموه فإن الإسلام يحب ما قبله.
وقرأ الجمهور { من الأسرى } وابن محيصن من أسرى منكراً وقتادة وأبو جعفر وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم وأبو عمرو من السبعة من الأسارى واختلف عن الحسن وعن الجحدري ، وقرأ الأعمش يثبكم خيراً من الثواب ، وقرأ الحسن وأبو حيوة وشيبة وحميد مما أخذ مبنياً للفاعل ، وإيتاء هذا الخير ، قيل في الدنيا وقيل في الآخرة ، وقيل فيهما والظاهر أن الضمير في وإن يريدوا على الأسرى لأنه أقرب مذكور ، والخيانة هي كونهم أظهر الإسلام بعضهم ثم ردّوا إلى دينهم فقد خانوا الله لخروجهم مع المشركين ، وقال الكرماني : { وإن يريدوا } يعني الأسرى خيانتك يعني نقض ما عهدوا معك فقد خانوا الله بالكفر والشكر قبل العهد ، وقيل : قبل بدر فأمكن منهم أو فأمكنك منهم وهزمتهم وأسرتهم ، وقال الزمخشري : { خيانتك } أي ينكث ما بايعوك عليه من الإسلام والردّة واستحباب دين آبائهم { فقد خانوا الله من قبل } في كفرهم ونقض ما أخذ على كلّ عاقل من مشاقّه { فأمكن منهم } كما رأيتم يوم بدر فسيمكن منهم إن أعادوا الخيانة ، وقيل المراد بالخيانة منع ما ضمنوا من الفداء ، وقال ابن عطية : إن أخلصوا فعل بهم كذا وإن أبطنوا خيانة ما رغبوا أن يؤتمنوا عليه من العهد فلا يسرّهم ذلك ولا يسكنون إليه فإن الله بالمرصاد فهم الذين خانوه بكفرهم وتركهم النّظر في آياته وهو قد بيّنها لهم وجعل لهم إدراكاً يحصلونها به فصار ذلك كعهد متقرّر فجعل جزاؤهم على خيانتهم إياه أن مكّن منهم المؤمنين وجعلهم أسرى في أيديهم { والله عليم } بما يبطنونه من إخلاص أو خيانة { حكيم } فيما يجازيهم انتهى ، وقيل الضمير في { وإن يريدوا } عائد على الذين قيل في حقهم :

{ وإن جنحوا للسلم } أي وإن يريدوا خيانتك في إظهار الصّلح والجمهور على أن الضمير في { وإن يريدوا } عائد على الأسرى ، وروي عن قتادة : إن هذه الآية في قصة عبد الله بن أبي سرح فإن كان قال ذلك على سبيل التمثيل فيمكن ، وإن كان على سبيل أنها نزلت في ذلك فلا لأنه إنما بيّن أمره في فتح مكة وهذه نزلت عقيب بدر.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)

قسّم الله المؤمنين إلى المهاجرين والأنصار والذين لم يهاجروا فبدأ بالمهاجرين لأنهم أصل الإسلام وأول من استجاب الله فهاجر قوم إلى المدينة وقوم إلى الحبشة وقوم إلى ابن ذي يزن ثم هاجروا إلى المدينة وكانوا قدوة لغيرهم في الإيمان وسبب تقوية الدّين « من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة » وثنّى بالأنصار لأنهم ساووهم في الإيمان وفي الجهاد بالنفس والمال لكنه عادل الهجرة إلايواء والنصر وانفرد المهاجرون بالسبق وذكر ثالثاً من آمن ولم يهاجر ولم ينصر ففاتهم هاتان الفضيلتان وحرموا الولاية حتى يهاجروا ومعنى { أولياء بعض } في النصرة والتعاون والموازرة ، كما جاء في غير آية نحو { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : ذلك في الميراث آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة وليّ مهاجري ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري.
قال ابن زيد : واستمر أمرهم كذلك إلى فتح مكة ثم توارثوا بعد لما لم تكن هجرة فمعنى { ما لكم من ولايتهم من شيء } نفي الموالاة في التوارث وكان قوله : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى } نسخاً لذلك وعلى القول الأوّل يكون المعنى في نفي الولاية على أنها صفة للحال إذ لا يمكن ولايته ونصره لتباعد ما بين المهاجرين وبينهم وفي ذلك حضّ للأعراب على الهجرة ، قيل ولا يجوز أن تكون الموالاة لأنه عطف عليه وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فوجب أن تكون الولاية المنفية غير النّصرة انتهى.
ولما نزل { ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } قال الزبير هل نعينهم على أمر إن استعانوا بنا فنزل { وإن استنصروكم } ومعنى ميثاق عهد لأن نصركم إياهم نقض للعهد فلا تقاتلون لأنّ الميثاق مانع من ذلك وخصّ الاستنصار بالدين لأنه بالحمية والعصبية في غير الدين منهى عنه وعلى تقتضي الوجوب ولذلك قدّره الزمخشري بقوله : فواجب عليكم أن تنصروهم.
وقال زهير :
على مكثريهم رزق من يعتريهم . . .
وعند المقلّين السماحة والبذل
وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة { ولايتهم } بالكسر وباقي السبعة والجمهور بالفتح وهما لغتان قاله الأخفش ، ولحن الأصمعي الأخفش في قراءته بالكسر وأخطأ في ذلك لأنها قراءة متواترة ، وقال أبو عبيدة بالكسر من ولاية السلطان وبالفتح من المولى يقال مولى بين الولاية بفتح الواو ، وقال الزجاج بالفتح من النصرة والنسب وبالكسر بمنزلة الإمارة قال : ويجوز الكسر لأنّ في تولي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل وكل ما كان من جنس الصناعة مكسور مثل القصارة والخياطة وتبع الزمخشري الزجاج فقال : وقرىء { من ولايتهم } بالفتح والكسر أي من توليهم في الميراث ووجه الكسر أنّ تولي بعضهم بعضاً شبه بالعمل والصناعة كأنه بتوليه صاحبه يزاول أمراً ويباشر عملاً ، وقال أبو عبيد والذي عندنا الأخذ بالفتح في هذين الحرفين نعني هنا ، وفي الكهف لأنّ معناهما من الموالاة لأنها في الدين ، وقال الفرّاء : يريد من مواريثهم فكسر الواو وأجب إليّ من فتحها لأنها إنما تفتح إذا كانت نصرة وكان الكسائي يذهب بفتحها إلى النصرة وقد ذكر الفتح والكسر في المعنيين جميعاً ، وقرأ السلمي والأعرج بما يعملون بالياء على الغيبة.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)

{ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } وقرأت فرقة أولى ببعض.
قال ابن عطية : هذا لجمع الموارثة والمعاونة والنصرة ، وقال الزمخشري ظاهره إثبات الموالاة بينهم كقوله في المسلمين ومعناه نهي المسلمين عن الموالاة الذين كفروا وموارثيهم وإيجاب مساعدتهم ومصادقتهم وإن كانوا أقارب وإن يتركوا يتوارثون بعضهم بعضاً.
وقال غيره : لما ذكر أقسام المؤمنين الثلاثة وأنهم أولياء ينصر بعضهم بعضاً ويرث بعضهم بعضاً بين أن فريق الكفار كذلك إذ كانوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ينادي أهل الكتاب منهم قريشاً ويتربّصون بهم الدوائر فصاروا بعد بعثه يوالي بعضهم بعضاً وإلباً واحداً على الرسول صوناً على رئاساتهم وتحزّباً على المؤمنين.
{ أن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبِير }.
الضمير المنصوب في { تفعلوه } عائد على الميثاق أي على حفظه أو على النصر أو على الإرث أو على مجموع ما تقدم أقوال أربعة ، وقال الزمخشري : أي إن لا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولي بعضهم بعضاً حتى في التوارث تفضيلاً لنسبة الإسلام على نسبة القرابة ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار ولم تجعلوا قرابتهم كلا قرابة تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة لأنّ المسلمين ما لم يصيروا يداً واحدة على الشرك كان الشرك ظاهراً والفساد زائداً ، وقال ابن عطية : والفتنة المحنة بالحرب وما انجرّ معها من الغارات والجلاء والأسر والفساد الكبير ظهور الشّرك ، وقال البغوي : الفتنة في الأرض قوّة الكفر والفساد الكبير ضعف الإسلام ، وقرأ أبو موسى الحجازي عن الكسائي : كثير بالثاء المثلثة وروي أن الرسول صلى الله عليه وسلم فرأ وفساد عريض.

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)

هذه الآية فيها تعظيم المهاجرين والأنصار وهي مختصرة إذ حذف منها بأموالهم وأنفسهم وليست تكراراً لأن السابقة تضمنت ولاية بعضهم بعضاً وتقسيم المؤمنين إلى الأقسام الثلاثة وبيان حكمهم في ولايتهم ونصرهم وهذه تضمنت الثناء والتشريف والاختصاص وما آل إليه حالهم من المغفرة والرزق الكريم وتقدم تفسير أواخر نظيرة هذه الآية في أوائل هذه السورة.

وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)

{ والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم }.
يعني الذين لحقوا بالهجرة من سبق إليها فحكم تعالى بأنهم من المؤمنين السابقين في الثواب والأجر وإن كان للسابقين شفوف السّبق وتقدّم الإيمان والهجرة والجهاد ومعنى { من بعد } من بعد الهجرة الأولى وذلك بعد الحديبية قاله ابن عباس ، وزاد ابن عطية وبيعة الرضوان وذلك أنّ الهجرة من بعد ذلك كانت أقل رتبة من الهجرة قبل ذلك وكان يقال لها الهجرة الثانية لأن الحرب وضعت أوزارها نحو عامين ثم كان فتح مكة.
وبه قال عليه السلام : { لا هجرة بعد الفتح }.
وقال الطبري : { من بعد } ما بينت حكم الولاية فكان الحاجز بين الهجرتين نزول الآية فأخبر تعالى في هذه الآية أنهم من الأولين في الموازرة وسائر أحكام الإسلام ، وقيل : من بعد يوم بدر ، وقال الأصمّ : من بعد الفتح وفي قوله { معكم } إشعار أنهم تبع لا صدر كما قال فأولئك مع المؤمنين وكذلك فأولئك منكم كما جاء مولى القوم منهم وابن أخت القوم منهم.
{ وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إنّ الله بكل شيء عليم }.
أي وأصحاب القرابات ومن قال : إنّ قوله في المؤمنين المهاجرين والأنصار { بعضهم أولياء بعض } في المواريث بالأخوّة التي كانت بينهم ، قال : هذه في المواريث وهي نسخ للميراث بتلك الأخوة وإيجاب أن يرث الإنسان قريبة المؤمن وإن لم يكن مهاجراً واستدلّ بها أصحاب أبي حنيفة على توريث ذوي الأرحام ، وقالت فرقة منهم : مالك ليست في المواريث وهذا فرار عن توريث الخال والعمّة ونحو ذلك ، وقالت فرقة : هي في المواريث إلا أنها نسختها آية المواريث المبيّنة ، والظاهر أنّ { كتاب الله } هو القرآن المنزّل وذلك في آية المواريث ، وقيل : في كتاب الله السابق ، اللوح المحفوظ ، وقيل : في كتاب الله في هذه الآية المنزلة ، وقال الزجاج : في حكمه ، وتبعه الزمخشري ، فقال في حكمه وقسمته وختم السورة بقوله { إنّ الله بكلّ شيء عليم } ، في غاية البراعة إذ قد تضمنت أحكاماً كثيرة في مهمّات الدين وقوامه وتفصيلاً لأحوال ، فصفة العلم تجمع ذلك كله وتحيط بمبادئه وغاياته.

بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)

المرصد : مفعل من رصد يرصد رقب ، يكون مصدراً وزماناً ومكاناً.
وقال عامر بن الطفيل :
ولقد علمت وما إخالك ناسيا . . .
أن المنية للفتى بالمرصد
الآل الحلف والجؤار ، ومنه قول إبي جهل.
لآل علينا واجب لا نضيعه . . .
متين قواه غير منتكث الحبل
كانوا إذا تسامحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه من الآل وهو الجؤار ، وله أليل أي أنين يرفع به صوته.
وقيل : القرابة.
وأنشد أبو عبيدة على القرابة قول الشاعر :
أفسد الناس خلوف خلفوا . . .
قطعوا الآل وأعراق الرحم
وظاهر البيت أنه في العهد.
ومن القرابة قول حسان :
لعمرك أن لك من قريش . . .
كل السقب من رأل النعام
وسميت إلاًّ لأنها عقدت ما لا يعقد الميثاق.
وقيل : من أل البرق لمع.
وقال الأزهري : الأليل البريق ، يقال : أل يؤل صفا ولمع.
وقال القرطبي : مأخوذ من الحدة ، ومنه الآلة الحربة.
واذن مؤللة محددة ، فإذا قيل للعهد والجؤار والقرابة إلّ فمعناه : أنّ الإذن منصرف إلى تلك الجهة التي يتحدد لها ، والعهد يسمى إلاًّ لصفائه ، ويجمع في القلة الآل ، وفي الكثرة الألّ وأصل جمع القلة أألل ، فسهلت الهمزة الساكنة التي هي فاء الكلمه فأبدلها ألفاً ، وأدغمت اللامفي اللام ، الذمة؛ العهد.
وقال أبو عبيدة : الأمان.
وقال الأصمعي : كل ما يجب أن يحفظ ويحمى.
أبى يأبى منع ، قال :
أبى الضيم والنعمان يخرق نابه . . .
عليه فافضى والسيوف معاقله
وقال :
أبى الله إلا عدله ووفاءه . . .
فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
ومجيء مضارعه على فعل بفتح العين شاذ ، ومنه آبى اللحم لرجل من الصحابة.
شفاه : أزال سقمه.
العشيرة جماعة مجتمعة بسبب أو عقد أو وداد كعقد العشيرة.
اقترف اكتسب.
كسد الشيء كساداً وكسوداً بار ولم يكن له نفاق.
الموطن : الموقف والمقام ، قال الشاعر :
وكم موطن لولاي طحت كما هوى . . .
بإجرامه من قلة النيق منهوي
ومثله الوطن.
حنين : وادٍ بين مكة والطائف ، وقيل : واد إلى جنب ذي المجاز.
العيلة : الفقر ، عال يعيل افتقر.
قال :
وما يدري الفقير متى غناه . . .
وما يدري الغني متى يعيل
الجزية : ما أخذ من أهل الذمة على مقامهم في بلاد الإسلام ، سميت بذلك لأنهم يجزونها أي يقضونها.
أو لأنها تجزى بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل.
المضاهاة : المماثلة والمحاكاة ، وثقيف تقول : المضاهأة بالهمز ، وقد ضاهأت فمادتها مخالفة للتي قبلها ، إلا إنْ كان ضاهت يدعى أنّ أصلها الهمز كقولهم في توضأت وقرأت وأخطأت : توضيت ، وقريت ، وأخطيت فيمكن.
وأما ضهيأ بالهمز مقصوراً فهمزته زائدة كهمزة عرفىء ، أو ممدوداً فهمزته للتأنيث زائدة ، أو ممدوداً بعده هاء التأنيث.
حكاه البحتري عن أبي عمرو الشيباني في النوادر قال : جمع بين علامتي تأنيث.

ومدلول هذه اللفظة في ثلاث لغاتها المرأة التي لا تحيض ، أو التي لا ثدي لها شابهت بذلك الرجال.
فمن زعم أنّ المضاهاة مأخوذة من ضهياء فقوله خطأ لاختلاف المادتين ، لأصالة همزة المضاهأة ، وزيادة همزة ضهياء في لغاتها الثلاث.
{ برآءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين } هذه السورة مدنية كلها ، وقيل : إلا آيتين من آخرها فإنهما نزلتا بمكة ، وهذا قول الجمهور.
وذكر المفسرون لها اسماً واختلافاً في سبب ابتدائها بغير بسملة ، وخلافاً عن الصحابة : أهي والأنفال سورة واحدة ، أو سورتان؟ ولا تعلق لمدلول اللفظ بذلك ، فأخلينا كتابنا منه ، ويطالع ذلك في كتب المفسرين.
ويقال : برئت من فلان أبرأ براءة ، أي انقطعت بيننا العصمة ، ومنه برئت من الدين.
وارتفع براءة على الابتداء ، والخبر إلى الذين عاهدتم.
ومن الله صفة مسوغة لجواز الابتداء بالنكرة ، أو على إضمار مبتدأ أي : هذه براءة.
وقرأ عيسى بن عمر براءة بالنصب.
قال ابن عطية : أي الزموا ، وفيه معنى الاغراء.
وقال الزمخشري : اسمعوا براءة.
قال : ( فإن قلت ) : بم تعلقت البراءة ، بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين؟ ( قلت ) : قد أذن الله تعالى في معاهدة المشركين أولاً ، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم ، فلما نقضوا العهد أوجب الله تعالى النبذ إليهم ، فخوطب المسلمون بما تجدّد من ذلك فقيل لهم : إعلموا أنّ الله تعالى ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين.
وقال ابن عطية : لما كان عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لازماً لجميع أمته حسن أن يقول : عاهدتم.
وقال ابن إسحاق وغيره : كانت العرب قد أوثقها رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً عاماً على أنّ لا يصدّ أحد عن البيت الحرام ونحو هذا من الموادعات ، فنقض ذلك بهذه الآية ، وأحل لجميعهم أربعة أشهر ، فمن كان له مع الرسول عهد خاص وبقي منه أقل من الأربعة أبلغ به تمامها ، ومن كان أمده أكثر أتمّ له عهده ، وإذا كان ممن يحتبس منه نقض العهد قصر على أربعة أشهر ، ومن لم يكن له عهد خاص فرضت له الأربعة يسيح في الأرض أي : يذهب فيها مسرحاً آمناً.
وظاهر لفظة من المشركين العموم ، فكل من عاهده المسلمون داخل فيه من مشركي مكة وغيرهم.
وروي أنهم نكثوا إلاّ بني ضمرة وكنانة فنبذ العهد إلى الناكثين.
وقال مقاتل : المراد بالمشركين هنا ثلاث قبائل من العرب : خزاعة ، وبنو مدلج ، وبنو خزيمة.
وقيل : هذه الآية في أهل مكة ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم صالح قريشاً عام الحديبية على أنْ يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ، فدخلت خزاعة في عهد الرسول ، وبنو بكر بن عبد مناة في عهد قريش ، وكان لبني الديل من بني بكر دمٌ عند خزاعة فاغتنموا الفرصة وغفلة خزاعة ، فخرج نوفل بن معاوية الديلي فيمن أطاعه من بني بكر وبيتوا خزاعة فاقتتلوا ، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح ، وقوم أعانوهم بأنفسهم ، فهزمت خزاعة إلى الحرم ، فكان ذلك نقضاً لصلح الحديبية ، فخرج من خزاعة بديل بن ورقاء وعمرو بن سالم في ناس من قومهم ، فقدموا على الرسول صلى الله عليه وسلم مستغيثين ، وأنشده عمرو فقال :

يا رب إني ناشد محمدا . . .
حلف أبينا وأبيه الأتلدا
كنت لنا أباً وكنا ولدا . . .
ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصراً عبدا . . .
وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا . . .
أبيض مثل الشمس ينمو صعدا
إن سيم خسفاً وجهه تريدا . . .
في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا . . .
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وزعموا أن لست تدعو أحدا . . .
وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالحطيم هجدا . . .
وقتلونا ركعاً وسجدا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا نصرت إنْ لم أنصركم » فتجهز إلى مكة وفتحها سنة ثمان ، ثم خرج إلى غزوة تبوك وتخلف من تخلف من المنافقين وأرجفوا الأراجيف ، فجعل المشركون ينقضون عهودهم ، فأمره الله تعالى بإلقاء عهدهم إليهم ، وأذن في الحرب فسيحوا أمر إباحة ، وفي ضمنه تهديد وهو التفات من غيبة إلى خطاب أي : قلْ لهم سيحوا.
يقال : ساح سياحة وسوحاً وسيحاناً ، ومنه سيح الماء وهو الجاري المنبسط.
وقال طرفة :
لو خفت هذا منك ما نلتني . . .
حتى ترى خيلاً أمامي تسيح
قال ابن عباس والزهري : أول الأشهر شوال حتى نزلت الآية ، وانقضاؤها انقضاء المحرم بعد يوم الأذان بخمسين ، فكان أجل من له عهد أربعة أشهر من يوم النزول ، وأجل سائر المشركين خمسون ليلة من يوم الأذان.
وقال السدّي وغيره : أولها يوم الأذان ، وآخرها العشر من ربيع الآخر.
وقيل : العشر من ذي القعدة إلى عشرين من شهر ربيع الأول ، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم ، ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة غير معجزي الله لا تفوتونه وإنْ أملهكم وهو مخزيكم أي : مذلكم في الدنيا بالقتل والأسر والنهب ، وفي الآخرة بالعذاب.
وحكى أبو عمرو عن أهل نجران : أنهم يقرأون من الله بكسر النون على أصل التقاء الساكنين ، واتباعاً لكسرة النون.
{ وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله } قرأ الضحاك وعكرمة وأبو المتوكل : وإذن بكسر الهمزة وسكون الذال.
وقرأ الحسن والأعرج : إن الله بكسر الهمزة فالفتح على تقدير بأنّ ، والكسر على إضمار القول على مذهب البصريين ، أو لأنّ الأذان في معنى القول فكسرت على مذهب الكوفيين.

وقرأ ابن أبي إسحاق ، وعيسى بن عمر ، وزيد بن علي : ورسوله بالنصب ، عطفاً على لفظ اسم أنْ.
وأجاز الزمخشري أنْ ينتصب على أنه مفعول معه.
وقرىء بالجر شاذاً ، ورويت عن الحسن.
وخرجت على العطف على الجوار كما أنهم نعتوا وأكدوا على الجوار.
وقيل : هي واو القسم.
وروي أن أعرابياً سمع من يقرأ بالجر فقال : إنْ كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء ، فلببه القارىء إلى عمر ، فحكى الأعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعليم العربية.
وأما قراءة الجمهور بالرفع فعلى الابتداء ، والخبر محذوف أي : ورسوله بريء منهم ، وحذف لدلالة ما قبله عليه.
وجوزوا فيه أن يكون معطوفاً على الضمير المستكن في بريء ، وحسنه كونه فصل بقوله : من المشركين ، بين متحمله ، والمعطوف.
ومن أجاز العطف على موضع اسم إنّ المكسورة أجاز ذلك ، مع أنّ المفتوحة.
ومنهم من أجاز ذلك مع المكسورة ، ومنع مع المفتوحة.
قال ابن عطية : ومذهب الأستاذ يعني أبا الحسن بن الباذش على مقتضى كلام سيبويه : أنْ لا موضع لما دخلت عليه إنَّ لا موضع لما دخلت عليه هذه انتهى.
وهذا كلام فيه تعقب ، لأنّ علة كون إنّ موضع لما دخلت عليه ، ليس ظهور عمل العامل ، بدليل ليس زيد بقائم ، وما في الدار من رجل ، فإنه ظهر عمل العامل ، ولهما موضع.
وقوله : والإجماع إلى آخره يريد : أنّ ليت لا موضع لها من الإعراب بالإجماع ، وليس كذلك ، لأنّ الفراء خالف وجعل حكم ليت ولعل وكان ولكن ، وأنّ حكم إنّ في كون اسمهن له موضع.
وإعراب وأذان كإعراب براءة على الوجهين ، ثم الجملة معطوفة على مثلها ولا وجه لقول من قال : إنه معطوف على براءة ، كما لا يقال عمرو معطوف على زيد في زيد قام وعمرو قاعد.
والأذان بمعنى الإيذان وهو الإعلام كما أنّ الأمان والعطاء يستعملان بمعنى الإيمان والإعطاء ، ويضعف جعله خيراً عن.
وأذان إذا أعربناه مبتدأ ، بل الخبر قوله : إلى الناس.
وجاز الابتداء بالنكرة لأنها وصفت بقوله : من الله ورسوله.
ويوم منصوب بما يتعلق به إلى الناس ، وقد أجاز بعضهم نصبه بقوله : وأذان ، وهو بعيد من جهة أنّ المصدر إذا وصف قبل أخذه معموله لا يجوز إعماله فيما بعد الصفة ، ومن جهة أن لا يجوز أنْ يخبر عنه إلا بعد أخذه معموله ، وقد أخبر عنه بقوله : إلى الناس.
لما كان سنة تسع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يحج ، فكره أنْ يرى المشركين يطوفون عراة ، فبعث أبا بكر أميراً على الموسم ، ثم أتبعه علياً ليقرأ هذه الآيات على أهل الموسم راكباً ناقته العضباء ، فقيل له : لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال : « لا يؤدي عني إلا رجل مني » فلما اجتمعا قال : أبو بكر أمير أو مأمور ، قال : مأمور.

فلما كان يوم التروية خطب أبو بكر وقام عليّ يوم النحر بعد جمرة العقبة فقال : «يا أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم» ، فقالوا : بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين آية أو أربعين.
وعن مجاهد : ثلاث عشرة ثم قال : «أمرت بأربع أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، وأنْ لا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، وأنْ يتم إلى كل ذي عهد عهده» فقالوا عند ذلك : يا علي أبلغ ابن عمك أنّا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا ، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف.
وقيل : عادة العرب في نقض عهودها أنْ يتولى رجل من القبيلة ، فلو تولاه أبو بكر لقالوا هذا خلاف ما يعرف منا في نقض العهود ، فلذلك جعل علياً يتولاه ، وكان أبو هريرة مع علي ، فإذا صحل صوت علي نادى أبو هريرة.
والظاهر أنّ يوم الحج الأكبر هو يوم أحد.
فقال عمر ، وابن الزبير ، وأبو جحيفة ، وطاووس ، وعطاء ، وابن المسيب : هو يوم عرفة ، وروى مرفوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو موسى ، وابن أبي أوفى ، والمغيرة بن شعبة ، وابن جبير ، وعكرمة ، والشعبي ، والنخعي ، والزهري ، وابن زيد ، والسدي : هو يوم النحر.
وقيل : يوم الحج الأكبر أيام الحج كلها ، قال سفيان بن عيينة.
قال ابن عطية : والذي تظاهرت به الأحاديث أنّ علياً أذّن بتلك الآيات يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر ، ثم رأى أنه لم يعم الناس بالإسماع فتتبعهم بالأذان بها يوم النحر ، وفي ذلك اليوم بعث أبو بكر رضي الله عنه من يعينه بها كأبي هريرة وغيره ، ويتبعوا بها أيضاً أسواق العرب كذي المجاز وغيره ، وبهذا يترجح قول سفيان.
ويقول : كان هذا يوم صفين ، ويوم الجمل ، يريد جميع أيامه.
وقال مجاهد : يوم الحج الأكبر أيام منى كلها ، ومجامع المشركين حين كانوا بذي المجاز وعكاظ ومجنة حتى نودي فيهم : إنْ لا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا ، ووصفه بالأكبر.
قال الحسن ، وعبد الله بن الحرث بن نوفل : لأنه حج ذلك العام المسلمون والمشركون ، وصادف عيد اليهود والنصارى ، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده ، فعظم في قلب كل مؤمن وكافر.
وضعف هذا القول بأنه تعالى لا يصفه بالأكبر لهذا.
وقال الحسن أيضاً : لأنه حج فيه أبو بكر ، ونبذت فيه العهود.
قال ابن عطية : وهذا هو القول الذي يشبه نظر الحسن ، وبيانه أن ذلك اليوم كان المفتتح بالحق وأمارة الإسلام بتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونبذت فيه العهود ، وعز فيه الدين ، وذل فيه الشرك ، ولم يكن ذلك في عام ثمان حين ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسد كان أمير العرب على أوله ، فكل حج بعد حج أبي بكر فمتركب عليه ، فحقه لهذا أنْ يسمى أكبر انتهى.

ومن قال : إنه يوم عرفة ، فسمي الأكبر لأنه معظم واجباته ، فإذا فات فات الحج.
ومن قال : إنه يوم منى فلأن فيه معظم الحج ، وتمام أفعاله من الطواف والنحر والحلق والرمي.
وقيل : وصف بالأكبر لأنّ العمرة تسمى بالحج الأصغر.
وقال منذر بن سعيد وغيره : كان الناس يوم عرفة مفترقين إذا كانت الحمس تقف بالمزدلفة ، وكان الجمع يوم النحر بمنى ، ولذلك كانوا يسمونه يوم الحج الأكبر أي الأكبر من الأصغر الذي هم فيه مفترقون.
وقد ذكر المهدوي : أن الحمس ومن اتبعها وقفوا بالمزدلفة في حجة أبي بكر رضي الله عنه.
وحكى القرطبي عن ابن سيرين : أنّ يوم الحج الأكبر أراد به العام الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، وحج معه الأمم ، وهذا يحتاج إلى إضمار ، كأنه قال : هذا الأذان حكمه متحقق يوم الحج الأكبر وهو عام حج رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى.
وسمي أكبر لأنه فيه ثبتت مناسك الحج.
وقال فيه : « خذوا عني مناسككم » وجملة براءة من الله ورسوله إخبار بثبوت البراءة ، وجملة وأذان من الله ورسوله إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت ، فافترقتا وعلقت البراءة بالمعاهدين لأنها مختصة بهم ناكثيهم وغير ناكثيهم ، وعلق الأذان بالناس لشموله معاهداً وغيره ناكثاً ، وغيره مسلماً وكافراً ، هذا هو قول الجمهور.
قيل : ويجوز أنْ يكون الخطاب للكفار بدليل آخر الآية ، وبدليل مناداة عليّ بالجمل الأربع.
فظاهره أنّ المخاطب بتلك الجمل الكفار ، ولما كان المجرور خبراً عن قوله وأذان ، كان بإلى أي مفتد إلى الناس وواصل إليهم.
ولو كان المجرور في موضع المفعول لكان باللام ، ومن في من المشركين متعلقة بقوله بريء تعلق المفعول.
تقول : برئت منك ، وبرئت من الدين بخلاف مِنْ في قوله : براءة من الله ، فإنها في موضع الصفة { فإن تبتم } أي : من الشرك الموجب لتبرىء الله ورسوله منكم.
{ فهو } أي التوب { خير لكم } في الدنيا لعصمة أنفسكم وأولادكم وأموالكم ، وفي الآخرة لدخولكم الجنة وخلاصكم من النار.
{ وإن توليتم } أي عن الإسلام { فاعلموا أنكم غير معجزي الله } أي لا تفوتونه عما يحل بكم من نقماته { وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } جعل الإنذار بشارة على سبيل الاستهزاء بهم ، والذين كفروا عام يشمل المشركين عبدة الأوثان وغيرهم ، وفي هذا وعيد عظيم بما يحل بهم.
{ إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين } قال قوم : هذا استثناء منقطع ، التقدير : لكن الذين عاهدتم فثبتوا على العهد أتموا إليهم عهدهم.
وقال قوم منهم الزجاج : هو استثناء متصل من قوله : إلى الذين عاهدتم من المشركين.

وقال الزمخشري : وجهه أنْ يكون مستثنى من قوله : { فسيحوا في الأرض } لأنّ الكلام خطاب للمسلمين ومعناه : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ، فقولوا لهم : سيحوا ، إلا الذين عاهدتم منهم ، ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم.
والاستثناء بمعنى الاستدراك ، كأنه قيل بعد أنْ أمروا في الناكثين : ولكنّ الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراهم ، ولا تجعلوا الوفيّ كالغادر.
وقيل : هو استثناء متصل ، وقبله جملة محذوفة تقديرها : اقتلوا المشركين المعاهدين إلا الذين عاهدتم ، وهذا قول ضعيف جداً ، والأظهر أنْ يكون منقطعاً لطول الفصل بجمل كثيرة بين ما يمكن أن يكون مستثنى منه وبينه.
قال مجاهد وغيره : هم قوم كان بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم عهد لمدة ، فأمر أنْ يفي لهم.
وعن ابن عباس لما قرأ عليَّ براءة قال لبني ضمرة وحي من كنانة وحي من سليم : إنّ الله قد استثناكم ثم قرأ هذه الآية.
والظاهر أنّ قوله : إلى مدتهم ، يكون في المدة التي كانت بينهم وبين الرسول أمروا بإتمام العهد إلى تمام المدة.
وعن ابن عباس : كان بقي لحي من كنانة تسعة أشهر ، فأتم إليهم عهدهم.
وعنه أيضاً : إلى مدتهم ، إلى الأربعة الأشهر التي في الآية.
وهذا بعيد ، لأنه يكون الاستثناء لا يفيد تجديد حكم ، إذ يكون حكم هؤلاء المستثنين حكم باقي المعاهدين الذين لم يتصفوا بما اتصف به هؤلاء من عدم النقص وعدم المظاهرة.
وقرأ عطاء بن السائب الكوفي وعكرمة ، وأبو زيد ، وابن السميفع : ينقضوكم بالضاد معجمة وتناسب العهد ، وهي بمعنى قراءة الجمهور ، لأن من نقص من العهد فقد نقص من الأجل المضروب.
وهو على حذف مضاف ، أي ولم ينقضوا عهدكم ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لدلالة الكلام عليه.
وقال الكرماني : هي بالضاد أقرب إلى معنى العهد ، إلا أنّ القراءة بالصاد أحسن ليقع في مقابلته التمام في قوله : فأتموا إليهم.
والتمام ضد النقص.
وانتصب شيئاً على المصدر ، أي : لا قليلاً من النقص ولا كثيراً ، ولم يظاهروا عليكم أحداً كما فعلت قريش ببني بكر حين أعانوهم بالسلاح على خزاعة.
وتعدى أتوا بإلى لتضمنه معنى فأدوا ، أيْ : فأدوه تاماً كاملاً.
وقول قتادة : إنّ المستثنين هم قريش عوهدوا زمن الحديبية مردود بإسلام قريش في الفتح قبل الإذن بهذا كله.
وقوله : يحب المتقين ، تنبيه على أنّ الوفاء العهد من التقوى ، وأنّ من التقوى أن لا يسوي بين القبيلتين.
{ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد } تقدم الكلام على انسلخ في قوله : فانسلخ.
وقال أبو الهيثم : يقال أهللنا هلال شهر كذا أي دخلنا فيه ولبسناه ، فنحن نزداد كل ليلة إلى مضي نصفه لباساً منه ، ثم نسلخه عن أنفسنا بعد تكامل النصف منه جزءاً حتى نسلخه عن أنفسنا كله ، فينسلخ.

وأنشد :
إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله . . .
كفيَّ قاتلاً سلخ الشهور وإهلال
والظاهر أن هذه الأشهر هي التي أبيح للناكثين أنْ يسيحوا فيها ، ووصفت بالحرم لأنها محرم فيها القتال ، وتقدم ذكر الخلاف في ابتدائها وانتهائها.
وإذا تقدمت النكرة وذكرت بعد ذلك فالوجه أنْ تذكر بالضمير نحو : لقيت رجلاً فضربته.
ويجوز أنْ يعاد اللفظ معرّفاً بل نحو : لقيت رجلاً فضربت الرجل ، ولا يجوز أنْ يوصف بوصف يشعر بالمغايرة لو قلت : لقيت رجلاً فضربت الرجل الأزرق ، وأنت تريد الرجل الذي لقيته ، لم يجز بل ينصرف ذلك إلى غيره ، ويكون المضروب غير الملقى.
فإنْ وصفته بوصف لا يشعر بالمغايرة جاز نحو : لقيت رجلاً فضربت الرجل المذكور.
وهنا جاء الأشهر الحرم ، لأن هذا الوصف مفهوم من قوله : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، إذ التقدير أربعة أشهر حرم لا يتعرض إليكم فيها ، فليس الحرم وصفاً مشعراً بالمغايرة.
وقيل : الأشهر الحرم هي غير هذه الأربعة ، وهي الأشهر التي حرم الله فيها القتال منذ خلق السموات والأرض ، وهي التي جاء في الحديث فيها " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب " فتكون الأربعة من سنتين.
وقيل : أولها المحرم ، فتكون من سنة.
وجاء الأمر بالقتل على سبيل التشجيع وتقوية النفس ، وأنهم لا منعة عندهم من أن يقتلوا.
وفي إطلاق الأمر بالقتل دليل على قتلهم بأي وجه كان ، وقد قتل أبو بكر أصحاب الردّة بالإحراق بالنار ، وبالحجارة ، وبالرمي من رؤوس الجبال ، والتنكيس في الآبار.
وتعلق بعموم هذه الآية ، وأحرق عليّ قوماً من أهل الرّدّة ، وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن المثلة.
ولفظ المشركين عام في كل مشرك ، وجاءت السنة باستثناء الأطفال والرهبان والشيوخ الذين ليسوا ذوي رأي في الحرب ، ومن قاتل من هؤلاء قتل.
وقال الزمخشري : يعني الذي نقصوكم وظاهروا عليكم.
ولفظ : «حيث وجدتموهم» عام في الأماكن من حل وحرم.
«وخذوهم» عبارة عن الأسر ، والأخيذ الأسير.
ويدل على جواز أسرهم : واحصروهم ، قيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد.
وقيل : استرقوهم.
وقيل : معناه حاصروهم إنْ تحصّنوا.
وقرىء : فحاصروهم شاذاً ، وهذا القول يروى عن ابن عباس.
وعنه أيضاً : حولوا بينهم وبين المسجد الحرام.
وقيل : امنعوهم عن دخول بلاد الإسلام والتصرف فيها إلا بإذن.
قال القرطبي في قوله : «واقعدوا لهم كل مرصد» دلالة على جواز اغتيالهم قبل الدعوة ، لأنّ المعنى اقعدوا لهم مواضع الغرة ، وهذا تنبيه على أنّ المقصود إيصال الأذى إليهم بكل طريق ، إما بطريق القتال ، وإما بطريق الاغتيال.
وقد أجمع المسلمون على جواز السرقة من أموال أهل الحرب ، وإسلال خيلهم ، وإتلاف مواشيهم إذا عجز عن الخروج بها إلى دار الإسلام ، إلا أنْ يصالحوا على مثل ذلك.

قال الزمخشري : «كل مرصد» كل ممر ومجتاز ترصدونهم فيه ، وانتصابه على الظرف كقوله : { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } انتهى.
وهذا الذي قاله الزجاج قال : كل مرصد ظرف ، كقولك : ذهبت مذهباً ورده أبو علي ، لأنّ المرصد المكان الذي يرصد فيه العدوّ ، فهو مكان مخصوص لا يحذف الحرف منه إلا سماعاً كما حكى سيبويه : دخلت البيت ، وكما غسل الطريق الثعلب انتهى.
وأقول : يصح انتصابه على الظرف ، لأن قوله : «واقعدوا لهم» ليس معناه حقيقة القعود ، بل المعنى ارصدوهم في كل مكان يرصد فيه ، ولما كان بهذا المعنى جاز قياساً أن يحذف منه في كما قال : وقد قعدوا منها كل مقعد.
فمتى كان العامل في الظرف المختص عاملاً من لفظه أو من معناه ، جاز أن يصل إليه بغير واسطة في ، فيجوز جلست مجلس زيد ، وقعدت مجلس زيد ، تريد في مجلس زيد.
فكما يتعدى الفعل إلى المصدر من غير لفظه إذا كان بمعناه ، فكذلك إلى الظرف.
وقال الأخفش : معناه على كل مرصد ، فحذف وأعمل الفعل ، وحذف على ، ووصول الفعل إلى مجرورها فتنصبه ، يخصه أصحابنا بالشعر.
وأنشدوا :
تحنّ فتبدي ما بها من صبابة . . .
وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني
أي لقضي عليّ.
{ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلُّوا سبيلهم إن الله غفور رحيم } أي عن الكفر والغدر.
والتوبة تتضمن الإيمان وترك ما كانوا فيه من المعاصي ، ثم نبه على أعظم الشعائر الإسلامية ، وذلك إقامة الصلاة وهي أفضل الأعمال البدنية ، وإيتاء الزكاة وهي أفضل الأعمال المالية ، وبهما تظهر القوة العملية ، كما بالتوبة تظهر القوة العلمية عن الجهل.
فخلوا سبيلهم ، كناية عن الكف عنهم وإجرائهم مجرى المسلمين في تصرفاتهم حيث ما شاؤوا ، ولا تتعرضوا لهم كقول الشاعر :
خل السبيل لمن يبنى المنار به . . .
أو يكون المعنى : فأطلقوهم من الأسر والحصر.
والظاهر الأول ، لشمول الحكم لمن كان مأسوراً وغيره.
وقال ابن زيد : افترضت الصلاة والزكاة جميعاً ، وأبى الله أنْ لا تقبل الصلاة إلا بالزكاة ، وقال : يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه في قوله : «لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة» وناسب ذكر وصف الغفران والرحمة منه تعالى لمن تاب عن الكفر والتزم شرائع الإسلام.
قال الحافظ أبو بكر بن العربي : لا خلاف بين المسلمين أنّ من ترك الصلاة وسائر الفرائض مستحلاً كفر ، ودفن في مقابر الكفار ، وكان ماله فيئاً.
ومنْ ترك السنن فسق ، ومن ترك النوافل لم يحرج إلا أن يجحد فضلها فيكفر ، لأنه يصير راداً على النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء به وأخبر عنه انتهى.
والظاهر أنّ مفهوم الشرط لا ينتهض أنْ يكون دليلاً على تعيين قتل من ترك الصلاة والزكاة متعمداً غير مستحلّ ومع القدرة لأن انتفاء تخلية السبيل تكون بالحبس وغيره ، فلا يتعين القتل.

وقد اختلف العلماء في ذلك ، فقال مكحول ، ومالك ، والشافعي ، وحماد بن زيد ، ووكيع ، وأبو ثور : يقتل.
وقال ابن شهاب ، وأبو حنيفة ، وداود : يسجن ويضرب ، ولا يقتل.
وقال جماعة من الصحابة والتابعين : يقتل كفراً ، وماله مال مرتد ، وبه قال إسحاق.
قال إسحاق : وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا.
{ وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون } قال الضحاك والسدّي : هي منسوخة بآية الأمر بقتل المشركين.
وقال الحسن ومجاهد : هي محكمة إلى يوم القيامة.
وعن ابن جبير : جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فقال : إنْ أراد الرجل منا أنْ يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل ليسمع كلام الله ، أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال : لا ، لأن الله تعالى قال : وإن أحد من المشركين استجارك الآية انتهى.
وقيل : هذه الآية إنما كان حكمها مدة الأربعة الأشهر التي ضربت لهم أجلاً ، والظاهر أنها محكمة.
ولما أمر تعالى بقتل المشركين حيث وجدوا ، وأخذهم وحصرهم وطلب غرتهم ، ذكر لهم حالة لا يقتلون فيها ولا يؤخذون ويؤسرون ، وتلك إذا جاء واحد منهم مسترشداً طالباً للحجة والدلالة على ما يدعوا إليه من الدين.
فالمعنى : وإنْ أحد من المشركين استجارك ، أي طلب منك أن تكون مجيراً له وذلك بعد انسلاخ الأشهر ليسمع كلام الله وما تضمنه من التوحيد ، ويقف على ما بعثت به ، فكن مجيراً له حتى يسمع كلام الله ويتدبره ، ويطلع على حقيقة الأمر ، ثم أبلغه داره التي يأمن فيها إنْ لم يسلم ، ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة.
وحتى يصح أن تكون للغاية أي : إلى أن يسمع.
ويصح أن تكون للتعليل ، وهي متعلقة في الحالين بأجره.
ولا يصح أن يكون من باب التنازع ، وإن كان يصح من حيث المعنى أن يكون متعلقاً باستجارك أو بفأجره ، وذلك لمانع لفظي وهو : أنه لو أعمل الأول لأضمر في الثاني ، وحتى لا تجر المضمر ، فلذلك لا يصح أن يكون من باب التنازع.
لكن من ذهب من النحويين إلى أنّ حتى تجر المضمر يجوز أن يكون ذلك عنده من باب التنازع ، وكون حتى لا تجر المضمر هو مذهب الجمهور.
ولما كان القرآن أعظم المعجزات ، علق السماع به ، وذكر السماع لأنه الطريق إلى الفهم.
وقد يراد بالسماع الفهم تقول لمن خاطبته فلم يقبل منك : أنت لم تسمع ، تريد لم تفهم.
وكلام الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف ، لا من باب إضافة المخلوق إلى الخالق ومأمنه مكان أمنه.
وقيل : مأمنه مصدر ، أي ثم أبلغه أمنه.
وقد استدلت المعتزلة بقوله : «حتى يسمع كلام الله» على حدوث كلام الله ، لأنه لا يسمع إلا الحروف والأصوات.

ومعلوم بالضرورة حدوث ذلك ، وهذا مذكور في علم الكلام.
وفي هذه الآية دلالة على أنّ النظر في التوحيد أعلى المقامات ، إذ عصم دم الكافر المهدر الدم بطلبه النظر والاستدلال ، وأوجب على الرسول أن يبلغه مأمنه.
ومنها دلالة على أنّ التقليد غير كاف في الدين ، إذ كان لا يمهل بل يقال له : إما أن تسلم ، وإما أن تقتل.
وفيها دلالة على أنه بعد سماع كلام الله لا يقر بأرض الإسلام ، بل يبلغ مأمنه ، وأنه يجب حفظه وحوطته مدة يسمع فيها كلام الله.
والخطاب بقوله : استجارك وفأجره ، يدل على أنّ أمان السلطان جائز ، وأما غيره فالحر يمضي أمانه.
وقال ابن حبيب : ينظر الإمام فيه والعبد.
قال الأوزاعي ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، ومحمد بن الحسن ، وأبو ثور ، وداود : له الأمان ، وهو مشهور مذهب مالك.
وقال أبو حنيفة : لا أمان له ، وهو قول في مذهب مالك.
والحرة لها الأمان على قول الجمهور.
وقال عبد الملك بن الماجشون : لا ، إلا أن يجيره الإمام ، وقوله شاذ.
والصبي إذا أطاق القتال جاز أمانه ، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ، أي ذلك الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن ، بسبب أنهم قوم جهلة لا يعلمون ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه ، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق ، قاله الزمخشري.
وقال ابن عطية : إشارة إلى هذا اللطف في الإجارة والإسماع وتبليغ المأمن ، لا يعلمون نفي علمهم بمراشدهم في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
{ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين } هذا استفهام معناه التعجب والاستنكار والاستبعاد.
قال التبريزي والكرماني : معناه النفي ، أي لا يكون لهم عهد وهم لكم ضد.
ونبه على علة انتفاء العهد بالوصف الذي قام به وهو الإشراك.
وقال القرطبي : وفي الآية إضمار ، أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر والنكث؟ انتهى.
والاستفهام يراد به النفي كثيراً ، ومنه قول الشاعر :
فها ذي سيوف يا هدى بن مالك . . .
كثير ولكن ليس بالسيف ضارب
أي ليس بالسيف ضارب.
ولما كان الاستفهام معناه النفي ، صلح مجيء الاستثناء وهو متصل.
وقيل : منقطع ، أي لكن الذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام.
قال الحوفي : ويجوز أن يكون الذين في موضع خبر على البدل من المشركين ، لأن معنى ما تقدم النفي ، أي : ليس يكون للمشركين عهد إلا الذين لم ينكثوا.
قال ابن عباس : هم قريش.
وقال السدي : بنو جذيمة بن الديل.
وقال ابن إسحاق : قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش.
وقال الزمخشري : كبني كنانة وبني ضمرة.

وقال قوم منهم مجاهد : هم خزاعة ورد بإسلامهم عام الفتح.
وقال ابن زيد : هم قريش نزلت فلم يستقيموا ، فنزل تأجيلهم أربعة أشهر بعد ذلك.
وضعف هذا القول بأنّ قريشاً بعد الأذان بأربعة أشهر لم يكن فيهم إلا مسلم ، وذلك بعد فتح مكة بسنة ، وكذلك خزاعة قاله الطبري.
فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على الوفاء.
وجوز أبو البقاء أن يكون خبر يكون كيف ، لقوله : كيف كان عاقبة مكرهم ، وأن يكون الخبر للمشركين.
وعند على هذين ظرف للعهد ، أو ليكون ، أو للحال ، أو هي وصف للعهد.
وأن يكون الخبر عند الله ، وللمشركين تبيين ، أو تعلق بيكون ، وكيف حال من العهد انتهى.
والظاهر أنّ ما مصدرية ظرفية ، أي : استقيموا لهم مدة استقامتهم ، وليست شرطية.
وقال أبو البقاء : هي شرطية كقوله : { ما يفتح الله للناس من رحمة } انتهى.
فكان التقدير : ما استقاموا لكم من زمان فاستقيموا لهم.
وقال الحوفي : ما شرط في موضع رفع بالابتداء ، والخبر استقاموا ، ولكم متعلق باستقاموا ، فاستقيموا لهم الفاء جواب الشرط انتهى.
فكان التقدير فأي : وقت استقاموا فيه لكم فاستقيموا لهم.
وإنما جوز أن تكون شرطية لوجود الفاء في فاستقيموا ، لأن المصدرية الزمانية لا تحتاج إلى الفاء.
وقد أجاز ابن مالك في المصدرية الزمانية أن تكون شرطية وتجزم ، وأنشد على ذلك ما يدل ظاهره على صحة دعواه.
وقد ذكرنا ذلك في كتاب التكميل ، وتأولنا ما استشهد به.
فعلى قوله تكون زمانية شرطية : أنّ الله يحب المتقين ، يعني أن الوفاء بالعهد من أخلاق المتقين ، والتربص بهؤلاء إن استقاموا من أعمال المؤمنين ، والتقوى تتضمن الإيمان والوفاء بالعهد.
{ كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون } كيف تأكيد لنفي ثباتهم على العهد.
والظاهر أن الفعل المحذوف بعدها هو من جنس أقرب مذكور لها ، وحذف للعلم به في كيف السابقة ، والتقدير : كيف لهم عهد وحالهم هذه؟ وقد جاء حذف الفعل بعد كيف لدلالة المعنى عليه كقوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } وقال الشاعر :
وخبرتماني إنما الموت بالقرى . . .
فكيف وهاتا هضبة وكثيب
أي : فكيف مات وليس في قرية؟ وقال الحطيئة :
فكيف ولم أعلمهم خذلوكم . . .
على معظم وأن أديمكم قدّوا
أي فكيف تلومونني على مدحهم؟ واستغنى عن ذلك لأنه جرى في القصيدة ما دل على ما أضمر.
وقدر أبو البقاء الفعل المحذوف بعد كيف بقوله : كيف تطمئنون إليهم؟ وقدره غيره : كيف لا يقتلونهم؟ والواو في «وإن يظهروا» واو الحال.
وتقدم الكلام على وقوع جملة الشرط حالاً في قوله : { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } ومعنى الظهور العلو والظفر ، تقول : ظهرت على فلان علوته.
والمعنى : وإنْ يقدروا عليكم ويظفروا بكم.
وقرأ زيد بن علي : وإنْ يظهروا مبنياً للمفعول.

لا يرقبوا : لا يحفظوا ولا يرعوا إلا عهداً أو قرابة أو حلفاً أو سياسة أو الله تعالى ، أو جؤاراً أي : رفع صوت بالتضرع ، أقوال.
قال مجاهد وأبو مجلز : إلْ اسم الله بالسريانية وعرب.
ومن ذلك قول أبي بكر حين سمع كلام مسيلمة ، فقال : هذا كلام لم يخرج من إل.
وقرأت فرقة : ألا بفتح الهمزة ، وهو مصدر من فعل الأل الذي هو العهد.
وقرأ عكرمة : إيلا بكسر الهمزة وياء بعدها ، فقيل : هو اسم الله تعالى.
ويجوز أن يراد به إلى أبدل من أحد المضاعفين ياء ، كما قالوا في : إما إيما.
قال الشاعر :
يا ليتما أمنا سالت نعامتها . . .
إيما إلى الجنة إيما إلى نار
قال ابن جني : ويجوز أن يكون مأخوذاً من آل يؤول إذا ساس ، أبدل من الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، أي : لا يرقبون فيكم سياسة ولا مداراة ولا ذمة ، من رأى أنّ الإل هو العهد جعله والذمة لفظين لمعنى واحد أو متقاربين ، ومن رأى أن الإل غير العهد فهما لفظان متباينان.
ولما ذكر حالهم مع المؤمنين أنْ ظهروا عليهم ذكر حالهم معهم ذا كانوا غير ظاهرين ، فقال : يرضونكم بأفواههم.
واستأنف هذا الكلام أي : حالهم في الظاهر يخالف لباطنهم ، وهذا كله تقرير واستبعاد لثبات قلوبهم على العهد ، وإباء القلب مخالفته لما يجري على اللسان من القول الحسن.
وقيل : يرضونكم بأفواههم في العدة بالإيمان ، وتأبى قلوبهم إلا الكفر.
وقيل : يرضونكم في الطاعة ، وتأبى قلوبهم إلا المعصية.
والظاهر بقاء الأكثر على حقيقته فقيل : وأكثرهم ، لأن منهم من قضى الله له بالإيمان.
وقيل : لأن منهم من له حفظ لمراعاة الحال الحسنة من التعفف عما يثلم العرض ، ويجر أحدوثة السوء ، وأكثرهم خبثاً لأنفس خريجون في الشر لا مروءة تردعهم ، ولا طباع مرضية تزعهم ، لا يحترزون عن كذب ولا مكر ولا خديعة ، ومن كان بهذا الوصف كان مذموماً عند الناس وفي جميع الأديان.
ألا ترى إلى أهل الجاهلية وهم كفار كيف يمدحون أنفسهم بالعفاف وبالصدق وبالوفاء بالعهد وبالأخلاق الحسنة.
وقيل : معنى وأكثرهم وكلهم فاسقون ، قاله ابن عطية والكرماني.
{ اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدّوا عن سبيله إنهم سآء ما كانوا يعملون } الظاهر عود الضمير على من قبله من المشركين المأمور بقتلهم ، ويكون المعنى : اشتروا بالقرآن وما يدعو إليه من الإسلام ثمناً قليلاً ، وهو اتباع الشهوات والأهواء لما تركت دين الله وآثرت الكفر ، كان ذلك كالشراء والبيع.
وقال مجاهد : هم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان على طعامه.
وقال أبو صالح : هم قوم من اليهود ، وآيات الله التوراة.
وقال ابن عباس : هم أهل الطائف كانوا يمدون الناس بالأموال يمنعونهم من الدخول في الإسلام ، فصدوا عن سبيله أي صرفوا أنفسهم عن دين الله وعدلوا عنه.

والظاهر أنّ ساء هنا محولة إلى فعل.
ومذهب بابها مذهب بئس ، ويجوز إقرارها على وصفها الأول ، فتكون متعدية أي : أنهم ساءهم ما كانوا يعملون ، فحذف المفهوم لفهم المعنى.
{ لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون } هذا تنبيه على الوصف الموجب للعداوة وهو الإيمان ، ولما كان قوله : { لا يرقبوا فيكم } يتوهم أنّ ذلك مخصوص بالمخاطبين ، نبّه على علة ذلك ، وأنّ سبب المنافاة هو الإيمان ، وأولئك أي الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة هم المعتدون المجاوزون الحد في الظلم والشر ونقض العهد.
{ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } أي فإنْ تابوا عن الكفر ونقض العهد والتزموا أحكام الإسلام فإخوانكم ، أي : فهم إخوانكم ، والإخوان ، والإخوة جمع أخ من نسب أو دين.
ومن زعم أنّ الإخوة تكون في النسب ، والإخوان في الصداقة ، فقد غلط.
قال تعالى : { إنما المؤمنون إخوة } وقال : أو بيوت إخوانكم ، وعلق حصول الأخوة في الدين على الالتباس بمجموع الثلاثة ، ويظهر أنّ مفهوم الشرط غير مراد.
{ ونفصل الآيات لقوم يعلمون } أي نبيّنها ونوضحها.
وهذه الجملة اعتراض بين الشرطين ، بين قوله : فإن تابوا ، وقوله : وإن نكثوا ، بعثاً وتحريضاً على تأمل ما فصل تعالى من الأحكام ، وقال لقوم يعلمون لأنه لا يتأمل تفصيلها إلا من كان من أهل العلم والفهم.
{ وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } أي : وإنْ نقضوا إقسامهم من بعدما تعاهدوا وتحالفوا على أنْ لا ينكثوا.
وطعنوا : أي عابوه وثلبوه واستنقصوه.
والطعن هنا مجاز ، وأصله الإصابة بالرمح أو العود وشبهه ، وهو هنا بمعنى العيب كما جاء في حديث إمارة أسامة : « إنْ تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل » أي عبتموها واستنقصتموها.
والظاهر أنّ هذا الترديد في الشرطين هو في حق الكفار أصلاً ، لأنّ من أسلم ثم ارتد فيكون قوله : فقاتلوا أئمة الكفر ، أي رؤساء الكفر وزعماءه.
والمعنى : فقاتلوا الكفار ، وخص الأئمة بالذكر لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على البقاء على الكفر.
وقال الكرماني : كل كافر إما نفسه ، فالمعنى فقاتلوا كل كافر.
وقيل : من أقدم على نكث العهد والطعن في الدين صار رأساً في الكفر ، فهو من أئمة الكفر.
وقال ابن عباس : أئمة الكفر زعماء قريش.
وقال القرطبي : هو بعيد ، لأن الآية في سورة براءة ، وحين نزلت كان الله قد استأصل شأفة قريش ولم يبق منهم إلا مسلم أو مسالم.
وقال قتادة : المراد أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة ، وغيرهم ، وهذا ضعيف إن لم يؤخذ على جهة المثال ، لأن الآية نزلت بعد بدر بكثير.
وروي عن حذيفة أنه قال : لم يجىء هؤلاء بعدُ ، يريد لم ينقرضوا فهم يجيئون أبداً ويقاتلون.

وقال ابن عطية : أصوب ما في هذا أن يقال : إنه لا يعني بها معين ، وإنما دفع الأمر بقتال أئمة الناكثين العهود من الكفرة إلى يوم القيامة دون تعيين ، واقتضت حال كفار العرب ومحاربي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون الإشارة إليهم أولاً بقوله : أئمة الكفر ، وهم حصلوا حينئذ تحت اللفظة ، إذ الذي يتولى قتال النبي صلى الله عليه وسلم والدفع في صدر شريعته هو إمام كل من يكفر بذلك الشرع إلى يوم القيامة ، ثم يأتي في كل جيل من الكفار أئمة خاصة بجيل جيل انتهى.
وقيل : المراد بالعهد الإسلام ، فمعناه كفروا بعد إسلامهم.
ولذلك قرأ بعضهم : وإنْ نكثوا إيمانهم بالكسر ، وهو قول الزمخشري ، قال : فقاتلوا أئمة الكفر فقاتلوهم ، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم ، إشعاراً بأنهم إذا نكثوا في حالة الشرك تمرداً وطغياناً وطرحاً لعادات الكرام الأوفياء من العرب ، ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخواناً للمسلمين في الدين ، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهد ، وقعدوا يطعنون في دين الله تعالى ويقولون ليس دين محمد بشيء ، فهم أئمة الكفر وذوو الرئاسة والتقدم فيه ، لا يشق كافر غبارهم.
والمشهور من مذهب مالك أنّ الذمي إذا طعن في الدين ففعل شيئاً مثل تكذيب الشريعة والسب للنبي صلى الله عليه وسلم ونحوه قتل.
وقيل : إنْ أعلن بشيء مما هو معهود من معتقده وكفره أدب على الإعلان وترك ، وإنْ كفر بما هو ليس من معتقده كالسب ونحوه قتل.
وقال أبو حنيفة : يستتاب ، واختلف إذا سب الذمي ثم أسلم تقية القتل.
فالمشهور من مذهب مالك أنه يترك ، لأن الإسلام يجبّ ما قبله ، وفي العتبية أنه يقتل ، ولا يكون أحسن حالاً من المسلم.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو : بإبدال الهمزة الثانية ياء.
وروي عن نافع مد الهمزة.
وقرأ باقي السبعة وابن أبي أويس عن نافع : بهمزتين ، وأدخل هشام بينهما ألفاً وأصله أأممة على وزن أفعلة جمع إمام ، أدغموا الميم في الميم فنقلت حركتها إلى الهمزة قبلها.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف لفظ أئمة؟ ( قلت ) : همزة بعدها همزة بين بين ، أي بين مخرج الهمزة والياء.
وتحقيق الهمز هي قراءة مشهورة ، وإن لم تكن مقبولة عند البصريين ، وأما التصريح بالياء فليس بقراءة ، ولا يجوز أن تكون.
ومن صرح بها فهو لاحن محرف انتهى.
وذلك دأبه في تلحين المقرئين.
وكيف يكون ذلك لحناً وقد قرأ به رأس البصريين النحاة أبو عمرو بن العلاء ، وقارىء مكة ابن كثير ، وقارىء مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم نافع ، ونفى إيمانهم لما لم يثبتوا عليها ولا وفوا بها جعلوا لا أيمان لهم ، أو يكون على حذف الوصف أي : لا أيمان لهم يوفون بها.

وقرأ الجمهور : بفتح الهمزة.
وقرأ الحسن ، وعطاء ، وزيد بن علي ، وابن عامر : لا إيمان لهم أي لا إسلام ولا تصديق.
قال أبو علي : وهذا غير قوي ، لأنه تكرار وذلك لأنه وصف أئمة الكفر بأنهم لا إيمان لهم ، فالوجه في كسر الألف أنه مصدر أمنه إيماناً ، ومنه قوله تعالى : { وآمنهم من خوف } فالمعنى أنهم لا يؤمنون أهل الذمة ، إذ المشركون لم يكن لهم إلا الإسلام أو السيف.
قال أبو حاتم : فسر الحسن قراءته لا إسلام لهم انتهى.
وكذا تبعه الزمخشري ، فقال : وقرىء لا إيمان لهم ، أي لا إسلام لهم ، ولا يعطون الأمان بعد الردة والنكث ، ولا سبيل إليه.
وبقراءة الفتح استشهد أبو حنيفة على أن يمين الكافر لا يكون يميناً وعند الشافعي يمينهم يمين ، وقال : معناه أنهم لا يوفون بها بدليل الله تعالى وصفهم بالنكث لعلهم ينتهون متعلق بقوله : فقاتلوا أئمة الكفر ، أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعدما وجد منهم من العظائم ما وجد انتهاءهم عما هم فيه ، وهذا من كرمه سبحانه وفضله وعوده على المسيء بالرحمة.
{ ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين } ألا حرف عرض ، ومعناه هنا الحض على قتالهم.
وزعموا أنها مركبة من همزة الاستفهام ، ولا النافية ، فصار فيها معنى التخصيص.
وقال الزمخشري : دخلت الهمزة على تقرير على انتفاء المقاتلة ، ومعناها : الحض عليها على سبيل المبالغة.
ولما أمر تعالى بقتل أهل الكفر أتبع ذلك بالسبب الذي يبعث على مقاتلتهم وهو ثلاثة أشياء جمعوها ، وكل واحد منها على انفراده كاف في الحض على مقاتلتهم.
ومعنى نكثوا أيمانهم : نقض العهد.
قال السدي ، وابن إسحاق ، والكلبي : نزلت في كفار مكة ، نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية ، وأعانوا بني بكر على خزاعة انتهى.
وهمهم هو همّ قريش بإخراج الرسول من مكة حين تشاوروا بدار الندوة ، فأذن الله في الهجرة ، فخرج بنفسه ، أو بنو بكر بإخراجه من المدينة لما أقدموا عليه من المشاورة والاجتماع ، أو اليهود ، هموا بغدر الرسول صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهده وأعانوا المنافقين على إخراجه من المدينة ، ثلاثة أقوال أولها للسدي.
وقال الحسن : من المدينة.
قال ابن عطية : وهذا مستقيم لغزوة أحد والأحزاب وغيرهما ، وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولاً بالكتاب المبين وتحدّاهم به ، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال ، فهم البادئون ، والبادىء أظلم ، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله تصدمونهم بالشر كما صدموكم؟ وبخهم بترك مقاتلتهم ، وحضهم عليها ، ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها.
وتقرر أنّ من كان في مثل صفاتهم من نكث العهود وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب حقيق بأنْ لا تترك مصادمته ، وأن يوبخ من فرط فيها ، قاله : الزمخشري وهو تكثير.

وقال ابن عطية : أول مرة.
قيل : يريد أفعالهم بمكة بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين.
وقال مجاهد : ما بدأت به قريش من معونة بني بكر حلفائهم على خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان هذا بدء النقض.
وقال الطبري : يعني فعلهم يوم بدر انتهى.
وقرأ زيد بن علي : بدوكم بغير همز ، ووجهه أنه سهل الهمزة من بدأت بإبدالها ياء ، كما قالوا في قرأت : قريت ، فصار كرميت.
فلما أسند الفعل إلى واو الضمير سقطت ، فصار بدوكم كما تقول : رموكم.
أتخشونهم تقرير للخشية منهم ، وتوبيخ عليها.
فالله أحق أن تخشوه فتقتلوا أعداءه.
ولفظ الجلالة مبتدأ وخبره أحق ، وأن تخشوه بدل من الله أي : وخشية الله أحق من خشيتهم وأن تخشوه في موضع رفع ، ويجوز أن تكون في موضع نصب أو جر على الخلاف إذا حذف حرف الجر ، وتقديره : بأن تخشوه أي أحق من غيره بأن تخشوه.
وجوز أبو البقاء أن يكون أن تخشوه مبتدأ ، وأحق خبره قدم عليه.
وأجاز ابن عطية أن يكون أحق مبتدأ وخبره أن تخشوه ، والجملة خبر عن الأول.
وحسن الابتداء بالنكرة لأنها أفعل التفضيل ، وقد أجاز سيبويه أنْ تكون المعرفة خبراً للنكرة في نحو : اقصد رجلاً خير منه أبوه.
إن كنتم مؤمنين أي كاملي الإيمان ، لأنهم كانوا مؤمنين.
وقال الزمخشري : يعني أنّ قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ولا يبالي بمن سواه كقوله تعالى : { ولا يخشون أحداً إلا الله }
{ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم } قررت الآيات قبل هذا أفعال الكفرة المقتضية لقتالهم ، والحض على القتال ، وحرم الأمر بالقتال في هذه ، وتعذيبهم بأيدي المؤمنين هو في الدنيا بالقتل والأسر والنهب ، وهذه وعود ثبتت قلوبهم وصححت نياتهم ، وخزيهم هو إهانتهم وذلهم ، وينصركم يظفركم بهم ، وشفاه الصدور بإعلاء دين الله وتعذيب الكفار وخزيهم.
وقرأ زيد بن علي : ونشف بالنون على الالتفات ، وجاء التركيب صدور قوم مؤمنين ليشمل المخاطبين وكل مؤمن ، لأن ما يصيب أهل الكفر من العذاب والخزي هو شفاء لصدر كل مؤمن.
وقيل : المراد قوم معينون.
قال ابن عباس : هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا ، فلقوا من أهلها أذى شديداً ، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه فقال : « أبشروا فإن الفرج قريب » وقال مجاهد والسدي : هم خزاعة.
ووجه تخصيصهم أنهم هم الذين نقض فيهم العهد ونالتهم الحرب ، وكان يومئذ في خزاعة مؤمنون كثير.
ألا ترى إلى قول الخزاعي المستنصر بالنبي صلى الله عليه وسلم :
ثمت أسلمنا قلم ننزع يداً . . .
وفي آخر الرجز :
وقتلونا ركعا وسجداً . . .
وإذهاب الغيظ بما نال الكفار من المكروه ، وهذه الجملة كالتأكيد للتي قبلها ، لأنّ شفاء الصدر من آلة الغيظ هو إذهاب الغيظ.

وقرأ فرقة : ويذهب فعلاً لازماً غيظ فاعل به.
وقرأ زيد بن علي : كذلك إلا أنه رفع الباء.
وهذه المواعيد كلها وجدت ، فكان ذلك دليلاً على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته وبدىء أولاً فيها بما تسبب عن النصر وهو تعذيب الله الكفار وبأيدي المؤمنين وإخزاؤهم ، إذا كانت البداءة بما ينال الكفار من الشر هي التي يسر بها المؤمنون ، ثم ذكر ما السبب وهو نصر الله المؤمنين على الكافرين ، ثم ذكر ما تسبب أيضاً عن النصر من شفاء صدور المؤمنين وإذهاب غيظهم تتميماً للنعم ، فذكر ما تسبب عن النصر بالنسبة للكفار ، وذكر ما تسبب للمسلمين من الفرح والسرور بإدراك الثأر ، ولم يذكر ما نالوه من المغانم والمطاعم ، إذ العرب قوم جبلوا على الحمية والأنفة ، فرغبتهم في إدراك الثأر وقتل الأعداء هي اللائقة بطباعهم.
إن الأسود أسود الغاب همتها . . .
يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
وقرأ الجمهور : ويتوبُ الله رفعاً ، وهو استئناف إخبار بأنّ بعض أهل مكة وغيرهم يتوب عن كفره ، وكان ذلك عالم كثيرون وحسن إسلامهم.
قال الفراء والزجاج وأبو الفتح : وهذا أمر موجود سواء قوتلوا أو لم يقاتلوا ، فلا وجه لإدخال اليوم في جواب الشرط الذي في قاتلوهم انتهى.
وقرأ زيد بن علي ، والأعرج ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى الثقفي ، وعمرو بن عبيد ، وعمر بن قائد ، وأبو عمرو ، ويعقوب فيما روي عنهما : ويتوبَ الله بنصب الباء ، جعله داخلاً في جواب الأمر من طريق المعنى.
قيل : ويمكن أن تكون التوبة داخلة في الجزاء.
قال ابن عطية : ويتوجه ذلك عندي إذا ذهب إلى أنّ التوبة يراد بها أنّ قتل الكافرين والجهاد في سبيل الله هو توبة لكم أيها المؤمنون وكمال لإيمانكم ، فتدخل التوبة على هذا في شرط القتال.
وقال غيره : لما أمرهم بالمقاتلة شق ذلك على بعضهم ، فإذا أقدموا على المقاتلة صار ذلك العمل جارياً مجرى التوبة من تلك الكراهة.
وقيل : حصول الكفر وكثرة الأموال لذة تطلب بطريق حرام ، فلما حصلت لهم طريق حلال كان ذلك داعياً لهم إلى التوبة مما تقدم ، فصارت التوبة متعلقة بتلك المقاتلة انتهى.
وهذا الذي قرروه من كون التوبة تدخل تحت جواب الأمر هو بالنسبة للمؤمنين الذين أمروا بقتال الكفار ، والذي يظهر أنّ ذلك بالنسبة إلى الكفار ، فالمعنى على من يشاء من الكفار ، وذلك أنّ قتال الكفار وغلبة المسلمين إياهم قد ينشأ عنها إسلام كثير من الناس ، وإن لم يكن لهم رغبة في الإسلام ، ولا داعية قبل القتال.
ألا ترى إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة كيف كان سبباً لإسلامهم ، لأن الداخل في الإسلام قد يدخل فيه على بصيرة ، وقد يدخل على كره واضطرار ، ثم قد تحسن حاله في الإسلام.

ألا ترى إلى عبد الله بن أبي سرح كيف كان حاله أولاً في الإسلام ، ثم صار أمره إلى احسن حال ومات أحسن ميتة في السجود في صلاته ، وكان من خيار الصحابة؟ والله عليم يعلم ما سيكون مثل ما يعلم ما قد كان ، وفي ذلك تقرير لما رتب من تلك الموعيد ، وأنها كائنة لا محالة حكيم في تصريف عباده من حال إلى حال على ما تقتضيه حكمته تعالى.
{ أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } تقدّم تفسير نظير هذه الجملة ، والمعنى : أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين الخلَّص منكم وهم المجاهدون في سبيل الله الذين لم يتخذوا بطانة من دون الله من غيرهم.
{ ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة } ولم يتخذوا معطوف على جاهدوا.
غير متخذين وليجة ، والوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل ، وهي البطانة.
والمدخل يدخل فيه على سبيل الاستسرار ، شبه النفاق به.
وقال قتادة : الوليجة الخيانة.
وقال الضحاك : الخديعة.
وقال عطاء : الأودّاء.
وقال الحسن : الكفر والنفاق.
وقال أبو عبيدة : كل شيء أدخلته في شيء وليس منه فهو وليجة ، والرجل يكون في القوم وليس منهم ، وليجة يكون للواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد.
وليجة الرجل من يختص بدخيلة أمره من الناس ، وجمعها ولائج وولج ، كصحيفة وصحائف وصحف.
وقال عبادة بن صفوان الغنوي :
ولائجهم في كل مبدي ومحضر . . .
إلى كل من يرجى ومن يتخوف
وفي هذه الآية طعن على المنافقين الذين اتخذوا الولائج لا سيما عند فرض القتال ، والمعنى : لا بد من اختباركم أيها المؤمنون كقوله : { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } ولما كان الرجل قد يجاهد وهو منافق نفى هذا الوصف عنه ، فبين أنه لا بد للجهاد من الإخلاص خالياً عن النفاق والرياء والتودّد إلى الكفار.
{ والله خبير بما تعلمون } قرأ الجمهور بالتاء على الخطاب مناسبة لقوله : أم حسبتم.
وقرأ الحسن ويعقوب في رواية رويس وسلام بالياء على الغيبة التفاتاً.
{ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر } قرأ ابن السميفع : أنْ يُعمِروا بضم الياء وكسر الميم ، أن يعينوا على عمارته.
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والجحدري : مسجد بالإفراد ، وباقي السبعة ومجاهد وقتادة وأبو جعفر والأعرج وشبية بالجمع.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر البراءة من المشركين وأنواعاً من قبائحهم توجب البراءة منهم ، ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدة توجب انتفاء البراءة منها كونهم عامري المسجد الحرام.
روي أنه أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر يعيرونهم بالشرك ، وطفق عليّ يوبخ العباس ، فقال الرسول : واقطيعة الرحم ، وأغلظ له في القول.

فقال العباس : تظهرون مساوينا ، وتكتمون محاسننا؟ فقال : أو لكم محاسن؟ قالوا : نعم ، ونحن أفضل منكم أجراً ، إنا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحجيج ، ونفك العاني ، فأنزل الله هذه الآية رداً عليهم.
ومعنى ما كان للمشركين : أي بالحق الواجب ، وإلا فقد عمروه قديماً وحديثاً على سبيل التغلب.
وقال الزمخشري : أي ما صح وما استقام انتهى.
وعمارته وحوله والقعود فيه والمكث من قولهم : فلان يعمر المسجد أي يكثر غشيانه ، أو رفع بنائه ، وإصلاح ما تهدّم منه ، أو التعبد فيه ، والطواف به.
والصلاة ثلاثة أقوال.
ومن قرأ بالإفراد فيحتمل أن يراد به المسجد الحرام لقوله : { وعمارة المسجد الحرام } أو الجنس فيدخل تحته المسجد الحرام ، إذ هو صدر ذلك الجنس مقدّمته.
ومن قرأ بالجمع فيحتمل أنْ يراد به المسجد الحرام ، وأطلق عليه الجمع إما باعتبار أنّ كل مكان منه مسجد ، وإما لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها ، فكان عامره عامر المساجد.
ويحتمل أن يراد الجمع ، فيدخل تحته المسجد الحرام وهو آكد ، لأن طريقته طريقة الكناية كما لو قلت : فلان لا يقرأ كتب الله ، كنت أنفي لقراءة القرآن من تصريحك بذلك.
وانتصب شاهدين على الحال ، والمعنى : ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة متعبدات الله تعالى مع الكفر به وبعبادته.
وقرأ زيد بن علي : شاهدون على إضمارهم شاهدون ، وشهادتهم على أنفسهم بالكفر قولهم في الطواف : لبيك لبيك لا شريك لك ، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك.
أو قولهم إذا سئلوا عن دينهم : نعبد اللات والعزى ، أو تكذيبهم الرسول ، أو قول المشرك : أنا مشرك كما يقول اليهودي : هو يهودي ، والنصراني هو نصراني ، والمجوسي هو مجوسي ، والصابىء هو صابىء ، أو ظهور أفعال الكفرة من نصب أصنامهم وطوافهم بالبيت عراة ، وغير ذلك أقوال خمسة ، هذا إذا حمل على أنفسهم على ظاهره ، وقيل : معناه شاهدين على رسولهم ، وأطلق عليه أنفسهم لأنه ما من بطن من بطون العرب إلا وله فيهم ولادة ، ويؤيد هذا القول قراءة من قرأ على أنفسهم بفتح الفاء ، أي أشرفهم وأجلهم قدراً.
{ أولئك حبطت أعمالهم } التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة وغيرها مما ذُكر أنه من الأعمال الحميدة.
قال الزمخشري : وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة إذا تعقبها ، فما ظنك بالمقارن؟ وإلى ذلك أشار تعالى بقوله : { شاهدين } حيث جعله حالاً عنهم ، ودل على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة ، وذلك محال غير مستقيم انتهى.
وقوله : أو الكبيرة ، دسيسة اعتزال لأن الكبيرة عندهم من المعاصي تحبط الأعمال.
{ وفي النار هم خالدون } ذكر مآل المشركين وهو النار خالدين فيها.
وقرأ زيد بن علي : بالياء نصباً على الحال ، وفي النار هو الخبر.

كما تقول : في الدار زيد قاعداً.
وقال الواحدي : دلت الآية على أنّ الكفار ممنوعون من عمارة مسجد المسلمين ، ولو أوصى لم تقبل وصيته ، ويمنع من دخول المساجد ، فإنْ دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير ، وإن دخل بإذن لم يعزر ، والأولى تعظم المساجد ومنعها منهم.
وقد أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف وهم كفار المسجد ، وربط ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد وهو كافر.
{ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } قرأ الجحدري ، وحماد بن أبي سلمة عن ابن كثير : مسجداً لله بالتوحيد.
وقرأ السبعة وجماعة : بالجمع ، والمعنى إنما يعمرها بالحق والواجب ، ويستقيم ذلك فيمن اتصف بهذه الأوصاف.
وفي ضمن هذا الخبر أمر المؤمنين بعمارة المساجد ، ويتناول عمارتها رمّ ما تهدّم منها ، وتنظيفها ، وتنويرها ، وتعظيمها ، واعتيادها للعبادة والذكر.
ومن الذكر درس العلم بل هو أجله ، وصونها عما لم تبن له من الخوض في أحوال الدنيا.
وفي الحديث : « إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان » ولم يذكر الإيمان بالرسول ، لأن الإيمان باليوم الآخر إنما هو متلقف من أخبار الرسول ، فيتضمن الإيمان بالرسول.
أو لم يذكر لما علم وشهر من أن الإيمان بالله تعالى قرينته الإيمان بالرسول ، لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين ، كأنهما شيء واحد لا ينفك أحدهما عن صاحبه ، فانطوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وقيل : دل عليه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، إذ لا يتلقى ذلك إلا منه.
والمقصود من بناء المساجد وعمارتها هو كونها مجتمعاً لإقامة الصلوات فيها والتعبدات من الذكر والاعتكاف وغيرهما ، وناسب ذكر إيتاء الزكاة مع عمارة المساجد أنها لما كانت مجمعاً للناس بأنّ فيها أمر الغني والفقير ، وعرفت أحوال من يؤدي الزكاة ومن يستحقها ، ولم يخش إلا الله.
قال ابن عطية : يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة ، ولا محالة أن الإنسان يخشى غيره ، ويخشى المحاذير الدنيوية ، وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه.
وقال الزمخشري : هي الخشية والتقوى في أبواب الدنيا ، وأنْ لا يختار على رضا الله رضا غيره ، وإذا اعترضه أمر أن أحدهما حق الله تعالى ، والآخر حق نفسه ، خاف الله وآثر حق الله على حق نفسه.
وقيل : كانوا يخشون الأصنام ويرجونها ، فأريد نفي تلك الخشية عنهم انتهى.
وعسى من الله تعالى واجب حيثما وقعت في القرآن ، وفي ذلك قطع أطماع المشركين أن يكونوا مهتدين إذ مَن جمع هذه الخصال الأربعة جعل حاله حال من ترجى له الهداية ، فكيف بمن هو عار منها : وفي ذلك ترجيح الخشية على الرجاء ، ورفض الاغترار بالأعمال الصالحة ، فربما دخلها بعض المفسدات وصاحبها لا يشعر بها.

وقال تعالى : أن يكونوا من المهتدين ، أي : من الذين سبقت لهم الهداية ولم يأت التركيب أن يكونوا مهتدين ، بل جعلوا بعضاً من المهتدين ، وكونهم منهم أقل في التعظيم من أن يجرد لهم الحكم بالهداية.
{ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين } في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل : ما أبالي أنْ لا أعمل عملاً بعد أن أسقي الحاج.
وقال الآخر : ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أعمرَ المسجد الحرام.
وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم ، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ، ولكني إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه ، فنزلت هذه الآية.
وذكر ابن عطية وقوله أقوالاً آخر في سبب النزول كلها تدل على الافتخار بالسقاية والعمارة.
وقرأ الجمهور : سقاية وعمارة وهما مصدران نحو الصيانة والوقاية وقوبلا بالذوات ، فاحتيج إلى حذف من الأول أي : أهل سقاية ، أو حذف من الثاني أي : كعمل من آمن.
وقرأ ابن الزبير والباقر وأبو حيوة : سقاة الحاج ، وعمرة المسجد ، جمع ساق وجمع عامر كرام ورماة وصانع وصنعة.
وقرأ ابن جبير كذلك ، إلا أنه نصب المسجد على إرادة التنوين في عمرة.
وقرأ الضحاك : سقاية بضم السين ، وعمرة بني الجمع على فعال كرخل ورخال ، وظئر وظؤار ، وكان المناسب أن يكون بغير هاء ، لكنه أدخل الهاء كما دخلت في حجارة.
وكانت السقاية في بني هاشم وكان العباس يتولاها ، ولما نزلت هذه الآية قال العباس : ما أراني إلا أترك السقاية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أقيموا عليها فهي لكم خير » وعمارة المسجد هي السدانة ، وكان في بني عبد الدار ، وشيبة وعثمان بن طلحة هما اللذان دفع إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة في ثامن يوم الفتح بعد أن طلبه العباس وعليّ ، وقال صلى الله عليه وسلم لعثمان وشيبة : « خذوها خالدة تالدة لا ينازعكما عليها إلا ظالم » يعني السدانة.
ومعنى الآية : إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة.
ولما نفى المساواة بينهما أوضح بقوله : والله لا يهدي القوم الظالمين ، من الراجح منهما وأنّ الكافرين بالله هم الظالمون ظلموا أنفسهم بترك الإيمان بالله ، وبما جاء به الرسول ، وظلموا المسجد الحرام إذ جعله الله متعبداً له فجعلوه متعبداً لأوثانهم.
وذكر في المؤمنين إثبات الهداية لهم بقوله :

{ فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } وفي المشركين هنا نفى الهداية بقوله : والله يهدي القوم الظالمين.
{ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون } زادت هذه الآية وضوحاً في الترجيح للمؤمنين المتصفين بهذه الأوصاف على المشركين المفتخرين بالسقاية والعمارة ، فطهروا أنفسهم من دنس الشرك بالإيمان ، وطهروا أبدانهم بالهجرة إلى موطن الرسول وترك ديارهم التي نشأوا عليها ، ثم بالغوا بالجهاد في سبيل الله بالمال والنفس ، المعرضين بالجهاد للتلف.
فهذه الخصال أعظم درجات البشرية ، وأعظم هنا يسوغ أن تبقى على بابها من التفضيل ، ويكون ذلك على تقدير اعتقاد المشركين بأن في سقايتهم وعمارتهم فضيلة ، فخوطبوا على اعتقادهم.
أو يكون التقدير أعظم درجة من الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا.
وقيل : أعظم ليست على بابها ، بل هي كقوله : { أصحاب الجنة لخيركما الفداء } وقول حسان :
فشركما لخيركما الفداء . . .
وكأنه قيل : عظيمون درجة.
وعند الله بالمكانة لا بالمكان كقوله : { ومن عنده لا يستكبِرون عن عبادته } قال أبو عبد الله الرازي : الأرواح المقدسة البشرية إذا تطهرت عن دنس الأوصاف البدنية والقاذورات الجسدانية أشرقت بأنوار الجلال وغلا فيها أضواء عالم الجمال ، وترقت من العبدية إلى العندية ، بل كأنه لا كمال في العبدية إلا بمشاهدة الحقيقة العندية ، ولذلك قال تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } انتهى ، وهو شبيه بكلام الصوفية ، ثم ذكر تعالى أنّ من اتصف بهذه الأوصاف هو الفائز الظافر بأمنيته ، الناجي من النار.
{ يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم } قال ابن عباس : هي في المهاجرين خاصة انتهى ، وأسند التبشير إلى قوله : ربهم ، لما في ذلك من الإحسان إليهم بأن مالك أمرهم والناظر في مصالحهم هو الذي يبشرهم ، فذلك على تحقيق عبوديتهم لربهم.
ولما كانت الأوصاف التي تحلوا بها وصاروا بها عبيدة حقيقة هي ثلاثة : الإيمان ، والهجرة ، والجهاد بالمال والنفس ، قوبلوا في التبشير بثلاثة : الرحمة ، والرضوان ، والجنات.
فبدأ بالرحمة لأنها الوصف الأعم الناشىء عنها تيسير الإيمان لهم ، وثنى بالرضوان لأنه الغاية من إحسان الرب لعبده وهو مقابل الجهاد ، إذ هو بذل النفس والمال ، وقد على الجنات لأن رضا الله عن العبد أفضل من إسكانهم الجنة.
وفي الحديث الصحيح : « إن الله تعالى يقول : يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون : يا ربنا كيف لا نرضى وقد باعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك ، فيقول : لكم عندي أفضل من ذلك ، فيقولون : وما أفضل من ذلك؟ فيقول : أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعدها » وأتى ثالثاً بقوله : وجنات لهم فيها نعيم مقيم ، أي دائم لا ينقطع.
وهذا مقابل لقوله { وهاجروا } لأنهم تركوا أوطانهم التي نشأوا فيها وكانوا فيها منعمين ، فآثروا الهجرة على دار الكفر إلى مستقر الإيمان والرسالة ، فقوبلوا على ذلك بالجنات ذوات النعيم الدائم ، فجاء الترتيب في أوصافهم على حسب الواقع : الإيمان ، ثم الهجرة ، ثم الجهاد.

وجاء الترتيب في المقابل على حسب الأعم ، ثم الأشرف ، ثم التكميل.
قال التبريزي : ونكر الرحمة والرضوان للتفخيم والتعظيم.
برحمة أي : رحمة لا يبلغها وصف واصف.
وقرأ الأعمش ، وطلحة بن مصرف ، وحميد بن هلال : يَبشُرهم بفتح الياء وضم الشين خفيفة.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر : ورُضوان بضم الراء ، وتقدم ذكر ذلك في أوائل آل عمران.
وقرأ الأعمش : بضم الراء والضاد معاً.
قال أبو حاتم : لا يجوز هذا انتهى.
وينبغي أن يجوز ، فقد قالت العرب : سلُطان بضم اللام ، وأورده التصريفيون في أبنية الأسماء.
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبآءكم وإخوانكم أوليآء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } كان قبل فتح مكة من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر ويصادم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم ، فقالوا : يا رسول الله ، إنْ نحن اعتزلنا من يخالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا ، وذهبت كادتنا وهلكت أموالنا ، وخرجت ديارنا ، ويقينا ضائعين ، فنزلت.
فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ، ثم رخص لهم بعد ذلك.
فعلى هذا الخطاب للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها من بلاد العرب خوطبوا أن لا يوالوا الآباء والإخوة ، فيكونوا لهم تبعاً في سكنى بلاد الكفر.
وقيل : نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة ، فنهى الله المؤمنين عن موالاتهم.
وذكر الآباء والإخوان لأنهم أهل الرأي والمشورة ، ولم يذكر الأبناء لأنهم في الغالب تبع لآبائهم.
وقرأ عيسى بن عمران : استحبوا بفتح الهمزة جعله تعليلاً ، وغيره بكسر الهمزة جعله شرطاً.
ومعنى استحبوا : آثروا وفضلوا ، استفعل من المحبة أي طلبوا محبة الكفر.
وقيل : بمعنى أحب.
وضمن معنى اختار وآثر ، ولذلك عديَ بعلى.
ولما نهاهم عن اتخاذهم أولياء أخبر أن من تولاهم فهو ظالم ، فقال ابن عباس : هو مشرك مثلهم ، لأنّ من رضي بالشرك فهو مشرك.
قال مجاهد : وهذا كله كان قبل فتح مكة.
وقال ابن عطية : وهذا ظلم المعصية لا ظلم الكفر.
{ قل إن كان آباؤكم وأبنآؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونهآ أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } هذه الآية تقتضي الحض على الهجرة وذكر الأبناء لأنه ذكر المحبة ، وهم أعلق بالنفس ، بخلاف الآية قبلها فلم يذكروا ، لأن المقصود منها الرأي والمشورة.
وقدّم الآباء لأنهم الذي يجب برهم وإكرامهم وحبهم ، وثنى بالأبناء لكونهم أعلق بالقلوب.
ولما ذكر الأصل والفرع ذكر الحاشية وهي الإخوان ، ثم ذكر الأزواج وهن في المحبة والإيثار كالأبناء ، ثم الأبعد بعد الأقرب في القرابة فقال : وعشيرتكم.

وقرأ الجمهور : بغير ألف.
وقرأ أبو بكر عن عاصم ، وأبو رجاء ، وأبو عبد الرحمن : بألف على الجمع.
وزعم الأخفش أنّ العرب تجمع عشيرة على عشائر ، ولا تكاد تقول عشيرات بالجمع بالألف والتاء ، ثم ذكر وأموال اقترفتموها أي اكتسبتموها ، لأن الأموال يعادل حبها حب القرابة ، بل حبها أشد ، كانت الأموال في ذلك الوقت عزيزة ، وأكثر الناس كانوا فقراء.
ثم ذكر : وتجارة تخشون كسادها ، والتجارة لا تتهيأ إلا بالأموال ، وجعل تعالى التجارة سبباً لزيادة الأموال ونمائها.
وتفسير ابن المبارك بأن ذلك إشارة إلى البنات اللواتي لا يتزوجن لقلة خطابهن ، تفسير غريب ينبو عنه اللفظ.
وقال الشاعر :
كسدن من الفقر في قومهن . . .
وقد زادهن مقامي كسودا
ثم ذكر : ومساكن ترضونها ، وهي القصور والدور.
ومعنى : ترضونها ، تختارون الإقامة بها.
وهذه الدواعي الأربعة سبب لمخالطة الكفار حب الأقارب ، والأموال ، والتجارة ، والمساكن.
فذكر تعالى أن مراعاة الدين خير من مراعاة هذه الأمور.
وفي الكلام حذف أي : أحب إليكم من امتثال أمر الله تعالى ورسوله في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.
والقراء على نصب أحب لأنه خبر كان.
وكان الحجاج بن يوسف يقرأ : أحب بالرفع ، ولحنه يحيى بن يعمر ، وتلحينه إياه ليس من جهة العربية ، وإنما هو لمخالفة إجماع القراء النقلة ، وإلا فهو جائز في علم العربية على أن يضمر في كان ضمير الشأن ، ويلزم ما بعدها بالابتداء والخبر ، وتكون الجملة في موضع نصب على أنها خبر كان.
وتضمن الأمر بالتربص التهديد والوعيد حتى يأتي الله بأمره.
قال ابن عباس ومجاهد : الإشارة إلى فتح مكة.
وقال الحسن : الإشارة إلى عذاب أو عقوبة من الله ، والفاسقين عموم يراد به الخصوص فيمن توافى على فسقه ، أو عموم مطلق على أنه لا هداية من حيث الفسق ، وفي التحرير الفسق هنا الكفر ، ويدل عليه ما قابله من الهداية.
والكفر ضلال ، والضلال ضد الهداية ، وإنْ كان ذلك في المؤمنين الذين لم يهاجروا ، فيكون الفسق الخروج عن الطاعة ، فإنهم لم يمتثلوا أمر الله ولا أمر رسوله في الهجرة.
{ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين } لما تقدم قوله : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم } واستطرد بعد ذلك بما استطرد ذكرهم تعالى نصره إياهم في مواطن كثيرة ، والمواطن مقامات الحرب وموافقها.
وقيل : مشاهد الحرب توطنون أنفسكم فيها على لقاء العدو ، وهي جمع موطن بكسر الطاء قال :
وكم موطن لولاي طحت كما هوى . . .
بإجرامه من قلة النيق منهوى
وهذه المواطن : وقعات بدر ، وقريظة والنضير ، والحديبية ، وخيبر ، وفتح مكة.
ووصفت بالكثرة لأن أئمة التاريخ والعلماء والمغازي نقلوا أنها كانت ثمانين موطناً.

وحنين واد بين مكة والطائف قريب من ذي المجاز.
وصرف مذ هو بابه مذهب المكان ، ولو ذهب به مذهب البقعة لم يصرف كما قال :
نصروا نبيهم وشدّوا أزره . . .
بحنين يوم تواكل الأبطال
وعطف الزمان على المكان.
قال الزمخشري : وموطن يوم حنين أوفى أيام مواطن كثيرة ، ويوم حنين.
وقال ابن عطية : ويوم عطف على موضع قوله : في مواطن ، أو على لفظه بتقدير : وفي يوم ، فحذف حرف الخفض انتهى.
وإذ بدل من يوم وأضاف الإعجاب إلى جميعهم ، وإن كان صادراً من واحد لما رأى الجمع الكثير أعجبه ذلك وقال : لن نغلب اليوم من قلة.
والقائل قال ابن المسيب : هو أبو بكر ، أو سلمة بن سلامة بن قريش ، أو ابن عباس ، أو رجل من بني بكر.
ونقل أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ساءه كلام هذا القائل ، ووكلوا إلى كلام الرجل.
والكثرة بفتح الكاف ، ويجمع على كثرات.
وتميم تكسر الكاف ، وتجمع على كثر كشذوة وشذر ، وكسرة وكسر ، وهذه الكثرة عن ابن عباس ستة عشر ألفاً ، وعن النحاس أربعة عشر ألفاً ، وعن قتادة وابن زيد وابن إسحاق والواقدي : اثنا عشر ألفاً ، وعن مقاتل عن ابن عباس : أحد عشر ألفاً وخمسمائة.
والباء في بما رحبت للحال ، وما مصدرية أي : ضاقت بكم الأرض مع كونها رحباً واسعة لشدة الحال عليهم وصعوبتها كأنهم لا يجدون مكاناً يستصلحونه للهرب والنجاة لفرط ما لحقهم من الرعب ، فكانها ضاقت عليهم.
والرحب : السعة ، وبفتح الراء الواسع.
يقال : فلان رحب الصدر ، وبلد رحب ، وأرض رحبة ، وقد رحبت رحباً ورحابة.
وقرأ زيد بن علي : بما رحبت في الموضعين بسكون الحاء وهي لغة تميم ، يسكنون ضمة فعل فيقولون في ظرف ظرْف.
ثم وليتم مدبرين أي : وليتم فارين على أدباركم منهزمين تاركين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأسند التولي إلى جميعهم وهو واقع من أكثرهم ، إذ ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس من الأبطال على ما يأتي ذكره إن شاء الله ، فيقول لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كان في عشرة آلاف من أصحابه ، وانضاف إليه الفان من الطلقاء فصاروا اثني عشر ألفاً إلى ما انضاف إليهم من الأعراب من سليم ، وبني كلاب ، وعبس ، وذبيان ، وسمع بذلك كفار العرب فشق عليهم ، فجمعت له هوزان وألفافها وعليهم مالك بن عوف النضري ، وثقيف وعليهم عبد ياليل بن عمرو ، وانضاف إليهم أخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفاً ، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد استعماله عتاب بن أسيد على مكة ، حتى اجتمعوا بحنين ، فلما تصاف الناس حمل المشركون من مجاني الوادي وكان قد كمنوا بها ، فانهزم المسلمون.
قال قتادة : ويقال إنّ الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين ، وبلغ فلهم مكة ، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركزه على بغلة شهباء تسمى دلدل لا يتخلخل ، والعباس قد اكتنفه آخذاً بلجامها ، وابن عمه أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب وابنه جعفر ، وعلي بن أبي طالب ، وربيعة بن الحرث ، والفضل بن العباس ، وأسامة بن زيد ، وأيمن بن عبيد وهو أيمن ابن أم أيمن ، وقتل بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء من أهل بيته ، وثبت معه أبو بكر وعمر فكانوا عشرة رجال ، ولهذا قال العباس :

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة . . .
وقد فر من قد فر منهم وأقشعوا
وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه . . .
بما مسه في الله لا يتوجع
وثبتت أم سليم في جملة من ثبت ممسكة بعيراً لأبي طلحة وفي يدها خنجر ، ونزل صلى الله عليه وسلم عن بغلته إلى الأرض واستنصر الله ، وأخذ قبضة من تراب وحصا فرمى بها في وجوه الكفار وقال : « شاهت الوجوه » قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم عن آبائهم قالوا : لم يبق منا أحد إلى دخل عينية من ذلك التراب ، وقال للعباس وكان صيتاً : نادِ أصحاب السمرة ، فنادى الأنصار فخذاً فخذاً ، ثم نادى يا أصحاب الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة ، فكروا عنقاً واحداً وهم يقولون : لبيك لبيك ، وانهزم المشركون فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين فقال : « هذا حين حمي الوطيس » وركض رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفهم على بغلته.
وفي صحيح مسلم من حديث البراء : أنّ هوازن كانوا رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا ، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان يقود بغلته فنزل ودعا واستنصر ، وهو يقول :
« أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللهم أنزل نصرك » قال البراء : كنا والله إذا حمي البأس نتقي به صلى الله عليه وسلم ، وأنّ الشجاع منا الذي يحاذي به يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي أول هذا الحديث : « أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ » فقال : اشهد عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ولى.
{ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } السكينة : النصر الذي سكنت إليه النفوس ، قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري : رحمته التي سكنوا بها.
وقيل : الوقاء والثبات بعد الاضطراب والقلق ، ويخرج من هذا القول الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه لم يزل ثابت الجأش ساكنه ، وعلى المؤمنين ظاهره شمول مَنْ فرَّ ومَنْ ثبت.
وقيل : هم الأنصار إذ هم الذين كروا وردّوا الهزيمة.
وقيل : من ثبت مع الرسول صلى الله عليه وسلم حالة فرّ الناس.

وقرأ زيد بن علي : سِكينته بكسر السين وتشديد الكاف مبالغة في السكينة.
نحو شرّيب وطبيخ.
{ وأنزل جنوداً لم تروها } هم الملائكة بلا خلاف ، ولم تتعرض الآية لعددهم.
فقال الحسن : ستة عشر ألفاً.
وقال مجاهد : ثمانية آلاف.
وقال ابن جبير : خمسة آلاف.
وهذا تناقض في الأخبار ، والجمهور على أنها لم تقاتل يوم حنين.
وعن ابن المسيب : حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال : لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم ، فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه حسانها فقالوا : شاهت الوجوه ، ارجعوا فرجعنا ، فركبوا أكتافنا.
والظاهر انتفاء الرؤية عن المؤمنين ، لأن الخطاب هو لهم.
وقد روي أنّ رجلاً من بني النضير قال للمؤمنين بعد القتال : أين الخيل البلق والرجال الذين كانوا عليها بيض ما كنا فيهم إلا كهيئة الشامة ، وما كان قتلنا إلا بأيديهم؟ فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « تلك الملائكة » وقيل : لم تروها ، نفى عن الجميع ، ومن رأى بعضهم لم ير كلهم.
وقيل : لم يرها أحد من المسلمين ولا الكفار ، وإنما أنزلهم يلقون التثبيت في قلوب المؤمنين والرعب والجبن في قلوب الكفار.
وقال يزيد بن عامر : كان في أجوافنا مثل ضربة الحجر في الطست من الرعب.
{ وعذب الذين كفروا وذلك جزآء الكافرين } أي بالقتل الذي استحر فيهم ، والأسر لذراريهم ونسائهم ، والنهب لأموالهم ، وكان السبي أربعة آلاف رأس.
وقيل : سنة آلاف ، ومن الإبل اثنا عشر ألفاً سوى ما لا يعلم من الغنم ، وقسمها الرسول بالجعرانة ، وفيها قصة عباس بن مرداس وشعره.
وكان مالك بن عوف قد أخرج الناس للقتال والذراري ليقاتلوا عليها ، فخطأه في ذلك دريد بن الصمة قال : هو يرد المنهزم شيء؟ وفي ذلك اليوم قتل دريد القتلة المشهورة ، قتله ربيعة بن رفيع بن أهبان السلمي ويقال له : ابن الدغنة.
{ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشآء والله غفور رحيم } إخبار بأن الله يتوب على من يشاء فيهدي من يشاء ممن بقي من الكفار للإسلام ، ووعد بالمغفرة والرحمة كمالك بن عوف النضري رئيس هوازن ومن أسلم معه من قومه.
وروي أنّ ناساً منهم جاؤوا فبايعوا على الإسلام وقالوا : يا رسول الله أنت خير الناس وأبرّ الناس ، وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا ، وكان سبي يومئذ ستة آلاف نفس ، وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى ، فقال : « إن خير القول أصدقه ، اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإمّا أموالكم » فقالوا : ما نعدل بالأحساب شيئاً.
وتمام الحديث أنهم أخذوا نساءهم وذراريهم إلا امرأة وقع عليها صفوان بن أمية فحملت منه فلم يردها.
أخبرنا القاضي العالم أبو علي الحسين بن عبد العزيز بن أبي الأحوص القرشي قراءة مني عليه بمدينة مالقة.

قال : أخبرنا أبو الحسن بن محمد بن بيقي بن حبلة الخزرجي باوو بولة ، قال : أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي الأصبهاني باسكندرية ( ح ) وأخبرنا أستاذنا الإمام العلامة الحافظ أبو جعفر أحمد بن ابراهيم بن الزبير قراءة مني عليه بغرناطة عن القاضي أبي الخطاب محمد بن أحمد بن خليل السكوني عن أبي طاهر السلفي وهو آخر من حدث عنه بالغرب ، ( ح ) وأخبرنا عالياً القاضي السعيد صفي الدين أبو محمد عبد الوهاب بن حسن بن الفرات قراءة عليه مرتين بثغر الاسكندرية ، عن أبي الطاهر اسماعيل بن صالح بن ياسين الجبلي وهو آخر من حدث عنه قالا : أعني السلفي والجبلي أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن ابراهيم الرازي ، قال : أخبرنا أبو الحسن علي بن بقاء بن محمد الوراق بمصر أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسين بن عمر اليمني التنوخي بانتفاء خلف الواسطي الحافظ ( ح ) وأخبرنا المحدث العدل نجيب الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن المؤيد الهمداني عرف بابن العجمي قراءة مني عليه بالقاهرة قلت له : أخبرك أبو الفخر أسعد بن أبي الفتوح بن روح وعفيفة بنت أحمد بن عبد الله في كتابيهما قالا : أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله بن أحمد بن عقيل الجوزدانية.
قالت : أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن ريذة الضبي ، قال : أخبرنا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني الحافظ قالا : أعني التنوخي والطبراني أخبرنا عبيد الله بن رماحس زاد التنوخي بن محمد بن خالد بن حبيب بن قيس بن رمادة من الرملة على بريدين في ربيع الآخر من سنة ثمانين ومائتين ، وقال الطبراني ابن رماحس الجشمي القيسي برمادة الرملة سنة سبع وسبعين ومائتين ، قال : حدثنا أبو عمرو زياد بن طارق زاد التنوخي الجشمي.
وقال الطبراني وكان قد أتت عليه عشرون ومائة سنة قال التنوخي عن زياد أنبأنا زهير أبو جندل وكان سيد قومه وكان يكنى أبا صرد.
قال : لما كان يوم حنين أسرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا هو يميز بين الرجال والنساء ، وثبت حتى قعدت بين يديه أذكره حيث شب ونشأ في هوازن ، وحيث أرضعوه فأنشأت أقول : وقال الطبراني عن زياد قال : سمعت أبا جرول زهير بن صرد الجشمي يقول : لما أسرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قوم هوازن ، وذهب يفرق السبي والشاء ، فأتيته فأنشأت أقوال هذا الشعر :
امنن علينا رسول الله في كرم . . .
فإنك المرء نرجوه وننتظر
امنن على بيضة قد عاقها قدر . . .
مفرق شملها في دهرها غير
أبقت لنا الحرب هتافاً على حرن . . .
على قلوبهم الغماء والغمر
إن لم تداركهم نعماء تنشرها . . .
يا أرجح الناس حلماً حين يختبر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها . . .
إذ فوك يملأوها من محضها الدرر
إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها . . .
وإذ يزينك ما تأتي وما تذر
يا خير من مرحت كمت الجياد به . . .
عند الهياج إذا ما استوقد الشرر
لا تجعلنا كمن شالت نعامته . . .
واستبق منا فإنا معشر زهر
إنا نؤمل عفواً منك نلبسه . . .
هذى البرية أن تعفو وتنتصر
إنا لنشكر للنعمى وقد كفرت . . .
وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر
فألبس العفو من قد كنت ترضعه . . .
من أمهاتك أن العفو مشتهر
واعف عفا الله عما أنت راهبه . . .
يوم القيامة إذ يهدي لك الظفر

وفي رواية الطبراني تقديم وتأخير في بعض الأبيات ، وتغيير لبعض ألفاظ ، فترتيب الأبيات بعد قوله : إذ أنت طفل قوله : لا تجعلنا ، ثم إنا لنشكر ، ثم فالبس العفو ، ثم تأخير من مرحت ، ثم إنا نؤمل ، ثم فاعف.
وتغيير الألفاظ قوله : وإذ يربيك بالراء والباء مكان الزاي والنون.
وقوله للنعماء : إذ كفرت.
وقوله : إذ تعفو.
وفي رواية الطبراني قال : فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشعر قال صلى الله عليه وسلم : « ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم » وقالت قريش : ما كان لنا فهو لله ولرسوله.
وقالت الأنصار : ما كان لنا فهو لله ولرسوله.
وفي رواية التنوخي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فللَّه ولكم » وقالت الأنصار : ما كان لنا فللَّه ولرسوله ، ردّت الأنصار ما كان في أيديها من الذراري والأموال.
{ يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شآء إن الله عليم حكيم } لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً أنْ يقرأ على مشركي مكة أول براءة ، وينبذ إليهم عهدهم ، وأنّ الله بريء من المشركين ورسوله قال أناس : يا أهل مكة ستعلمون ما تلقون من الشدّة وانقطاع السبل وفقد الحمولات فنزلت.
وقيل : لما نزل إنما المشركون نجس ، شق على المسلمين وقالوا : من يأتينا بطعامنا ، وكانوا يقدمون عليهم بالتجارة ، فنزلت : وإن خفتم عيلة الآية.
والجمهور على أنّ المشرك من اتخذ مع الله إلهاً آخر ، وعلى أنّ أهل الكتاب ليسوا بمشركين.
ومن العلماء من أطلق عليهم اسم الاشراك لقوله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } أي يكفر به.
وقرأ الجمهور : نجس بفتح النون والجيم ، وهو مصدر نجس نجساً أي قذر قذراً ، والظاهر الحكم عليهم بأنهم نجس أي ذوو نجس.
قال ابن عباس ، والحسن ، وعمر بن عبد العزيز ، وغيره : الشرك هو الذي نجسهم ، فأعيانهم نجسة كالخمر والكلاب والخنازير.

وقال الحسن : من صافح مشركاً فليتوضأ.
وفي التحرير وبالغ الحسن حتى قال : إن الوضوء يجب من مسِّ المشرك ، ولم يأخذ أحد بقول الحسن إلا الهادي من الزيدية.
وقال قتادة ، ومعمر بن راشد وغيرهما : وصف المشرك بالنجاسة لأنه جنب ، إذ غسله من الجنابة ليس بغسل ، وعلى هذا القول يجب الغسل على من أسلم من المشركين ، وهو مذهب مالك.
وقال ابن عبد الحكم : لا يجب ، ولا شك أنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات ، فجعلوا نجساً مبالغة في وصفهم بالنجاسة.
وقرأ أبو حيوة : نِجْس بكسر النون وسكون الجيم على تقدير حذف الموصوف ، أي : جنس نجس ، أو ضرب نجس ، وهو اسم فاعل من نجس ، فخففوه بعد الاتباع كما قالوا في كبد كبد وكرش كرش.
وقرأ ابن السميفع : أنجاس ، فاحتمل أن يكون جمع نجس المصدر كما قالوا أصناف ، واحتمل أن يكون جمع نجس اسم فاعل.
وفي النهي عن القربان منعهم عن دخوله والطواف به بحج أو عمرة أو غير ذلك كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، وهذا النهي من حيث المعنى هو متعلق بالمسلمين ، أي لا يتركونهم يقربون المسجد الحرام.
والظاهر أنّ النهي مختص بالمشركين وبالمسجد الحرام ، وهذا مذهب أبي حنيفة.
وأباح دخول اليهود والنصارى المسجد الحرام وغيره ، ودخول عبدة الأوثان في سائر المساجد.
وقال الزمخشري : إنّ معنى قوله : «فلا يقربوا المسجد الحرام» فلا يحجوا ولا يعتمروا ، ويدل على قول عليّ حين نادى ببراءة : لا يحج بعد عامنا هذا مشرك ، قال : ولا يمنعون من دخول الحرم ، والمسجد الحرام ، وسائر المساجد عند أبي حنيفة انتهى.
وقال الشافعي : هي عامة في الكفار ، خاصة في المسجد الحرام ، فأباح دخول اليهود والنصارى والوثنيين في سائر المساجد.
وقاس مالك جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على المشركين ، وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام ، ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد.
وقال عطاء : المراد بالمسجد الحرام الحرم ، وأنّ على المسلمين أنْ لا يمكنوهم من دخوله.
وقيل : المراد من القربان أنْ يمنعوا من تولى المسجد الحرام والقيام بمصالحه ، ويعزلوا عن ذلك.
وقال جابر بن عبد الله وقتادة : لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب حرية ، أو عبد المسلم ، والمعنى بقوله بعد عامهم هذا : هو عام تسع من الهجرة ، وهو العام الذي حج فيه أبو بكر أميراً على الموسم وأتبع بعلي ونودي فيها ببراءة.
وقال قتادة : هو العام العاشر الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والعيلة الفقر.
وقرأ ابن مسعود وعلقمة من أصحابه : عائلة وهو مصدر كالعاقبة ، أو نعت لمحذوف أي : حالاً عائلة ، وإنّ هنا على بابها من الشرط.
وقال عمرو بن قائد : المعنى وإذ خفتم كقولهم : إنْ كنت ابني فأطعني ، أي : إذ كنت.

وكون إنْ بمعنى إذ قول مرغوب عنه.
وتقدّم سبب نزول هذه الآية وفضله تعالى.
قال الضحاك : ما فتح عليهم من أخذ الجزية من أهل الذمة.
وقال عكرمة : أغناهم بادرار المطر عليهم ، وأسلمت العرب فتمادى حجهم ونحرهم ، وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم ، وعلق الاغناء بالمشيئة لأنه يقع في حق بعض دون بعض وفي وقت دون وقت.
وقيل : لإجراء الحكم على الحكمة ، فإنْ اقتضت الحكمة والمصلحة إغناءكم أغناكم.
وقال القرطبي : إعلاماً بأنّ الرزق لا يأتي بحيلة ولا اجتهاد ، وإنما هو فضل الله.
ويروي للشافعي :
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني . . .
بنجوم أقطار السماء تعلقي
لكن من رزق الحجا حرم الغنى . . .
ضدان مفترقان أي تفرق
ومن الدليل على القضاء وكونه . . .
بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
إن الله بأحوالكم حكيم لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة.
وقال ابن عباس : عليم بما يصلحكم ، حكيم فيما حكم في المشركين.
{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } نزلت حين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بغزو الروم ، وغزا بعد نزولها تبوك.
وقيل : نزلت في قريظة والنضير فصالحهم ، وكانت أول جزية أصابها المسلمون ، وأول ذلك أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين نفي الإيمان بالله عنهم ، لأن سبيلهم سبيل من لا يؤمن بالله ، آذ يصفونه بما لا يليق أن يوصف به قاله الكرماني.
وقال الزجاج : لأنهم جعلوا له ولداً وبدلوا كتابهم ، وحرموا ما لم يحرم ، وحللوا ما لم يحلل.
وقال ابن عطية : لأنهم تركوا شرائع الإسلام الذي يجب عليهم الدخول فيه ، فصار جميع مالهم في البعث وفي الله من تخيلات واعتقادات لا معنى لها ، إذْ يلقونها من غير طريقها.
وأيضاً فلم تكن اعتقاداتهم مستقيمة ، لأنهم شبهوا وقالوا : عزير ابن الله وثالث ثلاثة ، وغير ذلك.
ولهم أيضاً في البعث آراء كثيرة في منازل الجنة من الرهبان.
وقول اليهود في النار يكون فيها أياماً انتهى.
وفي الغيبان نفي عنهم الإيمان لأنهم مجسمة ، والمؤمن لا يجسم انتهى.
والمنقول عن اليهود والنصارى إنكار البعث الجسماني ، فكأنهم يعتقدون البعث الروحاني ما حرم الله في كتابه ورسوله في السنة.
وقيل : في التوراة والإنجيل ، لأنهم أباحوا أشياء حرمتها التوراة والإنجيل ، والرسول على هذا موسى وعيسى ، وعلى القول الأول محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل : ولا يحرمون الخمر والخنزير.
وقيل : ولا يحرمون الكذب على الله ، قالوا : { نحن أبناء الله وأحباؤه } { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } وقيل : ما حرم الله من الربا وأموال الأميين ، والظاهر عموم ما حرم الله ورسوله في التوراة والإنجيل والقرآن.
ولا يدينون دين الحق أي : لا يعتقدون دين الإسلام الذي هو دين الحق ، وما سواه باطل.

وقيل : دين الحق دين الله ، والحق هو الله قاله : قتادة.
يقال : فلان يدين بكذا أي يتخذه ديناً ويعتقده.
وقال أبو عبيدة : معناه ولا يطيعون طاعة أهل الإسلام ، وكل من كان في سلطان ملك فهو على دينه وقد دان له وخضع.
قال زهير :
لئن حللت بجوفي بني أسد . . .
في دين عمرو وحلت بيننا فدك
{ من الذين أوتوا الكتاب } بيان لقوله : الذين.
والظاهر اختصاص أخذ الجزية من أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل والروم نصاً.
وأجمع الناس على ذلك.
وأما المجوس فقال ابن المنذر : لا أعلم خلافاً في أنّ الجزية تؤخذ منهم انتهى.
وروي أنه كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت ، واختلف أصحاب مالك في مجوس العرب.
وأما السامرة والصابئة فالجمهور على أنهم من اليهود والنصارى تؤخذ منهم الجزية وتؤكل ذبيحتهم.
وقالت فرقة : لا تؤخذ منهم جزية ، ولا تؤكل ذبائحهم.
وقيل : تؤخذ منهم الجزية ، ولا تؤكل ذبائحهم.
وقال الأوزاعي : تؤخذ من كل عابد وثن أو نارٍ أو جامدٍ مكذب.
وقال أبو حنيفة : لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف ، وتقبل من أهل الكتاب ومن سائر كفار العجم الجزية.
وقال مالك : تؤخذ من عابد النار والوثن وغير ذلك كائناً من كان من عربي تغلبي أو قرشي أو عجمي إلا المرتد.
وقال الشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور : لا تقبل إلا من اليهود والنصارى والمجوس فقط.
والظاهر شمول جميع أهل الكتاب في إعطاء الجزية.
وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي : لا تؤخذ إلا من الرجال البالغين الأحرار العقلاء ، ولا تضرب على رهبان الديارات والصوامع المنقطعين.
وقال مالك في الواضحة : إن كانت قد ضربت عليهم ثم انقطعوا لم تسقط ، وتضرب على رهبان الكنائس.
واختلف في الشيخ الفاني ، ولم تتعرض الآية لمقدار ما على كل رأس ولا لوقت إعطائها.
فأما مقدارها فذهب مالك وكثير من أهل العلم إلى ما فرضه عمر : أربعة دنانير على أهل الذهب ، وأربعون درهماً على أهل الفضة ، وفرض عمر ضيافة وأرزاقاً وكسوة.
وقال الثوري : رويت عن عمر ضرائب مختلفة ، وأظن ذلك بحسب اجتهاده في عسرهم ويسرهم.
وقال الشافعي وغيره : على كل رأس دينار.
وقال أبو حنيفة : على الفقير المكتسب اثنا عشر درهماً ، وعلى المتوسط في المعنى ضعفها ، وعلى المكثر ضعف الضعف ثمانية وأربعون درهماً ، ولا يؤخذ عنده من فقير لا كسب له.
قال ابن عطية : وهذا كله في الفترة.
وأما الصلح فهو ما صولحوا عليه من قليل أو كثير.
وأما وقتها فعند أبي حنيفة أول كل سنة ، وعند الشافعي آخر السنة.
وسميت جزية من جزى يجزي إذ كافأ عما أسدي عليه ، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن ، وهي كالعقدة والجلسة ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :

نجزيك أو نثني عليك وأن من . . .
أثنى عليك بما فعلت فقد جزى
وقيل : لأنها طائفة مما على أهل الذمة أنْ يجزوه أي يقضوه عن يد.
قال ابن عباس : يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها.
وقال عثمان : يعطونها نقداً لا نسيئة.
وقال قتادة : يعطونها وأيديهم تحت يد الآخذ ، فالمعنى أنهم مستعلى عليهم.
وقيل : عن اعتراف.
وقيل : عن قوة منكم وقهر وذل ونفاذ أمر فيهم ، كما تقول : اليد في هذا لفلان أي الأمر له.
وقيل : عن إنعام عليهم بذلك ، لأن قبولها منهم عوضاً عن أرواحهم إنعام عليهم من قولهم له : عليَّ يد أيْ : نعمة.
وقال القتبي : يقال أعطاه عن يدٍ وعن ظهر يد ، إذا أعطاه مبتدئاً غير مكافىء.
وقيل : عن يد عن جماعة أي : لا يعفى عن ذي فضل منهم لفضله.
واليد جماعة القوم ، يقال القوم على يد واحدة أي : هم مجتمعون.
وقيل : عن يد أي عن غنى ، وقدرة فلا تؤخذ من الفقير.
ولخص الزمخشري في ذلك فقال : أما أن يريد يد الآخذ فمعناه حتى يعلوها عن يد قاهرة مستولية وعن إنعام عليهم ، لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم.
وإما أن يريد المعطى فالمعنى عن يدٍ مواتية غير ممتنعة ، لأنّ من أبي وامتنع لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد ، ولذلك قالوا : أعطى بيده إذا انقاد واحتجب.
ألا ترى إلى قولهم : نزع يده عن الطاعة ، أو عن يد إلى يد أي نقداً غير نسيئة ، أولاً مبعوثاً على يد آخر ولكن عن يد المعطى البريد الآخذ.
وهم صاغرون جملة حالية أي : ذليلون حقيرون.
وذكروا كيفيات في أخذها منهم وفي صغارهم لم تتعرض لتعيين شيء منها الآية.
قال ابن عباس : يمشون بها ملببين.
وقال سليمان الفارسي : لا يحمدون على إعطائهم.
وقال عكرمة : يكون قائماً والآخذ جالساً.
وقال الكلبي : يقال له عند دفعها أدّ الجزية ويصك في قفاه.
وحكى البغوي : يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمته.
{ وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون } بين تعالى لحاق اليهود والنصارى بأهل الشرك وإن اختلفت طرق الشرك في فرق بين من يعبد الصنم وبين من يعبد المسيح وغيره ، لأنّ الشرك هو أنْ يتّخذ مع الله معبوداً ، بل عابد الوثن أخف كفراً من النصراني ، لأنه لا يعتقد أنّ الوثن خالق العالم ، والنصراني يقول بالحلول والاتحاد ، وقائل ذلك قوم من اليهود كانوا بالمدينة.
قال ابن عباس : قالها أربعة من أحبارهم : سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف.
وقيل : قاله فنحاص.
وقال النقاش : لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا ، وتذم الطائفة أو تمدح بصدور ما يناسب ذلك من بعضهم.

قيل : والدليل على أن هذا القول كان فيهم أنّ الآية تليت عليهم فما أنكروا ولا كذبوا مع تهالكهم على التكذيب ، وسبب هذا القول أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى ، فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم ، فخرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض ، فأتاه جبريل فقال له : إلى أين تذهب؟ قال : أطلب العلم ، فحفظه التوراة ، فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرم حرفاً فقالوا : ما جمع الله تعالى التوراة في صدره وهو غلام إلا أنه ابنه ، ونقلوا حكايات في ذلك.
وظاهر قول النصارى المسيح ابن الله نبوّة النسل كما قالت العرب في الملائكة ، وكذا يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما عنهم : أنّ المسيح إله ، وأنه ابن الإله.
ويقال : إن بعضهم يعتقدها بنوّة حنوّ ورحمة ، وهذا القول لم يظهر إلا بعد النبوّة المحمدية وظهور دلائل صدقها ، وبعد أن خالطوا المسلمين وناظروهم ، فرجعوا عما كانوا يعتقدونه في عيسى.
وقرأ عاصم ، والكسائي عزير منوناً على أنه عربي ، وباقي السبعة بغير تنوين ممنوع الصرف للعجمة والعلمية ، كعاذر وغيذار وعزرائيل ، وعلى كلتا القرائتين فابن خبر.
وقال أبو عبيد : هو أعجمي خفيف فانصرف كنوح ولوط وهود.
قيل : وليس قوله بمستقيم ، لأنه على أربعة أحرف وليس بمصغر ، إنما هو اسم أعجمي جاء على هيئة المصغر ، كسليمان جاء على هيئة عثمان وليس بمصغر.
ومن زعم أنّ التنوين حذف من عزير لالتقاء الساكنين كقراءة : { قل هو الله أحد الله الصمد } وقول الشاعر :
إذا غطيف السلمى فرّا . . .
أو لأنّ ابناً صفة لعزير وقع بين علمين فحذف تنوينه ، والخبر محذوف أي : إلا هنا ومعبودنا.
فقوله متمحل ، لأنّ الذي أنكر عليهم إنما هو نسبة البنوّة إلى الله تعالى.
ومعنى بأفواههم : أنه قول لا يعضده برهان ، فما هو إلا لفظ فارغ يفوهون به كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدل على معان ، وذلك أن القول الدال على معنى لفظة مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب ، وما لا معنى له يقال بالفم لا غير.
وقيل : معنى بأفواهم إلزامهم المقالة والتأكيد ، كما قال : { يكتبون الكتاب بأيديهم } { ولا طائر يطير بجناحيه } ولا بد من حذف مضاف في قوله : يضاهون أي يضاهي قولهم والذين كفروا قدماؤهم فهو كفر قديم فيهم أو المشركون القائلون الملائكة بنات الله ، وهو قول الضحاك.
أو الضمير عائد على النصارى والذين كفروا اليهود أي : يضاهي قول النصارى في دعواهم بنوّة عيسى قول اليهود في دعواهم بنوّة عزير ، واليهود أقدم من النصارى ، وهو قول قتادة.
وقرأ عاصم وابن مصرف : يضاهئون بالهمز ، وباقي السبعة بغير همز.
قاتلهم الله أنى يؤفكون : دعاء عليهم عام لأنواع الشر ، ومن قاتله الله فهو المقتول.
وقال ابن عباس : معناه لعنهم الله.
وقال ابان بن تغلب :
قاتلها الله تلحاني وقد علمت . . .
إني لنفسي إفسادي وإصلاحي
وقال قتادة : قتلهم ، وذكر ابن الأنباري عاداهم.
وقال النقاش : أصل قاتل الدعاء ، ثم كثر استعمالهم حتى قالوه على جهة التعجب في الخير والشر ، وهم لا يريدون الدعاء.
وأنشد الأصمعي :
يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني . . .
وأخبر الناس أني لا أباليها
وليس من باب المفاعلة بل من باب طارقت النعل وعاقبت اللص.
أنّى يؤفكون : كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل على سبيل التعجب!.

اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)

{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم } تعدت اتخذ هنا المفعولين ، والضمير عائد على اليهود والنصارى.
قال حذيفة : لم يعبدوهم ولكنْ أحلوا لهم الحرام فأحلوه ، وحرموا عليهم الحلال فحرموه ، وقد جاء هذا مرفوعاً في الترمذي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من حديث عدي بن حاتم.
وقيل : كانوا يسجدون لهم كما يسجدون لله ، والسجود لا يكون إلا لله ، فأطلق عليهم ذلك مجازاً.
وقيل : علم سبحانه أنهم يعتقدون الحلول ، وأنه سبحانه تجلى في بواطنهم فيسجدون له معتقدين أنه لله الذي حل فيهم وتجلى في سرائرهم ، فهؤلاء اتخذوهم أرباباً حقيقة.
ومذهب الحلول فشا في هذه الأمة كثيراً ، وقالوا بالاتحاد.
وأكثر ما فشا في مشائخ الصوفية والفقراء في وقتنا هذا ، وقد رأيت منهم جماعة يزعمون أنهم أكابر.
وحكى أبو عبد الله الرازي أنه كان فاشياً في زمانه ، حكاه في تفسيره عن بعض المروزيين كان يقول لأصحابه : أنتم عبيدي ، وإذا خلا ببعض الحمقا من أتباعه ادعى الآلهية.
وإذا كان هذا مشاهداً في هذه الأمة ، فكيف يبعد ثبوته في الأمم السابقة انتهى وهو منقول من كتاب التحرير والتحبير ، وقد صنف شيخنا المحدث المتصوّف قطب الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن القسطلاني كتاباً في هذه الطائفة ، فذكر فيهم الحسين بن منصور الحلاج ، وأبا عبد الله الشوذي كان بتلمسان ، وابراهيم بن يوسف بن محمد بن دهان عرف بابن المرأة ، وأبا عبد الله بن أحلى المتأمر بلورقة ، وأبا عبد الله بن العربي الطائي ، وعمر بن علي بن الفارض ، وعبد الحق بن سبعين ، وأبا الحسن الششتري من أصحابه ، وابن مطرف الأعمى من أصحاب ابن أحلى ، والصفيفير من أصحابه أيضاً ، والعفيف التلمساني.
وذكر في كتابه من أحوالهم وكلامهم وأشعارهم ما يدل على هذا المذهب.
وقتل السلطان أبو عبد الله بن الأحمر ملك الأندلس الصفيفير بغرناطة وأنابها ، وقد رأيت العفيف الكوفي وأنشدني من شعره ، وكان يتكتم هذا المذهب.
وكان بو عبد الله الأيكي شيخ خانكاه سعيد السعداء مخالطاً له خلطة كثيرة ، وكان متهماً بهذا المذهب ، وخرج التلمساني من القاهرة هارباً إلى الشام من القتل على الزندقة.
وأما ملوك العبيدتين بالمغرب ومصر فإن أتباعهم يعتقدون فيهم الإلهية ، وأولهم عبيد الله المتلقب بالمهدي ، وأخرهم سليمان المتلقب بالعاضد.
والأحبار علماء اليهود ، والرهبان عباد النصارى الذين زهدوا في الدنيا وانقطعوا عن الخلق في الصوامع.
أخبر عن المجموع ، وعاد كل ما يناسبه.
أي : اتخذ اليهود أحبارهم ، والنصارى رهبانهم.
والمسيح ابن مريم عطف على رهبانهم.
{ وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } الظاهر أن الضمير عائد على من عاد عليه في اتخذوا ، أي : أمروا في التوراة والإنجيل على ألسنة أنبيائهم.

وقيل : في القرآن على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل : في الكتب الثلاثة.
وقيل : في الكتب المنزلة ، وعلى لسان جميع الأنبياء.
وقال الزمخشري : أمرتهم بذلك أدلة العقل والنصوص في الإنجيل والمسيح عليه السلام ، أنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة.
وقيل : الضمير عائد على الأحبار والرهبان المتخذين أرباباً أي : وما أمر هؤلاء إلا ليعبدوا الله ويوحدوه ، فكيف يصح أن يكونوا أرباباً وهم مأمورون مستعبدون؟ وفي قوله : عما يشركون ، دلالة على إطلاق اسم الشرك على اليهود والنصارى.
{ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } مثلهم ومثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق ، ونور الله هداه الصادر عن القرآن والشرع المنبث ، فمن حيث سماه نوراً سمى محاولة إفساده إطفاء.
وقالت فرقة : النور القرآن وكنى بالأفواه عن قلة حيلتهم وضعفها.
أخبر أنهم يحاولون أمراً جسيماً بسعيٍ ضعيف ، فكان الإطفاء بنفخ الأفواه.
ويحتمل أن يراد بأقوال لا برهان عليها ، فهي لا تتجاوز الأفواه إلى فهم سامعٍ ، وناسب ذكر الإطفاء الأفواه.
وقيل : إن الله لم يذكر قولاً مقروناً بالأفواه والألسن إلا وهو زور ، ومجيء إلا بعد ويأبى يدل على مستثنى منه محذوف ، لأنه فعل موجب ، والموجب لا تدخل معه إلا ، لا تقول كرهت إلا زيداً.
وتقدير المستثنى منه : ويأبى الله كل شيء إلا أنْ يتم قاله الزجاج.
وقال علي بن سليمان : جاز هذا في أبي ، لأنه منع وامتناع ، فضارعت النفي.
وقال الكرماني : معنى أبى هنا لا يرضى إلا أن يتم نوره بدوام دينه إلى أن تقوم الساعة.
وقال الفراء : دخلت إلا لأنّ في الكلام طرفاً من الجحد.
وقال الزمخشري : أجرى أبى مجرى لم يرد.
ألا ترى كيف قوبل يريدون أن يطفئوا بقوله : ويأبى الله ، وكيف أوقع موقع ولا يريد الله إلا أن يتم نوره؟
{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } هو محمد صلى الله عليه وسلم ، والهدى التوحيد ، أو القرآن ، أو بيان الفرائض أقوال ثلاثة.
ودين الحق : الإسلام { إن الدين عند الله الإسلام } والظاهر أن الضمير في ليظهره عائد على الرسول لأنه المحدّث عنه ، والدين هنا جنس أي : ليعليه على أهل الأديان كلهم ، فهو على حذف مضاف.
فهو صلى الله عليه وسلم غلبت أمته اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب ، وغلبوا النصارى على بلاد الشام إلى ناحية الروم والمغرب ، وغلبوا المجوس على ملكهم ، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند ، وكذلك سائر الأديان.
وقيل : المعنى يطلعه على شرائع الدين حتى لا يخفى عليه شيء منه ، فالدين هنا شرعه الذي جاء به.

وقال الشافعي : قد أظهر الله رسول صلى الله عليه وسلم على الأديان بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق ، وما خالفه من الأديان باطل.
وقيل : الضمير يعود على الدين ، فقال أبو هريرة ، والباقر ، وجابر بن عبد الله : إظهار الدِّين عند نزول عيسى ابن مريم ورجوع الأديان كلها إلى دين الإسلام ، كأنها ذهبت هذه الفرقة إلى إظهاره على أتم وجوهه حتى لا يبقى معه دين آخر.
وقالت فرقة : ليجعله أعلاها وأظهرها ، وإن كان معه غيره كان دونه ، وهذا القول لا يحتاج معه إلى نزول عيسى ، بل كان هذا في صدر الأمة ، وهو كذلك باق إن شاء الله تعالى.
وقال السدي : ذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام وأدّى الخراج.
وقيل : مخصوص بجزيرة العرب ، وقد حصل ذلك ما أبقى فيها أحداً من الكفار.
وقيل : مخصوص بقرب الساعة ، فإنه إذ ذاك يرجع الناس إلى دين آبائهم.
وقيل : ليظهره بالحجة والبيان.
وضعف هذا القول لأنّ ذلك كان حاصلاً أول الأمر.
وقيل : نزلت على سبب وهو أنه كان لقريش رحلتان : رحلة الشتاء إلى اليمن ، ورحلة الصيف إلى الشام والعراقين ، فلما أسلموا انقطعت الرحلتان لمباينة الدين والدار ، فذكروا ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية.
فالمعنى : ليظهره على الدين كله في بلاد الرحلتين ، وقد حصل هذا أسلم أهل اليمن وأهل الشام والعراقين.
وفي الحديث : « رويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها » قال بعض العلماء : ولذلك اتسع مجال الإسلام بالمشرق والمغرب ولم يتسع في الجنوب انتهى.
ولا سيما اتساع الإسلام بالمشرق في زماننا ، فقلّ ما بقي فيه كافر ، بل أسلم معظم الترك التتار والخطا ، وكل من كان يناوىء الإسلام ، ودخلوا في دين الله أفواجاً والحمد لله.
وخص المشركون هنا بالذكر لما كانت كراهة مختصة بظهور دين محمد صلى الله عليه وسلم ، وخص الكافرون قبل لأنها كراهة إتمام نور الله في قديم الدهر ، وباقيه يعم الكفرة من لدن خلق الدنيا إلى انقراضها ، ووقعت الكراهة والإتمام مراراً كثيرة.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)

أصل الكنز في اللغة الضم والجمع ، ولا يختص بالذهب والفضة.
قال :
لا درّ درّي إنْ أطعمت ضائعهم . . .
قرف الجثى وعندي البر مكنوز
وقالوا : رجل مكتنز الخلق أي مجتمعه.
وقال الراجز :
على شديد لحمه كناز . . .
بات ينزيني على أوفاز
ثم غلب استعماله في العرف على المدفون من الذهب والفضة.
الكي : معروف وهو إلزاق الحار بعضو من البدن حتى يتمزق الجلد.
والجبهة : معروفة وهي صفحة أعلى الوجه.
والغاز : معروف وهو نقر في الجبل يمكن الاستخفاء فيه ، وقال ابن فارس : الغار الكهف ، والغار نبت طيب الريح ، والغار الجماعة ، والغاران البطن والفرج.
ثبطه عن الأمر أبطأ به عنه ، وناقة ثبطة أي بطيئة السير.
وأصل التثبيط التعويق ، وهو أن يحول بين الإنسان وبين أمر يريده بالتزهيد فيه.
الزهق : الخروج بصعوبة ، قال الزجاج : بالكسر خروج الروح ، وقال الكسائي والمبرد : زهقت نفسه وزهقت لغتان ، والزهق الهلاك ، وزهق الحجر من تحت حافر الدابة إذا ندر ، والزهوق البعد ، والزهوق البئر البعيدة المهواة.
الملجأ : مفعل من لجأ إلى كذا انحاز والتجأ وألجأته إلى كذا اضطررته.
جمح نفر بإسراع من قولهم فرس جموح أي لا يرده اللجام إذا حمل.
قال :
سبوحاً جموحاً وإحضارها . . .
كمعمعة السعف الموقد
وقال مهلهل :
وقد جمحت جماحاً في دمائهم . . .
حتى رأيت ذوي أجسامهم جمدوا
وقال آخر :
إذا . . .
جمحت نساؤكم إليه
اشظ كأنه مسد مغار . . .
حمز قفر ، وقيل : بمعنى جمح.
قال رؤبة :
قاربت بين عنقي وجمزي . . .
اللمز قال الليث : هو كالغمز في الوجه.
وقال الجوهري : العيب ، وأصله الإشارة بالعين ونحوها.
وقال الأزهري : أصل اللمز الدفع ، لمزتُه دفعته.
الغرم : أصله لزوم ما يشق ، والغرام العذاب الشاق ، وسمي العشق غراماً لكونه شاقاً ولازماً.
{ يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } لمّا ذكر أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ، ذكر ما هو كثير منهم تنقيصاً من شأنهم وتحقيراً لهم ، وأنّ مثل هؤلاء لا ينبغي تعظيمهم ، فضلاً عن اتخاذهم أرباباً لما اشتملوا عليه من أكل المال بالباطل ، وصدهم عن سبيل الله.
واندرجوا في عموم الذين يكنزون الذهب والفضة ، فجمعوا بين الخصلتين المذمومتين : أكل المال بالباطل ، وكنز المال إن ضنوا أنْ ينفقوها في سبيل الله ، وأكلهم المال بالباطل هو أخذهم من أموال اتباعهم ضرائب باسم الكنائس والبيع ، وغير ذلك مما يوهمونهم به أنّ النفقه فيه من الشرع والتقرب إلى الله ، وهم يحجبون تلك الأموال كالراهب الذي استخرج سلمان كنزه.
وكما يأخذونه من الرشا في الأحكام ، كإيهام حماية دينهم ، وصدهم عن سبيل الله هو دين الإسلام واتباع الرسول.

وقيل : الجور في الحكم ، ويحتمل أن يكون يصدون متعدياً وهو أبلغ في الذم ، ويحتمل أن يكون قاصراً.
وقرأ الجمهور : والذين بالواو ، وهو عام يندرج فيه من يكنز من المسلمين.
وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط ، ولذلك دخلت الفاء في خبره في قوله : فبشرهم.
وقيل : والذين يكنزون من أوصاف الكثير من الأحبار والرهبان.
وروي هذا القول عن عثمان ومعاوية.
وقيل : كلام مبتدأ أراد به مانعي الزكاة من المسلمين ، وروي هذا القول عن السدي ، والظاهر العموم كما قلناه ، فيقرن بين الكانزين من المسلمين ، وبين المرتشين من الأحبار والرهبان تغليظاً ودلالة على أنهم سواء في التبشير بالعذاب.
وروي العموم عن أبي ذر وغيره.
وقرأ ابن مصرّف : الذين بغير واو ، وهو ظاهر في كونه من أوصاف من تقدم ، ويحتمل الاستئناف والعموم.
والظاهر ذمّ من يكنز ولا ينفق في سبيل الله.
وما جاء في ذم من ترك صفراء وبيضاء ، وأنه يكوى بها إلى غير ذلك من أحاديث هو قبل أن تفرض الزكاة ، والتوعد في الكنز إنما وقع على منع الحقوق منه ، فلذلك قال كثير من العلماء : الكنز هو المال الذي لا تؤدّى زكاته وإن كان على وجه الأرض ، فأما المال المدفون إذا أخرجت زكاته فليس بكنز.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل ما أدّيت زكاته فليس بكنز " وعن عمر أنه قال لرجل باع أرضاً أحرز مالك الذي أخذت أحفر له تحت فراش امرأتك فقال : أليس بكنز ، فقال : «ما أدّى زكاته فليس بكنز».
وعن ابن عمر وعكرمة والشعبي والسدّي ومالك وجمهور أهل العلم مثل ذلك.
وقال علي : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، وما زاد عليها فهو كنز وإن أدّيت زكاته.
وقال أبو ذر وجماعة معه : ما فضل من مال الرجل على حاجة نفسه فهو كنز.
وهذان القولان يقتضيان أنّ الذم في جنس المال ، لا في منع الزكاة فقط.
وقال عمر بن عبد العزيز : هي منسوخة بقوله : " خذ من أموالهم صدقة " فأتى فرض الزكاة على هذا كله ، كأنّ الآية تضمنت : لا تجمعوا مالاً فتعذبوا ، فنسخه التقرير الذي في قوله : خذ من أموالهم صدقة ، والله تعالى أكرم من أن يجمع على عبده مالاً من جهة أذن له فيها ويؤدّى عنه ما أوجبه عليه فيه ثم يعاقبه وكان كثير من الصحابة رضوان الله عليهم كعبد الرحمن بن عوف ، وطلحة بن عبيد الله ، يقتنون الأموال ويتصرّفون فيها ، وما عابهم أحد ممن أعرض عن الفتنة ، لأنّ الإعراض اختيار للأفضل والأدخل في الورع والزهد في الدنيا ، والإقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه ، وما روي عن عليّ كلام في الأفضل.
وقرأ أبو السمال ويحيى بن يعمر : يكنزون بضم الياء ، وخص بالذكر الذهب والفضة من بين سائر الأموال لأنهما قيم الأموال وأثمانها ، وهما لا يكنزان إلا عن فضلة وعن كثرة ، وممن كنزهما لم يعدم سائر أجناس الأموال ، وكنزهما يدل على ما سواهما.

والضمير في : ولا ينفقونها ، عائد على الذهب ، لأن تأنيثه أشهر ، أو على الفضة.
وحذف المعطوف في هذين القولين أو عليهما باعتبار أن تحتهما أنواعاً ، فروعي المعنى كقوله : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } أو لأنهما محتويان على جمع دنانير ودراهم ، أو على المكنوزات ، لدلالة يكنزون.
أو على الأموال ، أو على النفقة وهي المصدر الدال عليه.
ولا ينفقونها ، أو على الزكاة أي : ولا ينفقون زكاة الأموال أقوال.
وقال كثير من المفسرين : عاد على أحدهما كقوله : { وإذ رأوا تجارة أو لهواً } وليس مثله ، لأن هذا عطف بأو ، فحكمهما أنّ الضمير يعود على أحد المتعاطفين بخلاف الواو ، إلا أن ادّعى أنّ الواو في والفضة بمعنى أو ليمكن ، وهو خلاف الظاهر.
{ يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } يقال : حميت الحديدة في النار أي أوقدت عليها لتحمى ، وتقول : أحميتها أدخلتها لكي تحمي أيضاً فحميت.
وقرأ الجمهور : يوم يحمى عليها بالياء ، أصله يحمى النار عليها ، فلما حذف المفعول الذي لم يسم فاعله ، وأسند الفعل إلى الجملة والمجرور ، لم تلحق التاء كما تقول : رفعت القصة إلى الأمير.
وإذا حذفت القصة وقام الجار والمجرور مقامها قلت : رفع إلى الأمير ، ويدل على أنّ ذلك في الأصل مسند إلى النار ، قراءة الحسن وابن عامر في رواية تحمى بالتاء.
وقيل : من قرأ بالياء ، فالمعنى : يحمى الوقود.
ومن قرأ بالتاء فالمعنى : تحمى النار.
والناصب ليوم أليم أو مضمر يفسره عذاب أي : يعذبون يوم يحمى.
وقرأ أبو حيوة : فيكوى بالياء ، لما كان ما أسند إليه تأنيثه حقيقياً ، ووقع الفصل أيضاً ذكر ، وأدغم قوم جباههم وهي مروية عن أبي عمر وذلك في الإدغام الكبير ، كما أدغم مناسككم وما سلككم ، وخصت هذه المواضع بالكي.
قيل : لأنه في الجهة أشنع ، وفي الجنب والظهر أوجع.
وقيل : لأنها مجوفة فيصل إلى أجوافها الحر ، بخلاف اليد والرجل.
وقيل : معناه يكوون على الجهات الثلاثة مقاديمهم ومآخرهم وجنوبهم.
وقيل : لما طلبوا المال والجاه شان الله وجوههم ، ولما طووا كشحا عن الفقير إذا جالسهم كويت ظهورهم.
وقال الزمخشري : لأنهم لم يطلبوا بأموالهم حيث لم ينفقوها في سبيل الله تعالى إلا الأغراض الدنيوية من وجاهة عند الناس وتقدّم ، وأن يكون ماء وجوههم مصوناً عندهم يتلقون بالجميل ، ويحيون بالإكرام ، ويحتشمون ، ومن أكل طيبات يتضلعون منها ، وينفخون جنوبهم ، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم كما ترى أغنياء زمانك هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم.
لا يخطرون ببالهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« ذهب أهل الدثور بالأجور » وقيل : لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا ، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه ، وتولوا بأركانهم ، وولوا ظهورهم.
وأضمر القول في هذا ما كنزتم أي : يقال لهم وقت الكي والإشارة بهذا إلى المال المكنوز ، أو إشارة إلى الكي على حذف مضاف من ما كنزتم ، أي : هذا الكي نتيجة ما كنزتم ، أو ثمرة ما كنزتم.
ومعنى لأنفسكم : لتنتفع به أنفسكم وتلتذ ، فصار عذاباً لكم ، وهذا القول توبيخ لهم.
فذوقوا ما كنتم أي : وبال المال الذي كنتم تكنزون.
ويجوز أن تكون ما مصدرية أي : وبال كونكم كانزين.
وقرىء يكنزون بضم النون.
وفي حديث أبي ذر : « بشر الكانزين برصد يحمى عليها في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدييه وتزلزله وتكوى الجباه والجنوب والظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم » وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم : « الوعيد الشديد لمانع الزكاة »
{ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منهآ أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين } كانت العرب لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وأعمال سلاحها ، فكانت إذا توالت عليهم الأربعة الحرم صعب عليها وأملقوا ، وكان بنو فقيم من كنانة أهل دين وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام ، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبيد بن فقيم فنسأ الشهور للعرب ، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد ، ثم ابنه قلع ، ثم ابنه أمية ، ثم ابنه عوف ، ثم ابنه جنادة بن عوف ، وعليه قام الإسلام.
وكانت العرب إذا فرغت من حجها جاء إليه من شاء منهم مجتمعين فقالوا : أنسئنا شهراً أي : أخِّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر ، فيحل لهم المحرم ، فيغيرون فيه ويعيشون.
ثم يلزمون حرمة صفر ليوافقوا عدّة الأشهر الأربعة ، ويسمون ذلك الصفر المحرم ، ويسمون ربيعاً الأول صفراً ، وربيعاً الآخر ربيعاً الأول ، وهكذا في سائر الشهور يستقبلون نسيئهم في المحرم الموضع لهم ، فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حلل لهم ، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهراً أولها المحرم المحلل ، ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر ، ثم استقبال السنة كما ذكرنا.
قال مجاهد : ثم كانوا يحجون في كل عام شهرين ولاء ، وبعد ذلك يبدلون فيحجون عامين ولاء ، ثم كذلك حتى كانت حجة أبي بكر في ذي القعدة حقيقة ، وهم يسمونه ذا الحجة ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة حقيقة ، فذلك قوله : « إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهراً أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان »

ومناسبة هذه الآية أنه لما ذكر أنواعاً من قبائح أهل الشرك وأهل الكتاب ، ذكر أيضاً نوعاً منه وهو تغيير العرب أحكام الله تعالى ، لأنه حكم في وقت بحكم خاص ، فإذا غيَّروا ذلك الوقت فقد غيروا حكم الله.
والشهور : جمع كثرة لما كانت أزيد من عشرة ، بخلاف قوله : { الحج أشهر معلومات } فجاء بلفظ جمع القلة ، والمعنى : شهور السنة القمرية ، لأنهم كانوا يؤرخون بالسنة القمرية لا شمسية ، توارثوه عن اسماعيل وابراهيم.
ومعنى عند الله : أي ، في حكمه وتقديره كما تقول : هذا عند أبي حنيفة.
وقيل : التقدير عدة الشهور التي تسمى سنة واثنا عشر ، لأنهم جعلوا أشهر العام ثلاثة عشر.
وقرأ ابن القعقاع وهبيرة عن حفص : بإسكان العين مع إثبات الألف ، وهو جمع بين ساكنين على غير حدة ، كما روي : التقت حلقتا البطان بإثبات ألف حلقتا.
وقرأ طلحة : بإسكان الشين ، وانتصب شهراً على التمييز المؤكد كقولك : عندي من الرجال عشرون رجلاً.
ومعنى في كتاب الله قال ابن عباس : هو اللوح المحفوظ.
وقيل : في إيجاب الله.
وقيل : في حكمه.
وقيل : في القرآن ، لأن السنة المعتبرة في هذه الشريعة هي السنة القمرية ، وهذا الحكم في القرآن.
قال تعالى : { والقمر نوراً وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب } وقال : { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } قال ابن عطية : أي فيما كتبه وأثبته في اللوح المحفوظ وغيره ، فهي صفة فعل مثل خلقه ورزقه ، وليس بمعنى قضائه وتقديره ، لأن تلك هي قبل خلق السماوات والأرض انتهى.
وعند الله متعلق بعدة.
وقال الحوفي : في كتاب الله متعلق بعدة ، يوم خلق السماوات والأرض متعلق أيضاً بعدّة.
وقال أبو علي : لا يجوز أن يتعلق قوله في كتاب الله بعدة ، لأنه يقتضي الفصل بين الصلة والموصول بالخبر الذي هو اثنا عشر شهراً ، ولأنه لا يجوز انتهى.
وهو كلام صحيح.
وقال أبو البقاء : عدة مصدر مثل العدد ، وفي كتاب الله صفة لاثنا عشر ، ويوم معمول لكتاب على أن يكون مصدراً لا جثة ، ويجوز أن يكون جثة ، ويكون العامل في يوم معنى الاستقرار انتهى.
وقيل : انتصب يوم بفعل محذوف أي : كتب ذلك يوم خلق السماوات ، ولما كانت أشياء توصف بكونها عند الله ولا يقال فيها أنها مكتوبة في كتاب الله كقوله : { إن الله عنده علم الساعة } جمع هنا بينهما ، إذ لا تعارض والضمير في منها عائد على اثنا عشر لأنه أقرب ، لا على الشهور وهي في موضع الصفة لاثنا عشر ، وفي موضع الحال من ضمير في مستقر.
وأربعة حرم سميت حرماً لتحريم القتال فيها ، أو لتعظيم انتهاك المحارم فيها.
وتسكين الراء لغة.
وذكر ابن قتيبة عن بعضهم أنها الأشهر التي أجل المشركون فيها أن يسيحوا ، والصحيح : أنها رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم.

وأولها عند كثير من العلماء رجب ، فيكون من سنتين.
وقال قوم : أولها المحرم ، فيكون من سنة واحدة.
ذلك الدين القيم أي : القضاء المستقيم ، قاله ابن عباس.
وقيل : العدد الصحيح.
وقيل : الشرع القويم ، إذ هو دين ابراهيم.
فلا تظلموا فيهن أنفسكم ، الضمير في فيهن عائد على الاثنا عشر شهراً ، قاله ابن عباس : والمعنى : لا تجعلوا حلالاً حراماً ، ولا حراماً حلالاً كفعل النسيء.
ويؤيده كون الظلم منهياً عنه في كل وقت لا يختص بالأربع الحرم.
وقال قتادة والفراء : هو عائد على الأربعة الحرم ، نهى عن المظالم فيها تشريفاً لها وتعظيماً بالتخصيص بالذكر ، وإن كانت المظالم منهياً عنها في كل زمان.
وقال الزمخشري : فلا تظلموا فيهن أي : في الأشهر الحرم ، أي : تجعلوا حرامها حلالاً.
وعن عطاء الخراساني : أحلت القتال في الأشهر الحرم براءة من الله ورسوله.
وقيل : معناه لا تأثموا فيهن بياناً لعظم حرمتهن ، كما عظم أشهر الحج بقوله تعالى : { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } وإن كان ذلك محرماً في سائر الشهور انتهى.
ويؤيد عوده على الأربعة الحرم كونها أقرب مذكور ، وكون الضمير جاء بلفظ فيهن ، ولم يجىء بلفظ فيها كما جاء منها أربعة حرم ، لأنه قد تقرر في علم العربية أن الهاء تكون لما زاد على العشرة تعامل في الضمير معاملة الواحدة المؤنثة فتقول : الجذوع انكسرت ، وأنّ النون والهاء والنون للعشرة فما دونها إلى الثلاثة تقول : الأجذاع انكسرن ، هذا هو الصحيح.
وقد يعكس قليلاً فتقول : الجذوع انكسرن ، والاجذاع انكسرت ، والظلم بالمعاصي أو بالنسيء في تحليل شهر محرم وتحريم شهر حلال ، أو بالبداءة بالقتال ، أو بترك المحارم لعددكم أقوال.
وانتصب كافة على الحال من الفاعل أو من المفعول ، ومعناه جميعاً.
ولا يثنى ، ولا يجمع ، ولا تدخله أل ، ولا يتصرف فيها بغير الحال.
وتقدم بسط الكلام فيها في قوله : { ادخلوا في السلم كافة } فأغنى عن إعادته.
والمعية بالنصر والتأييد ، وفي ضمنه الأمر بالتقوى والحث عليها.
{ إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين } : يقال : نسأه وأنسأه إذا أخَّره ، حكاه الكسائي.
قال الجوهري وأبو حاتم : النسيء فعيل بمعنى مفعول ، من نسأت الشيء فهو منسوء إذا أخرته ، ثم حول إلى نسيء كما حول مقتول إلى قتيل.
ورجل ناسىء ، وقوم نسأة ، مثل فاسق وفسقة انتهى.
وقيل : النسيء مصدر من أنسأ ، كالنذير من أنذر ، والنكير من أنكر ، وهو ظاهر قول الزمخشري لأنه قال : النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر.
وقال الطبري : النسيء بالهمز معناه الزيادة انتهى.
فإذا قلت : أنسأ الله؛ الله أجله بمعنى أخَّر ، لزم من ذلك الزيادة في الأجل ، فليس النسيء مرادفاً للزيادة ، بل قد يكون منفرداً عنها في بعض المواضع.

وإذا كان النسيء مصدراً كان الإخبار عنه بمصدر واضحاً ، وإذا كان بمعنى مفعول فلا بد من إضمار إما في النسيء أي : إن نسأ النسيء ، أو في زيادة أي : ذو زيادة.
وبتقدير هذا الإضمار يرد على ما يرد على قوله.
ولا يجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول ، لأنه يكون المعنى : إنما المؤخر زيادة ، والمؤخر الشهر ، ولا يكون الشهر زيادة في الكفر.
وقرأ الجمهور : النسيء مهموز على وزن فعيل.
وقرأ الزهري وحميد وأبو جعفر وورش عن نافع والحلواني : النسيّ بتشديد الياء من غير همز ، وروى ذلك عن ابن كثير سهل الهمزة بإبدالها ياء ، وأدغم الياء فيها ، كما فعلوا في نبىء وخطيئة فقالوا : نبي وخطية بالإبدال والإدغام.
وفي كتاب اللوامح قرأ جعفر بن محمد والزهري.
وقرأ السلمي وطلحة والأشهب وشبل : النسء بإسكان السين.
والأشهب : النسي بالياء من غير همز مثل الندى ، وقرأ مجاهد : النسوءعلى وزن فعول بفتح الفاء ، وهو التأخير.
ورويت هذه عن طلحة والسلمي.
وقول أبي وائل : إنّ النسيء رجل من بني كنانة قول ضعيف.
وقول الشاعر :
أنسنا الناسئين على معدّ . . .
شهور الحل نجعلها حراما
وقال آخر :
نسؤ الشهور بها وكانوا أهلها . . .
من قبلكم والعز لم يتحول
وأخبر أنّ النسيء زيادة في الكفر أي : جاءت مع كفرهم بالله ، لأن الكافر إذا أحدث معصية ازداد كفراً.
قال تعالى : { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } كما أنّ المؤمن إذا أحدث طاعة ازداد إيماناً.
قال تعالى : { فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون } وأعاد الضمير في به على النسيء ، لا على لفظ زيادة.
وقرأ ابن مسعود والأخوان وحفص : يضل مبنياً للمفعول ، وهو مناسب لقوله : زين ، وباقي السبعة مبنياً للفاعل.
وابن مسعود في رواية ، والحسن ومجاهد وقتادة وعمرو بن ميمون ويعقوب : يضل أي الله ، أي : يضل به الذين كفروا اتباعهم.
ورويت هذه القراءة عن : الحسن ، والأعمش ، وأبي عمرو ، وأبي رجاء.
وقرأ أبو رجاء : يضل بفتحتين من ضللت بكسر اللام ، أضلَّ بفتح الضاد منقولاً ، فتحها من فتحة اللام إذ الأصل أضلل.
وقرأ النخعي ومحبوب عن الحسن : نُضل بالنون المضمومة وكسر الضاد ، أي : نضل نحن.
ومعنى تحريمهم عاماً وتحليلهم عاماً : لا يرادان ذلك ، كان مداولة في الشهر بعينه عام حلال وعام حرام.
وقد تأول بعض الناس القصة على أنهم كانوا إذا شق عليهم توالي الأشهر الحرم أحل لهم المحرم وحرم صفراً بدلاً من المحرم ، ثم مشت الشهور مستقيمة على أسمائها المعهودة ، فإذا كان من قابل حرم المحرم على حقيقته وأحل صفر ومشت الشهور مستقيمة ، وإنَّ هذه كانت حال القوم.
وتقدم لنا أنّ الذي انتدب أولاً للنسيء القلمس.
وقال ابن عباس وقتادة والضحاك : الذين شرعوا النسيء هم بنو مالك من كنانة وكانوا ثلاثة.

وعن ابن عباس : إنّ أول من فعل ذلك عمرو بن لحيّ ، وهو أول من سيب السوائب ، وغيَّر دين إبراهيم.
وقال الكلبي : أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له : نعيم بن ثعلبة.
والمواطأة : الموافقة ، أي ليوافقوا العدة التي حرم الله وهي الأربعة ولا يخالفونها ، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أصل الواجبين.
والواجبان هما العدد الذي هو أربعة في أشخاص أشهر معلومة وهي : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة والمحرم كما تقدم.
ويقال : تواطؤا على كذا إذا اجتمعوا عليه ، كان كل واحد منهم يطأ حيث يطأ صاحبه.
ومنه الإيطاء في الشعر ، وهو أن يأتي في الشعر بقافيتين على لفظ واحد ومعنى واحد ، وهو عيب إنْ تقارب.
واللام في ليواطئوا متعلقة بقوله : ويحرمونه ، وذلك على طريق الأعمال.
ومَنن قال : إنه متعلق بيحلونه ويحرمونه معاً ، فإنه يريد من حيث المعنى ، لا من حيث الإعراب.
قال ابن عطية : ليحفظوا في كل عام أربعة أشهر في العدد ، فأزالوا الفضيلة التي خص الله بها الأشهر الحرم وحدها ، بمثابة أن يفطر رمضان ، ويصوم شهراً من السنة بغير مرض أو سفر انتهى.
وقرأ الأعمش وأبو جعفر : ليواطيوا بالياء المضمومة لما أبدل من الهمزة ياء عامل البدل معاملة المبدل منه ، والأصح ضم الطاء وحذف الياء لأنه أخلص الهمزة ياء خالصة عند التخفيف ، فكنت لاستثقال الضمة عليها ، وذهبت لالتقاء الساكنين ، وبدلت كسرة الطاء ضمة لأجل الواو التي هي ضمير الجماعة كما قيل في رضيوا رضوا.
وجاء عن الزهري : ليواطيوا بتشديد الياء ، هكذا الترجمة عنه.
قال صاحب اللوامح : فإن لم يرد به شدة بيان الياء وتخليصها من الهمز دون التضعيف ، فلا أعرف وجهه انتهى.
فيحلوا ما حرم الله أي بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص ما حرم الله تعالى من القتال ، أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها.
وقرأ الجمهور : زين لهم سوء أعمالهم مبنياً للمفعول.
والأولى أن يكون المنسوب إليه التزيين الشيطان ، لأن ما أخبر به عنهم سيق في المبالغة في معرض الذم.
وقرأ زيد بن علي : زيِّن لهم سوء بفتح الزاي والياء والهمزة ، والأولى أن يكون زين لهم ذلك الفعل سوء أعمالهم.
قال الزمخشري : خذلهم الله تعالى فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة.
والله لا يهدي أي : لا يلطف بهم ، بل يخذلهم انتهى.
وفيه دسيسة الاعتزال.
وقال أبو علي : لا يهديهم إلى طريق الجنة والثواب.
وقال الأصم : لا يحكم لهم بالهداية.
وقيل : لا يفعل بهم خيراً ، والعرب تسمي كل خير هدى ، وكل شر ضلالة انتهى.
وهذا إخبار عمن سبق في علمه أنهم لا يهتدون.
{ يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } : لما أمر الله رسوله بغزاة تبوك ، وكان زمان جدب وحر شديد وقد طابت الثمار ، عظم ذلك على الناس وأحبوا المقام ، نزلت عتاباً على من تخلف عن هذه الغزوة ، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام ، غزا فيها الروم في عشرين ألفاً من راكب وراجل ، وتخلف عنه قبائل من الناس ورجال من المؤمنين كثير ومنافقون.

وخص الثلاثة بالعتاب الشديد بحسب مكانهم من الصحبة ، إذ هم من أهل بدر وممن يقتدى بهم ، وكان تخلفهم لغير علة حسبما يأتي إن شاء الله تعالى.
ولما شرح معاتب الكفار رغب في مقابلتهم.
وما لكم استفهام معناه الإنكار والتقريع ، وبني قيل للمفعول ، والقائل هو الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر إغلاظاً ومخاشنة لهم وصوناً لذكره.
إذ أخلد إلى الهوينا والدعة : من أخلد وخالف أمره صلى الله عليه وسلم.
وقرأ الأعمش : تثاقلتم وهو أصل قراءة الجمهور اثاقلتم ، وهو ماض بمعنى المضارع ، وهو في موضع الحال ، وهو عامل في إذ أي : ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم انفروا.
وقال أبو البقاء : الماضي هنا بمعنى المضارع أي : ما لكم تتثاقلون ، وموضعه نصب.
أي : أيُّ شيء لكم في التثاقل ، أو في موضع جر على مذهب الخليل انتهى.
وهذا ليس بجيد ، لأنه يلزم منه حذف أنْ ، لأنه لا ينسبك مصدر إلا من حرف مصدري والفعل ، وحذف أنْ في نحو هذا قليل جداً أو ضرورة.
وإذا كان التقدير في التثاقل فلا يمكن عمله في إذا ، لأن معمول المصدر الموصول لا يتقدم عليه فيكون الناصب لإذا ، والمتعلق به في التثاقل ما هو معلوم لكم الواقع خبراً لما.
وقرىء : اثاقلتم على الاستفهام الذي معناه الإنكار والتوبيخ ، ولا يمكن أن يعمل في إذ ما بعد حرف الاستفهام.
فقال الزمخشري : يعمل فيه ما دل عليه ، أو ما في ما لكم من معنى الفعل ، كأنه قال : ما تصنعون إذا قيل لكم ، كما تعمله في الحال إذا قلت : ما لك قائماً.
والأظهر أن يكون التقدير : ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم انفروا ، وحذف لدلالة اثاقلتم عليه.
ومعنى اثاقلتم إلى الأرض : ملتم إلى شهوات الدنيا حين أخرجت الأرض ثمارها قاله مجاهد وكرهتم مشاق السفر.
وقيل ملتم إلى الإقامة بأرضكم قاله : الزجاج.
ولما ضمن معنى الميل والإخلاد عدى بإلى.
وفي قوله : أرضيتم ، نوع من الإنكار والتعجب أي : أرضيتم بالنعيم العاجل في الدنيا الزائل بدل النعيم الباقي.
ومِن تظافرت أقوال المفسرين على أنها بمعنى بدل أي : بدل الآخرة كقوله : { لجعلنا منكم ملائكة } أي بدلاً ، ومنه قول الشاعر :
فليت لنا من ماء زمزم شربة . . .
مبردة باتت على طهيان
أي بدلاً من ماء زمزم ، والطهيان عود ينصب في ناحية الدار للهواء تعلق فيه أوعية الماء حتى تبرد.
وأصحابنا لا يثبتون أن تكون هنُّ للبدل.

ويتعلق في الآخرة بمحذوف التقدير : فما متاع الحياة الدنيا محسوباً في نعيم الآخرة.
وقال الحوفي : في الآخر متعلق بقليل ، وقليل خبر الابتداء.
وصلح أن يعمل في الظرف مقدماً ، لأنّ رائحة الفعل تعمل في الظرف.
ولو قلت : ما زيد عمراً إلا يضرب ، لم يجز.
{ إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير } : هذا سخط على المتثاقلين عظيم ، حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين ، وأنه يهلكهم ويستبدل قوماً آخرين خيراً منهم وأطوع ، وأنه غني عنهم في نصرة دينه ، لا يقدح تثاقلهم فيها شيئاً.
وقيل : يعذبكم بإمساك المطر عنكم.
وروي عن ابن عباس أنه قال : استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلة فقعدت ، فأمسك الله عنها المطر وعذبها بها به.
والمستبدل الموعود بهم ، قال : جماعة أهل اليمن.
وقال ابن جبير : أبناء فارس.
وقال ابن عباس : هم التابعون ، والظاهر مستغن عن التخصيص.
وقال الأصم : معناه أنه تعالى يخرج رسوله من بين أظهرهم إلى المدينة.
قال القاضي : وهذا ضعيف ، لأنّ اللفظ لا دلالة فيه على أنه ينتقل من المدينة إلى غيرها ، ولا يمتنع أن يظهر في المدينة أقواماً يعينونه على الغزو ، ولا يمتنع أن يعينه بأقوام من الملائكة أيضاً حال كونه هناك.
والضمير في : ولا تضروه شيئاً ، عائد على الله تعالى أي : ولا تضروا دينه شيئاً.
وقيل : على الرسول ، لأنه تعالى قد عصمه ووعده بالنصر ، ووعده كائن لا محالة.
ولما رتب على انتفاء نفرهم التعذيب والاستبدال وانتفاء الضرر ، أخبر تعالى أنه على كل شيء تتعلق إرادته به قدير من التعذيب والتغيير وغير ذلك.
{ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } : ألا تنصروه فيه انتفاء النصر بأيّ طريق كان من نفر أو غيره.
وجواب الشرط محذوف تفسيره : فسينصره ، ويدل عليه فقد نصره الله أي : ينصره في المستقبل كما نصره في الماضي.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف يكون قوله تعالى : فقد نصره الله جواباً للشرط؟ ( قلت ) : فيه وجهان : أحدهما : فسينصره ، وذكر معنى ما قدمناه.
والثاني : أنه تعالى أوجب له النصرة وجعله منصوراً في ذلك الوقت فلم يخذل من بعده انتهى.
وهذا لا يظهر منه جواب الشرط ، لأنّ إيجاب النصرة له أمر سبق ، والماضي لا يترتب على المستقبل ، فالذي يظهر الوجه الأول.
ومعنى إخراج الذين كفروا إياه : فعلهم به ما يؤدي إلى الخروج ، والإشارة إلى خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة.
ونسب الإخراج إليهم مجازاً ، كما نسب في قوله : { التي أخرجتك } وقصة خروج الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر مذكورة في السير.

وانتصب ثاني اثنين على الحال أي : أحد اثنين وهما : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر رضي الله عنه.
وروي أنه لما أمر بالخروج قال لجبريل عليه السلام : « من يخرج معي؟ » قال : أبو بكر.
وقال الليث : ما صحب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل أبي بكر.
وقال سفيان بن عيينة : خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله : ألا تنصروه.
قال ابن عطية : بل خرج منها كل من شاهد غزوة تبوك ، وإنما المعاتبة لمن تخلف فقط ، وهذه الآية منوهة بقدر أبي بكر وتقدمه وسابقته في الإسلام.
وفي هذه الآية ترغيبهم في الجهاد ونصرة دين الله ، إذ بين فيها أنّ الله ينصره كما نصره ، إذ كان في الغار وليس معه فيه أحد سوى أبي بكر.
وقرأت فرقة : ثاني اثنين بسكون ياء ثاني.
قال ابن جني : حكاها أبو عمرو ، ووجهه أنه سكن الياء تشبيهاً لها بالألف.
والغار : نقب في أعلى ثور ، وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة ، مكث فيه ثلاثاً.
هذ هما : بدل.
وإذ يقول : بدل ثان.
وقال العلماء : من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر لإنكاره كلام الله تعالى ، وليس ذلك لسائر الصاحبة.
وكان سبب حزن أبي بكر خوفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنهاه الرسول تسكيناً لقلبه ، وأخبره بقوله : إن الله معنا ، يعني : بالمعونة والنصر.
وقال أبو بكر : يا رسول الله إنْ قتلتُ فأنا رجل واحد ، وإنْ قتلْتَ هلكت الأمة وذهب دين الله ، فقال صلى الله عليه وسلم : « ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ » وقال أبو بكر رضي الله عنه :
قال النبي ولم يجزع يوقرني . . .
ونحن في سدف من ظلمة الغار
لا تخش شيئاً فإن الله ثالثنا . . .
وقد تكفل لي منه بإظهار
وإنما كيد من تخشى بوارده . . .
كيد الشياطين قد كادت لكفار
والله مهلكهم طراً بما صنعوا . . .
وجاعل المنتهى منهم إلى النار
{ فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم } قال ابن عباس : السكينة الرحمة.
وقال قتادة في آخرين : الوقار.
وقال ابن قتيبة : الطمأنينة.
وهذه الأقوال متقاربة.
والضمير في عليه عائد على صاحبه ، قاله حبيب بن أبي ثابت ، أو على الرسول قاله الجمهور ، أو عليهما.
وأفرده لتلازمهما ، ويؤيده أنّ في مصحف حفصة : فأنزل الله سكينته عليهما وأيدهما.
والجنود : الملائكة يوم بدر ، والأحزاب ، وحنين.
وقيل : ذلك الوقت يلقون البشارة في قلبه ، ويصرفون وجوه الكفار عنه.
والظاهر أن الضمير عليه عائد على أبي بكر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ثابت الجأش ، ولذلك قال : لا تحزن إن الله معنا.
وأنّ الضمير في وأيده عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء :

{ لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه } يعني الرسول ، وتسبحوه : يعني الله تعالى.
وقال ابن عطية : والسكينة عندي إنما هي ما ينزله الله على أنبيائه من الحياطة لهم ، والخصائص التي لا تصلح إلا لهم كقوله : { فيه سكينة من ربكم } ويحتمل أن يكون قوله : فأنزل الله سكينته إلى آخر الآية يراد به ما صنعه الله لنبيه إلى وقت تبوك من الظهور والفتوح ، لا أن يكون هذا يختص بقصة الغار.
وكلمة الذين كفروا هي الشرك ، وهي مقهورة.
وكلمة الله : هي التوحيد ، وهي ظاهرة.
هذا قول الأكثرين.
وعن ابن عباس : كلمة الكافرين ما قرروا بينهم من الكيد به ليقتلوه ، وكلمة الله : أنه ناصره.
وقيل : كلمة الله لا إله إلا الله ، وكلمة الكفار قولهم في الحرب : يا لبني فلان ، ويا لفلان.
وقيل : كلمة الله قوله تعالى : { لأغلبن أنا ورسلي } وكلمة الذين كفروا قولهم في الحرب : أعل هبل ، يعنون صنمهم الأكبر.
وقرأ مجاهد وأيده والجمهور وأيده بتشديد الياء.
وقرىء : وكلمة الله بالنصب أي : وجعل.
وقراءة الجمهور بالرفع أثبت في الإخبار.
وعن أنس رأيت في مصحف أبيّ : وجعل كلمته هي العلياء ، وناسب الوصف بالعزة الدالة على القهر والغلبة ، والحكمة الدالة على ما يصنع مع أنبيائه وأوليائه ، ومن عاداهم من إعزاز دينه وإخماد الكفر.
{ انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } لما توعد تعالى من لا ينفر مع الرسول صلى الله عليه وسلم وضرب له من الأمثال ما ضرب ، أتبعه بهذا الأمر الجزم.
والمعنى : انفروا على الوصف الذي يحف عليكم فيه الجهاد ، أو على الوصف الذي يثقل.
والخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة ، ومن يمكنه بصعوبة ، وأما من لا يمكنه كالأعمى ونحوه فخارج عن هذا.
وروي أن ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أعليّ أنْ أنفر؟ قال : نعم ، حتى نزلت : { ليس على الأعمى حرج } وذكر المفسرون من معاني الخفة والثقل أشياء لا على وجه التخصيص بعضها دون بعض ، وإنما يحمل ذلك على التمثيل لا على الحصر.
قال الحسن وعكرمة ومجاهد : شباباً وشيوخاً.
وقال أبو صالح : أغنياء وفقراء في اليسر والعسر.
وقال الأوزاعي : ركباناً ومشاة.
وقيل : عكسه.
وقال زيد بن أسلم : عزباناً ومتزوجين.
وقال جويبر : أصحاء ومرضى.
وقال جماعة : خفافاً من السلاح أي مقلين فيه ، وثقالاً أي مستكثرين منه.
وقال الحكم بن عيينة وزيد بن علي : خفافاً من الإشغال وثقالاً بها.
وقال ابن عباس : خفافاً من العيال ، وثقالاً بهم.
وحكى التبريزي : خفافاً من الأتباع والحاشية ، ثقالاً بهم.
وقال علي بن عيسى : هو من خفة اليقين وثقله عند الكراهة.
وحكى الماوردي : خفافاً إلى الطاعة ، وثقالاً عن المخالفة.
وحكى صاحب الفتيان : خفافاً إلى المبارزة ، وثقالاً في المصابرة.

وحكى أيضاً : خفافاً بالمسارعة والمبادرة ، وثقالاً بعد التروي والتفكر.
وقال ابن زيد : وقال ابن زيد : ذوي صنعة وهو الثقيل ، وغير ذوي صنعة وهو الخفيف.
وحكى النقاش : شجعاناً وجبناً.
وقيل : مهازيل وسماتاً.
وقيل : سباقاً إلى الحرب كالطليعة وهو مقدم الجيش ، والثقال الجيش بأسره.
وقال ابن عباس وقتادة : النشيط والكسلان.
والجمهور على أن الأمر موقوف على فرض الكفاية ، ولم يقصد به فرض الأعيان.
وقال الحسن وعكرمة : هو فرض على المؤمنين عنى به فرض الأعيان في تلك المدة ، ثم نسخ بقوله : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } وانتصب خفافاً وثقالاً على الحال.
وذكر بأموالكم وأنفسكم إذ ذلك وصف لأكمل ما يكون من الجهاد وأنفعه عند الله ، فحض على كمال الأوصاف وقدِّمت الأموال إذ هي أول مصرف وقت التجهيز ، وذكر ما المجاهد فيه وهو سبيل الله.
والخيرية هي في الدنيا بغلبة العدو ، ووراثة الأرض ، وفي الآخرة بالثواب ورضوان الله.
وقد غزا أبو طلحة حتى غزا في البحر ومات فيه ، وغزا المقداد على ضخامته وسمنه ، وسعيد بن المسيب وقد ذهبت إحدى عينيه ، وابن أم مكتوم مع كونه أعمى.
{ وكان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون } : أي لو كان ما دعوا إليه غنماً قريباً سهل المنال ، وسفراً قاصداً وسطاً مقارباً.
وهذه الآية في قصة تبوك حين استنفر المؤمنين فنفروا ، واعتذر منهم فريق لأصحابه ، لا سيما من القبائل المجاورة للمدينة.
وليس قوله : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم } خطاباً للمنافقين خاصة ، بل هو عام.
واعتذر المنافقون بأعذار كاذبة ، فابتدأ تعالى بذكر المنافقين وكشف ضمائرهم.
لاتبعوك : لبادروا إليه ، لا لوجه الله ، ولا لظهور كلمته ، ولكن بعدت عليهم الشقة أي : المسافة الطويلة في غزو الرّوم.
والشّقة بالضم من الثياب ، والشقة أيضاً السفر البعيد ، وربما قالوه بالكسر قاله : الجوهري.
وقال الزجاج : الشقة الغاية التي تقصد.
وقال ابن عيسى : الشقة القطعة من الأرض يشق ركوبها.
وقال ابن فارس : الشقة المسير إلى أرض بعيدة ، واشتقاقها منه الشق ، أو من المشقة.
وقرأ عيسى بن عمر : بعدت عليهم الشِّقِة بكسر العين والشين ، وافقه الأعرج في بعدت.
وقال أبو حاتم : إنها لغة بني تميم في اللفظين انتهى.
وحكى الكسائي : شقة وشقة.
وسيحلفون : أي المنافقون ، وهذا إخبار بغيب.
قال الزمخشري في قوله : وسيحلفون بالله ، ما نصه بالله متعلق بسيحلفون ، أو هو من كلامهم.
والقول مراد في الوجهين أي : سيحلفون متخلصين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين ، يقولون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم ، أو وسيحلفون بالله يقولون لو استطعنا.
وقوله : لخرجنا سدَّ مسدَّ جواب القسم.
ولو جميعاً والإخبار بما سوف يكون بعد القول من حلفهم واعتذارهم ، وقد كان من جملة المعجزات.

ومعنى الاستطاعة استطاعة العدة ، واستطاعة الأبدان ، كأنهم تمارضوا انتهى.
وما ذهب إليه من أنّ قوله : لخرجنا ، سدَّ مسدَّ جواب القسم.
ولو جميعاً ليس بجيد ، بل للنحويين في هذا مذهبان : أحدهما : إن لخرجنا هو جواب القسم ، وجواب لو محذوف على قاعدة اجتماع القسم والشرط إذا تقدم القسم على الشرط ، وهذا اختيار أبي الحسن بن عصفور.
والآخران لخرجنا هو جواب لو ، وجواب القسم هو لو وجوابها ، وهذا اختيار ابن مالك.
إنْ لخرجنا يسد مسدهما ، فلا أعلم أحداً ذهب إلى ذلك.
ويحتمل أن يتأوّل كلامه على أنه لما حذف جواب لو ، ودل عليه جواب القسم جعل ، كأنه سدَّ مسدَّ جواب القسم وجواب لو جميعاً.
وقرأ الأعمش وزيد بن علي : لوُ استطعنا بضم الواو ، وفرّ من ثقل الكسرة على الواو وشبهها بواو الجمع عند تحريكها لالتقاء الساكنين.
وقرأ الحسن : بفتحها كما جاء : { اشتروا الضلالة } بالأوجه الثلاثة يهلكون أنفسهم بالحلف الكاذب ، أي : يوقعونها في الهلاك به.
والظاهر أنها جملة استئناف إخبار منه تعالى.
وقال الزمخشري : يهلكون أنفسهم إما أن يكون بدلاً من سيحلفون ، أو حالاً بمعنى مهلكين.
والمعنى : أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب ، وما يخلفون عليه من التخلف.
ويحتمل أن يكون حالاً من قوله : لخرجنا أي ، لخرجنا معكم وإنْ أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما يحملها من المسير في تلك الشقة ، وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم.
ألا ترى أنه لو قيل : سيلحفون بالله لو استطاعوا لخرجوا لكان سديداً؟ يقال : حلف بالله ليفعلن ولأفعلن ، فالغيبة على حكم الإخبار ، والتكلم على الحكام انتهى.
أما كون يهلكون بدلاً من سيحلفون فبعيد ، لأن الإهلاك ليس مرادفاً للحلف ، ولا هو نوع من الحلف ، ولا يجوز أنْ يبدل فعل من فعل إلا أن يكون مرادفاً له أو نوعاً منه.
وأما كونه حالاً من قوله : لخرجنا ، فالذي يظهر أن ذلك لا يجوز ، لأن قوله لخرجنا فيه ضمير التكلم ، فالذي يجري عليه إنما يكون بضمير المتكلم.
فلو كان حالاً من ضمير لخرجنا لكان التركيب : نهلكُ أنفسنا أي : مهلكي أنفسنا.
وأما قياسه ذلك على حلف بالله ليفعلنَّ ولأفعلنَّ فليس بصحيح ، لأنه إذا أجراه على ضمير الغيبة لا يخرج منهم إلى ضمير المتكلم ، لو قلت : حلف زيد ليفعلن وأنا قائم ، على أن يكون وأنا قائم حالاً من ضمير ليفعلن لم يجز ، وكذا عكسه نحو : حلف زيد لأفعلن يقوم ، تريد قائماً لم يجز.
وأما قوله : وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم فهي مغالطة ليس مخبراً عنهم بقوله : لو استطعنا لخرجنا معكم ، بل هو حاك لفظ قولهم.
ثم قال : ألا ترى لو قيل : لو استطاعوا لخرجوا لكان سديداً إلى آخره كلام صحيح ، لكنه تعالى لم يقل ذلك إخباراً عنهم ، بل حكاية.

والحال من جملة كلامهم المحكي ، فلا يجوز أن يخالف بين ذي الحال وحاله لاشتراكهما في العامل.
لو قلت : قال زيد : خرجت يضرب خالداً ، تريد اضرب خالداً ، لم يجز.
ولو قلت : قالت هند : خرج زيد أضرب خالداً ، تريد خرج زيد ضارباً خالداً ، لم يجز.
{ عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين } : قال ابن عطية : هذه الآية في صنف مبالغ في النفاق.
واستأذنوا دون اعتذار منهم : عبد الله بن أبيّ ، والجد بن قيس ، ورفاعة بن التابوت ، ومن اتبعهم.
فقال بعضهم : ائذن لي ولا تفتني.
وقال بعضهم : ائذن لنا في الإقامة ، فأذن لهم استبقاءً منه عليهم ، وأخذا بالأسهل من الأمور ، وتوكلا على الله.
قال مجاهد : قال بعضهم : نستأذنه ، فإن أذن في القعود قعدنا ، وإن لم يأذن فعدنا ، فنزلت الآية في ذلك انتهى.
وقال أبو عبد الله إبراهيم بن عرفة النجوي الداودي المنبوذ بنفطويه : ذهب ناس إلى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم معاتب بهذه الآية ، وحاشاه من ذلك ، بل كان له أن يفعل وأن لا يفعل حتى ينزل عليه الوحي كما قال : « لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة » لأنه كان له أن يفعل وأن لا يفعل.
وقد قال الله تعالى : { تُرجي من تشاء منهن وتؤوي إِليك من تشاء } لأنه كان له أن يفعل ما يشاء مما لم ينزل عليه فيه وحي.
واستأذنه المخلفون في التخلف واعتذروا ، اختار أيسر الأمرين تكرماً وتفضلاً منه صلى الله عليه وسلم ، فأبان الله تعالى أنه لو لم يأذن لهم لأقاموا للنفاق الذي في قلوبهم ، وأنهم كاذبون في إظهار الطاعة والمشاورة ، فعفا الله عنك عنده افتتاح كلام أعلمه الله به ، أنه لا حرج عليه فيما فعله من الإذن ، وليس هو عفواً عن ذنب ، إنما هو أنه تعالى أعلمه أنه لا يلزمه ترك الإذن لهم كما قال صلى الله عليه وسلم : « عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق » وما وجبتا قط ومعناه : ترك أن يلزمكم ذلك انتهى.
ووافقه عليه قوم فقالوا : ذكر العفو هنا لم يكن عن تقدم ذنب ، وإنما هو استفتاح كلام جرت عادة العربان تخاطب بمثله لمن تعظمه وترفع من قدره ، يقصدون بذلك الدعاء له فيقولون : أصلح الله الأمير كان كذا وكذا ، فعلى هذا صيغته صيغة الخبر ، ومعناه الدعاء انتهى.
ولم ولهم متعلقان بأذنت ، لكنه اختلف مدلول اللامين ، إذ لام لم للتعليل ، ولام لهم للتبليغ ، فجاز ذلك لاختلاف معنييهما.
ومتعلق الإذن غير مذكور ، فما قدمناه يدل على أنه القعود أي : لم أذنت لهم في القعود والتخلف عن الغزو حتى تعرف ذوي العذر في التخلف ممن لا عذر له.
وقيل : متعلق الإذن هو الخروج معه للغزو ، لما ترتب على خروجهم من المفاسد ، لأنهم كانوا عيناً للكفار على المسلمين.

ويدل عليه قوله : { وفيكم سماعون لهم } وكانوا يخذلون المؤمنين ويتمنون أن تكون الدائرة عليهم فقيل : لم أذنت لهم في إخراجهم وهم على هذه الحالة السيئة؟ وبيّن أنّ خروجهم معه ليس مصلحة بقوله : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً } وحتى غاية لما تضمنه الاستفهام أي : ما كان أن تأذن لهم حتى يتبين من له العذر ، هكذا قدره الحوفي.
وقال أبو البقاء : حتى يتبين متعلق بمحذوف دل عليه الكلام تقديره : هلاّ أخرتهم إلى أن يتبين أو ليتبين.
وقوله : لم أذنت لهم يدل على المحذوف.
ولا يجوز أن تتعلق حتى بأذنت ، لأن ذلك يوجب أن يكون أذن لهم إلى هذه الغاية ، أو لأجل التبيين ، وهذا لا يعاتب عليه انتهى.
وكلام الزمخشري في تفسير قوله : عفا الله عنك لم أذنت لهم ، مما يجب اطراحه ، فضلاً عن أن يذكر فيردّ عليه.
وقوله : الذين صدقوا أي : في استئذانك.
وأنك لو لم تأذن لهم خرجوا معك.
وتعلم الكاذبين : تريد في أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفون عند حدك وهم كذبة ، وقد عزموا على العصيان أذنت لهم أو لم تأذن.
وقال الطبري : حتى نعلم الصادقين في أنّ لهم عذراً ، ونعلم الكاذبين في أنْ الأعذار لهم.
وقال قتادة : نزلت بعد هذه الآية آية النور ، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذنْ لمن شئت منهم.
وهذا غلط ، لأنّ النور نزلت سنة أربع من الهجرة في غزوة الخندق في استئذان بعض المؤمنين الرسول في بعض شأنهم في بيوتهم في بعض الأوقات ، فأباح الله أن يأذن ، فتباينت الآيتان في الوقت والمعنى.
{ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين } : قال ابن عباس : لا يستأذنك أي بعد غزوة تبوك.
وقال الجمهور : ليس كذلك ، لأنّ ما قبل هذه الآية وما بعدها ورد في قصة تبوك ، والظاهر أن متعلق الاستئذان هو أن يجاهدوا أي : ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا ، وكان الخلص من المهاجرين والأنصار لا يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم أبداً ، ويقولون : لنجاهدن معه بأموالنا وأنفسنا.
وقيل : التقدير لا يستأذنك المؤمنون في الخروج ولا القعود كراهة أن يجاهدوا ، بل إذا أمرت بشيء ابتدروا إليه ، وكان الاستئذان في ذلك الوقت علامة على النفاق.
وقوله : والله عليم بالمتقين ، شهادة لهم بالانتظام في زمرة المتقين ، وعدة لهم بأجزل الثواب.
{ إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يتردّدون } : هم المنافقون وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً.
ومعنى ارتابت : شكت.
ويتردّدون : يتحيرون ، لا يتجه لهم هدى فتارة يخطر لهم صحة أمر الرسول ، وتارة يخطر لهم خلاف ذلك.
{ ولو أرادوا الخروج لأعَدّوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين } قال ابن عباس : عدّة من الزاد والماء والراحلة ، لأنّ سفرهم بعيد في زمان حر شديد.

وفي تركهم العدّة دليل على أنهم أرادوا التخلف.
وقال قوم : كانوا قادرين على تحصيل العدّة والإهبة.
وروى الضحاك عن ابن عباس : العدّة النية الخالصة في الجهاد.
وحكى الطبري : كل ما يعد للقتال من الزاد والسلاح.
وقرأ محمد بن عبد الملك بن مروان وابنه معاوية : عُدَّ بضم العين من غير تاء ، والفراء يقول : تسقط التاء للإضافة ، وجعل من ذلك وإقام الصلاة أي وإقامة الصلاة.
وورد ذلك في عدة أبيات من لسان العرب ، ولكن لا يقيس ذلك ، إنما نقف فيه مع مورد السماع.
قال صاحب اللوامح : لما أضاف جعل الكناية تائبة عن التاء فأسقطها ، وذلك لأنّ العد بغير تاء ، ولا تقديرها هو البثر الذي يخرج في الوجه.
وقال أبو حاتم : هو جمع عدة كبرة وبر ودرة ودر ، الوجه فيه عدد ، ولكن لا يوافق خط المصحف.
وقرأ ذر بن حبيش وإبان عن عاصم : عده بكسر العين ، وهاء إضمار.
قال ابن عطية : وهو عندي اسم لما يعد كالذبح والقتل للعد ، وسمي قتلاً إذ حقه أن يقتل.
وقرىء أيضاً : عبة بكسر العين ، وبالتاء دون إضافة أي : عدة من الزاد والسلاح ، أو مما لهم مأخوذ من العدد.
ولما تضمنت الجملة انتفاء الخروج والاستعداد ، وجاء بعدها ولكن ، وكانت لا تقع إلا بين نقيضين أو ضدين أو خلافين على خلاف فيه ، لا بين متفقين ، وكان ظاهر ما بعد لكن موافقاً لما قبلها.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف موقع حرف الاستدراك؟ ( قلت ) : لما كان قوله : ولو أرادوا الخروج معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو.
قيل : ولكن كره الله انبعاثهم ، كأنه قيل : ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم ، كما تقول : ما أحسن إليّ زيد ولكن أساء إليّ انتهى.
وليست الآية نظير هذا المثال ، لأنّ المثال واقع فيه لكن بين ضدين ، والآية واقع فيها لكن بين متفقين من جهة المعنى ، والانبعاث الانطلاق والنهوض.
قال ابن عباس : فثبطهم كسلهم وفتر نياتهم.
وبنى وقيل للمفعول ، فاحتمل أن يكون القول : أذن الرسول لهم في القعود ، أو قول بعضهم لبعض إما لفظاً وإما معنى ، أو حكاية عن قول الله في سابق قضائه.
وقال الزمخشري : جعل القاء الله تعالى في قلوبهم كراهة الخروج أمراً بالقعود.
وقيل : هو من قول الشيطان بالوسوسة.
قال : ( فإن قلت ) : كيف جاز أن يوقع الله تعالى في نفوسهم كراهة الخروج إلى الغزو وهي قبيحة ، وتعالى الله عن إلهام القبيح.
( قلت ) : خروجهم كان مفسدة لقوله تعالى : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً } فكان إيقاع كراهة ذلك الخروج في نفوسهم حسناً ومصلحة انتهى.
وهذا السؤال والجواب على طريقة الاعتزال في المفسدة والمصلحة ، وهذا القول هو ذمٌّ لهم وتعجيز ، وإلحاق بالنساء والصبيان والزني الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت ، وهم القاعدون والخلفون والخوالف ، ويبينه قوله تعالى :

{ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } والقعود هنا عبارة عن التخلف والتراخي كما قال :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها . . .
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
{ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين } : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع ، وضرب عبد الله بن أبيّ عسكره أسفل منها ، ولم يكن بأقل العسكرين ، فلما سار تخلف عنه عبد الله فيمن تخلف فنزلت بعرى الله ورسوله إلى قوله : وهم كارهون.
وفيكم أي : في جيشكم أو في جملتكم.
وقيل : في بمعنى مع.
قال ابن عباس : الخبال الفساد ومراعاة إخماد الكلمة.
وقال الضحاك : المكر والغدر.
وقال ابن عيسى : الاضطراب.
وقال الكلبي : الشر ، وقاله : ابن قتيبة.
وقيل : إيقاع الاختلاف والأراجيف ، وتقدّم شرح الخبال في آل عمران.
وهذا الاستثناء متصل وهو مفرغ ، إذ المفعول الثاني لزاد لم يذكر ، وقد كان في هذه الغزوة منافقون كثير ، ولهم لا شك خبال ، فلو خرج هؤلاء لتألبوا فزاد الخبال.
وقال الزمخشري : المستثنى منه غير مذكور ، فالاستثناء من أعم العام الذي هو الشيء ، فكان هو استثناء متصلاً لأنّ بعض أعم العام ، كأنه قيل : ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً.
وقيل : هو استثناء منقطع ، وهذا قول من قال : إنه لم يكن في عسكر الرسول خبال.
فالمعنى : ما زادوكم قوة ولا شدة لكن خبالاً.
وقرأ ابن أبي عبلة : ما زادوكم بغير واو ، ويعني : ما زادكم خروجهم إلا خبالاً.
والإيضاع الإسراع قال :
أرانا موضعين لأمر غريب . . .
ونسحر بالطعام وبالشراب
ويقال : وضعت الناقة تضع وضعاً ووضوعاً قال :
يا ليتني فيها جذع . . .
أخب فيها وأضع
قال الحسن : معناه لأسرعوا بالنميمة.
وقرأ محمد بن القاسم : لأسرعوا بالفرار.
ومفعول أوضعوا محذوف تقديره : ولأوضعوا ركائبكم بينكم ، لأن الراكب أسرع من الماشي.
وقرأ مجاهد ومحمد بن زيد : ولأوفضوا أي أسرعوا كقوله : { إلى نصيب يوفضون } وقرأ ابن الزبير : ولأرفضوا بالراء من رفض أسرع في مشيه رفضاً ورفضاناً قال حسان :
بزجاجة رفضت بما في جوفها . . .
رفض القلوص براكب مستعجل
وقال غيره :
والرافضات إلى منى فالقبقب . . .
والخلاف جمع الخلل ، وهو الفرجة بين الشيئين.
وقال الأصمعي : تخللت القوم دخلت بين خللهم وخلالهم ، وجلسنا خلال البيوت وخلال الدور أي : بينها ، ويبغون حال أي : باغين.
قال الفراء : يبغونها لكم.
والفتنة هنا الكفر قاله : مقاتل ، وابن قتيبة ، والضحاك.
أو العيب والشر قاله : الكلبي.
أو تفريق الجماعة أو المحنة باختلاف الكلمة أو النميمة.
وقال الزمخشري : يحاولون أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم ، ويفسدوا نياتكم في مغزاكم.
وفيكم سماعون لهم أي : ضامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم ، أو فيكم قوم يستمعون للمنافقين ويطيعونهم انتهى.

فاللام في القول الأول للعليل ، وفي الثاني لتقوية التعدية كقوله : { فعال لما يريد } والقول الأول قاله : سفيان بن عيينة ، والحسن ، ومجاهد ، وابن زيد ، قالوا : معناه جواسيس يستمعون الأخبار وينقلونها إليهم ، ورجحه الطبري.
والقول الثاني قول الجمهور قالوا : معناه وفيكم مطيعون سماعون لهم.
ومعنى وفيكم في خلالكم منهم ، أو منكم ممن قرب عهده بالإسلام.
والله عليم بالظالمين يعم كل ظالم.
ومعنى ذلك : أنه يجازيه على ظلمه.
واندرج فيه من يقبل كلام المنافقين ، ومن يؤدي إليهم أخبار المؤمنين ، ومن تخلف عن هذه الغزاة من المنافقين.
{ لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون } تقدّم ذكر السبب في نزول هذه الآية والتي قبلها من قصة رجوع عبد الله بن أبي وأصحابه في هذه الغزاة ، حقّر شأنهم في هذه الآية ، وأخبر أنهم قديماً سعوا على الإسلام فأبطل الله سعيهم ، وفي الأمور المقلبة أقوال.
قال ابن عباس : بغوا لك الغوائل.
وقال ابن جريج : وقف اثنا عشر من المنافقين على التثنية ليلة العقبة كي يفتكوا به.
وقال أبو سليمان الدمشقي : احتالوا في تشتيت أمرك وإبطال دينك.
قال ابن جريج : كانصراف ابن أبيّ يوم أحد بأصحابه.
ومعنى من قبل أي : منن قبل هذه الغزاة ، وذلك ما كان من حالهم وقت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجوعهم عنه في أحد وغيرها.
وتقليب الأمور : هو تدبيرها ظهر البطن ، والنظر في نواحيها وأقسامها ، والسعي بكل حيلة.
وقيل : طلب المكيدة من قولهم : هو حول قلب.
وقرأ مسلمة بن محارب : وقلبوا بتخفيف اللام.
حتى جاء الحق أي : القرآن وشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولفظة جاء مشعرة بأنه كان قد ذهب.
وظهر أمر الله وصفه بالظهور لأنه كان كالمستور أي : غلب وعلا دين الله.
وهم كارهون لمجيء الحق وظهور دين الله.
وفي ذلك تنبيه على أنه لا تأثير لمكرهم وكيدهم ، ومبالغتهم في إثارة الشر فإنهم مذ راموا ذلك رده الله في نحرهم ، وقلب مرادهم ، وأتى بضد مقصودهم ، فكما كان ذلك في الماضي كذا يكون في المستقبل.
{ ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } : نزلت في الجد بن قيس ، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بالغزو إلى بلاد الروم حرض الناس فقال للجد بن قيس : « هل لك العام في جلاد بني الأصفر » وقال له وللناس : « اغزوا تغنموا بنات الأصفر » فقال الجد : ائذن لي في التخلف ولا تفتني بذكر بنات الأصفر ، فقد علم قومي أني لا أتمالك عن النساء إذا رأيتهم وتفتني ، ولا تفتني بالنساء.

هو قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد.
وقيل : ولا تفتني أي ولا تصعب عليّ حتى احتاج إلى مواقعة معصيتك فسهِّل عليّ ، ودعني غير مختلج.
وقال قريباً منه الحسن وقتادة والزجاج قالوا : لا تكسبني الإثم بأمرك إياي بالخروج وهو غير متيسر لي ، فآثم بمخالفتك.
وقال الضحاك : لا تكفرني بإلزامك الخروج معك.
وقال ابن بحر : لا تصرفني عن شغلي معك هلك مالي وعيالي.
وقيل : إنه قال : ولكنْ أعينك بمالي.
ومتعلق الإذن محذوف تقديره : في القعود وفي مجاورته الرسول صلى الله عليه وسلم على نفاقه.
وقرأ ورش : بتخفيف همزة إئذن لي بإبدالها واواً لضمة ما قبلها.
وقال النحاس ما معناه : إذا دخلت الواو أو الفاء على أأئذن ، فهجاؤها في الخط ألف وذال ونون بغير ياء ، أو ثم فالهجاء ألف وياء وذال ونون ، والفرق أنَّ ثم يوقف عليها وتنفصل بخلافهما.
وقرأ عيسى بن عمرو : لا تفتني بضم التاء الأولى من أفتن.
قال أبو حاتم هي لغة تميم ، وهي أيضاً قراءة ابن السميفع ، ونسبها ابن مجاهد إلى إسماعيل المكي.
وجمع الشاعر بين اللغتين فقال :
لئن فتنتني فهي بالأمس أفتنت . . .
سعيداً فأمسى قد قلا كل مسلم
والفتنة التي سقطوا فيها هي فتنة التخلف ، وظهور كفرهم ، ونفاقهم.
ولفظة سقطوا تنبىء عن تمكن وقوعهم فيها.
وقال قتادة : الإثم بخلافهم الرسول في أمره ، وإحاطة جهنم بهم إما يوم القيامة ، أو الآن على سبيل المجاز.
لأنّ أسباب الإحاطة معهم فكأنهم في وسطها ، أو لأنّ مصيرهم إليها.
{ إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون } : قال ابن عباس : الحسنة في يوم بدر ، والمصيبة يوم أحد.
وينبغي أن يحمل قوله على التمثيل ، واللفظ عام في كل محبوب ومكروه ، وسياق الحمل يقتضي أن يكون ذلك في الغزو ، ولذلك قالوا : الحسنة الظفر والغنيمة ، والمصيبة الخيبة والهزيمة ، مثل ما جرى في أول غزوة أحد.
ومعنى أمرنا الذي نحن متسمون به من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم في التخلف عن الغزو ، من قبل ما وقع من المصيبة.
ويحتمل أن يكون التولي حقيقة أي : ويتولوا عن مقام التحديث بذلك ، والاجتماع له إلى أهليهم وهم مسرورون.
وقيل : أعرضوا عن الإيمان.
وقيل : عن الرسول ، فيكون التولي مجازاً.
{ قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون } : قرأ ابن مسعود وابن مصرف : هل يصيبنا مكان لن يصيبنا.
وقرأ ابن مصرف أيضاً وأعين قاضي الرّي : هل يصيبنا بتشديد الياء ، وهو مضارع فيعل نحو : بيطر ، لا مضارع فعل ، إذ لو كان كذلك لكان صوّب مضاعف العين.
قالوا : صوب رأيه لما بناه على فعل ، لأنه من ذوات الواو.
وقالوا : صاب يصوب ومصاوب جمع مصيبة ، وبعض العرب يقول : صاب السهم يصيب ، جعله من ذوات الياء ، فعلى هذا يجوز أن يكون يصيبنا مضارع صيب على وزن فعل ، والصيب يحتمل أن يكون كسيدوكلين.

وقال عمرو بن شقيق : سمعت أعين قاضي الري يقول : قل لن يصيبنا بتشديد النون.
قال أبو حاتم : ولا يجوز ذلك ، لأن النون لا تدخل مع لن ، ولو كانت لطلحة بن مصرف الحارث ، لأنها مع هل.
قال تعالى : { هل يذهبن كيده ما يغيظ } انتهى.
ووجه هذه القراءة تشبيه لن بلا وبلم ، وقد سمع لحاق هذه النون بلا وبلم ، فلما شاركتهما لن في النفي لحقت معها نون التوكيد ، وهذا توجيه شذوذ.
أي : ما أصابنا فليس منكم ولا بكم ، بل الله هو الذي أصابنا وكتب أي : في اللوح المحفوظ أو في القرآن من الوعد بالنصر ، ومضاعفة الأجر على المصيبة ، أو ما قضى وحكم ثلاثة أقوال : هو مولانا ، أي ناصرنا وحافظنا قاله الجمهور.
وقال الكلبي : أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة.
وقيل : مالكنا وسيدنا ، فلهذا يتصرف كيف شاء.
فيجب الرضا بما يصدر من جهته.
وقال ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا ، وأن الكافرين لا مولى لهم ، فهو مولانا الذي يتولانا ونتولاه.
{ قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون } : أي ما ينتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين ، كل واحدة منهما هي الحسنى من العواقب : إما النصرة ، وإما الشهادة.
فالنصرة مآلها إلى الغلبة والاستيلاء ، والشهادة مآلها إلى الجنة.
وقال ابن عباس : إنّ الحسينيين الغنيمة والشهادة.
وقيل : الأجر والغنيمة.
وقيل : الشهادة والمغفرة.
وفي الحديث : « تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله ، وتصديق كلمته أن يدخل الجنة ، أو رجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة ، والعذاب من عند الله » قال ابن عباس : هو هنا الصواعق.
وقال ابن جريج : الموت.
وقيل : قارعة من السماء تهلكهم كما نزلت على عاد وثمود.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون توعداً بعذاب الآخرة ، أو بأيدينا بالقتل على الكفر.
فتربصوا مواعيد الشيطان إنا معكم متربصون إظهار دينه واستئصال من خالفه ، قاله الحسن.
وقال الزمخشري : فتربصوا بنا ما ذكرنا من عواقبنا أنا معكم متربصون ما هو عاقبتكم ، فلا بد أنْ نلقى كلنا ما نتربصه لا نتجاوزه انتهى.
وهو أمر يتضمن التهديد والوعيد.
وقرأ ابن محيصن الأحدي : بإسقاط الهمزة.
قال ابن عطية : فوصل ألف إحدى وهذه لغة وليست بالقياس ، وهذا نحو قول الشاعر :
يابا المغيرة رب أمر معضل . . .
ونحو قول الآخر :
إن لم أقاتل فالبسني برقعا . . .
انتهى.
{ قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوماً فاسقين } : قرأ الأعمش وابن وثاب : كرهاً بضم الكاف ، ويعني : في سبيل الله ووجوه البر.

قيل : وهو أمر ومعناه التهديد والتوبيخ.
وقال الزمخشري : هو أمر في معنى الخبر كقوله تعالى : { قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً } ومعناه لن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً.
ونحوه قوله تعالى : { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } وقوله : أسيىء بنا أو أحسنى لا ملومة.
أي لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أو لا تستغفر لهم ، ولا نلومك أسأت إلينا أم أحسنت انتهى.
وعن بعضهم غير هذا بأن معناه الجزاء والشرط أي : إنْ تتفقوا طوعاً أو كرهاً لم يتقبل منك ، وذكر الآية وبيت كثير على هذا المعنى.
قال ابن عطية : أنفقوا أمر في ضمنه جزاء ، وهذا مستمر في كل أمر معه جزاء ، والتقدير : إنْ تنفقوا لن نتقبل منكم.
وأما إذا عرى الأمر من الجواب فليس يصحبه تضمن الشرط انتهى.
ويقدح في هذا التخريج أنّ الأمر إذا كان فيه معنى الشرط كان الجواب كجواب الشرط ، فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب فلن يتقبل بالفاء ، لأنّ لن لا تقع جواباً للشرط إلا بالفاء ، فكذلك ما ضمن معناه.
ألا ترى جزمه الجواب في مثل اقصد زيداً يحسن إليك ، وانتصب طوعاً أو كرهاً على الحال ، والطوع أن يكون من غير إلزام الله ورسوله ، والكره إلزام ذلك.
وسمَّى الإلزام كراهاً لأنهم منافقون ، فصار الإلزام شاقاً عليهم كالإكراه.
أو يكون من غير إلزام من رؤسائكم ، أو إلزام منهم لأنهم كانوا يحملونهم على الإنفاق لما يرون فيه من المصلحة.
والجمهور على أنّ هذه نزلت بسبب الجد بن قيس حين استأذن في القعود وقال : هذا مالي أعينك به.
وقال ابن عباس : فيكون من إطلاق الجمع على الواحد أوله ولمن فعل فعله.
فقد نقل البيهقي وغيره من الأئمة أنهم كانوا ثلاثة وثمانين رجلاً ، استثنى منهم الثلاثة الذين خلفوا وأهلك الباقون ، ونفى التقبل إما كون الرسول لم يقبله منهم ورده ، وإما كون الله لا يثيب عليه ، وعلل انتفاء التقبل بالفسق.
قال الزمخشري : وهو التمرد والعتو ، والأولى أن يحمل على الكفر.
قال أبو عبد الله الرازي : هذه إشارة إلى أنّ عدم القبول معلل بكونهم فاسقين ، فدلَّ على أن الفسق يؤثر في إزالة هذا المعنى.
وأكد الجبائي ذلك بدليله المشهور في هذه المسألة ، وهو أن الفسق يوجب الذم والعقاب الدائمين ، والطاعة توجب المدح والثواب الدائمين ، والجمع بينهما محال.
فكان الجمعُ بين استحقاقهما محالاً ، وقد أزال الله هذه الشبهة بقوله : { وما منعهم } الآية وأن تصريح هذا اللفظ لا يؤثر في القول إلا الكفر.
ودل ذلك على أن مطلق الفسق لا يحبط الطاعات ، فنفى تعالى أنّ عدم القبول ليس معللاً بعموم كونه فسقاً ، بل بخصوص وصفه وهو كون ذلك الفسق كفراً ، فثبت أنّ استدلال الجبائي باطل انتهى.
وفيه بعض تلخيص.

{ وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون }.
ذكر السبب الذي هو بمفرده مانع من قبول نفقاتهم وهو الكفر ، وأتبعه بما هو ناشىء عن الكفر ومستلزم له وهو دليل عليه.
وذلك هو إتيان الصلاة وهم كسالى ، وإيتاء النفقة وهم كارهون.
فالكسل في الصلاة وترك النشاط إليها وأخذها بالإقبال من ثمرات الكفر ، فإيقاعها عندهم لا يرجون به ثواباً ، ولا يخافون بالتفريط فيها عقاباً.
وكذلك الإنفاق للأموال لا يكرهون ذلك إلا وهم لا يرجون به ثواباً.
وذكر من أعمال البر هذين العملين الجليلين وهما الصلاة والنفقة ، واكتفى بهما وإن كانوا أفسد حالاً في سائر أعمال البر ، لأنّ الصلاة أشرف الأعمال البدنية ، والنفقة في سبيل الله أشرف الأعمال المالية ، وهما وصفان المطلوب إظهارهما في الإسلام ، ويستدل بهما على الإيمان ، وتعداد القبائح يزيد الموصوف بها ذماً وتقبيحاً.
وقرأ الأخوان وزيد بن علي : أن يقبل بالياء ، وباقي السبعة بالتاء ، ونفقاتهم بالجميع ، وزيد بن علي بالإفراد.
وقرأ الأعرج بخلاف عنه : أن تقبل بالتاء من فوق نفقتهم بالإفراد.
وفي هذه القراءات الفعل مبني للمفعول.
وقرأت فرقة : أن نقبل منهم نفقتهم بالنون ونصب النفقة.
قال الزمخشري : وقراءة السلمي أن نقبل منهم نفقاتهم على أنّ الفعل لله تعالى انتهى.
والأولى أن يكون فاعل منع قوله : ألا أنهم أي كفرهم ، ويحتمل أن يكون لفظ الجلالة أي : وما منعهم الله ، ويكون إلا أنهم تقديره : إلا لأنهم كفروا.
وأن تقبل مفعول ثان إما لوصول منع إليه بنفسه ، وإما على تقدير حذف حرف الجر ، فوصل الفعل إليه.
{ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون } : لما قطع رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة ، بيّن أن الأشياء التي يظنونها من باب منافع الدنيا جعلها الله تعالى أسباباً ليعذبهم بها في الدنيا أي : ولا يعجبك أيها السامع بمعنى لا يستحسن ولا يفتتن بما أوتوا من زينة الدنيا كقوله : { ولا تمدن عينيك } وفي هذا تحقير لشأن المنافقين.
قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي وابن قتيبة : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة انتهى.
ويكون إنما يريد الله ليعذبهم بها جملة اعتراض فيها تشديد للكلام وتقوية لانتفاء الإعجاب ، لأنّ من كان مآل إتيانه المال والولد للتعذيب لا ينبغي أن تستحسن حاله ولا يفتتن بها ، إلا أنّ تقييد الإيجاب المنهى عنه الذي يكون ناشئاً عن أموالهم وأولادهم من المعلوم أنه لا يكون إلا في الحياة الدنيا ، فنفى ذلك ، كأنه زيادة تأكيد بخلاف التعذيب ، فإنه قد يكون في الدنيا كما يكون في الآخرة ، ومع أن التقديم والتأخير لخصه أصحابنا بالضرورة.

وقال الحسن : الوجه في التعذيب إنه بما ألزمهم فيها من أداء الزكاة والنفقة في سبيل الله ، فالضمير في قوله : بها ، عائد في هذا القول على الأموال فقط.
وقال ابن زيد وغيره : التعذيب هو مصائب الدنيا ورزاياها هي لهم عذاب ، إذ لا يؤجرون عليها انتهى.
ويتقوى هذا القول بأنّ تعذيبهم بإلزام الشريعة أعظم من تعذيبهم بسائر الرزايا ، وذلك لاقتران الذلة والغلبة وأمر الشريعة لهم قاله : ابن عطية ، وقد جمع الزمخشري هذا كله فقال : إنما أعطاهم ما أعطاهم للعذاب بأن عرضهم للمغنم والسبي ، وبلاهم فيه بالآفات والمصائب ، وكلفهم الإنفاق منه في أبواب الخير وهم كارهون له على رغم أنوفهم ، وأذاقهم أنواع الكلف والمجاشم في جمعه واكتسابه وفي تربية أولادهم.
وقيل : أموالهم التي ينفقونها فإنها لا تقبل منهم ولا أولادهم المسلمون ، مثل عبد الله بن عبد الله بن أبي وغيره ، فإنهم لا ينفعون آباءهم المنافقين حكاه القشيري.
وقيل : يتمكن حب المال من قلوبهم ، والتعب في جمعه ، والوصل في حفظه ، والحسرة على تخلفته عند من لا يحمده ، ثم يقدم على ملك لا يعذره.
وقدم الأموال على الأولاد لأنها كانت أعلق بقلوبهم ، ونفوسهم أميل إليها ، فإنهم كانوا يقتلون أولادهم خشية ذهاب أموالهم.
قال تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق }
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : إن صح تعليق العذاب بإرادة الله تعالى ، فما بال زهوق أنفسهم وهم كافرون؟ ( قلت ) : المراد الاستدراج بالنعم كقوله تعالى : { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } كأنه قيل : ويريد أن يديم عليهم نعمته إلى أن يموتوا وهم كافرون ملتهون بالتمتع عن النظر للعاقبة انتهى.
وهو بسط كلام ابن عيسى وهو الرماني ، وهما كلاهما معتزليان.
قال ابن عيسى : المعنى إنما يريد الله أن يملي لهم ويستدرجهم ليعذبهم انتهى.
وهي نزغة اعتزالية.
والذي يظهر من حيث عطف وتزهق على ليعذب أن المعنى ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، ونبه على عذاب الآخرة بعلته وهو زهوق أنفسهم على الكفر ، لأنّ من مات كافراً عذب في الآخرة لا محالة.
والظاهر أن زهوق النفس هنا كناية عن الموت.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد وتزهق أنفسهم من شدة التعذيب الذي ينالهم.
{ ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون } : أي لمن جملة المسلمين.
وأكذبهم الله بقوله : وما هم منكم.
ومعنى يفرقون : يخافون القتل.
وما يفعل بالمشركين فيتظاهرون بالإسلام تقية ، وهم يبطنون النفاق ، أو يخافون اطلاع الله المؤمنين على بواطنهم فيحل بهم ما يحل بالكفار.
ولما حقر تعالى شأن المنافقين وأموالهم وأولادهم عاد إلى ذكر مصالحهم وما هم عليه من خبث السريرة فقال : ويحلفون بالله على الجملة لا على التعيين ، وهي عادة الله في ستر أشخاص العصاة.
{ لو يجدون ملجئا أو مغارات أو مدخلاً لولوا إليه وهم يجمحون } : لما ذكر فرق المنافقين من المؤمنين أخبر بما هم عليه معهم مما يوجبه الفرق وهو أنهم لو أمكنهم الهروب منهم لهربوا ، ولكنْ صحبتهم لهم صحبة اضطرار لا اختيار.

قال ابن عباس : الملجأ الحرز.
وقال قتادة : الحصن.
وقال السدي : المهرب.
وقال الأصمعي : المكان الذي يتحصن فيه.
وقال ابن كيسان : القوم يأمنون منهم.
والمغارات جمع مغارة وهي الغار ، ويجمع على غيران بني من غار يغور إذا دخل مفعلة للمكان كقولهم : مزرعة.
وقيل : المغارة السرب تحت الأرض كنفق اليربوع.
وقرأ سعد بن عبد الرحمن بن عوف : مغارات بضم الميم ، فيكون من أغار.
قيل : وتقول العرب : غار الرجل وأغار بمعنى دخل ، فعلى هذا يكون مغارات من أغار اللازم.
ويجوز أن يكون من أغار المنقول بالهمزة من غار ، أي أماكن في الجبال يغيرون فيها أنفسهم.
وقال الزجاج : ويصح أن يكون من قولهم : جبل مغار أي مفتول.
ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبرم ، فيجيء التأويل على هذا لو يجدون نصرة أو أموراً مرتبطة مشدّدة تعصمهم منكم أو مدّخلاً لولوا إليه.
وقال الزمخشري ويجوز أن يكون من أغار الثعلب إذا أسرع ، بمعنى مهارب ومغارّ انتهى.
والمدّخل قال مجاهد : المعقل يمنعهم من المؤمنين.
وقال قتادة : السرب يسيرون فيه على خفاء.
وقال الكلبي : نفقاً كنفق اليربوع.
وقال الحسن : وجهاً يدخلون فيه على خلاف الرسول.
وقيل : قبيلة يدخلون فيها تحميهم من الرسول ومن المؤمنين.
وقال الجمهور : مدّخلاً وأصله مدتخل ، مفتعل من ادّخل ، وهو بناء تأكيد ومبالغة ، ومعناه السرب والنفق في الأرض قاله : ابن عباس.
بدىء أولاً بالأعم وهو الملجأ ، إذ ينطلق على كل ما يلجأ إليه الإنسان ، ثم ثنى بالمغارات وهي الغيران في الجبال ، ثم أتى ثالثاً بالمدّخل وهو النفق باطن الأرض.
وقال الزجاج : المدّخل قوم يدخلونهم في جملتهم.
وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق ، ومسلمة بن محارب ، وابن محيصن ، ويعقوب ، وابن كثير بخلاف عنه : مدخلاً بفتح الميم من دخل.
وقرأ محبوب عن الحسن : مدخلاً بضم الميم من أدخل.
وروى ذلك عن الأعمش وعيسى ابن عمر.
وقرأ قتادة ، وعيسى بن عمر ، والأعمش : مدخلاً بتشديد الدال والخاء معاً أصله متدخل ، فأدغمت التاء في الدال.
وقرأ أبي مندخلاً بالنون من اندخل.
قال :
ولا يدي في حميت السمن تندخل . . .
وقال أبو حاتم : قراءة أبي متدخلاً بالتاء.
وقرأ الأشهب العقيلي : لوالوا إليه لتابعوا إليه وسارعوا.
وروي ابن أبي عبيدة بن معاوية بن نوفل ، عن أبيه ، عن جده وكانت له صحبة أنه قرأ لوالوا إليه من الموالاة ، وأنكرها سعيد بن مسلم وقال : أظنها لو ألوا بمعنى للجأوا.
وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي : وهذا مما جاء فيه فاعل وفعل بمعنى واحد ، ومثله ضاعف وضعف انتهى.
وقال الزمخشري : وقرأ أبي بن كعب متدخلاً لوالوا إليه لا لتجأوا إليه انتهى.

وعن أبيّ لولوا وجوههم إليه.
ولما كان العطف بأو عاد الضمير إليه مفرداً على قاعدة النحو في أو ، فاحتمل من حيث الصناعة أن يعود على الملجأ ، أو على المدخل ، فلا يحتمل على أن يعود في الظاهر على المغارات لتذكيره ، وأما بالتأويل فيجوز أن يعود عليها.
وهم يجمحون يسرعون إسراعاً لا يردهم شيء.
وقرأ أنس بن مالك والأعمش : وهم يجمزون.
قيل : يجمحون ، ويجمزون ، ويشتدون واحد.
وقال ابن عطية : يجمزون يهرولون ، ومنه قولهم في حديث الرجم : فلما إذ لقته الحجارة جمز.
{ ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } : اللامز حرقوص بن زهير التميمي ، وهو ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج ، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين فقال : إعدل يا رسول الله الحديث.
وقيل : هو ابن الجواظ المنافق قال : ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم.
وقيل : ثعلبة بن حاطب كان يقول : إنما يعطى محمد قريشاً.
وقيل : رجل من الأنصار أتى الرسول بصدقة يقسمها ، فقال : ما هذا بالعدل؟ وهذه نزغة منافق.
والمعنى : من يعيبك في قسم الصدقات.
وضمير ومنهم للمنافقين ، والكاف للرسول.
وهذا الترديدين الشرطين يدل على دناءة طباعهم ونجاسة أخلاقهم ، وإن لمزهم الرسول إنما هو لشرههم في تحصيل الدنيا ومحبة المال ، وأنّ رضاهم وسخطهم إنما متعلة العطاء.
والظاهر حصول مطلق الإعطاء أو نفيه.
وقيل : التقدير فإن أعطوا منها كثيراً يرضوا ، وإن لم يعطوا منها كثيراً بل قليلاً ، وما أحسن مجيء جواب هذين الشرطين ، لأنّ الأول لا يلزم أن يقارنه ولا أن يعتقبه ، بل قد يجوز أن يتأخر نحو : إن أسلمت دخلت الجنة ، فإنما يقتضي مطلق الترتب.
وأما جواب الشرط الثاني فجاء إذا الفجائية ، وأنه إذا لم يعطوا فاجأ سخطهم ، ولم يمكن تأخره لما جبلوا عليه من محبة الدنيا والشره في تحصيلها.
ومفعول رضوا محذوف أي : رضوا ما أعطوه.
وليس المعنى رضوا عن الرسول لأنهم منافقون ، ولأنّ رضاهم وسخطهم لم يكن لأجل الدين ، بل للدنيا.
وقرأ الجمهور : يلمزك بكسر الميم.
وقرأ يعقوب وحماد بن سلمة عن ابن كثير والحسن وأبو رجاء وغيرهم : بضمها ، وهي قراءة المكيين ، ورويت عن أبي عمرو.
وقرأ الأعمش : يلمزك.
وروى أيضاً حماد بن سلمة عن ابن كثير : يلامزك ، وهي مفاعلة من واحد.
وقيل : وفرق الرسول صلى الله عليه وسلم قسم أهل مكة في الغنائم استعطافاً لقلوبهم ، فضج المنافقون.
{ ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } : هذا وصف لحال المستقيمين في دينهم ، أي رضوا قسمة الله ورسوله وقالوا : كفانا فضل الله ، وعلقوا آمالهم بما سيؤتيه الله إياهم ، وكانت رغبتهم إلى الله لا إلى غيره.

وجواب لو محذوف تقديره : لكان خيراً لهم في دينهم ودنياهم.
وكان ذلك الفعل دليلاً على انتقالهم من النفاق إلى محض الإيمان ، لأنّ ذلك تضمن الرضا بقسم الله ، والإقرار بالله وبالرسول إذ كانوا يقولون : سيؤتينا الله من فضله ورسوله.
وقيل : جواب لو هو قوله : وقالوا على زيادة الواو ، وهو قول كوفي.
قال الزمخشري : والمعنى : ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قل نصيبهم ، وقالوا : كفانا فضل الله تعالى وصنعه ، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا غنيمة أخرى ، فسيؤتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما آتانا اليوم ، إنا إلى الله في أنْ يغنمنا ويخولنا فضله راغبون انتهى.
وقال ابن عباس : راغبون فيما يمنحنا من الثواب ويصرف عنا من العقاب.
وقال التبريزي : راغبون في أن يوسع علينا من فضله ، فيغنينا عن الصدقة وغيرها مما في أيدي الناس.
وقيل : ما آتاهم الله بالتقدير ، ورسوله بالقسم انتهى.
وأتى أولاً بمقام الرضا وهو فعل قلبي يصدر عمن علم أنه تعالى منزه عن العتب والخطأ عليم بالعواقب ، فكل قضائه صواب وحق ، لا اعتراض عليه.
ثم ثنى بإظهار آثار الوصف القلبي وهو الإقرار باللسان ، فحسبنا ما رضي به.
ثم أتى ثالثاً بأنه تعالى ما داموا في الحياة الدنيا مادّ لهم بنعمه وإحسانه ، فهو إخبار حسن إذ ما من مؤمن إلا ونعمُ الله مترادفة عليه حالاً ومآلاً ، إما في الدنيا ، وإما في الآخرة.
ثم أتى رابعاً بالجملة المقتضية الالتجاء إلى الله لا إلى غيره ، والرغبة إليه ، فلا يطلب بالإيمان أخذ الأموال والرئاسة في الدنيا ولما كانت الجملتان متغايرتين وهما ما تضمن الرضا بالقلب ، وما تضمن الإقرار باللسان ، تعاطفتا.
ولما كانت الجملتان الأخيرتان من آثار قولهم : حسبنا الله لم تتعاطفا ، إذ هما كالشرح لقولهم : حسبنا الله ، فلا تغاير بينهما.
{ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم } : لما ذكر تعالى من يعيب الرسول في قسم الصدقات بأنه يعطي من يشاء ويحرم من يشاء ، أو يخص أقاربه ، أو يأخذ لنفسه ما بقي.
وكانوا يسألون فوق ما يستحقون ، بيّن تعالى مصرف الصدقات ، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما قسم على ما فرضه الله تعالى.
ولفظه إنما إنْ كانت وضعت للحصر فالحصر مستفاد من لفظها ، وإن كانت لم توضع للحصر فالحصر مستفاد من الأوصاف ، إذ مناط الحكم بالوصف يقتضي التعليل به ، والتعليل بالشيء يقتضي الاقتصار عليه.
والظاهر أنّ مصرف الصدقات هؤلاء الأصناف.
والظاهر أن العطف مشعر بالتغاير ، فتكون الفقراء عين المساكين.
والظاهر بقاء هذا الحكم للأصناف الثمانية دائماً ، إذ لم يرد نص في نسخ شيء منها.

والظاهر أنه يعتبر في كل صنف منها ما دل عليه لفظه إن كان موجوداً ، والخلاف في كل شيء من هذه الظواهر.
فأما أنّ مصرف الصدقات هؤلاء الأصناف ، فذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أنه يجوز أن يقتصر على بعض هؤلاء الأصناف ، ويجوز أن يصرف إلى جميعها.
فمن الصحابة : عمر ، وعليّ ، ومعاذ ، وحذيفة ، وابن عباس ، ومن التابعين النخعي ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبو العالية ، وابن جبير ، قالوا : في أيّ صنف منها وضعتها أجزأتك.
قال ابن جبير : لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فخيرتهم بها كان أحب إليّ.
قال الزمخشري : وعليه مذهب أبي حنيفة قال غيره : وأبي يوسف ، ومحمد ، وزفر ، ومالك.
وقال جماعة من التابعين : لا يجوز الاقتصار على أحد هذه الأصناف منهم : زين العابدين علي بن الحسين ، وعكرمة ، والزهري ، بل يصرف إلى الأصناف الثمانية.
وقد كتب الزهري لعمر بن عبد العزيز : يفرّقها على الأصناف الثمانية ، وهو مذهب الشافعي قال : إلا المؤلفة ، فإنهم انقطعوا.
وأما أنّ الفقراء غير المساكين ، فذهب جماعة من السلف إلى أنّ الفقير والمسكين سواء لا فرق بينهما في المعنى ، وإن افترقا في الاسم ، وهما صنف واحد سمي باسمين ليعطي سهمين نظراً لهم ورحمة.
قال في التحرير : وهذا هو أحد قولي الشافعي.
وذهب الجمهور إلى أنهما صنفان يجمعهما الإقلال والفاقة ، واختلفوا فيما به الفرق.
فقال الأصمعي وغيره منهم أحمد بن حنبل وأحمد بن عبيد الفقير : أبلغ فاقة.
وقال غيره منهم أبو حنيفة ، ويونس بن حبيب ، وابن السكيت ، وابن قتيبة المسكين : أبلغ فاقة ، لأنه لا شيء له.
والفقير من له بلغة من الشيء.
وقال الضحاك : الفقراء هم من المهاجرين ، والمساكين من لم يهاجر.
وقال النخعي نحوه.
وقال عكرمة : الفقراء من المسلمين ، والمساكين من أهل الذمة.
لا نقول لفقراء المسلمين مساكين.
وروى عنه بالعكس حكاه مكي.
وقال الشافعي في كتاب ابن المنذر : الفقير من لا مال له ولا حرفة ، سائلاً كان أو متعففاً.
والمسكين الذي له حرفة أو مال ولكن لا يغنيه ذلك سائلاً كان أو غير سائل.
وقال قتادة : الفقير الزمن المحتاج ، والمسكين الصحيح المحتاج.
وقال ابن عباس : والحسن ، ومجاهد ، والزهري ، وابن زيد ، وجابر بن زيد ، والحكم ، ومقاتل ، ومحمد بن مسلمة : المساكين الذين يسعون ويسألون ، والفقراء هم الذين يتعاونون.
وأما بقاء الحكم للأصناف الثمانية فذهب عمر بن الخطاب والحسن والشعبي وجماعة : إلى أنه انقطع صنف المؤلفة بعزة الإسلام وظهوره ، وهذا مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة ، قال بعض الحنفيين : أجمعت الصحابة على سقوط سهمهم في خلافة أبي بكر لما أعز الله الإسلام وقطع دابر الكافرين.
وقال القاضي عبد الوهاب : إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقات.
وقال كثير من أهل العلم : المؤلفة قلوبهم موجودون إلى يوم القيامة.

قال ابن عطية : وإذا تأملت الثغور وجدت فيها الحاجة إلى الائتلاف انتهى.
وقال يونس : سألت الزهري عنهم فقال : لا أعلم نسخاً في ذلك.
قال أبو جعفر النحاس : فعل هذا الحكم فيهم ثابت ، فإن كان أحد يحتاج إلى تألفه ويخاف أن تلحق المسلمين منه آفة أو يرجى حسن إسلامه بعدُ دفع إليه.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي : الذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا ، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم ، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم.
فإن في الصحيح : « بدا الإسلام غريباً وسيعود كما بدا » وفي كتاب التحرير قال الشافعي : العامل والمؤلفة قلوبهم مفقودان في هذا الزمان ، بقيت الأصناف الستة ، فالأولى صرفها إلى الستة.
وأما أنه يعتبر في كل صنف منها ما دل عليه لفظه إن كان موجوداً فهو مذهب الشافعي ، ذهب إلى أنه لا بد في كل صنف من ثلاثة ، لأن أقلّ الجمع ثلاثة ، فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث وهو ثلث سهم.
وقال أصحاب أبي حنيفة : يجوز أن يعطي جميع زكاته مسكيناً واحداً.
وقال مالك : لا بأس أن يعطي الرجل زكاة الفطر عن نفسه وعياله واحداً ، واللام في للفقراء.
قيل : للملك.
وقيل : للاختصاص.
والظاهر عموم الفقراء والمساكين ، فيدخل فيه الأقارب والأجانب وكل من اتصف بالفقر والمسكنة فأما ذوو قربى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال أصحاب أبي حنيفة : تحرم عليهم الصدقة منهم : آل العباس ، وآل علي ، وآل جعفر ، وآل عقيل ، وآل الحرث بن عبد المطلب.
وروى عن أبي حنيفة وليس بالمشهور أنّ فقراء بني هاشم يدخلون في آية الصدقة.
وقال أبو يوسف : لا يدخلون.
قال أبو بكر الرازي : المشهور عن أصحابنا أنهم من تقدم من آل العباس ومن ذكر معهم ، ويخص التحريم الفرض لا صدقة التطوع.
وقال مالك : لا تحل الزكاة لآل محمد ، ويحلّ التطوع.
وقال الثوري : لا تحل لبني هاشم ، ولم يذكر فرقاً بين النفل والفرض.
وقال الشافعي : تحرم صدقة الفرض على بني هاشم وبني المطلب ، وتجوز صدقة التطوع على كل أحدٍ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان لا يأخذها.
وقال ابن الماجشون ومطرف وأصبغ : وابن حبيب : لا يعطى بنو هاشم من الصدقة المفروضة ، ولا من التطوع.
وقال مالك في الواضحة : لا يعطى آل محمد من التطوع.
وأما أقارب المزكي فقال أصحاب أبي حنيفة : لا يعطى منها والد وإن علا ، ولا ابن وإن سفل ، ولا زوجة.
وقال مالك والثوري والحسن بن صالح والليث : لا يعطى من تلزمه نفقته.
وقال ابن شبرمة : لا يعطى قرابته الذين يرثونه ، وإنما يعطى من لا يرثه وليس في عياله.
وقال الأوزاعي : لا يتخطى بزكاة ماله فقراء أقاربه إذا لم يكونوا من عياله ، ويتصدق على مواليه من غير زكاة ماله.

وقال مالك والثوري وابن شبرمة والشافعي وأصحاب أبي حنيفة : لا يعطى الفرض من الزكاة.
وقال عبيد الله بن الحسن : إذا لم يجد مسلماً أعطى الذمي ، فكأنه يعني الذمي الذي هو بين ظهرانيهم.
وقال مالك وأبو حنيفة : لا تعطى الزوجة زوجها من الزكاة.
وقال الثوري والشافعي وأبو يوسف ومحمد : تعطيه ، واختلفوا في المقدار الذي إذا ملكه الإنسان دخل به في حد الغنى وخرج عن حد الفقر وحرمت عليه الصدقة.
فقال قوم : إذا كان عند أهله ما يغديهم ويعشيهم حرمت عليه الصدقة ، ومن كان عنده دون ذلك حلت له.
وقال قوم : حتى يملك أربعين درهماً ، أوعدلها من الذهب.
وقال قوم : حتى تملك خمسين درهماً أو عدلها من الذهب ، وهذا مروي عن علي وعبد الله والشعبي.
قال مالك : حتى تملك مائتي درهم أو عدلها من عرض أو غره فاضلاً عما يحتاج إليه من مسكن وخادم وأثاث وفرش ، وهو قول أصحاب أبي حنيفة.
فلو دفعها إلى من ظن أنه فقير فتبين أنه غنى ، أو تبين أن المدفوع إليه أبوه أو ذمي ولم يعلم بذلك وقت الدفع.
فقال أبو حنيفة ومحمد : يجزئه.
وقال أبو يوسف : لا يجزئه.
والعامل هو الذي يستنيبه الإمام في السعي في جميع الصدقات ، وكل من يصرف ممن لا يستغنى عنه فيها فهو من العاملين ، ويسمى جابي الصدقة والساعي قال :
إن السعاة عصوك حين بعثتهم . . .
لم يفعلوا مما أمرت فتيلا
وقال :
سعى عقالاً فلم يترك لنا سبدا . . .
فكيف لو قد سعى عمرو عقالين
أراد بالعقال هنا زكاة السنة ، وتعدى بعلى ولم يقل فيها ، لأنّ على للاستعلاء.
المشعر بالولاية.
والجمهور على أن للعامل قدر سعيه ، ومؤنته من مال الصدقة.
وبه قال مالك والشافعي في كتاب ابن المنذر ، وأبو حنيفة وأصحابه ، فلو تجاوز ذلك من الصدقة ، فقيل : يتم له من سائر الأنصباء.
وقيل : من خمس الغنيمة.
وقال مجاهد والضحاك والشافعي : هو الثمن على قسم القرآن.
وقال مالك من رواية ابن أبي أويس وداود بن سعيد عنه : يعطون من بيت المال.
واختلف في الإمام ، هل له حق في الصدقات؟ فهمنهم من قال : هو العامل في الحقيقة ، ومنهم من قال : لا حق له فيها.
والجمهور على أنّ أخذها مفوض للإمام ومن استنابه ، فلو فرقها المزكي بنفسه دون إذن الإمام أخذها منه ثانياً.
وقال أبو حنيفة : لا يجوز أن يعمل على الصدقة أحد من بني هاشم ويأخذ عمالته منها ، فإن تبرع فلا خلاف بين أهل العلم في جوازه.
وقال آخرون : لا بأس لهم بالعمالة من الصدقة.
وقيل : إنْ عمل أعطيها من الخمس.
والمؤلفة قلوبهم أشراف العرب مسلمون لم يتمكن الإيمان من قلوبهم ، أعطاهم ليتمكن الإيمان من قلوبهم ، أو كفار لهم اتباع أعطاهم ليتألفهم واتباعهم على الإسلام.

قال الزهري : المؤلفة من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان غنياً فمن المؤلفة : أبو سفيان بن حرب ، وسهيل بن عمرو ، والحرث بن هشام ، وحويطب بن عبد العزى ، وصفوان بن أمية ، ومالك بن عوف النضري ، والعلاء بن حارثة الثقفي ، فهؤلاء أعطاهم الرسول صلى الله عليه وسلم مائة بعير مائة بعير.
ومخرمة بن نوفل الزهري ، وعمير بن وهب الجمحي ، وهشام بن عمرو العابدي ، أعطاهم دون المائة.
ومن المؤلفة : سعيد بن يربوع ، والعباس بن مرداس ، وزيد الخيل ، وعلقمة بن علانة ، وأبو سفيان الحرث بن عبد المطلب ، وحكيم بن حزام ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسعيد بن عمرو ، وعيينة بن حصن.
وحسن إسلام المؤلفة حاشا عيينة فلم يزل مغموصاً عليه.
وأما قوله وفي الرقاب فالتقدير : وفي فك الرقاب فيعطي ما حصل به فك الرقاب من ابتداء عتق يشتري منه العبد فيعتق ، أو تخليص مكاتب أو أسير.
وقال النخعي ، والشعبي ، وابن جبير ، وابن سيرين : لا يجزىء أن يعتق من الزكاة رقبة كاملة ، وهو قول أصحاب أبي حنيفة والليث والشافعي.
وقال ابن عباس وابن عمر : أعتق من زكاتك.
وقال ابن عمر والحسن وأحمد وإسحاق : يعتق من الزكاة ، وولاؤه لجماعة المسلمين لا للمعتق.
وعن مالك والأوزاعي : لا يعطي المكاتب من الزكاة شيئاً ، ولا عبد كان مولاه موسراً أو معسراً.
وعن ابن عباس والحسن ومالك : هو ابتداء العتق وعون المكاتب بما يأتي على حريته.
والجمهور على أنّ المكاتبين يعانون في فك رقابهم من الزكاة.
ومذهب أبي حنيفة وابن حبيب : أنّ فك رقاب الأساري يدخل في قوله : وفي الرقاب ، فيصرف في فكاكها من الزكاة.
وقال الزهري : سهم الرقاب نصفان : نصف للمكاتبين ، ونصف يعتق منه رقاب مسلمون ممن صلى.
والغارم من عليه دين قاله : ابن عباس ، وزاد مجاهد وقتادة : في غير معصية ولا إسراف.
والجمهور على أنه يقضي منها دين الميت إذ هو غارم.
وقال أبو حنيفة وابن المواز : لا يقضى منها.
وقال أبو حنيفة : ولا يقضي منها كفارة ونحوها من صنوف الله تعالى ، وإنما الغارم من عليه دين يحبس فيه.
وقيل : يدخل في الغارمين من تحمل حمالات في إصلاح وبر وإن كان غنياً إذا كان ذلك يجحف بماله ، وهو قول الشافعي وأصحابه وأحمد.
وفي سبيل الله هو المجاهد يعطي منها إذا كان فقيراً.
والجمهور على أنه يعطي منها وإن كان غنياً ما ينفق في غزوته.
وقال الشافعي ، وأحمد ، وعيسى بن دينار ، وجماعة : لا يعطي الغني إلا إن احتاج في غزوته ، وغاب عنه وفره.
وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يعطي إلا إذا كان فقيراً أو منقطعاً به ، وإذا أعطي ملك ، وإن لم يصرفه في غزوته.
وقال ابن عبد الحكم : ويجعل من الصدقة في الكراع والسلاح وما يحتاج إليه من آلات الحرب وكف العدو عن الحوزة ، لأنه كله من سبيل الغزو ومنفعته.

والجمهور على أنه يجوز الصرف منها إلى الحجاج والمعتمرين وإن كانوا أغنياء.
وقال الزمخشري : وفي سبيل الله فقراء الغزاة ، والحجيج المنقطع بهم انتهى.
والذي يقتضيه تعداد هذه الأوصاف أنها لا تتداخل ، واشتراط الفقر في بعضها يقضي بالتداخل.
فإن كان الغازي أو الحاج شرط إعطائه الفقر ، فلا حاجة لذكره لأنه مندرج في عموم الفقراء ، بل كل من كان بوصف من هذه الأوصاف جاز الصرف إليه على أي حال كان من فقر أو غنى ، لأنه قام به الوصف الذي اقتضى الصرف إليه.
قال ابن عطية : ولا يعطى منها في بناء مسجد ، ولا قنطرة ، ولا شراء مصحف انتهى.
وابن السبيل قال ابن عباس : هو عابر السبيل.
وقال قتادة في آخرين : هو الضيف.
وقال جماعة : هو المسافر المنقطع به وإن كان له مال في بلده.
وقالت جماعة : هو إلحاج المنقطع.
وقال الزجاج : هو الذي قطع عليه الطريق.
وفي كتاب سحنون قال مالك : إذا وجد المسافر المنقطع به من يسلفه لم يجز له أن يأخذ من الصدقة ، والظاهر الصرف إليه.
وإن كان له ما يغنيه في طريقه لأنه ابن سبيل ، والمشهور أنه إذا كان بهذا الوصف لا يعطى.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : لم عدل عن اللام إلى في في الأربعة الأخيرة؟ ( قلت ) : للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره ، لأنّ في للوعاء ، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها ومصباً ، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر ، وفي فك الغارمين من الغرم من التخليص والإنقاذ ، ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة ، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال.
وتكرير في في قوله تعالى : وفي سبيل الله وابن السبيل ، فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين.
( فإن قلت ) : فكيف وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين ومكائدهم؟ ( قلت ) : ذل بكون هذه الأوصاف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم ، على أنهم ليسوا منهم حسماً لا طعامهم وإشعاراً باستيجابهم الحرمان ، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها ، فما لهم ولها ، وما سلطهم على الكلام لها ولمن قاسمها.
وانتصب فريضة لأنه في معنى المصدر المؤكد ، لأن قوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء ، معناه فرض من الله الصدقات لهم.
وقرىء فريضة بالرفع على تلك فريضة انتهى.
وقال الكرماني وأبو البقاء : فريضة حال من الضمير في الفقر ، أي مفروضة.
قال الكرماني : كما تقول هي لك طلقاً انتهى.
وذكر عن سيبويه أنها مصدر ، والتقدير : فرض الله الصدقات فريضة.
وقال الفراء : هي منصوبة على القطع.
والله عليم حكيم ، لأن ما صدر عنه هو عن علم منه بخلقه وحكمة منه في القسمة ، أو عليم بمقادير المصالح ، حكيم لا يشرع إلا ما هو الأصلح.

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)

الاعتذار التنصل من الذنب ، فقيل : أصله المحو ، من قولهم : اعتذرت المنازل ودرست ، فالمعتذر يحاول إزالة ذنبه.
قال ابن أحمر :
قد كنت تعرف آيات فقد جعلت . . .
إطلال إلفك بالوعساء تعتذر
وعن ابن الأعرابي : إنّ الاعتذار هو القطع ، ومنه عذرة الجارية لأنها تعذر أي تقطع ، واعتذرت المياه انقطعت ، والعذر سبب لقطع الذم.
عدن بالمكان يعدن عدونا أقام ، قاله : أبو زيد وابن الأعرابي.
قال الأعشى :
وإن يستضيفوا إلى حلمه . . .
يضافوا إلى راجح قد عدن
وتقول العرب : تركت إبل فلان عوادن بمكان كذا ، وهو أن تلزم الإبل المكان فتألفه ولا تبرحه.
وسمي المعدن معدناً لإنبات الله الجوهر فيه وإثباته إياه في الأرض حتى عدن فيها أي ثبت.
وعدن مدينة باليمن لأنها أكثر مدائن اليمن قطاناً ودوراً.
{ ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم } : كان قدام بن خالد وعبيد بن هلال والجلاس بن سويد في آخرين يؤذون الرسول صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم : لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه فيوقع بنا.
فقال الجلاس : بل نقول بما شئنا ، فإنّ محمداً أذن سامعة ، ثم نأتيه فيصدقنا فنزلت.
وقيل : نزلت في نبتل بن الحرث كان ينم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين ، فقيل له : لا تفعل ، فقال ذلك القول.
وقيل : نزلت في الجلاس وزمعة بن ثابت في آخرين أرادوا أن يقعوا في الرسول وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس فحقروه ، فقالوا : لئن كان ما يقول محمّد حقاً لنحن شر من الحمير ، فغضب الغلام فقال : والله إنّ ما يقول محمد حق ، وأنتم لشر من الحمير ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فدعاهم ، فسألهم ، فحلفوا أنّ عامراً كاذب ، وحلف عامر أنهم كذبة وقال : اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب ، ونزلت هذه الآية يحلفون بالله لكم ليرضوكم ، فقال رجل : أذن إذا كان يسمع مقال كل أحد ، يستوي فيه الواحد والجمع قاله الجوهري.
وقال الزمخشري : الأذن الرجل الذي يصدق كل ما يسمع ، ويقبل قول كل أحد ، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع ، كان جملته أذن سامعة ونظيره قولهم للرئية : عين.
وقال الشاعر :
قد صرت أذناً للوشاة سميعة . . .
ينالون من عرضي ولو شئت ما نالوا
وهذا منهم تنقيص للرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ وصفوه بقلة الحزامة والانخداع.
وقيل : المعنى ذو أذن ، فهو على حذف مضاف قاله ابن عباس.
وقيل : أذن حديد السمع ، ربما سمع مقالتنا.
وقيل : أذن وصف بنى على فعل من أذن يأذن أذناً إذا استمع ، نحو أنف وشلل وارتفع.

أذن على إضمار مبتدأ أي : قل هو أذن خير لكم.
وهذه الإضافة نظيرها قولهم : رجل صدق ، تريد الجودة والصلاح.
كأنه قيل : نعم هو أذن ، ولكن نعم الإذن.
ويجوز أن يراد هو أذن في الخير والحق وما يجب سماعه وقبوله ، وليس بإذن في غير ذلك.
ويدل عليه خير ورحمة في قراءة من جرها عطفاً على خير أي : هو أذن خير ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله ، قاله الزمخشري.
وقرأ الحسن ومجاهد وزيد بن علي وأبو بكر عن عاصم في رواية قل : أذن بالتنوين خير بالرفع.
وجوزوا في أذن أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، وخير خبر ثان لذلك المحذوف أي : هو أذن هو خير لكم ، لأنه صلى الله عليه وسلم يقبل معاذيركم ولا يكافئكم على سوء خلتكم.
وأن يكون خير صفة لأذن أي : أذن ذو خير لكم.
أو على أنّ خيراً أفعل تفضيل أي : أكثر خيراً لكم ، وأن يكون أذن مبتدأ خبره خبر.
وجاز أن يخبر بالنكرة عن النكرة مع حصول الفائدة فيه قاله صاحب اللوامح ، وهو جائز على تقدير حذف وصف أي : أذن لا يؤاخذكم خير لكم ، ثم وصفه تعالى بأنه يؤمن بالله ، ومن آمن بالله كان خائفاً منه لا يقدم على الإيذاء بالباطل.
ويؤمن للمؤمنين أي : يسمع من المؤمنين ويسلم لهم ما يقولون ويصدقهم لكونهم مؤمنين ، فهم صادقون.
ورحمة للذين آمنوا منكم ، وخص المؤمنين وإن كان رحمة للعالمين ، لأن ما حصل لهم بالإيمان بسبب الرسول لم يحصل لغيرهم ، وخصوا هنا بالذكر وإن كانوا قد دخلوا في العالمين لحصول مزيتهم.
وهذه الأوصاف الثلاثة مبينة جهة الخيرية ، ومظهرة كونه صلى الله عليه وسلم أذن خير.
وتعدية يؤمن أولاً بالباء ، وثانياً باللام.
قال ابن قتيبة : هما زائدان ، والمعنى : يصدق الله ، ويصدق المؤمنين.
وقال الزمخشري : قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر ، فعدى بالباء ، وقصد الاستماع للمؤمنين ، وإن يسلم لهم ما يقولون فعدى باللام.
ألا ترى إلى قوله تعالى : { وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين } ما أنباه عن الباء ونحوه { فما آمن لموسى إلا ذرية من قَومه } { أنؤمن لك واتبعك الأرذلون } { آمنتم له قبل أن آذن } انتهى.
وقال ابن عطية : يؤمن بالله يصدق بالله ، ويؤمن للمؤمنين.
قيل : معناه ويصدق المؤمنين ، واللام زائدة كما هي في { ردف لكم } وقال المبرد : هي متعلقة بمصدر مقدر من الفعل ، كأنه قال : وإيمانه للمؤمنين أي : وتصديقه.
وقيل : يقال آمنت لك بمعنى صدقتك ، ومنه قوله : { وما أنت بمؤمن لنا } وعندي أنّ هذه التي معها اللام في ضمنها باء فالمعنى : ويصدق للمؤمنين فيما يخبرونه به ، وكذلك وما أنت بمؤمن لنا بما نقوله لك انتهى.
وقرأ أبي ، وعبد الله ، والأعمش ، وحمزة : ورحمة بالجر عطفاً على خبر ، فالجملة من يؤمن اعتراض بين المتعاطفين ، وباقي السبعة بالرفع عطفاً على يؤمن ، ويؤمن صفة لأذن خير.

وابن أبي عبلة : بالنصب مفعولاً من أجله حذف متعلقه التقدير : ورحمة يأذن لكم ، فحذف لدلالة أذن خير لكم عليه.
وأبرز اسم الرسول ولم يأت به ضميراً على نسق يؤمن بلفظ الرسول تعظيماً لشأنه ، وجمعاً له في الآية بين الرتبتين العظيمتين من النبوّة والرسالة ، وإضافته إليه زيادة في تشريفه ، وحتم على من أذاه بالعذاب الأليم ، وحق لهم ذلك والذين يؤذون عام يندرج فيه هؤلاء الذين أذوا هذا الإيذاء الخاص وغيرهم.
{ يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين } : الظاهر أنّ الضمير في يحلفون عائد على الذين يقولون : هو أذن أنكره وحلفوا أنهم ما قالوه.
وقيل : عائد على الذين قالوا : إن كان ما يقول محمد حقاً ، فنحن شر من الحمير ، وتقدم ذكر ذلك.
وقيل : عائد على الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ، فلما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون اعتذروا وحلفوا واعتلوا ، قاله : ابن السائب ، واختاره البيهقي.
وكانوا ثلاثة وثمانين حلف منهم ثمانون ، فقبل الرسول أعذارهم واعترف منهم بالحق ثلاثة ، فأطلع الله رسوله على كذبهم ونفاقهم ، وهلكوا جميعاً بآفات ، ونجا الذين صدقوا.
وقيل : عائد على عبد الله بن أبي ومن معه حلفوا أن لا يتخلفوا عن رسول الله وليكونوا معه على عدوه.
وقال ابن عطية المراد جميع المنافقين الذين يحلفون للرسول والمؤمنين أنهم معهم في الدين وفي كل أمر وحرب ، وهم يبطنون النفاق ، ويتربصون بالمؤمنين الدوائر ، وهذا قول جماعة من أهل التأويل.
واللام في ليرضوكم لام كي ، وأخطأ من ذهب إلى أنها جواب القسم ، وأفرد الضمير في أن يرضوه لأنهما في حكم مرضي واحد ، إذ رضا الله هو رضا الرسول ، أو يكون في الكلام حذف.
قال ابن عطية : مذهب سيبويه أنهما جملتان ، حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها ، والتقدير عنده : والله أحق أن يرضوه ، ورسوله أحق أن يرضوه.
وهذا كقول الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف . . .
ومذهب المبرد : أنّ في الكلام تقديماً وتأخيراً ، وتقديره : والله أحق أن يرضوه ورسوله.
وقيل : الضمير عائد على المذكور كما قال رؤبة :
فيها خطوط من سواد وبلق . . .
كأنه في الجلد توليع البهق
انتهى.
فقوله : مذهب سيبويه أنهما جملتان حذفت الأولى لدلالة الأولى لدلالة الثانية عليها أنْ كان الضمير في أنهما عائداً على كل واحدة من الجملتين ، فكيف تقول حذفت الأولى ولم تحذف الأولى إنما حذف خبرها؟ ، وإن كان الضمير عائداً على الخبر وهو أحق أن يرضوه ، فلا يكون جملة إلا باعتقاد كون أنْ يرضوه مبتدأ وأحق المتقدم خبره ، لكن لا يتعين هذا القول : إذ يجوز أن يكون الخبر مفرداً بأن يكون التقدير : أحق بأن يرضوه.

وعلى التقدير الأول يكون التقدير : والله إرضاؤه أحق.
وقدره الزمخشري : والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك.
إن كانوا مؤمنين كما يزعمون ، فأحق من يرضونه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالطاعة والوفاق.
{ ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالداً فيها ذلك الخزي العظيم } أي ألم يعلم المنافقون؟ وهو استفهام معناه التوبيخ والإنكار.
وقرأ الحسن والأعرج : بالتاء على الخطاب ، فالظاهر أنه التفات ، فهو خطاب للمنافقين.
قيل : ويحتمل أن يكون خطاباً للمؤمنين ، فيكون معنى الاستفهام التقرير.
وإن كان خطاباً للرسول فهو خطاب تعظيم ، والاستفهام فيه للتعجب ، والتقدير : ألا تعجب من جهلهم في محادّة الله تعالى : وفي مصحف أبيّ ألم يعلم.
قال ابن عطية : على خطاب النبي عليه السلام انتهى.
والأولى أن يكون خطاباً للسامع ، قال أهل المعاني : ألم تعلم ، الخطاب لمن حاول تعليم إنسان شيئاً مدة وبالغ في ذلك التعليم فلم يعلم فقال له : ألم تعلم بعد المباحث الظاهرة والمدة المديدة ، وحسن ذلك لأنه طال مكث النبي صلى الله عليه وسلم معه ، وكثر منه التحذير عن معصية الله والترغيب في طاعة الله.
قال بعضهم : المحادّة المخالفة ، حاددته خالفته ، واشتقاقه من الحد أي كان على حد غير حادة كقولك : شاقة ، كان في شق غير شقه.
وقال أبو مسلم : المحادة مأخوذة من الحديد ، حديد السلاح.
والمحادة هنا ، قال ابن عباس : المخالفة.
وقيل : المحاربة.
وقيل : المعاندة.
وقيل : المعادة.
وقيل : مجاوزة الحد في المخالفة.
وهذه أقوال متقاربة.
وقرأ الجمهور فإنّ له بالفتح ، والفاء جواب الشرط.
فتقتضي جملة وإنّ له مفرد في موضع رفع على الابتداء ، وخبره محذوف قدره الزمخشري : مقدماً نكرة أي : فحق أن يكون وقدره غيره : متأخراً أي فإن له نار جهنم واجب ، قاله : الأخفش ، ورد عليه بأن أنْ لا يبتدأ بها متقدمة على الخبر ، وهذا مذهب سيبويه والجمهور.
وأجاز الأخفش والفراء وأبو حاتم الابتداء بها متقدمة على الخبر ، فالأخفش خرج ذلك على أصله.
أو في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالواجب أنّ له النار.
قال علي بن سليمان : وقال الجرمي والمبرد : إن الثانية مكررة للتوكيد ، كان التقدير : فله نار جهنم ، وكرر أنّ توكيداً.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون فإن له معطوفاً على أنه ، على أن جواب من محذوف تقديره : ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فإن له نار جهنم انتهى ، فيكون فإنّ له نار جهنم في موضع نصب.
وهذا الذي قدره لا يصح ، لأنهم نصوا على أنه إذا حذف الجواب لدلالة الكلام عليه كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ ، أو مضارعاً مجزوماً بلم ، فمن كلامهم : أنت ظالم إن فعلت ، ولا يجوز أن تفعل ، وهنا حذف جواب الشرط ، وفعل الشرط ليس ماضي اللفظ ولا مضارعاً مقروناً بلم ، وذلك إنْ جاء في كلامهم فمخصوص بالضرورة.

وأيضاً فتجد الكلام تاماً دون تقدير هذا الجواب.
ونقلوا عن سيبويه أنّ أنّ بدل من أنه.
قال ابن عطية : وهذا معترض بأن الشيء لا يبدل منه حتى يستوفى.
والأولى في هذا الموضع لم يأت خبرها بعد أن لم يتم جواب الشرط ، وتلك الجملة هي الخبر.
وأيضاً فإنّ الفاء مانع البدل وأيضاً ، فهي معنى آخر غير الأول ، فيقلق البدل.
وإذا تلطف للبدل فهو بدل اشتمال انتهى.
وقال أبو البقاء : وهذا يعني البدل ضعيف لوجهين : أحدهما : أن الفاء التي معها تمنع من ذلك ، والحكم بزيادتها ضعيف.
والثاني : أن جعلها بدلاً يوجب سقوط جواب الكلام انتهى.
وقيل : هو على إسقاط اللام أي : فلأن له نار جهنم ، فالفاء جواب الشرط ، ويحتاج إلى إضمار ما يتم به جواب الشرط جملة أي : فمحادته لأن له نار جهنم.
وقرأ ابن أبي عبلة : فإن له بالكسر في الهمزة حكاها عنه أبو عمرو الداني ، وهي قراءة محبوب عن الحسن ، ورواية أبي عبيدة عن أبي عمرو ، ووجهه في العربية قوي لأنّ الفاء تقتضي الاستئناف ، والكسر مختار لأنه لا يحتاج إلى إضمار ، بخلاف الفتح.
وقال الشاعر :
فمن يك سائلاً عني فإني . . .
وجروة لا ترود ولا تعار
وعلى هذا يجوز في أنّ بعد فاء الجزاء وجهان : الفتح ، والكسر.
ذلك لأن كينونة النار له خالداً فيها هو الهوان العظيم كما قال : { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته }
{ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءُوا إن الله مخرج ما تحذرون } : كان المنافقون يعيبون الرسول ويقولون : عسى الله أن لا يفشي سرنا فنزلت ، قاله مجاهد.
وقال السدي : قال بعضهم : وددت أني جلدت مائة ولا ينزل فيناشىء يفضحنا ، فنزلت.
وقال ابن كيسان : وقف جماعة منهم للرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة عند مرجعه من تبوك ليفتكوا به فأخبره جبريل عليه السلام فنزلت.
وقيل قالوا في غزوة تبوك : أيرجو هذا الرجل أن يفتح له قصور الشام وحصونها : هيهات هيهات فأنزل الله قل استهزؤوا.
والظاهر أنّ يحذر خبر ، ويدل عليه أن الله مخرج ما تحذرون.
فقيل : هو واقع منهم حقيقة لما شاهدوا الرسول يخبرهم بما يكتمونه ، وقع الحذر والخوف في قلوبهم.
وقال الأصم : كانوا يعرفونه رسولاً من عند الله فكفروا حسداً ، واستبعد القاضي في العالم بالله ورسوله وصحة دينه أن يكون محاداً لهما وليس ببعيد ، فإنه إذا استحكم الحسد نازع الحاسد في المحسوسات.
وقيل : هو حذر أظهروه على وجه الاستهزاء حين رأوا الرسول يذكر أشياء وأنها عن الوحي وكانوا يكذبون بذلك ، فأخبر الله رسوله بذلك ، وأعلم أنه مظهر سرهم ، ويدل عليه قوله : قل استهزؤوا.
وقال الزجاج وغيره ممن ذهب إلى التحرز من أن يكون كفرهم عناداً : هو مضارع في معنى الأمر أي : ليحذر المنافقون ، ويبعده مخرج ما تحذرون ، وأن تنزل مفعول يحذر ، وهو متعد.

قال الشاعر :
حذر أموراً لا تضرّ وآمن . . .
ما ليس ينجيه من الأقدار
وقال تعالى : { ويحذركم الله نفسه } لما كان قبل التضعيف متعدياً إلى واحد ، عداه بالتضعيف إلى اثنين.
وقال المبرد : حذر إنما هي من هيئات الأنفس التي لا تتعدى مثل فزع ، والتقدير : يحذر المنافقون من أن تنزل ، ولا يلزم ذلك : ألا ترى أنّ خاف من هيئات النفس وتتعدى؟ والظاهر أن قوله عليهم : وتنبئهم ، الضمير أنّ فيهما عائدان على المنافقين ، وجاء عليهم لأنّ السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة علهم قاله : الكرماني ، والزمخشري.
قال الكرماني : ويحتمل أنه من قولك : هذا عليك لا لك.
ومعنى تنبئهم بما في قلوبهم : تذيع أسرارهم حتى يسمعوها مذاعة منتشرة ، فكأنها تخبرهم بها.
وقال الزمخشري : والضمير في عليهم وتنبئهم للمؤمنين ، وفي قلوبهم للمنافقين ، وصح ذلك لأنّ المعنى يعود إليه انتهى.
والأمر بالاستهزاء أمر تهديد ووعيد كقوله : { اعملوا ما شئتم } ومعنى مخرج ما تحذرون مبرز إلى حيز الوجود ، ما تحذرونه من إنزال السورة ، أو مظهر ما كنتم تحذرونه من إظهار نفاقكم.
وفعل ذلك تعالى في هذه السورة فهي تسمى الفاضحة ، لأنها فضحت المنافقين.
قيل : كانوا سبعين رجلاً أنزل الله أسماءهم وأسماء آبائهم في القرآن ، ثم رفع ذلك ونسخ رحمة ورأفة منه على خلقه ، لأن أبناءهم كانوا مسلمين.
{ ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون } : أي : ولئن سألتهم عما قالوا من القبيح في حقك وحق أصحابك من قول بعضهم : انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام ، وقول بعضهم : كأنكم غداً في الجبال أسرى لبني الأصفر ، وقول بعضهم : ما رأيت كهؤلاء لا أرغب بطوناً ولا أكثر كذباً ولا أجبن عند اللقاء ، فأطلع الله نبيه على ذلك فعنفهم ، فقالوا : يا نبي الله ما كنا في شيء من أمرك ولا أمر أصحابك ، إنما كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ، كنا في غير جدّ.
قل : أبالله تقرير على استهزائهم ، وضمنه الوعيد ، ولم يعبأ باعتذارهم لأنهم كانوا كاذبين فيه ، فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم وبأنه موجود منهم ، حتى وبخوا بأخطائهم موضع الاستهزاء ، حيث جعل المستهزأ به على حرف التقرير.
وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته قاله : الزمخشري ، وهو حسن.
وتقديم بالله وهو معمول خبر كان عليها ، يدل على جواز تقديمه عليها.
وعن ابن عمر : رأيت قائل هذه المقالة يعني : إنما كنا نخوض ونلعب وديعة بن ثابت متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يماشيها والحجارة تنكته وهو يقول : إنما كنا نخوض ونلعب ، والنبي يقول : « أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن؟ »

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46