كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

وتقول للنصراني : أتاك عيسى نبياً فزعمت أنه الله أو ابن الله ، فيقول : أمنت أنه عبد الله ورسوله حيث لا ينفعه إيمانه.
وعن ابن عباس أنه فسره كذلك فقال له عكرمة : فإن أتاه رجل فضرب عنقه؟ قال : لا تخرج نفسه حتى يحرك بها شفتيه.
قال : وإن خرجت فوق بيت ، أو احترق ، أو أكله سبع؟ قال : يتكلم بها في الهوى ، ولا تخرج روحه حتى يؤمن به.
ويدل عليه قراءة أُبيّ : إلا ليؤمنن به قبل موتهم ، بضم النون على معنى : وإن منهم أحد إلا سيؤمنون به قبل موتهم ، لأن أحداً يصلح للجمع.
فإن قلت : فما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم؟ قلت : فائدته الوعيد ، وليكن علمهم بأنهم لا بد لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة ، وأن ذلك لا ينفعهم بعثاً لهم وتنبيهاً على معالجة الإيمان به في أوان الانتفاع به ، وليكون إلزاماً للحجة لهم.
وكذلك قوله.
{ ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً } يشهد على اليهود بأنهم كذبوه ، وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله انتهى كلامه.
وقال أيضاً : ويجوز أنْ يريد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلا ليؤمنن به ، على أنّ الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان ويعلمهم نزوله وما نزل له ، ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم انتهى.
وقال عكرمة : الضمير في به لمحمد عليه الصلاة والسلام ، وفي موته للكتابي.
قال : وليس يخرج يهودي ولا نصراني من الدنيا حتى يؤمن بمحمد ، ولو غرق أو سقط عليه جدار فإنه يؤمن في ذلك الوقت.
وقيل : يعود في به على الله ، وفي موته على أحد المقدّر.
قال ابن زيد : إذا نزل عيسى عليه السلام لقتل الدجال ، لم يبق يهودي ولا نصراني إلا آمن بالله حين يرون قتل الدجال ، وتصير الأمم كلها واحدة على ملة الإسلام ، ويعزى هذا القول أيضاً إلى ابن عباس ، والحسن ، وقتادة.
وقال العباس بن غزوان : وإنّ من أهل الكتاب بتشديد النون ، وهي قراءة عسرة التخريج ، ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً أي : شهيداً على أهل الكتاب على اليهود بتكذيبهم إياه وطعنهم فيه ، وعلى النصارى بجعلهم إياه آلاها مع الله أو ابناً له ، والضمير في يكون لعيسى.
وقال عكرمة : لمحمد صلى الله عليه وسلم.
قيل : وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبديع.
فمنها التجنيس المغاير في : يخادعون وخادعهم ، وشكرتم وشاكراً.
والمماثل في : وإذا قاموا.
والتكرار في : اسم الله ، وفي : هؤلاء وهؤلاء ، وفي : ويرون ويريدون ، وفي : الكافرين والكافرين ، وفي : أهل الكتاب وكتاباً ، وفي : بميثاقهم وميثاقاً.
والطباق في : الكافرين والمؤمنين ، وفي : إن تبدوا أو تخفوه ، وفي : نؤمن ونكفر ، والاختصاص في : إلى الصلاة ، وفي : الدرك الأسفل ، وفي : الجهر بالسوء.
والإشارة في مواضع.
الاستعارة في : يخادعون الله وهو خادعهم استعار اسم الخداع للمجازاة وفي : سبيلاً ، وفي سلطاناً لقيام الحجة والدرك الأسفل لانخفاض طبقاتهم في النار ، واعتصموا للالتجاء ، وفي : أن يفرقوا ، وفي : ولم يفرّقوا وهو حقيقة في الأجسام استعير للمعاني ، وفي : سلطاناً استعير للحجة ، وفي : غلف وبل طبع الله.

وزيادة الحرف لمعنى في : فبما نقضهم ، وإسناد الفعل إلى غير فاعله في : فأخذتهم الصاعقة وجاءتهم البينات وإلى الراضي به وفي : وقتلهم الأنبياء ، وفي : وقولهم على مريم بهتاناً وقولهم إنا قتلنا المسيح.
وحسن النسق في : فبما نقضهم ميثاقهم والمعاطيف عليه حيث نسقت بالواو التي تدل على الجميع فقط.
وبين هذه الأشياء أعصار متباعدة فشرك أوائلهم وأواخرهم لعمل أولئك ورضا هؤلاء.
وإطلاق اسم كل على بعض وفي : كفرهم بآيات الله وهو القرآن والإنجيل ولم يكفروا بشيء من الكتب إلا بهما وفي قولهم إنا قتلنا ولم يقل ذلك إلا بعضهم.
والتعريض في رسول الله إذا قلنا أنه من كلامهم.
والتوجيه في غلف من احتمال المصدر جمع غلاف أو جمع أغلف.
وعود الضمير على غير مذكور وهو في ليؤمنن به قبل موته على من جعلهما لغير عيسى.
والنقل من صيغة فاعل إلى فعيل في شهيد.
والحذف في مواضع.

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)

الغلو : تجاوز الحد.
ومنه غلا السعر وغلوة السهم.
الاستنكاف : الأنفة والترفع ، من نكفت الدمع إذا نحيته بأصبعك من خدك ، ومنعته من الجري قال :
فباتوا فلولا ما تدكر منهم . . .
من الحلق لم ينكف بعينك مدمع
وسئل أبو العباس عن الاستنكاف فقال : هو من النكف ، يقال : ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف ، والنكف أن يقال له سوء ، واستنكف دفع ذلك السوء.
{ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } المعنى : فبظلم عظيم ، أو فيظلم أي ظلم.
وحذف الصفة لفهم المعنى جائز كما قال : لقد وقعت على لحم أي لحم متبع ، ويتعلق بحرمنا.
وتقدم السبب على المسبب تنبيهاً على فحش الظلم وتقبيحاً له وتحذيراً منه.
والطيبات هي ما ذكر في قوله : { وعلى الذين هادوا وحرمت عليهم } الألبان وبعض الطير والحوت ، وأحلت لهم صفة الطيبات بما كانت عليه.
وأوضح ذلك قراءة ابن عباس : طيبات كانت أحلت لهم.
{ وبصدهم عن سبيل الله كثيراً } أي ناساً كثيراً ، فيكون كثيراً مفعولاً بالمصدر ، وإليه ذهب الطبري.
قال : صدوا بجحدهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم جمعاً عظيماً من الناس ، أو صد كثيراً.
وقدره بعضهم زماناً كثيراً.
{ وأخذهم الربا وقد نهوا عنه } وهذه جملة حالية تفيد تأكيد قبح فعلهم وسوء صنيعهم ، إذ ما نهى الله عنه يجب أن يبعد عنه.
قالوا : والربا محرم في جميع الشرائع.
{ وأكلهم أموال الناس بالباطل } أي الرشا التي كانوا يأخذونها من سفلتهم في تحريف الكتاب.
وفي هذه الآية فصلت أنواع الظلم الموجب لتحريم الطيبات.
قيل : كانوا كلما أحدثوا ذنباً حرم عليهم بعض الطيبات ، وأهمل هنا تفصيل الطيبات ، بل ذكرت نكرة مبهمة.
وفي المائدة فصل أنواع ما حرم ولم يفصل السبب.
فقيل : ذلك جزيناهم ببغيهم ، وأعيدت الباء في : { وبصدهم } لبعده عن المعطوف عليه بالفصل بما ليس معمولاً للمعطوف عليه ، بل في العامل فيه.
ولم يعد في : { وأخذهم } وأكلهم لأن الفصل وقع بمعمول المعطوف عليه.
ونظير إعادة الحرف وترك إعادته قوله : { فبما نقضهم ميثاقهم } الآية.
وبدىء في أنواع الظلم بما هو أهم ، وهو أمر الدّين ، وهو الصد عن سبيل الله ، ثم بأمر الدنيا وهو ما يتعلق به الأذى في بعض المال ، ثم ارتقى إلى الأبلغ في المال الدنيوي وهو أكله بالباطل أي مجاناً لا عوض فيه.
وفي ذكر هذه الآية امتنان على هذه الأمة حيث لم يعاملهم معاملة اليهود فيحرم عليهم في الدنيا الطيبات عقوبة لهم بذنوبهم.
{ وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً مهيناً } لما ذكر عقوبة الدنيا ذكر ما أعد لهم في الآخرة.
ولما كان ذلك التحريم عامّاً لليهود بسبب ظلم من ظلم منهم ، فالتزمه ظالمهم وغير ظالمهم كما قال تعالى :

{ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } بين أن العذاب الأليم إنما أعد للكافرين منهم ، فلذلك لم يأت وأعتدنا لهم.
{ لكن الراّاسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً } مجيء لكنْ هنا في غاية الحسن ، لأنها داخلة بين نقيضين وجزائهما ، وهم : الكافرون والعذاب الأليم ، والمؤمنون والأجر العظيم ، والراسخون الثابتون المنتصبون المستبصرون منهم : كعبد الله بن سلام وأضرابه ، والمؤمنون يعني منهم ، أو المؤمنون عن المهاجرين والأنصار.
والظاهر أنه عام في مَن آمن.
وارتفع الراسخون على الابتداء ، والخبر يؤمنون لا غير ، لأن المدح لا يكون إلا بعد تمام الجملة.
ومن جعل الخبر أولئك سنؤتيهم فقوله ضعيف ، وانتصب المقيمين على المدح ، وارتفع والمؤتون أيضاً على إضمار وهم على سبيل القطع إلى الرفع.
ولا يجوز أن يعطف على المرفوع قبله ، لأنّ النعت إذا انقطع في شيء منه لم يعد ما بعده إلى إعراب المنعوت ، وهذا القطع لبيان فضل الصلاة والزكاة ، فكثر الوصف بأن جعل في جمل.
وقرأ ابن جبير ، وعمرو بن عبيد ، والجحدري ، وعيسى بن عمر ، ومالك بن دينار ، وعصمة عن الأعمش ويونس وهارون عن أبي عمرو : والمقيمون بالرفع نسقاً على الأول ، وكذا هو في مصحف ابن مسعود ، قاله الفراء.
وروي أنها كذلك في مصحف أُبيّ.
وقيل : بل هي فيه ، والمقيمين الصلاة كمصحف عثمان.
وذكر عن عائشة وأبان بن عثمان : أن كتبها بالياء من خطأ كاتب المصحف ، ولا يصح عنهما ذلك ، لأنهما عربيان فصيحان ، قطع النعوت أشهر في لسان العرب ، وهو باب واسع ذكر عليه شواهد سيبويه وغيره ، وعلى القطع خرج سيبويه ذلك.
قال الزمخشري : ولا نلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خط المصحف ، وربما التفت إليه من ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتتان ، وعنى عليه : أنّ السابقين الأوّلين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذب المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة يسدها من بعدهم وخرقاً يرفوه من يلحق بهم انتهى.
ويعني بقوله : من لم ينظر في الكتاب كتاب سيبويه رحمه الله فإن اسم الكتاب علم عليه ، ولجهل من يقدم على تفسير كتاب الله وإعراب ألفاظه بغير أحكام علم النحو ، جوّزوا في عطف والمقيمين وجوهاً : أحدها : أن يكون معطوفاً على بما أنزل إليك ، أي يؤمنون بالكتب وبالمقيمين الصلاة.
واختلفوا في هذا الوجه من المعنيّ بالمقيمين الصلاة ، فقيل : الأنبياء ذكره الزمخشري وابن عطية.
وقيل : الملائكة ذكره ابن عطية.
وقيل : المسلمون ، والتقدير : وندب المقيمين ، ذكر ابن عطية معناه.
والوجه الثاني : أن يكون معطوفاً على الضمير في منهم أي : لكن الراسخون في العلم منهم ، ومن المقيمين ذكره ابن عطية على قوم لم يسمهم.

الوجه الثالث : أن يكون معطوفاً على الكاف في أولئك أي : ما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة.
الوجه الرابع : أن يكون معطوفاً على كاف قبلك على حذف مضاف التقدير : وما أنزل من قبلك وقيل : المقيمين الصلاة.
الوجه الخامس : أن يكون معطوفاً على كاف قبلك ويعني الأنبياء ، ذكره ابن عطية.
وقال ابن عطية : فرق بين الآية والبيت يعني بيت الخرنق ، وكان أنشده قبل وهو :
النازلين بكل معترك . . .
والطيبون معاقد الأزر
بحرف العطف الذي في الآية ، فإنه يمنع عند بعضهم تقدير الفعل وفي هذا نظر انتهى.
إنْ منع ذلك أحد فهو محجوج بثبوت ذلك في كلام العرب مع حرف العطف ، ولا نظر في ذلك كما قال ابن عطية.
قال الشاعر :
ويأوي إلى نسوة عطل . . .
وشعث مراضيع مثل السعالى
وكذلك جوزوا في قوله تعالى : والمؤتون الزكاة ، وجوهاً على غير الوجه الذي ذكرناه : من أنه ارتفع على خبر مبتدأ محذوف على سبيل قطع الصفات في المدح : أحدها : أنه معطوف على الراسخون.
الثاني : على الضمير المستكن في المؤمنون.
الثالث : على الضمير في يؤمنون.
الرابع : أنه مبتدأ وما بعده الخبر وهو اسم الإشارة وما يليه.
وأما المؤمنون بالله فعطف على والمؤتون الزكاة على الوجه الذي اخترناه في رفع والمؤتون.
ولما ذكر أولاً والمؤمنون تضمن الإيمان بما يجب أن يؤمن به ، ثم أخبر عنهم وعن الراسخين أنهم يؤمنون بالقرآن وبالكتب المنزلة ، ثم وصفهم بصفات المدح من امتثال أشرف أوصاف الإيمان الفعلية البدنية وهي : الصلاة ، والمالية وهي الزكاة ، ثم ارتقى في المدح إلى أشرف الأوصاف القلبية الاعتقادية وهي الإيمان بالموجد الذي أنزل الكتب وشرع فيها الصلاة والزكاة ، وباليوم الآخر وهو البعث والمعاد الذي يظهر فيه ثمرة الإيمان وامتثال تكاليف الشرع من الصلاة والزكاة وغيرهما.
ثم إنه لما استوفى ذلك أخبر تعالى أنه سيؤتيهم أجراً عظيماً وهو ما رتب تعالى على هذه الأوصاف الجليلة التي وصفهم بها ، وأشار إليهم بأولئك ، ليدل على مجموع تلك الأوصاف.
ومن أعرب والمؤمنون بالله مبتدأ وخبره ما بعده ، فهو بمعزل عن إدراك الفصاحة.
والأجود إعراب أولئك مبتدأ ، ومن نصبه بإضمارفعل تفسيره ما بعده : أنه سيؤتى أولئك سنؤتيهم ، فيجعله من باب الاشتغال ، فليس قوله براجح ، لأن زيد ضربته أفصح وأكثر من زيداً ضربته ، ولأن معمول ما بعد حرف الاستقبال مختلف في جواز تقديمه في نحو : سأضرب زيداً ، وإذا كان كذلك فلا يجوز الاشتغال.
فالأجود الحمل على ما لا خلاف فيه.
وقرأ حمزة : سيؤتيهم بالياء عوداً على قوله : والمؤمنون بالله.
وقرأ باقي السبعة.
على الالتفات ومناسبة وأعتدنا.
{ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } قال ابن عباس : سبب نزولها أن سكين الحبر وعدي بن زيد قالا : يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر شيئاً بعد موسى ولا أوحى إليه.

وقال محمد بن كعب القرظي : لما نزلت : { يسألك أهل الكتاب } الآيات فتليت عليهم وسمعوا الخبر بأعمالهم الخبيثة قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ولا على عيسى ، وجحدوا جميع ذلك فنزلت : { وما قدروا الله حق قدره } إذ قالوا الآية.
وقال الزمخشري : إنا أوحينا إليك جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء ، واحتجاجهم عليهم بأن شأنه في الوحي إليه كسائر الأنبياء الذين سلفوا انتهى.
وقدم نوحاً وجرده منهم في الذكر لأنه الأب الثاني ، وأول الرسل ، ودعوته عامّة لجميع من كان إذ ذاك في الأرض ، كما أن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم عامّة لجميع من في الأرض.
{ وأوحينا إلى ابراهيم واسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان } خص تعالى بالذكر هؤلاء تشريفاً وتعظيماً لهم ، وبدأ بابراهيم لأنه الأب الثالث ، وقدم عيسى على من بعده تحقيقاً لنبوته ، وقطعاً لما رآه اليهود فيه ، ودفعاً لاعتقادهم ، وتعظيماً له عندهم ، وتنويهاً باتساع دائرته.
وتقدم ذكر نسب نوح وابراهيم وهارون في نسب أخيه موسى.
وأما أيوب فذكر الحسين بن أحمد بن القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ النيسابوري نسبه فقال : أيوب بن أموص بن بارح بن تورم بن العيص بن إسحاق بن ابراهيم ، وأمه من ولد لوط بن هارون.
وأما يونس فهو يونس بن متى.
وقرأ نافع في رواية ابن جماز عنه : يونس بكسر النون ، وهي لغة لبعض العرب.
وقرأ النخعي وابن وثاب : بفتحها وهي لغة لبعض عقيل وبعض العرب يهمز ويكسر ، وبعض أسد يهمز ويضم النون ، ولغة الحجاز ما قرأ به الجمهور من ترك الهمز وضم النون.
{ وآتينا داود زبوراً } أي كتاباً.
وكل كتاب يسمى زبوراً ، وغلب على الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود.
وهو فعول بمعنى مفعول كالحلوب والركوب ، ولا يطرد وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ولا حرام ولا حلال ، إنما هي حكم ومواعظ ، وقد قرأت جملة منها ببلاد الأندلس.
قيل : وقدم سليمان في الذكر على داود لتوفر علمه ، بدليل قوله : { ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً } والذي يظهر أنه جمع بين عيسى وأيوب ويونس لأنهم أصحاب امتحان وبلايا في الدنيا ، وجمع بين هارون وسليمان لأن هارون كان محبباً إلى بني إسرائيل معظماً مؤثراً ، وأما سليمان فكان معظماً عند الناس قاهراً لهم مستحقاً له ما ذكره الله تعالى في كتابه ، فجمعهما التحبيب ، والتعظيم.
وتأخر ذكر داود لتشريفه بذكر كتابه ، وإبرازه في جملة مستقلة له بالذكر ولكتابه ، فما فاته من التقديم اللفظي حصل به التضعيف من التشريف المعنوي.
وقرأ حمزة : زبوراً بضم الزاي.

قال أبو البقاء : وفيه وجهان : أحدهما : أنه مصدر كالقعود يسمى به الكتاب المنزل على داود.
والثاني : أنه جمع زبور على حذف الزائد وهو الواو.
وقال أبو علي : كما قالوا طريق وطروق ، وكروان وكروان ، وورشان وورشان ، مما يجمع بحذف الزيادة.
ويقوي هذا التوجيه أن التكسير مثل التصغير ، وقد اطرد هذا المعنى في تصغير الترخيم نحو أزهر وزهير ، والحرث وحريث ، وثابت وثبيت ، والجمع مثله في القياس وإنْ كان أقل منه في الاستعمال.
قال أبو علي : ويحتمل أن يكون جمع زبراً وقع على المزبور كما قالوا : ضرب الأمير ، ونسج اليمن.
وكما سمي المكتوب كتاباً.
{ ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل } أي ذكرنا أخبارهم لك.
{ ورسلاً لم نقصصهم عليك } روي من حديث أبي ذر : أنه سئل عن المرسلين ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كان المرسلون ثلثمائة وثلاثة عشر » قال القرطبي : هذا أصح ما روي في ذلك ، خرجه الآجريّ وأبو حاتم البستي في مسند صحيح له.
وفي حديث أبي ذر هذا : أنه سأله كم كان الأنبياء؟ فقال : « مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي » وروي عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث على أثر ثمانية آلاف من الأنبياء منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل وروي عن كعب الأحبار أنه قال : الأنبياء ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً.
وقال ابن عطية : ما يذكر من عدد الأنبياء غير صحيح ، والله أعلم بعدتهم انتهى.
وانتصاب ورسلاً على إضمار فعل أي : قد قصصنا رسلاً عليك ، فهو من باب الاشتغال.
والجملة من قوله : قد قصصناهم ، مفسرة لذلك الفعل المحذوف ، ويدل على هذا قراءة أبي ورسلُ بالرفع في الموضعين على الابتداء.
وجاز الابتداء بالنكرة هنا ، لأنه موضع تفصيل كما أنشدوا : فثوب لبست وثوب أجر.
وقال امرؤ القيس :
بشق وشق عندنا لم يحوّل . . .
ومن حجج النصب على الرفع كون العطف على جملة فعلية وهي : وآتينا داود زبوراً.
وقال ابن عطية : الرفع على تقدير وهم : رسل ، فعلى قوله يكون قد قصصناهم جملة في موضع الصفة.
وجوّزوا أيضاً نصب ورسلاً من وجهين : أحدهما : أن يكون نصباً على المعنى ، لأن المعنى : إنا أرسلناك وأرسلنا رسلاً ، لأن الرد على اليهود إنما هو في إنكارهم إرسال الرسل واطراد الوحي.
{ وكلم الله موسى تكليماً } هذا إخبار بأن الله شرف موسى بكلامه ، وأكد بالمصدر دلالة على وقوع الفعل على حقيقته لا على مجازه ، هذا هو الغالب.
وقد جاء التأكيد بالمصدر في المجاز ، إلا أنه قليل.
فمن ذلك قول هند بنت النعمان بن بشير الأنصاري :
بكى الخز من عوف وأنكر جلده . . .
وعجت عجيجاً من جذام المطارف
وقال ثعلب : لولا التأكيد بالمصدر لجاز أن تقول : قد كلمت لك فلاناً بمعنى كتبت إليه رقعة وبعثت إليه رسولاً ، فلما قال : تكليماً لم يكن إلا كلاماً مسموعاً من الله تعالى.

ومسألة الكلام مما طال فيه الكلام واختلف فيها علماء الإسلام ، وبهذه المسألة سمي علم أصول الدين بعلم الكلام ، وهي مسألة يبحث عنها في أصول الدين.
وقرأ ابراهيم بن وثاب : وكلم الله بالنصب على أن موسى هو المكلم.
ومن بدع التفاسير أنه من الكلم ، وأنّ معناه : وجرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن.
وقال كعب : كلم الله موسى بالألسنة كلها ، فجعل موسى يقول : رب لا أفهم ، حتى كلمه بلسان موسى آخر الألسنة.
{ رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } أي يبشرون بالجنة من أطاع ، وينذرون بالنار من عصى.
وأراد تعالى أن يقطع بالرسل احتجاج من يقول : لو بعث إلي رسول لآمنت.
وفي الحديث : « وليس أحد أحب إليه العذر من الله » فمن أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله تعالى من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى المعرفة ، والرسل في أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة إلا بالنظر في تلك الأدلة ، ولا عرفوا أنهم رسل الله إلا بالنظر فيها؟ قلت : الرسل منهيون عن الغفلة ، وباعثون على النظر كما ترى علماء العدل والتوحيد ، مع تبليغ ما حملوه من تفصيل أمور الدين ، وبيان أحوال التكليف وتعلم الشرائع ، فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميماً لإلزام الحجة لئلا يقولوا : لولا أرسلت إلينا رسولاً فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له انتهى.
وقوله : لئلا هو كالتعليل لحالتي : التبشير والإنذار.
والتبشير هو بالجنة ، والإنذار هو بالنار.
وليس الثواب والعقاب حاكماً بوجوبهما العقل ، وإنما هو مجوّز لهما ، وجاء السمع فصارا واجباً وقوعهما ، ولم يستفد وجوبهما إلا من البشارة والنذارة.
فلو لم يبشر الرسل بالجنة لمن امتثل التكاليف الشرعية ، ولم ينذروا بالنار من لم يمتثل ، وكانت تقع المخالفة المترتب عليها العقاب بما لا شعور للمكلف بها من حيث أن الله لا يبعث إليه من يعلمه بأنّ تلك معصية ، لكانت له الحجة إذ عوقب على شيء لم يتقدم إليه في التحذير من فعله ، وأنه يترتب عليه العقاب.
وأما ما نصبه الله تعالى من الأدلة العقلية فهي موصلة إلى المعرفة والإيمان بالله على ما يجب ، والعلل في الآية هو غير المعرفة والإيمان بالله ، فلا يرد سؤال الزمخشري.
وانتصب رسلاً على البدل وهو الذي عبر عنه الزمخشري بانتصابه على التكرير.
قال : والأوجه أن ينتصب على المدح.
وجوّز غيره أن يكون مفعولاً بأرسلنا مقدرة ، وأن يكون حالاً موطئة.
ولئلا متعلقة بمنذرين على طريق الإعمال.
وجوّز أن يتعلق بمقدر أي : أرسلناهم بذلك أي : بالبشارة والنذارة لئلا يكون
{ وكان الله عزيزاً حكيماً } أي لا يغالبه شيء ، ولا حجة لأحد عليه ، صادرة أفعاله عن حكمة ، فلذلك قطع الحجة بإرسال الرسل.

وقيل : عزيزاً في عقاب الكفار ، حكيماً في الأعذار بعد تقدم الإنذار.
{ لكنّ الله يشهد بما أنزل إليك } الاستدراك بلكن يقتضي تقدم جملة محذوفة ، لأنّ لكن لا يبتدأ بها ، فالتقدير ما روي في سبب النزول وهو : أنه لما نزل إنا أوحينا إليك قالوا : ما نشهد لك بهذا ، لكن الله يشهد ، وشهادته تعالى بما أنزله إليه إثباته بإظهار المعجزات كما تثبت الدعاوى بالبينات.
وقرأ السلمي والجراح الحكمي : لكنّ الله بالتشديد ، ونصب الجلالة.
وقرأ الحسن بما أنزل إليك مبنياً للمفعول.
{ أنزله بعلمه } قرأ السلمي : نزّله مشدداً.
قال الزجاج : أنزله وفيه علمه.
وقال أبو سليمان الدمشقي : أنزله من علمه.
وقال ابن جريج : أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه.
وقيل : أنزله إليك بعلمه أنك أهل لإنزاله عليك لقيامك بحقه ، وعلمك بما فيه ، وحسن دعائك إليه ، وحثك عليه.
وقيل : بما يحتاج إليه العباد.
وقيل : بعلمه أنّك تبلغه إلى عباده من غير تبديل ولا زيادة ولا نقصان.
قال ابن عطية : هذه الآية من أقوى متعلقات أهل السنة في إثبات علم الله تعالى ، خلافاً للمعتزلة في أنهم يقولون : عالم بلا علم.
والمعنى عند أهل السنة : أنزله وهو يعلم إنزاله ونزوله.
ومذهب المعتزلة في هذه الآية : أنه أنزله مقترناً بعلمه ، أي فيه علمه من غيوب وأوامر ونحو ذلك ، فالعلم عبارة عن المعلومات التي في القرآن كما هو في قول الخضر ، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما ينقص هذا العصفور من هذا البحر.
وقال الزمخشري : أنزله ملتبساً بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره ، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان ، وموقعه مما قبله موقع الجملة المفسرة ، لأنه بيان للشهادة بصحته أنه أنزله بالنظم المعجز الفائت للقدر ، ويحتمل أنه أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة.
{ والملائكة يشهدون } أي بما أنزل الله إليك.
وشهادة الملائكة تبع لشهادة الله ، وقد علم بشهادة الله له ، إذ أظهر على يديه المعجزات ، وهذا على سبيل التسلية له عن تكذيب اليهود ، إن كذبك اليهود وكذبوا ما جئت به من الوحي ، فلا تبال ، فإن الله يشهد لك وملائكته ، فلا تلتفت إلى تكذيبهم.
{ وكفى بالله شَهِيداً } أي وإن لم يشهد غيره { قل أيّ شيء أكبر شهادة قل الله } إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالاً بعيداً } أي ضلالاً لا يقرب رجوعهم عنه ، ولا تخلصهم منه ، لأنه يعتقد عن نفسه أنه محق ثم يتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال والجاه وإلقاء غيره فيه ، فهو ضلال في أقصى غاياته.

وقرأ عكرمة وابن هرمز : وصدوا بضم الصاد ، قيل : وهي في اليهود.
{ إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً إلا طريق جهنم خالدين فيها أبداً } قيل : هذه في المشركين.
وقد تقدّم الكلام على لام الجحود وما بعدها ، وأن الإتيان بها أبلغ من الإتيان بالفعل المجرد عنها.
وهذا الحكم مقيد بالموافاة على الكفر.
وقال أبو سليمان الدمشقي : المعنى لم يكن الله ليستر عليهم قبيح أفعالهم ، بل يفضحهم في الدنيا ويعاقبهم بالقتل والجلاء والسبي ، وفي الآخرة بالنار.
وقال الزمخشري : كفروا وظلموا ، جمعوا بين الكفر والمعاصي ، وكان بعضهم كافرين وبعضهم ظالمين أصحاب الكبائر ، لأنه لا فرق بين الفريقين في أنه لا يغفر لهما إلا بالتوبة ، ولا ليهديهم طريقاً لا يلطف بهم فيسلكون الطريق الموصل إلى جهنم ، ولا ليهديهم يوم القيامة إلا طريقها انتهى.
وهو على طريقة الاعتزال في أنّ صاحب الكبائر لا يغفر له ما لم يتب منها ، وإن أريد بقوله طريقاً مخصوصاً أي عملاً صالحاً يدخلون به الجنة ، كان قوله : إلا طريق جهنم استثناء منقطعاً.
{ وكان ذلك على الله يسيراً } أي انتفاء غفرانه وهدايته إياهم وطردهم في النار سهلاً لا صارف له عنه ، وهذا تحقير لأمرهم ، وأنه تعالى لا يعبأ بهم ولا يبالي.
{ يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيراً لكم } هذا خطاب لجميع الناس.
وإن كانت السورة مدنية فالمأمور به أمر عام ، ولو كان خاصاً بتكليف ما لكان النداء خاصاً بالمؤمنين في الغالب.
والرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم ، والحق هو شرعه ، وقد فسر بالقرآن وبالدين وبشهادة التوحيد.
وروي عن ابن عباس أنها نزلت في المشركين.
وفي انتصاب خيراً لكم هنا.
وفي قوله : انتهوا خيراً لكم في تقدير الناصب ثلاثة أوجه : مذهب الجليل ، وسيبويه.
وأتوا خيراً لكم ، وهو فعل يجب إضماره.
ومذهب الكسائي وأبي عبيدة : يكن خيراً لكم ، ويضمر إن يكن ومذهب الفراء إيماناً خيراً لكم وانتهاء خيراً لكم ، بجعل خيراً نعتاً لمصدر محذوف يدل عليه الفعل الذي قبله.
والترجيح بين هذه الأوجه مذكور في علم النحو.
{ وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض } تقدم تفسير مثل هذا.
{ وكان الله عليماً حكيماً } عليماً بما يكون منكم من كفر وإيمان فيجازيكم عليه ، حكيماً في تكليفكم مع علمه تعالى بما يكون منكم.
{ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } قيل : نزلت في نصارى نجران قاله مقاتل.
وقال الجمهور : في عامة النصارى ، فإنهم يعتقدون الثالوت يقولون : الأب ، والابن ، وروح القدس إله واحد.
وقيل : في اليهود والنصارى ، نهاهم عن تجاوز الحد.
والمعنى : في دينكم الذي أنتم مطلوبون به ، وليست الإشارة إلى دينهم المضلل ، ولا أمروا بالثبوت عليه دون غلو ، وإنما أمروا بترك الغلو في دين الله على الإطلاق.

وغلت اليهود في حط المسيح عليه السلام عن منزلته حيث جعلته مولوداً لغير رشده.
وغلت النصارى فيه حيث جعلوه إلها.
والذي يظهر أنّ قوله : يا أهل الكتاب خطاب للنصارى ، بدليل آخر الآية.
ولما أجاب الله تعالى عن شبه اليهود الذين يبالغون في الطعن على المسيح أخذ في أمر النصارى الذين يفرطون في تعظيم المسيح حتى ادعوا فيه ما ادعوا.
{ ولا تقولوا على الله إلا الحق } وهو تنزيهه عن الشريك والولد والحلول والاتحاد.
{ إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } قرأ جعفر بن محمد : إنما المسيح على وزن السكيت.
وتقدم شرح الكلمة في { بكلمة منه اسمه المسيح } ومعناها ألقاها إلى مريم أوجد هذا الحادث في مريم وحصله فيها.
وهذه الجملة قيل : حال.
وقيل : صفة على تقدير نية الانفصال أي : وكلمة منه.
ومعنى روح منه أي : صادرة ، لأنه ذو روح وجد من غير جزء من ذي روح ، كالنطفة المنفصلة من الأب الحي ، وإنما اخترع اختراعاً من عند الله وقدرته.
وقال أُبيّ بن كعب : عيسى روح من أرواح الله تعالى الذي خلقها واستنطقها بقوله : { ألست بربكم قالوا بلى } بعثه الله إلى مريم فدخل.
وقال الطبري وأبو روق : وروح منه أي نفخة منه ، إذا هي من جبريل بأمره.
وأنشد بيت ذي الرمة :
فقلت له اضممها إليك وأحيها . . .
بروحك واجعله لها قيتة قدرا
يصف سقط النار وسمي روحاً لأنه حدث عن نفخة جبريل.
وقيل : ومعنى وروح منه أي رحمة.
ومنه { وأيدهم بروح منه }.
وقيل : سمي روحاً لأحياء الناس به كما يحيون بالأرواح ، ولهذا سمي القرآن روحاً.
وقيل : المعنى بالروح هنا الوحي أي : ووحى إلى جبريل بالنفخ في درعها ، أو إلى ذات عيسى أن كن ، ونكر وروح لأن المعنى على تقدير صفة لا على إطلاق روح ، أي : وروح شريفة نفيسة من قبله تعالى.
ومن هنا لابتداء الغاية ، وليست للتبعيض كما فهمه بعض النصارى فادعى أنّ عيسى جزء من الله تعالى ، فرد عليه علي بن الحسين بن وافد المروزي حين استدل النصراني بأنّ في القرآن ما يشهد لمذهبه وهو قوله : وروح منه ، فأجابه ابن وافد بقوله : { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه } وقال : إن كان يجب بهذا أن يكون عيسى جزأ منه وجب أن يكون ما في السموات وما في الأرض جزأ منه ، فانقطع النصراني وأسلم.
وصنف ابن فايد إذ ذاك كتاب النظائر.
{ فآمنوا بالله ورسله } أي الذين من جملتهم عيسى ومحمد عليهما السلام.
{ ولا تقولوا ثلاثة } خبر مبتدأ محذوف أي : الآلهة ثلاثة.
قال لزمخشري : والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة ، وأن المسيح ولد الله من مريم.

ألا ترى إلى قوله : { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، والمشهور المستفيض عنهم أنهم يقولون في المسيح لاهوتيته وناسوتيته من جهة الأب والأم ، ويدل عليه قوله : إنما المسيح عيسى ابن مريم ، فأثبت أنه ولد لمريم أتصل بها اتصال الأولاد بأمهاتهم ، وأنّ اتصاله بالله عز وجل من حيث أنه رسوله ، وأنه موجود بأمره ، وابتداعه جسداً حياً من غير أب ينفي أنه يتصل به اتصال الأبناء بالآباء.
وقوله : { سبحانه أن يكون له ولد } وحكاية الله أوثق من حكاية غيره ، وهذا الذي رجحه الزمخشري قول ابن عباس قاله يريد بالتثليث : الله تعالى ، وصاحبته ، وابنه.
وقال الزمخشري أيضاً إن صحت الحكاية عنهم أنهم يقولون هو جوهر واحد ثلاثة أقانيم : أقنوم الأب ، وأقنوم الابن ، وأقنوم روح القدس ، وأنهم يريدون باقنوم الأب الذات ، وبأقنوم الابن العلم ، وبأقنوم روح القدس الحياة ، فتقديره الله ثلاثة انتهى.
وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون التقدير المعبود ثلاثة ، أو الآلهة ثلاثة ، أو الأقانيم ثلاثة.
وكيفما تشعب اختلاف عبارات النصارى فإنه يختلف بحسب ذلك التقدير انتهى.
وقال الزجاج : تقديره إلها ثلاثة.
وقال الفراء وأبو عبيد : تقديره ثلاثة كقوله : { سيقولون ثلاثة } وقال أبو علي : التقدير الله ثالث ثلاثة ، حذف المبتدأ والمضاف انتهى.
أراد أبو علي موافقة قوله : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } أي أحد آلهة ثلاثة والذي يظهر أن الذي أثبتوه هو ما أثبت في الآية خلافه ، والذي أثبت في الآية بطريق الحصر إنما هو وحدانية الله تعالى ، وتنزيهه أن يكون له ولد ، فيكون التقدير : ولا تقولوا الله ثلاثة.
ويترجح قول أبي علي بموافقته الآية التي ذكرناها ، وبقوله تعالى سبحانه أن يكون له ولد ، والنصارى وإن اختلفت فرقهم فهم مجمعون على التثليث.
{ انتهوا خيراً لكم } تقدم الكلام في انتصاب خيراً.
وقال الزمخشري في تقدير مذهب سيبويه في نصبه لما بعثهم على الإيمان يعني في قوله : { فآمنوا خيراً لكم } وعلى الانتهاء عن التثليث يعني في قوله : انتهوا خيراً لكم ، علم أنه يحملهم على أمر فقال : خيراً لكم أي اقصدوا وأتوا خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث ، وهو الإيمان والتوحيد انتهى.
وهو تقدير سيبويه في الآية.
{ إنما الله إله واحد } قال ابن عطية : إنما في هذه الآية حاصرة ، اقتضى ذلك العقل في المعنى المتكلم فيه ، وليست صيغة ، إنما تقتضي الحصر ، ولكنها تصلح للحصر والمبالغة في الصفة ، وإن لم يكن حصر نحو : إنما الشجاع عنترة وغير ذلك انتهى كلامه.
وقد تقدم كلامنا مشبعاً في إنما في قوله : { إنما نحن مصلحون } وكلام ابن عطية فيها هنا أنها لا تقتضي بوضعها الحصر صحيح ، وإن كان خلاف ما في أذهان كثير من الناس.
{ سبحانه أن يكون له ولد } معناه تنزيهاً له وتعظيماً من أن يكون له ولد كما تزعم النصارى في أمره ، إذ قد نقلوا أبوة الحنان والرأفة إلى أبوة النسل.

وقرأ الحسن : إن يكون له ولد بكسر الهمزة وضم النون من يكون ، على أنّ أن نافية أي : ما يكون له ولد فيكون التنزيه عن التثليث ، والإخبار بانتفاء الولد ، فالكلام جملتان ، وفي قراءة الجماعة جملة واحدة.
{ له ما في السموات وما في الأرض } إخبار لملكه بجميع من فيهن ، فيستغرق ملكه عيسى وغيره.
ومن كان ملكاً لا يكون جزءاً من المالك على أن الجزئية لا تصحّ إلا في الجسم ، والله تعالى نزه عن الجسم والعرض.
{ وكفى بالله وكيلاً } أي كافياً في تدبير مخلوقاته وحفظها ، فلا حاجة إلى صاحبة ولا ولد ولا معين.
وقيل : معناه كفيلاً لأوليائه.
وقيل : المعنى يكل الخلق إليه أمورهم ، فهو الغني عنهم ، وهم الفقراء إليه.
{ لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون } روي أنّ « وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لم تعيب صاحبنا؟ قال : وما صاحبكم؟ قالوا : عيسى قال : وأي شيء أقول؟ قالوا : تقول أنه عبد الله ورسوله قال : إنه ليس بعار أن يكون عبداً قالوا : بلى ».
فنزلت أي لا يستنكف عيسى من ذلك فلا تستنكفوا له منه ، فلو كان موضع استنكاف لكان هو أولى بأن يستنكف لأن العار ألصق به ، أي : لن يأنف ويرتفع ويتعاظم.
وقرأ على عبيد الله على التصغير.
والمقربون أي : الكروبيون الذين هم حول العرش كجبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، ومن في طبقتهم قاله الزمخشري.
وقال ابن عباس : هم حملة العرش.
وقال الضحاك : من قرب منهم من السماء السابعة انتهى.
وعطفوا على عيسى لأن من الكفار من يعبد الملائكة.
وفي الكلام حذف التقدير : ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبيداً الله ، فإن ضمن عبداً معنى ملكاً لله لم يحتج إلى هذا التقدير ، ويكون إذ ذاك ولا الملائكة من باب عطف المفردات ، بخلاف ما إذا لحظ في عبد الوحدة.
فإن قوله : ولا الملائكة يكون من باب عطف الجمل لاختلاف الخبر.
وإن لحظ في قوله : ولا الملائكة معنى : ولا كل واحد من الملائكة ، كان من عطف المفردات.
وقد تشبث بهذه الآية من زعم أن الملائكة أفضل من الأنبياء.
قال ابن عطية : ولا الملائكة المقربون زيادة في الحجة وتقريب من الأذهان أي : ولا هؤلاء الذين هم في أعلى درجات المخلوقين لا يستنكفون عن ذلك ، فكيف من سواهم؟ وفي هذه الآية الدليل الواضح على تفضيل الملائكة على الأنبياء انتهى.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : من أين دل قوله تعالى : ولا الملائكة المقربون على أن المعنى ولا من فوقه؟ ( قلت ) : من حيث أنّ علم المعاني لا يقتضي غير ذلك ، وذلك أنّ الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن مرتبة العبودية ، فوجب أن يقال لهم : لن يرتفع عيسى عن العبودية ، ولا من هو أرفع منه درجة.

كأنه قيل : لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية ، فكيف بالمسيح؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة تخصيص المقربين لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة ، ومثاله قول القائل :
وما مثله ممن يجاود حاتم . . .
ولا البحر ذو الأمواج يلتج زاخره
لا شبهة بأنه قصد بالبحر ذي الأمواج ما هو فوق حاتم في الجود.
ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى } حتى يعترف بالفرق البين انتهى كلامه.
والتفضيل بين الأنبياء والملائكة إنما يكون بالسمع ، إذ نحن لا ندرك جهة التفضيل بالعقل ، وأما الآية فقد يقال : متى نفي شيء عن اثنين فلا يدل ذلك على أن الثاني أرفع من الأول ، ولا أن ذلك من باب الترقي.
( فإذا قلت ) : لن يأنف فلان أن يسجد لله ولا عمر ، وفلا دلالة فيه على أنّ عمراً أفضل من زيد.
وإن سلّمنا ذلك فليست الآية من هذا القبيل ، لأنه قابل مفرداً بجمع ، ولم يقابل مفرداً بمفرد ولا جمعاً بجمع.
فقد يقال : الجمع أفضل من المفرد ، ولا يلزم من الآية تفضيل الجمع على الجمع ، ولا المفرد على المفرد.
وإنْ سلمنا أنّ المعطوف في الآية أرفع من المعطوف عليه ، فيكون ذلك بحسب ما ألقي في أذهان العرب وغيرهم من تعظيم الملك وترفيعه ، حتى أنهم ينفون البشرية عن الممدوح ويثبتون له الملكية ، ولا يدل تحيلهم ذلك على أنه في نفس الأمر أفضل وأعظم ثواباً ومما ورد من ذلك على حسب ما ألقي في الأذهان قوله تعالى حكاية عن النسوة التي فاجأهنّ حسن يوسف : { فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهنّ وقلن حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم } وقال الشاعر :
فلست بإنسي ولكن لملأك . . .
تنزل من جوف السماء يصوب
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : علام عطف ولا الملائكة المقربون؟ ( قلت ) : إما أن يعطف على المسيح ، أو على اسم يكون ، أو على المستتر في عبداً لما فيه من معنى الوصف ، لدلالته على معنى العبادة ، وقولك : مررت برجل عبد أبوه ، فالعطف على المسيح هو الظاهر لأداء غيره إلى ما فيه بعض انحراف عن الغرض ، وهو أن المسيح لا يأنف أن يكون هو ولا من فوقه موصوفين بالعبودية ، أو أن يعبد الله هو ومن فوقه انتهى.
والانحراف عن الغرض الذي أشار إليه هو كون الاستنكاف يكون مختصاً بالمسيح ، والمعنى القائم اشتراك الملائكة مع المسيح في انتفاء الاستنكاف عن العبودية ، لأنه لا يلزم من استنكافه وحده أن يكون هو والملائكة عبيداً ، أو أن يكون هو وهم يعبد ربه استنكافهم هم ، فقد يرضى شخص أن يضرب هو وزيد عمراً ولا يرضى ذلك زيد ويظهر أيضاً مرجوحية الوجهين من جهة دخول لا ، إذ لو أريد العطف على الضمير في يكون ، أو على المستتر في عبداً.

لم تدخل لا ، بل كان يكون التركيب بدونها تقول : ما يريد زيد أن يكون هو وأبوه قائمين ، وتقول : ما يريد زيد أن يصطلح هو وعمرو ، فهذان ونحوهما ليسا من مظنات دخول لا ، فإن وجد من لسان العرب دخول لا في نحو من هذا فهي زائدة.
{ ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً } حمل أولاً على لفظ مَن فأفرد الضمير في يستنكف ويستكبر ، ثم حمل على المعنى في قوله : فسيحشرهم ، فالضمير عائد على معنى من هذا هو الظاهر ، ويحتمل أن يكون الضمير عامّاً عائداً على الخلق لدلالة المعنى عليه ، لأن الحشر ليس مختصاً بالمستنكف ، ولأنّ التفصيل بعده يدل عليه.
ويكون ربط الجملة الواقعة جواباً لاسم الشرط بالعموم الذي فيها ، ويحتمل أن يعود الضمير على معنى مَن ، ويكون قد حذف معطوف عليه لمقابلته إياه التقدير : فسيحشرهم ومن لم يستنكف إليه جميعاً كقوله : { سرابيل تقيكم الحرّ } أي : والبرد.
وعلى هذين الاحتمالين يكون ما فصل بإمّا مطابقاً لما قبله ، وعلى الوجه الأوّل لا يطابق.
والإخبار بالحشر إليه وعيد إذ.
المعنى به الجمع يوم القيامة حيث يذل المستنكف المستكبر.
وقرأ الحسن : بالنون بدل الياء في فسيحشرهم ، وباء فيعذبهم على التخفيف.

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)

{ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله } أي لا يبخس أحداً قليلاً ولا كثيراً ، والزيادة يحتمل أن يكون في أن الحسنة بعشر إلى سبعمائة ، والتضعيف الذي ليس بمحصور في قوله : { والله يضاعف لمن يشاء } قال معناه ابن عطية رحمه الله تعالى.
{ وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليماً ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً } هذا وعيد شديد للذين يتركون عبادة الله أنفة تكبراً.
وقال ابن عطية : وهذا الاستنكاف إنما يكون من الكفار عن اتباع الأنبياء وما جرى مجراه كفعل حيي بن أخطب وأخيه أبي ياسر وأبي جهل وغيرهم بالرسول ، فإذا فرضت أحداً من البشر عرف الله فمحال أن تجده يكفر به تكبراً عليه ، والعناد إنما يسوق إليه الاستكبار على البشر ، ومع تفاوت المنازل في ظن المستكبر انتهى.
وقدّم ذكر ثواب المؤمن لأنّ الإحسان إليه مما يعم المستنكف إذا كان داخلاً في جملة التنكيل به ، فكأنه قيل : ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب بالحشر إذا رأى أجور العاملين ، وبما يصيبه من عذاب الله تعالى.
{ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً } الجمهور على أنّ البرهان هو محمد صلى الله عليه وسلم ، وسماه برهاناً لأنّ منه البرهان ، وهو المعجزة.
وقال مجاهد : البرهان هنا الحجة ، وقيل : البرهان الإسلام ، والنور المبين هو القرآن.
{ فأمّا الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً } الظاهر أنّ الضمير في به عائد على لقربه وصحة المعنى ، ولقوله : واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله.
ويحتمل أن يعود على القرآن الذي عبر عنه بقوله : وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً وفي الحديث : « القرآن حبل الله المتين من تمسك به عصم » والرحمة والفضل : الجنة.
وقال الزمخشري : في رحمة منه وفضل في ثواب مستحق وتفضل انتهى.
ولفظ مستحق من ألفاظ المعتزلة.
وقيل : الرحمة زيادة ترقية ، ورفع درجات.
وقيل : الرحمة التوفيق ، والفضل القبول.
والضمير في إليه عائد على الفضل ، وهي هداية طريق الجنان كما قال تعالى : { سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم } لأن هداية الإرشاد قد تقدّمت وتحصلت حين آمنوا بالله واعتصموا ، وعلى هذا الصراط طريق الجنة.
وقال الزمخشري : ويهديهم إلى عبادته ، فجعل الضمير عائداً على الله تعالى وذلك على حذف مضاف وهذا هو الظاهر ، لأنه المحدث عنه ، وفي رحمة منه وفضل ليس محدثاً عنهما.
قال أبو علي : هي راجعة إلى ما تقدم من اسم الله تعالى ، والمعنى : ويهديهم إلى صراطه ، فإذا جعلنا صراطاً مستقيماً نصباً على الحال كانت الحال من هذا المحذوف انتهى.
ويعني : دين الإسلام.
وقيل : الهاء عائدة على الرحمة والفضل لأنهما في معنى الثواب.

وقيل : هي عائدة على القرآن.
وقيل : معنى صراطاً مستقيماً عملاً صالحاً.
{ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } قال البراء بن عازب : هي آخر آية نزلت.
وقال كثير من الصحابة ، من آخر ما نزل.
وقال جابر بن عبد الله : نزلت بسبب عادني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا مريض فقلت : يا رسول الله كيف أقضي في مالي وكان لي تسع أخوات ولم يكن لي ولد ولا والد؟ فنزلت.
وقيل : إنّ جابراً أتاه في طريق مكة عام حجة الوداع فقال : إن لي أختاً ، فكم آخذ من ميراثها إن ماتت ، فنزلت.
وتقدّم الكلام في لفظ الكلالة اشتقاقاً ومدلولاً وكان أمرها أمراً مشكلاً ، روي عنه في أخبارها روايات ، وفي حديثه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " يكفيك آية الصيف التي نزلت في آخر سورة النساء " وقد روى أبو سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " التي أنزلت في الصيف هي وإن كان رجل يورث كلاله " والظاهر أنها { يستفتونك } لأن البراء قال : هي آخر آية نزلت.
قال ابن عطية : قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفيك منها آية الصيف بيان فيه كفاية وجلاء.
ولا أدري ما الذي أشكل منها على الفاروق رضوان الله عليه اللهم إلا أن يكون دلالة اللفظ اضطربت على كثير من الناس ، ولذلك قال بعضهم : الكلالة الميت نفسه.
وقال آخرون : الكلالة المال إلى غير ذلك من الخلاف انتهى كلامه.
وقد ختمت هذه السورة بهذه الآية كما بدئت أولاً بأحكام الأموال في الإرث وغيره ، ليتشاكل المبدأ والمقطع ، وكثيراً ما وقع ذلك في السور.
روى عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال في خطبته : « ألا إنّ آية أول سورة النساء أنزلها الله في الولد والوالد ، والآية الثانية أنزلها الله في الزوج والزوجة والأخوة من الأم ، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولى الأرحام» في الكلالة متعلق بيفتيكم على طريق أعمال الثاني.
{ وإن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك } المراد بالولد الابن ، وهو اسم مشترك يجوز استعماله للذكر والأنثى ، لأن الابن يسقط الأخت ، ولا تسقطها البنت إلا في مذهب ابن عباس.
والمراد بالأخت الشقيقة ، أو التي لأب دون التي لأم ، لأن الله فرض لها النصف ، وجعل أخاها عصبة.
وقال : للذكر مثل حظ الأنثيين.
وأما الأخت للأم فلها السدس في آية المواريث ، سوى بينها وبين أخيها.
وارتفع امرؤ على أنه فاعل بفعل محذوف يفسره ما بعده ، والجملة من قوله : ليس له ولد ، في موضع الصفة لامرؤ ، أي : إنْ هلك امرؤ غير ذي ولد.
وفيه دليل على جواز الفصل بين النعت والمنعوت بالجملة المفسرة في باب الاشتغال ، فعلى هذا القول زيداً ضربته العاقل.

وكلما جاز الفصل بالخبر جاز بالمفسر ، ومنع الزمخشري أن يكون قوله : ليس له ولد ، جملة حالية من الضمير في هلك ، فقال : ومحل ليس له ولد الرفع على الصفة ، لا النصب على الحال.
وأجاز أبو البقاء فقال : ليس له ولد الجملة في موضع الحال من الضمير في هلك ، وله أخت جملة حالية أيضاً.
والذي يقتضيه النظر أنّ ذلك ممتنع ، وذلك أنّ المسند إليه حقيقة إنما هو الاسم الظاهر المعمول للفعل المحذوف ، فهو الذي ينبغي أن يكون التقييد له ، أما الضمير فإنه في جملة مفسرة لا موضع لها من الإعراب ، فصارت كالمؤكدة لما سبق.
وإذا تجاذب الاتباع والتقييد مؤكد أو مؤكد بالحكم ، إنما هو للمؤكد ، إذ هو معتمد الإسناد الأصلي.
فعلى هذا لو قلت : ضربت زيداً ضربت زيداً العاقل ، انبغى أن يكون العاقل نعتاً لزيد في الجملة الأولى ، لا لزيد في الجملة الثانية ، لأنها جملة مؤكدة للجملة الأولى.
والمقصود بالإسناد إنما هو الجملة الأولى لا الثانية.
قيل : وثم معطوف محذوف للاختصار ، ودلالة الكلام عليه.
والتقدير : ليس له ولد ولا والد.
{ وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } أي إنْ قدّر الأمر على العكس من موتها وبقائه بعدها.
والمراد بالولد هنا الابن ، لأن الابن يسقط الأخ دون البنت.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : الابن لا يسقط الأخ وحده ، فإن الأب نظيره في الإسقاط ، فلم اقتصر على نفي الولد؟ ( قلت ) : وكل حكم انتفاء الوالد إلى بيان السنة وهو قوله عليه السلام : « ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولي عصبة » ذكر الأب أولى من الأخ ، وليسا بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة.
ويجوز أن يدل بحكم انتفاء الولد على حكم انتفاء الوالد ، لأنّ الولد أقرب إلى الميت من الوالد.
فإذا ورث الأخ عند انتفاء الأقرب ، فأولى أن يرث عند انتفاء الأبعد ، ولأن الكلالة تتناول انتفاء الوالد والولد جميعاً ، فكان ذكر انتفاء أحدهما دالاً على انتفاء الآخر انتهى كلامه.
والضمير في قوله : وهو وفي يرثها عائد إلى ما تقدم لفظاً دون معنى ، فهو من باب عندي درهم ونصفه ، لأن الهالك لا يرث ، والحية لا تورث ، ونظيره في القرآن : { وما يعمَّر من معمر ولا ينقص من عمره } وهذه الجملة مستقلة لا موضع لها من الإعراب ، وهي دليل جواب الشرط الذي بعدها.
{ فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } قالوا : الضمير في كانتا ضمير أختين دل على ذلك قوله : وله أخت.
وقد تقرر في علم العربية أن الخبر يفيد ما لا يفيده الاسم.
وقد منع أبو عليّ وغيره سيد الجارية مالكها ، لأن الخبر أفاد ما أفاده المبتدأ.
والألف في كانتا تفيد التثنية كما أفاده الخبر ، وهو قوله اثنتين.
وأجاب الأخفش وغيره بأن قوله : اثنتين يدل على عدم التقييد بالصغر أو الكبر أو غيرهما من الأوصاف ، فاستحق الثلثان بالاثنينية مجردة عن القيود ، فلهذا كان مفيداً وهذا الذي قالوه ليس بشيء ، لأن الألف في الضمير للاثنتين يدل أيضاً على مجرد الاثنينية من غير اعتبار قيد ، فصار مدلول الألف ومدلول اثنتين سواء ، وصار المعنى : فإن كانتا الأختان اثنتين ، ومعلوم أنّ الأختين اثنتان.

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : إلى مَن يرجع ضمير التثنية والجمع في قوله : فإن كانتا اثنتين ، وإن كانوا أخوة؟ ( قلت ) : أصله فإن كان من يرث بالأخوة اثنتين ، وإن كان من يرث بالأخوة ذكوراً وإناثاً.
وإنما قيل : فإن كانتا ، وإن كانوا.
كما قيل : من كانت أمك ، فكما أنث ضمير من لمكان تأنيث الخبر ، كذلك ثنى ، وجمع ضمير من يرث في كانتا وكانوا ، لمكان تثنية الخبر وجمعه انتهى.
وهو تابع في هذا التخريج غيره ، وهو تخريج لا يصح ، وليس نظير من كانت أمك ، لأنَّ مَن صرّح بها ولها لفظ ومعنى.
فمَن أنّث راعى المعنى ، لأن التقدير : أية أم كانت أمك.
ومدلول الخبر في هذا مخالف لمدلول الاسم ، بخلاف الآية ، فإنّ المدلولين واحد ،.
ولم يؤنث في مَن كانت أمك لتأنيث الخبر ، إنّما أنث مراعاة لمعنى من إذ أراد بها مؤنثاً.
ألا ترى إنك تقول : من قامت فتؤنث مراعاة للمعنى إذا أردت السؤال عن مؤنث ، ولا خبر هنا فيؤنث قامت لأجله.
والذي يظهر لي في تخريج الآية غير ما ذكر.
وذلك وجهان : أحدهما : إنّ الضمير في كانتا لا يعود على أختين ، إنما هو يعود على الوارثتين ، ويكون ثم صفة محذوفة ، واثنتين بصفته هو الخبر ، والتقدير : فإن كانت الوارثتان اثنتين من الأخوات فلهما الثلثان مما ترك ، فيفيد إذ ذاك الخبر ما لا يفيد الاسم ، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز.
والوجه الثاني : أن يكون الضمير عائداً على الأختين كما ذكروا ، ويكون خبر كان محذوفاً لدلالة المعنى عليه ، وإن كان حذفه قليلاً ، ويكون اثنتين حالاً مؤكدة والتقدير : فإن كانت أختان له أي للمرء الهالك.
ويدل على حذف الخبر الذي هو له وله أخت ، فكأنه قيل : فإن كانت أختان له ، ونظيره أن تقول : إن كان لزيد أخ فحكمه كذا ، وإن كان أخوان فحكمهما كذا.
تريد وإن كان أخوان له.
{ وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين } يعني أنهم يحوزون المال على ما تقرر في أرث الأولاد من أنّ للذكر مثل حظ الأنثيين.
والضمير في كانوا إنْ عاد على الأخوة فقد أفاد الخبر بالتفصيل المحتوي على الرجال والنساء ، ما لم يفده الاسم ، لأن الاسم ظاهر في الذكور.
وإن عاد على الوارث فظهرت إفادة الخبر ما لا يفيد المبتدأ ظهوراً واضحاً.
والمراد بقوله : أخوة الإخوة والأخوات ، وغلب حكم المذكر.
وقرأ ابن أبي عبلة : فإن للذكر مثل حظ الأنثيين.

{ يبين الله لكم أن تضلوا } أنْ تضلوا مفعول من أجله ، ومفعول يبين محذوف أي : يبين لكم الحق.
فقدره البصري والمبرد وغيره : كراهة أن تضلوا.
وقرأ الكوفي ، والفراء ، والكسائي ، وتبعهم الزجاج : لأن لا تضلوا ، وحذف لا ومثله عندهم قول القطامي :
رأينا ما رأى البصراء منا . . .
فآلينا عليها أن تباعا
أي أن لا تباعا ، وحكى أبو عبيدة قال : حدثت الكسائي بحديث رواه ابن عمر فيه : « لا يدعون أحدكم على ولده أن يوافق من الله إجابة » فاستحسنه أي لئلا يوافق.
وقال الزجاج هو مثل قوله إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا أي لأن لا تزولا ورجح أبو عليّ قول المبرد بأن قال حذف المضاف أسوغ وأشبع من حذف لا.
وقيل أن تضلوا مفعول به أي يبين الله لكم الضلالة أن تضلوا فيها.
{ والله بكل شيء عليم } يعلم مصالح العباد في المبدأ والمعاد ، وفيما كلفهم به من الأحكام.
وقال أبو عبد الله الرازي : في هذه السورة لطيفة عجيبة وهي أنّ أولها مشتمل على كمال تنزه الله تعالى وسعة قدرته ، وآخرها مشتمل على بيان كمال العلم ، وهذان الوصفان بهما تثبت الربوبية والإلهية والجلال والعزة ، وبهما يجب أن يكون العبد منقاداً للتكاليف.
وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبيان والبديع.
فمن ذلك الطباق في : حرمنا وأحلت ، وفي : فآمنوا وإن تكفروا.
والتكرار في : وما قتلوه ، وفي : وأوحينا ، وفي : ورسلاً ، وفي : يشهد ويشهدون ، وفي : كفروا ، وفي : مريم ، وفي : اسم الله.
والالتفات في : فسوف نؤتيهم ، وفي : فسنحشرهم وما بعد ما في قراءة من قرأ بالنون.
والتشبيه في : كما أوحينا.
والاستعارة في : الراسخون وهي في الاجرام استعيرت للثبوت في العلم والتمكن فيه ، وفي : سبيل الله ، وفي : يشهد ، وفي : طريقاً ، وفي : لا تغلوا والغلو حقيقة في ارتفاع السعر ، وفي : وكيلاً استعير لإحاطة علم الله بهم ، وفي : فيوفيهم أجورهم استعير للمجازاة.
والتجنيس المماثل في : يستفتونك ويفتيكم.
والتفصيل في : فأما الذين آمنوا وأما الذين استنكفوا.
والحذف في عدّة مواضع.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)

البهيمة : كل ذات أربع في البر والبحر قاله الزمخشري وقال ابن عطية : البهيمة في كلام العرب ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم انتهى.
وما كان على فعيل أو فعيلة وعينه حرف حلق اسماً كان أو صفة ، فإنه يجوز كسر أوله اتباعاً لحركة عينه وهي لغة بني تميم تقول : رئي وبهيمة ، وسعيد وصغير ، وبحيرة وبخيل.
الصيد : مصدر صاد يصيد ويصاد ، ويطلق على المصيد.
وقال داود بن عليّ الأصبهاني : الصيد ما كان ممتنعاً ولم يكن له مالك وكان حلالا أكله ، وكأنه فسر الصيد الشرعي.
القلادة في الهدي : ما قلد به من نعل ، أو عروة مزادة ، أو لحا شجر أو غيره ، وكان الحرمي ربما قلّد ركابه بلحاً شجر الحرم ، فيعتصم بذلك من السوء.
الآمُّ : القاصد أممت الشيء قصدته.
جرمه على كذا حمله ، قاله : الكسائي وثعلب.
وقال أبو عبيدة والفراء : جرمه كسبه ، ويقال : فلان جريمة أهله أي كاسبهم ، والجارم الكاسب.
وأجرم فلان اكتسب الإثم.
وقال الكسائي أيضاً : جرم وأجرم أي كسب غيره ، وجرم يجرم جرماً إذا قطع.
قال الرماني : وهو الأصل ، فجرم حمل على الشيء لقطعه من غيره ، وجرم كسب لانقطاعه إلى الكسب ، وجرم بمعنى حق ، لأن الحق يقطع عليه.
قال الخليل : لا جرّم أن لهم النار أي لقد حق.
الشنآن : البغض ، وهو أحد مصادر شيء.
يقال : شنيء يشنأ شنأ وشنآنا مثلثي الشين فهذه ستة : وشناء ، وشناءة ، وشناء ، وشنأة ، ومشنأة ، ومشنئة ، ومشنئة ، وشنانا ، وشنانا.
فهذه ستة عشر مصدراً وهي أكثر ما حفظ للفعل.
وقال سيبويه : كل بناء كان من المصادر على فعلان بفتح العين لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء كالشنآن.
المعاونة : المساعدة.
المنخنقة : هي التي تحتبس نفسها حتى تموت ، سواء أكان حبسها بحبل أم يد أم غير ذلك.
الوقد : ضرب الشيء حتى يسترخي ويشرف على الموت.
وقيل : الموقوذة المضروبة بعصا أو حجر لا حد له ، فتموت بلا ذكاة.
ويقال : وقذه النعاس غلبه ، ووقذه الحكم سكنه.
التردّي : السقوط في بئر أو التهوّر من جبل.
ويقال : ردى وتردّى أي هلك ، ويقال : ما أدري أين ردي؟ أي ذهب.
النطيحة : هي التي ينطحها غيرها فتموت بالنطح ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة صفة جرت مجرى الأسماء فوليت العوامل ، ولذلك ثبت فيها الهاء.
السبع : كل ذي ناب وظفر من الحيوان : كالأسد ، والنمر ، والدب ، والذئب ، والثعلب ، والضبع ، ونحوها.
وقد أطلق على ذوات المخالب من الطير سباع.
قال الشاعر :
وسباع الطير تغدو بطانا . . .
تتخطاهم فما تستقل
ومن العرب من يخص السبع بالأسد ، وسكون الباء لغة نجدية ، وسمع فتحها ، ولعل ذلك لغة.
التذكية : الذبح ، وتذكية النار رفعها ، وذكى الرجل وغيره أسن.
قال الشاعر :

على أعراقه تجري المذاكي . . .
وليس على تقلبه وجهده
النصب ، قيل جمع نصاب ، وهي حجارة منصوبة حول الكعبة كان أهل الجاهلية يعظمونها ويذبحون عليها لآلهتهم ، ولها أيضاً وتلطخ بالدماء ، ويوضع عليها اللحم قطعاً قطعاً ليأكل منها الناس.
وقيل : النصب مفرد.
قال الأعشى : وذا النصب المنصوب لا تقربنه.
الأزلام : القداح واحدها زلم وزُلم بضم الزاي وفتحها وهي السهام ، كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أو نكاحاً أو أمراً من معاظم الأمور ضرب بالقداح ، وهي مكتوب على بعضها نهاني ربي ، وعلى بعضها أمرني ربي ، وبعضها غفل ، فإن خرج الآمر مضى لطلبته ، وإن خرج الناهي أمسك ، وإن خرج الغفل أعاد الضرب.
اليأس : قطع الرجاء.
يقال : يئس ييئس وييئس ، ويقال : أيس وهو مقلوب من يئس ، ودليل القلب تخلف الحكم عن ما ظاهره أنه موجب له.
ألا ترى أنهم لم يقلبوا ياءه ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فلم يقولوا آس كما قالوا هاب.
المخمصة : المجاعة التي يخمص فيها البطون أي تضمر ، والخمص ضمور البطن ، والخلقة منه حسنة في النساء ومنه يقال : خمصانة ، وبطن خميص ، ومنه أخمص القدم.
ويستعمل كثيراً في الجوع والغرث.
قال الأعشى :
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم . . .
وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
وقال آخر :
كلوا في بعض بطنكم تعفوا . . .
فإن زمانكم زمن خميص
{ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } هذه السورة مدنية ، نزلت منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية ، ومنها ما نزل في حجة الوداع ، ومنها ما نزل عام الفتح.
وكل ما نزل بعد الهجرة بالمدينة ، أو في سفر ، أو بمكة ، فهو مدني.
وذكروا فضائل هذه السورة وأنها تسمى : المائدة ، والعقود ، والمنقذة ، والمبعثرة.
ومناسبة افتتاحها لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر استفتاءهم في الكلالة وأفتاهم فيها ، ذكر أنه يبين لهم كراهة الضلال ، فبين في هذه السورة أحكاماً كثيرة هي تفصيل لذلك المجمل.
قالوا : وقد تضمنت هذه السورة ثمانية عشر فريضة لم يبينها في غيرها ، وسنبينها أوّلاً فأوّلاً إن شاء الله تعالى.
وذكروا أن الكندي الفيلسوف قال له أصحابه : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا لقرآن ، فقال : نعم ، أعمل مثل بعضه ، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال : والله ما أقدر ، ولا يطيق هذا أحد ، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة ، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ، ونهى عن النكث ، وحلل تحليلاً عاماً ، ثم استثنى استثناء ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في إجلاد انتهى.
والظاهر أنّ النداء لأمة الرسول المؤمنين.
وقال ابن جريج : هم أهل الكتاب.
وأمر تعالى المؤمنين بإيفاء العقود وهي جمع عقد ، وهو العهد ، قاله : الجمهور ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي.
وقال الزجاج : العقود أوكد من العهود ، وأصله في الاجرام ثم توسع فأطلق في المعاني ، وتبعه الزمخشري فقال : هو العهد الموثق شبه بعقد الحبل ونحوه.

قال الحطيئة :
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم . . .
شدّوا العناج وشدوا فوقه الكربا
والظاهر عموم المؤمنين في المخلص والمظهر ، وعموم العقود في كل ربط يوافق الشرع سواء كان إسلامياً أم جاهلياً وقد سأل فرات بن حنان العجلي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية فقال : « لعلك تسأل عن حلف تيم الله » قال : نعم يا نبي الله.
قال : « لا يزيده الإسلام إلا شدة ».
وقال صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول وكان شهده في دار عبد الله بن جدعان : « ما أحب أنّ لي به حمر النعم ولو ادّعى به في الإسلام لأجبت » وكان هذا الحلف أنّ قريشاً تعاقدوا على أنْ لا يجدوا مظلوماً بمكة من أهلها أو من غير أهلها إلا قاموا معه حتى ترد مظلمته ، وسميت ذلك الحلف حلف الفضول.
وكان الوليد بن عقبة أميراً على المدينة ، فتحامل على الحسين بن علي في مال فقال : لتنصفني من حقي وإلا أخذت بسيفي ، ثم لأقومن في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم لأدعون بحلف الفضول.
فقال عبد الله بن الزبير : لئن دعاني لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من خصمه ، أو نموت جميعاً.
وبلغت المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيميّ فقالا مثل ذلك ، وبلغ ذلك الوليد فأنصفه.
ويندرج في هذا العموم كل عقد مع إنسان كأمانٍ ، ودية ، ونكاح ، وبيع ، وشركة ، وهبة ، ورهن ، وعتق ، وتدبير ، وتخيير ، وتمليك ، ومصالحة ، ومزارعة ، وطلاق ، وشراء ، وإجارة ، وما عقده مع نفسه لله تعالى من طاعة : كحجٍ ، وصومٍ ، واعتكافٍ ، وقيام ، ونذر وشبه ذلك.
وقال ابن عباس ومجاهد : هي العهود التي أخذها الله على عباده فيما أحل وحرم ، وهذا القول بدأ به الزمخشري فقال : هي العهود التي عقدها الله على عباده وألزمها إياهم من واجب التكليف ، وأنه كلام قدم مجملاً ثم عقب بالتفصيل.
وقال قتادة : هو الحلف الذي كان بينهم في الجاهلية ، قال : وروي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقداً في الإسلام » وقال محمد بن كعب القرظي وابن زيد وغيرهما : هي كل ما ربطه المرء على نفسه من بيع أو نكاح أو غيره.
وقال ابن زيد أيضاً ، وعبد الله بن عبيدة : العقود خمس : عقدة الإيمان ، وعقدة النكاح ، وعقدة العهد ، وعقدة البيع ، وعقدة الحلف.
وقيل : هي عقود الأمانات والبياعات ونحوها ، وقال ابن جريج : هي التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بها بما جاءهم به الرسول.
وقال ابن شهاب : قرأت الكتاب الذي كتبه الرسول صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره :

« هذا بيان من الله ورسوله يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود إلى قوله إن الله سريع الحساب » وقيل : العقود هنا الفرائض.
{ أحلت لكم بهيمة الأنعام } قيل : هذا تفصيل بعد إجمال.
وقيل : استئناف تشريع بيَّن فيه فساد تحريم لحوم السوائب ، والوصائل ، والبحائر ، والحوام ، وأنها حلال لهم.
وبهيمة الأنعام من باب إضافة الشيء إلى جنسه فهو بمعنى مِن ، لأن البهيمة أعم ، فأضيفت إلى أخص.
فبهيمة الأنعام هي كلها قاله : قتادة ، والضحاك ، والسدي ، والربيع ، والحسن.
وهي الثمانية الأزواج التي ذكرها الله تعالى.
وقال ابن قتيبة : هي الإبل ، والبقرة ، والغنم ، والوحوش كلها.
وقال قوم منهم الضحاك والفراء : بهيمة الأنعام وحشيها كالظباء ، وبقر الوحش وحمرة.
وكأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس الأنعام البهائم ، والإضرار وعدم الأنياب ، فأضيفت إلى الأنعام لملابسة الشبه ، وتقدم الكلام في مدلول لفظ الأنعام.
وقال ابن عمر وابن عباس : بهيمة الأنعام هي الأجنة التي تخرج عند ذبح أمّهاتها فتؤكل دون ذكاة ، وهذا فيه بعد.
وقيل : بهيمة الأنعام هي التي ترعى من ذوات الأربع ، وكان المفترس من الحيوان كالأسد وكل ذي ناب قد خرج عن حد الإبهام فصار له نظر مّا.
{ إلا ما يتلى عليكم } هذا استثناء من بهيمة الأنعام والمعنى : إلا ما يتلى عليكم تحريمه من نحو قوله : { حرمت عليكم الميتة } وقال القرطبي : ومعنى يتلى عليكم يقرأ في القرآن والسنة ، ومنه { كل ذي ناب من السباع حرام }.
وقال أبو عبد الله الرازي : ظاهر هذا الاستثناء مجمل ، واستثناء الكلام المجمل من الكلام المفصل يجعل ما بقي بعد الاستثناء مجملاً ، إلا أنّ المفسرين أجمعوا على أنّ المراد من هذا الاستثناء هو المذكور بعد هذه الآية وهو قوله : { حرمت عليكم } إلى قوله : { وما ذبح على النصب } ووجه هذا أنّ قوله : أحلت لكم بهيمة الأنعام ، يقتضي إحلالها لهم على جميع الوجوه.
فبيّن تعالى أنها إن كانت ميتة أو مذبوحة على غير اسم الله ، أو منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة ، أو افترسها السبع فهي محرمة انتهى كلامه.
وموضع ما نصب على الاستثناء ، ويجوز الرفع على الصفة لبهيمة.
قال ابن عطية : وأجاز بعض الكوفيين أن يكون في موضع رفع على البدل ، وعلى أن تكون إلا عاطفة ، وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو قولك : جاء الرجل إلا زيد ، كأنك قلت : غير زيد انتهى.
وهذا الذي حكاه عن بعض الكوفيين من أنه في موضع رفع على البدل لا يصح البتة ، لأنّ الذي قبله موجب.
فكما لا يجوز : قام القوم إلا زيد على البدل ، كذلك لا يجوز البدل في : إلا ما يتلى عليكم.

وأما كون إلا عاطفة فهو شيء ذهب إليه بعض الكوفيين كما ذكر ابن عطية.
وقوله : وذلك لا يجوز عند البصريين ، ظاهره الإشارة إلى وجهي الرفع البدل والعطف.
وقوله : إلا من نكرة ، هذا استثناء مبهم لا يدرى من أي شيء هو.
وكلا وجهي الرفع لا يصلح أن يكون استثناء منه ، لأن البدل من الموجب لا يجيزه أحد علمناه لا بصرى ولا كوفي.
وأما العطف فلا يجيزه بصرى ألبتة ، وإنما الذي يجيزه البصريون أن يكون نعتاً لما قبله في مثل هذا التركيب.
وشرط فيه بعضهم ما ذكر من أنه يكون من المنعوت نكرة ، أو ما قاربها من أسماء الأجناس ، فلعل ابن عطية اختلط عليه البدل والنعت ولم يفرق بينهما في الحكم.
ولو فرضنا تبعية ما بعد إلا لما قبلها في الإعراب على طريقة البدل حتى يسوغ ذلك ، لم يشترط تنكير ما قبل إلا ولا كونه مقارباً للنكرة من أسماء الأجناس ، لأن البدل والمبدل منه يجوز اختلافهما بالتنكير والتعريف.
{ غير محلي الصيد وأنتم حرم } قرأ الجمهور غير بالنصب.
واتفق جمهور من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه منصوب على الحال.
ونقل بعضهم الإجماع على ذلك ، واختلفوا في صاحب الحال.
فقال الأخفش : هو ضمير الفاعل في أوفوا.
وقال الجمهور ، والزمخشري ، وابن عطية وغيرهما : هو الضمير المجرور في أحلّ لكم.
وقال بعضهم : هو الفاعل المحذوف من أجل القائم مقامه المفعول به ، وهو الله تعالى.
وقال بعضهم : هو ضمير المجرور في عليكم.
ونقل القرطبي عن البصريين أن قوله : إلا ما يتلى عليكم ، هو استثناء من بهيمة الأنعام.
وأنّ قوله : غير محلى الصيد ، استثناء آخر منه.
فالاستثناءان معناهما من بهيمة الأنعام ، وفي المستثنى منه والتقدير : إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون ، بخلاف قوله : { إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين } على ما يأتي بيانه وهو قول مستثنى مما يليه من الاستثناء.
قال : ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام ، لأنه مستثنى من المحظور إذا كان إلا ما يتلى عليكم مستثنى من الإباحة ، وهذا وجه ساقط ، فإذا معناه : أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد انتهى.
وقال ابن عطية : وقد خلط الناس في هذا الموضع في نصب غير ، وقدروا تقديمات وتأخيرات ، وذلك كله غير مرضي ، لأن الكلام على اطراده متمكن استثناء بعد استثناء انتهى كلامه.
وهو أيضاً ممن خلط على ما سنوضحه.
فأمّا قول الأخفش : ففيه الفصل بين ذي الحال والحال بجملة اعتراضية ، بل هي منشئة أحكاماً ، وذلك لا يجوز.
وفيه تقييد الإيفاء بالعقود بانتفاء إحلال الموفين الصيد وهم حرم ، وهم مأمورون بإيفاء العقود بغير قيد ، ويصير التقدير : أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم محلين الصيد وأنتم حرم ، وهم قد أحلت لهم بهيمة الأنعام أنفسها.

وإنْ أريد به الظباء وبقر الوحش وحمره فيكون المعنى : وأحل لكم هذه في حال انتفاء كونكم محلين الصيد وأنتم حرم ، وهذا تركيب قلق معقد ، ينزه القرآن أن يأتي فيه مثل هذا.
ولو أريد بالآية هذا المعنى لجاء على أفصح تركيب وأحسنه.
وأما قول : من جعله حالاً من الفاعل.
وقدّره : وأحل الله لكم بهيمة الأنعام غير محل لكم الصيد وأنتم حرم ، قال كما تقول : أحلت لك كذا غير مبيحه لك يوم الجمعة ، فهو فاسد.
لأنهم نصوا على أنّ الفاعل المحذوف في مثل هذا التركيب يصير نسياً منسياً ، ولا يجوز وقوع الحال منه.
لو قلت : أنزل المطر للناس مجيباً لدعائهم ، إذ الأصل أنزل الله المطر مجيباً لدعائهم لم يجز ، وخصوصاً على مذهب الكوفيين ومن وافقهم من البصريين ، لأن صيغة الفعل المبني للمفعول صيغة وضعت أصلاً كما وضعت صيغته مبنياً للفاعل ، وليست مغيرة من صيغة بنيت للفاعل ، ولأنه يتقيد إحلاله تعالى بهيمة الأنعام إذا أريد بها ثمانية الأزواج بحال انتفاء إحلاله الصيد وهم حرم ، وهو تعالى قد أحلها في هذه الحال وفي غيرها.
وأما ما نقله القرطبي عن البصريين ، فإنْ كان النقل صحيحاً فهو يتخرج على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى ، فنقول : إنما عرض الإشكال في الآية من جعلهم غير محلى الصيد حالاً من المأمورين بإيفاء العقود ، أو من المحلل لهم ، أو من المحلل وهو الله تعالى ، أو من المتلو عليهم.
وغرّهم في ذلك كونه كتب محلي بالياء ، وقدّره هم أنه اسم فاعل من أحل ، وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول ، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة.
وأصله : غير محلين الصيد وأنتم حرم ، إلا في قول من جعله حالاً من الفاعل المحذوف ، فلا يقدر فيه حذف النون ، بل حذف التنوين.
وإنما يزول الإشكال ويتضح المعنى بأن يكون قوله : محلي الصيد ، من باب قولهم : حسان النساء.
والمعنى : النساء الحسان ، وكذلك هذا أصله غير الصيد المحل.
والمحل صفة للصيد لا للناس ، ولا للفاعل المحذوف.
ووصف الصيد بأنه محل على وجهين : أحدهما : أنْ يكون معناه دخل في الحل كما تقول : أحل الرّجل أي : دخل في الحل ، وأحرم دخل في الحرم.
والوجه الثاني : أن يكون معناه صار ذا حل ، أي حلالاً بتحليل الله.
وذلك أن الصيد على قسمين : حلال ، وحرام.
ولا يختص الصيد في لغة العرب بالحلال.
ألا ترى إلى قول بعضهم : إنه ليصيد الأرانب حتى الثعالب لكنه يختص به شرعاً؟ وقد تجوزت العرب فأطلقت الصيد على ما يوصف بحل ولا حرمة نحو قوله :
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا . . .
ما كذب الليث عن أقرانه صدقا
وقال آخر :
وقد ذهبت سلمى بعقلك كله . . .
فهل غير صيد أحرزته حبائله

وقال آخر :
وميّ تصيد قلوب الرّجال . . .
وأفلت منها ابن عمر وحجر
ومجيء أفعل على الوجهين المذكورين كثير في لسان العرب.
فمن مجيء أفعل لبلوغ المكان ودخوله قولهم : أحرم الرّجل ، وأعرق ، وأشأم ، وأيمن ، وأتهم ، وأنجد إذا بلغ هذه المواضع وحل بها.
ومن مجيء أفعل بمعنى صار ذا كذا قولهم : أعشبت الأرض ، وأبقلت ، وأغد البعير ، وألبنت الشاة ، وغيرها ، وأجرت الكلبة ، وأصرم النخل ، وأتلت الناقة ، وأحصد الزرع ، وأجرب الرّجل ، وأنجبت المرأة.
وإذا تقرر أنّ الصيد يوصف بكونه محلاً باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحلّ ، أو صار ذا حل ، اتضح كونه استثناء من استثناء ، إذ لا يمكن ذلك لتناقص الحكم.
لأنّ المستثنى من المحلل محرم ، والمستثنى من المحرم محلل.
بل إن كان المعنى بقوله : بهيمة الأنعام ، الأنعام أنفسها ، فيكون استثناء منقطاً.
وإن كان المراد الظباء وبقر الوحش وحمره ونحوها ، فيكون استثناء متصلاً على أحد تفسيري المحل ، استثنى الصيد الذي بلغ الحل في حل كونهم محرمين.
( فإن قلت ) : ما فائدة الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضاً؟ ( قلت ) : الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم ، وإنما يحل لغير المحرم الصيد الذي في الحل ، فنبه بأنه إذا كان الصيد الذي في الحل يحرم على المحرم ، وإن كان حلالاً لغيره ، فأحرى أن يحرم عليه الصيد الذي هو بالحرم.
وعلى هذا التفسير يكون قوله : إلا ما يتلى عليكم ، إن كان المراد به ما جاء بعده من قوله : حرمت عليكم الميتة الآية ، استثناء منقطعاً ، إذ لا يختص الميتة وما ذكر معها بالظباء وحمر الوحش وبقره ونحوها ، فيصير لكنْ ما يتلى عليكم أي : تحريمه فهو محرم.
وإن كان المراد ببهيمة الأنعام الأنعام والوحوش ، فيكون الاستثناءان راجعين إلى المجموع على التفصيل ، فيرجع إلا ما يتلى عليكم إلى ثمانية الأزواج ، ويرجع غير محلى الصيد إلى الوحوش ، إذ لا يمكن أن يكون الثاني استثناء من الاستثناء الأول.
وإذا لم يمكن ذلك ، وأمكن رجوعه إلى الأول بوجه ما جاز.
وقد نص النحويون على أنه إذا لم يمكن استثناء بعض المستثنيات من بعض كانت كلها مستثنيات من الاسم الأول نحو قولك : قام القوم إلا زيداً ، إلا عمراً ، إلا بكراً ( فإن قلت ) : ما ذكرته من هذا التخريج الغريب وهو أن يكون المحل من صفة الصيد ، لا من صفة الناس ، ولا من صفة الفاعل المحذوف ، يعكر عليه كونه كتب في رقم المصحف بالياء ، فدل ذلك على أنه من صفات الناس ، إذ لو كان من صفة الصيد لم يكتب بالياء ، وبكون الفراء وأصحابه وقفوا عليه بالياء يأبى ذلك.
( قلت ) : لا يعكر على هذا التخريج لأنّهم كتبوا كثيراً رسم المصحف على ما يخالف النطق نحو : باييد بياءين بعد الألف ، وكتبهم أولئك بواو بعد الألف ، وبنقصهم منه ألفاً.

وكتابتهم الصلحت ونحوه بإسقاط الألفين ، وهذا كثير في الرسم.
وأما وقفهم عليه بالياء فلا يجوز ، لأنه لا يوقف على المضاف دون المضاف إليه ، وإنما قصدوا بذلك الاختبار أو ينقطع النفس ، فوقفوا على الرسم كما وقفوا على { سندع الزبانية } من غير واو اتباعاً للرسم.
على أنه يمكن توجيه كتابته بالياء والوقف عليه بياء بأنه جاء على لغة الازد ، إذ يقفون على بزيد بزيدي بإبدال التنوين ياء ، فكتب محلي بالياء على الوقف على هذه اللغة ، وهذا توجيه شذوذ رسمي ، ورسم المصحف مما لا يقاس عليه.
وقرأ ابن أبي عبلة : غير بالرفع ، وأحسن ما يخرج عليه أن يكون صفة لقوله : بهيمة الأنعام ، ولا يلزم من الوصف بغير أن يكون ما بعدها مماثلاً للموصوف في الجنسية ، ولا يضر الفصل بين النعت والمنعوت بالاستثناء ، وخرج أيضاً على الصفة للضمير في يتلى.
قال ابن عطية : لأن غير محلى الصيد هو في المعنى بمنزلة غير مستحل إذا كان صيداً انتهى.
ولا يحتاج إلى هذا التكلف على تخريجنا محلي الصيد وأنتم حرم جملة حالية.
وحرم جمع حرام.
ويقال : أحرم الرجل إذا دخل في الإحرام بحج أو بعمرة ، أو بهما ، فهو محرم وحرام ، وأحرم الرجل دخل في الحرم.
وقال الشاعر :
فقلت لها فيىء إليك فإنني . . .
حرام وإني بعد ذاك لبيب
أي : ملب.
ويحتمل الوجهين قوله : وأنتم حرم ، إذ الصيد يحرم على من كان في الحرم ، وعلى من كان أحرم بالحج والعمرة ، وهو قول الفقهاء.
وقال الزمخشري : وأنتم حرم ، حال عن محل الصيد كأنه قيل : أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون لئلا يتحرج عليكم انتهى.
وقد بينا فساد هذا القول ، بأنّ الأنعام مباحة مطلقاً لا بالتقييد بهذه الحال.
{ إن الله يحكم ما يريد } قال ابن عباس : يحل ويحرم.
وقيل : يحكم فيما خلق بما يريد على الإطلاق وهذه الجملة جاءت مقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب من الأمر بإيفاء العقود وتحليل بهيمة الأنعام ، والاستثناء منها ما يتلى تحريمه مطلقاً في الحل والحرم إلا في اضطرار ، واستثناء الصيد في حالة الإحرام ، وتضمن ذلك حله لغير المحرم ، فهذه خمسة أحكام ختمها بقوله : إن الله يحكم ما يريد.
فموجب الحكم والتكليف هو إرادته لا اعتراض عليه ، ولا معقب لحكمه ، لا ما يقوله المعتزلة من مراعاة المصالح.
ولذلك قال الزمخشري : إنّ الله يحكم ما يريد من الأحكام ، ويعلم أنه حكمة ومصلحة.
وقال ابن عطية : وقد نبه على ما تضمنته هذه الآية من الأحكام ما نصه هذه الآية مما يلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصر بالكلام ، ولمن عنده أدنى بصيرة.
ثم ذكر ابن عطية الحكاية التي قدمناها عن الكندي وأصحابه ، وفي مثل هذا أقول من قصيدة مدحت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معارضاً لقصيدة كعب منه في وصف كتاب الله تعالى :

جار على منهج الأعراب أعجزهم . . .
باق مدى الدهر لا يأتيه تبديل
بلاغة عندها كعّ البليغ فلم . . .
ينبس وفي هديه طاحت أضاليل
{ يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } خرج سريح أحد بني ضبيعة إلى مكة حاجاً وساق الهدي.
وفي رواية ومعه تجارة ، وكان قبل قد قدم المدينة وتكلم مع الرسول صلى الله عليه وسلم وتروّى في إسلامه ، وقال الرسول عليه السلام : « لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر » فمر بسرح بالمدينة فاستاقه ، فلما قدم مكة عام الحديبية أراد أهل السرح أن يغيروا عليه ، واستأذنوا الرسول ، فنزلت.
وقال السدي : اسمه الحطيم بن هند البلدي أحد بني ضبيعة ، وأراد الرسول أن يبعث إليه ناساً من أصحابه فنزلت.
وقال ابن زيد : نزلت بمكة عام الفتح وحج المشركون واعتمروا فقال المسلمون : يا رسول الله إن هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم ، فنزل القرآن.
{ ولا آمّين البيت الحرام } والشعائر جمع شعيرة أو شعارة ، أي : قد أشعر الله أنها حده وطاعته ، فهي بمعنى معالم الله ، وتقدم تفسيرها في { إن الصفا والمروة من شعائر الله } قال الحسن : دين الله كله يعني شرائعه التي حدها لعباده ، فهو عام في جميع تكاليفه تعالى.
وقال ابن عباس : ما حرم عليكم في حال الإحرام.
وقال أيضاً هو ومجاهد : مناسك الحج.
وقال زيد بن أسلم : شعائر الحج وهي ست : الصفا والمروة ، والبدن ، والجمار ، والمشعر الحرام ، وعرفة ، والركن.
وقال أيضاً : المحرمات خمس : الكعبة الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام ، والمسجد الحرام ، حتى يحل.
وقال ابن الكلبي : كان عامّة العرب لا يعدون الصفا والمروة من الشعائر ، وكانت قريش لا تقف بعرفات ، فنهوا عن ذلك.
وقيل : الأعلام المنصوبة المتفرقة بين الحل والحرم نهوا أن يتجاوزوها إلى مكة بغير إحرام.
وقال أبو عبيدة : هي الهدايا تطعن في سنامها وتقلد.
قال : ويدل عليه { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله } وضعف قوله ، بأنه قد عطف عليه.
والهدي والقلائد.
وقيل : هي ما حرم الله مطلقاً سواء كان في الإحرام أو غيره.
وقال الزمخشري : هي ما أشعر أي جعل إشعاراً وعلماً للنسك من مواقف الحج ومرامي الجمار والطواف والأفعال التي هي علامات الحاج يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر انتهى.
{ ولا الشهر الحرام } الظاهر أنه مفرد معهود.
فقال الزمخشري : هو شهرالحج.
وقال عكرمة وقتادة : هو ذو القعدة من حيث كان أول الأشهر الحرم.
وقال الطبري وغيره : رجب.
ويضاف إلى مضر لأنها كانت تحرم فيه القتال وتعظمه ، وتزيل فيه السلاح والأسنة من الرماح.

وكانت العرب مجمعة على تعظيم ذي القعدة وذي الحجة ، ومختلفة في رجب ، فشدد تعالى أمره.
فهذا وجه التخصيص بذكره.
وقيل : الشهر مفرد محلى بأل الجنسية ، فالمراد به عموم الأشهر الحرم وهي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب.
والمعنى : لا تحلوا بقتال ولا غارة ولا نهب.
قال مقاتل : وكان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ كل يوم فيقول : ألا إني قد حللت كذا وحرمت كذا.
{ ولا الهدي } قال ابن عطية : لا خلاف أن الهدي ما هدي من النعم إلى بيت الله ، وقصد به القربة ، فأمر تعالى أن لا يستحل ، ولا يغار عليه انتهى.
والخلاف عن المفسرين فيه موجود.
قيل : هو اسم لما يهدى إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة أو صدقة ، وغيرها من الذبائح والصدقات.
وقيل : هو ما قصد به وجه الله ومنه في الحديث : ثم « كالمهدي دجاجة ، ثم كالمهدي بيضة » فسمى هذه هدياً.
وقيل : الشعائر البدن من الأنعام ، والهدي البقر والغنم والثياب وكل ما أهدي.
وقيل : الشعائر ما كان مشعراً بإسالة الدم من سنامه أو بغيره من العلائم ، والهدي ما لم يشعر اكتفى فيه بالتقليد.
وقال من فسر الشعائر بالمناسك ، ذكر الهدي تنبيهاً على تفصيلها.
{ ولا القلائد } قال مجاهد ، وعطاء ، ومطرف بن الشخير : القلائد هي ما كانوا يتقلّدون به من شجر الحرم ليأمنوا به ، فنُهي المؤمنون عن فعل الجاهلية ، وعن أخذ القلائد من شجر الحرم.
وفي الحديث : « لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ».
وقال الجمهور : القلائد ما كانوا يتقلدونه من السمر إذا خرجوا إلى الحج ، فيكون ذلك علامة حجة.
وقيل : أو ما يقلده الحرمي إذا خرج لحاجة ، ليدل ذلك على أنه حرمي ، فنهى تعالى عن استحلال من يحرم بشيء من هذه.
وحكى الطبري عن ابن عباس : أنّ القلائد هي الهدى المقلد ، وأنه إنما سمي هدياً ما لم يقلد ، فكأنه قال : ولا الهدي الذي لم يقلد ولا المقلد منه.
قال ابن عطية : وهذا تحامل على ألفاظ ابن عباس ، وليس من كلامه أن الهدي ، إنما يقال : لما لم يقلد.
وإنما يقتضي أنه تعالى نهى عن الهدي جملة ، ثم ذكر المقلد منه تأكيداً ومبالغة في التنبيه على الحرمة في المقلد.
وقيل : أراد القلائد نفسها فنهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي ، أي : لا تحلوا قلائدها فضلاً عن أن تحلوها كما قال تعالى : { ولا يبدين زينتهنّ } نهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها.
وقال الطبري : تأويله أنه نهى عن استحلال حرمة المقلد هدياً كان أو إنساناً ، واجتزأ بذكر القلائد عن ذكر المقلد إذ كان مفهوماً عند المخاطب.
{ ولا آمّين البيت الحرام } وقرأ عبد الله وأصحابه : ولا آمي بحذف النون للإضافة إلى البيت ، أي ولا تحلوا قوماً قاصدين المسجد الحرام ، وهم الحجاج والعمار.

قال الزمخشري : وإحلال هذه أي : يتهاون بحرمة الشعائر ، وأن يحال بينها وبين المتنسكين وأن يحدثوا في أشهر الحج ما يصدون به الناس عن الحج ، وأن يتعرّض للهدي بالغصب أو بالمنع من بلوغ محله.
{ يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً } قرأ الجمهور يبتغون بالياء ، فيكون صفة لآمين.
وفسر الزمخشري الفضل بالثواب ، وهو قول بعضهم.
وقيل : الفضل التجارة والأرباح فيها.
وقيل : الزيادة في الأموال والأولاد يبتغون رجاء الزيادة في هذا.
وأما الرضوان فإنهم كانوا يقصدونه وإن كانوا لا ينالونه ، وابتغاء الشيء لا يدل على حصوله.
وقيل : هو توزيع على المشركين ، فمنهم من كان يبتغي التجارة إذ لا يعتقد معاداً ، ومنهم من يبتغي الراضون بالحج إذ كان منهم من يعتقد الجزاء بعد الموت وأنه يبعث ، وإن كان لا يحصل له رضوان الله ، فأخبر بذلك على بناء ظنه.
وقيل : كان المسلمون والمشركون يحجون ، فابتغاء الفضل منهما ، وابتغاء الرضوان من المؤمنين.
وقال قتادة : هو أن يصلح معايشهم في الدنيا ، ولا يعجِّل لهم العقوبة فيها.
وقال قوم : الفضل والرضوان في الآية في معنى واحد وهو رضا الله تعالى وفضله بالرحمة.
نهى تعالى أن يتعرض لقوم هذه صفتهم تعظيماً لهم واستنكاراً أن يتعرض لمثلهم.
وفي النهي عن التعرض لهم استئلاف للعرب ولطف بهم وتنشيط لورود الموسم ، وفي الموسم يسمعون القرآن ، وتقوم عليهم الحجة ، ويرجى دخولهم في الإيمان كالذي كان.
ونزلت هذه الآية عام الفتح ، فكل ما كان فيها في حق مسلم حاج فهو محكم ، أو في حق كافر فهو منسوخ ، نسخ ذلك بعد عام سنة تسع ، إذ حج أبو بكر ونودي في الناس بسورة براءة.
وقول الحسن وأبي ميسرة : ليس فيها منسوخ ، قول مرجوح.
وقرأ حميد بن قيس والأعرج : تبتغون بالتاء خطاباً للمؤمنين ، والمعنى على الخطاب أنّ المؤمنين كانوا يقصدون قتالهم والغارة عليهم ، وصدهم عن المسجد الحرام امتثالاً لأمر الله وابتغاء مرضاته ، إذ أمر تعالى بقتال المشركين ، وقتلهم وسبي ذراريهم ، وأخذ أموالهم ، حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية.
وقرأ الأعمش : ورضواناً بضم الراء ، وتقدم في آل عمران أنها قراءة أبي بكر عن عاصم ، حيث وقع إلا في ثاني هذه السورة ، فعنه فيه خلاف.
{ وإذا حللتم فاصطادوا } تضمن آخر قوله : أحلت لكم تحريم الصيد حالة الإحرام ، وآخر قوله : لا تحلوا شعائر الله ، النهي عن إحلال آمي البيت ، فجاءت هذه الجملة راجعاً حكمها إلى الجملة الأولى ، وجاء ما بعدها من قوله : { ولا يجرمنكم } راجعاً إلى الجملة الثانية ، وهذا من بليغ الفصاحة.
فليست هذه الجملة اعتراضاً بين قوله : ولا آمين البيت الحرام ، وقوله : ولا يجرمنكم ، بل هي مؤسسة حكماً لا مؤكدة مسددة فيكون أصل التركيب : ولا آمين البيت الحرام بيتغون فضلاً من ربهم ورضواناً ولا يجرمنكم ، كما ذهب إليه بعضهم وجعل من ذلك قصة ذبح البقرة ، فقال : وجه النظر أن يقال :

{ وإذ قتلتم نفساً } الآية ثم يقال : { وإذ قال موسى لقومه } وكثيراً ما ذكر هذا الرجل التقديم والتأخير في القرآن ، والعجب منه أنه يجعله من علم البيان والبديع ، وهذا لا يجوز عندنا إلا في ضرورة الشعر ، وهو من أقبح الضرائر ، فينبغي بل يجب أن ينزه القرآن عنه.
قال : والسبب في هذا أن الصحابة لما جمعوا القرآن لم يرتبوه على حكم نزوله ، وإنما رتبوه على تقارب المعاني وتناسق الألفاظ ، وهذا الذي قاله ليس بصحيح ، بل الذي نعتقد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي رتبه لا الصحابة ، وكذلك نقول في سورة وإن خالف في ذلك بعضهم.
والأمر بالاصطياد هنا أمر إباحة بالإجماع ، ولهذا قال الزمخشري : وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا انتهى.
ولما كان الاصطياد مباحاً ، وإنما منع منه الإحرام ، وإذا زال المانع عاد إلى أصله من الإباحة.
وتكلموا هنا على صيغة الأمر إذا جاءت بعد الحظر ، وعليها إذا جاءت مجردة عن القرائن ، وعلى ما تحمل عليه ، وعلى مواقع استعمالها ، وذلك من علم أصول الفقه فيبحث عن ذلك فيه.
وقرىء : فإذا حللتم وهي لغة يقال : حل من إحرامه وأحل.
وقرأ أبو واقد ، والجراح ، ونبيح ، والحسن بن عمران : فاصطادوا بكسر الفاء.
قال الزمخشري : قيل هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء.
وقال ابن عطية : وهي قراءة مشكلة ، ومن توجيهها أن يكون راعي كسر ألف الوصل إذا بدأت فقلت : اصطادوا بكسر الفاء مراعاة وتذكرة لأصل ألف الوصل انتهى.
وليس عندي كسراً محضاً بل هو من باب الإمالة المحضة لتوهم وجود كسرة همزة الوصل ، كما أمالوا الفاء في ، فإذا لوجود كسرة إذا.
{ ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدّوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا } قال ابن عباس وقتادة : ولا يجرمنكم أي لا يحملنكم ، يقال : جرمني كذا على بغضك.
فيكون أنْ تعتدوا أصله على أن تعتدوا ، وحذف منه الجار.
وقال قوم : معناها كسب التي تتعدى إلى اثنين ، فيكون أن تعتدوا في موضع المفعول الثاني أي : اعتداؤكم عليكم.
وتتعدى أيضاً إلى واحد تقول : أجرم بمعنى كسب المتعدّية لاثنين ، يقال في معناها : جرم وأجرم.
وقال أبو علي : أجرم أعرفه الكسب في الخطايا والذنوب.
وقرأ الحسن ، وابراهيم.
وابن وثاب ، والوليد عن يعقوب : يجرمنكم بسكون النون ، جعلوا نون التوكيد خفيفة.
قال الزمخشري : والمعنى لا يكسبنكم بغض قوم ، لأنّ صدوكم الاعتداء ، ولا يحملنكم عليه انتهى.
وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب ، لأنه يمتنع أن يكون مدلول حمل وكسب في استعمال واحد لاختلاف مقتضاهما ، فيمتنع أن يكون : أن تعتدوا في محل مفعول به ، ومحل مفعول على إسقاط حرف الجر.
وقرأ النحويان وابن كثير ، وحمزة ، وحفص ، ونافع : شنآن بفتح النون.

وقرأ ابن عامر وأبو بكر بسكونها ، ورويت عن نافع.
والأظهر في الفتح أن يكون مصدراً ، وقد كثر مجيء المصدر على فعلان ، وجوزوا أن يكون وصفاً وفعلان في الأوصاف موجود نحو قولهم : حمار قطوان أي : عسير السير ، وتيس عدوان كثير العدو ، وليس في الكثرة كالمصدر.
قالوا : فعلى هذا يكون المعنى لا يجرمنكم بغض قوم.
ويعنون ببغيض مبغض اسم فاعل ، لأنه من شنيء بمعنى البغض.
وهو متعد وليس مضافاً للمفعول ولا لفاعل بخلافه إذا كان مصدراً ، فإنه يحتمل أن يكون مضافاً للمفعول وهو الأظهر.
ويحتمل أن يكون مضافاً إلى الفاعل أي : بغض قوم إياكم ، والأظهر في السكون أن يكون وصفاً ، فقد حكى رجل شنآن وامرأة شنآنة ، وقياس هذا أنه من فعل متعد.
وحكى أيضاً شنآن وشنأى مثل عطشان وعطشى ، وقياسه أنه من فعل لازم.
وقد يشتق من لفظ واحد المتعدي واللازم نحو : فغر فاه ، وغرَّفوه بمعنى فتح وانفتح.
وجوز أن يكون مصدراً وقد حكى في مصادر شنيء ، ومجيء المصدر على فعلان بفتح الفاء وسكون العين قليل ، قالوا : لويته دينه لياناً.
وقال الأحوص :
وما الحب إلا ما تحب وتشتهي . . .
وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
أصله الشنآن ، فحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها.
والوصف في فعلان أكثر من المصدر نحو رحمان.
وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير : إنْ صدوكم بكسر الهمزة على أنها شرطية ، ويؤيد قراءة ابن مسعود : إنْ صدوكم وأنكر ابن جرير والنحاس وغيرهما قراءة كسران ، وقالوا : إنما صد المشركون الرسول والمؤمنون عام الحديبية ، والآية نزلت عام الفتح سنة ثمان ، والحديبية سنة ست ، فالصد قبل نزول الآية ، والكسر يقتضي أن يكون بعد ، ولأنّ مكة كانت عام الفتح في أيدي المسلمين ، فكيف يصدون عنها وهي في أيديهم؟ وهذا الإنكار منهم لهذه القراءة صعب جداً ، فإنها قراءة متواترة ، إذ هي في السبعة ، والمعنى معها صحيح ، والتقدير : إن وقع صدّ في المستقبل مثل ذلك الصد الذي كان زمن الحديبية ، وهذا النهي تشريع في المستقبل.
وليس نزول هذه الآية عام الفتح مجمعاً عليه ، بل ذكر اليزيدي أنها نزلت قبل أن يصدّوهم ، فعلى هذا القول يكون الشرط واضحاً.
وقرأ باقي السبعة : أن بفتح الهمزة جعلوه تعليلاً للشنآن ، وهي قراءة واضحة أي : شنآن قوم من أجل أنْ صدوكم عام الحديبية عن المسجد الحرام.
والاعتداء الانتقام منهم بإلحاق المكروه بهم.
{ وتعاونوا على البر والتقوى } لما نهى عن الاعتداء بأمر بالمساعدة والتظافر على الخير ، إذ لا يلزم من النهي عن الاعتداء التعاون على الخير ، لأنّ بينهما واسطة وهو الخلو عن الاعتداء والتعاون.
وشرح الزمخشري البر والتقوى بالعفو والإغضاء ، قال : ويجوز أن يراد العموم لكل بر وتقوى ، فيتناول العفو انتهى.
وقال قوم : هما بمعنى واحد ، وكرر لاختلاف اللفظ تأكيداً.

قال ابن عطية : وهذا تسامح ، والعرف في دلالة هذين اللفظين يتناول الواجب والمندوب إليه ، والتقوى رعاية الواجب.
فإن جعل أحدهما بدل الآخر فتجوّز انتهى.
وقال ابن عباس : البر ما ائتمرت به ، والتقوى ما نهيت عنه.
وقال سهل : البر الإيمان ، والتقوى السنة.
يعني : اتباع السنة.
{ ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } الإثم : المعاصي ، والعدوان : التعدي في حدود الله قاله عطاء.
وقيل : الإثم الكفر ، والعصيان والعدوان البدعة.
وقيل : الإثم الحكم اللاحق للجرائم ، والعدوان ظلم الناس قاله : ابن عطية.
وقال الزمخشري : الإثم والعدوان الانتقام والتشفي قال : ويجوز أن يراد العموم لكل إثم وعدوان.
{ واتقوا الله إن الله شديد العقاب } أمر بالتقوى مطلقة ، وإن كان قد أمر بها في التعاون تأكيداً لأمرها ، ثم علل ذلك بأنه شديد العقاب.
فيجب أن يتقى وشدّة عقابه بكونه لا يطيقه أحد ولاستمراره ، فإن غالب الدنيا منقض.
وقال مجاهد : نزلت نهياً عن الطلب بدخول الجاهلية إذ أراد قوم من المؤمنين ذلك ، ولقد قيل : ذلك حليف لأبي سفيان من هذيل.
{ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به } تقدم مثل هذه الجملة في البقرة.
وقال هنا ابن عطية : ولحم الخنزير مقتض لشحمه بإجماع انتهى.
وليس كذلك ، فقد خالف فيه داود وغيره ، وتكلمنا على ذلك في البقرة ، وتأخر هنا به وتقدم هناك تفنناً في الكلام واتساعاً ، ولكون الجلالة وقعت هناك فصلاً أولاً كالفصل ، وهنا جاءت معطوفات بعدها ، فليست فصلاً ولا كالفصل ، وما جاء كذلك يقتضي في أكثر المواضع المد.
{ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع } تقدم شرح هذه الألفاظ في المفردات.
قال ابن عباس وقتادة : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة وغيرها ، فإذا ماتت أكلوها.
وقال أبو عبد الله : ليس الموقوذة إلا في ملك ، وليس في صيد وقيذ.
وقال مالك وغيره من الفقهاء في : الصيد ما حكمه حكم الوقيذ ، وهو نص في قول النبي صلى الله عليه وسلم في المعراض : « وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ ».
وقال ابن عباس ، وقتادة ، والسدي ، والضحاك : النطيحة الشاة تنطحها أخرى فيموتان ، أو الشاة تنطحها البقر والغنم.
وقال قوم : النطيحة المناطحة ، لأن الشاتين قد يتناطحان فيموتان.
قال ابن عطية : كل ما مات ضغطاً فهو نطيح.
وقرأ عبد الله وأبو ميسرة : والمنطوحة والمعنى في قوله وما أكل السبع : ما افترسه فأكل منه.
ولا يحمل على ظاهره ، لأن ما فرض أنه أكله السبع لا وجود له فيحرم أكله ، ولذلك قال الزمخشري : وما أكل السبع بعضه ، وهذه كلها كان أهل الجاهلية يأكلونها.
وقرأ الحسن والفياض ، وطلحة بن سلمان ، وأبو حيوة : السبع بسكون الباء ، ورويت عن أبي بكر عن عاصم في غير المشهور ، ورويت عن أبي عمرو.
وقرأ عبد الله : وأكيلة السبع.

وقرأ ابن عباس : وأكيل السبع وهما بمعنى مأكول السبع ، وذكر هذه المحرمات هو تفصيل لما أجمل في عموم قوله : { إلا ما يتلى عليكم } وبهذا صار المستثنى منه والمستثنى معلومين.
{ إلا ما ذكيتم } قال علي ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وابراهيم ، وطاووس ، وعبيد بن عمير ، والضحاك ، وابن زيد ، والجمهور : هو راجع إلى المذكورات أي من قوله : والمنخنقة إلى وما أكل السبع.
فما أدرك منها بطرف بعض ، أو بضرب برجل ، أو يحرك ذنباً.
وبالجملة ما تيقنت فيه حياة ذكي وأكل.
وقال بهذا مالك في قول ، والمشهور عنه وعن أصحابه المدنيين : أنّ الذكاة في هذه المذكورات هي ما لم ينفذ مقاتلها ويتحقق أنها لا تعيش ، ومتى صارت إلى ذلك كانت في حكم الميتة.
وعلى هذين القولين فالاستثناء متصل ، لكنه خلاف في الحال التي يؤثر فيها الذكاة في المذكورات.
وكان الزمخشري مال إلى مشهور قول مالك فإنه قال : إلا ما أدركتم ذكاته وهو يضطرب اضطراب المذبوح وتشخب وداجه.
وقيل : الاستثناء متصل عائد إلى أقرب مذكور وهو ما أكل السبع ومختص به ، والمعنى : إلا ما أدركتم فيه حياة مما أكل السبع فذكيتموه ، فإنه حلال.
وقيل : هو استثناء منقطع والتقدير : لكنْ ما ذكيتم من غير هذه فكلوه.
وكان هذا القائل رأى أنّ هذه الأوصاف وجدت فيما مات بشيء منها ، إما بالخنق ، وإما بالوقذ ، أو التردي ، أو النطح ، أو افتراس السبع ، ووصلت إلى حد لا تعيش فيه بسب بوصف من هذه الأوصاف على مذهب من اعتبر ذلك ، فلذلك كان الاستثناء منقطعاً.
والظاهر أنه استثناء متصل ، وإنما نص على هذه الخمسة وإن كان في حكم الميتة ، ولم يكتف بذكر الميتة لأن العرب كانت تعتقد أنّ هذه الحوادث على المأكول كالذكاة ، وأن الميتة ما ماتت بوجع دون سبب يعرف من هذه الأسباب.
وظاهر قوله : إلا ما ذكيتم ، يقتضي أنّ ما لا يدرك لا يجوز أكله كالجنين إذا خرج من بطن أمه المذبوحة ميتاً ، إذا كان استثناء منقطعاً فيندرج في عموم الميتة ، وهذا مذهب أبي حنيفة.
وذهب الجمهور إلى جواز أكله.
والحديث الذي استنبطوا منه الجواز حجة لأبي حنيفة لا لهم.
وهو « إذكاة الجنين ذكاة أمه » المعنى على التشبيه أي ذكاة الجنين مثل ذكاة أمه كما ذكاتها الذبح فكذلك ذكاته الذبح ولو كان كما زعموا لكان التركيب ذكاة أم الجنين ذكاته.
{ وما ذبح على النصب } قال مجاهد وقتادة وغيرهما : هي حجارة كان أهل الجاهلية يذبحون عليها.
قال ابن عباس : ويحلون عليها.
قال ابن جريج : وليست بأصنام ، الصنم مصور ، وكانت العرب تذبح بمكة وينضحون بالدم ما أقبل من البيت ، ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة ، فلما جاء الإسلام قال المسلمون : نحن أحق أنْ نعظم هذا البيت بهذه الأفعال ، فكره ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت.

وما ذبح على النصب ونزل أن ينال الله لحومها ولا دماؤها انتهى.
وكانت للعرب في بلادها أنصاب حجارة يعبدونها ، ويحلون عليها أنصاب مكة ، ومنها الحجر المسمى بسعد.
قال ابن زيد : ما ذبح على النصب ، وما أهل به لغير الله شيء واحد.
وقال ابن عطية : ما ذبح على النصب جزء مما أهل به لغير الله ، لكنْ خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له.
وقد يقال للصنم أيضاً : نصب ، لأنه ينصب انتهى.
وقرأ الجمهور : النُصُب بضمتين.
وقرأ طلحة بن مصرف : بضم النون ، وإسكان الصاد.
وقرأ عيسى بن عمر : بفتحتين ، وروي عنه كالجمهور.
وقرأ الحسن : بفتح النون ، وإسكان الصاد.
{ وأن تستقسموا بالأزلام } هذا معطوف على ما قبله أي : وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، وهو طلب معرفة القسم ، وهو النصيب أو القسم ، وهو المصدر.
قال ابن جريج : معناه أن تطلبوا على ما قسم لكم بالأزلام ، أو ما لم يقسم لكم انتهى.
وقال مجاهد : هي كعاب فارس والروم التي كانوا يتقامرون بها.
وروي عنه أيضاً : أنها سهام العرب ، وكعاب فارس ، وقال سفيان ووكيع : هي الشطرنج.
وقيل : الأزلام حصى كانوا يضربون بها ، وهي التي أشار إليها الشاعر بقوله :
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى . . .
ولا زاجرات الطير ما الله صانع
وروي هذا عن ابن جبير قالوا : وأزلام العرب ثلاثة أنواع : أحدها : الثلاثة التي يتخذها كل إنسان لنفسه في أحدها افعل وفي الآخر لا تفعل والثالث غفل فيجعلها في خريطة ، فإذا أراد فعل شيء دخل يده في الخريطة منسابة ، وائتمر بما خرج له من الآمر أو الناهي.
وإن خرج الغفل أعاد الضرب.
والثاني : سبعة قداح كانت عندها في جوف الكعبة ، في أحدها العقل في أمر الديات من يحمله منهم فيضرب بالسبعة ، فمن خرج عليه قدح العقل لزمه العقل ، وفي آخر تصح ، وفي آخر لا ، فإذا أرادوا أمراً ضرب فيتبع ما يخرج ، وفي آخر منكم ، وفي آخر من غيركم ، وفي آخر ملصق ، فإذا اختلفوا في إنسان أهو منهم أمْ من غيرهم ضربوا فاتبعوا ما خرج ، وفي سائرها لأحكام المياه إذا أرادوا أن يحفروا لطلب المياه ضربوا بالقداح ، وفيها ذلك القداح ، فحيث ما خرج عملوا به.
وهذه السبعة أيضاً متخذة عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم على ما كانت في الكعبة عند هبل.
والثالث : قداح الميسر وهي عشرة ، وتقدم شرح الميسر في سورة البقرة.
{ ذلكم فسق } الظاهر أنّ الإشارة إلى الاستقسام خاصة ، ورواه أبو صالح عن ابن عباس.
وقال الزمخشري : إشارة إلى الاستقسام ، وإلى تناول ما حرم عليهم ، لأن المعنى : حرم عليهم تناول الميتة وكذا وكذا.
( فإن قلت ) : لم كان استقسام المسافر وغيره بالأزلام ليعرف الحال فسقاً؟ ( قلت ) : لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب ، وقال :

{ لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } واعتقاد أن إليه طريقاً وإلى استنباطه.
وقوله : أمرني ربي ونهاني ربي افتراء على الله تعالى ، وما يبديه أنه أمره أو نهاه الكهنة والمنجمون بهذه المثابة ، وإن كان أراد بالرب الصنم.
فقد روي أنهم كانوا يحلون بها عند أصنامهم ، وأمره ظاهر انتهى.
قال الزمخشري في اسم الإشارة رواه عن ابن عباس عليّ بن أبي طلحة ، وهو قول ابن جبير.
قال الطبري : ونهى الله عن هذه الأمور التي يتعاطاها الكهان والمنجمون ، لما يتعلق بها من الكلام في المغيبات.
وقال غيره : العلة في تحريم الاستقسام بالأزلام كونها يؤكل بها المال بالباطل ، وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاماً أو ينكحوا أو يدفنوا ميتاً أو شكوا في نسب ، ذهبوا إلى هبل بمائة درهم وجزور ، فالمائة للضارب بالقداح ، والجزور ينحر ويؤكل ، ويسمون صاحبهم ويقولون لهبل : يا إلهنا هذا فلان أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق فيه ، ويضرب صاحب القداح فما خرج عمل به ، فإن خرج لا أخروه عامهم حتى يأتوا به مرة أخرى ، ينتهون في كل أمورهم إلى ما خرجت به القداح.
{ اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } الألف واللام فيه للعهد وهو يوم عرفة قاله : مجاهد ، وابن زيد.
وهو يوم نزولها بعد العصر في حجة الوداع يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الموقف على ناقته ، وليس في الموقف مشرك.
وقيل : اليوم الذي دخل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع.
وقيل : سنة ثمان ، ونادى مناديه بالأمان لمن لفظ بشهادة الإسلام ، ولمن وضع السلاح ، ولمن أغلق بابه.
وقال الزجاح : لم يرد يوماً بعين ، وإنما المعنى : الآن يئسوا ، كما تقول : أنا اليوم قد كبرت انتهى.
واتبع الزمخشري الزجاج فقال : اليوم لم يرد به يوماً بعينه ، وإنما أراد الزمان الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية ، كقولك : كنت بالأمس شاباً وأنت اليوم أشيب ، فلا يريد بالأمس الذي قبل يومك ، ولا باليوم يومك.
ونحوه الآن في قوله :
الآن لما ابيض مسربتي . . .
وعضضت من نابي على جدم
انتهى.
والذين كفروا : مشركو العرب.
قال ابن عباس ، والسدي ، وعطاء : أيسوا من أن ترجعوا إلى دينهم.
وقال ابن عطية : ظهور أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وظهور دينه ، يقتضي أن يئس الكفار عن الرجوع إلى دينهم قد كان وقع منذ زمان ، وإنما هذا اليأس عندي من اضمحلال أمر الإسلام وفساد جمعه ، لأنّ هذا أمر كان يترجاه من بقي من الكفار.
ألا ترى إلى قول أخي صفوان بن أمية في يوم هوازن حين انكشف المسلمون فظنها هزيمة.
ألا بطل السحر اليوم.
وقال الزمخشري : يئسوا منه أن يبطلوه وأن يرجعوا محللين لهذه الخبائث بعدما حرمت عليكم.

وقيل : يئسوا من دينكم أن يغلبوه لأنّ الله وفى بوعده من إظهاره على الدين كله انتهى.
وقرأ أبو جعفر : ييس من غير همز ، ورويت عن أبي عمرو.
{ فلا تخشوهم فاخشون } قال ابن جبير : فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم.
وقال ابن السائب : فلا تخشوهم أن يظهروا على دينكم.
وقيل : فلا تخشوا عاقبتهم.
والظاهر أنه نهى عن خشيتهم إياهم ، وأنهم لا يخشون إلا الله تعالى.
{ اليوم أكملت لكم دينكم } يحتمل اليوم المعاني التي قيلت في قوله : اليوم يئس.
قال الجمهور : وإكماله هو إظهاره ، واستيعاب عظم فرائضه ، وتحليله وتحريمه.
قالوا : وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير كآيات الربا ، وآية الكلالة ، وغير ذلك ، وإنما كمل معظم الدين ، وأمر الحج ، إنْ حجوا وليس معهم مشرك.
وخطب الزمخشري في هذا المعنى فقال : كفيتكم أمر عدوكم ، وجعلت اليد العليا لكم ، كما تقول الملوك : اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد إذا كفوا من ينازعهم الملك ، ووصلوا إلى أغراضهم ومباغيهم.
أو أكملت لكم ما تحتاجون إليه من تعليم الحلال والحرام ، والتوقيف على الشرائع ، وقوانين القياس ، وأصول الاجتهاد انتهى.
وهذا القول الثاني هو : قول ابن عباس والسدي قالا : اكمال فرائضه وحدوده ، ولم ينزل بعد هذه الآية تحليل ولا تحريم ، فعلى هذا يكون المعنى : أكملت لكم شرائع دينكم.
وقال قتادة وابن جبير : كما له أن ينفي المشركين عن البيت ، فلم يحج مشرك.
وقال الشعبي : كمال الدين هو عزه وظهوره ، وذل الشرك ودروسه ، لا تكامل الفرائض والسنن ، لأنها لم تزل تنزل إلى أن قبض.
وقيل : إكماله إلا من من نسخه بعده كما نسخ به ما تقدّم.
وقال القفال : الدين ما كان ناقصاً البتة ، بل كانت الشرائع تنزل في كل وقت كافية في ذلك الوقت ، إلا أنه تعالى كان عالماً في أول المبعث بأنّ ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ، وكان ينسخ بعد الثبوت ويزيد بعد العدم ، وأما في آخر زمان المبعث فأنزل شريعة كاملة ، وأحكم ثباتها إلى يوم القيامة.
وروي أن هذه الآية لما نزلت يوم الحج الأكبر ، وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى عمر بن الخطاب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما يبكيك؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة ديننا ، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : صدقتَ ».
{ وأتممت عليكم نعمتي } أي في ظهور الإسلام ، وكمال الدين ، وسعة الأحوال ، وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية ، إلى دخول الجنة ، والخلود ، وحسَّن العبارة الزمخشري فقال : بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين ، وهدم منار الجاهلية ومناسكهم ، وإن لم يحج مشرك ولم يطف بالبيت عريان انتهى.

فكلامه مجموع أقوال المتقدّمين.
قال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة : إتمام النعمة منع المشركين من الحج.
وقال السدي : هو الإظهار على العدو.
وقال ابن زيد : بالهداية إلى الإسلام.
وقال الزمخشري : وأتممت عليكم نعمتي بإكمال أمر الدين والشرائع كأنه قال : وأتممت عليكم نعمتي بذلك ، لأنه لا نعمة من نعمة الإسلام.
{ ورضيت لكم الإسلام ديناً } يعني : اخترته لكم من بين الأديان ، وأذنتكم بأنه هو الدين المرضي وحده { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } { إن هذه أمتكم أمة واحدة } قاله الزمخشري.
وقال ابن عطية الرضا في : هذا الموضع يحتمل أن يكون بمعنى الإرادة ، ويحتمل أن يكون صفة فعل عبارة عن إظهار الله إياه ، لأنّ الرضا من الصفات المترددة بين صفات الذات وصفات الأفعال ، والله تعالى قد رضي الإسلام وأراده لنا ، وثم أشياء يريد الله وقوعها ولا يرضاها.
والإسلام هنا هو الدين في قوله : { إن الدين عند الله الإسلام } انتهى وكلامه يدل على أنّ الرضا إذا كان من صفات الذات فهو صفة تغاير الإرادة.
وقيل : المعنى أعلمتكم برضائي به لكم ديناً ، فإنه تعالى لم يزل راضياً بالإسلام لنا ديناً ، فلا يكون الاختصاص الرضا بذلك اليوم فائدة إنْ حمل على ظاهره.
وقيل : رضيت عنكم إذا تعبدتم لي بالدين الذي شرعته لكم.
وقيل : رضيت إسلامكم الذي أنتم عليه اليوم ديناً كاملاً إلى آخر الأبد لا ينسخ منه شيء.
{ فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم } هذا متصل بذكر المحرمات وذلكم فسق أكده به وبما بعده يعني التحريم ، لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعم التامة ، والإسلام المنعوت بالرضا دون غيره من الملك.
وتقدّم تفسير مثل هذه الجملة.
وقراءة ابن محيصن : فمن اطرّ بإدغام الضاد في الطاء.
ومعنى متجانف : منحرف ومائل.
وقرأ الجمهور : متجانف بالألف.
وقرأ أبو عبد الرحمن ، والنخعي وابن وثاب : متجنف دون ألف.
قال ابن عطية وهو أبلغ في المعنى من متجانف ، وتفاعل إنما هو محاكاة الشيء والتقرب منه.
ألا ترى أنك إذا قلت : تمايل الغصن ، فإنّ ذلك يقتضي تأوّداً ومقاربة ميل ، وإذا قلت : تميل ، فقد ثبت الميل.
وكذلك تصاون الرجل وتصوّن وتغافل وتغفل انتهى.
والإثم هنا قيل : أنْ يأكل فوق الشبع.
وقيل : العصيان بالسفر.
وقيل : الإثم هنا الحرام ، ومن ذلك قول عمر : ما تجأنفنا فيه لإثم ، ولا تعهدنا ونحن نعلمه.
أي : ما ملنا فيه لحرام.

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)

الجوارح : الكواسب من سباع البهائم والطير ، كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والباز والشاهين.
وسميت بذلك لأنها تجرح ما تصيد غالباً ، أو لأنها تكتسب ، يقال امرأة : لا جارح لها ، أي لا كاسب.
ومنه : { ويعلم ما جرحتم بالنهار } أي ما كسبتم.
ويقال : جرح واجترح بمعنى اكتسب.
المكلب بالتشديد : معلم الكلاب ومضرّيها على الصيد ، وبالتخفيف صاحب كلاب.
وقال الزجاج : رجل مكلب ومكلب وكلاب صاحب كلاب.
الغسل في اللغة : إيصال الماء إلى المغسول مع إمرار شيء عليه كاليد ونحوها قاله بعضهم ، وقال آخرون : هو إمرار الماء على الموضع ، ومن ذلك قول بعض العرب :
فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها . . .
المرفق : المفصل بين المعصم والعضد ، وفتح الميم وكسر الراء أشهر.
الرجل : معروفة ، وجمعت على أفعل في القلة والكثرة.
والكعب : هو العظم الناتىء في وجه القدم حيث يجتمع شراك النعل.
الحرج : الضيق ، والحرج الناقة الضامر ، والحرج النعش.
{ يسألونك ماذا أحل لهم } سبب نزولها فيما قال : عكرمة ومحمد بن كعب ، سؤال عاصم بن عدي وسعيد بن خيثمة وعويمر بن ساعدة.
ماذا يحل لنا من هذه الكلاب؟ وكان إذ ذاك أمر الرسول بقتلها فقتلت حتى بلغت العواصم لقول جبريل عليه السلام : »إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب« وفي صحيح أبي عبد الله الحاكم بسنده إلى أبي رافع.
قال : »أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب« ، فقال الناس : يا رسول الله ما أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فأنزل الله تعالى يسألونك ماذا أحل لهم الآيات.
وقال ابن جبير : نزلت في عدي بن حاتم وزيد الخيل قالا : يا رسول الله ، إنا نصيد بالكلاب والبزاة ، وإن كلاب آل درع وآل أبي حورية لتأخذ البقر والحمروالظباء والضب ، فمنه ما ندرك ذكاته ، ومنه ما يقتل فلا ندرك ذكاته ، وقد حرم الله الميتة ، فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت.
وعلى اعتبار السبب يكون الجواب أكثر مما وقع السؤال عنه ، لأنهم سألوا عن شيء خاص من المطعم ، فأجيبوا بما سألوا عنه ، وبشيء عام في المطعم.
ويحتمل أن يكون ماذا كلها استفهاماً ، والجملة خبر.
ويحتمل أن يكون ما استفهاماً ، وذا خبراً.
أي : ما الذي أحل لهم؟ والجملة إذ ذاك صلة.
والظاهر أنّ المعنى : ماذا أحل لهم من المطاعم ، لأنه لما ذكر ما حرم من الميتة وما عطف عليه من الخبائث ، سألوا عما يحل لهم؟ ولما كان يسألونك الفاعل فيه ضمير غائب قال لهم بضمير الغائب.
ويجوز في الكلام ماذا أحل لنا ، كما تقول : أقسم زيد ليضربن ولأضربن ، وضمير التكلم يقتضي حكاية ما قالوا كما لأضربن يقتضي حكاية الجملة المقسم عليها.
وقال الزمخشري : في السؤال معنى القول ، فلذلك وقع بعده ماذا أحل لهم ، كأنه قيل : يقولون : ماذا أحل لهم انتهى.

ولا يحتاج إلى ما ذكر ، لأنه من باب التعليق كقوله : سلهم أيهم بذلك زعيم ، فالجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني ليسألونك.
ونصّوا على أنّ فعل السؤال يعلق ، وإن لم يكن من أفعال القلوب ، لأنه سبب للعلم ، فكما تعلق العلم فكذلك سببه.
وقال أبو عبد الله الرازي : لو كان حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا : ماذا أحل لهم ومعلوم أن ذلك باطل ، لأنهم لا يقولون ذلك ، وإنما يقولون : ماذا أحل لنا.
بل الصحيح : أنّ هذا ليس حكاية كلامهم بعبارتهم ، بل هو بيان كيفية الواقعة انتهى.
{ قل أحل لكم الطيبات } لما كانت العرب تحرم أشياء من الطيبات كالبحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام ، بغير إذن من الله تعالى ، قرر هنا أنّ الذي أحل هي الطيبات.
ويقوي قول الشافعي : أن المعنى المستلذات ، ويضعف أن المعنى : قل أحل لكم المحللات ، ويدل عليه قوله : { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } كالخنافس والوزع وغيرهما.
والطيب في لسان العرب يستعمل للحلال وللمستلذ ، وتقدم الكلام على ذلك في البقرة.
والمعتبر في الاستلذاذ والاستطابة أهل المروءة والأخلاق الجميلة ، كان بعض الناس يستطيب أكل جميع الحيوانات.
وهذه الجملة جاءت فعلية ، فهي جواب لما سألوا عنه في المعنى لا على اللفظ ، لأن الجملة السابقة وهي : ماذا أحل لهم اسمية ، وهذه فعلية.
{ وما علمتم من الجوارح مكلبين } ظاهر علمتم يخالف ظاهر استئناف مكلبين ، فغلّب الضحاك والسدي وابن جبير وعطاء ظاهر لفظ مكلبين فقالوا : الجوارح هي الكلاب خاصة.
وكان ابن عمر يقول : إنما يصطاد بالكلاب.
وقال هو وأبو جعفر : ما صيد بغيرها من باز وصقر ونحوهما فلا يحل ، إلا أن تدرك ذكاته فتذكيه.
وجوز قوم البزاة ، فجوزوا صيدها لحديث عدي بن حاتم.
وغلب الجمهور ظاهر : وما علمتم ، وقالوا : معنى مكلبين مؤدبين ومضرين ومعودين ، وعمموا الجوارح في كواسر البهائم والطير مما يقبل التعليم.
وأقصى غاية التعليم أنْ يشلي فيستشلي ، ويدعى فيجيب ، ويزجر بعد الظفر فينزجر ، ويمتنع من أن يأكل من الصيد.
وفائدة هذه الحال وإن كانت مؤكدة لقوله : علمتم ، فكان يستغنى عنها أن يكون المعلم مؤتمراً بالتعليم حاذقاً فيه موصوفاً به ، واشتقت هذه الحال من الكلب وإن كانت جاءت غاية في الجوارح على سبيل التغليب ، لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب ، فاشتقت من لفظه لكثرة ذلك في جنسه.
قال أبو سليمان الدمشقي : وإنما قيل مكلبين ، لأن الغالب من صيدهم أن يكون بالكلاب انتهى.
واشتقت من الكلب وهي الضراوة يقال : هو كلب بكذا إذا كان ضارياً به.
قال الزمخشري : أو لأن السبع يسمى كلباً ، ومنه قوله عليه السلام : « اللهم سلط عليه كلباً من كلابك » فأكله الأسد ، ولا يصح هذا الاشتقاق ، لأنّ كون الأسد كلباً هو وصف فيه ، والتكليب من صفة المعلم ، والجوارح هي سباع بنفسها لا بجعل المعلم.

وظاهر قوله : وما علمتم ، أنه خطاب للمؤمنين.
فلو كان المعلم يهودياً أو نصرانياً فكره الصيد به الحسن ، أو مجوسياً فكره الصيد به : جابر بن عبد الله ، والحسن ، وعطاء ، ومجاهد ، والنخعي ، والثوري ، وإسحاق.
وأجاز أكل صيد كلابهم : مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي إذا كان الصائد مسلماً.
قالوا : وذلك مثل شفرته.
والجمهور : على جواز ما صاد الكتابي.
وقال مالك : لا يجوز فرق بين صيده وذبيحته.
وما صاد المجوسي فالجمهور على منع أكله : عطاء ، وابن جبير ، والنخعي ، ومالك ، وأبو حنيفة ، والليث ، والشافعي.
وقال أبو ثور : فيه قول أنهم أهل كتاب ، وأن صيدهم جائز ، وما علمتم موضع ما رفع على أنه معطوف على الطيبات ، ويكون حذف مضاف أي : وصيد ما علمتم ، وقدره بعضهم : واتخاذ ما علمتم.
أو رفع على الابتداء ، وما شرطية ، والجواب : فكلوا.
وهذا أجود ، لأنه لا إضمار فيه.
وقرأ ابن عباس وابن الحنفية : وما عُلمتم مبنياً للمفعول أي : من أمر الجوارح والصيد بها.
وقرأ : مكلبين من أكلب ، وفعل وأفعل ، قد يشتركان.
والظاهر دخول الكلب الأسود البهيم في عموم الجوارح ، وأنه يجوز أكل صيده ، وبه قال الجمهور.
ومذهب أحمد وجماعة من أهل الظاهر : أنه لا يجوز أكل صيده ، لأنه مأمور بقتله ، وما أوجب الشرع قتله فلا يجوز أكل صيده.
وقال أحمد : لا أعلم أحداً رخص فيه إذا كان بهيماً وبه قال : ابن راهويه.
وكره الصيد به : الحسن ، وقتادة ، والنخعي.
وقد تقدم ذكر أقصى غاية التعليم في الكلب ، أنه إذا أمر ائتمر ، وإذا زجر انزجر.
وزاد قوم شرطاً آخر وهو أن لا يأكل مما صاد ، فأما سباع الطير فلا يشترط فيها الأكل عند الجمهور.
وقال ربيعة : ما أجاب منها فهو المعلم.
وقال ابن حبيب : لا يشترط فيها إلا شرط واحد : وهو أنه إذا أمرها أطاعت ، فإن انزجارها إذا زجرت لا يتأتى فيها.
وظاهر قوله : وما علمتم ، حصول التعليم من غير اعتبار عدد.
وكان أبو حنيفة لا يجد في ذلك عدداً.
وقال أصحابنا : إذا صاد الكلب وأمسك ثلاث مرات فقد حصل له التعليم.
وقال غيرهم : إذا فعل ذلك مرة واحدة فقد صار معلماً.
{ تعلمونهنّ مما علمكم الله } أي : إنّ تعليمكم إياهنّ ليس من قبل أنفسكم ، إنما هو من العلم الذي علمكم الله ، وهو أن جعل لكم روية وفكراً بحيث قبلتم العلم.
فكذلك الجوارح بصبر لها إدراك مّا وشعور ، بحيث يقبلن الائتمار والانزجار.
وفي قوله : مما علمكم الله ، إشعار ودلالة على فضل العلم وشرفه ، إذ ذكر ذلك في معرض الامتنان.
ومفعول علم وتعلمونهنّ الثاني محذوف تقديره : وما علمتموه طلب الصيد لكم لا لأنفسهنّ تعلمونهنّ ذلك ، وفي ذلك دلالة على أن صيد ما لم يعلم حرام أكله ، لأنّ الله تعالى إنما أباح ذلك بشرط التعليم.

والدليل على ذلك الخطاب في عليكم في قوله : فكلوا مما أمسكن عليكم ، وغير المعلم إنما يمسك لنفسه.
ومعنى مما علمكم الله أي : من الأدب الذي أدّبكم به تعالى ، وهو اتباع أوامره واجتناب نواهيه ، فإذا أمر فائتمر ، وإذا زجر فانزجر ، فقد تعلم مما علمنا الله تعالى.
وقال الزمخشري : مما علمكم الله من كلم التكليف ، لأنه إلهام من الله تعالى ومكتسب بالعقل انتهى.
والجملة من قوله : تعلمونهن ، حال ثانية.
ويجوز أن تكون مستأنفة على تقدير : أن لا تكون ما من قوله : وما علمتم من الجوارح ، شرطية ، إلا إن كانت اعتراضاً بين الشرط وجزائه.
وخطب الزمخشري هنا فقال : وفيه فائدة جليلة وهي أنّ كل آخذ علماً أن لا يأخذه إلا من قبل أهله علماً وأبحرهم دراية ، وأغوصهم على لطائفه وحقائقه ، واحتاج إلى أن تضرب إليه أكباد الإبل ، فكم من أخذ من غير متقن فقد ضيع أيامه وعض عند لقاء النحارير أنامله.
{ فكلوا مما أمسكن عليكم } هذا أمر إباحة.
ومِن هنا للتبعيض والمعنى : كلوا من الصيد الذي أمسكن عليكم.
ومن ذهب إلى أن مِن زائدة فقوله ضعيف ، وظاهره أنه إذا أمسك على مرسله جاز الأكل سواء أكل الجارح منه ، أو لم يأكل ، وبه قال : سعد بن أبي وقاص ، وسلمان الفارسي ، وأبو هريرة ، وابن عمر.
وهو قول مالك وجميع أصحابه.
ولو بقيت بضعة بعد أكله جاز أكلها ومن حجتهم : أنّ قتله هي ذكاته ، فلا يحرم ما ذكى.
وقال أبو هريرة أيضاً وابن جبير ، وعطاء ، وقتادة ، وعكرمة ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور : لا يؤكل ما بقي من أكل الكلب ولا غيره ، لأنه إنما أمسك على نفسه ولم يمسك على مرسله.
ولأنّ في حديث عديّ »وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه« وعن عليّ : »إذا أكل البازي فلا تأكل« وفرق قوم ما أكل منه الكلب فمنعوا من أكله ، وبين ما أكل منه البازي ، فرخصوا في أكله منهم : ابن عباس ، والشعبي ، والنخعي ، وحماد بن أبي سليمان ، وأبو جعفر محمد بن عليّ الثوري ، وأبو حنيفة وأصحابه ، لأنّ الكلب إذا ضرب انتهى ، والبازي لا يضرب.
والظاهر أنّ الجارح إذا شرب من الدم أكل الصيد ، وكره ذلك سفيان الثوري.
والظاهر أنه إذا انفلت من صاحبه فصاد من غير إرسال أنه لا يجوز أكل ما صاد.
وقال عليّ ، والأوزاعي : إن كان أخرجه صاحبه للصيد جاز أكل ما صاد.
وممن منع من أكله إذا صاد من غير إرسال صاحبه : ربيعة ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأبو ثور.
والظاهر جواز أكل ما قتله الكلب بفمه من غير جرح لعموم مما أمسكن.
وقال بعضهم : لا يجوز لأنه ميت.
{ واذكروا اسم الله عليه } الظاهر عود الضمير في عليه إلى المصدر المفهوم من قوله : فكلوا ، أي على الأكل.

وفي الحديث في صحيح مسلم " سم الله وكل مما يليك " وقيل : يعود على ما أمسكن ، على معنى : وسموا عليه إذا أدركتم ذكاته ، وهذا فيه بعد.
وقيل : على ما علمتم من الجوارح أي : سموا عليه عند إرساله لقوله : »إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل« واختلفوا في التسمية عند الإرسال : أهي على الوجوب؟ أو على الندب؟ والمستحب أن يكون لفظها بسم الله والله أكبر.
وقول من زعم : إن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، وإنّ الأصل : فاذكروا اسم الله عليه وكلوا مما أمسكن عليكم ، قول مرغوب عنه لضعفه.
{ واتقوا الله إن الله سريع الحساب } لما تقدم ذكر ما حرَّم وأحلَّ من المطاعم أمر بالتقوى ، فإنّ التقوى بها يمسك الإنسان عن الحرام.
وعلل الأمر بالتقوى بأنه تعالى سريع الحساب لمن خالف ما أمر به من تقواه ، فهو وعيد بيوم القيامة ، وأن حسابه تعالى إياكم سريع إتيانه ، إذ يوم القيامة قريب.
أو يراد بالحساب المجازاة ، فتوعد مَن لم يتق بمجازاة سريعة قريبة ، أو لكونه تعالى محيطاً بكل شيء لا يحتاج في الحساب إلى مجادلة عدّ ، بل يحاسب الخلائق دفعة واحدة.
{ اليوم أحل لكم الطيبات } فائدة إعادة ذكر إحلال الطيبات التنبيه بإتمام النعمة فيما يتعلق بالدنيا ، ومنها إحلال الطيبات كما نبه بقوله : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } على إتمام النعمة في كل ما يتعلق بالدين.
ومن زعم أنّ اليوم واحد قال : كرره ثلاث مرات تأكيداً ، والظاهر أنها أوقات مختلفة.
وقد قيل في الثلاثة : إنها أوقات أريد بها مجرد الوقت ، لا وقت معين.
والظاهر أنّ الطيبات هنا هي الطيبات المذكورة قبل.
{ وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } طعامهم هنا هي الذبائح كذا قال معظم أهل التفسير.
قالوا : لأنّ ما كان من نوع البر والخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى ذكاة لا يختلف في حلها باختلاف حال أحد ، لأنها لا تحرم بوجه سواء كان المباشرة لها كتابياً ، أو مجوسياً ، أم غير ذلك.
وأنها لا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة ، ولأن ما قبل هذا في بيان الصيد والذبائح فحمل هذه الآية على الذبائح أولى.
وذهب قوم إلى أنّ المراد بقوله : وطعام ، جميع مطاعمهم.
ويعزي إلى قوم ومنهم بعض أئمة الزيدية حمل الطعام هنا على ما لا يحتاج فيه إلى الذكاة كالخبز والفاكهة ، وبه قالت الإمامية.
قال الشريف المرتضى : نكاح الكتابية حرام ، وذبائحهم وطعامهم وطعام من يقطع بكفره.
وإذا حملنا الطعام على ما قاله الجمهور من الذبائح فقد اختلفوا فيما هو حرام عليهم ، أيحل لنا أم يحرم؟ فذهب الجمهور إلى أنّ تذكية الذمي مؤثرة في كل الذبيحة ما حرم عليهم منها وما حل ، فيجوز لنا أكله.

وذهب قوم إلى أنه لا تعمل الذكاة فيما حرم عليهم ، فلا يحل لنا أكله كالشحوم المحضة ، وهذا هو الظاهر لقوله : وطعام الذين أوتوا الكتاب ، وهذا المحرم عليهم ليس من طعامهم.
وهذا الخلاف موجود في مذهب مالك.
والظاهر حل طعامهم سواء سموا عليه اسم الله ، أم اسم غيره ، وبه قال : عطاء ، والقاسم بن بحصرة ، والشعبي ، وربيعة ، ومكحول ، والليث ، وذهب إلى أنّ الكتابي إذا لم يذكر اسم الله على الذبيحة وذكر غير الله لم تؤكل وبه قال : أبو الدرداء ، وعبادة بن الصامت ، وجماعة من الصحابة.
وبه قال : أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، ومالك.
وكره النخعي والثوري أكل ما ذبح وأهلّ به لغير الله.
وظاهر قوله : «أوتوا الكتاب» أنه مختص ببني إسرائيل والنصارى الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل ، دون مَن دخل في دينهم من العرب أو العجم ، فلا تحل ذبائحهم لنا كنصارى بني تغلب وغيرهم.
وقد نهى عن ذبائحهم عليّ رضي الله عنه ، وقال : لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب الخمر.
وذهب الجمهور ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وابن المسيب ، والشعبي ، وعطاء ، وابن شهاب ، والحكم ، وقتادة ، وحماد ، ومالك ، وأبو حنيفة وأصحابه : أنه لا فرق بين بني إسرائيل والنصارى ومن تهوّد أو تنصر من العرب أو العجم في حل أكل ذبيحتهم.
والظاهر أنّ ذبيحة المجوسي لا تحل لنا لأنهم ليسوا من الذين أوتوا الكتاب.
وما روي عن مالك أنه قال : هم أهل كتاب وبعث إليهم رسول يقال : رزادشت لا يصح.
وقد أجاز قوم أكل ذبيحتهم مستدلين بقوله : { سنوا بهم سنة أهل الكتاب }.
وقال ابن المسيب : إذا كان المسلم مريضاً فأمر المجوسي أن يذكر الله ويذبح فلا بأس.
وقال أبو ثور : وإنْ أمر بذلك في الصحة فلا بأس.
والظاهر أنّ ذبيحة الصابىء لا يجوز لنا أكلها ، لأنهم ليسوا من الذين أوتوا الكتاب.
وخالف أبو حنيفة فقال : حكمهم حكم أهل الكتاب.
وقال صاحباه : هم صنفان ، صنف يقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة ، وصنف لا يقرأون كتاباً ويعبدون النجوم ، فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب.
{ وطعامكم حل لهم } أي : ذبائحكم وهذه رخصة للمسلمين لا لأهل الكتاب.
لما كان الأمر يقتضي أن شيئاً شرعت لنا فيه التذكية ، ينبغي لنا أن نحميه منهم ، فرخص لنا في ذلك رفعاً للمشقة بحسب التجاوز ، فلا علينا بأس أن نطعمهم ولو كان حراماً عليهم طعام المؤمنين ، لما ساغ للمؤمنين إطعامهم.
وصار المعنى : أنه أحل لكم أكل طعامهم ، وأحل لكم أن تطعموهم من طعامكم ، والحل الحلال ويقال في الاتباع هذا حل بل.
{ والمحصنات من المؤمنات } هذا معطوف على قوله : وطعام الذين أوتوا الكتاب.
والمعنى : وأحل لكم نكاح المحصنات من المؤمنات.
{ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } والإحصان أن يكون بالإسلام وبالتزويج ، ويمتنعان هنا ، وبالحرية وبالعفة.

فقال عمر بن الخطاب ، ومجاهد ، ومالك ، وجماعة : الإحصان هنا الحريّة ، فلا يجوز نكاح الأمة الكتابية.
وقال جماعة : منهم مجاهد ، والشعبي ، وأبو ميسرة ، وسفيان ، الإحصان هنا العفة ، فيجوز نكاح الأمة الكتابية.
ومنع بعض العلماء من نكاح غير العفيفة بهذا المفهوم الثاني.
قال الحسن : إذا اطلع الإنسان من امرأته على فاحشة فليفارقها.
وعن مجاهد : يحرم البغايا من المؤمنات ومن أهل الكتاب.
وقال الشعبي إحصان اليهودية والنصرانية أن لا تزني ، وأن تغتسل من الجنابة.
وقال عطاء : رخص في التزويج بالكتابية ، لأنه كان في المسلمات قلة ، فأما الآن ففيهنّ الكثرة ، فزالت الحاجة إليهن.
والرخصة في تزويجهن ولا خلاف بين السلف وفقهاء الأمصار في إباحة نكاح الحرائر الكتابيات ، واتفق على ذلك الصحابة إلا شيئاً روي عن ابن عمر أنه سأله رجل عن ذلك فقال : اقرأ آية التحليل يشير إلى هذه الآية ، وآية التحريم يشير إلى { ولا تنكحوا المشركات } وقد تقدم ذلك في سورة البقرة في قوله : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن }.
وتزوج عثمان بن عفان رضي الله عنه نايلة بنت الفرافصة الكلبية على نسائه ، وتزوج طلحة بن عبد الله يهودية من الشام ، وتزوج حذيفة يهودية.
( فإن قلت ) : يكون ثم محذوف أي : والمحصنات اللاتي كن كتابيات فأسلمن ، ويكون قد وصفهن بأنهن من الذين أوتوا الكتاب باعتبار ما كن عليه كما قال : { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله } وقال : { من أهل الكتاب أمة قائمة } ثم قال بعد { يؤمنون بالله واليوم الآخر } ( قلت ) : إطلاق لفظ أهل الكتاب ينصرف إلى اليهود والنصارى دون المسلمين ودون سائر الكفار ، ولا يطلق على مسلم أنه من أهل الكتاب ، كما لا يطلق عليه يهودي ولا نصراني.
فأما الآيتان فأطلق الاسم مقيداً بذكر الإيمان فيهما ، ولا يوجد مطلقاً في القرآن بغير تقييد ، إلا والمراد بهم اليهود والنصارى.
وأيضاً فإنه قال : والمحصنات من المؤمنات ، فانتظم ذلك سائر المؤمنات ممن كن مشركات أو كتابيات ، فوجب أن يحمل قوله : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، على الكتابيات اللاتي لم يسلمن وإلاّ زالت فائدته ، إذ قد اندرجن في قوله : والمحصنات من المؤمنات.
وأيضاً فمعلوم من قوله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } أنه لم يرد به طعام المؤمنين الذين كانوا من أهل الكتاب ، بل المراد اليهود والنصارى ، فكذلك هذه الآية.
( فإن قيل ) : يتعلق في تحريم الكتابيات بقوله تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } ( قيل ) : هذا في الحربية إذا خرج زوجها مسلماً ، أو الحربي تخرج امرأته مسلمة : ألا ترى إلى قوله : { واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا } ولو سلمنا العموم لكان مخصوصاً بقوله : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، والظاهر جواز نكاح الحربية الكتابية لاندراجها في عموم.
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم.
وخص ابن عباس هذا العموم بالذمية ، فأجاز نكاح الذمية دون الحربية ، وتلا قوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون } إلى قوله

{ وهم صاغرون } ولم يفرق غيره من الصحابة من الحربيات والذميات.
وأما نصارى بني تغلب فمنع نكاح نسائهن عليّ وابراهيم وجابر بن زيد ، وأجازه ابن عباس.
{ إذا آتيتموهن أجورهن } أي مهورهن.
وانتزع العلماء من هذا أنه لا ينبغي أن يدخل زوج بزوجته إلا بعد أن يبذل لها من المهر ما يستحلها به ، ومن جوز أن يدخل دون بذل ذلك رأى أنه محكم الالتزام في حكم المؤتى.
وفي ظاهر قوله : إذا آتيتموهن أجورهن ، دلالة على أنّ إماء الكتابيات لسن مندرجات في قوله : والمحصنات ، فيقوى أن يراد به الحرائر ، إذ الإماء لا يعطون أجورهن ، وإنما يعطي السيد.
إلا أن يجوز فنجعل إعطاء السيد إعطاء لهن.
وفيه دلالة أيضاً على أن أقل الصداق لا يتقدر ، إذ سماه أجراً ، والأجر في الإجارات لا يتقدر.
{ محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان } تقدم تفسيره نظيره في النساء.
{ ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين } سبب نزولها فيما رواه أبو صالح عن ابن عباس : أنه تعالى لما أرخص في نكاح الكتابيات قلن بينهن : لولا أن الله رضي ديننا وقبل عملنا لم يبح للمؤمنين تزويجنا ، فنزلت.
وقال مقاتل : فيما أحصن المسلمون من نكاح نساء أهل الكتاب يقول : ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من الكفر انتهى.
ولما ذكر فرائض وأحكاماً يلزم القيام بها ، أنزل ما يقتضي الوعيد على مخالفتها ليحصل تأكيد الزجر عن تضييعها.
وقال القفال : ما معناه ، لما حصلت لهم في الدنيا فضيلة مناكحة نسائهم ، وأكل ذبائحهم ، من الفرق في الآخرة بأنَّ من كفر حبط عمله انتهى.
والكفر بالإيمان لا يتصور.
فقال ابن عباس ، ومجاهد : أي : ومن يكفر بالله.
وحسن هذا المجاز أنه تعالى رب الإيمان وخالقه.
وقال الكلبي : ومن يكفر بشهادة أن لا إله إلا الله ، جعل كلمة التوحيد إيماناً.
وقال قتادة : إن ناساً من المسلمين قالوا : كيف نتزوج نساءهم مع كونهم على غير ديننا؟ فأنزل الله تعالى : ومن يكفر بالإيمان ، أي بالمنزل في القرآن ، فسمي القرآن إيماناً لأنه المشتمل على بيان كل ما لا بد منه في الإيمان.
قال الزجاج : معناه من أحل ما حرم الله ، أو حرم ما أحل الله فهو كافر.
وقال أبو سليمان الدمشقي : من جحد ما أنزله الله من شرائع الإسلام وعرفه من الحلال والحرام.
وتبعه الزمخشري في هذا التفسير فقال : ومن يكفر بالإيمان أي : بشرائع الإسلام ، وما أحل الله وحرم.
وقال ابن الجوزي : سمعت الحسن بن أبي بكر النيسابوري يقول : إنما أباح الله الكتابيات لأن بعض المسلمين قد يعجبه حسنهن ، فحذر نكاحهن من الميل إلى دينهن بقوله : ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله.
وقرأ ابن السميفع : حبط بفتح الباء وهو في الآخرة من الخاسرين حبوط عمله وخسرانه.

في الآخرة مشروط بالموافاة على الكفر.
{ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } نزلت في قصة عائشة رضي الله عنها حين فقدت العقد بسبب فقد الماء ومشروعية التيمم ، وكان الوضوء متعذراً عندهم ، وإنما جيء به للاستطراد منه إلى التيمم ، وذلك في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق ، وفيها كان هبوب الريح وقول عبد الله بن أبي بن سلول : لئن رجعنا إلى المدينة وحديث الافك.
وقال علقمة بن الفغو وهو من الصحابة : إنها نزلت رخصة للرسول لأنه كان لا يعمل عملاً إلا على وضوء ، ولا يكلم أحداً ولا يرد سلاماً على غير ذلك ، فأعلمه الله أنّ الوضوء إنما هو عند القيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما افتتح بالأمر بإيفاء العهود ، وذكر تحليلاً وتحريماً في المطعم والمنكح واستقصى ذلك ، وكان المطعم آكد من المنكح وقدمه عليه ، وكان النوعان من لذات الدنيا الجسمية ومهماتها للإنسان وهي معاملات دنيوية بين الناس بعضهم من بعض ، استطرد منها إلى المعاملات الأخروية التي هي بين العبد وربه سبحانه وتعالى ، ولما كان أفضل الطاعات بعد الإيمان الصلاة ، والصلاة لا تمكن إلا بالطهارة ، بدأ بالطهارة وشرائط الوضوء ، وذكر البدل عنه عند تعذر الماء.
ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنما هي بقيام ، جاءت العبارة : إذا قمتم أي : إذا أردتم القيام إلى فعل الصلاة.
وعبر عن إرادة القيام بالقيام ، إذ القيام متسبب عن الإرادة ، كما عبروا عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم : الأعمى لا يبصر أي لا يقدر على الأبصار ، وقوله : { نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين } أي قادرين على الإعادة.
وقوله : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ } أي إذا أردت قراءة القرآن لما كان الفعل متسبباً عن القدرة والإرادة أقيم المسبب مقام السبب.
وقيل : معنى قمتم إلى الصلاة ، قصدتموها ، لأنّ من توجه إلى شيء وقام إليه كان قاصداً له ، فعبر عن القصد له بالقيام إليه.
وظاهر الآية يدل على أنّ الوضوء واجب على كل من قام إلى الصلاة متطهراً كان أو محدثاً ، وقال به جماعة منهم : داود.
وروى فعل ذلك عن عليّ وعكرمة.
وقال ابن شيرين : كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة.
وذهب الجمهور : إلى أنه لا بد في الآية من محذوف وتقديره : إذا قمتم إلى الصلاة محدثين ، لأنه لا يجب الوضوء إلا على المحدث ، ويدل على هذا المحذوف مقابلته بقوله : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } وكأنه قيل : إن كنتم محدثين الحدث الأصغر فاغسلوا هذه الأعضاء ، وامسحوا هذين العضوين.
وإن كنتم محدثين الحدث الأكبر فاغسلوا جميع الجسد.
وقال قوم منهم : السدي ، وزيد بن أسلم : إذا قمتم من المضاجع يعنون النوم.
وقالوا : في الكلام تقديم وتأخير أي : إذا قمتم إلى الصلاة من النوم ، أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء أي الملامسة الصغرى فاغسلوا وجوهكم.

وهذا التأويل ينزه حمل كتاب الله عليه ، وإنما ذكروا ذلك طلباً لأن يعم الإحداث بالذكر.
وقال قوم : الخطاب خاص وإن كان بلفظ العموم ، وهو رخصة للرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق عليه ذلك ، فأمر بالسواك ، فرفع عنه الوضوء إلا من حدث.
وقال قوم : الأمر بالوضوء لكل صلاة على سبيل الندب ، وكان كثير من الصحابة يفعله طلباً للفضل منهم : ابن عمر.
وقال قوم : الوضوء عند كل صلاة كان فرضاً ونسخ.
وقيل : فرضاً على الرسول خاصة ، فنسخ عنه عام الفتح.
وقيل : فرضاً على الأمة فنسخ عنه وعنهم.
ولا يجوز أن يكون : فاغسلوا ، أمراً للمحدثين على الوجوب وللمتطهرين على الندب ، لأنّ تناول الكلام لمعنيين مختلفين من باب الألغاز والتعمية قاله الزمخشري.
فاغسلوا وجوهكم ، الوجه : ما قابل الناظر وحده ، طولاً منابت الشعر فوق الجبهة مع آخر الذقن.
والظاهر أنّ اللحية ليست داخلة في غسل الوجه ، لأنها ليست منه.
وكذلك الأذنان عرضاً من الأذن إلى الأذن.
ومن رأى أن الغسل هو إيصال الماء مع إمرار شيء على المغسول أوجب الدلك ، وهو مذهب مالك ، والجمهور لا يوجبونه.
والظاهر أن المضمضة والاستنشاق ليس مأموراً بهما في الآية في غسل الوجه ، ويرون ذلك سنة.
وقال مجاهد : الاستنشاق شطر الوضوء.
وقال عطاء ، والزهري ، وقتادة ، وحماد بن أبي سليمان ، وابن أبي ليلى ، وإسحاق : من ترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة.
وقال أحمد : يعيد من ترك الاستنشاق ، ولا يعيد من ترك المضمضة : والإجماع على أنه لا يلزم غسل داخل العينين ، إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه.
وأيديكم إلى المرافق ، اليد : في اللغة من أطراف الأصابع إلى المنكب ، وقد غيا الغسل إليها.
واختلفوا في دخولها في الغسل ، فذهب الجمهور إلى وجوب دخولها ، وذهب زفر وداود إلى أنه لا يجب.
وقال الزمخشري : إلى ، تفيد معنى الغاية مطلقاً ، ودخولها في الحكم وخروجها أمر يدور مع الدليل.
ثم ذكر مثلاً مما دخل وخرج ثم قال : وقوله : { إلى المرافق وإلى الكعبين } لا دليل فيه على أحد الأمرين انتهى كلامه.
وذكر أصحابنا أنه إذا لم يقترن بما بعد إلى قرينة دخول أو خروج فإنّ في ذلك خلافاً.
منهم من ذهب إلى أنه داخل ، ومنهم من ذهب إلى أنه غير داخل ، وهو الصحيح وعليه أكثر المحققين : وذلك أنه إذا اقترنت به قرينة فإن الأكثر في كلامهم أن يكون غير داخل ، فإذا عرى من القرينة فيجب حمله على الأكثر.
وأيضاً فإذا قلت : اشتريت المكان إلى الشجرة فما بعد إلى هو داخل الموضع الذي انتهى إليه المكان المشتري ، فلا يمكن أن تكون الشجرة من المكان المشتري ، لأن الشيء لا ينتهي ما بقي منه شيء إلا أن يتجوز ، فيجعل ما قرب من الانتهاء انتهاء.

فإذا لم يتصوّر أن يكون داخلاً إلا بمجاز ، وجب أن يحمل على أنه غير داخل ، لأنه لا يحمل على المجاز ما أمكنت الحقيقة إلا أن يكون ثمّ قرينة مرجحة المجاز على الحقيقة.
فقول الزمخشري : عند انتفاء قرينة الدخول أو الخروج ، لا دليل فيه على أحد الأمرين ، مخالف لنقل أصحابنا ، إذ ذكروا أنّ النحويين على مذهبين : أحدهما : الدخول ، والآخر : الخروج.
وهو الذي صححوه.
وعلى ما ذكره الزمخشري يتوقف ، ويكون من المجمل حتى يتضح ما يحمل عليه من خارج عن الكلام.
وعلى ما ذكره أصحابنا يكون من المبين ، فلا يتوقف على شيء من خارج في بيانه.
وقال ابن عطية : تحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال : إذا كان ما بعد إلى ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها ، فإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط بعطى أنّ الحد آخر المذكور بعدها ، ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل.
فالرّوايتان محفوظتان عن مالك.
روى أشهب عنه : أنهما غير داخلتين ، وروى غيره أنهما داخلتان انتهى.
وهذا التقسيم ذكره عبد الدائم القيرواني فقال : إنْ لم يكن ما بعدها من جنس ما قبلها دخل في الحكم.
والظاهر أنّ الوضوء شرط في صحة الصلاة من هذه الآية ، لأنه أمر بالوضوء للصلاة ، فالآتي بها دونه تارك للمأمور ، وتارك المأمور يستحق العقاب.
وأيضاً فقد بيّن أنه متى عدم الوضوء انتقل إلى التيمم ، فدل على اشتراطه عند القدرة عليه.
والظاهر أنّ أول فروض الوضوء هو غسل الوجه ، وبه قال أبو حنيفة.
وقال الجمهور : النية أولها.
وقال أحمد وإسحاق : تجب التسمية في أول الوضوء ، فإن تركها عمداً بطل وضوءه.
وقال بعضهم : يجب ترك الكلام على الوضوء ، والجمهور على أنه يستحب.
والظاهر أنّ الواجب في هذه المأمور بها هو مرة واحدة.
والظاهر وجوب تعميم الوجه بالغسل بدأت بغسل أي موضع منه.
والظاهر وجوب غسل البياض الذي بين العذار والأذن ، وبه قال : أبو حنيفة ، ومحمد ، والشافعي.
وقال أبو يوسف وغيره : لا يجب.
والظاهر أنّ ما تحت اللحية الخفيفة لا يجب غسله ، وبه قال أبو حنيفة.
وقال الشافعي : يجب وأنّ ما استرسل من الشعر تحت الذقن لا يجب غسله.
وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك والمزني : يجب.
وعن الشافعي القولان.
والظاهر أن قوله : وأيديكم ، لا ترتيب في غسل اليدين ، ولا في الرجلين ، بل تقديم اليمنى على اليسرى فيهما مندوب إليه من السنة.
وقال أحمد : هو واجب.
والظاهر أنّ التغيية بإلى تقتضي أن يكون انتهاء الغسل إلى ما بعدها ، ولا يجوز الابتداء من المرفق حتى يسيل الماء إلى الكف ، وبه قال بعض الفقهاء.

وقال الجمهور : لا يخل ذلك بصحة الوضوء.
والسنة أن يصبّ الماء من الكف بحيث يسيل منه إلى المرفق.
{ وامسحوا برءُوسكم وأرجلكم إلى الكعبين } هذا أمر بالمسح بالرأس ، واختلفوا في مدلول باء الجرّ هنا فقيل : إنها للإلصاق.
وقال الزمخشري : المراد إلصاق المسح بالرأس ، وما مسح بعضه ومستوفيه بالمسح كلاهما ملصق المسح برأسه انتهى.
وليس كما ذكر ، ليس ماسح بعضه يطلق عليه أنه ملصق المسح برأسه ، إنما يطلق عليه أنه ملصق المسح ببعضه.
وأما أنْ يطلق عليه أنه ملصق المسح برأسه حقيقة فلا ، إنما يطلق عليه ذلك على سبيل المجاز ، وتسمية لبعض بكل.
وقيل : الباء للتبعيض ، وكونها للتبعيض ينكره أكثر النحاة حتى قال بعضهم ، وقال من لا خبرة له بالعربية.
الباء في مثل هذا للتبعيض وليس بشيء يعرفه أهل العلم.
وقيل : الباء زائدة مؤكدة مثلها في قوله { ومن يرد فيه بإلحاد } { وهزي إليك بجذع النخلة } { ولا تلقوا بأيديكم } أي إلحاد أو جذع وأيديكم.
وقال الفراء : تقول العرب هزه وهزّ به ، وخذ الخطام وبالخطام ، وحز رأسه وبرأسه ، ومده ومد به.
وحكى سيبويه : خشنت صدره وبصدره ، ومسحت رأسه وبرأسه في معنى واحد ، وهذا نص في المسألة.
وعلى هذه المفهومات ظهر الاختلاف بين العلماء في مسح الرأس ، فروي عن ابن عمر : أنه مسح اليافوخ فقط ، وعن سلمة بن الأكوع أنه كان يمسح مقدم رأسه ، وعن ابراهيم والشعبي : أي نواحي رأسك مسحت أجزأك ، وعن الحسن : إن لم تصب المرأة إلا شعرة واحدة أجزأها.
وأما فقهاء الأمصار فالمشهور من مذهب مالك : وجوب التعميم.
والمشهور من مذهب الشافعي : وجوب أدنى ما ينطلق عليه اسم المسح ، ومشهور أبي حنيفة والشافعي : أن الأفضل استيعاب الجميع.
ومن غريب ما نقل عمن استدل على أنّ بعض الرأس يكفي أن قوله تعالى : وامسحوا برؤوسكم ، كقولك : مسحت بالمنديل يدي ، فكما أنه لا يدل هذا على تعميم جميع اليد بجزء من أجزاء المنديل فكذلك الآية ، فتكون الرأس والرجل آلتين لمسح تلك اليد ، ويكون الفرض إذ ذاك ليس مسح الرأس والأرجل ، بل الفرض مسح تلك اليد بالرأس والرجل ، ويكون في اليد فرضان : أحدهما : غسل جميعها إلى المرفق ، والآخر : مسح بللها بالرأس والأرجل.
وعلى من ذهب إلى التبعيض يلزم أن يكون التبعيض في قوله في قصة التيمم : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } أن يقتصر على مسح بعض الوجه وبعض اليد ، ولا قائل به.
وعلى من جعل الباء آلة يلزم أيضاً ذلك ، ويلزم أن يكون المأمور به في التيمم هو مسح الصعيد بجزء من الوجه واليد.
والظاهر أنّ الأمر بالغسل والمسح يقع الامتثال فيه بمرة واحدة ، وتثليث المعسول سنة.
وقال أبو حنيفة ومالك : ليس بسنة.
وقال الشافعي : بتثليث المسح.
وروي عن أنس ، وابن جبير ، وعطاء مثله.
وعن ابن سيرين : يمسح مرتين.

والظاهر من الآية : أنه كيفما مسح أجزأه.
واختلفوا في الأفضل ابتداء بالمقدم إلى القفا ، ثم إلى الوسط ، ثلاثة أقوال الثابت منها في السنة الصحيحة الأول ، وهو قول : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وجماعة من الصحابة والتابعين.
والثاني : منها قول الحسن بن حي.
والثالث : عن ابن عمر.
والظاهر أنّ رد اليدين على شعر الرأس ليس بفرض ، فتحقق المسح بدون الرد.
وقال بعضهم : هو فرض.
والظاهر أن المسح على العمامة لا يجزىء ، لأنه ليس مسحاً للرأس.
وقال الأوزاعي ، والثوري ، وأحمد : يجزىء ، وأنّ المسح يجزىء ولو بأصبع واحدة.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : لا يجزىء بأقل من ثلاث أصابع.
والظاهر أنه لو غسل رأسه لم يجزه ، لأن الغسل ليس هو المأمور به وهو قول : أبي العباس ابن القاضي من الشافعية ، ويقتضيه مذهب الظاهرية.
وقال ابن العربي : لا نعلم خلافاً في أنّ الغسل يجزيه من المسح إلا ما روى لنا الشاشي في الدرس عن ابن القاضي أنه لا يجزئه.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر ، وهي قراءة أنس ، وعكرمة ، والشعبي ، والباقر ، وقتادة ، وعلقمة ، والضحاك : وأرجلِكم بالخفض.
والظاهر من هذه القراءة اندراج الأرجل في المسح مع الرأس.
وروى وجوب مسح الرجلين عن : ابن عباس ، وأنس ، وعكرمة ، والشعبي ، وأبي جعفر الباقر ، وهو مذهب الإمامية من الشيعة.
وقال جمهور الفقهاء : فرضهما الغسل.
وقال داود : يجب الجمع بين المسح والغسل ، وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية.
وقال الحسن البصري ، وابن جرير الطبري : يخير بين المسح والغسل ومن أوجب الغسل تأول أنّ الجر هو خفض على الجواز ، وهو تأويل ضعيف جداً ، ولم يرد إلا في النعت ، حيث لا يلبس على خلاف فيه قد قرر في علم العربية ، أو تأول على أنّ الأرجل مجرورة بفعل محذوف يتعدى بالباء أي : وافعلوا بأرجلكم الغسل ، وحذف الفعل وحرف الجرّ ، وهذا تأويل في غاية الضعف.
أو تأول على أنّ الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة مظنة الإسراف المذموم المنهى عنه ، فعطف على الرابع الممسوح لا ليمسح ، ولكن لينبّه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها.
وقيل : إلى الكعبين ، فجيء بالغاية إماطة لظن ظان يحسبها ممسوحة ، لأنّ المسح لم يضرب له غاية انتهى هذا التأويل.
وهو كما ترى في غاية التلفيق وتعمية في الأحكام.
وروي عن أبي زيد : أن العرب تسمي الغسل الخفيف مسحاً ويقولون : تمسحت للصلاة بمعنى غسلت أعضائي.
وقرأ نافع ، والكسائي ، وابن عامر ، وحفص : وأرجلكم بالنصب.
واختلفوا في تخريج هذه القراءة ، فقيل : هو معطوف على قوله : وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين ، وفيه الفصل بين المتعاطفين بجملة ليست باعتراض ، بل هي منشئة حكماً.
وقال أبو البقاء : هذا جائز بلا خلاف.
وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور : وقد ذكر الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، قال : وأقبح ما يكون ذلك بالجمل ، فدل قوله هذا على أنه ينزه كتاب الله عن هذا التخريج.

وهذا تخريج من يرى أنّ فرض الرجلين هو الغسل ، وأما مَن يرى المسح فيجعله معطوفاً على موضع برؤوسكم ، ويجعل قراءة النصب كقراءة الجرِّ دالة على المسح.
وقرأ الحسن : وأرجلكم بالرفع ، وهو مبتدأ محذوف الخبر أي : اغسلوها إلى الكعبين على تأويل من يغسل ، أو ممسوحة إلى الكعبين على تأويل من يمسح.
وتقدم مدلول الكعب.
قال ابن عطية : قول الجمهور هما حدّ الوضوء بإجماع فيما علمت ، ولا أعلم أحداً جعل حدّ الوضوء إلى العظم الذي في وجه القدم.
وقال غيره : قالت الإمامية : وكل من ذهب إلى وجوب مسح الكعب هو الذي في وجه القدم ، فيكون المسح مغياً به.
وقال ابن عطية : روى أشهب عن مالك : الكعبان هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب ، وليس الكعب بالظاهر الذي في وجه القدم ، ويظهر ذلك من الآية في قوله : في الأيدي إلى المرافق ، إذ في كل يد مرفق.
ولو كان كذلك في الأرجل لقيل إلى الكعوب ، فلما كان في كل رجل كعبان خصتا بالذكر انتهى.
ولا دليل في قوله في الآية على أن موالاة أفعال الوضوء ليست بشرط في صحته لقبول الآية التقسيم في قولك : متوالياً وغير متوال ، وهو مشهور مذهب أبي حنيفة ومالك ، وروي عن مالك والشافعي في القديم : أنها شرط.
وعلى أن الترتيب في الأفعال ليس بشرط لعطفها بالواو وهو مذهب مالك وأبي حنيفة ، ومذهب الشافعي أنه شرط واستيفاء حجج.
هذه المسائل مذكورة في الفقه ، ولم تتعرّض الآية للنص على الأذنين.
فمذهب أبي حنيفة وأصحابه والثوري ، والأوزاعي ، ومالك فيما روى عنه أشهب وابن القاسم : أنهما من الرأس فيمسحان.
وقال الزهري : هما من الوجه فيغسلان معه.
وقال الشافعي : من الوجه هما عضو قائم بنفسه ، ليسا من الوجه ولا من الرأس ، ويمسحان بماء جديد.
وقيل : ما أقبل منهما من الوجه وما أدبر من الرأس ، وعلى هذه الأقوال تبنى فرضية المسح أو الغسل وسنية ذلك.
{ وإن كنتم جنباً فاطهروا } لما ذكر تعالى الطهارة الصغرى ذكر الطهارة الكبرى ، وتقدم مدلول الجنب في { ولا جنباً إلا عابري سبيل } والظاهر أنّ الجنب مأمور بالاغتسال.
وقال عمر ، وابن مسعود : لا يتيمم الجنب البتة ، بل يدع الصلاة حتى يجد الماء ، والجمهور على خلاف ذلك ، وأنه يتيمم ، وقد رجعا إلى ما عليه الجمهور.
والظاهر أنّ الغسل والمسح والتطهر إنما تكون بالماء لقوله : { فلم تجدوا ماء } أي للوضوء والغسل فتيمموا صعيداً طيباً فدل على أنه لا واسطة بين الماء والصعيد ، وهو قول الجمهور.
وذهب الأوزاعي والأصم : إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بجميع المائعات الطاهرة.
والظاهر أنّ الجنب لا يجب عليه غير التطهير من غير وضوء.

ولا ترتيب في الأعضاء المغسولة ، ولا دلك ، ولا مضمضة ، ولا استنشاق ، بل الواجب تعميم جسده بوصول الماء إليه.
وقال داود وأبو ثور : يجب تقديم الوضوء على الغسل.
وقال إسحاق : تجب البداءة بأعلى البدن.
وقال مالك : يجب الدلك ، وروى عنه محمد بن مروان الظاهري : أنه يجزئه الانغماس في الماء دون تدلك.
وقال أبو حنيفة : وزفر ، وأبو يوسف ، ومحمد ، والليث ، وأحمد : تجب المضمضة والاستنشاق فيه ، وزاد أحمد الوضوء.
وقال النخعي : إذا كان شعره مفتولاً جدّاً يمنع من وصول الماء إلى جلدة الرأس لا يجب نقضه.
وقرأ الجمهور : فاطّهروا بتشديد الطاء والهاء المفتوحتين ، وأصله : تطهروا ، فأدغم التاء في الطاء ، واجتلبت همزة الوصل.
وقرىء : فاطْهروا بسكون الطاء ، والهاء مكسورة من أطهر رباعياً ، أي : فأطهروا أبدانكم ، والهمزة فيه للتعدية.
{ وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } تقدّم تفسير هذه الجملة الشرطية وجوابها في النساء ، إلا أنّ في هذه الجملة زيادة منه وهي مرادة في تلك التي في النساء.
وفي لفظه : منه دلالة على إيصال شيء من الصعيد إلى الوجه واليدين ، فلا يجوز التيمم بما لا يعلق باليد كالحجر والخشب والرمل العاري عن أن يعلق شيء منه باليد فيصل إلى الوجه ، وهذا مذهب الشافعي.
وقال أبو حنيفة ، ومالك : إذا ضرب الأرض ولم يعلق بيده شيء من الغبار ومسح بها أجزأه.
وظاهر الأمر بالتيمم للصعيد ، والأمر بالمسح ، أنه لو يممه غيره ، أو وقف في مهب ريح فسفت على وجهه ويديه وأمرّ يده عليه ، أو لم يمر ، أو ضرب ثوباً فارتفع منه غبار إلى وجهه ويديه ، أنّ ذلك لا يجزئه.
وفي كل من المسائل الثلاث خلاف.
{ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } أي من تضييق ، بل رخص لكم في تيمم الصعيد عند فقد الماء.
والإرادة صفة ذات ، وجاءت بلفظ المضارع مراعاة للحوادث التي تظهر عنها ، فإنها تجيء مؤتنقة من نفي الحرج ، ووجود التطهير ، وإتمام النعمة.
وتقدم الكلام على مثل اللام في ليجعل في قوله : { يريد الله ليبين لكم } فأغنى عن إعادته.
ومن زعم أنّ مفعول يريد محذوف تتعلق به اللام ، جعل زيادة في الواجب للنفي الذي في صدر الكلام ، وإن لم يكن النفي واقعاً على فعل الحرج ، ويجري مجرى هذه الجملة ما جاء في الحديث " دين الله يسر ، وبعثت بالحنيفية السمحة " » وجاء لفظ الدين بالعموم ، والمقصود به الذي ذكر بقرب وهو التيمم.
{ ولكن يريد ليطهركم } أي بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء.
وفي الحديث : " التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ".
وقال الجمهور : المقصود بهذا التطهير إزالة النجاسة الحكمية الناشئة عن خروج الحدث.
وقيل : المعنى ليطهركم من أدناس الخطايا بالوضوء والتيمم ، كما جاء في مسلم :

« إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء ».
إلى آخر الحديث.
وقيل : المعنى ليطهركم عن التمرّد عن الطاعة.
وقرأ ابن المسيب : ليطهرْكم بإسكان الطاء وتخفيف الهاء.
{ وليتم نعمته عليكم } أي وليتم برخصة العامة عليكم بعزائمه.
وقيل : الكلام متعلق بما دل عليه أوّل السورة من إباحة الطيبات من المطاعم والمناكح ، ثم قال بعد كيفية الوضوء : ويتم نعمته عليكم ، أي النعمة المذكورة ثانياً وهي نعمة الدين.
وقيل : تبيين الشرائع وأحكامها ، فيكون مؤكداً لقوله : { وأتممت عليكم نعمتي } وقيل : بغفران ذنوبهم.
وفي الخبر : « تمام النعمة بدخول الجنة والنجاة من النار ».
{ لعلكم تشكرون } أي تشكرونه على تيسير دينه وتطهيركم وإتمام النعمة عليكم.

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)

{ واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا } الخطاب للمؤمنين ، والنعمة هنا الإسلام ، وما صاروا إليه من اجتماع الكلمة والعزة.
والميثاق : هو ما أخذه الرسول عليهم في بيعة العقبة وبيعة الرضوان ، وكل موطن قاله : ابن عباس ، والسدي ، وجماعة.
وقال مجاهد : هو ما أخذ على النسم حين استخرجوا من ظهر آدم.
وقيل : هو الميثاق المأخوذ عليهم حين بايعهم على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر ، والمنشط والمكره.
وقيل : الميثاق هو الدلائل التي نصبها لأعينهم وركبها في عقولهم ، والمعجزات التي أظهرها في أيامهم حتى سمعوا وأطاعوا.
وقيل : الميثاق إقرار كل مؤمن بما ائتمر به.
وروي عن ابن عباس : أنه الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل حين قالوا : آمنا بالتوراة وبكل ما فيها ، ومن جملته البشارة بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فلزمهم الإقرار به.
ولا يتأتى هذا القول إلا أن يكون الخطاب لليهود ، وفيه بعد.
والقولان بعده يكون الميثاق فيهما مجاز ، والأجود حمله على ميثاق البيعة ، إذ هو حقيقة فيه ، وفي قوله : إذا قلتم سمعنا وأطعنا.
{ واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور } أي : واتقوا الله ولا تتناسوا نعمته ، ولا تنقضوا ميثاقه.
وتقدم شرح شبه هذه الجملة في النساء فأغنى عن إعادته.
{ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا } تقدم تفسير مثل هذه الجملة الأولى في النساء ، إلا أنّ هناك بدىء بالقسط ، وهنا أخر.
وهذا من التوسع في الكلام والتفنن في الفصاحة.
ويلزم مَن كان قائماً لله أن يكون شاهداً بالقسط ، ومن كان قائماً بالقسط أن يكون قائماً لله ، إلا أنَّ التي في النساء جاءت في معرض الاعتراف على نفسه وعلى الوالدين والأقربين ، فبدىء فيها بالقسط الذي هو العدل والسواء من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة ، وهنا جاءت في معرض ترك العداوات والإحن ، فبدىء فيها بالقيام لله تعالى أولاً لأنه أردع للمؤمنين ، ثم أردف بالشهادة بالعدل فالتي في معرض المحبة والمحاباة بدىء فيه بما هو آكد وهو القسط ، وفي معرض العداوة والشنآن بدىء فيها بالقيام لله ، فناسب كل معرض بما جيء به إليه.
وأيضاً فتقدم هناك حديث النشوز والإعراض وقوله : { ولن تستطيعوا أن تعدلوا } وقوله : { فلا جناح عليهما أن يصالحا } فناسب ذكر تقديم القسط ، وهنا تأخر ذكر العداوة فناسب أن يجاورها ذكر القسط ، وتعدية يجرمنكم بعلى إلا أن يضمن معنى ما يتعدى بها ، وهو خلاف الأصل.
{ اعدلوا هو أقرب للتقوى } أي : العدل نهاهم أولاً أن تحملهم الضغائن على ترك العدل ثم أمرهم ثانياً تأكيداً ، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله : هو أقرب للتقوى ، أي : أدخل في مناسبتها ، أو أقرب لكونه لطفاً فيها.

وفي الآية تنبيه على مراعاة حق المؤمنين في العدل ، إذ كان تعالى قد أمر بالعدل مع الكافرين.
{ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } لما كان الشنآن محله القلب وهو الحامل على ترك العدل أمر بالتقوى ، وأتى بصفة خبير ومعناها عليم ، ولكنها تختص بما لطف إدراكه ، فناسب هذه الصفة أن ينبه بها على الصفة القلبية.
{ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم } لما ذكر تعالى أوامر ونواهي ذكر وعده من اتبع أوامره واجتنب نواهيه ، ووعد تتعدى لأنين ، والثاني محذوف تقديره : الجنة ، وقد صرح بها في غير هذا الموضع.
والجملة من قوله : لهم مغفرة ، مفسرة لذلك المحذوف تفسير السبب للمسبب ، لأن الجنة مترتبة على الغفران وحصول الأجر.
وإذا كانت الجملة مفسرة فلا موضع لها من الإعراب ، والكلام قبلها تامْ وجعل الزمخشري قوله : لهم مغفرة وأجر عظيم ، بياناً للوعد قال : كأنه قال : قدم لهم وعداً فقيل : أي شيء وعده؟ فقال لهم : مغفرة وأجر عظيم.
أو يكون على إرادة القول وعدهم وقال لهم : مغفرة ، أو على إجراء وعد مجرى قال : لأنه ضرب من القول ، أو يجعل وعد واقعاً على الجملة التي هي مغفرة ، كما رفع تركنا على قوله : { سلام على نوح في العالمين } كأنه قيل : وعدهم هذا القول ، وإذا وعدهم مَن لا يخلف الميعاد فقد وعدهم مضمونه من المغفرة والأجر العظيم ، وهذا القول يتلقونه عند الموت ويوم القيامة ، فيسرون ويستريحون إليه ، وتهون عليهم السكرات والأهوال قبل الوصول إلى التراب انتهى.
وهي تقادير محتملة ، والأول أوجهها.
{ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } لما ذكر ما لمن آمن ، ذكر ما لمن كفر.
وفي المؤمنين جاءت الجملة فعلية متضمنة الوعد بالماضي الذي هو دليل على الوقوع ، فأنفسهم متشوقة لما وعدوا به ، متشوفة إلفيه مبتهجة طول الحياة بهذا الوعد الصادق.
وفي الكافرين جاءت الجملة إسمية دالة على ثبوت هذا الحكم لهم ، وأنهم أصحاب النار ، فهم دائمون في عذابٍ ، إذْ حتم لهم أنهم أصحاب الجحيم ، ولم يأت بصورة الوعيد ، فكان يكون الرجاء لهم في ذلك.
{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون } روى أبو صالح عن ابن عباس : أنها نزلت من أجل كفار قريش ، وقد تقدم ذكرهم في قوله : { لا يجرمنكم شنآن قوم } وبه قال مقاتل ، وقال الحسن : بعثت قريش رجلاً ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأطلعه الله على ذلك.
وقال مجاهد وقتادة : إنه عليه السلام ذهب إلى يهود بني النضير يستعينهم في دية فهموا بقتله.
وقال جماعة من المفسرين : أتى بني قريظة ومعه أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم يستقرضهم دية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ حسبهما مشركين ، فقالوا : نعم يا أبا القاسم اجلسْ حتى نطعمك ونقرضك ، فأجلسوه في صفة وهموا بالقتل به ، وعمد عمرو بن جحاش إلى رحى عظيمة يطرحها عليه ، فأمسك الله يده ، ونزل جبريل عليه السلام فأخبره فخرج.

وقيل : نزل منزلاً في غزوة ذات الرقاع بني محارب بن حفصة بن قيس بن غيلان ، وتفرق الناس في العضاة يستظلون بها ، فعلق الرسول سلاحه بشجرة ، فجاء أعرابي فسلّ سيف الرسول صلى الله عليه وسلم واسمه غورث ، وقيل : دعثور بن الحرث ، ثم أقبل عليه فقال : من يمنعك مني؟ قال : »الله قالها ثلاثاً« وقال : أتخافني؟ قال : لا ، فشام السيف وحبس.
وفي البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس فاجتمعوا وهو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقبه.
قيل : أسلم.
وقيل : ضرب برأسه ساق الشجرة حتى مات.
وروي أن المشركين رأوا المسلمين قاموا إلى صلاة الظهر يصلون معاً بعسفان في غزوة ذي انمار ، فلما صلوا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقالوا : إن لهم صلاة بعدها هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم ، وهي صلاة العصر ، وهموا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها ، فنزل جبريل عليه السلام بصلاة الخوف.
وقد طوّلوا بذكر أسباب أخر.
وملخص ما ذكروه أنّ قريشاً ، أو بني النضير ، أو قريظة ، أو غورثا ، هموا بالقتل بالرسول ، أو المشركين هموا بالقتل بالمسلمين ، أو نزلت في معنى { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } قاله الزجاج ، أو عقيب الخندق حين هزم الله الأحزاب { وكفى الله المؤمنين القتال } والذي تقتضيه الآية أنّ الله تعالى ذكر المؤمنين بنعمه إذ أراد قوم من الكفار لم يعينهم الله بل أبهمهم أن ينالوا المسلمين بشر ، فمنعهم الله ، ثم أمرهم بالتقوى والتوكل عليه.
ويقال : بسط إليه لسانه أي شتمه ، وبسط إليه يده مدها ليبطش به.
وقال تعالى : { ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء } ويقال : فلان بسيط الباع ، ومد يد الباع ، بمعنى.
وكف الأيدي منعها وحبسها.
وجاء الأمر بالتقوى أمر مواجهة مناسباً لقوله اذكروا.
وجاء الأمر بالتوكل أمر غائب لأجل الفاصلة ، وإشعاراً بالغلبة ، وإفادة لعموم وصف الإيمان ، أي : لأجل تصديقه بالله ورسوله يؤمر بالتوكل كل مؤمن ، ولابتداء الآية بمؤمنين على جهة الاختصاص وختمها بمؤمنين على جهة التقريب.

وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)

نقب في الجبل والحائط فتح فيه ما كان منسدّاً ، والتنقيب التفتيش ، ومنه { فنقبوا في البلاد } ونقب على القوم ينقب إذا صار نقيباً ، أي يفتش عن أحوالهم وأسرارهم ، وهي النقابة.
والنقاب الرجل العظيم ، والنقب الجرب واحده النقبة ، ويجمع أيضاً على نقب على وزن ظلم ، وهو القياس.
وقال الشاعر :
متبذلاً تبدو محاسنه . . .
يضع الهناء مواضع النقب
أي الجرب.
والنقبة سراويل بلا رجلين ، والمناقب الفضائل التي تظهر بالتنقيب.
وفلانة حسنة النقبة النقاب أي جميلة ، والظاهر أنّ النقيب فعيل للمبالغة كعليم ، وقال أبو مسلم : بمعنى مفعول ، يعني أنهم اختاروه على علم منهم.
وقال الأصم : هو المنظور إليه المسند إليه الأمر والتدبير ، عزر الرجل قال يونس بن حبيب : أثنى عليه بخير.
وقال أبو عبيدة : عظمة.
وقال الفراء : رده عن الظلم : ومنه التعزير لأنه يمنع من معاودة القبيح.
قال القطامي :
ألا بكرت ميّ بغير سفاهة . . .
تعاتب والمودود ينفعه العزر
أي المنع.
وقال آخر في معنى التعظيم :
وكم من ماجد لهم كريم . . .
ومن ليث يعزّر في النديّ
وعلى هذه النقول يكون من باب المشترك.
وجعله الزمخشري من باب المتواطىء قال : عزرتموه نصرتموه ومنعتموه من أيدي العدوّ ، ومنه التعزير وهو التنكيل والمنع من معاودة الفساد ، وهو قول الزجاج ، قال : التعزير الرّدع ، عزرت فلاناً فعلت به ما يردعه عن القبيح ، مثل نكلت به.
فعلى هذا يكون تأويل عزرتموهم رددتم عنهم أعداءهم انتهى.
ولا يصح إلا إن كان الأصل في عزرتموهم أي عزرتم بهم.
طلع الشيء برز وظهر ، واطلع افتعل منه.
غرا بالشيء غراء ، وغر ألصق به وهو الغرى الذي يلصق به.
وأغرى فلان زيداً بعمرو ولعه به ، وأغريت الكلب بالصيد أشليته.
وقال النضر : أغرى بينهم هيج.
وقال مورج : حرش بعضهم على بعض.
وقال الزجاج : ألصق بهم.
الصنع : العمل.
الفترة : هي الانقطاع ، فتر الوحي أي انقطع.
والفترة السكون بعد الحركة في الإجرام ، ويستعار للمعاني.
قال الشاعر :
وإني لتعروني لذكراك فترة . . .
والهاء فيه ليست للمرة الواحدة ، بل فترة مرادف للفتور.
ويقال : طرف فاتر إذا كان ساجياً.
الجبار : فعال من الجبر ، كأنه لقوته وبطشه يجبر الناس على ما يختارونه.
والجبارة النخلة العالية التي لا تنال بيد ، واسم الجنس جبار.
قال الشاعر :
سوابق جبار أثيث فروعه . . .
وعالين قنوانا من البسر أحمرا
التيه في اللغة : الحيرة ، يقال منه : تاه ، يتيه ، ويتوه ، وتوهته ، والتاء أكثر ، والأرض التوهاء التي لا يهتدى فيها ، وأرض تيه.
وقال ابن عطية : التيه الذهاب في الأرض إلى غير مقصود.
الأسى : الحزن ، يقال منه : أسى يأسى.
{ ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه أمر بذكر الميثاق الذي أخذه الله على المؤمنين في قوله :

{ وميثاقه الذي واثقكم به } ثم ذكر وعده إياهم ، ثم أمرهم بذكر نعمته عليه إذ كف أيدي الكفار عنهم ، ذكرهم بقصة بني إسرائيل في أخذ الميثاق عليهم ، ووعده لهم بتكفير السيآت ، وإدخالهم الجنة ، فنقضوا الميثاق وهموا بقتل الرسول ، وحذرهم بهذه القصة أن يسلكوا سبيل بني إسرائيل هو بالإيمان والتوحيد.
وبعث النقباء قيل : هم الملوك بعثوا فيهم يقيمون العدل ، ويأمرونهم بالمعروف ، وينهونهم عن المنكر.
والنقيب : كبير القوم القائم بأمورهم.
والمعنى في الآية : أنه عدد عليهم نعمه في أنْ بعث لأعدائهم هذا العدد من الملوك قاله النقاش.
وقال : ما وفى منهم إلا خمسة : داود.
وسليمان ابنه ، وطالوت ، وحزقيل ، وابنه وكفر السبعة وبدلوا وقتلوا الأنبياء ، وخرج خلال الاثني عشر اثنان وثلاثون جباراً كلهم يأخذ الملك بالسيف ، ويعبث فيهم ، والبعث : من بعث الجيوش.
وقيل : هو من بعث الرسل وهو إرسالهم والنقباء الرسل جعلهم الله رسلاً إلى قومهم كل نبي منهم إلى سبط.
وقيل : الميثاق هنا والنقباء هو ما جرى لموسى مع قومه في جهاد الجبارين ، وذلك أنه لما استقر بنو إسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله بالمسير إلى أريحا أرض الشام ، وكان يسكنها الكفار الكنعانيون الجبابرة وقال لهم : إني كتبتها لكم داراً وقراراً فاخرجوا إليها ، وجاهدوا من فيها ، وإني ناصركم.
وأمر موسى أنْ يأخذ من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أمروا به توثقة عليهم ، فاختار النقباء ، وأخذ الميثاق على بني إسرائيل ، وتكفل لهم به النقباء ، وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون فرأوا أجراماً عظاماً وقوة وشوكة ، فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم ، وقد نهاهم موسى أن يحدثوهم ، فنكثوا الميثاق ، إلا كالب بن يوقنا من سبط يهودا ، ويوشع بن نون من سبط أفراثيم بن يوسف وكانا من النقباء.
وذكر محمد بن حبيب في المحبر أسماء هؤلاء النقباء الذين اختارهم موسى في هذه القصة بألفاظ لا تنضبط حروفها ولا شكلها ، وذكرها غيره مخالفة في أكثرها لما ذكره ابن حبيب لا ينضبط أيضاً.
وذكروا من خلق هؤلاء الجبارين وعظم أجسامهم وكبر قوالبهم ما لا يثبت بوجه ، قالوا وعدد هؤلاء النقباء كان بعدد النقباء الذين اختارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبعين رجلاً والمرأتين الذين بايعوه في العقبة الثانية ، وسماهم : النقباء.
{ وقال الله إني معكم } أي بالنصر والحياطة.
وفي هذه المعية دلالة على عظم الاعتناء والنصرة ، وتحليل ما شرطه عليهم مما يأتي بعد ، وضمير الخطاب هو لبني إسرائيل جميعاً.
وقال الربيع : هو خطاب للنقباء ، والأول هو الراجح لانسحاب الأحكام التي بعد هذه الجملة على جميع بني إسرائيل.
{ لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئآتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار } اللام في لئن أقمتم هي المؤذنة بالقسم والموطئة بما بعدها ، وبعد أداة الشرط أن يكون جواباً للقسم ، ويحتمل أن يكون القسم محذوفاً ، ويحتمل أن يكون لأكفرن جواباً لقوله : ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ، ويكون قوله : وبعثنا والجملة التي بعده في موضع الحال ، أو يكونان جملتي اعتراض ، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه.

وقال الزمخشري : وهذا الجواب يعني لأكفرنّ ، ساد مسد جواب القسم والشرط جميعاً انتهى.
وليس كما ذكر لا يسدّ لأكفرن مسدَّهما ، بل هو جواب القسم فقط ، وجواب الشرط محذوف كما ذكرنا.
والزكاة هنا مفروض من المال كان عليهم ، وقيل : يحتمل أن يكون المعنى : وأعطيتم من أنفسكم كل ما فيه زكاة لكم حسبما ندبتم إليه قاله : ابن عطية.
والأول وهو الراجح.
وآمنتم برسلي ، الإيمان بالرسل هو التصديق بجميع ما جاؤا به عن الله تعالى.
وقدّم الصلاة والزكاة على الإيمان تشريفاً لهما ، وقد علم وتقرر أنه لا ينفع عمل إلا بالإيمان قاله : ابن عطية.
وقال أبو عبد الله الرازي : كان اليهود مقرين بحصول الإيمان مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وكانوا مكذبين بعض الرسل ، فذكر بعدهما الإيمان بجميع الرسل ، وأنه لا تحصل نجاة إلا بالإيمان بجميعهم انتهى ملخصاً.
وقرأ الحسن : برسلي بسكون السين في جميع القرآن ، وعزرتموهم.
وقرأ عاصم الجحدري : وعزرتموهم خفيفة الزاي.
وقرأ في الفتح : { وتعزروه } فتح التاء وسكون العين وضم الزاي ، ومصدره العزر.
وأقرضتم الله قرضاً حسناً : إيتاء الزكاة هو في الواجب ، وهذا القرض هو في المندوب.
ونبه على الصدقات المندوبة بذكرها فيما يترتب على المجموع تشريفاً وتعظيماً لموقعها من النفع المتعدي.
قال الفراء : ولو جاء إقراضاً لكان صواباً ، أقيم الاسم هنا مقام المصدر كقوله تعالى : { فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً } لم يقل بتقبيل ولا إنباتاً انتهى.
وقد فسر هذا الإقراض بالنفقة في سبيل الله ، وبالنفقة على الأهل ، وبالزكاة.
وفيه بعد ، لأنه تكرار.
ووصفه بحسن إما لأنه لا يتبع بمن ولا أذى ، وأما لأنه عن طيب نفس.
لأكفرن عنكم سيآتكم ولأدخلنكم جنات : رتب على هذه الخمسة المشروطة تكفير السيآت ، وذلك إشارة إلى إزالة العقاب ، وإدخال الجنات ، وذلك إشارة إلى إيصال الثواب.
{ فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضلّ سواء السبيل } أي بعد ذلك الميثاق المأخوذ والشرط المؤكد فقد أخطأ الطريق المستقيم.
وسواء السبيل وسطه وقصده المؤدي إلى القصد ، وهو الذي شرعه الله.
وتخصيص الكفر بتعدية أخذ الميثاق وإن كان قبله ضلالاً عن الطريق المستقيم ، لأنه بعد الشرط المؤكد بالوعد الصادق الأمين العظيم أفحش وأعظم ، إذ يوجب أخذ الميثاق الإيفاء به ، لا سيما بعد هذا الوعيد عظم الكفر هو بعظم النعمة المكفورة.
{ فبما نقضهم ميثاقهم } تقدم الكلام على مثل هذه الجملة.
{ لعناهم } أي طردناهم وأبعدناهم من الرحمة قاله : عطاء والزجاج.

أو عذبناهم بالمسح قردة وخنازير كما قال : { أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } أي نمسخهم كما مسخناهم قاله : الحسن ، ومقاتل.
أو عذبناهم بأخذ الجزية قاله : ابن عباس.
وقال قتادة : نقضوا الميثاق بتكذيب الرسل الذين جاءوا بعد موسى وقتلهم الأنبياء بغير حق وتضييع الفرائض.
{ وجعلنا قلوبهم قاسية } قال ابن عباس : جافية جافة.
وقيل : غليظة لا تلين.
وقيل : منكرة لا تقبل الوعظ ، وكل هذا متقارب.
وقسوة القلب غلظه وصلابته حتى لا ينفعل لخير.
وقرأ الجمهور من السبعة : قاسية اسم فاعل من قسا يقسو.
وقرأ عبد الله وحمزة والكسائي : قسية بغير ألف وبتشديد الياء ، وهي فعيل للمبالغة كشاهد وشهيد.
وقال قوم : هذه القراءة ليست من معنى القسوة ، وإنما هي كالقسية من الدراهم ، وهي التي خالطها غش وتدليس ، وكذلك القلوب لم يصل الإيمان بل خالطها الكفر والفساد.
قال أبو زبيد الطائي :
لهم صواهل في صم السلاح كما . . .
صاح القسيات في أيدي الصياريف
وقال آخر :
فما زادوني غير سحق عمامة . . .
وخمس ميء فيها قسي وزائف
قال الفارسي : هذه اللفظة معربة وليست بأصل في كلام العرب.
وقال الزمخشري وقرأ عبد الله قسية أي رديئة مغشوشة من قولهم : درهم قسي ، وهو من القسوة ، لأن الذهب والفضة الخالصتين فيهما لين ، والمغشوش فيه يبس وصلابة.
والقاسي والقاسح بالحاء إخوان في الدلالة على اليبس والصلابة انتهى.
وقال المبرد : سمى الدرهم الزائف قسيًّا لشدته بالغش الذي فيه ، وهو يرجع إلى المعنى الأول ، والقاسي والقاسح بمعنى واحد انتهى.
وقول المبرد : مخالف لقول الفارسي ، لأن المعهود جعله عربياً من القسوة ، والفارسي جعله معرباً دخيلاً في كلام العرب وليس من ألفاظها.
وقرأ الهيصم بن شراح : قسية بضم القاف وتشديد الياء ، كحيى.
وقرىء بكسر القاف اتباعاً.
وقال الزمخشري : خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى قست قلوبهم ، أو أملينا لهم ولم نعاجلهم بالعقوبة حتى قست انتهى.
وهو على مذهبه الاعتزالي.
وأما أهل السنة فيقولون : إن الله خلق القسوة في قلوبهم.
{ يحرفون الكلم عن مواضعه } أي يغيرون ما شق عليهم من أحكامها ، كآية الرجم بدلوها لرؤسائهم بالتحميم وهو تسويد الوجه بالفحم قال معناه ابن عباس وغيره ، وقالوا : التحريف بالتأويل لا بتغيير الألفاظ ، ولا قدرة لهم على تغييرها ولا يمكن.
ألا تراهم وضعوا أيديهم على آية الرجم؟ وقال مقاتل : تحريفهم الكلم هو تغييرهم صفة الرسول أزالوها وكتبوا مكانها صفة أخرى فغيروا المعنى والألفاظ ، والصحيح أن تحريف الكلم عن مواضعه هو التغيير في اللفظ والمعنى ، ومن اطلع على التوراة علم ذلك حقيقة ، وقد تقدم الكلام على هذا المعنى.
وهذه الجملة وما بعدها جاءت بياناً لقسوة قلوبهم ، ولا قسوة أشد من الافتراء على الله تعالى وتغيير وحيه.
وقرأ أبو عبد الرحمن والنخعي الكلام بالألف.
وقرأ أبو رجاء : الكلم بكسر الكاف وسكون اللام.

وقرأ الجمهور : الكلم بفتح الكاف.
{ ونسوا حظاً مما ذكروا به } وهذا أيضاً من قسوة قلوبهم وسوء فعلهم بأنفسهم ، حيث ذكروا بشيء فنسوه وتركوه ، وهذا الحظ من الميثاق المأخوذ عليهم.
وقيل : لما غيروا ما غيّروا من التوراة استمروا على تلاوة ما غيروه ، فنسوا حظاً مما في التوراة قاله مجاهد.
وقيل : أنساهم نصيباً من الكتاب بسبب معاصيهم ، وعن ابن مسعود : قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية ، وتلا هذه الآية.
وقال الشاعر :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي . . .
فأومأ لي إلى ترك المعاصي
وقيل : تركوا نصيبهم مما أمروا به من الإيمان بالرسول وبيان نعته.
{ ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم } أي هذه عادتهم وديدنهم معك ، وهم على مكان أسلافهم من خيانة الرسل وقتلهم الأنبياء.
فهم لا يزالون يخوفونك وينكثون عهودك ، ويظاهرون عليك أعداءك ، ويهمون بالقتل بك ، وأن يسموك.
ويحتمل أن يكون الخائنة مصدراً كالعافية ، ويدل على ذلك قراءة الأعمش على خيانة ، أو اسم فاعل ، والهاء للمبالغة كراوية أي خائن ، أو صفة لمؤنث أي قرية خائنة ، أو فعلة خائنة ، أو نفس خائنة.
والظاهر في الاستثناء أنه من الأشخاص في هذه الجملة ، والمستثنون عبد الله بن سلام وأصحابه قاله : ابن عباس.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون في الأفعال أي : إلا فعلاً قليلاً منهم ، فلا تطلع فيه على خيانة.
وقيل : الاستثناء من قوله : { وجعلنا قلوبهم قاسية } والمراد به المؤمنون ، فإنّ القسوة زالت عن قلوبهم ، وهذا فيه بعد.
{ فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين } ظاهره الأمر بالمعروف والصفح عنهم جميعهم ، وذلك بعث على حسن التخلق معهم ومكارم الأخلاق.
وقال ابن جرير : يجوز أن يعفو عنهم في غدرة فعلوها ما لم ينصبوا حرباً ، ولم يمتنعوا من أداء جزية.
وقيل : الضمير عائد على من آمن منهم ، فلا تؤاخذهم بما سلف منهم ، فيكون عائداً على المستثنين.
وقيل : هذا الأمر منسوخ بآية السيف.
وقيل : بقوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } وقيل : بقوله : { وإما تخافن من قوم خيانة } وفسر قوله : يحب المحسنين ، بالعافين عن الناس ، وبالذين أحسنوا عملهم بالإيمان ، وبالمستثنين وهم الذين ما نقضوا العهد والذين آمنوا وبالنبي عليه السلام لأنه المأمور في الآية بالصفح والعفو.
{ ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم }.
الظاهر أنّ من تتعلق بقوله : أخذنا وأنَّ الضمير في ميثاقهم عائد على الموصول ، وأنّ الجملة معطوفة على قوله : { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل } والمعنى : أنه تعالى أخذ من النصارى ميثاق أنفسهم وهو الإيمان بالله والرسل وبأفعال الخير.
وقيل : الضمير في ميثاقهم عائد على بني إسرائيل ، ويكون مصدراً شبيهاً أي : وأخذنا من النصارى ميثاقاً مثل ميثاق بني إسرائيل.
وقيل : ومن الذين معطوف على قوله : منهم ، من قوله : { ولا تزال تطلع على خائنة } منهم أي من اليهود ، ومن الذين قالوا إنا نصارى.

ويكون قوله : أخذنا ميثاقهم مستأنفاً ، وهذا فيه بعد للفصل ، ولتهيئة العامل للعمل في شيء وقطعه عنه دون ضرورة.
وقال قتادة : أخذ على النصارى الميثاق كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فتركوا ما أمروا به.
وقال غيره : أخذ الميثاق عليهم بالعمل بالتوراة ، وبكتب الله المنزلة وأنبيائه ورسله.
وفي قوله : قالوا إنا نصارى ، توبيخ لهم وزجر عما ادعوه من أنهم ناصر ودين الله وأنبيائه ، إذ جعل ذلك منهم مجرد دعوى لا حقيقة.
وحيث جاء النصارى من غير نسبة إلى أنهم قالوا عن أنفسهم ذلك ، فإنما هو من باب العلم لم يلحظ فيه المعنى الأول الذي قصدوه من النصر ، كما صار اليهود علماً لم يحلظ فيه معنى قوله هُدنا إليك.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فهلا قيل : ومن النصارى؟ ( قلت ) : لأنهم إنما سموا بذلك أنفسهم ادعاء لنصرة الله ، وهم الذين قالوا لعيسى : نحن أنصار الله ثم اختلفوا بعد إلى نسطورية ويعقوبية وملكانية انتهى.
وقد تقدم في أوائل البقرة أنه قيل : سموا نصارى لأنهم من قرية بالشام تسمى ناصرة ، وقوله : وهم الذين قالوا لعيسى نحن أنصار الله القائل لذلك هم الحواريون ، وهم عند الزمخشري كفار ، وقد أوضح ذلك على زعمه في آخر هذه السورة ، وعند غيرهم مؤمنون ، ولم يختلفوا هم ، إنما اختلف من جاء بعدهم ممن يدعي تبعيتهم.
{ فنسوا حظاً مما ذكروا به } قال أبو عبد الله الرازي : في مكتوب الإنجيل أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
والحظ هو الإيمان به ، وتنكيراً لحظ يدل على أن المراد به حظ واحد وهو الإيمان بالرسول ، وخص هذا الواحد بالذكر مع أنهم تركوا أكثر ما أمرهم الله به ، لأنّ هذا هو المعظم والمهم.
{ فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } الضمير في بينهم يعود على النصارى قاله الربيع.
وقال الزجاج : النصارى منهم والنسطورية واليعقوبية والملكانية ، كل فرقة منهم تعادي الأخرى.
وقيل : الضمير عائد على اليهود والنصارى ، أي : بين اليهود والنصارى قاله مجاهد ، وقتادة ، والسدّي : فإنهم أعداء يلعن بعضهم بعضاً ويكفر بعضهم بعضاً.
{ وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون } هذا تهديد ووعيد شديد بعذاب الآخرة ، إذ موجب ما صنعوا إنما هو الخلود في النار.
{ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير } قال محمد بن كعب القرظي : أول ما نزل من هذه السورة هاتان الآيتان في شأن اليهود والنصارى ، ثم نزل سائر السورة بعرفة في حجة الوداع.
وأهل الكتاب يعم اليهود والنصارى.
فقيل : الخطاب لليهود خاصة ، ويؤيده ما روى خالد الحذاء عن عكرمة قال : أتى اليهود الرسول صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الرجم ، فاجتمعوا في بيت فقال : »أيكم أعلم»؟ فأشاروا إلى ابن صوريا فقال : »أنت أعلمهم» قال : سل عما شئت قال : »أنت أعلمهم»؟ قال إنهم يقولون ذلك ، قال : «فناشدتك الله الذي أنزل التوراة على موسى ، والذي رفع الطور فناشده بالمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه إفكل ، فقال : إنّ نساءنا نساء حسان فكثر فينا القتل ، فاختصرنا فجلدنا مائة مائة ، وحلقنا الرؤوس ، وخالفنا بين الرؤوس على الدابرات أحسبه قال : الإبل.

قال : فأنزل الله يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا.
وقيل : الخطاب لليهود والنصارى الذين يخفون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجم ونحوه.
وأكثر نوازل الإخفاء إنما نزلت لليهود ، لأنهم كانوا مجاوري الرسول في مهاجره.
والمعنى بقوله : رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وأضيف إلى الله تعالى إضافة تشريف.
وفي هذه الآية دلالة على صحة نبوّته ، لأنّ إعلامه بما يخفون من كتابهم وهو أمّي لا يقرأ ولا يكتب ولا يصحب القرّاء ، دلالة على أنه إنما يعلمه الله تعالى.
وقوله : من الكتاب ، يعني التوراة ، ويعفو عن كثير أي : مما يخفون لا يبينه إذا لم تدع إليه مصلحة دينية ، ولا يفضحكم بذلك إبقاء عليكم.
وقال الحسن : ويعفو عن كثير ، هو ما جاء به الرسول من تخفيف ما كان شدّد عليهم ، وتحليل ما كان حرم عليهم.
وقيل : لا يؤاخذكم بها ، وهذا المتروك الذي لا يبين هو في معنى افتخارهم ونحوه مما لا يتعين في ملة الإسلام فضحهم به وتكذيبهم ، والظاهر أن فاعل يبين ويعفو عائد على رسولنا ، ويجوز أن يعود على الله تعالى.
{ قد جاءكم نور من الله وكتاب مبين } قيل : هو القرآن سماه نوراً لكشف ظلمات الشرك والشك ، أو لأنه ظاهر الإعجاز.
وقيل : النور الرسول.
وقيل : الإسلام.
وقيل : النور موسى ، والكتاب المبين التوراة.
ولو اتبعوها حق الاتباع لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذ هي آمرة بذلك مبشرة به.
{ يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } أي رضا الله سبل السلام طرق النجاة ، والسلامة من عذاب الله.
والضمير في به ظاهره أنه يعود على كتاب الله ، ويحتمل أن يكون عائداً على الرسول.
قيل : ويحتمل أن يعود على الإسلام.
وقيل : سبل السلام ، قيل دين الإسلام.
وقال الحسن والسدي : السلام هو الله تعالى ، وسبله دينه الذي شرعه.
وقيل : طرق الجنة.
وقرأ عبيد بن عمير ، والزهري ، وسلام ، وحميد ، ومسلم بن جندب : به الله بضم الهاء حيث وقع.
وقرأ الحسن ، وابن شهاب : سبل ساكنة الباء.
{ ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه } أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، أي بتمكينه وتسويغه.
وقيل : ظلمات الجهل ونور العلم.
{ ويهديهم إلى صراط مستقيم } هو دين الله وتوحيده.
وقيل : طريق الجنة.
وقيل : طريق الحق ، وروي عن الحسن.
والظاهر أنّ هذه الجمل كلها متقاربة المعنى ، وتكرر للتأكيد ، والفعل فيها مسند إليه تعالى.

{ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } ظاهره أنهم قالوا بأن الله هو المسيح حقيقة ، وحقيقة ما حكاه تعالى عنهم ينافي أن يكون الله هو المسيح ، لأنهم قالوا ابن مريم ، ومن كان ابن امرأة مولوداً منها استحال أن يكون هو الله تعالى.
واختلف المفسرون في تأويل هذه الآية.
فذهب قوم إلى أنهم كلهم قائلون هذا القول وهم على ثلاث فرق كما تقدم ، وأنهم أجمعوا وإن اختلفت مقالاتهم على أنّ معبودهم جوهر واحد أقانيم ثلاثة : الأب ، والابن ، والروح أي الحياة ويسمونها روح القدس.
وأن الابن لم يزل مولوداً من الأب ، ولم يزل الأب والداً للابن ، ولم تزل الروح منتقلة بين الأب والابن.
وأجمعوا على أن المسيح لاهوت وناسوت أي : إله وإنسان.
فإذا قالوا : المسيح إله واحد ، فقد قالوا الله هو المسيح.
وذهب قوم إلى أنّ القائلين هذا القول فرقة غير معينة يقولون : إن الكلمة اتخذت بعيسى سواء قدرت ذاتاً أم صفة.
وذهب قوم إلى أنّ اليعقوبية من النصارى هي القائلة بهذه المقالة ، ذكره البغوي في معالم التنزيل.
قال بعض المفسرين : وكل طوائفهم الثلاثة اليعقوبية ، والملكانية ، والنسطورية ، ينكرون هذه المقالة ، والذي يقرون به أن عيسى ابن الله تعالى ، وأنه إله.
وإذا اعتقدوا فيه أنه إله لزم من ذلك قولهم بأنه الله انتهى.
وقد رأيت من نصارى بلاد الأندلس من كان ينتمي إلى العلم فيهم ، وذكر لي أنّ عيسى نفسه هو الله تعالى ، ونصارى الأندلس ملكية.
قلت له : كيف تقول ذلك ، ومن المتفق عليه أن عيسى كأن يأكل ويشرب ، فتعجب من قولي وقال : إذا كنت أنت بعض مخلوقات الله قادراً على أن تأكل وتشرب ، فكيف لا يكون الله قادراً على ذلك؟ فاستدللت من ذلك على فرط غباوته وجهله بصفات الله تعالى.
وذهب ابن عباس إلى أنهم أهل نجران ، وزعم طائفة منهم أنه إله الأرض ، والله إله السماء.
ومن بعض اعتقادات النصارى استنبط من تستر بالإسلام ظاهراً وانتمى إلى الصوفية حلول الله تعالى في الصور الجميلة ، ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة : كالحلاج ، والشوذى ، وابن أحلى ، وابن العربي المقيم كان بدمشق ، وابن الفارض.
وأتباع هؤلاء كابن سبعين ، والتستري تلميذه ، وابن مطرف المقيم بمرسية ، والصفار المقتول بغرناطة ، وابن اللباج ، وأبو الحسن المقيم كان بلورقة.
وممن رأيناه يرمي بهذا المذهب الملعون العفيف التلمساني وله في ذلك أشعار كثيرة ، وابن عياش المالقي الأسود الأقطع المقيم كان بدمشق ، وعبد الواحد بن المؤخر المقيم كان بصعيد مصر ، والأيكي العجمي الذي كان تولى المشيخة بخانقاه سعيد السعداء بالقاهر من ديار مصر ، وأبو يعقوب بن مبشر تلميذ التستري المقيم كان بحارة زويلة.
وإنما سردت أسماء هؤلاء نصحاً لدين الله يعلم الله ذلك وشفقة على ضعفاء المسلمين ، وليحذروا فهم شر من الفلاسفة الذين يكذبون الله تعالى ورسله ويقولون بقدم العالم ، وينكرون البعث.

وقد أولع جهلة ممن ينتمي للتصوّف بتعظيم هؤلاء وادّعائهم أنهم صفوة الله وأولياؤه ، والردّ على النصارى والحلولية والقائلين بالوحدة هو من علم أصول الدين.
وقال ابن عطية : القائلون بأن الله هو المسيح فرقة من النصارى ، وكل فرقهم على اختلاف أقوالهم يجعل للمسيح حظاً من الألوهية.
وقال الزمخشري : قيل : كان في النصارى من يقول ذلك ، وقيل : ما صرحوا به ، ولكن مذهبهم يؤدي إليه حيث اعتقدوا أنه يخلق ويحيي ويميت ويدبر العالم.
{ قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً } هذا ردّ عليهم.
والفاء في : فمن للعطف على جملة محذوفة تضمنت كذبهم في مقالتهم التقدير : قل كذبوا ، وقل ليس كما قالوا فمن يملك ، والمعنى : فمن يمنع من قدرة الله وإرادته شيئاً؟ أي : لا أحد يمنع مما أراد الله شيئاً إن أراد أن يهلك من ادعوه إلهاً من المسيح وأمه.
وفي ذلك دليل على أنه وأمه عبدان من عباد الله لا يقدران على رفع الهلاك عنهما ، بل تنفذ فيهما إرادة الله تعالى ، ومن تنفذ فيه لا يكون إلهاً ، وعطف عليهما : ومن في الأرض جميعاً ، عطف العام على الخاص ليكونا قد ذكرا مرّتين : مرّة بالنص عليهما ، ومرة بالاندراج في العام ، وذلك على سبيل التوكيد والمبالغة في تعلق نفاذ الإرادة فيهما.
وليعلم ، أنهما من جنس من في الأرض لا تفاوت بينهما في البشرية ، وفي ذلك إشارة إلى حلول الحوادث بهما ، والله سبحانه وتعالى منزه أن تحلّ به الحوادث ، وأن يكون محلاً لها.
وفي هذا رد على الكرامية.
{ ولله ملك السموات والأرض وما بينهما } والمسيح وأمه من جملة ما في الأرض ، فهما مقهوران لله تعالى ، مملوكان له ، وهذه الجملة مؤكدة لقوله : إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ، ودلالة على أنه إذا أراد فعل ، لأنّ من له ذلك الملك يفعل في ملكه ما يشاء.
{ يخلق ما يشاء } أي أنّ خلقه ليس مقصوراً على نوع واحد ، بل ما تعلقت مشيئته بإيجاده أو جده واخترعه ، فقد يوجد شيئاً لا من ذكر ولا أنثى كآدم عليه السلام ، وأوائل الأجناس المتولد بعضها من بعض.
وقد يخلق من ذكر وأنثى ، وقد يخلق من أنثى لا من ذكر معها كالمسيح.
ففي قوله : يخلق ما يشاء ، إشارة إلى أنّ المسيح وأمه مخلوقان.
وقيل : معنى يخلق ما يشاء كخلق الطير على يد عيسى معجزة ، وكإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وغير ذلك ، فيجب أن تنسب إليه ولا تنسب إلى البشر المجرى على يده.
وتضمن الرد عليهم أن من كان مخلوقاً مقهوراً بالملك عاجزاً عن دفع ما يريد الله به لا يكون إلهاً.

{ والله على كل شيء قدير } تقدم تفسير هذه لجملة ، وكثيراً ما يذكر القدرة عقيب الاختراع وذكر الأشياء الغريبة.
{ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه } ظاهر اللفظ أن جميع اليهود والنصارى قالوا عن جميعهم ذلك وليس كذلك ، بل في الكلام لف وإيجاز.
والمعنى : وقالت كل فرقة من اليهود والنصارى عن نفسها خاصة : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وقالت اليهود : ليست النصارى على شيء ، وقالت النصارى : ليست اليهود على شيء.
والبنوة هنا بنوة الحنان والرأفة.
وما ذكروا من أن الله أوحى إلى إسرائيل أنّ أولادك بكري فضلوا بذلك.
وقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، لا يصح.
ولو صحّ ما رووا ، كان معناه بكراً في التشريف والنبوة ونحو ذلك.
وجعل الزمخشري قولهم : أبناء الله ، على حذف مضاف ، وأقيم هذا مقامه أي : نحن أشياع الله ابني الله عزير والمسيح ، كما قيل لأشياع أبي خبيب عبد الله بن الزبير الخبيبيون ، وكما كان يقول رهط مسلمة : نحن أبناء الله ، ويقول أقرباء الملك وحشمه : نحن الملوك.
وأحباؤه جمع حبيب فعيل بمعنى مفعول ، أي محبوبوه ، أجرى مجرى فعيل من المضاعف الذي هو اسم الفاعل نحو : لبيب وألباء.
وقائل هذه المقالة : بعض اليهود الذين كانوا بحضرة الرسول ، فنسب إلى الجميع لأنّ ما وقع من بعض قد ينسب إلى الجميع.
قال الحسن : يعنون في القرب منه أي : نحن أقرب إلى الله منكم له ، يفخرون بذلك على المسلمين.
قال ابن عياش : هم طائفة من اليهود خوفهم الرسول عقاب الله فقالوا : أتخوفنا بالله ونحن أبناء الله وأحباؤه؟ وروي أيضاً عن ابن عباس : أن يهود المدينة كعب بن الأشرف وغيره من نصارى نجران السيد والعاقب ، خاصموا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، فعيرهم الصحابة بالكفر وغضب الله عليهم ، فقالت اليهود : إنما غضب الله علينا كما يغضب الرّجل على ولده ، نحن أبناء الله وأحباؤه.
هذا قول اليهود ، وأما النصارى فإنهم زعموا أنّ عيسى قال لهم : اذهبوا إلى أبي وأبيكم.
{ قل فلم يعذبكم بذنوبكم } أي إن كنتم كما زعمتم ، فلم يعذبكم بذنوبكم؟ وكانوا قد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم في غير ما موطن : نحن ندخل النار فنقيم فيها أربعين يوماً ، ثم تخلفوننا فيها.
والمعنى : لو كانت منزلتكم منه فوق منزلة البشر لما عذبكم ، وأنتم قد أقررتم أنه يعذبكم ، وهذا على أنّ العذاب هو في الآخرة.
ويحتمل أن يريد به العذاب في الدّنيا بمسخ آبائهم على تعديهم في السبت ، وبقتل أنفسهم على عبادة العجل ، وبالتيه على امتناعهم من قتال الجبارين ، وبافتضاح من أذنب منهم بأن يصبح مكتوباً على بابه ذنبه وعقوبته عليه فتنفذ فيهم ، والإلزام بكلا التعذيبين صحيح.
أما الأول فلإقرارهم أن ذلك سيقع ، وأما الآخر فلوقوع ذلك فيما مضى لا يمكن إنكار شيء منه.

والاحتجاج بما وقع أقوى.
وخرَّج الزمخشري التعذيبين : الدنيوي ، والأخروي في كلامه ، وأشرب تفسير الآية بشيء من مذهبه الاعتزالي ، وحرف التركيب القرآني على عادته ، فقال : إن صح أنكم أبناء الله وأحباؤه ، فلم تذنبون وتعذبون بذنوبكم فتمسخون ، وتمسكم النار في أيام معدودات على زعمكم؟ ولو كنتم أبناء الله لكنتم من جنس الأب غير فاعلين للقبائح ، ولا مستوجبين للعذاب.
ولو كنتم أحباءه لما عصيتموه ، ولما عاقبكم انتهى.
ويظهر من قوله : ولو كنتم أحباءه لما عصيتموه ، أن يكون أحباؤه جمع حبيب بمعنى محب ، لأن المحب لا يعصي من يحبه ، بخلاف المحبوب فإنه كثيراً ما يعصي محبه.
وقال القشيري : البنوّة تقتضي المحبة ، والحق منزه عنها ، والمحبة التي بين المتجانسين تقتضي الاختلاط والمؤانسة ، والحق مقدس عن ذلك ، والمخلوق لا يصلح أن يكون بعضاً للقديم ، والقديم لا بعض له ، لأن الأحدية حقه ، وإذا لم يكن له عدد لم يجز أن يكون له ولد ، وإذا لم يكن له ولد لم يجز على الوجه الذي اعتقدوه أن بينهم وبينه محبة.
{ بل أنتم بشر ممن خلق } أضرب عن الاستدلال من غير إبطال له إلى استدلال آخر من ثبوت كونهم بشراً من بعض من خلق ، فهم مساوون لغيرهم في البشرية والحدوث ، وهما يمنعان البنوة.
فإنّ القديم لا يلد بشراً ، والأب لا يخلق ابنه ، فامتنع بهذين الوجهين البنوة ، وامتنع بتعذيبهم أن يكونوا أحباء الله ، فبطل الوصفان اللذان ادعوهما.
{ يغفر لمن يشاء } أي يهديه للإيمان فيغفر له.
{ ويعذب من يشاء } أي يورطه في الكفر فيعذبه ، أو يغفر لمن يشاء وهم أهل الطاعة ، ويعذب من يشاء وهم العصاة.
قاله الزمخشري.
وفيه شيء من دسيسة الاعتزال ، لأنّ من العصاة عندنا من لا يعذبه الله تعالى بل يغفر له.
وقيل : المعنى أنه ليس لأحد عليه حق يوجب أن يغفر له ، أو يمنعه أن يعذبه ، ولذلك عقبه بقوله :
{ ولله ملك السموات والأرض وما بينهما } فله التصرف التام يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه.
{ وإليه المصير } أي الرجوع بالحشر والمعاد
{ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير } أهل الكتاب هم اليهود والنصارى ، والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل : المخاطب بأهل الكتاب هنا هم اليهود خاصة ، ويرجحه ما روي في سبب النزول : وأن معاذ بن جبل ، وسعد بن عبادة ، وعقبة بن وهب قالوا : يا معشر اليهود اتقوا الله ، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله.
ويبين لكم أي يوضح لكم ويظهر.
ويحتمل أن يكون مفعول يبين حذف اختصار ، أو يكون هو المذكور في الآية.
قبل هذا ، أي : يبين لكم ما كنتم تخفون ، أو يكون دل عليه معنى الكلام أي : شرائع الدين.

أو حذف اقتصاراً واكتفاء بذكر التبيين مسنداً إلى الفاعل ، دون أن يقصد تعلقه بمفعول ، والمعنى : يكون منه التبيين والإيضاح.
ويبين لكم هنا وفي الآية قبل في موضع نصب على الحال.
وعلى فترة متعلق بجاءكم ، أو في موضع نصب على الحال ، والمعنى : على فتور وانقطاع من إرسال الرسل.
والفترة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام قال قتادة : خمسمائة سنة وستون.
وقال الضحاك : أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة.
وقيل : أربعمائة ونيف وستون.
وذكر محمد بن سعد في كتاب الطبقات له عن ابن عباس : أن كان بين ميلاد عيسى والنبي عليهما الصلاة والسلام خمسمائة سنة وتسع وستون سنة ، بعث في أولها ثلاثة أنبياء.
وهو قوله تعالى : { إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث } وهو شمعون وكان من الحواريين.
وقال الكلبي مثل قول ابن عباس إلا أنه قال : بينهما أربعة أنبياء ، واحد من العرب من بني عبس وهو خالد بن سنان الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : « ضيعه قومه ».
وروي عن الكلبي أيضاً خمسمائة وأربعون.
وقال وهب : ستمائة سنة وعشرون.
وقيل : سبعمائة سنة.
وقال مقاتل : ستمائة سنة ، وروي هذا عن قتادة والضحاك.
وذكر ابن عطية أن هذا روي في الصحيح.
فإن كانا كما ذكر وجب أن لا يعدل عنه لسواه.
وهذه التواريخ نقلها المفسرون من كتب اليونان وغيرهم ممن لا يتحرّى النقل.
وذكر ابن سعد في الطبقات عن ابن عباس والزمخشري عن الكلبي قالا : كان بين موسى وعيسى ألف سنة وسبعمائة سنة ، وألف نبيّ ، زاد ابن عباس من بني إسرائيل دون من أرسل من غيرهم ، ولم يكن بينهما فترة.
والمعنى : الامتنان عليهم بإرسال الرسل على حين انطمست آثار الوحي ، وهم أحوج ما يكونون إليه ليعدوه أعظم نعمة من الله وفتح باب إلى الرحمة ، ويلزمهم الحجة فلا يعتلوا غداً بأنه لم يرسل إليهم من ينبههم من غلفتهم.
وأن تقولوا : مفعول من أجله فقده البصريون : كراهة أو حذار أن تقولوا.
وقدره الفراء : لئلا تقولوا.
ويعني يوم القيامة على سبيل الاحتجاج.
{ فقد جاءكم بشير ونذير } قيل : وفي الكلام حذف أي : لا تعتدوا فقد جاءكم بشير ، أي لمن أطاع بالثواب ، ونذير لمن عصى بالعقاب.
وفي هذا ردّ على اليهود حيث قالوا : ما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بعده.
{ والله على كل شيء قدير } هذا عامّ فقيل على كل شيء من الهداية والضلال.
وقيل : من البعثة وإمساكها.
والأولى العموم فيندرج فيه ما ذكروا.
{ وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى بين تمرّد أسلاف اليهود على موسى ، وعصيانهم إياهم ، مع تذكيره إياهم نعم الله وتعداده لما هو العظيم منها ، وأن هؤلاء الذين هم بحضرة الرسول هم جارون معكم مجرى أسلافهم مع موسى.

ونعمة الله يراد بها الجنس ، والمعنى : واذكر لهم يا محمد على جهة إعلامهم بغيب كتبهم ليتحققوا نبوّتك.
وينتظم في ذلك ذكر نعم الله عليهم ، وتلقيهم تلك النعم بالكفر وقلة الطاعة.
وعدّد عليهم من نعمه ثلاثاً : الأولى : جعل أنبياء فيهم وذلك أعظم الشرف ، إذ هم الوسائط بين الله وبين خلقه ، والمبلغون عن الله شرائعه.
قيل : لم يبعث في أمّة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء.
وقال ابن السائب ومقاتل : الأنبياء هنا هم السبعون الذين اختارهم موسى لميقات ربه ، وكانوا من خيار قومه.
وقيل : هم الذين أرسلوا من بعد في بني إسرائيل كموسى ذكره الماوردي وغيره ، وعلى هذا القول يكون جعل لا يراد بها حقيقة الماضي بالفعل ، إذ بعضهم كان قد ظهر عند خطاب موسى إياهم ، وبعضهم لم يخلق بل أخبر أنه سيكون فيهم.
الثانية : جعلهم ملوكاً ظاهره الامتنان عليهم بأن جعلهم ملوكاً إذ جعل منهم ملوكاً ، إذ الملك شرف في الدنيا واستيلاء ، فذكرهم بأن منهم قادة الآخرة وقادة الدنيا.
وقال السدي وغيره : وجعلكم أحراراً تملكون ولا تملكون ، إذ كنتم خدماً للقبط فأنقذكم منهم ، فسمي استنقاذكم ملكاً.
وقال قوم : جعلهم ملوكاً بإنزال المن والسلوى عليهم وتفجير الحجر لهم ، وكون ثيابهم لا تبلى ولا تنسخ وتطول كلما طالوا ، فهم ملوك لرفع هذه الكلف عنهم.
وقال قتادة : ملوكاً لأنهم أول من اتخذ الخدام واقتنوا الأرقاء.
وقال ابن عطية وقتادة : وإنما قال وجعلكم ملوكاً ، لأنا كنا نتحدث أن أول من خدمه آخر من بني آدم.
قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، لأن القبط كانوا يستخدمون بني إسرائيل.
وظاهر أمر بني آدم أن بعضهم يسخر بعضاً مدة تناسلوا وكثروا انتهى.
وهذه الأقوال الثلاثة عامة في جميع بني إسرائيل ، وهو ظاهر قوله : وجعلكم ملوكاً.
وقال عبد الله بن عمر ، والحسن ، ومجاهد ، وجماعة : من كان له مسكن وامرأة وخادم فهو ملك.
وقيل : من له مسكن ولا يدخل عليه فيه إلا بإذن فهو ملك.
وقيل : من له زوجة وخادم ، وروي هذا عن ابن عباس.
وقال عكرمة : من ملك عندهم خادماً وبيتاً دعي عندهم ملكاً.
وقيل : من له منزل واسع فيه ماء جار.
وقيل : من له مال لا يحتاج فيه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق.
وقيل : ملوك لقناعتهم ، وهو ملك خفي.
ولهذا جاء في الحديث : « القناعة كنز لا ينفد ».
وقيل : لأنهم ملكوا أنفسهم وذادوها عن الكفر ومتابعة فرعون.
وقيل : ملكوا شهوات أنفسهم ذكر هذه الأقوال الثلاثة التبريزي في تفسيره.
الثالثة : إيتاؤه إياهم ما لم يؤت أحداً من العالمين ، فسره ابن عباس فيما روى عنه مجاهد : بالمن والسلوى ، والحجر ، والغمام.

وروى عنه عطاء الدار والزوجة والخادم.
وقيل : كثرة الأنبياء.
وقال ابن جرير : ما أوتي أحد من النعم في زمان قوم موسى ما أوتوا ، خصوا بفلق البحر لهم ، وإنزال المن والسلوى ، وإخراج المياه العذبة من الحجر ، ومد الغمام فوقهم.
ولم تجمع النبوة والملك لقومٍ كما جمعا لهم ، وكانوا في تلك الأيام هم العلماء بالله وأحباؤه وأنصار دينه انتهى.
وأن المراد كثرة الأنبياء ، أو خصوصات مجموع آيات موسى.
فلفظ العالمين مقيد بالزمان الذي كان فيه بنو إسرائيل ، لأن أمة محمد قد أوتيت من آيات محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك : قد ظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغمامة قبل مبعثه ، وكلمته الحجارة والبهائم ، وأقبلت إليه الشجرة ، وحن له الجذع ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وشبع كثير من الناس من قليل الطعام ببركته ، وانشق له القمر ، وعد العود سيفاً ، وعاد الحجر المعترض في الخندق رملاً مهيلاً إلى غير ذلك من آياته العظمى ومعجزاته الكبرى.
وهذه المقالة من موسى لبني إسرائيل وتذكيرهم بنعم الله هي توطئة لنفوسهم ، وتقدم إليهم بما يلقى من أمر قتال الجبارين ليقوي جأشهم ، وليعلموا أنّ من أنعم الله عليه بهذه النعم العظيمة لا يخذله الله ، بل يعليه على عدوه ويرفع من شأنه ، ويجعل له السلطنة والقهر عليه.
والخطاب في قوله : وآتاكم ، ظاهره أنه لبني إسرائيل كما شرحناه ، وأنه من كلام موسى لهم ، وبه قال الجمهور.
وقال أبو مالك ، وابن جبير : هو خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وانتهى الكلام عند قوله : وجعلكم ملوكاً ، ثم التفت إلى هذه الأمة لما ذكر موسى قومه بنعم الله ، ذكر الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه النعمة الظاهرة جبراً لقلوبهم ، وأنه آتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين ، وعلى هذا المراد بالعالمين العموم ، فإن الله فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم ، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين ، وأسبغ عليهم من النعم ما لم يسبغها على أحد من الأمم ، وهذا معنى قول ابن جرير وهو اختياره.
وقال ابن عطية : وهذا ضعيف ، وإنما ضعف عنده لأن الكلام في نسق واحد من خطاب موسى لقومه ، وهو معطوف على ما قبله ، ولا يلزم ما قاله ، لأن القرآن جاء على قانون كلام العرب من الالتفات والخروج من خطاب إلى خطاب ، لا سيما إذا كان ظاهر الخطاب لا يناسب من خوطب أولاً ، وإنما يناسب من وجه إليه ثانياً ، فيقوي بذلك توجيه الخطاب إلى الثاني إذا حمل اللفظ على ظاهره.
وقرأ ابن محيصن : ياقُوم بضم الميم ، وكذا حيث وقع في القرآن ، وروى ذلك عن ابن كثير.
وهذا الضم هو على معنى الإضافة ، كقراءة من قرأ : قل رب احكم بالحق بالضم وهي إحدى اللغات الخمس الجائزة في المنادى المضاف لياء المتكلم.

{ يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله عليكم } المقدسة المطهرة ، وهي أريحا قاله : السدي وابن زيد ، ورواه عكرمة عن ابن عباس.
وقيل : موضع بيت المقدس.
وقيل : ايليا.
قال ابن قتيبة.
قرأت في مناجاة موسى قال : اللهم إنك اخترت فذكر أشياء ثم قال : رب ايليا بيت المقدس.
وقال ابن الجوزي : قرأت على أبي منصور اللغوي قال : ايليا بيت المقدس.
قال الفرزدق :
وبيتان بيت الله نحن نزوره . . .
وبيت بأعلى ايلياء مشرف
وقيل : الطور ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، واختاره الزجاج.
وقيل : فلسطين ودمشق وبعض الأردن.
قال قتادة : هي الشام.
وقال الكلبي : صعد إبراهيم عليه السلام جبل لبنان فقال له جبريل : انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس ، وهو ميراث لذريتك.
وقيل : ما بين الفرات وعريش مصر.
قال الطبري : لا يختلف أنها ما بين الفرات وعريش مصر قال : وقال الادفوي : أجمع أهل التأويل والسير والعلماء بالأخبار أنها ما بين الفرات وعريش مصر.
وقال الطبري : تظاهرت الروايات أن دمشق هي قاعدة الجبارين انتهى.
والتقديس : التطهير قيل : من الآفات.
وقيل : من الشرك ، جعلت مسكناً وقراراً للأنبياء ، وغلبة الجبارين عليها لا يخرجها عن أن تكون مقدسة.
وقيل : المقدسة المباركة طهرت من القحط والجوع ، وغير ذلك قاله مجاهد.
وقيل : سميت مقدسة لأن فيها المكان الذي يتقدس فيه من الذنوب ، ومنه قيل : للسطل قدس لأنه يتوضأ ويتطهر.
ومعنى كتبها الله لكم : قسمها ، وسماها ، أو خط في اللوح أنها لكم مسكن وقرار.
وقال ابن إسحاق : وهبها لكم.
وقال السدي : أمركم بدخولها ، وفي ذلك تنشيط لهم وتقوية إذا أخبرهم بأنّ الله كتبها لهم.
والظاهر استعمال كتب في الفرض كقوله : { كتب عليكم الصيام } و { كتب عليكم القتال } وأما إن كان كتبها بمعنى خط في الأزل ، وقضى ، فلا يحتاج ظاهر هذا اللفظ ظاهر قوله : محرمة عليهم.
فقيل : اللفظ عام.
والمراد الخصوص كأنه قال : مكتوبة لبعضهم وحرام على بعضهم ، أو ذلك مشروط بقيد امتثال القتال ، فلم يمتثلوا ، فلم يقع المشروط أو التحريم ، مقيد بأربعين سنة فلما انقضت جعل ما كتب.
وأما إن كان كتبها لهم بمعنى أمركم بدخولها ، فلا يعارض التحريم.
حرم عليهم دخولها وماتوا في التيه ، ودخل مع موسى أبناؤهم الذين لم تحرم عليهم.
وقيل : إن موسى وهارون عليهما السلام ماتا في التيه ، وإنما خرج أبناؤهم مع حزقيل.
وقال ابن عباس : كانت هبة ، ثم حرمها عليهم بعصيانهم.
{ ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين } أي لا تنكصوا على أعقابكم من خوف الجبابرة جبناً وهلعاً.
وقيل : حدثهم النقباء بحال الجبابرة رفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا : ليتنا متنا بمصر ، وقالوا : تعالوا نجعل علينا رأساً ينصرف بنا إلى مصر.
ويحتمل أن يراد : لا ترتدوا على أدباركم ، في دينكم لمخالفتكم أمر ربكم وانقلابهم خاسرين ، إن كان الارتداد حقيقياً وهو الرجوع إلى المكان الذي خرج منه فمعناه : يصيرون إلى الذل بعد العز والخلاص من أيدي القبط.

وإن كان الارتداد مجازاً وهو ارتدادهم عن دينهم فمعناه : يخسرون خير الدنيا وثواب الآخرة.
وحقيق بالخسران مَن خالف ما فرضه الله عليه من الجهاد وخالف أمره.
{ قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين } أي : قال النقباء الذين سيرهم موسى لكشف حال الجبابرة ، أو قال رؤساؤهم الذين عادتهم أن يطلعوا على الأسرار وأن يشاوروا في الأمور.
وهذا القول فيه بعد لتقاعسهم عن القتال أي : أنّ فيها من لا نطيق قتالهم.
قيل : هم من بقايا عاد ، وقيل : من الروم من ولد عيص بن إسحاق.
وقرأ ابن السميفع : قالوا يا موسى فيها قوم جبارون.
{ وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها } هذا تصريح بالامتناع التام من أن يقاتلوا الجبابرة ، ولذلك كان النفي بلن.
ومعنى حتى يخرجوا منها : بقتال غيرنا ، أو بسبب يخرجهم الله به فيخرجون.
{ فإن يخرجوا منها فإنا داخلون } وهذا توجيه منهم لأنفسهم بخروج الجبارين منها ، إذ علقوا دخولهم على شرط ممكن وقوعه.
وقال أكثر المفسرين : لم يشكوا فيما وعدهم الله به ، ولكن كان نكوصهم عن القتال من خور الطبيعة والجبن الذي ركبه الله فيهم ، ولا يملك ذلك إلا من عصمه الله وقال تعالى : { فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم } وقيل قالوا ذلك على سبيل الاستبعاد أن يقع خروج الجبارين منها كقوله تعالى ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط.
{ قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب } الأشهر عند المفسرين أنّ الرجلين هما يوشع بن نون بن افراثيم بن يوسف وهو ابن أخت موسى ، وكالب بن يوقنا ختن موسى على أخته مريم بنت عمران ويقال فيه : كلاب ، ويقال : كالوب ، وهما اللذان وفيا من النقباء الذين بعثهم موسى في كشف أحوال الجبابرة فكتما ما اطلعا عليه من حال الجبابرة إلا عن موسى ، وأفشى ذلك بقية النقباء في أسباطهم فآل بهم ذلك إلى الخور والجبن بحيث امتنعوا عن القتال.
وقيل : الرجلان كانا من الجبارين آمنا بموسى واتبعاه ، وأنعم الله عليهما بالإيمان.
فإن كان الرجلان هما يوشع وكالب فمعنى قوله : يخافون ، أي : يخافون الله ، ويكون إذ ذاك مع موسى أقوام يخافون الله فلا يبالون بالعدو لصحة إيمانهم وربط جأشهم ، وهذان منهم.
أو يخافون العدو ، ولكن أنعم الله عليهما بالإيمان والثبات ، أو يخافهم بنو إسرائيل فيكون الضمير في يخافون عائداً على بني إسرائيل ، والضمير الرابط للصلة بالموصول محذوفاً تقديره : من الذين يخافونهم أي : يخافهم بنو إسرائيل.
ويدل على هذا التأويل قراءة ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، يخافون بضم الياء.

وتحتمل هذه القراءة أن يكون الرجلان يوشع وكالب.
ومعنى يخافون أي : يهابون ويوقرون ويسمع كلامهم لتقواهم وفضلهم ، ويحتمل أن يكون من أخاف أي يخيفون : بأوامر الله ونواهيه وزجره ووعيده ، فيكون ذلك مدحاً لهم كقوله { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } والجملة من أنعم الله عليهما صفة لقوله : رجلان ، وصفا أولاً بالجار والمجرور ، ثم ثانياً بالجملة.
وهذا على الترتيب الأكثر في تقديم المجرور أو الظرف على الجملة إذا وصفت بهما ، وجوز أن تكون الجملة حالاً على إضمار قد ، وأن تكون اعتراضاً ، فلا يكون لها موضع من الإعراب.
وفي قراءة عبد الله.
أنعم الله عليهما ويلكم ادخلوا عليهم الباب.
والباب : باب مدينة الجبارين ، والمعنى : اقدموا على الجهاد وكافحوا حتى تدخلوا عليهم الباب ، وهذا يدل على أنّ موسى كان قد أنزل محلته قريباً من المدينة.
{ فإذا دخلتموه فإنكم غالبون } قالا ذلك ثقة بوعد الله في قوله : { التي كتب الله لكم } وقيل : رجاء لنصر الله رسله ، وغلب ذلك على ظنهم.
وما غزى قوم في عقر ديارهم إلا ذلوا ، وإذا لم يكونوا حافظي باب مدينتهم حتى دخل وهو المهم ، فلأن لا يحفظوا ما وراء الباب أولى.
وعلى قول أنّ الرجلين كانا من الجبارين فقيل : إنهما قالا لهم : إنّ العمالقة أجسام لا قلوب فيها فلا تخافوهم ، وارجعوا إليهم فإنكم غالبوهم تشجيعاً لهم على قتالهم.
{ وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } لما رأيا بني إسرائيل قد عصوا الرسول في الإقدام على الجهاد مع وعد الله لهم السابق ، استرابا في إيمانهم ، فأمراهم بالتوكل على الله إذ هو الملجأ والمفزع عند الشدائد ، وعلق ذلك بشرط الإيمان الذي استرابا في حصوله لبني إسرائيل.
{ قالوا يا موسى لن ندخلها أبداً ما داموا فيها } لما كرر عليهم أمر القتال كرروا الامتناع على سبيل التوكيد بالمولين ، وقيدوا أولاً نفي الدخول بالظرف المختص بالاستقبال وحقيقته التأبيد ، وقد يطلق على الزمان المتطاول فكأنهم نفوا الدخول طول الأبد ، ثم رجعوا إلى تعليق ذلك بديمومة الجبارين فيها ، فأبدلوا زماناً مقيداً من زمان هو ظاهر في العموم في الزمان المستقبل ، فهو بدل بعض من كل.
{ فاذهب أنت وربك فقاتلا } ظاهر الذهاب الانتقال ، وهذا يدل على أنهم كانوا مشبهة ، ولذلك قال الحسن : هو كفر منهم بالله تعالى.
قال الزمخشري : والظاهر أنهم قالوا ذلك استهانة بالله ورسله وقلة مبالاة بهما واستهزاء ، وقصدوا ذهابهما حقيقة لجهلهم وجفائهم وقسوة قلوبهم التي عبدوا بها العجل ، وسألوا بها رؤية الله جهرة ، والدليل عليه مقابلة ذهابهما بقعودهم.
ويحكى أنّ موسى وهارون خرّا لوجوههما ما قدامهم لشدة ما ورد عليهما فسموا برجمهما ، ولأمر ما قرن الله اليهود بالمشركين وقدمهم عليهم في قوله تعالى : { لتجدن أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } وقيل : يحتمل أن لا يقصدوا الذهاب حقيقة ، ولكن كما تقول : كلمته فذهب يحبيني ، يريد معنى الإرادة والقصد للجواب ، كأنهم قالوا : اريد إقبالهم.

والمراد بالرّب هنا هو الله تعالى.
وذكر النقاش عن بعض المفسرين هنا أن المراد بالرّب هارون ، لأنه كان أسن من موسى ، وكان معظماً في بني إسرائيل محبباً لسعة خلقه ورحب صدره ، فكأنهم قالوا : اذهب أنت وكبيرك.
وهو تأويل بعيد يخلص بني إسرائيل من الكفر.
وربك معطوف على الضمير المستكن في اذهب المؤكد بالضمير المنفصل ، وقد تقدّم الكلام على ذلك في قوله : { اسكن أنت وزوجك الجنة } ورددنا قول من ذهب إلى أنه مرفوع على فعل أمر محذوف يمكن رفعه الظاهر ، فيكون من عطف الجمل التقدير : فاذهب وليذهب ربك.
وذهب بعض الناس إلى أن الواو واو الحال ، وربك مرفوع بالابتداء ، والخبر محذوف.
أو تكون الجملة دعاء والتقدير فيهما : وربك يعينك ، وهذا التأويل فاسد بقوله فقاتلا.
{ إنا ههنا قاعدون } هذا دليل على أنهم خارت طباعهم فلم يقدروا على النهوض معه للقتال ، ولا على الرجوع من حيث جاءوا ، بل أقاموا حيث كانت المحاورة بين موسى وبينهم.
وها من قوله هاهنا للتنبيه ، وهنا ظرف مكان للقريب ، والعامل فيه قاعدون.
ويجوز في مثل هذا التركيب أن يكون الخبر الظرف وما بعده حال فينتصب ، وأن يكون الخبر الاسم والظرف معمول له.
وهو أفصح.
{ قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي } لما عصوا أمر الله وتمردوا على موسى وسمع منهم ما سمع من كلمة الكفر وسوء الأدب مع الله ولم يبق معه من يثق به إلا هارون قال ذلك ، وهذا من الكلام المنطوي صاحبه على الالتجاء إلى الله والشكوى إليه ، ورقة القلب التي تستجلب الرّحمة وتستنزل النصرة ونحوه قول يعقوب : { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } وعن علي أنه كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال المنافقين فما أجابه إلا رجلان ، فتنفس الصعداء ودعا لهما وقال : أين تتبعان مما أريد؟ والظاهر إنّ وأخي معطوف على نفسي ، ويحتمل أن يكون وأخي مرفوعاً بالابتداء ، والخبر محذوف لدلالة ما قبله عليه أي : وأخي لا يملك إلا نفسه ، فيكون قد عطف جملة غير مؤكدة على جملة مؤكدة ، أو منصوباً عطفاً على اسم إنّ أي : وإن أخي لا يملك إلا نفسه ، والخبر محذوف ، ويكون قد عطف الاسم والخبر على الخبر نحو : إن زيداً قائم وعمراً شاخص ، أي : وإنّ عمراً شاخص.
وأجاز ابن عطية والزمخشري أن يكون وأخي مرفوعاً عطفاً على الضمير المستكن في أملك ، وأجاز ذلك للفصل بينهما بالمفعول المحصور.
ويلزم من ذلك أنّ موسى وهارون عليهما السلام لا يملكان إلا نفس موسى فقط ، وليس المعنى على ذلك ، بل الظاهر أنّ موسى يملك أمر نفسه وأمر أخيه فقط.
وجوز أيضاً أن يكون مجروراً معطوفاً على ياء المتكلم في نفسي ، وهو ضعيف على رأي البصريين.

وكأنه في هذا الحصر لم يثق بالرجلين اللذين قالا : ادخلوا عليهم الباب ، ولم يطمئن إلى ثباتهما لما عاين من أحوال قومه وتلونهم مع طول الصحبة ، فلم يذكر إلا النبي المعصوم الذي لا شبهة في ثباته.
قيل : أو قال ذلك على سبيل الضجر عندما سمع منهم تعليلاً لمن يوافقه ، أو أراد بقوله : وأخي ، من يوافقني في الدين لا هارون خاصة.
وقرأ الحسن : إلا نفسي وأخي بفتح الياء فيهما.
{ فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } ظاهره أنه دعا بأن يفرق الله بينهما وبينهم بأن يفقد وجوههم ولا يشاهد صورهم إذا كانوا عاصين له مخالفين أمر الله تعالى ، ولذلك نبه على العلة الموجبة للتفرقة بينهم وبين الفسق فالمطيع لا يريد صحبة الفاسق ولا يؤثرها لئلا يصيبه بالصحبة ما يصيبه ، { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } { أنهلك وفينا الصالحون } وقبل الله دعاءه فلم يكونا معهم في التيه ، بل فرق بينه وبينهم ، لأن التيه كان عقاباً خص به الفاسقون العاصون.
وقال ابن عباس والضحاك وغيرهما : المعنى فافصل بيننا بحكم يزيل هذا الاختلاف ويلمّ الشعث.
وقيل : المعنى فافرق بيننا وبينهم في الآخرة حتى تكون منزلة المطيع مفارقة لمنزلة العاصي الفاسق.
وقال الزمخشري : فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق ، وعليهم بما يستحقون ، وهو في معنى الدعاء عليهم ، ولذلك وصل به قوله : فإنها محرمة عليهم ، على وجه التشبيه.
وقرأ عبيد بن عمير ويوسف بن داود : فافرِق بكسر الراء وقال الراجز :
يا رب فافرق بينه وبيني . . .
أشدّ ما فرّقت بين اثنين
وقرأ ابن السميفع : ففرق.
والفاسقون هنا قال ابن عباس : العاصون.
وقال ابن زيد : الكاذبون.
وقال أبو عبيد : الكافرون.
{ قال فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض } أي قال الله تعالى فأضمر في قال وضمير ، فإنها إلى الأرض المقدّسة محرّمة عليهم ، أي محرم دخولها وتملكهم إياها وتقدّم الكلام على انتظام قوله : { كتب الله لكم } مع قوله محرمة عليهم ، ودل هذا على أنهم بعد الأربعين لا تكون محرمة عليهم.
فروي أن موسى وهارون عليهما السلام كانا معهم في التيه عقوبة لهم وروحاً وسلاماً لهما ، لا عقوبة ، كما كانت النار لابراهيم ولملائكة العذاب.
فروي أن موسى سار بعد الأربعين بمن بقي من بني إسرائيل ، وكان يوشع وكالب على مقدمته ، ففتح اريحا وقتل عوج بن عنق ، وذكروا من وصف عوج وكيفية قتل موسى له ما لا يصح.
وأقام موسى فيها ما شاء الله ثم قبض.
وقيل : مات هارون في التيه.
قال ابن عطية : ولم يختلف في هذا.
وروي : أنّ موسى مات في التيه بعد هارون بثمانية أعوام.
وقيل : بستة أشهر ونصف.
وقيل : بسنة ونبأ الله يوشع بعد كمال الأربعين سنة فصدقه بنو إسرائيل ، وأخبرهم أن الله تعالى أمره بقتال الجبابرة فصدّقوه وبايعوه ، وسار فيهم إلى اريحا وقتل الجبارين وأخرجهم ، وصار الشام كله لبني إسرائيل.

وفي تلك الحرب وقفت له الشمس ساعة حتى استمر هزم الجبارين ، وقد ألمّ بذكر وقوف الشمس ليوشع أبو تمام في شعره فقال :
فردت علينا الشمس والليل راغم . . .
بشمس بدت من جانب الخدر تطلع
نضا ضوؤها صبغ الدجنة وانطوى . . .
لبهجتها ثوب السماء المجزع
فوالله ما أدري أأحلام نائم . . .
ألمت بنا أم كان في الركب يوشع
والظاهر أن العامل في قوله : أربعين محرمة ، فيكون التحريم مقيداً بهذه المدة ، ويكون يتيهون مستأنفاً أو حالاً من الضمير في عليهم.
ويجوز أن يكون العامل يتيهون أي : يتيهون هذه المدة في الأرض ، ويكون التحريم على هذا غير مؤقت بهذه المدة ، بل يكون إخباراً بأنهم لا يدخلونها ، وأنهم مع ذلك يتيهون في الأرض أربعين سنة يموت فيها من مات.
وروي أنه من كان جاوز عشرين سنة لم يعش إلى الخروج من التيه ، وأنّ من كان دون العشرين عاشوا ، كأنه لم يعش المكلفون العصاة ، أشار إلى ذلك الزجاج ، ولذلك ذهب إلى أن العامل في أربعين محرمة.
وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون العامل في أربعين مضمراً يدل عليه يتيهون المتأخر انتهى.
ولا أدري ما الحامل له على قوله : إن العامل مضمر كما ذكر؟ بل الذي جوز الناس في ذلك أن يكون العامل فيه يتيهون نفسه ، لا مضمر يفسره قوله : يتيهون في الأرض.
والأرض التي تاهوا فيها على ما حكى طولها ثلاثون ميلاً ، في عرض ستة فراسخ ، وهو ما بين مصر والشام.
وقال ابن عباس : تسعة فراسخ ، قال مقاتل : هذا عرضها وطولها ثلاثون فرسخاً.
وقيل : ستة فراسخ في طول اثنى عشر فرسخاً ، وقيل : تسعة فراسخ.
وتظافرت أقوال المفسرين على أن هذا التيه على سبيل خرق العادة ، فإنه عجيب من قدرة الله تعالى ، حيث جاز على جماعة من العقلاء أن يسيروا فراسخ يسيرة ولا يهتدون للخروج منها.
روي أنهم كانوا يرحلون بالليل ويسيرون ليلهم أجمع ، حتى إذا أصبحوا وجدوا جملتهم في الموضع الذي ابتدأوا منه ، ويسيرون النهار جادين حتى إذا أمسوا أذاهم بحيث ارتحلوا عنه ، فيكون سيرهم تحليقاً.
قال مجاهد وغيره : كانوا يسيرون النهار أحياناً والليل أحياناً ، فيمسون حيث أصبحوا ، ويصبحون حيث يمسون ، وذلك في مقدار ستة فراسخ ، وكانوا في سيارة لا قرار لهم انتهى.
وذكر أنهم كانوا ستمائة ألف مقاتلين ، وذكروا أنّ حكمة التيه هو أنهم لما قالوا : { إنا هاهنا قاعدون } عوقبوا بالقعود ، فصاروا في صورة القاعدين وهم سائرون ، كلما ساروا يوماً أمسوا في المكان الذي أصبحوا فيه.
وذكروا أن حكمة كون المدّة التي تاهوا فيها أربعين سنة هي كونهم عبدوا العجل أربعين يوماً ، جعل عقاب كل يوم سنة في التيه.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون تيههم بافتراق الكلمة ، وقلة اجتماع الرأي ، وأنه تعالى رماهم بالاختلاف ، وعلموا أنها حرّمت عليهم أربعين سنة ، فتفرّقت منازلهم في ذلك الفحص ، وأقاموا ينتقلون من موضع إلى موضع على غير نظام واجتماع حتى كملت هذه المدة ، وأذن الله تعالى بخروجهم ، وهذا تيه ممكن محتمل على عرف البشر.

والآخر الذي ذكره مجاهد إنما هو خرق عادة وعجب من قدرة الله تعالى.
{ فلا تأس على القوم الفاسقين } الظاهر أن الخطاب من الله تعالى لموسى عليه السلام.
قال ابن عباس : ندم موسى على دعائه على قومه وحزن عليهم انتهى.
فهذه مسلاة لموسى عليه السلام عن أن يحزن على ما أصاب قومه ، وعلل كونه لا يحزن بأنهم قوم فاسقون بهوت أحقاء بما نالهم من العقاب.
وقيل : الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم ، والمراد بالفاسقين معاصروه أي : هذه فعال أسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك وردّهم عليك فإنها سجية خبيثة موروثة عندهم.

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)

الغراب : طائر معروف ويجمع في القلة على أغربة ، وفي الكثرة على غربان.
وغراب اسم جنس وأسماء الأجناس إذا وقعت على مسمياتها من غير أن تكون منقولة من شيء ، فإن وجد فيها ما يمكن اشتقاقه حمل على أنه مشتق ، إلا أنَّ ذلك قليل جدّاً ، بل الأكثر أن تكون غير مشتقة نحو : تراب ، وحجر ، وماء.
ويمكن غراب أن يكون مأخوذاً من الاغتراب ، فإن العرب تتشاءم به وتزعم أنه دال على الفراق.
وقال حران العود :
وأما الغراب فالغريب المطوّح.
وقال الشنفري :
غراب لاغتراب من النوى . . .
وبالباذين من حبيب تعاشره
البحث في الأرض نبش التراب وإثارته ، ومنه سميت براءة بحوث.
وفي المثل : لا تكن كالباحث عن الشفرة.
السوأة : العورة.
العجز : عدم الإطاقة ، وماضيه على فعل بفتح العين ، وهي اللغة الفاشية.
وحكى الكسائي فيه : فعل بكسر العين.
الندم : التحسر يقال منه : ندم يندم.
الصلب معروف وهو إصابة صلبة بجذع ، أو حائط كما تقول : عانه أي أصاب عينه ، وكيده أصاب كيده.
الخلاف : المخالفة ، ويقال : فرس به شكال من خلاف إذا كان في يده.
نفاه : طرده فانتفى ، وقد لا يتعدّى نفي.
قال القطامي : فأصبح جاراكم قتيلاً ونافيا.
أي منفيا.
الوسيلة الواسلة ما يتقرب منه.
يقال : وسله وتوسل إليه ، واستعيرت الوسيلة لما يتقرب به إلى الله تعالى من فعل الطاعات.
وقال لبيد :
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم . . .
ألا كل ذي لب إلى الله واسل
وأنشد الطبري :
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا . . .
وعاد التصابي بيننا والوسائل
السارق اسم فاعل من سرق يسرق سرقاً والسرق والسرقة الاسم كذا قال بعضهم وربما قالوا سرقة مالاً.
قال ابن عرفة السارق عند العرب من جاء مستتراً إلى حرز فأخذ منه ما ليس له.
{ واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر } مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر تمرّد بني إسرائيل وعصيانهم ، أمر الله تعالى في النهوض لقتال الجبارين ، ذكر قصة ابني آدم وعصيان قابيل أمر الله ، وأنهم اقتفوا في العصيان أول عاص لله تعالى ، وأنهم انتهوا في خور الطبيعة وهلع النفوس والجبن والفزع إلى غاية بحيث قالوا لنبيهم الذي ظهرت على يديه خوارق عظيمة ، وقد أخبرهم أن الله كتب لهم الأرض المقدسة : { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } وانتهى قابيل إلى طرف نقيض منهم من الجسارة والعتوّ وقوة النفس وعدم المبالاة بأن أقدم على أعظم الأمور وأكبر المعاصي بعد الشرك وهو قتل النفس التي حرم الله قتلها ، بحيث كان أول من سنّ القتل ، وكان عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة ، فاشتبهت القصتان من حيث الجبن عن القتل والإقدام عليه ، ومن حيث المعصية بهما.

وأيضاً فتقدم قوله أوائل الآيات { إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم } وبعده { قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب } وقوله : { نحن أبناء الله وأحباؤه } ثم قصة محاربة الجبارين ، وتبين أنّ عدم اتباع بني إسرائيل محمداً صلى الله عليه وسلم إنما سببه الحسد هذا مع علمهم بصدقه.
وقصة ابني آدم انطوت على مجموع هذه الآيات من بسط اليد ، ومن الأخبار بالمغيب ، ومن عدم الانتفاع بالقرب ، ودعواه مع المعصية ، ومن القتل ، ومن الحسد.
ومعنى واتل عليهم : أي اقرأ واسرد ، والضمير في عليهم ظاهره أنه يعود على بني إسرائيل إذ هم المحدث عنهم أولاً ، والمقام عليهم الحجج بسبب همهم ببسط أيديهم إلى الرسول.
والمؤمنين فاعلموا بما هو في غامض كتبهم الأول التي لا تعلق للرسول بها إلا من جهة الوحي ، لتقوم الحجة بذلك عليهم ، إذ ذلك من دلائل النبوّة.
والنبأ : هو الخبر.
وابنا آدم في قول الجمهور عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وغيرهما : هما قابيل وهابيل ، وهما ابناه لصلبه.
وقال الحسن : لم يكونا ولديه لصلبه ، وإنما هما أخوان من بني إسرائيل.
قال : لأن القربان إنما كان مشروعاً في بني إسرائيل ، ولم يكن قبل ، ووهم الحسن في ذلك.
وقيل عليه كيف يجهل الدفن في بني إسرائيل حتى يقتدى فيه بالغراب؟ وأيضاً فقد قال الرسول عنه : « إنه أول من سن القتل » وقد كان القتل قبل في بني إسرائيل.
ويحتمل قوله : بالحق ، أن يكون حالاً من الضمير في : واتل أي : مصحوباً بالحق ، وهو الصدق الذي لا شك في صحته ، أو في موضع الصفة لمصدر محذوف أي : تلاوة ملتبسة بالحق ، والعامل في إذ نبأ أي حديثهما وقصتهما في ذلك الوقت.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون بدلاً من النبأ أي : اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت على تقدير حذف المضاف انتهى.
ولا يجوز ما ذكر ، لأن إذ لا يضاف إليها إلا الزمان ، ونبأ ليس بزمان.
وقد طوّل المفسرون في سبب تقريب هذا القربان وملخصه : أنّ حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى ، وكان آدم يزوّج ذكر هذا البطن أنثى ذلك البطن ، وأنثى هذا ذكر ذلك ، ولا يحل للذكر نكاح توءمته ، فولد مع قابيل أخت جميلة اسمها اقليميا ، وولد مع هابيل أخت دون تلك اسمها لبوذا ، فأبى قابيل إلا أن يتزوّج توءمته لا توءمة هابيل وأن يخالف سنة النكاح إيثاراً لجمالها ، ونازع قابيل هابيل في ذلك ، فقيل : أمرهما آدم بتقريب القربان.
وقيل : تقرباً من عند أنفسهما ، إذ كان آدم غائباً توجه إلى مكة لزيارة البيت بإذن ربه.
والقربان الذي قرباه : هو زرع لقابيل ، وكان صاحب زرع ، وكبش هابل وكان صاحب غنم ، فتقبل من أحدهما وهو هابيل ، ولم يتقبل من الآخر وهو قابيل.

أي : فتقبل القربان ، وكانت علامة التقبل أكل النار النازلة من السماء القربان المتقبل ، وترك غير المتقبل.
وقال مجاهد : كانت النار تأكل المردود ، وترفع المقبول إلى السماء.
وقال الزمخشري : يقال : قرب صدقة وتقرب بها ، لأن تقرب مطاوع قرب انتهى.
وليس تقرّب بصدقة مطاوع قرب صدقة ، لاتحاد فاعل الفعلين ، والمطاوعة يختلف فيها الفاعل ، فيكون من أحدهما فعل ، ومن الآخر انفعال نحو : كسرته فانكسر ، وفلقته فانفلق ، وليس قربت صدقة وتقربت بها من هذا الباب فهو غلط فاحش.
{ قال لأقتلنك } هذا وعيد وتهديد شديد ، وقد أبرز هذا الخبر مؤكداً بالقسم المحذوف أي : لأقتلنك حسداً على تقبل قربانك ، وعلى فوزك باستحقاق الجميلة أختي.
وقرأ زيد بن علي : لأقتلنك بالنون الخفيفة.
{ قال إنما يتقبل الله من المتقين } قال ابن عطية : قبله كلام محذوف تقديره : لم تقتلني وأنا لم أجن شيئاً ولا ذنب لي في قبول الله قرباني؟ أما أني أتقيه؟ وكتب علي : لأحب الخلق إنما يتقبل الله من المتقين ، وخطب الزمخشري هنا فقال : ( فإن قلت ) : كيف كان قوله : إنما يتقبل الله من المتقين ، جواباً لقوله : لأقتلنك؟ ( قلت ) : لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له : إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى ، لا من قبلي ، فلم تقتلني؟ وما لك لا تعاقب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول ، فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان.
وفيه دليل على أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق ، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم.
وعن عامر بن عبد الله : أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له : ما يبكيك فقد كنت وكنت : قال : إني أسمع الله يقول : { إنما يتقبل الله من المتقين } انتهى كلامه.
ولم يخل من دسيسة الاعتزال على عادته ، يحتاج الكلام في فهمه إلى هذه التقديرات ، والذي قدرناه أولاً كاف وهو : أنّ المعنى لأقتلنك حسداً على تقبل قربانك ، فعرض له بأن سبب قبول القربان هو التقوى وليس متقياً ، وإنما عرض له بذلك لأنه لم يرض بسنة النكاح التي قرّرها الله تعالى ، وقصد خلافها ونازع ، ثم كانت نتيجة ذلك أن برزت في أكبر الكبائر بعد الشرك وهو قتل النفس التي حرمها الله.
قال ابن عطية : وأجمع أهل السنة في معنى هذه الألفاظ أنها اتقاء الشرك ، فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة.
وقال عدي بن ثابت وغيره : قربان هذه الأمة الصلاة.
وقول من زعم أن قوله : إنما يتقبل الله من المتقين ، ليس من كلام المقتول ، بل هو من كلام الله تعالى للرسول اعتراضاً بين كلام القاتل والمقتول ، والضمير عائد في قال على الله ليس بظاهر.

{ لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك } قال ابن عباس : المعنى ما أنا بمنتصر لنفسي.
وقال عكرمة : المعنى ما كنت لأبتدئك بالقتل.
وقال مجاهد والحسن : لم يكن الدفع عن النفس في ذلك الوقت جائزاً.
وقال عبد الله بن عمرو وابن عباس والجمهور : كان هابيل أشد قوّة من قابيل ، ولكنه تحرج من القتل ، وهذا يدل على أن القاتل ليس بكافر وإنما هو عاص ، إذ لو كان كافراً لما تحرّج هابيل من قتله ، وإنما استسلم له كما استسلم عثمان بن عفان.
وقيل : إنما ترك الدفع عن نفسه لأنه ظهرت له مخيلة انقضاء عمره فبنى عليها ، أو بإخبار أبيه ، وكما جرى لعثمان إذ بشره الرسول بالجنة على بلوى تصيبه ، ورآه في اليوم الذي قتل في النوم وهو يقول : »إنك تفطر الليلة عندنا« فترك الدفع عن نفسه حتى قتل ، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الق على وجهك وكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل ".
وقيل : إنّ هابيل لاحت له أمارات غلبة الظن من قابيل على قتله ، ولكن لم يتحقق ذلك ، فذكر له هذا الكلام قبل الإقدام على القتل ليزدجر عنه وتقبيحاً لهذا الفعل ، ولهذا يروى أنّ قابيل صبر حتى نام هابيل فضرب رأسه بحجر كبير فقتله.
وقال ابن جرير : ليس في الآية دليل على أنّ المقتول علم عزم القاتل على قتله ، ثم ترك الدفع عن نفسه.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : لم جاء الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل ، وهو قوله : لئن بسطت ما أنا بباسط ، ( قلت ) : ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع ، ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفي انتهى.
وأورد أبو عبد الله الرازي هذا السؤال والجواب ولم ينسبه للزمخشري ، وهو كلام فيه انتقاد.
وذلك أن قوله : ما أنا بباسط ، ليس جزاء بل هو جواب للقسم المحذوف قبل اللام في لئن المؤذنة بالقسم والموطئة للجواب ، لا للشرط.
وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، ولو كان جواباً للشرط لكان بالفاء ، فإنه إذا كان جواب الشرط منفياً بما فلا بد من الفاء كقوله : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } ما كان حجتهم إلا أن قالوا : ولو كان أيضاً جواباً للشرط للزم من ذلك خرم القاعدة النحوية من أنه إذا تقدم القسم على الشرط فالجواب للقسم لا للشرط.
وقد خالف الزمخشري كلامه هذا بما ذكره في البقرة في قوله : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } فقال : ما تبعوا جواب القسم المحذوف سد مسد جواب الشرط ، وتكلمنا معه هناك فينظر.
{ إني أخاف الله رب العالمين } هذا ذكر لعلة الامتناع في بسط يده إليه للقتل ، وفيه تنبيه على أن القاتل لا يخاف الله.

{ إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار } ذهب قوم إلى أنّ الإرادة هنا مجاز لا محبة إيثار شهوة ، وإنما هي تخيير في شرين كما تقول العرب : في الشر خيار ، والمعنى : إنْ قتلتني وسبق بذلك قدر ، فاختياري أن أكون مظلوماً ينتصر الله لي في الآخرة.
وذهب قوم إلى أنّ الإرادة هنا حقيقة لا مجاز ، لا يقال : كيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه بالنار ، لأن جزاء الظالم حسن أن يراد ، وإذا جاز أن يريده الله تعالى جاز أن يريده العبد لأنه لا يريد إلا ما هو حسن قاله الزمخشري ، وفيه دسيسة الاعتزال.
وقال ابن كيسان : إنما وقعت الإرادة بعد ما بسط يده للقتل وهو مستقبح ، فصار بذلك كافراً لأن من استحل ما حرم الله فقد كفر ، والكافر يريد أن يراد به الشر.
وقيل : المعنى أنه لما قال : لأقتلنك استوجب النار بما تقدم في علم الله ، وعلى المؤمن أن يريد ما أراد الله ، وظاهر الآية أنهما آثمان.
قال ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن وقتادة : تحمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي ، فحذف المضاف ، هذا قول عامة المفسرين.
وقال الزجاج : بإثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك ، وهو راجع في المعنى إلى ما قبله.
وقيل : المعنى بإثمي إنْ لو قاتلتك وقتلتك ، وإثم نفسك في قتالي وقتلي ، وهذا هو الإثم الذي يقتضيه قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار ».
قيل : يا رسول الله هذا القاتل ، فما بال المقتول؟ قال : « إنه كان حريصاً على قتل صاحبه » فكأنّ هابيل أراد أني لست بحريص على قتلك ، فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصاً على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي.
قال الزمخشري ( فإن قلت ) : كيف يحتمل إثم قتله له { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ( قلت ) : المراد بمثل إثمي على الاتساع في الكلام كما تقول : قرأت قراءة فلان ، وكتبت كتابته ، تريد المثل وهو اتساع فاش مستفيض لا يكاد يستعمل غيره.
( فإن قلت ) : فحين كف هابيل عن قتل أخيه واستسلم وتحرج عما كان محظوراً في شريعته من الدفع ، فأين الإثم حتى يتحمل أخوه مثله ، فيجتمع عليه الإثمان؟ ( قلت ) : هو مقدّر فهو يتحمل مثل الإثم المقدر ، كأنه قال : إني أريد أن تبوء بمثل إثمي لو بسطت إليك يدي انتهى.
وقيل : بإثمي ، الذي يختص بي فيما فرط لي ، أي : يؤخذ من سيئآتي فتطرح عليك بسبب ظلمك لي ، وتبوء بإثمك في قتلي.
ويعضد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : « يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة فيؤخذ من حسنات الظالم فيزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف ، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه »

وتلخص من قوله بإثمي وإثمك وجهان : أحدهما : بإثمي اللاحق لي ، أي : بمثل إثمي اللاحق لي على تقدير وقوع قتلي لك ، وإثمك اللاحق لك بسبب قتلي.
الثاني : بإثمي اللاحق لك بسبب قتلي ، وأضافه إليه لما كان سبباً له ، وإثمك اللاحق لك قبل قتلي.
وهذان الوجهان على إثبات الإرادة المجازية والحقيقية.
وقيل المعنى على النفي ، التقدير : إني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك كقوله : { رواسي أن تميد بكم } أي أن لا تميد ، وأن تضلوا أي : لا تضلوا ، فحذف لا.
وهذا التأويل فرار من إثبات إرادة الشرّ لأخيه المؤمن ، وضعف القرطبي هذا الوجه بقول صلى الله عليه وسلم : « لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ، لأنه أول من سن القتل » فثبت بهذا أنّ إثم القاتل حاصل انتهى.
ولا يضعف هذا القول بما ذكره القرطبي ، لأن قائل هذا لا يلزم من نفي إرادته القتل أن لا يقع القتل ، بل قد لا يريده ويقع.
ونصر تأويل النفي الماوردي وقال : إن القتل قبيح ، وإرادة القبيح قبيحة ، ومن الأنبياء أقبح.
ويؤيد هذا التأويل قراءة من قرأ إني أريد ، أي كيف أريد؟ ومعناه استبعاد الإرادة ولهذا قال ، بعض المفسرين : إنّ هذا الإستفهام على جهة الإنكار ، أي : أني ، فحذف الهمزة لدلالة المعنى عليه ، لأن إرادة القتل معصية حكاه القشيري انتهى.
وهذا كله خروج عن ظاهر اللفظ لغير ضرورة وقد تقدم إيضاح الإرادة ، وجواز ورودها هنا ، واستدل بقوله : فتكون من أصحاب النار ، على أنّ قابيل كان كافراً لأنّ هذا اللفظ إنما ورد في القرآن في الكفار ، وعلى هذا القول ففيه دليل على أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، ولا يقوي هذا الاستدلال لأنّه يكنى عن المقام في النار مدة بالصحبة.
{ وذلك جزاء الظالمين } أي وكينونتك من أصحاب النار جزاؤك ، لأنك ظالم في قتلي.
ونبه بقوله : الظالمين ، على السبب الموجب للقتل ، وأنه قتل بظلم لا بحق.
والظاهر أنه من كلام هابيل نبهه على العلة ليرتدع.
وقيل : هو من كلام الله تعالى ، لا حكاية كلام هابيل ، بل إخبار منه تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم.
{ فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله } قال ابن عباس : بعثته على قتله.
وقال أيضاً هو ومجاهد : شجعته.
وقال قتادة : زينت له.
وقال الأخفش : رخصت.
وقال المبرد : من الطوع ، والعرب تقول : طاع له كذا أي أتاه طوعاً.
وقال ابن قتيبة : تابعته وانقادت له.
وقال الزمخشري : وسعته له ويسرته ، من طاع له المرتع إذا اتسع.
وهذه أقوال متقاربة في المعنى ، وهو فعل من الطوع وهو الانقياد ، كأن القتل كان ممتنعاً عليه متعاصياً.
وأصله : طاع له قتل أخيه أي انقاد له وسهل ، ثم عدى بالتضعيف فصار الفاعل مفعولاً والمعنى : أنّ القتل في نفسه مستصعب عظيم على النفوس ، فردّته هذه النفس اللحوح الأمارة بالسوء طائعاً منقاداً حتى أوقعه صاحب هذه النفس.

وقرأ الحسن وزيد بن علي والجراح ، والحسن بن عمران ، وأبو واقد : فطاوعته ، فيكون فاعل فيه الاشتراك نحو : ضاربت زيداً ، كان القتل يدعوه بسبب الحسد إصابة قابيل ، أو كان النفس تأبى ذلك ويصعب عليها ، وكل منهما يريد أن يطيعه الآخر ، إلى أن تفاقم الأمر وطاوعت النفس القتل فوافقته.
وقال الزمخشري : فيه وجهان : أن يكون مما جاء من فاعل بمعنى فعل ، وأن يراد أن قتل أخيه ، كأنه دعا نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع ، وله لزيادة الربط كقولك : حفظت لزيد ماله انتهى.
فأما الوجه الثاني فهو موافق لما ذكرناه ، وأما الوجه الأول فقد ذكر سيبويه : ضاعفت وضعفت مثل : ناعمت ونعمت.
وقال : فجاءوا به على مثال عاقبته ، وقال : وقد يجيء فاعلت لا يريد بها عمل اثنين ، ولكنهم بنوا عليه الفعل كما بنوه على أفعلت ، وذكر أمثلة منها عافاه الله.
وهذا المعنى وهو أنّ فاعل بمعنى فعل ، أغفله بعض المصنفين من أصحابنا في التصريف : كابن عصفور ، وابن مالك ، وناهيك بهما جمعاً واطلاعاً ، فلم يذكر أنّ فاعل يجيء بمعنى فعل ، ولا فعل بمعنى فاعل.
وقوله : وله لزيادة الربط ، يعني : في قوله فطوعت له نفسه ، يعني : أنه لو جاء فطوعت نفسه قتل أخيه لكان كلاماً تاماً جارياً على كلام العرب ، وإنما جيء به على سبيل زيادة الربط للكلام ، إذ الربط يحصل بدونه.
كما إنك لو قلت : حفظت مال زيد كان كلاماً تاماً فقتله ، أخبر تعالى أنه قتله وتكلم المفسرون في أشياء من كيفيته ، ومكان قتله ، وعمره حين قتل ، ولهم في ذلك اختلاف ، ولم تتعرض الآية لشيء من ذلك.
{ فأصبح من الخاسرين } أصبح : بمعنى صار.
وقال ابن عطية : أقيم بعض الزمان مقام كله ، وخص الصباح بذلك لأنه بدء النهار والانبعاث إلى الأمور ومظنة النشاط ، ومنه قول الربيع : أصبحت لا أحمل السلاح ولا.
وقول سعد : ثم أصبحت بنو سعد تعززني على الإسلام ، إلى غير ذلك من استعمال العرب لما ذكرناه انتهى.
وهذا الذي ذكره من تعليل كون أصبح عبارة عن جميع أوقاته ، وأقيم بعض الزمان مقام كله بكون الصباح خص بذلك لأنه بدء النهار ، ليس بجيد.
ألا ترى أنهم جعلوا أضحى وظل وأمسى وبات بمعنى صار ، وليس منها شيء بدء النهار؟ فكما جرت هذه مجرى صار كذلك أصبح لا للعلة التي ذكرها ابن عطية.
قال ابن عباس : خسر في الدنيا بإسخاط والديه وبقائه بغير أخ ، وفي الآخرة بإسخاط ربه وصيرويته إلى النار.
وقال الزجاج : من الخاسرين للحسنات.
وقال القاضي أبو يعلى : من الخاسرين أنفسهم بإهلاكهم إياها.

وقال مجاهد : خسرانه أن علقت إحدى رجلي القاتل لساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة ، ووجهه إلى الشمس حيث ما دارت عليه في الصيف حظيرة من نار وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج.
قال القرطبي : ولعلّ هذا يكون عقوبته على القول بأنه عاص لا كافر ، فيكون خسرانه في الدنيا.
وقيل : من الخاسرين باسوداد وجهه ، وكفره باستحلاله ما حرم من قتل أخيه ، وفي الآخرة بعذاب النار.
وثبت في الحديث : « ما قتلت نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها ، وذلك لأنه أول من سن القتل ».
وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال : إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة في العذاب عليه شطر عذابهم.
{ فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه } روي أنه أول قتيل قتل على وجه الأرض ، ولما قتله تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به ، فخاف السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح ، وعكفت عليه السباع ، فبعث الله غرابين فاقتتلا ، فقتل أحدهما الآخر ، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة فقال : يا ويلتي أعجزت.
وقيل : حمله مائة سنة.
وقيل : طلب في ثاني يوم إخفاء قتل أخيه فلم يدر ما يصنع.
وقيل : بعث الله غراباً إلى غراب ميت ، فجعل يبحث قي الأرض ويلقي التراب على الغراب الميت.
وقيل : بعث الله غراباً واحداً فجعل يبحث ويلقي التراب على هابيل.
وروي أنه أول ميت مات على وجه الأرض ، وكذلك جهل سنة المواراة.
والظاهر أنه غراب بعثه الله يبحث في الأرض ليرى قابيل كيف يواري سوءة هابيل ، فاستفاد قابيل ببحثه في الأرض أن يبحث هو في الأرض فيستر فيه أخاه ، والمراد بالسوءة هنا قيل : العورة ، وخصت بالذكر مع أنّ المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها ، ولأن سترها أوكد.
وقيل : جميع جيفته.
قيل : فإن الميت كله عورة ، ولذلك كفن بالأكفان.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد بالسوءة هذه الحالة التي تسوء الناظر بمجموعها ، وأضيفت إلى المقتول من حيث نزلت به النازلة ، لا على جهة الغض منه ، بل الغض لاحق للقاتل وهو الذي أتى بالسوءة انتهى.
والسوءة الفضيحة لقبحها قال الشاعر :
يا لقومي للسوءة السوآء . . .
أي للفضيحة العظيمة.
قالوا : ويحتمل إن صح أنه قتل غراب غراباً أو كان ميتاً ، أن يكون الضمير في أخيه عائداً على الغراب ، أي : ليرى قابيل كيف يواري الغراب سوءة أخيه وهو الغراب الميت ، فيتعلم منه بالأداة كيف يواري قابيل سوءة هابيل ، وهذا فيه بعد.
لأن الغراب لا تظهر له سوءة ، والظاهر أنّ الإرادة هنا من جعله يرى أي : يبصر ، وعلق ليريه عن المفعول الثاني بالجملة التي فيها الاستفهام في موضع المفعول الثاني ، وكيف معمولة ليواري.

وليريه متعلق بيبحث.
ويجوز أن يتعلق بقوله : فبعث ، وضمير الفاعل في ليريه الظاهر أنه عائد على الله تعالى ، لأن الإراءة حقيقة هي من الله ، إذ ليس للغراب قصد الإراءة وإرادتها.
ويجوز أن يعود على الغراب أي : ليريه الغراب ، أي : ليعلمه لأنه لما كان سبب تعليمه فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز ، ويظهر أن الحكمة في أن كان هذا المبعوث غراباً دون غيره من الحيوان ومن الطيور كونه يتشاءم به في الفراق والاغتراب ، وذلك مناسب لهذه القصة.
وقيل : فبعث جملة محذوفة دل عليها المعنى تقديره : فجهل مواراته فبعث.
{ قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي } استقصر إدراكه وعقله في جهله ما يصنع بأخيه حتى يعلم ، وهو ذو العقل المركب فيه الفكر والرؤية والتدبير من طائر لا يعقل.
ومعنى هذا الاستفهام : الإنكار على نفسه ، والنعي أي : لا أعجز عن كوني مثل هذا الغرب ، وفي ذلك هضم لنفسه واستصغار لها بقوله : مثل هذا الغراب.
وأصل النداء أن يكون لمن يعقل ، ثم قد ينادي ما لا يعقل على سبيل المجاز كقولهم : يا عجباً ويا حسرة ، والمراد بذلك التعجب.
كأنه قال : انظروا لهذا العجب ولهذه الحسرة ، فالمعنى : تنبهوا لهذه الهلكة.
وتأويله هذا أوانك فاحصري.
وقرأ الجمهور : يا ويلتا بألف بعد التاء ، وهي بدل من ياء المتكلم ، وأصله يا ويلتي بالياء ، وهي قراءة الحسن.
وأمال حمزة والكسائي وأبو عمر وألف ويلتي.
وقرأ الجمهور : أعجزت بفتح الجيم.
وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، وفياض ، وطلحة ، وسليمان : بكسرها وهي لغة شاذة ، وإنما مشهور الكسر في قولهم : عجزت المرأة إذا كبرت عجيزتها.
وقرأ الجمهور : فأواريَ بنصب الياء عطفاً على قوله : أن أكون.
كأنه قال : أعجزتُ أن أواريَ سوءة أخي.
وقال الزمخشري : فأواري بالنصب على جواب الاستفهام انتهى.
وهذا خطأ فاحش ، لأن الفاء الواقعة جواباً للاستفهام تنعقد من الجملة الاستفهامية والجواب شرط وجزاء ، وهنا تقول : أتزورني فأكرمك ، والمعنى : إن تزرني أكرمك.
وقال تعالى : { فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا } أي إن يكن لنا شفعاء يشفعوا.
ولو قلت هنا : إن أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أوارِ سوءة أخي لم يصح ، لأن المواراة لا تترتب على عجزه عن كونه مثل الغراب.
وقرأ طلحة بن مصرف ، والفياض بن غزوان : فأواريْ بسكون الياء ، فالأولى أن يكون على القطع أي : فأنا أواري سوءة أخي ، فيكون أواري مرفوعاً.
وقال الزمخشري : وقرىء بالسكون على فأنا أواري ، أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف انتهى.
يعني : الزمخشري : وقرىء بالسكون على فأنا أواري ، أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف انتهى.
يعني : أنه حذف الحركة وهي الفتحة تخفيفاً استثقلها على حرف العلة.
وقال ابن عطية : هي لغة لتوالي الحركات انتهى.
ولا ينبغي أن يخرج على النصب ، لأن نصب مثل هذا هو بظهور الفتحة ، ولا تستثقل الفتحة فتحذف تخفيفاً كما أشار إليه الزمخشري ، ولا ذلك لغة كما زعم ابن عطية ، ولا يصلح التعليل بتوالي الحركات ، لأنه لم يتوال فيه الحركات.

وهذا عند النحويين أعني النصب بحذف الفتحة ، لا يجوز إلا في الضرورة ، فلا تحمل القراءة عليها إذا وجد حملها على جه صحيح ، وقد وجد وهو الاستئناف أي : فأنا أواري.
وقرأ الزهري : سوة أخي بحذف الهمزة ، ونقل حركتها إلى الواو.
ولا يجوز قلب الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، لأن الحركة عارضة كهي في سمول وجعل.
وقرأ أبو حفص : سوة بقلب الهمزة واواً ، وأدغم الواو فيه ، كما قالوا في شيء شي ، وفي سيئة سية.
قال الشاعر :
وإن رأوا سية طاروا بها فرحاً . . .
مني وما علموا من صالح دفنوا
{ فأصبح من النادمين } قيل : هذه جملة محذوفة تقديره : فوارى سوءة أخيه.
والظاهر أن ندمه كان على قتل أخيه لما لحقه من عصيان وإسخاط أبويه ، وتبشيره أنه من أصحاب النار.
وهذا يدل على أنه كان عاصياً لا كافراً.
قيل : ولم ينفعه ندمه ، لأن كون الندم توبة خاص بهذه الأمة.
وقيل : من النادمين على حمله.
وقيل : من النادمين خوف الفضيحة.
وقال الزمخشري : من النادمين على قتله لما تعب من حمله ، وتحيره في أمر ، وتبين له من عجزه وتلمذته للغراب ، واسوداد لونه ، وسخط أبيه ، ولم يندم ندم التائبين انتهى.
وقد اختلف العلماء في قابيل ، أكان كافراً أم عاصياً؟ وفي الحديث : « إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلاً فخذوا من خيرها ودعوا شرها » وحكى المفسرون عجائب مما جرى بقتل هابيل من رجفان الأرض سبعة أيام ، وشرب الأرض دمه ، وإيسال الشجر ، وتغير الأطعمة ، وحموضة الفواكه ، ومرارة الماء ، واغبرار الأرض ، وهرب قابيل بأخته إقليميا إلى عدن من أرض اليمن ، وعبادته النار ، وانهماك أولاده في اتخاذ آلات اللهو وشرب الخمر والزنا والفواحش حتى أغرقهم الله بالطوفان ، والله أعلم بصحة ذلك.
قال الزمخشري.
وروي أن آدم مكث بعد قتله مائة سنةلا يضحك ، وأنه رثاه بشعر.
وهو كذب بحت ، وما الشعر إلا منحول ملحون.
وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر.
وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس أنه قال : من قال إنّ آدم قال شعراً فهو كذب ، ورمى ردم بما لا يليق بالنبوّة ، لأن محمداً والأنبياء عليهم السلام ، كلهم في النفي عن الشعر سواء.
قال الله تعالى : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } ولكنه كان ينوح عليه ، وهو أول شهيد كان على وجه الأرض ويصف حزنه عليه نثراً من الكلام شبه المرثية ، فتناسخته القرون وحفظوا كلامه ، فلما وصل إلى يعرب بن قحطان وهو أول من خط بالعربية فنظمه فقال :

تغيرت البلاد ومن عليها . . .
فوجه الأرض مغبر قبيح
وذكر بعد هذا البيت ستة أبيات ، وأنّ إبليس أجابه في الوزن والقافية بخمسة أبيات.
وقول الزمخشري في الشعر : إنه ملحون ، يسير فيه إلى البيت وهو الثاني :
تغير كل ذي لون وطعم . . .
وقل بشاشة الوجه المليح
يرويه بشاشة الوجه المليح على الاقواء ، ويروى بنصب بشاشة من غير تنوين ، ورفع الوجه المليح.
وليس بلحن ، قد خرجوه على حذف التنوين من بشاشة ، ونصبه على التمييز ، وحذف التنوين لالتقاء الألف واللام.
قد جاء في كلامهم قرىء : { أحد الله الصمد } وروي ولا ذاكر الله بحذف التنوين { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً } الجمهور على أنّ من أجل ذلك متعلق بقوله : كتبنا.
وقال قوم بقوله : من النادمين ، أي ندم من أجل ما وقع.
ويقال : أجل الأمر أجلاً وآجلاً إذا اجتناه وحده.
قال زهير :
وأهل خباء صالح ذات بينهم . . .
قد احتربوا في عاجل أنا آجله
أي جانبه ، ونسب هذا البيت ابن عطية إلى جواب ، وهو في ديوان زهير.
والمعنى : بسبب ذلك.
وإذا قلت : فعلت ذلك من أجلك ، أردت أنك جنيت ذلك وأوجبته.
ومعناه ومعنى من جراك واحد أي : من جريرتك.
وذلك إشارة إلى القتل أي : من جني ذلك القتل كتبنا على بني إسرائيل.
ومن لابتداء الغاية أي : ابتداء الكتب ، ونشأ من أجل القتل ، ويدخل على أجل اللام لدخول من ، ويجوز حذف حرف الجر واتصال الفعل إليه بشرطه في المفعول له.
ويقال : فعلت ذلك من أجلك ولأجلك ، وتفتح الهمزة أو تكسر.
وقرأ ابن القعقاع : بكسرها وحذفها ونقل حركتها إلى الساكن قبلها ، كما قرأ ورش بحذفها وفتحها ونقل الحركة إلى النون.
ومعنى كتبنا أي : كتب بأمرنا في كتب منزلة عليهم تضمنت فرض ذلك ، وخص بنو إسرائيل بالذكر ، وإن كان قبلهم أمم حرم عليهم قتل النفس وكان القصاص فيهم ، لأنهم على ما روي أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل النفس ، وغلظ الأمر عليهم بحسب طغيانهم وسفكهم الدماء ، ولتظهر مذمتهم في أنْ كتب عليهم هذا ، وهم مع ذلك لا يرعوون ولا يفقهون ، بل هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم ظلماً.
ومعنى بغير نفس : أي بغير قتل نفس فيستحق القتل.
وقد حرّم الله نفس المؤمن إلا بإحدى موجبات قتله.
وقوله : أو فساد ، هو معطوف على نفس أي : وبغير فساد ، والفساد قيل : الشرك بالله.
وقيل : قطع الطريق ، وقطع الأشجار ، وقتل الدواب إلا لضرورة ، وحرق الزرع وما يجري مجراه ، وهو الفساد المشار إليه بعد هذه الآية.
وقال ابن عطية : لم يتخلص التشبيه إلى طرفي شيء من هذه الأقوال ، والذي أقول : إنّ التشبيه بين قاتل النفس وقاتل الكل لا يطرد من جميع الجهات ، لكن الشبه قد يحصل من ثلاث جهات.

إحداها : القود فإنه واحد.
والثانية : الوعيد ، فقد وعد الله قاتل النفس بالخلود في النار ، وتلك غاية العذاب.
فإن ترقبناه يخرج من النار بعد ذلك بسبب التوحيد ، فكذلك قاتل الجميع أن لو اتفق ذلك.
والثالثة : انتهاك الحرمة فإن نفساً واحدة في ذلك وجميع الأنفس سواء ، والمنتهك في واحدة ملحوظ بعين منتهك الجميع.
ومثال ذلك رجلان حلفا على شجرتين أن لا يطعما من ثمرتيهما شيئاً ، فطعم أحدهما واحدة من ثمرة شجرته ، وطعم الآخر ثم شجرتيه كله ، فقد استويا في الحنث انتهى.
وقال غيره : قيل المشابهة في الإثم ، والمعنى : أن عليه إثم من قتل الناس جميعاً قاله : الحسن والزجاج.
وقيل : التشبيه في العذاب ومعناه أنه يصلى النار بقتل المسلم ، كما لو قال قتل الناس قاله : مجاهد وعطاء ، وهذا فيه نظر.
لأن العذاب يخفف ويثقل بحسب الجرائم.
وقيل : التشبيه من حيث القصاص قاله : ابن زيد.
وتقدم.
وقيل : التشبيه من جهة الإنكار على قبح الفعل والمعنى : أنه ينبغي لجميع الناس أن يعينوا وليّ المقتول حتى يقيدوه منه ، كما لو قتل أولياءهم جميعاً ذكره : القاضي أبو يعلى.
وهذا الأمر كان مختصاً ببني إسرائيل ، غلظ عليهم كما غلظ عليهم بقتل أنفسهم.
قاله بعض العلماء.
وقال قوم : هذا عام فيهم وفي غيرهم.
قال سليمان بن عليّ : قلت : للحسن يا أبا سعيد هي لنا كما كانت لبني إسرائيل؟ قال : أي والذي لا إله غيره ، ما كان دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا.
وقيل في قوله : ومن أحياها أي : استنقذها من الهلكة.
قال عبد الله ، والحسن ، ومجاهد أي من غرق أو حرق أو هلاك.
وقيل من عضد نبياً أو إماماً عادلاً ، لأن نفعه عائد على الناس جميعاً.
وقيل : من ترك قتل النفس المحرمة فكأنما أحيا الناس بكفه أذاه عنهم.
وقيل : من زجر عن قتل النفس ونهى عنه.
وقيل : من أعان على استيفاء القصاص لأنه قال : { ولكم في الحياة قصاص } قال الحسن : وأعظم إحيائها أن يحييها من كفرها ، ودليه : { أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً } انتهى والإحياء هنا مجاز ، لأنّ الإحياء حقيقة هو لله تعالى ، وإنما المعنى : ومن استسقاها ولم يتلفها ، ومثل هذا المجاز قول محاج ابراهيم : أنا أحيي سمي الترك إحياء.
{ ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون } أخبر تعالى أنّ الإسراف والفساد فيهم هذا مع مجيء الرسل بالبينات من الله ، وكان مقتضى مجيء رسل الله بالحجج الواضحة أن لا يقع منهم إسراف وهو المجاوزة في الحد ، فخالفوا هذا المقتضى.
والعامل في بعد ، والمتعلق به في الأرض خبر إن ، ولم تمنع لام الابتداء من العمل في ذلك وإن كان متقدماً ، لأنّ دخولها على الخبر ليس بحق التأصل ، والإشارة بذلك إلى مجيء الرسل بالبينات ، والمراد بالأرض أي : حيث ما حلوا أسرفوا.

وظاهر الإسراف أنه لا يتقيد.
وقيل لمسرفون أي : قاتلون بغير حق كقوله : { فلا يسرف في القتل } وقيل : هو طلبهم الكفاءة في الحسب حتى يقتل بواحد عدة من قتلتهم.
{ إن جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأر فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } قال أنس بن مالك ، وجرير بن عبد الله ، وعبد الله بن عمر ، وابن جبير ، وعروة : نزلت في عكل وعرينة وحديثه مشهور.
وقال ابن عباس فيما رواه عكرمة عنه : نزلت في المشركين ، وبه قال : الحسن وعطاء.
وقال ابن عباس في رواية والضحاك : نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين الرسول عهد فنقضوه ، وأفسدوا في الدّين.
وقيل : نزلت في قوم أبي بردة هلال بن عامر قتلوا قوماً مرّوا بهم من بني كنانة يريدون الإسلام ، وأخذوا أموالهم ، وكان بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أبي بردة موادعة أن لا يعين عليه ، ولا يهيج من أتاه مسلماً ففعل ذلك قومه ولم يكن حاضراً ، والجمهور على أنّ هذه الآية ليست ناسخة ولا منسوخة.
وقيل : نسخت ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالعرنيين من المثلة ، ووقف الحكم على هذه الحدود.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، لما ذكر في الآية قبلها تغليظ الإثم في قتل النفس بغير نفس ولا فساد في الأرض ، أتبعه ببيان الفساد في الأرض الذي يوجب القتل ما هو ، فإن بعض ما يكون فساداً في الأرض لا يوجب القتل ، ولا خلاف بين أهل العلم أنّ حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام.
ومذهب مالك وجماعة : أن المحارب هو من حمل السلاح على الناس في مصر أو برية ، فكادهم عن أنفسهم وأموالهم دون ثائرة ، ولا دخل ولا عداوة.
ومذهب أبي حنيفة وجماعة : أن المحاربين هم قطاع الطريق خارج المصر ، وأمّا في المصر فيلزمه حدّ ما اجترح من قتل أو سرقة أو غصب ونحو ذلك ، وأدنى الحرابة إخافة الطريق ثم أخذ المال مع الإخافة ، ثم الجمع بين الإخافة وأخذ المال والقتل ومحاربة الله تعالى غير ممكنة ، فيحمل على حذف مضاف أي : محاربون أولياء الله ورسوله ، وإلا لزم أن يكون محاربة الله ورسوله جمعا بين الحقيقة والمجاز.
فإذا جعل ذلك على حذف مضاف ، أو حملاً على قدر مشترك اندفع ذلك ، وقول ابن عباس : المحاربة هنا الشرك ، وقول عروة : الارتداد ، غير صحيح عند الجمهور ، وقد أورد ما يبطل قولهما.
وفي قوله : يحاربون الله ورسوله ، تغليظ شديد لأمر فساداً لأمر الحرابة ، والسعي في الأرض فساداً يحتمل أن يكون المعنى بمحاربتهم ، أو يضيفون فساداً إلى المحاربة.

وانتصب فساداً على أنه مفعول له ، أو مصدر في موضع الحال ، أو مصدر من معنى يسعون في الأرض معناه : يفسدون ، لمّا كان السعي للفساد جعل فساداً.
أي : إفساداً.
والظاهر في قوله : العقوبات الأربع أن الإمام مخير بين إيقاع ما شاء منها بالمحارب في أي رتبة كان المحارب من الرتب على قدّمناها ، وبه قال : النخعي ، والحسن ، في رواية وابن المسيب ، ومجاهد ، وعطاء ، وهو : مذهب مالك ، وجماعة.
وقال مالك : استحسن أن يأخذ في الذي لم يقتل بأيسر العقاب ، ولا سيما : أن لم يكن ذا شرور معروفة ، وأما إن قتل فلا بد من قتله.
وقال ابن عباس ، وأبو مجلز ، وقتادة ، والحسن أيضاً وجماعة : لكل رتبة من الحرابة رتبة من العقاب ، فمن قتل قتل ، ومن أخذ المال ولم يقتل فالقطع من خلاف ، ومن أخاف فقط فالنفي ، ومن جمعها قتل وصلب.
والقائلون بهذا الترتيب اختلفوا ، فقال : أبو حنيفة ، ومحمد ، والشافعي ، وجماعة ، وروي عن مالك : يصلب حياً ويطعن حتى يموت.
وقال جماعة : يقتل ثم يصلب نكالاً لغيره ، وهو قول الشافعي.
والقتل إما ضرباً بالسيف للعنق ، وقيل : ضرباً بالسيف أو طعناً بالرمح أو الخنجر ، ولا يشترط في قتله مكافأة لمن قتل.
وقال الشافعي : تعتبر فيه المكافأة في القصاص.
ومدة الصلب يوم أو ثلاثة أيام ، أو حتى يسيل صديده ، أو مقدار ما يستبين صلبه.
وأما القطع فاليد اليمنى من الرسغ ، والرجل الشمال من المفصل.
وروي عن علي : أنه من الأصابع ويبقى الكف ، ومن نصف القدم ويبقى العقب.
وهذا خلاف الظاهر ، لأن الأصابع لا تسمى يداً ، ونصف الرجل لا يسمى رجلاً.
وقال مالك : قليل المال وكثيرة سواء ، فيقطع المحارب إذا أخذه.
وقال أصحاب الرأي والشافعي لا يقطع إلا من أخذ ما يقطع فيه السارق.
وأما النفي فقال السدي : هو أن يطالب أبداً بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حد الله ويخرج من دار الإسلام.
وروي عن ابن عباس وأنس : نفيه أن يطلب ، وروي ذلك عن الليث ومالك ، إلا أن مالكاً قال : لا يضطر مسلم إلى دخول دار الشرك.
وقال ابن جبير ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والزهري ، والضحاك : النفي من دار الإسلام إلى دار الشرك.
وقال عمر بن عبد العزيز وجماعة : ينفى من بلد إلى غيره مما هو قاص بعيد.
وقال أبو الزناد : كان النفي قديماً إلى دهلك وناصع ، وهما من أقصى اليمن.
وقال الزمخشري : دهلك في أقصى تهامة ، وناصع من بلاد الحبشة.
وقال أبو حنيفة : النفي السجن ، وذلك إخراجه من الأرض.
قال الشاعر : قال ذلك وهو مسجون :
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها . . .
فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة . . .
عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
وتعجبنا الرؤيا بحل حديثنا . . .
إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا

والظاهر أن نفيه من الأرض هو إخراجه من الأرض التي حارب فيها إن كانت الألف واللام للعهد فينفى من ذلك العمل ، وإن كانت للجنس فلا يزال يطلب ويزعج وهو هارب ، فزع إلى أن يلحق بغير عمل الإسلام.
وصريح مذهب مالك أنه إذا كان مخوف الجانب غرب وسجن حيث غرّب ، والتشديد في أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع قراءة الجمهور ، وهو للتكثير بالنسبة إلى الذين يوقع بهم الفعل ، والتخفيف في ثلاثتها قراءة الحسن ومجاهد وابن محيصن.
{ ذلك لهم خزي في الدنيا } أي ذلك الجزاء من القطع والقتل والصلب والنفي.
والخزي هنا الهوان والذل والافتضاح.
والخزي الحياء عبر به عن الافتضاح لما كان سبباً له افتضح فاستحيا.
{ ولهم في الآخرة عذاب عظيم } ظاهره أن معصية الحرابة مخالفة للمعاصي غيرها ، إذ جمع فيها بين العقاب في الدنيا والعقاب في الآخرة تغليظاً لذنب الحرابة ، وهو مخالف لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة « فمن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له » ويحتمل أن يكون ذلك على حسب التوزيع ، فيكون الخزي في الدنيا إن عوقب ، والعقاب في الآخرة إنْ سلم في الدنيا من العقاب ، فتجري معصية الحرابة مجرى سائر المعاصي.
وهذا الوعيد كغيره مقيد بالمشيئة ، وله تعالى أن يغفر هذا الذنب ، ولكنْ في الوعيد خوف على المتوعد عليه نفاذ الوعيد.
{ إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } ظاهره أنه استثناء من المعاقبين عقاب قاطع الطريق ، فإذا تابوا قبل القدرة على أخذهم سقط عنهم ما ترتب على الحرابة ، وهذا فعل عليّ رضي الله عنه بحارثة بن بدر العراني فإنه كان محارباً ثم تاب قبل القدرة عليه ، فكتب له سقوط الأموال والدم عنه كتاباً منشوراً.
وقالوا : لا نظر للإمام فيه إلا كما ينظر في سائر المسلمين ، فإن طولب بدم نظر فيه أو قيد منه بطلب الولي ، وإنْ طولب بمال فمذهب مالك والشافعي وأصحاب الرأي : يؤخذ ما وجد عنده من مال غيره ، ويطالب بقيمة ما استهلك.
وقال قوم من الصحابة والتابعين : لا يطالب بما استهلك ، ويؤخذ ما وجد عنده بعينه.
وحكى الطبري عن عروة : أنه لا تقبل توبة المحارب ، ولكن لو فر إلى العدوّ ثم جاءنا تائباً لم أر عليه عقوبة.
قال الطبري : ولا أدري هل أراد ارتد أم لا؟ وقال الأوزاعي نحوه ، إلا أنه قال : إذا لحق بدار الحرب فارتد عن الإسلام ، أو بقي عليه ، ثم جاءنا تائباً من قبل أن نقدر عليه قبلت توبته.
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون } مناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه تعالى لما ذكر جزاء من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً من العقوبات الأربع ، والعذاب العظيم المعد لهم في الآخرة ، أمر المؤمنين بتقوى الله ، وابتغاء القربات إليه ، فإن ذلك هو المنجي من المحاربة والعقاب المعد للمحاربين.

ولما كانت الآية نزلت في العرنيين والكلبيين ، أو في أهل الكتاب اليهود ، أو في المشركين على الخلاف في سبب النزول ، وكل هؤلاء سعى في الأرض فساداً ، نص على الجهاد ، وإنْ كان مندرجاً تحت ابتغاء الوسيلة لأن به صلاح الأرض ، وبه قوام الدين ، وحفظ الشريعة ، فهو مغاير لأم المحاربة ، إذ الجهاد محاربة مأذون فيها ، وبالجهاد يدفع المحاربون.
وأيضاً ففيه تنبيه على أنه يجب أن تكون القوّة والبأس الذي للمحارب مقصوراً على الجهاد في سبيل الله تعالى ، وأن لا يضع تلك النجدة التي وهبها الله له للمحاربة في معصية الله تعالى ، وهل الوسيلة القربة التي ينبغي أن يطلب بها ، أو الحاجة ، أو الطاعة ، أو الجنة ، أو أفضل درجاتها ، أقوال للمفسرين.
وذكر رجاء الفلاح على تقدير حصول ما أمر به قبل من التقوى وابتغاء الوسيلة والجهاد في سبيله.
والفلاح اسم جامع للخلاص عن المكروه ، والفوز بالمرجوّ.
{ إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم } لما أرشد المؤمنين إلى معاقد الخير ومفاتح السعادة ، وذكر فوزهم في الآخرة وما آلوا من الفلاح ، شرح حال الكفار وعاقبه كفرهم ، وما أعد لهم من العذاب.
والجملة من لو وجوابها في موضع خبر إنّ ، ومعنى ما في الأرض : من صنوف الأموال التي يفتدى بها ، ومثله معطوف على اسم إن ، ولام كي تتعلق بما تعلق به خبر إن وهو لهم.
والمعنى : لو أنّ ما في الأرض ومثله معه مستقر لهم على سبيل الملك ليجعلوه فدية لهم ما تقبل ، وهذا على سبيل التمثيل ولزوم العذاب لهم ، وأنه لا سبيل إلى نجاتهم منه.
وفي الحديث « يقال للكافر : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول : نعم.
فيقال له : قد سئلت أيسر من ذلك » /ووجد الضمير في به ، وإن كان قد تقدم شيئان معطوف عليه ومعطوف ، وهو ما في الأرض ومثله معه ، إمّا لفرض تلازمهما فأجريا مجرى الواحد كما قالوا : رب يوم وليلة مرّ بي ، وإما لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة كأنه قال : ليفتدوا بذلك.
قال الزمخشري : ويجوز أن تكون الواو في : ومثله ، بمعنى مع ، فيوحد المرجوع إليه.
( فإن قلت ) : فبم ينتصب المفعول معه؟ ( قلت ) : بما تستدعيه لو من الفعل ، لأن لو ثبت أنّ لهم ما في الأرض انتهى.
وإنما يوحد الضمير لأن حكم ما قبل المفعول معه في الخبر ، والحال ، وعود الضمير متأخراً حكمة متقدماً ، تقول : الماء والخشبة استوى ، كما تقول : الماء استوى والخشبة وقد أجاز الأخفش في ذلك أن يعطي حكم المعطوف فتقول : الماء مع الخشبة استويا ، ومنع ذلك ابن كيسان.

وقول الزمخشري : تكون الواو في : ومثله ، بمعنى مع ليس بشيء ، لأنه يصير التقدير مع مثله معه ، أي : مع مثل ما في الأرض مع ما في الأرض ، إنْ جعلت الضمير في معه عائداً على مثله أي : مع مثله مع ذلك المثل ، فيكون المعنى مع مثلين.
فالتعبير عن هذا المعنى بتلك العبارة عيّ ، إذ الكلام المنتظم أن يكون التركيب إذا أريد ذلك المعنى مع مثليه.
وقول الزمخشري.
فإنْ قلت إلى آخر السؤال ، وهذا السؤال لا يردّ ، لأنّا قد بينا فساد أنْ تكون الواو واو مع ، وعلى تقدير وروده فهذا بناء منه على أنّ الواو إذا جاءت بعد لو كانت في موضع رفع على الفاعلية ، فيكون التقدير على هذا : لو ثبت كينونة ما في الأرض مع مثله لهم ليفتدوا به ، فيكون الضمير عائداً على ما فقط.
وهذا الذي ذكره هو تفريع منه على مذهب المبرد في أنّ أن بعد لو في موضع رفع على الفاعلية ، وهو مذهب مرجوح.
ومذهب سيبويه أنّ أنْ بعد لو في موضع رفع على الابتداء.
والزمخشري لا يظهر من كلامه في هذا الكتاب وفي تصانيفه أنه وقف على مذهب سيبويه في هذه المسألة ، وعلى التفريع على مذهب المبرد لا يصح أن يكون ومثله مفعولاً معه ، ويكون العامل فيه ما ذكر من الفعل ، وهو ثبت بوساطة الواو لما تقدم من وجود لفظ معه.
وعلى تقدير سقوطها لا يصح ، لأنّ ثبت ليست رافعة لما العائد عليها الضمير ، وإنما هي رافعة مصدراً منسبكاً من أن وما بعدها وهو كون ، إذ التقدير : لو ثبت كون ما في الأرض جميعاً لهم ومثله معه ليفتدوا به ، والضمير عائد على ما دون الكون.
فالرافع للفاعل غير الناصب للمفعول معه ، إذ لو كان إياه للزم من ذلك وجود الثبوت مصاحباً للمثل ، والمعنى : على كينونة ما في الأرض مصاحباً للمثل ، لا على ثبوت ذلك مصاحباً للمثل ، وهذا فيه غموض ، وبيانه ، أنك إذا قلت : يعجبني قيام زيد وعمر ، أو جعلت عمراً مفعولاً معه ، والعامل فيه يعجبني ، لزم من ذلك أنّ عمراً لم يقم ، وأنه أعجبك القيام وعمرو ، وإن جعلت العامل فيه القيام كان عمرو قائماً ، وكان الإعجاب قد تعلق بالقيام مصاحباً لقيام عمرو.
( فإن قلت ) : هلا ، كان ومثله معه مفعولاً معه ، والعامل فيه هو العامل في لهم ، إذ المعنى عليه.
( قلت ) : لا يصح ذلك لما ذكرناه من وجود معه في الجملة ، وعلى تقدير سقوطها لا يصح لأنهم نصوا على أنّ قولك : هذا لك وأباك ممنوع في الاختيار.

وقال سيبويه : وأما هذا لك وأباك ، فقبيح لأنه لم يذكر فعلاً ولا حرفاً فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل ، فأفصح سيبويه بأن اسم الإشارة وحرف الجر المتضمن معنى الاستقرار لا يعملان في المفعول معه ، ولو كان أحدهما يجوز أن ينتصب المفعول معه لخير بين أن ينسب العمل لاسم الإشارة أو لحرف الجر.
وقد أجاز بعض النحويين أن يعمل في المفعول معه الظرف وحرف الجر ، فعلى هذا المذهب يجوز لو كانت الجملة خالية من قوله : معه ، أن يكون ومثله مفعولاً معه على أنّ العامل فيه هو العامل في لهم.
وقرأ الجمهور : ما تقبل مبنياً للمفعول.
وقرأ يزيد بن قطيب : ما تقبل مبنياً للفاعل أي : ما تقبل الله منهم.
وفي الكلام جملة محذوفة التقدير : وبذلوه وافتدوا به ما تقبل منهم ، إذ لا يترتب انتفاء التقبل على كينونة ما في الأرض ومثله معه ، إنما يترتب على بذل ذلك أو الافتداء به.
{ ولهم عذاب أليم } هذا الوعيد هو لمن وافى على الكفر ، وتبينه آية آل عمران { وماتوا وهم كفار فلن يقبل } الآية وهذه الجملة يجوز أن تكون عطفاً على خبر : { إن الذين كفروا } ويجوز أن تكون عطفاً على { إن الذين كفروا } ، وجوزوا أنْ تكون في موضع الحال وليس بقوي.
{ يريدون أن يخرجوا من النار } أي يرجون ، أو يتمنون ، أو يكادون ، أو يسألون ، أقوال متقاربة من حيث المعنى ، والإرادة ممكنة في حقهم ، فلا ينبغي أن تخرج عن ظاهرها.
قال الحسن : إذا فارت بهم النار فروا من بأسها ، فحينئذ يريدون الخروج ويطمعون فيه ، وذلك قوله : يريدون أن يخرجوا من النار.
وقيل لجابر بن عبد الله : إنكم يا أصحاب محمد تقولون : إن قوماً يخرجون من النار والله تعالى يقول : { وما هم بخارجين منها } فقال جابر إنما هذا في الكفار خاصة.
وحكى الطبري عن نافع بن الأزراق الخارجي أنه قال لابن عباس : يا أعمى البصر ، يا أعمى القلب ، أتزعم أن قوماً يخرجون من النار وقد قال الله تعالى : وما هم بخارجين منها؟ فقال له ابن عباس : إقرأ ما فوق هذه الآية في الكفار.
وقال الزمخشري : وما يروى عن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس وذكر الحكاية ، ثم قال : فمما لفقته المجبرة وليس بأول تكاذيبهم وافترائهم ، وكفاك بما فيه من مواجهة ابن الأزرق لابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهر أعضاده من قريش ، وأنضاده من بني عبد المطلب ، وهو حبر هذه الأمة وبحرها ، ومفسرها بالخطاب الذي لا يجسر على مثله أحد من أهل الدنيا ، ويرفعه إلى عكرمة دليلين ناصين أن الحديث فرية ما فيها مرية انتهى.
وهو على عادته وسفاهته في سب أهل السنة ، ومذهبه : أن من دخل النار لا يخرج منها.

وقرأ الجمهور : أن يخرجوا مبنياً للفاعل ، ويناسبه : وما هم بخارجين منها.
وقرأ النخعي ، وابن وثاب ، وأبو واقد : أن يخرجوا مبنياً للمفعول.
{ ولهم عذاب مقيم } أي متأبد لا يحول.
{ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } قال السائب : نزلت في طعمة بن أبيرق ، ومضت قصته في النساء.
ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر جزاء المحاربين بالعقوبات التي فيها قطع الأيدي والأرجل من خلاف ، ثم أمر بالتوقى لئلا يقع الإنسان في شيء من الحرابة ، ثم ذكر حال الكفار ، ذكر حكم السرقة لأن فيها قطع الأيدي بالقرآن ، والأرجل بالسنة على ما يأتي ذكره ، وهو أيضاً حرابة من حيث المعنى ، لأنّ فيه سعياً بالفساد إلا أن تلك تكون على سبيل الشوكة والظهور.
والسرقة على سبيل الاختفاء والتستر ، والظاهر وجوب القطع بمسمى السرقة ، وهو ظاهر النص.
يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الجمل فتقطع يده اليمنى ، شرق شيئاً مّا قليلاً أو كثيراً قطعت يده ، وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة ومن التابعين منهم : الحسن ، وهو مذهب الخوارج وداود.
وقال داود ومن وافقه : لا يقطع في سرقة حبة واحدة ولا تمرة واحدة ، بل أقل شيء يسمى مالاً ، وفي أقل شيء يخرج الشح والضنة.
وقيل : النصاب الذي تقطع فيه اليد عشرة دراهم فصاعداً ، أو قيمتها من غيرها ، روى ذلك عن : ابن عباس ، وابن عمرو ، أيمن الحبشي ، وأبي جعفر ، وعطاء ، وابراهيم ، وهو قول : الثوري ، وأبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وزفر ، ومحمد.
وقيل : ربع دينار فصاعداً ، وروي عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وعائشة ، وعمر بن عبد العزيز ، وهو قول : الأوزاعي ، والليث ، والشافعي ، وأبي ثور.
وقيل : خمسة دراهم وهو قول : أنس ، وعروة ، وسليمان بن يسار ، والزهري.
وقيل : أربعة دراهم وهو مروي عن أبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة.
وقيل : ثلاثة دراهم وهو قول : ابن عمر ، وبه قال مالك ، وإسحاق ، وأحمد ، إلا إن كان ذهباً فلا تقطع إلا في ربع دينار.
وقيل : درهم فما فوقه ، وبه قال عثمان البتي.
وقطع عبد الله بن الزبير في درهم.
وللسرقة التي تقطع فيها اليد شروط ذكرت في الفقه.
وقرأ الجمهور : والسارق والسارقة بالرفع.
وقرأ عبد الله : والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم ، وقال الخفاف : وجدت في محصف أبيّ والسُّرق والسرقة بضم السين المشددة فيهما كذا ضبطه أبو عمرو.
قال ابن عطية : ويشبه أن يكون هذا تصحيفاً من الضابط ، لأن قراءة الجماعة إذا كتبت السارق بغير ألف وافقت في الخط هذه.
والرفع في والسارق والسارقة على الابتداء ، والخبر محذوف والتقدير : فيما يتلى عليكم ، أو فيما فرض عليكم ، السارق والسارقة أي : حكمهما.
ولا يجوز سيبويه أن يكون الخبر قوله : فاقطعوا ، لأن الفاء لا تدخل إلا في خبر مبتدأ موصول بظرف أو مجرور ، أي جملة صالحة لأداة الشرط.
والموصول هنا ألْ ، وصلتها اسم فاعل أو اسم مفعول ، وما كان هكذا لا تدخل الفاء في خبره عند سيبويه.

وقد أجاز ذلك جماعة من البصريين أعني : أن يكون والسارق والسارقة مبتدأ ، والخبر جملة الأمر ، أجروا أل وصلتها مجرى الموصول المذكور ، لأن المعنى فيه على العموم إذ معناه : الذي سرق والتي سرقت.
ولما كان مذهب سيبويه أنه لا يجوز ذلك ، تأوله على إضمار الخبر فيصير تأوله : فيما فرض عليكم حكم السارق والسارقة.
جملة ظاهرها أن تكون مستقلة ، ولكن المقصود هو في قوله : فاقطعوا ، فجيء بالفاء رابطة للجملة الثانية ، فالأولى موضحة للحكم المبهم في الجملة الأولى.
وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي عبلة : والسارقَ والسارقة بالنصب على الاشتغال.
قال سيبويه : الوجه في كلام العرب النصب كما تقول : زيداً فاضربه ، ولكنْ أبت العامة إلا الرفع ، يعني عامة القراء وجلهم.
ولما كان معظم القراء على الرفع ، تأوله سيبويه على وجه يصح ، وهو أنه جعله مبتدأ ، والخبر محذوف ، لأنه لو جعله مبتدأ والخبر فاقطعوا لكان تخريجاً على غير الوجه في كلام العرب ، ولكان قد تدخل الفاء في خبر أل وهو لا يجوز عنده.
وقد تجاسر أبو عبد الله محمد بن عمر المدعو بالفخر الرازي ابن خطيب الري على سيبويه وقال عنه ما لم يقله فقال : الذي ذهب إليه سيبويه ليس بشيء ، ويدل على فساده وجوه : الأول : أنه طعن في القراءة المنقولة بالمتواتر عن الرسول ، وعن أعلام الأمة ، وذلك باطل قطعاً.
( قلت ) : هذا تقوّل على سيبويه ، وقلة فهم عنه ، ولم يطعن سيبويه على قراءة الرفع ، بل وجهها التوجيه المذكور ، وأفهم أنّ المسألة ليست من باب الاشتغال المبني على جواز الابتداء فيه ، وكون جملة الأمر خبره ، أو لم ينصب الاسم ، إذ لو كانت منه لكان النصب أوجه كما كان في زيداً أضربه على ما تقرر في كلام العرب ، فكون جمهور القراء عدلوا إلى الرفع دليل على أنهم لم يجعلوا الرفع فيه على الابتداء المخبر عنه بفعل الأمر ، لأنه لا يجوز ذلك لأجل الفاء.
فقوله : أبت العامة إلا الرفع تقوية لتخريجه ، وتوهين للنصب على الاشتغال مع وجود الفاء ، لأن النصب على الاشتغال المرجح على الابتداء في مثل هذا التركيب لا يجوزا إلا إذا جاز أن يكون مبتدأ مخبراً عنه بالفعل الذي يفسر العامل في الاشتغال ، وهنا لا يجوز ذلك لأجل الفاء الداخلة على الخبر ، فكان ينبغي أن لا يجوز النصب.
فمعنى كلام سيبويه يقوي الرفع على ما ذكر ، فكيف يكون طاعناً في الرفع؟ وقد قال سيبويه : وقد يحسن ويستقيم : عبد الله فاضربه ، إذا كان مبنياً على مبتدأ مضمر أو مظهر ، فأما في المظهر فقولك : هذا زيد فاضربه ، وإن شئت لم تظهر هذا ويعمل عمله إذا كان مظهراً وذلك قولك : الهلال والله فانظر إليه ، فكأنك قلت : هذا الهلال ثم جئت بالأمر.

ومن ذلك قول الشاعر :
وقائلة خولان فانكح فتاتهم . . .
واكرومة الحيين خلو كما هيا
هكذا سمع من العرب تنشده انتهى.
فإذا كان سيبويه يقول : وقد يحسن ويستقيم.
عبد الله فاضربه ، فكيف يكون طاعناً في الرفعا وهو يقول : أنه يحسن ويستقيم؟ لكنه جوزه على أنّ يكون المرفوع مبتدأ محذوف الخبر ، كما تأوله في السارق والسارقة ، أو خبر مبتدأ محذوف كقوله : الهلال والله فانظر إليه.
وقال الفخر الرازي : ( فإن قلت ) : يعني سيبويه لا أقول إن القراءة بالرفع غير جائزة ، ولكني أقول : القراءة بالنصب أولى ، فنقول له : هذا أيضاً رديء ، لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها إلا عيسى بن عمر على قراءة الرسول وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين أمر منكر مردود.
( قلت ) : هذا السؤال لم يقله سيبويه ، ولا هو ممن يقوله ، وكيف يقوله وهو قد رجح قراءة الرفع على ما أوضحناه؟ وأيضاً فقوله : لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها إلا عيسى بن عمر على قراءة الرسول وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين تشنيع ، وإيهام أن عيسى بن عمر قرأها من قبل نفسه ، وليس كذلك ، بل قراءته مستندة إلى الصحابة وإلى الرسول ، فقراءته قراءة الرسول أيضاً ، وقوله : وجميع الأمة ، لا يصح هذا الإطلاق لأنّ عيسى بن عمر وابراهيم بن أبي عبلة ومن وافقهما وأشياخهم الذين أخذوا عنهم هذه القراءة هم من الأمة.
وقال سيبويه : وقد قرأ ناس والسارق والسارقة والزانية والزاني ، فأخبر أنها قراءة ناس.
وقوله : وجميع الأمة لا يصح هذا العموم.
قال الفخر الرازي : الثاني : من الوجوه التي تدل على فساد قول سيبويه أن القراءة بالنصب لو كانت أولى لوجب أن يكون في القراء من قرأ : { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما } بالنصب ، ولما لم يوجد في القراءة أحد قرأ كذلك ، علمنا سقوط هذا القول.
( قلت ) : لم يدّع سيبويه أنّ قراءة النصب أولى فيلزمه ما ذكر ، وإنما قال سيبويه : وقد قرأ ناس والسارق والسارقة والزانية والزاني ، وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة ، ولكن أبت العامة إلا القراءة بالرفع.
ويعني سيبويه بقوله : من القوة ، لو عرى من الفاء المقدر دخولها على خبر الاسم المرفوع على الابتداء ، وجملة الأمر خبره ، ولكن أبت العامة أي جمهور القراء إلا الرفع لعلة دخول الفاء ، إذ لا يصح أن تكون جملة الأمر خبراً لهذا المبتدأ ، فلما دخلت الفاء رجح الجمهور الرفع.
ولذلك لما ذكر سيبويه اختيار النصب في الأمر والنهي ، لم يمثله بالفاء بل عارياً منها.
قال سيبويه : وذلك قولك : زيداً اضربه وعمراً أمر ربه ، وخالداً اضرب أباه ، وزيداً اشتر له ثوباً ثم قال : وقد يكون في الأمر والنهي أن يبنى الفعل على الاسم وذلك قوله : عبد الله فاضربه ، ابتدأت عبد الله فرفعت بالابتداء ، ونبهت المخاطب له ليعرفه باسمه ، ثم بنيت الفعل عليه كما فعلت ذلك في الخبر.

فإذا قلت : زيداً فاضربه ، لم يستقم ، لم تحمله على الابتداء.
ألا ترى أنك لو قلت : زيد فمنطلق ، لم يستقم؟ فهذا دليل على أنه لا يجوز أن يكون مبتدأ يعني مخبراً عنه بفعل الأمر المقرون بالفاء الجائز دخولها على الخبر.
ثم قال سيبويه : فإن شئت نصبته على شيء هذا يفسره.
لما منع سيبويه الرفع فيه على الابتداء ، وجملة الأمر خبره لأجل الفاء ، أجاز نصبه على الاشتغالا لا على أن الفاء هي الداخلة في خبر المبتدأ.
وتلخيص ما يفهم من كلام سيبويه : أن الجملة الواقعة أمراً بغير فاء بعد اسم يختار فيه النصب ويجوز فيه الابتداء ، وجملة الأمر خبره ، فإنْ دخلت عليه الفاء فإمّا أنْ تقدرها الفاء الداخلة على الخبر ، أو عاطفة.
فإن قدرتها الداخلة على الخبر فلا يجوز أن يكون ذلك الاسم مبتدأ وجملة الأمر خبره ، إلا إذا كان المبتدأ أجرى مجرى اسم الشرط لشبهه به ، وله شروط ذكرت في النحو.
وإن كانت عاطفة كان ذلك الاسم مرفوعاً ، إما مبتدأ كما تأول سيبويه في قوله : والسارق والسارقة ، وإما خبر مبتدأ محذوف كما قيل : القمر والله فانظر إليه.
والنصب على هذا المعنى دون الرفع ، لأنك إذا نصبت احتجت إلى جملة فعلية تعطف عليها بالفاء ، وإلى حذف الفعل الناصب ، وإلى تحريف الفاء إلى غير محلها.
فإذا قلت زيداً فاضربه ، فالتقدير : تنبه فاضرب زيداً اضربه.
حذفت تنبه ، وحذفت اضرب ، وأخرت الفاء إلى دخولها على المفسر.
وكان الرفع أولى ، لأنه ليس فيه إلا حذف مبتدأ ، أو حذف خبر.
فالمحذوف أحد جزئي الإسناد فقط ، والفاء واقعة في موقعها ، ودل على ذلك المحذوف سياق الكلام والمعنى.
قال سيبويه : وأما قوله عز وجل : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما } { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } فإنّ هذا لم يبن على الفعل ، ولكنه جاء على مثل قوله تعالى : { مثل الجنة التي وعد المتقون } ثم قال بعد فيها : { أنهار فيها } كذا وكذا ، فإنما وضع مثل للحديث الذي بعده ، وذكر بعد أخبار وأحاديث كأنه قال : ومن القصص مثل الجنة أو مما نقص عليكم مثل الجنة ، فهو محمول على هذا الإضمار أو نحوه والله أعلم.
وكذلك الزانية والزاني لما قال تعالى : { سورة أنزلناها وفرضناها } قال في الفرائض : { الزانية والزاني أو الزانية والزاني } في الفرائض ثم قال : فاجلدوا ، فجاء بالفعل بعد أن مضى فيها الرفع كما قال : وقائلة خولان فانكح فتاتهم ، فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه الضمير ، وكذلك السارق والسارقة.
كأنه قال : مما فرض عليكم السارق والسارقة ، أو السارق والسارقة فيما فرض عليكم.
وإنما جاءت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث انتهى.
فسيبويه إنما اختار هذا التخريج لأنه أقل كلفة من النصب مع وجود الفاء ، وليست الفاء الداخلة في خبر المبتدأ ، لأن سيبويه لا يجيز ذلك في أل الموصولة.

فالآيتان عنده من باب زيد فاضربه ، فكما أن المختار في هذا الرفع فكذلك في الآيتين.
وقول الرازي : لوجب أن يكون في القراء من قرأ : { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما } بالنصب إلى آخر كلامه ، لم يقل سيبويه أن النصب في مثل هذا التركيب أولى ، فيلزم أن يكون في القراء من ينصب واللذان يأتيانها ، بل حل سيبويه هذا الآية محل قوله : والسارق والسارقة ، لأنه تقدم قبل ذلك ما يدل على المحذوف وهو قوله : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } فخرج سيبويه الآية على الإضمار.
وقال سيبويه : وقد يجري هذا في زيد وعمرو على هذا الحد إذا كنت تخبر بأشياء ، أو توصي ، ثم تقول : زيد أي زيد فيمن أوصى فأحسن إليه وأكرمه ، ويجوز في : واللذان يأتيانها منكم ، أن يرتفع على الابتداء ، والجملة التي فيها الفاء خبر لأنه موصول مستوف شروط الموصول الذي يجوز دخول الفاء في خبره لشبهه باسم الشرط ، بخلاف قوله : والسارق والسارقة ، فإنه لا يجوز عند سيبويه دخول الفاء في خبره ، لأنه لا يجري مجرى اسم الشرط ، فلا يشبه به في دخول الفاء.
قال الفخر الرازي : الثالث يعني : من وجوه فساد قول سيبويه إنا إنما قلنا السارق والسارقة مبتدأ ، وخبره هو الذي يضمره ، وهو قولنا : فيما يتلى عليكم ، وفي شيء تتعلق به الفاء في قوله : فاقطعوا أيديهما.
( قلت ) : تقدم لنا حكمة المجيء بالفاء وما ربطت ، وقد قدره سيبويه : ومما فرض عليكم السارق والسارقة ، والمعنى : حكم السارق والسارقة ، لأنها آية جاءت بعد ذكر جزاء المحاربين وأحكامهم ، فناسب تقدير سيبويه.
وجيء بالفاء رابطة الجملة الثانية بالأولى ، والثانية جاءت موضحة للحكم المبهم فيما قبل ذلك.
قال الفخر الرازي : فإن قال يعني سيبويه الفاء تتعلق بالفعل الذي دل عليه قوله : والسارق والسارقة ، يعني : أنه إذا أتى بالسرقة فاقطعوا يده ، فنقول : إذا احتجت في آخر الأمر أن تقول السارق والسارقة تقديره من سرق ، فاذكر هذا أولاً حتى لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكرته.
( قلت ) : هذا لا يقوله سيبويه ، وقد بينا حكم الفاء وفائدتها.
قال الفخر الرازي : الرابع : يعني من وجوه فساد قول سيبويه إذا اخترنا القراءة بالنصب ، لم تدل على أنّ السرقة علة لوجوب القطع.
وإذا اخترنا القراءة بالرفع أفادت الآية هذا المعنى ، ثم إنّ هذا المعنى متأكد بقوله : جزاء بما كسبا ، فثبت أن القراءة بالرفع أولى.
( قلت ) : هذا عجيب من هذا الرجل ، يزعم أنّ النصب لا يشعر بالعلة الموجبة للقطع ويفيدها الرفع ، وهل هذا إلا من التعليل بالوصف المترتب عليه الحكم؟ فلا فرق في ذلك بين الرفع والنصب لو قلت : السارق ليقطع ، أو اقطع السارق ، لم يكن بينهما فرق من حيث التعليل.
وكذلك الزاني ليجلد ، أو اجلد الزاني.

ثم قوله : إن هذا المعنى متأكد بقوله : جزاء بما كسباً ، والنصب أيضاً يحسن أن يؤكد بمثل هذا ، لو قلت : اقطع اللص جزاء بما كسب صح.
وقال الفخر الرازي : الخامس : يعني من وجوه فساد قول سيبويه ، أن سيبويه قال : وهم يقدمون الأهم فالأهم.
والذي هم ببيانه أعني : فالقراءة بالرفع تقتضي ذكر كونه سارقاً على ذكر وجوب القطع ، وهذا يقتضي أن يكون أكثر العناية مصروفاً إلى شرح ما يتعلق بحال السارق من حيث أنه سارق ، وأمّا القراءة بالنصب فإنها تقتضي أن تكون العناية ببيان القطع أثم من العناية بكونه سارقاً.
ومعلوم أنه ليس كذلك ، فإن المقصود في هذه الآية بيان تقبيح السرقة والمبالغة في الزجر عنها ، فثبت أنّ القراءة بالرفع هي المتعينة قطعاً.
( قلت ) : الذي ذكر فيه سيبويه أنهم كانوا يقدمون الذي بيانه أهم لهم ، وهم ببيانه أعني هو ما اختلفت فيه نسبة الإسناد كالفاعل والمفعول.
قال سيبويه : فإن قدمت المفعول وأخرت الفاعل جرى اللفظ كما جرى في الأول يعني : في ضرب عبد الله زيداً قال : وذلك ضرب زيداً عبد الله ، لأنك إنما أردت به مؤخراً ما أردت به مقدماً ، ولم ترد أن تشغل الفعل بأول منه وإن كان مؤخراً في اللفظ ، فمن ثم كان حد اللفظ أن يكون فيه مقدماً ، وهو عربي جيد كثير كأنهم يقدمون الذي بيانه لهم أهم ، وهم ببيانه أعني : وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم انتهى.
والرازي حرف كلام سيبويه وأخذه حيث لا يتصور اختلاف نسبه وهو المبتدأ والخبر ، فإنه ليس فيه إلا نسبة واحدة بخلاف الفاعل والمفعول ، لأن المخاطب قد يكون له غرض في ذكر من صدر منه الضرب فيقدم الفاعل ، أو في ذكر من حل به الضرب فيقدم المفعول ، لأن نسبة الضرب مختلفة بالنظر إليهما.
وأما الآية فهي من باب ما النسبة فيه لا تختلف ، إنما هي الحكم على السارق بقطع يده.
وما ذكره الرازي لا يتفرع على كلام سيبويه بوجه ، والعجب من هذا الرجل وتجاسره على العلوم حتى صنف في النحو كتاباً سماه المحرر ، وسلك فيه طريقة غريبة بعيدة من مصطلح أهل النحو ومن مقاصدهم ، وهو كتاب لطيف محتو على بعض أبواب العربية ، وقد سمعت شيخنا أبا جعفر بن الزبير يذكر هذا التصنيف ويقول : إنه ليس جارينا على مصطلح القوم ، وإنْ ما سلكه في ذلك من التخليط في العلوم ، ومن غلب عليه فن ظهر فيما يتكلم به من غير ذلك الفن أو قريباً منه من هذا المعنى ، ولما وقفت على هذا الكتاب بديار مصر رأيت ما كان الأستاذ أبو جعفر يذم من هذا الكتاب ويستزل عقل فخر الدين في كونه صنف في علم وليس من أهله.
وكان أبو جعفر يقول : لكل علم حد ينتهي إليه ، فإذا رأيت متكلماً في فن مّا ومزجه بغيره فاعلم أنّ ذلك إما أن يكون من تخليطه وتخبيط ذهنه ، وإما أن يكون من قلة محصوله وقصوره في ذلك العلم ، فتجده يستريح إلى غيره مما يعرفه.

وقال الزمخشري بعد أن ذكر مذهب سيبويه في إعراب والسارق والسارقة ما نصه : ووجه آخر وهو أن يرتفعا بالابتداء ، والخبر فاقطعوا أيديهما ، ودخول الفاء لتضمنها معنى الشرط ، لأن المعنى : والذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما ، والاسم الموصول تضمن معنى الشرط.
وقرأ عيسى بن عمر بالنصب ، وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر ، لأن زيداً فاضربه أحسن من زيد فاضربه انتهى.
وهذا الوجه الذي أجازه وإن كان ذهب إليه بعضهم لا يجوز عند سيبويه ، لأن الموصول لم يوصل بجملة تصلح لأداة الشرط ، ولا بما قام مقامها من ظرف أو مجرور ، بل الموصول هنا ال وصلة ، ال لا تصلح لأداة الشرط ، وقد امتزج الموصول بصلته حتى صار الإعراب في الصلة بخلاف الظرف والمجرور ، فإن العامل فيهما جملة لا تصلح لأداة الشرط.
وأما قوله : في قراءة عيسى ، إن سيبويه فضلها على قراءة العامة فليس بصحيح ، بل الذي ذكر سيبويه في كتابه أنهما تركيبان : أحدهما زيداً اضربه ، والثاني زيد فاضربه.
فالتركيب الأول اختار فيه النصب ، ثم جوزوا الرفع بالابتداء.
والتركيب الثاني منع أن يرتفع بالابتداء ، وتكون الجملة الأمرية خبراً له لأجل الفاء.
وأجاز نصبه على الاشتغال ، أو على الإغراء ، وذكر أنه يستقيم رفعه على أن يكون جملتان ، ويكون زيد خبر مبتدأ محذوف أي : هذا زيد فاضربه ، ثم ذكر الآية فخرجها على حذف الخبر ، ودل كلامه أنّ هذا التركيب هو لا يكون إلا على جملتين : الأولى ابتدائية ، ثم ذكر قراءة ناس بالنصب ولم يرجحها على قراءة العامة ، إنما قال : وهي في العربية على ما ذكرت لك من القوة أي : نصبها على الاشتغال أو الإغراء ، وهو قوي لا ضعيف ، وقد منع سيبويه رفعه على الابتداء ، والجملة الأمرية خبر لأجل الفاء.
وقد ذكرنا الترجيح بين رفعه على أنه مبتدأ حذف خبره ، أو خبر حذف مبتدؤه ، وبين نصبه على الاشتغال بأن الرفع يلزم فيه حذف خبر واحد ، والنصب يلزم فيه حذف جملة وإضمار أخرى ، وزحلقة الفاء عن موضعها.
وظاهر قوله : والسارق أنه لا يشترط حرز للمسروق ، وبه قال : داود ، والخوارج.
وذهب الجمهور إلى أنّ شرط القطع إخراجه من الحرز ، ولو جمع الثياب في البيت ولم يخرجها لم يقطع.
وقال الحسن : يقطع.
والظاهر اندراج كل من يسمى سارقاً في عموم والسارق والسارقة ، لكن الإجماع منعقد على أنّ الأب إذا سرق من مال ابنه لا يقطع ، والجمهور على أنه لا يقطع الابن.
وقال عبد الله بن الحسن : إن كان يدخل عليهما فلا قطع ، وإن كانا ينهيانه عن الدخول قطع ، ولا يقطع ذوو المحارم عند أبي حنيفة ، ولا الأجداد من جهة الأب ، والأم عند الجمهور وعند أشهب.

وقال أبو ثور : يقطع كل سارق سرق ما تقطع فيه اليد ، إلا أن يجمعوا على شيء فيسلم للإجماع.
وقال أبو حنيفة والشافعي : لا تقطع المرأة إذا سرقت من مال زوجها ، ولا هو إذا سرق من مال زوجته.
وقال مالك : يقطعان.
والظاهر أنّ من أقرّ مرة بسرقة قطع ، وبه قال : أبو حنيفة ، وزفر ، ومالك ، والشافعي ، والثوري.
وقال ابن شبرمة وأبو يوسف وابن أبي ليلى : لا يقطع حتى يقر مرتين.
وقال أبو حنيفة : لا يقطع سارق المصحف.
وقال الشافعي ، وأبو يوسف ، وأبو ثور ، وابن القاسم : يقطع إذا كانت قيمته نصاباً.
والظاهر قطع الطيار نصاباً وبه قال : مالك ، والأوزاعي ، وأبو ثور ، ويعقوب ، وهو قول الحسن : وذهب أبو حنيفة ، ومحمد ، وإسحاق إلى أنه إن كانت الدراهم مصرورة في كمه لم يقطع ، أو في داخله قطع.
واختلف في النبّاش إذا أخذ الكفن ، فقال أبو حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي ، ومحمد : لا يقطع ، وهو قول ابن عباس ومكحول.
وقال الزهري : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن كان مروان أميراً على المدينة أنّ النباش يعزر ولا يقطع ، وكان الصحابة متوافرين يومئذ.
وقال أبو الدرداء ، وابن أبي ليلى ، وربيعة ، ومالك ، والشافعي ، وأبو يوسف : يقطع ، وهو مروي عن ابن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، والزهري ، ومسروق ، والحسن ، والنخعي ، وعطاء ، والظاهر أنه إذا كرّر السرقة في العين بعد القطع فيها لم يقطع ، وبه قال الجمهور.
.
وقال أبو حنيفة : لا يقطع ، وأنه إذا سرق نصاباً من سارق لا يقطع ، وبه قال الشافعي.
وقال مالك : قطع والمخاطب بقوله : { فاقطعوا } الرسول أو ولاة الأمر كالسلطان ، ومن أذن له في إقامة الحدود ، أو القضاة والحكام ، أو المؤمنون ، ليكونوا متظافرين على إقامة الحدود أقوال أربعة.
وفصل بعض العلماء فقال : إن كان في البلد إمام أو نائب له فالخطاب متوجه إليه ، فإنْ لم يكن وفيها حاكم فالخطاب متوجه إليه ، فإن لم يكن فإلى عامة المؤمنين ، وهو من فروض الكفاية إذ ذاك ، إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين.
والظاهر من قوله : فاقطعوا أيديهما أنه يقطع من السارق الثنتان ، لكن الإجماع على خلاف هذا الظاهر ، وإنما يقطع من السارق يمناه ، ومن السارقة يمناها.
قال الزمخشري : أيديهما يديهما ونحوه : { فقد صغت قلوبكما } اكتفى بتثنية المضاف إليه عن تثنية المضاف ، وأريد باليدين اليمينان بدليل قراءة عبد الله : والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم انتهى.
وسوى بين أيديهما وقلوبكما وليسا بشيئين ، لأن باب صغت قلوبكما يطرد فيه وضع الجمع موضع التثنية ، وهو ما كان اثنين من شيئين كالقلب والأنف والوجه والظهر ، وأمّا إن كان في كل شيء منهما اثنان كاليدين والأذنين والفخذين فإن وضع الجمع موضع التثنية لا يطرد ، وإنما يحفظ ولا يقاس عليه.

لأن الذهن إنما يتبادر إذا أطلق الجمع لما يدل عليه لفظه ، فلو قيل : قطعت آذان الزيدين ، فظاهره قطع أربعة الآذان ، وهو استعمال اللفظ في مدلوله.
وقال ابن عطية : جمع الأيدي من حيث كان لكل سارق يمين واحدة ، وهي المعرّضة للقطع في السرقة ، وللسراق أيد ، وللسارقات أيد ، كأنه قال : اقطعوا إيمان النوعين ، فالتثنية للضمير إنما هي للنوعين.
وظاهر قوله : أيديهما ، أنه لا يقطع الرجل ، فإذا سرق قطعت يده اليمنى ثم إن سرق قطعت يده اليسرى ، ثم إن سرق عزّر وحبس ، وهو مذهب مالك والجمهور ، وبه قال : أبو حنيفة والثوري.
وقال عليّ ، والزهري ، وحماد بن أبي سلمة ، وأحمد : تقطع يده اليمنى ، ثم إن سرق قطعت رجله اليسرى ، ثم إن سرق عزّر وحبس.
وروي عطاء : لا تقطع في السرقة إلا اليد اليمنى فقط ، ثم إن سرق عزّر وحبس.
وقال الشافعي : إذا سرق أولاً قطعت يده اليمنى ، ثم في الثانية رجله اليسرى ، ثم في الثالثة يده اليسرى ، ثم في الرابعة رجله اليمنى ، وروي هذا عن عمر.
قيل : ثم رجع إلى قول عليّ.
وظاهر قطع اليد أنه يكون من المنكب من المفصل.
وروي عن عليّ : أنه في اليد من الأصابع ، وفي الرّجل من نصف القدم وهو معقد الشرك.
وروي مثله عن عطاء ، وأبي جعفر.
وقال أبو صالح السمان : رأيت الذي قطعه عليّ مقطوعاً من أطراف الأصابع ، فقيل له : من قطعك؟ قال : خير الناس.
والظاهر أنّ المترتب على السرقة هو قطع اليد فقط.
فإن كان المال قائماً بعينه أخذه صاحبه ، وإن كان السارق استهلكه فلا ضمان عليه ، وبه قال : مكحول ، وعطاء ، والشعبي ، وابن سيرين ، والنخعي في قول أبي حنيفة وأصحابه.
وقال الحسن ، والزهري ، والنخعي في قول حماد ، وعثمان البتي ، والليث ، والشافعي ، وأحمد وإسحاق : يضمن ويغرم.
وقال مالك : إن كان موسراً ضمن أو معسراً فلا شيء عليه.
{ جزاء بما كسبا نكالاً من الله } قال الكسائي : انتصب جزاء على الحال.
وقال قطرب : على المصدر ، أي : جازاهم جزاء.
وقال الجمهور : هو على المفعول من أجله ، وبما متعلق بجزاء ، وما موصولة أي : بالذي كسباه.
ويحتمل أن تكون مصدرية أي : جزاء بكسبهما ، وانتصاب نكالاً على المصدر ، أو على أنه مفعول من أجله.
والعذاب : النكال ، والنكل القيد تقدّم الكلام فيه في قوله : { فجعلناها نكالاًً } وقال الزمخشري : جزاء ونكالاً مفعول لهما انتهى ، وتبع في ذلك الزجاج.
قال الزجاج : هو مفعول من أجله يعني جزاء.
قال : وكذلك نكالاً من الله انتهى.
وهذا ليس بجيد.
إلا إذا كان الجزاء هو النكال ، فيكون ذلك على طريق البدل.
وأما إذا كانا متباينين فلا يجوز أن يكونا مفعولين لهما إلا بواسطة حرف العطف.
{ والله عزيز حكيم } قيل : المعنى عزيز في شرع الرّدع ، حكيم في إيجاب القطع.
وقيل : عزيز في انتقامه من السارق وغيره من أهل المعصية ، حكيم في فرائضه وحدوده.
روي أنّ بعض الأعراب سمع قارئاً يقرأ : والسارق والسارقة إلى آخرها وختمها بقوله : والله غفور رحيم فقال : ما هذا كلام فصيح ، فقيل له : ليس التلاوة كذلك ، وإنما هي والله عزيز حكيم فقال : بخ بخ عز ، فحكم ، فقطع.

فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)

أي فمن تاب من بعد ظلمه بالسرقة.
وظلمه مضاف إلى الفاعل أي : من بعد أن ظلم غيره بأخذ مال أو سرقة.
قيل : أو مضاف إلى المفعول أي : من بعد أن ظلم نفسه.
وفي جواز هذا الوجه نظر إذ يصير التقدير : من بعد أن ظلمه.
ولو صرح بهذا لم يجز ، لأن فيه تعدي الفعل الرافع الضمير المتصل إلى الضمير المتصل المنصوب ، وذلك لا يجوز إلا في باب ظن ، وفقد ، وعدم.
ومعنى يتوب عليه أي : يتجاوز عنه ويقبل توبته.
وظاهر الآية أنه بمجرد التوبة لا يقبل إلا إن ضم إلى ذلك الإصلاح وهو التنصل من التبعات بردها إنْ أمكن ، وإلا بالاستحلال منها ، أو بإنفاقها في سبيل الله إن جهل صاحبها.
والغفران والرحمة كناية عن سقوط العقوبة عنه في الآخرة.
قرأ الجمهور على أن الحد لا يسقط بالتوبة.
وقال عطاء وجماعة : يسقط بالتوبة قبل القدرة على السارق ، وهو أحد قولي الشافعي.
وقال مجاهد : التوبة والإصلاح هي أن يقام عليه الحد.
{ ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء } لما ذكر تعالى تصرفه في أحكام المحاربين وأحكام السرّاق ، ولم يحاب ما ذكر من العقوبات عليهم ، نبه على أن ذلك هو تصرف في ملكه ، وملكه لا معقب لحكمه ، فيعذب من يشاء عذابه وهم المخالفون لأمره ، ويغفر لمن يشاء وهم التائبون.
والخطاب في ألم تعلم قيل : للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : لكل مكلف ، وقيل : للمجترىء على السرقة وغيرها من المحظورات.
فالمعنى : ألم تعلم أنّك عاجز عن الخروج عن ملكي ، هارباً مني ومن عذابي ، فلم اجترأت على ما منعتك منه؟ وأبعد من ذهب أنه خطاب اليهود كانوا بحضرة الرسول ، والمعنى : ألم تعلموا أنه له ملك السموات والأرض ، لا قرابة ولا نسب بينه وبين أحد حتى يحابيه ، ويترك القائلين نحن أبناء الله وأحباؤه.
قال الزمخشري : من يشاء من يجب في الحكم تعذيبه والمغفرة له من المصرّين والتائبين انتهى.
وفيه دسيسة الاعتزال.
وقد يسقط حد الحربي إذا سرق بالتوبة ليكون أدعى له إلى الإسلام وأبعد من التنفير عنه ، ولا نسقطه عن المسلم لأن في إقامته الصلاح للمؤمنين والحياة { ولكم في القصاص حياة } وقال ابن عباس والضحاك : يعذب من يشاء ، أي من مات على كفره ، ويغفر لمن يشاء ممن تاب عن كفره.
وقيل : ذلك في الدنيا ، يعذب من يشاء في الدنيا على معصيته بالقتل والخسف والسبي والأسر وإذهاب المال والجدب والنفي والخزي والجزية وغير ذلك ، ويغفر لمن يشاء منهم في الدنيا بالتوبة عليه من كفره ومعصيته فينقذه من الهلكة وينجيه من العقوبة.
{ والله على كل شيء قدير } كثيراً ما يعقب هذه الجملة ما دل على التصرّف التام ، والملك والخلق والاختراع ، وهي في غاية المناسبة عقيب ما ذكروه من ذلك قوله تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم.
}

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)

السَّحْت والسحُت بسكون الحاء وضمها الحرام ، سمي بذلك لأنه يسحت البركة أي يذهبها.
يقال : سحته الله أي أهلكه ، ويقال : أسحته ، وقرىء بهما في قوله : { فيسحتكم بعذاب } أي يستأصلكم ويهلككم ، ومنه قول الفرزدق :
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع . . .
من المال إلا مسحتاً أو مجلف
ومصدر الثلاثي سحت بفتحتين ، وسحت بإسكان الحاء.
وقال الفراء : أصل السحت كلب الجوع ويقال : فلان مسحوت المعدة إذا كان لا يلقى أبداً إلا خائفاً ، وهو راجع لمعنى الهلاك.
الحبر : بفتح الحاء وكسرها العالم ، وجمعه الأحبار.
وكان أبو عبيد ينكر ذلك ويقول : هو بفتح الحاء.
وقال الفراء : هو بالكسر ، واختار أبو عبيد الفتح.
وتسمى هذه السورة سورة الأحبار ، ويقال : كعب الأحبار.
والحبر بالكسر الذي يكتب به ، وينسب إليه الحبري الحبار.
ويقال : كتب الحبر لمكان الحبر الذي يكتب به ، وسمي حبراً لتحسينه الخط وتبيينه إياه.
وقيل : سمي حبراً لتأثيره في الموضع الذي يكون به من الحبار وهو الأثر.
العين : حاسة الرؤية وهي مؤنثة ، وتجمع في القلة على أعين وأعيان ، وفي الكثرة على عيون.
وقال الشاعر :
ولكنني أغدو عليّ مفاضة . . .
دلاص كأعيان الجراد المنظم
ويقال للجاسوس : ذو العينين ، والعين لفظ مشترك بين معان كثيرة ذكرها اللغويون.
الأنف : معروف والجمع آناف وأنف وأنوف.
المهيمن : الشاهد الرقيب على الشيء الحافظ له ، وهو اسم فاعل من هيمن قالوا : ولم يجيء على هذا الوزن إلا خمسة ألفاظ : هيمن ، وسيطر ، وبيطر ، وحيمر ، وبيقر ، ذكر هذا الخامس الزجاجي في شرحه خطبة أدب الكاتب ، ومعناه : سار من الحجاز إلى اليمن ، ومن أفق إلى أفق.
وهيمن بنا أصل.
وذهب بعض اللغويين إلى أنّ مهيمناً اسم فاعل من أمن غيره من الخوف قال : فأصله مأمن قلبت الهمزة الثانية ياء كراهة اجتماع الهمزتين فصار مؤيمن ، ثم أبدلت الهمزة الأولى هاء كما قالوا : اهراق في اراق ، وهياك في إياك ، وهذا تكلف لا حاجة إليه ، وقد ثبت نظير هذا الوزن في ألفاظ فيكون هذا منها.
وأيضاً فالهمزة في مؤمن اسم فاعل من آمن قد سقطت كراهة اجتماع الهمزتين ، فلا يدعي أنها أقرت وأبدل منها.
وأما ما ذهب إليه ابن قتيبة من أنه تصغير مؤمن ، وأبدلت همزته هاء ، فقد كتب إليه أبو العباس المبرد يحذره من هذا القول.
واعلم أنّ أسماء الله تعالى لا تصغر.
الشرعة : السنة والطريقة شرع يشرع شرعاً أي سنّ ، والشارع الطريق الأعظم ، ومنزل شارع إذا كان بابه قد شرع إلى طريق نافذ.
المنهاج والمنهج : الطريق الواضح ، ونهج الأمر استبان ، ونهجت الطريق أبنته وأوضحته ، ونهجت الطريق سلكته.
{ يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } روي عن أبي هريرة وابن عباس وجماعة : أن سبب نزولها أنّ يهودياً زنى بيهودية ، قيل : بالمدينة.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46