كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

ومن ، هنا تبعيضية ، وهي في موضع الحال من الضمير المستكن في استيسر العائد على ما ، فيتعلق بمحذوف التقدير : كائناً من الهدي ، ومن أجاز أن يكون : من ، لبيان الجنس ، أجاز ذلك هنا.
والألف واللام في : الهدي ، للعموم.
وقرأ مجاهد ، والزهري ، وابن هرمز ، وأبو حيوة : الهدي ، بكسر الدال وتشديد الياء في الموضعين ، يعني هنا في الجر والرفع ، وروي ذلك عصمة عن عاصم.
{ ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } هذا نهي عن حلق الرأس مغيّاً ببلوغ الهدي محله ، ومفهومه : إذا بلغ الهدي محله فاحلقوا روؤسكم.
والضمير في.
تحلقوا ، يحتمل أن يعود على المخاطبين بالإتمام ، فيشمل المحصر وغيره ، ويحتمل أن يعود على المحصرين ، وكلا الإحتمالين قال به قوم ، وأن يكون خطاباً للمحصرين هو قول الزمخشري ، قال : أي : لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ محله ، أي : مكانه الذي يجب نحره فيه ، ومحل الدين وقت وجوب قضائه ، وهو على ظاهر مذهب أبي حنيفة.
انتهى كلامه.
وكأنه رجح كونه للمحصرين ، لأنه أقرب مذكور ، وظاهر قول ابن عطية أنه يختار أن يكون الخطاب لجميع الأمة محصراً كان المحرم أو مخلىًّ ، لأنه قدم هذا القول ، ثم حكى القول الآخر ، قال : ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة في قوله : { ولا تحلقوا رؤوسكم } مجاز في الفاعل وفي المفعول ، أما في الفاعل ففي إسناد الحلق إلى الجميع ، وإنما يحلق بعضهم رأس بعض ، وهو مجاز شائع كثير ، تقول : حلقت : رأسي ، والمعنى أن غيره حلقه له : وأما المجاز ففي المفعول ، فالتقدير : شعر رؤوسكم ، فهو على حذف مضاف ، والخطاب يخص الذكور ، والحلق للنساء مثله في الحج وغيره ، وإنما التقصير سنتهنّ في الحج.
وخرّج أبو داود ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : « ليس على النساء حلق إنما عليهنّ التقصير » وأجمع أهل العلم على القول به ، واختلفوا في مقدار ما يقصر من شعرها على تقادير كثيرة ذكرت في الفقه ، ولم تتعرّض هذه الآية للتقصير فنتعرّض نحن له هنا ، وإنما استطردنا له من قوله : { ولا تحلقوا }.
وظاهر النهي : الحظر والتحريم حتى يبلغ الهدي محله ، فلو نسي فحلق قبل النحر ، فقال أبو حنيفة ، وابن الماجشون : هو كالعامد وقال ابن القاسم : لا شيء عليه.
أو تعمد ، فقال أبو حنيفة ، ومالك : لا يجوز.
وقال الشافعي : يجوز.
قالوا : وهو مخالف لظاهر الآية.
ودلت الآية على أن من النسك في الحج حلق الرأس ، فيدل ذلك على جوازه في غير الحج ، خلافاً لمن قال : إن حلق الرأس في غير الحج مثلة ، لأنه لو كان مثلة لما جاز ، لا في الحج ولا غيره.

وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق رؤوس بني جعفر بعد أن أتاه خبر قتله بثلاثة أيام ، وكان علي يحلق ، وقال أبو عمرو بن عبد البر : أجمع العلماء على إباحة الحلق ، وظاهر عموم : ولا تحلقوا ، أو خصوصه بالمحصرين أن الحلق في حقهم نسك ، وهو قول مالك ، وأبو يوسف.
وقال أبو حنيفة ، ومحمد : لا حلق على المحصر والقولان عن الشافعي.
{ حتى يبلغ الهدي محله } حيث أحصر من حل أو حرم ، قاله عمر ، والمسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم ، أو : المحرم ، قاله علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وتفسيرهم يدل على أن المحل هنا المكان ، ولم يقرأ إلاَّ بكسر الحاء.
فيما علمنا ، ويجوز الفتح : أعني إذا كان يراد به المكان ، وفرق الكسائي هنا ، فقال : الكسر هو الإحلال من الإحرام ، والفتح هو موضع الحلول من الإحصار ، وقد تقدّم طرف من القول في محل الهدي ، ولم تتعرّض الآية لما على المحصر في الحج إذا تحلل بالهدي ، فعن النسيء عليه حجة ، وقال الحسن ، وابن سيرين ، وإبراهيم ، وعلقمة ، والقاسم ، وابن مسعود فيما روى عنه مجاهد ، وابن عباس ، فيما روى عنه ابن جبير : عليه حجة وعمرة ، فإن جمع بينهما في أشهر الحج فعليه دم وهو متمتع ، وإن لم يجمعهما في أشهر الحج فلا دم عليه ، فإن كان المحصر بمرض أو عدوّ ، محرماً بحج تطوّع ، أو بعمرة تطوّع ، وحل بالهدي فعليه القضاء عند أبي حنيفة ، وقال مالك ، والشافعي : لا قضاء على من أحصر بعدوٍّ لا في حج ولا في عمرة.
{ فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه } سبب النزول حديث كعب بن عجرة المشهور ، وهو أنه صلى الله عليه وسلم ، رآه والقمل يتناثر من رأسه ، وقيل : رآه وقد قرح رأسه ، ولما تقدّم النهي عن الحلق إلى الغاية التي هي بلوغ الهدي كان ذلك النهي شاملاً ، فخص بمن ليس مريضاً ولا به أذى من رأسه ، أما هذان فأبيح لهما الحلق ، وثم محذوف يصح به الكلام ، التقدير : فمن كان منكم مريضاً ففعل ما بينا في المحرم من حلق أو غيره ، أو به أذى من رأسه فحلق ، وظاهر النهي العموم.
وقال بعض أهل العلم : هو مختص بالمحصر ، لأن جواز الحلق قبل بلوغ الهدي محله لا يجوز ، فربما لحقه مرض أو أذى في رأسه إن صبر ، فأذن له في زوال ذلك بشرط الفدية ، وأكثر العلماء على أنه على العموم ، ويدل عليه قصة ابن عجرة.
ومنكم ، متعلق بمحذوف وهو في موضع الحال ، لأنه قبل تقدّمه كان صفة : لمريضاً ، فلما تقدّم انتصب على الحال.
ومِنْ ، هنا للتبعيض.
وأجاز أبو البقاء أن يكون متعلقاً : بمريضاً ، وهو لا يكاد يعقل ، و : أو به أذى من رأسه ، يجوز أن يكون من باب عطف المفردات ، فيكون معطوفاً على قوله : مريضاً ، ويرتفع : أذى ، على الفاعلية بالمجرور الذي هو به ، التقدير : أو كائناً به أذىً من رأسه ، ومن باب عطف الجملة على المفرد لكون تلك الجملة في موضع المفرد ، فتكون تلك الجملة معطوفة على قوله : مريضاً ، وهي في موضع مفرد ، لأن المعطوف على المفرد مفرد ، في التقدير : إذا كان جملة ، ويرتفع ، أذى ، إذ ذاك على الابتداء به في موضع الخبر ، فهو : في موضع رفع ، وعلى الإعراب السابق في موضع نصب ، وأجازوا أن يكون معطوفاً على إضمار : كان ، لدلالة : كان ، الأولى ، عليها.

التقدير : أو كان به أذى من رأسه ، فاسم كان على هذا إمّا ضمير يعود على : من؛ وبه أذى ، مبتدأ وخبر في موضع خبر كان ، وإما : أذى وبه ، في موضع خبر كان ، وأجاز أبو البقاء أن يكون ، أو به أذى من رأسه ، معطوفاً على كان ، وأذى ، رفع بالابتداء ، وبه ، الخبر متعلق بالاستقرار ، والهاء في : به ، عائدة على : من ، وكان قد قدم أبو البقاء أن : من ، شرطية ، وعلى هذا التقدير يكون ما قاله خطأ ، لأن المعطوف على جملة الشرط يجب أن يكون جملة فعلية ، لأن جملة الشرط يجب أن تكون فعلية ، والمعطوف على الشرط شرط ، فيجب فيه ما يجب في الشرط ، ولا يجوز ما قاله أبو البقاء على تقدير أن تكون : من ، موصولة.
لأنها إذ ذاك مضمنة معنى إسم الشرط ، فلا يجوز أن توصل على المشهور بالجملة الاسمية ، والباء في : به ، للإلصاق ، ويجوز أن تكون ظرفية ، ومن رأسه ، يجوز أن يكون متعلقاً بما يتعلق به : به ، وأن يكون في موضع الصفة ل : أذىً ، وعلى التقديرين يكون : مِنْ ، لابتداء الغاية.
{ ففدية منة صيام أو صدقة أو نسك } ارتفاع : فدية ، على الابتداء ، التقدير : فعليه فدية ، أو على الخبر ، أي : فالواجب فدية.
وذكر بعض المفسرين أنه قرئ بالنصب على إضمار فعل التقدير : فليفد فدية.
ومن صيام ، في موضع الصفة ، وأو ، هنا للتخيير ، فالفادي مخير في أيّ الثلاثة شاء.
وقرأ الحسن ، والزهري : أو نسك ، بإسكان السين؛ والظاهر إطلاق الصيام والصدقة والنسك ، لكن بين تقييد ذلك السنة الثابتة في حديث ابن عجرة من أن : الصيام صيام ثلاثة أيام ، والصدقة إطعام ستة مساكين ، والنسك شاة.
وإلى أن الصيام ثلاثة أيام ذهب عطاء ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وعلقمة ، والربيع ، وغيرهم.
وبه قال مالك ، والجمهور؛ وروي عن الحسن ، وعكرمة ، ونافع : عشرة أيام.
ومحله زماناً متى اختار ، ومكاناً حيث اختار.
وأما الإطعام ، فذكر بعضهم انعقاد الإجماع على ستة مساكين ، وليس كما ذكر ، بل قال الحسن ، وعكرمة : يطعم عشرة مساكين ، واختلف في قدر الطعام ، ومحل الإطعام ، أما القدر فاضطربت الرواية في حديث عجرة ، واختلف الفقهاء فيه ، فقال أبو حنيفة : لكل مسكين من التمر صاع ، ومن الحنطة نصف صاع.

وقال مالك ، والشافعي : الطعام في ذلك مدّان مدّان ، بالمدّ النبوي ، وهو قول أبي ثور ، وداود.
وروي عن الثوري : نصف صاع من البر ، وصاع من التمر ، والشعير ، والزبيب.
وقال أحمد مرة بقول كقول مالك ، ومرة قال : مدّين من بر لكل مسكين ، ونصف صاع من تمر.
وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف : يجزيه أن يغديهم ويعشيهم.
وقال مالك ، والثوري ، ومحمد بن الحسن ، والشافعي : لا يجزيه ذلك حتى يعطي لكل مسكين مدّين مدّين ، بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما المحل فقال علي ، وإبراهيم ، وعطاء في بعض ما روي عنه ، ومالك وأصحابه إلاَّ ابن الجهم ، وأصحاب الرأي : حيث شاء وقال الحسن ، وطاووس ، ومجاهد ، وعطاء أيضاً ، والشافعي : الإطعام بمكة ، وأما النسك فشاة.
قالوا بالإجماع ومن ذبح أفضل منها فهو أفضل ، وأما محلها فحيث شاء ، قاله علي ، وإبراهيم ، ومالك ، وأصحابه إلاَّ ابن الجهم ، فقال : النسك لا يكون إلاَّ بمكة ، وبه قال عطاء في بعض ما روي عنه ، والحسن ، وطاووس ، ومجاهد ، وأبو حنيفة ، والشافعي.
وظاهر الفدية أنها لا تكون إلاَّ بعد الحلق ، إذ التقدير : فحلق ففدية ، وقال الأوزاعي : يجزيه أن يكفر بالفدية قبل الحلق ، فيكون المعنى : ففدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك إن أراد الحلق.
وظاهر الشرط أن الفدية لا تتعلق إلاَّ بمن به مرض أو أذى فيحلق ، فلو حلق ، أو جزّ ، أو أزال بنورة شعره من غير ضرورة ، أو لبس المخيط ، أو تطيب من غير عذر عالماً ، فقال أبو حنيفة ، والشافعي وأصحابهما ، وأبو ثور : لا يخير في غير الضرورة ، وعليه دم لا غير وقال مالك : يخير ، والعمد والخطأ بضرورة وغيرها سواء عنده.
فلو فعله ناسياً ، فقال إسحاق ، وداود : لا شيء عليه.
وقال أبو حنيفة ، والثوري ، ومالك ، والليث : الناسي كالعامد في وجوب ذلك القدر ، وعن الشافعي القولان ، وأكثر العلماء يوجبون الفدية بلبس المخيط وتغطية الرأس ، أو بعضه ولبس الخفين ، وتقليم الأظفار ، ومس الطيب ، وإماطة الأذى ، وحلق شعر الجسد ، أو مواضع الحجامة ، الرجل والمرأة في ذلك سواء ، وبعضهم يجعل عليهما دماً في كل شيء من ذلك.
وقال داود : لا شيء عليهما في حلق شعر الجسد.
{ فإذا أمنتم } يعني : من الإحصار ، هذا الأمنُ مرتب تفسيره على تفسير الإحصار ، فمن فسره هناك بالإحصار بالمرض لا بالعدو ، وجعل الأمن هنا من المرض لا من العدو ، وهو قول علقمة ، وعروة.
والمعنى : فإذا برئتم من مرضكم.
ومن فسره بالإحصار بالعدو لا بالمرض قال : هنا الأمن من العدو لا من المرض ، والمعنى : فإذا أمنتم من خوفكم من العدو.
ومن فسر الإحصار بأنه من العدو والمرض ونحوه ، فالأمن عنده هنا من جميع ذلك ، والأمن سكون يحصل في القلب بعد اضطرابه.

وقد جاء في الحديث : « الزكام أمان من الجذام » خرّجه ابن ماجة ، وجاء : من سبق العاطس بالحمد ، أمن من الشوص واللوص والعلوص.
أي : من وجع السنّ ، ووجع الأذن ، ووجع البطن.
والخطاب ظاهره أنه عام في المحصر وغيره ، أي : فاذا كنتم في حال أمن وسعة ، وهو قول ابن عباس وجماعة ، وقال عبد الله بن الزبير ، وعلقمة ، وإبراهيم : الآية في المحصرين دون المخلَّى سبيلهم.
{ فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } تقدّم الكلام في المتاع في قوله : { ومتاع إلى حين } وفسر التمتع هنا بإسقاط أحد السفرين ، لأن حق العمرة أن تفرد بسفر غير سفر الحج ، وقيل : لتمتعه بكل ما لا يجوز فعله ، من وقت حله من العمرة إلى وقت انشاء الحج.
واختلف في صورة هذا التمتع الذي في الآية ، فقال عبد الله بن الزبير : هو فيمن أحصر حتى فاته الحج ثم قدم مكة فخرج من إحرامه بعمل عمرة ، واستمتع بإحلاله ذلك بتلك العمرة إلى السنة المستقبلة ثم يحج ويهدي.
وقال ابن جبير ، وعلقمة ، وإبراهيم ، معناه : فإذا آمنتم وقد حللتم من إحرامكم بعد الإحصار ، ولم تقضوا عمرة ، تخرجون بها من إحرامكم بحجكم ، ولكن حللتم حيث أحصرتم بالهدي ، وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة ، واعتمرتم في أشهر الحج ، فاستمتعتم بإحلالكم إلى حجكم ، فعليكم ما استيسر من الهدي.
وقال علي : أي : فإن أخر العمرة حتى يجمعها مع الحج فعليه الهدي.
وقال السدي : فمن نسخ حجه بعمرة فجعله عمرة ، واستمتع بعمرته إلى حجه.
وقال ابن عباس ، وعطاء ، وجماعة : هو الرجل تقدّم معتمراً من أفق في أشهر الحج ، فإذا قضى عمرته أقام حلالاً بمكة حتى ينشئ منها الحج من عامة ذلك ، فيكون مستمتعاً بالإحلال إلى إحرامه بالحج ، فمعنى التمتع : الإهلال بالعمرة ، فيقيم حلالاً يفعل ما يفعل الحلال بالحج ، ثم يحج بعد إحلاله من العمرة من غير رجوع إلى الميقات.
والآية محتملة لهذه الأقوال كلها ، ولا خلاف بين العلماء في وقع الحج على ثلاثة انحاء.
تمتع ، وافراد ، وقران.
وقد بين ذلك في كتب الفقه.
ونهى عمر عن التمتع لعله لا يصح ، وقد تأوله قوم على أنه فسخ الحج في العمرة ، فأما التمتع بالعمرة إلى الحج فلا.
{ فما استيسر من الهدي } تقدّم الكلام على هذه الجملة تفسيراً وإعراباً في قوله : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } فأغنى عن إعادته.
والفاء في : فإذا أمنتم ، للعطف وفي : فمن تمتع ، جواب الشرط ، وفي : فما ، جواب للشرط الثاني.
ويقع الشرط وجوابه جواباً للشرط بالفاء ، لا نعلم في ذلك خلافاً لجواب نحو : إن دخلتِ الدار فإن كلمتِ زيداً فأنت طالق.
وهدي التمتع نسك عند أبي حنيفة لتوفيق الجمع بين العبادتين في سفره ، ويأكل منه ، وعند الشافعي : يجرى مجرى الجنايات لترك إحدى السفرتين ، ولا يأكل منه ، ويذبحه يوم النحر عند أبي حنيفة ، ويجوز عند الشافعي ذبحه إذا أحرم بحجته ، والظاهر وجوب الذبح عند حصول التمتع عقيبه.

وصورة التمتع على من جعل قوله : فإذا أمنتم فمن تمتع ، خاصة بالمحصرين ، تقدّمت في قول ابن الزبير ، وقول ابن جبير ومن معه ، وأما على قول من جعلها عامة في المحصر وغيره فالتمتع كيفيات.
إحداها : أن يحرم غير المكي بعمرة أولاً في أشهر الحج في سفر واحد في عام ، فيقدم مكة.
فيفرغ من العمرة ثم يقيم حلالاً إلى أن ينشئ الحج من مكة في عام العمرة قبل أن يرجع إلى بلده ، أو قبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته ، ويكون الحج والعمرة عن شخص واحد.
الثانية : أن يجمع بين الحج والعمرة في الإحرام ، وهو المسمى : قراناً ، فيقول : لبيك بحجة وعمرة معاً ، فإذا قدم مكة طاف بحجه وعمرته وسعى.
فروي عن علي وابن مسعود : يطوف طوافين ويسعى سعيين ، وبه قال الشعبي وجابر بن زيد ، وابن أبي ليلى؛ وروي عن عبد الله بن عمر : طواف واحد وسعي واحد لهما ، وبه قال عطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وطاووس ، ومالك ، والشافعي وأصحابهما ، وإسحاق ، وأبو ثور.
وجعل القران من باب التمتع لترك النصب في السفر إلى العمرة مرة ، وإلى الحج أخرى ، ولجمعهما ، ولم يحرم بكل واحد من ميقاته ، فهذا وجه من التمتع لا خلاف في جوازه ، قيل : وأهل مكة لا يجيزون الجمع بين العمرة والحج إلاَّ بسياق الهدي ، وهو عندكم : بدنة لا يجوز دونها.
وقال مالك : ما سمعت أن مكياً قرن ، فإن فعل لم يكن عليه هدي ولا صيام ، وعلى هذا جمهور الفقهاء؛ وقال ابن الماجشون.
إذا قرن المكي الحج مع العمرة كان عليه دم القران ، وقال عبد الله بن عمر : المكي إذا تمتع أو قرن لم يكن عليه دم قران ولا تمتع.
الثالثة : أن يحرم بالحج ، فإذا دخل مكة فسخ حجه في عمرة ، ثم حل وأقام حلالاً حتى يهل بالحج يوم التروية ، وجمهور العلماء على ترك العمل بها.
وروي عن ابن عباس ، والحسن ، والسدي جوازها ، وبه قال أحمد.
وظاهر الآية يدل على وجوب الهدي للواحد.
أو الصوم لمن لم يجد إذا تمتع بالعمرة في أشهر الحج ، ثم رجع إلى بلده ، ثم حج من عامه.
وهو مروي عن سعيد بن المسيب ، والحسن.
وقد روي عن الحسن أنه لا يكون متمتعاً فلا هدي ولا صوم ، وبه قال الجمهور ، وظاهر الآية أنه لو اعتمر بعد يوم النحر فليس متمتعاً ، وعلى هذا قالوا : الإجماع لأن التمتع مغياً إلى الحج ولم يقع المغيا.
وشذ الحسن فقال : هي متعة ، والظاهر أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج ، ثم أقام إلى أشهر الحج ثم حج من عامه فهو متمتع ، وبه قال طاووس ، وقال الجمهور : لا يكون متمتعاً.

{ فمن لم يجد } مفعول : يجد ، محذوف لفهم المعنى ، التقدير : فمن لم يجد ما استيسر من الهدي ، ونفي الوجدان إما لعدمه أو عدم ثمنه.
{ فصيام ثلاثة أيام } : ارتفع صيام على الإبتداء ، أي : فعليه ، أو على الخبر ، أي : فواجب.
وقرئ : فصيامَ ، بالنصب أي : فليصم صيام ثلاثة أيام ، والمصدر مضاف للثلاثة بعد الاتساع ، لأنه لو بقي على الظرفية لم تجز الإضافة.
{ في الحج } أي : في أشهر الحج فله أن يصومها فيها ما بين الإحرامين ، إحرام العمرة ، وإحرام الحج ، قاله عكرمة ، وعطاء ، وأبو حنيفة ، قال : والأفضل أن يصوم يوم التروية وعرفة ويوماً قبلهما ، وإذ مضى هذا الوقت لم يجزه إلاَّ الدم ، وقال عطاء أيضاً ، ومجاهد : لا يصومها إلاَّ في عشر ذي الحجة ، وبه قال الثوري ، والأوزاعي.
وقال ابن عمر ، والحسن ، والحكم : يصوم يوماً قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة ، وكل هؤلاء يقولون : لا يجوز تأخيرها عن عشر ذي الحجة ، لأنه بانقضائه ينقضي الحج.
وقال علي ، وابن عمر : لو فاته صومها قبل يوم النحر صامها في أيام التشريق ، لأنها من أيام الحج.
وعن عائشة ، وعروة ، وابن عمر في رواية ابنه سالم عنه : أنها أيام التشريق.
وقيل : زمانها بعد إحرامه ، وقيل : يوم النحر ، قاله علي ، وابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، وطاووس ، وعطاء ، والسدي؛ وبه قال مالك؛ وقال الشافعي ، وأحمد : يصومهن ما بين أن يحرم بالحج إلى يوم عرفة ، وهو قول ابن عمر ، وعائشة.
وروي هذا عن مالك ، وهو قوله في ( الموطأ ) ليكون يوم عرفة مفطراً.
وعن أحمد : يجوز أن يصوم الثلاثة قبل أن يحرم ، وقال قوم : له أن يؤخرها ابتداءً إلى يوم التشريق ، لأنه لا يجب عليه الصوم إلاَّ بأن لا يجد الهدي يوم النحر.
وقال عروة : يصومها ما دام بمكة ، وقاله أيضاً مالك ، وجماعة من أهل المدينة ، وهذه الأقوال كلها تحتاج إلى دلائل عليها.
وظاهر قوله : في الحج ، أن يكون المحذوف : زماناً ، لأنه المقابل في قوله : { وسبعة إذا رجعتم } إذ معناه في وقت الرجوع ، ووقت الحج هو أشهره ، فنحر الهدي للمتمتع لم يشرط فيه زمان ، بل ينبغي أن يتعقب التمتع لوقوعه جواباً للشرط ، فإذا لم يجده فيجب عليه صوم ثلاثة أيام في الحج ، أي : في وقته ، فمن لحظ مجرد هذا المحذوف أجاز الصيام قبل أن يحرم بالحج ، وبعده ، وجوز ذلك إلى آخر أيام التشريق ، لأنها من وقت الحج؛ ومن قدر محذوفاً آخر ، أي : في وقت أفعال الحج ، لم يجز الصيام إلاَّ بعد الإحرام بالحج ، والقول الأول أظهر لقلة الحذف ، ومن لم يلحظ أشهر الحج ، وجوز أن يكون ما دام بمكة ، فإذا اعتقد أن المحذوف ظرف مكان ، أي : فصيام ثلاثة أيام في أماكن الحج.
والظاهر : وجوب انتقاله إلى الصوم عند عدم الوجدان للهدي ، فلو ابتدأ في الصوم ، ثم وجد الهدي مضى في الصوم وهو فرضه ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، والشافعي ، وأبو ثور ، واختاره ابن المنذر.

وقال مالك : أحب أن يهدي ، فإن صام أجزأه ، وقال أبو حنيفة : إن أيسر في اليوم الثالث من صومه بطل الصوم ووجب عليه الهدي ، ولو أيسر بعد تمامها كان له أن يصوم السبعة الأيام ، وبه قال الثوري ، وابن أبي نجيح ، وحماد.
{ وسبعة إذا رجعتم } قرأ زيد بن علي ، وابن أبي عبدة : وسبعة ، بالنصب.
قال الزمخشري : عطفاً على محل ثلاثة أيام ، كأنه قيل : فصيام ثلاثة أيام كقولك : { أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً } انتهى.
وخرجه الحوفي ، وابن عطية على إضمار فعل ، أي : فليصوموا ، أو : فصوموا سبعة ، وهو التخريج الذي لا ينبغي أن يعدل عنه ، لأنا قد قررنا أن العطف على الموضع لا بد فيه من المحرز ، ومجيء : وسبعة بالتاء هو الفصيح إجراء للمحذوف مجرى المنطوق به ، كما قيل : وسبعة أيام ، فحذف لدلالة ما قبله عليه ، وللعلم بأن الصوم إنما هو الأيام ، ويجوز في الكلام حذف التاء إذا كان المميز محذوفاً ، وعليه جاء : ثم اتبعه بست من شوال ، وحكى الكسائي : صمنا من الشهر خمساً ، والعامل في : إذا ، هو صيام ثلاثة أيام ، وبه متعلق في الحج لا يقال ذا عمل فيهما ، فقد تعدى العامل إلى ظرفي زمان ، لأن ذلك يجوز مع العطف والبدل ، وهنا عطف بالواو شيئين على شيئين ، كما تقول : أكرمت زيداً يوم الخميس وعمراً يوم الجمعة.
وإذا ، هنا محض ظرف ، ولا شرط فيها ، وفي : رجعتم ، التفات ، وحمل على معنى : من ، أما الالتفات.
فإن قوله : { فمن تمتع } { فمن لم يجد } اسم غائب ، ولذلك استتر في الفعلين ضمير الغائب ، فلو جاء على هذا النظم لكان الكلام إذا رفع ، وأما الحمل على المعنى فإنه أتى بضمير الجمع ، ولو راعى اللفظ لأفرد ، ولفظ الرجوع مبهم ، وقد جاء تبيينه في السنة.
ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمر ، في آخر : وليهد فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ، وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس : وسبعة إذا رجع إلى أهله إلى أمصاركم ، وبه قال قتادة ، وعطاء ، وابن جبير ، ومجاهد ، والربيع ، وقالوا : هذه رخصة من الله تعالى والمعنى إذا رجعتم إلى أوطانكم فلا يجب على أحد صوم السبعة إلا إذا وصل وطنه ، إلاّ أن يتشدد أحد ، كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان؛ وقال أحمد ، وإسحاق : يجزئه الصوم في الطريق؛ وقال مجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم : المعنى إذا رجعتم نفرتم وفرغتم من أعمال الحج ، وهذا مذهب أبي حنيفة.
فمن بقي بمكة صامها ، ومن نهض إلى بلده صامها في الطريق؛ قال مالك في ( الكتاب ) : إذا رجع من منىً فلا بأس أن يصوم.

{ تلك عشرة كاملة } تلك إشارة إلى مجموع الأيام المأمور بصومها قبل ، ومعلوم أن ثلاثة وسبعة عشرة ، فقال الأستاذ أبو الحسن علي بن أحمد الباذش ما معناه : أتى بعشرة توطئة للخبر بعدها ، لا أنها هي الخبر المستقبل به فائدة الإسناد ، فجيء بها للتوكيد ، كما تقول : زيد رجل صالح.
وقال ابن عرفة : مذهب العرب إذا ذكروا عددين أن يجملوهما.
وحسّن هذا القول الزمخشري بأن قال : فائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة ، كما علم تفصيلاً ليحاط به من جهتين ، فيتأكد العلم ، وفي أمثال العرب : علمان خير من علم؛ قال ابن عرفة : وإنما تفعل ذلك العرب لقلة معرفتهم بالحساب ، وقد جاء : لا يحسب ولا يكتب ، وورد ذلك في كثير من أشعارهم؛ قال النابغة :
توهمت آيات لها فعرفتها . . .
لست أعوامٍ وذا العام سابع
وقال الأعشى :
ثلاث بالغداة فهي حسبي . . .
وست حين يدركني العشاءُ
فذلك تسعة في اليوم ربي . . .
وشرب المرء فوق الري داءُ
وقال الفرزدق :
ثلاث واثنتان وهن خمس . . .
وسادسة تميل إلى شمام
وقال آخر :
فسرت إليهم عشرين شهرا . . .
وأربعة فذلك حجتان
وقال المفضل : لما فصل بينهما بإفطار قيدها بالعشرة ليعلم أنها كالمتصلة في الأجر ، وقال الزجاج : جمع العددين لجواز أن يظن أن عليه ثلاثة أو سبعة ، لأن الواو قد تقوم مقام : أو ، ومنه { مثنى وثلاث ورباع } فأزال احتمال التخيير ، وهو الذي لم يذكر ابن عطية إلا إياه ، وهو قول جار على مذهب أهل الكوفة لا على مذهب البصريين ، لأن الواو لا تكون بمعنى : أو.
وقال الزمخشري : الواو ، قد تجيء للإباحة في نحو قولك : جالس الحسن ، وابن سيرين.
ألا ترى أنه لو جالسهما جميعاً ، أو واحداً منهما كان ممتثلاً؟ ففذلكت نفياً لتوهم الإباحة.
انتهى كلامه.
وفيه نظر ، لأن لا تتوهم الإباحة هنا ، لأن السياق إنما هو سياق إيجاب ، وهو ينافي الإباحة ولا ينافي التخيير ، لأن التخيير قد يكون في الواجبات.
وقد ذكر النحويون الفرق بين التخيير والإباحة ، وقيل : هو تقديم وتأخير تقديره : فتلك عشرة : ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم ، وعزي هذا القول إلى أبي العباس المبرد ، ولا يصح مثل هذا القول عنه ، وننزه القرآن عن مثله ، وقيل : ذكر العشرة لئلا يتوهم أن السبعة مع الثلاثة كقوله تعالى : { وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام } أي مع اليومين اللذين بعدها في قوله : { خلق الأرض في يومين }
وقيل : ذكر العشرة لزوال توهم أن السبعة لا يراد بها العدد ، بل الكثرة ، روى أبو عمرو بن العلاء ، وابن الأعرابي عن العرب : سبع الله لك الأجر ، أي : أكثر ، أرادوا التضعيف وهذا جاء في الأخبار ، فله سبع ، وله سبعون ، وله سبعمائة ، وقال الأزهري في قوله تعالى : { سبعين مرة } هو جمع السبع الذي يستعمل للكثرة ، ونقل أيضاً عن المبرد أنه قال : تلك عشرة ، لأنه يجوز أن يظنّ السامع أن ثم شيئاً آخر بعد السبع ، فأزال الظنّ.

وقيل : أتى بعشرة لإزالة الإبهام المتولد من تصحيف الخط ، لاشتباه سبعة وتسعة ، وقيل : أتى بعشر لئلا يتوهم أن الكمال مختص بالثلاثة المضمومة في الحج ، أو بالسبعة التي يصومها إذا رجع ، والعشرة هي الموصوفة بالكمال ، والأحسن من هذه الأقاويل القول الأول.
قال الحسن : كاملة في الثواب في سدّها مسدّ الهدي في المعنى لذي جعلت بدلاً عنه ، وقيل : كاملة في الغرض والترتيب ، ولو صامها على غير هذا الترتيب لم تكن كاملة ، وقيل : كاملة في الثواب لمن لم يتمتع.
وقيل : كاملة ، توكيد كما تقول : كتبته بيدي ، { فخرّ عليهم السقف من فوقهم } قال الزمخشري : وفيه ، يعني : في التأكيد زيادة توصية بصيامها ، وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها ، كما تقول للرجل : إذا كان لك اهتمام بأمر تأمره به ، وكان منك بمنزلة : الله الله لا تقصر ، وقيل : الصيغة خبر ومعناها الأمر ، أي : اكملوا صومها ، فذلك فرضها.
وعدل عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر لأن التكليف بالشيء إذا كان متأكداً خلافاً لظاهر دخول المكلف به في الوجود ، فعبر عنه بالخبر الذي وقع واستقر.
وبهذه الفوائد التي ذكرناها ردّ على الملحدين في طعنهم بأن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة ، فهو إيضاح للواضحات ، وبأن وصف العشرة بالكمال يوهم وجود عشرة ناقصة ، وذلك محال.
والكمال وصف نسبيّ لا يختص بالعددية.
كما زعموا لعنهم الله :
وكم من عائب قولاً صحيحا . . .
وآفته من الفهم السقيم
{ ذلك لمن لم يجد أهله حاضري المسجد الحرام } تقدّم ذكر التمتع ، وذكر ما يلزمه ، وهو : الهدي ، وذكر بدله : وهو الصوم ، واختلفوا في المشار إليه بذلك ، فقيل : المتمتع وما يلزمه ، وهو مذهب أبي حنيفة ، فلا متعة ، ولا قران لحاضري المسجد الحرام ، ومن تمتع منهم أو قرن كان عليه دم جناية لا يأكل منه ، والقارن والمتمع من أهل الأفاق دمهما دم نسك يأكلان منه ، وقيل : ما يلزم المتمتع وهو : الهدي ، وهو مذهب الشافعي لا يوجب على حاضري المسجد الحرام شيئاً ، وإنما الهدي ، وبدله على الأفقي.
وقد تقدّم الخلاف في المكي هل يجوز له المتعة في أشهر الحج أم لا ، والأظهر في سياق الكلام أن الإشارة إلى جواز التمتع وما يترتب عليه ، لأن المناسب في الترخص : اللام ، والمناسب في الواجبات على.
وإذا جاء ذلك : لمن ، ولم يجىء : على من ، وزعم بعضهم أن : اللام ، هنا بمعنى : على ، كقوله : { أولئك لهم اللعنة }
وحاضروا المسجد الحرام.
قال ابن عباس ، ومجاهد : أهل الحرم كله ، وقال مكحول ، وعطاء : من كان دون المواقيت من كل جهة ، وقال الزهري : من كان على يوم أو يومين ، وقال عطاء بن أبي رباح : أهل مكة ، وضجنان ، وذي طوى ، وما أشبهها.

وقال قوم أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة ، وهو مذهب أبي حنيفة.
وقال قوم : أهل الحرم ، ومن كان من أهل الحرم على مسافة تقصر فيها الصلاة ، وهو مذهب الشافعي.
وقال قوم : أهل مكة ، وأهل ذي طوى ، وهو مذهب مالك.
وقال بعض العلماء : من كان بحيث تجب عليه الجمعة بمكة فهو حضري ، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي ، فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة.
والظاهر أن حاضري المسجد الحرام سكان مكة فقط ، لأنهم هم الذين يشاهدون المسجد الحرام ، وسائر الأقوال لا بد فيها من ارتكاب مجاز ، فيه بعد ، وبعضه أبعد من بعض ، وذكر حضور الأهل والمراد حضوره وهو ، لأن الغالب أن يسكن حيث أهله ساكنون.
{ واتقوا الله } لما تقدم : أمر ، ونهي ، وواجب ، ناسب أن يختم ذلك بالأمر بالتقوى في أن لا يتعدى ما حدّه الله تعالى ، ثم أكد الأمر بتحصيل التقوى بقوله : { واعلموا أن الله شديد العقاب } ، لأن من علم شدة العقاب على المخالفة كان حريصاً على تحصيل التقوى ، إذ بها يأمن من العقاب ، وشديد العقاب من باب إضافة الصفة للموصوف للشبهة ، والإضافة والنصب أبلغ من الرفع ، لأن فيها إسناد الصفة للموصوف ، ثم ذكر ، من هي له حقيقة ، والرفع إنما فيه إسنادها لمن هي له حقيقة فقط دون إسناد للموصوف.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أنهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حال الأهلة ، وفائدتها في تنقلها من الصغر إلى الكبر ، وكان من الإخبار بالمغيب ، فوقع السؤال عن ذلك ، وأجيبوا بأن حكمة ذلك كونها جعلت مواقيت لمصالح العباد ومعاملاتهم ودياناتهم ، ومن أعظم فائدتها كونها مواقيت للحج ، ثم ذكر شيئاً مما كان يفعله من أحرم بالحج ، وكانوا يرون ذلك براً ، فرد عليهم فيه ، وأمروا بأن يأتوا البيوت من أبوابها ، وأخبروا أن البر هو في تقوى الله ، ثم أمروا بالتقوى راجين للفلاح عند حصولها ، ثم أمروا بالقتال في نصرة الدين من قاتلهم ، ونهوا عن الاعتداء ، وأخبر أن الله تعالى لا يحب من اعتدى ، ثم أمروا بقتل من ظفروا به ، وبإخراج من أخرجهم من المكان الذي أخرجوه منه ، ثم أخبر أن الفتنة في الدين أو بالإخراج من الوطن ، أو بالتعذيب أشد من القتل ، لأن في القتل راحة من هذا كله ، ثم لما تضمن الأمر بالإخراج أن يخرجوا من المكان الذي أخرجوا منه ، وكان ذلك من جملته المسجد الحرام نهوا عن مقاتلتهم فيه إلاَّ إن قاتلوكم ، وذلك لحرمة المسجد الحرام جاهلية واسلاماً ، ثم أمر تعالى بقتلهم إذا ناشبوا القتال ، وكان فيه بشارة بأنا نقتلهم ، إذ أمرنا بقتلهم لا بقتالهم ، ولا يقتل الإنسان إلاَّ من كان متمكناً من قتله ، ثم ذكر أن من كفر بالله فمثل هذا الجزاء جزاؤه من مقاتلته وإخراجه من وطنه وقتله ، ثم أخبر تعالى أنه غفور رحيم لمن انتهى عن الكفر ودخل في الإسلام ، فإن الإسلام يجبُّ ما قبله ، ولما كان الأمر بالقتال ، فيما سبق ، مقيداً مرة بمن قاتل ، ومرة بمكان حتى يبدأ بالقتال فيه ، أمرهم بالقتال على كل حال من قاتل ومن لم يقاتل ، وعند المسجد الحرام وغيره ، فنسخ هذا الأمر تلك القيود ، وصار مغياً أو معللاً بانتفاء الفتنة وخلوص الدين لله ، وختم هذا الأمر بأن من انتهى ودخل في الإسلام فلا اعتداء عليه ، وإنما الاعتداء على الظالمين ، وهم الكافرون ، كما ختم الأمر السابق بأن من انتهى عن الكفر ودخل في الإسلام غفر الله له ورحمه ، ثم أخبر تعالى أن هتك حرمة الشهر الحرام بسبب القتال فيه ، وهو شهر ذي القعدة ، وكانوا يكرهون القتال فيه حين خرجوا لعمرة القضاء جائز لكم بسبب هتكهم حرمته فيه حين قاتلوكم فيه عام الحديبية ، وصدوكم عن البيت ، ثم أكد ذلك بقوله : { والحرمات قصاص } فاقتضى أن كل من هتك أي حرمة اقتص منه بأن تهتك له حرمة ، فكما هتكوا حرمة شهركم لا تبالوا بهتك حرمته لهم ، ثم أمر بالمجازاة لمن اعتدى علينا بعقوبة مثل عقوبته ، تأكيد لما سبق ، وأمر بالتقوى ، فلا يوقع في المجازاة غير ما سوَّغه له ، ثم قال إنه تعالى مع من اتقى ، ومن كان الله معه فهو المنصور على عدوه ، ثم أمر تعالى بإنفاق المال في سبيله ونصرة دينه ، وأن لا يخلد إلى الدعة والرغبة في إصلاح هذه الدنيا والإخلاد إليها ، ونهانا عن الالتباس بالدعة والهوينا فنضعف عن أعدائنا ، ويقوون هم علينا ، فيؤول أمرنا معهم لضعفنا وقوتهم إلى هلاكنا ، وفي هذا الأمر وهذا النهي من الحض على الجهاد ما لا يخفى ، ثم أمرهم تعالى بالإحسان ، وأنه تعالى يحب من أحسن ، ثم أمر تعالى بإتمام الحج والعمرة بأن يأتوا بهما تأمين كاملين بمناسكهما وشرائطهما ، وأن يكون فعل ذلك لوجه الله تعالى لا يشوب فعلها رياء ولا سمعة ، وكانوا في الجاهلية قد يحجون لبعض أصنامهم ، فأمروا بإخلاص العمل في ذلك لله تعالى.

ثم ذكر أن من أحصر وحبس عن إتمام الحج أو العمرة فيجب عليه ما يسر من الهدي ، والهدي يشمل : البعير ، والبقرة ، والشاة ، ثم نهى عن حلق الرأس حتى يبلغ الهدي محله ، والذي جرت العادة به في الهدي أنه محله هو الحرم ، فخوطبوا بما كان سابقاً لهم علمه به ، ولما غيا الحلق بوقوع هذه الغاية من بلوغ الهدي محله ، وكان قد يعرض للإنسان ما يقتضي حلق رأسه لمرض أو أذى برأسه من قمل أو قرح أو غير ذلك ، فأوجب تعالى عليه بسبب ذلك فدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك.
وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انبهم من هذا الإطلاق في هذه الثلاثة في حديث كعب بن عجرة على ما مر تفسيره ، واقتضى هذا التركيب التخيير بين هذه الثلاثة ، ثم ذكر تعالى أنهم إذا كانوا آمنين ، وتمتع أحدهم بالعمرة إلى وقت الإحرام بالحج فإنه يلزمه ما استيسر من الهدي ، وقد فسرنا ما استيسر من الهدي ، وأنه إذا لم يجد ذلك بتعذر ثمن الهدي ، أو فقدان الهدي ، فيلزمه صيام ثلاثة أيام في الحج ، أي : في زمن وقوع الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله ووطنه.

ثم أخبر أن هذه الأيام ، وإن اختلف زمان صيامها ، فمنها ما يصومه وهو ملتبس بهذه الطاعة الشريفة ، ومنها ما يصومه غير ملتبس بها ، لكن الجميع كامل في الثواب والأجر ، إذ هو ممثل ما أمر الله تعالى به ، فلا فرق في الثواب بين ما أمر بإيقاعه في الحج ، وما أمر بإيقاعه في غير الحج.
ثم ذكر أن هذا التمتع ، ولازمه من الهدي أو الصوم ، هو مشروع لغير المكي ، ثم لما تقدّم منه تعالى في هذه الآيات أوامر ونواهي ، كرر الأمر بالتقوى ، وأعلم أنه تعالى شديد العقاب لمن خالف ما شرع تعالى.
وجاءت هذه الآية شديدة الالتئام ، مستحكمة النظام ، منسوقاً بعضها على بعض ، ولا كنسق اللآلىء مشرقة الدلالة ولا كإشراق الشمس في برجها العالي.
سامية في الفصاحة إلى أعالي الذرى ، معجزة أن يأتى بمثلها أحد من الورى.

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)

الجدال : فعال مصدر : جادل ، وهي المخاصمة الشديدة ، مشتق ذلك من الجدالة ، وهي الأرض.
كان كل واحد من الخصمين يقاوم صاحبه حتى يغلبه ، فيكون كمن ضرب منه الجدالة ، ومنه قول الشاعر :
قد أنزل الآلة بعد الآلة . . .
وأنزل العاجز بالجدالة
أي : بالأرض ، وقيل : اشتق ذلك من الجدل وهو القتل ، ومنه قيل : زمام مجدول ، وقيل : له جديل ، لقتله وقيل : للصقر : الأجدل لشدّته واجتماع حلقه ، كأن بعضه فتل في بعض فقوي.
الزاد : معروف ، وهو ما يستصحبه الإنسان للسفر من مأكول ، ومشروب ، ومركوب ، وملبوس ، إن احتاج إلى ذلك ، وألفه منقلبة عن واو ، يدل على ذلك قولهم : تزوّد ، تفعَّل من الزاد.
الإفاضة : الانخراط والاندفاع والخروج من المكان بكثرة شبه بفيض الماء والدمع ، فأفاض من الفيض لا من فوض ، وهو اختلاط الناس بلا سايس يسوسهم ، وأفعل هذا بمعنى المجرد ، وليست الهمزة للتعدية ، لأنه لا يحفظ : أفضت زيد ، بهذا المعنى الذي شرحناه ، وإن كان يجوز في فاض الدمع أن يعدي بالهمزة ، فتقول : أفاض الحزن ، أي : جعله يفيض.
وزعم الزجاج ، وتبعه الزمخشري ، وصاحب ( المنتخب ) أن الهمزة في أفاض الناس للتعدية ، قال : وأصله : أفضتم أنفسكم ، وشرحه صاحب ( المنتخب ) بالاندفاع في السير بكثرة ، وكان ينبغي أن يشرحه بلفظ متعدد.
قال معناه : دفع بعضكم بعضاً ، قال : لأن الناس إذا انصرفوا مزدحمين دفع بعضهم بعضاً ، وقيل : الإفاضة الرجوع من حيث بدأتم ، وقيل : السير السريع ، وقيل : التفرق بكثرة ، وقيل : الدفع بكثرة ، ويقال : رجل فياض أي مندفق بالعطاء ، وقيل : الانصراف ، من قولهم : أفاض بالقداح ، وعلى القداح ، وهي سهام الميسر ، وأفاض البعير بجرانه.
عرفات علم على الجبل الذي يقفون عليه في الحج ، فقيل : ليس بمشتق ، وقيل : هو مشتق من المعرفة ، وذلك سبب تسميته بهذا الاسم.
وفي تعيين المعرفة أقاويل : فقيل : لمعرفة ابراهيم بهذه البقعة إذ كانت قد نعتت له قبل ذلك.
وقيل : لمعرفته بهاجر وإسماعيل بهذه البقعة ، وكانت سارة قد أخرجت إسماعيل في غيبة ابراهيم ، فانطلق في طلبه حين فقده ، فوجده وأمّه بعرفات ، وقيل : لمعرفته في ليلة عرفة أن الرؤيا التي رآها ليلة يوم التروية بذبح ولده كانت من الله ، وقيل : لما أتى جبريل على آخر المشاعر في توقيفه لابراهيم عليها ، قال له : أعرفت؟ قال : عرفت ، فسميت عرفة ، وقيل : لأن الناس يتعارفون بها ، وقيل : لتعارف آدم وحوّاء بها ، لأن هبوطه كان بوادي سرنديب ، وهبوطها كان بجدّة ، وأمره الله ببناء الكعبة ، فجاء ممتثلاً ، فتعارفا بهذه البقعة.
وقيل : من العرف ، وهو الرائحة الطيبة ، وقيل : من العرف ، وهو : الصبر ، وقيل : العرب تسمي ما علا عرفات وعرفة ، ومنه : عرف الديك لعلوه ، وعرفات مرتفع على جميع جبال الحجاز ، وعرفات وإن كان اسم جبل فهو مؤنث ، حكى سيبويه : هذه عرفات مباركاً فيها ، وهي مرادفة لعرفة ، وقيل : إنها جمع ، فإن عنى في الأصل فصحيح وإن عنى حالة كونها علماً فليس بصحيح ، لأن الجمعية تنافي العلمية.

وقال قوم : عرفه اسم اليوم ، وعرفات اسم البقعة.
والتنوين في عرفات ونحوه تنوين مقابلة ، وقيل : تنوين صرف ، واعتذر عن كونه منصرفاً مع التأنيث والعلمية ، بأن التأنيث إنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث ، وإن كان بالتقدير : كسعاد ، فلا يصح تقديرها في عرفات ، لأن هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها كما تقدر تاء التأنيث في بنت ، لأن التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث ، فأنث تقديرها.
انتهى هذا التعليل وأكثره للزمخشري ، وأجراه في القرآن مجرى ما لم يسم فاعله من إبقاء التنوين في الجر ، ويجوز حذفه حالة التسمية ، وحكى الكوفيون ، والأخفش إجراء ذلك وما أشبهه مجرى فاطمة ، وأنشدوا بيت امرئ القيس :
تنوّرتها من أذرعات وأهلها . . .
بيثرب أدنى دارها نظر عالي
بالفتح.
النصيب : الحظ وجمعه على أفعلاء شاذ ، لأنه اسم ، قالوا : أنصباء ، وقياسه : فعل نحو : كثيب وكثب.
سريع : اسم فاعل من : سرع يسرع سرعة فهو سريع ، ويقال : أسرع وكلاهما لازم.
الحساب : مصدر حاسب ، وقال أحمد بن يحيى : حسبت الحساب أحسبه حسباً وحسباناً ، والحساب الاسم ، وقيل : الحساب مصدر حسب الشيء ، والحساب في اللغة هو العدوّ؛ وقال الليث بن المظفر ، ويعقوب : حسب يحسب حسباناً وحسابة وحسبة وحسباً ، وأنشد :
وأسرعت حسبة في ذلك العدد . . .
ومنه : حسب الرجل ، وهو ما عدّه من مآثره ومفاخره ، والاحساب : الاعتداد بالشيء.
وقال الزجاج : الحساب : في اللغة مأخوذ من قولك : حسبك كذا ، أي : كفاك ، فسمي الحساب من المعاملات حساباً لأنه يعلم ما فيه كفاية ، وليس فيه زيادة ولا نقصان.
{ الحج أشهر معلومات } لما أمر الله تعالى بإتمام الحج والعمرة ، وكانت العمرة لا وقت لها معلوماً.
بين أن الحج له وقت معلوم ، فهذه مناسبة هذه الآية لما قبلها.
والحج أشهر ، مبتدأ وخبر ولا بد من حذف ، إذ الأشهر ليست الحج ، وذلك الحذف أما في المبتدأ ، فالتقدير : أشهر الحج ، أو وقت الحج ، أو : في الخبر ، أي : الحج حج أشهر ، أو يكون : الأصل في أشهر ، فاتسع فيه ، وأخبر بالظرف عن الحج لما كان يقع فيه ، وجعل إياه على سبيل التوسع والمجاز ، وعلى هذا التقدير كان يجوز النصب ، ولا يمتنع في العربية.
قال ابن عطية : ومن قدر الكلام : في أشهر ، فيلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر ، ولم يقرأ بنصبها أحد.
انتهى كلامه.
ولا يلزم نصب الأشهر مع سقوط حرف الجر ، كما ذكر ابن عطية : لأنا قد ذكرنا أنه يرفع على الاتساع ، وهذا لا خلاف فيه عند البصريين ، أعني أنه إذا كان ظرف الزمان نكرة خبراً عن المصادر ، فإنه يجوز عندهم الرفع والنصب ، وسواء كان الحدث مستغرقاً للزمان أو غير مستغرق ، وأما الكوفيون فعندهم في ذلك تفصيل ، وهو : أن الحدث إما أن يكون مستغرقاً للزمان ، فيرفع ، ولا يجوز فيه النصب ، أو غير مستغرق فذهب هشام أنه يجب في الرفع ، فيقول : ميعادك يوم ، وثلاثة أيام ، وذهب الفراء إلى جواز النصب والرفع كالبصريين ، ونقل عن الفراء في هذا الموضع أنه لا يجوز نصب الأشهر ، لأن : أشهراً ، نكرة غير محصورة.

وهذا النقل مخالف لما نقلنا نحن عنه ، فيمكن أن يكون له القولان ، قول البصريين ، وقول هشام ، وجمع شهر على أفعل لأنه جمع قلة بخلاف قوله { إن عدة الشهور } فإنه جاء على : فعول ، وهو جمع الكثرة.
وظاهر لفظ أشهر الجمع ، وهو : شوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، كله ، وبه قال ابن مسعود ، وابن عمر ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، والزهري ، والربيع ، ومالك.
وقال ابن عباس ، وابن الزبير ، وابن سيرين ، والحسن ، وعطاء ، والشعبي ، وطاووس ، والنخعي ، وقتادة ، ومكحول ، والسدي ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وابن حبيب ، عن مالك ، هي : شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة.
وروي هذا عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وحكى الزمخشري ، وصاحب ( المنتخب ) عن الشافعي : أن الثالث التسعة من ذي الحجة مع ليلة النحر ، لأن الحج يفوت بطلوع الفجر.
وهذان القولان فيهما مجاز ، إذ أطلق على بعض الشهر ، شهر.
وقال الفراء : تقول العرب : له اليوم يومان لم أره ، وإنما هو وبعض يوم آخر ، وإنما قالوا ذلك تغليباً لأكثر الزمان على أقله ، وهو كما نقل في الحديث : أيام منى ثلاثة أيام وإنما هي يومان وبعض الثالث ، وهو من باب إطلاق بعض على كل ، وكما قال الشاعر :
ثلاثون شهراً في ثلاثة أحوال . . .
على أحد التأويلين ، قيل : ولأن العرب توقع الجمع على التثنية إذا كانت التثنية أقل الجمع ، وقال الزمخشري.
فإن قلت : فكيف كان الشهران.
وبعض الشهر أشهراً؟ قلت : اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد ، بدليل قوله تعالى { فقد صغت قلوبكما } فلا سؤال فيه إذن ، وإنما يكون موضعاً للسؤال لو قيل : ثلاثة أشهر معلومات.
انتهى كلامه.
وما ذكره الدعوى فيه عامة ، وهو أن اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد ، وهذا فيه النزاع.
والدليل الذي ذكره خاص ، وهو : { فقد صغت قلوبكما } وهذا لا خلاف فيه ، ولإطلاق الجمع في مثل هذا على التثنية شروط ذكرت في النحو و : أشهر ، ليس من باب { فقد صغت قلوبكما } فلا يمكن أن يستدل به عليه.
وقوله : فلا سؤال فيه ، إذن ليس بجيد ، لأنه فرض السؤال بقوله : فإن قلت؟ وقوله فإنما كان يكون موضعاً للسؤال لو قيل : ثلاثة أشهر معلومات ، ولا فرق عندنا بين شهر وبين قوله ثلاثة أشهر ، لأنه كما يدخل المجاز في لفظ أشهر ، كذلك قد يدخل المجاز في العدد ، ألا ترى إلى ما حكاه الفراء : له اليوم يومان لم أره؟ قال : وإنما هو يوم وبعض يوم آخر ، وإلى قول امرء :
ثلاثين شهراً في ثلاثة أحوال
على ما قدّمنا ذكره ، وإلى ما حكي عن العرب ، ما رأيته مذ خمسة أيام وإن كنت قد رأيته في اليوم الأول والخامس فلم يشمل الإنتفاء خمسة أيام جميعها بل تجعل ما رأيته في بعضه ، وانتفت الرؤية في بعضه ، كان يوم كامل لم تره فيه ، فإذا كان هذا موجوداً في كلامهم فلا فرق بين أشهر ، وبين ثلاثة أشهر ، ولكن مجاز الجمع أقرب من مجاز العدد.

قالوا : وثمرة الخلاف بين قول من جعل الأشهر هي الثلاثة بكمالها ، وبين من جعلها شهرين وبعض الثالث ، يظهر في تعلق الذم فيما يقع من الأعمال يوم النحر ، فعلى القول الأول لا يلزمه دم لأنها وقعت في أشهر الحج ، وعلى الثاني يلزمه ، لأنه قد انقضى الحج بيوم النحر ، وأخَّر عمل ذلك عن وقته.
وفائدة التوقيت بالأشهر أن شيئاً من أفعال الحج لا يصح إلاَّ فيها ، ويكره الإحرام بالحج في غيرها عند أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد ، وبه قال النخعي.
قال : ولا يحل حتى يقضي حجه.
وقال عطاء ، ومجاهد ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأبو الثور : لا يصح ، وينقلب عمرة ويحل لها.
وقال ابن عباس : من سنة الحج الإحرام به.
وسبب الخلاف اختلافهم في المحذوف في قوله : { الحج أشهر معلومات } هل التقدير : الإحرام بالحج أو أفعال الحج؟ وذكر الحج في هذه الأشهر لا يدل على أن العمرة لا تقع ، وما روي عن عمر وابنه عبد الله أن العمرة لا تستحب فيها ، فكأن هذه الأشهر مخلصة للحج.
وروي أن عمر كان يخفق الناس بالدرّة ، وينهاهم عن الاعتمار فيهن ، وعن ابن عمر أنه قال لرجل : إن أطلقني انتظرت ، حتى إذا أهللت المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة.
ومعنى : معلومات ، معروفات عند الناس ، وأن مشروعية الحج فيها إنما جاءت على ما عرفوه وكان مقرراً عندهم.
{ فمن فرض فيهن الحج } أي : من ألزم نفسه الحج فيهن ، وأصل الفرض الحرَ الذي يكون في السهام والقسي وغيرها ، ومنه فرضة النهر والجبل ، والمراد بهذا الفرض ما يصير به المحرم محرماً ، قال ابن مسعود : وهو الإهلال بالحج والإحرام ، وقال عطاء ، وطاووس : هو أن يلبي ، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين رحمهم الله ، وهي رواية شريك عن ابن عباس : إن فرض الحج بالتلبية.
وروي عن عائشة : لا إحرام إلاَّ لمن أهلَّ ولبَّى ، وأخذ به أبو حنيفة وأصحابه ، وابن حبيب ، وقالوا ، هم وأهل الظاهر : إنها ركن من أركان الحج.
وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا قلد بدنته وساقها يريد الإحرام.
فقد أحرم ، قول هذا على أن مذهبه وجوب التلبية ، أو ما قام مقامها من الدم ، وروي عن ابن عمر : إذا قلد بدنته وساقها فقد أحرم ، وروي عن علي ، وقيس بن سعد ، وابن عباس ، وطاووس ، وعطاء ، ومجاهد ، والشعبي ، وابن سيرين ، وجابر بن زيد ، وابن جبير : أنه لا يكون محرماً بذلك ، وقال ابن عباس ، وقتادة ، والحسن : فرض الحج الإحرام به ، وبه قال الشافعي.

وهذه الأقوال كلها مع اشتراط النية.
وملخص ذلك أنه يكون محرماً بالنية ، والإحرام عند مالك ، والشافعي ، وبالنية والتلبية أو سوق الهدي عند أبي حنيفة ، أو النية وإشعار الهدي أو تقليده عند جماعة من العلماء.
و : مَنْ ، شرطية أو موصولة ، و : فيهن ، متعلق بفرض ، والضمير عائد على : أشهر ، ولم يقل : فيها ، لأن أشهراً جمع قلة ، وهو جار على الكثير المستعمل من أن جمع القلة لما لا يعقل يجرى مجرى الجمع مطلقاً للعاقلات على الكثير المستعمل أيضاً ، وقال قوم : هما سواء في الاستعمال.
{ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } الرفث هنا قال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، والحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، والزهري ، والسدي : هو الجماع؛ وقال ابن عمر ، وطاووس ، وعطاء ، وغيرهم : هو الإفحاش للمرأة بالكلام ، كقوله : إذا أحللنا فعلنا بك كذا ، لا يكني ، وقال قوم : الإفحاش بذكر النساء ، كان ذلك بحضرتهن أم لا؛ وقال قوم : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من أهله ، وقال أبو عبيدة : هو اللغو من الكلام ، وقال ابن الزبير : هو التعرض بمعانقة ومواعدة أو مداعبة أو غمز.
وملخص هذه الأقوال أنها دائرة بين شيء يفسده وهو الجماع ، أو شيء لا يليق لمن كان ملتبساً بالحج لحرمة الحج.
والفسوق : فسر هذا بفعل ما نهى عنه في الإحرام من قتل صيد ، وحلق شعر ، والمعاصي كلها لا يختص منها شيء دون شيء قاله ابن عباس ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وطاووس.
أو الذبح للأصنام ومنه : { أو فسقاً أهل لغير الله به } قاله ابن زيد ، ومالك ، أو التنابذ بالألقاب قال : { بئس الاسم الفسوق } قاله الضحاك ، أو السباب منه : «سباب المسلم فسوق».
قاله ابن عمر أيضاً ، ومجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم ، والسدي ، ورجح محمد بن جرير أنه ما نهي عنه الحاج في إحرامه لقوله : { فمن فرض فيهن الحج }.
وقد علم أن جميع المعاصي محرم على كل أحد من محرم وغيره ، وكذلك التنابذ ، ورجح ابن عطية ، والقرطبي المفسر وغيرهما قول من قال : إنه جميع المعاصي لعمومه جميع الأقوال والأفعال ، ولأنه قول الأكثر من الصحابة والتابعين ، ولأنه روي : " والذي نفسي بيده ، ما بين السماء والأرض عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله ، أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال "
وقال العلماء : الحج المبرور هو الذي لم يعص الله في أثناء أدائه؛ وقال الفراء : هو الذي لم يعص الله بعده.
والجدال : هنا مماراة المسلم حتى يغضب ، فأما في مذاكرة العلم فلا نهي عنها ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد.

أو السباب ، قاله ابن عمر ، وقتادة.
أو : الاختلاف : أيهم صادف موقف أبيهم؟ وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية ، تقف قريش في غير موقف العرب ، ثم يتجادلون بعد ذلك ، قاله ابن زيد ، ومالك.
أو يقول قوم : الحج اليوم ، وقوم الحج غداً ، قاله القاسم.
أو المماراة في الشهور حسبما كانت العرب عليه من الذي كانوا ربما جعلوا الحج في غير ذي الحجة ، ويقف بعضهم بجمع ، وبعضهم بعرفة ، ويتمارون في الصواب من ذلك ، قاله مجاهد.
قال ابن عطية : وهذا أصح الأقوال ، وأظهرها قرر الشرع وقت الحج وإحرامه حتم لا جدال فيه.
أو قول طائفة : حجنا أبر من حجكم ، وتقول الأخرى مثل ذلك ، قاله محمد بن كعب القرطبي ، أو الفخر بالآباء ، قاله بعضهم ، أو قول الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم إنا أهللنا بالحج ، حين قال في حجة الوداع : « من لم يكن معه هدي فليحلل من إحرامه وليجعلها عمرة » قاله مقاتل.
أو المراء مع الرفقاء والخدام والمكارين ، قاله الزمخشري.
أو كلَّ ما يسمى جدالاً للتغالب ، وحظ النفس ، فتدخل فيه الأقوال التسعة السابقة.
و : الفاء ، في : فلا رفث ، هي الداخلة في جواب الشرط ، إن قدر : من ، شرطاً ، وهو الأظهر ، أو في الخبر إن قدر : من ، موصولاً.
وقرأ ابن مسعود والأعمش : رفوث ، وقد تقدّم أن الرفث والرفوث مصدران.
وقرأ أبو جعفر بالرفع والتنوين في الثلاثة ، ورويت عن عاصم في بعض الطرق ، وهو طريق المفضل عن عاصم ، وقرأ أبو رجاء العطاردي بالنصب والتنوين في الثلاثة.
وقرأ الكوفيون ، ونافع بفتح الثلاثة من غير تنوين؛ وقرأ ابن كثير ، وأبو عمر برفع : فلا رفث ولا فسوق ، والتنوين ، وفتح : ولا جدال ، من غير تنوين.
فأمّا من رفع الثلاثة فإنه جعل : لا ، غير عاملة ورفع ما بعدها بالابتداء ، والخبر عن الجميع هو قوله : في الحج ، ويجوز أن يكون خبراً عن المبتدأ الأول ، وحذف خبر الثاني.
والثالث للدلالة ، ويجوز أن يكون خبراً عن الثالث وحذف خبر الأول والثاني للدلالة ، ولا يجوز أن يكون خبراً عن الثاني ويكون قد حذف خبر الأول والثالث لقبح هذا التركيب والفصل.
قيل : ويجوز أن تكون : لا ، عاملة عمل ليس فيكون : في الحج ، في موضع نصب ، وهذا الوجه جزم به ابن عطية ، فقال : و : لا ، في معنى ليس في قراءة الرفع ، وهذا الذي جوّزه وجزم به ابن عطية ضعيف ، لأن إعمال : لا ، إعمال : ليس ، قليل جداً ، لم يجىء منه في لسان العرب إلاَّ ما لا بال له ، والذي يحفظ من ذلك قوله :
تعزّ فلا شيء على الأرض باقياً . . .
ولا وزرٌ مما قضى الله واقياً
أنشده ابن مالك ، ولا أعرف هذا البيت إلاَّ من جهته ، وقال النابغة الجعدي :
وحلت سواد القلب لا أنا باغياً . . .
سواها ولا في حبها متراخياً

وقال آخر :
أنكرتها بعد أعوام مضين لها . . .
لا الدار دار ولا الجيرانُ جيرانا
وخرج على ذلك سيبويه قول الشاعر :
من صدّ عن نيرانها . . .
فأنا ابن قيس لا براح
وهذا كله يحتمل التأويل ، وعلى أن يحمل على ظاهره لا ينتهي من الكثرة بحيث تبنى عليه القواعد ، فلا ينبغي أن يحمل عليه كتاب الله الذي هو أفصح الكلام وأجله ، ويعدل عن الوجه الكثير الفصيح.
وأما قراءة النصب والتنوين فإنها منصوبة على المصادر ، والعامل فيها أفعال من لفظها ، التقدير : فلا يرفث رفثاً ، ولا يفسق فسوقاً ، ولا يجادل جدالاً.
و : في الحج ، متعلق بما شئت من هذه الأفعال على طريقة الإعمال والتنازع.
وأما قراءة الفتح في الثلاثة من غير تنوين ، فالخلاف في الحركة ، أهي حركة إعراب أو حركة بناء؟ الثاني قول الجمهور ، والدلائل مذكورة في النحو ، وإذا بنى معها على الفتح فهل المجموع من لا والمبنى معها في موضع رفع على الابتداء؟ وإن كانت : لا ، عاملة في الاسم النصب على الموضع ، ولا خبر لها ، أو ليس المجموع في موضع مبتدأ؟ بل.
لا ، عاملة في ذلك الاسم النصب على الموضع ، وما بعدها خبر : لا ، إذا أجريت مجرى.
إن ، في نصب الاسم ورفع الخبر ، قولان للنحويين ، الأول : قول سيبويه ، والثاني : الأخفش ، فعلى هذين القولين يتفرّع إعراب : في الحج ، فيكون في موضع خبر المبتدأ على مذهب سيبويه ، وفي موضع خبر : لا ، على مذهب الأخفش.
وأما قراءة من رفع ونون : فلا رفث ولا فسوق ، وفتح من غير تنوين : ولا جدال ، فعلى ما اخترناه من الرفع على الابتداء ، وعلى مذهب سيبويه : إن المفتوح مع : لا ، في موضع رفع على الابتداء ، يكون : في الحج ، خبراً عن الجميع ، لأنه ليس فيه ، إلاَّ العطف ، عطف مبتدأ على مبتدأ.
وأمّا قول الأخفش فلا يصح أن يكون : في الحج ، إلاَّ خبراً للمبتدأين ، أو : لا ، أو خبر للا ، لاختلاف المعرب في الحج ، يطلبه المبتدأ أو تطلبه لا فقد اختلف المعرب فلا يجوز أن يكون خبراً عنهما.
وقال ابن عطية في هذه القراءة ما نصه : و : لا ، بمعنى ليس في قراءة الرفع ، وخبرها محذوف على قراءة أبي عمرو ، و : في الحج ، خبر : لا جدال ، وحذف الخبر هنا هو على مذهب أبي علي ، وقد خولف في ذلك بل : في الحج ، هو خبر الكل ، إذ هو في موضع رفع في الوجهين ، لأن : لا ، إنما تعمل على بابها فيما يليها ، وخبرها مرفوع بأن على حاله من خبر الابتداء ، وظنّ أبو علي أنها بمنزلة : ليس ، في نصب الخبر ، وليس كذلك ، بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر ، و : في الحج ، هو الخبر انتهى كلامه.
وفيه مناقشات.
الأولى : قوله و : لا ، بمعنى : ليس ، وقد قدّمنا أن كون : لا ، بمعنى ليس هو من القلة في كلامهم بحيث لا تبنى عليه القواعد ، وبيَّنا أن ارتفاع مثل هذا إنما هو على الإبتداء.

الثانية : قوله : وخبرها محذوف على قراءة أبي عمرو ، وقد نص الناس على أن خبر كان وأخواتها ومنها : ليس ، لا يجوز حذفه لا اختصاراً ، ولا اقتصاراً ، ثم ذكروا أنه قد حذف خبر ليس في الشعر في قوله :
يرجو جوارك حين ليس مجير . . .
على طريق الضرورة أو الندور ، وما كان هكذا فلا يحمل القرآن عليه.
الثالثة : قوله بل : في الحج ، هو خبر الكل إذ هو في موضع رفع على الوجهين ، يعني بالوجهين : كونها بمعنى : ليس ، وكونها مبنية مع : لا ، وهذا لا يصح ، لأنها إذا كانت بمعنى ليس احتاجت إلى خبر منصوب ، وإذا كانت مبنية مع لا احتاجت إلى أن يرتفع الخبر إما لكونها هي العاملة فيه الرفع على مذهب الأخفش ، وإما لكونها مع معمولها في موضع رفع على الإبتداء فيقتضي أن يكون خبراً للمبتدأ على مذهب سيبويه ، على ما قدمناه من الخلاف ، وإذا تقرر هذا امتنع أن يكون : في الحج ، في موضع رفع على ما ذكر ابن عطية من الوجهين.
الرابعة : قوله : لأن : لا ، إنما تعمل على بابها فيما تليها ، وخبرها مرفوع باق على حاله من خبر الابتداء ، هذا تعليل لكون : في الحج ، خبراً للكل ، إذ هي في موضع رفع في الوجهين على ما ذهب إليه ، وقد بينا أن ذلك لا يجوز ، لأنها إذا كانت بمعنى : ليس ، كان خبرها في موضع نصب ، ولا يناسب هذا التعليل إلاَّ كونها تعمل عمل إن فقط ، على مذهب سيبويه لا على مذهب الأخفش ، لأنه على مذهب الأخفش يكون : في الحج ، في موضع رفع بلا ، و : لا ، هي العاملة الرفع ، فاختلف المعرب على مذهبه ، لأن قراءة الرفع هي على الابتداء ، وقراءة الفتح في : ولا جدال ، هي على عمل : لا ، عمل إن.
الخامسة : قوله : وظنّ أبو علي أنها بمنزلة : ليس ، في نصب الخبر وليس كذلك ، هذا الظنّ صحيح ، وهو كما ظنّ ، ويدل عليه أن العرب حين صرحت بالخبر على أن : لا ، بمعنى ليس أتت به منصوباً في شعرها ، فدل على أن ما ظنه أبو علي من نصب الخبر صحيح ، لكنه من الندور بحيث لا تبنى عليه القواعد كما ذكرنا ، فأجازه أبو علي ، مثل هذا في القرآن لا ينبغي.
السادسة : قوله : بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر ، و : في الحج ، هو الخبر ، هذا الذي ذكره توكيد لما تقرر قبل من أنها إذا كانت بمعنى : ليس ، إنما تعمل في الاسم الرفع فقط ، وهي والاسم في موضع رفع بالابتداء ، وأن الخبر يكون مرفوعاً لذلك المبتدأ ، وقد بينا أن ذلك ليس بصحيح لنصب العرب الخبر إذا كانت بمعنى : ليس ، وعلى تقدير ما قاله لا يمكننا العلم بأنها تعمل عمل ليس في الاسم فقط إذا كان الخبر مرفوعاً ، لأنه ليس لنا إلاَّ صورة : لا رجل قائم ، ولا امرأة.

فرجل هنا مبتدأ ، وقائم خبر عنه ، وهي غير عاملة ، وإنما يمتاز كونها بمعنى ليس ، وارتفاع الاسم بها من كونه مبتدأ بنصب الخبر إذا كانت بمعنى ليس ، ورفع الخبر إذا كان ما بعدها مرفوعاً بالابتداء ، وإلاَّ فلا يمكن العلم بذلك أصلاً لرجحان أن يكون ذلك الاسم مبتدأ ، والمرفوع بعده خبره.
وقال الزمخشري : وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير الأولين بالرفع والآخر بالنصب لأنهما حملا الأولين على معنى النهي ، كأنه قيل : فلا يكونن رفث ولا فسوق ، والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال ، كأنه قيل : ولا شك ولا خلاف في الحج؛ وذلك أن قريشاً كانت تخالف سائر العرب ، فتقف بالمشعر الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة ، وكانوا يقدمون الحج سنة ويؤخرونه سنة ، وهو النسيء ، فرد إلى وقت واحد ، ورد الوقوف إلى عرفة ، فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج.
واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال ، بقوله عليه السلام : « من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمّه » ، وأنه لم يذكر الجدال.
انتهى كلامه.
وفيه تعقبات.
الأول : تأويله على أبي عمرو ، وابن كثير أنهما حملا الأولين على معنى النهي بسبب الرفع والثالث على الإخبار بسبب البناء ، والرفع والبناء لا يقتضيان شيئاً من ذلك ، بل لا فرق بين الرفع والبناء في أن ما كانا فيه كان مبنياً ، وأما أن الرفع يقتضي النهي ، والبناء يقتضي الخبر فلا ، ثم قراءة الثلاثة بالرفع وقراءتها كلها بالبناء يدل على ذلك ، غاية ما فرق بينهما أن قراءة البناء نص على العموم ، وقراءة الرفع مرجحة له ، فقراءتهما الأوّلين بالرفع والثالث بالبناء على الفتح إنما ذلك سنة متبعة إذا لم يتأد ذلك إليهما إلاَّ على هذا الوجه من الوجوه الجائزة في العربية في مثل هذا التركيب.
الثاني : قوله : كأنه قيل : ولا شك ولا خلاف في الحج ، وترشيح ذلك بالتاريخ الذي ذكره بهذا التفسير مناقض لما شرح هو به الجدال ، لأنه قال قبل : ولا جدال ولا مراء مع الرفقاء والخدم والمكارين.
وهذا التفسير في الجدال مخالف لذلك التفسير.
الثالث : أن التاريخ الذي ذكره هو قولان في تفسير : ولا جدال ، للمتقدمين اختلافهم : في الموقف : لابن زيد ، ومالك ، والنسيء : لمجاهد ، فجعلهما هو شيئاً واحداً سبباً للإخبار أن لا جدال في الحج.
الرابع : قوله واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال إلى آخر كلامه ، ولا دليل في ذلك ، لأن الجدال إن كان من باب المحظور فقد اندرج في قوله : { ولا فسوق } لعمومه ، وإن كان من باب المكروه وترك الأولى ، فلا يجعل ذلك شرطاً في غفران الذنوب ، فلذلك رتب صلى الله عليه وسلم غفران الذنوب على النهي عن ما يفسد الحج من المحظور فيه ، الجائز في غير الحج ، وهو الجماع المكني عنه بالرفث؛ ومن المحظور الممنوع منه مطلقاً في الحج وفي غيره ، وهو معصية الله المعبر عنها بالفسوق ، وجاء قوله : ولا جدال ، من باب التتميم لما ينبغي أن يكون عليه الحاج ، من : إفراغ أعماله للحج ، وعدم المخاصمة والمجادلة.

فمقصد الآية غير مقصد الحديث ، فلذلك جمع في الآية بين الثلاثة ، وفي الحديث اقتصر على الاثنين.
وقد بقي الكلام على هذه الجملة : أهي مراد بها النفي حقيقة فيكون إخباراً؟ أو صورتها صورة النفي والمراد به النهي؟ اختلفوا في ذلك فقال في ( المنتخب ) قال أهل المعاني : ظاهر الآية نفي ، ومعناها نهي.
أي : فلا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا ، كقوله تعالى : { لا ريب فيه } أي : لا ترتابوا فيه ، وذكر القاضي أن ظاهره الخبر ، ويحتمل النهي ، فإذا حمل على الخبر فمعناه : أن حجه لا يثبت مع واحدة من هذه الخلال ، بل يفسد ، فهو كالضد لها وهي مانعة من صحته ، ولا يستقيم هذا المعنى ، إلاَّ إن أريد بالرفث : الجماع ، والفسوق : الزنا ، وبالجدال : الشك في الحج وفي وجوبه ، لأن الشك في ذلك كفر ولا يصح معه الحج ، وحملت هذه الألفاظ على هذه المعاني حتى يصح خبر الله ، لأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج ، وإذا حمل على النهي ، وهو خلاف الظاهر ، صلح أن يراد بالرفث : الجماع ، ومقدماته ، وقول الفحش والفسوق والجدال جميع أنواعهما لإطلاق اللفظ ، فيتناول جميع أقسامه ، لأن النهي عن الشيء نهي عن جميع أقسامه.
وتكون الآية جلية على الأخلاق الجميلة ، ومشيرة إلى قهر القوة الشهوانية ، بقوله : { فلا رفث } وإلى قهر القوة النفسانية بقوله : { ولا فسوق } وإلى قهر القوة الوهمية بقوله : { ولا جدال } فذكر هذه الثلاثة لأن منشأ الشر محصور فيها ، وحيث نهى عن الجدال حمل الجدال على تقرير الباطل وطلب المال والجاه ، لا على تقرير الحق ودعاء الخلق إلى الله والذب عن دينه.
انتهى ما لخصناه من كلامه.
والذي نختاره أنها جملة ، صورتها صورة الخبر ، والمعنى على النهي ، لأنه لو أريد حقيقة الخبر لكان المؤدّي لهذا المعنى تركيب غير هذا التركيب ، ألا ترى أنه لو قال إنسان مثلاً : من دخل في الصلاة فلا جماع لامرأته ، ولا زنا بغيرها ، ولا كفر في الصلاة ، يريد الخبر ، وأن هذه الأشياء مفسدة لها لم يكن هذا الكلام من الفصاحة في رتبة قوله : من دخل في الصلاة فلا صلاة له مع جماع امرأته وزناه وكفره؟ فالذي يناسب المعنى الخبري نفي صحة الحج مع وجود الرفث والفسوق والجدال لا نفيهنّ فيه ، هكذا الترتيب العربي الفصيح ، وإنما أتى في النهي بصورة النفي إيذانا بأن المنهي عنه يستبعد الوقوع في الحج ، حتى كأنه مما لا يوجد ، ومما لا يصح الإخبار عنه بأنه لا يوجد.

وقال في ( المنتخب ) أيضاً : إن كان المراد بالرفث الجماع فيكون نهياً عن ما يقتضي فساد الحج ، والإجماع منعقد على ذلك ، ويكون نفياً للصحة مع وجوده ، وإن كان المراد به التحدث مع النساء في أمر الجماع ، أو الفحش من الكلام ، فيكون نهياً لكمال الفضيلة.
وقال ابن العربي ليس نفياً لوجود الرفث ، بل نفي لمشروعيته ، فإن الرفث يوجد من بعض الناس فيه ، وإخبار الله تعالى لا يجوز أن تقع بخلاف مخبره ، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعاً ، لا إلى وجوده محسوساً ، كقوله : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ومعناه مشروعاً لا محسوساً ، فإنا نجد المطلقات لا يتربصنّ ، فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي ، وهذا كقوله : { لا يمسه إلاَّ المطهرون } إذا قلنا إنه وارد في الآدميين ، وهو الصحيح ، لأن معناه لا يمسه أحد منهم شرعاً ، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع ، وهذه الدقيقة التي فاتت العلماء ، فقالوا : إن الخبر يكون بمعنى النهي ، وما وجد ذلك قط ، ولا يصح أن يوجد ، فإنهما يختلفان حقيقة ، ويتباينان وصفاً انتهى كلام ابن العربي.
وتلخص في هذه الجملة أربعة أقوال :
أحدهما : أنها إخبار بنفي أشياء مخصوصة وهي : الجماع ، والزنا ، والكفر.
الثاني : أنها إخبار بنفي المشروعية لا بنفي الوجود.
الثالث : أنها إخبار صورة ، والمراد بها النهي.
الرابع : التفرقة في قراءة ابن كثير ، وابن عمر ، وبأن الأوّلين في معنى النهي ، والثالث خبر ، وهذه الجملة في موضع جواب الشرط إن كانت : مَنْ ، شرطية ، وفي موضع الخبر ، إن كانت : مَنْ ، موصولة.
وعلى كلا التقديرين لا بد فيها من رابط يربط جملة الجزاء بالشرط ، إذا كان الشرط بالإسم ، والجملة الخبرية بالمبتدأ الموصول إذا لم يكن إياه في المعنى ، ولا رابط هنا ملفوظ به ، فوجب أن يكون مقدراً.
ويحتمل وجهين.
أحدهما : أن يقدر منه ، بعد : ولا جدال ، ويكون : منه ، في موضع الصفة ، ويحصل به الربط كما حصل في قولهم : السمن منوان بدرهم أي : منوان منه ، ومنه صفة للمنوين.
والثاني : أن يقدر بعد الحج ، وتقديره : في الحج منه أوله ، أو ما أشبهه مما يحصل به الربط.
وللكوفيين تخريج في مثل هذا ، وهو أن تكون الألف واللام عوضاً من الضمير ، فعلى مذهبهم يكون التقدير في قوله : في الحج ، في حجه ، فنابت الألف واللام عن الضمير ، وحصل بها الربط.
قال بعضهم : وكرر في الحج ، فقال : في الحج ، ولم يقل : فيه ، جرياً على عادة العرب في التأكيد في إقامة المظهر مقام المضمر ، كقول الشاعر :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء . . .
انتهى كلامه ، وهو في الآية أحسن لبعده من الأول ، ولمجيئه في جملة غير الجملة الأولى ، ولإزالة توهم أن يكون الضمير عائداً على : من ، لا على : الحج ، أي : في فارض الحج.

وعلى ما اخترناه من أن المراد بهذه الإخبار النهي ، يكون هذه الأشياء الثلاثة منهياً عنها في الحج.
أما الرفث فأكثر أهل العلم ، خلفاً وسلفاً ، أنه يراد به هنا الجماع ، وأنه منهي عنه بالآية ، وأجمع العلماء على أن الجماع يفسد الحج ، وأن مقدماته توجب الدم ، إلاَّ ما رواه بعض المجهولين عن أبي هريره ، أنه سمع يقول : « للمحرم من إمرأته كل شيء إلاَّ الجماع » وقد اتفقت الأمة على خلافه ، وعلى أن من قبّل إمرأته بشهوة فعليه دم ، وروي ذلك عن علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعطاء ، وعكرمة ، وابراهيم ، وابن المسيب ، وابن جبير ، وهو قول فقهاء الأمصار.
وذهب أبو محمد بن حزم إلى حل تقبيل إمرأته ومباشرتها ، ويتجنب الوطىء.
وأما الفسوق والجدال ، وإن كان منهياً عنهما في غير الحج ، فإنما خص بالذكر في الحج تعظيماً لحرمة الحج ، ولأن التلبس بالمعاصي في مثل هذه الحال من التشهير ، لفعل هذه العبادة ، أفحش وأعظم منه في غيرها ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم في حق الصائم : « فلا يرفث ولا يجهل ، فإن جهل عليه فليقل إني صائم؟ » وإلى قوله وقد صرف وجه الفضل بن العباس عن ملاحظة النساء في الحج : « إن هذا يوم ، من ملك فيه سمعه وبصره غفر له؟ » ومعلوم خطر ذلك في غير ذلك اليوم ، ولكنه خصه بالذكر تعظيماً لحرمته.
وفي قوله : ولا فسوق ، إشارة إلى أنه يحدث للحج توبة من المعاصي حتى يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
{ وما تفعلوا من خير يعلمه الله } هذه جملة شرطية ، وتقدّم الكلام على إعراب نظيرها في قوله : { وما ننسخ من آية } وخص الخير ، وإن كان تعالى عالماً بالخير والشر ، حثاً على فعل الخير ، ولأن ما سبق من ذكر فرض الحج ، وهو خير ، ولأن نستبدل بتلك المنهيات أضدادها ، فنستبدل بالرفث الكلام الحسن والفعل الجميل ، وبالفسوق الطاعة ، والجدال الوفاق ، ولأن يكثر رجاء وجه الله تعالى ، ولأن يكون وعداً بالثواب.
وجواب الشرط وهو : يعلمه الله ، فإما أن يكون عبّر عن المجازاة عن فعل الخير بالعلم ، كأنه قيل : يجازكم الله به ، أو يكون ذكر المجازاة بعد ذكر العلم ، أي : يعلمه الله فيثيب عليه ، وفي قوله : وما تفعلوا ، التفات ، إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب ، وحمل على معنى : مِنْ ، إذ هو خروج من إفراد إلى جمع ، وعبر بقوله : تفعلوا ، عن ما يصدر عن الإنسان من فعل وقول ونية ، إما تغليباً للفعل ، وإما إطلاقاً على القول ، والإعتقاد لفظ الفعل ، فإنه يقال : أفعال الجوارح ، وأفعال اللسان ، وأفعال القلب ، والضمير في : يعلمه ، عائد على : ما ، من قوله : وما تفعلوا ، و : من ، في موضع نصب ، ويتعلق بمحذوف.

وقد خبط بعض المعربين فقال : إن : من خير ، متعلق : بتفعلوا ، وهو في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف تقديره : وما تفعلوه فعلاً من خير يعلمه الله ، جزم بجواب الشرط ، والهاء في : يعلمه الله ، يعود إلى خير انتهى قوله.
ولولا أنه مسطر في التفسير لما حكيته ، وجهة التخبيط فيه أنه زعم أن : من خير ، متعلق : بتفعلوا ، ثم قال : وهو في موضع نصب نعتاً لمصدر.
فإذا كان كذلك كان العامل فيه محذوفاً ، فيناقض هذا القول كون : من ، يتعلق : بتفعلوا ، لأن : من ، حيث تعلقت بتفعلوا كان العامل غير محذوفاً وقوله والهاء تعود إلى خير خطأ فاحش لأن الجملة جواب لجملة شرطية بالاسم ، فالهاء عائدة على الاسم ، أعني : اسم الشرط ، واذا جعلتها عائدة على الخير عري الجواب عن ضمير يعود على إسم الشرط ، وذلك لا يجوز ، لو قلت : من يأتني يخرج خالد ، ولا يقدر ضميراً يعود على إسم الشرط ، لم يجز بخلاف الشرط إذا كان بالحرف ، فإنه يجوز خلوّ الجملة من الضمير نحو : إن تأتني يخرج خالد.
{ وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } روي عن ابن عباس أنها نزلت في ناس من اليمن يحجون بغير زاد ، ويقولون : نحن متوكلون بحج بيت الله أفلا يطعمنا؟ فيتوصلون بالناس ، وربما ظلموا وغصبوا ، فأمروا بالتزود ، وأن لا يظلموا أو يكونوا كُلاًّ على الناس.
وروي عن ابن عمر قال : إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها ، واستأنفوا زاداً آخر ، فنهوا عن ذلك ، وأُمروا بالتحفظ بالزاد والتزود.
فعلى ما روي من سبب نزول هذه الآية يكون أمراً بالتزود في الأسفار الدنيوية ، والذي يدل عليه سياق ما قبل هذا الأمر وما بعده ، أن يكون الأمر بالتزود هنا بالنسبة إلى تحصيل الأعمال الصالحة التي تكون له كالزاد إلى سفره للآخرة ، ألا ترى أن قبله : { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } ومعناه الحث والتحريض على فعل الخير الذي يترتب عليه الجزآء في الآخرة؟ وبعده { فإن خير الزاد التقوى } والتقوى في عرف الشرع والقرآن عبارة عن ما يتقى به النار؟ ويكون مفعول : تزودوا ، محذوفاً تقديره ، وتزودوا التقوى ، أو : من التقوى ، ولما حذف المفعول أتى بخبر إن ظاهراً ليدل على أن المحذوف هو هذا الظاهر ، ولو لم يحذف المفعول لأتي به مضمراً عائداً على المفعول ، أو كان يأتي ظاهراً تفخيماً لذكر التقوى ، وتعظيماً لشأنها.
وقد قال بعضهم في التزود للاخرة :
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى . . .
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله . . .
وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
وقال بعض عرب الجاهلية :
فلو كان حمد يخلد الناس لم يمت . . .
ولكن حمد الناس ليس بمخلد
ولكن منه باقيات وراثة . . .
فأورث بنيك بعضها وتزود
تزود إلى يوم الممات فإنه . . .
وإن كرهته النفس آخر موعد

وصعد سعدون المجنون تلاًّ في مقبرة ، وقد انصرف ناس من جنازة فناداهم :
ألاَ يا عسكر الأحياء . . .
هذا عسكر الموتى
أجابوا الدعوة الصغرى . . .
وهم منتظرو الكبرى
يحثون على الزاد . . .
ولا زاد سوى التقوى
يقولون لكم جدوا . . .
فهذا غاية الدنيا
وقيل : أمر بالتزود لسفر العبادة والمعاش ، وزاده الطعام والشراب والمركب والمال ، وبالتزود لسفر المعاد ، وزاده تقوى الله تعالى؛ وهذا الزاد خير من الزاد الأول لقوله : { فإن خير الزاد التقوى }.
فتلخص من هذا كله ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه أمر بالتزود في أسفار الدنيا ، فيكون مفعول : تزودوا ، ما ينتفعون به ، فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم من السؤال ، وأنفسكم من الظلم ، وقال البغوي : قال المفسرون : التقوى هنا : الكعك والزيت والسويق والتمر والزبيب وما يشاكل ذلك من المطعومات.
والثاني : أنه أمر بالتزود لسفر الآخرة ، وهو الذي نختاره.
والثالث : أنه أمر بالتزود في السفرين ، كأن التقدير : وتزودوا ما تنتفعون به لعاجل سفركم وآجله.
وأبعد من ذهب إلى أن المعنى : وتزودوا الرفيق الصالح ، إلاّ أن عنى به العمل الصالح ، فلا يبعد ، لأنه هو القول الثاني الذي اخترناه.
وقال أبو بكر الرازي : احتمل قوله : وتزودوا ، الأمرين من زاد الطعام وزاد التقوى ، فوجب الحمل عليهما ، إذ لم تقم دلالة على تخصيص أحد الأمرين ، وذكر التزود من الأعمال الصالحة في الحج ، لأنه أحق شيء بالاستكثار من أعمال البر فيه لمضاعفة الثواب عليه ، كما نص على خطر الفسوق ، وإن كان محظوراً في غيره ، تعظيماً لحرمة الإحرام ، وإخباراً أنه فيه أعظم مأثماً.
ثم أخبر أن زاد التقوى خيرهما لبقاء نفعه ، ودوام ثوابه ، وهذا يدل على بطلان مذهب أهل التصوف ، والذين يسافرون بغير زاد ولا راحلة ، لأنه تعالى خاطب بذلك من خاطبه بالحج ، وعلى هذا " قال النبي صلى الله عليه وسلم ، حين سئل عن الاستطاعة ، فقال : «هي الزاد والراحلة " انتهى كلامه.
ورد عليه بأن الكاملين في باب التوكل لا يطعن عليهم إن سافروا بغير زاد ، لأنه صح : لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدوا خِماصاً ، وتروح بطاناً.
وقال تعالى : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } وقد طوى قوم الأيام بلا غذاء ، وبعضهم اكتفى باليسير من القوت في الأيام ذوات الأعداد ، وبعضهم بالجرع من الماء.
وصح من حديث أبي ذر اكتفاؤه بماء زمزم شهراً ، وخرج منها وله عكن ، وأن جماعة من الصحابة اكتفوا أياماً كثيرة ، كل واحد منهم بتمرة في اليوم.
فأما خرق العادات من دوران الرحى بالطحين ، وامتلاء الفرن بالعجين ، وإن لم يكن هناك طعام ، ونحو ذلك ، فحكوا وقوع ذلك.

وقد شرب سفيان بن عيينة فضلة سفيان الثوري من ماء زمزم فوجدها سويقاً ، وقد صح وثبت خرق العوائد لغير الأنبياء عليهم السلام ، فلا يتكرر ذلك إلاَّ مِنْ مدَّعِ ذلك ، وليس هو على طريق الاستقامة ككثير ممن شاهدناهم يدعون ، ويدعى ذلك لهم.
{ واتقون } هذا أمر بخوف الله تعالى ، ولما تقدم ما يدل على اجتناب أشياء في الحج ، وأمروا بالتزود للمعاد ، وأخبر بالتقوى عن خير الزاد ، ناسب ذلك كله الأمر بالتقوى ، والتحذير من ارتكاب ما تحل به عقوبته ، ثم قال { يا أولي الألباب } تحريكاً لامتثال الأمر بالتقوى ، لأنه لا يحذر العواقب ، إلاَّ مَن كان ذا لبٍّ ، فهو الذي تقوم عليه حجة الله ، وهو القابل للأمر والنهي ، وإذا كان ذو اللب لا يتقي الله ، فكأنه لا لب له ، وقد تقدم الكلام على مثل هذا النداء في قوله : { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب } فأغنى عن إعادته.
والظاهر من اللب أنه لب مناط التكليف ، فيكون عاماً ، لا اللب الذي هو مكتسب بالتجارب ، فيكون خاصاً ، لأن المأمور باتقاء الله هم جميع المكلفين.
{ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } سبب نزولها أن العرب تحرجت لما جاء الإسلام أن يحضروا أسواق الجاهلية.
كعكاظ ، وذي المجاز ، ومجنة ، فأباح الله لهم ذلك ، قاله ابن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء؛ وقال مجاهد أيضاً : كان بعض العرب لا ينحرون مذ يحرمون ، فنزلت في إباحة ذلك ، وروي عن ابن عمر أنها نزلت فيمن يكري في الحج ، وأن حجه تام.
وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن الزبير : فضلاً من ربكم في مواسم الحج ، والأَوْلى جعل هذا تفسيراً ، لأنه مخالف لسواد المصحف الذي أجمعت عليه الأمة.
والجناح معناه : الدرك ، وهو أعم من الإِثم ، لأنه فيما يقتضي العقاب ، وفيما يقتضي الزجر والعقاب ، وعنى بالفضل هنا الأرباح التي تكون سبب التجارة ، وكذلك ما تحصل عن الأجر بالكراء في الحج ، وقد انعقد الإجماع على جواز التجارة والاكتساب بالكل ، والإتجار إذا أتى بالحج على وجهه إلاَّ ما نقل شاذاً عن سعيد بن جبير ، وأنه سأله أعرابي أن أكري إبلي ، وأنا أريد الحج أفيجزيني؟ قال : «لا ، ولا كرامة».
وهذا مخالف لظاهر الكتاب والإجماع فلا يعول عليه.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه لما نهى عن الجدال ، والتجارة قد تفضي إلى المنازعة ، ناسب أن يتوقف فيها لأن ما أفضى إلى المنهي عنه منهي عنه ، أو لأن التجارة كانت محرمة عند أهل الجاهلية وقت الحج ، إذ من يشتغل بالعبادة يناسبه أن لا يشغل نفسه بالأكساب الدنيوية ، أو لأن المسلمين لما صار كثير من المباحات محرماً عليهم في الحج ، كانوا بصدد أن تكون التجارة من هذا القبيل عندهم ، فأباح الله ذلك ، وأخبرهم أنه لا درك عليهم فيه في أيام الحج.

ويؤيد ذلك قراءة من قرأ : في مواسم الحج.
وحمل أبو مسلم الآية على أنه : فيما بعد الحج ، ونظيره : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } فقاس : الحج ، على : الصلاة ، وضعف قوله بدخول الفاء في : فإذا قضيتم ، وهذا فصل بعد ابتغاء الفضل ، فدل على أن ما قبل الإِفاضة ، وقع في زمان الحج.
ولأن محل شبهة الامتناع هو التجارة في زمان الحج ، لا بعد الفراغ منه ، لأن كل أحد يعلم حِلّ التجارة إذ ذاك ، فحمْله على محل الشبهة أولى ، ولأن قياس الحج على الصلاة ، قياس فاسد ، لاتصال أعمال الصلاة بعضها ببعض ، وافتراق أعمال الحج بعضها من بعض ، ففي خلالها يبقى الحج على الحكم الأول ، حيث لم يكن حاجاً ، لا يقال : حكم الحج مستحب عليه في تلك الأوقات ، بدليل حرمة الطيب واللبس ونحوهما ، لأنه قياس في مقابلة النص ، فهو ساقط.
ونسب للياه فزان.
الفضل هنا هو ما يعمل الإنسان مما يرجو به فضل الله ورحمته ، من إعانة ضعيف ، وإغاثة ملهوف ، وإطعام جائع؛ واعترضه القاضي بأن هذه الأشياء واجبة أو مندوب إليها ، فلا يقال فيها : لا جناح عليكم ، إنما يقال : في المباحات والتجارة إن أوقعت نقصاً في الطاعة : لم تكن مباحة ، وإن لم توقع نقصاً فالأولى تركها ، فهي إذاً جارية مجرى الرخص.
وتقدم إعراب مثل : أن تبتغوا ، في قوله : { فلا جناح عليه أن يطوف فيهما } و : من وبكم ، متعلق : بتبتغوا ، و : من ، لابتداء الغاية ، أو بمحذوف ، وتكون صفة لفضل.
فتكون : من ، لإبتداء الغاية أيضاً ، أو للتبعيض ، فيحتاج إلى تقدير مضاف محذوف أي : من فضول.
{ فإذا أفضتم من عرفات } قيل : فيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة ، لأن الإفاضة لا تكون إلاَّ بعده.
انتهى هذا القول ، ولا يظهر من هذا الشرط الوجوب ، إنما يعلم منه الحصول في عرفة ، والوقوف بها ، فهل ذلك على سبيل الوجوب أو الندب؟ لا دليل في الآية على ذلك ، لكن السنة الثابتة والإجماع يدلان على ذلك.
وقال في ( المنتخب ) : الإِفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات ، وما لا يتم الواجب إلاَّ به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب ، فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج ، فإذا لم يأت به لم يكن إيتاء بالحج المأمور به ، فوجب أن لا يخرج عن العهدة ، وهذا يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة شرطاً.
انتهى كلامه.
فقوله : الإِفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات ، كلام مبهم ، فإن عنى مشروط وجودها ، أي : وجود الإِفاضة بالحصول في عرفات ، فصحيح ، والوجود لا يدل على الوجوب ، وإن عنى مشروط وجوبها بالحصول في عرفات فلا نسلم ذلك ، بل نقول : لو وقف بعرفة واتخذها مسكناً إلى أن مات لم تجب عليه الإِفاضة منها ، ولم يكن مفرطاً في واجب إذا مات بها ، وحجة تام إذا كان قد أتى بالأركان كلها.

وقوله : وما لا يتم الواجب ، إلى آخر الجملة ، مرتبة على أن الإِفاضة واجبة ، وقد منعنا ذلك وقوله : فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج ، مبني على ما قبله ، وقد بينا أنه لا يلزم ذلك ، و : إذا ، لا تدل على تعين زمان ، بل تدل على تيقن الوجود أو رجحانه ، فظاهره يقتضي أنه : متى أفاض من عرفات جاز له ذلك ، واقتضى ذلك أن الوقوف بعرفة الذي تعتقبه الإِفاضة كان مجزياً.
ووقت الوقوف من زوال شمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر بلا خلاف ، وأجمعوا على أن من وقف بالليل فحجه تام ، ولو أفاض قبل الغروب ، وكان وقف بعد الزوال ، فأجمعوا على أن حجة تام ، إلاَّ مالكاً فقال : يبطل حجه.
وروي نحوه عن الزبير ، وقال مالك : ويحج من قابل وعليه هدي ينحره في حجه القابل.
ومن قال : حجه تام ، فقال الحسن : عليه هدي ، وقال ابن جريج : بدنة ، وقال عطاء ، والثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور : عليه دم.
ولو أفاض قبل الغروب ثم عاد إلى عرفة ، فدفع بعد الغروب ، فذهب أبو حنيفة ، والثوري ، وأبو ثور ، إلى أنه لا يسقط الدم.
وذهب الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وداود الطبري إلى أنه لا شيء عليه.
وحديث عروة بن مضرس : وأفاض من عرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه ، وقضى تفثه ، موافق لظاهر الآية في عدم اشتراط جزء من الليل إلاَّ ما صدّ عنه الإجماع من أن الوقوف قبل الزوال لا يجزئ ، وأن من أفاض نهاراً لا شيء عليه.
و : من ، في قوله : من عرفات ، لابتداء الغاية ، وهي تتعلق : بأفضتم ، وظاهر هذا اللفظ يقتضي عموم عرفات ، فمن أي نواحيها أفاض أجزأه ، ويقتضي ذلك جواز الوقوف ، بأي نواحيها وقف ، والجمهور على أن عرنة من عرفات.
وحكى الباجي ، عن ابن حبيب : أن عرنة في الحل ، وعرنة في الحرم ، وقيل : الجدار الغربي من مسجد عرنة لو سقط سقط في بطن عرنة ، ومن قال : بطن عرنة من عرفات ، فلو وقف بها فروي عن ابن عباس ، والقاسم ، وسالم أنه : من أفاض من عرنة لا حج له ، وذكره ابن المنذر عن الشافعي ، وأبو المصعب عن مالك ، وروى خالد بن نوار عن مالك أن حجه تام.
ويهريق دماً ، وذكره ابن المنذر عن مالك أيضاً.
وروي : عرفة كلها موقف ، وارتفعوا عن بطن عرنة؛ وأكثر الآثار ليس فيها هذا الاستثناء ، فهي كظاهر الآية.
وكيفية الإفاضة أن يسيروا سيراً جميلاً ، ولا يطؤا ضعيفاً ، ولا يؤذوا ماشياً ، إذ كان صلى الله عليه وسلم إذا دفع من عرفات أعنق ، وإذا وجد فرجة نص.
والعنق : سير سريع مع رفق ، والنص : سير شديد فوق العتق ، قاله الأصمعي ، والنضر بن شميل.

ولو تأخر الإمام من غير عذر دفع الناس.
والتعريف الذي يصنعه الناس في المساجد ، تشبيهاً بأهل عرفة ، غير مشروع ، فقال بعض أهل العلم : هو ليس بشيء ، وأول من عرّف ابن عباس بالبصر ، وعرف أيضاً عمرو بن حريث ، وقال أحمد : أرجو أن لا يكون به بأس ، وقد فعله غير واحد : الحسن ، وبكر ، وثابت ، ومحمد بن واسع كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة.
وأما الصوم يوم عرفة للواقفين بها ، فقال يحيى بن سعيد الأنصاري : يجب عليهم الفطر ، وأجازه بعضهم ، وصامه عثمان بن القاضي ، وابن الزبير ، وعائشة.
وقال عطاء : أصومه في الشتاء ولا أصومه في الصيف ، والجمهور على أن ترك الصوم أولى ، اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ فاذكروا الله عند المشعر الحرام } الفاء جواب إذا ، والذكر هنا الدعاء والتضرع والثناء ، أو صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة ، أو الدعاء.
وهذه الصلاة أقوال ثلاثة يبني عليها أهل الأمر : أمر ندب ، أم أمر وجوب؟ وإذا كان الذكر هو الصلاة فلا دلالة فيه على الجمع بين الصلاتين ، فيصير الأمر بالذكر بالنسبة إلى الجمع بين الصلاتين مجملاً ببينة فعله صلى الله عليه وسلم ، وهو سنة بالمزدلفة.
ولو صلى المغرب قبل أن يأتي المزدلفة ، فقال أبو حنيفة ، ومحمد : لا يجزئه ، وقال عطاء ، وعروة ، والقاسم ، وابن جبير ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور : ليس الجمع شرطاً للصحة.
ومن له عذر عن الإِفاضة ممن وقف مع الإِمام صلى كل صلاة لوقتها ، قاله ابن المواز.
وقال مالك : يجمع بينهما إذا غاب الشفق ، وقال ابن القاسم : إن رجا أن يأتي المزدلفة ثلث الليل ، فليؤخر الصلاتين حتى يأتيها ، وإلاَّ صلى كل صلاة لوقتها.
وهل يصليهما بإقامتين دون أذان؟ أو بأذان واحد للمغرب وإقامتين؟ أو بأذانين وإقامتين؟ أو بأذان وإقامة للأولى ، وبلا أذان ولا إقامة للثانية؟ أقوال أربعة.
الأول : قول سالم ، والقاسم ، والشافعي ، وإسحاق ، وأحمد في أحد قوليه.
والثاني : قول زفر ، والطحاوي ، وابن حزم ، وروي عن أبي حنيفة.
والثالث : قول مالك.
والرابع : قول أبي حنيفة ، والسنّة أن لا يتطوع الجامع بينهما.
والمشعر مفعل من شعر ، أي : المعلم : والحرام لأنه ممنوع أن يفعل فيه ما نهي عنه من محظورات الإحرام.
وهذا المشعر يسمى : جمعاً ، وهو ما بين جبلي المزدلفة من حد مفضى عرفة إلى بطن محسر ، قاله ابن عباس ، وابن عمر ، وابن جبير ، ومجاهد؛ وتسمي العرب وادي محسر : وادي النار ، وليس المأزمان ولا وادي محسر من المشعر الحرام ، والمأزم.
المضيق ، وهو مضيق واحد بين جبلين ، ثنوه لمكان الجبلين.
وقيل : المشعر الحرام هو قزح ، وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام ، وعليه الميقدة.
قيل : وهو الصحيح لحديث جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما صلى الفجر ، يعني بالمزدلفة ، بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام ، فدعا وكبر وهلل ، ولم يزل واقفاً حتى أسفر ، فعلى هذا لم تتعرض الآية المذكور للذكر بالمزدلفة ، لا على أنه الدعاء ولا الصلاة بها ، وإنما هذا أمر بالذكر عند هذا الجبل ، وهو قزح الذي ركب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا عنده وكبر وهلل ، ووقف بعد صلاته الصبح بالمزدلفة بغلس حتى أسفر ، ويكون ثم جملة محذوفة التقدير : فإذا أفضتم من عرفات ، ونمتم بالمزدلفة ، فاذكروا الله عند المشعر الحرام.

ومعنى العندية هنا القرب منه ، وكونه يليه.
ومزدلفة كلها موقف ، إلاّ وادي محسر ، وجعلت كلها موقفاً لكونها في حكم المشعر ، ومتصلة به ، وقيل : سميت المزدلفة وما تضمنه الحد الذي ذكر مشعراً ، ووحد لاستوائه في الحكم ، فكان كالمكان الواحد.
وقال في ( المنتخب ) : هذا الأمر يدل على أن الحصول عند المشعر الحرام واجب ، ويكفي فيه المرور كما في عرفة ، فأما الوقوف هناك فمسنون.
انتهى كلامه.
وكون الوقوف مسنوناً هو قول جمهور العلماء ، وقال أبو حنيفة : هو واجب ، فمن تركه من غير عذر فعليه دم ، فإن كان له عذر أو خاف الزحام فلا بأس أن يعجل بليل.
ولا شيء عليه.
وقال ابن الزبير ، والحسن ، وعلقمة ، والشعبي ، والنخعي ، والأوزاعي : الوقوف بمزدلفة فرض ، ومن فاته فقد فاته الحج ، ويجعل إحرامه عمرة.
والآية لا تدل إلاّ على مطلوبية الذكر عند المشعر الحرام ، لا على الوقوف ، ولا على المبيت بمزدلفة ، وأجمعوا على أن المبيت ليس بركن.
وقال مالك : من لم يبت بها فعليه دم ، وإن أقام بها أكثر ليلة فلا شيء عليه ، لأن المبيت بها سنة مؤكدة ، عند مالك.
وهو مذهب عطاء ، وقتادة ، والزهري ، والثوري ، وأبي حنيفة ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور.
وقال الشافعي : إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه ، أو قبله افتدى ، والفدية شاة.
ومطلق الأمر بالذكر لا يدل على ذكر مخصوص.
قال بعضهم : وأولى الذكر أن يقول : اللهم كما وفقتنا فيه فوفقنا لذكرك كما هديتنا ، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق { فإذا أفضتم } ويتلو إلى قوله : { إن الله غفور رحيم } ثم بعد ذلك يدعو بما شاء من خير الدنيا والآخرة.
والذي يظهر أن ذكر الله هنا هو الثناء عليه ، والحمد له ، ولا يراد بذكر الله هنا ذكر لفظة الله ، وإنما المعنى : اذكروا الله بالألفاظ الدالة على تعظيمه ، والثناء عليه ، والمحمدة له.
وعند منصوب بأُذكروا ، وهذا مما يدل على أن جواب : إذا ، لا يكون عاملاً فيها ، لأن مكان إنشاء الإفاضة غير مكان الذكر ، لأن ذلك عرفات ، وهذا المشعر الحرام ، وإذا اختلف المكانان لزم من ذلك ضرورة اختلاف الزمانين ، فلا يجوز أن يكون الذكر عند المشعر الحرام واقعاً وقت إنشاء الإفاضة.
{ واذكروه كما هداكم } هذا الأمر الثاني هو الأول ، وكرر على سبيل التوكيد والمبالغة في الأمر بالذكر ، لأن الذكر من أفضل العبادات ، أو غير الأول ، فيراد به تعلقه بتوحيد الله ، أي : واذكروه بتوحيده كما هداكم بهدايته ، أو اتصال الذكر لمعنى : اذكروه ذكراً بعد ذكر ، قال هذا القول محمد بن قاسم النحوي : أو الذكر المفعول عند الوقوف بمزدلفة غداة جمع ، ويراد بالأول صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة ، حكاه القاضي أبو يعلى.

والكاف في : كما ، للتشبيه ، وهي في موضع نصب إما على النعت لمصدر محذوف ، وإما على الحال.
وقد تقدّم هذا البحث في غير موضع.
والمعنى : أوجدوا الذكر على أحسن أحواله من مماثلته لهداية الله لكم ، إذ هدايته إياكم أحسن ما أسدي إليكم من النعم ، فليكن الذكر من الحضور والديمومة في الغاية حتى تماثل إحسان الهداية ، ولهذا المعنى قال الزمخشري : أذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هدية حسنة. انتهى.
ويحتمل أن تكون الكاف للتعليل على مذهب من أثبت هذا المعنى للكاف ، فيكون التقدير : كما هداكم ، أي : أذكروه وعظموه للهداية السابقة منه تعالى لكم ، وحكى سيبويه : كما أنه لا يعلم ، فتجاوز الله عنه ، أي : لأنه لا يعلم ، وثبت لها هذا المعنى الأخفش ، وابن برهان.
وما ، في : كما ، مصدرية أي : كهدايته إياكم ، وجوّز الزمخشري ، وابن عطية أن تكون : ما ، كافة للكاف عن العمل ، والفرق بينهما أن : ما ، المصدرية تكون هي وما بعدها في موضع جر ، إذ ينسبك منها مع الفعل مصدر ، والكاف لا يكون ذلك فيها إذ لا عمل لها البتة ، والأوْلى حملها على أن : ما ، مصدرية لإقرار الكاف على ما استقر لها من عمل الجر ، وقد منع أن تكون الكاف مكفوفة بما عن العمل أبو سعد ، وعلي بن مسعود بن الفرُّحَال صاحب ( المستوفي ) واحتج من أثبت ذلك بقول الشاعر :
لعمرك إنني وأبا حميدٍ . . .
كما النشوان والرجل الحليم
أريد هجاءه وأخاف ربي . . .
وأعلم أنه عبد لئيم
والهداية هنا خاصة ، أي : بأن ردكم في مناسك حجكم إلى سنة إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه ، فما عامة تتناول أنواع الهدايات من معرفة الله ، ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله وشرائعه.
{ وإن كنتم من قبله لمن الضالين } إن هنا عند البصريين هي التي للتوكيد المخففة من الثقيلة ، ودخلت على الفعل الناسخ كما دخلت على الجملة الابتدائية.
واللام في : لمن ، وما أشبهه فيها خلاف : أهي لام الابتداء لزمت للفرق؟ أم هي لام أخرى اجتلبت للفرق؟ ومذهب الفراء.
في إن نحو هذا هي النافية بمعنى ما ، واللام بمعنى إلاّ ، وذهب الكسائي إلى أنّ : بمعنى : قد ، إذا دخل على الجملة الفعلية ، وتكون اللام زائدة ، وبمعنى : ما ، النافية إذا دخل على الجملة الإسمية ، واللام بمعنى إلاّ ، ودلال هذه المسألة تذكر في علم النحو.
فعلى قول البصريين : تكون هذه الجملة مثبتة مؤكدة لا حصر فيها ، وعلى مذهب الفراء : مثبتة إثباتاً محصوراً ، وعلى مذهب الكسائي : مثبتة مؤكدة من جهة غير جهة قول البصريين.

ومن قبله ، يتعلق بمحذوف ، ويبينه قوله : لمن الضالين ، التقدير : وإن كنتم ضالين من قبله لمن الضالين ، ومن تسمح من النحويين في تقديم الظرف والمجرور على العامل الواقع صلة للألف واللام ، فيتعلق على مذهبه من قبله بقوله : من الضالين ، وقد تقدّم نظير هذا.
والهاء في قبله ، عائدة على الهدى المفهوم من قوله : هداكم ، أي : وإن كنتم من قبل الهدى لمن الضالين ، ذكرهم تعالى بنعمة الهداية التي هي أتم النعم ليوالوا ذكره والثناء عليه تعالى ، والشكر الذي هو سبب لمزيد الإنعام ، وقيل : تعود الهاء على القرآن ، وقيل : على النبي صلى الله عليه وسلم.
والظاهر في الضلال أنه ضلال الكفر ، كما أن الظاهر في الهداية هداية الإيمان ، وقيل : من الضالين عن مناسك الحج ، أو عن تفصيل شعائره.
{ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } صح عن عائشة قالت : كان الحمس هم الذين أنزل الله تعالى فيهم : { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } رجعوا إلى عرفات ، وفي ( الجامع ) للترمذي عن عائشة قالت : كانت قريش ومن على دينها ، وهم الحمس ، يقفون بالمزدلفة ، يقولون : نحن قطان الله ، وكان من سواهم يقفون بعرفة ، فأنزل الله : { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.
وروى محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، قال : خرجت في طلب بعير بعرفة ، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً بعرفة مع الناس قبل أن يبعث ، فقلت : والله إن هذا من الحمس ، فما شأنه واقفاً هاهنا مع الناس؟ وكان وقوف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة إلهاماً من الله تعالى وتوفيقاً إلى ما هو شرع الله ومراده ، وكانت قريش قد ابتدعت أشياء : لا يأقطون الأقط ، ولا يسلون السمن وهم محرمون ، ولا يدخلون بيتاً من شعر ، ولا يستظلون إلاّ في بيوت الأدم ، ولا يأكلون حتى يخرجوا إلى الحل وهم حرم ، ولا يطوف القادم إلى البيت إلاّ في ثياب الحمس ، ومن لم يجد ذلك طاف عرياناً ، فإن طاف بثيابه ألقاها فلا يأخذها أبداً ، لا هو ولا غيره ، وتسمي العرب تلك الثياب : اللقى ، وسمحوا للمرأة أن تطوف وعليها درعها ، وكانت قبل تطوف عريانة ، وعلى فرجها نسعة ، حتى قالت امرأة منهم :
اليوم يبدو بعضه أو كله . . .
وما بدا منه فلا أحله
فلما أنزل الله { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } وأنزل : { خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } أباح لهم ما حرموا على أنفسهم من الوقوف بعرفة ، ومن الأكل والشرب واللباس ، فعلى هذا الذي نقل من سبب النزول ، فيكون المخاطبون بالإفاضة هنا قريشاً وحلفاءها ، ومن دان بدينها ، وهم الحمس.

وهذا قول الجمهور.
وقيل : الخطاب عام لقريش وغيرها.
والإفاضة المأمور بها هي من عرفات ، إلاَّ أن : ثم ، على هذا ، تخرج عن أصل موضوعها العربي من أنها تقتضي التراخي في زمان الفعل السابق ، وقد قال : { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المسجد الحرام واذكروه كما هداكم ثم أفيضوا } الإفاضة قد تقدمّت ، وأمروا بالذكر إذا أفاضوا ، فكيف يؤمر بها بعد ذلك بثم التي تقتضي التراخي في الزمان؟ وأجيب عن هذا بوجوه.
أحدهما : أن ذلك من الترتيب الذي في الذكر ، لا من الترتيب في الزمان الواقع فيه الأفعال ، وحسن هذا أن الإفاضة السابقة لم يكن مأموراً بها ، إنما كان المأمور به ذكر الله إذا فعلت ، والأمر بالذكر عند فعلها لا يدل على الأمر بها ، ألا ترى أنك تقول : إذ ضربك زيد فاضربه؟ فلا يكون زيداً مأموراً بالضرب ، فكأنه قيل : ثم لتكن تلك الإفاضة من عرفات لا من المزدلفة كما تفعله الحمس ، وزعم بعضهم أن : ثم ، هنا بمعنى الواو ، لا تدل على ترتيب ، كأنه قال : وأفيضوا من حيث أفاض الناس ، فهي لعطف كلام على كلام مقتطع من الأول ، وقد جوّز بعض النحويين أن : ثم ، تأتي بمعنى الواو ، فلا ترتيب.
وقد حمل بعض الناس : ثم ، هنا على أصلها من الترتيب بأن جعل في الكلام تقديماً وتأخيراً ، فجعل : { ثم أفيضوا } معطوفاً على قوله : { واتقون يا أولي الألباب } كأنه قيل : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ، ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم ، فإذا أفضتم من عرفات ، وعلى هذا تكون هذه الإفاضة المشروط بها ، تلك الإفاضة المأمور بها ، لكن التقديم والتأخير هو مما يختص بالضرورة ، وننزه القرآن عن حمله عليه ، وقد أمكن ذلك بجعل : ثم ، للترتيب في الذكر لا في الفعل الواقع بالنسبة للزمان ، أو بجعل الإفاضة المأمور بها هنا غير الإفاضة المشروط بها ، وتكون هذه الإفاضة من جمع إلى منى ، والمخاطبون بقوله { ثم أفيضوا } جميع المسلمين ، وقد قال بهذا : الضحاك ، وقوم معه ، ورجحه الطبري ، وهو يقتضيه ظاهر القرآن.
وقال الزمخشري فإن قلت : فكيف موقع : ثم؟ قلت : نحو موقعها في قولك : أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم ، يأتي : ثم ، لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم ، والإحسان إلى غيره وبعد ما بينهما ، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات ، قال : ثم أفيضوا ، التفاوت ما بين الإفاضتين ، وأن احدهما صواب والثانية خطأ.
انتهى كلامه.
وليست الآية كالمثال الذي مثله ، وحاصل ما ذكر أن : ثم ، تسلب الترتيب ، وأنها لها معنى غيره سماه بالتفاوت والبعد لما بعدها مما قبلها ، ولم يجز في الآية أيضاً ذكر الإفاضة الخطأ فيكون : ثم ، في قوله : ثم أفيضوا ، جاءت لبعد ما بين الإفاضتين وتفاوتهما ، ولا نعلم أحداً سبقه إلى اثبات هذا المعنى لثم.

و : مِنْ حيث ، متعلق : بأفيضوا ، و : مِنْ ، لابتداء الغاية ، و : حيث ، هنا على أصلها من كونها ظرف مكان ، وقال القفال : من حيث أفاض الناس ، عبارة عن زمان الإفاضة من عرفة ، ولا حاجة إلى إخراج حيث عن موضوعها الأصلي ، وكأنه رام أن يغاير بذلك بين الإفاضتين ، لأن الأولى في المكان ، والثانية في الزمان ، ولا تغاير ، لأن كلاًّ منهما يقتضي الآخر ويدل عليه ، فهما متلازمان.
أعني : مكان الإفاضة من عرفات ، وزمانها.
فلا يحصل بذلك جواب عن مجيء العطف بثم.
و : الناس ، ظاهره العموم في المفيضين ، ومعناه أنه الأمر القديم الذي عليه الناس ، كما تقول : هذا مما يفعله الناس ، أي عادتهم ذلك ، وقيل : الناس أهل اليمن وربيعة ، وقيل : جميع العرب دون الحمس ، وقيل : الناس إبراهيم ومن أفاض معه من أبنائه والمؤمنين به ، وقيل : إبراهيم وحده ، وقيل : آدم وحده ، وهو قول الزهري لأنه أبو الناس وهم أولاده وأتباعه ، والعرب تخاطب الرجل العظيم الذي له أتباع مخاطبة الجمع ، وكذلك من له صفات كثيرة ، ومنه قوله :
فأنت الناس إذ فيك الذي قد . . .
حواه الناس من وصف جميل
ويؤيده قراءة ابن جبير : من حيث أفاض الناس ، بالياء من قوله : { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي } وإطلاق الناس على : واحد من الناس هو خلاف الأصل ، وقد رجح هذا بأن قوله : { من حيث أفاض الناس } هو فعل ماض يدل على فاعل متقدم ، والإفاضة إنما صدرت من آدم وإبراهيم ، ولا يلزم هذا الترجيح ، لأن : حيث ، إذا أضيفت إلى جملة مصدرة بماض جاز أن يراد بالماضي حقيقته ، كقوله تعالى : { فأتوهنّ من حيث أمركم الله } وتارة يراد به المستقبل ، كقوله تعالى { ومن حيث خرجت فول وجهك } وهذا معروف في حيث ، فلا يلزم ما ذكره.
وعلى تسليم أنه فعل ماض ، وأنه يدل على فاعل متقدم لا يلزم من ذلك أن يكون فاعله واحداً لأنه قبل صدور هذا الأمر بالإضافة كان إما جميع من أفاض قبل تغيير قريش ذلك ، وإما غير قريش بعد تغييرهم من سائر من حج من العرب ، فالأولى حمل الناس على جنس المفيضين العام ، أو على جنسهم الخاص.
وقد رجح قول من قال بأنهم أهل اليمن وربيعة بحج أبي بكر بالناس ، حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمره أن يخرج بالناس إلى عرفات فيقف بها ، فإذا غربت الشمس أفاض بالناس حتى يأتى بهم جميعاً ، فيبيت بها ، فتوجه أبو بكر إلى عرفات ، فمر بالحمس وهم وقوف بجمع ، فلما ذهب ليجاوزهم قالت له الحمس : يا أبا بكر : أين تجاوزنا إلى غيرنا؟ هذا موقف آبائك! فمضى أبو بكر كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفات ، وبها أهل اليمن وربيعة.

وهذا تأويل قوله : { من حيث أفاض الناس } فوقف بها حتى غربت الشمس ، ثم أفاض بالناس إلى المشعر الحرام ، فوقف بها ، فلما كان عند طلوع الشمس أفاض منه.
وقراءة ابن جبير : من حيث أفاض الناسي ، بالياء ، قراءة شاذة ، وفيها تنبيه على أن الإفاضة من عرفات شرع قديم ، وفيها تذكير يذكر عهد الله وأن لا ينسى ، وقد ذكرنا أنه يؤول على أن المراد بالناسي آدم عليه السلام ، ويحتمل أن يكون الناسي في قراءة سعيد معناه التارك ، أي : للوقوف بمزدلفة ، أو لا ، ويكون يراد به الجنس ، إذ الناسي يراد به التارك للشيء ، فكأن المعنى ، والله أعلم : أنهم أمروا بأن يفيضوا من الجهة التي يفيض منها من ترك الإفاضة من المزدلفة ، وأفاض من عرفات ، ويكون الناسي يراد به الجنس ، فيكون موافقاً من حيث المعنى لقراءة الجمهور ، لأن الناس الذين أمرنا بالإفاضة من حيث أفاضوا ، هم التاركون للوقوف بمزدلفة ، والجاعلون الإفاضة من عرفات على سنن من سن الحج ، وهو إبراهيم عليه السلام ، بخلاف قريش ، فإنهم جعلوا الإفاضة من المزدلفة ، ولم يكونوا ليقفوا بعرفات فيفيضوا منها.
قال ابن عطية : ويجوز عند بعضهم حذف الياء ، فيقول : الناسِ ، كالقاضِ والهادِ ، قال : أما جوازه في العربية فذكره سيبويه ، وأما كون جوازه مقروءاً به فلا أحفظه.
انتهى كلامه.
فقوله : أما جوازه في العربية فذكره سيبويه ، ظاهر كلام ابن عطية أن ذلك جائز مطلقاً ، ولم يجزه سيبويه إلاّ في الشعر ، وأجازه الفرّاء في الكلام.
وأما قوله : وأما جوازه مقروءاً به فلا أحفظه ، فكونه لا يحفظه قد حفظه غيره.
قال أبو العباس المهدوي : أفاض الناسي بسعيد بن جبير ، وعنه أيضاً : الناسِ بالكسر من غير ياء.
انتهى قول أبي العباس المهدوي.
{ واستغفروا الله } أمرهم بالاستغفار في مواطن مظنة القبول ، وأماكن الرحمة ، وهو طلب الغفران من الله باللسان مع التوبة بالقلب ، إذ الاستغفار باللسان دون التوبة بالقلب غير نافع ، وأمروا بالاستغفار ، وإن كان فيهم من لم يذنب ، كمن بلغ قبيل الإحرام ولم يقارف ذنباً وأحرم ، فيكون الاستغفار من مثل هذا لأجل أنه ربما صدر منه تقصير في أداء الواجبات والاحتراز من المحظورات ، وظاهر هذا الأمر أنه ليس طلب غفران من ذنب خاص ، بل طلب غفران الذنوب ، وقيل : إنه أمر بطلب غفران خاص ، والتقدير : واستغفروا الله مما كان من مخالفتكم في الوقوف والإفاضة ، فإنه غفور لكم ، رحيم فيما فرطتم فيه في حلكم وإحرامكم ، وفي سفركم ومقامكم.
وفي الأمر بالاستغفار عقب الإفاضة ، أو معها ، دليل على أن ذلك الوقت ، وذلك المكان المفاض منه ، والمذهوب إليه من أزمان الإجابة وأماكنها ، والرحمة والمغفرة.
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم خطب عشية عرفة فقال : « أيها الناس! إن الله تعالى تطاول عليكم في مقامكم ، فقبل من محسنكم ووهب مسيئكم لمحسنكم ، إلاَّ التبعات فيما بينكم ، فامضوا على اسم الله »

فلما كان غداة جمع خطب فقال : « أيها الناس! إن الله قد تطاول عليكم ، فعوّض التبعات من عنده »
وأخرج أبو عمرو بن عبد البر في ( التمهيد ) ثلاثة أحاديث تدل على أن الله تعالى يباهي بحجاج بيته ملائكته ، وأنه يغفر لهم ما سلف من ذنوبهم ، وأنه ضمن عنهم التبعات.
و : استغفر ، يتعدى لاثنين ، الثاني منهما بحرف الجر ، وهو من : فعول ، استغفرت الله من الذنب ، وهو الأصل ، ويجوز أن تحذف : من ، كما قال الشاعر :
أستغفر الله ذنباً لست محصيه . . .
رب العباد إليه الوجه والعمل
تقديره : من ذنب ، وذهب أبو الحسن بن الطراوة إلى أن : استغفر ، يتعدى بنفسها إلى مفعولين صريحين ، وأن قولهم : استغفر الله من الذنب ، إنما جاء على سبيل التضمين ، كأنه قال : تبت إلى الله من الذنب ، وهو محجوج بقول سيبويه ، ونقله عن العرب وذلك مذكور في علم النحو ، وحذف هنا المفعول الثاني للعلم به ، ولم يجىء في القرآن مثبتاً ، لا مجروراً بمن ، ولا منصوباً ، بخلاف : غفر ، فإنه تارة جاء في القرآن مذكوراً مفعوله ، كقوله : { ومن يغفر الذنوب إلا الله } وتارة محذوفاً.
كقوله تعالى : { يغفر لمن يشاء } وجاء : استغفر ، أيضاً معدّى باللام ، كما قال تعالى : { فاستغفروا لذنوبهم } { واستغفر لذنبك } وكأن هذه اللام ، والله أعلم ، لام العلة ، وأن ما دخلت عليه مفعول من أجله ، واستفعل هنا للطلب ، كاستوهب واستطعم واستعان ، وهو أحد المعاني التي جاء لها استفعل ، وقد ذكرنا ذلك في قوله : { وإياك نستعين }
{ إن الله غفور رحيم } هذا كالسبب في الأمر بالاستغفار ، وهو أنه تعالى كثير الغفران ، كثير الرحمة ، وهاتان الصفتان للمبالغة ، وأكثر بناء : فعول ، من : فَعَلَ ، نحو : غفور ، وصفوح ، وصبور ، وشكور ، وضروب ، وقتول ، وتروك ، وهجوم ، وعلوك ، وأكثر بناء : فعيل ، من فَعِلَ بكسر العين نحو : رحيم ، وعليم ، وحفيظ ، وسميع ، وقد يتعارضان.
قالوا : رقب فهو رقيب ، وقدر فهو قدير ، وجهل فهو جهول؛ وقد تقدم الكلام على نحو هذه الجمل ، أعني : أن يكون آخر الكلام ذكر اسم الله ، ثم يعاد بلفظه بعد : إن ، والأولى أن يطلق الغفران والرحمة ، وإن ذلك من شأنه تعالى.
وقيل : إن المغفرة الموعودة في الآية هي عند الدفع من عرفات ، وقيل : إنها عند الدفع من جُمع إلى منى ، والأولى ما قدمناه.
{ فاذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو شد ذكرا } وسبب نزولها أنهم كانوا إذا اجتمعوا في الموسم تفاخروا بآبائهم ، فيقول أحدهم : كان يقرى الضيف ، ويضرب بالسيف ، ويطعم الطعام ، وينحر الجزور ، ويفك العاني ، ويجر النواصي ، ويفعل كذا وكذا.
فنزلت.
وقال الحسن : كانوا إذا حدثوا أقسموا بالآباء ، فيقولون.
وأبيك ، فنزلت.
وقال السدي : كانوا إذا قضوا المناسك وأقاموا بمنى يقوم الرجل ويسأل الله فيقول : اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة ، كثير المال فأعطني بمثل ذلك! ليس يذكر الله ، إنما يذكر أباه ويسأل الله أن يعطيه في دنياه ، وقال : معناه أبو وائل ، وابن زيد ، فنزلت : فإذا قضيتم ، أي أديتم وفرغتم.

كقوله : { فاذا قضيت الصلاة } أي : أديت ، وقد يعبر بالقضاء عن ما يفعل من العبادات خارج الوقت المحدود ، والقضاء إذا علق على فعل النفس فالمراد منه الإتمام والفراغ ، كقوله : وما فاتكم فاقضوا وإذا علق على فعل غيره ، فالمراد منه الإلزام ، كقوله : قضى الحاكم بينهما ، والمراد من الآية الفراغ.
وقال بعض المفسرين : يحتمل أن يكون هذا الشرط والجزاء ، كقولك : إذا حججت فطف وقف بعرفة ، فلا نعني بالقضاء الفراغ من الحج ، بل الدخول فيه ، ونعني بالذكر ما أمروا به من الدعاء بعرفات ، والمشعر الحرام ، والطواف والسعي ، فيكون المعنى : فاذا شرعتم في قضاء المناسك ، أي : في أدائها فاذكروا.
وهذا خلاف الظاهر ، لأن الظاهر الفراغ من المناسك لا الشروع فيها ، ويؤيد ذلك مجيء الفاء في : فإذا ، بعد الجمل السابقة.
والمناسك هي مواضع العبادة ، فيكون هذا على حذف مضاف ، أي : أعمال مناسككم ، أو العبادات نفسها المأمور بها في الحج ، قاله الحسن ، أو الذبائح وإراقة الدماء ، قاله مجاهد.
فاذكروا الله : هذا جواب : إذ ، والمعنى : إذا فرغتم من الوقوف بعرفة ، ونفرتم من منى ، فعظموا الله وأثنوا عليه إذ هداكم لهذه الطاعة ، وسهلها ويسرها عليكم ، حتى أديتم فرض ربكم وتخلصتم من عهدة هذا الأمر الشاق الصعب الذي لا يبلغ إلا بالتعب الكثير ، وانهماك النفس والمال ، وقيل : الذكر هنا هو ذكر الله على الذبيحة ، وقيل : هو التكبيرات بعد الصلاة في يوم النحر وأيام التشريق ، وقيل : بل المقصود تحويلهم عن ذكر آبائهم إلى ذكره تعالى كذكركم آباءكم تقدم هذا هو ذكر مفاخرهم ، أو السؤال من الله أن يعطيهم مثل ما أعطى آباءهم ، أو القسم بآبائهم ، وقيل : ذكر آبائهم في حال الصغر ، ولهجه بأبيه يقول : أبه أبه ، أول ما يتكلم.
وقيل : معنى الذكر هنا الغضب لله كما تغضب لوالديك إذا سُبَّا ، قاله أبو الجوزاء ، عن ابن عباس.
ونقل ابن عطية أن محمد بن كعب القرظي قرأ : كذكركم آباؤكم ، برفع ألآباء ، ونقل غيره عن محمد بن كعب أنه قرأ : أباكم ، على الإفراد ، ووجه الرفع أنه فاعل بالمصدر ، والمصدر مضاف إلى المفعول ، التقدير : كما يذكركم آباؤكم.
والمعنى : ابتهلوا بذكر الله والهجوا به كما يلهج المرء بذكر ابنه.
ووجه الإفراد أنه استغنى به عن الجمع ، لأنه يفهم الجمع من الإضافة إلى الجمع ، لأنه معلوم أن المخاطبين ليس لهم أب واحد ، بل آباء.
و : أو ، هنا قيل : للتخيير ، وقيل : للاباحة ، وقيل : بمعنى بل أشدّ ، جوزوا في إعرابه وجوهاً اضطروا إليها لاعتقادهم أن ذكراً بعد أشدّ تمييزاً بعد أفعل التفضيل ، فلا يمكن إقراره تميزاً إلاَّ بهذه التقادير التي قدَّورها ، ووجه إشكال كونه تمييزاً أن أفعل التفضيل إذا انتصب ما بعده فإنه يكون غير الذي قبله ، تقول : زيد أحسن وجهاً ، لأن الوجه ليس زيداً فإذا كان من جنس ما قبله انخفض نحو زيد أفضل رجلٍ.

فعلى هذا يكون التركيب في مثل : أضرب زيداً كضرب عمر وخالداً أو أشدّ ضرب ، بالجر لا بالنصب ، لأن المعنى أن أفعل التفضيل جنس ما قبله ، فجوزوا إذ ذاك النصب على وجوه.
أحدها : أن يكون معطوفاً على موضع الكاف في : ذكركم ، لأنها عندهم نعت لمصدر محذوف ، أي : ذكراً كذكركم آباءكم أو أشد ، وجعلوا الذكر ذكراً على جهة المجاز ، كما قالوا : شاعر شعر ، قاله أبو علي وابن جني.
الثاني : أن يكون معطوفاً على آبائكم ، قاله الزمخشري ، قال : بمعنى أو أشد ذكراً من آبائكم ، على أن ذكراً من فعل المذكور انتهى.
وهو كلام قلق ، ومعناه : أنك إذا عطفت أشد على آبائكم كان التقدير : أو قوماً أشد ذكراً من آبائكم ، فكان القوم مذكورين ، والذكر الذي هو تمييز بعد أشدّ هو من فعلهم ، أي من فعل القوم المذكورين ، لأنه جاء بعد أفعل الذي هو صفة للقوم ، ومعنى قوله : من آبائكم أي : من ذكركم لآبائكم.
الثالث : أنه منصوب بإضمار فعل الكون.
والكلام محمول على المعنى.
التقدير : أو كونوا أشد ذكراً له منكم لأبائكم.
ودل عليه أن معنى : فاذكروا الله؛ كونوا ذاكريه.
قال أبو البقاء : قال : وهذا أسهل من حمله على المجاز ، يعنى في أن يجعل للذكر ذكر في قول أبي علي وابن جني.
وجوزوا الجر في أشد على وجهين.
أحدهما : ان يكون معطوفاً على : ذكركم ، قاله الزجاج ، وابن عطية ، وغيرهما.
فيكون التقدير : أو كذكر أشدّ ذكراً ، فيكون إذ ذاك قد جُعل للذكر ذكر.
الثاني : أن يكون معطوفاً على الضمير المجرور بالمصدر في : كذكركم ، قاله الزمخشري.
قال ما نصه : أو أشدّ ذكراً في موضع جر ، عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله : كذكركم ، كما تقول : كذكر قريش آباءهم أو قوم أشدّ منهم ذكراً ، وفي قول الزمخشري : العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار ، فهي خمسة وجوه من الإعراب كلها ضعيف ، والذي يتبادر إليه الذهن في الآية أنهم أمروا بأن يذكروا الله ذكراً يماثل ذكر آبائهم أو أشدّ ، وقد ساغ لنا حمل الآية على هذا المعنى بتوجيه واضح ذهلوا عنه ، وهو أن يكون : أشدّ ، منصوباً على الحال ، وهو نعت لقوله : ذكراً لو تأخر ، فلما تقدّم انتصب على الحال ، كقولهم.
لمية موحشاً طلل . . .
فلو تأخر لكان : لمية طلل موحش ، وكذلك لو تأخر هذا لكان : أو ذكراً أشدّ ، يعنى : من ذكركم آباءكم ، ويكون إذ ذاك : أو ذكراً أشدّ معطوفاً على محل الكاف من : كذكركم ، ويجوز أن يكون ذكراً مصدراً ، لقوله : فاذكروا كذكركم ، في موضع الحال ، لأنه في التقدير : نعت نكرة تقدّم عليهما فانتصب على الحال ، ويكون : أو أشدّ ، معطوفاً على محل الكاف حالاً معطوفة على حال ، ويصير كقوله : أضرب مثل ضرب فلان ضرباً ، التقدير ضرباً مثل ضرب فلان ، فلما تقدّم انتصب على الحال ، وحسن تأخره أنه كالفاصلة في جنس المقطع.

ولو تقدّم لكان : فاذكروا ذكراً كذكركم ، فكان اللفظ يتكرر ، وهم مما يجتنبون كثرة التكرار للفظ ، فلهذا المعنى ، ولحسن القطع ، تأخر.
لا يقال في الوجه الأول : إنه يلزم فيه الفصل بين حرف العطف وهو : أو ، وبين المعطوف الذي هو : ذكراً ، بالحال الذي هو : أشدّ ، وقد نصوا على أنه إذا جاز ذلك فشرطه أن يكون المفصول به قسماً أو ظرفاً أو مجروراً ، وإن يكون حرف العطف على أزيد من حرف ، وقد وجد هذا الشرط الآخر ، وهو كون الحرف على أزيد من حرف ، وفقد الشرط الأول ، لأن المفصول به ليس بقسم ولا ظرف ولا مجرور ، بل هو حال ، لأن الحال هي مفعول فيها في المعنى ، فهي شبيهة بالحرف ، فيجوز فيها ما جاز في الظرف.
وهذا أولى من جعل : ذكراً ، تمييزاً لأفعل التفضيل الذي هو وصف في المعنى ، فيكون : للذكر ذكر بأن ينصبه على محل الكاف ، أو يجره عطفاً على ذكر المجرور بالكاف ، أو الذي هو وصف في المعنى للذكر بأن ينصبه بإضمار فعل أي : كونوا أشدّ ، أو للذاكر الذكر ، وبأن ينصبه عطفاً على : أباءكم ، أو للذكر الفاعل بأن يجره عطفاً على المضاف إليه الذكر ، ولا يخفى ما في هذه الأوجه من الضعف ، فينبغي أن ينزه القرآن عنها.
{ فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا } قالوا : بين تعالى حال الذاكرين له قبل مبعثه ، وحال المؤمنين بعد مبعثه ، وعلمهم بالثواب والعقاب.
والذي يظهر أن هذا تقسيم للمأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك ، وأنهم ينقسمون في السؤال إلى من يغلب عليه حب الدنيا ، فلا يدعو إلاَّ بها ، ومنهم من يدعو بصلاح حاله في الدنيا والآخرة ، وإن هذا من الالتفات.
ولو جاء على الخطاب لكان : فمنكم من يقول : ومنكم.
وحكمة هذا الالتفات أنهم ما وجهوا بهذا الذي لا ينبغي أن يسلكه عاقل ، وهو الاقتصار على الدنيا ، فأبرزوا في صورة أنهم غير المخاطبين بذكر الله بأن جعلوا في صورة الغائبين ، وهذا من التقسيم الذي هو من جملة ضروب البيان ، وهو تقسيم بديع يحصره المقسم إلى هذين النوعين ، لا على ما يذهب إليه الصوفية من أن ثَمَّ قِسماً ثالثاً لم يذكر لهم تعالى ، قالوا : وهم الراضون بقضائه ، المستسلمون لامره ، الساكتون عن كل دعاء ، وافتشاء ، ومفعول آتنا الثاني محذوف ، تقديره : ما تريد ، أو : مطلوبنا ، أو ما أشبه.
هذا وجعل في زائدة ، وتكون الدنيا المفعول الثاني قول ساقط ، وكذلك جعل في بمعنى : من ، حتى يكون في موضع المفعول ، وحذف مفعولي آتي ، وأحدهما جائز اختصاراً واقتصاراً ، لأن هذا باب : أعطى ، وذلك جائز فيه.

{ وما له في الآخرة من خلاق } تقدّم تفسير هذا في قوله : { ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق } واحتملت هذه الجملة هنا معنيين : أحدهما : الاخبار بأنه لا نصيب له في الآخرة لاقتصاره على الدنيا.
والثاني : أن يكون المعنى إخباراً عن الداعي بأنه ما له في الآخرة من طلب نصيب ، فيكون هذا كالتوكيد لاقتصاره على طلب الدنيا ، وجمع في قوله : { ربنا آتنا في الدنيا } ولو جرى على لفظٍ من ، لكان : ربّ آتني.
وروعي الجمع هنا لكثرة من يرغب في الاقتصار على مطالب الدنيا ونيلها ، ولو أفرد لتوهم أن ذلك قليل.
{ ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة } الحسنة : مطلقة ، والمعنى : أنهم سألوا الله في الدنيا الحالة الحسنة ، وقد مثل المفسرون ذلك بأنها المرأة الصالحة ، قاله علي.
أو : العافية في الصحة وكفاف المال ، قاله قتادة.
أو : العلم ، أو العبادة ، قاله الحسن.
أو : المال ، قاله السدي ، وأبو وائل ، وابن زيد.
أو : الرزق الواسع ، قاله مقاتل.
أو : النعمة في الدنيا ، قاله : ابن قتيبة ، أو القناعة بالرزق ، أو : التوفيق والعصمة ، أو : الأولاد الأبرار ، أو : الثبات على الإيمان ، أو : حلاوة الطاعة ، أو : اتباع السنة ، أو : ثناء الخلق ، أو : الصحة والأمن والكفاءة والنصرة على الأعداء ، أو : الفهم في كتاب الله تعالى.
أو : صحبة الصالحين ، قاله جعفر.
وعن الصوفية في ذلك مثل كثيرة.
{ وفي الآخرة حسنة } مثلوا حسنة الآخرة بأنها الجنة ، أو العفو والمغفرة والسلامة من هول الموقف وسوء الحساب ، أو النعمة ، أو الحور العين ، أو تيسير الحساب ، أو مرافقة الأنبياء ، أو لذة الرؤية ، أو الرضا ، أو اللقاء.
وقال ابن عطية : هي الحسنة بإجماع.
قيل : وينبغي أن تكون الحسنتان هما العافية في الدنيا والآخرة لثبوت ذلك في حديث الذي زاره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صار مثل الفرخ ، وأنه سأله عما كان يدعو به ، فأخبره أنه سأل الله في الدنيا تعجيل ما يعاقبه به في الآخرة ، وأنه قال له : «لا تستطيعه» وقال : «هلا قلت اللهم آتنا في الدنيا . . .
» إلى آخره.
فدعا بهما الله تعالى فشفاه.
وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يدعو به ، وكان يقول ذلك فيما بين الركن والحجر الأسود ، وكان يأمر أن يكون أكثر دعاء المسلم في الموقف.
وأبو بكر أول من قالها في الموسم عام الفتح ، ثم اتبعه علي ، والناس أجمعون؛ وأنس سئل الدعاء فدعا بها ، ثم سئل الزيادة فأعادها ، ثم سئل الزيادة فقال : ما تريدون؟ قد سألت الله خير الدنيا والآخرة.
{ وفي الآخرة حسنة } : الواو فيها لعطف شيئين على شيئين ، فعطفت في الأخرة حسنة ، على : الدنيا حسنة ، والحرف قد يعطف شيئين فأكثر على شيئين فأكثر ، تقول : أعلمت زيداً أخاك منطلقاً وعمراً أباه مقيماً ، إلاَّ إن ناب عن عاملين ففيه خلاف ، وفي الجواز تفصيل.

وليس هذا من الفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف والمجرور كما ظن بعضهم ، فأجاز ذلك مستدلاً به على ضعف مذهب الفارسي في أن ذلك مخصوص بالشعر ، لأن الآية ليست من هذا الباب ، بل من عطف شيئين فأكثر على شيئين فأكثر ، وإنما الذي وقع فيه خلاف أبي علي هو : ضربت زيداً وفي الدار عمراً ، وإنما يستدل على ضعف مذهب أبي علي بقوله تعالى : { الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن } وبقوله : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } وتمام الكلام على هذه المسألة مذكور في علم النحو.
{ وقنا عذاب النار } هو سؤال بالوقاية من النار ، وهو : أن لا يدخلوها ، وهي نار جهنم ، وقيل : المرأة السوء الكثيرة الشر.
وقال القيثري : واللام في النار لام الجنس ، فتحصل الاستعاذة عن نيران الحرقة ونيران الفرقة. انتهى.
وظاهر هذا الدعاء أنه لما كان قولهم : وفي الآخرة حسنة ، يقتضي أن من دخل الجنة ، ولو آخر الناس ، صدق عليه أنه : أوتي في الآخرة حسنة ، قد دعوا الله تعالى أن يكونوا مع دخول الجنة يقيهم عذاب النار ، فكأنه دعاء بدخول الجنة أولاً دون عذاب ، وأنهم لا يكونون ممن يدخل النار بمعاصيهم ويخرجون منا بالشفاعة.
ويحتمل أن يكون مؤكداً لطلب دخول الجنة ، كما قال بعض الصحابة.
إنما أقول في دعائي : اللهم أدخلني الجنة ، وعافني من النار ، ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «حولها ندندن».
{ أولئك لهم نصيب مما كسبوا } تقدّم انقسام الناس إلى فريقين : فريق اقتصر في سؤاله على دنياه ، وفريق أشرك في دنياه أخراه ، فالظاهر أن : أولئك ، إشارة إلى الفريقين ، إذ المحكوم به ، وهو كون : نصيب لهم مما كسبوا ، مشترك بينهما ، والمعنى : أن كل فريق له نصيب مما كسب ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر.
ولا يكون الكسب هنا الدعاء ، بل هذا مجرد إخبار من الله بما يؤول إليه أمر كل واحد من الفريقين ، وأن انصباءهم من الخير والشر تابعة لاكسابهم.
وقيل : المراد بالكسب هنا الدعاء ، أي : لكل واحد منهم نصيب مما دعا به.
وسمي الدعاء كسباً لأنه عمل ، فيكون ذلك ضماناً للإجابة ووعداً منه تعالى أنه يعطي كّلاً منه نصيباً مما اقتضاه دعاؤه ، إما الدنيا فقط ، وإما الدنيا والآخرة ، فيكون كقوله : { من كان يريد حرث الآخرة } { ومن كان يريد العاجلة } و { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها } الآيات.
وكما جاء في الصحيح : وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا ما عمل لله بها ، فإذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها.

وفي المعنى الأول لا يكون فيه وعد بالإجابة.
و : من ، في قوله : مما كسبوا ، يحتمل أن تكون للتبعيض ، أي : نصيب من جنس ما كسبوا ، ويحتمل أن يكون للسبب ، و : ما ، يحتمل أن تكون موصولة لمعنى الذي أو موصولة مصدرية أي : من كسبهم ، وقيل : أولئك ، مختص بالإشارة إلى طالبي الحسنتين فقط ، ولم يذكر ابن عطية غيره.
وذكره الزمخشري بإزائه.
قال ابن عطية : وعد على كسب الأعمال الصالحة في صيغة الإخبار المجرد ، وقال الزمخشري : أولئك الداعون بالحسنتين لهم نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال الصالحة ، وهو الثواب الذي هو منافع الحسنة ، أو من أجل ما كسبوا ، كقوله : مما خطاياهم اغرقوا ، ثم قال بعد كلام : ويجوز أن يكون أولئك الفريقين جميعاً ، وأن لكل فريق نصيباً من جنس ما كسبوا.
انتهى كلامه.
والأظهر ما قدمناه من أن : أولئك ، إشارة إلى الفريقين ، ويؤيده قوله : { والله سريع الحساب } وهذا ليس مما يختص به فريق دون فريق ، بل هذا بالنسبة لجميع الخلق ، والحساب يعم محاسبة العالم كلهم ، لا محاسبة هذا الفريق الطالب الحسنتين.
وروي عن ابن عباس : أن النصيب هنا مخصوص بمن حج عن ميت ، يكون الثواب بينه وبين الميت ، وروي عنه أيضاً ، في حديث الذي سأل هل يحج عن أبيه.
وكان مات؟ وفي آخره ، قال : فهل لي من أجره؟ فنزلت هذه الآية ، قيل : وإذا صح هذا فتكون الآية منفصلة عن التي قبلها ، معلقة بما قبله من ذكر الحج ومناسكه وأحكامه. انتهى.
وليست كما ذكر منفصلة ، بل هي متصلة بما قبلها ، لأن ما قبلها هو في الحج ، وأن انقسام الفريقين هو في الحج ، فمنهم من كان يسأل الله الدنيا فقط ، ومنهم من يسأل الدنيا والآخرة.
وحصل الجواب للسائل عن حجه عن أبيه : أله فيه أجر؟ لعموم قوله : { أولئك لهم نصيب مما كسبوا } وقد أجاب ابن عباس بهذه الآية من سأله أن يكري دابته ويشرط عليهم أن يحج ، فهل يجزى عنه؟ وذلك لعموم قوله : { أولئك لهم نصيب مما كسبوا }.
{ والله سريع الحساب } ظاهره الإخبار عنه تعالى بسرعة حسابه ، وسرعته بانقضائه عجلاً كقصد مدته ، فروي : بقدر حلب شاة ، وروي بمقدار فواق ناقة ، وروي بمقدار لمحة البصر.
أو لكونه لا يحتاج إلى فكر ، ولا رؤية كالعاجز ، قاله أبو سليمان.
أو : لما علم ما للمحاسب وما عليه قبل حسابه ، قاله الزجاج.
أو : لكون حساب العالم كحساب رجل واحد أو لقرب مجيء الحساب ، قاله مقاتل.
قيل : كنى بالحساب عن المجازاة على الأعمال إذا كانت ناشئة عنها كقوله : { ولم أدر ما حسابيه } يعنى ما جزائي ، وقيل : كنى بالحساب عن العلم بمجاري الأمور ، لأن الحساب يفضي إلى العلم ، قاله الزجاج أيضاً.
وقيل : عبر بالحساب عن القبول لدعاء عباده ، وقيل : عبر به عن القدرة والوفاء ، أي : لا يؤخر ثواب محسن ولا عقاب مسيء.

وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : سريع مجيء يوم الحساب.
فالمقصود بالآية الإنذار بسرعة يوم القيامة.
وقيل : سرعة الحساب تعالى رحمته وكثرتها ، فهي لا تغب ولا تنقطع.
وروي ما يقاربه عن ابن عباس.
وظاهر سياق هذا الكلام عموم الحساب للكافر والمؤمن إذ جاء بعد ما ظاهره أنه للطائعين ، ويكون حساب الكفار تقريعاً وتوبيخاً ، لأنه ليس له حسنة في الآخرة يجزى بها ، وهو ظاهر قوله : { ولم أدر ما حسابيه } وقال الجمهور : الكفار لا يحاسبون ، قال تعالى : { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } { وقدِمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } وظاهر ثقل الموازين وخفتها ، وما ترتب عليها في الآيات الواردة في القرآن شمول الحسنات للبر والفاجر ، والمؤمن والكافر.
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة : أن الحج له أشهر معلومات ، وجمعها على أشهر لقلتها ، وهي : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة.
بكمالها ، على ما يقتضيه ظاهر الجمع ، ووصفها : بمعلومات ، لعلمهم بها.
وأخبر تعالى أن من ألزم نفسه الحج فيها فلا يرفت ولا يفسق ولا يجادل ، فنهاه عن مفسد الحج مما كان جائزاً قبله ، وما كان غير جائز مطلقاً ليسوي بين التحريمين ، وإن كان أحدهما مؤقتاً ، والآخر ليس بمؤقت.
ثم لما نهى عن هذه المفسدات ، أخبر تعالى أن ما يفعله الأنسان من الخير الذي فرض الحج منه يعلمه الله ، فهو تعالى يثيب عليه.
ثم أمر تعالى بالتزوّد للدّار الآخرة بأعمال الطاعات ، ودخل فيها ما هم ملتبسون به من الحج ، وأخبر أن خير الزاد هو ما كان وقاية بينك وبين النار ، ثم نادى ذوي العقول ، الذين هم أهل الخطاب ، وأمرهم باتقاء عقابه ، لأنه قد تقدّم ذكر المناهي ، فناسب أن ينتهوا على اتقاء عذاب الله بالمخالفة فيما نهى عنه ، ثم أنه لما كان الحاج مشغولاً بهذه العبادة الشاقة ، ملتبساً بأقوالها وأفعالها ، كان مما يتوهم أنها لا يمزج وقتها بشيء غير أفعالها ، فبين تعالى أنه لا حرج على من ابتغى فيها فضلاً بتجارة ، أو اجارة ، أو غير ذلك من الأعمال المعينة على كلف الدنيا ، ثم أمرهم تعالى بذكره عند المشعر الحرام إذا أفاضوا من عرفات ، ليرجعهم بذكره إلى الاشتغال بأفعال الحج ، لئلا يستغرقهم التعلق بالتجارات والمكاسب ، ثم أمرهم بالذكر على هدايته التي منحها إياهم ، وقد كانوا قبل في ضلال ، فاصطفاهم للهداية ، ثم أمرهم بأن يفيضوا من حيث أفاض الناس ، وهي التي جرت عادة الناس بأن يفيضوا منها ، وذلك المكان هو عرفة ، والمعنى أنهم أمروا أن يكونوا تلك الإِفاضة السابقة من عرفة لا من غيرها ، كما ذكر في سبب النزول.
وأتى بثم لا لترتيب في الزمان ، بل للترتيب في الذكر ، لا في الوقوع.

ثم أمر بالاستغفار ، ثم أمر بعد أداء المناسك بذكر الله تعالى ، ولما كان الإِنسان كثيراً ما يذكر أباه ويثني عليه بما أسلفه من كريم المآثر ، وكان ذلك عندهم الغاية في الذكر ، مثل ذكر الله بذلك الذكر ، ثم أكد مطلوبية المبالغة في الذكر بقوله : أو أشدّ ، ليفهم أن ما مثل به أولاً ليس إلاّ على طريق ضرب المثل لهم؛ والمقصود أن لا يغفلوا عن ذكر الله تعالى طرفة عين.
ثم قسم مقصد الحاج إلى دنيويّ صرف ، وإلى دنيويّ وأخروي ، وبيّن ذلك في سؤاله ، إياه وذكر أن من اقتصر على دنياه فإنه لا حظ له في الآخرة ، ثم أشار إلى مجموع الصنفين بأن كلا منهما له مما كسب من أعمال حظ ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، وأنه تعالى حسابه سريع ، فيجازي العبد بما كسب.

وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)

العجلة : الإِسراع في شيء والمبادرة ، وتعجل تفعل منه وهو إما بمعنى استفعل ، وهو أحد المعاني التي يجيء لها تفعل فيكون بمعنى استعجل ، كقولهم : تكبر واستكبر ، وتيقن واستيقن ، وتقضى واستقضى ، وتعجل واستعجل ، يأتي لازماً ومتعدياً ، تقول : تعجلت في الشيء وتعجلته ، واستعجلت في الشيء واستعجلت زيداً ، وإمّا بمعنى الفعل المجرّد فيكون بمعنى : عجل ، كقولهم : تلبث بمعنى لبث ، وتعجب وعجب ، وتبرّ أو برىء ، وهو أحد المعاني التي جاء لها تفعل.
الحشر : جمع القوم من كل ناحية ، والمحشر مجتمعهم ، يقال منه : حشر يحشر ، وحشرات الأرض دوابها الصغار ، وقال الراغب : الحشر : ضم المفترق وسوقه ، وهو بمعنى الجمع الذي قلناه.
الإِعجاب : افعال من العجب وأصله ، لما لم يكن مثله قاله المفضل ، وهو الاستحسان للشيء والميل إليه والتعظيم ، تقول أعجبني زيد.
والهمزة فيه للتعدّي ، وقال الراغب : العجب حيرة تعرض للإِنسان بسبب الشيء وليس هو شيئاً له في ذاته حالة ، بل هو بحسب الإِضافات إلى من يعرف السبب ، ومن لا يعرفه.
وحقيقة أعجبني كذا أي : ظهر لي ظهوراً لم أعرف سببه.
انتهى كلامه.
وقد يقال عجبت من كذا في الإِنكار ، كما قال زياد الأعجم :
عجبت والدهر كثير عجبه . . .
من عنزي سبني لم أضربه
اللدد : شدّة الخصومة ، يقال : لددت تلد لدداً ولدادة ، ورجل ألدّ وامرأة لدّاء ، ورجال ونساء لدّ ، ورجل التدد ويلتدد أيضاً شديد الخصومة ، وإذا غلب خصمه قيل : لدّه يلدّه ، متعدياً ، وقال الراجز :
يلدّ أقران الرجال اللدد . . .
واشتقاقه من لديدي العنق ، وهما : صفحتاه ، قاله الزجاج ، وقيل : من لديدي الوادي وهما جانباه ، سميا بذلك لإعوجاجهما ، وقيل : هو من لدّه : حبسه ، فكأنه يحبس خصمه عن مفاوضته ومقاومته.
الخصام : مصدر خاصم ، وجمع خصم يقال : خصم وخصوم وخصام ، كبحر وبحور بحار ، والأصل في الخصومة التعميق في البحث عن الشيء ، ولذلك قيل : في زوايا الأوعية : خصوم ، الواحد.
خصم.
النسل : مصدر : نسل ينسل ، وأصله الخروج بسرعة ومن قولهم : نسل وبر البعير ، وشعر الحمار ، وريش الطائر : خرج فسقط منه ، وقيل : النسل الخروج متتابعاً ، ومنه : نسال الطائر ما تتابع سقوطه من ريشه ، وقال :
فسلِّي ثيابي من ثيابك تنسل . . .
والإِطلاق على الولد نسلاً من إطلاق المصدر على المفعول ، يسمى بذلك لخروجه من ظهر الأب ، وسقوطه من بطن الأمّ بسرعة.
جهنم : علم للنار وقيل : إسم الدرك الأسفل فيها ، وهي عربية مشتقة من قولهم : ركية جهنام إذا كانت بعيدة القعر ، وقد سمي الرجل بجهنام أيضاً فهو علم ، وكلاهما من الجهم وهو الكراهة والغلظة ، فالنون على هذا زائدة ، فوزنه : فعنل ، وقد نصوا على أن جهناماً وزنه فعنال.
وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن فعنلاً بناء مفقود في كلامهم ، وجعل دونكاً : فعللا ، كعدبس.
والواو أصل في بنات الأربعة كهي في : ورنتل ، والصحيح إثبات هذا البناء.

وجاءت منه ألفاظ ، قالوا : ضغنط من الضغاطة ، وهي الضخامة ، وسفنج ، وهجنف : للظليم والزونك : القصير سمي بذلك لأنه يزوك في مشيته.
أي : يتبختر ، قال حسان :
أجمعت أنك أنت ألأم من مشى . . .
في فحش زانيةٍ وزوكِ غراب
وقال بعضهم في معناه : زونكي.
وهذا كله يدل على زيادة النون في : جهنم وامتنعت الصرف للعلمية والتأنيث ، وقيل : هي أعجمية وأصلها كهنام ، فعربت بإبدال من الكاف جيماً.
وبإسقاط الألف ، ومنعت الصرف على هذا للعجمة والعلمية.
حسب : بمعنى : كافٍ ، تقول أحسبني الشيء : كفاني ، فوقع حسب موقع : محسب ، ويستعمل مبتدأ فيجر خبره بباء زائدة ، وإذا استعمل خبراً لا يزاد فيه الباء وصفة فيضاف ، ولا يتعرف إذا أضيف إلى معرفة ، تقول : مررت برجل حسبك ، ويجيء معه التمييز نحو : برجل حسبك من رجل ولا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث ، وإن كان صفة لمثنى أو مجموع أو مؤنث لأنه مصدر.
المهاد : الفراش وهو ما وطىء للنوم ، وقيل : هو جمع مهد ، وهو الموضع المهيأ للنوم.
السلم : بكسر السين وفتحها : الصلح ، ويذكر ويؤنث ، وأصله من الاستسلام ، وهو الانقياد.
وحكى البصريون عن العرب : بنو فلان سِلم وسَلم بمعنى واحد ، ويطلق بالفتح والكسر على الإسلام ، قاله الكسائي وجماعة من أهل اللغة ، وأنشدوا بعض قول كندة :
دعوت عشيرتي للسلم لما . . .
رأيتهم تولوا مدبرينا
أي : للإِسلام ، قال ذلك لما ارتدت كندة مع الأشعث بن قيس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال آخر في الفتح :
شرائعُ السِّلم قد بانت معالمها . . .
فما يرى الكُفْرَ إلاَّ من به خبلُ
يريد : الإِسلام ، لأنه قابله بالكفر ، وقيل بالكسر : الإِسلام وبالفتح : الصلح.
كافة : هو اسم فاعل استعمل بمعنى : جميعاً ، وأصل اشتقاقه من كف الشيء : منع من أخذه ، والكف المنع ، ومنه كفة القميص حاشيته ، ومنه الكف وهو طرف اليد لأنه يكف بها عن سائر البدن ، ورجل مكفوف منع بصره أن ينظر ، ومنه كفة الميزان لأنها تمنع الموزون أن ينتشر ، وقال بعض اللغويين : كفة بالضم لكل مستطيل ، وبالكسر لكل مستدير ، وكافة : مما لزم انتصابه على الحال نحو : قاطبة ، فاخراجها عن النصب حالاً لحن.
التزيين : التحسين ، والزينة مما يتحسن به ويتجمل ، وفعل من الزين بمعنى الفعل المجرد ، والتضعيف فيه ليس للتعدية ، وكونه بمعنى المجرد وهو أحد المعاني التي جاءت لها فعل كقولهم : قدّر الله ، وقَدَرَ.
وميز وماز ، وبشر وبشر ، ويبنى من الزين افتعل افتعال : ازدان بإبدال التاء دالاً ، وهو لازم.
{ واذكروا الله في أيام معدودات } هذا رابع أمر بالذكر في هذه الآية ، والذكر هنا التكبير عند الجمرات وإدبار الصلاة وغير ذلك من أوقات الحج ، أو التكبير عقيب الصلوات المفروضة ، قولان.
وعن عمر أنه كان يكبر بفسطاطه بمنًى فيكبر من حوله حتى يكبر الناس في الطريق ، وفي الطواف ، والأيام المعدودات ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، وليس يوم النحر من المعدودات ، هذا مذهب الشافعي ، وأحمد ، ومالك وأبي حنيفة ، قاله : ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وقتادة ، والسدّي ، والربيع ، والضحاك.

أو يوم النحر ويومان بعده ، قاله : ابن عمر ، وعلي ، وقال : إذبح في أيها شئت ، أو يوم النحر وثلاثة أيام التشريق ، قاله : المروزي.
أو أيام العشر ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، قيل : وقولهم أيام العشر ، غلط من الرواة ، وقال ابن عطية : إما أن يكون من تصحيف النسخة ، وإما أن يريد العشر الذي بعد يوم النحر ، وفي ذلك بُعْدٌ.
وتكلم المفسرون هنا على قوله : { في أيام معلومات ، على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } ونحن نؤخر الكلام على ذلك إلى مكانه إن شاء الله.
واستدل ابن عطية للقول الأول وهو : أن الأيام المعدودات : أيام التشريق وهي الثلاثة بعد يوم النحر ، وليس يوم النحر منها.
بأن قال : ودل على ذلك إجماع الناس على أنه لا ينفر أحد يوم القر.
وهو ثاني يوم النحر ، ولو كان يوم النحر في المعدودات لساغ أن ينفر من شاء متعجلاً يوم القر ، لأنه قد أخذ يومين من المعدودات انتهى كلامه.
ولا يلزم ما قاله ، لأن قوله : فمن تعجل في يومين ، لا يمكن حمله على ظاهره ، لأن الظرف المبني إذا عمل فيه الفعل فلا بدّ من وقوعه في كل واحد من اليومين ، لو قلت : ضربت زيداً يومين ، فلا بدّ من وقوع الضرب به في كل واحد من اليومين ، وهنا لا يمكن ذلك ، لأن التعجيل بالنفر لم يقع في كل واحد من اليومين ، فلا بدّ من ارتكاب مجاز ، إما بأن يجعل وقوعه في أحدهما كأنه وقوع فيهما ، ويصير نظير : { نسيا حوتهما } { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } وإنما الناسي أحدهما ، وكذلك ، إنما يخرجان من أحدهما.
أو بأن يجعل ذلك على حذف مضاف ، التقدير : فمن تعجل في ثاني يومين بعد يوم النحر ، فيكون اليوم الذي بعد يوم القر المتعجل فيه ، ويحتمل أن يكون المحذوف في : تمام يومين أو إكمال يومين ، فلا يلزم أن يقع التعجل في شيء من اليومين ، بل بعدهما.
وعلى هذا يصح أن يعد يوم النحر من الأيام المعدودات ، ولا يلزم أن يكون النفر يوم القر ، كما ذكره ابن عطية.
وظاهر قوله { واذكروا الله في أيام معدودات } الأمر بمطلق ذكر الله في أيام معدودات ، ولم يبين ما هذه الأيام ، لكن قوله : { فمن تعجل في يومين } يشعر أن تلك الأيام هي التي ينفر فيها ، وهي أيام التشريق ، وقد قال في ( ريّ الظمآن ) : أجمع المفسرون على أن الأيام المعدودات أيام التشريق. انتهى.
وجعل الأيام ظرفاً للذكر يدل على أنه متى ذكر الله في تلك الأيام فهو المطلوب ، ويشعر أنه عند رمي الجمار كون الرمي غير محصور بوقت ، فناسب وقوعه في أي وقت من الأيام ذكر الله فيه ، ويؤيده قوله : { فمن تعجل في يومين } وأن الخطاب بقوله : واذكروا ، ظاهر أنه للحجاج ، إذ الكلام معهم ، والخطاب قبلُ لهم ، والإخبار بعدُ عنهم ، فلا يدخل غيرهم معهم في هذا الذكر المأمور به.

ومن حمل الذكر هنا على أنه الذكر المشروع عقب الصلاة فهو منهم في الوقت وفي الكيفية.
أما وقته : فمن صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق ، قاله عمر ، وعليّ ، وابن عباس ، أو : من غداة عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر ، قاله ابن مسعود ، وعلقمة ، وأبو حنيفة.
أو : من صلاة الصبح يوم عرفة إلى أن يصلي الصبح آخر أيام التشريق ، وروي عن مالك هذا.
أو : من صلاة الظهر يوم النحر إلى الظهر من آخر أيام التشريق ، قاله يحيى بن سعيد.
أو : من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق ، قاله مالك ، والشافعي.
أو : من ظهر يوم النحر إلى العصر من آخر أيام التشريق ، قاله ابن شهاب.
أو : من ظهر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق ، قاله سعيد بن جبير.
أو : من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر من يوم النفر الأول ، قاله الحسن.
أو : من صلاة الظهر يوم عرفة إلى صلاة الظهر يوم النحر ، قاله أبو وائل.
أو : من ظهر يوم النحر إلى آخر أيام التشريق ، قاله زيد بن ثابت ، وبه أخذ أبو يوسف في أحد قوليه.
وأما الكيفية : فمشهور مذهب مالك ثلاث تكبيرات وفي مذهبه أيضاً رواية أنه يزيد بعدها : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولله الحمد.
ومذهب أبي حنيفه ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله والله أكبر.
ومذهب الشافعي : الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وقال أبو حنيفة : يختص التكبير بإدبار الصلوات المكتوبة في جماعة ، وقال مالك : مفرداً كان أو في جماعة عقب كل فريضة ، وبه قال الشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد؛ وعن أحمد : القولان ، والمسافر كالمقيم في التكبير عند علماء الأمصار ، ومشاهير الصحابة ، والتابعين.
وعن أبي حنيفة : أن المسافرين إذا صلوا جماعة لا تكبير عليهم ، فلو اقتدى مسافر بمقيم كبَّر ، وينبغي أن يكبر عقب السلام ، والجمهور يعمل شيئاً يقطع به الصلاة من الكلام وغيره ، وقيل استدبار القبلة ، والجمهور على ذلك ، فإن نسي التكبير حين فرغ وذكر قبل أن يخرج من المجلس فينبغي أن يكبر.
وقال مالك في ( المختصر ) : يكبر ما دام في مجلسه ، فإذا قام منه فلا شيء عليه وقال في ( المدوّنة ) : إن نسيه وكان قريباً قعد فكبر ، أو تباعد فلا شيء عليه ، وإن ذهب الامام والقوم جلوس فليكبروا ، وكذلك قال أبو حنيفة ، ومن نسي صلاة في أيام التشريق من تلك السنة قضاها وكبر ، وإن قضى بعدها لم يكبر ، ودلائل هذه المسائل مذكورة في كتب الفقة.

والذي يظهر ما قدمناه من أن هذا الخطاب هو للحجاج ، وأن هذا الذكر هو ما يختص به الحاج من أفعال الحج ، سواء كان الذكر عند الرمي أم عند أعقاب الصلوات ، وأنه لا يشركهم غيرهم في الذكر المأمور به إلاَّ بدليل ، وأن الذكر في أيام منى ، وفي يوم النحر عقب الصلوات لغير الحجاج ، وتعيين كيفية الذكر وابتدائه وانتهائه يحتاج إلى دليل سمعي.
{ فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } الظاهر أن : تعجل ، هنا لازم لمقابلته بلازم في قوله { من تأخر } فيكون مطاوعاً لعجل ، فتعجل ، نحو كسره فتكسر ، ومتعلق التعجل محذوف ، التقدير : بالنفس ، ويجوز أن يكون تعجل متعدياً ومفعوله محذوف أي : فمن تعجل النفر ، ومعنى : في يومين من الأيام المعدودات.
وقالوا : المراد أنه ينفر في اليوم الثاني من أيام التشريق ، وسبق كلامنا على تعليق في يومين بلفظ تعجل ، وظاهر قوله : فمن تعجل ، العموم ، فسواء في ذلك الآفاقي والمكي ، لكل منهما أن ينفر في اليوم الثاني ، وبهذا قال عطاء.
قال ابن المنذر : وهو يشبه مذهب الشافعي ، وبه نقول ، انتهى كلامه.
فتكون الرخصة لجميع الناس من أهل مكة وغيرهم.
وقال مالك وغيره : ولم يبح التعجيل إلاَّ لمن بَعُدَ قطره لا للمكي ولا للقريب إلاَّ أن يكون له عذر.
وروي عن عمر أنه قال : من شاء من الناس كلهم فلينفر في النفر الأول ، إلاَّ آل خزيمة.
فإنهم لا ينفرون إلاَّ في النفر الآخر ، وجعل أحمد ، واسحاق قول عمر : إلاَّ آل خزيمة ، أي : أنهم أهل حرم ، وكان أحمد يقول : لمن نفر النفر الأول أن يقيم بمكة.
وظاهر قوله : في يومين ، أن التعجل لا يكون بالليل بل في شيء من النهار ، ينفر إذا فرغ من رمي الجمار ، وهو مذهب الشافعي ، وهو مروي عن قتادة.
وقال أبو حنيفة : قبل طلوع الفجر ، ويعني من اليوم الثالث ، وروي عن عمر ، وابن عامر ، وجابر بن زيد ، والحسن ، والنخعي.
أنهم قالوا : من أدركه العصر وهو بمنى في اليوم الثاني من أيام التشريق لم ينفر حتى الغدو ، وهذا مخالف لظاهر القرآن لأنه قال : في يومين ، وما بقي من اليومين شيء فسائغ له النفر فيه ، قال ابن المنذر : ويمكن أن يقولوا ذلك استحباباً.
وظاهر قوله : ومن تعجل ، سقوطه الرمي عنه في اليوم الثالث ، فلا يرمي جمرات اليوم الثالث في يوم نفره.
وقال ابن أبي زمنين : يرميها في يوم النفر الأول حين يريد التعجل.
قال ابن المواز : يرمي المتعجل في يومين إحدى وعشرين حصاة كل جمرة بسبع حصيات فيصير جميع رميه بتسع وأربعين حصاة ، يعنى : لأنه قد رمى جمرة العقبة بسبع يوم النحر.

قال ابن المواز : ويسقط رمي اليوم الثالث.
وظاهر قوله { واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل } إلى آخره.
مشروعية المبيت بمنى أيام التشريق.
لأن التعجل والتأخر إنما هو في النفر من منى ، وأجمعوا على أنه لا يجوز لأحد من الحجاج أن يبيت إلاَّ بها إلاَّ للرعاء ، ومن ولي السقاية من آل العباس ، فمن ترك المبيت من غيرهما ليلة من ليالي منى ، فقال مالك ، وأبو حنيفة : عليه دم ، وقال الشافعي : من ترك المبيت في الثلاث الليالي ، فإن ترك مبيت ليلة واحدة فيلزمه ثلث دم ، أو مد أو درهم ، ثلاثة أقوال ، ولم تتعرض الآية للرمي ، لا حكماً ، ولا وقتاً ، ولا عدداً ، ولا مكاناً لشهرته عندهم.
وتؤخذ أحكامه من السنة.
وقيل : في قوله : واذكروا الله ، تنبيه عليه ، إذ من سنته التكبير على كل حصاة منها ، فلا إثم عليه.
وقرأ سالم بن عبد الله : فلا إثم عليه ، بوصل الألف ، ووجهه أنه سهل الهمزة بين بين ، فقربت بذلك من السكون فحذفها تشبيهاً بالألف ، ثم حذف الألف لسكونها وسكون التاء ، وهذا جواب الشرط إن جعلنا : مِنْ ، شرطية ، وهو الظاهر ، وإن جعلناها موصولة كان ذلك في موضع الخبر ، وظاهره نفي الإثم عنه ، ففسر بأنه مغفور له ، وكذلك من تأخر مغفور له لا ذنب عليه ، روي هذا عن علي ، وأبي ذر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، والشعبي ، ومطرف بن الشخير ، وقال معاوية بن قرة : خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وروي عن عمر ما يؤيد هذا القول ، وقال مجاهد : المعنى من تعجل أو تأخر فلا إثم عليه إلى العام القابل.
والذي يظهر أن المعنى : فلا إثم عليه في التعجيل ولا إثم عليه في التأخير ، لأن الجزاء مرتب على الشرط ، والمعنى أنه لا حرج على من تعجل ولا على من تأخر ، وقاله عطاء ، وذلك أنه لما أمرهم تعالى بالذكر في أيام معلومات ، وهذه الأيام قد فسرت بما أقله جمع وهي : ثلاثة أيام ، أو بأربعة ، أو بالعشر ، ثم أبيح لهم النفر في ثاني أيام التشريق ، وكان يقتضي الأمر بالذكر في جميع هذه الأيام أن لا تعجيل ، فنفى بقوله : فلا إثم عليه الحرج عن من خفف عنه المقام إلى اليوم الثالث ، فينفر فيه ، وسوَّى بينه في الاباحة وعدم الحرج ، وبين من تأخر فعم الأيام الثلاثة بالذكر ، وهذا التقسيم يدل على التخيير بين التعجيل والتأخر ، والتخيير قد يتبع بين الفاضل والأفضل ، فقيل : جاء ومن تأخر فلا إثم عليه ، لأجل مقابلة : فمن تعجل فلا إثم عليه ، فنفى الإثم عنه وإن كان أفضل لذلك ، وقيل : فلا إثم عليه في ترك الرخصة.
وقيل : كان أهل الجاهلية فريقين : منهم من يؤثم المتعجل ، ومنهم من يؤثم المتأخر ، فجاء القرآن برفع الإثم عنهما ، وقيل : إنه عبر بذلك عن المغفرة ، كما روي عن علي ومن معه.

وهذا أمر اشترك فيه المتعجل والمتأخر ، وقيل : المعنى : ومن تأخر عن الثالث إلى الرابع ولم ينفر مع عامة الناس فلا إثم عليه ، فكأنه قيل : أيام منى ثلاثة ، فمن نقص عنها فتعجل في اليوم الثاني منها فلا إثم عليه ، ومن زاد عليها فتأخر فلا إثم عليه.
وفي هاتين الجملتين الشرطيتين من علم البديع الطباق في قوله : فمن تعجل ، ومن تأخر ، والطباق ذكر الشيء وضده ، كقوله { وأنه هو أضحك وأبكى } وهو هنا طباق غريب ، لأنه ذكر تعجل مطابق تأخر ، وفي الحقيقة مطابق تعجل تأنى ، ومطابق تأخر تقدم ، فعبر في تعجل بالملزوم عن اللازم ، وعبر في تأخر باللازم عن الملزوم.
وفيها من علم البيان المقابلة اللفظية ، إذ المتأخر أتى بزيادة في العبادة ، فله زيادة في الأجر ، وإنما أتى بقوله : فلا إثم عليه ، مقابلاً لقوله : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، كقوله : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه } وتقدّمت الإشارة إلى هذا { لمن اتقى } قيل : هو متعلق بقوله : واذكروا الله ، أي الذكر لمن اتقى ، وقيل : بانتفاء الإثم أي : يغفر له بشرط اتقائه الله فيما بقي من عمره ، قاله أبو العالية ، وقيل : المعنى ذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي ، لئلا يختلج في قلبه شيء منهما ، فيحسب أن أحدهما ترهق صاحبه آثام في الإقدام عليه ، لأن ذا التقوى حذر متحرز من كل ما يريبه ، ولأنه هو الحاج على الحقيقة ، قاله الزمخشري ، وقال أيضاً : لا يجوز أن يراد ذلك الذي مرّ ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى ، لأنه هو المنتفع به دون من سواه ، كقوله : ذلك خير للذين يريدون وجهه انتهى كلامه.
واتقى : هنا حاصلة لِمَنْ.
وهي بلفظ الماضي ، فقيل : هو ماضي المعنى أيضاً ، أي : المغفرة لا تحصل إلا لمن كان متقياً منيباً قبل حجه ، نحو : { إنما يتقبل الله من المتقين } وحقيقته أن المصرّ على الذنب لا ينفعه حجه وإن كان قد أدّى الفرض في الظاهر ، وقيل : اتقى جميع المحظورات حال اشتغاله بالحج ، قال قتادة ، وأبو صالح.
وقال ابن عباس : لمن اتقى في الإحرام الرفث والفسوق والجدال ، وقال الماتريدي : لمن اتقى قتل الصيد في الإحرام ، وقيل : يراد به المستقبل ، أي : لمن يتقي الله في باقي عمره كما قدمناه.
والظاهر تعلقه بالآخر وهو انتفاء الإثم لقربه منه ، ولصحة المعنى أيضاً ، إذ من لم يكن متقياً لم يرتفع الإثم عنه.
والظاهر أن مفعول اتقى المحذوف هو : الله ، أي : لمن اتقى الله ، وكذا جاء مصرحاً به في مصحف عبد الله.
{ واتقوا الله } لما ذكر تعالى رفع الإثم ، وأن ذلك يكون لمن اتقى الله ، أمر بالتقوى عموماً ، ونبه على ما يحمل على اتقاء الله بالحشر إليه للمجازات ، فيكون ذلك حاملاً لهم على اتقاء الله ، لأن من علم أنه يحاسب في الآخرة على ما اجترح في الدنيا اجتهد في أن يخلص من العذاب ، وأن يعظم له الثواب ، وإذا كان المأمور بالتقوى موصوفاً بها ، كان ذلك الأمر أمراً بالدوام ، في ذكر الحشر تخويف من المعاصي ، وذكر الأمر بالعلم دليل على أنه لا يكفي في اعتقاد الحشر إلاَّ الجزم الذي لا يجامعه شيء من الظن ، وقدم إليه للاعتناء بمن يكون الحشر إليه ، ولتواخي الفواصل والمعنى إلى جزائه.

وقد تكملت أحكام الحج المذكورة في هذه السورة من ذكر : وقت الحج إلى آخر فعل ، وهو : النفر ، وبدئت أولاً بالأمر بالتقوى ، وختمت به ، وتخلل الأمر بها في غضون الآية ، وذلك ما يدل على تأكيد مطلوبيتها ، ولِمَ لا تكون كذلك وهي اجتناب مناهي الله وإمساك مأموراته ، وهذا غاية الطاعة لله تعالى ، وبها يتميز الطائع من العاصي؟
{ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } نزلت في الأخنس بن شريق واسمه : أبي ، وكان حلو اللسان والمنظر ، يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويظهر حبه ، والإسلام ، ويحلف على ذلك ، فكان يدنيه ولا يعلم ما أضمر ، وكان من ثقيف حليفاً لبني زهرة ، فجرى بينه وبين ثقيف شيء ، فبيتهم ليلاً وأحرق زرعهم ، وأهلك مواشيهم ، قاله عطاء ، والكلبي ، ومقاتل.
وقال السدي : فمر بزرع للمسلمين وحُمْرٍ ، فأحرق الزرع ، وغفر الحمر ، قيل : وفيه نزلت { ولا تطع كل حلاف مهين } و { ويل لكل همزة لمزة }
وقال ابن عباس : في كفار قريش ، أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا قد أسلمنا ، فابعث إلينا من يعلمنا دينك ، وكان ذلك مكراً منهم ، فبعث إليهم خبيباً ، ومرشداً ، وعاصم بن ثابت ، وابن الدنية ، وغيرهم ، وتسمى : سرية الرجيع ، والرجيع موضع بين مكة والمدينة ، فقتلوا ، وحديثهم طويل مشهور في الصحاح.
وقال قتادة ، وابن زيد : نزلت في كل منافق أظهر بلسانه ما ليس في قلبه.
وروي عن ابن عباس : أنها في المنافقين ، قالوا عن سرية الرجيع : ويح هؤلاء ما فقدوا في بيوتهم ، ولا أدوا رسالة صاحبهم.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه : لما قسم السائلين الله قبلُ إلى : مقتصر على أمر الدنيا ، وسائل حسنة الدنيا والآخرة ، والوقاية من النار ، أتى بذكر النوعين هنا ، فذكر مِن النوع الأول من هو حلو المنطق ، مظهر الود ، وليس ظاهره كباطنه ، وعطف عليه من يقصد رضي الله تعالى ، ويبيع نفسه في طلبه ، وقدم هنا الأول لأنه هناك المقدم في قوله : { فمنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا } وأحال هنا على إعجاب قوله دون غيره ، من الأوصاف ، لأن القول هو الظاهر منه أولاً في قوله تعالى : { فمن الناس من يقول ربنا } ، فكان من حيث توجهه إلى الله تعالى في الدعاء ، ينبغي أن يكون لا يقتصر على الدنيا ، وإن سأل منه ما ينجيه من عذابه ، وكذلك هذا الثاني ينبغي أن لا يقتصر على حلاوة منطقه ، بل كان يطابق في سريرته لعلانيته.

وأطلق لهم قتال الذين يقاتلونهم منهم في الحرم وفي الشهر الحرام ، ورفع عنهم الجناح في ذلك ، وبذكر هذا السبب ظهرت مناسبة هذه الآية لما قبلها ، لأن ما قبلها متضمن شيئاً من متعلقات الحج ، ويظهر أيضاً أن المناسب هو : أنه لما أمر تعالى بالتقوى ، وكان أشدّ أقسام التقوى وأشقها على النفس قتال أعداء الله ، فأمر به فقال تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله } والظاهر أن المقاتلة في سبيل الله هي الجهاد في الكفار لإظهار دين الله وإعلاء كلمته ، وأكثر علماء التفسير على أنها أول آية نزلت في الأمر بالقتال ، أمر فيها بقتال من قاتل ، والكف عن من كف ، فهي ناسخة لآيات الموادعة.
وروي عن أبي بكر أن أول آية نزلت في القتال { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } قال الراغب : أمر أولاً بالرفق والاقتصار على الوعظ والمجادلة الحسنة ، ثم أذن له في القتال ، ثم أمر بقتال من يأبى الحق بالحرب ، وذلك كان أمراً بعد أمر على حسب مقتضى السياسة. انتهى.
وقيل : إن هذه الآية منسوخة بالأمر بقتال المشركين ، وقيل : هي محكمة ، وفي ( ريّ الظمآن ) هي منسوخة بقوله : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنه } وضعف نسخها بقوله : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } لأنه من باب التخصيص لا من باب النسخ ، ونسخ : { ولا تقاتلوهم } بقوله : { وقاتلوهم } بأنه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم ، وهذا الحكم لم ينسخ ، بل هو باق ، وبأنه يبعد أن يجمع بين آيات متوالية يكون كل واحدة منها ناسخة للأخرى ، وأبعد من ذهب إلى أن قوله : وقاتلوا ، ليس أمراً بقتال ، وإنما أراد بالمقاتلة المخاصمة والمجادلة والتشدّد في الدين ، وجعل ذلك قتالاً ، لأنه يؤول إلى القتال غالباً ، تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه.
والآية على هذا محكمة.
هذا القول خلاف الظاهر ، والعدول عن الظاهر لغير مانع لا يناسب : في سبيل الله ، السبيل هو الطريق ، واستعير لدين الله وشرائعه ، فإن المتبع ذلك يصل به إلى بغيته الدينية والدنيوية ، فشبه بالطريق الموصل الإنسان إلى ما يقصده ، وهذا من استعارة الإجرام للمعاني ، ويتعلق : في سبيل الله ، بقوله : وقاتلوا ، وهو ظرف مجازي ، لأنه لما وقع القتال بسببب نصرة الدين صار كأنه وقع فيه ، وهو على حذف مضاف ، التقدير : في نصرة دين الله ، ويحتمل أن يكون من باب التضمين كأنه قيل : وبالغوا بالقتال في نصرة سبيل الله ، فضمن : قاتلوا ، معنى المبالغة في القتال.
{ الذين يقاتلونكم } ظاهره : من يناجزكم القتال ابتداءً ، أو دفعاً عن الحق ، وقيل : من له أهلية القتال سوى من جنح للسلم فيخرج من هذا : النسوان ، والصبيان ، والرهبان.
وقيل : من له قدرة على القتال ، وتسمية من له الأهلية والقدرة مقاتلاً مجاز ، وأبعد منه مجازاً من ذهب إلى أن المعنى : الذين يخالفونكم ، فجعل المخالفة قتالاً ، لأنه يؤول إلى القتال ، فيكون أمراً بقتال من خالف ، سواء قاتل أم لم يقاتل ، وقدّم المجرور على المفعول الصريح لأنه الأهم ، وهو أن يكون القتال بسبب إظهار شريعة الإسلام ، ألا ترى الاقتصار عليه في نحو قوله :

وعلى تفسير الجمهور يحتاج إلى حذف ما يصح به المعنى ، أي : ويحلف بالله على خلاف ما في قلبه ، لأن الذي في قلبه هو الكفر ، وهو لا يحلف عليه ، إنما يحلف على ضده ، وهو الذي يعجب به.
ويقوي هذا التأويل قراءة أبي حيوة ، وابن محيصن ، إذ معناها : ويطلع الله على ما في قلبه من الكفر الذي هو خلاف قوله.
وقراءة : ويستشهد ، بجواز أن تكون فيها : استفعل ، بمعنى : أفعل : نحو أيقن واستيقن ، فيوافق قراءة الجمهور ، وهو الظاهر ، ويجوز أن تكون فيها : استفعل ، بمعنى المجرد ، فيكون استشهد بمعنى شهد ، ويظهر إذ ذاك أن لفظ الجلالة منصوب على إسقاط حرف الجر ، أي ويستشهد بالله ، كما تقول : ويشهد بالله ، ولا بد من الحذف حتى يصح المعنى ، أي : ويستشهد بالله على خلاف ما في قلبه ، والظاهر أن قوله : ويشهد الله ، معطوف على قوله : يعجبك ، فهو صلة ، أو صفة.
وجوز أن تكون الواو واو الحال لا واو العطف ، فتكون الجملة حالاً من الفاعل المستكن في : يعجبك ، أو : من الضمير المجرور في قوله.
التقدير : وهو يشهد الله ، فيكون ذلك قيداً في الإعجاب ، أو في القول ، والظاهر عدم التقييد ، وأنه صلة ، ولما يلزم في الحال من الإضمار للمبتدأ لأن المضارع المثبت ، ومعه الواو ، يقع حالاً بنفسه ، فأحتيج إلى إضمار كما احتاجوا إليه في قولهم : قمت وأصك عينه ، أي وأنا أصك ، والإضمار على خلاف الأصل.
{ وهو ألدّ الخصام } أي : أشد المخاصمين ، فالخصام جمع خصم ، قاله الزجاج ، وإن أريد بالخصام المصدر ، كما قاله الخليل ، فلا بد من حذف مصحح لجريان الخبر على المبتدأ ، إما من المبتدأ ، أي : وخصامه ألدّ الخصام ، وإما من متعلق الخبر ، أي : وهو ألدّ ذوي الخصام ، وجوز أن يراد هنا بالخصام المصدر على معنى اسم الفاعل ، كما يوصف بالمصدر في : رجل خصم ، وأن يكون أفعل لا للمفاضلة ، كأنه قيل : وهو شديد الخصومة ، وأن يكون هو ضمير الخصومة ، يفسره سياق الكلام ، أي : وخصامه أشدّ الخصام.
وتقاربت أقاويل المفسرين في : ألدّ الخصام ، قال ابن عباس : معناه ذو الجدال ، وقال الحسن : الكاذب المبطل ، وقال قتادة : شديد القسوة في معصية الله ، وقال السدي : أعوج الخصومة.
وقال مجاهد : لا يستقيم على حق في الخصومة.
والظاهر أن هذه الجملة الابتدائية معطوفة على صلة مَنْ ، فهي صلة ، وجوزوا أن تكون حالاً معطوفة على : ويشهد إذا كانت حالاً ، أو حالاً من الضمير المستكن في : ويشهد.
وإذا كان الخصام جمعاً ، كان ألدّ من إضافة بعض إلى كل ، وإذا كان مصدراً فقد ذكرنا تصحيح ذلك بالحذف الذي قررناه ، فإن جعلته بمعنى اسم الفاعل فهو كالجمع في أن أفعل بعض ما أضيف إليه ، وإن تأولت أفعل على غير بابها ، فألدّ من باب إضافة الصفة المشبهة.
وقال الزمخشري : والخصام المخاصمة ، وإضافة الألدّ بمعنى في كقولهم ثبت الغدر.

انتهى.
يعنى أن : أفعل ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه ، بل هي إضافة على معنى : في ، وهذا مخالف لما يزعمه النحاة من أن أفعل التفضيل لا يضاف إلاَّ لما هي بعض له ، وفيه إثبات الإضافة بمعنى في ، وهو قول مرجوح في النحو ، قالوا : وفي هذه الآية دليل على الاحتياط بما يتعلق بأمور الدين والدنيا ، واستواء أحوال الشهود والقضاة ، وان الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم ، حتى يبحث عن باطنهم ، لأن الله بين أحوال الناس ، وأن منهم من يظهر جميلاً وينوي قبيحاً.
{ وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل } حقيقة التولي الانصراف بالبدن ، ثم اتسع فيه حتى استعمل فيما يرجع عنه من قول وفعل ، ومعناه هنا ، قال ابن عباس : غضب لأنه رجوع عن الرضى الذي كان قبله ، وقال الحسن : انصرف عن القول الذي قاله ، وقال مقاتل ، وابن قتيبة : انصرف ببدنه ، وقال مجاهد : من الولاية ، أي : صار والياً.
والسعي حقيقة المشي بالقدمين بسرعة ، وعلى ذلك حمله هنا أبو سليمان الدمشقي ، وابن عباس ، فيما ذكر ابن عطية عنه ، والمعنى : وإذا نهض عنك يا محمد بعد إلانة القول وحلاوة المنطق ، فسعى بقدميه في الأرض ، فقطع الطريق وأفسد فيها ، كما فعله الأخنس بثقيف.
وقيل : السعي هنا العمل ، وهو مجاز سائغ في استعمال العرب ، ومنه : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن } وقال الشاعر :
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة . . .
كفاني ، ولم أطلب ، قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل . . .
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
وقال الأعشى :
وسعى لكندة غير سعي مواكل . . .
قيس فصدّ عدوها ونبالها
وقال آخر :
أسعى على حيي بني مالك . . .
كل امرىء في شأنه ساع
والمعنى : سعى بحيلة وإدارة الدوائر على الإسلام ، وإلى هذا القول نحا مجاهد ، وابن جريج ، وذكر أيضاً عن ابن عباس : والقائلون بهذا القول : قال قوم منهم : معناه سعى فيها بالكفر ، وقال قوم بالظلم.
وقد يقع السعي بالقول ، يقال : سعى بين فلان وفلان نقل إليهما قولا يوجب الفرقة ، ومنه :
ما قلت ما قال وشاة سعوا . . .
سعي عدو بيننا يرجف
في الأرض ، معلوم أن السعي لا يكون إلاَّ في الأرض ، لكن أفاد العموم بمعنى في : أي مكان حل منها سعى للفساد ، ويدل لفظ : في الأرض ، على كثرة سعيه ونقلته في نواحي الأرض ، لأنه يلزم من عموم الأرض تكرار السعي وتقدّم ما يشبهه في قوله : { لا تفسدوا في الأرض }
وإذا كان المراد الأخنس فالأرض أرض المدينة ، فالألف واللام للعهد.
ليفسد فيها ، هذا علة سعيه ، والحامل له على السعي في الأرض ، والفساد ضد الصلاح ، وهو معاندة الله في قوله :

{ واستعمركم فيها }
والفساد يكون بأنواع من : الجور ، والقتل ، والنهب ، والسبي ، ويكون : بالكفر.
و : يهلك الحرث ، والنسل ، عطف هذه العلة على العلة قبلها ، وهو : ليفسد فيها ، وهو شبيه بقوله : { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } وقوله :
أكرّ عليهم دعلجاً ولبانه . . .
لأن الإفساد شامل يدخل تحته إهلاك الحرث والنسل ، ولكنه خصهما بالذكر لأنهما أعظم ما يحتاج إليه في عمارة الدنيا ، فكان إفسادهما غاية الإفساد.
من فسر الإفساد بالتخريب ، جعل هذا من باب التفصيل بعد الإجمال.
و : يهلك الحرث والنسل ، تقدم ذكر الحرث في قوله : { ولا تسقى الحرث } وتقدم ذكر النسل في الكلام على المفردات ، وعلى ما تقدم من أن الآية في الأخنس ، يكون الحرث الزرع ، والنسل الحمر التي قتلها ، فيكون النسل المراد به الدواب ذوات النسل.
وقيل : المراد هنا بالحرث هنا النساء ، وبالنسل الأولاد ، وقال تعالى : { نساؤكم حرث لكم } وذكره ابن عطية عن الزجاج احتمالاً ، فيكون من الكناية ، وهو من ضروب البيان.
وقرأ الجمهور : ويهلك ، من أهلك.
عطفاً على : ليفسد ، وقرأ أبي : وليهلك ، بإظهار لام العلة ، وقرأ قوم : ويهلك ، من أهلك ، وبرفع الكاف.
وخرج على أن يكون عطفاً على قوله : يعجبك ، أو على : سعى ، لأنه في معنى : يسعى ، وأما على الاستئناف ، أو على إضمار مبتدأ ، أي : وهو يهلك.
وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق ، وأبو حيوة ، وابن محيصن : ويهلك من هلك ، وبرفع الكاف ، والحرث والنسل على الفاعلية ، وكذلك رواه حماد بن سلمة عن ابن كثير ، وعبد الوارث عن أبي عمرو ، وحكى المهدوي أن الذي رواه حماد عن ابن كثير ، إنما هو : ويهلك من أهلك ، وبضم الكاف ، الحرث بالنصب.
وقرأ قوم : ويهلك من هلك ، وبفتح اللام ، ورفع الكاف ورفع الحرث ، وهي لغة شاذة نحو : ركن يركن ، ونسبت هذه القراءة إلى الحسن الزمخشري.
قال الزمخشري : وروي عنه ، يعنى عن الحسن ، ويهلك مبنياً للمفعول ، فيكون في هذه اللفظة ست قراءآت : ويهلك وليهلك ويهلك ، وما بعد هذه الثلاثة منصوب ، لأن في الفعل ضمير الفاعل ، ويهلك ويهلك ويهلك ، وما بعد هذه الثلاثة مرفوع بالفعل ، وهذه الجملة الشرطية إما مستأنفة ، وتم الكلام عند قوله : وهو ألدّ الخصام ، وإما معطوفة على صلة مَنْ أو صفتها ، من قوله : ويعجبك.
{ والله لا يحب الفساد } تقدمت علتان ، والثانية داخلة تحت الأولى ، فأخبر تعالى أنه لا يحب الفساد ، واكتفى بذكر الأولى لانطوائها على الثانية وإن فسرت المحبة بالإرادة ، وقد جاءت كذلك في مواضع منها : { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة } فلا بد من التخصيص ، أي : لا يحب من أهل الصلاح الفساد ، ولا يمكن الحمل على العموم إذ ذاك على مذهبنا لوقوع الفساد ، فلو لم يكن مراداً لما كان واقعاً.
وقد تعلقت المعتزلة بهذه الآية في أن الله لا يريد الفساد ، فما وقع منه فليس مراد الله تعالى ، ولا مفعولاً له ، لأنه لو فعله لكان مريداً له لاستحالة أن يفعل ما لا يريد؛ قالوا : ويدل على أن محبته الفعل هي إرادته له ، أنه غير جائز أن يحب كونه ولا يريد أن يكون ، بل يكره أن يكون.

وفي هذا ما فيه من التناقض.
انتهى ما قالوا : وقيل : المعنى والله لا يحب الفساد ديناً ، وقيل : هو على حذف مضاف أي : أهل الفساد ، وقال ابن عباس : المعنى لا يرضى المعاصي ، وقيل : عبر بالمحبة عن الأمر أي : لا يأمر بالفساد.
وقال الراغب : الإفساد إخراج الشي من حالة محمودة لا لغرض صحيح ، وذلك غير موجود في فعل الله تعالى ، وهذه التأويلات كلها هو على ما ذهب إليه المتكلمون من أن الحب بمعنى الإرادة ، قال ابن عطية : والحب له على الإرادة مزية إيثار ، فلو قال أحد : إن الفساد المراد تنقصه مزية الإيثار لصح ذلك إذ الحب من الله تعالى إنما هو لما حسن من جميع جهاته.
انتهى كلامه.
وإذا صح هذا اتضح الفرق بين الإرادة والمحبة ، وصح أن الله يريد الشيء ولا يحبه.
وقال بعضهم : سوَّى المعتزلة بين المحبة والإرادة واستدلوا بهذه ، وجمهور العلماء على خلاف ذلك ، والفرق بين الإرادة والمحبة بيِّن ، فإن الإنسان يريد بطىء الجرح ولا يحبه وإذا بان في المعقول الفرق بين الإرادة والمحبة بطل ادّعاؤهم التساوي بينهما ، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : { ولا يرضى لعباده الكفر } انتهى كلامه.
وجاء في كتاب الله تعالى نفي محبة الله تعالى أشياء ، إذ لا واسطة بين الحب وعدمه بالنسبة إليه تعالى ، بخلاف غيره ، فإنه قد يعرف عنهما فالمحبة ومقابلها بالنسبة إلى الله تعالى نقيضان ، وبالنسبة إلى غيره ضدّان ، وظاهر الفساد يعم كل فساد في أرض أو مال أو دين ، وقد استدل عطاء بقوله : { والله لا يحب الفساد } على منع شق الإنسان ثوبه.
وقال ابن عباس : الفساد هنا الخراب.
{ وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم } تحتمل أيضاً هذه الجملة أن تكون مستأنفة ، وتحتمل أن تكون داخلة في الصلة ، تقدم الكلام في نحو هذا في قوله : { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض } و : ما ، الذي أقيم مقام الفاعل ، فأغنى عن ذكره هنا ، و : أخذته العزة ، احتوت عليه وأحاطت به ، وصار كالمأخوذ لها كما يأخذ الشيء باليد.
قال الزمخشري : من قولك أخذته بكذا إذا حملته عليه ، وألزمته إياه ، أي : حملته العزة التي فيه ، وحمية الجاهلية ، على الإثم الذي ينهى عنه ، وألزمته ارتكابه ، وأن لا يخلى عنه ضرراً ولجاجاً ، أو على رد قول الواعظ.
انتهى كلامه.
فالباء ، على كلامه للتعدية ، كأن المعنى ألزمته العزة الإثم ، والتعدية بالباء بابها الفعل اللازم ، نحو : { لذهب بسمعهم وأبصارهم } أي : لأذهب سمعهم ، وندرت التعدية بالباء في المتعدي ، نحو : صككت الحجر بالحجر ، أي أصككت الحجر الحجر ، بمعنى جعلت أحدهما يصك الآخر ، ويحتمل الباء أن تكون للمصاحبة ، أي : أخذته مصحوباً بالإثم ، أو مصحوبة بالإثم ، فيكون للحال من المفعول أو الفاعل ، ويحتمل أن تكون سببية ، والمعنى : أن إثمه السابق كان سبباً لأخذ العزة له ، حتى لا يقبل ممن يأمره بتقوى الله تعالى ، فتكون الباء هنا : كمن ، في قول الشاعر :

أخذته عزة من جهله . . .
فتولى مغضباً فعل الضَّجر
وعلى أن تكون : الباء ، سببية فسره الحسن ، قال.
أي من أجل الإثم الذي في قلبه ، يعني الكفر.
وقد فسرت العزة بالقوة وبالحمية والمنعة ، وكلها متقاربة.
وفي قوله : { أخذته العزة بالإثم } نوع من البديع يسمى التتميم ، وهو إرداف الكلام بكلمة يرفع عنه اللبس ، وتقربه للفهم ، كقوله تعالى : { ولا طائر يطير بجناحيه } وذلك أن العزة محمودة ومذمومة ، فالمحمودة طاعة الله ، كما قال : { أعزة على الكافرين } { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } { فإن العزة لله جميعاً } فلما قال : بالإثم ، اتضح المعنى وتم ، وتبين أنها العزة المذمومة المؤثم صاحبها.
قال ابن مسعود : لا ينبغي للرجل أن يغضب إذا قيل له اتق الله ، أو تقول : أو لِمثْلي يقال هذا؟ وقيل لعمر : اتق الله ، فوضع خدّه على الأرض تواضعاً ، وقيل : سجد ، وقال : هذا مقدرتي.
وتردّد يهودي إلى باب هارون الرشيد ، سنة فلم يقض له حاجة ، فتحيل حتى وقف بين يديه ، فقال : اتق الله يا أمير المؤمنين : فنزل هارون عن دابته ، وخرَّ ساجداً ، وقضى حاجته ، فقيل له في ذلك ، فقال : تذكرت قوله تعالى : { وإذا قيل له اتق الله أخذته العزّة بالإثم }
{ فحسبه جهنم } أي : كافيه جزاءً وإذلالاً جهنم ، وهي جملة مركبة من مبتدأ وخبر ، وذهب بعضهم إلى أن جهنم فاعل : بحسبه ، لأنه جعله اسم فعل ، إما بمعنى الفعل الماضي ، أي : كفاه جهنم ، أو : بمعنى فعل الأمر ، ودخول حرف الجر عليه واستعماله صفة ، وجريان حركات الإعراب عليه يبطل كونه اسم فعل ، وقوبل على اعتزازه بعذاب جهنم ، وهو الغاية في الذل ، ولما كان قوله : اتق الله ، حل به ما أمر أن يتقيه ، وهو : عذاب الله ، وفي قوله : فحسبه جهنم ، استعظام لما حل به من العذاب ، كما تقول للرجل : كفاك ما حل بك! إذا استعظمت وعظمت عليه ما حل به.
{ ولبئس المهاد } تقدّم الكلام في : بئس ، والخلاف في تركيب مثل هذه الجملة مذكور في علم النحو ، لكن التفريع على مذهب البصريين في أن : بئس ونعم ، فعلان جامدان ، وأن المرفوع بعدهما فاعل بهما ، وأن المخصوص بالذّم ، إن تقدم ، فهو مبتدأ ، وإن تأخر فكذلك ، هذا مذهب سيبويه.
وحذف هنا المخصوص بالذم للعلم به إذ هو متقدّم ، والتقدير : ولبئس المهاد جهنم.
أو : هي ، وبهذا الحذف يبطل مذهب من زعم أن المخصوص بالمدح أو بالذمّ إذا تأخر كان خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، لأنه يلزم من حذفه حذف الجملة بأسرها من غير أن ينوب عنها شيء ، لأنها تبقى جملة مفلتة من الجملة السابقة قبلها ، إذ ليس لها موضع من الإعراب ، ولا هي اعتراضية ولا تفسيرية ، لأنهما مستغنى عنهما وهذه لا يستغنى عنها ، فصارت مرتبطة غير مرتبطة ، وذلك لا يجوز.

وإذا جعلنا المحذوف من قبيل المفرد.
كان فيما قبله ما يدل على حذفه ، وتكون جملة واحدة كحاله إذا تقدّم ، وأنت لا ترى فرقاً بين قولك : زيد نعم الرجل ، ونعم الرجل زيد ، كما لا تجد فرقاً بين : زيد قام أبوه ، وبين : قام أبوه زيد ، وحسن حذف المخصوص بالذمّ هنا كون المهاد وقع فاصلة ، وكثيراً ما حذف في القرآن لهذا المعنى نحو قوله : { فنعم المولى ونعم النصير } { ولبئس مثوى المتكبرين } وجعل ما أعد لهم مهاداً على سبيل الهزء بهم ، إذ المهاد : هو ما يستريح به الإنسان ويوطأ له للنوم ، ومثله قول الشاعر :
وخيل قد دلفت لها بخيل . . .
تحية بينهم ضرب وجيع
أي : القائم مقام التحية هو الضرب الوجيع ، وكذلك القائم مقام المهاد لهم هو المستقر في النار.
{ ومن الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضات الله } قيل المراد : بمن ، غير معنى ، بل هي في كل من باع نفسه لله تعالى في جهاد ، أو صبر على دين ، أو كلمة حق عند جائر ، أو حمية لله ، أو ذب عن شرعه ، أو ما أشبه هذا.
وقيل : هي في معين ، فقيل في : الزبير والمقداد بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليحطا خبيباً من خشبته ، وقيل : في صهيب الرومي خرج مهاجراً فلحقته قريش ، فنشل كنانته ، وكان جيد الرمي شديد البأس محذوره ، وقالوا : لا نترك حتى تدلنا على مالك ، فدلهم على موضعه ، فرجعوا عنه ، وقيل : عذب ليترك دينه فافتدي من ماله وخرج مهاجراً ، وقيل : في علي حين خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة لقضاء ديونه ورد الودائع ، وأمره بمبيته على فراشه ليلة خرج مهاجراً صلى الله عليه وسلم.
وقال الحسن : نزلت في المسلم يلقى الكافر فيقول : قل : لا إله إلا الله ، فلا يقول ، فيقول : والله لأشرين ، فيقاتل حتى يقتل.
وقال ابن عباس : في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقيل : في صهيب ، وأبي ذر ، وكان أبو ذر قد أخذه أهله فانقلب ، فخرج مهاجراً.
وقيل : في المهاجرين والأنصار ، وذكر المفسرون غير هذا ، وقصصاً طويلاً في أخبار هؤلاء المعينين الذين قيل نزلت فيهم الآية.
والذي ينبغي أن يقال : إنه تعالى لما ذكر { ومن الناس من يعجبك قوله } وكان عاماً في المنافق الذي يبدي خلاف ما أضمر ، ناسب أن يذكر قسيمه عاماً من : يبذل نفسه في طاعة الله تعالى من أي صعب كان ، فكذلك المنافق مدارٍ عن نفسه بالكذب والرياء ، وحلاوة المنطق ، وهذا باذلٌ نفسه لله ولمرضاته.

وتندرج تلك الأقاويل التي في الآيتين تحت عموم هاتين الآيتين ، ويكون ذكر ما ذكر من تعيين من عين إنما هو على نحو من ضرب المثال ، ولا يبعد أن يكون السبب خاصاً ، والمراد عموم اللفظ ، ولما طال الفصل هنا بين القسم الأول والقسم الثاني ، أتى في التقسيم الثاني بإظهار المقسم منه ، فقال : { ومن الناس من يشري } بخلاف قوله : { ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة } فانه لما قرب ذكر أحد القسمين من القسم ، أضمر في الثاني المقسم.
ومعنى يشري : يبيع ، وهو سائغ في اللسان ، قال تعالى : { وشروه بثمن بخس دراهم } قال الشاعر :
وشريت بُرداً ليتني . . .
من بعد بُردٍ كنت هامة
ويشري : عبارة عن أن يبذل نفسه في الله ، ومنه تسمى الشراة ، وكأنهم باعوا أنفسهم من الله ، وقال قوم : شرى ، بمعنى : اشترى ، فإن كانت الآية في صهيب فهذا موجود فيه حيث اشترى نفسه بماله ولم يبعها.
وانتصاب : ابتغاء ، على أنه مفعول من أجله ، أي الحامل لهم على بيع أنفسهم ، إنما هو طلب رضى الله تعالى ، وهو مستوفٍ لشروط المفعول من أجله من كونه مصدراً متحد الفاعل والوقت ، وهذه الإضافة ، أعنى : إضافة المفعول من أجله ، هي محضة ، خلافاً للجرمي ، والرياشي ، والمبرّد ، وبعض المتأخرين ، فانهم يزعمون أنها إضافة غير محضة ، وهذا مذكور في كتب النحو.
ومرضاة : مصدر بني على التاء : كمدعاة ، والقياس تجريده عنها ، كما تقول : مرمى ومغزى ، وأمال الكسائي : مرضات ، وعن ورش خلاف في إمالة : مرضات ، وقرأنا له بالوجهين ، ووقف حمزة عليها بالتاء ، ووقف الباقون بالهاء.
فأمّا وقف حمزة بالتاء فيحتمل وجهين.
أحدهما : أن يكون على مذهب من يقف من العرب على : طلحة ، وحمزة ، بالتاء ، كالوصل ، وهو كان القياس دون الإبدال.
قال :
دار لسلمى بعد حول قد عفت . . .
بل جوز تيهاء كظهر الحجفت
وقد حكى هذه اللغة سيبويه.
والوجه الآخر : أن تكون على نية الإضافة ، كأنه نوى تقدير المضاف إليه ، فأراد أن يعلم أن الكلمة مضافة ، وأن المضاف إليه مراد : كإشمام من أشم الحرف المضموم في الوقف ليعلم أن الضمة مرادة ، وفي قوله : { ابتغاء مرضات الله } إشارة إلى حصول أفضل ما عند الله للشهداء ، وهو رضاه تعالى.
وفي الحديث الصحيح ، في مجاورة أهل الجنة ربهم تعالى ، حين يسألهم : هل رضيتم؟ فيقولون : يا ربنا كيف لا نرضى وقد أدخلتنا جنتك وباعدتنا من نارك؟ فيقول : ولكم عندي أفضل من ذلك ، فيقولون : يا ربنا ، وما أفضل من ذلك؟ فيقول : أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعده.
{ والله رؤوف بالعباد } حيث كلفهم بالجهاد فعرضهم لثواب الشهداء ، قاله الزمخشري؛ وقال ابن عطية : ترجئة تقتضي الحض على إمتثال ما وقع به المدح في الآية ، كما في قوله : { فحسبه جهنم } تخويف يقتضي التحذير مما وقع به الذمّ ، وتقدّم أن الرأفة أبلغ من الرحمة.

والعباد إن كان عاماً ، فرأفته بالكافرين إمهالهم إلى انقضاء آجالهم ، وتيسير أرزاقهم لهم ، ورأفته بالمؤمنين تهيئته إياهم لطاعته ، ورفع درجاتهم في الجنة.
وإن كان خاصاً ، وهو الأظهر ، لأنه لما ختم الآية بالوعيد من قوله : { فحسبه جهنم } وكان ذلك خاصاً بأولئك الكفار ، ختم هذه بالوعد المبشر لهم بحسن الثواب ، وجزيل المآب ، ودل على ذلك بالرأفة التي هي سبب لذلك ، فصار ذلك كناية عن إحسان الله إليهم ، لأن رأفته بهم تستدعي جميع أنواع الإحسان ، ولو ذكر أي نوع من الإحسان لم يفد ما أفاده لفظ الرأفة ، ولذلك كانت الكناية أبلغ ، ويكون إذ ذاك في لفظ : العباد ، التفاتاً ، إذ هو خروج من ضمير غائب مفرد إلى اسم ظاهر ، فلو جرى على نظم الكلام السابق لكان : والله رؤوف به أو بهم ، وحسن الالتفات هنا بهذا الاسم الظاهر شيئان.
أحدهما : أن لفظ : العباد ، له في استعمال القرآن تشريف واختصاص ، كقوله : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } { ثم أورثنا الكتاب الذي اصطفينا من عبادنا } { بل عباد مكرمون }
والثاني : مجيء اللفظة فاصلة ، لأن قبله : { والله لا يحب الفساد ، فحسبه جهنم ولبئس المهاد } فناسب : { والله رؤوف بالعباد }.
وفي هذه الآية ، والتي قبلها من علم البديع : التقسيم ، وقد ذكرنا مناسبة هذا التقسيم للتقسيم السابق قبله في قوله : { فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا } قال بعض الناس : في هذه الآيات نوع من البديع ، وهو التقديم والتأخير ، وهو من ضروب البيان في النثر والنظم دليل على قوة الملكة في ضروب من الكلام ، وذلك قوله : { واذكروا الله في أيام معدودات } متقدم على قوله : { فمن الناس من يقول } لأن قوله : { واذكروا الله في أيام معدودات } معطوف عليه ، قوله : { فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله } وقوله : { فمن الناس من يقول } معطوف على قوله : { ومنهم من يقول } وقوله : { ومنهم من يقول } معطوف على قوله : { ومن الناس من يعجبك } وعلى قوله : { ومن الناس من يشري } فيصير الكلام معطوفاً على الذكر لأنه مناسب لما قبله من المعنى ، ويصير التقسيم معطوفاً بعضه على بعض ، لأن التقسيم الأول في معنى الثاني ، فيتحد المعنى ويتسق اللفظ ، ثم قال : ومثل هذا ، فذكر قصة البقرة ، وقتل النفس ، وقصة المتوفى عنها زوجها ، في الآيتين ، قال : ومثل هذا في القرآن كثير ، يعني : التقديم والتأخير ، ولا يذهب إلى ما ذكره ، ولا تقديم ولا تأخير في القرآن ، لأن التقديم والتأخير عندنا من باب الضرورات ، وتنزه كتاب الله تعالى عنه.
{ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } نزلت في عبد الله بن سلام ومن أسلم معه ، كانوا يتقون السبت ، ولحم الحمل ، وأشياء تتقيها أهل الكتاب ، قاله عكرمة ، ورواه أبو صالح عن ابن عباس ، أو : في أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله الضحاك.

وروي عن ابن عباس : أو في المسلمين يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام ، قاله مجاهد ، وقتادة.
أو : في المنافقين ، واحتج لهذا بورودها عقيب صفة المنافقين ، وعلى هذا الاختلاف في سبب النزول اختلفت أقاويل أهل التفسير.
وقرأ نافع ، وابن كثير ، والكسائي : بفتح السين في السلم ، وكذلك في الأنفال : { وإن جنحوا للسلم } وفي القتال : { وتدعوا إلى السلم }
واختلف في السلم هنا ، فقيل : هو الإسلام ، لأن الإسلام : قد يسمى : سِلماً بكسر السين ، وقد يروى فيه الفتح ، كما روي في السلم الذي هو الصلح الفتح والكسر ، إلا أن الفتح في السلم الذي هو الإسلام قليل ، وجوّز أبو عليّ الفارسي أن يكون السلم هنا هو الذي بمعنى الصلح ، لأن الإسلام صلح على الحقيقة ، ألا ترى أنه لا قتال بين أهله ، وأنهم يد واحدة على من سواهم؟ فإن كان الخطاب لابن سلام وأصحابه فقد أمروا بالدخول في شرائع الإسلام ، وأن لا يبقوا على شيء من شرائع أهل الكتاب التي لا توافق شرائع الإسلام ، وإن كان الخطاب لأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالرسول ، فالمعنى : يا أيها الذين آمنوا بما سبق من أنبيائهم ادخلوا في هذه الشريعة ، وهي لهم ، كأنه قيل : يا من سبق له الإيمان بالتوراة والإنجيل ، وهما دالان على صدق هذه الشريعة ، ادخلوا في هذه الشريعة ، وإن كان الخطاب للمسلمين فالمعنى : يا من آمن بقلبه ، وصدّق ، ادخل في شرائع الإسلام ، واجمع إلى الإيمان الإسلام.
وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان والإسلام في حديث سؤال جبريل حين سأله عن حقيقة كل واحد منهما.
وإن كان الخطاب للمنافقين ، فالمعنى : يا من آمن بلسانه ، ادخل في الإسلام بالقلب حتى يطابق القول الاعتقاد.
والظاهر من هذه الأقوال أنه خطاب للمؤمنين ، أمروا بامتثال شرائع الإسلام ، أو بالانقياد ، والرضى وعدم الاضطرار ، أو بترك الانتقام ، وأمروا كلهم بالائتلاف وترك الاختلاف ، ولذلك جاء بقوله { كافة } وانتصاب { كافة } على الحال من الفاعل في : ادخلوا ، والمعنى ادخلوا في السلم جميعاً ، وهي حال تؤكد معنى العموم ، فتفيد معنى : كل ، فإذا قلت : قام الناس كافة ، فالمعنى قاموا كلهم ، وأجاز الزمخشري وغيره أن يكون حالاً من السلم ، أي في شرائع الإسلام كلها ، أمروا بأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة.
قال الزمخشري : ويجوز أن تكون : كافة ، حالاً من السلم ، لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب ، قال الشاعر :
السلم تأخذ منها ما رضيت به . . .
والحرب تكفيك من أنفاسها جُرع
على أن المؤمنين أمروا بأن يدخلوا في الطاعات كلها ، وأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة ، أو في شعب الإسلام وشرائعه كلها ، وأن لا يخلوا بشيء منها.

وعن عبد الله بن سلام أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم على السبت ، وأن يقرأ من التوراة في صلاته من الليل.
و : كافة ، من الكف ، كأنهم كفوا أن يخرج منهم أحد باجتماعهم.
انتهى كلام الزمخشري.
وتعليله جواز أن يكون : كافة ، حالاً من السلم بقوله : لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب ، ليس بشيء ، لأن التاء في : كافة ، وإن كان أصلها للتأنيث ، ليست فيها إذا كانت حالاً للتأنيث ، بل صار هذا نقلاً محضاً إلى معنى : جميع وكل ، كما صار : قاطبة ، وعامة ، إذا كان حالاً نقلاً محضاً إلى معنى : كل وجميع.
فإذا قلت : قام الناس كافة ، أو قاطبة ، أو عامة ، فلا يدل شيء من هذه الألفاظ على التأنيث ، كما لا يدل عليه : كل ، ولا جميع.
وتوكيده بقوله : وفي شعب الإسلام وشرائعه كلها ، هو الوجه الأول من قوله : بأن يدخلوا في الطاعات كلها ، فلا حاجة إلى هذا الترديد بأو.
وقال ابن عطية : وقالت فرقة : جميع المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : أمرهم بالثبوت فيه ، والزيادة من التزام حدوده.
وتستغرق : كافة ، حينئذ المؤمنين وجميع أجزاء الشرع ، فيكون الحال من شيئين ، وذلك جائز نحو قوله تعالى : { فأتت به قومها تحمله } إلى غير ذلك من الأمثلة.
ثم قال بعد كلام ذكره : وكافة ، معناه : جميعاً.
والمراد بالكافة الجماعة التي تكف مخالفيها.
انتهى كلامه.
وقوله : فيكون الحال من شيئين ، يعني : من الفاعل في ادخلوا ، ومن السلم ، وهذا الذي ذكره محتمل ، ولكن الأظهر أنه حال من ضمير الفاعل ، وذلك جائز ، يعني : مجيء الحال الواحدة من شيئين ، وفي ذلك تفصيل ذكر في النحو.
وقوله : نحو قوله : { فأتت به قومها تحمله } يعني أن تحمله حال من الفاعل المستكن في أتت ، ومن الضمير المجرور بالباء ، هذا المثال ليس بمطابق : للحال من شيئين ، لأن لفظ : تحمله ، لا يحتمل شيئين ، ولا يقع الحال من شيئين إلا إذا كان اللفظ يحتملهما ، واعتبار ذلك بجعل ذوي الحال مبتدأين ، والإخبار بتلك الحال عنهما ، فمتى صح ذلك صحت الحال ، ومتى امتنع امتنعت.
مثال ذلك قوله :
وعلقت سلمى وهي ذات موصد . . .
ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا . . .
إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
فصغيرين : حال من الضمير في علقت ، ومن سلمى ، لأنه يصلح أن يقول أنا وسلمى صغيران نرعى البهم ، ومثله :
خرجت بها نمشي تجرّ وراءنا . . .
فنمشي حال من التاء في : خرجت ، ومن الضمير المجرور في بها ، ويصلح أن تقول : أنا وهي نمشي ، وهنا لا يصلح أن تكون تحمله خبراً عنهما ، لو قلت : هي وهو تحمله لم يصح أن يكون تحمله خبراً ، نحو قوله : هند وزيد تكرمه ، لأن تحمله وتكرمه لا يصح أنّ يقدر إلاّ بمفرد ، فيمتنع أن يكون حالاً من ذوي حال ، ولذلك أعرب المعربون في :

خرجت بها نمشي تجر وراءنا . . .
نمشي : حالاً منهما ، وتجر حالاً من ضمير المؤنث خاصة ، لأنه لو قيل : أنا وهي تجر وراءنا لم يجز أن يكون تجر خبراً عنها ، لأن تجر وتحمل إنما يتقدران بمفرد ، أي حاملة وجارة ، وإذا صرحت بهذا المفرد لم يمكن أن يكون حالاً منهما.
و { كافة } لدلالته على معنى : جميع ، يصلح أن يكون حالاً من الفاعل في : ادخلوا ، ومن السلم ، بمعنى شرائع الإسلام ، لأنك لو قلت : الرجال والنساء جميع في كذا ، صح أن يكون خبراً.
لا يقال كافة لا يصلح أن يكون خبراً ، لا تقول : الزيدون والعمرون كافة ، في كذا ، فلا يجوز أن يقع حالاً على ما قررت ، لأن امتناع ذلك إنما هو بسبب مادة : كافة ، إذ لم يتصرف فيها ، بل التزم نصبها على الحال ، لكن مرادفها يصح فيه ذلك ، وقوله : والمراد بالكافة الجماعة التي يكف مخالفها ، يعني : أن هذا في أصل الوضع ، ثم صار الاستعمال لها لمعنى : جميعاً ، كما قال هو وغيره ، وكافة : معناه جميعاً.
{ ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوّ مبين } قد تقدم تفصيل هاتين الجملتين بعد قوله : { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } فأغنى ذلك عن إعادته ، وقال صاحب ( الكتاب الموضح ) أبو عبد الله نصر بن علي بن محمد : عرف بابن مريم ، ان ضم عين الكلمة في مثل هذا ، نحو : عرفة وعرفات ، هو مذهب أهل الحجاز ، وقال فيمن سكن الطاء : إنهم لما جمعوا نووا الضمة في الطاء ، ثم أسكنوها استخفافاً ، وهو في تقدير الثبات يدل على أن الضمة في حكم الثابت ، أن هذه حركة يفصل بها بين الاسم والصفة ، كما هي في جمع : فعلة ، المفتوحة الفاء ، فلا تحذف عين الاسم حذفاً ، إذ هي فارقة بينه وبين الصفة ، فهي منوية لا محالة.
انتهى كلامه.
واتضح من هذا أنه في الصفة لا ينقل ، فإذا جمعنا : حلوة وضحكة ، المراد به صفة المؤنث ، فلا تقول : حلوات ، ولا ضحكات ، بضم عين الكلمة ، وعلى هذا قياس : فعلة ، الصفة نحو : جلفة ، لا يقال فيه جلفات.
{ فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات } أي : عصيتم أو كفرتم ، أو أخطأتم ، أو ضللتم ، أقوال
ثانيها عن ابن عباس وهو الظاهر لقوله : ادخلوا في السلم ، أي الإسلام ، فإن زللتم عن الدخول فيه ، وأصل الزلل للقدم ، يقال : زلت قدمه ، كما قال.
ولا شامت إن نعل عزة زلت . . .
ثم يستعمل في الرأي والاعتقاد ، وهو الزلق ، وقد تقدم شيء من تفسير في قوله : { فأزلهما الشيطان عنها } وقرأ أبو السماك : فإن زللتم ، بكسر اللام ، وهما لغتان : كضللت وضللت.
والبينات : حجج الله ودلائله ، أو محمد صلى الله عليه وسلم ، كما قال : { حتى تأتيهم البينة رسول من الله } وجمع تعظيماً له ، لأنه وإن كان واحداً بالشخص ، فهو كثير بالمعنى : أو القرآن قاله ابن جريج ، أو التوراة والإنجيل قال :

{ ولقد جاءكم موسى بالبينات } وقال { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } وهذا يتخرج على قول من قال : إن المخاطب أهل الكتاب ، أو الإسلام ، أو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعجزات ، أقوال ستة.
وفي ( المتخب ) البينات : تتناول جميع الدلائل العقلية والسمعية من حيث إن عذر المكلف لا يزول إلاَّ عند حصول البينات ، لا حصول التبيين من التكليف.
انتهى كلامه.
والدلائل العقلية لا يخبر عنها بالمجيء لأنها مركوزة في العقول ، فلا ينسب إليها المجيء إلاَّ مجازاً ، وفيه بُعد.
{ فاعلموا أن الله عزيز حكيم } أي : دوموا على العلم ، إن كان الخطاب للمؤمنين ، وإن كان للكافرين أو المنافقين فهو أمر لهم بتحصيل العلم بالنظر الصحيح المؤدي إليه ، وفي وصفه هنا بالعزة التي هي تتضمن الغلبة والقدرة اللتين يحصل بهما الانتقام ، وعيد شديد لمن خالفه وزل عن منهج الحق ، وفي وصفه بالحكمة دلالة على إتقان أفعاله : وأن ما يرتبه من الزاوجر لمن خالف هو من مقتضى الحكمة ، وروي أن قارئاً قرأ ، غفور رحيم ، فسمعه أعرابي فأنكره ، ولم يكن يقرأ القرآن ، وقال : إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا الحكيم ، لا يذكر الغفران عند الزلل ، لأنه إغراء عليه ، وقد روي عن كعب نحو هذا ، وأن الذي كان يتعلم منه أقرأه : فاعلموا أن الله غفور رحيم ، فأنكره حتى سمع : { عزيز حكيم } فقال : هكذا ينبغي!.
{ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } ؟ هل : هنا للنفي ، المعنى : ما ينظرون ، ولذلك دخلت إلاَّ ، وكونها بمعنى النفي إذ جاء بعدها : إلاَّ ، كثير الاستعمال في القرآن ، وفي كلام العرب ، قال تعالى : { وهل نجازي إلاَّ الكفور } { فهل يهلك إلا القوم الظالمون } وقال الشاعر :
وهل أنا إلاَّ من غزية إن غوت . . .
غويت ، وإن ترشد غزية أرشد
و : ينظرون ، هنا معناه : ينتظرون ، تقول العرب : نظرت فلاناً انتظره ، وهو لا يتعدى لواحد بنفسه إلاَّ بحرف جر.
قال امرؤ القيس :
فانكما إن تنظراني ساعة . . .
من الدهر تنفعي لدى أم جندب
ومفعول : ينظرون ، هو ما بعد إلاَّ ، أي : ما ينتظرون إلاَّ إتيان الله ، وهو استثناء مفرع ، قيل : وينظرون هنا ليست من النظر الذي هو تردد العين في المنظور إليه ، لأنه لو كان من النظر لعدى بإلى ، وكان مضافاً إلى الوجه ، وإنما هو من الانتظار. انتهى.
وهذا التعليل ليس بشيء لأنه يقال : هو من النظر ، وهو تردد العين.
وهو معدى بإلى ، لكنها محذوفة ، والتقدير : هل ينظرون إلاَّ إلى أن يأتيهم الله؟ وحذف حرف الجر مع أن إذا لم يلبس قياس مطرد ، ولا لبس هنا ، فحذفت : إلى ، وقوله : وكان مضافاً إلى الوجه يشير إلى قوله : { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة }

فكذلك ليس بلازم ، قد نسب النظر إلى الذوات كثيراً كقوله : { أفلا ينظرون إلى الإبل } { أرني أنظر إليك } والضمير في : ينظرون ، عائد على الذالين ، وهو التفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة.
والإتيان : حقيقة في الانتقال من حيز إلى حيز ، وذلك مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى ، فروى أبو صالح عن ابن عباس : أن هذا من المكتوم الذي لا يفسر ، ولم يزل السلف في هذا وأمثاله يؤمنون ، ويكلون فهم معناه إلى علم المتكلم به ، وهو الله تعالى.
والمتأخرون تأولوا الإتيان وإسناده على وجوه :
أحدهما : أنه إتيان على ما يليق بالله تعالى من غير انتقال.
الثاني : أنه عبر به عن المجازات لهم ، والانتقام ، كما قال : { فأتى الله بنيانهم من القواعد } { فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا }
الثالث : أن يكون متعلق الإتيان محذوفاً ، أي : أن يأتيهم الله بما وعدهم من الثواب ، والعقاب ، قاله الزجاج.
الرابع : أنه على حذف مضاف ، التقدير : أمر الله ، بمعنى : ما يفعله الله بهم ، لا الأمر الذي مقابله النهي ، ويبينه قوله ، بعد : { وقضي الأمر }.
الخامس : قدرته ، ذكره القاضي أبو يعلى عن أحمد.
السادس : أن في ظلل ، بمعنى بظلل ، فيكون : في ، بمعنى : الباء ، كما قال.
خبيرون في طعن الأباهر والكلى . . .
أي : بطعن ، لأن خبيراً لا يتعدى إلاَّ بالباء ، كما قال.
خبير بأدواء النساء طبيب . . .
قال الزجاج وغيره.
والأولى أن يكون المعنى : أمر الله ، إذ قد صرح به في قوله : { أو يأتي أمر ربك } وتكون عبارة عن بأسه وعذابه ، لأن هذه الآية إنما جاءت مجيء التهديد والوعيد ، وقيل : المحذوف : آيات الله ، فجعل مجيء آياته مجيئاً له على التفخيم لشأنها ، قاله في ( المنتخب ).
ونقل عن ابن جرير أنه قال : يأتيهم بمحاسبتهم على الغمام على عرشه تحمله ثمانية من الملائكة ، وقيل : الخطاب مع اليهود ، وهم مشبهة ، ويدل على أنه مع اليهود قول بعد : { سل بني إسرائيل } ، وإذا كان كذلك فالمعنى : أنهم لا يقبلون ذلك إلاَّ أن يأتيهم الله ، فالآية على ظاهرها ، إذ المعنى : أن قوماً ينتظرون إتيان الله ، ولا يدل ذلك على أنهم محقون ولا مبطلون.
{ في ظلل من الغمام } تقدّم الكلام على ذلك في قوله : { وظللنا عليكم الغمام } ويستحيل على الذات المقدّسة أن تحل في ظلة ، وقيل : المقصود تصوير عظمة يوم القيامة وحصولها وشدتها ، لأنه لا شيء أشد على المذنبين ، وأهول ، ومن وقت جمعهم وحضور أمهر الحكام وأكثرهم هيبة لفصل الخصومة ، فيكون هذا من باب التمثيل ، وإذا فسر بأن عذاب الله يأتيهم في ظلل من الغمام ، فكان ذلك ، لأنه أعظم ، أو يأتيهم الشر من جهة الخير ، لقوله : { هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم } ولأنه إذا كان ذلك يوم القيامة فهو علامة لأشد الأهوال في ذلك اليوم ، قال الله تعالى : { ويوم تشقق السماء بالغمام } ولأن الغمام ينزل قطرات غير محدودة ، فكذلك العذاب غير محصور ، وقيل : إن العذاب لا يأتي في الظلل ، بل المعنى تشبيه الأهوال بالظلل من الغمام ، كما قال :

{ وإذا غشيهم موج كالظلل } فالمعنى أن عذاب الله يأتيهم في أهوال عظيمة ، كظلل الغمام.
واختلفوا في هذا التوعد ، فقال ابن جريج : هو توعد بما يقع في الدنيا ، وقال قوم : بل توعد بيوم القيامة.
وقرأ أبي ، وعبد الله ، وقتادة ، والضحاك : في ظلال ، وكذلك روي هارون بن حاتم ، عن أبي بكر ، عن عاصم ، هنا وفي الحرفين في الزمر ، وهي : جمع ظلة ، نحو : قلة وقلال ، وهو جمع لا ينقاس ، بخلاف : ظلل ، فإنه جمع منقاس ، أو جمع : ظل نحو ضل وضلال.
و : في ظلل ، متعلق بيأتيهم ، وجوّزوا أن يكون حالاً فيتعلق بمحذوف ، و : من الغمام ، في موضع الصفة لظلل ، وجوّزوا أن يتعلق بيأتيهم ، أي من ناحية الغمام ، فتكون : مِن ، لابتداء الغاية ، وعلى الوجه الأول تكون للتبعيض ، وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وأبو جعفر : والملائكةِ ، بالجر عطفاً على : في ظلل ، أو عطفاً على الغمام ، فيختلف تقدير حرف الجر ، إذ على الأول التقدير : وفي الملائكة ، وعلى الثاني التقدير : ومن الملائكة.
وقرأ الجمهور بالرفع عطفاً على : الله ، وقيل : في هذا الكلام تقديم وتأخير ، فالإتيان في الظل مضاف إلى الملائكة ، والتقدير : إلاَّ أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل ، فالمضاف إلى الله تعالى هو الإتيان فقط ، ويؤيد هذا قراءة عبد الله ، إلاَّ أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل.
{ وقضي الأمر } معناه : وقع الجزاء وعذب أهل العصيان ، وقيل : أتم أمر هلاكهم وفرغ منه ، وقيل : فرغ من وقت الانتظار وجاء وقت المؤاخذة ، وقيل : فرغ لهم مما يوعدون به إلى يوم القيامة ، وقيل : فرغ من الحساب ووجب العذاب.
وهذه أقوال متقاربة.
{ وقضي الأمر } معطوف على قوله : يأتيهم ، فهو من وضع الماضي موضع المستقبل ، وعبر بالماضي عن المستقبل لأنه كالمفروغ منه الذي وقع ، والتقدير : ويقضى الأمر ، ويحتمل أن يكون هذا إخباراً من الله تعالى ، أي : فرغ من أمرهم بما سبق في القدر ، فيكون من عطف الجمل لا أنه في حيز ما ينتظر.
وقرأ معاذ بن جبل : وقضاء الأمر ، قال : قال الزمخشري : على المصدر المرفوع عطفاً على الملائكة ، وقال غيره بالمد والخفض عطفاً على الملائكة ، وقيل : ويكون : في ، على هذا بمعنى الباء ، أي : بظلل من الغمام ، وبالملائكة ، وبقضاء الأمر.
وقرأ يحيى بن معمر : وقضي الأمور ، بالجمع ، وبني الفعل للمفعول وحذف الفاعل للعلم به ، ولأنه لو أبرز وبنى الفعل للفاعل لتكرر الاسم ثلاث مرات.
{ وإلى اله تُرجع الأمور } قرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : ترجع ، بفتح التاء وكسر الجيم في جميع القرآن ، ويعقوب : بالتاء مفتوحة وكسر الجيم في جميع القرآن ، على أن : رجع ، لازم وباقي السبعة : بالياء وفتح الجيم مبنياً للمفعول ، وخارجة عن نافع : يرجع بالياء.

وفتح الجيم على أن رجع متعد.
وكلا الاستعمالين له في لسان العرب ، ولغة قليلة في المتعدي أرجع رباعياً ، فمن قرأ بالتاء فلتأنيث الجمع ، ومن قرأ بالياء فلكون التأنيث غير حقيقي.
وصرح باسم الله لأنه أفخم وأعظم وأوضح ، وإن كان قد جرى ذكره في قوله : { إلاَّ أن يأتيهم الله } ولأنه في جملة مستأنفة ليست داخلة في المنتظر ، وإنما هي إعلام بأن الله إليه تصير الأمور كلها.
لا إلى غيره ، إذ هو المنفرد بالمجازاة ، ولرفع إبهام ما كان عليه ملوك الدنيا من دفع أمور الناس إليهم ، فأعلم أن هذا لا يكون لهم في الآخرة منها شيء ، بل ذلك إلى الله وحده ، أو لإعلام أنها رجعت إليه في الآخرة بعد أن كان ملكهم بعضها في الدنيا ، فصارت إليه كلها في الآخرة.
وإذا كان الفعل مبنياً للمفعول فالفاعل المحذوف ، إما الله تعالى ، يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة ، أو ذوو الأمور ، لما كانت ذواتهم وصفاتهم شاهدة عليهم بأنهم مخلوقون محاسبون مجزيون ، كانوا رادّين أمورهم إلى خالقها ، قيل : أو يكون ذلك على مذهب العرب في قولهم : فلان معجب بنفسه ، ويقول الرجل لغيره : إلى أين يُذهب بك؟ وإن لم يكن أحد يذهب به. انتهى.
وملخصه : انه يبني الفعل للمفعول ولا يكون ثم فاعل ، وهذا خطأ ، إذ لا بد للفعل من تصوّر فاعل ، ولا يلزم أن يكون الفاعل للذهاب أحداً ، ولا الفاعل للإعجاب ، بل الفاعل غيره ، فالذي أعجبه بنفسه هو رأيه ، واعتقاده بجمال نفسه ، فالمعنى أنه أعجبه رأيه ، وذهب به رأيه ، فكأنه قيل : أعجبه رأيه بنفسه ، وإلى أين يذهب بك رأيك أو عقلك؟ ثم حذف الفاعل ، وبني الفعل للمفعول.
قيل : وفي قوله : { وقضي الأمر } { وإلى الله ترجع الأمور } قسمان من أقسام علم البيان :
أحدهما : الإيجاز في قوله : { وقضي الأمر } فإن في هاتين الكلمتين يندرج في ضمنها جميع أحوال العباد مند خلقوا إلى يوم التناد ، ومن هذا اليوم إلى الفصل بين العباد.
والثاني : الاختصاص بقوله : { وإلى الله } فاختص بذلك اليوم لانفراده فيه بالتصرف والحكم والملك. انتهى.
وقال السلمي : وقضي الأمر وصلوا إلى ما قضي لهم في الأزل من إحدى المنزلتين.
وقال جعفر : كشف عن حقيقة الأمر ونهيه.
وقال القشيري : انهتك ستر الغيب عن صريح التقدير.
{ سل بني إسرائيل } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال الزمخشري : أو لكل أحد.
وقرأ أبو عمرو ، في رواية ابن عباس : أسأل.
وقرأ قوم : إسل ، وأصله إسأل ، فنقل حركة الهمزة إلى السين وحذف الهمزة التي هي عين ، ولم تحذف همزة الوصل لأنه لم يعتد بحركة السين لعروضها ، كما قالوا : ألحمر في الأحمر.
وقرأ الجمهور : سل ، فيحتمل وجهين : أحدهما : أن أصله إسأل ، فلما نقل وحذف اعتدّ بالحركة ، فحذف الهزة لتحرك ما بعدها ، والوجه الآخر : أنه جاء على لغة من يجعل المادّة من : سين ، وواو ، ولام ، فيقول : سأل يسأل ، فقال : سل ، كما قال : خف ، فلا يحتاج في مثل هذا إلى همزة وصل ، وانحذفت عين الكلمة لالتقائها ساكنة مع اللام الساكنة ، ولذلك تعود إذا تحركت الفاء نحو : خافا وخافوا وخافي.

ولما تقدّم : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل } وكان المعنى في ذلك استبطاء حق لهم في الإسلام ، وأنهم لا ينتظرون إلاَّ آية عظيمة تلجئهم إلى الدخول في الإسلام ، جاء هذا الأمر بسؤالهم عما جاءتهم من الآيات العظيمة ، ولم تنفعهم تلك الآيات ، فعدم إسلامهم مرتب على عنادهم واستصحاب لجاجهم ، وهذا السؤال ليس سؤالاً عما لا يعلم ، إذ هو عالم أن بني إسرائيل آتاهم الله آيات بينات ، وإنما هو سؤال عن معلوم ، فهو تقريع وتوبيخ ، وتقرير لهم على ما آتاهم الله من الآيات البينات ، وأنها ما أجدت عندهم لقوله بعد : { ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته }.
وفي هذا السؤال أيضاً تثبيت وزيادة ، كما قال تعالى : { وكلا نقصّ عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } أو : زيادة يقين المؤمن ، فالخطاب في اللفظ له صلى الله عليه وسلم ، والمراد : أمّته ، أو إعلام أهل الكتاب أن هذا القول من عند الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقومه لم يكونوا يعرفون شيئاً من قصص بني إسرائيل ، ولا ما كان فيهم من الآيات قبل أن أنزل الله ذلك في كتابه.
{ بني إسرائيل } من كان بحضرته منهم ، صلى الله عليه وسلم ، أو من آمن من به منهم ، أو علماؤهم ، أو أنبياؤهم ، أقوال أربعة.
{ وكم } في موضع نصب على أنها مفعول ثان { لآتيناهم } على مذهب الجمهور ، أو على أنها مفعول أول على مذهب السهيلي على ما مر ذكره ، وأجاز ابن عطية أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل يفسره ما بعده ، وجعل ذلك من باب الإشتغال ، قال : وكم ، في موضع نصب إمّا بفعل مضمر بعدها ، لأن لها صدر الكلام تقديره : كم آتيناهم ، أو باتيانهم. انتهى.
وهذا غير جائز إن كان قوله : من آية تمييزاً لكم ، لأن الفعل المفسر لهذا الفعل المحذوف لم يعمل في ضمير الاسم الأول المنتصب بالفعل المحذوف ولا في سببيته ، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون من باب الإشتغال.
ونظير ما أجاز أن يقول : زيداً ضربت ، فتعرب زيداً مفعولاً بفعل محذوف يفسره ما بعده ، التقدير : زيداً ضربت ضربت ، وكذلك : الدرهم أعطيت زيداً ، ولا نعمل أحداً ذهب إلى ما ذهب إليه ، بل نصوص النحويين ، سيبويه فمن دونه ، على أن مثل هذا هو مفعول مقدم منصوب بالفعل بعده ، وإن كان تمييز : كم ، محذوفاً.
وأطلقت : كم ، على القوم أو الجماعة ، فكان التقدير : كم من جماعة آتيناهم ، فيجوز ذلك ، إذ في الجملة المفسرة لذلك الفعل المحذوف ضمير عائد على : كم ، وأجاز ابن عطية وغيره أن تكون : كم ، في موضع رفع بالابتداء ، والجملة من قوله : آتيناهم ، في موضع الخبر ، والعائد محذوف ، التقدير : آتيناهموه ، أو آتيناهموها ، وهذا لا يجوز عند البصريين إلاَّ في الشعر ، أو في شاذ من القرآن ، كقراءة من قرأ

{ أفحكم الجاهلية يبغون } برفع الحكم ، وقال ابن مالك : لو كان المبتدأ غير : كل ، والضمير مفعول به ، لم يجز عند الكوفيين حذفه مع بقاء الرفع إلاَّ في الاضطرار ، والبصريون يجيزون ذلك في الاختيار ، ويرونه ضعيفاً ، انتهى.
فإذا كان لا يجوز إلاَّ في الاضطرار ، أو ضعيفاً ، فأي داعية إلى جواز ذلك في القرآن مع إمكان حمله على غير ذلك؟ ورجحانه وهو أن تكون في موضع نصب على ما قررناه.
وكم ، هنا إستفهامية ومعناها التقرير لا حقيقة الإستفهام ، وقد يخرج الإستفهام عن حقيقته إذا تقدّمه ما يخرجه ، نحو قولك : سواء عليك أقام زيد أم قعد ، و : ما أبالي أقام زيد أم قعد ، وقد عملت أزيد منطلق أو عمرو وما أدري أقريب أم بعيد ، فكل هذا صورته صورة الاستفهام ، وهو على التركيب الإستفهامي وأحكامه ، وليس على حقيقة الإستفهام.
وهذه الجملة من قوله : { كم آتيناهم } في موضع المفعول الثاني : لسل ، لأن سأل يتعدى لإثنين؛ أحدهما : بنفسه ، والآخر : بحرف جر ، إما عن ، وإما الباء.
وقد جمع بينهما في الضرورة نحو.
فأصبحن لا يسألنه عن بما به . . .
و : سأل ، هنا معلقة عن الجملة الاستفهامية ، فهي عاملة في المعنى ، غير عاملة في اللفظ ، لأن الإستفهام لا يعمل فيه ما قبله إلاَّ الجار ، قالوا : وإنما علقت : سل ، وإن لم تكن من أفعال القلوب ، لأن السؤال سبب للعلم ، فأجرى السبب مجرى المسبب في ذلك ، وقال تعالى : { سلهم أيهم بذلك زعيم } وقال الشاعر.
سائل بني أسد ما هذه الصوت . . .
وقال :
واسأل بمصقلة البكري ما فعلا . . .
وأجاز الزمخشري أن تكون : كم ، هنا خبرية ، قال : فإن قلت : كم استفهامية أم خبرية؟
قلت : يحتمل الأمرين ، ومعنى الإستفهام فيها التقدير.
انتهى كلامه.
وهو ليس بجيد ، لأن جعلها خبرية هو اقتطاع للجملة التي هي فيها من جملة السؤال ، لأنه يصير المعنى : سل بني إسرائيل ، وما ذكر المسؤول عنه ، ثم قال : كثيراً من الآيات آتيناهم ، فيصير هذا الكلام مفلتاً مما قبله ، لأنه جملة : كم آتيناهم ، صار خبراً صرفاً لا يتعلق به : سل ، وأنت ترى معنى الكلام ، ومصب السؤال على هذه الجملة ، فهذا لا يكون إلاَّ في الإستفهامية ، ويحتاج في تقرير الخبرية إلى تقدير حذف ، وهو المفعول الثاني : لسل ، ويكون المعنى : سل بني إسرائيل عن الآيات التي آتيناهم ، ثم أخبر تعالى أن كثيراً من الآيات آتيناهم.
{ من آية } تمييز ل : كَمْ ، ويجوز دخول : من ، على تمييز الإستفهامية والخبرية ، سواء وليها أم فصل بينهما ، والفصل بينهما بجملة ، وبظرف ، ومجرور ، جائز على ما قرر في النحو ، وأجاز ابن عطية أن يكون : من آية ، مفعولاً ثانياً : لآيتناهم ، وذلك على التقدير الذي قدّره قبل من جواز نصب : كم ، بفعل محذوف يفسره : آتيناهم ، وعلى التقدير الذي قررناه من أن : كم ، تكون كناية عن قوم أو جماعة ، وحذف تمييزها لفهم المعنى ، فإذا كان كذلك ، فإن كانت : كم ، خبرية فلا يجوز أن تكون : من آية ، مفعولاً ثانياً ، لأن زيادة : من ، لا تكون في الإيجاب على مذهب البصريين غير الأخفش ، وإن كانت إستفهامية فيمكن أن يقال : يجوز ذلك فيه لانسحاب الاستفهام على ما قبله ، وفيه بعد ، لأن متعلق الإستفهام هو المفعول الأول لا الثاني ، فلو قلت : كم من درهم أعطيته من رجل ، على زيادة : من ، في قولك : من رجل ، لكان فيه نظر ، وقد أمعنا الكلام على زيادة : من ، في ( منهج السالك ) من تأليفنا.

و : الآيات البينات ، ما تضمنته التوراة والإنجيل من صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتحقيق نبوته ، وتصديق ما جاء به ، أو معجزات موسى صلى الله على نبينا وعليه : كالعصا ، واليد البيضاء ، وفلق البحر ، أو : القرآن قصّ الله قصص الأمم الخالية حسبما وقعت على لسان من لم يدارس الكتب ولا العلماء ، ولا كتب ولا ارتجل ، أو معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم : كتسبيح الحصى ، وتفجير الماء من بين أصابعه ، وانشقاق القمر ، وتسليم الحجر ، أربعة أقوال ، وقدروا بعد قوله : من آية بينة ، محذوفاً ، فقدّره بعضهم : فكذبوا بها ، وبعضهم : فبدلوها.
{ ومن يبدل نعمة الله } نعمة الله : الحجج الواضحة الدالة على أمره صلى الله عليه وسلم يبدل بها التشبيه والتأويلات ، أو ما ورد في كتاب الله من نعته صلى الله عليه وسلم ، يبدل به نعت الدجال ، أو الإعتراف بنبوته يبدل لها الحجد لها ، أو كتب الله المنزلة على موسى وعيسى على نبينا وعليهم السلام يبدل بها غير أحكامها كآية الرجم وشبهها ، أو الإسلام.
قاله الطبري؛ أو شكر النعمة يبدل بها الكفر أو آياته وهي أجل نعمة من الله ، لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلاله ، وتبديلهم إياها ، أن الله أظهرها لتكون أسباب هداهم ، فجعلوها أسباب ضلالتهم ، كقوله : { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } قاله الزمخشري : سبعة أقوال.
ولفظ : من يبدل ، عام وهو شرط ، فيندرج فيه مع بني إسرائيل كل مبدل نعمه : ككفار قريش وغيرهم ، فإن بعثه محمد صلى الله عليه وسلم نعمة عليهم ، وقد بدلوا بالشكر عليها وقبولها الكفر.
{ من بعد ما جاءته } أي : من بعدما أسديت إليه ، وتمكن من قبولها ، ومن بعدما عرفها كقوله : { ثم يحرفونه من بعدما عقلوه } وأتى بلفظ : من ، إشعاراً بابتداء الغاية ، وأنه يعقب : ما جاءته ، يبدله.
وفي قوله : { من بعدما جاءته } تأكيد ، لأن إمكانية التبديل منه متوقفة على الوصول إليه.

وقرىء : ومن يبدل بالتخفيف ، ويبدلَ ، يحتاج لمفعولين : مبدل ومبدل له ، فالمبدل هو الذي يتعدى إليه الفعل بحرف جر ، والبدل هو الذي يتعدى إليه الفعل بنفسه ، ويجوز حذف حرف الجر لفهم المعنى ، وتقدم الكلام على هذا في قوله : { فبدل الذين ظلموا } وإذا تقرر هذا ، فالمفعول الواحد هنا محذوف ، وهو البدل ، والأجود أن يقدر مثل ما لفظ به في قوله : { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً } فكفراً هو البدل ، ونعمة الله ، هو المبدل ، وهو الذي أصله : أن يتعدى إليه الفعل بحرف الجر ، فالتقدير إذن : ومن يبدل نعمة الله كفراً ، وجاز حذف المفعول الواحد وحرف الجر لفهم المعنى ، ولترتيب جواب الشرط على ما قبله فإنه يدل على ذلك ، لأنه لا يترتب على تقدير : أن يكون النعمة هي البدل ، والكفر هو المبدل أن يجاب بقوله : { فان الله شديد العقاب } خبر يتضمن الوعيد ، ومن حذف حرف الجر لدلالة المعنى قوله : { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } أي : بسيئاتهم ، ولا يصح أن يكون التقدير : سيئاتهم بحسنات ، فتكون السيئات هي البدل ، والحسنات هي المبدل ، لأن ذلك لا يترتب على قوله : { إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً } { فإن الله شديد العقاب } خبر يتضمن الوعيد بالعقاب على من بدل نعمة الله ، فإن كان جواب الشرط فلا بد من تقدير عائد في الجملة على اسم الشرط ، تقديره : فان الله شديد العقاب له ، أو تكون الألف واللام معاقبة للضمير على مذهب الكوفيين ، فيغنى عن الربط لقيامها مقام الضمير ، والأَوْلى أن يكون الجواب محذوفاً لدلالة ما بعده عليه ، التقدير : يعاقبه.
قال عبد القاهر في كتاب ( دلائل الإعجار ) : ترك هذا الإضمار أَوْلى ، يعنى بالإضمار شديد العقاب له ، لأن المقصود من الآية التخويف لكونه في ذلك موصوفاً بأنه شديد العقاب ، من غير التفات إلى كونه شديد العقاب.
لهذا ، ولذلك سمى العذاب عقاباً ، لأنه يعقب الجرم.
وذكر بعض من جمع في التفسير : أن هذه الآية : { سل بني إسرائيل } مؤخرة في التلاوة ، مقدمة في المعنى ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال : والتقدير : فإن زللتم إلى آخر الآية : سل يا محمد بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة فما اعتبروا ولا أذعنوا إليها ، هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله؟ أي : أنهم لا يؤمنون حتى يأتيهم الله. انتهى.
ولا حاجة إلى ادّعاء التقديم والتأخير ، بل هذه الآية على ترتبها أخذ بعضها بعنق بعض ، متلاحمة التركيب ، واقعة مواقعها ، فالمعنى : أنهم أمروا أن يدخلوا في الإسلام ، ثم أخبروا أن من زلّ جازاه الله العزيز الذي لا يغالب ، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها ، ثم قيل : لا ينتظرون في إيمانهم إلاَّ ظهور آيات بينات ، عناداً منهم ، فقد أتتهم الآيات ، ثم سلَّى نبيه صلى الله عليه وسلم في استبطاء إيمانهم مع ما أتى به لهم من الآيات ، بقوله : { سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة } فما آمنوا بها بل بدلوا وغيروا ، ثم توعد من بدل نعمة الله بالعقاب الشديد ، فأنت ترى هذه المعاني متناسقة مرتبة الترتيب المعجز ، باللفظ البليغ الموجز ، فدعوى التقديم والتأخير المختص بضرورة الأشعار ، وبنظم ذوي الانحصار ، منزه عنها كلام الواحد القهار.

{ زين للذين كفروا الحياة الدنيا } نزلت في أبي جهل وأصحابه كانوا يتنعمون بما بسط الله لهم ، ويكذبون بالمعاد ، ويسخرون من المؤمنين الفقراء ، كعمار ، وصهيب ، وأبي عبيدة ، وسالم ، وعامر بن فهيرة ، وخباب ، وبلال ، ويقولون : لو كان نبينا لتبعه أشرافنا ، قاله ابن عباس ، في رواية الكلبي عن أبي صالح عنه.
وقال مقاتل : في عبد الله بن أبي ، وأصحابه ، كانوا يتنعمون ويسخرون من ضعفاء المؤمنين ، ويقولون : أنظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم.
وقال عطاء : في علماء اليهود من بني قريظة ، والنضير ، وقينقاع ، سخروا من فقراء المهاجرين ، فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريظة والنضير بغير قتال ، أسهل شيء وأيسره.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر أن بني إسرائيل أتتهم آيات واضحة من الله تعالى ، وأنهم بدلوا ، أخبر أن سبب ذلك التبديل هو الركون إلى الدنيا ، والاستبشار بها ، وتزيينها لهم ، واستقامتهم للمؤمنين ، فلبني إسرائيل من هذه الآية أكبر حظ لأنهم كانوا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ، ويكذبون على كتاب الله ، فيكتبون ما شاؤا لينالوا حظاً خسيساً من حظوظ الدنيا ، ويقولون : هذا من عند الله.
وقراءة الجمهور : زين ، على بناء الفعل للمفعول ، ولا يحتاج إلى إثبات علامة تأنيث للفصل ، ولكون المؤنث غير حقيقي التأنيث ، وقرأ ابن أبي عبلة : زينت ، بالتاء وتوجيهها ظاهر ، لأن المسند إليه الفعل مؤنث ، وحذف الفاعل لفهم المعنى ، وهو : الله تعالى ، يؤيد ذلك قراءة مجاهد ، وحميد بن قيس ، وأبي حيوة : زين ، على البناء للفاعل ، وفاعله ضمير يعود على الله تعالى ، إذ قبله : { فإن الله شديد العقاب }.
وتزيينه تعالى إياها لهم بما وضع في طباعهم من المحبة لها ، فيصير في نفوسهم ميل ورغبة فيها ، أو بالشهوات التي خلقها فيهم ، وإليه أشار بقوله : { زين للناس حب الشهوات } الآية ، وإنما أحكمه من مصنوعاته وأتقنه وحسنه ، فأعجبهم بهجتها ، واستمالت قلوبهم فمالوا إليها كلية ، وأعطوها من الرغبة فوق ما تستحقه.
وقال أبو بكر الصدّيق ، رضي الله عنه ، حين قدم عليه بالمال ، قال : اللهم إنا لا نستطيع إلى أن نفرح بما زينت لنا.
قال الزمخشري : ويحتمل أن يكون الله قد زينها لهم بأن خذلهم حتى استحسنوها وأحبوها ، أو جعل إمهال المزين تزييناً ، ويدل عليه قراءة من قرأ : { زين للذين كفروا الحياة الدنيا } على البناء للفاعل.
انتهى كلامه.
وهو جار على مذهب المعتزلة بأن الله تعالى لا يخلق الشر ، وإنما ذلك من خلق العبد ، فلذلك تأول التزيين على الخذلان ، أو على الإمهال ، وقيل : الزين الشيطان ، وتزيينه بتحسين ما قبح شرعاً ، وتقبيح ما حسن شرعاً.

والفرق بين التزيينين : أن تزيين الله بما ركبه ووضعه في الجبلة ، وتزيين الشيطان بإذكار ما وقع غفاله ، وتحسينه بوساوسه إياها لهم ، وقيل : المزين ، نفوسهم كقوله : { إن النفس لأمارة بالسوء } { فطوّعت له نفسه قتل أخيه } { وكذلك سوّلت لي نفسي } وقيل : شركاؤهم من الجن والإنس ، قال تعالى { وكذلك زين لكثير من المشركين } الآية وقال : { شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض } وقيل : المزين هذه الحياة الدنيا قال : { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة } وقيل : المزين المجموع وفي هذا الكلام تعريف المؤمنين بسخافة عقول الكفار حيث آثروا الفاني على الباقي.
{ ويسخرون من الذين آمنوا } الضمير عائد على الذين كفروا ، وتقدّم من هم ، وكذلك تقدّم القول في : الذين آمنوا ، في سبب النزول ، ومعنى : يسخرون : يستهزئون ، وذلك لفقرهم ، أو : لاتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو : لاتهامهم إياهم أنهم مصدّقون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لضعفهم وقلة عددهم؛ أقوال أربعة.
وهذه الجملة الفعلية معطوفة على الجملة الفعلية من قوله : زين ، ولا يلحظ فيها عطف الفعل على الفعل ، لأنه كان يلزم اتحاد الزمان ، وإن لم يلزم اتحاد الصيغة ، وصدرت الأولى بالفعل الماضي لأنه أمر مفروغ منه ، وهو تركيب طباعهم على محبة الدنيا ، فليس أمراً متجدّداً ، وصدرت الثانية بالمضارع ، لأنها حالة تتجدّد كل وقت وقيل : هو على الاستئناف أي : الفعل المضارع ، ومعنى الاستئناف أن يكون على إضمارهم التقدير : وهم يسخرون ، فيكون خبر مبتدأ محذوف ، ويصير من عطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية.
{ والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة } فوق : ظرف مكان ، فقيل : هو على حاله من الظرفية المكانية حقيقة ، لأن المؤمنين في عليين في السماء ، والكفار في سجين في الأرض وقيل : الفوقية ، مجاز إما بالنسبة إلى النعيمين : نعيم المؤمنين في الجنة ، ونعيم الكافرين في الدنيا ، وإما بالنسبة إلى حجج المؤمنين ، وشبه الكفار لثبوت الحجج وتلاشى الشبه ، وإما بالنسبة إلى ما زعم الكفار من قولهم إن كان لنا معاد فلنا فيه الحظ ، وإما بالنسبة إلى سخرية المؤمنين بهم في الآخرة ، وسخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا ، فهم عالون عليهم ، متطاولون ، يضحكون منهم ، كما كان أولئك في الدنيا يتطاولون على المؤمنين ويضحكون منهم ، وإما بالنسبة إلى علوّ حالهم ، لأنهم في كرامة ، والكفار في هوان.
وجاءت هذه الجملة مصدرة بقوله { والذين اتقوا } ليظهر أن السعادة الكبرى لا تحصل إلا للمؤمن المتقي ، ولتبعث المؤمن على التقوى ، وليزول قلق التكرار لو كان : والذين آمنوا ، لأن قبله : الذين أمنوا.
وانتصاب : يوم القيامة ، على الظرف ، والعامل فيه هو العامل في الظرف الواقع خبراً ، أي : كائنون هم يوم القيامة ، ولما فهموا من فوق أنها تقتضي التفضيل بين من يخبر بها عنه ، وبين من تضاف هي إليه ، كقولك : زيد فوق عمرو في المنزل ، حتى كأنه قيل : زيد أعلى من عمرو في المنزلة ، احتاجوا إلى تأويل عال وأعلى منه ، قال ابن عطية : وهذا كله من التحميلات ، حفظ لمذهب سيبويه ، والخليل ، في أن التفضيل إنما يجيء فيما فيه شركة ، والكوفيون يجيزونه حيث لا اشتراك.

انتهى كلامه.
وهذا الذي حكاه عن سيبويه والخليل لا نعلمه ، وإنما الذي وقع فيه الخلاف هو أفعل التفضيل ، فالبصريون يمنعون : زيد أحسن أخوته ، والكوفيون يجيزونه ، وأما أن ذلك في : فوق ، فلا نعلمه ، لكنه لما توهم أنها مرادفة لأعلى ، وأعلى أفعل تفضيل ، نقل الخلاف إليها ، والذي نقوله : إن فوق لا تقتضي التشريك في التفضيل ، وإنما تدل على مطلق العلوّ ، فإذا أضيفت فلا يلزم أن يكون ما أضيفت إليه فيه علوّ ، وكما أن تحت مقابلتها لا تدل على تشريك في السفلية ، وإنما هي تدل على مطلقها ، ولا نقول : إنها مرادفة لأسفل ، لأن أسفل أفعل تفضيل يدلك على ذلك استعمالها بمن ، كقوله : الركب أسفل منكم ، كما أن أعلى كذلك ، فإذا تقررّ هذا كان المعنى ، والله أعلم ، والذين اتقوا عالوهم يوم القيامة ، ولا يدل ذلك على أن الكفار في علوّ ، بل المعنى أن العلوّ يوم القيامة إنما هو للمتقين ، وغيرهم سافلون ، عكس حالهما في الدنيا حيث كانوا يسخرون منهم.
{ والله يرزق من يشاء بغير حساب } اتصال هذه الجملة بما قبلها من تفضيل المتقين يوم القيامة يدل على تعلقها بهم ، فقيل : هذا الرزق في الآخرة ، وهو ما يعطى المؤمن فيها من الثواب ، ويكون معنى قوله : بغير حساب ، أي بغير نهاية ، لأن ما لا يتناهى خارج عن الحساب ، أو يكون المعنى : أن بعضها ثواب وبعضها تفضيل محض ، فهو بغير حساب ، وقيل : هذا الرزق في الدنيا ، وهو إشارة إلى تملك المؤمنين المستهزأ بهم أموال بني قريظة والنضير ، يصير إليهم بلا حساب ، بل ينالونها بأسهل شيء وأيسره ، قاله ابن عباس ، وقال نحوه القفال ، قال : قد فعل ذلك بهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ، ورؤساء اليهود ، وبما فتح بعد وفاته على أيدي أصحابه.
وقالوا ما معناه : إنها متصلة بالكفار ، وقال الزمخشري يعني : أنه يوسع على من توجب الحكمة التوسعة عليه ، كما وسع على قارون وغيره ، فهذه التوسعة عليكم من جهة الله لما فيها من الحكمة ، وهي استدارجكم بالنعمة ، ولو كانت كرامة لكان أولياؤه المؤمنون أحق بها منكم ، انتهى كلامه.
ولم يذكر غيره في معنى هذه الجمله.
وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون المعنى : والله يرزق هؤلاء الكفرة في الدنيا ، فلا تستعظموا ذلك ، ولا تقيسوا عليه الآخرة ، فإن الرزق ليس على قدر الكفر والإيمان ، بل يحسب لهذا عمله وهذا عمله ، فيرزقان بحساب ذلك ، بل الرزق بغير حساب الأعمال ، والأعمال مجازاتها محاسبة ومعادة ، إذ أجزاء الجزاء تقابل أجزاء الفعل المجازى عليه ، فالمعنى : إن المؤمن وإن لم يرزق في الدنيا ، فهو فوق الكافر يوم القيامة.

انتهى كلامه.
والذي يظهر عدم تخصيص الرزق بإحدى الطائفتين ، بل لما ذكر حاليهما من سخرية الكفار بهم في الدنيا ، بسبب ما رزقوا : من التمكن فيها ، والرياسة ، والبسط ، وتعالي المؤمنين عليهم في الآخرة.
بسبب ما رزقوا من : الفوز ، والتفرد بالنعيم السرمدي ، بيَّن أن ما يفعله من ذلك ويرزقه إياه إنما هو راجع لمشيئته السابقة ، وأنه لا يحاسبه أحد ، ولا يحاسب نفسه على ما يعطي ، لأن ذلك لا يكون إلاَّ لمن يخاف نفاذ ما عنده.
وقالوا في الحديث الصحيح : « يمين الله ملأى لا ينقصها شيء ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ، فإن ذلك لم ينقص شيئاً مما عنده ».
ومفعول يشاء محذوف ، التقدير : من يشاء أن يرزقه ، دل عليه ما قبله ، وبغير حساب تقدمه ثلاثة أشياء يصلح تعلقه بها : الفعل ، والفاعل ، والمفعول الأول وهو : من.
فإن كان للفعل فهو من صفات المصدر ، وإن كان للفاعل فهو من صفاته ، أو للمفعول فهو من صفاته ، فإذا كان للفعل كان المعنى : يرزق من يشاء رزقاً غير حساب ، أي : غير ذي حساب ، ويعني بالحساب : العد ، فهو لا يحصي ولا يحصر من كثرته ، أو يعني به المحاسبة في الآخرة ، أي : رزقاً لا يقع عليه حساب في الآخرة ، وتكون على هذا الباء زائدة.
وإذا كان للفاعل كان في موضع الحال : المعنى يرزق الله غير محاسب عليه ، أي متفضلاً في إعطائه لا يحاسب عليه ، أو غير عادٍ عليه ما يعطيه ، ويكون ذلك مجازاً عن التقتير والتضييق ، فيكون : حساب مصدراً عبر به عن اسم الفاعل من : حاسب ، أو عن اسم الفاعل من : حسب ، وتكون الباء زائدة في الحال ، وقد قيل : إن الباء زيدت في الحال المنفية ، وهذه الحال لم يتقدمها نفي ، ومما قيل : إنها زيدت في الحال المنفية قول الشاعر :
فما رجعت بخائبة ركاب . . .
حكيم بن المسيب منتهاها
أي : فما رجعت خائبة ، ويحتمل في هذا الوجه أن يكون حساب مصدراً عبر به عن اسم المفعول ، أي : غير محاسب على ما يعطي تعالى ، أي : لا أحد يحاسب الله تعالى على ما منح ، فعطاؤه غمراً لا نهاية له.
وإذا كان : لمن ، وهو المفعول الأول ليرزق ، فالمعنى : إن المرزوق غير محاسب على ما يرزقه الله تعالى ، فيكون أيضاً حالاً منه ، ويقع الحساب الذي هو المصدر على المفعول الذي هو محاسب من حاسب ، أو المفعول من حسب ، أي : غير معدود عليه ما رزق ، أو على حذف مضاف أي : غير ذي حساب ، ويعني بالحساب : المحاسبة أو العد ، والباء زائدة في هذه الحال أيضاً.

ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى : أنه يرزق من حيث لا يحتسب ، أي : من حيث لا يظن ، ولا يقدر أن يأتيه الرزق ، كما قال : { ويرزقه من حيث لا يحتسب } فيكون حالاً أيضاً أي : غير محتسب ، وهذه الأوجه كلها متكلفة ، وفيها زيادة الباء.
والأولى أن تكون الباء للمصاحبة ، وهي التي يعبر عنها بباء الحال ، وعلى هذا يصلح أن تكون : للمصدر ، وللفاعل ، وللمفعول ، ويكون الحساب مراداً به المحاسبة ، أو العد ، أي : يرزق من يشاء ولا حساب على الرزق ، أو : ولا حساب للرازق ، أو ولا حساب على المرزوق.
وكون الباء لها معنى أَوْلى من كونها زائدة ، وكون المصدر باقياً على المصدرية أولى من كونه مجازاً عن اسم فاعل أو أسم مفعول وكونه مضافاً لغير أولى من جعله مضافاً لذي محذوفة ، ولا تعارض بين قوله : { جزاء من ربك عطاء حساباً } أي : محسباً أي : كافياً من : أحسبني كذا ، إذا كفاك ، وبغير حساب معناه العد ، أو المحاسبة ، أو لاختلاف متعلقيهما إن كانا بمعنى واحد ، فالاختلاف بالنسبة إلى صفتي الرزق والعطاء في الآخرة ، فبغير حساب في التفضل المحض ، وعطاءً حساباً في الجزاء المقابل للعمل ، أو بالنسبة إلى اختلاف طرفيهما : فبغير حساب في الدنيا إذ يرزق الكافر والمؤمن ولا يحاسب المرزوقين عليه ، وفي الآخره يحاسب ، أو بالنسبة إلى اختلاف من قاما به ، فبغير حساب الله تعالى وهو حال منه ، أي : يرزق ولا يحاسب عليه ، أو ولا يعد عليه ، وحساباً صفة للعطاء ، فقد اختلف من جهة من قاما به ، وزال بذلك التعارض.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من أواخر أقوال الحج وأفعاله الأمر بذكر الله في أيام معدودات ، أي : قلائل ، ودل الذكر على الرمي وإن لم يصرح به ، لأن الذكر المأمور به في تلك الأيام هو عند الرمي ، ودل الأمر على مشروعيته في أيام ، وهو : جمع ، ثم رخص في التعجيل عند انقضاء يومين منها ، فسقط الذكر المختص به اليوم الثالث ، وأخبر أن حال المتعجل والمتأخر سواء في عدم الإثم ، وإن كان حال من تأخر أفضل ، وكان بعض الجاهلية يعتقد أن من تعجل أثم ، وبعضهم يعتقد أن من تأخر أثم ، فلذلك أخبر أن الله رفع الإثم عنهما ، إذ كان التعجل والتأخر مما شرعه الله تعالى ، ثم أخبر أن ارتفاع الإثم لا يكون إلا لمن اتقى الله تعالى.
ثم أمر بالتقوى ، وتكرار الأمر بها في الحج ، ثم ذكر الحامل على التلبس بالتقوى ، وهو كونه تعالى شديد العقاب لمن لم يتقه ، ثم لما كانت التقوى تنقسم إلى من يظهرها بلسانه وقلبه منطو على خلافها ، وإلى من تساوى سريرته وعلانيته في التقوى ، قسم الله تعالى ذلك إلى قسمين ، فقال : { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } أي : يؤنقك ويروق لفظه ، يحسن ما يأتي به من الموافقة والطواعية ظاهراً ، ثم لا يكتفي بما زوّر ونمق من كلامه اللطيف حتى يشهد الله على ما في قلبه من ذلك ، فيحلف بالله أن سريرته مثل علانيته ، وهو إذا خاصم كان شديد الخصومة ، وإذا خرج من عندك تقلب في نواحي الأرض ، ثم ذكر تعالى سبب سعيه وأنه للإفساد مطلقاً ، وليهلك الحرث والنسل اللذين هما قوام الوجود ، ثم أخبر تعالى أنه لا يحب الفساد ، فهذا المتولي الساعي في الأرض يفعل ما لا يحبه الله ولا يرضاه ، ثم ذكر أنه من شدّة الشكيمة في النفاق إذا أمر بتقوى الله تعالى استولت عليه الأنفة والغضب بالإثم.

أي : مصحوباً بالإثم فليس غضبه لله.
إنما هو لغير الله ، فلذلك استصحبه الإثم.
ثم ذكر تعالى ما يؤول إليه حال هذا الآنف المغترّ بغير الله ، وهو جهنم ، فهي كافية له ، ومبدلته بعد عزه ذلاً ، ثم ذمّ تعالى ما مهد لنفسه من جهنم ، وبئس الغاية الذم ، ثم ذكر تعالى القسم المقابل لهذا القسم ، وهو : من باع نفسه في طلاب رضى الله تعالى ، واكتفى بهذا الوصف الشريف ، إذ دل على انطوائه على جميع الطاعات والانقيادات ، إذ صار عبد الله يوجد حيث رضي الله تعالى ، ثم ذكر تعالى أن من كان بهذه المثابة رأف الله به ورحمه ، ورأفة الله به تتضمن اللطف به والإحسان إليه بجميع أنواع الإحسان ، وذكر الرأفة التي هي ، قيل : أرق من الرحمة.
ثم نادى المؤمنين بقوله : { يا أيها الذين آمنوا } وأمرهم بالدخول في الإسلام ، وثنى بالنهي ، لأن الأمر أشق من النهي ، لأن الأمر فعل والنهي ترك ، ولمجاورته قوله : { ومن الناس من يشري نفسه } فصار نظير : { يوم تبيضّ وجوه وتسودُّ وجوه فأما الذين اسودّت وجوههم } ولما نهاهم تعالى عن اتباع خطوات الشيطان ، وهي : سلوك معاصي الله ، أخبر أنه إن زلوا من بعد ما أتتهم البينات الواضحة النيرة التي لا ينبغي أن يقع الزلل معها ، لأن في ايضاحها ما يزيل اللبس ، فاعلموا أن الله عزيز لا يغالب ، حكيم يضع الأشياء مواضعها ، فيجازي على الزلل بعد وضوح الآيات التي تقتضي الثبوت في الطاعة بما يناسب ذلك الزلل ، فدل بعزته على القدرة ، وبحكمته على جزاء العاصي والطائع : { ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى }
ثم أعرض تعالى عن خطابهم ، وأخبر عنهم إخبار الغائبين ، مسلياً لرسوله عن تباطئهم في الدخول في الإسلام ، فقال : ما ينتظرون إلاَّ قيام الساعة يوم فصل الله بين العباد ، وقضاء الأمر ، ورجوع جميع الأمور إليه ، فهناك تظهر ثمرة ما جنوا على أنفسهم ، كما جاء في الحديث : « إن يوم القيامة يأتيهم الله في صورة » كذا ، على ما يليق بتقديسه عن جميع ما يشبه المخلوقين ، وننزهه عما يستحيل عليه من سمات الحدوث وصفات النقص.

ثم قال تعالى : { سل بني إسرائيل } منبهاً على أن دأب من أرسل إليه الأنبياء ، وظهرت لهم المعجزات الإعراض عن ذلك ، وعدم قبول الإيمان ، وأنهم يرتبون على الشيء غير مقتضاه ، فيكذبون بالآيات التي جاءت دالة على الصدق.
ثم أخبر تعالى : أن من بدل نعمة الله عاقبه أشدّ العقاب ، قابل نعمة الله التي هي مظنة الشكر بالكفر ، ثم ذكر تعالى الحامل لهم على تبديل نعم الله ، وهو : تزيين الحياة الدنيا ، فرغبوا في الفاني وزهدو ا في الباقي إيثاراً للعاجل على الآجل ، ثم ذكر مع ذلك استهزاءهم بالمؤمنين ، حيث ما يتوهم في وصف الإيمان ، والرغبة فيما عند الله تعالى ، وذكر أنهم هم العالون يوم القيامة ، ودل بذلك على أن أولئك هم السافلون ، ثم ذكر أنه يرزق المؤمنين ، وهم الذين يحبهم ، بغير حساب ، إشارة إلى سعة الرزق وعدم التقتير ، والتقدير : وأعاد ذكرهم بلفظ : من يشاء ، تنبيهاً على إرادته لهم ، ومحبته إياهم ، واختصاصهم به ، إذ لو قال : والله يرزقهم بغير حساب ، لفات هذا المعنى من ذكر المشيئة التي هي الإرادة.

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

حسب : بكسر السين : يحسب ، بفتحها في المضارع وكسرها ، من أخوات : ظن ، في طلبها إسمين : هما في مشهور قول النحاة : مبتدأ وخبر ، ومعناها نسبة الخبر عن المتيقن إلى المسند إليه ، وقد يأتي في المتيقن قليلا ، نحو قوله :
حسبت التقى والجود خير تجارة . . .
رباحاً إذا ما المرء أصبح ثاقلاً
ومصدرها : الحسبان ، ويأتي : حسب أيضاً بمعنى : احمرّ تقول : حسب الرجل يحسب ، وهو أحسب ، كما تقول : شقر فهو أشقر ، ولحسب أحكام ذكرت في النحو.
لما : الجازمة حرف ، زعموا أنه مركب من : لم وما ، ولها أحكام تخالف فيها : لم ، منها : أنه يجوز حذف الفعل بعدها إذا دل على حذفه المعنى ، وذلك في فصيح الكلام ، ومنها : أنه يجب اتصال نفيها بالحال ، ومنها : أنها لا تدخل على فعل شرط ولا فعل جزاء.
زلزل : قلقل وحرّك ، وهو رباعي عند البصريين : كدحرج ، هذا النوع من الرباعي فيه خلاف للكوفيين والزجاج مذكور في النحو.
ماذا : اذا أفردت كل واحدة منهما على حالها كانت : ما يراد بها الإستفهام ، وذا : للإشارة ، وإن دخل التجوّز فتكون : ذا ، موصولة ، لمعنى : الذي ، والتي ، وفروعها ، وتبقى ما على أصلها من الاستفهام ، فتفتقر : ذا ، إذ ذاك إلى صلة ، وتكون مركبة مع : ما ، الاستفهامية ، فيصير دلالة مجموعهما دلالة : ما ، الاستفهامية لو انفردت ، ولهذا قالت العرب : عن ماذا تسأل؟ باثبات ألف : ما ، وقد دخل عليها حرف الجر وتكون مركبة مع : ما ، الموصولة ، أو : ما ، النكرة الموصوفة ، فتكون دلالة مجموعهما دلالة : ما الموصولة ، أو الموصوفة ، لو انفردت دون : ذا ، والوجه الأخر هو عن الفارسي.
الكره : بضم الكاف وفتحها ، والكراهية والكراهة مصادر لكره ، قاله الزجاج ، بمعنى : أبغض ، وقيل : الكُره بالضم ما كرهه الإنسان ، والكَره ، بالفتح ما أكره عليه ، وقيل : الكُره بالضم اسم المفعول ، كالخبر ، والنقض ، بمعنى : المخبور والمنقوص ، والكَره بالفتح.
المصدر.
عسى : من أفعال المقاربة ، وهي فعل ، خلافاً لمن قال : هي حرف ولا تتصرف ، ووزنها : فعل ، فإذا أسندت إلى ضمير متكلم أو مخاطب مرفوع ، أو نون اناث ، جاز كسر سينها ويضمر فيها للغيبة نحو : عسيا وعسوا ، خلافاً للرماني ، ذكر الخلاف عنه ابن زياد البغدادي ، ولا يخص حذف : إن ، من المضارع بالشعر خلافاً لزاعم ذلك ، ولها أحكام كثيرة ذكرت في علم النحو ، وهي : في الرجاء تقع كثيراً ، وفي الإشفاق قليلاً قال الراغب.
الصدّ : ناحية الشعب والوادي المانع السالك ، وصدّه عن كذا كأنما جعل بينه وبين ما يريده صدّاً يمنعه. انتهى.
ويقال : صدّ يصدّ صدوداً : أعرض ، وكان قياسه للزومه : يصدّ بالكسر ، وقد سمع فيه ، وصدّه يصده صدّاً منعه ، وتصدّى للشيء تعرض له ، وأصله تصدّد ، نحو : تظنى بمعنى تظنن ، فوزنه تفعل ، ويجوز أن تكون تفعلى نحو : يعلني ، فتكون الألف واللام للإلحاق ، وتكون من مضاعف اللام.

زال : من أخوات كان ، وهي التي مضارعها : يزال ، وهي من ذوات الياء ، ووزنها فعل بكسر العين ، ويدل على أن عينها ياء ما حكاه الكسائي في مضارعها ، وهو : يزيل ، ولا تستعمل إلاَّ منفية بحرف نفي ، أو بليس ، أو بغير أو : لا ، لنهي أو دعاء.
الحبوط : أصله الفساد ، وحبوط العمل بطله ، وحبط بطنه انتفخ ، والحبطات قبيلة من بني تميم ، والحبنطي : المنتفخ البطن.
المهاجرة : انتقال من أرض إلى أرض ، مفاعلة من الهجر ، والمجاهدة مفاعلة من جهد ، استخرج الجهد والإجتهاد ، والتجاهد بذل الوسع ، والمجهود والجهاد بالفتح : الأرض الصلبة.
{ كان الناس أمة واحدة } مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن إصرار هؤلاء على كفرهم هو حب الدنيا ، وأن ذلك ليس مختصاً بهذا الزمان الذي بعثت فيه ، بل هذا أمر كان في الأزمنة المتقادمة ، إذ كانوا على حق ثم اختلفوا بغياً وحسداً وتنازعاً في طلب الدنيا.
والناس : القرون بين آدم ونوح وهي عشرة ، كانوا على الحق حتى اختلفوا ، فبعث الله نوحاً فمن بعده ، قاله ابن عباس ، وقتادة.
أو : قوم نوح ومن في سفينته كانوا مسلمين ، أو : آدم وحده ، عن مجاهد ، أو : هو وحواء ، أو : بنو آدم حين أخرجهم من ظهره نسماً كانوا على الفطرة ، قاله أبي وابن زيد ، أو : آدم وبنوه كانوا على دين حق فاختلفوا من حين قتل قابيل هابيل ، أو : بنو آدم من وقت موته إلى مبعث نوح كانوا كفاراً أمثال البهائم ، قاله عكرمة ، وقتادة.
أو : قوم إبراهيم كانوا على دينه إلى أن غيره عمرو بن يحيى؛ أو : أهل الكتاب ممن آمن بموسى على نبينا وعليه السلام ، أو : قوم نوح حين بعث إليهم كانوا كفاراً قاله ابن عباس ، أو : الجنس كانوا أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع لا أمر عليهم ولا نهي.
أو : صنفاً واحداً ، فكان المراد : أن الكل من جوهر واحد ، وأب واحد ، ثم خصّ صنفاً من الناس ببعث الرسل إليهم ، وإنزال الكتب عليهم تكريماً لهم ، قاله الماتريدي فهذه اثنا عشر قولاً في الناس.
وأما في التوحيد فخمسة أقوال : إما في الإيمان ، وإما في الكفر ، وإما في الخلقة على الفطرة ، وإما في الخلو عن الشرائع ، وإما في كونهم من جوهر واحد.
وهو الأب.
وقد رجح كونهم أمة واحدة في الإيمان بقوله : { فبعث الله } وإنما بعثوا حين الاختلاف ، ويؤكده قراءة عبد الله { أمة واحدة } فاختلفوا ، وبقوله : { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } فهذا يدل على أن الاتفاق كان حصل قبل البعث والإنزال ، وبدلالة العقول ، إذ النظر المستقيم يؤدي إلى الحق ، ويكون آدم بعث إلى أولاده ، وكانوا مسلمين ، وبالولادة على الفطرة ، وبأن أهل السفينة كانوا على الحق ، وبإقرارهم في يوم الذر.
ويظهر أن هذا القول هو الأرجح لقراءة عبد الله وللتصريح بهذا المحذوف في آية أخرى ، وهو قوله تعالى :

{ وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا } والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، وتقدّم شرح : أمة في قوله : { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك }
وفي قراءة أبي : كان البشر ، إشارة إلى أنه لا يراد بالناس معهودون ، ومن جعل الإتحاد في الإيمان قدر ، فاختلفوا فبعث الله ، ومن جعل ذلك في الكفر لا يحتاج إلى هذا التقدير ، إذ كانت بعثة النبيين إليهم ، وأول الرسل على ما ورد في الصحيح في حديث الشفاعة : نوح على نبينا وعليه السلام ، يقول الناس له : أنت أول الرسل ، المعنى : إلى قوم كفار ، لأن آدم قبله ، وهو مرسل إلى بنيه يعلمهم الدين والإيمان.
{ فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } أي : أرسل النبيين مبشرين بثواب من أطاع ، ومنذرين بعقاب من عصى ، وقدّم البشارة لأنها أبهج للنفس ، وأقبل لما يلقى النبي ، وفيها اطمئنان المكلف ، والوعد بثواب ما يفعله من الطاعة ، ومنه.
{ فإنما يسرناه بسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لداً } وانتصاب : مبشرين ومنذرين ، على الحال المقارنة.
{ وأنزل معهم الكتاب بالحق } معهم حال من الكتاب : وليس تعمل فيه أنزل ، إذ كان يلزم مشاركتهم له في الإنزال ، وليسوا متصفين ، وهي حال مقدرة أي : وأنزل الكتاب مصاحباً لهم وقت الإنزال لم يكن مصاحباً لهم ، لكنه انتهى إليهم.
والكتاب : إما أن تكون أل فيه للجنس ، وإما أن تكون للعهد على تأويل : معهم ، بمعنى مع كل واحد منهم ، أو على تأويل أن يراد به واحد معين من الكتب ، وهو التوراة.
قاله الطبري ، أنزلت على موسى وحكم بها النبيون بعده ، واعتمدوا عليها كالأسباط وغيرهم ، ويضعف أن يكون مفرداً وضع موضع الجمع ، وقد قيل به.
ويحتمل : بالحق ، أن يكون متعلقاً : بأنزل ، أو بمعنى ما في الكتاب من معنى الفعل ، لأنه يراد به المكتوب ، أو بمحذوف ، فيكون في موضع الحال من الكتاب ، أي مصحوباً بالحق ، وتكون حالاً مؤكدة لأن كتب الله المنزلة يصحبها الحق ولا يفارقها ، وهذه الجملة معطوفة على قوله : { فبعث الله }.
ولا يقال : إن البشارة والنذارة إنما يكونان بالأمر والنهي ، وهما إنما يستفادان من إنزال الكتب فَلِمَ قدما على الإنزال مع أنهما ناشئان عنه؟ لأنه ذلك لا يلزم ، لأن البشارة والنذارة قد يكونان ناشئين عن غير الكتب من وحي الله لنبيه دون أن يكون ذلك كتاباً يتلى ويكتب ، ولو سلم ذلك لكان تقديمهما هو الأولى لأنهما حالان من النبيين.
فناسب اتصالهما بهم ، وإن كانا ناشئين عن إنزال الكتب.
وقال القاضي : الوعد والوعيد من الأنبياء عليهم السلام قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من معرفة الله تعالى ، وترك الظلم وغيرهما ، انتهى كلامه.
وما ذكر لا يظهر ، لأن الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب ليسا مما يقضي بهما العقل وحده على جهة الوجوب ، وإنما ذلك على سبيل الجواز ، ثم أتى الشرع بهما ، فصار ذلك الجائز في العقل واجباً بالشرع ، وما كان بجهة الإمكان العقلي لا يتصف به النبي على سبيل الوجوب إلاَّ بعد الوحي قطعاً ، فإذن يتقدّم الوحي بالوعد والوعيد على ظهور البشارة والنذارة ممن أوحى إليه قطفاً.

قال القاضي : وظاهر الآية يدل على أنه لا نبي إلاَّ ومعه كتاب منزل فيه بيان الحق ، طال ذلك الكتاب أو قصر ، دوّن أو لم يدوّن ، كان معجزاً أو لم يكن ، لأن كون الكتاب منزلاً معهم لا يقضي شيئاً من ذلك.
انتهى كلامه.
ويحتمل أن يكون التجّوز في : أنزل ، فيكون بمعنى : جعل ، كقوله : { وأنزلنا الحديد } ولما كان الإنزال الكثير منهم نسب إلى الجميع ، ويحتمل أن يكون التجوّز في الكتاب ، فيكون بمعنى الموحى به ، ولما كان كثيراً مما أوحى به بكتب ، أطلق على الجميع الكتاب تسمية للمجموع باسم كثير من أجزائه.
{ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } الللام لام العلة ، ويتعلق بأنزل ، والضمير في : ليحكم ، عائد على الله في قوله : فبعث الله ، وهو المضمر في : أنزل ، وهذا هو الظاهر ، والمعنى أنه تعالى أنزل الكتاب ليفصل به بين الناس ، وقيل : عائد على الكتاب أي : ليحكم الكتاب بين الناس ، ونسبة الحكم إليه مجاز ، كما أسند النطق إليه في قوله : { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } وكما قال :
ضربت عليك العنكبوت نسيجها . . .
وقضى عليك به الكتاب المنزل
ولأن الكتاب هو أصل الحكم ، فأسند إليه رداً للأصل ، وهذا قول الجمهور ، وأجاز الزمخشري أن يكون الفاعل : النبي ، قال : ليحكم الله أو الكتاب أو النبي المنزل عليه ، وإفراد الضمير يضعف ذلك على أن يحتمل ما قاله ، فيعود على أفراد الجمع ، أي : ليحكم كل نبي بكتابه ، ولا حاجة إلى هذا التكلف مع ظهور عود الضمير على الله تعالى ، ويبين عوده على الله تعالى قراءة الجحدري فيما ذكر مكي لنحكم ، بالنون ، وهو متعين عوده على الله تعالى ، ويكون ذلك التفاتاً إذ خرج من ضمير الغائب في : أنزل ، إلى ضمير المتكلم ، وظن ابن عطية هذه القراءة تصحيفاً قال : ما معناه لأن مكياً لم يحكِ عن الجحدري قراءته التي نقل الناس عنه ، وهي : ليحكم ، على بناء الفعل للمفعول ، ونقل مكي لنحكم بالنون.
وفي القراءة التي نقل الناس من قوله : وليحكم ، حذف الفاعل للعلم به ، والأولى أن يكون الله تعالى.
قالوا : ويحتمل أن يكون الكتاب أو النبيون.
وهي ظرف مكان ، وهو هنا مجاز ، وانتصابه بقوله : ليحكم ، وفيما ، متعلق به أيضاً ، و : فيه ، الدين الذي اختلفوا فيه بعد الإتفاق.
.
قيل ويحتمل أن يكون الذي اختلفوا فيه محمد ، صلى الله عليه وسلم ، أو دينه ، أو : هما ، أو : كتابه.
{ وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم } الضمير من قوله : وما اختلف فيه ، يعود على ما عاد عليه في : فيه ، الأولى ، وقد تقدّم أنها عائدة على : ما ، وشرح ما المعنى : بما ، أهو الدين ، أو محمد صلى الله عليه وسلم ؟ أم دينه؟ أم هما؟ أم كتابه؟
والضمير في : أوتوه ، عائد إذ ذاك على ما عاد عليه الضمير في : فيه ، وقيل : الضمير في : فيه ، عائد على الكتاب ، وأوتوه عائد أيضاً على الكتاب ، التقدير : وما اختلف في الكتاب إلاَّ الذين أوتوه ، أي : أوتوا الكتاب.

وقال الزجاج : الضمير في : فيه ، الثانية يجوز أن يعود على النبي صلى الله عليه وسلم ، أي : وما اختلف في النبي صلى الله عليه وسلم إلاَّ الذين أوتوه ، أي : أوتوا علم نبوّته ، فعلوا ذلك للبغي ، وعلى هذا يكون الكتاب : التوراة ، والذين أوتوه اليهود.
وقيل : الضمير في : فيه ، عائد على ما اختلفوا فيه من حكم التوراة والقبلة وغيرهما ، وقيل : يعود الضمير في : فيه ، على عيسى صلى الله على نبينا وعليه.
وقال مقاتل : الضمير عائد على الدين ، أي : وما اختلف في الدين. انتهى.
والذي يظهر من سياق الكلام وحسن التركيب أن الضمائر كلها في : أوتوه وفيه الأولى والثانية ، يعود على : ما ، الموصولة في قوله : وما اختلفوا فيه ، وأن الذين اختلفوا فيه مفهومه كل شيء اختلفوا فيه فمرجعه إلى الله ، بينه بما نزل في الكتاب ، أو إلى الكتاب إذ فيه جميع ما يحتاج إليه المكلف ، أو إلى النبي يوضحه بالكتاب على الأقوال التي سبقت في الفاعل في قوله : { ليحكم }.
والذين أوتوه أرباب العلم به والدراسة له ، وخصهم بالذكر تنبيهاً منه على شناعة فعلهم ، وقبيح ما فعلوه من الاختلاف ، ولأن غيرهم تبع لهم في الاختلاف فهم أصل الشر ، وأتى بلفظ : من ، الدالة على ابتداء الغاية منبهاً على أن اختلافهم متصل بأول زمان مجيء البينات ، لم يقع منهم اتفاق على شيء بعد المجيء ، بل بنفس ما جاءتهم البينات اختلفوا ، لم يتخلل بينهما فترة.
والبينات : التوراة والإنجيل ، فالذين أوتوه هم اليهود والنصارى ، أو جميع الكتب المنزلة ، فالذين أوتوه علماء كل ملة ، أو ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، والذين أوتوه اليهود ، أو معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين أوتوه جميع الأمم ، أو محمد صلى الله عليه وسلم والذين أوتوه من بعث إليهم.
والذي يظهر أن البينات هي ما أوضحته الكتب المنزلة على أنبياء الأمم الموجبة الاتفاق وعدم الاختلاف ، فجعلوا مجيء الآيات البينات سبباً لاختلافهم ، وذلك أشنع عليهم ، حيث رتبوا على الشيء خلاف مقتضاه.
ثم بين أن ذلك الاختلاف الذي كان لا ينبغي أن يكون ليس لموجب ولا داع إلاَّ مجرد البغي والظلم والتعدّي.
وانتصاب : بغياً ، على أنه مفعول من أجله ، و : بينهم ، في موضع الصفة له ، فتعلق بمحذوف ، أي : كائناً بينهم ، وأبعد من قال : إنه مصدر في موضع الحال ، أي : باغين ، والمعنى : أن الحامل على الاختلاف هو البغي ، وسبب هذا البغي حسدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم على النبوّة ، أو كتمهم صفته التي في التوراة ، أو طلبهم الدنيا والرئاسة فيها أقوال :
فالأولان : يختصان بمن يحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم.

من أهل الكتاب وغيرهم ، والثالث : يكون لسائر الأمم المختلفين ، وإنزال الكتب كان بعد وجود الاختلاف الأول ، ولذلك قال : { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } والاختلاف الثاني المعنيّ به ازدياد الاختلاف ، أو ديمومة الاختلاف إذا فسرنا : أوتوه : بأوتوا الكتاب ، فهذا الاختلاف يكون بعد إيتاء الكتاب ، وقيل : بجحود ما فيه ، وقيل : بتحريفه.
وفي قوله : بغياً ، إشارة إلى حصر العلة ، فيبطل قول من قال : إن الاختلاف بعد إنزال الكتاب كان ليزل به الاختلاف الذي كان قبله.
وفي قوله : البينات : دلالة على أن الدلائل العقلية المركبة في الطباع السليمة ، والدلائل السمعية التي جاءت في الكتاب قد حصلا ، ولا عذر في العدول والإعراض عن الحق لكن عارض هذا الدليل القطعي ما ركب فيهم من البغي والحسد والحرص على الاستيثار بالدنيا.
إلاَّ الذين أوتوه ، استثناء مفرغ ، وهو فاعل اختلف ، و : من بعد ما جاءتهم ، متعلق باختلف ، وبغياً منصوب باختلف ، هذا قول بعضهم ، قال : ولا يمنع إلاَّ من ذلك ، كما تقول : ما قام زيد إلاَّ يوم الجمعة.
انتهى كلامه.
وهذا فيه نظر ، وذلك أن المعنى على الاستثناء ، والمفرغ في الفاعل ، وفي المجرور ، وفي المفعول من أجله ، إذ المعنى : وما اختلف فيه إلاَّ الذين أوتوه إلاَّ من بعد ما جاءتهم البينات إلاَّ بغياً بينهم.
فكل واحد من الثلاثة محصور.
وإذا كان كذلك فقد صارت أداة الاستفهام مستثنى بها ، شيئان دون الأول من غير عطف ، وهو لا يجوز ، وإنما جاز مع العطف لأن حرف العطف ينوي بعدها إلاَّ ، فصارت كالملفوظ بها ، فإن جاء ما يوهم ذلك جعل على إضمار عامل ، ولذلك تأولوا قوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إلاَّّ رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر } على إضمار فعل التقدير : أرسلناهم بالبينات والزبر ، ولم يجعلوا بالبينات متعلقاً بقوله : وما أرسلنا ، لئلا يكون : إلاَّ ، قد استثنى بها شيئان : أحدهما رجالاً ، والأخر : بالبينات ، من غير عطف.
وقد منع أبو الحسن وأبو علي : ما أخذ أحد إلاَّ زيد درهماً ، وما : ضرب القوم إلاَّ بعضهم بعضاً.
واختلفا في تصحيحها ، فصححها أبو الحسن بأن يقدّم على المرفوع الذي بعدها ، فيقول : ما أخذ أحد زيد إلاَّ درهماً ، فيكون : زيد ، بدلاً من أحد ، ويكون : إلاَّ ، قد استثنى بها شيء واحد ، وهو الدرهم.
ويكون إلاَّ درهماً إستثناء مفرغاً من المفعول الذي حذف ، ويصير المعنى : ما أخذ زيد شيئاً إلاَّ درهماً.

وتصحيحها عند أبي علي بان يزيد فيها منصوباً قبل إلاَّ فيقول : ما أخذ أحد شيئاً إلاَّ زيد درهما.
و : ما ضرب القوم أحداً إلاَّ بعضهم بعضاً ، فيكون المرفوع بدلاً من المرفوع ، والمنصوب بدلاً من المنصوب ، هكذا خرجه بعضهم.
قال ابن السراح : أعطيت الناس درهماً إلاَّ عمراً جائز ، ولا يجوز أعطيت الناس درهماً إلاَّ عمر الدنانير ، لأن الحرف لا يستثنى به إلاَّ واحد ، فإن قلت : ما أعطيت الناس درهماً إلاَّ عمراً دانقاً ، على الاستثناء ، لم يجز ، أو على البدل جاز ، فتبدل عمراً من الناس ، ودانقاً من درهم ، كأنك قلت ما أعطيت إلاَّ عمراً دانقاً.
ويعني : أن يكون المعنى على الحصر في المفعولين.
قال بعض أصحابنا : ما قاله ابن السراح فيه ضعف ، لأن البدل في الاستثناء لا بد من اقترانه بإلاَّ ، فأشبه المعطوف بحرف ، فكما لا يقع بعده معطوفان لا يقع بعد إلاَّ بدلان.
انتهى كلامه.
وأجاز قوم أن يقع بعد إلاَّ مستثنيان دون عطف ، والصحيح أنه لا يجوز ، لأن إلاَّ هي من حيث المعنى معدية ، ولولا إلاَّ لما جاز للاسم بعدها أن يتعلق بما قبلها ، فهي : كواو مع وكالهمزة : التي جعلت للتعدية في بنية الفعل ، فكما أنه لا تعدّى : واو مع ولا الهمزة لغير مطلوبها الأول إلاَّ بحرف عطف ، فكذلك إلاَّ ، وعلى هذا الذي مهدناه يتعلق : من بعد ما جاءهم البينات ، وينتصب : بغياً ، بعامل مضمر يدل عليه ما قبله ، وتقديره : اختلفوا فيه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم.
{ فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } الذين آمنوا : هم من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والضمير : فيما اختلفوا ، عائد على الذين أوتوه ، أي لما اختلف فيه من اختلف ، ومن الحق تبيين المختلف فيه ، و : من ، تتعلق بمحذوف لأنها في موضع الحال من : ما ، فتكون للتبعيض ، ويجوز أن تكون لبيان الجنس على قول من يرى ذلك ، التقدير : لما اختلفوا فيه الذي هو الحق.
والأحسن أن يحمل المختلف فيه هنا على الدين والإسلام ، ويدل عليه قراءة عبد الله : لما اختلفوا فيه من الإسلام.
وقد حمل هذا المختلف فيه على غير هذا ، وفي تعيينه خلاف : أهو الجمعة؟ جعلها اليهود السبت ، والنصارى الأحد ، وكانت فرضت عليهم كما فرضت علينا؟ وفي الصحيحين : « نحن الأوّلون والآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم » فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له قال يوم الجمعة ، فاليوم لنا وغداً لليهود ، وبعد غد للنصارى.
أو الصلاة؟ فمنهم من يصلي إلى المشرق ، ومنهم من يصلي إلى المغرب ، فهدى الله تعالى المؤمنين إلى القبلة.
قاله زيد بن أسلم.
أو إبراهيم على نبينا وعليه السلام؟ قالت النصارى : كان نصرانياً ، وقالت اليهود : كان يهودياً ، فهدى الله المؤمنين لدينه بقوله :

{ ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً } أو عيسى؟ على نبينا وعليه السلام ، جعلته اليهود لعنة ، وجعلته النصارى إلهاً فهدانا الله تعالى لقول الحق فيه ، قاله ابن زيد.
أو الكتب التي آمنوا ببعضها وكفروا ببعضها؟ أو الصيام؟ اختلفوا فيه ، فهدانا الله لشهر رمضان.
فهذه ستة أقوال غير الأول.
وقال الفراء : في الكلام قلب ، وتقديره فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا فيه ، واختاره الطبري.
قال ابن عطية : ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق ، فهدى الله المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه ، وعساه غير الحق في نفسه ، قال : وادّعاء القلب على لفظ كتاب الله دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز وسوء نظر ، وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ووصفه لأن قوله : فهدى ، يقتضي أنهم أصابوا الحق ، وتم المعنى في قوله : فيه ، وتبين بقوله : من الحق ، جنس ما وقع الخلاف فيه.
قال المهدوي : وقدم لفظ الخلاف على لفظ الحق اهتماماً ، إذ العناية إنما هي بذكر الخلاف.
انتهى كلام ابن عطية ، وهو حسن.
والقلب عند أصحابنا يختص بضرورة الشعر فلا نخرج كلام الله عليه.
وبإذنه : معناه بعلمه ، قاله الزجاج أو : بأمره ، وتوفيقه ، أو بتمكينه ، أقوال مرت مشبعاً الكلام عليها ، في قوله : { فإنه نزله على قلبك باذن الله } ويتعلق بإذنه بقوله : فهدى الله ، وأبعد من أضمر له فعلاً مطاوعاً تقديره : فاهتدوا بإذنه ، وهو قول أبي علي ، إذ لا حاجة لهذا الإضمار.
{ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } في هذه الجملة وما قبلها دليل على أن هدى العبد إنما يكون من الله لمن يشاء له الهداية ، ورد على المعتزلة في زعمهم أنه يستقل بهدى نفسه ، وتكرّر اسم الله في قوله : والله ، جاء على الطريقة الفصحى التي هي استقلال كل جملة ، وذلك أولى من أن يفتقر بالإضمار إلى ما قبلها من مفسر ذلك المضمر ، وقد تقدّم لذلك نظائر.
وفي قوله : من يشاء ، إشعار ، بل دلالة ، على أن هدايته تعالى منشؤها الإرادة فقط ، لا وصف ذاتي في الذي يهديه يستحق به الهداية ، بل ذلك مفدوق بإرادته تعالى فقط { لا يسأل عما يفعل }
{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم } نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصاب من الجهد وشدّة الخوف والبرد وأنواع الأذى ، كما قال تعالى : { وبلغت القلوب الحناجر } قاله قتادة ، والسدي.
أو في حرب أحد ، قتل فيها جماعة من المسلمين ، وجرت شدائد حتى قال عبد الله بن أبي وأصحابه : إلى متى تقتلون أنفسكم ، وتهلكون أموالكم؟ لو كان محمد نبياً لما سلط عليكم القتل والأسر ، فقالوا : لا جرم من قتل منا دخل الجنة.

فقال : إلى متى تسألون أنفسكم بالباطل؟
أو : في أوّل ما هاجروا إلى المدينة ، دخلوها بلا مال ، وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين ، رضي الله تعالى عنهم ، فأظهرت اليهود العداوة ، وأسرّ قوم النفاق.
قاله عطاء.
قيل : ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه قال : يهدي من يشاء ، والمراد إلى الحق الذي يفضي اتباعه إلى الجنة ، فبين أن ذلك لا يتم إلاَّ باحتمال الشدائد والتكليف ، أو : لما بين أنه هداهم ، بين أنه بعد تلك الهداية احتملوا الشدائد في إقامة الحق ، فكذا أنتم ، أصحاب محمد ، لا تستحقون الفضيلة في الدين إلاَّ بتحمل هذه المحن.
و : أم ، هنا منقطعة مقدرة بل والهمزة فتتضمن أضراباً ، وهو انتقال من كلام إلى كلام ، ويدل على استفهام لكنه استفهام تقرير ، وهي التي عبر عنها أبو محمد بن عطية : بأن أم قد تجيء ابتداء كلام ، وإن لم يكن تقسيم ولا معادلة ، ألف استفهام.
فقوله : قد تجيء ابتداء كلام ليس كما ذكر ، لأنها تتقدّر ، ببل والهمزة ، فكما أن : بل ، لا بد أن يتقدّمها كلام حتى يصير في حيز عطف الجمل ، فكذلك ما تضمن معناه.
وزعم بعض اللغويين أنها تأتي بمنزلة همزة الإستفهام ، ويبتدأ بها ، فهذا يقتضي أن يكون التقدير : أحسبتم؟ وقال الزجاج : بمعنى بل ، قال :
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى . . .
وصورتها ، أم أنت في العين أملح؟
ورام بعض المفسرين أن يجعلها متصلة ، ويجعل قبلها جملة مقدرة تصير بتقديرها أم متصلة ، فتقدير الآية : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق ، فصبروا على استهزاء قومهم بهم ، أفتسلكون سبيلهم؟ أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير سلوك سبيلهم؟
فتلخص في أم هنا أربعة أقوال : الانقطاع على انها بمعنى بل والهمزة ، والاتصال : على إضمار جملة قبلها ، والاستفهام بمعنى الهمزة ، والإضراب بمعنى بل؛ والصحيح هو القول الأوّل.
ومفعولاً : حسبتم ، سدّت أن مسدّهما على مذهب سيبويه ، وأما أبو الحسن فسدت عنده مسد المفعول الأوّل ، والمفعول الثاني محذوف ، وقد تقدم هذا المعنى في قوله : { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم } { ولما يأتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم } الجملة حال ، التقدير : غير آتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، أي : إن دخول الجنة لا بد أن يكون على ابتلاء شدائد ، وصبر على ما ينال من أذى الكفار ، والفقر والمجاهد في سبيل الله ، وليس ذلك على مجرد الإيمان فقط بل ، سبيلكم في ذلك سبيل من تقدمكم من اتباع الرسل.
خاطب بذلك الله تعالى عباده المؤمنين ، ملتفتاً إليهم على سبيل التشجيع والثبيت لهم ، وإعلاماً لهم أنه لا يضركون أعدائكم لا يوافقون ، فقد اختلفت الأمم على أنبيائها ، وصبروا ، حتى آتاهم النصر.
و : لما ، أبلغ في النفي من : لم ، لأنها تدل على نفي الفعل متصلاً بزمان الحال ، فهي لنفي التوقع.

والمثل : الشبه ، إلاَّ أنه مستعار لحال غريبة ، أو قضية عجيبة لها شأن ، وهو على حذف مضاف ، التقدير : مثل محنة الذين خلوا من قبلكم وعلى حذف موصوف تقديره : المؤمنين.
والذين خلوا من قبلكم ، متعلق بخلوا ، وهو كأنه توكيد ، لأن الذين خلوا يقتضي التقدم.
{ مستهم البأساء والضراء } هذه الجملة تفسير للمثل وتبيين له ، فليس لها موضع من الإعراب ، وكأن قائلاً قال : ما ذلك المثل؟ فقيل : مستهم البأساء والضراء.
والمسّ هنا معناه : الإصابة ، وهو حقيقة في المسّ باليد ، فهو هنا مجاز.
وأجاز أبو البقاء أن تكون الجملة من قولهم : مستهم ، في موضع الحال على إضمار قد ، وفيه بعد ، وتكون الحال إذ ذاك من ضمير الفاعل في : خلوا.
وتقدّم شرح : البأساء والضراء ، في قوله تعالى : { والصابرين في البأساء والضراء } { وزلزلوا } أي أزعجوا إزعاجاً شديداً بالزلزلة ، وبني الفعل للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به ، أي : وزلزلهم أعداؤهم.
{ حتى يقول الرسول } قرأ الأعمش : وزلوا ، و : يقول الرسول ، بالواو بدل : حتى ، وفي مصحف عبد الله : وزلزلوا ثم زلزلوا ويقول الرسول.
وقرأ الجمهور : حتى ، والفعل بعدها منصوب إما على الغاية ، وإما على التعليل ، أي : وزلزلوا إلى أن يقول الرسول ، أو : وزلزلوا كي يقول الرسول ، والمعنى الأول أظهر ، لأن المس والزلزال ليسا معلولين لقول الرسول والمؤمنين.
وقرأ نافع برفع ، يقول : بعد حتى ، وإذا كان المضارع بعد حتى فعل حال فلا يخلو أن يكون حالاً في حين الإخبار ، نحو : مرض حتى لا يرجونه ، وإما أن يكون حالاً قد مضت ، فيحكيها على ما وقعت ، فيرفع الفعل على أحد هذين الوجهين ، والمراد به هنا المضي ، فيكون حالاً محكية ، إذ المعنى : وزلزلوا فقال الرسول ، وقد تكلمنا على مسائل : حتى ، في كتاب ( التكميل ) وأشبعنا الكلام عليها هناك ، وتقدّم الكلام عليها في هذا الكتاب.
{ والذين آمنوا معه } يحتمل معه أن يكون منصوباً بيقول ، ويحتمل أن يكون منصوباً بآمنوا.
{ متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } متى : سؤال عن الوقت ، فقيل : ذلك على سبيل الدعاء لله تعالى ، والاستعلام لوقت النصر ، فأجابهم الله تعالى فقال : ألا إن نصر الله قريب ، وقيل : ذلك على سبيل الاستبطاء ، إذ ما حصل لهم من الشدّة والابتلاء والزلزال هو الغاية القصوى ، وتناهى ذلك وتمادى بالمؤمنين إلى أن نطقوا بهذا الكلام ، فقيل : ذلك لهم إجابة لهم إلى طلبهم من تعجيل النصر ، والذي يقتضيه النظر أن تكون الجملتان داخلتين تحت القول ، وأن الجملة الأولى من قول المؤمنين ، قالوا ذلك استبطاءً للنصر وضجراً مما نالهم من الشدّة ، والجملة الثانية من قول رسولهم إجابة لهم وإعلاماً بقرب النصر ، فتعود كل جملة لمن يناسبها ، وصح نسبة المجموع للمجموع لا نسبة المجموع لكل نوع من القائلين.
وتقدّم نظير هذا في بعض التخاريج لقوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك }

وإن قوله : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء من قول إبليس ، وإن قوله : ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك من قول الملائكة عن إبليس ، وكان الجواب ذلك لما انتظم إبليس في الخطاب مع الملائكة في قوله : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة }
وقالت طائفة : في الكلام تقديم وتأخير ، التقدير : حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله؟ فيقول الرسول : ألا إن نصر الله قريب ، فقدم الرسول في الرتبة لمكانته ، وقدم قول المؤمنين لتقدمه في الزمان.
قال ابن عطية وهذا تحكم وحمل الكلام على وجهه غير متعذر. انتهى.
وقوله حسن ، إذ التقديم والتأخير مما يختصان بالضرورة.
وفي قوله : والذين آمنوا ، تفخيم لشأنهم حيث صرح بهم ظاهراً بهذا الوصف الشريف الذي هو الإيمان ، ولم يأت ، حتى يقول الرسول وهم ، وهذا يدل على حذف ذلك الموصوف الذي قدرناه قبل مثل محنة المؤمنين الذين خلوا.
قال ابن عطية : وأكثر المتأولين على أن الكلام إلى آخر الآية من قول الرسول ، والمؤمنين ، ويكون ذلك من قول الرسول على طلب استعجال النصر ، لا على شك ولا ارتياب ، والرسول اسم الجنس ، وذكره الله تعظيماً للنازلة التي دعت الرسول إلى هذا القول.
انتهى كلامه.
واللائق بأحوال الرسل هو القول الذي ذكرنا أنه يقتضيه النظر ، والرسول كما ذكر ابن عطية اسم الجنس لا واحد بعينه ، وقيل : هو اليسع ، وقيل : هو شعيباً ، وعلى هذا يكون الذين خلوا قوماً بأعيانهم ، وهم أتباع هؤلاء الرسل.
وحكى بعض المفسرين أن الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن : الزلزلة ، هنا مضافة لأمته ، ولا يدل على ما ذكر سياق الكلام ، وعلى هذا القول قال بعضهم ، وفي هذا الكلام إجمال ، وتفصيله أن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم قالوا : متى نصر الله؟ فقال الرسول : ألا إن نصر الله قريب.
فتلخص من هذه النقول أن مجموع الجملتين من كلام الرسول والمؤمنين على سبيل التفصيل ، أو على سبيل أن : الرسول والمؤمنين قال كل منهما الجملتين ، فكأنهم قالوا : قد صبرنا ثقة بوعدك ، أو : على أن الجملة الأولى من كلام الرسول والمؤمنين ، والثانية من كلام الله تعالى.
ولما كان السؤال بمتى يشير إلى استعلام القرب ، تضمن الجواب القرب ، وظاهر هذا الإخبار أن قرب النصر هو : ينصرون في الدنيا على أعدائهم ويظفرون بهم ، كقوله تعالى : { جاءهم نصرنا } و { إذا جاء نصر الله والفتح } وقال ابن عباس : النصر في الآخرة لأن المؤمن لا ينفك عن الابتلاء ، ومتى انقضى حرب جاءه آخر ، فلا يزال في جهاد العدو ، والأمر بالمعروف ، وجهاد النفس إلى الموت.
وفي وصف أحوال هؤلاء الذين خلوا ما يدل على أنا يجري لنا ما جرى لهم ، فنتأسى بهم ، وننتظر الفرج من الله والنصر ، فإنهم أجيبوا لذلك قريباً.

{ يسئلونك ماذا ينفقون } نزلت في عمرو بن الجموح ، كان شيخاً كبيراً ذا مال كثير ، سأل بماذا أتصدق؟ وعلى من أنفق؟ قاله أبو صالح عن ابن عباس.
" وفي رواية عطاء نزلت في رجل قال : إن لي ديناراً.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أنفقه على نفسك» فقال إن لي دينارين : فقال : «أنفقهما على أهلك» فقال : إن لي ثلاثة.
فقال : «أنفقها على خادمك» فقال : إن لي أربعة.
فقال : «أنفقها على والديك».
فقال إن لي خمسة.
فقال : «انفقها على قرابتك».
فقال : إن لي ستة.
فقال : «انفقها في سبيل الله ، وهو أحسنها» "
وينبغي أن يفهم من هذا الترقي على معنى أن ما أخبر به فاضل عما قبله ، وقال الحسن : هي في التطوع ، وقال السدي : هي منسوخة بفرض الزكاة.
قال ابن عطية : وَهَمَ المهدوي على السدي في هذا ، فنسب إليه أنه قال : إن الآية في الزكاة المفروضة.
ثم نسخ منها الوالدان انتهى؛ وقد قال : قدم بهذا القول ، وهي أنها في الزكاة المفروضة ، وعلى هذا نسخ منها الوالدان ومن جرى مجراهما من الأقربين ، وقال ابن جريج : هي ندب ، والزكاة غير هذا الإنفاق ، فعلى هذا لا نسخ فيها.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أن الصبر على النفقة وبذل المال هو من أعظم ما تحلى به المؤمن ، وهو من أقوى الأسباب الموصلة إلى الجنة ، حتى لقد ورد : الصدقة تطفىء غضب الرب.
والضمير المرفوع في : يسألونك ، للمؤمنين ، والكاف لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم ، و : ماذا ، يحتمل هنا النصب والرفع ، فالنصب على أن : ماذا ، كلها استفهام ، كأنه قال : أي شيء ينفقون؟ فماذا منصوب بينفقون ، والرفع على أن : ما.
وحدها هي الاستفهام ، وذا موصولة بمعنى الذي ، وينفقون صلة لذا ، والعائد محذوف ، التقدير : ما الذي ينفقون به؟ فتكون : ما ، مرفوعة بالابتداء ، وذا بمعنى الذي خبره ، وعلى كلا الإعرابين فيسألونك معلق ، فهو عامل في المعنى دون اللفظ ، وهو في موضع المفعول الثاني ليسألونك ، ونظيره ما تقدم من قوله : { سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة } على ما شرحناه هناك.
و : ماذا ، سؤال عن المنفق ، لا عن المصرف وكأن في الكلام حذفاً تقديره : ولمن يعطونه؟ ونظير الآية في السؤال والتعليق.
قول الشاعر :
ألا تسألان المرء ماذا يحاول . . .
إلاَّ أن : ماذا ، هنا مبتدأ ، وخبر ، ولا يجوز أن يكون مفعولاً بيحاول ، لأن بعده :
أنحبُ فيُقضى ، أم ضلال وباطل . . .
ويضعف أن يكون : ماذا كله مبتدأ ، و : يحاول ، الخبر لضعف حذف العائد المنصوب من خبر المبتدأ دون الصلة ، فإن حذفه منها فصيح ، وذكر ابن عطية : أن : ماذا ، إذا كانت اسماً مركباً فهي في موضع نصب ، إلاَّ ما جاء من قول الشاعر :
وماذا عسى الواشون أن يتحدَّثوا . . .
سوى أن يقولوا : إنني لك عاشق

فإن عسى لا تعمل في : ماذا ، في موضع رفع ، وهو مركب إذ لا صلة لذا. انتهى.
وإنما لم يكن : لذا ، في البيت صلة لأن عسى لا تقع صلة للموصول الإسمي ، فلا يجوز لذا أن تكون بمعنى الذي ، وما ذكره ابن عطية من أنه إذا كانت اسماً مركبة فهي في موضع نصب ، إلاَّ ، في ذلك البيت لا نعرفه ، بل يجوز أن نقول : ماذا محبوب لك؟ و : من ذا قائم؟ على تقدير التركيب ، فكأنك قلت : ما محبوب؟ ومن قائم؟ ولا فرق بين هذا وبين من ذا تضربه؟ على تقديره : من تضربه؟ وجعل : من ، مبتدأ.
{ قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل } هذا بيان لمصرف ما ينفقونه ، وقد تضمن المسؤول عنه ، وهو المنفق بقوله : من خير ، ويحتمل أن يكون ماذا سؤالاً عن المصرف على حذف مضاف ، التقدير مصرف ماذا ينفقون؟ أي : يجعلون إنفاقهم؟ فيكون الجواب إذ ذاك مطابقاً ، ويحتمل أن يكون حذف من الأول الذي هو السؤال المصرف ، ومن الثاني الذي هو الجواب ذكر المنفق ، وكلاهما مراد ، وإن كان محذوفاً ، وهو نوع من البلاغة تقدّم نظيره في قوله : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق }
وقال الزمخشري : قد تضمن قوله تعالى : { ما أنفقتم من خير } بيان ما ينفقونه ، وهو كل خير ، وبني الكلام على هواهم ، وهو بيان المصرف ، لأن النفقة لا يعتدّ بها إلاَّ أن تقع موقعها ، كقول الشاعر :
ان الصنيعة لا تكون صنيعة . . .
حتى يصاب بها طريق المصنع
انتهى كلامه ، وهو لا بأس به و { من خير } يتناول القليل والكثير.
وبدأ في المصرف بالأقرب فالأقرب ، ثم بالأحوج فالأحوج ، وقد مرّ الكلام في شيء من هذا الترتيب وشبهه ، وقد استدل بهذه الآية على وجوب نفقة الوالدين والأقربين على الواجد ، وحمل بعضهم الآية على أنها في الوالدين إذا كانا فقيرين ، وهو غني.
{ وما تفعلوا من خير فان الله به عليم } ما : في الموضعين شرطية منصوبة بالفعل بعدها ، ويجوز أن تكون : ما ، من قوله : { قل ما انفقتم } موصولاً ، وأنفقتم ، صلة ، و : للوالدين ، خبر ، فالجار والمجرور في موضع المفرد ، أو في موضع الجملة على الخلاف الذي في الجار والمجرور الواقع خبراً ، أو هو معمول لمفرد ، أو لجملة.
وإذا كانت : ما ، في : ما أنفقتم ، شرطية ، فهذا الجار والمجرور في موضع خبر لمبتدأ محذوف ، التقدير : فهو أو فمصرفه للوالدين.
وقرأ عليّ بن أبي طالب : وما يفعلوا ، بالياء ، فيكون ذلك من باب الالتفات ، أو من باب ما أضمر لدلالة المعنى عليه ، أي : وما يفعل الناس ، فيكون أعم من المخاطبين قبل ، إذ يشملهم وغيرهم ، وفي قوله : من خير ، في الإنفاق يدل على طيب المنفق ، وكونه حلالاً ، لأن الخبيث منهي عنه بقوله :

{ ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } وما ورد من أن الله طيب لا يقبل إلاَّ الطيب ، ولأن الحرام لا يقال فيه خير.
وقوله : من خير في قوله : وما تفعلوا ، هو أعم : من ، خير ، المراد به المال ، لأنه ما يتعلق به هو الفعل ، والفعل أعم من الإنفاق ، فيدخل الإنفاق في الفعل ، فخير ، هنا هو الذي يقابل الشر ، والمعنى : وما تفعلوا من شيء من وجوه البر والطاعات وجعل بعضهم هنا : وما تفعلوا ، راجعاً إلى معنى الإنفاق ، أي : وما تفعلوا من إنفاق خير ، فيكون الأول بياناً للمصرف ، وهذا بيان للمجازاة ، والأوْلى العموم ، لأنه يشمل إنفاق المال وغيره ، ويترجح بحمل اللفظ على ظاهره من العموم.
ولما كان أولاً السؤال عن خاص ، أجيبوا بخاص ، ثم أتى بعد ذلك الخاص التعميم في أفعال الخير ، وذكر المجازاة على فعلها ، وفي قوله : { فإن الله به عليم } دلالة على المجازاة ، لأنه إذا كان عالماً به جازى عليه ، فهي جملة خبرية ، وتتضمن الوعد بالمجازاة.
{ كتب عليكم القتال } قال ابن عباس : لما فرض الله الجهاد على المسلمين ، شق عليهم ، وكرهوا ، فنزلت هذه الآية.
وظاهر قوله : كتب ، أنه فرض على الأعيان ، كقوله : { كتب عليكم الصيام } { كتب عليكم القصاص } { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } وبه قال عطاء ، قال : فرض القتال على أعيان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما استقرّ الشرع ، وقيم به ، صار على الكفاية.
وقال الجمهور : أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين ، ثم استمرّ الإجماع على أنه فرض كفاية إلى أن نزل بساحة الإسلام ، فيكون فرض عين.
وحكى المهدوي ، وغيره عن الثوري أنه قال : الجهاد تطوّع ، ويحمل على سؤال سائل ، وقد قيم بالجهاد ، فأجيب بأنه في حقه تطوّع.
وقرأ الجمهور : كتب ، مبنياً للمفعول على النمط الذي تقدّم قبل هذا من لفظ : كتب ، وقرأ قوم : كتب مبنياً للفاعل ، وبنصب القتال ، والفاعل ضمير في كتب يعود على اسم الله تعالى.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه : لما ذكر ما مس من تقدمنا من اتباع الرسل من البلايا ، وأن دخول الجنة معروف بالصبر على ما يبتلى به المكلف ، ثم ذكر الإنفاق على من ذكر ، فهو جهاد النفس بالمال ، انتقل إلى أعلى منه وهو الجهاد الذي يستقيم به الدين ، وفيه الصبر على بذل المال والنفس.
{ وهو كره لكم } أي مكروه ، فهو من باب النقض بمنى المنقوض ، أو ذو كره إذا أريد به المصدر ، فهو على حذف مضاف ، أو لمبالغة الناس في كراهة القتال ، جعل نفس الكراهة.
والظاهر عود : هو ، على القتال ، ويحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من : كتب ، أي : وكتبه وفرضه شاق عليكم ، والجملة حال ، أي : وهو مكروه لكم بالطبيعة ، أو مكروه قبل ورود الأمر.
وقرأ السلمي : كره بفتح الكاف ، وقد تقدّم ذكر مدلول الكره في الكلام على المفردات.

وقال الزمخشري في توجيه قراءة السلمي : يجوز أن يكون بمعنى المضموم : كالضعف والضعف ، تريد المصدر ، قال : ويجوز أن يكون بمعنى الإكراه على سبيل المجاز ، كأنهم أكرهوا عليه لشدّة كراهته له ومشقته عليهم ، ومنه قوله تعالى : { حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً } انتهى كلامه.
وكون كره بمعنى الإكراه ، وهو أن يكون الثلاثي مصدراً للرباعي هو لا ينقاس ، فإن روي استعمال عن العرب استعملناه.
{ وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم }.
عسى هنا للاشفاق لا للترجي ، ومجيئها للإشفاق قليل ، وهي هنا تامة لا تحتاج إلى خبر ، ولو كانت ناقصة لكانت مثل قوله تعالى : { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا } فقوله : أن تكرهوا ، في موضع رفع بعسى ، وزعم الحوفي في أنه في موضع نصب ، ولا يمكن إلاَّ بتكلف بعيد ، واندرج في قوله : شيئاً القتال ، لأنه مكروه بالطبع لما فيه من التعرض للأسر والقتل ، وإفناء الأبدان ، وإتلاف الأموال.
والخير الذي فيه هو الظفر.
والغنيمة بالاستيلاء على النفوس ، والأموال أسراً وقتلاً ونهباً وفتحاً ، وأعظمها الشهادة وهي الحالة التي تمناها رسول الله صلى الله عليه وسلم مراراً.
والجملة من قوله : وهو خير لكم ، حال من قوله : شيئاً ، وهو نكرة ، والحال من النكرة أقل من الحال من المعرفة ، وجوّزوا أن تكون الجملة في موضع الصفة ، قالوا : وساغ دخول الواو لما كانت صورة الجملة هنا كصورتها ، إذ كانت حالاً. انتهى.
وهو ضعيف ، لأن الواو في النعوت إنما تكون للعطف في نحو : مررت برجل عالم وكريم ، وهنا لم يتقدم ما يعطف عليه ، ودعوى زيادة الواو بعيدة ، فلا يجوز أن تقع الجملة صفة.
{ وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم } عسى هنا للترجي ، ومجيئها له هو الكثير في لسان العرب ، وقالوا : كل عسى في القرآن للتحقيق ، يعنون به الوقوع إلاَّ قوله تعالى : { عسى ربه إن طلقكنّ أن يبدله أزواجاً } واندرج في قوله : شيئاً ، الخلود إلى الراحة وترك القتال ، لأن ذلك محبوب بالطبع لما في ذلك من ضد ما قد يتوقع من الشر في القتال ، والشر الذي فيه هو ذلهم ، وضعف أمرهم ، واستئصال شأفتهم ، وسبى ذراريهم ، ونهب أموالهم ، وملك بلادهم.
والكلام على هذه إعراباً ، كالكلام على التي قبلها.
{ والله يعلم } ما فيه المصلحة حيث كلفكم القتال { وأنتم لا تعلمون } ما يعلمه الله تعالى ، لأن عواقب الأمور مغيبة عن علمكم ، وفي هذا الكلام تنبيه على الرضى بما جرت به المقادير ، قال الحسن : لا تكرهوا الملمات الواقعة ، فلرب أمر تكرهه فيه أربك ، ولرب أمر تحبه فيه عطبك.
وقال أبو سعيد الضرير :
رب أمر تتقيه . . .
جر أمراً ترتضيه
خفى المحبوب منه . . .
وبدا المكروه فيه
وقال الوضاحي :
ربما خير الفتى . . .
وهو للخير كاره
وقال ابن السرحان :

كم فرحة مطوية . . .
لك بين أثناء المصائب
ومسرة قد أقبلت . . .
من حيث تنتظر النوائب
وقال آخر :
كم مرة حفت بك المكاره . . .
خار لك الله وأنت كاره
{ يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه } ؟ طوّل المفسرون في ذكر سبب نزول هذه الآية في عدّة أوراق ، وملخصها وأشهرها : أنها نزلت في قصة عبد الله بن جحش الأسدي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمانية معه : سعد بن أبي وقاص ، وعكاشة بن محيصن ، وعقبة بن غزوان ، وأبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وسهيل بن بيضاء ، وعامر بن ربيعة ، ووافد بن عبد الله ، وخال بن بكير ، وأميرهم عبد الله يترصدون عير قريش ببطن نخلة ، فوصلوها ، ومرت العير فيها عمرو بن الحضرمي ، والحكم بن كيسان ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، ونوفل بن عبد الله ، وكان ذلك في آخر يوم من جمادى على ظنهم ، وهو أوّل يوم من رجب ، فرمى وافد عمراً بسهم فقتله ، وكان أول قتيل من المشركين ، وأسروا الحكم ، وعثمان ، وكانا أوّل أسيرين في الإسلام ، وأفلت نوفل ، وقدموا بالعير المدينة ، فقالت قريش : استحل محمد الشهر الحرام ، وأكثر الناس في ذلك ، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم العير ، وقال أصحاب السرية : ما نبرح حتى تنزل توبتنا ، فنزلت الآية ، فخمَّس العيرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فكان أوّل خمس في الإسلام.
، فوجهت قريش في فداء الأسيرين فقيل : حتى يقدم سعد وعتبة ، وكانا قد أضلا بعيراً لهما قبل لقاء العير فخرجا في طلبه ، فقدما ، وفودي الأسيران.
فأما الحكم فأسلم وأقام بالمدينة وقتل شهيداً ببئر معونة ، وأما عثمان فمات بمكة كافراً ، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين ، فوقع بالخندق مع فرسه ، فتحطما وقتلهما الله.
وفي هذه القصة اختلاف في مواضع ، وقد لخصّ السخاوندي هذا السبب فقال : نزلت في أول سرية الإسلام أميرهم عبد الله بن جحش ، أغاروا على عير لقريش قافلة من الطائف وقتلوا عمرو بن الحضرمي آخر يوم من جمادى الآخرة ، فاشتبه بأول رجب ، فعيرهم أهل مكة باستحلاله.
وقيل : نزلت حين عاب المشركون القتال في شهر حرام عام الفتح ، وقيل : نزلت في قتل عمرو بن أمية الضمري رجلين من كلاب كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وعمرو يعلم بذلك ، وكان في أول يوم من رجب ، فقالت قريش : قتلهما في الشهر الحرام ، فنزلت.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما فرض القتال لم يخصّ بزمان دون زمان ، وكان من العوائد السابقة أن الشهر الحرام لا يستباح فيه القتال ، فبين حكم القتال في الشهر الحرام.
وسيأتي معنى قوله { قل قتال فيه كبير } كما جاء : { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } وجاء بعده : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام }

ذلك التخصيص في المكان ، وهذا في الزمان.
وضمير الفاعل في يسألونك ، قيل : يعود على المشركين ، سألوا تعييباً لهتك حرمة الشهداء ، وقصداً للفتك ، وقيل : يعود على المؤمنين ، سألوا استعظاماً لما صدر من ابن جحش واستيضاحاً للحكم.
والشهر الحرام ، هنا هو رجب بلا خلاف ، هكذا قالوا ، وذلك على أن تكون الألف واللام فيه للعهد ، ويحتمل أن تكون للجنس ، فيراد به الأشهر الحرام وهي : ذو القعدة ، ذو الحجة ، والمحرم ورجب.
وسميت حرماً لتحريم القتال فيها ، وتقدّم شيء من هذا في قوله : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } وقرأ الجمهور : قتال فيه ، بالكسر وهو بدل من الشهر ، بدل اشتمال.
وقال الكسائي : هو مخفوض على التكرير ، وهو معنى قول الفراء ، لأنه قال : مخفوض بعن مضمرة ، ولا يجعل هذا خلافاً كما يجعله بعضهم ، لإن قول البصريين إن البدل على نية تكرار العامل هو قول الكسائي ، والفراء.
لا فرق بين هذه الأقوال ، هي كلها ترجع لمعنى واحد.
وقال أبو عبيدة : قتال فيه ، خفض على الجوار ، قال ابن عطية : هذا خطأ. انتهى.
فإن كان أبو عبيدة عنى الخفض على الجوار الذي اصطلح عليه النحاة ، فهو كما قال ابن عطية : وجه الخطاً فيه هو أن يكون تابعاً لما قبله في رفع أو نصب من حيث اللفظ والمعنى ، فيعدل به عن ذلك الإعراب إلى إعراب الخفض لمجاورته لمخفوض لا يكون له تابعاً من حيث المعنى ، وهنا لم يتقدّم لا مرفوع ، ولا منصوب ، فيكون : قتال ، تابعاً له ، فيعدل به عن إعرابه إلى الخفض على الجوار ، وإن كان أبو عبيدة عنى الخفض على الجوار أنه تابع لمخفوض ، فخفضه بكونه جاور مخفوضاً أي : صار تابعاً له ، ولا نعني به المصطلح عليه ، جاز ذلك ولم يكن خطأ ، وكان موافقاً لقول الجمهور ، إلاَّ أنه أغمض في العبارة ، وألبس في المصطلح.
وقرأ ابن عباس ، والربيع ، والأعمش : عن قتال فيه ، بإظهار : عن ، وهكذا هو في مصحف عبد الله.
وقرئ شاذاً : قتال فيه ، بالرفع ، وقرأ عكرمة : قتل فيه قل قتل فيه ، بغير ألف فيهما.
ووجه الرفع في قراءة : قتال فيه ، أنه على تقدير الهمزة فهو مبتدأ ، وسوغ جواز الإبتداء فيه ، وهو نكرة ، لنية همزة الاستفهام ، وهذه الجملة المستفهم عنها هي في موضع البدل من : الشهر الحرام ، لأن : سأل ، قد أخذ مفعوليه ، فلا يكون في موضع المفعول ، وإن كانت هي محط السؤال ، وزعم بعضهم أنه مرفوع على إضمار اسم فاعل تقديره : أجائز قتال فيه؟ قيل : ونظير هذا ، لأن السائلين لم يسألوا عن كينونة القتال في الشهر الحرام ، إنما سألوا : أيجوز القتال في الشهر الحرام؟ فهم سألوا عن مشروعيته لا عن كينونته فيه.
{ قل قتال فيه كبير } هذه الجملة مبتدأ وخبر ، و : قتال ، نكرة ، وسوغ الابتداء بها كونها وصفت بالجار والمجرور ، وهكذا قالوا ، ويجوز أن يكون : فيه ، معمولاً لقتال ، فلا يكون في موضع الصفة ، وتقييد النكرة بالمعمول مسوغ أيضاً لجواز الابتداء بالنكرة ، وحدّ الاسم إذا تقدّم نكرة ، وكان إياها ، أن يعود معرفاً بالألف واللام ، تقول : لقيت رجلاً فضربت الرجل ، كما قال تعالى :

{ كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول } قيل : وإنما لم يعد بالألف واللام هنا لأنه ليس المراد تعظيم القتال المذكور المسئول عنه.
حتى يعاد بالألف واللام ، بل المراد تعظيم : أي قتال كان في الشهر الحرام ، فعلى هذا : قتال الثاني ، غير الأوّل انتهى.
وليست الألف واللام تفيد التعظيم في الاسم ، إذ كانت النكرة السابقة ، بل هي فيه للعهد السابق ، وقيل : في ( المنتخب ) : إنما نكر فيهما لأن النكرة الثانية هي غير الأولى ، وذلك أنهم أرادوا بالأول الذي سألوا عنه ، فقال عبد الله بن جحش ، وكان لنصرة الإسلام وإذلال الكفر ، فلا يكون هذا من الكبائر ، بل الذي يكون كبيراً هو قتال غير هذا ، وهو ما كان الفرض فيه هدم الإسلام وتقوية الكفر ، فاختير التنكير في اللفظين لأجل هذه الدقيقة ، ولو وقع التعبير عنهما ، أو عن أحدهما ، بلفظ التعريف لبطلت هذه الفائدة. انتهى.
واتفق الجمهور على أن حكم هذه الآية حرمة القتال في الشهر الحرام ، إذ المعنى : قل قتال فيه لهم كبير ، فقال ابن عباس ، وقتادة ، وابن المسيب ، والضحاك ، والأوزاعي : إنها منسوخة بآية السيف : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } إذ يلزم من عموم المكان عموم الزمان.
وقيل : هي منسوخة بقوله : { وقاتلوا المشركين كافة } وإلى هذا ذهب الزهري ، ومجاهد ، وغيرهما.
وقيل : نسخهما غزو النبي صلى الله عليه وسلم ثقيفاً في الشهر الحرام ، وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام.
وقيل : نسخها بيعة الرضوان والقتال في ذي القعدة ، وضعف هذا القول بأن تلك البيعة كانت على الدفع لا على الابتداء بالقتال.
وقال عطاء لم تنسخ ، وحلف بالله ما يحل للناس أن يغزو في الحرم ، ولا في الشهر الحرام إلاّ أن يقاتلوا فيه ، وروي هذا القول عن مجاهد أيضاً؟ وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يغزو في الأشهر الحرم إلاَّ أن يغزى ، وذلك قوله : قل قتال فيه كبير.
ورجح كونها محكمة بهذا الحديث ، وبما رواه ابن وهب ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ودى ابن الحضرمي ، ورد الغنيمة والاسيرين ، وبأن الآيات التي وردت بعدها عامة في الأزمنة وهذا خاص ، والعام لا ينسخ الخاص باتفاق.
{ وصدّ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام واخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل } هذة جملة من مبتدأ وخبر معطوفة على قوله تعالى : فيه كبير ، وكلا الجملتين مقولة ، أي : قل لهم قتال في الشهر الحرام إثم كبير ، وقل لهم : صدّ عن كذا إلى آخره ، أكبر من القتال ، ويحتمل أن يكون مقطوعاً من القول ، بل إخبار مجرد عن أن الصدّ عن سبيل الله ، وكذا وكذا ، أكبر ، والمعنى : أنكم يا كفار قريش تستعظمون منا القتال في الشهر الحرام ، وما تفعلون أنتم : من الصدّ عن سبيل الله لمن أراد الإسلام ، ومن كفركم بالله ، واخراجكم أهل المسجد منه كما فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، أكبر جرماً عند الله مما فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام ، على سبيل البناء على الظن.

وتقدّم لنا أن هذه الجملة من مبتدأ وخبر ، فالمبتدأ : صدّ ، وهو نكرة مقيدة بالجار والمجرور ، فساغ الإبتداء ، وهو مصدر محذوف فاعله ومفعوله للعلم بهما ، أي : وصدّكم المسلمين عن سبيل الله.
وسبيل الله : الإسلام.
قاله مقاتل ، أو : الحج ، لأنهم صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة قاله ابن عباس ، والسدّي عن أشياخه ، أو : الهجرة ، صدّوا المسلمين عنها.
و : كفر به ، معطوف على : وصدّ ، وهو أيضاً مصدر لازم حذف فاعله ، تقديره : وكفركم به ، والضمير في : به ، يعود على السبيل لأنه هو المحدّث عنه بأنه صدّ عنه ، والمعنى : وكفر بسبيل الله ، وهو دين الله وشريعته ، وقيل : يعود الضمير في : به ، على الله تعالى ، قاله الحوفي.
والمسجد الحرام : هو الكعبة ، وقرىء شاذاً والمسجدُ الحرام بالرفع ، ووجهه أنه عطفه على قوله : وكفر به ، ويكون على حذف مضاف ، أي : وكفر بالمسجد الحرام ، ثم حذف الباء وأضاف الكفر إلى المسجد ، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، فيؤول إلى معنى قراءة الجمهور من خفض المسجد الحرام على أحسن التأويلات التي نذكرها ، فنقول : اختلفوا فيما عطف عليه والمسجد ، فقال ابن عطية ، والزمخشري ، وتبعا في ذلك المبرد : هو معطوف على : سبيل الله ، قال ابن عطية : وهذا هو الصحيح ، ورد هذا القول بأنه إذا كان معطوفاً على : سبيل الله ، كان متعلقاً بقوله : وصدّ إذ التقدير : وصدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام ، فهو من تمام عمل المصدر ، وقد فصل بينهما بقوله : وكفر به ، ولا يجوز أن يفصل بين الصلة والموصول ، وقيل : معطوف على الشهر الحرام ، وضعف هذا بأن القوم لم يسألوا عن الشهر الحرام ، إذ لم يشكوا في تعظيمه ، وإنما سألوا عن القتال في الشهر الحرام ، لأنه وقع منهم ولم يشعروا بدخوله ، فخافوا من الإثم.
وكان المشركون عيروهم بذلك ، انتهى ، ما ضعف به هذا القول ، وعلى هذا التخريج يكون السؤال عن شيئين : أحدهما : عن قتال في الشهر الحرام ، والآخر : عن المسجد الحرام والمعطوف على الشهر الحرام ، والشهر الحرام لم يسأل عنه لذاته ، إنما سئل عن القتال فيه ، فكذلك المعطوف عليه يكون السؤال عن القتال فيه ، فيصير المعنى : يسألونك عن قتال في الشهر الحرام ، وفي المسجد الحرام ، فأجيبوا : بأن القتال في الشهر الحرام كبير ، وصد عن سبيل الله ، وكفر به ، ويكون : وصد عن سبيل الله ، على هذا ، معطوفاً على قوله : كبير ، أي : القتال في الشهر الحرام أخبر عنه بأنه إثم كبير ، وبأنه صد عن سبيل الله وكفر به.

ويحتمل أن يكون : وصد ، مبتدأ وخبره محذوف لدلالة خبر : قتال ، عليه ، التقدير : وصد عن سبيل الله وكفر به كبير ، كما تقول : زيد قائم وعمرو ، أي : وعمرو قائم ، وأجيبوا بأن : القتال في المسجد الحرام إخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال فيه ، وكونه معطوفاً على الشهر الحرام متكلف جداً ، ويبعد عنه نظم القرآن ، والتركيب الفصيح ، ويتعلق كما قيل بفعل محذوف دل عليه المصدر ، تقديره : ويصدون عن المسجد الحرام ، كما قال تعالى : { هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام } قال بعضهم : وهذا هو الجيد ، يعني من التخاريج التي يخرج عليه ، والمسجد الحرام وما ذهب إليه غير جيد ، لأن فيه الجر بإضمار حرف الجر ، وهو لا يجوز في مثل هذا إلاَّ في الضرورة ، نحو قوله :
أشارت كليب بالأكف الأصابع . . .
أي : إلى كليب ، وقيل : هو معطوف على الضمير في قوله : وكفر به ، أي : وبالمسجد الحرام ، قاله الفراء ، ورد بأن هذا لا يجوز إلاَّ بإعادة الجار ، وذلك على مذهب البصريين.
ونقول : العطف المضمر المجرور فيه مذاهب :
أحدها : أنه لا يجوز إلاَّ بإعادة الجار إلاَّ في الضرورة ، فإنه يجوز بغير إعادة الجار فيها ، وهذا مذهب جمهور البصريين.
الثاني : أنه يجوز ذلك في الكلام ، وهو مذهب الكوفيين ، ويونس ، وأبي الحسن ، والأستاذ أبي علي الشلوبين.
الثالث : أنه يجوز ذلك في الكلام إن أكد الضمير ، وإلاَّ لم يجز في الكلام ، نحو : مررت بك نفسك وزيد ، وهذا مذهب الجرمي.
والذي نختاره أن يجوز ذلك في الكلام مطلقاً ، لأن السماع يعضده ، والقياس يقويه.
أما السماع فما روي من قول العرب : ما فيها غيره وفرسه ، بجر الفرس عطفاً على الضمير في غيره ، والتقدير : ما فيها غيره وغير فرسه ، والقراءة الثانية في السبعة : { تساءلون به والأرحام } أي : وبالأرحام وتأويلها على غير العطف على الضمير ، مما يخرج الكلام عن الفصاحة ، فلا يلتفت إلى التأويل.
قرأها كذلك ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والنخعي ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش ، وأبو رزين ، وحمزة.
ومن ادعى اللحن فيها أو الغلط على حمزة فقد كذب ، وقد ورد من ذلك في أشعار العرب كثير يخرج عن أن يجعل ذلك ضرورة ، فمنه قول الشاعر :
نعلق في مثل السواري سيوفنا . . .
فما بينها والأرض غوط نفانف
وقال آخر :
هلا سألت بذي الجماجم عنهم . . .
وأبي نعيم ذي اللواء المحرق
وقال آخر :
بنا أبداً لا غيرنا يدرك المنى . . .
وتكشف غماء الخطوب الفوادح
وقال آخر :
إذا أوقدوا ناراً لحرب عدوهم . . .
فقد خاب من يصلى بها وسعيرها
وقال آخر :
لو كان لي وزهير ثالث وردت . . .
من الحمام عدانا شر مورود

وقال رجل من طيء :
إذا بنا ، بل أنيسان ، اتَّقت فئة . . .
ظلت مؤمنة ممن تعاديها
وقال العباس بن مرداس :
أكر على الكتيبة لا أبالي . . .
أحتفي كان فيها أم سواها
وأنشد سيبويه رحمه الله :
فاليوم قد بت تهجونا وتشمتنا . . .
فاذهب فما بك والأيام من عجب
وقال آخر :
أبك آية بي أو مصدّر . . .
من حمر الجلة جأب جسور
فأنت ترى هذا السماع وكثرته ، وتصرّف العرب في حرف العطف ، فتارة عطفت بالواو ، وتارة بأو ، وتارة ببل ، وتارة بأم ، وتارة بلا ، وكل هذا التصرف يدل على الجواز ، وإن كان الأكثر أن يعاد الجار كقوله ، تعالى : { وعليها وعلى الفلك تحملون } { فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً } { قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب } وقد خرج على العطف بغير إعادة الجار قوله : { ومن لستم له برازقين } عطفاً على قوله : { لكم فيها معايش } أي : ولمن.
وقوله : { وما يتلى عليكم } عطفاً على الضمير في قوله : فيهنّ ، أي : وفيما يتلى عليكم.
وأما القياس فهو أنه كما يجوز أن يبدل منه ويؤكد من غير إعادة جار ، كذلك يجوز أن يعطف عليه من غير إعادة جار ، ومن احتج للمنع بأن الضمير كالتنوين ، فكان ينبغي أن لا يجوز العطف عليه إلاَّ مع الإعادة لأن التنوين لا يعطف عليه بوجه ، وإذا تقرّر أن العطف بغير إعادة الجار ثابت من كلام العرب في نثرها ونظمها ، كأن يخرج عطف : والمسجد الحرام ، على الضمير في : به ، أرجح ، بل هو متعين ، لأن وصف الكلام ، وفصاحة التركيب تقتضي ذلك.
وإخراج أهله ، معطوف على المصدر قبله ، وهو مصدر مضاف للمفعول ، التقدير : وإخراجكم أهله ، والضمير في : أهله ، عائد على : المسجد الحرام ، وجعل ، المؤمنين أهله لأنهم القائمون بحقوقه ، أو لأنهم يصيرون أهله في العاقبة ، ولم يجعل المقيمين من الكفار بمكة أهله لأن بقاءهم عارض يزول ، كما قال تعالى : { وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلاَّ المتقون } و : منه ، متعلق بإخراج ، والضمير في : منه ، عائد على المسجد الحرام ، وقيل : عائد على : سبيل الله ، وهو الإسلام ، والأول أظهر.
و : أكبر ، خبر عن المبتدأ الذي هو : وصد ، وما عطف عليه ، ويحتمل أن يكون خبراً عن المجموع ، ويحتمل أن يكون خبراً عنها باعتبار كل واحد واحد ، كما تقول : زيد وعمرو وبكر أفضل من خالد ، نزيد : كل واحد منهم أفضل من خالد ، وهذا هو الظاهر لا المجموع ، وإفراد الخبر لأنه أفعل تفضيل مستعمل : بمن ، الداخلة على المفضول في التقدير ، وتقديره : أكبر من القتال في الشهر الحرام ، فحذف للعلم به.
وقيل : وصد مبتدأ.
و : كفر ، معطوف عليه ، وخبرهما محذوف لدلالة خبر : وإخراج ، عليه.
والتقدير : وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام أكبر ، ولا يحتاج إلى هذا التقدير لأنا قد بينا كون : أكبر ، خبراً عن الثلاثة.

وعند الله ، منصوب بأكبر ، ولا يراد : بعند ، المكان بل ذلك مجاز.
وذكر ابن عطية ، والسجاوندي عن الفراء أنه قال : وصد عطف على كبير ، قال ابن عطية : وذلك خطأ ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله : وكفر به ، عطف أيضاً على كبير ، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله ، وهذا بيِّن فساده.
انتهى كلام ابن عطية ، وليس كما ذكر ، ولا يتعين ما قاله من أن : وكفر به ، عطف على كبير ، إذ يحتمل أن يكون الكلام قد تم عند قوله : وصد عن سبيل الله ، ويكون قد أخبر عن القتال في الشهر الحرام بخبرين.
أحدهما : أنه كبير ، والثاني : أنه صد عن سبيل الله ، ثم ابتدأ فقال : والكفر بالله ، وبالمسجد الحرام ، وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال الذي هو كبير ، وهو صد عن سبيل الله.
وهذا معنى سائغ حسن ، ولا شك أن الكفر بالله وما عطف عليه أكبر من القتال المذكور.
وقوله : ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله ، وهذا بين فساده ، ليس بكلام مخلص ، لأنه لا يجيء منه ما ذكر إلاَّ بتكلف بعيد ، بل يجيء منه أن إخراج أهل المسجد منه أكبر عند الله من القتال المخبر عنه بأنه كبير ، وبأنه صد عن سبيل الله ، فالمحكوم عليه بالأكبرية هو الإخراج ، والمفضول فيها هو القتال لا الكفر والفتنة ، أي : الكفر والشرك ، قاله ابن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة وغيرهم.
أو التعذيب الحاصل للمؤمنين ليرجعوا عن الإسلام ، فهي أكبر حرماً من القتل ، والمعنى عند جمهور المفسرين أن الفتنة التي كانت تفتن المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا ، أشد اجتراماً من قتلهم إياكم في المسجد الحرام ، وقيل : المعنى : والفتنة أشد من أن لو قتلوا ذلك المفتون ، أي فعلكم بكل إنسان ، أشد من فعلنا ، لأن الفتنة ألم متجدد ، والقتل ألم منقض.
ومن فسر الفتنة بالكفر كان المعنى عنده : وكفركم أشد من قتلنا أولئك ، وصرح هنا بالمفضول ، وهو قوله : من القتل ، ولم يحذف.
لأنه لا دليل على حذفه ، بخلاف قوله : أكبر عند الله ، فإنه تقدم ذكر المفضول عليه ، وهو : القتال ، وقال عبد الله بن جحش في هذه القصة شعراً :
تعدون قتلا في الحرام عظيمة . . .
وأعظم منها لو يرى الرشد راشد
صدودكم عما يقول محمد . . .
وكفر به والله راء وشاهد
وإخراجكم من مسجد الله رحله . . .
لئلا يرى لله في البيت ساجد
فإنا ، وإن عيرتمونا بقتلة . . .
وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا . . .
بنخلة لما أوقد الحرب واقد
دماً ، وابن عبد الله عثمان بيننا . . .
ينازعه غل من القد عاند
{ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم ان استطاعوا } الضمير في : يزالون ، للكفار ، وهذا يدل على أن الضمير المرفوع في قوله : يسألونك ، هو الكفار ، والضمير المنصوب في : يقاتلونكم ، خوطب به المؤمنون ، وانتقل عن خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خطاب المؤمنين ، وهذا إخبار من الله للمؤمنين بفرط عداوة الكفار ، ومباينتهم لهم ، ودوام تلك العداوة ، وأن قتالهم إياكم معلق بإمكان ذلك منهم لكم ، وقدرتهم على ذلك.

و : حتى يردوكم ، يحتمل الغاية ، ويحتمل التعليل ، وعليهما حملها أبو البقاء وهي متعلقة في الوجهين : بيقاتلونكم ، وقال ابن عطية : ويردوكم ، نصب بحتى لأنها غاية مجردة ، وقال الزمخشري : وحتى ، معناها التعليل ، كقولك : فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة ، أي : يقاتلونكم كي يردوكم. انتهى.
وتخريج الزمخشري أمكن من حيث المعنى ، إذ يكون الفعل الصادر منهم المنافي للمؤمنين ، وهو : المقاتلة ، ذكر لها علة توجيهاً ، فالزمان مستغرق للفعل ما دامت علة الفعل ، وذلك بخلاف الغاية ، فإنها تقييد في الفعل دون ذكر الحامل عليه ، فزمان وجوده مقيد بغايته ، وزمان وجود الفعل المعلل مقيد بوجود علة ، وفرق في القوة بين المقيد بالغاية والمقيد بالعلة لما في التقييد بالعلة من ذكر الحامل وعدم ذلك في التقييد بالغاية.
و : عن دينكم ، متعلق : بيردوكم ، والدين هنا الإسلام ، و : إن استطاعوا ، شرط جوابه محذوف يدل عليه ما قبله ، التقدير : إن استطاعوا فلا يزالون يقاتلونكم ، ومن جوّز تقديم جواب الشرط ، قال : ولا يزالون ، هو الجواب.
وقال الزمخشري : إن استطاعوا ، استبعاد لاستطاعتهم ، كقول الرجل لعدوه : إن ظفرت بي قلا تبقِ عليّ ، وهو واثق بأنه لا يظفر به.
انتهى قوله : ولا بأس به.
{ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } ارتد : افتعل من الرد ، وهو الرجوع ، كما قال تعالى : { فارتدا على آثارهما قصصاً } وقد عدّها بعضهم فيما يتعدّى إلى اثنين ، إذا كانت عنده ، بمعنى : صير وجعل ، من ذلك قوله : { فارتد بصيراً } أي : صار بصيراً ، ولم يختلف هنا في فك المثلين ، والفك هو لغة الحجاز ، وجاء افتعل هنا بمعنى التعمل والتكسب.
لأنه متكلف ، إذ من باشر دين الحق يبعد أن يرجع عنه ، فلذلك جاء افتعل هنا ، وهذا المعنى ، وهو التعمل والتكسب ، هو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل.
و : منكم ، في موضع الحال من الضمير المستكن في : يرتدد ، العائد على : من ، و : من ، للتبعيض ، و : عن دينه ، متعلق بيرتدد ، والدين : هنا هو الإسلام ، لأن الخطاب مع المسلمين ، والمرتد إليه هو دين الكفر ، بدليل أن ضد الحق الباطل ، وبقوله : { فيمت وهو كافر } وهذان شرطان أحدهما معطوف على الآخر بالفاء المشعرة بتعقيب الموت على الكفر بعد الردة واتصاله بها ، ورتب عليه حبوط العمل في الدنيا والآخرة.
وهو حبطه في الدنيا باستحقاق قبله ، وإلحاقه في الأحكام بالكفار ، وفي الآخرة بما يؤول إليه من العقاب السرمدي ، وقيل : حبوط أعمالهم في الدنيا هو عدم بلوغهم ما يريدون بالمسلمين من الإضرار بهم ومكايدتهم ، فلا يحصلون من ذلك على شيء ، لأن الله قد أعزّ دينه بأنصاره.

وظاهر هذا الشرط والجزاء ترتب حبوط العمل على الموافاة على الكفر ، لا على مجرد الارتداد ، وهذا مذهب جماعة من العلماء ، منهم : الشافعي ، وقد جاء ترتب حبوط العمل على مجرد الكفر في قوله : { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } { والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم } { لئن أشركت ليحبطنّ عملك } والخطاب في المعنى لأمته ، وإلى هذا ذهب مالك ، وأبو حنيفة ، وغيرهما ، يعني : أنه يحبط علمه بنفس الردة دون الموافاة عليها ، وإن راجع الإسلام ، وثمرة الخلاف تظهر في المسلم إذا حج ، ثم ارتد ، ثم أسلم ، فقال مالك : يلزمه الحج ، وقال الشافعي : لا يلزمه الحج.
ويقول الشافعي : اجتمع مطلق ومقيد ، فتقيد المطلق ، ويقول غيره : هما شرطان ترتب عليهما شيئان ، أحد الشرطين : الإرتداد ، ترتب عليه حبوط العمل ، الشرط الثاني : الموافاة على الكفر ، ترتب عليها الخلود في النار.
والجملة من قوله : وهو كافر ، في موضع الحال من الضمير المستكن في : فيمت ، وكأنها حال مؤكدة ، لأنه لو استغنى عنها فهم معناها ، لأن ما قبلها يشعر بالتعقيب للارتداد.
وكون الحال جاء جملة فيها مبالغة في التأكيد ، إذ تكرر الضمير فيها مرتين ، بخلاف المفرد ، فإنه فيه ضمير واحد.
وتعرض المفسرون هنا لحكم المرتد ، ولم تتعرض الآية إلاَّ لحبوط العمل ، وقد ذكرنا الخلاف فيه هل يشترط فيه الموافاة على الكفر أم يحبط بمجرد الردة؟ وأما حكمه بالنسبة إلى القتل ، فذهب النخعي والثوري : إلى أنه يستتاب محبوساً أبداً ، وذهب طاووس ، وعبيد بن عمير ، والحسن ، على خلاف عنه ، وعبد العزيز بن أبي سلمة ، والشافعي : في أحد قوليه ، إلى أنه يقتل من غير استتابة.
وروي نحو هذا عن أبي موسى ، ومعاذ ، وقال جماعة من أهل العلم : يستتاب ، وهل يستتاب في الوقت؟ أو في ساعة واحدة؟ أو شهر؟ روي هذا عن علي ، أو ثلاثة أيام؟ وروي عن عمر ، وعثمان ، وهو قول مالك فيما رواه ابن القاسم ، وقول أحمد ، وإسحاق ، والشافعي ، في أحد قوليه ، وأصحاب الرأي : أو مائة مرة؟ وهو قول الحسن.
وقال عطاء : إن كان ابن مسلمين قتل دون استتابة ، وإن كان أسلم ثم ارتد أستتيب.
وقال الزهري : يدعى إلى الإسلام ، فإن تاب وإلاَّ قتل.
وقال أبو حنيفة : يعرض عليه الإسلام ، فإن أسلم وإلاَّ قتل مكانه إلاَّ أن يطلب أن يؤجل ، فيؤجل ثلاثة أيام.
والمشهور عنه ، وعن أصحابه ، أنه لا يقتل حتى يستتاب.
والزنديق عندهم والمرتد سواء.
وقال مالك : تقتل الزنادقة من غير استتابة ، ولو ارتد ثم راجع ثم ارتد ، فحكمه في الردة الثانية أو الثالثة أو الرابعة كالأولى ، وإذا راجع في الرابعة ضرب وخلي سبيله ، وقيل : يحبس حتى يرى أثر التوبة والإِخلاص عليه ، ولو انتقل الكافر من كفر إلى كفر ، فالجمهور على أنه لا يقتل.

وذكر المزني ، والربيع ، عن الشافعي : أن المبدل لدينه من أهل الذّمة يلحقه الإِمام بأرض الحرب ، ويخرجه من بلده ، ويستحل ماله مع أموال الحربيين إن غلب على الدار ، هذا حكم الرجل.
وأما المرأة إذا ارتدّت فقال مالك ، والأوزاعي ، والليث ، والشافعي : تقتل كالرجل سواء ، وقال عطاء ، والحسن ، والثوري ، وأبو حنيفة وأصحابه ، وابن شبرمة ، وابن عطية لا تقتل.
وروي ذلك عن علي وابن عباس.
وأمّا ميراثه ، فأجمعوا على أن أقرباءه من الكفار لا يرثونه إلاَّ ما نقل عن قتادة ، وعمر بن عبد العزيز ، أنهم يرثونه ، وقد روي عن عمر خلاف هذا ، وقال علي ، والحسن ، والشعبي ، والحكم ، والليث ، وأبو حنيفة في أحد قوليه ، وابن راهويه : يرثه أقرباؤه المسلمون.
وقال مالك ، وربيعة ، وابن أبي ليلى ، والشافعي ، وأبو ثور : ميراثه في بيت المال ، وقال ابن شبرمة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، والأوزاعي في إحدى الروايتين : ما اكتسبه بعد الردة لورثته المسلمين.
وقال أبو حنيفة ، ما اكتسبه في حالة الإِسلام قبل الردة لورثته المسلمين.
وقرأ الحسن : حبطت بفتح الباء ، وهما لغتان ، وكذا قرأها أبو السماك في جميع القرآن ، وقوله : { فأولئك حبطت أعمالهم } أتى باسم الإشارة وهو يدل على من اتصف بالأوصاف السابقة ، وأتى به مجموعاً حملاً على معنى : من ، لأنه أولاً حمل على اللفظ في قوله : { يرتدد فيمت وهو كافر } وإذا جمعت بين الحملين ، فالأصح أن تبدأ أولاً بالحمل على اللفظ ، ثم بالحمل على المعنى.
وعلى هذا الأفصح جاءت هذه الآية { وفي الدنيا } متعلق بقوله : { حبطت }.
{ وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } تقدّم تفسير هذه الجملة ، فأغنى عن إعادته ، وهذه الجملة يحتمل أن تكون ابتداء إخبار من الله تعالى بخلود هؤلاء في النار ، فلا تكون داخلة في الجزاء وتكون معطوفة على الجملة الشرطية ، ويحتمل أن تكون معطوفة على قوله : { فأولئك حبطت أعمالهم } فتكون داخلة في الجزاء ، لأن المعطوف على الجزاء جزاء ، وهذا الوجه أولى ، لأن القرب مرجح ، وترجح الأول بأنه يقتضي الاستقلال.
{ إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله } سبب نزولها أن عبد الله بن جحش قال : يا رسول الله هب أنه عقاب علينا فيما فعلناه فهل نطمع منه أجراً وثواباً فنزلت لأن عبد الله كان مؤمناً وكان مهاجراً ، وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهداً ، ثم هي عامة في من اتصف بهذه الأوصاف.
وقال الزمخشري إن عبد الله بن جحش وأصحابه ، حين قتلوا الحضرمي ، ظنّ قوم أنهم إن سلموا من الإِثم فليس لهم أجر ، فنزلت.
انتهى كلامه.
وهو كالأول ، ألاَّ أنه اختلف في الظان ، ففي الأول ابن جحش ، وفي قول الزمخشري : قوم ، وعلى هذا السبب فمناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة.

وقيل : لما أوجب الجهاد بقوله : { كتب عليكم القتال } وبيَّن أن تركه سبب للوعيد ، اتبع ذلك بذكر من يقوم به ، ولا يكاد يوجد وعيد إلاَّ ويتبعه وعد ، وقد احتوت هذه الجملة على ثلاثة أوصاف ، وجاءت مرتبة بحسب الوقائع والواقع ، لأن الإِيمان أولها ، ثم المهاجرة ، ثم الجهاد في سبيل الله.
ولما كان الإِيمان هو الأصل أفرد به موصول وحده ، ولما كانت الهجرة والجهاد فرعين عنه أفردا بموصول واحد ، لأنهما من حيث الفرعية كالشيء الواحد.
وأتى خبر : إن ، جملة مصدرة : بأولئك ، لأن اسم الإشارة هو المتضمن الأوصاف السابقة من الإيمان والهجرة والجهاد ، وليس تكريراً لموصول بالعطف مشعراً بالمغايرة في الذوات ، ولكنه تكرير بالنسبة إلى الأوصاف ، والذوات هي المتصفة بالأوصاف الثلاثة ، فهي ترجع لمعنى عطف الصفة بعضها على بعض للمغايرة ، لا : إن الذين آمنوا ، صنف وحده مغاير : للذين هاجروا وجاهدوا ، وأتى بلفظة : يرجون ، لأنه ما دام المرء في قيد الحياة لا يقطع أنه صائر إلى الجنة ، ولو أطاع أقصى الطاعة ، إذ لا يعلم بما يختم له ، ولا يتكل على عمله ، لأنه لا يعلم أَقُبِل أم لا؟ وأيضاً فلأن المذكورة في الأية ثلاثة أوصاف ، ولا بدّ مع ذلك من سائر الأعمال ، وهو يرجو أن يوفقه الله لها كما وفقه لهذه الثلاثة ، فلذلك قال : فأولئك يرجون ، أو يكون ذكر الرجاء لما يتوهمون أنهم ما وفوا حق نصرة الله في الجهاد ، ولا قضوا ما لزمهم من ذلك ، فهم يقدمون على الله مع الخوف والرجاء ، كما قال تعالى : { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة }
وروي عن قتادة أنه قال : هو لأخيار هذه الأمة ، ثم جعلهم الله أهل رجاء ، كما يسمعون ، وقيل : الرجاء دخل هنا في كمية الثواب ووقته ، لا في أصل الثواب ، إذا هو مقطوع متيقن بالوعد الصادق ، و : رحمت ، هنا كتب بالتاء على لغة من يقف عليها بالتاء هنا ، أو على اعتبار الوصل لأنها في الوصل تاء ، وهي سبعة مواضع كتبت : رحمت ، فيها بالتاء.
أحدها هذا ، وفي الأعراف : { إن رحمت الله قريب } وفي هود : { رحمت الله وبركاته } وفي مريم { ذكر رحمت ربك } وفي الزخرف { أهم يقسمون رحمت ربك } { ورحمت ربك خير مما تجمعون } وفي الروم { فانظر إلى آثار رحمت الله }
{ والله غفور رحيم } لما ذكر أنهم طامعون في رحمة الله ، أخبر تعالى أنه متصف بالرحمة ، وزاد وصفاً آخر وهو أنه تعالى متصف بالغفران ، فكأنه قيل : الله تعالى ، عندما ظنوا وطمعوا في ثوابه ، فالرحمة متحققة ، لأنها من صفاته تعالى.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة إخبار الله تعالى عن القرون الماضية أنهم كانوا على سنن واحد ، وأنه بعث إليهم النبيين مبشرين من أطاع بالثواب من الله تعالى ، ومحذرين من عصى من عقاب الله ، وقدم البشارة لأنها هي المفروح بها ، ولأنها نتيجتها رضى الله عن من اتبع أوامره واجتنب نواهيه ، وأنزل معهم كتاباً من عنده مصحوباً بالحق اللائح ، ليكون أضبط لما أتوا به من الشرائع ، لأن ما جاؤا به مما ليس في كتاب يقرأ ويدرس على مر الأعصار ، وربما يذهب بذهابهم ، فإذا كان ما شرع لهم مخلداً في الطروس كان أبقى ، وإن ثمرة الكتب هي الفصل بين الناس فيما وقع فيه اختلافهم من أمر عقائدهم ، وتكاليفهم ، ومصالح دنياهم ، ثم ذكر أنه ما اختلف فيما أختلف فيه إلا الذين أوتوه ، أي : أوتوا الكتاب ، ووصل إليهم من عند الله ، وذلك بعد وضوح الآيات ومجيئها لهم ، فكأن ما سبيله إلى الهداية والفصل في الإختلاف عند هؤلاء سبباً للاختلاف ، فرتبوا على مجيء الشيء الواضح ضد مقتضاه ، وأن الحامل على ذلك إنما هو البغي والظلم الذي صار بينهم ، ثم هدى الله المؤمنين لاتباع الحق الذي أختلف فيه من اختلف ، وذلك بتيسير الله تعالى لهم ، ذلك من غير سابقة استحقاق ، بل هدايته إياهم الحق هو بتمكينه تعالى لذلك.

ثم ذكر تعالى أن الهداية للصراط المستقيم إنما تكون لمن شاء تعالى هدايته ، ثم ذكر تعالى مخاطباً للمؤمنين ، إذ كان قد أخبر ببعثة الرسل بالتكاليف الشرعية ، أنه لا يحسب أن تنال الرتبة العالية من الفوز بدخول الجنة ، ولما يقع ابتلاء لكم كما ابتلى من كان قبلكم ، ثم فسر مثل الماضين بأنهم مستهم البأساء والضراء ، وأنهم أزعجوا حتى سألوا ربهم عن وقت مجيء النصر لتصبر نفوسهم على ما ابتلاهم به ، ولينتظروا الفرج من الله عن قرب ، فأجيبوا بأن نصر الله قريب وما هو قريب ، فالحاصل : فسكنت نفوسهم من ذلك الإزعاج بانتظار النصر القريب.
ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عما ينفقون من أموالهم في وجوه البر؟ فلم يبين لهم جنس ما ينفقون ولا مقداره ، وذكر مصرف ذلك ، لأنه هو الأهم في الجواب ، وكأنه قيل : أي شيء ينفقون من قليل أو كثير فمصرفه لأقرب الناس إليكم ، وهما : الوالدان : اللذان كانا سبباً في إيجادك وتربيتك من لدن خلقت إلى أن صار لك شيء من الدنيا ، وفي الحنو عليك ، ثم ذكر : الأقربين بصفة التفضيل ، لأنهم هم الذين يشاركونك في النسب ، والإنفاق عليهم صدقة وصلة ، ثم ذكر اليتامى : وهم الذين قد توفي آباؤهم فليس لهم من يقوم بمصالحهم ، فالإنفاق عليهم إحسان جزيل ، ثم ذكر : المساكين ، وهم الذين انتهوا ، من الفقراء ، إلى حالة المسكنة ، وهي عدم الحركة والتصرف في أحوال الدنيا ومعاشها ، ثم أخبر تعالى : أن ما أنفقتم فالله عليم به ومحصيه ، فيجازي عليه ويثيب.
ثم أخبر تعالى عن فرض القتال على المؤمنين ، وأنه مكروه للطباع لما فيه من إتلاف المهج وانتقاص الأموال ، وانتهاك الأجساد بالسفر فيه وبغيره ، ثم ذكر أن الإنسان قد يكره الشيء وهو خير له ، لأن عقابه إلى خير ، فالقتال ، وإن كان مكروهاً للطبع ، فإنه خير إن سلم ، فخيره بالظفر بأعداء الله ، وبالغنيمة ، واستيلاء عليهم قتلاً ونهباً وتملك دار ، وإن قتل فخيره أن له عند الله مرتبة الشهداء.

ويكفيك ما ورد في هذه المرتبة العظيمة في كتاب الله ، وفيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر مقابل هذا وهو قوله { وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم } فمن المحبوب ترك القتال ، وهو مدعاة إلى الدعاء والراحة ، وفي ذلك الشر العظيم من تسلط أعداء الله والإيقاع بالمسلمين ، واستئصال شأفتهم بالقتل والنهب وتملك ديارهم ، فمتى أخلد الإنسان إلى الراحة طمع فيه عدوه ، وبلغ منه مقاصده ، ولقد أحسن زهير حيث قال :
جريء متى يظلم يعاقب بظلمه . . .
سريعاً ، وإن لا يبد بالظلمُ يظلم
ثم ذكر تعالى أنه يعلم ما لا يعلمون حيث شرع القتال ، فهو تعالى عالم بما يترتب لكم من المصالح الدينية والدنيوية على مشروعية القتال.
ثم ذكر تعالى أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال في الشهر الحرام ، لما كان وقع ذلك منهم ، لا على سبيل القصد ، بل على سبيل الظن أن الزمان الذي وقع فيه ليس هو من الشهر الحرام ، فأخبروا أن ذلك هو إثم كبير ، إذ كانت العادة أن الأشهر الحرم لا قتال فيها ، ثم ذكر أن أكبر من ذلك هو ما يرتكبه الكفار من صد المسلمين عن سبيل الله ، ومن الكفر بالله ، وبالمسجد الحرام ، ومن إخراج أهله منه.
ثم ذكر تعالى أن الفتنة أكبر من القتل وهو فتنة الرجل المسلم عن دينه ، أكبر من قتله وهو على دينه ، لأن تلك الفتنة تؤول به إلى النار ، وقتله هذا يؤول به إلى الجنة.
ثم أخبر تعالى عن دوام عداء عداوة الكفار ، وأن مقصدهم إنما هو فتنتكم عن دينكم ورجوعكم إلى ما هم عليه من الضلال ، وأنه متى أمكنهم ذلك وقدروا عليه قاتلوكم ، ثم أخبر تعالى أن من رجع عن دينه الحق إلى دينه الباطل ، ووافى على ذلك ، فجميع ما تقدّم من أعماله الصالحات قد بطلت في الدنيا بإلحاقه بالكفار ، وإجراء أحكام المرتدين عليه ، وفي الآخرة فلا يبقى لها ثمرة يرتجي بها غفراناً لما اجترح ، بل مآله إلى النار خالداً فيها.
ثم لما ذكر حال المرتد عن دينه ، ذكر حال من آمن بالله وثبت على إيمانه ، وهاجر من وطنه الذي هو محل الكفر إلى دار الإسلام ، ثم جاهد في سبيل الله من كفر بالله ، وأنه طامع في رحمة الله.
ثم ذكر تعالى أنه غفور لما وقع منه قبل الإيمان ولما يتخلل في حالة الإيمان من بعض المخالفة ، وأنه رحيم له ، فهو يحقق له ما طمع فيه من رحمته.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

الخمر : هي المعتصر من العنب إذا غلى واشتدّ وقذف بالزبد ، سمى بذلك من خمر إذا ستر ، ومنه خِمار المرأة ، وتخمرت واختمرت ، وهي حسنة الخمرة ، والخمر ما واراك من الشجر وغيره ، ودخل في خمار الناس وغمارهم أي : في مكان خاف.
وخمر فتاتكم ، وخامري أم عامر ، مثل الأحمق ، وخامري حضاجر أتاك ما تحاذر ، وحضاجر اسم للذكر والأنثى من السباع ، ومعناه : ادخلي الخمر واستتري.
فلما كانت تستر العقل سميت بذلك ، وقيل : لأنها تخمر : أي تغطي حتى تدرك وتشتدّ.
وقال ابن الأنباري : سميت بذلك لأنها تخامر العقل أي : تخالطه ، يقال : خامر الداء خالط ، وقيل : سميت بذلك لأنها تترك حين تدرك ، يقال : اختمر العجين بلغ إدراكه ، وخمر الرأي تركه حتى يبين فيه الوجه ، فعلى هذه الاشتقاقات تكون مصدراً في الأصل وأريد بها اسم الفاعل أو اسم المفعول.
الميسر : القمار ، وهو مفعل من : يسر ، كالموعد من وعد ، يقال يسرت الميسر أي قامرته ، قال الشاعر :
لو تيسرون بخيل قد يسرت بها . . .
وكل ما يسر الأقوام مغروم
واشتقاقه من اليسر وهو السهولة ، أو من اليسار لأنه يسلب يساره ، أو من يسر الشيء إذا وجب ، أو من يسر إذا جزر والياسر الجازر ، وهو الذي يجزئ الجزور أجزاء ، قال الشاعر :
أقول لهم بالشعب إذ تيسرونني . . .
ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم؟
وسميت الجزور التي يسهم عليها ميسراً لأنها موضع اليسر ، ثم قيل للسهام : ميسر للمجاورة ، واليسر ، الذي يدخل في الضرب بالقداح وجمعه ، أيسار ، وقيل : يسر جمع ياسر كحارس وحرس وأحراس.
وصفة الميسر أنه عشرة أقداح ، وقيل : أحد عشر على ما ذكر فيه ، وهي : الأزلام ، والأقلام ، والسهام.
لسبعة منها حظوظ ، وفيها فروض على عدة الحظوظ : القد ، وله سهم واحد؛ والتوأم ، وله سهمان ، والرقيب ، وله ثلاثة؛ والجلس ، وله أربعة؛ والنافس ، وله خمسة؛ والمسبل وله ستة؛ والمعلى وله سبعة؛ وثلاثة أغفال لا حظوظ لها ، وهي : المنيح ، والسفيح ، والوغد ، وقيل : أربعة وهي : المصدر ، والمضعف ، والمنيح ، والسفيح.
تزاد هذه الثلاثة أو الاربعة على الخلاف لتكثر السهام وتختلط على الحرضة وهو الضارب بالقداح ، فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلاً ، ويسمى أيضاً : المجيل ، والمغيض ، والضارب ، والضريب.
ويجمع ضرباء ، وهو رجل عدل عندهم.
وقيل يجعل رقيب لئلا يحابي أحداً ، ثم يجثو الضارب على ركبتيه ، ويلتحف بثوب ، ويخرج رأسه يجعل تلك القداح في الربابة ، وهي خريطة يوضع فيها ، ثم يجلجها ، ويدخل يده ويخرج باسم رجل رجل قدحاً منها ، فمن خرج له قدح من ذوات الآنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح من تلك الثلاثة لم يأخذ شيئاً ، وغرم الجزور كله.
وكانت عادة العرب أن تضرب بهذه القداح في الشتوة وضيق العيش وكلب البرد على الفقراء ، فيشترون الجزور وتضمن الأيسار ثمنها ، ثم تنحر ويقسم على عشرة أقسام ، في قول أبي عمرو ، وثمانية وعشرين على قدر حظوظ السهام في قول الأصمعي.

قال ابن عطية : وأخطأ الأصمعي في قسمة الجزور على ثمانية وعشرين ، وأيهم خرج له نصيب واسى به الفقراء ، ولا يأكل منه شيئاً ، ويفتخرون بذلك ، ويسمون من لم يدخل فيه : البرم ويذمونه بذلك ، ومن الافتخار بذلك قول الأعشى :
المطمعو الضيف إذا ماشتا . . .
والجاعلو القوت على الياسر
وقال زهير في البرم :
حتى تأوى إلى لا فاحشٍ برم . . .
ولا شحيح إذا أصحابه غنموا
وربما قاموا لأنفسهم.
التفكر : في الشيء إجالة الفكر فيه وتردده ، والفكر : هو الذهن.
الخلط : مزج الشيء بالشيء ، وخالط فاعل منه ، والخلط الشيء المخلوط : كالرغي.
الإِخوان : جمع أخ ، والأخ معروف ، وهو من ولده أبوك وأمك ، أو أحدهما ، وجمع فعل على فعلان لا ينقاس.
العنت : المشقة ، ومنه عنت الغربة ، وعقبة عنوت شاقة المصعد ، وعنت البعير انكسر بعد جبر.
النكاح : الوطء وهو المجامعة ، قال التبريزي : وأصله عند العرب لزوم الشيء الشيء وإكبابه عليه ، ومنه قولهم : نكح المطر الأرض.
حكاه ثعلب في ( الامالي ) عن أبي زيد وابن الإِعرابي ، وحكى الفراء عن العرب : نكح المرأة ، بضم النون ، بضعة هي بين القبل والدبر ، فإذا قالوا نكحها ، فمعناه أصاب نكحها ، أي ذلك الموضع منها ، وقلما يقال ناكحها كما يقال باضعها ، قيل : وقد جاء النكاح في أشعار العرب يراد به العقد خاصة ، ومن ذلك قول الشاعر :
فلا تقربن جارة إن سرها . . .
عليك حرام ، فانكحنْ أو تأبدا
أي فاعقد وتزّوج ، وإلاَّ فاجتنب النساء وتوحش ، لأنه قال : لا تقربن جارة على الوجه الذي يحرم.
وجاء بمعنى المجامعة ، كما قال :
الباركين على ظهور نسوتهم . . .
والناكحين بشاطى دجلة البقرا
وقال أبو علي : فرّقت العرب بين العقد والوطء بفرق لطيف ، فإذا قالوا : نكح فلان فلانة ، أرادوا به العقد لا غير ، وإذا قالوا نكح امرأته أو زوجته فلا يريدون غير المجامعة.
الأمة : المملوكة من النساء ، وهي ما حذف لامه ، وهو واو يدل على ذلك ظهورها في الجمع قال الكلابي.
أما الإماء فلا يدعونني ولداً . . .
إذا تداعى بنو الاموات بالعار
وفي المصدر : يقال أمة بينة الأموّة ، وأقرّت بالأموّة ، أي بالعبودية.
وجمعت أيضاً على : إماء ، وأآم ، نحو أكمة وآكام وأكم ، وأصله أأمو ، وجرى فيه ما يقتضيه التصريف ، وفي الحديث : « لا تمنعوا إماء الله مساجد الله » وقال الشاعر :
يمشى بها ريد النعا . . .
م تماشى الآم الدوافر
ووزنها أموة ، فحذفت لامها على غير قياس ، إذ كان قياسها أن تنقلب ألفاً لتحركها ، وانفتاح ما قبلها كقناة ، وزعم أبو الهيثم : أن جمع الأمة أمو ، وأن وزنها فعلة بسكون العين ، فتكون مثل : نخلة ونخل ، وبقلة وبقل ، فأصلها : أموة فحذفوا لامها إذ كانت حرف لين ، فلما جمعوها على مثال نخلة ونخل لزمهم أن يقولوا : أمة وأم ، فكرهوا أن يجعلوها حرفين ، وكرهوا أن يردوا الواو المحذوفة لما كانت آخر الاسم ، فقدموا الواو ، وجعلوه ألفاً ما بين الألف والميم ، وما زعمه أبو الهيثم ليس بشيء ، إذ لو كان على ما زعم لكان الإعراب على الميم كما كان على لام نخل ، ولكنه على الياء المحذوفة التي هي لام ، إذ أصله ألامو ، ثم عمل فيه ما عمل في قولهم : الأدلو ، والأجرو ، جمع : دلو ، وجرو ، وأبدلت الهمزة الثانية ألفاً كما أبدلت في : آدم ، ولذلك تقول : جاءت الآمي ، ولو كان على ما زعم أبو الهيثم لكان : جاءت الآم ، برفع الميم.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46