كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

وإن كان المعنى الإيقاع في الضلال ، فذلك حاصل لهم مع تمكنهم من اتباع الهدى بإيضاح الحجج وإنزال الكتب وإرسال الرسل.
وقال ابن عطية : إعلام أن سوء فعلهم عائد عليهم ، وأنه يبعدهم عن الإسلام.
وقال الزمخشري : وما يعود وبال الضلال إلاَّ عليهم ، لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم ، أو : وما يقدرون على إضلال المسلمين ، وإنما يضلون أمثالهم من أشياعهم. انتهى.
{ وما يشعرون } أن ذلك الضلال هو مختص بهم أي : لا يفطنون لذلك لما دق أمره وخفي عليهم لما اعترى قلوبهم من القساوة ، فهم لا يعلمون أنهم يضلون أنفسهم.
ودل ذلك على أن من أخطأ الحق جاهلاً كان ضالاً ، أو { وما يشعرون } أنهم لا يصلون إلى إضلالكم ، أو : لا يفطنون بصحة الإسلام ، وواجب عليهم أن يعلموا لظهور البراهين والحجج ، ذكره القرطبي.
أو : ما يشعرون أن الله يدل المسلمين على حالهم ، ويطلعهم على مكرهم وضلالتهم ، ذكره ابن الجوزي.
وفي قوله : ما يشعرون ، مبالغة في ذمهم حيث فقدوا المنفعة بحواسهم.
{ قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله } قال ابن عباس : هي التوراة والإنجيل وكفرهم بها من جهة تغيير الأحكام ، وتحريف الكلام أو الآيات التي في التوراة والإنجيل من وصف النبي صلى الله عليه وسلم ، والإيمان به ، كما بين في قوله : { يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل } قاله قتادة ، والسدي ، والربيع ، وابن جريح.
أو : القرآن من جهة قولهم : { إنما يعلمه بشر } { إن هذا إلا إفك } { أساطير الأولين } والآيات التي أظهرها على يديه من : انشقاق القمر ، وحنين الجذع ، وتسبيح الحصى ، وغير ذلك.
أو : محمد والإسلام ، قاله قتادة ، أو : ما تلاه من أسرار كتبهم وغريب أخبارهم ، قاله ابن بحر أو : كتب الله ، أو : الآيات التي يبين لهم فيها صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وصحة نبوّته ، وأمروا فيها باتباعه ، قاله ابو علي.
{ وأنتم تشهدون } جملة حالية أنكر عليهم كفرهم بآيات الله وهم يشهدون أنها آيات الله ، ومتعلق الشهادة محذوف ، يقدّر على حسب تفسير الآيات ، فيقدّر بما يناسب ما فسرت به ، فلذلك قال قتادة ، والسدي ، والربيع : وأنتم تشهدون بما يدل على صحتها من كتابكم الذي فيه البشارة.
وقيل : تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء التي تقرون بها ، وقيل : بما عليكم فيه من الحجة.
وقيل : إن كتبكم حق ، ولا تتبعون ما أنزل فيها.
وقيل : بصحتها إذا خلوتم.
فيكون : تشهدون ، بمعنى : تقرون وتعترفون.
وقال الراغب : أو عنى ما يكون من شهادتهم { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم }
وقيل : تكفرون بآيات الله : تنكرون كون القرآن معجزاً ، ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم أنه معجز.
{ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } تقدّم تفسير مثل هذا في قوله : { ولا تلبسوا الحق بالباطل } وفسر : اللبس ، بالخلط والتغطية ، وتكلم المفسرون هنا ، ففسروا الحق بما يجدونه في كتبهم من صفة الرسول ، والباطل الذي يكتبونه بأيديهم ويحرفونه : قال معناه الحسن ، وابن زيد.

وقيل : إظهار الإسلام وإبطال اليهودية والنصرانية ، قال قتادة ، وابن جرير والثعلبي.
وقيل : الإيمان بموسى وعيسى ، والكفر بالرسول.
وقال أبو علي : يتأولون الآيات التي فيها الدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم على خلاف تأويلها ، ليظهر منها للعوامّ خلاف ما هي عليه ، وأنتم تعلمون بطلان ما تقولون.
وقيل : هو ما ذكره تعالى بعد ذلك من قوله : { آمنوا بالذي أنزل } وقيل : إقرارهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
والباطل : كتمانهم لبعض أمره ، وهذان القولان عن ابن عباس.
وقيل : إقرارهم بنبوته ورسالته ، والباطل قول أحبارهم : ليس رسولاً الينا ، بل شريعتنا مؤبدة.
وقرأ يحيى بن وثاب : تلبسون ، بفتح الباء مضارع : لبس ، جعل الحق كأنه ثوب لبسوه ، والباء في : بالباطل ، للحال أي : مصحوباً بالباطل.
وقرأ أبو مجلز : تلبسون ، بضم التاء وكسر الباء المشدّدة ، والتشديد هنا للتكثير ، كقولهم : جرّحت وقتلت ، وأجاز الفراء ، والزجاج في : ويكتمون ، النصب ، فتسقط النون من حيث العربية على قولك : لم تجمعون ذا وذا؟ فيكون نصباً على الصرف في قول الكوفيين ، وبإضمار : أن ، في قول البصريين.
وأنكر ذلك أبو علي ، وقال : الإستفهام وقع على اللبس فحسب.
وأما : يكتمون ، فخبر حتماً لا يجوز فيه إلاَّ الرفع بمعنى أنه ليس معطوفاً على : تلبسون ، بل هو استئناف ، خبر عنهم أنهم يكتمون الحق مع علمهم أنه حق ، وقال ابن عطية : قال أبو علي : الصرف ها هنا يقبح ، وكذلك إضمار : أن ، لأن : يكتمون ، معطوف على موجب مقرر ، وليس بمستفهم عنه ، وإنما استفهم عن السبب في اللبس ، واللبس موجب ، فليست الآية بمنزلة قولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، وبمنزلة ، قولك : أتقوم فأقوم؟ والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب ، إلاَّ في ضرورة شعر ، كما روي :
والحق بالحجاز فاستريحا . . .
وقد قال سيبويه : في قولك : أسرت حتى تدخلها ، لا يجوز إلاَّ النصب ، في : تدخل ، لأن السير مستفهم عنه غير موجب.
وإذا قلنا : أيهم سار حتى يدخلها ، رفعت ، لأن السير موجب ، والاستفهام إنما وقع عن غيره.
انتهى ما نقله ابن عطية عن أبي علي.
والظاهر تعارض ما نقل مع ما قبله ، لأن ما قبله فيه : أن الاستفهام وقع على اللبس فحسب ، وأما : يكتمون ، فخبر حتماً لا يجوز فيه إلاّ الرفع ، وفيما نقله ابن عطية أن : يكتمون ، معطوف على موجب مقرر ، وليس بمستفهم عنه ، فيدل العطف على اشتراكهما في الإستفهام عن سبب اللبس وسبب الكتم الموجبين ، وفرق بين هذا المعنى وبين أن يكون : ويكتمون ، إخباراً محضاً لم يشترك مع اللبس في السؤال عن السبب ، وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أن الإستفهام إذا تضمن وقوع الفعل لا ينتصب الفعل بإضمار أن في جوابه ، تبعه في ذلك ابن مالك.

فقال في ( التسهيل ) حين عد ما يضمر : أن ، لزوماً في الجواب ، فقال : أو لإستفهام لا يتضمن وقوع الفعل ، فإن تضمن وقع الفعل لم يجز النصب عنده ، نحو : لم ضربت زيداً ، فيجازيك؟ لأن الضرب قد وقع ولم نر أحداً من أصحابنا يشترط هذا الشرط الذي ذكره أبو علي ، وتبعه فيه ابن مالك في الإستفهام ، بل إذا تعذر سبك مصدر مما قبله ، إما لكونه ليس ثم فعل ، ولا ما في معناه ينسبك منه ، وإما لإستحالة سبك مصدر مراد استقباله لأجل مضي الفعل ، فإنما يقدر فيه مصدر استقباله مما يدل عليه المعنى ، فإذا قال : لم ضربت زيداً فأضربك.
أي : ليكن منك تعريف بضرب زيد فضرب منا ، وما ردّ به أبو عليّ على أبي إسحاق ليس بمتجه.
لأن قوله : { لم تلبسون } ليس نصاً على أن المضارع أريد به الماضي حقيقة ، إذ قد ينكر المستقبل لتحقق صدوره ، لا سيما على الشخص الذي تقدم منه وجود أمثاله.
ولو فرضنا أنه ماض حقيقة ، فلا ردّ فيه على أبي إسحاق ، لأنه كما قررنا قبل : إذا لم يمكن سبك مصدر مستقبل من الجملة ، سبكناه من لازم الجملة.
وقد حكى أبو الحسن بن كيسان نصب الفعل المستفهم عنه محقق الوقوع ، نحو : أين ذهب زيد فنتبعه؟ وكذلك في : كم مالك فنعرفه؟ و : من أبوك فنكرمه؟ لكنه يتخرج على ما سبق ذكره من أن التقدير : ليكن منك إعلام بذهاب زيد فاتباع منا.
و : ليكن منك إعلام بقدر مالك فمعرفة منا.
و : ليكن منك إعلام بأبيك فاكرام منا له.
وقرأ عبيد بن عمير : لم تلبسوا ، وتكتموا ، بحذف النون فيهما ، قالوا : وذلك جزم ، قالوا : ولا وجه له سوى ما ذهب إليه شذوذ من النحاة في إلحاق : لِمَ بلم في عمل الجزم.
وقال السجاوندي : ولا وجه له إلاَّ أن : لم ، تجزم الفعل عند قوم كلم. انتهى.
والثابت في لسان العرب أن : لِمَ ، لا ينجزم ما بعدها ، ولم أر أحداً من النحويين ذكر أن لِمَ تجري مجرى : لَمْ في الجزم إلا ما ذكره أهل التفسير هنا ، وإنما هذا عندي من باب حذف النون حالة الرفع ، وقد جاء ذلك في النثر قليلاً جداً ، وذلك في قراءة أبي عمرو ، ومن بعض طرقه قالوا : ساحران تظاهرا ، بتشديد الظاء ، أي أنتما ساحران تتظاهرن فأدغم التاء في الظاء وحذف النون ، وأما في النظم ، فنحو : قول الراجز :
أبيت أسرى وتبيتي تدلكي . . .
يريد : وتبيتين تدلكين.
وقال :
فإن يك قوم سرهم ما صنعتمو . . .
ستحتلبوها لاقحاً غير باهل
والظاهر أنه أنكر عليهم لبس الحق بالباطل ، وكتم الحق ، وكأن الحق منقسم إلى قسمين : قسم خلطوا فيه الباطل حتى لا يتميز ، وقسم كتموه بالكلية حتى لا يظهر.
{ وأنتم تعلمون } جملة حالية تنعي عليهم ما التبسوا به من لبس الحق بالباطل وكتمانه ، أي : لا يناسب من علم الحق أن يكتمه ، ولا أن يخلطه بالباطل ، والسؤال عن السبب سؤال عن المسبب ، فإذا أنكر السبب فبالأولى أن ينكر المسبب ، وختمت الآية قبل هذه بقوله : { وأنتم تشهدون } وهذه بقوله : { وأنتم تعلمون } لأن المنكر عليهم في تلك هو الكفر بآيات الله ، وهي أخص من الحق ، لأن آيات الله بعض الحق ، والشهادة أخص من العلم ، فناسب الأخص الأخص ، وهنا الحق أعم من الآيات وغيرها ، والعلم أعم من الشهادة ، فناسب الأعم الأعم.

وقالوا في قوله : { وأنتم تعلمون } أي : إنه نبي حق ، وإن ما جاء به من عند الله حق.
وقيل : قال : { وأنتم تعلمون } ليتبين لهم الأمر الذي يصح به التكليف ، ويقوم عليهم به الحجة.
وقيل : { وأنتم تعلمون } الحق بما عرفتموه من كتبكم وما سمعتموه من ألسنة أنبيائكم.
وفي هذه الآيات أنواع من البديع.
الطباق في قوله : الحق بالباطل ، والطباق المعنوي في قوله : لم تكفرون وأنتم تشهدون ، لأن الشهادة إقرار وإظهار ، والكفر ستر.
والتجنيس المماثل في : يضلونك وما يضلون والتكرار في : أهل الكتاب.
والحذف في مواضع قد بينت.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)

{ وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون } قال الحسن ، والسدي : تواطأ اثنا عشر حبراً من يهود خيبر وقرى عرينة ، وقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد ، واكفروا به في آخر النهار ، وقولوا إنا نظرنا في كتبنا ، وشاورنا علماءنا ، فوجدنا محمداً ليس كذلك ، وظهر لنا كذبه وبطلان دينه ، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم ، وقالوا : هم أهل الكتاب فهم أعلم منا ، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم ، فنزلت.
وقال مجاهد ، ومقاتل ، والكلبي : هذا في شأن القبلة ، لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود ، فقال كعب بن الأشرف وأصحابه : صلوا إليها أول النهار ، وارجعوا إلى كعبتكم الصخرة آخره ، فنزلت.
وقال ابن عباس ، ومجاهد : صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ، ثم ارجعوا آخر النهار فصلوا صلاتهم ليرى الناس أنه قد بدت لهم منه ضلالة بعد أن كانوا اتبعوه ، فنزلت.
وقال السدي : قالت اليهود لسفلتهم : آمنوا بمحمد أول النهار ، فإذا كان بالعشي قولوا : قد عرفنا علماؤنا أنكم لستم على شيء ، فنزلت.
وحكى ابن عطية ، عن الحسن : أن يهود خيبر قالت ذلك ليهود المدينة. انتهى.
جعلت اليهود هذا سبباً إلى خديعة المسلمين.
والمقول لهم محذوف ، فيحتمل أن يكون بعض هذه الطائفة لبعض ، ويحتمل أن يكون المقول لهم ليسوا من هذه الطائفة ، والمراد : بآمنوا ، أظهروا الإيمان ، ولا يمكن أن يراد به التصديق ، وفي قوله : { بالذي أنزل على الذين آمنوا } حذف أي : على زعمهم ، وإلاَّ فهم يكذبون ، ولا يصدقون أن الله أنزل شيئاً على المؤمنين.
وانتصب : وجه النهار ، على الظرف ومعناه : أول النهار ، شبه بوجه الإنسان إذ هو أول ما يواجه منه.
وقال الربيع بن زياد العبسي في مالك بن زهير بن خزيمة العبسي :
من كان مسروراً بمقتل مالك . . .
فليأت نسوتنا بوجه نهار
والضمير في : آخره ، عائد على النهار ، أي : آخر النهار.
والناصب للظرف الأول : آمنوا ، وللآخر : اكفروا.
وقيل : الناصب لقوله : وجه النهار ، أنزل.
أي : بالذي أنزل على الذين آمنوا في أول النهار ، والضمير في : آخره ، يعود على الذي أنزل ، أي : واكفروا آخر المنزل ، وهذا فيه بعد ومخالفة لأسباب النزول ، ومتعلق الرجوع محذوف أي : يرجعون عن دينهم.
وظاهر الآية الدلالة على هذا القول ، وأما امتثال الأمر ممن أمر به فسكوت عن وقوعه ، وأسباب النزول تدل على وقوعه ، وهذا القول طمعوا أن ينخدع العرب به ، أو يقول قائلهم : هؤلاء أهل الكتاب القديم وجودة النظر والإطلاع ، دخلوا في هذا الأمر ورجعوا عنه ، وفيه تثبيت أيضاً لضعفائهم على دينهم.
{ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } اللام في : لمن ، قيل : زائدة للتأكيد ، كقوله

{ عسى أن يكون ردف لكم } أي ردفكم ، وقال الشاعر :
ما كنت أخدع للخليل بحله . . .
حتى يكون لي الخليل خدوعاً
أراد : ما كنت أخدع الخليل ، والأجود أن لا تكون : اللام ، زائدة بل ضمن ، آمن معنى : أقر واعترف ، فعدى باللام.
وقال أبو علي : وقد تعدّى آمن باللام في قوله { فما آمن لموسى إلا ذرية } { وآمنتم له } { ويؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين } انتهى.
والأجود ما ذكرناه من جملة قول طائفة اليهود ، لأنه معطوف على كلامهم ، ولذلك قال ابن عطية : لا خلاف بين أهل التأويل أن هذا القول من كلام الطائفة. انتهى.
وليس كذلك ، بل من المفسرين من ذهب إلى أن ذلك من كلام الله ، يثبت به قلوب المؤمنين لئلا يشكوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم ، فأما إذا كان من كلام طائفة اليهود ، فالظاهر أنه انقطع كلامهم إذ لا خلاف ، ولا شك أن قوله : { قل ان الهدى هدى الله } من كلام الله مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وما بعده يظهر أنه من كلام الله ، وأنه من جملة قوله لنبيه وأن يؤتى مفعول من أجله ، وتقدير الكلام : قل يا محمد لأولئك اليهود الذين قالوا : إن الهدى هدى الله ، لا ما رمتم من الخداع بتلك المقالة ، وذاك الفعل ، لمخافة { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم } قلتم ذلك القول ودبرتم تلك المكيدة ، أي : فعلتم ذلك حسداً وخوفاً من أن تذهب رئاستكم ، ويشارككم أحد فيما أوتيتم من فضل العلم ، أو يحاجوكم عند ربكم ، أي : يقيمون الحجة عليكم عند الله إذ كتابكم طافح ، بنبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وملزم لكم أن تؤمنوا به وتتبعوه ، ويؤيد هذا المعنى قوله : { قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء } إلى آخره ، ويؤيد هذا المعنى أيضاً قراءة ابن كثير أن يؤتى على الاستفهام الذي معناه الإنكار عليهم والتقرير والتوبيخ والاستفهام الذي معناه الإنكار هو مثبت من حيث المعنى ، أي ألمخافة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؟ أو يحاجوكم عند ربكم قلتم ذلك وفعلتموه؟ ويكون : أو يحاجوكم ، معطوفاً على : يؤتى ، وأو : للتنويع ، وأجازوا أن يكون : هدى الله ، بدلاً من : الهدى.
لا خبراً لأن.
والخبر قوله : { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم } أي أن هدى الله إيتاء أحد مثل ما أوتيتم من العلم ، ويكون : أو يحاجوكم ، منصوباً بإضمار : أن ، بعد أو بمعنى : حتى ، أي : حتى يحاجوكم عند ربكم فيغلبوكم ويدحضوا حجتكم عند الله ، لأنكم تعلمون صحة دين الإسلام ، وأنه يلزمكم اتباع هذا النبي ، ولا يكون : أو يحاجوكم ، معطوفاً على : يؤتى ، وداخلاً في خبر إن ، و : أحد ، في هذين القولين ليس الذي يأتي في العموم مختصاً به ، لأن ذلك شرطه أن يكون في نفي ، أو في خبر نفي ، بل : أحد ، هنا بمعنى : واحد ، وهو مفرد ، إذ عنى به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإنما جمع الضمير في : يحاجوكم ، لأنه عائد على الرسول وأتباعه ، لأن الرسالة تدل على الأتباع.

وقال بعض النحويين : إن ، هنا للنفي بمعنى : لا ، التقدير : لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، ونقل ذلك أيضاً عن الفراء ، وتكون : أو ، بمعنى إلاَّ ، والمعنى إذ ذاك : لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلاَّ أن يحاجوكم ، فإن إيتاءه ما أوتيتم مقرون بمغالبتكم ومحاجتكم عند ربكم ، لأن من آتاه الله الوحي لا بد أن يحاجهم عند ربهم في كونهم لا يتبعونه ، فقوله : أو يحاجوكم ، حال من جهة المعنى لازمة ، إذ لا يوحي الله إلى رسول إلاَّ وهو محاج مخالفيه.
وفي هذا القول يكون ، أحد ، هو الذي للعموم.
لتقدّم النفي عليه ، وجمع الضمير في : يحاجوكم ، حملاً على معنى : أحد ، كقوله تعالى { فما منكم من أحد عنه حاجزين } جمع حاجزين حملاً على معنى : أحد ، لا على لفظه ، إذ لو حمل على لفظه لأفرد.
لكن في هذا القول القول بأن : أن ، المفتوحة تأتي للنفي بمعنى لا ، ولم يقم على ذلك دليل من كلام العرب.
والخطاب في : أوتيتم ، وفي : يحاجوكم ، على هذه الأقوال الثلاثة للطائفة السابقة ، القائلة : { آمنوا بالذي أنزل } وأجاز بعض النحويين أن يكون المعنى : أن لا يؤتى أحد ، وحذفت : لا ، لأن في الكلام دليلاً على الحذف.
قال كقوله : { يبين الله لكم أن تضلوا } أي : أن لا تضلوا.
وردّ ذلك أبو العباس ، وقال : لا تحذف : لا ، وإنما المعنى : كراهة أن تضلوا ، وكذلك هنا : كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، أي : ممن خالف دين الإسلام ، لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ، فهدى الله بعيد من غير المؤمنين.
والخطاب في : أوتيتم ، و : يحاجوكم ، لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فعلى هذا : أن يؤتى مفعول من أجله على حذف كراهة ، ويحتاج إلى تقدير عامل فيه ، ويصعب تقديره ، إذ قبله جملة لا يظهر تعليل النسبة فيها بكراهة الإيتاء المذكور.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون قوله : أن يؤتى ، بدلا من قوله : هدى الله ، ويكون المعنى : قل إن الهدى هدى الله وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن.
ويكون قوله : أو يحاجوكم ، بمعنى : أو فليحاجوكم ، فإنهم يغلبونكم.
انتهى هذا القول.
وفيه الجزم بلام الأمر وهي محذوفة ولا يجوز ذلك على مذهب البصريين إلاَّ في الضرورة.
وقال الزمخشري : ويجوز أن ينتصب : أن يؤتى ، بفعل مضمر يدل عليه قوله { ولا تؤمنوا إلاَّ لمن تبع دينكم } كأنه قيل : { قل إن الهدى هدى الله } فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا.
انتهى كلامه.
وهو بعيد ، لأن فيه حذف حرف النهي ومعموله ، ولم يحفظ ذلك من لسانهم.
وأجازوا أن يكون قوله { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم } ليس داخلاً تحت قوله : قل ، بل هو من تمام قول الطائفة ، متصل بقوله : { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } ويكون قوله : { قل إن الهدى هدى الله } جملة اعتراضية بين ما قبلها وما بعدها.

ويحتمل هذا القول وجوها :
أحدهما : أن يكون المعنى : ولا تصدّقوا تصديقاً صحيحاً وتؤمنوا إلاَّ لمن جاء بمثل دينكم ، مخافة أن يؤتى أحد من النبوّة والكرامة مثل ما أوتيتم ، ومخافة أن يحاجوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم إذا لم يستمروا عليه ، وهذا القول ، على هذا المعنى ، ثمرة الحسد والكفر مع المعرفة بصحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم.
الثاني : أن يكون التقدير : أن لا يؤتى ، فحذفت : لا ، لدلالة الكلام ، ويكون ذلك منتفياً داخلاً في حيز : إلاَّ ، لا مقدراً دخوله قبلها ، والمعنى : ولا تؤمنوا لأحد بشيء إلاَّ لمن تبع دينكم ، بانتفاء أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، وانتفاء أن يحاجوكم عند ربكم أي : إلاَّ بانتفاء كذا.
الثالث : أن يكون التقدير : بأن يؤتى ، ويكون متعلقاً بتؤمنوا ، ولا يكون داخلاً في حيز إلاَّ ، والمعنى : ولا تؤمنوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلاَّ لمن تبع دينكم ، وجاء بمثله ، وعاضداً له ، فإن ذلك لا يؤتاه غيركم.
ويكون معنى : { أو يحاجوكم عند ربكم } بمعنى : إلاَّ أن يحاجوكم ، كما تقول : أنا لا أتركك أو تقضيني حقي ، وهذا القول على هذا المعنى ثمرة التكذيب لمحمد صلى الله عليه وسلم ، على اعتقاد أن النبوّة لا تكون إلاَّ في بني إسرائيل.
الرابع : أن يكون المعنى : لا تؤمنوا بمحمد وتقروا بنبوّته إذ قد علمتم صحتها إلاَّ لليهود الذين هم منكم ، و { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم } صفة لحال محمد صلى الله عليه وسلم ، فالمعنى : تستروا بإقراركم أن قد أوتي أحد مثل أوتيتم ، أو فإنهم يعنون العرب ، يحاجونكم بالإقرار عند ربكم.
وقال الزمخشري في هذا الوجه ، وبدأ به ما نصه : ولا تؤمنوا ، متعلق بقوله : أن يؤتى أحد ، و : ما بينهما اعتراض ، أي : ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلاَّ لأهل دينكم دون غيرهم ، أرادوا : أسِرُّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلا لأشياعكم وحدهم دون المسلمين ، لئلا يزيدوا ثباتاً ، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام : { أو يحاجوكم عند ربكم } عطف على { أن يؤتى } والضمير في : يحاجوكم ، لأحدَ لأنه في معنى الجميع بمعنى : ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ، ويغالبونكم عند الله بالحجة.
انتهى كلامه.
وأما : أحد ، على هذه الأقوال فإن كان الذي للعموم ، وكان ما قبله مقدراً بالنفي ، كقول بعضهم أن المعنى : لا يؤتى ، أو : إن المعنى : أن لا يؤتى أحد ، فهو جار على المألوف في لسان العرب من أنه لا يأتي إلاَّ في النفي أو ما أشبه النفي : كالنهي ، وإن كان الفعل مثبتاً يدخل هنا لأنه تقدم النفي في أول الكلام ، كما دخلت من في قوله :

{ أن ينزل عليكم من خير } للنفي قبله في قوله : { ما يودّ }
ومعنى الاعتراض على هذه الأوجه أنه أخبر تعالى بأن ما راموا من الكيد والخداع بقولهم : { آمنوا بالذي أنزل } الآية ، لا يجدي شيئاً ، ولا يصدّ عن الإيمان من أراد الله إيمانه ، لأن الهدى هو هدى الله ، فليس لأحد أن يحصله لأحد ، ولا أن ينفيه عن أحد.
وقرأ ابن كثير : أن يؤتى أحد؟ بالمدّ على الاستفهام ، وخرجه أبو عليّ على أنه من قول الطائفة ، ولا يمكن أن يحمل على ما قبله من الفعل ، لأن الإستفهام قاطع ، فيكون في موضع رفع على الإبتداء وخبره محذوف تقديره تصدّقون به ، أو تعترفون ، أو تذكرونه لغيركم ، ونحوه مما يدل عليه الكلام.
و : يحاجوكم ، معطوف على : أن يؤتى.
قال أبو علي : ويجوز أن يكون موضع : أن ، نصباً ، فيكون المعنى : أتشيعون ، أو : أتذكرون أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؟ ويكون بمعنى : أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم؟ فعلى كلا الوجهين معنى الآية توبيخ من الأحبار للاتباع على تصديقهم بأن محمداً نبي مبعوث ، ويكون : أو يحاجوكم ، في تأويل نصب أن بمعنى : أو تريدون أن يحاجوكم؟.
قال أبو عليّ وأحد ، على قراءة ابن كثير هو الذي لا يدل على الكثرة ، وقد منع الإستفهام القاطع من أن يشيع لامتناع دخوله في النفي الذي في أول الكلام ، فلم يبق إلاَّ أنه : أحد ، الذي في قولك : أحد وعشرون ، وهو يقع في الإيجاب ، لأنه في معنى : واحد ، وجمع ضميره في قوله : أو يحاجوكم ، حملاً على المعنى ، إذ : لأحد ، المراد بمثل النبوّة أتباع فهو في المعنى للكثرة قال أبو عليّ : وهذا موضع ينبغى أن ترجح فيه قراءة غير ابن كثير على قراءة ابن كثير ، لأن الأسماء المفردة ليس بالمستمر أن يدل على الكثرة.
انتهى تخريج أبي علي لقراءة ابن كثير ، وقد تقدم تخريج قراءته على أن يكون قوله : أن يؤتى ، مفعولاً من أجله ، على أن يكون داخلاً تحت القول من قول الطائفة ، وهو أظهر من جعله من قول الطائفة.
وقد اختلف السلف في هذه الآية ، فذهب السدّي وغيره إلى أن الكلام كله من قوله : { قل ان الهدى هدى الله } إلى آخر الآية مما أمر الله به محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقوله لأمّته.
وذهب قتادة ، والربيع : إلى أن هذا كله من قول الله ، أمره أن يقوله للطائفة التي قالت : { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } وذهب مجاهد وغيره إلى أن قوله { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم } كله من قول الطائفة لأتباعهم ، وقوله { قل إن الهدى هدى الله } اعتراض بين ما قبله وما بعده من قول الطائفة لأتباعهم.

وذهب ابن جريج إلى أن قوله : { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم } داخل تحت الأمر الذي هو : قل ، يقوله الرسول لليهود ، وتم مقوله في قوله : أوتيتم.
وأما قوله : { أو يحاجوكم عند ربكم } فهو متصل بقول الطائفة { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } وعلى هذه ، الانحاء ترتيب الأوجه السابقة.
وقرأ الأعمش وشعيب بن أبي حمزة : إن يؤتى ، بكسر الهمزة بمعنى : لم يعط أحد مثل ما أعطيتم من الكرامة ، وهذه القراءة يحتمل أن يكون الكلام خطاباً من الطائفة القائلة؟ ويكون قولها : أو يحاجوكم ، بمعنى : أو ، فليحاجوكم ، وهذا على التصميم على أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتي ، أو يكون بمعنى : إلاَّ أن يحاجوكم ، وهذا على تجويز : أن يؤتى ، أحد ذلك إذا قامت الحجة له.
هذا تفسير ابن عطية لهذه القراءة ، وهذا على أن يكون من قول الطائفة.
وقال أيضاً في تفسيرها : كأنه صلى الله عليه وسلم يخبر أمّته أن الله لا يعطي أحداً ، ولا أعطى فيما سلف مثل ما أعطى أمّة محمد من كونها وسطاً ، فهذا التفسير على أنه من كلام محمد صلى الله عليه وسلم لأمّته ، ومندرج تحت : قل.
وعلى التفسير الأول فسرها الزمخشري ، قال : وقرىء : إن يؤتى أحد على : إن ، النافية وهو متصل بكلام أهل الكتاب أي : ولا تؤمنوا إلاَّ لمن تبع دينكم وقولوا ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم ، أي : ما يؤتون مثله فلا يحاجوكم.
قال ابن عطية : وقرأ الحسن : ان يؤتى أحدٌ ، بكسر التاء على اسناد الفعل إلى : أحد ، والمعنى أن إنعام الله لا يشبهه إنعام أحد من خلقه ، وأظهر ما في هذه القراءة أن يكون خطاباً من محمد صلى الله عليه وسلم لأمته ، والمفعول محذوف تقديره : ان يؤتى أحد أحداً. انتهى.
ولم يتعرّض ابن عطية للفظ : ان ، في هذه القراءة : أهي بالكسر أم بالفتح.
وقال السجاوندي : وقرأ الأعمش : ان يؤتى ، و : الحسن : ان يؤتى أحداً ، جعلا : ان ، نافية ، وإن لم تكن بعد إلاَّ كقوله تعالى : { فيما إن مكناكم فيه } و : أو ، بمعنى : إلاَّ إن ، وهذا يحتمل قول الله عز وجل ، ومع اعتراض : قل ، قول اليهود. انتهى.
وفي معنى : الهدى ، هنا قولان : أحدهما : ما أوتيه المؤمنون من التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني : التوفيق والدلالة إلى الخير حتى يسلم ، أو يثبت على الإسلام.
ويحتمل : عند ربكم ، وجهين : أحدهما : أن ذلك في الآخرة.
والثاني : عند كتب ربكم الشاهدة عليكم ولكم ، وأضاف ذلك إلى الرب تشريفاً ، وكان المعنى : أو يحاجوكم عند الحق ، وعلى هذين المعنيين تدور تفاسير الآية ، فيحمل كل منها على ما يناسب من هذين المعنيين.
{ قل إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء } هذا توكيد لمعنى { قل إنّ الهدى هدى الله } وفي ذلك تكذيب لليهود حيث قالو : شريعة موسى مؤبدة ولن يؤتي الله أحداً مثل ما أوتي بنو إسرائيل من النبوّة ، فالفضل هو بيد الله.

أي : متصرّف فيه كالشيء في اليد ، وهذه كناية عن قدرة التصرّف والتمكن فيها والباري تعالى منزه عن الجارحة.
ثم أخبر بأنه يعطيه من أراد ، فاختصاصه بالفضل من شاء ، إنما سببه الإرادة فقط ، وفسر : الفضل ، هنا بالنبوّة أشرف أفراده.
{ والله واسع عليم } تقدّم تفسيره.
{ يختص برحمته من يشاء } قال الحسن ، ومجاهد ، والربيع : يفرد بنبوّته من يشاء.
وقال ابن جريج : بالإسلام والقرآن.
وقال ابن عباس ، ومقاتل : الإسلام.
وقيل : كثرة الذكر لله تعالى.
{ والله ذو الفضل العظيم } تقدّم تفسير هذا وتفسير ما قبله في آخر آية : { ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب } وتضمنت هذه الآيات من البديع : التجنيس المماثل ، والتكرار في : آمنوا وآمنوا ، وفي الهدى ، هدى الله وفي : يؤتى وأوتيتم ، وفي : ان افضل ، وذو الفضل.
والتكرار أيضاً في : اسم الله ، في أربعة مواضع.
والطباق : في آمنوا واكفروا ، وفي وجه النهار وفي آخره ، والإختصاص.
في : وجه النهار ، لأنه وقت اجتماعهم بالمؤمنين يراؤونهم ، وآخره لأنه وقت خلوتهم بأمثالهم من الكفار ، والحذف في مواضع.

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)

الدينار : معروف وهو أربعة وعشرون قيراطاً ، والقيراط : ثلاث حبات من وسط الشعير ، فمجموعه : اثنتان وسبعون حبة ، وهو مجمع عليه.
وفاؤه بدل من نون ، يدل على ذلك الجمع ، قالوا : دنانير ، وأصله : دنار ، أبدل من أول المثلين ، كما أبدلوا من النون في ثالث الأمثال ياءً في : تظنيت.
أصله تظننت ، لأنه من الظن ، وهو بدل مسموع ، والدينار : لفظ أعجمي تصرّفت فيه العرب وألقته بمفردات كلامها.
دام : ثبت ، والمضارع : يدوم ، فوزنه ، فعل نحو قال : يقول ، قال الفراء : هذه لغة الحجاز وتميم ، تقول : دِمت ، بكسر الدال.
قال : ويجتمعون في المضارع ، يقولون : يدوم.
وقال أبو إسحاق يقول : دمت تدام ، مثل : نمت تنام ، وهي لغة ، فعلى هذا يكون وزن دام ، فعل بكسر العين ، نحو : خاف يخاف.
والتدويم الاستدارة حول الشيء.
ومنه قول ذي الرمة :
والشمس حيرى لها في الجوّ تدويم . . .
وقال علقمة في وصف خمر :
تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها . . .
ولا يخالطها في الرأس تدويم
والدوام : الدوار ، يأخذ في رأس الإنسان فيرى الأشياء تدور به.
وتدويم الطائر في السماء ثبوته إذا صف واستدار.
ومنه : الماء الدائم ، كأنه يستدير حول مركزه.
لوى الحبل والتوى : فتله ثم استعمل في الإراغة في الحجج والخصومات ، ومنه : ليان الغريم : وهو دفعه ومطله ، ومنه : خصم ألوى : شديد الخصومة ، شبهت المعاني بالإجرام.
اللسان : الجارحة المعروفة.
قال أبو عمرو : اللسان يذكر ويؤنث ، فمن ذكر جمعه ألسنة ومن أنث أمعه ألسنا.
وقال الفراء : اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلاَّ مذكراً. انتهى.
ويعبر باللسان عن الكلام ، وهو أيضاً يذكر ويؤنث إذا أريد به ذلك.
الرباني : منسوب إلى الرب ، وزيدت الألف والنون مبالغة.
كما قالوا : لحياني ، وشعراني ، ورقباني.
فلا يفردون هذه الزيادة عن ياء النسبة.
وقال قوم : هو منسوب إلى ربان ، وهو معلم الناس وسائسهم ، والألف والنون فيه كهي في : غضبان وعطشان ، ثم نسب إليه فقالوا : رباني ، فعلى هذا يكون من النسب في الوصف ، كما قالوا : أحمري في أحمر ، و : دواري في دّوار ، وكلا القولين شاذ لا يقاس عليه.
درس الكتاب يدرسه : أدمن قراءته وتكريره ، ودرس المنزل : عفا ، وطلل دارس : عافٍ.
{ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده اليك ومنهم من إن تامنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً } الجمهور على أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى أخبر الله تعالى بذم الخونة منهم ، فظاهره أن في اليهود والنصارى من يؤتمن فيفي ومن يؤتمن فيخون.
وقيل : أهل الكتاب عنى به أهل القرآن ، قاله ابن جريج.
وهذا ضعيف جداً لما يأتي بعده من قولهم : { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل } وقيل : المراد بأهل الكتاب : اليهود ، لأن هذا القول { ليس علينا في الأميين سبيل } لم يقله ولا يعتقده إلاَّ اليهود.

وقيل : { من إن تأمنه بقنطار } هم النصارى لغلبة الأمانة عليهم.
و : { من إن تأمنه بدينار } هم اليهدو لغلبة الخيانة عليهم.
وعين منهم كعب بن الأشرف وأصحابه.
وقيل : { من إن تأمنه بقنطار } هم من أسلم من أهل الكتاب.
و : { من إن تأمنه بدينار } من لم يسلم منهم.
وروي أنه بايع بعض العرب بعض اليهود وأودعوهم فخانوا من أسلم ، وقالوا : قد خرجتم عن دينكم الذي عليه بايعناكم ، وفي كتابنا : لا حرمة لأموالكم ، فكذبهم الله تعالى.
قيل : وهذا سبب نزول هذه الآية.
وعن ابن عباس : { من إن تأمنه بقنطار يؤده } هو عبد الله بن سلام ، استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية ذهباً ، فأدّاه إليه.
و : { من إن تأمنه بدينار } فنحاص بن عازوراء ، استودعه رجل من قريش ديناراً فجحده وخانه. انتهى.
ولا ينحصر الشرط في ذينك المعينين ، بل كل منهما فرد ممن يندرج تحت : من.
ألا ترى كيف جمع في قوله : { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا } قالوا والمخاطب بقوله : تأمنه ، هو النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف ، ويحتمل أن يكون السامع من أهل الإسلام ، وبيّنه قولهم : { ليس علينا في الأمّيين سبيل } فجمع الأمّيين وهم اتباع النبي الأمي.
وقرأ أبي بن كعب : تئمنه ، في الحرفين ، و : تئمنا ، في يوسف.
وقرأ ابن مسعود ، والأشهب العقيلي ، وابن وثاب : تيمنه ، بتاء مكسورة وياء ساكنة بعدها ، قال الداني : وهي لغة تميم.
وأما إبدال الهمزة ياء في : تئمنه ، فلكسرة ما قبلها كما أبدلوا في بئر.
وقد ذكرنا الكلام على حروف المضارعة من : فعل ، ومن : ما أوله همزة وصل عند الكلام على قوله { نستعين } فأغنى عن إعادته.
وقال : ابن عطية ، حين ذكر قراءة أبي : وما أراها إلاَّ لغة : قرشية ، وهي كسر نون الجماعة : كنستعين ، وألف المتكلم ، كقول ابن عمر : لا إخاله ، وتاء الخاطب كهذه الآية ، ولا يكسرون الياء في الغائب ، وبها قرأ أبي في : تئمنه. انتهى.
ولم يبين ما يكسر فيه حروف المضارعة بقانون كلي ، وما ظنه من أنها لغة قرشية ليس كما ظنّ.
وقد بينا ذلك في { نستعين } وتقدّم تفسير : القنطار ، في قوله : { والقناطير المقنطرة }
وقرأ الجمهور : يؤده ، بكسر الهاء ووصلها بياء.
وقرأ قالون باختلاس الحركة ، وقرأ أبو عمرو ، وأبو بكر ، وحمزة ، والأعمش بالسكون.
قال أبو إسحاق : وهذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بيِّن ، لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم ، وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تسكن في الوصل.
وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة ، فغلط عليه كما غلط عليه في : بارئكم ، وقد حكى عنه سيبويه ، وهو ضابط لمثل هذا ، أنه كان يكسر كسراً خفيفاً.
انتهى كلام ابن إسحاق.
وما ذهب إليه أبو إسحاق من أن الإسكان غلط ليس بشيء ، إذ هي قراءة في السبعة ، وهي متواترة ، وكفى أنها منقولة من إمام البصريين أبي عمرو بن العلاء.

فإنه عربي صريح ، وسامع لغة ، وإمام في النحو ، ولم يكن ليذهب عنه جواز مثل هذا.
وقد أجاز ذلك الفراء وهو إمام في النحو واللغة.
وحكى ذلك لغة لبعض العرب تجزم في الوصل والقطع.
وقد روى الكسائي أن لغة عقيل وكلاب : أنهم يختلسون الحركة في هذه الهاء إذا كانت بعد متحرك ، وأنهم يسكنون أيضاً.
قال الكسائي : سمعت أعراب عقيل وكلاب يقولون : { لربه لكنود } بالجزم ، و : لربه لكنود ، بغير تمام وله مال وغير عقيل وكلاب لا يوجد في كلامهم اختلاس ولا سكون في : له وشبهه إلاَّ في ضرورة نحو قوله.
له زجل كأنه صوت حاد . . .
وقال :
إلا لأن عيونه سيل واديها . . .
ونص بعض أصحابنا على أن حركة هذه الهاء بعد الفعل الذاهب منه حرف لوقف أو جزم يجوز فيها الإشباع ، ويجوز الاختلاس ، ويجوز السكون.
وأبو إسحاق الزجاج ، يقال عنه : إنه لم يكن إماماً في اللغة ، ولذلك أنكر على ثعلب في كتابه : ( الفصيح ) مواضع زعم أن العرب لا تقولها ، وردّ الناس على أبي إسحاق في إنكاره ، ونقلوها من لغة العرب.
وممن ردّ عليه : أبو منصور الجواليقي ، وكان ثعلب إماماً في اللغة وإماماً في النحو على مذهب الكوفيين ، ونقلوا أيضاً قراءتين : إحداهما ضم الهاء ووصلها بواو ، وهي قراءة الزهري ، والأخرى : ضمها دون وصل ، وبها قرأ سلام.
والباء في : بقنطار ، وفي : بدينار قيل : للإلصاق.
وقيل : بمعنى على ، إذا الأصل أن تتعدى بعلى ، كما قال مالك : { لا تأمنا على يوسف } وقال : { هل آمنكم عليه إلاَّ كما أمنتكم على أخيه } وقيل : بمعنى في أي : في حفظ قنطار ، وفي حفظ دينار.
والذي يظهر أن القنطار والدينار مثالان للكثير والقليل ، فيدخل أكثر من القنطار وأقل.
وفي الدينار أقل منه.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد طبقه يعني في الدينار لا يجوز إلاَّ في دينار فما زاد ، ولم يعن بذكر الخائنين في : أقل ، إذ هم طغام حثالة. انتهى.
ومعنى : { إلاَّ ما دمت عليه قائماً } قال قتادة ، ومجاهد ، والزجاج ، والفراء ، وابن قتيبة : متقاضياً بأنواع التقاضي من : الخفر ، والمرافعة إلى الحكام ، فليس المراد هيئة القيام ، إنما هو من قيام المرء على أشغاله : أي اجتهاده فيها.
وقال السدي وغيره : قائماً على رأسه وهي الهيئة المعروفة وذلك نهاية الخفر ، لأن معنى ذلك الخفر ، لأن معنى ذلك أنه في صدد شغل آخر يريد أن يستقبله.
وذهب إلى هذا التأويل جماعة من الفقهاء ، وانتزعوا من الآية جواز السجن ، لأن الذي يقوم عليه غريمه هو يمنعه من تصرفاته في غير القضاء ، ولا فرق بين المنع من التصرفات وبين السجن.
وقيل : قائماً بوجهك فيها بك ويستحي منك.
وقيل : معنى : دمت عليه قائماً ، أي : مستعلياً ، فإن استلان جانبك لم يؤدّ إليك أمانتك.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش ، وابن أبي ليلى ، والفياض بن غزوان ، وطلحة ، وغيرهم : دمت بكسر الدال ، وتقدم أنها لغة تميم وتقدم الخلاف في مضارعه.

و : ما ، في : ما دمت ، مصدرية ظرفية.
و : دمت ، ناقصة فخبرها : قائماً ، وأجاز أبو البقاء أن تكون : ما ، مصدرية فقط لا ظرفية ، فتتقدر بمصدر ، وذلك المصدر ينتصب على الحال ، فيكون ذلك استثناءً من الأحوال لا من الأزمان.
قال : والتقدير : إلاَّ في حال ملازمتك له.
فعلى هذا يكون : قائماً ، منصوباً على الحال ، لا خبراً لدام ، لأن شرط نقص : دام ، أن يكون صلة لما المصدرية الظرفية.
{ ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الامّيين سبيل } روي أن بني إسرائيل كانوا يعتقدون استحلال أموال.
العرب لكونهم أهل أوثان ، فلما جاء الإسلام ، وأسلم من أسلم من العرب ، بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد ، فنزلت الآية مانعة من ذلك.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كل شيء من أمر الجاهلية فهو تحت قدمي ، إلاَّ الأمانة فإنها مؤادّة إلى البر والفاجر » والإشارة بذلك إلى ترك الأداء الذي دل عليه لا يؤدّه ، أي : كونهم لا يؤدّون الأمانة كان بسبب قولهم.
والضمير في : بأنهم ، قيل : عائد على اليهود وقيل : عائد على لفيف بني إسرائيل.
والأظهر أنه عائد على : من ، في قوله : { من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك } وجمع حملاً على المعنى ، أي : ترك الأداء في الدِّينار فما دونه وفما فوقه كائن بسبب قول المانع للأداء الخائن : { ليس علينا في الأمّيين } وهم الذين ليسوا من أهل الكتاب ، وهم العرب.
وتقدّم كونهم سموا أمّيين في سورة البقرة.
والسبيل ، قيل : العتاب والذم وقيل : الحجة على ، نحو قول حميد بن ثور :
وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة . . .
من السرح موجود عليّ طريق
وقوله : فأولئك ما عليهم من سبيل من هذا المعنى ، وهو كثير في القرآن وكلام العرب وقيل : السبيل هنا الفعل المؤدّي إلى الإثم.
والمعنى : ليس عليهم طريق فيما يستحلون من أموال المؤمنين الأمّيين.
قال : وسبب استباحتهم لأموال الأمّيين أنهم عندهم مشركون ، وهم بعد إسلامهم باقون على ما كانوا عليه ، وذلك لتكذيب اليهود للقرآن وللنبي صلى الله عليه وسلم وقيل : لأنهم انتقض العهد الذي كان بينهم بسبب إسلامهم ، فصاروا كالمحاربين ، فاستحلوا أموالهم وقيل : لأن ذلك مباح في كتابهم أخذ مال من خالفهم.
وقال الكلبي : قالت اليهود : الأموال كلها كانت لنا ، فما في أيدي العرب منها فهو لنا ، وأنهم ظلمونا وغصبونا ، فلا سبيل علينا في أخذ أموالنا منهم وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن صعصعة ، أن رجلاً قال لابن عباس : أنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمّة : الشاة والدجاجة ، ويقولون : ليس علينا بذلك بأس ، فقال له : هذا كما قال أهل الكتاب : { ليس علينا في الأمّيين سبيل } أنهم إذا أدّوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلاَّ عن طيب أنفسهم.

وذكر هذا الأثر الزمخشري ، وابن عطية ، وفيه بعد ذكر الشاة أو الدجاجة ، قال : فيقولون ماذا قال؟ يقول : ليس علينا في ذلك بأس.
{ ويقولون على الله الكذب } أي القول الكذب يفترونه على الله بادعائهم أن ذلك في كتابهم.
قال السدّي ، وابن جريج ، وغيرهما : ادعت طائفة من أهل الكتاب أن في التوراة إحلالاً لهم أموال الأمّيين كذباً منها وهي عالمة بكذبها ، فيكون الكذب المقول هنا هو هذا الكذب المخصوص في هذا الفصل.
والظاهر أنه أعم من هذا ، فيندرج هذا فيه ، أي : هم يكذبون على الله في غير ما شيء وهم علماء بموضع الصدق.
وجوّزوا أن يكون : علينا ، خبر : ليس ، وأن يكون الخبر : في الأمّيين ، وذهب قوم إلى عمل : ليس ، في الجار ، فيجوز على هذا أن يتعلق بها.
قيل : ويجوز أن يرتفع : سبيل ، بعلينا ، وفي : ليس ، ضمير الأمر ، ويتعلق : على الله ، بيقولون بمعنى : يفترون.
قيل : ويجوز أن يكون حالاً من الكذب مقدماً عليه ولا يتعلق بالكذب.
قيل : لأن الصلة لا تتقدّم على الموصول.
{ وهم يعلمون } جملة حالية تنعى عليهم قبيح ما يرتكبون من الكذب ، أي : إن العلم بالشيء يبعد ويقبح أن يكذب فيه ، فكذبهم ليس عن غفلة ولا جهل ، إنما هو عن علم.
{ بلى } جواب لقولهم : { ليس علينا في الأمّيين سبيل } وهذا مناقض لدعواهم ، والمعنى : بلى عليهم في الأمّيين سبيل ، وقد تقدّم القول في : بلى ، في قوله { بلى من كسب سيئة } فأغنى عن إعادته هنا.
{ من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين } أخبر تعالى بأن من أوفى بالعهد واتقى الله في نقضه فهو محبوب عند الله وقال ابن عباس : اتقى هنا معناه اتقى الشرك ، وهذه الجملة مقررة للجملة المحذوفة بعد بلى ، و : من ، يحتمل أن تكون موصولة ، والأظهر أنها شرطية ، و : أوفى ، لغة الحجاز.
و : وفى ، خفيفة لغة نجد و : وفى ، مشدّدة لغة أيضاً.
وتقدّم ذكر هذه اللغات.
والظاهر في : بعهده ، أن الضمير عائد على : من وقيل : يعود على الله تعالى ، ويدخل في الوفاء بالعهد ، العهد الأعظم من ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، سواء أضيف العهد إلى : من ، أو : إلى الله ، والشرائط للجملة الخبرية أو الجزائية بمن هو العموم الذي في المتقين ، أو ما قبله ، فرد من أفراده ، ويحتمل أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة المعنى عليه ، التقدير : يحبه الله ، ثم قال { فإن الله يحب المتقين } وأتى بلفظ : المتقين ، عاماً تشريفاً للتقوى دحضاً عليها.
{ إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً } نزلت في أحبار اليهود : أبي رافع ، وكنانة بن أبي الحقيق ، وكعب بن الأشرف ، وحيي بن أخطب ، قاله عكرمة.

أو : فيمن حرّف نعته صلى الله عليه وسلم من اليهود ، قاله الحسن.
أو : في خصومة الأشعث بن قيس مع يهودي ، أو مع بعض قرابته.
أو : في رجل حلف على سلعة مساءً لأعطي بها أول النهار كذا ، يميناً كاذبة ، قاله مجاهد ، والشعبي.
والإضافة في { بعهد الله } إما للفاعل وإما للمفعول ، أي : بعهد الله إياه من الإيمان بالرسول الذي بعث مصدّقاً لما معهم ، وبأيمانهم التي حلفوها لنؤمنن به ولننصرنه ، أو بعهد الله.
والاشتراء هنا مجاز ، والثمن القليل : متاع الدنيا من الرشى والتراؤس ونحو ذلك ، والظاهر أنها في أهل الكتاب لما احتف بها من الآيات التي قبلها والآيات التي بعدها.
{ أولئك لا خلاق لهم في الآخرة } أي : لا نصيب لهم في الآخرة ، اعتاضوا بالقليل الفاني عن النعيم الباقي ، ونعني : لا نصيب له من الخير ، نفي نصيب الخير عنه.
{ ولا يكلمهم الله } قال الطبري : أي بما يسرهم وقال غيره : لا يكلمهم جملة وإنما تحاسبهم الملائكة ، قاله الزّجاج.
وقال قوم : هو عبارة عن الغضب ، أي : لا يحفل بهم ، ولا يرضى عنهم ، وقاله ابن بحر.
وقد تقدّم في البقرة شرح : { ولا يكلمهم الله }
{ ولا ينظر إليهم يوم القيامة } قال الزمخشري : ولا ينظر إليهم مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم ، تقول : فلان لا ينظر إلى فلان ، يريد نفي اعتداده به ، واحسانه إليه.
فإن قلت أي فرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر وفيمن لا يجوز عليه.
قلت أصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية ، لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه ، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان ، وإن لم يكن ثَمّ نظر ، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجرداً لمعنى الإحسان مجازاً عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر.
انتهى كلامه.
وقال غيره : ولا ينظر أي : لا يرحم قال :
فقلت انظري يا أحسن الناس كلهم . . .
لذي غلة صديان قد شفه الوجدُ
{ ولا يزكيهم } ولا يثني عليهم أو لا ينمي أعمالهم ، فهي تنمية لهم ، أو لا يطهرهم من الذنوب.
أقوال ثلاثة ، وتقدّم شرحه في البقرة.
{ ولهم عذاب أليم } تقدّم شرحه أيضاً.
{ وإن منهم لفريقاً } أي : من اليهود ، قاله الحسن : أو : من أهل الكتابين ، قاله ابن عباس.
وعن ابن عباس أيضاً : هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف غيّروا التوراة.
وكتبوا كتاباً بدلوا فيه صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم.
{ يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب } أي : يفتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف ، قاله الزمخشري وقال ابن عطية : يحرفون ويتحيلون لتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها ، ومثال ذلك قولهم : راعنا ، وأسمع غير مسمع ، ونحو ذلك وليس التبديل المحض.

انتهى.
والذي يظهر أن الليّ وقع بالكتاب أي : بألفاظه لا بمعانيه وحدها كما يزعم بعض الناس ، بل التحريف والتبديل وقع في الألفاظ ، والمعاني تبع للألفاظ ، ومن طالع التوراة علم يقيناً أن التبديل في الألفاظ والمعاني ، لأنها تضمنت أشياء يجزم العاقل أنها ليست من عند الله ، ولا أن ذلك يقع في كتاب إلهي من كثرة التناقض في الاخبار والأعداد ونسبة أشياء إلى الله تعالى من الأكل والمصارعة وغير ذلك ، ونسبة أشياء إلى الأنبياء من الكذب والسكر من الخمر والزنا ببناتهم.
وغير ذلك من القبائح التي ينزه العاقل نفسه عن أن يتصف بشيء منها ، فضلاً عن منصب النبوة.
وقد صنف الشيخ علاء الدين علي بن محمد بن خطاب الباجي ، رحمه الله تعالى ، كتاباً في ( السؤالات على ألفاظ التوراة ومعانيه ) ومن طالع ذلك الكتاب رأى فيه عجائب وغرائب ، وجزم بالتبديل لألفاظ التوراة ومعانيها ، هذا مع خلوها من ذكر : الآخرة ، والبعث ، والحشر ، والنشر ، والعذاب والنعيم الأخرويين ، والتبشير برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأين هذا من قوله تعالى { الذين يتبعون الرسول النبيّ الأميّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } وقوله تعالى وقد ذكر رسوله وصحابته.
{ ذلك مثلهم في التوراة }
وقد نص تعالى في القرآن على ما يقتضي إخفاءهم لكثير من التوراة ، قال تعالى : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً } وقال تعالى { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب } فدلت هاتان الآيتان على أن الذي أخفوه من الكتاب كثير ، ودل بمفهوم الصفة أن الذي أبدوه من الكتاب قليل.
وقرأ الجمهور : يلوون ، مضارع : لوى وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، وشيبة بن نصاح ، وأبو حاتم عن نافع : يلوون بالتشديد ، مضارع : لوّى ، مشدّداً.
ونسبها الزمخشري لأهل المدينة ، والتضعيف للمبالغة والتكثير في الفعل لا للتعدية وقرأ حميد : يلون ، بضم اللام ، ونسبها الزمخشري إلى أنها رواية عن مجاهد ، وابن كثير ، ووجهت على أن الأصل : يلوون ، ثم أبدلت الواو همزة ، ثم نقلت حركتها إلى الساكن قبلها ، وحذفت هي.
والكتاب : هنا التوراة ، والمخاطب في : لتحسبوه ، المسلمون وقرىء : ليحسبوه ، بالياء وهو يعود على الذين يلوون ألسنتهم لهم ، أي : ليحسبه المسلمون ، والضمير المفعول في : ليحسبوه ، عائد على ما دل عليه ما قبله من المحرف ، أي ليحسبوا المحرف من الكتاب.
ويحتمل أن يكون قوله : بالكتاب ، على حذف مضاف أي : يلوون ألسنتهم بشبه الكتاب ، فيعود الضمير على ذلك المضاف المحذوف ، كقوله تعالى : { أو كظلمات في بحر لجّي يغشاه } أي : أو كذي ظلمات ، فأعاد المفعول في : يغشاه ، على : ذي ، المحذوف.
{ وما هو من الكتاب } أي : وما المحرف والمبدل الذي لووه بألسنتهم من التوراة ، فلا تظنوا ذلك أنه من التوراة.

{ ويقولون هو من عند الله } تأكيد لما قصدوه من حسبان المسلمين أنه من الكتاب ، وافتراء عظيم على الله ، إذ لم يكتفوا بهذا الفعل القبيح من التبديل والتحريف حتى عضدوا ذلك بالقول ليطابق الفعل القول ، ودل ذلك على أنهم لا يعرضون ، ولا يودّون في ذلك ، بل يصرحون بأنه في التوراة هكذا ، وقد أنزله الله على موسى كذلك ، وذلك لفرط جرأتهم على الله ويأسهم من الآخرة.
{ وما هو من عند الله } رد عليهم في إخبارهم بالكذب ، وهذا تأكيد لقوله { وما هو من الكتاب } نفى أولاً أخص ، إذ التعليل كان لأخص ، ونفي هنا أعم ، لأن الدعوى منهم كانت الأعم ، لأن كونه من عند الله أعم من أن يكون في التوراة أو غيرها.
قال أبو بكر الرازي : هذه الآية فيها دلالة على أن المعاصي ليست من عند الله ولا من فعله ، لأنها لو كانت من فعله كانت من عنده.
وقد نفى الله تعالى نفياً عامّاً لكون المعاصي من عنده. انتهى.
وهذا مذهب المعتزلة ، وكان الرازي يجنح إلى مذهبهم.
وقال ابن عطية { وما هو من عند الله } نفي أن يكون منزلاً كما ادّعوا ، وهو من عند الله بالخلق والاختراع والإيجاد ، ومنهم بالتكسب.
ولم تعن الآية إلاَّ معنى التنزيل ، فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله : { وما هو من عند الله }.
{ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } تقدّم تفسير مثل هذا آنفاً.
{ ما كان لبشر أن يأتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله } « روي أن أبا رافع القرظي قال للنبي صلى الله عليه وسلم ، حين اجتمت الأحبار من يهود ، والوفد من نصارى نجران : يا محمد! إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلهاً كما عبدت النصارى عيسى؟ فقال الرئيس من نصارى نجران : أَوَ ذاك تريد يا محمد واليه تدعونا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » معاذ الله ما بذلك أمرت ولا إليه دعوت « ، فنزلت.
وقيل : » قال رجل : يا رسول الله! نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض ، أفلا نسجد لك؟ قال : « لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله » واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله : { ما كان لبشر } فقال ابن عباس ، والربيع ، وابن جريج ، وجماعة : الإشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وذكروا سبب النزول المذكور.
وقال النقاش ، وغيره : الإشارة إلى عيسى ، والآية رادّة على النصارى الذين قالوا : عيسى إله ، وادعوا أن عبادته هي شرعة مستندة إلى أوامره ، ومعنى { ما كان لبشر أن يؤتيه الله } وما جاء نحوه أنه ينفي عنه الكون ، والمراد نفي الخبر ، وذلك على قسمين.
أحدهما : أن يكون الانتفاء من حيث العقل ، ويعبر عنه بالنفي التام ، ومثاله قوله :

{ ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله }
والثاني : أن يكون الانتفاء فيه على سبيل الانتفاء ، ويعبر عنه بالنفي غير التام ، ومثاله قول أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه : ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدّم أن يصلى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومدرك القسمين إنما يعرف بسياق الكلام الذي النفي فيه ، وهذه الآية من القسم الأول ، لأنا نعلم أن الله لا يعطي الكَذَبة والمدَّعين النبوّة ، وفي هذه الآية دلالة على عصمة الأنبياء عليهم السلام.
والكتاب : هنا اسم جنس ، والحكم : قيل بمعنى الحكمة ، ومنه : « إن من الشعر لحكماً ».
وقيل : الحكم هنا السنة ، يعنون لمقابلته الكتاب ، والظاهر أن الحكم هنا القضاء والفصل بين الناس ، وهذا من باب الترقي ، بدأ أولاً بالكتاب وهو العلم ، ثم ترقى إلى التمكين وهو الفصل بين الناس ثم ترقى إلى الرتبة العليا وهي النبوّة وهي مجمع الخير ، ثم يقول للناس.
أتى بلفظ : ثم ، التي هي للمهلة تعظيماً لهذا القول ، وإذا انتفى هذا القول بعد المهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى ، أي : إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول ، وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام العظيم.
{ كونوا عباداً لي من دون الله } عباداً جمع عبد.
قال ابن عطية : ومن جموعه : عبيد وعبدّي.
قال بعض اللغويين : هذه الجموع كلها بمعنى.
وقال قوم : العباد لله والعبيد للبشر.
وقال قوم : العبدي إنما يقال في العبيد بني العبيد ، كأنه مبالغة تقتضي الاستغراق في العبودية.
والذي استقرئت في لفظة : العباد ، أنه جمع عبد ، متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن فانظر قوله تعالى : { والله رؤوف بالعباد } { وعباد مكرمون } { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض { إن تعذبهم فانهم عبادك }
وأما : العبيد ، فيستعمل في التحقير ، ومنه قول امرىء القيس :
قولاً لدودان عبيد العصا . . .
ما غركم بالأسد الباسل
ومنه قول حمزة بن عبد المطلب : وهل أنتم إلاَّ عبيد لأبي ، ومنه { وما ربك بظلام للعبيد } لأنه مكان تشقيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم ، وأنه تعالى ليس بظلام لهم مع ذلك ، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة ، لم يقع هنا ، ولذلك أنس بها في قوله : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } فهذا النوع من النظر يسلك بك سبيل العجائب في حيز فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة ، ومعنى قوله : { كونوا عباداً لي من دون الله } اعبدوني واجعلوني إلهاً.
انتهى كلام ابن عطية.
وفيه بعض مناقشة.
أما قوله : ومن جموعه : عبيد وعبدى ، أما عبيد فالأصح أنه جمع.
وقيل : اسم جمع ، و : أما عبدى فاسم جمع ، وألفه للتأنيث.
وأما ما استقرأه أن عباداً يساق في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير ، وإيراده ألفاظاً في القرآن بلفظ العباد ، وقوله : وأما العبيد فيستعمل في تحقير ، وأنشد بيت أمرىء القيس ، وقول حمزة وقوله تعالى

ويؤكد هذا قوله بعد : { قَد تبين الرشد من الغي } يعني : ظهرت الدلائل ووضحت البينات ، ولم يبق بعدها إلاَّ طريق القسر والإلجاء وليس بجائز لأنه ينافي التكليف ، وهذا الذي قاله أبو مسلم والقفال لائق بأصول المعتزلة ، ولذلك قال الزمخشري : لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، ولكن على التمكين والإختيار ، ونحوه قوله : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } أي : لو شاء لقسرهم على الإيمان ، ولكنه لم يفعل ، وبنى الأمر على الأختيار.
والدين هنا ملة الإسلام واعتقاده ، والألف واللام للعهد ، وقيل : بدل من الإضافة أي : في دين الله.
{ قد تبين الرشد من الغيّ } أي : استبان الإيمان من الكفر ، وهذا يبين أن الدين هو معتقد الإسلام.
وقرأ الجمهور : الرشد ، على وزن القفل ، والحسن : الرشد ، على وزن العنق.
وأبو عبد الرحمن : الرشد ، على وزن الجبل ، ورويت هذه أيضاً عن الشعبي ، والحسن ومجاهد.
وحكى ابن عطية عن أبي عبد الرحمن : الرشاد ، بالألف.
والجمهور على إدغام دال ، قد ، في : تاء ، تبين.
وقرىء شاذاً بالإظهار ، وتبين الرشد ، بنصب الأدلة الواضحة وبعثة الرسول الداعي إلى الإيمان ، وهذه الجملة كأنها كالعلة لانتفاء الإكراه في الدين ، لأن وضوح الرشد واستبانته تحمل على الدخول في الدين طوعاً من غير إكراه ، ولا موضع لها من الإعراب.
{ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } الطاغوت : الشيطان.
قاله عمر ، ومجاهد ، والشعبي ، والضحاك ، وقتادة ، والسدّي.
أو : الساحر ، قاله ابن سيرين ، وأبو العالية.
أو : الكاهن ، قاله جابر ، وابن جبير ، ورفيع ، وابن جريح.
أو : ما عبد من دون الله ممن يرضى ذلك : كفرعون ، ونمروذ ، قاله الطبري.
أو : الأصنام ، قاله بعضهم.
وينبغي أن تجعل هذه الأقوال كلها تمثيلاً ، لأن الطاغوت محصور في كل واحد منها.
قال ابن عطية وقدّم ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت. انتهى.
وناسب ذلك أيضاً اتصاله بلفط الغي ، ولأن الكفر بالطاغوت متقدّم على الإيمان بالله ، لأن الكفر بها هو رفضها ، ورفض عبادتها ، ولم يكتف بالجملة الأولى لأنها لا تستلزم الجملة الثانية ، إذ قد يرفض عبادتها ولا يؤمن بالله ، لكن الإيمان يستلزم الكفر بالطاغوت ، ولكنه نبه بذكر الكفر بالطاغوت على الانسلاخ بالكلية ، مما كان مشتبهاً به ، سابقاً له قبل الإيمان ، لأن في النصية عليه مزيد تأكيد على تركه.
وجواب الشرط : فقد استمسك ، وأبرز في صورة الفعل الماضي المقرون بقد الدالة في الماضي على تحقيقه ، وإن كان مستقبلاً في المعنى لأنه جواب الشرط ، إشعاراً بأنه مما وقع استمساكه وثبت وذلك للمبالغة في ترتيب الجزاء على الشرط ، وأنه كائن لا محالة لا يمكن أن يتخلف عنه ، و : بالعروة ، متعلق باستمسك ، جعل ما تمسك به من الإيمان عروة ، وهي في الأجرام موضع الإمساك وشد الأيدي شبه الإيمان بذلك.

{ بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } الباء للسبب ، و : ما ، الظاهر أنها مصدرية ، و : تعلمون ، متعدٍ لواحد على قراءة الحرميين وأبي عمرو إذ قرأوا بالتخفيف مضارع علم ، فأما قراءة باقي السبعة بضم التاء وفتح العين وتشديد اللام المكسورة ، فيتعدّى إلى اثنين ، إذ هي منقولة بالتضعيف من المتعدية إلى واحد ، وأول المفعولين محذوف تقديره : تعلمون الناس الكتاب.
وتكلموا في ترجيح أحد القراءتين على الأخرى ، وقد تقدّم أني لا أرى شيئاً من هذه التراجيح ، لأنها كلها منقولة متواترة قرآناً ، فلا ترجيح في إحدى القراءتين على الأخرى.
وقرأ مجاهد ، والحسن : تعلمون ، بفتح التاء والعين واللام المشددة ، وهو مضارع حذفت منه التاء ، التقدير : تتعلمون ، وقد تقدم الخلاف في المحذوف منهما.
وقرأ أبو حيوة : تدرسون بكسر الراء.
وروي عنه : تدرّسون ، بضم التاء وفتح الدال وكسر الراء المشددة أي : تدرسون غيركم العلم ، ويحتمل أن يكون التضعيف للتكثير لا للتعدية.
وقرىء : تدرسون ، منن أدرس بمعنى درّس نحو : أكرم وكرّم ، و : أنزل نزّل ، وقال الزمخشري : أوجب أن تكون الرئاسة التي هي قوّة التمسك بطاعة الله مسببة عن العلم والدراسة ، وكفى به دليلا على خيبة سعي من جهد نفسه وكدر وجه في جمع العلم ، ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل ، فكان مثل من غرس شجرة حسناء تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها ، ثم قال أيضاً ، بعد أسطر : وفيه أن من علم ودرس العلم ولم يعمل به فليس من الله في شيء ، وأن السبب بينه وبين ربه منقطع حيث لم تثبت النسبة إليه إلاَّ للمتمسكين بطاعته.
انتهى كلامه.
وفيه دسيسة الاعتزال ، وهو أنه : لا يكون مؤمناً عالماً إلاَّ بالعمل ، وأن العمل شرط في صحة الإيمان.

وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)

{ ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً } قرأ الحرميان ، والنحويان ، والأعشى والبرجمي : برفع الراء على القطع ، ويختلس أبو عمرو الحركة على أصله ، والفاعل ضمير مستكن في يأمر عائد على الله ، قاله سيبويه ، والزجاج.
وقال ابن جريج : عائد على : بشر ، الموصوف بما سبق ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى على هذه القراءة : أنه لا يقع من بشر موصوف بما وصف به أن يجعل نفسه رباً فيعبد ، ولا هو أيضاً يأمر باتخاذ غيره من ملائكة وأنبياء أرباباً ، فانتفى أن يدعو لنفسه ولغيره.
وإن كان الضمير عائداً على الله فيكون إخباراً من الله أنه لم يأمر بذلك ، فانتفى أمر الله بذلك ، وأمر أنبيائه.
وقرأ عاصم وابن عامر ، وحمزة ولا يأمركم ، بنصب الراء ، وخرجه أبو علي وغيره على أن يكون المعنى : ولا له أن يأمركم ، فقدروا : أن ، مضمرة بعد : لا ، وتكون : لا ، مؤكدة معنى النفي السابق ، كما تقول : ما كان من زيد إتيان ولا قيام.
وأنت تريد انتفاء كل واحد منهما عن زيد ، فلا للتوكيد في النفي السابق ، وصار المعنى : ما كان من زيد إتيان ولا منه قيام.
وقال الطبري قوله : ولا يأمركم ، بالنصب معطوف على قوله : ثم يقول : قال ابن عطية : وهذا خطأ لا يلتئم به المعنى.
انتهى كلامه.
ولم يبين جهة الخطأ ولا عدم التئام المعنى به ، ووجه الخطأ انه إذا كان معطوفاً على : ثم يقول ، وكانت لا لتأسيس النفي ، فلا يمكن إلاَّ أن يقدر العامل قبل : لا ، وهو : أن ، فينسبك من : ان ، والفعل المنفي مصدر منتف فيصير المعنى : ما كان لبشر موصوف بما وصف به انفاء امره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً ، وإذا لم يكن له الانتفاء كان له الثبوت ، فصار آمراً باتخاذهم أرباباً وهو خطأ ، فإذا جعلت لا لتأكيد النفي السابق كان النفي منسحباً على المصدرين المقدر ثبوتهما ، فينتفي قوله : { كونوا عباداً لي } وأمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً ، ويوضح هذا المعنى وضع : غير ، موضع : لا ، فإذا قلت : ما لزيد فقه ولا نحو ، كانت : لا ، لتأكيد النفي ، وانتفى عنه الوصفان ، ولو جعلت : لا ، لتأسيس النفي كانت بمعنى : غير ، فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه وثبوت النحو له ، إذ لو قلت : ما لزيد فقه وغير نحو ، كان في ذلك إثبات النحو له ، كأنك قلت : ماله غير نحو.
ألا ترى أنك إذا قلت : جئت بلا زاد ، كان المعنى : جئت بغير زاد ، وإذا قلت : ما جئت بغير زاد ، معناه : أنك جئت بزاد؟ لأن : لا ، هنا لتأسيس النفي ، فإطلاق ابن عطية الخطأ وعدم القيام المعنى إنما يكون على أحد التقديرين في : لا ، وهي أن يكون لتأسيس النفي ، وأن يكون من عطف المنفي بلا على المثبت الداخل عليه النفي ، نحو : ما أريد أن تجهل وأن لا تتعلم ، تريد : ما أريد أن لا تتعلم.

وأجاز الزمخشري أن أن تكون : لا ، لتأسيس النفي ، فذكر أولاً كونها زائدة لتأكيد معنى النفي ، ثم قال : والثاني أن يجعل : لا ، غير مزيده ، والمعنى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهي قريشاً عن عبادة الملائكة ، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح ، فلما قالوا له : أنتخذك رباً ، قيل لهم : ما كان لبشر أن يستنبئه الله ، ثم يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء.
قال : والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر ، وينصرها قراءة عبد الله : ولن يأمركم ، انتهى كلام الزمخشري.
{ أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } هذا استفهام إنكار وكونه بعد كونهم مسلمين أفحش وأقبح ، إذ الأمر بالكفر على كل حال منكر ، ومعناه : أنه لا يأمر بكفر لا بعد الاسلام ولا قبله ، سواء كان الآمر الله أم الذي استنبأه الله.
وفي هذه الآية دلالة على أن المخاطبين كانوا مسملمين ، ودلالة على أن الكفر ملة واحدة إذ الذين اتخذوا الملائكة أرباباً ثم الصابئة وعبدة الأوثان ، والذين اتخذوا النبيين أرباباً هم اليهود والنصارى والمجوس ، ومع هذا الاختلاف سمى الله الجميع : كفراً.
و : بعد ، ينتصب بالكفر ، أو : بيأمركم ، وإذْ ، مضافة للجملة الإسمية كقوله : { واذكروا إذ أنتم قليل } وأضيف إليها : بعد ، ولا يضاف إليها إلاَّ ظرف زمان.

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)

{ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى : لما نفى عن أهل الكتاب قبائح أقوالهم وأفعالهم ، وكان مما ذكر أخيراً اشتراءهم بآيات الله ثمناً قليلاً ، وما يؤول أمرهم إليه في الآخرة ، وإن منهم من بدل في كتابه وغير ، وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزه رسوله عن الأمر بأن يعبد هو أو غيره ، بل تفرّد بالله تعالى بالعبادة ، أخذ تعالى يقيم الحجة على أهل الكتاب وغيرهم ممن أنكر نبوّته ودينه ، فذكر أخذ الميثاق على أنبيائهم بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتصديق له ، والقيام بنصرته ، وإقرارهم بذلك ، وشهادتهم على أنفسهم ، وشهادته تعالى عليهم بذلك ، وهذا العهد مذكور في كتبهم وشاهد بذلك أنبياؤهم.
وقرأ أبي ، وعبد الله : ميثاق الذين أوتوا الكتاب ، بدل : النبيين ، وكذا هو في مصحفيهما.
وروي عن مجاهد أنه قال : هكذا هو القرآن ، وإثبات النبيين خطأ من الكاتب ، وهذا لا يصح عنه لأن الرواة الثقاة نقلوا عنه أنه قرأ : النبيين كعبد الله بن كثير وغيره ، وإن صح ذلك عن غيره فهو خطأ مردود بإجماع الصحابة على مصحف عثمان.
والخطاب بقوله : وإذ أخذ ، يجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم ، أمره أن يذكر أهل الكتاب بما هو في كتبهم من أخذ الميثاق على النبيين ، ويجوز أن يتوجه إلى أهل الكتاب أمروا أن يذكروا ذلك ، وعلى هذين التقديرين يكون العامل : أذكر ، أو : أذكروا ، ويجوز أن يكون العامل في : إذ ، قال من قوله : { قال أأقررتم } وهو حسن ، إذ لا تكلف فيه.
قيل : ويجوز أن يكون معطوفاً على ما تقدم من لفظ إذ ، والعامل فيها : اصطفى ، وهذا بعيد جداً.
وظاهر الكلام يدل على أن الله هو الآخذ ميثاق النبيين فروي عن عليّ ، وابن عباس ، وطاووس ، والحسن ، والسدّي : أن الذين أخذ ميثاقهم هم الأنبياء دون أممهم ، أخذ عليهم أن يصدّق بعضهم بعضاً ، وأن ينصر بعضهم بعضاً ، ونصرة كل نبي لمن بعده توصية من آمن به أن ينصره إذا أدرك زمانه.
وينبو عن هذا المعنى لفظ : { ثم جاءكم رسول } إلى آخر الكلام.
وقال ابن عباس أيضاً فيما روى عنه : أخذ ميثاق النبيين وأممهم على الأيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ونصره ، واجتزأ بذكر النبيين من ذكر أممها لأن الأمم أتباع للأنبياء ، ويدل عليه قول عليّ كرّم الله وجهه : ما بعث الله نبياً إلاَّ أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمره بأخذ العهد على قومه فيه بأن يؤمنوا به وينصروه إن أدركوا زمانه.
وروي عن ابن عباس أيضاً : أنه تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه أخذ الميثاق على جميع المرسلين أن يقروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذين القولين يكون قوله : { ثم جاءكم رسول } عني به واحد وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا يكون جنساً.
ويبعد قول ابن عباس : أن الميثاق كان حين أخرجهم من ظهر آدم كالذر.
قرأ حمزة : لما آتيناكم ، لأن الظاهر أن ذلك كان بعد إيتاء الكتاب والحكمة.
و : ميثاق ، مضاف إلى النبيين ، فيحتمل أن يكون النبيون هم الموثقون للعهد على أممهم ، ويحتمل أن يكونوا هم الموثق عليهم ، والذي يدل عليه ما قبل الآية من قوله : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله } الآية وما بعدها من قوله : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً } أن المراد بقوله { ثم جاءكم رسول } هو محمد صلى الله عليه وسلم ، ولذلك جاء مصدقاً لما معكم.
وكثيراً ما وصف بهذا الوصف في القرآن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ألا ترى إلى قوله { ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق } وكذلك وصف كتابه بأنه مصدق لما في كتبهم ، وإذا تقرر هذا كان المجاز في صدر الآية فيكون على حذف مضاف أي : وإذ أخذ الله ميثاق أتباع النبيين من أهل الكتاب ، أو ميثاق أولاد النبيين ، فيوافق صدر الآية ما بعدها ، وجعل ذلك ميثاقاً للنبيين على سبيل التعظيم لهذا الميثاق ، أو يكون المأخوذ عليهم الميثاق مقدّراً بعد النبيين ، التقدير : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين على أممهم.
ويبين هذا التأويل قراءة أبي ، وعبد الله : ميثاق الذين أوتوا الكتاب ، ويبين أيضاً أن الميثاق كان على الأمم قوله : { فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } ومحال هذا الفرض في حق النبيين ، وإنما ذلك في حق الأتباع.
وقرأ جمهور السبعة : لما ، بفتح اللام وتخفيف الميم وقرأ حمزة : لما ، بكسر اللام وقرأ سعيد بن جبير ، والحسن : لما ، بتشديد الميم.
فأما توجيه قراءة الجمهور ففيه أربعة أقوال.
أحدها : أن : ما ، شرطية منصوبة على المفعول بالفعل بعدها ، واللام قبلها موطئة لمجيء : ما ، بعدها جواباً للقسم ، وهو أخذ الله ميثاق.
و : من ، في قوله : من كتاب ، كهي ، في قوله : { ما ننسخ من آية } والفعل بعد : ما ، ماضٍ معناه الاستقبال لتقدم ، ما ، الشرطية عليه.
وقوله : ثم جاءكم ، معطوف على الفعل بعد : ما ، فهو في حيز الشرط ، ويلزم أن يكون في قوله : ثم جاءكم ، رابط يربطها بما عطفت عليه ، لأن : جاءكم ، معطوف على الفعل بعد : ما ، و : لتؤمنن به ، جواب لقوله { أخذ الله ميثاق النبيين } ونظيره من الكلام في التركيب : أقسم لأيهم صحبت ، ثم أحسن إليه رجل تميمي لأحسنن إليه ، تريد لأحسنن إلى الرجل التميمي.
فلأحسنن جواب القسم ، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، وكذلك في الآية جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، والضمير في : به ، عائد على : رسول ، وهذا القول ، وهو أن : ما ، شرطية هو قول الكسائي.

وسأل سيبويه الخليل عن هذه الآية فقال ما نصه : ما ، ههنا بمنزلة : الذي ، ودخلت اللام كما دخلت على : إن ، حين قلت : والله لئن فعلت لأفعلن ، فاللام في : ما ، كهذه التي في : أن ، واللام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا انتهى ثم قال سيبويه : ومثل ذلك { لمن تبعك منهم لأملأن جهنم } إنما دخلت اللام على نية اليمين انتهى.
وقال أبو علي : لم يرد الخليل بقوله : بمنزلة الذي أنها موصولة ، بل أنها اسم ، كما أن الذي اسم ووفرَّ أن تكون حرفاً كما جاءت حرفاً : { وإن كلا لما ليوفينهم } وفي قوله : { وإن كل ذلك لما متاع } انتهى.
وتحصل من كلام الخليل وسيبويه أن : ما ، في : لما أتيتكم ، شرطية وقد خرجها على الشرطية غير هؤلاء : كالمازني ، والزجاج ، وأبي علي ، والزمخشري ، وابن عطية وفيه خدش لطيف جدّاً ، وهو أنه : إذا كانت شرطية كان الجواب محذوفاً لدلالة جواب القسم عليه ، وإذا كان كذلك فالمحذوف من جنس المثبت ، ومتعلقاته متعلقاته ، فإذا قلت : والله لمن جاءني لأكرمنه ، فجواب : مَنْ ، محذوف ، التقدير : من جاءني أكرمه.
وفي الآية اسم الشرط : ما ، وجوابه محذوف من جنس جواب القسم ، وهو الفعل المقسم عليه ، ومتعلق الفعل هو ضمير الرسول بواسطة حرف الجر لا ضمير : ما ، المقدّر ، فجواب : ما ، المقدّر إن كان من جنس جواب القسم فلا يجوز ذلك ، لأنه تعرٍّ.
والجملة الجوابية إذ ذاك من ضمير يعود على اسم الشرط ، وإن كان من غير جنس جواب القسم فيكف يدل عليه جواب القسم وهو من غير جنسه وهو لا يحذف إلاَّ إذا كان من جنس جواب القسم؟ ألا ترى أنك لو قلت : والله لئن ضربني زيد لأضربنه؟ فكيف تقدره : إن ضربني زيد أضربه؟ ولا يجوز أن يكون التقدير : والله إن ضربني زيد أشكه لأضربنه ، لأن : لأضربنه ، لا يدل على : أشكه ، فهذا ما يرد على قول من خرج : ما ، على أنها شرطية.
وأما قول الزمخشري : ولتؤمنن ، ساد مسد جواب القسم ، والشرط جميعاً فقول ظاهره مخالف لقول من جعل : ما ، شرطية ، لأنهم نصوا على أن جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، اللهم إن عنى أنه من حيث تفسير المعنى لا تفسير الإعراب يسد مسدهما ، فيمكن أن يقال؛ وأما من حيث تفسير الإعراب فلا يصح ، لأن كلاًّ منهما ، أعني : الشرط والقسم ، يطلب جواباً على حدة ، ولا يمكن أن يكون هذا محمولاً عليهما ، لأن الشرط يقتضيه على جهة العمل فيه ، فيكون في موضع جزم ، والقسم يطلبه على جهة التعلق المعنوي به بغير عمل فيه ، فلا موضع له من الإعراب.
ومحال أن يكون الشيء الواحد له موضع من الإعراب ولا موضع له من الإعراب.

والقول الثاني : قاله أبو علي الفارسي وغيره ، وهو : أن تكون : ما ، موصولة مبتدأة ، وصلتها : آتيناكم ، والعائد محذوف تقديره : آتيناكموه ، و : ثم جاءكم ، معطوف على الصلة ، والعائد منها على الموصول محذوف تقديره : ثم جاءكم رسول به ، فحذف لدلالة المعنى عليه ، هكذا خرجوه ، وزعموا أن ذلك على مذهب سيبويه ، وخرجوه على مذهب الأخفش : أن الربط لهذه الجملة العارية عن الضمير حصل بقوله : لما معكم ، لأنه هو الموصول ، فكأنه قيل : ثم جاءكم رسول مصدق له ، وقد جاء الربط في الصلة بغير الضمير ، إلاَّ أنه قليل : روي من كلامهم : أبو سعيد الذي رويت عن الخدري ، يريدون : رويت عنه وقال :
فيا رب ليلى أنت في كل موطن . . .
وأنت الذي في رحمة الله أطمع
يريد في رحمته أطمع.
وخبر المبتدأ ، الذي هو : ما ، الجملة من القسم المحذوف وجوابه ، وهو : لتؤمنن به ، والضمير في : به ، عائد على الموصول المبتدأ ، ولا يعود على : رسول ، لئلا تخلو الجملة التي وقعت خبراً عن المبتدأ من رابط يربطها به ، والجملة الابتدائية التي هي : لما آتيناكم ، إلى آخره هي الجملة المتلقى بها ما أجرى مجرى القسم ، وهو قوله : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين }.
والقول الثالث : قاله بعض أهل العلم ، وهو : أن تكون : ما ، موصولة مفعولة بفعل جواب القسم ، التقدير : لتبلغن ما آتيناكم من كتاب وحكمة ، قال : إلاَّ أنه حذف : لتبلغن ، للدلالة عليه ، لأن لام القسم إنما تقع على الفعل ، فلما دلت هذه اللام على هذا الفعل حذف ، ثم قال تعالى : { ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم } وهو محمد صلى الله عليه وسلم { لتؤمنن به ولتنصرنه } وعلى هذا التقدير يستقيم النظم ، انتهى.
ويعني : يكون : لتؤمنن به ، جواب قسم محذوف ، وهذا بعيد جداً لا يحفظ من كلامهم ، والله لزيداً تريد ليضربن زيداً.
والقول الرابع : قاله ابن أبي إسحاق ، وهو : أن يكون : لما ، تخفيف لما ، والتقدير : حين آتيناكم ، ويأتي توجيه قراءة التشديد.
وأمّا توجيه قراءة حمزة : فاللام هي للتعليل ، و : ما ، موصولة : بآتيناكم ، والعائد محذوف.
و : ثم جاءكم ، معطوف على الصلة ، والرابط لها بالموصول إما إضمار : به ، على ما نسب إلى سيبويه ، وإما هذا الظاهر الذي هو : لما معكم ، لأنه في المعنى هو الموصول على مذهب أبي الحسن.
وقول الزمخشري : فجواب : أخذ الله ميثاق النبيين هو لتؤمنن به ، والضمير في : به ، عائد على رسول ، ويجوز الفصل بين القسم والمقسم عليه بمثل هذا الجار والمجرور ، لو قلت : أقسمت للخبر الذي بلغني عن عمر ولأحسنن إليه ، جاز.
وأجاز الزمخشري ، في قراءة حمزة ، أن تكون : ما ، مصدرية ، وبدأ به في توجيه هذه القراءة ، قال : ومعناه لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة ، ثم لمجيء رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به ، على أن : ما ، مصدرية ، والفعلان معها أعني : آتيناكم وجاءكم ، في معنى المصدرين ، واللام داخلة للتعليل على معنى : أخذ الله ميثاقهم ليؤمنن بالرسول ولينصرنه لأجل أن آتيتكم الحكمة ، وأن الرسول الذي أمرتكم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف.

انتهى كلامه.
إلاَّ أن ظاهر هذا التعليل الذي ذكره ، وهذا التقدير الذي قدره ، أنه تعليل للفعل المقسم عليه ، فإن عنى هذا الظاهر فهو مخالف لظاهر الآية ، لأن ظاهر الآية يقتضي أن يكون تعليلاً لأخذ الميثاق لا لمتعلقه ، وهو الإيمان.
فاللام متعلقة بأخذ ، وعلى ظاهر تقدير الزمخشري تكون متعلقة بقوله : لتؤمنن به ، ويمتنع ذلك من حيث إن اللام المتلقى بها القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها.
تقول : والله لأضربن زيداً ، فلا يجوز : والله زيداً لاضربن ، فعلى هذا لا يجوز أن تتعلق اللام في : لما ، بقوله : لتؤمنن به.
وقد أجاز بعض النحويين في معمول الجواب ، إذا كان ظرفاً أو مجروراً ، تقدّمه ، وجعل من ذلك عوض لا نتفرق ، وقوله تعالى : { عما قليل ليصبحن نادمين } فعلى هذا يجوز أن تتعلق بقوله : لتؤمنن به ، وفي هذه المسألة تفصيل يذكر في علم النحو.
وذكر السجاوندي ، عن صاحب النظم : أن هذه اللام في قراءة حمزة هي بمعنى : بعد ، كقول النابغة :
توهمت آيات لها فعرفتها . . .
لستة أعوام وذا العام سابع
فعلى ذا لا تكون اللام في : لما ، للتعليل.
وأمّا توجيه قراءة سعيد بن جبير ، والحسن : لما ، فقال أبو إسحاق : أي لما آتاكم الكتاب والحكمة أخذ الميثاق ، وتكون : لما ، تؤول إلى الجزاء كما تقول : لما جئتني أكرمتك.
انتهى كلامه.
قال ابن عطية : ويظهر أن : لما ، هذه هي الظرفية ، أي : لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأماثلهم أخذ عليكم الميثاق ، إذ على القادة يؤخذ ، فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة.
وقال الزمخشري : لما ، بالتشديد بمعنى : حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق وجب عليكم الإيمان به ونصرته. انتهى.
فاتفق ابن عطية والزمخشري على أن : لما ، ظرفية ، واختلفا في تقدير الجواب العامل في : لما ، على زعمهما.
فقدّره ابن عطية من القسم ، وقدّره الزمخشري من جواب القسم ، وكلا قوليهما مخالف لمذهب سيبويه في : لما ، المقتضية جواباً ، فإنها عند سيبويه حرف وجواب لوجوب ، وليست ظرفية بمعنى : حين ، ولا بمعنى غيره ، وإنما ذهب إلى ظرفيتها أبو علي الفارسي.
وقد تكلمنا على ذلك كلاماً مشبعاً في كتاب ( التكميل لشرح التسهيل ) وبينا أن الصحيح مذهب سيبويه.
وذهب ابن جني في تخريج هذه القراءة إلى أن أصلها : لمن ما ، وزيدت : من ، في الواجب على مذهب الأخفش ، ثم أدغمت كما يجب في مثل هذا ، فجاء : لمما ، فثقل اجتماع ثلاث ميمات ، فحذفت الميم الأولى فبقي : لما.
قال ابن عطية : وتفسير هذه القراءة على هذا التوجيه الملحق تفسير : لما ، بفتح الميم مخففة ، وقد تقدّم. انتهى.

وظاهر كلامه أن : من ، في قوله : لمن ما ، زائدة في الواجب على مذهب الأخفش ، وقد ذكر هذا التقدير في توجيه قراءة : لما ، بالتشديد الزمخشري ولم ينسبه إلى أحد ، فقال : وقيل أصله : لمن مّا ، فاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات وهي : الميمان والنون المنقلبة ميماً بإدغامها في الميم ، فحذفوا إحداها ، فصارت : لما ، ومعناه : لمن أجل ما آتيناكم لتؤمنن به ، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى.
انتهى كلامه.
وهو مخالف لكلام ابن جني في : من ، المقدّر دخولها على : ما ، فإن ظاهر كلام ابن جني أنها زائدة ، وظاهر كلام الزمخشري أنها ليست بزائدة ، لأنه جعلها للتعليل.
وفي قول الزمخشري : فحذفوا إحداهما ، إبهام في المحذوف ، وقد عينها ابن جني : بأن المحذوفة هي الأولى ، وهذا التوجيه في قراءة التشديد في غاية البعد ، وينزه كلام العرب أن يأتي فيه مثله ، فكيف كلام الله تعالى؟ وكان ابن جني كثير التحمل في كلام العرب.
ويلزم في : لما ، على ما قرره الزمخشري أن تكون اللام في : لمن ما آتيناكم ، زائدة ، ولا تكون اللام الموطئة ، لأن اللام الموطئة إنما تدخل على أدوات الشرط لا على حرف الجر ، لو قلت : أقسم بالله لمن أجلك لأضربن عمراً ، لم يجز ، وإنما سميت موطئة لأنها توطىء ما يصلح أن يكون جواباً للشرط للقسم ، فيصير جواب الشرط إذ ذاك محذوفاً لدلالة جواب القسم عليه.
وقرأ نافع : آتيناكم ، على التعظيم وتنزيل الواحد منزلة الجمع ، وقرأ الجمهور : آتيتكم ، على الإفراد وهو الموافق لما قبله وما بعده ، إذ تقدّمه { وإذ أخذ الله } وجاء بعده { إصري }.
وقرأ عبد الله : رسول مصدّقاً ، نصبه على الحال ، وهو جائز من النكرة ، وإن تقدّمت النكرة.
وقد ذكرنا أن سيبويه قاسه ، ويحسن هذه القراءة أنه نكرة في اللفظ معرفة من حيث المعنى ، لأن المعني به محمد صلى الله عليه وسلم على قول الجمهور ، وقوله : لما آتيتكم ، إن أريد جميع الأنبياء ، وهو ظاهر اللفظ ، فإن أريد بالإيتاء الإنزال فليس كلهم أنزل عليهم ، فيكون من خطاب الكل بخطاب أشرف أنواعه ، ويكون التعميم في الأنبياء مجازاً ، وإن أريد بالإيتاء كونه مهتدى به وداعياً إلى العمل به صح ذلك في جميع الأنبياء ، ويكون التعميم حقيقة.
وكذلك إن أريد بالأنبياء المجاز ، وهو : أممهم ، يكون إيتاؤهم الكتاب كونه تعالى جعله هادياً لهم وداعياً.
{ ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم } أي : ثم جاء في زمانكم.
ومعنى التصديق كونه موافقاً في التوحيد والنبوّات وأصول الشرائع ، وجميعهم متفقون على أن الحق في زمان كل نبي شرعه وفي قول : رسول ، دلالة على أن الميثاق المأخوذ هو ما قرر في العقول من الدلائل التي توجب الإنقياد لأمر الله ، وفي قوله : { مصدّق لما معكم } دلالة على أن الميثاق هو شرحه لصفات الرسول في كتب الأنبياء ، فهذان الوجهان محتملان ، وأوجب الإيمان أولاً ، والنصرة ثانياً ، وهو ترتيب ظاهر.

{ قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري } ظاهره أن الضمير في : قال ، عائد على الله تعالى ، وفي : أقررتم ، خوطب به الأنبياء المأخوذ عليهم الميثاق على الخلاف ، أهو على ظاهره؟ أم هو على حذف مضاف؟ أم هو مما حذف بعد النبيين وتقديره ميثاق النبيين على أممهم؟ لم يكتف بأخذ الميثاق حتى استنطقه بالإقرار بالإيمان به والنصرة له.
قيل : ويحتمل أن يكون الضمير في : قال ، على كل فرد فرد من النبيين ، أي : قال كل نبي لأمته : أأقررتم ، ومعنى هذا القول على هذا الاحتمال الإثبات والتأكيد ، لم يقتصروا على أخذ الميثاق على الأمم ، بل طالبوهم بالإقرار بالقبول.
ويكون : إصري ، على الظاهر مضافاً إلى الله تعالى ، وعلى هذا القول الثاني يكون مضافاً إلى النبي والإصر : العهد لأنه مما يؤصر أي يشدّ ويعقد.
وقرىء بضم الهمزة ، وهي مروية عن أبي بكر عن عاصم ، فيحتمل أن يكون ذلك لغة في : اصر ، كما قالوا : ناقة أسفار عبر ، وعبر أسفار ، وهي المعدّة للأسفار.
ويحتمل أن يكون جمعاً لإصار ، كإزار وأزر ومعنى الأخذ هنا : القبول.
{ قالوا أقررنا } معناه أقررنا بالإيمان به وبنصرته ، وقبلنا ذلك والتزمناه.
وثم جملة محذوفة أي : أقررنا وأخذنا على ذلك الإصر ، وحذفت لدلالة ما تقدم عليها.
{ قال فاشهدوا } الظاهر أنه تعالى قال للنبيين المأخوذ عليهم الميثاق : فاشهدوا ، ومعناه من الشهادة أي : ليشهد بعضكم على بعض بالإقرار وأخذ الإصر ، قاله مقاتل.
وقيل : فاشهدوا هو خطاب للملائكة ، قاله ابن المسيب.
وقيل : معنى : فاشهدوا ، بينوا هذا الميثاق للخاص والعام لكيلا يبقى لأحد عذر في الجهل به ، وأصله : أن الشاهد هو الذي يبين صدق الدعوى ، قاله الزجاج ، ويكون : اشهدوا ، بمعنى : أدّوا ، لا يمعنى : تحملوا.
وقيل : معناه استيقنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له ، قاله ابن عباس.
وقيل : فاشهدوا ، خطاب للأنبياء إذا قلنا : إن أخذ الميثاق كان على أتباعهم أمروا بأن يكونوا شاهدين على أممهم ، وروي هذا عن عليّ بن أبي طالب.
وعلى القول : بأن المعنى في : قال أأقررتم ، أي : قال كل نبي ، يكون المعنى على بكل نبي لأمّته فاشهدوا ، أي : ليشهد بعضكم على بعض.
وقوله : فاشهدوا ، معطوف على محذوف التقدير ، قال : أأقرتم فاشهدوا ، فالفاء دخلت للعطف.
ونظير ذلك قوله : ألقيت زيداً؟ قال : لقيته! قال : فأحسن إليه.
التقدير : لقيت زيداً فاحسن إليه ، فما فيه الفاء بعض المقول ، ولا يجوز أن يكون كل المقول لأجل الفاء ، ألا ترى قال : أأقررتم ، وقوله : قالوا أقررنا؟ لما كان كل المقول لم تدخل بالفاء.
{ وأنا معكم من الشاهدين } يحتمل الاسئناف على سبيل بالتوكيد ، ويحتمل أن يكون جملة حالية

فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)

{ فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } أي : من أعرض عن الإيمان بهذا الرسول ، وعن نصرته بعد أخذ الميثاق والإقرار والتزام العهد ، قاله عليّ بن أبي طالب وغيره.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بعد الشهادة عند الأمم بهذا الميثاق ، على أن قوله تعالى : فاشهدوا أمر بالأداء.
و : من ، الظاهر أنها شرط ، والجملة من : فأولئك وما بعده جزاء ، ويحتمل أن تكون موصولة ، وأعاد الضمير في : تولى ، مفرداً على لفظ : من وجمع في : فأولئك ، حملاً على المعنى ، وهذه : ذلك ، الجملة تدل عل أن الذين أخذ منهم الميثاق هم أتباع الأنبياء ، لأنه حكم تعالى بالفسق على من تولى بعد ذلك ، وهذا الحكم لا يليق إلاَّ بأمم الأنبياء ، وأيضاً فالأنبياء ، عليهم السلام ، كانوا أمواتاً عند مبعثه صلى الله عليه وسلم ، يعلمنا أن المأخوذ عليهم الميثاق هم أممهم.
وذكروا في هذه الآية أنواعاً من الفصاحة.
منها : الطباق : في : بقنطار وبدينار ، إذ أريد بهما القليل والكثير ، وفي : يؤدّه ولا يؤدّه ، لأن الأداء معناه الدفع وعدمه معناه المنع ، وهما ضدان ، وفي قوله : بالكفر ومسلمون ، والتجنيس المغاير في : اتقى والمتقين ، وفي : فاشهدوا والشاهدين ، والتجنيس المماثل في : ولا يأمركم أيأمركم ، وفي : أقررتم وأقررنا.
والإشارة في قوله : ذلك بأنهم ، وفي أولئك لا خلاق لهم.
والسؤال والجواب ، وهو في : قال أأقررتم؟ ثم : قالوا أقررنا.
والاختصاص في : يحب المتقين ، وفي يوم القيامة ، اختصه بالذكر لأنه اليوم الذي تظهر فيه مجازاة الأعمال.
والتكرار في : يؤدّه ولا يؤده ، وفي اسم الله في مواضع ، وفي : من الكتاب وما هو من الكتاب.
والاستعارة في : يشترون بعهد الله.
والالتفات في : لما آتيتكم ، وهو خطاب بعد قوله : النبيين ، وهو لفظ غائب.
والحذف في عدة مواضع تقدمت.

أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)

الملء : مقدار ما يملأ ، وهو اسم يثنى ويجمع يقال : ملء القدح ، وملآه ، وثلاثة أملائه ، وبفتح الميم المصدر ، يقال : ملأت الشيء املأه ملأ ، والملاءة التي تلبس ، وهي الملحفة بضم الميم والهمز.
وتقدمت هذه المادة في شرح : الملأ.
{ أفغير دين الله يبغون } روي عن ابن عباس : اختصم أهل الكتاب فزعمت كل فرقة أنها أولى بدين إبراهيم ، فقال النبي كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم ، فغضبوا.
وقالوا : والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك.
فنزلت هذه الآية.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهر جداً.
والهمزة في : أفغير؟ للإنكار والتنبيه على الخطأ في التولي والإعراض ، وأضيف الدين إلى الله لأنه تعالى هو الذي شرعه وتعبد به الخلق ، ومعنى : تبغون ، تطلبون ، وهو هنا بمعنى : تدينون لأنهم متلبسون بدين غير دين الله لا طالبوه ، وعبر بالطلب إشعاراً بأنهم في كل الوقت باحثون عنه ومستخرجوه ومبتغوه.
وقال الماتريدي : فإن قيل كل عاقل يبتغي دين الله ويدعي أنّ الذي هو عليه دين الله.
قيل : الجواب من وجهين.
أحدهما : أنه لما قصر في الطلب جعل في المعنى كأنه باغ غير دين الله ، إذ لو كان باغياً لبالغ في الطلب من الوجه الذي يوصل إليه منه ، فكأنه ليس باغياً من حيث المعنى ، ولكنه من حيث الصورة.
والثاني : أنه قد بان للبعض في الابتغاء ما هو الحق لظهور الحجج والآيات ، ولكن أبى إلاَّ العناد ، فهو باغ غير دين الله ، فتكون الآية في المعاندين.
انتهى كلامه.
وقرأ أبو عمرو ، وحفص ، وعياش ، ويعقوب ، وسهل : يبغون ، بالياء على الغيبة ، وينسبها ابن عطية لأبي عمرو ، وعاصم بكماله.
وقرأ الباقون : بالتاء ، على الخطاب ، فالياء على نسق : هم الفاسقون ، والتاء على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، والفاء لعطف هذه الجملة على ما قبلها ، وقدمت الهمزة اعتناء بالاستفهام.
والتقدير : فأغير؟ وجوّز هذا الوجه الزمخشري ، وهو قول جميع النحاة قبله.
قال : ويجوز أن يعطف على محذوف تقديره : أيتولون فغير دين الله يبغون. انتهى.
وقد تقدم ذكر هذا والكلام على مذهبه في ذلك ، وأمعنا الكلام عليه في كتاب ( التكميل ) من تأليفنا.
وانتصب : غير ، على أنه مفعول يبغون ، وقدم على فعله لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل ، قاله الزمخشري.
ولا تحقيق فيه ، لأن الإنكار الذي هو معنى الهمزة لا يتوجه إلى الذوات ، إنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات ، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء الذي متعلقه غير دين الله ، وانما جاء تقديم المفعول هنا من باب الاتساع ، وشبه : يبغون ، بالفاصلة بآخر الفعل.
{ وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً } أسلم عند الجمهور : استسلم وانقاد ، قال ابن عباس : أسلم طوعاً بحالته الناطقة عند أخذ الميثاق عليه ، وكرهاً عند دعاء الأنبياء لهم إلى الإسلام.

وقال مجاهد : سجود ظل المؤمن طائعاً وسجود ظل الكافر كارهاً.
كما قال تعالى : { ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرها وظلالهم بالغدو والآصال } وقال مجاهد أيضاً ، وأبو العالية ، والشعبي : ما يقارب معناه : أسلم أقرّ بالخالقية والعبودية ، وإن كان فيهم من أشرك في العبادة ، فمن أشرك أسلم كرهاً.
ومن أخلص أسلم طوعاً.
وقال الحسن : أسلم قوم طوعاً وقوم خوف السيف.
وقال مطر الوراق : أسلم من في السموات طوعاً وكذلك الأنصار ، وبنو سليم ، وعبد القيس ، وأسلم سائر الناس كرهاً حذر القتال والسيف.
وأسلم على هذا القول في ضمنه الإيمان.
وقال قتادة : الإسلام كرهاً هو إسلام الكافر عند الموت والمعاينة حيث لا ينفعه.
وقال ابن عطية : ويلزم على هذا أن كل كافر يفعل ذلك ، وهذا غير موجود إلاَّ في أفراد. انتهى.
وقال عكرمة : طوعاً باضطرار الحجة.
وقال الزمخشري : طوعاً بالنظر في الأدلة والإنصاف من نفسه ، وكرهاً بالسيف ، أو بمعاينة ما يلجىء إلى الإسلام كنتق الجبل على بني إسرائيل ، وإدراك الغرق فرعون ، والإشفاء على الموت { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده } انتهى.
فلفق الزمخشري تفسير : طوعاً ، من قول عكرمة وتفسير قوله : وكرهاً ، من قول مطر الوراق وقول قتادة.
وقال الكلبي : طوعاً بالولادة على الإسلام ، وكرهاً بالسيف.
وقال ابن كيسان : المعنى : وله خضع من في السموات والأرض فيما صورهم فيه ودبرهم عليه ، وما يحدث فيهم فهم لا يمتنعون عليه كرهوا ذلك أو أحبوه ، رضوا بذلك أو سخطوه؛ وهذا معنى قول الزجاج : إن الاسلام هنا الخضوع لنفوذ أمره في جبلته ، لا يقدر أحد أن يمتنع مما جبل عليه ولا أن يغيره والذي يظهر عموم من في السموات ، وخصوص من في الأرض.
والطوع هو الذي لا تكلف فيه ، والكره ما فيه مشقة ، فإسلام من في السموات طوع صرف إذ هم خالون من الشهوات الداعية إلى المخالفة ، وإسلام من في الأرض ، من كان منهم معصوماً كان طوعاً ، ومن كان غير معصوم كان كرهاً ، بمعنى أنه في مشقة ، لأن التكاليف جاءت على مخالفة الشهوات النفسانية ، فلو لم يأت رسول من الله مبشر بالثواب ومنذر بالعقاب لم يلتزم الإنسان شيئاً من التكاليف.
وهذه الأقوال لا تخرج : أسلم ، فيها عن أن يحمل على الاستسلام ، وعلى الاعتقاد ، وعلى الإقرار باللسان ، وعلى التزام الأحكام.
وقد قيل بهذا كله.
والجملة من قوله : { وله أسلم } حالية.
و : طوعاً وكرهاً ، مصدران في موضع الحال ، أي : طائعين وكارهين.
وقيل : هما مصدران على خلاف الصدر.
وقرأ الأعمش : كرهاً ، بضم الكاف ، والجمهور بفتحها.
{ وإليه يرجعون } تهديد عظبم لمن اتبع وابتغى غير دين الله ، وتقدّم معنى الرجوع إليه ، ويحتمل أن يكون قد عطف على قوله : { وله أسلم } فيكون مشاركاً له في الحالية ، وكأنه نعى عليهم ابتغاء غير دين من انقاد إليه المكلفون كلهم ومن إليه مرجعهم ، فيجازيهم على أعمالهم.

والمعنى : أن من كان بهاتين الصفتين لا يبتغي ديناً غير دينه ، ويحتمل أن يكون اسئتنافاً وإخباراً بأنه تعالى إليه مصيرهم ومنقلبهم فيجازيهم بأعمالهم.
وقرأ حفص ، وعباس ، ويعقوب ، وسهل : يرجعون ، بالياء على الغيبة ، فيحتمل أن يكون عائداً على من أسلم ، ويحتمل أن يكون عائداً على غير ضمير يبغون ، فيكون على سبيل الالتفات على قراءة من قرأ : تبغون ، بالتاء إذ يكون قد انتقل من خطاب إلى غيبة.
وقرأ الباقون : بالتاء ، فإن عاد الضمير على من كان التفاتاً ، أو على ضمير : تبغون ، كان التفاتاً على قراءة من قرأ : يبغون ، بالياء ، أو يكون قد انتقل من غيبة إلى خطاب.
{ قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم واسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } هذه الآية موافقة لما في البقرة إلاَّ في : قل ، وفي : علينا ، وفي : عيسى والنبيون ، وقد تقدّم شرح ما في البقرة فأغنى عن إعادته هنا ، إلاَّ ما وقع فيه الخلاف ، فنقول : الظاهر في : قل ، أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، أمر أن يخبر عن نفسه وعن أمته بقوله : آمنا به ، ويقوي أنه إخبار عنه وعن أمته قوله أخيراً : ونحن له مسلمون.
وأفرده بالخطاب بقوله : قل ، لأنه تقدّم ذكره في أخذ الميثاق في قوله : ثم جاءكم رسول ، فعينه في هذا التكليف ليظهر فيه كونه مصدّقاً لما مع الأنبياء الذين أخذ عليهم الميثاق.
وقال : آمنا ، تنبيهاً على أن هذا التكليف ليس من خواصه ، بل هو لازم لكل المؤمنين.
قال تعالى : { كل آمن بالله } بعد قوله : { آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون }
قال الزمخشري ويجوز أن يؤمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك إجلالاً من الله لقدر نبيه وقال ابن عطية : المعنى قل يا محمد ، أنت وأمتك : آمنا بالله ، فيظهر من كلام ابن عطية أن ثم معطوفاً حذف ، وأن ثم الأمر متوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأمته.
وأما تعدية أنزل ، هنا : بعلى ، وفي البقرة بإلى فقال ابن عطية : الإنزال على نبي الأمة إنزال عليها.
وقال الزمخشري : فإن قلت لم عدَّى أنزل في هذه الآية بحرف الاستعلاء ، وفيما تقدّم من مثلها بحرف الانتهاء؟.
قلت لوجود المعنيين جميعاً ، لأن الوحي ينزل من فوق وينتهى إلى الرسل ، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر.
وقال الراغب : إنما قال هنا : على ، لأن ذلك لما كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكان واصلاً إليه من الملأ الأعلى بلا واسطة بشر كان لفظ على المختص بالعلوّ أولى به ، وهناك ، لما كان خطاباً للأمة ، وقد وصل إليهم بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم ، كان لفظ : إلى ، المختص بالإيصال أولى ، ويجوز أن يقال : أنزل عليه إنما على ما أمر المنزل عليه أن يبلغ غيره ، وأنزل إليه على ما خص به في نفسه.

وإليه نهاية الإنزال ، وعلى ذلك قال : { أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } وقال : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } خص هنا : بإلى ، لما كان مخصوصاً بالذكر الذي هو بيان المنزل ، وهذا كلام في الأولى لا في الوجوب.
انتهى كلامه.
وذكر الزمخشري أن : من قال هذا الفرق فقد تعسف ، قال : ألا ترى إلى قوله : { بما أنزل إليك } { وأنزلنا إليك الكتاب } وإلى قوله : { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا } انتهى.
وأما إعادة لفظ : وما أوتي ، فلأنه لما كان لفظ الخطاب عاماً ، ومن حكم خطاب العام البسط دون الإيجاز ، ولما كان الخطاب هنا خاصاً اكتفى فيه بالإيجاز.
{ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } الإسلام هنا قيل هو الاستسلام إلى الله والتفويض إليه ، وهو مطلوب في كل زمان ومكان وشريعة ، ولذلك فسره الزمخشري بالتوحيد ، وإسلام الوجه لله.
وقيل : المراد بالإسلام شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، بيَّن تعالى أن من تحرّى بعد مبعثه شريعة غير شريعته فغير مقبول منه ، وهو الدين الذي وافق في معتقداته دين من ذكر من الأنبياء.
قيل : وعن ابن عباس لما نزلت : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى } الآية أنزل الله بعدها : { ومن يبتغ } الآية.
وهذا إشارة إلى نسخ { إن الذين آمنوا } وعن عكرمة : لما نزلت قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : قد أسلمنا قبلك ونحن المسلمون ، فقال الله له : حجهم يا محمد ، وأنزل { ولله على الناس حج البيت } فحج المسلمون وقعد الكفار.
وقيل : نزلت في الحارث بن سويد ، وستأتي قصته بعد هذا.
وقبول العمل هو رضاه وإثابة فاعله عليه.
وانتصب : ديناً على التمييز : لغير ، لأن : غير ، مبهمة ، ففسرت بدين ، كما أن مثلاً مبهمة فتفسر أيضاً.
وهذا كقولهم : لنا غيرها إبلاً وشاء ، ومفعول : يبتغ هو : غير ، وقيل : ديناً ، مفعول ، و : غير ، منصوب على الحال لأنه لو تأخر كان نعتاً وقيل : ديناً ، بدل من : غير ، والجمهور على إظهار الغينين وروي عن أبي عمرو الإدغام.
{ وهو في الآخرة من الخاسرين } الخسران في الآخرة هو حرمان الثواب وحصول العقاب شبه في تضييع زمانه في الدنيا باتباع غير الإسلام بالذي خسر في بضاعته ، ويحتمل أن تكون هذه الجملة قد عطفت على جواب الشرط ، فيكون قد ترتب على ابتغاء غير الإسلام ديناً عدم القبول والخسران ، ويحتمل أن لا تكون معطوفة عليه بل هي استئناف إخبار عن حاله في الآخرة.
و : في الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده ، أي : وهو خاسر في الآخرة ، أو : بإضمار أعني ، أو : بالخاسرين على أن الألف واللام ليست موصولة بل للتعريف ، كهي في : الرجل ، أو : به على أنها موصولة ، وتسومح في الظرف والمجرور لأنه يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما ، وكلُّ منقول ، وقد تقدّم لنا نظير.

{ كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين } نزلت في أهل الكتاب آمنوا بالتوراة والإنجيل وفيهما ذكر محمد صلى الله عليه وسلم ، فغيروه وكفروا بعد إيمانهم بنبوّته ، قاله الحسن وروى عطية قريباً منه عن ابن عباس وقال مقاتل : في عشرة رهط ارتدوا فيهم الحارث بن سويد الأنصاري ، فندم ورجع ، ورواه أبو صالح عن ابن عباس ، وذكر مجاهد ، والسدّي : أن الحارث كان يظهر الإسلام ، فلما كان يوم أحد قتل المجدر بن زياد بدم كان له عليه ، وقتل زيد بن قيس ، وارتد ولحق بالمشركين ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر أن يقتله إن ظفر به ، ففاته ، ثم بعث إلى أخيه من مكة يطلب التوبة ، فنزلت إلى قوله : { إلا الذين تابوا } فكتب بها قومه ، إليه فرجع تائباً.
ورواه عكرمة عن ابن عباس ، ولم يسمه ، ولم يذكر سوى أنه رجل من الأنصار ارتد فلحق بالمشركين ، وخرجه النسائي عن ابن عباس مطولاً وقيل : لحق بالروم وقيل : ارتد الحارث في أحد عشر رجلاً ، وسمى منهم الزمخشري : طعمة بن أبيرق ، والحارث بن سويد بن الصامت ، ووحوح بن الأسلت ، وذكر عكرمة أنهم كانوا اثني عشر ، وسمى منهم : أبا عامر الراهب ، والحارث ووجوهاً.
وقال النقاش : نزلت في طعمة بن أبيرق.
ألفاظ الآية تعم كل من ذكر وغيرهم.
وقيل : هي في عامة المشركين وقال مجاهد : حمل الآيات إلى الحارث رجل من قومه فقرأها عليه فقال له الحارث : إنك والله ما علمت لصدوق ، وإن رسول الله لأصدق منك ، وإن الله تعالى لأصدق الثلاثة.
قال فرجع الحارث فأسلم وحسن إسلامه.
كيف : سؤال عن الأحوال ، وهي هنا للتعجيب والتعظيم لكفرهم بعد الإيمان ، أي : كيف يستحق الهداية من أتى بما ينافيها بعد التباسه بها ووضوحها؟ فاستبعد حصولها لهم مع شدّة الجرائم ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « كيف تفلح أمة أدمت وجه نبيها » ؟.
وقال الزمخشري : كيف يلطف بهم وليسوا من أهل اللطف لما علم الله من تصميمهم على كفرهم؟ انتهى.
وهذه نزعة إعتزالية ، إذ ليس المعنى عنده : إن الله يخلق الهداية فيهم كما لا يخلق الضلال فيهم ، بل هما مخلوقان للعبد.
وقيل : الاستفهام هنا يراد به الجحد ، والمعنى : ليس يهدي ، ونظيره قول الشاعر :
فهذي سيوف ، يا صديّ بن مالك . . .
كثير ، ولكن : أين بالسيف ضارب؟
وقول الآخر :
كيف نَومي على الفراش ولما . . .
يشمل الشام غارة شعواء؟
والهداية هنا هي إلى الإيمان واتباع الحق ، وأبعد من زعم أن المعنى : لا يهديهم إلى الجنة إلاَّ إن تجوَّز ، فأطلق المسبب على السبب ، لأن دخول الجنة مسبب عن الإيمان ، فيعود إلى القول الأول.

وشهدوا : ظاهره أنه معطوف على قوله كفروا ، وبه قال الحوفي ، وابن عطية ، ورده مكي وقال : لا يجوز عطف : شهدوا ، على : كفروا ، لفساد المعنى ، ولم يبين من أي جهة فساد المعنى ، وكأنه توهم الترتيب ، فلذلك فسد المعنى عنده وقال ابن عطية : المعنى مفهوم أن الشهادة قبل الكفر ، و : الواو ، لا ترتب ، وأجاز قوم منهم : مكي ، والزمخشري : أن يكون معطوفاً على : ما في إيمانهم ، من معنى الفعل ، إذ المعنى : بعد أن آمنوا وشهدوا.
وأجاز الزمخشري وغيره أن تكون : الواو ، للحال لا للعطف ، التقدير : كفروا بعد إيمانهم وقد شهدوا ، والعامل فيه : كفروا.
والرسول هنا : محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله الجمهور ، وجوّز أن يكون الرسول هنا بمعنى الرسالة ، وفيه بعد.
والبينات : هي شواهد القرآن ، والمعجزات التي تأتي بمثلها الأنبياء.
{ والله لا يهدي القوم الظالمين } أي : لا يخلق في قلوبهم الهداية.
و : الظالمين ، عام معناه الخصوص أي : لا يهدي من قضى عليه بأنه يموت على الكفر قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد الإخبار عن أن الظالم في ظلمه ليس على هدى من الله ، فتجيء الآية عامة تامة العموم. انتهى.
وهذا المعنى الذي ذكره ينبو عنه لفظ الآية وقال الزمخشري : الظالمين ، المعاندين الذين علم الله أن اللطف لا ينفعهم. انتهى.
وتفسيره على طريقته الإعتزالية.
{ أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } تقدم تفسير مثل هذه الجملة.
وتوجيه قراءة الحسن : والناس أجمعون ، في سورة البقرة ، فأغنى عن إعادته ، إلاَّ أن هنا { أولئك جزاؤهم } أي : جزاء كفرهم ، وهناك { أولئك عليهم لعنة الله } ، لأن هناك جاء الإخبار عن من مات كافراً ، فلذلك تحتمت اللعنة عليهم ، وهنا ليس كذلك ، ألا ترى إلى سبب النزول؟ وأن أكثر الأقوال إنها نزلت في قوم ارتدوا ثم راجعوا الإسلام؟ ولذلك جاء الاستثناء وهو قوله : { إلاَّ الذين تابوا من بعد ذلك } وهو استثناء متصل ، ولذلك قال { من بعد ذلك } أي : من بعد ذلك الكفر العظيم.
{ وأصلحوا } أي : ما أفسدوا ، أو : دخلوا في الصلاح ، كما تقول : أمسى زيد أي : دخل في المساء وقيل : معنى أصلحوا أظهروا أنهم كانوا على ضلال ، وتقدم تفسير هذه اللفظة في البقرة في قوله { إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا }
{ فإن الله غفور رحيم } غفور أي لكفرهم ، رحيم لقبول توبتهم ، وهما صيغتا مبالغة دالتان على سعة رحمته.
{ إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون } نزلت في اليهود ، كفروا بعيسى وبالإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم ، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بنعته ، قاله قتادة ، والحسن وقيل : في اليهود كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بصفاته ، وإقرارهم أنها في التوراة ، ثم ازدادوا كفراً بالذنوب التي أصابوها في خلاف النبي صلى الله عليه وسلم من الافتراء والبهت والسعى على الاسلام ، قاله أبو العالية.

أو : معنى : ثم ازدادوا كفراً ، تموا على كفرهم وبلغوا الموت به ، فيدخل فيه اليهود والمرتدون ، قاله مجاهد ، وقال نحوه السدي وقيل : نزلت فيمن مات على الكفر من أصحاب الحارث بن سويد ، فإنهم قالوا : نقيم ببكة ونتربص بمحمد صلى الله عليه وسلم ريب المنون ، قاله الكلبي.
ويفسر بهذه الأقوال معنى ازدياد الكفر ، وهو بحسب متعلقاته ، إذ الإيمان والكفر في التحقيق لا يزدادان ولا ينقصان ، وإنما تحصل الزيادة والنقصان للمتعلقات ، فينسب ذلك إليهما على سبيل المجاز.
وازدادوا افتعلوا من الزيادة ، وانتصاب : كفراً ، على التمييز المنقول من الفاعل ، المعنى : ثم ازداد كفرهم ، والدال الأولى بدل من تاء الافتعال.
ويحتمل قوله { لن تقبل توبتهم } وجهين :
أحدهما : أنه تكون منهم توبة ولا تقبل ، وقد علم أن توبة كل كافر تقبل سواء كفر بعد إيمان وازداد كفراً ، أم كان كافراً أول مرة.
فاحتيج في ذلك إلى تخصيص ، فقال الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، والسدي : نفي توبتهم مختص بالحشرجة والغرغرة والمعاينة قال النحاس : وهذا قول حسن ، كقوله : { وليست التوبة للذين يعملون السيئات } الآية.
وقال أبو العالية : لن تقبل توبتهم من الذنوب التي أصابوها مع إقامتهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عباس : لن تقبل توبتهم لأنها توبة غير خالصة ، إذ هم مرتدون ، وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم وفي ضمائرهم الكفر وقال مجاهد : لن تقبل توبتهم بعد الموت إذا ماتوا على الكفر وقيل : لن تقبل توبتهم التي تابوها قبل أن كفروا ، لأن الكفر قد أحبطها.
وقيل : لن تقبل توبتهم إذا تابوا من كفر إلى كفر ، وإنما تقبل إذا تابوا إلى الاسلام.
وفاصل هذا التخصيص أنه تخصيص بالزمان ، أو بوصف في التوبة.
والوجه الثاني : أن يكون المعنى : لا توبة لهم فتقبل ، فنفى القبول ، والمراد نفي التوبة فيكون من باب قوله.
على لا حبٍ لا يهتدي لمناره . . .
أي : لا منار له فيهتدى به ، ويكون ذلك في قوم بأعيانهم ، حتم الله عليهم بالكفر أي : ليست لهم توبة فهم لا محالة يموتون على الكفر.
وقد أشار إلى هذا المعنى الزمخشري ، وابن عطية.
ولم تدخل : الفاء ، في : لن تقبل ، هنا ، ودخلت في : فلن تقبل ، لأن الفاء مؤذنة بالإستحقاق بالوصف السابق ، وهناك قال : وماتوا وهم كفار وهنا لم يصرح بهذا القيد.
وقال الزمخشري : فإن قلت فحين كان معنى : { لن تقبل توبتهم } بمعنى الموت على الكفر فهلا جعل الموت على الكفر مسبباً عن ارتدادهم وازديادهم الكفر لما في ذلك من قساوة القلوب ، وركوب الرين ، وجره إلى الموت على الكفر؟.
قلت لأنه : كم من مرتدٍ ازداد الكفر يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر؟.

فإن قلت : فأي فائدة في هذه الكناية : أعني : إن كنى عن الموت على الكفر بامتناع قبول التوبة؟.
قلت الفائدة فيها جليلة ، وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار ، وإبراز حالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال ، وأشدّها.
ألا ترى أن الموت على الكفر إنما يخاف من أجل اليأس من الرحمة؟ انتهى كلامه.
وقرأ عكرمة : لن تقبل ، بالنون ، توبتهم ، بالنصب ، والضالون المخطئون طريق الحق والنجاة في الآخرة ، أو : الها لكون ، من : ضل اللبن في الماء إذا صار هالكاً.
والواو في : وأولئك ، للعطف إما على خبر إن ، فتكون الجملة في موضع رفع ، وإما على الجملة من : إن ومطلوبيها ، فلا يكون لها موضع من الاعراب.
وذكر الراغب قولاً : إن الواو في : وأولئك ، واو الحال ، والمعنى : لن تقبل توبتهم من الذنوب في حال أنهم ضالون ، فالتوبة والضلال متنافيان لا يجتمعان.
انتهى هذا القول.
وينبوعن هذا المعنى هذا التركيب ، إذ لو أريد هذا المعنى لم يؤت باسم الإشارة ، ويجوز في : هم ، الفصل ، والابتداء ، والبدل.
{ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً } قرأ عكرمة : فلن نقبل ، بالنون و : ملء ، بالنصب.
وقرىء : فلن يقبل بالياء مبنياً للفاعل ، أي فلن يقبل الله.
و : ملء ، بالنصب.
وقرأ أبو جعفر ، وأبو السمال : مل الأرض ، بدون همز.
ورويت عن نافع ، ووجهه أنه نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبل ، وهو اللام ، وحذفت الهمزة ، وهو قياس في كل ما كان نحو هذا ، وأتى بلفظ : أحدهم ، ولم يأت بلفظ : منهم ، لأن ذلك أبلغ وأنص في المقصود ، إذ كان : منهم ، يحتمل أن يكون يفيد الجميع.
وانتصاب : ذهباً ، على التمييز ، وفي ناصب التمييز خلاف ، وسماه الفراء : تفسيراً ، لأن المقدار معلوم ، والمقدّر به مجمل.
وقال الكسائي : نصب على إضمار : من ، أي : من ذهب ، كقوله : { أو عدل ذلك صياماً } أي : من صيام.
وقرأ الأعمش : ذهب ، بالرفع.
قال الزمخشري : ردّ على : ملء ، كما يقال عندي عشرون نفساً رجال. انتهى.
ويعني بالردّ : البدل ، ويكون من بدل النكرة من المعرفة ، لأن : ملء الأرض ، معرفة ولذلك ضبط الحذاق قوله : لك الحمد ملء السموات والأرض بالرفع على بالصفة للحمد ، واستضعفوا نصبه على الحال لكونه معرفة.
{ ولو افتدى به } قرأ ابن أبي عبلة : لو افتدى به ، دون واو ، و : لو ، هنا هي بمعنى : إن ، الشرطية لا : لو ، التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره ، لأن : لو ، هنا معلقة بالمستقبل ، وهو : فلن يقبل ، وتلك معلقة بالماضي.
فأما قراءة ابن أبي عبلة فإنه جعل الافتداء شرطاً في عدم القبول فلم يتعمم نفي وجود القبول ، وأما قراءة الجمهور بالواو ، فقيل : الواو زائدة ، وهو ضعيف ، ويكون المعنى إذ ذاك معنى قراءة ابن أبي عبلة.

وقيل : ليست بزائدة.
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف موقع قوله { لو افتدى به } ؟ قلت : هو كلام محمول على المعنى ، كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً. انتهى.
وهذا المعنى ينبو عنه هذا التركيب ولا يحتمله ، والذي يقتضيه هذا التركيب ، وينبغي أن يحمل عليه ، أن الله تعالى أخبر أن من مات كافراً لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدها ، ولو في حالة الافتداء به من العذاب ، لأن حالة الافتداء هي حال لا يمتن فيها المفتدي على المفتدي منه ، إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدي ، وقد قررنا في نحو هذا التركيب أن : لو ، تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء ، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها ، كقوله : « أعطوا السائل ولو جاء على فرس وردوا السائل ولو بظلف محرق » كأن هذه الأشياء مما كان لا ينبغي أن يؤتى بها ، لأن كون السائل على فرس يشعر بغناه فلا يناسب أن يعطى ، وكذلك الظلف المحرق لا غنى فيه ، فكأن يناسب أن لا يرد السائل به ، وكذلك حالة الفداء : يناسب أن يقبل منه ملء الأرض ذهباً ، لكنه لا يقبل.
ونظيره قوله تعالى : { وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين } لأنهم نفوا أن يصدقهم على كل حال ، حتى في حالة صدقهم ، وهي الحالة التي ينبغي أن يصدقوا فيها.
فلفظ : ولو ، هنا لتعميم النفي والتأكيد له.
وقد ذكرنا فائدة مجيئها.
وذهب الزجاج إلى أن المعنى : لن يقبل من أحدهم إنفاقه وتقرباته في الدنيا ، ولو أنفق ملء الأرض ذهباً ، ولو افتدى أيضاً به في الآخرة لم يقبل منه.
قال : فأعلم الله أنه لا يثيبهم على أعمالهم من الخير ، ولا يقبل منهم الافتداء من العذاب.
قال ابن عطية : وهذا قول حسن. انتهى.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد : فلن يقبل من أحدهم ملء الأض ذهباً كان قد تصدّق به ، ولو افتدى به أيضاً لم يقبل منه. انتهى.
وهذا معنى قول الزجاج ، إلاَّ أنه لم يقيد الافتداء بالآخرة.
وحكى صاحب ( ري الظمآن ) وغيره عن الزجاج أنه قال : معنى الآية : لو افتدى به في الدنيا مع إقامته على الكفر لن يقبل منه ، والذي يظهر أن انتفاء القبول ، ولو على سبيل الفدية ، إنما يكون ذلك في الآخرة.
وبينه ما ثبت في ( صحيح ) البخاري من حديث أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يحاسب الكافر يوم القيامة ، فيقال له : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول : نعم ، فيقال له : قد كنت سئلت أيسر من ذلك » وهذا الحديث يبين أن قوله : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به } هو على سبيل الفرض والتقدير أي : لو أن الكافر قدر على أعز الأشياء ، ثم قدر على بذله ، لعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب الله.

والمعنى : أنهم آيسون من تخليص أنفسهم من العذاب.
فهو نظير { ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً } ونظير { يود المجرم لو يفتدى } الآيتين ، وعلى هذا يبعد ما قاله الزجاج من أن يكون المعنى : أنهم لو أنفقوا في الدنيا ملء الأرض ذهباً لم يقبل ذلك ، لأن الطاعة مع الكفر لا تكون مقبولة.
وافتدى : افتعل من الفدية.
قيل : وهو بمعنى فعل ، كشوى واشتوى ، ومفعوله محذوف ، ويحتاج في تعدية افتدى إلى سماع من العرب ، والضمير في : به ، عائد على : ملء الأرض ، وهو : مقدار ما يملؤها ، ويوجد في بعض التفاسير أنه عائد على : الملء ، أو : على الذهب.
فقيل : على الذهب غلط.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد : ولو افتدى بمثله ، لقوله : { ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه } والمثل يحذف كثيراً في كلامهم ، كقولك : ضربت ضرب زيد ، تريد : مثل ضربه ، وأبو يوسف أبو حنيفة ، تريد : مثله.
ولا هيثم الليلة للمطي . . .
و : قضية ولا أبا حسن لها تريد : ولا هيثم ، و : لا مثل أبي حسن ، كما أنه يراد في نحو قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، تريد : أنت : وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر ، فكانا في حكم شيء واحد.
انتهى كلامه.
ولا حاجة إلى تقدير : مثل ، في قوله { ولو افتدى به } وكان الزمخشري تخيل أن ما نفي أن يقبل لا يمكن أن يفتدى به ، فاحتاج إلى إضمار : مثل ، حتى يغاير بين ما نفي قبوله وبين ما يفتدى به ، وليس كذلك ، لأن ذلك كما ذكرناه هو على سبيل الفرض ، والتقدير : إذ لا يمكن عادة أن أحداً يملك ملء الأرض ذهباً بحيث لو بذله على أي جهة بذله لم يقبل منه ، بل لو كان ذلك ممكناً لم يحتج إلى تقدير مثل ، لأنه نفي قبوله حتى في حالة الافتداء ، وليس ما قدر في الآية نظير ما مثل به ، لأن هذا التقدير لا يحتاج إليه ، ولا معنى له ، ولا في اللفظ ولا المعنى ما يدل عليه ، فلا يقدر.
وأما فيما مثل به من : ضربت ضرب زيد ، وأبو يوسف أبو حنيفة ، فبضرورة العقل نعلم أنه لا بد من تقدير : مثل ، إذ ضربك يستحيل أن يكون ضرب زيد ، وذات أبي يوسف يستحيل أن تكون ذات أبي حنيفة.
وأما :
لا هيثم الليلة للمطي . . .
يدل على حذف : مثل ما تقرر في اللغة العربية أن : لا ، التي لنفي الجنس لا تدخل على الأعلام فتؤثر فيها ، فاحتاج إلى إضمار : مثل ، لتبقى على ما تقرر فيها ، إذ تقرر أنها لا تعمل إلاَّ فى الجنس ، لأن العلمية تنافي عموم الجنس.

وأما قوله : كما أن يزاد في : مثلك لا يفعل كذا ، تريد ، أنت ، فهذا قول قد قيل ، ولكن المختار عند حذاق النحويين أن الأسماء لا تزاد ، ولتقرير أن مثلك لا يفعل كذا ، ليست فيه مثل زائدة مكان غير هذا.
{ أولئك لهم عذاب أليم } هذا إخبار ثان عمن مات وهو كافر ، لما بيَّن تعالى في الإخبار الأول أنه لا يقبل منه شيء حتى يخلص به نفسه ، بيَّن في هذا الإخبار ما له من العذاب الموصوف بالمبالغة في الآلام له ، إذ الافتداء ، وبذل الأموال إنما يكون لما يلحق المفتدي من الآلام حتى يبذل في الخلاص من ذلك أعز الأشياء.
كما قال : { يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه } الآية ، وارتفاع : عذاب ، على أنه فاعل بالجار والمجرور قبله ، لأنه قد اعتمد على أولئك ، لكونه خبراً عنه ويجوز ارتفاعه على الإبتداء.
{ وما لهم من ناصرين } تقدم تفسير مثل هذه الجملة ، وهذا إخبار ثالث لما بيَّن أنه لا خلاص له من العذاب ببذل المال ، بيَّن أيضاً أنه لا خلاص له منه بسبب النصرة ، واندرج فيها النصرة بالمغالبة ، والنصرة بالشفاعة.
وتضمنت هذه الآية من أصناف البديع : الطباق : في قوله : طوعا وكرها.
وفي : كفروا بعد إيمانهم في موضعين.
والتكرار : في : يهدي ولا يهدي.
وفي : كفروا بعد إيمانهم.
والتجنيس المغاير : في كفروا وكفروا.
والتأكيد : بلفظ : هم ، في قوله : وأولئك هم الضالون.
قيل : والتشبيه في : ثم ازدادوا كفراً ، شبه تماديهم على كفرهم وإجرامهم بالاجرام التي يزاد بعضها على بعض ، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس.
والعدول من مفعل إلى فعيل ، في : عذاب أليم ، لما في : فعيل ، من المبالغة.
والحذف في مواضع.

لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)

النيل : حوق الشيء وإدراكه ، الفعل منه : نال ينال.
قيل : والنَّيل : العطية.
الوضع : الإلقاء.
وضع الشيء ألقاه ، ووضعت ما في بطنها ألقته ، والفعل : وضع يضع وضعاً وضِعَة ، والموضع : محل إلقاء الشيء.
وفلان يضع الحديث أي : يلقيه من قبل نفسه من غير نقل ، يختلفه.
.
بكة : مرادف لمكة ، قاله مجاهد ، والزجاج.
والعرب تعاقب بين الباء والميم ، قالوا : لازم ، وراتم.
والنميط ، وبالباء فيها.
وقيل : اسم لبطن مكة ، قاله أبو عبيدة.
وقيل : اسم لمكان البيت ، قاله النخعي.
وقيل : اسم للمسجد خاصة ، قاله ابن شهاب.
قيل : ويدل عليه أن البك هو دفع الناس بعضهم بعضاً وازدحامهم ، وهذا إنما يحصل في المسجد عند الطواف لا في سائر المواضع ، وسيأتي الكلام على لفظ مكة إن شاء الله.
البركة : الزيادة ، والفعل منه : بارك ، وهو متعد ، ومنه { أن بورك من في النار } ويضمن معنى ما تعدى بعلى ، لقوله : وبارك على محمد ، و : تبارك ، لازم.
العوج : الميل ، قال أبو عبيدة : في الدين والكلام والعمل.
وبالفتح في : الحائط والجذع.
وقال الزجاج بمعناه.
قال : فيما لا نرى له شخصاً ، وبالفتح فيما له شخص.
قال ابن فارس : بالفتح في كل منتصب كالحائط.
والعوج : ما كان في بساط أو دين أو أرض أو معاش.
العصم : المنع ، واعتصم واستعصم : امتنع ، واعتصمت فلاناً هيأت له ما يعتصم به ، وكل متمسك بشيئ معتصم ، وكل مانع شيء عاصم ، ويرجع لهذا المعنى : الأعصم ، والمعصم ، والعصام.
ويسمى الخبز عاصماً لأنه يمنع من الجوع.
{ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما أخبر عمن مات كافراً أنه لا يقبل ما أنفق في الدنيا ، أو ما أحضره لتخليص نفسه في الآخرة على الاختلاف الذي سبق ، حض المؤمن على الصدقة وبين أنه لن يدرك البر حتى ينفق مما يحب.
والبر هنا.
قال ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والسدّي ، وعمرو بن ميمون : البر الجنة.
وقال الحسن ، والضحاك : الصدقة المفروضة.
وقال أبو روق : الخير كله.
وقيل : الصدق.
وقيل : أشرف الدين ، قاله عطاء.
وقال ابن عطية : الطاعة.
وقال مقاتل بن حيان : التقوى.
وقال الزجاج : كل ما تقرّب به إلى الله من عمل خير.
وقال معناه ابن عطية.
قال أبو مسلم : وله مواضع ، فيقال : الصدق البر ، ومنه : صدقت وبررت ، وكرام بررة ، والإحسان : ومنه بررت والدي ، واللطف والتعاهد : ومنه يبر أصحابه إذا كان يزورهم ويتعاهدهم ، والهبة والصدقة : برّة بكذا إذا وهبه له.
وقال : ويحتمل لن تنالوا برّ الله بكم أي ، رحمته ولطفه. انتهى.
وهو قول أبي بكر الوراق ، قال : معنى الآية لن تنالوا برّي بكم إلاَّ ببرّكم بإخوانكم ، والإنفاق عليهم من أموالكم وجاهكم.
وروي نحوه على ابن جرير.

ويحتمل أن يريد : لن تنالوا درجة الكمال من فعل البر حتى تكونوا أبراراً إلاَّ بالإنفاق المضاف إلى سائر أعمالكم ، قاله ابن عطية.
وقد تقدّم شرح البرّ في قوله : { أتأمرون الناس بالبر } ولكن فعلنا ما قال الناس في خصوصية هذا الموضع.
و : من ، في : مما تحبون ، للتبعيض ، ويدل على ذلك قراءة عبد الله : حتى تنفقوا بعض ما تحبون.
و : ما ، موصولة ، والعائد محذوف.
والظاهر : أن المحبة هنا هو ميل النفس وتعلقها التعلق التام بالمنفق ، فيكون إخراجه على النفس أشق وأصعب من إخراج ما لا تتعلق به النفس ذلك التعلق ، ولذلك فسره الحسن ، والضحاك : : بأنه محبوب المال ، كقوله : { ويطعمون الطعام على حبه } لذلك ما روي عن جماعة أنهم لهذه الآية تصدّقوا بأحب شيء إليهم ، فتصدّق أبو طلحة ببير حاء ، وتصدق زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها ، وابن عمر بالسكر واللوز لأنه كان يحبه ، وأبو ذر بفحل خير إبله وببرنس على مقرور ، وتلا الآية ، والربيع بن خيثم بالسكر لحبه له ، وأعتق عمر جارية أعجبته ، وابنه عبد الله جارية كانت أعجب شيء إليه.
وقيل : معنى مما تحبون ، نفائس المال وطيبه لا رديئه وخبيثه.
وقيل : ما يكون محتاجاً إليه.
وقيل : كل شيء ينفقه المسلم من ماله يطلب به وجه الله.
ولفظة : تحبون ، تنبو عن هذه الأقوال ، والذي يظهر أن الإنفاق هو في الندب ، لأن المزكي لا يجب عليه أن يخرج أشرف أمواله ولا أحبها إليه ، وأبعد من ذهب إلى أن هذه الآية منسوخة ، لأن الترغيب في الندب لوجه الله لا ينافي الزكاة.
قال بعضهم : وتدل هذه الآية على أن الكلام يصير شعراً بأشياء ، منها : قصد المتكلم إلى أن يكون شعراً ، لأن هذه الآية على وزن بيت الرمل ، يسمى المجزؤ والمسبع ، وهو :
يا خليليّ أربعا واستخبر ال . . .
منزل الدارس عن حيّ حلال
رسماً بعسفان . . .
ولا يجوز أن يقال : إن في القرآن شعراً.
{ وما تنفقوا من شيء فان الله به عليم } تقدّم تفسير مثل هذا.

كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)

قال أبو روق وابن السائب : نزلت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم : « أنا على ملة إبراهيم » فقالت اليهود : فكيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « ذلك حلالٌ لأبي إبراهيم ونحن نحلُّه » فقالت اليهود : كلُّ شيء أصبحنا اليوم نحرِّمه فإنه كان محرماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا ، فأنزل الله ذلك تكذيباً لهم.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها والجامع بينهما أنه تعالى أخبر أنه لا ينالُ المرء البرّ إلا بالإنفاق مما يحب.
ونبي الله إسرائيل روى في الحديث : « أنه مرض مرضاً شديداً فطال سقمه فنذر لله نذراً إنْ عافاه اللَّهُ من سقمه أنْ يحرِّمَ ، أو ليحرمَنّ أحبَّ الطعام والشراب إليه ، وكان أحبُّ الطعام إليه لحوم الإبل ، وأحبُّ الشراب ألبانها ، ففعل ذلك تقرباً إلى الله » فقد اجتمعت هذه الآية وما قبلها في أنّ كلاًّ منهما فيما ترك ما يحبه الإنسان وما يؤثره على سبيل التقرب به لله تعالى.
وكلٌّ : من صيغ العموم.
والطعام : أصلُه مصدرٌ أُقيم مقام المفعول ، وهو اسم لكل ما يطعم ويؤكل.
وزعم بعض أصحاب أبي حنيفة أنه اسم للبر خاصة.
قال الرازي : والآية تبطله لأنه استثنى منه ما حرم إسرائيل على نفسه.
واتّفقوا على أنه شيء سوى الحنطة ، وسوى ما يتخذ منها.
ومما يؤكد ذلك قوله في الماء ومن لم يطعمه.
وقال : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم } وأراد الذبائح انتهى.
ويُجاب عن الاستثناء أنه منقطع ، فلا يندرجُ تحت الطعام.
وقال القفال : لم يبلغنا أنّ الميتة والخنزير كانا مباحين لهم مع انّهما طعام ، فيحتملُ أنْ يكونَ ذلك على الأطعمة التي كانت اليهود في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم تدَّعي أنها كانت محرمة على إبراهيم ، فيزول الإشكال يعني إشكال العموم.
والحل : الحلال ، وهو مصدرُ حلَّ نحو عزّ عزاً ومنه { وأنت حل بهذا البلد } أي حلالُ به.
وفي الحديث عن عائشة : « كنت أطيِّبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لحلِّه ولحرمه » ولذلك استوى فيه الواحدُ والجمعُ والمذكر والمؤنث.
قال : { لا هنّ حلٌّ لهم } وهي كالحرم ، أي الحرام.
واللُّبس ، أي اللباس.
وإسرائيل : هو يعقوب ، وتقدم الكلام عليه ، وتقدّم أنَّ الذي حرمه إسرائيل هو لحوم الإبل وألبانها؛ ورواه أبو صالح عن ابن عباس ، وهو قول : الحسن ، وعطاء ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعبد الله بن كثير في آخرين.
وقيل : العروق.
رواه سعيد بن جبير ، عن ابن عباس.
وهو قول : مجاهد أيضاً ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، وأبي مجلز في آخرين.

قال ابن عباس : عرضت له الآنساء فأضنته ، فجعل لله إنْ شفاه من ذلك أنْ لا يطعم عرقاً.
قال : فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم ، وليس في تحريم العروق قربة فيما يظهر.
وروي عن ابن عباس أنَّه حرم العروق ولحوم الإبل.
وقيل : زيادتا الكبد والكليتان والشحم إلا ما على الظهر قاله : عكرمة.
وتقدَّم سببُ تحريمه لما حرمه.
قال ابن عطية : ولم يختلف فيما علمت أنّ سبب التحريم هو بمرض أصابه ، فجعل تحريم ذلك شكراً لله تعالى إنْ شفي.
وقيل : هو وجع عرق النسا.
وهذا الاستثناء يحتملُ الاتصال والانقطاع ، فإنْ كان متصلاً كان التقدير : إلاّ ما حرَّم إسرائيل على نفسه فحرم عليهم في التوراة ، فليست فيها الزوائد التي افتروها وادعوا تحريمها.
وإنْ كان منقطعاً كان التقدير : لكنَّ إسرائيل حرم ذلك على نفسه خاصة ، ولم يحرمه الله على بني إسرائيل.
والاتصال أظهر.
وظاهر قوله : على نفسه ، أن ذلك باجتهاد منه لا بتحريم من الله تعالى.
واستدل بذلك على أن للأنبياء أن يحرموا بالاجتهاد.
وقيل : كان تحريمه بإذن الله تعالى.
وقيل : يحتمل أنْ يكون التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا.
وقال الأصم : لعل نفسه كانت مائلة إلى تلك الأنواع فامتنع من أكلها قهراً للنفس وطلباً لمرضاة الله كما يفعله كثيرٌ من الزهاد ، فعبر عن ذلك الامتناع بالتحريم.
واختلفوا في سبب التحريم للطعام الذي حرمه إسرائيل على بنيه ومن بعدهم من اليهود ، وهذا إذا قلنا : بأنّ الاستثناء متصل.
أمّا إذا كان منقطعاً فلم يحرّم عليهم.
وقال ابن عطية : حرمها عليهم بتحريم إسرائيل ، ولم يكن محرماً في التوراة ، وروي عن ابن عباس أن يعقوب قال : « إنْ عافاني اللهُ لا يأكله لي ولد ».
وقال الضحاك : وافقوا أباهم في تحريمه ، لا أنه حرم عليهم بالشرع ، ثم أضافوا تحريمه إلى الشرع فأكذبهم الله تعالى.
وقال ابن السائب : حرمه الله عليهم بعد التوراة لا فيها ، وكانوا إذا أصابوا ذنباً عظيماً حُرِّم به عليهم طعام طيب ، أو صبَّ عليهم عذاب ، ويؤكده { فبظلم } الآية.
وقيل : لم يحرم عليهم قبل نزول التوراة ولا بعدها ، ولا بتحريم إسرائيل عليهم ، ولا لموافقته بل قالوا ذلك تحرضاً وافتراء.
وقال السدي : لما أنزل الله التوراة حرّم عليهم ما كانوا يحرّمون على أنفسهم قيل نزولها.
قال الزمخشري : والمعنى أنّ المطاعم كلها لم تزلْ حلالاً لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة ، وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم ، لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه ، فتبعوه على تحريمه وهو ردٌّ على اليهود وتكذيب لهم حيث أرادوا براءة ساحتهم بما نعى عليهم في قوله : { فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات } الآية.
وجحودُ ما غاظهم واشمأزوا منه وامتعضوا.
فما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم فقالوا : لسنا بأول مَن حرمت عليه ، وما هو إلا تحريم قديم كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعده من بني إسرائيل وهلم جرًّا ، إلى أن انتهى التحريم إلينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا.

وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصدّ عن سبيل الله ، وأكل الربا ، وأخذ أموال الناس بالباطل وما عدد من مساويهم التي كلما ارتكبوا منها كبيرة حُرِّم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم انتهى كلامه.
{ من قبل أن تنزل التوراة } قال أبو البقاء : مِن متعلقة بحرم ، يعني في قوله : إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه.
ويبعد ذلك ، إذْ هو من الاخبار بالواضح ، لأنه معلوم أنّ ما حرم إسرائيل على نفسه هو من قبل إنزال التوراة ضرورة لتباعد ما بين وجود إسرائيل وإنزال التوراة.
ويظهر أنه متعلق بقوله : كان حلاً لبني إسرائيل ، أي من قبل أن تنزل التوراة ، وفَصَلَ بالاستثناء إذ هو فصل جائز وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن : في جواز أن ، يعمل ما قبل إلاّ فيما بعدها إذا كان ظرفاً أو مجروراً أو حالاً نحو : ما حبس إلا زيد عندك ، وما أوى إلا عمرو إليك ، وما جاء إلا زيد ضاحكاً.
وأجاز الكسائي ذلك في منصوب مطلقاً نحو : ما ضرب إلا زيد عمراً وأجاز هو وابنُ الأنباري ذلك في مرفوع نحو : ما ضرب إلا زيداً عمرو ، وأما تخريجه على مذهب غير الكسائي وأبي الحسن فيقدر له عامل من جنس ما قبله تقديره هنا : حل من قبل أن تنزل التوراة.
{ قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين }.
قل : خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل : فأتوا محذوف تقديره : هذا الحق ، لا زعمُكُم معشر اليهود.
فأتوا : وهذه أعظم محاجة أَن يُؤمروا بإحضار كتابهم الذي فيه شريعتهم ، فإنه ليس فيه ما ادّعوه بل هو مصدّق لما أخبر به صلى الله عليه وسلم : من أنّ تلك المطاعم كانت حلالاً لهم من قديم ، وأن التحريم هو حادث.
وروي أنهم لم يتجاسروا على الإتيان بالتوراة لظهور افتضاحهم بإتيانها ، بل بهتوا وذلك كعادتهم في كثير من أحوالهم.
وفي استدعاء التوراة منهم وتلاوتها الحجةُ الواضحة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ كان عليه السلام النبيّ الأميَّ الذي لم يقرأ الكتب ولا عرف أخبار الأمم السالفة ، ثم أخذ يحاجهم ويستشهد عليهم بما في كتبهم ولا يجدون من إنكاره محيصاً.
وفي الآية دليل على جواز النسخ في الشرائع ، وهم ينكرون ذلك.
وخرج قوله : « إن كنتم صادقين » مخرجَ الممكن ، وهم معلوم كذبهم.
وذلك على سبيل الهزء بهم كقولك : إنْ كنت شجاعاً فالقني ، ومعلوم ، عندك أنَّه ليس بشجاع ، ولكن هزأت به إذ جعلت هذا الوصف مما يمكن أن يتصف به.

{ فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون } يحتمل أن يكون مندرجاً تحت القول ، ويحتمل أنْ يكون ابتداءَ إخبارٍ من الله بذلك ، وافتراؤه الكذب هو زعمه أن ذلك كان محرماً على بني إسرائيل قبل إنزال التوراة ، والإشارة بذلك قيل يحتمل ثلاثة أوجه.
أحدها : أن يكون إلى التلاوة ، إذ مضمنها بيان مذهبهم وقيام الحجة البالغة القاطعة ، ويكونُ افتراء الكذب أنْ يُنسب إلى كتب الله ما ليس فيها.
والثاني : أنْ يكون إلى استقرار التحريم في التوراة ، إذ المعنى : إلاّ ما حرّم إسرائيل على نفسه ، ثم حرمته التوراة عليهم عقوبة لهم.
وافتراء الكذب أنْ يزيد في المحرمات ما ليس فيها.
والثالث : أنْ يكون إلى الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه وقبل نزول التوراة من سنن يعقوب.
وشرع ذلك دون إذن من الله.
ويؤيد هذا الاحتمال قوله : { فبظلم من الذين هادوا } الآية.
فنص على أنه كان لهم ظلم في معنى التحليل والتحريم ، وكانوا يشدّدون فيشدد عليهم الله كما فعلوا في أمر البقرة.
وجاءت شريعتنا بخلاف هذا ، دين الله « يسر يسروا ولا تعسروا ، بعثت بالحنيفية السمحة » { وما جعل عليكم في الدين من حرج } والأظهر في من أنها شرطية ، ويجوز أن تكون موصولة.
وجمع في فأولئك حملاً على المعنى.
وهم : يحتمل أن تكون فصلاً ، ومبتدأً ، وبدلاً.
والظلم : وضع الشيء في غير موضعه.
وقيل : هو هنا الكفر.
{ قل صدق الله } أمر تعالى نبيه أنْ يصدع بخلافهم ، أي الأمر الصدق هو ما أخبر الله به لا ما افتروه ومن الكذب.
ونبّه بذلك على أنّ ما أخبر به من قوله : { كل الطعام } وسائر ما تقدم صدق ، وأنه ملة إبراهيم.
والأحسنُ أن يكون قوله : « قل صدق الله » أي في جميع ما أخبر به في كتبه المنزلة.
وقيل : في أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم هو على ملة إبراهيم ، وإبراهيم كان مسلماً.
وقيل في قوله : { كل الطعام } الآية قاله ابن السائب.
وقيل : في أنه ما كان يهودياً ولا نصرانياً قاله : مقاتل وأبو سليمان الدمشقي ، ثم أمرهم باتباع ملة إبراهيم فقال :
{ فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } وهي ملة الإسلام التي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه ، فيخلصون من ملة اليهودية.
وعرض بقوله : « وما كان من المشركين » : إلى أنهم مشركون في اتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله.
وتقدّم الكلام على نظير هذه الجملة في سورة البقرة تفسيراً وإعراباً فأغنى عن إعادته.
وقرأ أبان بن ثعلب قل صدق : بإدغام اللام في الصاد ، و { قل سيروا } بإدغام اللام في السين.
وأدغم حمزة والكسائي وهشام { بل سولت } قال ابنُ جني : علة ذلك فشوُّ هذين الحرفين في الفم وانتشار الصوت المثبت عنهما ، فقاربتا بذلك مخرج اللام ، فجاز إدغامها فيهما انتهى.

وهو راجع لمعنى كلام سيبويه ، قال سيبويه : والإدغامُ يعني إدغام اللام مع الطاء والصاد وأخواتهما جائز ، وليس ككثرته مع الراء ، لأن هذه الحروف تراخين عنها وهي من الثنايا.
قال : وجواز الإدغام لأنّ آخر مخرج اللام قريب من مخرجها انتهى كلامه.
{ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة } روي عن مجاهد : أنه تفاخر المسلمون واليهود فقالت اليهود : بيتُ المقدس أفضل وأعظم من الكعبة ، لأنّها مهاجرُ الأنبياء ، وفي الأرض المقدسة.
وقال المسلمون : بل الكعبة أفضلُ ، فنزلت.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة وهو : أنه لما أمر تعالى باتباع ملة إبراهيم وكان حج البيت من أعظم شعائر ملة إبراهيم ومن خصوصيات دينه ، أخذ في ذكر البيت وفضائله ليبني الحج ووجوبه.
وأيضاً فإنّ اليهود حين حولت القبلة إلى الكعبة طعنوا في نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : بيت المقدس أفضل وأحق بالاستقبال لأنه وضع قبل الكعبة ، وهو أرض المحشر ، وقبلة جميع الأنبياء ، فأكذبهم الله في ذلك بقوله : «إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة» كما أكذبهم في دعواهم قبل : إنما حرم عليهم ما كان محرماً على يعقوب من قبل أن تنزل التوراة ، وأيضاً فإنّ كل فرقة من اليهود والنصارى زعمت أنها على ملة إبراهيم ، ومن شعائر ملته حجُّ الكعبة وهم لا يحجونها ، فأكذبهم الله في دعواهم تلك ، والأول هو الفرد السابق غيره.
وتقدم الكلام على لفظ أول في قوله : { ولا تكونوا أول كافر به } ووضع جملة في موضع الصفة.
واختلف في معنى كونه أول بيت وضع للناس.
فقيل : هو أولُ بيت ظهر على وجه الماء حين خلقت السموات والأرض ، خلقه قبل الأرض بألفي عام ، وكان زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض تحته.
وقيل : هو أول بيت بناه آدم في الأرض.
وقيل : لما أهبط آدم قالت له الملائكة : طُفْ حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام ، وكان في موضعه قبل آدم ببيت يقال له : الضراح ، فرفع في الطوفان إلى السماء الرابعة يطوف به ملائكة السموات.
وذكر الشريف أبو البركات أسعد بن علي بن أبي الغنائم الحسيني الجواني النسابة : أن شيث بن آدم هو الذي بنى الكعبة بالطين والحجارة على موضع الخيمة التي كان الله وضعها لآدم من الجنة ، فعلى هذه الأقاويل يكون أول بيت وضع للناس على ظاهره ، وروي عن ابن عباس أنه أول بيت حج بعد الطوفان ، فتكون الأولية باعتبار هذا الوصف من الحج إذْ كان قبله بيوت ، وروي عن عليّ أنه سأله رجل : أهو أول بيت؟ فقال عليّ : لا قد كان قبله بيوت ، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً فيه الهدى والرحمة والبركة ، فأخذ الأولية بقيد هذه الحال.
وقيل : أول من بناه إبراهيم ثم قوم من العرب من جرهم ، ثم هدم فبنته العمالقة ، ثم هدم فبنته قريش.

وقال أبو ذر : قلت يا رسول الله أيّ مسجد وضع أول؟ قال : « المسجد الحرام » قلت؛ثم أي؟ قال : « المسجد الأقصى » قلت : كم كان بينهما؟ قال : « أربعون سنة » وظاهر هذا الحديث أنه من وضع إبراهيم ، وهو معارض لما ذكر في الأقوال السابقة : إلا أنّ حمل الوضع على التجديد فيمكن الجمع بينهما.
وظاهرُ حديث أبي ذر يضعف قول الزجاج : إنّ بيت المقدس هو من بناء سليمان بن داود عليهما السلام ، بل يظهر منه أنه من وضع إبراهيم ، فكما وضع الكعبة وضع بيت المقدس.
وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم : « أن بين الوضعين أربعين سنة » وأين زمانُ إبراهيم من زمان سليمان! ومعنى وضع للناس : أي متعبداً يستوي في التعبد فيه الناس ، إذ غيره من البيوت يختص بأصحابها ، والمشترك فيه الناس هو محل طاعتهم وعبادتهم وقبلتهم.
وقرأ الجمهور « وُضع » مبنياً للمفعول.
وقرأ عكرمة وابن السميفع وضع مبنياً للفاعل ، فاحتمل أنْ يعود على الله ، واحتمل أن يعودَ على إبراهيم ، وهو أقرب في الذكر وأليق وأوفق لحديث أبي ذر.
وللناس متعلق بوضع ، واللام فيه للتعليل ، وللذي ببكة خبر إنّ.
والمعنى : للبيت الذي ببكة.
وأكدت النسبة بتأكيدين : إنّ واللام.
وأخبر هنا عن النكرة وهو أول بيت لتخصصها بالإضافة ، وبالصفة التي هي وضع إما لها ، وإمّا لما أضيفت إليه.
إذْ تخصيصه تخصيصٌ لها بالمعرفة وهو للذي ببكة ، لأن المقصود الإخبار عن أول بيت وضع للناس ، ويحسن الإخبار عن النكرة بالمعرفة دخول إنّ.
ومن أمثلة سيبويه : أنّ قريباً منك زيد.
تخصص قريب بلفظ منك ، فحسن الإخبار عنه.
وقد جاء بغير تخصيص وهو جائز في الاختيار قال :
وأنّ حراماً أن أسب مجاشعا . . .
بآبائي الشم الكرام الخضارم
والباء في ببكة ظرفية كقولك : زيد بالبصرة.
ويضعفُ أن يكون بكة هي المسجد ، لأنه يلزم أن يكونَ الشيء ظرفاً لنفسه ، وهو لا يصحّ.
{ مباركاً وهدىً للعالمين } أمّا بركته فلما يحصلُ فيه من الثواب وتكفير السيئات لمن حجه واعتمره وطاف به وعكف عنده.
وقال القفال : يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله : { يُجْبى إليه ثمرات كل شيء } وقيل : بركتُهُ دوام العبادة فيه ولزومها ، لأنّ البركة لها معنيان : أحدهما : النمو ، والآخر : الثبوت ، ومنه البركة لثبوت الماء فيها.
والبرك الصدر لثبوت الحفظ فيه ، والبراكاء الثبوت في القتال ، وتبارك الله ثبت ولم يزل.
وقيل : بركته تضعيف الثواب فيه.
روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من طاف بالبيت لم يرفع قدماً ولم يضع أخرى إلا كتب الله بها له حسنة ورفع له بها درجة » وقال الفراء : سمي مباركاً لأنه مغفرة للذنوب.
وقال ابن جرير : بركته تطهيره من الذنوب.

وقيل : بركته أنَّ مَن دخله أمن حتى الوحش ، فيجتمع فيه الظبي والكلب.
وأما كونه هدى فلأنه لما كان مقوماً مصلحاً كان فيه إرشاد.
وبولغ بكونه هدىً ، أو هو على حذف مضاف أي : وذا هدى.
قيل : ومعنى هدى أي قبلة.
وقيل : رحمة.
وقيل : صلاح.
وقيل : بيان ودلالة على الله بما فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره تعالى.
وقال ابن عطية : يحتمل هنا هدى أن يكون بمعنى الدعاء ، أي من حيث دعى العالمون إليه ، وانتصاب مباركاً على الحال.
وجوزوا أنْ يكون حالاً من الضمير الذي استكن في وضع ، والعامل فيها وضع أي أنَّ أول بيت مباركاً ، أي في هذه الحال للذي ببكة.
وهذا التقدير ليس بجائز ، لأنك فصلت بين العامل في الحال وبين الحال بأجنبي وهو : الخبر ، لأنه معمول لأنَّ خبر لها ، فإنْ أضمرت وضع بعد الخبر أمكن أن يعمل في الحال ، وكان تقديره : للذي ببكة وضع مباركاً.
وعلى هذا التقدير ينبغي أن يحمل تفسير علي بن أبي طالب السابق ذكره عند ذكر كون هذا البيت أولاً ، إذ كان قد لاحظ في هذا البيت كونه وضع أولاً بقيد هذه الحال.
وجوزوا أيضاً أن يكون العامل في الحال العامل في ببكة ، أي استقر ببكة في حال بركته.
وهو وجه ظاهر الجواز ، ولم يذكر الزمخشري غيره.
وأما هدى فظاهره أنه معطوف على مباركاً ، والمعطوف على الحال حال.
وجوَّز بعضهم أنْ يكون مرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي وهو هدى ، ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار.
{ فيه آيات بينات } أي علامات واضحات منها : مقام إبراهيم ، والحجر الذي قام عليه ، والحجر الأسود وهو : من حجارة الكعبة ، وهو يمين الله في الأرض يشهد لمن مسه.
والحطيم ، وزمزم ، وأمن الخائف وهيبته وتعظيمه في قلوب الناس ، وأمر الفيل ، ورمى طير الله عنه بحجارة السجيل ، وكف الجبابرة عنه على وجه الدهر ، وإذعان نفوس العرب لتوفير هذه البقعة دون ناهٍ ولا زاجر ، وجباية الأرزاق إليه ، وهو { بواد غير ذي زرع } وحمايته من السيول.
ودلالةُ عموم المطر إياه من جميع جوانبه على خصب آفاق الأرض ، فإنْ كان المطر من جانب أخصب الأفق الذي يليه.
وذكر مكي وغيره : أنّ من آياته كون الطير لا يعلوم عليه.
قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، والطير يعاين يعلوه ، وقد علته العقاب التي أخذت الحية المشرفة على جداره ، وتلك كانت من آياته انتهى.
وأي عبد علا عليه عتق.
وتعجيلُ العقوبة لمن عتا فيه ، وإجابة دعاء من دعا تحت الميزاب ، ومضاعفة أجر المصلي ، وغير ذلك من الآيات.
وقوله : فيه آيات بينات ، الضمير في فيه عائد على البيت ، فينبغي أن لا يذكر من الآيات إلا ما كان في البيت.
لكنهم توسعوا في الظرفية ، إذ لا يمكن حملها على الحقيقة لأنه كان يلزم أن الآيات تكون داخل الجدران.

ووجهُ التوسع أنّ البيت وضع بحرمه وجميع فضائله ، فهي فيه على سبيل المجاز.
ولذلك عدَّ المفسرون آياتٍ في الحرم وأشياء مما التزمت في شريعتنا من : تحريم قطع شجره ، ومنع الاصطياد فيه.
والذي تعرضت له الآية هو مقام إبراهيم ، لأنه آية باقية على مر الأعصار.
وذلك أنّه لمّا قام إبراهيم على حجر المقام وقت رفعه القواعد من البيت طال له البناء ، فكلما علا الجدار ارتفع الحجر به في الهواء ، فما زال يبني وهو قائم عليه وإسماعيل يناوله الحجارة والطين حتى كمل الجدار.
ثم أراد الله إبقاء ذلك آية للعالمين ليَّن الحجر فغرقت فيه قدما إبراهيم كأنها في طين ، فذلك الاثر باق إلى اليوم.
وقد نقلت كافة العرب ذلك في الجاهلية على مرور الاعصار.
وقال في ذلك أبو طالب :
وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة . . .
على قدميه حافياً غير ناعل
فما حفظ أن أحداً من الناس نازع في هذا القول.
وقيل : سبب أثر قدميه في هذا الحجر أنه وافى مكة زائراً من الشام فقالت له زوجة إسماعيل : انزلْ.
حتى اغسلَ رأسك ، فأبى أن ينزل ، فجاءت بهذا الحجر من جهة شقه الأيمن ، فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ، ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر ، فبقي أثر قدميه فيه.
وارتفاعُ آيات على الفاعلية بالمجرور قبله ، فيكون المجرور في موضع الحال ، والعامل فيها محذوف ، وذلك المحذوف هو الحال حقيقة.
ونسبة الحالية إلى الظرف والمجرور مجاز ، كنسبة الخبر إليها.
إذا قلت : زيد في الدار ، أو عندك.
ولذلك قال بعض أصحابنا : وما يعزى للظرف من خبرية وعمل ، فالأصح كونه لعامله.
وكون فيه في موضع حال مقدّرة ، سواء كان العامل فيها هو العامل في ببكة ، أم كان العامل فيها هو وضع على ما أعربوه ، أو على ما أعربناه.
ويجوز أو يكون جملة مستأنفة.
أخبر الله تعالى أن فيه آيات بينات.
{ مقام إبراهيم } مقام : مفعل من القيام.
وقرأ الجمهور : آيات بينات على الجمع.
وقرأ أبيّ وعمر وابن عباس ومجاهد وأبو جعفر في رواية قتيبة « آية بينة » على التوحيد.
فعلى قراءة الجمهور أعربوا مقام ابراهيم بدلاً ، وهو بدل كل من كل ، من قوله : آيات ، وأعربوه خبر مبتدأ محذوف.
أي هنّ مقام إبراهيم.
وعلى ما أعربوه فكيف يبدل المفرد من الجمع ، أو يخبر به عن الجمع؟ وأجيب بوجهين : أحدهما : أن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله ونبوّة ابراهيم عليه السلام من تأثير قدمه في حجر صلد كقوله تعالى : { إن ابراهيم كان أمة قانتاً } والثاني : اشتماله على آيات ، لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية ، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء آية لابراهيم خاصة ، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنين آية.

قال الزمخشري : ويجوز أن يراد فيه « آيات بينات مقام ابراهيم » وأمن من دخله ، لأن الآيتين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعة.
وقال ابن عطية : والمترجح عندي أنّ المقام وأمن الداخل جعلا مثالاً مما في حرم الله من الآيات ، وخصّا بالذكر لعظمهما ، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار؛ إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم.
فظاهرُ كلامه وكلام الزمخشري قبله : أن مقام ابراهيم وأمن الداخل تفسير للآيات وهي جمع ، ولكن لم يذكر أمن الداخل في الآية تفسيراً صناعياً ، إنما جاء « ومن دخله كان آمناً » جملة من شرط وجزاء ، أو مبتدأ أو خبر ، لا على سبيل أن يكون اسماً مفرداً يعطف على قوله : مقام ابراهيم ، فيكون ذلك تفسيراً صناعياً.
بل لم يأت بعد قوله : { آيات بينات } سوى مفرد وهو : مقام ابراهيم فقال.
فإن قلت : كيف أجزت أنْ يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان وقوله : ومن دخله كان آمناً جملة مستأنفة : إما ابتدائية ، وإما اشترطية؟ قلت : أجزت ذلك من حيث المعنى.
ولأن قوله : { ومن دخله كان آمناً } دل على أمن داخله ، فكأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، وأمن داخله.
ألا ترى أنك لو قلت فية آية بينة من دخله كان آمناً صحّ ، لأنه في معنى فيه آية بينة أمن مَن دخله انتهى سؤاله وجوابه وليس بواضح.
لأن تقديره وأمن الداخل ، هو مرفوع عطفاً على مقام إبراهيم ، وفسر بهما الآيات.
والجملة من قوله : ومن دخله كان آمناً لا موضع لها من الإعراب ، فتدافعا إلا أنْ اعتقد أنّ ذلك معطوف محذوف يدل عليه ما بعده ، فيمكن التوجيه.
فلا يجعل قوله : ومن دخله كان آمناً في معنى : وأمن داخله ، إلا من حيث تفسير المعنى لا تفسير الإعراب.
قال الزمخشري : ويجوز أن يذكر هاتين الآيتين ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات ، كأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما.
ونحوه في طي الذكر قول جرير :
كانت حنيفة أثلاثاً فثلثهم . . .
من العبيد وثلث من مواليها
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « حبب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء ، وقرة عيني في الصلاة » انتهى كلامه.
وفيه حذف معطوفين ، ولم يذكر الزمخشري في إعراب مقام إبراهيم إلا أنه عطف بيان لقوله : آيات بينات.
ورد عليه ذلك ، لأن آيات نكرة ، ومقام إبراهيم معرفة ، ولا يجوز التخالف في عطف البيان.
وقوله مخالف لإجماع الكوفيين والبصريين ، فلا يلتفت إليه.
وحكم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت ، فتتبع النكرة النكرة والمعرفة المعرفة ، وقد تبعهم في ذلك أبو علي الفارسي.

وأما عند البصريين فلا يجوز إلا أنْ يكونا معرفتين ، ولا يجوز أنْ يكونا نكرتين.
وما أعربه الكوفيون ومن وافقهم : عطف بيان وهو نكرة على النكرة قبله ، أعربه البصريون بدلاً ، ولم يقم لهم دليل على تعيين عطف البيان في النكرة ، فينبغي أن لا يجوز.
والأولى والأصوب في إعراب مقام إبراهيم أنْ يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : أحدها : أي أحد تلك الآيات البينات مقام إبراهيم.
أو مبتدأ محذوف الخبر تقديره منها : أي من الآيات البينات مقام إبراهيم.
ويكون ذكر المقام لعظمه ولشهرته عندهم ، ولكونه مشاهداً لهم لم يتغير ، ولإذكاره إياهم دين أبيهم إبراهيم.
وأما على قراءة من قرأ : آية بينة بالتوحيد ، فإعرابه بدل ، وهو بدل معرفة من نكرة موصوفة ، كقوله تعالى : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله } ويكون الله تعالى قد أخبر عن هذه الآية العظيمة وحدها وهي مقام إبراهيم لما ذكرنا ، وإنْ كان في البيت آيات كثيرة.
واختلفوا في تفسير مقام إبراهيم.
فقال الجمهور : هو الحجر المعروف.
وقال قوم : البيت كله مقام إبراهيم ، لأنه بناه ، وقام في جميع أقطاره.
وقال قوم : مكة كلها مقام إبراهيم.
وقال قوم : الحرم كله.
والحرم مما يلي المدينة نحواً من أربعة أميال إلى منتهى التنعيم ، ومما يلي العراق نحواً من ثمانية أميال يقال له المقطع ، ومما يلي عرفة تسعة أميال إلى منتهى الحديبية.
{ ومن دخله كان آمناً } : الضمير في « ومن دخله » عائد على البيت : إذْ هو المحدث عنه ، والمقيد بتلك القيود من البركة والهدى والآيات البينات من مقام إبراهيم وغيره.
ولا يمكن أنْ يعود على مقام إبراهيم إذا فسّرناه بالحجر.
وظاهر الآية وسياق الكلام أنّ هذه الجملة هي مفسرة لبعض آيات البيت ، ومذكرة للعرب بما كانوا عليه في الجاهلية من احترام هذا البيت ، وأمن من دخله من ذوي الجرائم.
وكانت العرب يغير بعضها على بعض ويتخطف الناس بالقتل ، وأخذ الأموال ، وأنواع الظلم ، إلا في الحرم كقوله تعالى : { أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم } وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام { رب اجعل هذا بلداً آمناً } فأما في الإسلام فمن أصاب حدًّا فإن الحرم لا يعيذُه وإلى هذا ذهب : عطاء ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة وغيره.
فمن زنى ، أو سرق ، أو قتل ، أقيم عليه الحدّ واستحسن كثير ممن قال هذا القول : أن يخرج من وجب عليه القتل إلى الحل فيقتل فيه.
وقال ابن عباس : من أحدث حدثاً واستجار بالبيت فهو آمن.
والأمر في الإسلام على ما كان في الجاهلية ، فلا يعرض أحد لقاتل وليه.
إلا أنه يجب على المسلمين أن لا يبايعوه ، ولا يكلموه ، ولا يؤوه حتى يتبرم فيخرج من الحرم فيقام عليه الحد.
وقال بمثل هذا عطاء أيضاً ، والشعبي ، وعبيد بن عمير ، والسدي ، وابن جبير ، وغيرهم إلا أن أكثرهم قالوا : هذا فيمن يقتل خارج الحرم ثم يعوذ بالحرم ، أمّا من قتل فيه فيقام عليه الحد فيه.

واختلف فقهاء الأمصار : إذا جنى في غير الحرم ثم التجأ إليه فقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، والحسن بن زياد ، وأحمد في رواية حنبل عنه : إن كانت الجناية في النفس لم يقتص منه ولا يخالط ، أو فيما دون النفس اقتص منه في الحرم.
وقال مالك في رواية : لا يقتص منه فيه ، لا بقتل ولا فيما دون النفس ، ولا يخالط.
قالوا : وانعقد الإجماع على أنّ من جنى فيه لا يؤمن ، لأنه هتك حرمة الحرم وردّ الأمان.
فبقي حكم الآية فيمن جنى صار خارجاً منه ثم التجأ إليه.
وقالوا : هذا خبر معناه الأمر.
أي ومَن دخله فأمّنوه.
وهو عام فيمن جنى فيه أو في غيره ثم دخله ، لكنْ صدَّ الإجماع عن العمل به فيمن جنى فيه وبقي حكم الآية مختصاً بمن جنى خارجاً منه ثم دخله.
وقال يحيى بن جعدة في آخرين : آمناً من النار ، ولا بد من قيد في.
ومن دخله كان آمناً : أي ومن دخله حاجًّا ، أو من دخله مخلصاً في دخوله.
وقيل المعنى : ومن دخله عام عمرة القضاء مع النبي صلى الله عليه وسلم لقوله : { لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } وقال جعفر الصادق : منْ دخله ورقى على الصفا أمِن أمْن الأنبياء.
وظاهرُ الآية ما بدأنا به أولاً ، وكلّ هذه الأقوال سواه متكلفات ، وينبو اللفظ عنها ، ويخالف بعضها ظواهر الآيات وقواعد الشريعة { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً } روى عكرمة : أنه لما نزلت : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً } قالت اليهود : نحن على الإسلام فنزلت : { ولله على الناس حج البيت } الآية ، قيل له : حجهم يا محمد.
إن كانوا على ملة إبراهيم التي هي الإسلام ، فليحجوا إن كانوا مسلمين فقالت اليهود : لا نحجه أبداً.
ودلت هذه الآية على تأكيد فرض الحج ، إذ جاء ذلك بقوله : ولله ، فيشعر بأن ذلك له تعالى ، وجاء بعلى الدالة على الاستعلاء ، وجاء متعلقاً بالناس بلفظ العموم وإن كان المراد منه الخصوص ليكون من وجب عليه ذكر مرتين.
قال الزمخشري : وفي هذا الكلام أنواع من التأكيد والتشديد.
فمنها قوله : { ولله على الناس حج البيت } يعني أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته.
ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل منه ،.
من استطاع إليه سبيلاً وفيه ضربان من التأكيد : أحدهما : أن الإبدال تنبيه للمراد وتكرير له.
والثاني : أن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين انتهى كلامه ، وهو حسن.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص حج بكسر الحاء ، والباقون بفتحها.
وهما لغتان : الكسر لغة نجد ، والفتح لغة أهل العالية.

وجعل سيبويه الحج بالكسر مصدراً نحو : ذكر ذكراً.
وجعله الزجاج اسم العمل.
ولم يختلفو في الفتح أنه مصدر ، وحج مبتدأ وخبره في المجرور الذي هو ولله وعلى الناس متعلق بالعامل في الجار والمجرور الذي هو خبر.
وجوز أنْ يكونَ على الناس حالاً ، وأنْ يكون خبر الحج.
ولا يجوز أن يكون « ولله » حالاً ، لما يلزم في ذلك من تقدّمها على العامل المعنوي.
وحج مصدر أضيف إلى المفعول الذي هو البيت ، والألف واللام فيه للعهد.
إذ قد تقدّم { أنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة } هذا الأصل ثم صار علماً بالغلبة.
فمتى ذكر البيت لا يتبادر إلى الذهن إلا أنه الكعبة ، وكأنه صار كالنجم للثريا وقال الشاعر :
لعمري لأنت البيت أكرم أهله . . .
وأقعد في أفنائه بالأصائل
ولم يشترط في هذه الآية في وجوبه إلا الاستطاعة.
وذكروا أن شروطه : العقل ، والبلوغ ، والحرية ، والإسلام ، والاستطاعة.
وظاهر قوله : { ولله على الناس } وجوبه على العبد ، وهو مخاطب به ، وقال بذلك داود.
وقال الجمهور : ليس مخاطباً به ، لأنه غير مستطيع ، إذ السيد يمنعه عن هذه العبادة لحقوقه.
قالوا : وكذلك الصغير.
فلو حج العبد في حال رقِّّه ، والصبي قبل بلوغه ، ثم عتق وبلغ فعليهما حجة الإسلام.
وظاهره الاكتفاء بحجة واحدة ، وعليه انعقد إجماع الجمهور خلافاً لبعض أهل الظاهر إذ قال : يجب في كل خمسة أعوام مرة ، والحديث الصحيح يرد عليه.
والظاهر أنَّ شرطه القدرة على الوصول إليه بأي طريق قدر عليه من : مشي ، وتكفف ، وركوب بحر ، وإيجاز نفسه للخدمة.
الرجال والنساء في ذلك سواء ، والمشروط مطلق الاستطاعة.
وليست في الآية من المجملات فتحتاج إلى تفسير.
ولم تتعرض الآية لوجوب الحج على الفور ، ولا على التراخي ، بل الظاهر أنه يجب في وقت حصول الاستطاعة.
والقولان عن الحنفية والمالكية.
وقال أبو عمر بن عبد البر : ويدل على التراخي إجماع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج إذا أخره العام الواجب عليه في وقته ، بخلاف من فوّت صلاة حتى خرج وقتها فقضاها.
وأجمعوا على أنه لا يقال لمن حج بعد أعوام من وقت استطاعته أنت قاض.
وكل من قال بالتراخي لا يجد في ذلك حدًّا إلا ما روي عن سحنون : أنه إذا زاد على الستين وهو قادر وترك فسق ، وروي قريب من هذا عن ابن القاسم.
وفي إعراب مَنْ خلاف ، ذهب الأكثرون إلى أنه بدل بعض من كل ، فتكون مَن موصولة في موضع جر ، وبدل بعض من كل لا بد فيه من الضمير ، فهو محذوف تقديره ، من استطاع إليه سبيلاً منهم.
وقال الكسائي وغيره : من شرطية ، فتكون في موضع رفع بالابتداء.
ويلزم حذف الضمير الرابط لهذه الجملة بما قبلها ، وحذف جواب الشرط ، إذ التقدير من استطاع إليه سبيلاً منهم فعليه الحج ، أو فعلية ذلك.

والوجه الأوّل أولى لقلة الحذف فيه وكثرته في هذا.
ويناسب الشرط مجيءُ الشرط بعده في قوله : { ومن كفر } وقيل : مَنْ موصولة في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف تقديره : هم من استطاع إليه سبيلاً.
وقال بعض البصريين : مَنْ موصولة في موضع رفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو حج ، فيكون المصدر قد أضيف إلى المفعول ورفع به الفاعل نحو : عجبت من شرب العسل زيد ، وهذا القول ضعيف من حيث اللفظ والمعنى.
أمّا من حيث اللفظ فإنّ إضافة المصدر للمفعول ورفع الفاعل به قليل في الكلام ، ولا يكاد يحفظ في كلام العرب إلا في الشعر ، حتى زعم بعضهم أنه لا يجوز إلا في الشعر.
وأمّا من حيث المعنى فإنه لا يصح ، لأنّه يكون المعنى : إنّ الله أوجب على الناس مستطيعهم وغير مستطيعهم أنْ يحج البيت المستطيع.
ومتعلق الوجوب إنما هو المستطيع لا الناس على العموم ، والضمير في إليه يعود على البيت ، وقيل : على الحج.
وإليه متعلق باستطاع ، وسبيلاً مفعول بقوله استطاع لأنه فعل متعد.
قال تعالى : { لا يستطيعون نصركم } وكل موصل إلى شيء ، فهو سبيل إليه.
وظاهر الآية يدل على وجوب الحج على من استطاع إلى البيت سبيلاً ، وليست الاستطاعة من باب المجملات كما قدّمنا.
وقال عمر ، وابنه ، وابن عباس ، وعطاء ، وابن جبير : هي حال الذي يجد زاداً وراحلة ، وعلى هذا أكثر العلماء.
وقال ابن الزبير والضحاك : إذا كان مستطيعاً غير شاق على نفسه وجب عليه.
قال الضحاك : إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع ، وقيل له في ذلك؛ فقال : إن كان لبعضهم ميراث بمكة ، أكان يتركه ، بل كان ينطلق إليه؟ ولو حبواً فكذلك يجب عليه الحج.
وقال الحسن : مَنْ وجد شيئاً يبلغه فقد وجب عليه.
وقال عكرمة : استطاعةَ السبيل الصحة.
ومذهب مالك : أنَّ الرجل إذا وثق بقوته لزمه ، وعنه ذلك على قدر الطاقة.
وقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدر على السفر ، وقد يقدر عليه من لا راحلة ولا زاد.
وقال ابن عباس : من ملك ثلاثمائة درهم فهو السبيل إليه.
وقال الشافعي : الاستطاعة على وجهين بنفسه : أولاً : فمن منعه مرض أو عذر وله مال فعليه أن يجعل من يحج عنه وهو مستطيع لذلك.
واختلف قول مالك فيمن سأل ذاهباً وآيباً ممن ليست عادته ذلك في إقامته.
فروى عنه ابن وهب : لا بأس بذلك.
وروي عنه ابن القاسم : لا أرى ذلك ، ولا يخرج إلى الحج والغزو سائلاً.
وكره مالك أن تحج النساء في البحر.
واختلف عنه في حج النساء ماشيات إذا قدرن على ذلك.
ولا حج على المرأة إلا إذا كان معها ذو محرم ، واختلف إذا عدمته.
فقال الحسن ، والنخعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، وأحمد ، وإسحاق : المحرم من السبيل ولا حج عليها إلا مع ذي محرم.

قال أبو حنيفة : إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً ، وإذا وجدت محرماً فهل لزوجها أن يمنعها في الفرض؟ قال الشافعي : له أن يمنعها وعن مالك روايتان : المنع ، وعدمه.
والمحرم من لا يجوز له نكاحها على التأبيد بقرابة ، أو رضاع ، أو صهر ، والحرّ والعبد والمسلم والذمي في ذلك سواء ، إلا أنّ يكونَ مجوسياً يعتقد إباحة نكاحها أو مسلماً غير مأمون ، فلا تخرج ولا تسافر معه.
وقال مالك : تخرج مع جماعة نساء.
وقال الشافعي : مع حرة ثقة مسلمة.
وقال ابن سيرين : مع رجل ثقة من المسلمين.
وقال الأوزاعي : مع قوم عدول ، وتتخذ سلماً تصعد عليه وتنزل ، ولا يقربها رجل.
واختلفوا في وجوب الحج مع وجود المكوس والغرامة.
فقال سفيان الثوري : إذا كان المكس ، ولو درهماً سقط فرض الحج عن الناس.
وقال عبد الوهاب : إذا كانت الغرامة كثيرة مجحفة سقط الفرض.
فظاهر كلامه هذا أنّها إذا كانت كثيرة غير مجحفة به لسعة ماله فلا يسقط ، وعلى هذا جماعة أهل العلم ، وعليه مضت الأعصار.
وأجمعوا على أن المريض والمعضوب لا يلزمهما المسير إلى الحج.
فقال مالك : يسقط عن المعضوب فرض الحج ، ولا يحج عنه في حال حياته.
فإن وصى أن يحج عنه بعد موته حج من الثلث ، وكان تطوّعاً.
وقال الثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، وابن المبارك ، وأحمد ، وإسحاق : إذا كان قادراً على مال يستأجر به لزمه ذلك ، وإذا بذل أحد له الطاعة والنيابة لزمه ذلك ببذل الطاعة عند الشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال أبو حنيفة : لا يلزمه الحج ببذل الطاعة ، ولو بذل له مالاً فالصحيح أنه لا يلزمه قبوله.
ومسائلُ فروع الاستطاعة كثيرة مذكورة في كتب الفقه.
{ ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } قال ابن عباس : بوجوب الحج ، فمن زعم أنه ليس بفرض عليه فقد كفر.
وقال مثله : الضحاك ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وعمران القطان.
وقال ابن عمر وغيره : ومن كفر بالله واليوم الآخر.
وقال ابن زيد : ومن كفر بهذه الآيات التي في البيت.
وقال السدي وجماعة : ومَنْ كفر بأنْ وجد ما يحج به فلم يحج ، فهذا كفر معصية ، بخلاف القول الأول فإنه كفر جحود.
ويصير على قول السدي لقوله : « من ترك الصلاة فقد كفر » « لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ».
على أحد التأويلين.
وقال الزمخشري : ومنها يعني من أنواع التأكيد والتشديد قوله : ومن كفر ، مكان ومَن لم يحج تغليظاً على تارك الحج ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً » ونحوه من التغليظ من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر ، انتهى كلامه ، وهو من معنى كلام السدي.

وقال سعيد بن المسيب : ومَن كفر بكون البيت قبله الحق ، فعلى هذا يكون راجعاً إلى اليهود الذين قالوا حين حوّلت القبلة : { ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } وكفروا بها وقالوا : لا نحج إليها أبداً.
ومن شرطية وجواب الشرط الجملة المصدرة بالفاء ، والرابط لها بجملة الشرط هو العموم الذي في قوله : { عن العالمين } إذْ مَن كفر فهو مندرج تحت هذا العموم.
وفي هذا اللفظ وعيد شديد لمن كفر قال ابن عطية : والقصد بالكلام : فإن الله غني عنهم ، ولكنْ عمَّ اللفظ ليبرع المعنى ويتنبه الفكر على قدرة الله وسلطانه واستغنائه عن جميع الوجوه ، حتى ليس به افتقار إلى شيء ، لا ربَّ سواه انتهى.
وقال الزمخشري : ومنها يعني من أنواع التأكيد ذكر الاستغناء عنه ، وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان.
ومنها قوله : عن العالمين ، ولم يقل عنه.
وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ، لأنّه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء عنه لا محالة.
ولأنّه يدلُّ على الاستغناء الكامل ، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه.
وقيل : في الكلام محذوف تقديره : فإن الله غني عن حج العالمين.
{ قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون } : قال الطبري : سبب نزولها ونزول ما بعدها إلى قوله : { وأولئك لهم عذاب عظيم } أن رجلاً من اليهود حاول الإغراء بين الأوس والخزرج واسمه : شاس بن قيس ، وكان أعمى شديد الضغن والحسد للمسلمين ، فرأى ائتلاف الأوس والخزرج ، فقال : ما لنا من قرار بهذه البلاد مع اجتماع ملأ بني قيلة ، فأمر شاباً من اليهود أنْ يذكرهم يوم بعاث وما جرى فيه من الحرب وما قالوه من الشعر ، ففعل ، فتكلموا حتى ثاروا إلى السلاح بالحرة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم » ؟ ووعظهم فرجعوا وعانق بعضهم بعضاً ، هذا ملخصه وذكروه مطولاً.
وقال الحسن : وقتادة ، والسدي : نزلت في أحبار اليهود الذين كانوا يصدون المسلمين عن الإسلام بأن يقولوا لهم : إنّ محمداً ليس بالموصوف في كتابنا ، والظاهر نداء أهل الكتاب عموماً والعامة ، وإن لم يعلموا فالحجة قائمة عليهم كقيامها على الخاصة.
وكأنهم بترك الاستذلال والعدول إلى التقليد بمنزلة مَنْ علم ثم أنكر.
وقيل : المراد علماء أهل الكتاب الذين علموا صحة نبوّته ، واستدل بقوله : { وأنتم شهداء } انتهى هذا القول.
وخصّ أهل الكتاب بالذكر دون سائر الكفار لأنهم هم المخاطبون في صدر هذه الآية المورد الدلائل عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، والمجابون عن شبههم في ذلك.
ولأن معرفتهم بآيات الله أقوى لتقدم اعترافهم بالتوحيد وأصل النبوّة ، ولمعرفتهم بما في كتبهم من الشهادة للرسول والبشارة به.

ولما ذكر تعالى أنّ في البيت { آيات بينات } وأوجب حجه ، ثم قال : { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } ناسب أنْ يُنكِرَ على الكفار كفرهم بآيات الله ، فناداهم بيا أهل الكتاب لينبههم على أنهم أهل الكتاب ، فلا يناسب مَنْ يعتزي إلى كتاب الله أنْ يكفر بآياته ، بل ينبغي طواعيته وإيمانه بها ، إذْ له مرجع من العلم يصير إليه إذا اعترته شبهة.
والآيات : هي العلامات التي نصبها الله دلالة على الحق.
وقيل : آيات الله هي آيات من التوراة فيها صفة محمد صلى الله عليه وسلم.
ويحتمل القرآن ، ومعجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ والله شهيد على ما تعملون } جملة حالية فيها تهديد ووعيد.
أيْ إنّ مَن كان الله مطَّلعاً على أعماله مشاهداً له في جميع أحواله لا يناسبه أن يكفر بآياته ، فلا يجامع العلم بأن الله مطلع على جميع أعمال الكفر بآيات الله ، لأن من تيقن أن الله مجازيه لا يكاد يقع منه الكفر الذي هو أعظم الكبائر.
وأتت صيغة « شهيد » لتدل على المبالغة بحسب المتعلق.
لأن الشهادة يراد بها العلم في حق الله ، وصفاته تعالى من حيث هي هي لا تقبل التفاوت بالزيادة والنقصان.
فإذا جاءت الصفة من أوصافة للمبالغة فذلك بحسب متعلقاتها.
وتقدّم الكلام على « لم » وحذف الألف من ما الاستفهامية إذا دخل عليها الجار.
وقوله : « على ما تعملون » متعلق بقوله : شهيد.
وما موصولة.
وجوزوا أنْ تكون مصدرية ، أي على عملكم.
{ قل يا أهل الكتاب لم تصدُّون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون } لمّا أنكر عليهم كفرهم في أنفسهم وضلالهم ، ولم يكتفوا حتى سعوا في إضلال مَنْ آمن ، أنكر عليهم تعالى ذلك ، فجمعوا بين الضلال والإضلال « من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عملها » وصدّ : لازم ومتعد.
يقال : صد عن كذا ، وصد غيره عن كذا.
وقراءة الجمهور : يصدون ثلاثياً ، وهو متعد ومفعوله مَنْ آمن.
وقرأ الحسن : تصدُّون من أصدّ ، عدى صدّ اللازم بالهمز ، وهما لغتان.
وقال ذو الرّمة :
أناس أصدُّوا الناس بالسيف عنهم . . .
ومعنى صد هنا : صرف.
وسبيل الله : هو دين الله ، وطريق شرعه ، وقد تقدّم أنها تذكر وتؤنث.
ومن التأنيث قوله :
فلا تبعد فكل فتى أناس . . .
سيصبح سالكاً تلك السبيلا
قال الراغب : وقد جاء { يا أهل الكتاب } دون قل ، وجاء هنا قل.
فبدون قل هو استدعاء منه تعالى لهم إلى الحق ، فجعل خطابهم منه استلانة للقوم ليكونوا أقرب إلى الانقياد.
ولما قصد الغض منهم ذكر قل تنبيهاً على أنهم غير متساهلين أنْ يخاطبهم بنفسه ، وإنْ كان كلا الخطابين وصل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.
وأطلق أهل الكتاب على المدح تارة ، وعلى الذّم أخرى.

وأهل القرآن والسنة لا ينطلق إلا على المدح ، لأن الكتاب قد يراد به ما افتعلوه دون ما أنزل الله نحو : { يكتبون الكتاب بأيديهم } وقد يراد به ما أنزل الله.
وأيضاً فقد يصحُّ أنْ يُقال على سبيل الذمّ والتهكم ، كما لو قيل : يا أهل الكتاب لمن لا يعمل بمقتضاه ، انتهى ما لخص من كلامه.
والهاء في يبغونها عائدة على السبيل.
قال الزجاج والطبري : يطلبون لها اعوجاجاً.
تقول العرب : ابغني كذا بوصل الألف ، أي اطلبه.
أي وأبغني بقطع الألف أعني على طلبه.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) كيف يبغونها عوجاً وهو محال؟ ( قلت ) فيه معنيان : أحدهما : أنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أنَّ فيها عوجاً بقولكم : إن شريعة موسى لا تنسخ ، وبتغييركم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهها ، ونحو ذلك.
والثاني : أنكم تتعبون أنفسكم في إخفاء الحق ، وابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم انتهى.
وقيل : يبغون هنا من البغي وهو التعدي.
أي يتعدّون عليها ، أو فيها.
ويكون عوجاً على هذا التأويل نصبه على الحال من الضمير في يبغون ، أي عوجاً منكم وعدم استقامة انتهى.
وعلى التأويل الأول يكون عوجاً مفعولاً به ، والجملة من قوله : « يبغونها عوجاً » تحتمل الاستئناف ، وتحتمل أن تكون حالاً من الضمير في يصدُّون أو من سبيل الله ، لأن فيها ضميرين يرجعان إليهما.
{ وأنتم شهداء } أي بالعقل نحو : { وألقى السمع وهو شهيد } أي عارف بعقله ، وتارة بالفعل.
نحو قال : { فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } وتارة بإقامة ذلك ، أي شهدتم بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثه على ما في التوراة من صفته وصدقه.
وقال الزمخشري : وأنتم شهداء أنها سبيل الله التي لا يصدّ عنها إلا ضال مضلٌّ.
أو وأنتم شهداء بين أهل دينكم عدول يثقون بأقوالكم ، ويستشهدون في عظام أمورهم ، وهم الأحبار انتهى.
قيل : وفي قوله : { وأنتم شهداء } دلالة على أن شهادة بعضهم على بعض جائزة ، لأنه تعالى سماهم شهداء ، ولا يصدق هذا الاسم إلا على من يكون له شهادة.
وشهادتهم على المسلمين لا تجوز بإجماع ، فتعين وصفهم بأن تجوز شهادة بعضهم على بعض ، وهو قول أبي حنيفة وجماعة.
والأكثرون على أنَّ شهادتهم لا تقبل بحال ، وأنّهم ليسوا من أهل الشهادة.
وما الله بغافل عما تعملون وعيد شديد لهم ، وتقدم تفسير هذه الجملة فأغنى عن إعادته.
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين } لمّا أنكر تعالى عليهم صدهم عن الإسلام المؤمنين حذر المؤمنين من إغواء الكفار وإضلالهم وناداهم بوصف الإيمان تنبيهاً على تباين ما بينهم وبين الكفار ، ولم يأت بلفظ « قل » ليكون ذلك خطاباً منه تعالى لهم وتأنيساً لهم.

وأبرز نهيه عن موافقتهم وطواعيتهم في صورة شرطية ، لأنه لم تقع طاعتهم لهم.
والإشارة ب يا أيها الذين آمنوا إلى الأوس والخزرج بسب ثائرة شاس بن قيس.
وأطلق الطواعية لتدل على عموم البدل ، أي أنْ يصدرَ منكم طواعية ما في أي شيء كان مما يحاولونه من إضلالكم ، ولم يقيد الطاعة بقصة الأوس والخزرج على ما ذكر في سبب النزول.
والردّ هنا التَّصييرُ أي يصيرونكم.
والكفر المشار إليه هنا ليس بكفر حقيقة ، لأن سبب النزول هو في إلقاء العداوة بين الأوس والخزرج.
ولو وقعت لكانت معصية لا كفراً إلا أن يفعلوا ذلك مستحبين له.
وقد يكون ذلك بتحسين أهل الكتاب لهم منهياً بعد منهي ، واستدراجهم شيئاً فشيئاً إلى أن يخرجوا عن الإسلام ويصيروا كافرين حقيقية.
وانتصاب كافرين على أنه مفعول ثان ليردّ ، لأنها هنا بمعنى صير كقوله :
فرد شعورهنّ السود بيضاً . . .
وردّ وجوههنّ البيض سودا
وقيل : انتصب على الحال ، والقول الأول أظهر.
{ وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله } هذا سؤال استبعاد وقوع الكفر منهم مع هاتين الحالتين : وهما تلاوة كتاب الله عليهم وهو القرآن الظاهر الإعجاز ، وكينونةَ الرسول فيهم الظاهر على يديه الخوارق.
ووجود هاتين الحالتين تنافي الكفر ولا تجامعه ، فلا يتطرّق إليهم كفر مع ذلك.
وليس المعنى أنه وقع منهم الكفر فوبخوا على وقوعه لأنهم مؤمنون ، ولذلك نودوا بقوله : يا أيها الذين آمنوا.
فليس نظيرُ قوله : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً } والرسول هنا : محمد صلى الله عليه وسلم بلا خلاف.
والخطاب قال الزجاج : لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان فيهم وهم يشاهدونه.
وقيل : لجميع الأمة ، لأن آثاره وسنته فيهم ، وإنْ لم يشاهدوه.
قال قتادة : في هذه الآية علمان بينان : كتاب الله ، ونبي الله.
فأما نبي الله فقد مضى ، وأما كتاب الله فأبقاه الله بين أظهرهم رحمة منه ونعمة فيه ، حلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته.
وقيل : الخطاب للأوس والخزرج الذين نزلت هذه الآية فيما شجر بينهم على ما ذكره الجمهور.
وقرأ الجمهور تتلى بالتاء.
وقرأ الحسن والأعمش : يتلى بالياء ، لأجل الفصل ، ولأن التأنيث غير حقيقي ، ولأن الآيات هي القرآن.
قال ابن عطية : وفيكم رسوله هي ظرفية الحضور والمشاهدة لشخصه صلى الله عليه وسلم وهو في أمّته إلى يوم القيامة بأقواله وآثاره.
وقال الزمخشري : وكيف تكفرون معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجيب ، والمعنى : من أين يتطرّق إليكم الكفر ، والحال أن آيات الله وهي القرآن المعجز تتلى عليكم على لسان الرسول غضة طرية وبين أظهركم رسول الله ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم؟.
{ ومن يعتصم بالله فقد هديَ إلى صراط مستقيم } قال ابن جريج : ومن يؤمن بالله.
ويناسب هذا القول قوله : { وكيف تكفرون } وقيل : يستمسك بالقرآن.

وقيل : يلتجىء إليه ، فيكون على هذا القول حقاً على الالتجاء إلى الله في دفع شرور الكفار.
وجواب من فقد هدى وهو ماضي اللفظ مستقبل المعنى ، ودخلت قد للتوقع ، لأن المعتصم بالله متوقع للهدى.
وذكروا في هذه الآيات من فنون البلاغة والفصاحة : الاستفهام الذي يراد به الإنكار في { لم تكفرون } { لم تصدون } { وكيف تكفرون } والتكرار : في يا أهل الكتاب ، وفي اسم الله في مواضع ، وفيما يعملون ، والطباق : في الإيمان والكفر ، وفي الكفر إذ هو ضلال والهداية ، وفي العوج والاستقامة ، والتجوز : بإطلاق اسم الجمع في فريقاً من الذين أوتوا الكتاب فقيل : هو يهودي غير معين.
وقيل : هو شاس بن قيس اليهودي.
وإطلاق العموم والمراد الخصوص : في يا أيها الذين آمنوا على قول الجمهور أنه خطاب للأوس والخزرج.
والحذف في مواضع.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)

أصبح : من الأفعال الناقصة لاتصاف الموصوف بالصفة وقت الصباح.
وقد تأتي بمعنى صار وهي ناقصة أيضاً ، وتأتي أيضاً لازمة تقول : أصبحت أي دخلت في الصباح.
وتقول : أصبح زيد ، أي أقام في الصباح ومنه.
إذا سمعت بسري القين فاعلم أنه مصبح ، أي مقيم في الصباح.
شفا الشيء طرفه وحرفه ، وهو من ذوات الواو ، وتثنيته : شفوان ، وهو حرف كل جرم له مهوى كالحفرة والبئر والجرف والسقف والجدار.
ويضاف في الاستعمال إلى الأعلى نحو : شفا جرف.
وإلى الأسف نحو : شفا حفرة.
ويقال : أشفى على كذا أي أشرف.
ومنه أشفى المريض على الموت.
قال يعقوب : يقال للرجل عند موته وللقمر عند محاقه وللشمس عند غروبها ما بقي منه أو منها إلا شفا أي قليل.
.
الحفرة : معروفة وهي واحدة الحفر ، فعلة بمعنى مفعوله ، كغرفة من الماء.
أنقذ خلص.
الابيضاض والاسوداد معروفان ، ويقال : بيض فهو أبيض.
وسود : فهو أسود ، ويقال : هما أصل الألوان.
ذاق الشيء استطعمه ، وأصله بالفم ثم استعير لكل ما يحس ويدرك على وجه التشبيه بالذي يعرف عند الطعم.
تقول العرب : قد ذقتُ من إكرام فلان ما يرغبني في قصده.
ويقولون : ذقِ الفرقَ واعرف ما عنده.
وقال تميم بن مقبل :
أو كاهتزاز رديني تذاوقه . . .
أيدي التجار فزادوا متنه لينا
وقال آخر :
وإن الله ذاق حلوم قيس . . .
فلما راء حفتها قلاها
يعنون بالذوق العلم ، إما بالحاسة ، وإما بغيرها.
ثققت الرجل غلبته وظفرت به.
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته }.
لما حذرهم تعالى من إضلال مَنْ يريدُ إضلالهم ، أمرهم بمجامع الطاعات ، فرهبهم أولاً بقوله : اتقوا الله ، إذ التقوى إشارة إلى التخويف من عذاب الله ، ثم جعلها سبباً للأمر بالاعتصام بدين الله ، ثم أردف الرهبة بالرغبة ، وهي قوله : { واذكروا نعمة الله عليكم } وأعقب الأمر بالتقوى والأمر بالاعتصام بنهي آخر هو من تمام الاعتصام.
قال ابن مسعود ، والربيع ، وقتادة ، والحسن : حق تقاته هو أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر.
وروي مرفوعاً.
وقيل : حق تقاته اتقاء جميع معاصيه.
وقال قتادة ، والسدي ، وابن زيد ، والربيع : هي منسوخة بقوله : { فاتقوا الله ما استطعتم } أمروا أولاً بغاية التقوى حتى لا يقع إخلال بشيء ثم نسخ.
وقال ابن عباس ، وطاوس : هي محكمة.
{ واتقوا الله ما استطعتم } بيان لقوله : اتقوا الله حق تقاته.
وقيل : هو أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو ابنه أو أبيه.
وقيل : لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه.
وقال ابن عباس : المعنى جاهدوا في الله حق جهاده.
وقال الماتريدي : وفي حرف حفصة اعبدوا الله حق عبادته.
وتقاة هنا مصدر ، وتقدم الكلام عليه في

{ إلا أن تتقوا منهم تقاة } قال ابن عطية : ويصح أن يكون التقاة في هذه الآية جمع فاعل وإنْ كان لم يتصرف منه ، فيكون : كرماة ورام ، أو يكون جمع تقي ، إحد فعيل وفاعل بمنزلة.
والمعنى على هذا : اتقوا الله كما يحق أن يكون متقوه المختصون به ، ولذلك أضيفوا إلى ضمير الله تعالى انتهى كلامه.
وهذا المعنى ينبو عنه هذا اللفظ ، إذ الظاهر أنّ قوله : حقّ تقاته من باب إضافة إلى موصوفها ، كما تقول : ضربت زيداً شديد الضرب ، أي الضرب الشديد.
فكذلك هذا أي اتقوا الله الاتقاء الحق ، أي الواجب الثابت.
أما إذا جعلت التقاة جمعاً فإنَّ التركيب يصير مثل : اضرب زيداً حق ضرابه ، فلا يدل هذا التركيب على معنى : اضرب زيداً كما يحق أن يكون ضرابه.
بل لو صرح بهذا التركيب لاحتيج في فهم معناه إلى تقدير أشياء يصح بها المعنى ، والتقدير : اضرب زيداً ضرباً حقاً كما يحق أن يكون ضرب ضرابه.
ولا حاجة تدعو إلى تحميل اللفظ غير ظاهره وتكلف تقادير يصح بها معنى لا يدل عليه ظاهر اللفظ.
{ ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ظاهره النهي عن أن يموتوا إلا وهم متلبسون بالإسلام.
والمعنى : دوموا على الإسلام حتى يوافيكم الموت وأنتم عليه.
ونظيره ما حكى سيبويه من قولهم : لا أرينك ههنا ، وإنما المراد لا تكن هنا فتكون رؤيتي لك.
وقد تقدم لنا الكلام على هذا المعنى مستوفى في سورة البقرة في قوله : { إن الله اصطفى لكم الدّين } الآية والجملة من قوله : وأنتم مسلمون حالية ، والاستثناء مفرع من الأحوال.
التقدير : ولا تموتن على حال من الأحوال إلا على حالة الإسلام.
ومجيئُها إسمية أبلغُ لتكرر الضمير ، وللمواجهة فيها بالخطاب.
وزعم بعضهم أنَّ الأظهر في الجملة أن يكون الحال حاصلة قبل ، ومستصحبة.
وأمّا لو قيل : مسلمين ، لدلَّ على الاقتران بالموت لا متقدماً ولا متأخراً.
{ واعتصموا بحبل الله جميعاً } أي استمسكوا وتحصّنوا.
وحبل الله : العهْد ، أو القرآن ، أو الدين ، أو الطاعة ، أو إخلاص التوبة ، أو الجماعة ، أو إخلاص التوحيد ، أو الإسلام.
أقوال للسلف يقرب بعضها من بعض.
وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض » وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ولا تخلق على كثرة الردّ من قال به صدق ، ومن عمل به رشد ، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم » وقولهم : اعتصمت بحبل فلان يحتمل أن يكون من باب التمثيل ، مثل استظهاره به ووثوقه بإمساك المتدلي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه.
ويحتمل أن يكون من باب الاستعارة ، استعار الحبل للعهد والاعتصام للوثوق بالعهد ، وانتصاب جميعاً على الحال من الضمير في { واعتصموا } { ولا تفرقوا } نهوا عن التفرق في الدين والاختلاف فيه كما اختلف اليهود والنصارى.

وقيل : عن المخاصمة والمعاداة التي كانوا عليها في الجاهلية.
وقيل : عن إحداث ما يوجب التفرق ويزول معه الاجتماع.
وقد تعلق بهذه الآية فريقان : نفاةُ القياس والاجتهاد كالنظام وأمثاله من الشيعة ، ومثبتو القياس والاجتهاد.
قال الأولون ، غير جائز أن يكون التفرق والاختلاف ديناً لله تعالى مع نهي الله تعالى عنه.
وقال الآخرون : التفرق المنهى عنه هو في أصول الدين والإسلام.
{ واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } الخطاب لمشركي العرب قاله : الحسن وقتادة يعني مَن آمن منهم ، إذ كان القويُّ يستبيح الضعيف.
وقيل : للأوس والخزرج.
ورجح هذا بأن العرب وقت نزول هذه الآية لم تكن مجتمعة على الإسلام ، ولا مؤتلفة القلوب عليه ، وكانت الأوس والخزرج قد اجتمعت على الإسلام وتألفت عليه بعد العداوة المفرطة والحروب التي كانت بينهم ، ولما تقدم أنه أمرهم بالاعتصام بحبل الله وهو الدين ونهاهم عن التفرق وهو أمر ونهي ، بديمومة ما هم عليه إذ كانوا معتصمين ومؤتلفين ذكرهم بأنَّ ما هم عليه من الاعتصام بدين الإسلام وائتلاف القلوب إنما كان سببه إنعام الله عليهم بذلك.
إذ حصل منه تعالى خلق تلك الداعية في قلوبهم المستلزمة بحصول الفعل ، فذكر بالنعمة الدنيوية والأخروية.
أما الدنيوية فتألف قلوبهم وصيرورتهم إخوة في الله متراحمين بعدما أقاموا متحاربين متقاتلين نحواً من مائة وعشرين سنة إلى أن ألف الله بينهم بالإسلام.
وكان أعني الأوس والخزرج جداهم أخوان لأب وأم.
وأما الأخروية فإنقاذهم من النار بعد أن كانوا أشفوا على دخولها.
وبدأ أولاً بذكر النعمة الدنيوية لأنّها أسبق بالفعل ، ولاتصالها بقوله : { ولا تفرقوا } وصار نظير { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ، فأما الذين اسودت } ومعنى فأصبحتم ، أي صرتم.
وأصبح كما ذكرنا في المفردات تستعمل لاتصاف الموصوف بصفته وقت الصباح ، وتستعمل بمعنى صار ، فلا يلحظ فيها وقت الصباح بل مطلق الانتقال والصيرورة من حال إلى حال.
وعليه قوله :
أصبحت لا أحمل السلاح ولا . . .
أملك رأس البعير أن نفرا
قال ابن عطية : فأصبحتم عبارة عن الاستمرار ، وإنْ كانت اللفظة مخصوصة بوقت مّا ، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبتدأ النهار ، وفيها مبدأ الأعمال.
فالحال التي يحسبها المرء من نفسه فيها هي الحال التي يستمر عليها يومه في الأغلب ، ومنه قول الربيع بن ضبع :
أصبحت لا أحمل السلاح ولا . . .
أملك رأس البعير إن نفرا
وهذا الذي ذكره : من أن أصبح للاستمرار ، وعلله بما ذكره لا أعلم أحداً من النحويين ذهب إليه ، إنما ذكروا أنها تستعمل على الوجهين اللذين ذكرتهما.

وجوز الحوفي في « إذ » أن ينتصب باذكروا ، وجوز غيره أن ينتصب بنعمة.
أي إنعام الله ، وبالعامل في عليكم.
إذ جوزوا أن يكون حالاً من نعمة ، وجوزا أيضاً تعلق عليكم بنعمة ، وجوزوا في أصبحتم أن تكون ناقصة والخبر بنعمته والباء ظرفية وإخواناً حال يعمل فيها أصبح ، أو ما تعلق به الجاروالمجرور.
وأن يكون إخواناً خبر أصبح والجار حال يعمل فيه أصبح ، أو حال من إخواناً لأنه صفة له تقدمت عليه ، أو العامل فيه ما فيه من معنى تآخيتم بنعمته.
وأن يكون أصبحتم تامة ، وبنعمته متعلق به ، أو في موضع الحال من فاعل أصبحتم أو من إخواناً ، وإخواناً حال.
والذي يظهر أن أصبح ناقصة وإخواناً خبر ، وبنعمته متعلق بأصبحتم ، والباء للسبب لا ظرفية.
وقال بعض الناس : الأخ في الدين يجمع إخواناً ، ومن النسب إخوة ، هكذا كثر استعمالهم.
وفي كتاب الله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة } والصحيح أنهما يقالان من النسب.
وفي الدين : وجمع أخ على إخوة لا يراه سيبويه ، بل أخوة عنده اسم جمع ، لأن فعلاً لا يجمع على فعلة.
وابن السراج يرى فعلة إذا فهم منه الجمع اسم جمع ، لأن فعلة لم يطرد جمعاً لشيء.
والضمير في منها عائد على النار ، وهو أقرب مذكور ، أو على الحفرة.
وحكى الطبري أن بعض الناس قال : يعود على الشفا ، وأنت من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث.
كما قال جرير :
أرى مر السنين أخذن مني . . .
كما أخذ السرار من الهلال
قال ابن عطية : وليس الأمر كما ذكروا ، لأنه لا يحتاج في الآية إلى هذه الصناعة إلا لو لم يجد معاداً للضمير إلا الشفا.
وهنا معنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه ، ويعضده المعنى المتكلم فيه ، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة انتهى.
وأقول : لا يحسن عوده إلا على الشفا ، لأنّ كينونتهم على الشفا هو أحد جزئي الإسناد ، فالضمير لا يعود إلا عليه.
وأما ذكر الحفرة فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها ، ألا ترى أنك إذا قلت : كان زيد غلام جعفر ، لم يكن جعفر محدثاً عنه ، وليس أحد جزئي الإسناد.
وكذلك لو قلت : ضرب زيد غلام هند ، لم تحدث عن هند بشيء ، وإنما ذكرت جعفراً وهنداً مخصصاً للمحدث عنه.
أمّا ذكر النار.
فإنما جيء بها لتخصيص الحفرة ، وليست أيضاً أحد جزئي الإسناد ، لا محدثاً عنها.
وأيضاً فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة ومن النار ، لأن الإنقاذ منه يستلزم الإنقاذ من الحفرة ومن النار ، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا.
فعودُهُ على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى.
ومثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على جرفها مشفين على الوقوع فيها.
وقيل : شبه تعالى كفرهم الذي كانوا عليه وحربهم المدينة من الموت بالشفا ، لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأباً ، فأنقذهم الله بالإسلام.

وقال السدي : بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقال أعرابي لابن عباس وهو يفسر هذه الآية : والله ما أنقذهم منها ، وهو يريد أن يوقعهم فيها.
فقال ابن عباس : خذوها من غير فقيه.
وذكر المفسرون هنا قصة ابتداء إسلام الأنصار وما شجر بينهم بعد الإسلام ، وزوال ذلك ببركات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } : تقدم الكلام على مثل هذه الجملة ، إلا أنَّ آخر هذه مختتم بالهداية لمناسبة ما قبلها.
وقال الزمخشري : « لعلكم تهتدون » إرادة أن تزدادوا هدىً.
وقال ابن عطية : وقوله لعلكم تهتدون في حق البشر ، أي مَنْ تأمل منكم الحال رجاء الإهتداء.
فالزمخشري جعل الترجي مجازاً عن إرادة الله زيادة الهدى ، وابن عطية أبقى الترجي على حقيقته ، لكنه جعل ذلك بالنسبة إلى البشر لا إلى الله تعالى ، إذ يستحيل الترجي من الله تعالى ، وفي كلا القولين المجاز.
أما في قول الزمخشري فحيثُ جعل الترجي بمعنى إرادة الله ، وأمّا في قول ابن عطية فحيثُ أسند ما ظاهره الإسناد إليه تعالى إلى البشر.
{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } الأمر متوجه لمن بتوجه الخطاب عليهم.
قيل : وهم الأوس والخزرج على ما ذكره الجمهور.
وأمرُه لهم بذلك أمرٌ لجميع المؤمنين ، ومن تابعهم إلى يوم القيامة ، فهو من الخطاب الخاص الذي يراد به العموم.
ويحتمل أن يكونَ الخطاب عاماً فيدخل فيه الأوس والخزرج.
والظاهرُ أنَّ قوله { منكم } يدل على التبعيض ، وقاله : الضحاك والطبري.
لأن الدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يصلح إلا لمن علم المعروف والمنكر ، وكيف يرتب الأمر في إقامته ، وكيف يباشر؟ فإن الجاهل ربما أمر بمنكر ، ونهى عن معروف ، وربما عرف حكماً في مذهبه مخالفاً لمذهب غيره ، فينهى عن غير منكر ويأمر بغير معروف ، وقد يغلظ في مواضع اللين وبالعكس.
فعلى هذا تكون مِنْ للتبعيض ، ويكون متعلق الأمر ببعض الأمة ، وهم الذين يصلحون لذلك.
وذهب الزجاج إلى أن مِنْ لبيان الجنس ، وأتى على زعمه بنظائر من القرآن وكلام العرب ، ويكون متعلق الأمر جميع الأمة يكونون يدعون جميع العالم إلى الخير ، الكفار إلى الإسلام ، والعصاة إلى الطاعة.
وظاهر هذا الأمر الفرضية ، فالجمهور على أنه فرض كفاية ، فإذا قام به بعض سقط عن الباقين.
وذهب جماعة ، من العلماء إلى أنه فرض عين ، فيتعين على كل مسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متى قدر على ذلك وتمكّن منه.
واختلفوا في الذي يسقط الوجوب.
فقال قوم : الخشية على النفس ، وما عدا ذلك لا يسقطه.
وقال قوم : إذا تحقق ضرباً أو حبساً أو إهانة سقط عنه الفرض ، وانتقل إلى الندب والأمر والنهي وإن كانا مطلقين في القرآن فقد تقيّد ذلك بالسنَّة بقولِه صلى الله عليه وسلم :

« من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده ، فإنْ لم يستطعْ فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان » ولم يدفع أحد من علماء الأمة سَلَفها وخلَفها وجوب ذلك إلا قوم من الحشوية وجهَّال أهل الحديث ، فإنّهم أنكروا فعال الفئة الباغية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلاح ، مع ما سمعوا من قوله تعالى : { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } وزعموا أنّ السلطان لا يُنكرُ عليه الظلم والجور وقتل النفس التي حرم الله ، وإنما ينكر على غير السلطان بالقول أو باليد بغير سلاح.
وقد ذكر أبو بكر الرازي في أحكامه فصلاً مشبعاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ذكر فيه أنّ دماء أصحابِ الضرائب والمكوس مباحة ، وأنه يجب على المسلمين قتلهم ، ولكل واحد من الناس أن يقتل من قدر عليه منهم من غير إنذار له ولا تقدم بالقول.
يدعون إلى الخير هو الإسلام قاله مقاتل ، أو العمل بطاعة الله قاله أبو سليمان الدمشقي ، أو الجهاد والإسلام.
وقرأ الجمهور : ولْتكن بسكون اللام.
وقرأ أبو عبد الرحمن ، والحسن ، والزهري ، وعيسى بن عمر ، وأبو حيوة : بكسرها ، وعلَّةُ بنائها على الكسر مذكورة في النحو.
وجوزوا في « ولتكن » أن تكون تامة ، فيكون منكم متعلقاً بها ، أو بمحذوف على أنه حال ، إذ لو تأخر لكان صفة لأمّة.
وأن تكون ناقصة ، ويدعون الخبر ، وتعلق من على الوجهين السابقين.
وجوزوا أيضاً أنْ يكونَ منكم الخبر ، ويدعون صفة.
ومحط الفائدة إنما هو في يدعون فهو الخبر.
و { يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } ذكر أولاً الدعاء إلى الخير وهو عام في التكاليف من الأفعال والتروك ، ثم جيء بالخاص إعلاماً بفضله وشرفه لقوله : { وجبريل وميكال } و { والصلاة الوسطى } وفسر بعضهم المعروف بالتوحيد ، والمنكر بالكفر.
ولا شك أن التوحيد رأس المعروف ، والكفر رأس المنكر.
ولكنَّ الظاهر العموم في كل معروف مأمور به في الشرع ، وفي كل منهي نهي عنه في الشرع.
وذكر المفسرون أحاديث مروية في فضل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وفي إثم من ترك ذلك ، وآثاراً عن الصحابة وغيرهم في ذلك ، وما طريق الوجوب هل السمع وحده كما ذهب إليه أبو هاشم؟ أم السمع والعقل كما ذهب إليه أبوه أبو علي؟ وهذا على آراء المعتزلة.
وأما شرائط النهي والوجوب ، ومن يباشر ، وكيفية المباشرة ، وهل ينهى عما يرتكبه ، لم تتعرض الآية لشيء من ذلك ، وموضوع هذا كله علم الفقه.
وقرأ عثمان ، وعبد الله ، وابن الزبير : وينهون عن المنكر ، ويستعينون الله على ما أصابهم.
ولم تثبت هذه الزيادة في سواد المصحف ، فلا يكون قرآناً.
وفيها إشارة إلى ما يصيب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من الأذى كما قال تعالى :

{ وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك } وأولئك هم المفلحون : تقدم الكلام على هذه الجملة في أول البقرة.
وهو تبشير عظيم ، ووعد كريم لمن اتصف بما قبل هذه الجملة.
{ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } هذه والآية قبلها كالشرح لقوله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } فشرح الاعتصام بحبل الله بقوله : { ولتكن منكم أمة } ولا سيما على قول الزجاج.
وشرح { ولا تفرقوا } بقوله : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا } قال ابن عباس : هم الأمم السالفة التي افترقت في الدين.
وقال الحسن : هم اليهود والنصارى اختلفوا وصاروا فرقاً.
وقال : قتادة هم أصحاب البدع من هذه الأمة.
زاد الزمخشري : وهم المشبهة ، والمجبرة ، والحشوية ، وأشباههم.
وقال أبو أمامة : هم الحرورية ، وروي في ذلك حديث : قال بعض معاصرينا : في قول قتادة وأبي أمامة نظر ، فإنّ مبتدعة هذه الأمة والحرورية لم يكونوا إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بزمان ، وكيف نهى الله المؤمنين أن يكونوا كمثل قوم ما ظهر تفرقهم ولا بدعهم إلا بعد انقطاع الوحي وموت النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فإنّك لا تنهى زيداً أنْ يكونَ مثلَ عمرو إلا بعد تقدّم أمر مكروه جرى من عمرو ، وليس لقوليهما وجه إلا أن يكون تفرقوا واختلفوا من الماضي الذي أُريد به المستقبل ، فيكون المعنى : ولا تكونوا كالذين يتفرقون ويختلفون ، فيكون ذلك من إعجاز القرآن وإخباره بما لم يقع ثم وقع.
انتهى كلامه.
والبيِّناتُ على قول ابن عباس : آياتُ الله التي أنزلت على أهل كل ملة.
وعلى قول الحسن : التوراة.
وعلى قول قتادة وأبي أمامة : القرآن { وأولئك لهم عذاب عظيم } يتّصفُ عذابُ الله بالعظيم ، إذ هو أمر نسبي يتفاوت فيه رتب المعذَّبين ، كعذاب أبي طالب وعذاب العصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
{ يوم تبيضُّ وجوه وتسودّ وجوه } الجمهور على أن ابيضاض الوجوه واسودادها على حقيقة اللون.
والبياض من النور ، والسواد من الظلمة.
قال الزمخشري : فمن كان من أهل نور الدين وُسمَ ببياض اللون وإسفاره وإشراقه ، وابيضت صحيفته وأشرقت ، وسعى النور بين يديه وبيمينه.
ومن كان من أهل ظلمة الباطل وُسمَ بسواد اللون وكسوفه وكمده واسودت صحيفته وأظلمت ، وأحاطت به الظلمة من كل جانب.
انتهى كلامه.
وقال ابن عطية : وبياض الوجوه عبارة عن إشراقها واستنارتها وبشرها برحمة الله قاله الزجاج وغيره.
ويحتمل عندي أن تكون من آثار الوضوء كما قال صلى الله عليه وسلم : « أأنتم الغر المحجلون » من آثار الوضوء.
وأما سوادُ الوجوه فقال المفسرون : هو عبارة عن ارتدادها وإظلامها بغمم العذاب.
ويحتملُ أنْ يكونَ ذلك تسويداً ينزله الله بهم على جهة التشويه والتمثيل بهم ، على نحو حشرهم زرقاً ، وهذه أقبح طلعة.

ومن ذلك قول بشار :
وللبخيل على أمواله علل . . .
زرق العيون عليها أوجه سود
انتهى كلامه.
وقال قوم : البياض والسواد مثلان عبر بهما عن السرور والحزن لقوله تعالى : { ظل وجهه مسوداً } وكقول العرب لمن نال أمنيته : ابيض وجهه.
ولمن جاء خائباً : جاء مسودّ الوجه.
وقال أبو طالب :
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه . . .
وقال امرؤ القيس :
وأوجههم عند المشاهد غران . . .
وقال زهير :
وأبيض فياض يداه غمامة . . .
وبدأ بالبياض لشرفه ، وأنه الحالة المثلى.
وأسند الابيضاضَ والاسوداد إلى الوجوه وإنْ كان جميع الجسد أبيض أو أسود ، لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه ، وهو أشرف أعضائه.
والمراد : وجوه المؤمنين ووجوه الكافرين قاله أبيُّ بن كعب.
وقيل : وجوه المهاجرين والأنصار ، ووجوه بني قريظة والنضير.
وقيل : وجوه السنة ، ووجوه أهل البدعة.
وقال عطاء : وجوه المخلصين ، ووجوه المنافقين.
وقيل : وجوه المؤمنين ، ووجوه أهل الكتاب والمنافقين.
وقيل : وجوه المجاهدين ، ووجوه الفرار من الزحف.
وقيل : تبيضّ بالقناعة ، وتسودّ بالطمع.
وقال الكلبي : تسفر وجوه من قدر على السجود إذا دعوا إليه ، وتسودّ وجوه مَنْ لم يقدر.
واختلفوا في وقت ابيضاض الوجوه واسودادها ، فقيل : وقت البعث من القبور.
وقيل : وقت قراءة الصحف.
وقيل : وقت رجحان الحسنات والسيئات في الميزان.
وقيل : عند قوله : { وامتازوا اليوم أيها المجرمون }
وقيل : وقت أنْ يُؤمَرَ كل فريق بأن يتبع معبوده والعامل في { يوم تبيض } ما يتعلق به.
ولهم عذاب عظيم أيْ وعذابٌ عظيم كائن لهم يوم تبيض وجوه.
وقال الحوفي : العامل ، فيه محذوف تدل عليه الجملة السابقة ، أي : يعذبون يوم تبيض وجوه.
وقال الزمخشري : بإضمار اذكروا ، أو بالظرف وهو لهم.
وقال قوم : العامل عظيم ، وضعف من جهة المعنى لأنه يقتضي أنّ عظمَ العذاب في ذلك اليوم ، ولا يجوز أنْ يعمل فيه عذاب ، لأنه مصدر قد وصف.
وقرأ يحيى بن وثاب ، وأبو رزين العقيلي ، وأبو نهيك : تبيض وتسودّ بكسر التاء فيهما ، وهي لغة تميم : وقرأ الحسن ، والزهري ، وابن محيصن ، وأبو الجوزاء : تبياض وتسواد بألف فيهما.
ويجوز كسر التاء في تبياض وتسواد ، ولم ينقل أنه قرىء بذلك.
{ فأما الذين اسودّت وجوههم ، أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } هذا تفصيل لأحكام من تبيض وجوههم وتسودّ.
وابتدىء بالذين اسودّت للاهتمام بالتحذير من حالهم ، ولمجاورة قوله : وتسودّ وجوه ، وللابتداء بالمؤمنين والاختتام بحكمهم.
فيكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع ، ويشرح الصدر.
وقد تقدّم الكلام على أما في أول البقرة وأنها حرف شرط يقتضي جواباً ، ولذلك دخلت الفاء في خبر المبتدأ بعدها ، والخبر هنا محذوف للعلم به.
والتقدير : فيقال لهم : أكفرتم؟ كما حذف القول في مواضع كثيرة كقوله : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم } أي يقولون : سلام عليكم.
ولمّا حذف الخبر حذفت الفاء ، وإنْ كان حذفُها في غير هذا لا يكون إلا في الشعر نحو قوله :

فأمّا القتال لا قتال لديكم . . .
ولكنّ سيرا في عرض المواكب
يريد فلا قتال ، وقال الشيخ كمال الدين عبد الواحد بن عبد الله بن خلف الأنصاري في كتابه الموسوم بنهاية التأميل في أسرار التنزيل : قد اعترض على النحاة في قولهم : لما حذف.
يقال : حذفت الفاء بقوله تعالى : { وأمّا الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم } تقديره فيقال لهم : أفلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فحذف فيقال ، ولم تحذف الفاء.
فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ، فوقع ذلك جواباً له.
ولقوله : أكفرتم ، ومن نظم العرب : إذا ذكروا حرفاً يقتضي جواباً له أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفاً آخر يقتضي جواباً ثم يجعلون لهما جواباً واحداً ، كما في قوله تعالى : { فإمّا يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } فقوله : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون جواب للشرطين ، وليس أفلم جواب أمّا ، بل الفاء عاطفة على مقدّر والتقدير : أأهملتكم ، فلم أتل عليكم آياتي.
انتهى ما نقل عن هذا الرجل وهو كلام أديب لا كلام نحوي.
أمّا قوله : قد اعترض على النحاة فيكفي في بطلان هذا الاعتراض أنه اعتراض على جميع النحاة ، لأنه ما من نحوي إلا خرّج الآية على إضمار فيقال لهم : أكفرتم ، وقالوا : هذا هو فحوى الخطاب ، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدّر لا يستغني المعنى عنه ، فالقول بخلافه مخالف للإجماع ، فلا التفات إليه.
وأمّا ما اعترض به من قوله : { وأمّا الذين كفروا أفلم تكن آياتي } وأنهم قدروه فيقال لهم : أفلم تكن آياتي ، فحذف فيقال : ولم تحذف الفاء ، فدل على بطلان هذا التقدير فليس بصحيح ، بل هذه الفاء التي بعد الهمزة في أفلم ليست فاء ، فيقال التي هي جواب أمّا حتى يقال حذف ، فيقال : وبقيت الفاء ، بل الفاء التي هي جواب أمّا ، ويقال بعدها محذوف.
وفاء أفلم تحتمل وجهين ، أحدهما أن تكون زائدة.
وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قولَ الشاعر :
يموت أناس أو يشيب فتاهم . . .
ويحدث ناس والصغير فيكبر
يريد : يكبر وقول الآخر :
لما اتقى بيد عظيم جرمها . . .
فتركت ضاحي جلدها بتذبذب
يريد : تركت.
وقال زهير :
أراني إذا ما بت بتّ على هوى . . .
فثم إذا أصبحت أصبحت غاديا
يريد ثم.
وقول الأخفش : وزعموا أنهم يقولون أخوك ، فوجد يريدون أخوك وجد.
والوجه الثاني : أن تكون الفاء تفسيرية ، وتقدم الكلام فيقال لهم : ما يسوؤهم ، فإلم تكن آياتي ، ثم اعتنى بهمزة الاستفهام فتقدمت على الفاء التفسيرية ، كما تقدم على الفاء التي للتعقيب في نحو قوله : { أفلم يسيروا في الأرض } وهذا على مذهب من يثبت أن الفاء تكون تفسيرية نحو : توضأ زيد فغسل وجهه ويديه إلى آخر أفعال الوضوء.
فالفاء هنا ليست مرتبة ، وإنما هي مفسرة للوضوء.

كذلك تكون في { أفلم تكن آياتي تتلى عليكم } مفسرة للقول الذي يسوؤهم وقول هذا الرجل.
فلما بطل هذا يعني أن يكون الجواب فذوقوا أي تعين بطلان حذف ما قدره النحويون من قوله ، فيقال لهم لوجود هذا الفاء في أفلم تكن ، وقد بينا أن ذلك التقدير لم يبطل ، وأنه سواء في الآيتين.
وإذا كان كذلك فجواب أمّا هو ، فيقال في الموضعين ، ومعنى الكلام عليه.
وأمّا تقديره : أأهملتكم ، فلم تكن آياتي ، فهذه نزعة زمخشرية ، وذلك أن الزمخشري يقدر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فعلاً يصح عطف ما بعدها عليه ، ولا يعتقد أن الفاء والواو وثم إذا دخلت عليها الهمزة أصلهن التقديم على الهمزة ، لكنْ اعتنى بالاستفهام ، فقدم على حروف العطف كما ذهب إليه سيبويه وغيره من النحويين.
وقد رجع الزمخشري أخيراً إلى مذهب الجماعة في ذلك ، وبطلان قوله الأول مذكور في النحو.
وقد تقدم في هذا الكتاب حكاية مذهبه في ذلك.
وعلى تقدير قول هذا الرجل : أأهملتكم ، فلا بدّ من إضمار القول وتقديره ، فيقال : أأهملتكم لأن هذا المقدر هو خبر المبتدأ ، والفاء جواب أما.
وهو الذي يدل عليه الكلام ، ويقتضيه ضرورة.
وقول هذا الرّجل : فوقع ذلك جواباً له ، ولقوله : أكفرتم ، يعني أنْ فذوقوا العذاب جواب لأمّا ، ولقوله : أكفرتم؟ والاستفهام هنا لا جواب له ، إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإرذال بهم.
وأمّا قول هذا الرّجل : ومن نظم العرب إلى آخره ، فليس كلام العرب على ما زعم ، بل يجعل لكل جواب أنَّ لا يكن ظاهراً فمقدر ، ولا يجعلون لهما جواباً واحداً ، وأما دعواه ذلك في قوله تعالى : { فإما يأتينكم } الآية.
وزعمه أن قوله تعالى : { فلا خوف عليهم } جواب للشرطين.
فقولٌ روي عن الكسائي.
وذهب بعض الناس إلى أن جواب الشرط الأول محذوف تقديره : فاتبعوه.
والصحيح أن الشرط الثاني وجوابه هو جواب الشرط الأول.
وتقدمت هذه الأقوال الثلاثة عند الكلام على قوله : { فإما يأتينكم } الآية.
والهمزة في { أكفرتم } للتقرير والتوبيخ والتعجيب من حالهم.
والخطاب في أكفرتم إلى آخره يتفرع على الاختلاف في الذين اسودت وجوههم ، فإنْ كانوا الكفار فالتقدير : بعد أن آمنتم حين أخذ عليكم الميثاق وأنتم في صلب آدم كالذرّّ ، وإن كانوا أهل البدع فتكون البدعة المخرجة عن الإيمان.
وإن كانوا قريظة والنضير فيكون إيمانهم به قبل بعثه ، وكفرهم به بعده ، أو إيمانهم بالتوراة وما جاء فيها من نبوته ووصفه والأمر باتباعه ، وإن كانوا المنافقين فالمراد بالكفر كفرهم بقلوبهم ، وبالإيمان الإيمان بألسنتهم.
وإن كانوا الحرورية أو المرتدين فقد كان حصل منهم الإيمان حقيقة وفي قوله : { أكفرتم }.
قالوا : تلوين الخطاب وهو أحد أنواع الالتفات ، لأن قوله : فأما الذين اسودت غيبة ، وأكفرتم مواجهة بما كنتم ، الباء سببية وما مصدرية.
{ وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون } انظر تفاوت ما بين التقسيمين هناك جمع لمن اسودّت وجوههم بين التعنيف بالقول والعذاب ، وهنا جعلهم مستقرّين في الرحمة ، فالرّحمة ظرف لهم وهي شاملتهم.

ولما أخبر تعالى أنَّهم مستقرّون في رحمة الله بيَّن أنّ ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود لا زوال منه ولا انتقال ، وأشار بلفظ الرّحمة إلى سابق عنايته بهم ، وأن العبد وإنْ كثرت طاعته لا يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى.
وقال ابن عباس : المراد بالرحمة هنا الجنة ، وذكر الخلود للمؤمن ولم يذكر ذلك للكافر إشعاراً بأنَّ جانب الرحمة أغلب.
وأضاف الرحمة هنا إليه ولم يضف العذاب إلى نفسه ، بل قال : { فذوقوا العذاب } ولما ذكر العذاب علّله بفعلهم ، ولم ينص هنا على سبب كونهم في الرحمة.
وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر : فأما الذين اسوادت ، وأما الذين ابياضت بألف.
وأصل افعلّ هذا افعلل يدل ، على ذلك اسوددت واحمررت ، وأن يكون للون أو عيب حسي ، كأسود ، وأعوج ، واعور.
وأن لا يكون من مضعف كاحم ، ولا معتل لام كألمى ، وأنْ لا يكون للمطاوعة.
وندر نحو : انقضّ الحائط ، وابهار الليل ، وإشعار الرجل بفرق شعره ، وشذا رعوى ، لكونه معتل اللام بغير لون ولا عيب مطاوعاً لرعوته بمعنى كففته.
وأما دخول الألف فالأكثر أن يقصد عروض المعنى إذا جيء بها ، ولزومه إذا لم يجأ بهما.
وقد يكون العكس.
فمن قصد اللزوم مع ثبوت الألف قوله تعالى : { مدهامتان } ومن قصد العروض مع عدم الألف قوله تعالى : { تزاور عن كهفهم } واحمرّ خجلاً.
وجواب أما ففي الجنة ، والمجرور خبر المبتدأ ، أي فمستقرون في الجنة.
وهم فيها خالدون جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ، لم تدخل في حيز أما ، ولا في إعراب ما بعده.
دلّت على أنَّ ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) كيف موقع قوله : هم فيها خالدون بعد قوله : ففي رحمة الله؟ ( قلت ) : موقع الاستئناف.
كأنه قيل : كيف يكونون فيها؟ فقيل : هم فيها خالدون ، لا يظعنون عنها ولا يموتون انتهى.
وهو حسن.
وقيل : جواب أما ففي الجنة هم فيها خالدون ، وهم فيها خالدون ابتداء.
وخبر وخالدون العامل في الظرفين ، وكرر على طريق التوكيد لما يدل عليه من الاستدعاء والتشويق إلى النعيم المقيم.
{ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلماً للعالمين } الإشارة بتلك قيل : إلى القرآن كله.
وقيل : إلى ما أنزل من الآيات في أمر الأوس والخزرج واليهود الذين مكروا بهم ، والتقدم إليهم بتجنب الافتراق.
وكشف تعالى للمؤمنين عن حالهم وحال أعدائهم بقوله : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } وقيل : تلك بمعنى هذه لما انقصت صارت كأنها بعدت.
وقال الزمخشري : تلك آيات الله الواردة في الوعد والوعيد ، وكذا قال ابن عطية.
قال الإشارة بتلك إلى هذه الآيات المتقدمة المتضمنة تعذيب الكفارة وتنعيم المؤمنين.

وقرأ الجمهور نتلوها بالنون على سبيل الالتفات ، لما في إسناد التلاوة للمعظم ذاته من الفخامة والشرف.
وقرأ أبو نهيك بالياء.
والأحسن أنْ يكون الضمير المرفوع في نتلوها في هذه القراءة عائد على الله ، ليتحد الضمير.
وليس فيه التفات ، لأنه ضمير غائب عاد على اسم غائب.
ومعنى التلاوة : القراءة شيئاً بعد شيء ، وإسناد ذلك إلى الله على سبيل المجاز ، إذ التالي هو جبريلٌ لما أمره بالتلاوة كان كأنه هو التالي تعالى.
وقيل : يجوز أن يكون معنى يتلوها ينزلها متوالية شيئاً بعد شيء.
وجوزوا في قراءة أبي نهيك أن يكون ضمير الفاعل عائداً على جبريل وإنْ لم يجر له ذكر للعلم به.
ومعنى بالحق أي بإخبار الصدق.
وقيل : المعنى متضمنة الأفاعيل التي هي أنفسها حق من كرامة قوم وتعذيب آخرين.
وتلك مبتدأ أو آيات الله خبره ، ونتلوها جملة حالية.
قالوا : والعامل فيها اسم الإشارة.
وجوزوا أن يكون آيات الله بدلاً ، والخبر نتلوها.
وقال الزجاج : في الكلام حذف تقديره تلك آيات القرآن المذكورة حجج الله ودلائله انتهى.
فعلى هذا الذي قدره يكون خبر المبتدأ محذوف ، لأنّه عنده بهذا التقدير يتم معنى الآية.
ولا حاجة إلى تقدير هذا المحذوف ، إذ الكلام مستغن عنه تام بنفسه.
والباء في بالحق باء المصاحبة ، فهي في الموضع الحال من ضمير المفعول أي : ملتبسة بالحق.
وقال الزمخشري : ملتبسة بالحق والعدل من جزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه انتهى.
فدسّ في قوله بما يستوجبانه دسيسة اعتزالية.
ثم أخبر تعالى أنه لا يريد الظلم ، وإذا لم يرده لم يقع منه لأحد.
فما وقع منه تعالى من تنعيم قوم وتعذيب آخرين ليس من باب الظلم ، والظلم وضع الشيء في غير موضعه.
روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال : « يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً فلا تظالموا » وفي الحديث الصحيح أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدّنيا ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدّنيا ما عمل لله بها ، فإذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها » وقيل : المعنى لا يزيد في إساءة المسيء ولا ينقص من إحسان المحسن ، وفيه تنبيه على أن تسويد الوجوه عدل انتهى.
وللعالمين في موضع المفعول للمصدر الذي هو ظلم ، والفاعل محذوف مع المصدر التقدير : ظلمه ، والعائد هو ضمير الله تعالى أي : ليس الله مريداً أن يظلم أحداً من العالمين.
ونكر ظلماً لأنّه في سياق النفي ، فهو يعم.
وقيل : المعنى أنه تعالى لا يريد ظلم العالمين بعضهم لبعض.
واللفظ ينبو عن هذا المعنى ، إذ لو كان هذا المعنى مراداً لكان من أحق به من الكلام ، فكان يكون التركيب : وما الله يريد ظلماً من العالمين.

وقال الزمخشري : وما الله يريد ظلماً فيأخذ أحداً بغير جرم ، أو يزيد في عقاب مجرم ، أو ينقص من ثواب محسن ، ثم قال : فسبحان من يحلم عن من يصفه بإرادة القبائح والرّضا بها ، انتهى كلامه جارياً على مذهبه الاعتزالي.
ونقول له : فسبحان من يحلم عمن يصفه بأن يكون في ملكه ما لا يريد ، وإن إرادة العبد تغلب إرادة الرب تعالى الله عن ذلك.
{ ولله ما في السموات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور } لما ذكر أحوال الكافرين والمؤمنين ، وأنه يختص بعمل من آمن فيرحمهم به ، ويختص بعمل من كفر فيعذبهم ، نبه على أنَّ هذا التصرف هو فيما يملكه ، فلا اعتراض عليه تعالى.
ودلت الآية على اتساع ملكه ومرجع الأمور كلها إليه ، فهو غني عن الظلم ، لأن الظلم إنما يكون فيما كان مختصاً به عن الظالم.
وتقدم شرح هاتين الجملتين فأغنى ذلك عن إعادته.
قالوا وتضمنت هذه الآيات الطباق : في تبيضّ وتسودّ ، وفي اسودّت وابيضّت ، وفي أكفرتم بعد إيمانكم ، وفي بالحق وظلماً.
والتفصيل : في فأمّا وأمّا.
والتجنيس : المماثل في أكفرتم وتكفرون.
وتأكيد المظهر بالمضمر في : ففي رحمة الله هم فيها خالدون.
والتكرار : في لفظ الله.
ومحسنه : أنه في جمل متغايرة المعنى ، والمعروف في لسان العرب إذا اختلفت الجمل أعادت المظهر لا المضمر ، لأن في ذكره دلالة على تفخيم الأمر وتعظيمه ، وليس ذلك نظير.
لا أرى الموت يسبق الموت شيء . . .
لاتحاد الجملة.
لكنه قد يؤتى في الجملة الواحدة بالمظهر قصداً للتفخيم.
والإشارة في قوله : تلك ، وتلوين الخطاب في فأمّا الذين اسودّت وجوههم أكفرتم ، والتشبيه والتمثيل في تبيض وتسودّ ، إذا كان ذلك عبارة عن الطلاقة والكآبة والحذف في مواضع.
{ كنتم خير أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } قال عكرمة ومقاتل : نزلت في ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وسالم مولى أبي حذيفة ، ومعاذ بن جبل ، وقد قال لهم بعض اليهود : ديننا خير مما تدعوننا إليه ، ونحن خير وأفضل.
وقيل : نزلت في المهاجرين.
والذي يظهر أنها من تمام الخطاب الأول في قوله : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } وتوالت بعد هذا مخاطبات المؤمنين من أوامر ونواهٍ ، وكان قد استطرد من ذلك لذكر مَنْ يبيض وجهه ويسودّ ، وشيء من أحوالهم في الآخرة ، ثم عاد إلى الخطاب الأول فقال تعالى : كنتم خير أمّة تحريضاً بهذا الإخبار على الانقياد والطواعية.
والظاهر أنّ الخطاب هو لمن وقع الخطاب له أولاً وهم : أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتكون الإشارة بقوله : أمة إلى أمةٍ معينة وهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فالصحابة هم خيرها.

وقال الحسن ومجاهد وجماعة : الخطاب لجميع الأمة بأنهم خير الأمم ، ويؤيد هذا التأويل كونهم { شهداء على الناس } وقوله : « نحن الآخرون السابقون » الحديث وقوله : « نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرها »
وظاهر كان هنا أنها الناقصة ، وخير أمة هو الخبر.
ولا يراد بها هنا الدلالة على مضي الزمان وانقطاع النسبة نحو قولك : كان زيد قائماً ، بل المراد دوام النسبة كقوله : { وكان الله غفوراً رحيماً } { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } وكون كان تدل على الدوام ومرادفه لم يزل قولاً مرجوحاً ، بل الأصح أنها كسائر الأفعال تدل على الانقطاع ، ثم قد تستعمل حيث لا يراد الانقطاع.
وقيل : كان هنا بمعنى صار ، أيْ صرتم خير أمة.
وقيل : كان هنا تامة ، وخير أمة حال.
وأبعد من ذهب إلى أنّها زائدة ، لأن الزائدة لا تكون أول كلام ، ولا عمل لها.
وقال الزمخشري : كان عبارة عن وجود الشيء في من ماض على سبيل الإبهام ، وليس فيه دليل على عدم سابق ، ولا على انقطاع طارىء.
ومنه قوله تعالى : { وكان الله غفوراً }.
ومنه قوله : كنتم خير أمة ، كأنه قيل : وجدتم خير أمة انتهى كلامه.
فقوله : أنها لا تدل على عدم سابق هذا إذا لم تكن بمعنى صار ، فإذا كانت بمعنى صار دلت على عدم سابق.
فإذا قلت : كان زيد عالماً بمعنى صار ، دلت على أنه انتقل من حالة الجهل إلى حالة العلم.
وقوله : ولا على انقطاع طارىء قد ذكرنا قبل أن الصحيح أنها كسائر الأفعال يدل لفظ المضي منها على الانقطاع ، ثم قد تستعمل حيث لا يكون انقطاع.
وفرقٌ بين الدلالة والاستعمال ، ألا ترى أنك تقول : هذا اللفظ يدل على العموم؟ ثم تستعمل حيث لا يراد العموم ، بل المراد الخصوص.
وقوله : كأنه قال وجدتم خير أمة ، هذا يعارض أنها مثل قوله : { وكان الله غفوراً رحيماً } لأن تقديره وجدتم خير أمة يدل على أنها تامة ، وأن خير أمة حال.
وقوله : وكان الله غفوراً لا شك أنها هنا الناقصة فتعارضا.
وقيل : المعنى : كنتم في علم الله.
وقيل : في اللوح المحفوظ.
وقيل : فيما أخبر به الأمم قديماً عنكم.
وقيل : هو على الحكاية ، وهو متصل بقوله : { ففي رحمة الله هم فيها خالدون } أي فيقال لهم في القيامة : كنتم في الدنيا خير أمة ، وهذا قول بعيد من سياق الكلام.
وخير مضاف للنكرة ، وهي أفعل تفضيل فيجب إفرادها وتذكيرها ، وإن كانت جارية على جمع.
والمعنى : أن الأمم إذا فضلوا أمة أمة كانت هذه الأمة خيرها.
وحكم عليهم بأنهم خيرُ أمة ، ولم يبين جهة الخيرية في اللفظ وهي : سبقهم إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبدارهم إلى نصرته ، ونقلهم عنه علم الشريعة ، وافتتاحهم البلاد.
وهذه فضائل اختصوا بها مع ما لهم من الفضائل.

وكل من عمل بعدهم حسنة فلهم مثل أجرها ، لأنّهم سببٌ في إيجادها ، إذْ هم الذين سنوها ، وأوضحوا طريقها « من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً »
ومعنى أخرجت : أظهرت وأبرزت ، ومخرجها هو الله تعالى ، وحذف للعلم به.
وقال ابن عباس : أخرجت من مكة إلى المدينة ، وهي جملة في موضع الصفة لأمة ، أي خير أمة مخرجة ، ويجوز أن تكون في موضع الصفة لخير أمة ، فتكون في موضع نصب أي مخرجة.
وعلى هذا الوجه يكون قد روعي هنا لفظ الغيبة ، ولم يراع لفظ الخطاب.
وهما طريقان للعرب ، إذا تقدم ضمير حاضر لمتكلم أو مخاطب ، ثم جاء بعده خبره إسماً ، ثم جاء بعد ذلك ما يصلح أن يكون وصفاً ، فتارة يراعى حال ذلك الضمير فيكون ذلك الصالح للوصف على حسب الضمير فتقول : أنا رجل آمر بالمعروف ، وأنت رجل تأمر بالمعروف.
ومنه { بل أنتم قوم تفتنون } وأنك امرؤ فيك جاهلية :
وأنت امرؤ قد كثأت لك لحية . . .
كأنك منها قاعد في جوالق
وتارةً يراعى حال ذلك الاسم ، فيكون ذلك الصالح للوصف على حسبه من الغيبة.
فتقول : أنا رجل يأمر بالمعروف ، وأنت امرؤ تأمر بالمعروف.
ومنه : { كنتم خير أمة أخرجت } ولو جاء أخرجتم فيراعى ضمير الخطاب في كنتم لكان عربياً فصيحاً.
والأولى جعله أخرجت للناس صفة لأمة ، لا لخير لتناسب الخطاب في كنتم خير أمة مع الخطاب في تأمرون وما بعده.
وظاهر قوله : للناس أنه متعلق بأخرجت.
وقيل : متعلق بخير.
ولا يلزم على هذا التأويل أنها أفضل الأمم من نفس هذا اللفظ ، بل من موضع آخر.
وقيل : بتأمرون ، والتقدير تأمرون الناس بالمعروف.
فلما قدم المفعول جر باللام كقوله : { إن كنتم للرؤيا تعبرون } أي تعبرون الرؤيا ، وهذا فيه بعد.
تأمرون بالمعروف كلام خرج مخرج الثناء من الله قاله : الربيع.
أو مخرج الشرط في الخيرية ، روي هذا المعنى عن : عمرو ، ومجاهد ، والزجاج.
فقيل : هو مستأنف بين به كونهم خير أمة كما تقول : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم.
وقال ابن عطية : تأمرون وما بعده أحوال في موضع نصب انتهى.
وقاله الراغب : والاستئناف أمكن وأمدح.
وأجاز الحوفي في أن يكون تأمرون خبراً بعد خبر ، وأن كون نعتاً لخير أمة.
قيل : وقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان ، لأنّ الإيمان مشترك بين جميع الأمم ، فليس المؤثر لحصول هذه الزيادة ، بل المؤثر كونهم أقوى حالاً في الأمر والنهي.
وإنا الإيمان شرط للتأثير ، لأنه ما لم يوجد لم يضر شيء من الطاعات مؤثراً في صفة الخيرية ، والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير.
وإنما اكتفى بذكر الإيمان بالله عن الإيمان بالنبوّة لأنه مستلزم له انتهى.
وهو من كلام محمد بن عمر الرازي.

وقال الزمخشري : جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيماناً بالله ، لأن مَن آمن ببعض ، ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتد بإيمانه ، فكأنه غير مؤمن بالله.
ويقولون : نؤمن ببعض الآية انتهى.
وقيل : هو على حذف مضاف ، أي وتؤمنون برسول الله.
والظاهر في المعروف ، والمنكر العموم.
وقال ابن عباس : المعروف الرسول ، والمنكر عبادة الأصنام.
وقال أبو العالية : المعروف التوحيد ، والمنكر الشرك.
{ ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم } أي ولو آمن عامّتهم وسائرهم.
ويعني الإيمان التام النافع.
واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من آمن كما يقول : من صدق كان خيراً له ، أي لكان هو ، أي الإيمان.
وعلّق كينونة الإيمان خيراً لهم على تقدير حصوله توبيخاً لهم مقروناً بنصحه تعالى لهم أنْ لو آمنوا لنجوا أنفسهم من عذاب الله.
وخبر هنا أفعل التفضيل ، والمعنى : لكان خيراً لهم مما هم عليه ، لأنهم إما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً في الرئاسة واستتباع العوام ، فلهم في هذا خط دنيوي.
وإيمانهم يحصل به الحظ الدنيوي من كونهم يصيرون رؤساء في الإسلام ، والحظ الأخروي الجزيل بما وعدوه على الإيمان من إيتائهم أجرهم مرتين.
وقال ابن عطية : ولفظة خير صيغة تفضيل ، ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخير ، وإنما جاز ذلك لما في لفظة خير من الشياع وتشعب الوجوه ، وكذلك هي لفظة أفضل وأحب وما جرى مجراها انتهى كلامه.
وإبقاؤها على موضوعها الأصلي أولى إذا أمكن ذلك ، وقد أمكن إذ الخيرية مطلقة فتحصل بأدنى مشاركة.
{ منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } ظاهر اسم الفاعل التلبس بالفعل ، فأخبر تعالى أنَّ من أهل الكتاب من هو ملتبس بالإيمان كعبد الله بن سلام ، وأخيه ، وثعلبة بن سعيد ، ومن أسلم من اليهود.
وكالنجاشي ، وبحيرا ، ومن أسلم من النصارى إذ كانوا مصدقين رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وبعده.
وهذا يدل على أنّ المراد بقوله : { ولو آمن أهل الكتاب } الخصوص ، أي باقي أهل الكتاب إذ كانت طائفة منهم قد حصل لها الإيمان.
وقيل : المراد باسم الفاعل هنا الاستقبال.
أي منهم من يؤمن ، فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب العموم ، ويكون قوله : منهم المؤمنون إخباراً بمغيب وأنه سيقع من بعضهم الإيمان ، ولا يستمرون كلهم على الكفر.
وأخبر تعالى أن أكثرهم الفاسقون ، فدل على أن المؤمنين منهم قليل.
والألف واللام في المؤمنون وفي الفاسقون يدل على المبالغة والكمال في الوصفين ، وذلك طاهر لأن من آمن بكتابه وبالقرآن فهو كامل في إيمانه ، ومن كذب بكتابه إذ لم يتبع ما تضمنه من الإيمان برسول الله ، وكذب بالقرآن فهو أيضاً كامل في فسقه متمرد في كفره.
{ لن يضرّوكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون } هاتان الجملتان تضمنتا الإخبار بمعنيين مستقبلين وهو : إنّ ضررهم إياكم لا يكون إلا أذى ، أي شيئاً تتأذون به ، لا ضرراً يكون فيه غلبة واستئصال.

ولذلك إن قاتلوكم خذلوا ونصرتم ، وكلا هذين الأمرين وقع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما ضرهم أحد من أهل الكتاب ضرراً يبالون به ، ولا قصدوا جهة كافر إلا كان لهم النصر عليهم والغلبة لهم.
والظاهر أن قوله : إلا أذى استثناء متصل ، وهو استثناء مفرغ من المصدر المحذوف التقدير : لن يضرُّوكم ضرراً إلا ضرراً لا نكاية فيه ، ولا إجحاف لكم.
وقال الفراء والزجاج والطبري وغيرهم : هو استثناء منقطع ، والتقدير : لن يضروكم لكنْ أذى باللسان ، فقيل : هو سماع كلمة الكفر.
وقيل : هو بهتهم وتحريفهم.
وقيل : موعد وطعن.
وقيل : كذب يتقوّلونه على الله قاله : الحسن ، وقتادة.
ودلّت هذه الجملة على ترغيب المؤمنين في تصلبهم في دينهم وتثبيتهم عليه ، وعلى تحقير شأن الكفار ، إذ صاروا ليس لهم من ضرر المسلمين شيء إلاّ ما يصلون إليه من إسماع كلمة بسوء.
{ وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار } ، هذه مبالغة في عدم مكافحة الكفار للمؤمنين إذا أرادوا قتالهم ، بل بنفس ما تقع المقابلة ولوا الأدبار ، فليسوا ممن يغلب ويقتل وهو مقبل على قرنه غير مدبر عنه.
وهذه الجملة جاءت كالمؤكدة للجملة قبلها ، إذ تضمنت الإخبار أنهم لا تكون لهم غلبة ولا قهر ولا دولة على المؤمنين ، لأنّ حصول ذلك إنما يكون سببه صدق القتال والثبات فيه ، أو النصر المستمد من الله ، وكلاهما ليس لهم.
وأتى بلفظ الإدبار لا بلفظ الظهور ، لما في ذكر الإدبار من الإهانة دون ما في الظهور ، ولأن ذلك أبلغ في الانهزام والهرب.
ولذلك ورد في القرآن مستعملاً دون لفظ الظهور لقوله تعالى : { سيهزم الجمع ويولون الدبر } { ومن يولهم يومئذ دبره } ثم لا ينصرون : هذا استئنافُ إخبار أنّهم لا ينصرون أبداً.
ولم يشرك في الجزاء فيجزم ، لأنه ليس مرتباً على الشرط ، بل التولية مترتبة على المقاتلة.
والنصر منفى عنهم أبداً سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا ، إذ منع النصر سببه الكفر.
فهي جملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء ، كما أن جملة الشرط والجزاء معطوفة على لن يضروكم إلا أذى.
وليس امتناع الجزم لأجلهم كما زعم بعضهم زعم أن جواب الشرط يقع عقيب المشروط.
قال :
وثم للتراخي ، فلذلك لم تصلح في جواب الشرط.
والمعطوف على الجواب كالجواب وما ذهب إليه هذا الذاهب خطأ ، لأن ما زعم أنه لا يجوز قد جاء في أفصح كلام.
قال تعالى : { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } فجزم المعطوف بثم على جواب الشرط.
وثمَّ هنا ليست للمهلة في الزمان ، وإنما هي للتراخي في الإخبار.
فالإخبار بتوليهم في القتال وخذلانهم والظفر بهم أبهج وأسرّ للنفس.

ثم أخبر بعد ذلك بانتفاء النصر عنهم مطلقاً.
وقال الزمخشري : التراخي في المرتبة ، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليهم الإدبار.
( فإن قلت ) : ما موقع الجملتين ، أعني منهم : المؤمنون ولن يضروكم؟ ( قلت ) : هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب ، كما يقول القائل : وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت ، ولذلك جاء من غير عاطف.
{ ضربت عليهم الذلة } تقدم شرح هذه الجملة ، وهي وصف حال تقررت على اليهود في أقطار الأرض قبل مجيء الإسلام.
قال الحسن : جاء الإسلام والمجوس تجبي اليهود الجزية ، وما كانت لهم غيرة ومنعه إلا بيثرب وخيبر وتلك الأرض ، فأزالها بالإسلام ولم تبق لهم راية في الأرض.
{ أينما ثقفوا } عام في الأمكنة.
وهي شرط ، وما مزيدة بعدها ، وثقفوا في موضع جزم ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله ، ومن أجاز تقديم جواب الشرط قال : ضربت هو الجواب ، ويلزم على هذا أن يكون ضرب الذلة مستقبلاً.
وعلى الوجه الأول هو ماض يدل على المستقبل ، أي ضربت عليهم الذلة ، وحيثما ظفر بهم ووجدوا تضرب عليهم ، ودل ذكر الماضي على المستقبل ، كما دل في قول الشاعر :
وندمان يزيد الكأس طيبا . . .
سقيت إذا تغوّرت النجوم
التقدير : سقيت ، وأسقية إذا تغوّرت النجوم.
{ إلا بحبل من الله وحبل من الناس } هذا استثناء ظاهره الانقطاع ، وهو قول : الفراء ، والزجاج.
واختيار ابن عطية ، لأن الذلة لا تفارقهم.
وقدره الفراء : إلا أن يعتصموا بحبل من الله ، فحذف ما يتعلق به الجار كما قال : حميد بن نور الهلالي :
رأتني بحبليها فصدت مخافة . . .
ونظره ابن عطية بقوله تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ } قال : لأن بادىء الرأي يعطى أن له أن يقتل خطأ.
وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة ، وليس الأمر كذلك.
وإنما في الكلام محذوف يدركه فهم السامع الناظر في الأمر وتقديره : في أمتنا ، فلا نجاة من الموت إلا بحبل.
نتهى كلامه.
وعلى ما قدره لا يكون استثناء منقطعاً ، لأنه مستثنى من جملة مقدّرة وهي قوله : فلا نجاة من الموت ، وهو متصل على هذا التقدير فلا يكون استثناء منقطعاً من الأول ضرورة أن الاستثناء الواحد لا يكون منقطعاً متصلاً.
والاستثناء المنقطع كما قرر في علم النحو على قسمين منه : ما يمكن أن يتسلط عليه العامل ، ومنه ما لا يمكن فيه ذلك ، ومنه هذه الآية.
على تقدير الانقطاع ، إذ التقدير : لكن اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس ينجيهم من القتل والأسر وسبي الذراري واستئصال أموالهم.
ويدل على أنه منقطع الأخبار بذلك في قوله تعالى في سورة البقرة : { وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤا بغضب من الله } فلم يستثن هناك.
وذهب الزمخشري وغيره إلى أنه استثناء متصل قال : وهو استثناء من أعم عام الأحوال ، والمعنى : ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس ، يعني : ذمة الله وذمة المسلمين.

أي لا عزلهم قط إلا هذه الواحدة ، وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية انتهى كلامه.
وهو متجه وشبَّه العهد بالحبل لأنه يصل قوماً بقوم ، كما يفعل الحبل في الإجرام.
والظاهر في تكرار الحبل أنه أريد حبلان ، وفسر حبل الله بالإسلام ، وحبل الناس بالعهد والذمة.
وقيل : حبل الله هو الذي نص الله عليه من أخذ الجزية.
والثاني : هو الذي فوض إلى رأي الإمام فيزيد فيه وينقص بحسب الاجتهاد.
وقيل : المراد حبل واحد ، إذ حبل المؤمنين هو حبل الله وهو العهد.
{ وباؤا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } تقدم تفسير نظائر هذه الجمل فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)

الآناء : الساعات.
وفي مفردها لغات أني كمعى ، وأنى كفتى ، وأنى كنحى ، وأتى كظبى ، وانو كجرو.
الصر : البرد الشديد المحرق.
وقيل : البارد بمعنى الصرصر كما قال :
لا تعدلن إناء بين تضر بهم . . .
نكباء ضرّ بأصحاب المحلات
وقالت ليلى الأخيلية :
ولم يغلب الخصم الألد ويملأ . . .
الجفان سديفاً يوم منكباء صرصر
وقال ابن كيسان : هو صوت لهب النار ، وهو اختيار الزجاج من الصرير.
وهو الصوت من قولهم : صرَّ الشيء ، ومنه الريح الصرصر.
وقال الزجاج : والصرُّ صوت النار التي في الريح.
البطانة في الثوب بإزاء الظهارة ، ويستعار لمن يختصه الإنسان كالشعار والدثار.
يقال : بطن فلان من فلان بطوناً وبطانة إذا كان خاصاً به ، داخلاً في أمره.
وقال الشاعر :
أولئك خلصاني نعم وبطانتي . . .
وهم عيبتي من دون كل قريب
ألوت في الأمر : قصرت فيه.
قال زهير :
سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم . . .
فلم يفعلوا ولم يليموا لم يألووا
أي لم يقصروا.
الخبال والخبل : الفساد الذي يلحق الحيوان.
يقال : في قوائم الفرس خبل وخبال أي فساد من جهة الاضطراب.
والخبل والجنون.
ويقال : خبله الحب أي أفسده.
البغضاء : مصدر كالسراء والبأساء يقال : بغض الرجل فهو بغيض ، وأبغضته أنا اشتدت كراهتي له.
الأفواه معروفة ، والواحد منها في الأصل فوه.
ولم تنطق به العرب بل قالت : فم.
وفي الفم لغات تسع ذكرت في بعض كتب النحو.
العض : وضع الأسنان على الشيء بقوة ، والفعل منه على فِعل بكسر العين ، وهو بالضاد.
فأماعظ الزمان وعظ الحرب فهو بالظاء أخت الطاء قال :
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع . . .
من المال إلا مسحتا أو مجلف
والعُض بضم العين علف أهل الأمصار مثل : الكسب والنوى المرضوض : يقال منه : أعض القوم إذا أكل إبلهم العض.
وبعير عضاضيّ أي سمين ، كأنه منسوب إليه.
والعِض بالكسر الداهية من الرجال.
الأنامل جمع أنملة ، ويقال : بفتح الميم وضمها ، وهي أطراف الأصابع.
قال ابن عيسى : أصلها النمل المعروف ، وهي مشبهة به في الدقة والتصرف بالحركة.
ومنه رجل نمل : أي نمام.
الغيض : مصدر غاضة ، وغيض اسم علم.
الفرح : معروف يقال منه : فرح بكسر العين.
الكيد : المكر كاده يكيده مكر به.
وهو الاحتيال بالباطل.
قال ابن قتيبة : وأصله المشقة من قولهم : فلان يكيد بنفسه ، أي يعالج مشقات النزع وسكرات الموت.
{ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة } سببت النزول إسلام عبد الله بن سلام وغيره من اليهود ، وقول الكفار من أحبارهم : ما آمن بمحمد إلا شرارنا ، ولو كانوا خياراً ما تركوا دين آبائهم قاله : ابن عباس ، وقتادة ، وابن جريج.
والواو في ليسوا هي لأهل الكتاب السابق ذكرهم في قوله : { ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون }

والأصح : أن الواو ضمير عائد على أهل الكتاب ، وسواء خبر ليس.
والمعنى : ليس أهل الكتاب مستوين ، بل منهم من آمن بكتابه وبالقرآن ممن أدرك شريعة الإسلام ، أو كان على استقامة فمات قبل أن يدركها.
ومن أهل الكتاب أمة قائمة : مبتدأ وخبر.
وقال الفراء : أمة مرتفعة بسواء ، أي ليس أهل الكتاب مستوياً من أهل الكتاب أمة قائمة موصوفة بما ذكر وأمة كافرة ، فحذفت هذه الجملة المعادلة ، ودل عليها القسم الأول كقوله :
عصيت إليها القلب إني لأمره . . .
سميع فما أدري أرشد طلابها
التقدير : أم غي فحذف لدلالة أرشد وقال :
أراك فما أدري أهم ضممته . . .
وذو الهم قدماً خاشع متضائل
التقدير : أم غيره.
قال الفراء : لأن المساواة تقتضي شيئين : سواء العاكف فيه والبادِ سواء محياهم ومماتهم.
ويضعف قول الفراء من حيث الحذف.
ومن حذف وضع الظاهر موضع المضمر ، إذ التقدير : ليس أهل الكتاب مستوياً منهم أمة قائمة كذا ، وأمة كافرة.
وذهب أبو عبيدة : إلى أن الواو في ليسوا علامة جمع لا ضمير مثلها ، في قول الشاعر :
يلومونني في شراء النخي . . .
ل قومي وكلهم ألوم
واسم ليس : أمّة قائمة ، أي ليس سواء من أهل الكتاب أمّةً قائمة موصوفة بما ذكروا أمة كافرة.
قال ابن عطية : وما قاله أبو عبيدة خطأ مردود انتهى.
ولم يبين جهة الخطأ ، وكأنه توهم أن اسم ليس هو أمة قائمة فقط ، وأنه لا محذوف.
ثمّ إذ ليس الغرضُ تفاوت الأمة القائمة التالية ، فإذا قدر ثم محذوف لم يكن قول أبي عبيدة خطأ مردوداً.
قيل : وما قاله أبو عبيدة هو على لغة أكلوني البراغيث ، وهي لغة رديئة والعرب على خلافها ، فلا يحمل عليها مع ما فيه من مخالفة الظاهر انتهى.
وقد نازع السهيلي النحويين في قولهم : إنها لغة ضعيفة ، وكثيراً ما جاءت في الحديث.
والإعراب الأول هو الظاهر.
وهو : أن يكون من أهل الكتاب أمةٌ قائمة مستأنف بيان لانتفاء التسوية كما جاء { يأمرون بالمعروف } بياناً لقوله : { كنتم خير أمة } والمراد بأهل الكتاب واليهود والنصارى.
وأمة قائمة أي مستقيمة من أقمت العود فقام ، أي استقام.
قال مجاهد والحسن وابن جريج : عادلة.
وقال ابن عباس وقتادة والربيع : قائمة على كتاب الله وحدوده مهتدية.
وقال السدي : قانتة مطيعة ، وكلها راجع للقول الأوّل.
وقال ابن مسعود والسدي : الضمير في ليسوا عائد على اليهود.
وأمة محمد صلى الله عليه وسلم إذ تقدم ذكر اليهود وذكرُ هذه الأمة في قوله : « كنتم خير أمة ».
والكتاب على هذا القول جنسُ كتب الله ، وليس بالمعهود من التوراة والإنجيل فقط.
والمراد بقوله : من أهل الكتاب أمة قائمة أهل القرآن.
والظاهر عود الضمير على أهل الكتاب المذكورين في قوله : { ولو آمن أهل الكتاب } لتوالي الضمائر عائدة عليهم فكذلك ضمير ليسوا.

وقال عطاء : من أهل الكتاب أمة قائمة الآية يريد أربعين رجلاً من أهل نجران من العرب ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الروم ، كانوا على دين عيسى وصدقوا محمداً صلى الله عليه وسلم.
وكان ناس من الأنصار موحدين ويغتسلون من الجنابة ، ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفية قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى جاءهم منه أسعد بن زرارة والبراء بن معرور ومحمد بن مسلمة وقيس بن صرمة بن أنس.
{ يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون } وصف الأمة القائمة بأنها تالية آيات الله ، وعبَّر بالتلاوة في ساعات الليل عن التهجد بالقرآن.
وقوله : وهم يسجدون جملة في موضع الصفة أيضاً معطوفة على يتلون ، وصفهم بالتلاوة للقرآن وبالسجود.
فتلاوة القرآن في القيام ، وأما السجود فلم تشرع فيه التلاوة.
وجاءت الصفة الثانية اسمية لتدل على التوكيد بتكرر الضمير وهو هم ، والواو في يسجدون إذ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
وأخبر عن المبتدأ بالمضارع ، وجاءت الصفة الأولى بالمضارع أيضاً لتدل على التجدد ، وعطفت الثانية على الأولى بالواو لتشعر بأن تلك التلاوة كانت في صلاة ، فلم تكن التلاوة وحدها ولا السجود وحده.
وظاهر قوله : آناء الليل أنها جميع ساعات الليل.
فيبعد صدور ذلك أعني التلاوة والسجود من كل شخص شخص ، وإنما يكون ذلك من جماعة إذْ بعضُ الناس يقوم أول الليل ، وبعضهم آخره ، وبعضهم بعد هجعة ثم يعود إلى نومه ، فيأتي من مجموع ذلك في المدن والجماعات استيعاب ساعات الليل بالقيام في تلاوة القرآن والسجود ، وعلى هذا كان صدر هذه الأمة.
وعرف الناس القيام في أول الثلث الأخير من الليل ، أو قبله بقليل ، والقائم طول الليل قليل ، وقد كان في الصالحين مَنْ يلتزمه ، وقد ذكر الله القصد في ذلك في أول المزمل.
وآناء الليل : ساعاته قاله الربيع وقتادة وغيرهما.
وقال السدي : جوفه وهو من إطلاق الكل على الجزء ، إذ الجوف فرد من الجمع.
وعن منصور : أنها نزلت في المصلين بين العشاءين ، وهو مخالف لظاهر قوله : { يتلون آيات الله آناء الليل }.
وعن ابن مسعود : أنها صلاة العتمة.
وذكر أنّ سبب نزولها هو احتباكُ النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العتمة وكان عند بعض نسائه فلم يأت حتى مضى الليل ، فجاءوا منّ المصلي ومنا المضطجع فقال : « أبشروا فإنه ليس أحد من أهل الكتاب يصلي هذه الصلاة » ولهذا السبب ذكر ابن مسعود أن قوله : ليسوا سواء عائد على اليهود وهذه الأمة ، وهو خلاف الظاهر.
والظاهر من قوله : وهم يسجدون أنه أريد به السجود في الصلاة.
وقيل : عبر بالسجود عن الصلاة تسمية للشيء بجزء شريف منه ، كما يعبر عنها بالركوع قاله : مقاتل ، والفراء ، والزجاج.
لأن القراءة لا تكون في الركوع ولا في السجود ، فعلى هذا تكون الجملة في موضع الحال ، أي يتلون آيات الله متلبسين بالصلاة.

وقيل : سجود التلاوة.
وقيل : أريد بالسجود الخشوع والخضوع.
وذهب الطبري وغيره إلى أنها جملة معطوفة من الكلام الأوّل ، أخبر عنهم أيضاً أنهم أهل سجود ، ويحسِّنُهُ أنْ كانت التلاوة في غير صلاة.
ويكون أيضاً على هذا التأويل في غير صلاة نعتاً عدد بواو العطف ، كما تقول : جاءني زيد الكريم والعاقل.
وأجاز بعضهم في قوله : وهم يسجدون أن يكون حالاً من الضمير في قائمة ، وحالاً من أمة ، لأنها قد وصفت بقائمة.
فتلخص في هذه الجملة قولان : أحدهما : أنها لا موضع لها من الإعراب ، بأن تكون مستأنفة.
والقول الآخر : أن يكون لها موضع من الإعراب ويكون رفعاً بأن يكون في موضع الصفة ، أو بأن يكون نصباً بأن يكون في موضع الحال ، إما من الضمير في يتلون ، أو من الضمير في قائمة ، أو من أمة.
ودلت هذه الآية على الترغيب في قيام الليل ، وقد جاء في كتاب الله : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } { أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً } { يا أيها المزمّل.
قم الليل } وفي الحديث : « يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فتركه وقبه ، نعم الرجل عبد الله إلا أنه لا يقوم من الليل » وغير ذلك كثير.
وعن رجل من بني شيبة كان يدرس الكتب قال : إنا نجد كلاماً من كلام الرب عزّ وجل : أيحسب راعي إبل وغنم إذا جنه الليل انجدل كمن هو قائم وساجد الليل.
{ يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } تقدم تفسير مثل هذه الجمل.
{ ويسارعون في الخيرات } المسارعةُ في الخير ناشئة عن فرط الرغبة فيه ، لأنّ مَنْ رغب في أمر بادر إليه وإلى القيام به ، وآثر الفور على التراخي.
وجاء في الحديث : « اغتنم خمساً قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك ، وغناك قبل فقرك »
وصفهم تعالى بأنهم إذا دعوا إلى خير من نصر مظلوم ، وإغاثة مكروب ، وعبادة الله ، بادروا إلى فعله.
والظاهر في يؤمنون أن يكون صفة أي تالية مؤمنة.
وجوزوا أنْ تكون الجملة مستأنفة ، أو في موضع الحال من الضمير في يسجدون ، وأن تكون بدلاً من السجود.
قيل : لأن السجود بمعنى الإيمان.
قال الزمخشري : وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات الله بالليل ساجدين ، ومن الإيمان بالله ، لأن إيمانهم به كلا إيمان ، لإشراكهم به عزيراً وكفرهم ببعض الكتب والرسل دون بعض ، ومن الإيمان باليوم الآخر لأنهم يصفونه بخلاف صفته ، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهم كانوا مداهنين ، ومن المسارعة في الخيرات لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها انتهى كلامه.

وهو حسن.
ولمّا ذكر تعالى هذه الأمة وصفها بصفات ست : إحداها : أنها قائمة ، أي مستقيمة على النهج القويم.
ولمّا كانت الاستقامة وصفاً ثابتاً لها لا يتغير جاء باسم الفاعل.
الثانية : الصلاة بالليل المعبر عنها بالتلاوة والسجود ، وهي العبادة التي يظهر بها الخلو لمناجاة الله بالليل.
الثالثة : الإيمان بالله واليوم الآخر ، وهو الحامل على عبادة الله وذكر اليوم الآخر لأنّ فيه ظهور آثار عبادة الله من الجزاء الجزيل.
وتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء ، إذ هم الذين أخبروا بكينونة هذا الجائز في العقل ووقوعه ، فصار الإيمان به واجباً.
الرابعة : الأمر بالمعروف.
الخامسة : النهي عن المنكر ، لما كملوا في أنفسهم سعوا في تكميل غيرهم بهذين الوصفين.
السادسة : المسارعة في الخيرات.
وهي صفة تشمل أفعالهم المختصة بهم ، والأفعال المتعدية منهم إلى غيرهم.
وهذه الصفات الثلاثة ناشئة أيضاً عن الإيمان ، فانظر إلى حسن سياق هذه الصفات حيث توسط الإيمان ، وتقدمت عليه الصفة المختصة بالإنسان في ذاته وهي الصلاة بالليل ، وتأخرت عنه الصفتان المتعدّيتان والصفة المشتركة ، وكلها نتائج عن الإيمان.
{ وأولئك من الصالحين } هذه إشارة إلى من جمع هذه الصفات الست ، أي وأولئك الموصوفون بتلك الأوصاف من الذين صلحت أحوالهم عند الله.
قال الزمخشري : ويجوز أن يريد بالصالحين المسلمين انتهى.
ويشبه قوله قول ابن عباس من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وفيما قاله الزمخشري بعد بل : الظاهر أنَّ في الوصف بالصلاح زيادة على الوصف بالإسلام ، ولذلك سأل هذه الرتبة بعض الأنبياء فقال تعالى حكاية عن سليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم : { وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } وقال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام : { ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } وقال تعالى : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلاً جعلنا صالحين } وقال تعالى بعد ذكر إسماعيل : { وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين.
وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين } وقال : { والشهداء والصالحين } ومن للتبعيض.
وقال ابن عطية : ويحسن أن تكون لبيان الجنس انتهى.
ولم يتقدم شيء فيه إبهام فيبين جنسه.
{ وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } قرأ نافع وابن عامر وابن كثير وأبو بكر بالتاء فيهما على الخطاب ، واختلفوا في المخاطب.
فقال أبو حاتم : هو مردود إلى قوله : { كنتم خير أمة } فيكون من تلوين الخطاب ومعدوله.
وقال مكي : التاء فيها عموم لجميع الأمة.
والذي يظهر أنها التفات إلى قوله : أمة قائمة ، لما وصفهم بأوصاف جليلة اقبل عليهم تأنيساً لهم واستعطافاً عليهم ، فخاطبهم بأنّ ما تفعلون من الخير فلا تمنعون ثوابه.
ولذلك اقتصر على قوله : من خير ، لأنه موضع عطف عليهم وترحم ، ولم يتعرض لذكر الشرّ.
ومعلوم أن كل ما يفعل من خير وشر يترتب عليه موعوده.
ويؤيد هذا الالتفات وأنه راجع إلى أمة قائمة قراءة الياء ، وهي قراءة : ابن عباس ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص ، وعبد الوارث عن أبي عمرو ، واختيار أبي عبيد ، وباقي رواة أبي عمرو ، خير بين التاء والياء ، ومعلوم في هذه القراءة ، ومعلوم في هذه القراءة ، أن الضمير عائد على أمة قائمة ، كما عاد في قوله تعالى : يتلون وما بعده.

وكفر : يتعدّى إلى واحد ، يقال : كفر النعمة ، وهنا ضمن معنى حرم ، أي : فلن تحرموا ثوابه ، ولما جاء وصفه تعالى بأنه شكور في معنى توفية الثواب ، نفى عنه تعالى نقيض الشكر وهو كفر الثواب ، أي حرمانه.
{ والله عليم بالمتقين } لما كانت الآية واردة فيمن اتصف بالأوصاف الجميلة ، وأخبر تعالى أنه يثيب على فعل الخير ناسب ختم الآية بذكر علمه بالمتقين ، وإن كان عالماً بالمتقين وبضدهم.
ومعنى عليم بهم : أنه مجازيهم على تقواهم ، وفي ذلك وعد للمتقين ، ووعيد للمفرطين.
{ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً } تقدم تفسير هذه الجملة في أوائل هذه السورة.
{ وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } تقدم تفسير نظير هذه الجملة في أوائل البقرة ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة.
وأنه لما ذكر شيئاً من أحوال المؤمنين ذكر شيئاً من أحوال الكافرين ليتضح الفرق بين القبيلين.
{ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صرّ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته } لمّا ذكر تعالى أنَّ ما فعله المؤمنون من الخير فإنهم لا يحرمون ثوابه ، بل يجنون في الآخرة ثمرة ما غرسوه في الدنيا ، أخذ في بيان نفقة الكافرين ، فضرب لها مثلاً اقتضى بطلانها وذهابها مجاناً بغير عوض.
قال مجاهد : نزلت في نفقات الكفار وصدقاتهم.
وقال مقاتل : في نفقات سفلة اليهود على علمائهم.
وقيل : في نفقة المشركين يوم بدر.
وقيل : في نفقة المنافقين إذا خرجوا مع المسلمين لحرب المشركين.
قال الزمخشري : شبّه ما كانوا ينفقونه من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون به وجه الله بالزرع الذي حسَّه البرد فصار حطاماً.
وقيل : هو ما يتقربون به إلى الله مع كفرهم.
وقيل : ما أنفقوا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم لم يبلغوا بإنفاقه ما أنفقوه لأجله انتهى.
وقال ابن عطية : معناه المثال القائم في النفس من إنفاقهم الذي يعدونه قربة وحسبة وتحنثاً ، ومن حبطه يوم القيامة وكونه هباء منثوراً ، وذهابه كالمثال القائم في النفس.
مَنْ زرع قوم نبت واخصرَّ وقوي الأمل فيه فهبت عليه ريح صرّ محرق فأهلكته انتهى.
والظاهر أن ما في قوله : مثل ما ينفقون موصولة ، والعائد محذوف ، أيْ ينفقونه.
والظاهر تشبيه ما ينفقونه بالريح ، والمعنى : تشبيهه بالحرث.
فقيل : هو من التشبيه المركب لم يقابل فيه الإفراد بالإفراد ، وقد مر نظيره في قوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } ولذلك قال ثعلب : بدأ بالريح ، والمعنى على الحرث ، وهو اختيار الزمخشري.

وقيل : وقع التشبيه بين شيئين وشيئين ، وذكر أحد المشبهين وترك ذكر الآخر ، ثم ذكر أحد الشيئين المشبه بهما وليس الذي يوازن المذكور الأول وترك ذكر الآخر ، ودل المذكوران على المتروكين.
وهذا اختيار ابن عطية.
قال : وهذه غاية البلاغة والإعجاز ، ومثل ذلك قوله تعالى : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق } انتهى.
ويجوز أن يكون على حذف مضاف من الأول تقديره : مثل مهلك ما ينفقون.
أو من الثاني تقديره : كمثل مهلك ريح.
وقيل : يجوز أن تكون ما مصدرية ، أي مثل إنفاقهم ، فيكون قد شبه المعقول بالمحسوس ، إذ شبه الإنفاق بالريح.
وظاهر قوله : ينفقون أنه من نفقة المال.
وقال السدي : معناه ينفقون من أقوالهم التي يبطنون ضدها.
ويضعف هذا أنّها في الكفار الذين يعلنون لا في المنافقين الذين يبطنون.
وقيل : متعلق الإنفاق هو أعمالهم من الكفر ونحوه ، هي كالريح التي فيها صر أبطلت أعمالهم كل ما لهم من صلة رحم وتحنثٍ بعتق ، كما يبطل الريح الزرع.
قال ابن عطية : وهذا قول حسن ، لولا بعد الاستعارة في الإنفاق انتهى.
وقال الراغب : ومنهم من قال : ما ينفقون عبارة عن أعمالهم كلها ، لكنه خص الإنفاق لكونه أظهروا أكثر انتهى.
وقرأ ابن هرمز والأعرج : تنفقون بالتاء على معنى قل لهم ، وأفرد ريحاً لأنّها مختصة بالعذاب ، كما أفردت في قوله : { بل هو ما استعجلتم به ريح } ولئن أرسلنا ريحاً إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً كالريح العقيم.
كما أن الجمع مختص بالرحمة أن { يرسل الرياح مبشرات } { وأرسلنا الرياح لواقح } { يرسل الرياح بشراً } ولذلك روي : « اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً » وارتفاعُ صرّ على أنه فاعل بالمجرور قبله ، إذْ قد اعتمد بكونه وقع صفة للريح.
فإنْ كان الصر البرد وهو قول : ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، أو صوت لهيب النار أو صوت الريح الشديدة.
فظاهر كون ذلك في الريح.
وإنْ كان الصرُّ صفةً للريح كالصرصر ، فالمعنى فيها قرةُ صرٍّ كما تقول : برد بارد ، وحذف الموصوف ، وقامت الصفة مقامه.
أو تكون الظرفية مجازاً جعل الموصوف ظرفاً للصفة.
كما قال : وفي الرحمن كاف للضعفاء.
وقولهم : إن ضيعني فلان ففي الله كاف.
المعنى الرحمن كاف ، والله كاف.
وهذا فيه بعد.
وقوله : أصابت حرث قوم في موضع الصفة لريح.
بدأ أولاً بالوصف بالمجرور ، ثم بالوصف بالجملة.
وقوله : ظلموا أنفسهم جملة في موضع الصفة لقوم.
وظاهره أنهم ظلموا أنفسهم بمعاصيهم ، فكان الإهلاك أشد إذ كان عقوبة لهم.
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنّ مصائب الدنيا إنما هي بمعاصي العبد.
ويستنبط ذلك من غير ما آية في القرآن ، فيستقيم على ذلك أن كل حرث تحرقه الريح فإنما هو لمن قد ظلم نفسه.
وقيل : ظلموا أنفسهم معناه زرعوا في غير أوان الزراعة ، أي وضعوا أفعال الفلاحة غير موضعها من وقت أو هيئة عمل.

وخص هؤلاء بالذكر لأن الحرث فيما جرى هذا المجرى أوعب وأشد تمكناً ، ونحا إلى هذا القول المهدوي.
{ وما ظلمهم الله } جوز الزمخشري وغيره أنْ يعودَ الضمير على المنفقين ، أي : ما ظلمهم بأنْ لم تُقبل نفقاتهم.
وأنْ يعودَ على أصحاب الحرث أي : ما ظلمهم بإهلاك حرثهم ، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي.
وقال ابن عطية : الضمير في ظلمهم للكفار الذين تقدّم ضميرهم في ينفقون ، وليس هو للقوم ذوي الحرث ، لأنهم لم يذكروا ليردَّ عليهم ، ولا لتبين ظلمهم.
وأيضاً قوله : { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون }.
يدل على فعل الحال في حاضرين انتهى.
وهو ترجيح حسن.
وقرىء شاذاً : ولكنَّ بالتشديد ، واسمها أنفسهم ، والخبر يظلمون.
والمعنى : يظلمونها هم.
وحسنٌ حذفُ هذا الضمير ، وإنْ كان الحذف في مثله قليلاً كون ذلك فاصلة رأس آية ، فلو صرَّح به لزال هذا المعنى.
ولا يجوز أنْ يعتقدَ أنَّ اسم لكن ضمير الشأن.
وحذف وأنفسهم مفعول بيظلمون ، لأن حذف هذا الضمير يختص بالشعر.
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً } نزلت في رجال من المؤمنين يواصلون رجالاً من يهود للجوار والحلف والرضاع قاله : ابن عباس.
وقال أيضاً هو وقتادة والسدي والربيع : نزلت في المنافقين.
نهى اللهُ المؤمنين عنهم شبه الصديق الصدق بما يباشرُ بطن الإنسان من ثوبه.
يقال : له بطانة ووليجة.
وقوله : من دونكم في موضع الصفة لبطانة ، وقدّره الزمخشري : من دون أبناء جنسكم ، وهم المسلمون.
وقيل : يتعلق من بقوله : لا تتخذوا.
وقيل : مِنْ زائدة ، أي بطانة دونكم.
والمعنى : أنهم نهوا أن يتخذوا أصفياء من غير المؤمنين.
ودل هذا النهي على المنع من استكتاب أهل الذمة وتصريفهم في البيع والشراء والاستبانه إليهم.
وقد عتب عمر أبا موسى على استكتابه ذمياً ، وتلا عليه هذه الآية.
وقد قيل لعمر في كاتب مجيد من نصارى الحيرة : ألا يكتب عنك؟ فقال : إذن أتخذ بطانة.
والجملة من قوله : { لا يألونكم خبالاً } لا موضع لها من الإعراب ، إذ جاءت بياناً لحال البطانة الكافرة ، هي والجمل التي بعدها لتنفير المؤمنين عن اتخاذهم بطانة.
ومن ذهب إلى أنها صفة للبطانة أو حال مما تعلقت به من ، فبعيد عن فهم الكلام الفصيح.
لأنهم نهوا عن اتخاذ بطانة كافرة ، ثم نبه على أشياء مما هم عليه من ابتغاء الغوائل للمؤمنين ، وودادة مشقتهم ، وظهور بغضهم.
والتقييد بالوصف أو بالحال يؤذن بجواز الاتخاذ عند انتفائهما.
وألا متعد إلى واحد بحرف الجر ، يقال : ما ألوت في الأمر أي ما قصرت فيه.
وقيل : انتصب خبالاً على التمييز المنقول من المفعول ، كقوله تعالى : { وفجرنا الأرض عيوناً } التقدير : لا يألونكم خبالكم ، أي في خبالكم.
فكان أصل هذا المفعول حرف الجر.
وقيل : انتصابه على إسقاط حرف ، التقدير : لا يألونكم في تخبيلكم.

وقيل : انتصابه على أنه مصدر في موضع الحال.
قال ابن عطية : معناه لا يقصرون لكم فيما فيه الفساد عليكم.
فعلى هذا يكون قد تعدى للضمير على إسقاط اللام ، وللخبال على إسقاط في.
وقال الزمخشري : يقال : أَلا في الأمر يألو إذا قصر فيه ، ثم استعمل معدّى إلى مفعولين في قولهم : لا آلوك نصحاً ، ولا آلوك جهداً ، على التضمين.
والمعنى : لا أمنعك نصحاً ولا أنقصكه انتهى.
{ ودوا ما عنتم } قال ابن جرير : ودّوا إضلالكم.
وقال الزجاج : مشقتكم.
وقال الراغب : المعاندة والمعانتة يتقاربان ، لكن المعاندة هي الممانعة ، والمعانتة أن تتحرّى مع الممانعة المشقة انتهى.
ويقال : عِنت بكسر النون ، وأصله انهياض العظم بعد جبره.
وما في قوله : ما عنتم مصدرية ، وهذه الجملة مستأنفة كما قلنا في التي قبلها.
وجوّزوا أن يكون نعتاً لبطانة ، وحالاً من الضمير في يألونكم ، وقد معه مرادة.
{ قد بدت البغضاء من أفواههم } وقرأ عبد الله : قد بدا ، لأنّ الفاعل مؤنث مجازاً أو على معنى البغض ، أي لا يكتفون ببغضكم بقلوبهم حتى يصرحوا بذلك بأفواههم.
وذكر الأفواه دون الألسنة إشعاراً بأن ما تلفظوا به يملأ أفواههم ، كما يقال : كلمة تملأ الفم إذا تشدّق بها.
وقيل : المعنى لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها أنْ ينفلتَ من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين انتهى.
ولمّا ذكر تعالى ما انطووا عليه من ودادهم عنت المؤمنين ، وهو إخبار عن فعل قلبي ، ذكر ما أنتجه ذلك الفعل القلبي من الفعل البدني ، وهو : ظهور البغض منهم للمؤمنين في أقوالهم ، فجمعوا بين كراهة القلوب وبذاذة الألسن.
ثم ذكر أنَّ ما أبطنوه من الشر والإيذاء للمؤمنين والبغض لهم أعظم مما ظهر منهم فقال :
{ وما تخفي صدورهم أكبر } أي أكثر مما ظهر منها.
والظاهر أنَّ بدوَّ البغضاء منهم هو للمؤمنين ، أي اظهروا للمؤمنين البغض.
وقال قتادة : قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضاً على ذلك.
وقيل : بدت بإقرارهم بعد الجحود ، وهذه صفة المجاهر.
وأسند الإخفاء إلى الصدور مجازاً ، إذ هي محال القلوب التي تخفي كما قال : { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور }
{ قد بينا لكم الآيات } أي الدالة على وجوب الإخلاص في الدين ، وموالاة المؤمنين ، ومعاداة الكفار.
{ إن كنتم تعقلون } أي ما بين لكم فعملتم به ، أو إنْ كنتم عقلاء وقد علم تعالى أنهم عقلاء ، لكن علقه على هذا الشرط على سبيل الهزّ للنفوس كقولك : إن كنت رجلاً فافعل كذا.
وقال ابن جرير : معناه إن كنتم تعقلون عن الله أمره ونهيه.
وقيل : إنْ كنتم تعقلون فلا تصافوهم ، بل عاملوهم معاملة الأعداء.
وقيل : معنى إن معنى إذ أي إذ كنتم عقلاء.
{ ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله } تقدّم لنا الكلام على نظيرها ، أنتم أولاء في قوله :

{ ها أنتم هؤلاء حاججتم } قراءة وإعراباً.
وتلخيصه هنا أن يكونَ أولاء خبراً عن أنتم ، وتحبونهم مستأنف أو حال أو صلة ، على أن يكون أولاء موصولاً أو خبراً لأنتم ، وأولاء مناداً ، أو يكون أولاء مبتدأ ثانياً ، وتحبونهم خبر عنه ، والجملة خبر عن الأوّل.
أو يكون أولاء في موضع نصب نحو : أنا زيداً ضربته ، فيكون من الاشتغال.
واسم الإشارة في هذين الوجهين واقع على غير ما وقع عليه أنتم ، لأن أنتم خطاب للمؤمنين ، وأولاء إشارة إلى الكافرين.
وفي الأوجه السابقة مدلوله ومدلول أنتم واحد.
وهو : المؤمنون.
وعلى تقدير الاستئناف في تحبونهم ، لا ينعقد مما قبله مبتدأ وخبر إلا بإضمار وصفٍ تقديره : أنتم أولاء الخاطئون في موالاة غير المؤمنين إذ تحبونهم ولا يحبونكم.
بيان لخطئهم في موالاتهم حيثُ يبذلون المحبة لمن يبغضهم ، وضمير المفعول في تحبونهم قالوا لمنافقي اليهود.
وفي الزمخشري : لمنافقي أهل الكتاب.
والذي يظهر أنّه عائد على بطانة من دون المؤمنين ، فهو كل منافق حتى منافق المشركين.
والمحبة هنا : الميل بالطبع لموضع القرابة والرضاع والحلف قاله ابن عباس.
أو لأجل إظهار الإيمان والإحسان إلى المؤمنين قاله : أبو العالية : أو الرحمة لهم لما يقع منهم من المعاصي قاله : قتادة.
أو إرادة الإسلام لهم قاله : المفضل والزجاج.
وهذا ليس بجيد ، لأنه لا يقع توبيخ على معنى إرادة إسلام الكافر ، أو المصافاة ، لأنها من ثمرة المحبة.
{ وتؤمنون بالكتاب كله } ، الكتاب : اسم جنس ، أي بالكتب المنزلة قاله : ابن عباس.
والتوراة والإنجيل أو التوراة أقوال ثلاثة ، وثم جملة محذوفة تقديرها : ولا تؤمنون به كله بل يقولون : نؤمن ببعض ونكفر ببعض.
يدلُّ عليها إثبات المقابل في تحبونهم ولا يحبونكم.
والواو في وتؤمنون للعطف على تحبونهم ، فلها من الإعراب ما لها.
وقال الزمخشري : والواو في وتؤمنون للحال ، وانتصابها من لا يحبونكم أي لا يحبونكم.
والحال : إنكم تؤمنون بكتابهم كله ، وهم مع ذلك يبغضونكم ، فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم؟ وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصل منكم في حقكم ونحوه.
فإنهم يألمون كما تألمون ، وترجون من الله ما لا يرجون انتهى كلامه وهو حسن.
إلا أنه فيه من الصناعة النحوية ما يخدشه ، وهو : أنه جعل الواو في وتؤمنون للحال ، وأنها منتصبة من لا يحبونكم.
والمضارعُ المثبت إذا وقع حالاً لا تدخل عليه واوٍ الحال تقول : جاء زيد يضحك ، ولا يجوز ويضحك.
فأما قولهم : قمت وأصك عينه ففي غاية الشذوذ.
وقد أوَّل على إضمار مبتدأ أي قمت وأنا أصك عينه ، فتصير الجملة اسمية.
ويحتمل هذا التأويل هنا ، أي : ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كلِّه ، لكن الأولى ما ذكرناه من كونها للعطف.
قال ابن عطية : وتؤمنون بالكتاب كله يقتضي أن الآية في منافقي اليهود ، لا منافقي العرب.

ويعترضها : أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيماناً مطلقاً ويكفرون في الباطن ، كما كان المنافقون من العرب ، إلا ما روي من أمر زيد بن الصيف القينقاعي.
فلم يبق إلا أنَّ قولهم : آمنا ، معناه صدّقنا أنه نبي مبعوث إليكم.
أي فكونوا على دينكم ونحن أولياؤكم وأخوانكم لا نضمر لكم إلا المودّة ، ولهذا كان بعض المؤمنين يتخذهم بطانة.
وهذا منزع قد حفظ أن كثيراً من اليهود كان يذهب إليه.
ويدل على هذا التأويل أنَّ المعادل لقولهم : آمنا غض الأنامل من الغيظ ، وليس فيه ما يقتضي الارتداد كما في قوله : { وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم } بل هو ما يقتضي البغض وعدم المودّة.
وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال : هم الأباضية.
وهذه الصفة قد تترتب في أهل البدع من الناس إلى يوم القيامة انتهى كلامه.
وما ذكر من أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيماناً مطلقاً ويكفرون في الباطن إلاَّ ما روي من أمر زيد فيه نظر ، فإنه قد روى أن جماعة منهم كانوا يعتمدون ذلك ، ذكره البيهقي وغيره.
ولو لم يرو ذلك إلا عن زيد القينقاعي لكان في ذلك مذمة لهم بذلك ، إذ وجد ذلك في جنسهم.
وكثيراً ما تمدح العرب أو تذم بفعل الواحد من القبيلة ، ويؤيد صدور ذلك من اليهود قوله تعالى : { وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره }
{ وإذا لقوكم قالوا آمنا } هذا الإخبار جرى على منازعتهم في التوراة والستر والخبث ، إذ لم يذكروا متعلق الإيمان ، ولكنَّهم يوهمون المؤمنين بهذا اللفظ أنهم مؤمنون.
{ وإذا خلوا } أي خلا بعضهم ببعض وانفردوا دونكم.
والمعنى : خلت مجالسهم ، منكم ، فأسند الخلو إليهم على سبيل المجاز.
{ عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } وظاهره فعل ذلك ، وأنه يقع منهم عض الأنامل لشدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذ ما يريدون.
ومنه قول أبي طالب :
وقد صالحوا قوماً علينا أشحة . . .
يعضون عضاً خلفنا بالأباهم
وقال الآخر :
إذا رأوني أطال الله غيظهم . . .
عضوا من الغيظ أطراف الأباهيم
وقال الآخر :
وقد شهدت قيس فما كان نصرها . . .
قتيببة إلا عضها بالأباهم
وقال الحرث بن ظالم المرّي :
وأقتل أقواماً لئاماً أذلة . . .
يعضون من غيظ رؤوس الأباهم
ويوصف المغتاظ والنادم بعضّ الأنامل والبنان والإبهام.
وهذا العض هو بالأسنان ، وهي هيئة في بدن الإنسان تتبع هيئة النفس الغاضبة.
كما أن ضرب اليد على اليد يتبع هيئة النفس المتلهفة على فائت قريب الفوت.
وكما أن قرع السن هيئة تتبع هيئة النفس النادمة ، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الأرض للمهموم ونحوه.
ويحتمل أن لا يكون ثَمَّ عض أنامل ، ويكون ذلك من مجاز التمثيل عبر بذلك عن شدة الغيظ ، والتأسف على ما يفوتهم من إذايتكم.

ونبه تعالى بهذه الآية على أن من كان بهذه الأوصاف من : بغض المؤمنين ، والكفر بالقرآن ، والرياء بإظهار ما لا ينطوي عليه باطنه ، جدير بأن لا يتخذ صديقاً.
{ قل موتوا بغيظكم } ظاهره : أنه صلى الله عليه وسلم أمر بأن يقول لهم ذلك.
وهي صيغة أمر ، ومعناها الدّعاء : أذن الله لنبيه أن يدعو عليهم لمّا يئس من إيمانهم ، هذا قول الطبري.
وكثير من المفسرين قالوا : فله أن يدعو مواجهة.
وقيل : أمر هو وأمته أن يواجهوهم بهذا.
فعلى هذا زال معنى الدعاء ، وبقي معنى التقريع ، قاله : ابن عطية.
وقيل : صورته أمر ، ومعناه الخبر ، والباء للحال أي تموتون ومعكم الغيظ وهو على جهة الذم على قبيح ما عملوه.
وقال الزمخشري : دعا عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به.
والمراد بزيادة الغيظ ما يغيظهم من قوة الإسلام وعزة أهله ، وما لهم في ذلك من الذل والخزي والتبار انتهى كلامه.
وليس ما فسر به ظاهر قوله : قل موتوا بغيظكم ، ويكون ما قاله الزمخشري يشبه قولهم : مت بدائك ، أي أبقى الله داءك حتى تموت به.
لكنْ في لفظ الزمخشري زيادة الغيظ ، ولا يدل عليه لفظ القرآن.
قال بعض شيوخنا : هذا ليس بأمر جازم ، لأنه لو كان أمراً لماتوا من فورهم كما جاء فقال لهم الله : موتوا.
وليس بدعاء ، لأنه لو أمره بالدعاء لماتوا جميعهم على هذه الصفة ، فإن دعوته لا ترد.
وقد آمن منهم بعد هذه الآية كثير ، وليس بخبر لأنه لو كان خبر الوقع على حكم ما أخبر به يعني ولم يؤمن أحد بعد ، وإنما هو أمر معناه التوبيخ والتقريع كقوله : اعملوا ما شئتم ، إذا لم تستح فاصنع ما شئت.
قيل : ويجوز أن لا يكون ثم قول ، وإنْ يكون أمراً بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله أن يهلكوا غيظاً بإعزاز الإسلام وإذلالهم به ، كأنه قيل : حدث نفسك بذلك.
{ إن الله عليم بذات الصدور } قيل : يجوز أن يكون من جملة المقول ، والمعنى : أخبرْهُم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظاً إذا خلوا وقل لهم : إن الله عليم بما هو أخفى مما تسرّونه بينكم وهو مضمرات الصدور ، فلا تظنوا أن شيئاً من أسراركم يخفى عليه.
ويجوز أنْ لا تدخل تحت القول ، ومعناه : قل لهم ذلك ، ولا تتعجب من اطلاعي إياك على ما يسرون ، فإني أعلم ما هو أخفى من ذلك وهو مضمرات صدورهم لم يظهروه بألسنتهم.
والظاهر الأول أورد ذلك على أنّه وعيد مواجهون به.
والذات لفظ مشترك ومعناه هنا أنه تأنيث ذي بمعنى صاحب.
فأصله هنا عليم بالمضمرات ذوات الصدور ، ثم حذف الموصوف ، وغلبت إقامة الصفة مقامه.

ومعنى صاحبة الصدور : الملازمة له التي لا تنفك عنه كما تقول : فلان صاحب فلان ، ومنه أصحاب الجنة أصحاب النار.
واختلفوا في الوقف على ذات.
فقال الأخفش والفراء وابن كيسان : بالتاء مراعاة لرسم المصحف.
وقال الكسائي والجرمي : بالهاء لأنها تاء تأنيث.
{ إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها } الحسنة هنا ما يسر من رخاء وخصب ونصرة وغنيمة ، ونحو ذلك من المنافع.
والسيئة ضد ذلك.
بين تعالى بذلك فرط عداوتهم حيث يسوءهم ما نال المؤمنين من الخير ، ويفرحون بما يصيبهم من الشدة.
قال الزمخشري : المس مستعار لمعنى الإصابة ، فكان المعنى واحداً.
ألا ترى إلى قوله : { إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة } الآية { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } { إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً } وقال ابن عطية : ذكر الله تعالى المس في الحسنة ليبين أن بأدنى طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين ، ثم عادل ذلك في السيئة بلفظ الإصابة ، وهي عبارة عن التمكن.
لأن الشيء المصيب لشيء هو متمكن منه ، أو فيه.
فدل هذا النوع البليغ على شدة العداوة ، إذ هو حقد لا يذهب عند نزول الشدائد ، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين انتهى كلامه.
والنكرة هنا في سياق الشرط بأن تعم عموم البدل ، ولم يأت معرفاً لإيهام التعيين بالعهد ، ولإيهام العموم الشمولي.
وقابل الحسنة بالسيئة ، والمساءة بالفرح وهي مقابلة بديعة.
قال قتادة والربيع وابن جريج : الحسنة بظهوركم على العدو ، والغنيمة منهم ، والتتابع بالدخول في دينكم ، وخصب معاشكم.
والسيئة بإخفاق سرية منكم ، أو إصابة عدو منكم ، أو اختلاف بينكم.
وقال الحسن : الحسنة الألفة ، واجتماع الكلمة.
والسيئة إصابة العدو ، واختلاف الكلمة.
وقال ابن قتيبة : الحسنة النعمة.
والسيئة المصيبة.
وهذه الأقوال هي على سبيل التمثيل ، وليست على سبيل التعيين.
{ وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً } قال ابن عباس : وإن تصبروا على أذاهم ، وتتقوا الله ، ولا تقنطوا ، ولا تسأموا أذاهم وإن تكرر.
وقال مقاتل : وإنْ تصبروا على أمر الله ، وتتقوا مباطنتهم.
وقال ابن عباس أيضاً : وإنْ تصبروا على الإيمان وتتقوا الشرك.
وقيل : وإنْ تصبروا على الطاعة وتتقوا المعاصي.
وقيل : وإن تصبروا على حربهم.
والذي يظهر أنه لم يذكر هنا متعلق الصبر ، ولا متعلق التقوى.
لكنَّ الصبر هو حبس النفس على المكروه ، والتقوى اتخاذ الوقاية من عذاب الله.
فيحسنُ أنْ يقدَّرَ المحذوف من جنس ما دل عليه لفظ الصبر ولفظ التقوى.
وفي هذا تبشير للمؤمنين ، وتثبيت لنفوسهم ، وإرشاد إلى الاستعانة على كيد العدو بالصبر والتقوى.
وقرأ الجمهور : أن تمسسكم بالتاء.
وقرأ السلمي بالياء معجمة من أسفل ، لأن تأنيث الحسنة مجازى.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو وحمزة في رواية عنه : لا يضركم من ضار يضير.
ويقال : ضار يضور ، وكلاهما بمعنى ضرَّ.

وقرأ الكوفيون وابن عامر : لا يضرُّكم بضم الضاد والراء المشدّدة ، من ضرّ يَضُرُّ.
واختلف ، أحركةُ الراء إعرابٌ فهو مرفوعٌ أم حركة اتباع لضمة الضاد وهو مجزوم كقولك : مدّ؟ ونسب هذا إلى سيبويه ، فخرج الإعراب على التقديم.
والتقدير : لا يضركم أن تصبروا ، ونسب هذا القول إلى سيبويه.
وخرج أيضاً على أنّ لا بمعنى ليس ، مع إضمار الفاء.
والتقدير : فليس يضركم ، وقاله : الفراء والكسائي.
وقرأ عاصم فيما روى أبو زيد عن المفضل عنه : بضم الضاد ، وفتح الراء المشددة.
وهي أحسن من قراءة ضم الراء نحو لم يرد زيد ، والفتح هو الكثير المستعمل.
وقرأ الضحاك : بضم الضاد ، وكسر الراء المشدّدة على أصل التقاء الساكنين.
وقال ابن عطية : فأما الكسر فلا أعرفه قراءة ، وعبارة الزجاج في ذلك متجوز فيها ، إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة انتهى.
وهي قراءة كما ذكرنا عن الضحاك.
وقرأ أبيُّ لا يضرركم بفك الإدغام وهي لغة أهل الحجاز ، وعليها في الآية إن يمسَسْكم.
ولغة سائر العرب الإدغام في هذا كله.
{ إن الله بما يعملون محيط } من قرأ بالياء فهو وعيد ، والمعنى : محيط جزاؤه.
وعبر بالإحاطة عن الاطلاع التام والقدرة والسلطان.
ومن قرأ بالتاء وهو : الحسن بن أبي الحسن فعلى الالتفات للكفار ، أو على إضمار قل : لهم يا محمد.
أو على أنه خطاب للمؤمنين تضمن توعدهم في اتخاذ بطانة من الكفار.
قالوا : وتضمنت هذه الآيات ضروباً من البلاغة والفصاحة.
منها : الوصل والقطع في { ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة }.
والتكرار : في أصحاب النار هم.
والعدول عن اسم الفاعل إلى غيره : في يتلون وما بعده ، وفي يظلمون.
والاكتفاء بذكر بعض الشيء عن كله إذا كان فيه دلالة على الباقي في : يؤمنون بالله واليوم الآخر.
والمقابلة : في تأمرون وتنهون ، وفي المعروف والمنكر.
ويجوز أن يكون طباقاً معنوياً ، وفي حسنة وسيئة ، وفي تسؤهم ويفرحوا.
والاختصاص : في عليم بالمتقين ، وفي أموالهم ولا أولادهم ، وفي كمثل ريح ، وفي حرث قوم ظلموا أنفسهم ، وفي بذات الصدور.
والتشبيه : في مثل ما ينقون ، وفي بطانة ، وفي عضوا عليكم الأنامل من الغيظ على أحد التأويلين ، وفي تمسسكم حسنة وتصبكم سيئة.
شبه حصولهما بالمس والإصابة ، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ، والصحيح أن هذه استعارة.
وفي محيط شبه القدرة على الأشياء والعلم بها بالشيء المحدق بالشيء من جميع جهاته ، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس.
والتجنيس المماثل : في ظلمهم ويظلمون ، وفي تحبونهم ولا يحبونكم ، وفي تؤمنون وآمنا ، وفي من الغيظ وبغيظكم.
والالتفات : في وما تفعلوا من خير فلن تكفروه على قراءة من قرأ بالتاء ، وفي ما تعملون محيط على أحد الوجهين.
وتسمية الشيء باسم محله : في من أفواههم عبر بها عن الألسنة لأنها محلها.
والحذف في مواضع.

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)

غدا الرجل : خرج غدوة.
والغدو يكون في أول النهار.
وفي استعمال غدا بمعنى صار ، فيكون فعلاً ناقصاً خلاف.
الهم : دون العزم ، والفعل منه هم يهمُّ.
وتقول العرب : هممْتُ وهمَّتْ يحذفون أحد المضعفين كما قالوا : أمست ، وظلّت ، وأحست ، في مسست وظللت وأحسست.
وأوّلُ ما يمر الأمر بالقلب يسمى خاطراً ، فإذا تردد صار حديث نفس ، فإذ ترجَّح فعله صار هماً ، فإذا قوي واشتد صار عزماً ، فإذا قوي العزم واشتدّ حصل الفعل أو القول.
الفشل في البدن : الإعياء.
وفي الحرب : الجبن والخور ، وفي الرأي : العجز والفساد.
وفعله : فشِل بكسر الشين.
التوكل : تفعل من وكل أمره إلى فلان ، إذا فوَّضه له.
قال ابن فارس : هو إظهار العجز والاعتماد على غيرك ، يقال : فلان وكلة تكلة ، أي عاجز يكل أمره إلى غيره.
وقيل : هو من الوكالة ، وهو تفويض الأمر إلى غيره ثقة بحسن تدبيره.
بدر في الآية : اسم علم لما بين مكة والمدينة.
سمي بذلك لصفائه ، أو لرؤية البدر فيه لصفائه ، أو لاستدارته.
قيل : وسمي باسم صاحبه بدر بن كلدة.
قيل : بدر بن بجيل بن النضر بن كنانة.
وقيل : هو بئر لغفار.
وقيل : هو اسم وادي الصفراء.
وقيل : اسم قرية بين المدينة والحجاز.
الفور : العجلة والإسراع.
تقول : اصنع هذا على الفور.
وأصلُه من فارت القدر اشتد غليانها ، وبادر ما فيها إلى الخروج.
ويقال : فار غضبه إذا جاش وتحرك.
وتقول : خرج من فوره ، أي من ساعته ، لم يلبث استعير الفور للسرعة ، ثم سميت به الحالة التي لا ريب فيها ولا تعريج على شيء من صاحبها.
الخمسة : رتبة من العدد معروفة ، ويصرف منها فعل يقال : خمست الأربعة أي صيرتهم في خمسة.
الطرف : جانب الشيء الأخير ، ثم يستعمل للقطعة من الشيء ، وإنْ لم يكن جانباً أخيراً.
الكبت : الهزيمة.
وقيل : الصرع على الوجه أو إلى اليدين.
وقال النقاش وغيره : التاء بدل من الدال.
أصله : كبده ، أي فعل فعلاً يؤذي كبده.
الخيبة : عدم الظفر بالمطلوب.
{ وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال } قال المسور بن مخرمة : قلت لعبد الرحمن بن عوف : أيْ خال أخبرني عن قصتكم يوم أحد ، فقال : اقرأ العشرين ومائة من آل عمران تجد : { وإذ غدوت من أهلك - إلى - ثم أنزل عليكم } ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما نهاهم عن اتخاذ بطانةٍ مِن الكفار ووعدهم أنّهم إنْ صبروا واتقوا فلا يضرُّكم كيدهم.
ذكرهم بحالة اتفق فيها بعض طواعية ، واتباع لبعض المنافقين ، وهو ما جرى يوم أحد لعبد الله بن أبي بن سلول حين انخذل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتبعه في الانخذال ثلاثمائة رجل من المنافقين وغيرهم من المؤمنين.

والجمهور على أن ذلك كان في غزوة أحد ، وفيها نزلت هذه الآيات كلها ، وهو قول : عبد الرحمن بن عوف ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، والزهري ، والسدي ، وابن إسحاق.
وقال الحسن : كان هذا الغدو في غزوة الأحزاب.
وهو قول : مجاهد ، ومقاتل ، وهو ضعيف.
لأن يوم الأحزاب كان فيه ظفر المؤمنين ، ولم يجر فيه شيء مما ذكر في هذه الآيات بل قصتاهما متباينتان.
وقال الحسن أيضاً : كان هذا الغدو يوم بدر.
وذكر المفسرون قصة غزوة أحد وهي مستوعبة في كتب السير ، ونحن نذكر منها ما يتعلق بألفاظ الآية بعض تعلقٍ عند تفسيرها.
وظاهر قوله : وإذ غدوت ، خروجه غدوة من عند أهله.
وفسر ذلك بخروجه من حجرة عائشة يوم الجمعة غدوة حين استشار الناس ، فمِنْ مشير بالإقامة وعدم الخروج إلى القتال.
وأن المشركين إنْ جاؤوا قاتلوهم بالمدينة ، وكان ذلك رأيه صلى الله عليه وسلم.
ومن مشير بالخروج وهم : جماعة من صالحي المؤمنين فأتتهم وقعة بدر وتبوئة المؤمنين مقاعد للقتال ، على هذا القول هو أن يقسمَ أفطار المدينة على قبائل الأنصار.
وقيل : غدوه هو نهوضه يوم الجمعة بعد الصلاة وتبوئته في وقت حضور القتال.
وسماه غدواً إذ كان قد عزم عليه غدوة.
وقيل : غدوه كان يوم السبت للقتال.
ولما لم تكن تلك الليلة موافقة للغدو وكأنه كان في أهله ، والعامل في إذا ذكر.
وقيل : هو معطوف على قوله : { قد كان لكم آية في فئتين التقتا } أي وآية إذ غدوت ، وهذا في غاية البعد.
ولولا أنه مسطور في الكتب ما ذكرته.
وكذلك قولُ مَنْ جعل من في معنى مع ، أي : وإذ غدوت مع أهلك.
وهذه تخريجات يقولها وينقلها على سبيل التجويز من لا بصر له بلسان العرب.
ومعنى تبويّء تنزل ، من المباءة وهي المرجع ومنه { لنبوئنهم من الجنة غرفاً } فليتبوأ مقعده من النار ، وقال الشاعر :
كم صاحب لي صالح . . .
بوّأته بيديّ لحدا
وقال الأعشى :
وما بوّأ الرحمن بيتك منزلا . . .
بشرقيّ أجياد الصفا والمحرم
ومقاعد : جمع مقعد ، وهو هناك مكان القعود.
والمعنى : مواطن ومواقف.
وقد استعمل المقعد والمقام في معنى المكان.
ومنه : { في مقعد صدق } { قبل أن تقوم من مقامك }
وقال الزمخشري : وقد اتسع في قعد وقام حتى أجريا مجرى صار انتهى.
أمّا إجراء قعد مجرى صار فقال أصحابنا : إنما جاء في لفظة واحدة وهي شاذة لا تتعدى ، وهي في قولهم : شحذ شفرته حتى قعدت كأنها حربة ، أي صارت.
وقد نقد على الزمخشري تخريج قوله تعالى : { فتقعد ملوماً } على أن معناه : فتصير ، لأن ذلك عند النحويين لا يطرد.
وفي اليواقيت لأبي عمر الزاهد قال ابن الأعرابي : القعد الصيرورة ، والعرب تقول : قعد فلان أميراً بعدما كان مأموراً أي صار.
وأمّا إجراء قام مجرى صار فلا أعلم أحداً عدّها في أخوات كان ، ولا ذكر أنها تأتي بمعنى صار ، ولا ذكر لها خبراً إلا أبا عبد الله بن هشام الحضراوي فإنه قال في قول الشاعر :

على ما قام يشتمني لئيم . . .
إنها من أفعال المقاربة
وقال ابن عطية : لفظة القعود أدل على الثبوت ، ولا سيما أنّ الرماة إنما كانوا قعوداً ، وكذلك كانت صفوف المسلمين أولاً ، والمبارزة والسرعان يجولون.
وجمع المقاعد لأنه عيّن لهم مواقف يكونون فيها : كالميمنة والميسرة ، والقلب ، والشاقة.
وبيّن لكل فريق منهم موضعهم الذي يقفون فيه.
خرج صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الجمعة ، وأصبح بالشعب يوم السبت للنصف من شوال ، فمشى على رجليه ، فجعل يصفّ أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح.
إنْ رأى صدراً خارجاً قال : « تأخر » ، وكان نزوله في غدوة الوادي ، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد.
وأمر عبد الله بنَ جبير على الرماة وقال لهم : « انصحوا عنا بالنبل » لا يأتونا من ورائنا «.
وتبوىء جملة حالية من ضمير المخاطب.
فقيل : هي حال مقدرة ، أي خرجت قاصد التبوئة ، لأن وقت الغدوّ لم يكن وقت التبوئة.
وقرأ الجمهور تبوىء من بوّأ.
وقرأ عبد الله : تبوِّىء من أبوأ ، عداه الجمهور بالتضعيف ، وعبد الله بالهمزة.
وقرأ يحيى بن وثاب : تبوى بوزن تحيا ، عداه بالهمزة ، وسهل لام الفعل بإبدال الهمزة ياء نحو : يقرى في يقرىء.
وقرأ عبد الله : للمؤمنين بلام الجر على معنى : ترتب وتهيىء.
ويظهر أنَّ الأصل تعديته لواحد بنفسه ، وللآخر باللام لأن ثلاثيه لا يتعدى بنفسه ، إنما يتعدى بحرف جر.
وقرأ الأشهب : مقاعد القتال على الإضافة ، وانتصاب مقاعد على أنه مفعول ثان لتبوى.
ومَنْ قرأ للمؤمنين كان مفعولاً لتبوىء ، وعداه باللام كما في قوله : { وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت } وقيل : اللام في لابراهيم زائدة ، واللام في للقتال لام العلة تتعلق بتبوىء.
وقيل : في موضع الصفة لمقاعد.
وفي الآية دليل على أن الأئمة هم الذين يتولون أمر العساكر ويختارون لهم المواضع للحرب ، وعلى الأجناد طاعتهم قاله : الماتريدي.
وهو ظاهر.
{ والله سميع عليم } أي سميع وقوالكم ، عليم بنياتكم.
وجاءت هاتان الصفتان هنا لأنّ في ابتداء هذه الغزوة مشاورة ومجاوبة بأقوال مختلفة ، وانطواء على نيات مضطربة حبسما تضمنته قصة غزوة أُحد.
{ إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } الطائفتان : بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، وهما الجناحان قاله : ابن عباس ، وجابر ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، والربيع ، والسدي ، وجمهور المفسرين.
وقيل : الطائفتان هما من الأنصار والمهاجرين.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في ألف.
وقيل : في تسعمائة وخمسين ، والمشركون في ثلاثة آلاف.
ووعدهم الفتح إن صبروا ، فانخذل عبد الله بن أبي بثلث الناس.
وسببُ انخذاله أنه أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين شاوره رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشاوره قبلها ، فأشار عليه بالمقام في المدينة فلم يفعل وخرج ، فغضب عبد الله وقال : أطاعهم ، وعصاني.

وقال : يا قوم على مَ نقتل أنفسنا وأولادنا ، فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري.
وفي رواية أبو جابر السلمي فقال : أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم.
فقال عبد الله : لو نعلمُ قتالاً لاتبعناكم ، فهم الجبان باتباع عبد الله ، فعصمهم الله ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس : أضمروا أن يرجعوا ، فعزم الله لهم على الرشد فثبتوا ، وهذا لهمّ غير مؤاخذ به ، إذ ليس بعزيمة ، إنما هو ترجيح من غير عزم.
ولا شك أن النفس عندما تلاقي الحروب ومن يجالدها يزيد عليها مثلين وأكثر ، يلحقها بعض الضعف عن الملاقاة ، ثم يوطئها صاحبها على القتال فتثبت وتستقر.
ألا ترى إلى قول الشاعر :
وقولي : كلما جشأت وجاشت . . .
مكانك تحمدي أو تستريحي
{ وإذ همت } : بدل من إذ غدوت.
قال الزمخشري : أو عمل فيه معنى سميع عليم انتهى.
وهذا غير محرر ، لأن العامل لا يكون مركباً من وصفين ، فتحريره أن يقول : أو عمل فيه معنى سميع أو عليم ، وتكون المسألة من باب التنازع.
وجوز أن يكون معمولاً لتبوى ، ولغدوت.
وهمّ يتعدى بالباء ، فالتقدير : بأن تفشلا والمعنى : أن تفشلا عن القتال.
وأما أحسن قول الشاعر في التحريض على القتال والنهي عن الفشل :
قاتلوا القوم بالخداع ولا . . .
يأخذكم عن قتالهم فشل
القوم أمثالكم لهم شعر . . .
في الرأس لا ينشرون إن قتلوا
وأدغم السبعة تاء التأنيث في الطاء ، وعن قالون خلاف ذكرناه في عقد اللآلىء في القراءات السبع العوالي من إنشائنا.
والظاهر أن هذا الهم كان عند تبوئة الرسول صلى الله عليه وسلم مقاعد للقتال وانخذال عبد الله بمن انخذل.
وقيل : حين أشاروا عليه بالخروج وخالفوا عبد الله بن أبي.
وفي قوله : طائفتان إشارة لطيفة إلى الكناية عن من يقع منه ما لا يناسب والستر عليه ، إذ لم يعين الطائفتين بأنفسهما ، ولا صرح بمن هما منه من القبائل ستراً عليهما.
{ والله وليهما } معنى الولاية هنا التثبيت والنصر ، فلا ينبغي لهما أن يفشلا.
وقيل : جعلها من أوليائه المثابرين على طاعته.
وفي البخاري عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : فينا نزلت { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما } قال : نحن الطائفتان بنو حارثة ، وبنو سلمة.
وما تحب أنها لم تنزل لقول الله : { والله وليهما } ، قال ذلك جابر لفرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله ، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية ، وأنّ تلك الهمة المصفوح عنها لكونها ليست عزماً ، كانت سبباً لنزولها.
وقرأ عبد الله : والله وليهم أعاد الضمير على المعنى لا على لفظ التثنية ، كقوله : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } { هذان خصمان اختصموا } وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب ، بل جاءت مستأنفة لثناء الله على هاتين الطائفتين.

{ وعلى الله فليتوكل المؤمنون } لما ذكر تعالى ما همت به الطائفتان من الفشل ، وأخبر تعالى أنه وليهما ، ومَنْ كان الله وليه فلا يفوض أمره إلا إليه.
أمرهم بالتوكل عليه ، وقدم المجرور للاعتناء بمن يتوكل عليه ، أو للاختصاص على مذهب من يرى ذلك.
ونبّه على الوصف الذي يقتضي ذلك وهو الإيمان ، لأنَّ مَنْ آمن بالله خير أن لا يكون اتكاله إلا عليه ، ولذلك قال : { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } وأتى به عاماً لتندرج الطائفتان الهامّتان وغيرهم في هذا الأمر ، وأن متعلقة من قام به الإيمان.
وفي هذا الأمر تحريض على التغبيط بما فعلته الطائفتان من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسير معه.
{ ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة } لمّا أمرهم بالتوكل عليه ذكّرهم بما يوجب التوكل عليه ، وهو ما سنى لهم ويسر من الفتح والنصر يوم بدر ، وهم في حال قلة وذلة ، إذ كان ذلك النصر ثمرة التوكل عليه والثقة به.
والنصر المشار إليه ببدر بالملائكة ، أو بإلقاء الرعب ، أو بكف الحصى التي رمى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو بإرادة الله لقوله : { وما النصر إلا من عند الله } أقوال.
والجملة من قوله : وأنتم أذلة حال من المفعول في نصركم ، والمعنى : وأنتم أذلة في أعين غيركم ، إذ كانوا أعزة في أنفسهم ، وكانوا بالنسبة إلى عدوهم ، وجميع الكفار في أقطار الأرض عند المتأمل مغلوبين.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد »
والأذلة : جمع ذليل.
وجمع الكثرة ذلان ، فجاء على جمع القلة ليدل أنهم كانوا قليلين.
والذلة التي ظهرت لغيرهم عليهم هي ما كانوا عليه من الضعف وقلة السلاح والمال والمركوب.
خرجوا على النواضح يعتقب النفر على البعير الواحد ، وما كان معهم من الخيل إلا فرس واحد ، ومع عدوهم مائة فرس.
وكان عدد المسلمين ثلاثمائة رجل وثلاثة عشر رجلاً : سبعة وسبعون من المهاجرين وصاحب رايتهم علي بن أبي طالب ، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار وصاحب رايتهم سعد بن عبادة.
وقيل : ثلاثمائة وستة عشر رجلاً.
وقيل : ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً.
وفي رواية : ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً.
وكان عدوهم في حال كثرة زهاء ألف مقاتل.
وما أحسن قول الشاعر :
وقائلة ما بال أسوة عاديا . . .
تفانت وفيها قلة وخمول
تعيرنا أنا قليل عديدنا . . .
فقلت لها إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا . . .
عزيز وجار الأكثرين ذليل
والنصر ببدر هو المشهور الذي قتل فيه صناديد قريش ، وعلى يوم بدر انبنى الإسلام.
وكان يوم الجمعة السابع عشر من رمضان لثمانية عشر شهراً من الهجرة.
{ فاتقوا الله لعلكم تشكرون } أمر بالتقوى مطلقاً.

وقيل : في الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجيه الشكر إمّا على الإنعام السابق بالنصر يوم بدر ، أو على الإنعام المرجو أنْ يقع.
فكأنه قيل : لعلكم ينعم عليكم نعمة أخرى فتشكرونها.
وضع الشكر موضع الإنعام لأنه سبب له.
{ إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين } ظاهر هذه الآية اتصالها بما قبلها ، وأنّها من قصة بدر ، وهو قول الجمهور ، فيكون إذ معمولاً لنصركم.
وقيل : هذا من تمام قصة أحد ، فيكون قوله : { ولقد نصركم الله ببدر } معترضاً بين الكلامين لما فيه من التحريض على التوكل والثبات للقتال.
وحجة هذا القول أن يوم بدر كان المدد فيه من الملائكة بألف ، وهنا بثلاثة آلاف وخمسة آلاف.
والكفار يوم بدر كانوا ألفاً ، والمسلمون على الثلث.
فكان عدد الكفار ثلاثة آلاف ، فوعدوا بثلاثة آلاف من الملائكة.
وقال : { ويأتوكم من فورهم } ، أي الإمداد.
ويوم بدر ذهب المسلمون إليهم.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف يصح أن يقوله لهم يوم أُحد ، ولم ينزل فيه الملائكة؟ ( قلت ) : قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم.
فلم يصبروا عن الغنائم ، ولم يتقوا حيث خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلذلك لم تنزل الملائكة ، ولو تموا على ما شرط عليهم لنزلت.
وإنما قدّم الوعد بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ، ويثقوا بنصر الله انتهى كلامه.
وقوله : لم تنزل فيه الملائكة ليس مجمعاً عليه ، بل قال مجاهد : حضرت فيه الملائكة ولم تقاتل ، فعلى قول مجاهد يسقط السؤال.
وقوله : قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم ، فلم يصبروا عن الغنائم ، ولم يتقوا إلى آخره المشروط بالصبر والتقوى هو الإمداد بخمسة آلاف.
أمّا الإمداد الأوّل وهو بثلاثة آلاف فليس بمشروط ، ولا يلزم من عدم إنزال خمسة آلاف لفوات شرطه أن لا ينزل ثلاثة آلاف ، ولا شيء منها ، وأجيب عن عدم إنزال ثلاثة آلاف : أنه وعدٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين الذين بوأهم مقاعد للقتال ، وأمرهم بالسكون والثبات فيها ، فكان هذا الوعد مشروطاً بالثبوت في تلك المقاعد.
فلما أهملوا الشرط لم يحصل المشروط انتهى.
ولا خفاء بضعف هذا الجواب.
قال الضحاك : كان هذا الوعد والمقالة للمؤمنين يوم أحد ، ففرّ الناس وولوا مدبرين فلم يهدهم الله ، وإنما مدوا يوم بدر بألف من الملائكة.
وقال ابن زيد : لم يصبروا.
وقال عكرمة : لم يصبروا ، ولم يتقوا يوم أحد ، فلم يمدوا.
ولو مدوا لم ينهزموا.
وكان الوعد بالإمداد يوم بدر ، ورجح أنه قال ذلك يوم بدر ، فظاهر اتصال الكلام.
ولأن قلة العدد ، والعدد كان يوم بدر ، فكانوا إلى تقوية قلوبهم بالوعد أحوج.
ولأنّ الوعد بثلاثة آلاف كان ، غير مشروط ، فوجب حصوله.
وإنما حصل يوم بدر والجمع بين ألف وثلاثة آلاف كان غير مشروط ، فوجب حصوله ، وإنما حصل يوم بدر أنهم مدوا أولاً بألف ، ثم زيد فيهم ألفان ، وصارت ثلاثة آلاف.

أو مدوا بألف أولاً ، ثم بلغهم إمداد المشركين بعدد كثير ، فوعد بالخمسة على تقدير إمداد الكفار.
فلم يمد الكفار ، فاستغنى عن إمداد المسلمين.
والظاهر في هذه الأعداد إدخال الناقص في الزائد ، فيكون وعدوا بألف ، ثم ضم إليه ألفان ، ثم ألفان ، فصار خمسة.
ومن ضم الناقص إلى الزائد وجعل ذلك في قصة أحد ، فيكونون قد وعدوا بثمانية آلاف.
أو في قصة بدر فيكونون قد وعدوا بتسعة آلاف.
ولم تتعرض الآية الكريمة لنزول الملائكة ، ولا لقتالهم المشركين وقتلهم ، بل هو أمر مسكوت عنه في الآية.
وقد تظاهرت الروايات وتظافرت على أن الملائكة حضرت بدراً وقاتلت.
ذكر ذلك ابن عطية عن جماعة من الصحابة بما يوقف عليه في كتابه.
ولما لم تتعرض له الآية لم نكثر كتابنا بنقله.
وذكر ابن عطية أن الشعبي قال : لم تمد المؤمنون بالملائكة يوم بدر ، وكانت الملائكة بعد ذلك تحضر حروب النبي صلى الله عليه وسلم مدداً ، وهي تحضر حروب المسلمين إلى يوم القيامة.
قال : وخالف الناس الشعبي في هذه المقالة ، وذكر أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ما نصه وأجمع أهل التفسير والسير : على أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا الكفار.
ثم قال : وأما أبو بكر الأصم فإنه أنكر ذلك أشد الإنكار ، وذكر عنه حججاً ثم قال : وكل هذه الشبه تليق بمن ينكر القرآن والنبوّة ، لأن القرآن والسنة ناطقان بذلك ، يعني بإنزال الملائكة.
ثم قال : واختلفوا في نصرة الملائكة.
فقيل : بالقتال.
وقيل : بتقوية نفوس المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب الكفار.
والظاهر في المدد أنهم يشركون الجيش في القتال ، وأن يكون مجرد حضورهم كافياً انتهى كلامه.
ودخلت أداة الاستفهام على حرف النفي على سبيل الإنكار ، لانتفاء الكفاية بهذا العدد من الملائكة.
وكان حرف النفي « لن » الذي هو أبلغ في الاستقبال من لا ، إشعاراً بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوهم وشوكتهم كالآيسين من النصر.
وبلى : إيجاب لما بعد لن ، يعني : بلى يكفيكم الإمداد بهم ، فأوجب الكفاية.
وفي مصحف أبيّ : ألا يكفيكم انتهى.
ومعظمه من كلام الزمخشري.
وقال ابن عطية : ألن يكفيَكُم تقرير على اعتقادهم الكفاية في هذا العدد من الملائكة؟ ومن حيث كان الأمر بيناً في نفسه أن الملائكة كافية ، بادر المتكلم إلى جواب ليبني ما يستأنف من قوله عليه فقال : بلى ، وهي جواب المقررين.
وهذا يحسن في الأمور البينة التي لا محيد في جوابها ، ونحوه قوله تعالى : { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله } انتهى.
وقال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي : ألن يكفيكم جواب الصحابة حين قالوا : هلا أعلمتنا بالقتال لنتأهب.

فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : « ألن يكفيكم » قال ابن عيسى : والكفاية مقدار سد الخلة ، والإمداد إعطاء الشيء حالاً بعد حال انتهى.
وقرأ الحسن : بثلاثة آلاف يقف على الهاء ، وكذلك بخمسة آلاف.
قال ابن عطية : ووجه هذه القراءة ضعيف ، لأن المضاف والمضاف إليه يقتضيان الاتصال ، إذ هما كالاسم الواحد ، وإنما الثاني كمال الأول.
والهاء إنما هي أمارة وقف ، فتعلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال ، لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع.
فمن ذلك ما حكاه الفراء أنهم يقولون : أكلت لحما شاة ، يريدون لحم شاة ، فمطلوا الفتحة حتى نشأت عنها ألف ، كما قالوا في الوقف قالا : يريدون.
قال : ثم مطلوا الفتحة في القوافي ونحوها في مواضع الروية والتثبت.
ومن ذلك في الشعر قول الشاعر :
ينباع من زفرى غضوب جسرة . . .
زيانة مثل الغنيق المكرم
يريد ينبع فمطل.
ومنه قول الآخر :
أقول إذ حزت على الكلكال . . .
يا ناقتا ما جلت من مجال
يريد الكلكل فمطل.
ومنه قول الآخر :
فأنت من الغوائل حين ترمى . . .
ومن ذم الرجال بمنتزاح
يريد بمنتزح.
قال أبو الفتح : فإذا جاز أن يعترض هذا التمادي بين أثناء الكلمة الواحدة ، جاز التمادي والتأني بين المضاف والمضاف إليه ، إذ هما في الحقيقة إثنان انتهى كلامه.
وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب ، والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوصل مجرى الوقف ، أبدلها هاء في الوصل ، كما أبدلوا لها هاء في الوقف ، وموجود في كلامهم إجراء الوصل مجرى الوقف ، وإجراء الوقف مجرى الوصل.
وأما قوله : لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع ، وجميع ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة.
وإشباع الحركة ليس نحو إبدال التاء هاءً في الوصل ، وإنما هو نظير قولهم : ثلاثة أربعة ، أبدل التاء هاء ، ثم نقل حركة همزة أربعة إليها ، وحذف الهمزة ، فأجرى الوصل مجرى الوقف في الإبدال.
ولأجل الوصل نقل إذ لا يكون هذا النقل إلا في الوصل.
وقرىء شاذاً بثلاثة آلاف بتكسين التاء في الوصل ، أجراه مجرى الوقف.
واختلفوا في هذه التاء الساكنة أهي بدل من الهاء التي يوقف عليها أم تاء التأنيث هي؟ وهي التي يوقف عليها بالتاء كما هي؟ وهي لغة.
وقرأ الجمهور منزلين بالتخفيف مبنياً للمفعول ، وابن عامر بالتشديد مبنياً للمفعول أيضاً ، والهمزة والتضعيف للتعدية فهما سيان.
وقرأ ابن أبي عبلة : منزلين بتشديد الزاي وكسرها مبنياً للفاعل.
وبعض القراء بتخفيفها وكسرها مبنياً للفاعل أيضاً ، والمعنى : ينزلون النصر.
{ إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين } رتب تعالى على مجموع الصبر والتقوى وإتيان العدد من فورهم إمداده تعالى المؤمنين بأكثر من العدد السابق وعلّقه على وجودها ، بحيث لا يتأخر نزول الملائكة عن تحليهم بثلاثة الأوصاف.

ومعنى من فورهم : من سفرهم.
هذا قاله ابن عباس.
أو من وجههم هذا قاله : الحسن ، وقتادة ، والسدي.
قيل : وهي لغة هذيل ، وقيس ، وغيلان ، وكنانة : أو من غصبهم هذا قاله : مجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وأبو صالح مولى أم هانىء أو معناه في نهضتهم هذه قاله : ابن عطية.
أو المعنى من ساعتهم هذه قاله الزمخشري.
ولفظة الفور تدل على السرعة والعجلة.
تقول : افعل هذا على الفور ، لا على التراخي.
ومنه الفور في الحج والوضوء.
وفي إسناد الإمداد إلى لفظة ربكم دون غيره من أسماء الله إشعارٌ بحسن النظر لهم ، واللطف بهم.
وقرأ الصاحبان والأخوان مسوّمين بفتح الواو ، وأبو عمرو وابن كثير وعاصم : بكسرها.
وقيل : من السومة ، وهي العلامة يكون على الشاة وغيرها ، يجعل عليها لون يخالف لونها لتعرف.
وقيل : من السوم وهو ترك البهيمة ترعى.
فعلى الأول روي أن الملائكة كانت بعمائم بيض ، إلا جبريل فبعمامة صفراء كالزبير قاله : ابن إسحاق ، والزجاج.
وقيل : بعمائم صفر كالزبير قاله : عروة وعبد الله ابنا الزبير ، وعباد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير ، والكلبي وزاد : مرخاة على أكتافهم.
قيل : وكانوا على خيل بلق ، وكانت سيماهم قاله : قتادة ، والربيع.
أو خيلهم مجزوزة النواصي والأذناب ، معلمتها بالصوف والعهن.
قاله : مجاهد.
فبفتح الواو ومعلمين ، وبكسرها معلمين أنفسهم أو خيلهم.
ورجح الطبري قراءة الكسر ، بأنه عليه الصلاة والسلام قاله يوم بدر : « سوّموا فإن الملائكة قد سوّمته » وعلى القول الثاني : وهو السوم.
فمعنى مسوِّمين بكسر الواو : وسوّموا خيلهم أي أعطوها من الجري والجولان للقتال ، ومنه سائمة الماشية.
وأما بفتح الواو فيصح فيه هذا المعنى أيضاً ، قاله : المهدوي وابن فورك.
أي سوّمهم الله تعالى ، بمعنى أنه جعلهم يجولون ويجرون للقتال.
وقال أبو زيد : سوّم الرجل خيله أي أرسلها في الغارة.
وحكى بعض البصريين : سوّم الرجل غلامه أرسله وخلى سبيله.
ولهذا قال الأخفش : معنى مسوّميم مرسلين.
وفي الآية دليل على جواز اتخاذ العلامة للقبائل والكتائب لتتميز كل قبيلة وكتيبة عند الحرب.
{ وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به } الظاهر أن الهاء في جعله عائدة على المصدر والمفهوم من يمددكم وهو الإمداد.
وجوّز أن يعود على التسويم ، أو على النصر ، أو على التنزيل ، أو على العدد ، أو على الوعد.
وإلاّ بشرى مستثنى من المفعول له ، أي : ما جعله الله لشيء إلا بشرى لكم.
فهو استثناء فرغ له العامل ، وبشرى مفعول من أجله.
وشروط نصبه موجودة وهو : أنه مصدر ومتحد الفاعل والزمان.
ولتطمئن معطوف على موضع بشرى ، إذ أصله لبشرى.
ولما اختلف الفاعل في ولتطمئن ، أتى باللام إذ فات شرط اتحاد الفاعل ، لأن فاعل بشرى هو الله ، وفاعل تطمئن هو قلوبكم.

وتطمئن منصوب بإضمار أن بعد لام كي ، فهو من عطف الاسم على توهم.
موضع اسم آخر ، وجعل على هذا التقدير متعدية إلى واحد.
وقال الحوفي : إلا بشرى في موضع نصب على البدل من الهاء ، وهي عائدة على الوعد بالمدد.
وقيل : بشرى مفعول ثان لجعله الله.
فعلى هذين القولين تتعلق اللام في لتطمئن بمحذوف ، إذ ليس قبله عطف يعطف عليها.
قالوا : تقديره ولتطمئن قلوبكم به بشركم.
وبشرى : فعلى مصدر كرجعى ، وهو مصدر من بشر الثلاثي المجرد ، والهاء في به تعود على ما عادت عليه في جعله على الخلاف المتقدم.
وقال ابن عطية : اللام في ولتطمئن متعلقة تفعل مضمر يدل عليه جعله.
ومعنى الآية : وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به ، وتطمئن به قلوبكم انتهى.
وكأنه رأى أنه لا يمكن عنده أن يعطف ولتطمئن على بشرى على الموضع ، لأن من شرط العطف على الموضع عند أصحابنا أن يكون ثم محزر للموضع ، ولا محرز هنا ، لأن عامل الجر مفقود.
ومن لم يشترط المحرز فيجوز ذلك على مذهبه ، وإن لا فيكون من باب العطف على التوهم كما ذكرناه أولاً.
وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي : قال بعضهم : الواو زائدة في ولتطمئن.
وقال أيضاً في ذكر الإمداد : مطلوبان ، أحدهما : إدخال السرور في قلوبهم ، وهو المراد بقوله : ألا بشرى.
والثاني : حصول الطمأنينة بالنصر ، فلا تجبنوا ، وهذا هو المقصود الأصلي.
ففرق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين الأمرين ، فعطف الفعل على الإسم.
ولما كان الأقوى حصول الطمأنينة أدخل حرف التعليل انتهى.
وفيه بعض ترتيب وتناقش في قوله : فعطف الفعل على الاسم ، إذ ليس من عطف الفعل على الاسم.
وفي قوله : أدخل حرف التعليل ، وليس ذلك لما ذكر.
{ وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم } حصر كينونة النصر في جهته ، لا أنَّ ذلك يكون من تكثير المقاتلة ، ولا من إمداد الملائكة.
وذكر الإمداد بالملائكة تقوية لرجاء النصر لهم ، وتثبيتاً لقلوبهم.
وذكر وصف العزة وهو الوصف الدال على الغلبة ، ووصف الحكمة وهو الوصف الدال على وضع الأشياء مواضعها من : نصرٍ وخذلان وغير ذلك.
{ ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين } الطرف : من قتل ببدر هم سبعون من رؤساء قريش ، أو من قتل بأحد وهم إثنان وعشرون رجلاً على الصحيح.
وقال السدي : ثمانية عشر ، أو مجموع المقتولين في الوقعتين ثلاثة أقوال.
وكنى عن الجماعة بقوله : طرفاً ، لأن من قتله المسلمون في حرب هم طرف من الكفار ، إذ هم الذين يلون القاتلين ، فهم حاشية منهم.
فكان جميع الكفار رفقة ، وهؤلاء المقتولون طرفاً منها.
قيل : ويحتمل أن يراد بقوله : طرفاً دابراً أي آخراً ، وهو راجع لمعنى الطرف ، لأن آخر الشيء طرف منه { أو يكبتهم } : أي ليخزيهم ويغيظهم ، فيرجعوا غير ظافرين بشيء مما أملوه.

ومتى وقع النصر على الكفار ، فإما بقتل ، وإما بخيبة ، وإما بهما.
وهو كقوله : { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً } وقرأ الجمهور أو تكبتهم بالتاء.
وقرأ لاحق بن حميد : أو يكبدهم بالدال مكان التاء ، والمعنى : يصيب الحزن كبدهم.
وللمفسرين في يكبتهم أقوال : يهزمهم قاله : ابن عباس والزجاج ، أو يخزيهم قاله : قتادة ومقاتل ، أو يصرعهم قاله.
أبو عبيدة واليزيدي ، أو يهلكهم قاله : أبو عبيدة.
أو يلعنهم قاله : السدي.
أو يظفر عليهم قاله : المبرد.
أو يغيظهم قاله : النضر بن شميل ، واختاره ابن قتيبة.
وأما قراءة لاحق فهي من إبدال الدال بالتاء كما قالوا.
هوت الثوب وهرده إذا حرقه ، وسبت رأسه وسبده إذا حلقه ، فكذلك كبت العدو وكبده أي أصاب كبده.
واللام في ليقطع يتعلق قيل : بمحذوف تقديره أمدكم أو نصركم.
وقال الحوفي : يتعلق بقوله : { ولقد نصركم الله } أي نصركم ليقطع.
قال : ويجوز أن يتعلق بقوله : { وما النصر إلا من عند الله }.
ويجوز أن تكون متعلقة بيمددكم.
وقال ابن عطية : وقد يحتمل أن تكون اللام متعلقة بجعله ، وقيل : هو معطوف على قوله.
ولتطمئن ، وحذف حرف العطف منه ، التقدير : { ولتطمئن قلوبكم به } { وليقطع } ، وتكون الجملة من قوله : وما النصر إلا من عند الله اعتراضية بين المعطوف عليه والمعطوف.
والذي يظهر أنْ تتعلق بأقرب مذكور وهو : العامل من في عند الله وهو خبر المبتدأ.
كأنّ التقدير : وما النصر إلا كائن من عند الله ، لا من عند غيره.
لأحد أمرين : إما قطع طرف من الكفار بقتل وأسر ، وإما بخزي وانقلاب بخيبة.
وتكون الألف واللام في النصر ليست للعهد في نصر مخصوص ، بل هي للعموم ، أي : لا يكون نصر أي نصر من الله للمسلمين على الكفار إلا لأحد أمرين.

لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)

{ ليس لك من الأمر شيء } اختلف في سبب النزول وملخصه : أنه لعن ناساً أو شخصاً عين أنه عتبة بن أبي وقاص ، أو أشخاصاً دعا عليهم وعينوا : أبا سفيان ، والحرث بن هشام ، وصفوان بن أمية.
أو قبائل عين منها : لحيان ، ورعل ، وذكوان ، وعصية.
أو هم بسبب الذين انهزموا يوم أحد ، أو استأذن ربه أن يدعو.
ودعا يوم أحد حين شجَّ في وجهه ، وكسرت رباعيته ، ورمي بالحجارة ، حتى صرع لجنبه ، فلحقه ناس من فلاحهم ، ومال إلى أن يستأصلهم الله ويريح منهم ، فنزلت.
فعلى هذه الأسباب يكون معنى الآية : التوقيف على أن جميع الأمور إنما هي لله ، فيدخل فيها هداية هؤلاء وإقرارهم على حالة.
وفي خطابه : دليل على صدور أمر منه أو هم به ، أو استئذان في الدعاء كما تقدّم ذكره ، وأن عواقب الأمور بيد الله.
قال الكوفيون : نسخت هذه الآية القنوت على رعل وذكوان وعصية وغيرهم من المشركين.
وقال السخاوي : ليس هذا شرط الناسخ ، لأنه لم ينسخ قرآناً.
{ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } قيل : هو عطف على ما قبله من الأفعال المنصوبة.
ويكون قوله : ليس لك من الأمر شيء جملة اعتراضية ، والمعنى : أن الله مالك أمرهم ، فإما أنْ يهلكهم ، أو يهزمهم ، أو يتوب عليهم إن أسلموا ، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر.
وقيل : أن مضمرة بعد أو ، بمعنى : إلا أن ، وهي التي في قولهم : لألزمنك أو تقضيني حقي ، والمعنى : أنه ليس له من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم بالإسلام فيسر بهداهم ، أو يعذبهم بقتل وأسر في الدنيا ، أو بنار في الآخرة ، فيستشفى بذلك ويستريح.
وعلى هذا التأويل تكون الجملة المنفية للتأسيس ، لا للتأكيد.
وقيل : أو يتوب معطوف على الأمر.
وقيل : على شيء.
أي : ليس لك من الأمر ، أو من توبتهم ، أو تعذيبهم شيء.
أو ليس لك من الأمر شيء أو توبتهم.
والظاهر من هذه التخاريج الأربعة هو الأول.
وأبعد من ذهب إلى أن قوله : ليس لك من الأمر ، أي أمر الطائفتين اللتين همتا أن تفشلا.
وقال ابن بحر : من الأمر أي ، من هذا النصر ، وإنما هو من الله كما قال : { وما رميت إذ رميت } وقيل : المراد بالأمر أمر القتال.
والظاهر الحمل على العموم ، والأمور كلها لله تعالى.
وقرأ أبي : أو يتوب عليهم أو يعذبهم برفعهما على معنى : أو هو يتوب عليهم ، ثم نبه على العلة المقتضية للتعذيب بقوله : فإنهم ظالمون ، وأتى بأنْ الدالة على التأكيد في نسبة الظلم إليهم.
{ ولله ما في السموات وما في الأرض } لمّا قدم ليس لك من الأمر شيء ، بيَّن أن الأمور إنما هي لمن له الملك ، والملك فجاء بهذه الجملة مؤكدة للجملة السابقة.

وتقدم شرح هذه الجملة.
وما : إشارة إلى جملة العالم وما هيأته ، فلذلك حسنت ما هنا.
{ يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } لما تقدّم قوله : أو يتوب عليهم أو يعذبهم ، أتى بهذه الجملة موضحةً أن تصرفاته تعالى على وفق مشيئته ، وناسب البداءة بالغفران ، والإرداف بالعذاب ما تقدم من قوله : أو يتوب عليهم أو يعذبهم ، ولم يشرط في الغفران هنا التوبة.
إذ يغفر تعالى لمن يشاء من تائب وغير تائب ، ما عدا ما استثناه تعالى من الشرك.
وقال الزمخشري ما نصه عن الحسن رحمه الله : يغفر لمن يشاء بالتوبة ، ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين.
ويعذب من يشاء ، ولا يشاء أن يعذب إلا المستوجبين للعذاب.
وعن عطاء : يغفر لمن يتوب إليه ، ويعذب من لقيه ظالماً وأتباعه قوله : أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ، تفسير بين لمن يشاء ، فإنهم المتوب عليهم أو الظالمون.
ولكن أهل الأهواء والبدع يتصامون ويتعامون عن آيات الله تعالى ، فيخبطون خبط عشواء ، ويطيبون أنفسهم بما يفترون.
عن ابن عباس من قولهم : يهب الذنب الكبير لمن يشاء ، ويعذب من يشاء على الذنب الصغير.
انتهى كلامه.
وهو مذهب المعتزلة.
وذلك أن من مات مصراً على كبيرة لا يغفر الله له.
وما ذكره عن الحسن لا يصح ألبتّة.
ومذهب أهل السنة؛ أنّ الله تعالى يغفر لمن يشاء وإنْ مات مصرًّا على كبيرة غير تائب منها.
{ والله غفور رحيم } في هذه الجملة ترجيح لجهة الإحسان والإنعام { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة } قال ابن عطية : هذا النهي عن أكل الربا اعترض أثناء قصة أحد ، ولا أحفظ شيئاً في ذلك مروياً انتهى.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ومجيئها بين أثناء القصة : أنّه لما نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من غيرهم ، واستطرد لذكر قصة أحد.
وكان الكفار أكثر معاملاتهم بالربا مع أمثالهم ومع المؤمنين ، وهذه المعاملة مؤدية إلى مخالطة الكفار ، نهوا عن هذه المعاملة التي هي الربا قطعاً لمخالطة الكفار ومودّتهم ، واتخاذ إخلاء منهم ، لا سيما والمؤمنون في أول حال الإسلام ذوو إعسار ، والكفار من اليهود وغيرهم ذوو يسار.
وكان أيضاً أكل الحرام له مدخل عظيم في عدم قبول الأعمال الصالحة والأدعية ، كما جاء في الحديث : « إن الله تعالى لا يستجيب لمن مطعمه حرام ومشربه حرام إذا دعا » « وأن آكل الحرام يقول إذا حج : لبيك وسعديك.
فيقول الله له : لا لبيك ولا سعديك ، وحجك مردود عليك » فناسب ذكر هذه الآية هنا.
وقيل : ناسب اعتراض هذه الجملة هنا أنه تعالى وعد المؤمنين بالنصر والإمداد مقروناً بالصبر والتقوى ، فبدأ بالأهم منها وهو : ما كانوا يتعاطونه من أكل الأموال بالباطل ، وأمر بالتقوى ، ثم بالطاعة.
وقيل : لما قال تعالى : { ولله ما في السموات وما في الأرض } وبيّن أنّ ما فيهما من الموجودات ملك له ، ولا يجوز أنْ يتصرّف في شيء منها إلا بإذنه على الوجه الذي شرعه.

وآكلُ الربا متصرّف في ماله بغير الوجه الذي أمر ، نبَّه تعالى على ذلك ، ونهى عما كانوا في الإسلام مستمرّين عليه من حكم الجاهلية ، وقد تقدم الربا في سورة البقرة.
وانتصب أضعافاً ، فانهوا عن الحالة الشنعاء التي يوقعون الربا عليها ، كان الطالب يقول : أتقضي أم تربي ، وربما استغرق بالنزر اليسير مال المدين ، لأنه إذا لم يجد وفاء زاد في الدين ، وزاد في الأصل.
وأشار بقوله : مضاعفة ، إلى أنهم كانوا يكررون التضعيف عاماً بعد عام.
والربا محرم جميع أنواعه ، فهذه الحال لا مفهوم لها ، وليست قيداً في النهي ، إذ ما لا يقع أضعافاً مضاعفة مساوٍ في التحريم لما كان أضعافاً مضاعفة.
وقد تقدم الكلام في نسبة الآكل إلى الربا في البقرة.
وقيل : المضاعفة منصرفة إلى الأموال.
فإن كان الربا في السن يرفعونها ابنة مخاض بابنة لبون ، ثم حقة ، ثم جذعة ، ثم رباع ، هكذا إلى فوق.
وإن كان في النقود فمائة إلى قابل بمائتين ، فإن لم يوفهما فأربعمائة.
والأضعاف : جمع ضعف ، وهو من جموع القلة.
فلذلك أردفه بالمضاعفة.
{ واتقوا الله لعلكم تفلحون } لما نهاهم عن أمر صعب عليهم فراقه وهو الربا ، أمر بتقوى الله إذ هي الحاملة على مخالفة ما تعوده المرء مما نهى الشرع عنه.
ثم ذكر أنّ التقوى سبب لرجاء الفلاح وهو الفوز ، وأمر بها مطلقاً لا مقيداً بفعل الربا ، لأنه لما نهى عن الربا كان المؤمنون أسرع شيء لطواعية الله تعالى ، فلم يأت واتقوا الله في أكل الربا بل أمروا بالتقوى ، لا بالنسبة إلى شيء خاص منعوه من جهة الشريعة.
{ واتقوا النار التي أعدت للكافرين } لما تقدم « واتقوا الله » والذوات لا تتقى ، فإنما المتقي محذوف أوضحه في هذه الآية.
فقال : واتقوا النار.
والألف واللام في النار للجنس ، فيجوز أن تكون النار التي وعد بها آكل الربا أخف من نار الكافر ، أي أعدّ جنسها للكافرين.
ويجوز أنّ تكون للعهد ، فيكون آكل الربا قد توعد بالنار التي يعذب بها الكافر.
وقيل : توعد أكلة الربا بنارالكفرة ، إذ النار سبع طبقات : العليا منها وهي جهنم للعصاة ، والخمس للكفار ، والدرك الأسفل للمنافقين.
فأكلة الربا يعذبون بنار الكفار ، لا بنار العصاة.
وقال ابن عباس : هذا تهديد للمؤمنين لئلا يستحلوا الربا.
وقال الزجاج : والمعنى واتقوا أن تحلوا ما حرم الله فتكفروا.
وقيل : اتقوا العمل الذي ينزع منكم الإيمان وتستوجبون به النار.
وكان أبو حنيفة يقول : هي أخوف آية في القرآن ، حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه باجتناب محارمه.
قال الزمخشري : وقد أمد ذلك أتبعه من تعليق رجاء المؤمن لرحمته بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله ، ومن تأمل هذه الآيات وأمثالها لم يحدث نفسه بالأطماع الفارغة ، والتمني على الله تعالى.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46