كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

{ كذلك } : أي أمر الأمم السابقة عند مجيء الرسل إليهم ، مثل الأمر من الكفار الذين بعثت إليهم ، وهو التكذيب.
{ ساحر أو مجنون } : أو للتفصيل ، أي قال بعض ساحر ، وقال بعض مجنون ، وقال بعض كلاهما ، ألا ترى إلى قوم نوح عليه الصلاة والسلام لم يقولوا عنه إنه ساحر ، بل قالوا به جنة ، فجمعوا في الضمير ودلت أو على التفصيل؟ { أتواصوا به } : أي بذلك القول ، وهو توقيف وتعجيب من توارد نفوس الكفرة على تكذيب الأنبياء ، مع افتراق أزمانهم ، { بل هم قوم طاغون } : أي لم يتواصوا به ، لأنهم لم يكونوا في زمان واحد ، بل جمعتهم علة واحدة ، وهي كونهم طغاة ، فهم مستعلون في الأرض ، مفسدون فيها عاتون.
{ فتول عنهم } : أي أعرض عن الذين كررت عليهم الدعوة ، فلم يجيبوا.
{ فما أنت بملوم } : إذ قد بلغت ونصحت.
{ وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } : تؤثر فيهم وفيمن قدر الله أن يؤمن ، وما دل عليه الظاهر من الموادعة منسوخ بآية السيف.
وعن عليّ ، كرم الله وجهه : لما نزل { فتول عنهم } ، حزن المسلمون وظنوا أنه أمر بالتولي عن الجميع ، وأن الوحي قد انقطع ، نزلت { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } ، فسروا بذلك.
{ إلا ليعبدون } : أي { وما خلقت الإنس والجن } الطائعين ، قاله زيد بن أسلم وسفيان ، ويؤيده رواية ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين » وقال علي وابن عباس : { إلا ليعبدون } : إلا لآمرهم بعبادتي ، وليقروا لي بالعبادة.
فعبر بقوله : { ليعبدون } ، إذ العبادة هي مضمن الأمر ، فعلى هذا الجن والإنس عام.
وقيل : يحتمل أن يكون المعنى : إلا معدين ليعبدون ، وكأن الآية تعديد نعمه ، أي خلقت لهم حواس وعقولاً وأجساماً منقادة ، نحو : العبادة ، كما تقول : هذا مخلوق لكذا ، وإن لم يصدر منه الذي خلق له ، كما تقول : القلم مبري لأن يكتب به ، وهو قد يكتب به وقد لا يكتب به ، وقال الزمخشري : إلا لأجل العبادة ، ولم أرد من جميعهم إلا إياها.
فإن قلت : لو كان مريداً للعبادة منهم ، لكانوا كلهم عباداً.
قلت : إنما أراد منهم أن يعبدوه مختارين للعبادة لا مضطرين إليها ، لأنه خلقهم ممكنين ، فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريداً لها ، ولو أرادها على القسر والإلجاء لوجدت من جميعهم.
انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال.
وقال مجاهد : { إلا ليعبدون } : ليعرفون.
وقال ابن زيد : لأحملهم في العبادة على الشقاوة والسعادة.
وقال الربيع بن أنس : إلا للعبادة ، قال : وهو ظاهر اللفظ.
وقيل : إلا ليذلوا لقضائي.
وقال الكلبي : إلا ليوحدون ، فالمؤمن يوحده في الشدة والرخاء ، والكافر في الشدة.
وقال عكرمة : ليطيعون ، فأثيب العابد ، وأعاقب الجاحد.
وقال مجاهد أيضاً : إلا للأمر والنهي.
{ ما أريد منهم من رزق } : أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم.
{ ما أريد أن يطعمون } : أي أن يطعموا خلقي ، فهو على حذف مضاف ، فالإضافة إلى الضمير تجوز ، قاله ابن عباس.

وقيل : { أن يطعمون } : أن ينفعون ، فذكر جزءاً من المنافع وجعله دالاً على الجميع.
وقال الزمخشري : يريد إن شأني مع عبادي ليس كشأن السادة مع عبيدهم ، لأن ملاك العبيد إنما يملكونهم ليستعينوا في تحصيل معايشهم وأرزاقهم بهم؛ فإما مجهز في تجارة يبغي ربحاً ، أو مرتب في فلاحة ليقتل أرضاً ، أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته ، أو محتطب ، أو محتش ، أو مستق ، أو طابخ ، أو خابز ، أو ما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي تصرف في أسباب المعيشة وأبواب الرزق.
فأما مالك ملاك العبيد فقال لهم : اشتغلوا بما يسعدكم في أنفسكم ، ولا أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي ولا رزقكم ، وأنا غني عنكم وعن مرافقكم ، ومتفضل عليكم برزقكم وبما يصلحكم ويعيشكم من عندي ، فما هو إلا أنا وحدي.
انتهى ، وهو تكثير وخطابة.
وقرأ ابن محيصن : { الرزاق } ، كما قرأ : { وفي السماء رزقكم } : اسم فاعل ، وهي قراءة حميد.
وقرأ الأعمش ، وابن وثاب : { المتين } بالجر ، صفة للقوة على معنى الاقتدار ، قاله الزمخشري ، أو كأنه قال : ذو الأيد ، وأجاز أبو الفتح أن تكون صفة لذو وخفض على الجوار ، كقولهم : هذا جحر ضب خرب.
{ فإن للذين ظلموا } : هم أهل مكة وغيرهم من الكفار الذين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، ذنوباً : أي حظاً ونصيباً ، { مثل ذنوب أصحابهم } : من الأمم السابقة التي كذبت الرسل في الإهلاك والعذاب.
وعن قتادة : سجلاً من عذاب الله مثل سجل أصحابهم.
وقال الجوهري : الذنوب : الدلو الملأى ماء ، ولا يقال لها ذنوب وهي فارغة وجمعها العدد ، وفي الكثير ذنائب.
والذنوب : الفرس الطويل الذنب ، والذنوب : النصيب ، والذنوب : لحم أسفل المتن.
وقال ابن الأعرابي : يقال يوم ذنوب : أي طويل الشر لا ينقضي.
{ فويل للذين كفروا من يومهم } ، قيل : يوم بدر.
وقيل : يوم القيامة { الذي يوعدون } : أي به ، أو يوعدونه.

وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)

هذه السورة مكية.
ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة ، إذ في آخر تلك : { فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم } وقال هنا : { إن عذاب ربك لواقع }.
الطور : الجبل ، والظاهر أنه اسم جنس ، لا جبل معين ، وفي الشأم جبل يسمى الطور ، وهو طور سيناء.
فقال نوف البكالي : إنه الذي أقسم الله به لفضله على الجبال.
قيل : وهو الذي كلم الله عليه موسى ، عليه الصلاة والسلام.
والكتاب المسطور : القرآن ، أو المنتسخ من اللوح المحفوظ ، أو التوراة ، أو هي الإنجيل والزبور ، أو الكتاب الذي فيه أعمال الخلق ، أو الصحف التي تعطى يوم القيامة بالإيمان والشمائل ، أقوال آخرها للفراء ، ولا ينبغي أن يحمل شيء منها على التعيين ، إنما تورد على الاحتمال.
وقرأ أبو السمال : في رِق ، بكسر الراء ، { منشور } : أي مبسوط.
وقيل : مفتوح لا ختم عليه.
وقيل : منشور لائح.
وعن ابن عباس : منشور ما بين المشرق والمغرب.
{ والبيت المعمور } ، قال علي وابن عباس وعكرمة : هو بيت في السماء مسامت الكعبة يقال له الضراح ، والضريح أيضاً ، وهو الذي ذكر في حديث الإسراء ، قال جبريل : هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم.
وقال مجاهد وقتادة وابن زيد : في كل سماء بيت معمور ، وفي كل أرض كذلك.
وسأل ابن الكوا علياً ، رضي الله تعالى عنه فقال : بيت فوق سبع سموات تحت العرش يقال له الضراح.
وقال الحسن : البيت المعمور : الكعبة ، يعمره الله كل سنة بستمائة ألف ، فإن عجز من الناس أتمه الله بالملائكة.
{ والسقف المرفوع } : السماء ، قال ابن عباس : هو العرش ، وهو سقف الجنة.
{ والبحر المسجور } ، قال مجاهد وشمر بن عطية والضحاك ومحمد بن كعب والأخفش : هو البحر الموقد ناراً.
وروي أن البحر هو جهنم.
وقال قتادة : البحر المسجور : المملوء ، وهذا معروف من اللغة ، ورجحه الطبري بوجود ماء البحر كذلك ، ولا ينافي ما قاله مجاهد ، لأن سجرت التنور معناه : ملأته بما يحترق.
وقال ابن عباس : المسجور : الذي ذهب ماؤه.
وروى ذو الرمة الشاعر ، عن ابن عباس قال : خرجت أمة لتستقي ، فقالت : إن الحوض مسجور : أي فارغ ، وليس لذي الرمة حديث إلا هذا ، فيكون من الأضداد.
ويروى أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة.
وقال ابن عباس أيضاً : المسجور : المحبوس ، ومنه ساجور الكلب : وهي القلادة من عود أو حديد تمسكه ، ولولا أن البحر يمسك ، لفاض على الأرض.
وقال الربيع : المسجور : المختلط العذب بالملح.
وقيل : المفجور ، ويدل عليه : { وإذا البحار فجرت } والجمهور : على أن البحر المقسم به هو بحر الدنيا ، ويؤيده : { وإذا البحار سجرت } وعن علي وابن عمر : أنه في السماء تحت العرش فيه ماء غليظ يقال له بحر الحياة ، يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحاً ، فينبتون في قبورهم.

وقال قتيبة بن سعيد : هو جهنم ، وسماها بحراً لسعتها وتموجها.
كما جاء في الفرس : وإن وجدناه لبحراً.
قيل : ويحتمل أن تكون الجملة في القسم بالطور والبحر والبيت ، لكونها أماكن خلوة مع الله تعالى ، خاطب منها ربهم رسله.
فالطور ، قال فيه موسى : { أرني أنظر أليك } والبيت المعمور لمحمد صلى الله عليه وسلم ، والبحر المسجور ليونس ، قال : { لا إله إلا أنت سبحانك } فشرفت هذه الأماكن بهذه الأسباب.
والقسم بكتاب مسطور ، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان لهم مع الله في هذه الأماكن كلام.
واقترانه بالطور دل على ذلك.
والقسم بالسقف المرفوع لبيان رفعة البيت المعمور. انتهى.
ونكر وكتاب ، لأنه شامل لكل كتاب أنزله الله شمول البدل ، ويحتمل أن يكون شمول العموم ، كقوله : { علمت نفس ما أحضرت } وكونه في رق ، يدل على ثبوته ، وأنه لا يتخطى الرؤوس.
ووصفه بمنشور يدل على وضوحه ، فليس كالكتاب المطوي الذي لا يعلم ما انطوى عليه ، والمنشور يعلم ما فيه ، ولا يمنع من مطالعة ما تضمنه؛ والواو الأولى واو القسم ، وما بعدها للعطف.
والجملة المقسم عليها هي قوله : { إن عذاب ربك لواقع }.
وفي إضافة العذاب لقوله : { ربك } لطيفة ، إذ هو المالك والناظر في مصلحة العبد.
فبالإضافة إلى الرب ، وإضافته لكاف الخطاب أمان له صلى الله عليه وسلم ؛ وإن العذاب لواقع هو بمن كذابه ، ولواقع على الشدة ، وهو أدل عليها من لكائن.
ألا ترى إلى قوله : { إذا وقعت الواقعة } وقوله : { وهو واقع بهم } كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على من حل به؟ وعن جبير بن مطعم : قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر ، فوافيته يقرأ في صلاة المغرب : { والطور } إلى { إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع } ، فكأنما صدع قلبي ، فأسلمت خوفاً من نزول العذاب ، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب.
وقرأ زيد بن علي : واقع بغير لام.
قال قتادة : يريد عذاب الآخرة للكفار ، أي لواقع بالكفار.
ومن غريب ما يحكى أن شخصاً رأى في النوم في كفه مكتوباً خمس واوات ، فعبر له بخير ، فسأل ابن سيرين ، فقال : تهيأ لما لا يسر ، فقال له : من أين أخذت هذا؟ فقال : من قوله تعالى : { والطور } إلى { إن عذاب ربك لواقع } ، فما مضى يومان أو ثلاثة حتى أحيط بذلك الشخص.
وانتصب يوم بدافع ، قاله الحوفي ، وقال مكي : لا يعمل فيه واقع ، ولم يذكر دليل المنع.
وقيل : هو منصوب بقوله : { لواقع } ، وينبغي أن يكون { ماله من دافع } على هذا جملة اعتراض بين العامل والمعمول.
قال ابن عباس : { تمور } : تضطرب.
وقال أيضاً : تشقق.
وقال الضحاك : يموج بعضها في بعض.
وقال مجاهد : تدور.
{ وتسير الجبال سيراً } ، هذا في أول الأمر ، ثم تنسف حتى تصير آخراً

{ كالعهن المنفوش } { فويل } : عطف على جملة تتضمن ربط المعنى وتأكيده ، والخوض : التخبط في الباطل ، وغلب استعماله في الاندفاع في الباطل.
{ يوم يدعون } ، وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيدي الكفار إلى أعناقهم ، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ، ويدفعونهم إلى النار دفعاً على وجوههم وزجاً في أقفيتهم.
وقرأ علي وأبو رجاء والسلمي وزيد بن علي : يدعون ، بسكون الدال وفتح العين : من الدعاء ، أي يقال لهم : هلموا إلى النار ، وادخلوها { دعاً } : مدعوعين ، يقال لهم : { هذه النار }.
لما قيل لهم ذلك ، وقفوا بعد ذلك على الجهتين اللتين يمكن دخول الشك في أنها النار ، وهي : إما أن يكون سحر يلبس ذات المرئي ، وإما أن يكون في نظر الناظر اختلال ، فأمرهم بصليها على جهة التقريع.
ثم قيل لهم على قطع رجائهم : { فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم } : عذابكم حتم ، فسواء صبركم وجزعكم لا بد من جزاء أعمالكم ، قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري : { أفسحر هذا } ، يعني كنتم تقولون للوحي : هذا سحر.
{ أفسحر هذا } ، يريد : أهذا المصداق أيضاً سحر؟ ودخلت الفاء لهذا المعنى.
{ أم أنتم لا تبصرون } : كما كنتم لا تبصرون في الدنيا ، يعني : أم أنتم عمي عن المخبر عنه ، كما كنتم عمياً عن الخبر؟ وهذا تقريع وتهكم.
فإن قلت : لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله : { إنما تجزون ما كنتم تعملون } ؟ قلت : لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعه في العاقبة ، وبأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير.
فأما الصبر على العذاب ، الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة ، فلا مزية له على الجزع. انتهى.
وسحر : خبر مقدم ، وهذا : مبتدأ ، وسواء : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي الصبر والجزع.
وقال أبو البقاء : خبر مبتدأ محذوف ، أي صبركم وتركه سواء.
ولما ذكر حال الكفار ، ذكر حال المؤمنين ، ليقع الترهيب والترغيب ، وهو إخبار عن ما يؤول إليه حال المؤمنين ، أخبروا بذلك.
ويجوز أن يكون من جملة القول للكفار ، إذ ذلك زيادة في غمهم وتنكيد لهم ، والأول أظهر.
وقرأ الجمهور : فكهين ، نصباً على الحال ، والخبر في { جنات نعيم }.
وقرأ خالد : بالرفع على أنه خبر إن ، وفي جنات متعلق به.
ومن أجاز تعداد الخبر ، أجاز أن يكونا خبرين.
{ ووقاهم } معطوف على { في جنات } ، إذ المعنى : استقروا في جنات ، أو على { آتاهم } ، وما مصدرية ، أي فكهين بإيتائهم ربهم النعيم ووقايتهم عذاب الجحيم.
وجوز أن تكون الواو في ووقاهم واو الحال ، ومن شرط قد في الماضي ، قال : هي هنا مضمرة ، أي وقد وقاهم.
وقرأ أبو حيوة : ووقاهم ، بتشديد القاف.
{ كلوا واشربوا } على إضمار القول : أي يقال لهم : { هنيئاً }.
قال الزمخشري : أكلاً وشرباً هنيئاً ، أو طعاماً وشراباً هنيئاً ، وهو الذي لا تنغيص فيه.
ويجوز أن يكون مثله في قوله :

هنيئاً مريئاً غير داء مخامر . . .
لعزة من أعراضنا ما استحلت
أعني : صفة استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل ، مرتفعاً به ما استحلت ، كما يرتفع بالفعل ، كأنه قيل : هنا عزة المستحل من أعراضنا.
وكذلك معنى هنيئاً ههنا : هنأكم الأكل والشرب ، أو هنأكم ما كنتم تعملون ، أي جزاء ما كنتم تعملون ، والباء مزيدة كما في : { كفى بالله } ، والباء متعلقة بكلوا واشربوا ، إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب. انتهى.
وتقدم لنا الكلام مشبعاً على { هنيئاً } في سورة النساء.
وأما تجويزه زيادة الباء ، فليست زيادتها مقيسة في الفاعل ، إلا في فاعل كفى على خلاف فيها؛ فتجويز زيادتها في الفاعل هنا لا يسوغ.
وأما قوله : إن الباء تتعلق بكلوا واشربوا ، فلا يصح إلا على الأعمال ، فهي تتعلق بأحدهما.
وانتصب { متكئين } على الحال.
قال أبو البقاء : من الضمير في { كلوا } ، أو من الضمير في { ووقاهم } ، أو من الضمير في { آتاهم } ، أو من الضمير في { فاكهين } ، أو من الضمير في الظرف. انتهى.
والظاهر أنه حال من الظرف ، وهو قوله : { في جنات }.
وقرأ أبو السمال : على سرر ، بفتح الراء ، وهي لغة لكلب في المضعف ، فراراً من توالي ضمتين مع التضعيف.
وقرأ عكرمة : { بحور عين } على الإضافة.
والظاهر أن قوله : { والذين آمنوا } مبتدأ ، وخبره { ألحقنا }.
وأجاز أبو البقاء أن يكون { والذين } في موضع نصب على تقدير : وأكرمنا الذين آمنوا.
ومعنى الآية ، قال الجمهور وابن عباس وابن جبير وغيرهما : أن المؤمنين الذين اتبعتهم ذريتهم في الإيمان يكونون في مراتب آبائهم ، وإن لم يكونوا في التقوى والأعمال مثلهم كرامة لآبائهم.
فبإيمان متعلق بقوله : { وأتبعناهم } وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته وإن كان لم يبلغها بعمله ليقر بها عينه » ثم قرأ الآية.
وقال ابن عباس والضحاك : إن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار ، وإن لم يبلغوا الإيمان بأحكام الآباء المؤمنين. انتهى.
فيكون بإيمان متعلقاً بألحقنا ، أي ألحقنا بسبب الإيمان الآباء بهم ذرياتهم ، وهم الصغار الذين ماتوا ولم يبلغوا التكليف ، فهم في الجنة مع آبائهم ، وإذا كان أبناء الكفار ، الذين لم يبلغوا حدّ التكليف في الجنة ، كما ثبت في صحيح البخاري ، فأحرى أولاد المؤمنين.
وقال الحسن : الآية في الكبار من الذرية.
وقال منذر بن سعيد هي في الصغار لا في الكبار.
وعن ابن عباس أيضاً : الذين آمنوا : المهاجرون والأنصار ، والذرية : التابعون.
وعنه أيضاً : إن كان الآباء أرفع درجة ، رفع الله الأبناء إليهم ، فالآباء داخلون في اسم الذرية.
وقال النخعي : المعنى : أعطيناهم أجورهم من غير نقص ، وجعلنا ذريتهم كذلك.
وقال الزمخشري : { والذين آمنوا } ، معطوف على حور عين.
أي قرناهم بالحور العين؛ وبالذين آمنوا : أي بالرفقاء والجلساء منهم ، كقوله تعالى :

{ إخواناً على سرر متقابلين } فيتمتعون تارة بملاعبة الحور ، وتارة بمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وأتبعناهم ذرياتهم.
ثم ذكر حديث ابن عباس ، ثم قال : فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم ، وبمزاوجة الحور العين ، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وباجتماع أولادهم بهم ونسلهم.
ثم قال : بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم : أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل ، وهو إيمان الآباء ، ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم ، وإن كانوا لا يستأهلونها ، تفضلاً عليهم وعلى آبائهم ، لنتم سرورهم ونكمل نعيمهم.
فإن قلت : ما معنى تنكير الإيمان؟ قلت : معناه الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة.
ويجوز أن يراد إيمان الذرية الداني المحل ، كأنه قال : بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم. انتهى.
ولا يتخيل أحد أن { والذين } معطوف على { بحور عين } غير هذا الرجل ، وهو تخيل أعجميّ مخالف لفهم العربي القح ابن عباس وغيره.
والأحسن من هذه الأقوال قول ابن عباس ، ويعضده الحديث الذي رواه ، لأن الآيات كلها في صفة إحسان الله تعالى إلى هل الجنة.
وذكر من جملة إحسانه أنه يرعى المحسن في المسيء.
ولفظة { ألحقنا } تقتضي أن للملحق بعض التقصير في الأعمال.
وقرأ أبو عمرو : وأتبعناهم؛ وباقي السبعة : واتبعتهم؛ وأبو عمرو : وذرياتهم جمعاً نصباً؛ وابن عامر : جمعاً رفعاً؛ وباقي السبعة : مفرداً؛ وابن جبير : وأتبعناهم ذريتهم ، بالمدّ والهمز.
وقرأ الجمهور : { ألتناهم } ، بفتح اللام ، من ألات؛ والحسن وابن كثير : بكسرها؛ وابن هرمز : آلتناهم ، بالمد من آلت ، على وزن أفعل؛ وابن مسعود وأبي : لتناهم من لات ، وهي قراءة طلحة والأعمش؛ ورويت عن شبل وابن كثير ، وعن طلحة والأعمش أيضاً : لتناهم بفتح اللام.
قال سهل : لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال ، وأنكر أيضاً آلتناهم بالمد ، وقال : لا يروى عن أحد ، ولا يدل عليها تفسير ولا عربية ، وليس كما ذكر ، بل قد نقل أهل اللغة آلت بالمد ، كما قرأ ابن هرمز.
وقرىء : وما ولتناهم ، ذكره ابن هارون.
قال ابن خالويه : فيكون هنا الحرف من لات يليت ، وولت يلت ، وألت يألت ، وألات يليت ، ويؤلت ، وكلها بمعنى نقص.
ويقال : ألت بمعنى غلظ.
وقام رجل إلى عمر رضي الله عنه فوعظه ، فقال رجل : لا تألت أمير المؤمنين ، أي لا تغلظ عليه.
والظاهر أن الضمير في ألتناهم عائد على المؤمنين.
والمعنى : أنه تعالى يلحق المقصر بالمحسن ، ولا ينقص المحسن من أجر شيئاً ، وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير والجمهور.
وقال أبي زيد : الضمير عائد على الأبناء.
{ من عملهم } : أي الحسن والقبيح ، ويحسن هذا الاحتمال قوله : { كل امرىء بما كسب رهين } : أي مرتهن وفيه ، { وأمددناهم } : أي يسرنا لهم شيئاً فشيئاً حتى يكر ولا ينقطع.
{ يتنازعون فيها } أي يتعاطون ، قال الأخطل :
نازعته طيب الراح الشمول وقد . . .
صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
أو يتنازعون : يتجاذبون تجاذب ملاعبة ، إذ أهل الدنيا لهم في ذلك لذة ، وكذلك في الجنة.

وقرأ الجمهور : { لا لغو فيها ولا تأثيم } ، برفعهما؛ وابن كثير ، وأبو عمرو : بفتحهما ، واللغو : السقط من الكلام ، كما يجري بين شراب الخمر في الدنيا.
والتأثيم : الإثم الذي يلحق شارب الخمر في الدنيا.
{ غلمان لهم } : أي مماليك.
{ مكنون } : أي في الصدف ، لم تنله الأيدي ، قاله ابن جبير ، وهو إذ ذاك رطب ، فهو أحسن وأصفى.
ويجوز أن يراد بمكنون : مخزون ، لأنه لا يخزن إلا الغالي الثمن.
والظاهر أن التساؤل هو في الجنة ، إذ هذه كلها معاطيف بعضها على بعض ، أي يتساءلون عن أحوالهم وما نال كل واحد منهم؛ ويدل عليه { فمن الله علينا } : أي بهذا النعيم الذي نحن فيه.
وقال ابن عباس : تساؤلهم إذا بعثوا في النفخة الثانية ، حكاه الطبري عنه.
{ مشفقين } : رقيقي القلوب ، خاشعين لله.
وقرأ أبو حيوة : ووقانا بتشديد القاف ، والسموم هنا النار؛ وقال الحسن : اسم من أسماء جهنم.
{ من قبل } : أي من قبل لقاء الله والمصير إليه.
{ ندعوه } نعبده ونسأله الوقاية من عذابه ، { إنه هو البر } : المحسن ، { الرجيم } : الكثير الرحمة ، إذا عبد أثاب ، وإذا سئل أجاب.
أو { ندعوه } من الدعاء.
وقرأ الحسن وأبو جعفر ونافع والكسائي : أنه بفتح الهمزة ، أي لأنه ، وباقي السبعة : إنه بكسر الهمزة ، وهي قراءة الأعرج وجماعة ، وفيها معنى التعليل.

فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)

لما تقدم إقسام الله تعالى على وقوع العذاب ، وذكر أشياء من أحوال المعذبين والناجين ، أمره بالتذكير ، إنذاراً للكافر ، وتبشيراً للمؤمن ، ودعاء إلى الله تعالى بنشر رسالته ، ثم نفى عنه ما كان الكفار ينسبونه إليه من الكهانة والجنون ، إذا كانا طريقين إلى الإخبار ببعض المغيبات ، وكان للجن بهما ملابسة للإنس.
وممن كان ينسبه إلى الكهانة شيبة بن ربيعة ، وممن كان ينسبه إلى الجنون عقبة بن أبي معيط.
وقال الزمخشري : { فذكر } فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم ، ولا يثبطنك قولهم كاهن أو مجنون ، ولا تبال به ، فإنه قول باطل متناقض.
فإن الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر ، والمجنون مغطى على عقله؛ وما أنت ، بحمد الله تعالى وإنعامه عليك بصدق النبوة ورصافة العقل ، أحد هذين. انتهى.
وقال الحوفي : { بنعمة ربك } متعلق بما دل عليه الكلام ، وهو اعتراض بين اسم ما وخبرها ، والتقدير : ما أنت في حال إذكارك بنعمة ربك بكاهن.
قال أبو البقاء : الباء في موضع الحال ، والعامل في بكاهن أو مجنون ، والتقدير : ما أنت كاهناً ولا مجنوناً ملتبساً بنعمة ربك. انتهى.
وتكون حالاً لازمة لا منتقلة ، لأنه عليه الصلاة والسلام ما زال ملتبساً بنعمة ربه.
وقيل : { بنعمة ربك } مقسم بها ، كأنه قيل : ونعمة ربك ما أنت كاهن ولا مجنون ، فتوسط المقسم به بين الاسم والخبر ، كما تقول : ما زيد والله بقائم.
ولما نفى عنه الكهانة والجنون اللذين كان بعض الكفار ينسبونهما إليه ، ذكر نوعاً آخر مما كانوا يقولونه.
روي أن قريشاً اجتمعت في دار الندوة ، وكثرت آراؤهم فيه صلى الله عليه وسلم ، حتى قال قائل منهم ، وهم بنو عبد الدار ، قاله الضحاك : تربصوا به ريب المنون ، فإنه شاعر سيهلك ، كما هلك زهير والنابغة والأعشى ، فافترقوا على هذه المقالة ، فنزلت الآية في ذلك.
وقول من قال ذلك هو من نقص الفطرة بحيث لا يدرك الشعر ، وهو الكلام الموزون على طريقة معروفة من النثر الذي ليس هو على ذلك المضمار ، ولا شك أن بعضهم كان يدرك ذلك ، إذ كان فيهم شعراء ، ولكنهم تمالؤوا مع أولئك الناقصي الفطرة على قولهم : هو شاعر ، حجداً الآيات الله بعد استيقانها.
وقرأ زيد بن علي : يتربص بالياء مبنياً للمفعول به ، { ريب } : مرفوع ، وريب المنون : حوادث الدهر ، فإنه لا يدوم على حال ، قال الشاعر :
تربص بها ريب المنون لعلها . . .
تطلق يوماً أو يموت حليلها
وقال الهندي :
أمن المنون وريبها تتوجع . . .
والدهر ليس بمعتب من يجزع
{ قل تربصوا } : هو أمر تهديد من المتربصين هلاككم ، كما تتربصون هلاكي.
{ أم تأمرهم أحلامهم } : عقولهم بهذا ، أي بقولهم كاهن وشاعر ومجنون ، وهو قول متناقض ، وكانت قريش تدعى أهل الأحلام والنهي.

وقيل لعمرو بن العاص : ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله تعالى بالعقل؟ فقال : تلك عقول كادها الله ، أي لم يصحبها التوفيق.
{ أم تأمرهم } ، قيل : أم بمعنى الهمزة ، أي أتأمرهم؟ وقدرها مجاهد ببل ، والصحيح أنها تتقدر ببل والهمزة.
{ أم هم قوم طاغون } : أي مجاوزون الحدّ في العناد مع ظهور الحق.
وقرأ مجاهد : بل هم ، مكان : { أم هم } ، وكون الأحلام آمرة مجازاً لما أدت إلى ذلك ، جعلت آمرة كقوله : { أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا } وحكى الثعلبي عن الخليل أنه قال : كل ما في سورة والطور من أم فاستفهام وليس بعطف.
تقوله : اختلقه من قبل نفسه ، كما قال : { ولو تقول علينا بعض الأقاويل } وقال ابن عطية : تقوله معناه : قال عن الغير أنه قاله ، فهو عبارة عن كذب مخصوص. انتهى.
{ بل لا يؤمنون } : أي لكفرهم وعنادهم ، ثم عجزهم بقوله تعالى : { فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } : أي مماثل للقرآن في نظمه ووصفه من البلاغة ، وصحة المعاني والأخبار بقصص الأمم السالفة والمغيبات ، والحكم إن كانوا صادقين في أنه تقوله ، فليقولوا هم مثله ، إذ هو واحد منهم ، فإن كانوا صادقين فليكونوا مثله في التقوّل.
فقرأ الجحدري وأبو السمّال : { بحديث مثله } ، على الإضافة : أي بحديث رجل مثل الرسول في كونه أمياً لم يصحب أهل العلم ولا رحل عن بلده ، أو مثله في كونه واحداً منهم ، فلا يجوز أن يكون مثله في العرب فصاحة ، فليأت بمثل ما أتى به ، ولن يقدر على ذلك أبداً.
{ أم خلقوا من غير شيء } : أي من غير شيء حي كالجماد ، فهم لا يؤمرون ولا ينهون ، كما هي الجمادات عليه ، قاله الطبري.
وقيل : { من غير شيء } : أي من غير علة ولا لغاية عقاب وثواب ، فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرعون ، وهذا كما تقول : فعلت كذا وكذا من غير علة : أي لغير علة ، فمن للسبب ، وفي القول الأول لابتداء الغاية.
وقال الزمخشري : { أم خلقوا } : أم أحدثوا؟ وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم؛ { من غير شيء } : من غير مقدر ، أم هم الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق؟ { بل لا يوقنون } : أي إذا سئلوا : من خلقكم وخلق السموات والأرض؟ قالوا : الله ، وهم شاكون فيما يقولون لا يوقنون.
أم خلقوا من غير رب ولا خالق؟ أي أم أحدثوا وبرزوا للوجود من غير إله يبرزهم وينشئهم؟ { أم هم الخالقون } لأنفسهم ، فلا يعبدون الله ، ولا يأتمرون بأوامره ، ولا ينتهون عن مناهيه.
والقسمان باطلان ، وهم يعترفون بذلك ، فدل على بطلانهم.
وقال ابن عطية : ثم وقفهم على جهة التوبيخ على أنفسهم ، أهم الذين خلقوا الأشياء فهم لذلك يتكبرون؟ ثم خصص من تلك الأشياء السموات والأرض لعظمها وشرفها في المخلوقات ، ثم حكم عليهم بأنهم لا يوقنون ولا ينظرون نظراً يؤديهم إلى اليقين.

{ أم عندهم خزائن ربك } ، قال الزمخشري : خزائن الرزق ، حتى يرزقوا النبوة من شاءوا ، أو : أعندهم خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختياره حكمة ومصلحة؟ { أم هم المسيطرون } : الأرباب الغالبون حتى يدبرون أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم.
وقال ابن عطية : أم عندهم الاستغناء عن الله تعالى في جميع الأمور ، لأن المال والصحة والقوة وغير ذلك من الأشياء كلها من خزائن الله تعالى.
وقال الزهراوي : وقيل يريد بالخزائن : العلم ، وهذا قول حسن إذا تؤمل وبسط.
وقال الرماني : خزائنه تعالى : مقدوراته. انتهى.
والمسيطر ، قال ابن عباس : المسلط القاهر.
وقرأ الجمهور : المصيطرون بالصاد؛ وهشام وقنبل وحفص : بخلاف عنه بالسين ، وهو الأصل؛ ومن أبدلها صاداً ، فلأجل حرف الاستعلاء وهو الطاء ، وأشم خلف عن حمزة ، وخلاد عنه بخلاف عنه الزاي.
{ أم لهم سلم } منصوب إلى السماء ، { يستمعون فيه } : أي عليه أو منه ، إذ حروف الجر قد يسد بعضها مسد بعض ، وقدره الزمخشري : صاعدين فيه ، ومفعول يستمعون محذوف تقديره : الخبر بصحة ما يدعونه ، وقدره الزمخشري : ما يوحى إلى الملائكة من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون.
{ بسلطان مبين } : أي بحجة واضحة بصدق استماعهم مستمعهم ، { أم تسألهم أجراً } على الإيمان بالله وتوحيده واتباع شرعه ، { فهم } من ذلك المغرم الثقيل اللام { مثقلون } ، فاقتضى زهدهم في اتباعك.
{ أم عندهم الغيب } : أي اللوح المحفوظ ، { فهم يكتبون } : أي يثبتون ذلك للناس شرع ، وذلك عبادة الأوثان وتسييب السوائب وغير ذلك من سيرهم.
وقيل : المعنى فهم يعلمون متى يموت محمد صلى الله عليه وسلم الذي يتربصون به ، ويكتبون بمعنى : يحكمون.
وقال ابن عباس : يعني أم عندهم اللوح المحفوظ ، فهم يكتبون ما فيه ويخبرون.
{ أم يريدون كيداً } : أي بك وبشرعك ، وهو كيدهم به في دار الندوة ، { فالذين كفروا } : أي فهم ، وأبرز الظاهر تنبيهاً على العلة ، أو الذين كفروا عام فيندرجون فيه ، { هم المكيدون } : أي الذين يعود عليهم وبال كيدهم ، ويحيق بهم مكرهم ، وذلك أنهم قتلوا يوم بدر ، وسمى غلبتهم كيداً ، إذ كانت عقوبة الكيد.
{ أم لهم إله غير الله } يعصمهم ويدفع عنهم في صدور إهلاكهم ، ثم نزه تعالى نفسه ، { عما يشركون } به من الأصنام والأوثان.
{ وإن يروا كسفاً من السماء } : كانت قريش قد اقترحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما اقترحت من قولهم : أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً ، فأخبر تعالى أنهم لو رأوا ذلك عياناً ، حسب اقتراحهم ، لبلغ بهم عتوهم وجهلهم أن يغالطوا أنفسهم فيما عاينوه ، وقالوا : هو سحاب مركوم ، تراكم بعضه على بعض ممطرنا ، وليس بكسف ساقط للعذاب.
{ فذرهم } : أمر موادعة منسوخ بآية السيف.
وقرأ الجمهور : { حتى يلاقوا } ؛ وأبو حيوة : حتى يلقوا ، مضارع لقي ، { يومهم } : أي يوم موتهم واحداً واحداً ، والصعق : العذاب ، أو يوم بدر ، لأنهم عذبوا فيه ، أو يوم القيامة ، أقوال ، ثالثها قول الجمهور ، لأن صعقته تعم جميع الخلائق.

وقرأ الجمهور : يصعقون ، بفتح الياء.
وقرأ عاصم وابن عامر وزيد بن عليّ وأهل مكة : في قول شبل بن عبادة ، وفتحها أهل مكة ، كالجمهور في قول إسماعيل.
وقرأ السلمي : بضم الياء وكسر العين ، من أصعق رباعياً.
{ وإن للذين ظلموا } : أي لهؤلاء الظلمة ، { عذاباً دون ذلك } : أي دون يوم القيامة وقبله ، وهو يوم بدر والفتح ، قاله ابن عباس وغيره.
وقال البراء بن عازب وابن عباس أيضاً : هو عذاب القبر.
وقال الحسن وابن زيد : مصائبهم في الدنيا.
وقال مجاهد : هو الجوع والقحط ، سبع سنين.
{ فإنك بأعيننا } : عبارة عن الحفظ والكلاءة ، وجمع لأنه أضيف إلى ضمير الجماعة ، وحين كان الضمير مفرداً ، أفرد العين ، قال تعالى : { ولتصنع على عيني } وقرأ أبو السمال : بأعيننا ، بنون واحدة مشدّدة.
{ وسبح بحمد ربك } ، قال أبو الأحوص عوف بن مالك : هو التسبيح المعروف ، وهو قول سبحان الله عند كل قيام.
وقال عطاء : حين تقوم من كل مجلس ، وهو قول ابن جبير ومجاهد.
وقال ابن عباس : حين تقوم من منامك.
وقيل : هو صلاة التطوع.
وقيل : الفريضة.
وقال الضحاك : حين تقوم إلى الصلاة تقول : سبحانك اللهم وبحمدك ، تبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك.
وقال زيد بن أسلم : حين تقوم من القائلة والتسبيح ، إذ ذاك هو صلاة الظهر.
وقال ابن السائب : اذكر الله بلسانك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة.
{ ومن الليل فسبحه } : قبل صلاة المغرب والعشاء.
{ وأدبار النجوم } : صلاة الصبح.
وعن عمرو وعليّ وأبي هريرة والحسن : إنها النوافل ، { وأدبار النجوم } : ركعتا الفجر.
وقرأ سالم بن أبي الجعد والمنهال بن عمرو ويعقوب : وأدبار ، بفتح الهمزة ، بمعنى : وأعقاب النجوم.

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)

{ والنجم } : هم الصحابة.
وقيل : العلماء مفرد أريد به الجمع ، وهو في اللغة خرق الهوى ومقصده السفل ، إذ مصيره إليه ، وإن لم يقصد إليه.
وقال الشاعر :
هوى الدلو اسلمها الرشا . . .
ومنه : هوى العقاب.
{ صاحبكم } : هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والخطاب لقريش : أي هو مهتد راشد ، وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغي.
{ وما ينطق } : أي الرسول عليه الصلاة والسلام ، { عن الهوى } : أي عن هوى نفسه ورأيه.
{ إن هو إلا وحى } من عند الله ، { يوحى } إليه.
وقيل : { وما ينطق } : أي القرآن ، عن هوى وشهوة ، كقوله : { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } { إن هو } : أي الذي ينطق به.
أو { إن هو } : أي القرآن.
{ علمه } : الضمير عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فالمفعول الثاني محذوف ، أي علمه الوحي.
أو على القرآن ، فالمفعول الأول محذوف ، أي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم.
{ شديد القوى } : هو جبريل ، وهو مناسب للأوصاف التي بعده ، وقاله ابن عباس وقتادة والربيع.
وقال الحسن : { شديد القوى } : هو الله تعالى ، وهو بعيد.
{ ذو مرة } : ذو قوة ، ومنه لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوى.
وقيل : ذو هيئة حسنة.
وقيل : هو جسم طويل حسن.
ولا يناسب هذان القولان إلا إذا كان شديد القوى هو جبريل عليه السلام.
{ فاستوى } : الضمير لله في قوله الحسن ، وكذا { وهو بالأفق الأعلى } لله تعالى ، على معنى العظمة والقدرة والسلطان.
وعلى قول الجمهور : { فاستوى } : أي جبريل في الجو ، { وهو بالأفق الأعلى } ، إن رآه الرسول عليه الصلاة والسلام بحراء قد سد الأفق له ستمائة جناح ، وحينئذ دنا من محمد حتى كان قاب قوسين ، وكذلك هو المرئي في النزلة الأخرى بستمائة جناح عند السدرة ، قاله الربيع والزجاج.
وقال الطبري : والفراء : المعنى فاستوى جبريل؛ وقوله : { وهو } ، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا التأويل العطف على الضمير المرفوع من غير فصل ، وهو مذهب الكوفيين.
وقد يقال : الضمير في استوى للرسول ، وهو لجبريل ، والأعلى لعمه الرأس وما جرى معه.
وقال الحسن وقتادة : هو أفق مشرق الشمس.
وقال الزمخشري : { فاستوى } : فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي ، وكان ينزل في صورة دحية ، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها ، فاستوى له بالأفق الأعلى ، وهو أفق الشمس ، فملأ الأفق.
وقيل : ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد صلى الله عليه وسلم ، مرة في الأرض ، ومرة في السماء.
{ ثم دنا } من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { فتدلى } : فتعلق عليه في الهوى.
وكان مقدار مسافة قربه منه مثل { قاب قوسين } ، فحذفت هذه المضافات ، كما قال أبو علي في قوله :

وقد جعلتني من خزيمة أصبعا . . .
أي : ذا مسافة مقدار أصبع ، { أو أدنى } على تقديركم ، كقوله : { أو يزيدون } { إلى عبده } : أي إلى عبد الله ، وإن لم يجر لاسمه عز وجل ذكر ، لأنه لا يلبس ، كقوله : { ما ترك على ظهرها } { ما أوحى } : تفخيم للوحي الذي أوحي إليه قبل. انتهى.
وقال ابن عطية : { ثم دنا } ، قال الجمهور : أي جبريل إلى محمد عليهما الصلاة والسلام عند حراء.
وقال ابن عباس وأنس في حديث الإسراء : ما يقتضي أن الدنو يستند إلى الله تعالى.
وقيل : كان الدنو إلى جبريل.
وقيل : إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، أي دنا وحيه وسلطانه وقدرته ، والصحيح أن جميع ما في هذه الآيات هو مع جبريل بدليل قوله : { ولقد رءاه نزلة أخرى } ، فإنه يقتضي نزلة متقدمة.
وما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه قبل ليلة الإسراء.
ودنا أعم من تدلى ، فبين هيئة الدنو كيف كانت قاب قدر ، قال قتادة وغيره : معناه من طرف العود إلى طرفه الآخر.
وقال الحسن ومجاهد : من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المقبض.
وقال أبو رزين : ليست بهذه القوس ، ولكن قدر الذراعين.
وعن ابن عباس : أن القوس هنا ذراع تقاس به الأطوال.
وذكر الثعلبي أنه من لغة الحجاز.
{ فأوحى } : أي الله ، { إلى عبده } : أي الرسول صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس.
وقيل : { إلى عبده } جبريل ، { ما أوحى } : إبهام على جهة التعظيم والتفخيم ، والذي عرف من ذلك فرض الصلوات.
وقال الحسن : فأوحى جبريل إلى عبد الله ، محمد صلى الله عليه وسلم ، ما أوحى ، كالأول في الإبهام.
وقال ابن زيد : فأوحى جبريل إلى عبد الله ، محمد صلى الله عليه وسلم ، ما أوحاه الله تعالى إلى جبريل عليه السلام.
وقال الزمخشري : { ما أوحى } : أوحى إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك.
{ ما كذب } فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره من صورة جبريل : أي ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ، يعني أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه ، ولم يشك في أن ما رآه حق. انتهى.
وقرأ الجمهور : ما كذب مخففاً ، على معنى : لم يكذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم الشيء الذي رآه ، بل صدقه وتحققه نظراً ، وكذب يتعدى.
وقال ابن عباس وأبو صالح : رأى محمد صلى الله عليه وسلم الله تعالى بفؤاده.
وقيل : ما رأى بعينه لم يكذب ذلك قلبه ، بل صدقه وتحققه ، ويحتمل أن يكون التقدير فيما رأى.
وعن ابن عباس وعكرمة وكعب الأحبار : أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه ، وأبت ذلك عائشة رضي الله تعالى عنها ، وقالت : أنا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآيات ، فقال لي :

« هو جبريل عليه السلام فيها كلها » وقال الحسن : المعنى ما رأى من مقدورات الله تعالى وملكوته.
« وسأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل رأيت ربك؟ فقال : » نورانى أراه « وحديث عائشة قاطع لكل تأويل في اللفظ ، لأن قول غيرها إنما هو منتزع من ألفاظ القرآن ، وليست نصاً في الرؤية بالبصر ، بلا ولا بغيره.
وقرأ أبو رجاء وأبو جعفر وقتادة والجحدري وخالد بن الياس وهشام عن ابن عامر : ما كذب مشدداً.
وقال كعب الأحبار : إن الله قسم الرؤية والكلام بين محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام ، فكلم موسى مرتين ، ورآه محمد صلى الله عليه وسلم مرتين.
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : لقد وقف شعري من سماع هذا ، وقرأت : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } وذهبت هي وابن مسعود وقتادة والجمهور إلى أن المرئي مرتين هو جبريل ، مرة في الأرض ، ومرة عند سدرة المنتهى.
وقرأ الجمهور : { أفتمارونه } : أي أتجادلونه على شيء رآه ببصره وأبصره ، وعدى بعلى لما في الجدال من المغالبة ، وجاء يرى بصيغة المضارع ، وإن كانت الرؤية قد مضت ، إشارة إلى ما يمكن حدوثه بعد.
وقرأ علي وعبد الله وابن عباس والجحدري ويعقوب وابن سعدان وحمزة والكسائي : بفتح التاء وسكون الميم ، مضارع مريت : أي جحدت ، يقال : مريته حقه ، إذا جحدته ، قال الشاعر :
لثن سخرت أخا صدق ومكرمة . . .
لقد مريت أخاً ما كان يمريكا
وعدى بعلى على معنى التضمين.
وكانت قريش حين أخبرهم صلى الله عليه وسلم بأمره في الإسراء ، كذبوا واستخفوا ، حتى وصف لهم بيت المقدس وأمر غيرهم ، وغير ذلك مما هو مستقصى في حديث الإسراء.
وقرأ عبد الله فيما حكى ابن خالويه ، والشعبي فيما ذكر شعبة : بضم التاء وسكون الميم ، مضارع أمريت.
قال أبو حاتم : وهو غلط.
{ ولقد رءاه } : الضمير المنصوب عائد على جبريل عليه السلام ، قال ابن مسعود وعائشة ومجاهد والربيع.
{ نزلة أخرى } : أي مرة أخرى ، أي نزل عليه جبريل عليه السلام مرة أخرى في في صورة نفسه ، فرآه عليها ، وذلك ليلة المعراج.
وأخرى تقتضي نزلة سابقة ، وهي المفهومة من قوله : { ثم دنا } جبريل ، { فتدلى } : وهو الهبوط والنزول من علو.
وقال ابن عباس وكعب الأحبار : الضمير عائد على الله ، على ما سبق من قولهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه مرتين.
وانتصب نزلة ، قال الزمخشري : نصب الظرف الذي هو مرة ، لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل.
وقال الحوفي وابن عطية : مصدر في موضع الحال.
وقال أبو البقاء : مصدر ، أي مرة أخرى ، أو رؤية أخرى.
{ عند سدرة المنتهى } ، قيل : هي شجرة نبق في السماء السابعة.
وقيل : في السماء السادسة ، ثمرها كقلال هجر ، وورقها كآذان الفيلة.

تنبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله تعالى في كتابه ، يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها.
والمنتهى موضع الانتهاء ، لأنه ينتهي إليها علم كل عالم ، ولا يعلم ما وراءها صعداً إلا الله تعالى عز وجل؛ أو ينتهي إليها كل من مات على الإيمان من كل جيل؛ أو ينتهي إليها ما نزل من أمر الله تعالى ، ولا تتجاوزها ملائكة العلو وما صعد من الأرض ، ولا تتجاوزها ملائكة السفل؛ أو تنتهي إليها أرواح الشهداء؛ أو كأنها في منتهى الجنة وآخرها؛ أو تنتهي إليها الملائكة والأنبياء ويقفون عندها؛ أو ينتهي إليها علم الأنبياء ويعزب علمهم عن ما وراءها؛ أو تنتهي إليها الأعمال؛ أو لانتهاء من رفع إليها في الكرامة ، أقوال تسعة.
{ عندها جنة المأوى } : أي عند السدرة ، قيل : ويحتمل عند النزلة.
قال الحسن : هي الجنة التي وعدها الله المؤمنين.
وقال ابن عباس : بخلاف عنه؛ وقتادة : هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء ، وليست بالتي وعد المتقون جنة النعيم.
وقيل : جنة : مأوى الملائكة.
وقرأ علي وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر ومحمد بن كعب وقتادة : جنه ، بهاء الضمير ، وجن فعل ماض ، والهاء ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ، أي عندها ستره إيواء الله تعالى وجميل صنعه.
وقيل : المعنى ضمه المبيت والليل.
وقيل : جنه بظلاله ودخل فيه.
وردّت عائشة وصحابة معها هذه القراءة وقالوا : أجن الله من قرأها؛ وإذا كانت قراءة قرأها أكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فليس لأحد ردّها.
وقيل : إن عائشة رضي الله تعالى عنها أجازتها.
وقراءة الجمهور : { جنة المأوى } ، كقوله في آية أخرى : { فلهم جنات المأوى نزلاً } { إذ يغشى السدرة ما يغشى } : فيه بإبهام الموصول وصلته تعظيم وتكثير للغاشي الذي يغشاه ، إذ ذاك أشياء لا يعلم وصفها إلا الله تعالى.
وقيل : يغشاها الجم الغفير من الملائكة ، يعبدون الله عندها.
وقيل : ما يغشى من قدرة الله تعالى ، وأنواع الصفات التي يخترعها لها.
وقال ابن مسعود وأنس ومسروق ومجاهد وإبراهيم : ذلك جراد من ذهب كان يغشاها.
وقال مجاهد : ذلك تبدل أغصانها درّاً وياقوتاً.
وروي في الحديث : « رأيت على كل ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبح الله تعالى » وأيضاً : يغشاها رفرف أخضر ، وأيضاً : تغشاها ألوان لا أدري ما هي.
وعن أبي هريرة : يغشاها نور الخلاق.
وعن الحسن : غشيها نور رب العزة فاستنارت.
وعن ابن عباس : غشيها رب العزة ، أي أمره ، كما جاء في صحيح مسلم مرفوعاً ، فلما غشيها من أمر الله ما غشي ، ونظير هذا الإبهام للتعظيم : { فأوحى إلى عبده ما أوحى } ، { والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى }.
{ ما زاغ البصر } ، قال ابن عباس : ما مال هكذا ولا هكذا.
وقال الزمخشري : أي أثبت ما رآه إثباتاً مستيقناً صحيحاً من غير أن يزيغ بصره أو يتجاوزه ، إذ ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها ، { وما طغى } : وما جاوز ما أمر برؤيته.

انتهى.
وقال غيره : { وما طغى } : ولا تجاوز المرئي إلى غيره ، بل وقع عليه وقوعاً صحيحاً ، وهذا تحقيق للأمر ، ونفي للريب عنه.
{ لقد رأى من أيات ربه الكبرى } ، قيل : الكبرى مفعول رأى ، أي رأى الآيات الكبرى والعظمى التي هي بعض آيات ربه ، أي حين رقي إلى السماء رأى عجائب الملكوت ، وتلك بعض آيات الله.
وقيل : { من آيات } هو في موضع المفعول ، والكبرى صفة لآياته ربه ، ومثل هذا الجمع يوصف بوصف الواحدة ، وحسن ذلك هنا كونها فاصلة ، كما في قوله : { لنريك من آياتنا الكبرى } عند من جعلها صفة لآياتنا.
وقال ابن عباس وابن مسعود : أي رفرف أخضر قد سد الأفق.
وقال ابن زيد : رأى جبريل في الصورة التي هو بها في السماء.
{ أفرأيتم } : خطاب لقريش.
ولما قرر الرسالة أولاً ، وأتبعه من ذكر عظمة الله وقدرته الباهرة بذكر التوحيد والمنع عن الإشراك بالله تعالى ، وقفهم على حقارة معبوداتهم ، وهي الأوثان ، وأنها ليست لها قدرة.
واللات : صنم كانت العرب تعظمه.
قال قتادة : كان بالطائف.
وقال أبو عبيدة وغيره : كان في الكعبة.
وقال ابن زيد : كان بنخلة عند سوق عكاظ.
قال ابن عطية : وقول قتادة أرجح ، ويؤيده قوله الشاعر :
وفرت ثقيف إلى لاتها . . .
بمنقلب الخائب الخاسر
انتهى.
ويمكن الجمع بأن تكون أصناماً سميت باسم اللات فأخبر كل عن صنم بمكانه.
والتاء في اللات قيل أصلية ، لام الكلمة كالباء من باب ، وألفه منقلبة فيما يظهر من ياء ، لأن مادة ليت موجودة.
فإن وجدت مادة من ل و ت ، جاز أن تكون منقلبة من واو.
وقيل : التاء للتأنيث ، ووزنها فعلة من لوى ، قيل : لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة ، أو يلتوون عليها : أي يطوفون ، حذفت لامها.
وقرأ الجمهور : اللات خفيفة التاء؛ وابن عباس ومجاهد ومنصور بن المعتمر وأبو صالح وطلحة وأبو الجوزاء ويعقوب وابن كثير في رواية : بشدها.
قال ابن عباس : كان هذا رجلاً بسوق عكاظ ، يلت السمن والسويق عند صخرة.
وقيل : كان ذلك الرجل من بهز ، يلت السويق للحجاج على حجر ، فلما مات ، عبدوا الحجر الذي كان عنده ، إجلالاً لذلك الرجل ، وسموه باسمه.
وقيل : سمي برجل كان يلت عنده السمن بالدب ويطمعه الحجاج.
وعن مجاهد : كان رجل يلت السويق بالطائف ، وكانوا يعكفون على قبره ، فجعلوه وثناً.
وفي التحرير : أنه كان صنماً تعظمه العرب.
وقيل : حجر ذلك اللات ، وسموه باسمه.
وعن ابن جبير : صخرة بيضاء كانت العرب تعبدها وتعظمها.
وعن مجاهد : شجيرات تعبد ببلادها ، انتقل أمرها إلى الصخرة.
انتهى ملخصاً.
وتلخص في اللات ، أهو صنم ، أو حجر يلت عليه ، أو صخرة يلت عندها ، أو قبر اللات ، أو شجيرات ثم صخرة ، أو اللات نفسه ، أقوال ، والعزى صنم.

وقيل : سموه لغطفان ، وأصلها تأنيث الأعز ، بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها ، وخرجت منها شيطانة ، ناشرة شعرها ، داعية ويلها ، واضعة يدها على رأسها؛ فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها ، وهو يقول :
يا عز كفرانك لا سبحانك . . .
إني رأيت الله قد أهانك
ورجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عليه الصلاة والسلام : « تلك العزى ولن تعبد أبدأ » وقال أبو عبيدة : كانت العزى ومناة بالكعبة. انتهى.
ويدل على هذا قول أبي سفيان في بعض الحروب للمسلمين : لنا عزى ، ولا عزى لكم.
وقال ابن زيد : كانت العزى بالطائف.
وقال قتادة : كانت بنخلة ، ويمكن الجمع ، فإنه كان في كل مكان منها صنم يسمى بالعزى ، كما قلنا في اللات ، فأخبر كل واحد عن ذلك الصنم المسمى ومكانه.
{ ومناة } : قيل : صخرة كانت لهذيل وخزاعة ، وعن ابن عباس : لثقيف.
وقيل : بالمشكك من قديد بين مكة والمدينة ، وكانت أعظم هذه الأوثان قدراً وأكثرها عدداً ، وكانت الأوس والخزرج تهل لها هذا اضطراب كثير في الأوثان ومواضعها ، والذي يظهر أنها كانت ثلاثتها في الكعبة ، لأن المخاطب بذلك في قوله : { أفرأيتم } هم قريش.
وقرأ الجمهور : ومناة مقصوراً ، فقيل : وزنها فعلة ، سميت مناة لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها : أي تراق.
وقرأ ابن كثير : ومناءة ، بالمد والهمز.
قيل : ووزنها مفعلة ، فالألف منقلبة عن واو ، نحو : مقالة ، والهمزة أصل مشتقة من النوء ، كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركاً بها ، والقصر أشهر.
قال جرير :
أزيد مناة توعد بأس تيم . . .
تأمل أين تاه بك الوعيد
وقال آخر في المد والهمز :
ألا هل أتى تيم بن عبد مناءة . . .
على النأي فيما بيننا ابن تميم
واللات والعزى ومناة منصوبة بقوله : { أفرأيتم } ، وهي بمعنى أخبرني ، والمفعول الثاني الذي لها هو قوله : { ألكم الذكر وله الأنثى } على حد ما تقرر في متعلق أرأيت إذا كانت بمعنى أخبرني ، ولم يعد ضمير من جملة الاستفهام على اللات والعزى ومناة ، لأن قوله : { وله الأنثى } هو في معنى : وله هذه الإناث ، فأغنى عن الضمير.
وكانوا يقولون في هذه الأصنام : هي بنات الله ، فالمعنى : ألكم النوع المحبوب المستحسن الموجود فيكم ، وله النوع المذموم بزعمكم؟ وهو المستثقل.
وحسن إبراز الأنثى كونه نصاً في اعتقادهم أنهن إناث ، وأنهن بنات الله تعالى ، وإن كان في لحاق تاء التأنيث في اللات وفي مناة ، وألف التأنيث في العزى ، ما يشعر بالتأنيث ، لكنه قد سمى المذكر بالمؤنث ، فكان في قوله : { الأنثى } نص على اعتقاد التأنيث فيها.
وحسن ذلك أيضاً كونه جاء فاصلة ، إذ لو أتى ضميراً ، فكان التركيب ألكم الذكر وله هن ، لم تقع فاصلة.

وقال الزجاج : وجه تلفيق هذه الآية مع ما قبلها ، فيقول : أخبروني عن آلهتكم ، هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة في الآي السالفة؟ انتهى.
فجعل المفعول الثاني لأفرأيتم جملة الاستفهام التي قدرها ، وحذفت لدلالة الكلام السابق عليها ، وعلى تقديره يبقى قوله : { ألكم الذكر وله الأنثى } متعلقاً بما قبله من جهة المعنى ، لا من جهة المعنى الإعراب ، كما قلناه نحن.
ولا يعجبني قول الزجاج : وجه تلفيق هذه الآية مع ما قبلها ، ولو قال : وجه اتصال هذه ، أو وجه انتظام هذه مع ما قبلها ، لكان الجيد في الأدب ، وإن كان يعني هذا المعنى.
وقال ابن عطية : { أفرأيتم } خطاب لقريش ، وهي من رؤية العين ، لأنه أحال على أجرام مرئية ، ولو كانت أرأيت التي هي استفتاء لم تتعد. انتهى.
ويعني بالأجرام : اللات والعزى ومناة ، وأرأيت التي هي استفتاء تقع على الأجرام ، نحو : أرأيت زيداً ما صنع؟ وقوله : ولو كانت أرأيت التي هي استفتاء ، يعني الذي تقول النحاة فيه إنها بمعنى أخبرني ، لم تتعد؛ والتي هي بمعنى الاستفتاء تتعدى إلى اثنين ، أحدهما منصوب ، والآخر في الغالب جملة استفهامية.
وقد تكرر لنا الكلام في ذلك ، وأوله في سورة الأنعام.
ودل كلام ابن عطية على أنه لم يطالع ما قاله الناس في أرأيت إذا كانت استفتاء على اصطلاحه ، وهي التي بمعنى أخبرني.
والظاهر أن { الثالثة الأخرى } صفتان لمناة ، وهما يفيدان التوكيد.
قيل : ولما كانت مناة هي أعظم هذه الأوثان ، أكدت بهذين الوصفين ، كما تقول : رأيت فلاناً وفلاناً ، ثم تذكر ثالثاً أجل منهما فتقول : وفلاناً الآخر الذي من شأنه.
ولفظة آخر وأخرى يوصف به الثالث من المعدودات ، وذلك نص في الآية ، ومنه قول ربيعة بن مكرم :
ولقد شفعتهما بآخر ثالث . . .
انتهى.
وقول ربيعة مخالف للآية ، لأن ثالثاً جاء بعد آخر.
وعلى قول هذا القائل أن مناة هي أعظم هذه الأوثان ، يكون التأكيد لأجل عظمها.
ألا ترى إلى قوله : ثم تذكر ثالثاً أجل منهما؟ وقال الزمخشري : والأخرى ذم ، وهي المتأخرة الوضيعة المقدار ، كقوله تعالى : { قالت أخراهم لأولاهم } أي وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم.
ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزى. انتهى.
ولفظ آخر ومؤنثه أخرى لم يوضعا للذم ولا للمدح ، إنما يدلان على معنى غير ، إلا أن من شرطهما أن يكونا من جنس ما قبلهما.
لو قلت : مررت برجل وآخر ، لم يدل إلا على معنى غير ، لا على ذم ولا على مدح.
وقال أبو البقاء : والأخرى توكيد ، لأن الثالثة لا تكون إلا أخرى. انتهى.
وقيل : الأخرى صفة للعزى ، لأنها ثانية اللات؛ والثانية يقال لها الأخرى ، وأخرت لموافقة رؤوس الآي.
وقال الحسن بن الفضل : فيه تقديم وتأخير تقديره : والعزى الأخرى ، ومناة الثالثة الذليلة ، وذلك لأن الأولى كانت وثناً على صورة آدمي ، والعزى صورة نبات ، ومناة صورة صخرة.

فالآدمي أشرف من النبات ، والنبات أشرف من الجماد.
فالجماد متأخر ، ومناة جماد ، فهي في أخريات المراتب.
والإشارة بتلك إلى قسمتهم ، وتقديرهم : أن لهم الذكران ، ولله تعالى البنات.
وكانو يقولون : إن هذه الأصنام والملائكة بنات الله تعالى.
قال ابن عباس وقتادة : ضيزى : جائرة؛ وسفيان : منقوصة؛ وابن زيد : مخالفة؛ ومجاهد ومقاتل : عوجاء؛ والحسن : غير معتدلة؛ وابن سيرين : غير مستوية ، وكلها أقوال متقاربة في المعنى.
وقرأ الجمهور : { ضيزى } من غير همز ، والظاهر أنه صفة على وزن فعلى بضم الفاء ، كسرت لتصح الياء.
ويجوز أن تكون مصدراً على وزن فعلى ، كذكرى ، ووصف به.
وقرأ ابن كثير : ضئزى بالهمز ، فوجه على أنه مصدر كذكرى.
وقرأ زيد بن علي : ضيزى بفتح الضاد وسكون الياء ، ويوجه على أنه مصدر ، كدعوى وصف به ، أو وصف ، كسكرى وناقة خرمى.
ويقال : ضوزى بالواو وبالهمز ، وتقدّم في المفردات حكاية لغة الهمز عن الكسائي.
وأنشد الأخفش :
فإن تنأ عنها تقتضيك وإن تغب . . .
فسهمك مضؤوز وأنفك راغم
{ إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } : تقدّم تفسير نظيرها في سورة هود ، وفي سورة الأعراف.
وقرأ الجمهور : { إن يتبعون } بياء الغيبة؛ وعبد الله وابن عباس وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى بن عمر : بتاء الخطاب ، { إلا الظن } : وهو ميل النفس إلى أحد معتقدين من غير حجة ، { وما تهوى } : أي تميل إليه بلذة ، وإنما تهوى أبداً ما هو غير الأفضل ، لأنها مجبولة على حب الملاذ ، وإنما يسوقها إلى حسن العاقبة العقل.
{ ولقد جاءهم من ربهم الهدى } : توبيخ لهم ، والذي هم عليه باطل واعتراض بين الجملتين ، أي يفعلون هذه القبائح؛ والهدى قد جاءهم ، فكانوا أولى من يقبله ويترك عبادة من لا يجدي عبادته.
{ أم للإنسان ما تمنى } : هو متصل بقوله : { وما تهوى الأنفس } ، بل للإنسان ، والمراد به الجنس ، { ما تمنى } : أي ما تعلقت به أمانيه ، أي ليست الأشياء والشهوات تحصل بالأماني ، بل لله الأمر.
وقولكم : إن آلهتكم تشفع وتقرب زلفى ، ليس لكم ذلك.
وقيل : أمنيتهم قولهم : { ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } وقيل : قول الوليد بن المغيرة : { لأوتين مالا وولداً } وقيل : تمنى بعضهم أن يكون النبي.
{ فللّه الآخرة والأولى } : أي هو مالكهما ، فيعطي منهما ما يشاء ، ويمنع من يشاء ، وليس لأحد أن يبلغ منهما إلا ما شاء الله.
وقدّم الآخرة على الأولى ، لتأخرها في ذلك ، ولكونها فاصلة ، فلم يراع الترتيب الوجودي ، كقوله : { وإن لنا للآخرة والأولى.
}

وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)

{ وكم } : هي خبرية ، ومعناها هنا : التكثير ، وهي في موضع رفع بالابتداء ، والخبر { لا تغني } ؛ والغنى : جلب النفع ودفع الضر ، بحسب الأمر الذي يكون فيه الغنى.
وكم لفظها مفرد ، ومعناها جمع.
وقرأ الجمهور : { شفاعتهم } ، بإفراد الشفاعة وجمع الضمير؛ وزيد بن علي : شفاعته ، بإفراد الشفاعة والضمير؛ وابن مقسم : شفاعاتهم ، بجمعهما ، وهو اختيار صاحب الكامل ، أي القاسم الهذلي.
وأفردت الشفاعة في قراءة الجمهور لأنها مصدر ، ولأنهم لو شفع جميعهم لواحد ، لم تغن شفاعتهم عنه شيئاً.
فإذا كانت الملائكة المقربون لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذن الله ورضاه ، أي يرضاه أهلاً للشفاعة ، فكيف تشفع الأصنام لمن يعبدها؟ ومعنى { تسمية الأنثى } : كونهم يقولون إنهم بنات الله ، { والذين لا يؤمنون بالآخرة } : هم العرب منكر والبعث.
{ وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً } : أي ما يدركه العلم لا ينفع فيه الظن ، وإنما يدرك بالعلم واليقين.
قيل : ويحتمل أن يكون المراد بالحق هنا هو الله تعالى ، أي الأوصاف الإلهية لا تستخرج بالظنون ، ويدل عليه ذلك بأن الله هو الحق.
{ فأعرض عن من تولى عن ذكرنا } ، موادعة منسوخة بآية السيف.
{ ولم يرد إلا الحياة الدنيا } : أي لم تتعلق إرادته بغيرها ، فليس له فكر في سواها ، كالنضر بن الحارث والوليد بن المغيرة.
والذكر هنا : القرآن ، أو الإيمان ، أو الرسول صلى الله عليه وسلم ، أقوال.
{ عن من تولى عن ذكرنا } : هو سبب الأعراض ، لأن من لا يصغي إلى قول ، كيف يفهم معناه؟ فأمر صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن من هذه حاله ، ثم ذكر سبب التولي عن الذكر ، وهو حصر إرادته في الحياة الدنيا.
فالتولي عن الذكر سبب للإعراض عنهم ، وإيثار الدنيا سبب التولي عن الذكر ، وذلك إشارة إلى تعلقهم بالدنيا وتحصيلها.
{ مبلغهم } : غايتهم ومنتهاهم من العلم ، وهو ما تعلقت به علومهم من مكاسب الدنيا ، كالفلاحة والصنائع ، لقوله تعالى : { يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا } ولما ذكر ما هم عليه ، أخبر تعالى بأنه عالم بالضال والمهتدي ، وهو مجازيهما.
وقال الزمخشري : وقوله : { ذلك مبلغهم من العلم } : اعتراض.
انتهى ، وكأنه يقول : هو اعتراض بين { فأعرض } وبين { إن ربك } ، ولا يظهر هذا الذي يقوله من الاعتراض.
وقيل : ذلك إشارة إلى جعلهم الملائكة بنات الله.
وقال الفراء : صغر رأيهم وسفه أحلامهم ، أي غاية عقولهم ونهاية علومهم أن آثروا الدنيا على الآخرة.
وقيل : ذلك إشارة إلى الظن ، أي غاية ما يفعلون أن يأخذوا بالظن.
وقوله : { إن ربك هو أعلم } في معرض التسلية ، إذ كان من خلقه عليه الصلاة والسلام الحرص على إيمانهم ، وفي ذلك وعيد للكفار ، ووعد للمؤمنين.
{ ولله ما في السماوات وما في الأرض } : أخبر أن من في العالم العلوي والعالم السفلي ملكه تعالى ، يتصرف فيهما بما شاء.

واللام في { ليجزي } متعلقة بما دل عليه معنى الملك ، أي يضل ويهدي ليجزي.
وقيل : بقوله : { بمن ضل } ، و { بمن اهتدى } ، واللام للصيرورة ، والمعنى : إن عاقبة أمرهم جميعاً للجزاء بما عملوا ، أي بعقاب ما عملوا ، والحسنى : الجنة.
وقيل : التقدير بالأعمال الحسنى ، وحين ذكر جزاء المسيء قال : بما عملوا ، وحين ذكر جزاء المحسن أتى بالصفة التي تقتضي التفضل ، وتدل على الكرم والزيادة للمحسن ، كقوله تعالى : { ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون } والأحسن تأنيث الحسنى.
وقرأ زيد بن علي : لنجزي ونحزي بالنون فيهما.
وتقدّم الكلام في الكبائر في قوله تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } في سورة النساء.
والذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر ، والفواحش معطوف على كبائر ، وهي ما فحش من الكبائر ، أفردها بالذكر لتدل على عظم مرتكبها.
وقال الزمخشري : والكبائر : الذنوب التي لا يسقط عقابها إلا بالتوبة.
انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال.
{ إلا اللمم } : استثناء منقطع ، لأنه لم يدخل تحت ما قبله ، وهو صغار الذنوب ، أو صفة إلى كبائر الإثم غير اللمم ، كقوله : { لو كان فيهما آلهة إلا الله } ، أي غير الله { لفسدتا } وقيل : يصح أن يكون استثناء متصلاً ، وهذا يظهر عند تفسير اللمم ما هو ، وقد اختلفوا فيه اختلافاً ، فقال الخدري : هو النظرة والغمزة والقبلة.
وقال السدي : الخطرة من الذنب.
وقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي والكلبي : كل ذنب لم يذكر الله تعالى عليه حداً ولا عذاباً.
وقال ابن عباس أيضاً وابن زيد : ما ألموا به من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام.
وعن ابن عباس وزيد بن ثابت وزيد بن أسلم وابنه : أن سبب الآية قول الكفار للمسلمين : قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا ، فنزلت ، وهي مثل قوله : { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف } وقيل : نزلت في نبهان التمار ، وحديثه مشهور.
وقال ابن عباس وغيره : العلقة والسقطة دون دوام ، ثم يتوب منه.
وقال الحسن : والزنا والسرقة والخمر ، ثم لا يعود.
وقال ابن المسيب : ما خطر على القلب.
وقال نفطويه : ما ليس بمعتاد.
وقال الرماني : الهم بالذنب ، وحديث النفس دون أن يواقع.
وقيل : نظرة الفجأة.
{ إن ربك واسع المغفرة } ، حيث يكفر الصغائر باجتناب الكبائر.
وقال الزمخشري : والكبائر بالتوبة.
انتهى ، وفيه نزغة الاعتزال.
{ هو أعلم بكم } : قيل نزلت في قوم من اليهود عظموا أنفسهم ، وإذا مات طفل لهم قالوا : هذا صديق عند الله.
وقيل : في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم ، والظاهر أنه خطاب عام ، وأعلم على بابها من التفضيل.
وقال مكي : بمعنى عالم بكم ، ولا ضرورة إلى إخراجها عن أصل موضوعها.
كان مكياً راعى عمل أعلم في الظرف الذي هو : { إذ أنشأكم من الأرض } ، والظاهر أن المراد بأنشأكم : أنشأ أصلكم ، وهو آدم.
ويجوز أن يراد من فضلة الأغذية التي منشؤها من الأرض ، { فلا تزكوا أنفسكم } : أي لا تنسبوها إلى زكاء الأعمال والطهارة عن المعاصي ، ولا تثنوا عليها واهضموها ، فقد علم الله منكم الزكي والتقي قبل إخراجكم من صلب آدم ، وقبل إخراجكم من بطون أمهاتكم.

وكثيراً ما ترى من المتصلحين ، إذا حدثوا ، كان وردنا البارحة كذا ، وفاتنا من وردنا البارحة ، أو فاتنا وردنا ، يوهمون الناس أنهم يقومون بالليل.
وترى لبعضه في جبينه سواداً يوهم أنه من كثرة السجود ، ولبعضهم احتضار النية حالة الإحرام ، فيحرك يديه مراراً ، ويصعق حتى ينزعج من بجانبه ، وكأنه يخطف شيئاً بيديه وقت التحريكة الأخيرة ، يوهم أنه يحافظ على تحقيق النية.
وبعضهم يقول في حلفه : وحق البيت الذي زرت ، يعلم أنه حاج ، وإذا لاح له فلس يثب عليه وثوب الأسد على الفريسة ، ولا يلحقه شيء من الواسوس ، ولا من إحضار النية في أخذه ، وتراه يحب الثناء عليه بالأوصاف الجميلة التي هو عارضها.
وقيل : المعنى لا يزكي بعضكم بعضاً تزكية السمعة أو المدح للدنيا ، أو تزكية بالقطع.
وأما التزكية لإثبات الحقوق فجائزة للضرورة.
والجنين : ما كان في البطن ، فإذا خرج سمي ولداً أو سقطاً.
وقوله : { في بطون أمهاتكم } تنبيه على كمال العلم والقدرة ، فإن بطن الأم في غاية الظلمة ، ومن علم حاله وهو مجنّ ، لا يخفى عليه حاله وهو ظاهر.
{ بمن اتقى } : قيل الشرك.
وقال علي : عمل حسنة وارعوى عن معصية.

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)

{ أفرأيت } الآية ، قال مجاهد وابن زيد ومقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، كان قد سمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجلس إليه ووعظه ، فقرب من الإسلام ، وطمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم إنه عاتبة رجل من المشركين ، فقال له : أتترك ملة آبائك؟ ارجع إلى دينك واثبت عليه ، وأنا أتحمل لك بكل شيء تخافه في الآخرة ، لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال.
فوافقه الوليد على ذلك ، ورجع عن ما هم به من الإسلام ، وضل ضلالاً بعيداً ، وأعطى بعض ذلك المال لذلك الرجل ، ثم أمسك عنه وشح.
وقال الضحاك : هو النضر بن الحارث ، أعطى خمس فلايس لفقير من المهاجرين حتى ارتد عن دينه ، وضمن له أن يحمل عنه مآثم رجوعه.
وقال السدي : نزلت في العاصي بن وائل السهمي ، كان ربما يوافق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور.
وقال محمد بن كعب : في أبي جهل بن هشام ، قال : والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق.
وروي عن ابن عباس والسدي أنها نزلت في عثمان بن عفان ، رضي الله تعالى عنه؛ كان يتصدق ، فقال له أخوه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح نحواً من كلام القائل للوليد بن المغيرة الذي بدأنا به.
وذكر القصة بتمامها الزمخشري ، ولم يذكر في سبب النزول غيرها.
قال ابن عطية : وذلك كله عندي باطل ، وعثمان رضي الله عنه منزه عن مثله. انتهى.
وأفرأيت هنا بمعنى : أخبرني ، ومفعولها الأول الموصول ، والثاني الجملة الاستفهامية ، وهي : { أعنده علم الغيب }.
و { تولى } : أي أعرض عن الإسلام.
وقال الزمخشري : { تولى } : ترك المركز يوم أحد. انتهى.
لما جعل الآية نزلت في عثمان ، فسر التولي بهذا.
وإذا ذكر التولي غير مقيد في القرآن ، فأكثر استعماله أنه استعارة عن عدم الدخول في الإيمان.
{ وأعطى قليلاً وأكدى } ، قال ابن عباس : أطاع قليلاً ثم عصى.
وقال مجاهد : أعطى قليلاً من نفسه بالاستماع ، ثم أكدى بالانقطاع.
وقال الضحاك : أعطى قليلاً من ماله ثم منع.
وقال مقاتل : أعطى قليلاً من الخير بلسانه ثم قطع.
{ أعنده علم الغيب } : أي أعلم من الغيب أن من تحمل ذنوب آخر ، فإنه المتحمل عنه ينتفع بذلك ، فهو لهذا الذي علمه يرى الحق وله فيه بصيره ، أم هو جاهل؟ وقال الزمخشري : { فهو يرى } : فهو يعلم أن ما قاله أخوه من احتمال أوزاره حق.
وقيل : يعلم حاله في الآخرة.
وقال الزجاج : يرى رفع مأثمه في الآخرة.
وقيل : فهو يرى أن ما سمعه من القرآن باطل.
وقال الكلبي : أنزل عليه قرآن ، فرأى ما منعه حق.
وقيل : { فهو يرى } : أي الأجزاء ، واحتمل يرى أن تكون بصرية ، أي فهو يبصر ما خفي عن غيره مما هو غيب ، واحتمل أن يكون بمعنى يعلم ، أي فهو يعلم الغيب مثل الشهادة.

{ أم لم ينبأ } : أي بل ألم يخبر؟ { بما في صحف موسى } ، وهي التوراة.
{ وإبراهيم } : أي وفي صحف إبراهيم التي أنزلت عليه ، وخص هذين النبيين عليهما أفضل الصلاة والسلام.
قيل : لأنه ما بين نوح وإبراهيم كانوا يأخذون الرجل بأبيه وابنه وعمه وخاله ، والزوج بامرأته ، والعبد بسيده.
فأول من خالفهم إبراهيم ، ومن شريعة إبراهيم إلى شريعة موسى صلى الله عليه وسلم عليهما ، كانوا لا يأخذون الرجل بجريمة غيره.
{ الذي وفى } ، قرأ الجمهور : وفي بتشديد الفاء.
وقرأ أبو أمامة الباهلي وسعيد بن جبير وأبو مالك الغفاري وابن السميفع وزيد بن علي : بتخفيفها ، ولم يذكر متعلق وفي ليتناول كل ما يصلح أن يكون متعلقاً له ، كتبليغ الرسالة والاستقلال بأعباء الرسالة ، والصبر على ذبح ولده ، وعلى فراق اسماعيل وأمه ، وعلى نار نمروذ وقيامه بأضيافه وخدمته إياهم بنفسه.
وكان يمشي كل يوم فرسخاً يرتاد ضيفاً ، فإن وافقه أكرمه ، وإلا نوى الصوم.
وعن الحسن : ما أمره الله بشيء إلا وفى به.
وعن عطاء بن السائب : عهد أن لا يسأل مخلوقاً.
وقال ابن عباس والربيع : وفي طاعة الله في أمر ذبح ابنه.
وقال الحسن وقتادة : وفى بتبليغ الرسالة والمجاهدة في ذات الله.
وقال عكرمة : وفي هذه العشر الآيات : { أن لا تزر } فما بعدها.
وقال ابن عباس أيضاً وقتادة : وفي ما افترض عليه من الطاعة على وجهها ، وكملت له شعب الإيمان والإسلام ، فأعطاه الله براءته من النار.
وقال ابن عباس أيضاً : وفي شرائع الإسلام ثلاثين سهماً ، يعني : عشرة في براءة التائبون الخ ، وعشرة في قد أفلح ، وعشرة في الأحزاب إن المسلمين.
وقال أبو أمامة : ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي أربع صلوات في كل يوم.
وقال أبو بكر الوراق : قام بشرط ما ادّعى ، وذلك أن الله تعالى قال له : أسلم ، قال : أسلمت لرب العالمين ، فطالبه بصحة دعواه ، فابتلاه في ما له وولده ونفسه ، فوجده وافياً.
انتهى ، وللمفسرين أقوال غير هذه.
وينبغي أن تكون هذه الأقوال أمثلة لما وفى ، لا على سبيل التعيين ، وأن هي المخففة من الثقيلة ، وهي بدل من ما في قوله : { بما في صحف } ، أو في موضع رفع ، كأن قائلاً قال : ما في صحفهما ، فقيل : { لا تزر وازرة وزر أخرى } ، وتقدم شرح { لا تزر وازرة وزر أخرى }.
{ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } : الظاهر أن الإنسان يشمل المؤمن والكافر ، وأن الحصر في السعي ، فليس له سعي غيره ، وقال عكرمة : كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى ، وأما هذه الأمّة فلها سعي غيرها ، يدل عليه حديث سعد بن عبادة : هل لأمي ، إن تطوعت عنها؟ قال : نعم.

وقال الربيع : الإنسان هنا الكافر ، وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره.
وسأل والي خراسان عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله : { والله يضاعف لمن يشاء } فقال : ليس له بالعدل إلا ما سعى ، وله بالفضل ما شاء الله ، فقبل عبد الله رأس الحسين.
وما روي عن ابن عباس أنها منسوخة لا يصح ، لأنه خبر لم يتضمن تكليفاً؛ وعند الجمهور : إنها محكمة.
قال ابن عطية : والتحرير عندي في هذه الآية أن ملاك المعنى هو اللام من قوله : { للإنسان }.
فإذا حققت الذي حق الإنسان أن يقول فيه لي كذا ، لم تجده إلا سعيه ، وما تم بعد من رحمة بشفاعة ، أو رعاية أب صالح ، أو ابن صالح ، أو تضعيف حسنات ، أو تعمد بفضل ورحمة دون هذا كله ، فليس هو للإنسان ، ولا يسعه أن يقول لي كذا وكذا إلا على تجوز وإلحاق بما هو حقيقة.
واحتج بهذه الآية من يرى أنه لا يعمل أحد عن أحد بعد موته ببدن أو مال ، وفرق بعض العلماء بين البدن والمال. انتهى.
والسعي : التكسب ، ويرى مبني للمفعول ، أي سوف يراه حاضراً يوم القيامة.
وفي عرض الأعمال تشريف للمحسن وتوبيخ للمسيء ، والضمير المرفوع في يجزاه عائد على الإنسان ، والمنصوب عائد على السعي ، والجزاء مصدر.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير للجزاء ، ثم فسره بقوله : { الجزاء الأوفى }.
وإذا كان تفسيراً للمصدر المنصوب في يجزاه ، فعلى ماذا انتصابه؟ وأما إذا كان بدلاً ، فهو من باب بدل الظاهر من الضمير الذي يفسره الظاهر ، وهي مسألة خلاف ، والصحيح المنع.
وقرأ الجمهور : { وأن إلى ربك } وما بعدها من { وأنه } ، وأن بفتح الهمزة عطفاً على ما قبلها.
وقرأ أبو السمال : بالكسر فيهن ، وفي قوله : { الأوفى } وعيد للكافر ووعد للمؤمن ، ومنتهى الشيء : غايته وما يصل إليه ، أي إلى حساب ربك والحشر لأجله ، كما قال : { وإلى الله المصير } أي إلى جزائه وحسابه ، أو إلى ثوابه من الجنة وعقابه من النار؛ وهذا التفسير المناسب لما قبله في الآية.
وعن أبي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { وأن إلى ربك لمنتهى } ، لا فكرة في الرب.
وروى أنس عنه صلى الله عليه وسلم : « إذا ذكر الرب فانتهوا ».
{ وأنه هو أضحك وأبكى } : الظاهر حقيقة الضحك والبكاء.
قال مجاهد : أضحك أهل الجنة ، وأبكى أهل النار.
وقيل : كنى بالضحك عن السرور ، وبالبكاء عن الحزن.
وقيل : أضحك الأرض بالنبات ، وأبكى السماء بالمطر.
وقيل : أحيا بالإيمان ، وأبكى بالكفر.
وقال الزمخشري : { أضحك وأبكى } : خلق قوتي الضحك والبكاء.
انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال ، إذ أفعال العباد من الضحك والبكاء وغيرهما مخلوقة للعبد عندهم ، لا لله تعالى ، فلذلك قال : خلق قوتي الضحك والبكاء.

{ وأنه خلق الزوجين } المصطحبين من رجل وامرأة وغيرهما من الحيوان ، { من نطفة إذا تمنى } : أي إذا تدفق ، وهو المني.
يقال : أمنى الرجل ومنى.
وقال الأخفش : إذا يمنى : أي يخلق ويقدر من مني الماني ، أي قدر المقدر.
{ وأن عليه النشأة الأخرى } : أي إعادة الأجسام : أي الحشر بعد البلى ، وجاء بلفظ عليه المشعرة بالتحتم لوجود الشيء لما كانت هذه النشأة ينكرها الكفار بولغ بقوله : { عليه } بوجودها لا محالة ، وكأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه ، وتقدم الخلاف في قراءة النشأة في سورة العنكبوت.
وقال الزمخشري : وقال { عليه } ، لأنها واجبة عليه في الحكمة ليجازي على الإحسان والإساءة.
انتهى ، وهو على طريق الاعتزال.
{ وأنه هو أغنى وأقنى } : أي أكسب القنية ، يقال : قنيت المال : أي كسبته ، وأقنيته إياه : أي أكسبته إياه ، ولم يذكر متعلق أغنى وأقنى لأن المقصود نسبة هذين الفعلين له تعالى.
وقد تكلم المفسرون على ذلك فقالوا اثني عشر قولاً ، كقولهم : أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه ، وكل قول منها لا دليل على تعينه ، فينبغي أن تجعل أمثلة.
والشعرى التي عبدت هي العبور.
وقال السدّي : كانت تعبدها حمير وخزاعة.
وقال غيره : أول من عبدها أبو كبشة ، أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم ، من قبل أمهاته ، وكان اسمه عبد الشعرى ، ولذلك كان مشركو قريش يسمونه عليه السلام : ابن أبي كبشة ، ومن ذلك كلام أبي سفيان : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة.
ومن العرب من كان يعظمها ولا يعبدها ، ويعتقد تأثيرها في العالم ، وأنها من الكواكب الناطقة ، يزعم ذلك المنجمون ويتكلمون على المغيبات عند طلوعها ، وهي تقطع السماء طولاً ، والنجوم تقطعها عرضاً.
وقال مجاهد وابن زيد : هو مرزم الجوزاء.
{ وأنه أهلك عاداً الأولى } : جاء بين أن وخبرها لفظ هو ، وذلك في قوله : { وأن هو أضحك } ، { وأنه هو أمات } ، { وأنه هو أغنى } ، { وأنه هو رب الشعرى }.
ففي الثلاثة الأول ، لما كان قد يدعي ذلك بعض الناس ، كقول نمروذ : { أنا أحيي وأميت } احتيج إلى تأكيد في أن ذلك إنما هو لله لا غيره ، فهو الذي يضحك ويبكي ، وهو المميت المحيي ، والمغني ، والمقني حقيقة ، وإن ادّعى ذلك أحد فلا حقيقة له.
وأما { وأنه هو رب الشعرى } ، فلأنها لما عبدت من دون الله تعالى ، نص على أنه تعالى هو ربها وموجدها.
ولما كان خلق الزوجين ، والإنشاء الآخر ، وإهلاك عاد ومن ذكر ، لا يمكن أن يدعي ذلك أحد ، لم يحتج إلى تأكيد ولا تنصيص أنه تعالى هو فاعل ذلك.
وعاد الأولى هم قوم هود ، وعاد الأخرى إرم.
وقيل : الأولى : القدماء لأنهم أول الأمم هلاكاً بعد قوم نوح عليه السلام.
وقيل : الأولى : المتقدّمون في الدنيا الأشراف ، قاله الزمخشري.
وقال ابن زيد والجمهور : لأنها في وجه الدهر وقديمه ، فهي أولى بالإضافة إلى الأمم المتأخرة.

وقال الطبري : وصفت بالأولى ، لأن عاداً الآخرة قبيلة كانت بمكة مع العماليق ، وهو بنو لقيم بن هزال.
وقال المبرد : عاد الأخيرة هي ثمود ، والدليل عليه قول زهير :
كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم . . .
ذكره الزهراوي.
وقيل : عاد الأخيرة : الجبارون.
وقيل : قبل الأولى ، لأنهم كانوا من قبل ثمود.
وقيل : ثمود من قبل عاد.
وقيل : عاد الأولى : هو عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح؛ وعاد الثانية : من ولد عاد الأولى.
وقرأ الجمهور : { عاداً الأولى } ، بتنوين عاداً وكسره لالتقائه ساكناً مع سكون لام الأولى وتحقيق الهمزة بعد اللام.
وقرأ قوم كذلك ، غير أنهم نقلوا حركة الهمزة إلى اللام وحذفوا الهمزة.
وقرأ نافع وأبو عمرو : بإدغام التنوين في اللام المنقول إليها حركة الهمزة المحذوفة ، وعاد هذه القراءة للمازني والمبرد.
وقالت العرب في الابتداء بعد النقل : الحمر ولحمر ، فهذه القراءة جاءت على الحمر ، فلا عيب فيها ، وهمز قالون عين الأولى بدل الواو الساكنة.
ولما لم يكن بين الضمة والواو حائل ، تخيل أن الضمة على الواو فهمزها ، كما قال :
أحب المؤقدين إليّ مؤسى . . .
وكما قرأ بعضهم : على سؤقه ، وهو توجيه شذوذ ، وفي حرف أبي عاد غير مصروف جعله اسم قبيلة ، فمنعه الصرف للتأنيث والعملية ، والدليل على التأنيث وصفه بالأولى.
وقرأ الجمهور : وثمودا مصروفاً ، وقرأه غير مصروف : الحسن وعاصم وعصمة.
{ فما أبقى } : الظاهر أن متعلق أبقى يرجع إلى عاد وثمود معاً ، أي فما أبقى عليهم ، أي أخذهم بذنوبهم.
وقيل : { فما أبقى } : أي فما أبقى منهم عيناً تطرف.
وقال ذلك الحجاج بن يوسف حين قيل له إن ثقيفاً من نسل ثمود ، فقال : قال الله تعالى : { وثموداْ فما أبقى } ، وهؤلاء يقولون : بقيت منهم بقية ، والظاهر القول الأول ، لأن ثمود كان قد آمن منهم جماعة بصالح عليه السلام ، فما أهلكهم الله مع الذين كفروا به.
{ وقوم نوح من قبل } : أي من قبل عاد وثمود ، وكانوا أول أمة كذبت من أهل الأرض ، ونوح عليه السلام أول الرسل.
والظاهر أن الضمير في { إنهم } عائد على قوم نوح ، وجعلهم { أظلم وأطغى } لأنهم كانوا في غاية العتو والإيذاء لنوح عليه السلام ، يضربونه حتى لا يكاد يتحرك ، ولا يتأثرون لشيء مما يدعوهم إليه.
وقال قتادة : دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ، كلما هلك قرن نشأ قرن ، حتى كان الرجل يأخذ بيد ابنه يتمشى به إليه ، يحذره منه ويقول : يا بني إن أبي مشى بي إلى هذا ولنا مثلك يومئذ ، فإياك أن تصدقه ، فيموت الكبير على الكفر ، وينشأ الصغير على وصية أبيه.
وقيل : الضمير في إنهم عائد على من تقدم عاد وثمود وقوم نوح ، أي كانوا أكفر من قريش وأطغى ، ففي ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهم يجوز أن يكون تأكيداً للضمير المنصوب ، ويجوز أن يكون فصلاً ، لأنه واقع بين معرفة وأفعل التفضيل ، وحذف المفضول بعد الواقع خبراً لكان ، لأنه جار مجرى خبر المبتدأ ، وحذفه فصيح فيه ، فكذلك في خبر كان.

{ والمؤتفكة } : هي مدائن قوم لوط بإجماع من المفسرين ، وسميت بذلك لأنها انقلبت ، ومنه الإفك ، لأنه قلب الحق كذباً ، أفكه فأئتفك.
قيل : ويحتمل أن يراد بالمؤتفكة : كل ما انقلبت مساكنه ودبرت أماكنه.
{ أهوى } : أي خسف بهم بعد رفعهم إلى السماء ، رفعها جبريل عليه السلام ، ثم أهوى بها إلى الأرض.
وقال المبرد : جعلها تهوي.
وقرأ الحسن : والمؤتفكات جمعاً ، والظاهر أن أهوى ناصب للمؤتفكة ، وأخر العامل لكونه فاصلة.
ويجوز أن يكون { والمؤتفكة } معطوفاً على ما قبله ، و { أهوى } جملة في موضع الحال يوضح كيفية إهلاكهم ، أي وإهلاك المؤتفكة مهوياً لها.
{ فغشاها ما غشى } : فيه تهويل للعذاب الذي حل بهم ، لما قلبها جبريل عليه السلام اتبعت حجارة غشيتهم.
واحتمل أن يكون فعل المشدد بمعنى المجرد ، فيتعدى إلى واحد ، فيكون الفاعل ما ، كقوله تعالى : { فغشيهم من اليم ما غشيهم } { فبأي آلاء ربك تتمارى } : الباء ظرفية ، والخطاب للسامع ، وتتمارى : تتشكك ، وهو استفهام في معنى الإنكار ، أي آلاؤه ، وهي النعم لا يتشكك فيها سامع ، وقد سبق ذكر نعم ونقم ، وأطلق عليها كلها آلاء لما في النقم من الزجر والوعظ لمن اعتبر.
وقرأ يعقوب وابن محيصن : ربك تمارى ، بتاء واحدة مشددة.
وقال أبو مالك الغفاري : إن قوله : { أن لا تزر } إلى قوله : { تتمارى } هو في صحف إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام.
{ هذا نذير } ، قال قتادة ومحمد بن كعب وأبو جعفر : الإشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، افتتح أول السورة به ، واختتم آخرها به.
وقيل : الإشارة إلى القرآن.
وقال أبو مالك : إلى ما سلف من الأخبار عن الأمم ، أي هذا إنذار من الإنذارات السابقة ، والنذير يكون مصدراً أو اسم فاعل ، وكلاهما من أنذر ، ولا يتقاسان ، بل القياس في المصدر إنذار ، وفي اسم الفاعل منذر؛ والنذر إما جمع للمصدر ، أو جمع لاسم الفاعل.
فإن كان اسم فاعل ، فوصف النذر بالأولى على معنى الجماعة.
ولما ذكر إهلاك من تقدّم ذكره ، وذكر قوله : { هذا نذير } ، ذكر أن الذي أنذر به قريب الوقوع فقال : { أزفت الآزفة } : أي قربت الموصوفة بالقرب في قوله : { اقتربت الساعة } وهي القيامة.
{ ليس لها من دون الله كاشفة } : أي نفس كاشفة تكشف وقتها وتعلمه ، قاله الطبري والزجاج.
وقال القاضي منذر بن سعيد : هو من كشف الضر ودفعه ، أي ليس لها من يكشف خطبها وهو لها. انتهى.
ويجوز أن تكون الهاء في كاشفة للمبالغة.
وقال الرماني وجماعة : ويحتمل أن يكون مصدراً ، { كالعاقبة } ، { وخائنة الأعين } ، أي ليس لها كشف من دون الله.
وقيل : يحتمل أن يكون التقدير حال كاشفة.
{ أفمن هذا الحديث }.

وهو القرآن ، { تعجبون } فتنكرون ، { وتضحكون } مستهزئين ، { ولا تبكون } جزعاً من وعيده.
{ وأنتم سامدون } ، قال مجاهد : معرضون.
وقال عكرمة : لاهون.
وقال قتادة : غافلون.
وقال السدّي : مستكبرون.
وقال ابن عباس : ساهون.
وقال المبرد : جامدون ، وكانوا إذا سمعوا القرآن غنوا تشاغلاً عنه.
وروي أنه عليه الصلاة والسلام لم ير ضاحكاً بعد نزولها.
فاسجدوا : أي صلوا له ، { واعبدوا } : أي أفردوه بالعبادة ، ولا تعبدوا اللات والعزى ومناة والشعرى وغيرها من الأصنام.
وخرّج البغوي بإسناد متصل إلى عبد الله ، قال : أول سورة نزلت فيها السجدة النجم ، فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسجد من خلفه إلا رجلاً رأيته أخذ كفاً من تراب فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قتل كافراً ، والرجل أمية بن خلف.
وروي أن المشركين سجدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي حرف أبي وعبد الله : تضحكون بغير واو.
وقرأ الحسن : تعجبون تضكحون ، بغير واو وبضم التاء وكسر الجيم والحاء.
وفي قوله : { ولا تبكون } ، حض على البكاء عند سماع القرآن.
والسجود هنا عند كثير من أهل العلم ، منهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، ووردت به أحاديث صحاح ، وليس يراها مالك هنا.
وعن زيد بن ثابت : أنه قرأ بها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يسجد ، والله تعالى أعلم.

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)

قال : { اقتربت الساعة }.
وممن عاين انشقاق القمر ابن مسعود جبير بن مطعم ، وأخبر به ابن عمر وأنس وحذيفة وابن عباس.
وحين أرى الله الناس انشقاق القمر ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «اشهدوا» ، وقال المشركون إذ ذاك : سحرنا محمد.
وقال بعضهم : سحر القمر.
والأمة مجمعة على خلاف من زعم أن قوله : { وانشق القمر } معناه : أنه ينشق يوم القيامة ، ويرده من الآية قوله : { وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر }.
فلا يناسب هذا الكلام أن يأتي إلا بعد ظهور ما سألوه معيناً من انشقاق القمر.
وقيل : سألوا آية في الجملة ، فأراهم هذه الآية السماوية ، وهي من أعظم الآيات ، وذلك التأثير في العالم العلوي.
وقرأ حذيفة : وقد انشق القمر ، أي اقتربت ، وتقدم من آيات اقترابها انشقاق القمر ، كما تقول : أقبل الأمير وقد جاء المبشر بقدومه.
وخطب حذيفة بالمدائن ، ثم قال : ألا إن الساعة قد اقتربت ، وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم ، ولا التفات إلى قول الحسن أن المعنى : إذ جاءت الساعة انشق القمر بعد النفخة الثانية ، ولا إلى قول من قال : إن انشقاقه عبارة عن انشقاق الظلمة عند طلوعه في أثنائها ، فالمعنى : ظهر الأمر ، فإن العرب تضرب بالقمر مثلاً فيما وضح ، كما يسمى الصبح فلقاً عند انفلاق الظلمة عنه ، وقد يعبر عن الانفلاق بالانشقاق.
قال النابغة :
فلما أدبروا ولهم دويّ . . .
دعانا عند شق الصبح داعي
وهذه أقوال فاسدة ، ولولا أن المفسرين ذكروها ، لأضربت عن ذكرها صفحاً.
{ وإن يروا آية يعرضوا } ، وقرىء : وإن يروا مبنياً للمفعول : أي من شأنهم وحالتهم أنهم متى رأوا ما يدل على صدق الرسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة أعرضوا عن الإيمان به وبتلك الآية.
وجاءت الجملة شرطية ليدل على أنهم في الاستقبال على مثل حالهم في الماضي ، ويقولوا : { سحر مستمر } : أي دائم ، ومنه قول الشاعر :
ألا إنما الدنيا ليال وأعصر . . .
وليس على شيء قويم بمستمر
لما رأوا الآيات متوالية لا تنقطع ، قالوا ذلك.
وقال أبو العالية والضحاك والأخفش : مستمر : مشدود موثق من مرائر الحبل ، أي سحر قد أحكم ، ومنه قول الشاعر :
حتى استمرت على سر مريرته . . .
صدق العزيمة لا رياً ولا ضرعا
وقال أنس ويمان ومجاهد والكسائي والفراء ، واختاره النحاس : مستمر : مار ذاهب زائل عن قريب ، عللوا بذلك أنفسهم.
وقيل مستمر : شديد المرارة ، أي مستبشع عندنا مر ، يقال : مر الشيء وأمر ، إذا صار مراً ، وأمر غيره ومره ، يكون لازماً ومتعدياً.
وقيل : مستمر : يشبه بعضه بعضاً ، أي استمرت أفعاله على هذا الوجه من التخيلات.
وقيل : مستمر : مار من الأرض إلى السماء ، أي بلغ من سحره أنه سحر القمر.

{ وكذبوا } : أي بالآيات وبمن جاء بها ، أي قالوا هذا سحر مستمر سحرنا محمد.
{ واتبعوا أهواءهم } : أي شهوات أنفسهم وما يهوون.
{ وكل أمر مستقر } ، بكسر القاف وضم الراء : مبتدأ وخبر.
قال مقاتل : أي له غاية ينتهي إليها.
وقال الكلبي : مستقرّ له حقيقة ، فما كان في الدنيا فسيظهر ، وما كان في الآخرة فسيعرف.
وقال قتادة : معناه أن الخير يستقر بأهل الخير ، والشر بأهل الشر.
وقيل : يستقر الحق ظاهراً ثابتاً ، والباطل زاهقاً ذاهباً.
وقيل : كل أمر من أمرهم وأمره يستقر على خذلان أو نصرة في الدنيا وسعادة ، أو شقاوة في الآخرة.
وقرأ شيبة : مستقر بفتح القاف ، ورويت عن نافع؛ وقال أبو حاتم : لا وجه لفتح القاف. انتهى.
وخرجت على حذف مضاف ، أي ذو استقرار ، وزمان استقرار.
وقرأ أبو جعفر وزيد بن علي : مستقر بكسر القاف والراء معاً صفة لأمر.
وخرجه الزمخشري على أن يكون وكل عطفاً على الساعة ، أي اقتربت الساعة ، واقترب كل أمر مستقر يستقر ويتبين حاله ، وهذا بعيد لطول الفصل بجمل ثلاث ، وبعيد أن يوجد مثل هذا التركيب في كلام العرب ، نحو : أكلت خبزاً وضربت زيداً ، وأن يجيء زيد أكرمه ورحل إلى بني فلان ولحماً ، فيكون ولحماً عطفاً على خبزاً ، بل لا يوجد مثله في كلام العرب.
وخرجه صاحب اللوامح على أنه خبر لكل ، فهو مرفوع في الأصل ، لكنه جر للمجاورة ، وهذا ليس بجيد ، لأن الخفض على الجوار في غاية الشذوذ ، ولأنه لم يعهد في خبر المبتدأ ، إنما عهد في الصفة على اختلاف النحاة في وجوده ، والأسهل أن يكون الخبر مضمراً لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : { وكل أمر مستقر } بالغوه ، لأن قبله : { وكذبوا واتبعوا أهواءهم } : أي وكل أمر مستقر لهم في القدر من خير أو شر بالغه هم.
وقيل : الخبر حكمة بالغة ، أي وكل أمر مستقر حكمة بالغة.
ويكون : { ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر } اعتراض بين المبتدأ وخبره.
{ ولقد جاءهم من الأنباء } : أي من الأخبار الواردة في القرآن في إهلاك من كذب الأنبياء وما يؤولون إليه في الآخرة ، { ما فيه مزدجر } : أي ازدجار رادع لهم عن ما هم فيه ، أو موضع ازدجار وارتداع ، أي ذلك موضع ازدجار ، أو مظنة له.
وقرىء مزجر ، بإبدال تاء الافتعال زاياً وإدغام الزاي فيها.
وقرأ زيد بن علي : مزجر اسم فاعل من أزجر ، أي صار ذا زجر ، كأعشب : أي صار ذا عشب.
وقرأ الجمهور : { حكمة بالغة } برفعهما ، وجوزوا أن تكون حكمة بدلاً من مزدجر أو من ما ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وتقدم قول من جعله خبراً عن كل في قراءة من قرأ مستقر بالجر.
وقرأ اليماني : حكمة بالغة بالنصب فيهما حالاً من ما ، سواء كانت ما موصولة أم موصوفة تخصصت بالصفة ، ووصفت الحكمة ببالغة لأنها تبلغ غيرها.

{ فما تغنى النذر } مع هؤلاء الكفرة.
ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : { فتول عنهم } أي أعرض عنهم ، فإن الإنذار لا يجدي فيهم.
ثم ذكر شيئاً من أحوال الآخرة وما يؤولون إليه ، إذ ذاك متعلق باقتراب الساعة ، فقال : { يوم يدعو الداعي } ، والناصب ليوم اذكر مضمرة ، قاله الرماني ، أو يخرجون.
وقال الحسن : المعنى : فتول عنهم إلى يوم ، وهذا ضعيف من جهة اللفظ ومن جهة المعنى.
أما من جهة اللفظ فحذف إلى ، وأما من جهة المعنى فإن توليه عنهم ليس مغياً بيوم يدع الداع.
وجوزوا أن يكون منصوباً بقوله : { فما تغني النذر } ، ويكون { فتول عنهم } اعتراضاً ، وأن يكون منصوباً بقوله : { يقول الكافرون } ، ومنصوباً على إضمار انتظر ، ومنصوباً بقوله : { فتول } ، وهذا ضعيف جداً ، ومنصوباً بمستقر ، وهو بعيد أيضاً.
وحذفت الواو من يدع في الرسم اتباعاً للنطق ، والياء من الداع تخفيفاً أجريت أل مجرى ما عاقبها ، وهو التنوين.
فكما تحذف معه حذفت معها ، والداع هو إسرافيل ، أو جبرائيل ، أو ملك غيرهما موكل بذلك ، أقوال.
وقرأ الجمهور : { نكر } بضم الكاف ، وهو صفة على فعل ، وهو قليل في الصفات ، ومنه رجل شلل : أي خفيف في الحاجة ، وناقة أجد ، ومشية سجح ، وروضة أنف.
وقرأ الحسن وابن كثير : وشبل بإسكان الكاف ، كما قالوا : شغل وشغل ، وعسر وعسر.
وقرأ مجاهد وأبو قلابة والجحدري وزيد بن علي : نكر فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول ، أي جهل فنكر.
وقال الخليل : النكر نعت للأمر الشديد ، والوجل الداهية ، أي تنكره النفوس لأنها لم تعهد مثله ، وهو يوم القيامة.
قال مالك بن عوف النضري :
أقدم محاج أنه يوم نكر . . .
مثلي على مثلك يحمي ويكر
وقرأ قتادة وأبو جعفر وشيبة والأعرج والجمهور : خشعاً جمع تكسير؛ وابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري وأبو عمرو وحمزة والكسائي : خاشعاً بالإفراد.
وقرأ أبيّ وابن مسعود : خاشعة ، وجمع التكسير أكثر في كلام العرب.
وقال الفراء وأبو عبيدة : كله جائز.
انتهى ، ومثال جمع التكسير قول الشاعر :
بمطرد لذن صحاح كعربه . . .
وذي رونق عضب يقد الوانسا
ومثال الإفراد قوله :
ورجال حسن أوجههم . . .
من أياد بن نزار بن معد
وقال آخر :
ترمي الفجاج به الركبان معترضاً . . .
أعناق بزلها مرخى لها الجدل
وانتصب خشعاً وخاشعا وخاشعة على الحال من ضمير يخرجون ، والعامل فيه يخرجون ، لأنه فعل متصرف ، وفي هذا دليل على بطلان مذهب الجرمى ، لأنه لا يجوز تقدم الحال على الفعل وإن كان متصرفاً.
وقد قالت العرب : شتى تؤب الحلبة ، فشتى حال ، وقد تقدمت على عاملها وهو تؤب ، لأنه فعل متصرف ، وقال الشاعر :
سريعاً يهون الصعب عند أولي النهى . . .
إذا برجاء صادق قابلوه البأسا
فسريعاً حال ، وقد تقدمت على عاملها ، وهو يهون.

وقيل : هو حال من الضمير المجرور في عنهم من قوله : { فتول عنهم } وقيل : هو مفعول بيدع ، أي قوماً خشعاً ، أو فريقاً خشعاً ، وفيه بعد.
ومن أفرد خاشعاً وذكر ، فعلى تقدير تخشع أبصارهم؛ ومن قرأ خاشعة وأنث ، فعلى تقدير تخشع؛ ومن قرأ خشعاً جمع تكسير ، فلأن الجمع موافق لما بعده ، وهو أبصارهم ، وموافق للضمير الذي هو صاحب الحال في يخرجون ، وهو نظير قولهم : مررت برجال كرام آباؤهم.
وقال الزمخشري : وخشعاً على يخشعن أبصارهم ، وهي لغة من يقول : أكلوني البراغيث ، وهم طيء. انتهى.
ولا يجري جمع التكسير مجرى جمع السلامة ، فيكون على تلك اللغة النادرة القليلة.
وقد نص سيبويه على أن جمع التكسير أكثر في كلام العرب ، فكيف يكون أكثر ، ويكون على تلك اللغة النادرة القليلة؟ وكذا قال الفراء حين ذكر الإفراد مذكراً ومؤنثاً وجمع التكسير ، قال : لأن الصفة متى تقدمت على الجماعة جاز فيها جميع ذلك ، والجمع موافق للفظها ، فكان أشبه. انتهى.
وإنما يخرج على تلك اللغة إذا كان الجمع مجموعاً بالواو والنون نحو : مررت بقوم كريمين آباؤهم.
والزمخشري قاس جمع التكسير على هذا الجمع السالم ، وهو قياس فاسد ، ويزده النقل عن العرب أن جمع التكسير أجود من الإفراد ، كما ذكرناه عن سيبويه ، وكما دل عليه كلام الفراء؛ وجوز أن يكون في خشعاً ضمير ، وأبصارهم بدل منه.
وقرىء : خشع أبصارهم ، وهي جملة في موضع الحال ، وخشع خبر مقدم ، وخشوع الأبصار كناية عن الذلة ، وهي في العيون أظهر منها في سائر الجوارح؛ وكذلك أفعال النفس من ذلة وعزة وحياء وصلف وخوف وغير ذلك.
{ كأنهم جراد منتشر } : جملة حالية أيضاً ، شبههم بالجراد في الكثرة والتموج ، ويقال : جاءوا كالجراد في الجيش الكثير المتموج ، ويقال : كالذباب.
وجاء تشبيههم أيضاً بالفراش المبثوث ، وكل من الجراد والفراش في الخارجين يوم الحشر شبه منهما.
وقيل : يكونون أولاً كالفراش حين يموجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون ، لأن الفراش لا جهة له يقصدها ، ثم كالجراد المنتشر إذا توجهوا إلى المحشر والداعي ، فهما تشبيهان باعتبار وقتين ، قال معناه مكي بن أبي طالب.
{ مهطعين } ، قال أبو عبيدة : مسرعين ، ومنه قوله :
بدجلة دارهم ولقد أراهم . . .
بدجلة مهطعين إلى السماع
زاد غيره : مادّي أعناقهم ، وزاد غيره : مع هز ورهق ومد بصر نحو المقصد ، إما لخوف أو طمع ونحوه.
وقال قتادة : عامدين.
وقال الضحاك : مقبلين.
وقال عكرمة : فاتحين آذانهم إلى الصوت.
وقال ابن عباس : ناظرين.
ومنه قول الشاعر :
تعبدني نمر بن سعد وقد أرى . . .
ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع
وقيل : خافضين ما بين أعينهم.
وقال سفيان : خاشعة أبصارهم إلى السماء.
{ يوم عسر } ، لما يشاهدون من مخايل هوله ، وما يرتقبون من سوء منقلبهم فيه.
{ كذبت قبلهم } : أي قبل قريش ، { قوم نوح } وفيه وعيد لقريش وضرب مثل لهم.

ومفعول كذبت محذوف ، أي كذبت الرسل ، فكذبوا نوحاً عليه السلام.
لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأساً ، كذبوا نوحاً لأنه من جملة الرسل.
ويجوز أن يكون المحذوف نوحاً أول مجيئه إليهم ، فكذبوه تكذيباً يعقبه تكذيب.
كلما مضى منهم قرن مكذب ، تبعه قرن مكذب.
وفي لفظ عبدنا تشريف وخصوصية بالعبودية ، كقوله تعالى : { وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان } { سبحان الذي أسرى بعبده } { وقالوا مجنون } : أي هو مجنون.
لما رأوا الآيات الدالة على صدقه قالوا : هو مصاب الجن ، لم يقنعوا بتكذيبه حتى نسبوه إلى الجنون ، أي يقول ما لا يقبله عاقل ، وذلك مبالغة في تكذيبهم.
{ وازدجر فدعا ربه أني مغلوب } ، الظاهر أن قوله : { وازدجر } من أخبار الله تعالى ، أي انتهروه وزجروه بالسبب والتخويف ، قاله ابن زيد وقرأ : { لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين }.
قيل : والمعنى أنهم فعلوا به ما يوجب الانزجار من دعائهم حتى ترك دعوتهم إلى الإيمان وعدل إلى الدعاء عليهم.
وقال مجاهد : وازدجر من تمام قولهم ، أي قالوا وازدجر : أي استطير جنوناً ، أي ازدجرته الجن وذهبت بلبه وتخبطته.
وقرأ ابن إسحاق وعيسى والأعمش وزيد بن عليّ ، ورويت عن عاصم : إني بكسر الهمزة ، على إضمار القول على مذهب البصريين ، أو على إجراء الدعاء مجرى القول على مذهب الكوفيين.
وقرأ الجمهور : بفتحها ، أي بأني مغلوب ، أي غلبني قومي ، فلم يسمعوا مني ، ويئست من إجابتهم لي.
{ فانتصر } : أي فانتقم بعذاب تبعثه عليهم.
وإنما دعا عليهم بعد ما يئس منهم وتفاقم أمرهم ، وكان الواحد من قومه يخنقه إلى أن يخر مغشياً عليه ، وقد كان يقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ، ومتعلق { فانتصر } محذوف.
وقيل : التقدير فانتصر لي منهم بأن تهلكهم.
وقيل : فانتصر لنفسك ، إذ كذبوا رسولك فوقعت الإجابة.
وللمتصوفة قول في { مغلوب فانتصر } حكاه ابن عطية ، يوقف عليه في كتابه.
{ ففتحنا } : بيان أن الله تعالى انتصر منهم وانتقم.
قيل : ومن العجب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين ، فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم.
{ أبواب السماء بماء } : جعل الماء كأنه آلة يفتح بها ، كما تقول : فتحت الباب بالمفتاح ، وكأن الماء جاء وفتح الباب ، فجعل المقصود ، وهو الماء ، مقدّماً في الوجود على فتح الباب المغلق.
ويجوز أن تكون الباء للحال ، أي ملتبسة بماء منهمر.
وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج ويعقوب : ففتحنا مشدّداً؛ والجمهور : مخففاً ، { أبواب السماء } ، هذا عند الجمهور مجاز وتشبيه ، لأن المطر كثره كأنه نازل من أبواب ، كما تقول : فتحت أبواب القرب ، وجرت مزاريب السماء.
وقال عليّ ، وتبعه النقاش : يعني بالأبواب المجرة ، وهي سرع السماء كسرع العيبة.
وذهب قوم إلى أنها حقيقة فتحت في السماء أبواب جرى منها الماء ، ومثله مروي عن ابن عباس ، قال : أبواب السماء فتحت من غير سحاب ، لم تغلق أربعين يوماً.

قال السدي : { منهمر } : أي كثير.
قال الشاعر :
أعينيّ جودا بالدموع الهوامر . . .
على خير باد من معد وحاضر
وقرأ الجمهور : { وفجرنا } بتشديد الجيم؛ وعبد الله وأصحابه وأبو حيوة والمفضل عن عاصم : بالتخفيف؛ والمشهور أن العين لفظ مشترك.
والظاهر أنها حقيقة في العين الباصرة ، مجاز في غيرها ، وهو في غير الماء مجاز مشهور ، غالب وانتصب عيوناً على التمييز ، جعلت الأرض كلها كأنها عيون تتفجر ، وهو أبلغ من : وفجرنا عيون الأرض ، ومن منع مجيء التمييز من المفعول أعربه حالاً ، ويكون حالاً مقدرة ، وأعربه بعضهم مفعولاً ثانياً ، كأنه ضمن { وفجرنا } : صيرنا بالتفجير ، { الأرض عيوناً }.
وقيل : وفجرت أربعين يوماً.
وقرأ الجمهور : { فالتقى الماء } ، وهو اسم جنس ، والمعنى : ماء السماء وماء الأرض.
وقرأ عليّ والحسن ومحمد بن كعب والجحدري : الماءان.
وقرأ الحسن أيضاً : الماوان.
وقال الزمخشري : وقرأ الحسن ماوان ، بقلب الهمزة واواً ، كقولهم : علباوان. انتهى.
شبه الهمزة التي هي بدل من هاء في الماء بهمزة الإلحاق في علبا.
وعن الحسن أيضاً : المايان ، بقلب الهمزة ياء ، وفي كلتا القراءتين شذوذ.
{ على أمر قد قدر } : أي على حالة ورتبة قد فصلت في الأزل.
وقيل : على مقادير قد رتبت وقت التقائه ، فروى أن ماء الأرض كان على سبعة عشر ذراعاً ، ونزل ماء السماء على تكملة أربعين ذراعاً.
وقيل : كان ماء الأرض أكثر.
وقيل : كانا متساويين ، نزل من السماء قدر ما خرج من الأرض.
وقيل : { على أمر قد قدر } : في اللوح أنه يكون ، وهو هلاك قوم نوح عليه السلام بالطوفان ، وهذا هو الراجح ، لأن كل قصة ذكرت بعد هذه القصة ذكر الله هلاك مكذبي الرسل فيها ، فيكون هذا كناية عن هلاك قوم نوح ، ولذلك ذكر نجاة نوح بعدها في قوله : { وحملناه على ذات ألواح ودسر }.
وقرأ أبو حيوة : قدر بشد الدال؛ والجمهور؛ بتخفيفها ، وذات الألواح والدسر هي السفينة التي أنشأها نوح عليها السلام.
ويفهم من هذين الوصفين أنها السفينة ، فهي صفة تقوم مقام الموصوف وتنوب عنه ، ونحوه : قميصي مسرودة من حديد ، أي درع ، وهذا من فصيح الكلام وبديعه.
ولو جمعت بين الصفة والموصوف فيه ، لم يكن بالفصيح والدسر المسامير ، قاله الجمهور.
وقال الحسن وابن عباس : مقاديم السفينة لأنها تدسر الماء ، أي تدفعه ، والدسر : الدفع.
وقال مجاهد وغيره : بطن السفينة.
وعنه أيضاً : عوارض السفينة.
وعنه أيضاً : أضلاع السفينة ، تجري في ذلك الماء المتلقي بحفظ منا وكلاءة ، بحيث نجا من كان فيها وغرق غيرهم.
وقال مقاتل بن سليمان : { بأعيننا } : بوحينا.
وقيل : بأمرنا.
وقيل : بأوليائنا.
يقال : فلان عين من عيون الله تعالى : أي ولي من أوليائه.
وقيل : بأعين الماء التي أنبعناها.
وقيل : من حفظها من الملائكة سماهم أعيناً.
وقرأ زيد بن علي وأبو السمال : بأعينا بالإدغام؛ والجمهور : بالفك.

{ جزاء } : أي مجازاة ، { لمن كان كفر } : أي لنوح عليه السلام ، إذ كان نعمة أهداها الله إلى قومه لأن يؤمنوا فكفروها ، المعنى : أنه حمله في السفينة ومن آمن معه كان جزاء له على صبره على قومه المئين من السنين ، ومن كناية عن نوح.
قيل : يعني بمن كفر لمن جحدت نبوته.
وقال ابن عباس ومجاهد : من يراد به الله تعالى ، كأنه قال : غضباً وانتصاراً لله تعالى ، أي انتصر لنفسه ، فأغرق الكافرين ، وأنجى المؤمنين ، وهذان التأويلان في من على قراءة الجمهور.
كفر : مبنياً للمفعول.
وقرأ مسلمة بن محارب : بإسكان الفاء خفف فعل ، كما قال الشاعر :
لو عصر منه البان والمسك انعصر . . .
يريد : لو عصر.
وقرأ زيد بن رومان وقتادة وعيسى : كفر مبنياً للفاعل ، فمن يراد به قوم نوح : أي إن ما نشأ من تفتيح أبواب السماء بالماء ، وتفجر عيون الأرض ، والتقاء الماءين من غرق قوم نوح عليه الصلاة والسلام ، كان جزاء لهم على كفرهم.
وكفر : خبر لكان ، وفي ذلك دليل على وقوع الماضي بغير قد خبراً لكان ، وهو مذهب البصريين وغيرهم.
يقول : لا بد من قد ظاهرة أو مقدرة ، على أنه يجوز إن كان هنا زائدة ، أي لمن كفر ، والضمير في { تركناها } عائد على الفعلة والقصة.
وقال قتادة والنقاش وغيرهما : عائد على السفينة ، وأنه تعالى أبقى خشبها حتى رآه بعض أوائل هذه الأمة.
وقال قتادة : وكم من سفينة بعدها صارت رماداً! وقرأ الجمهور : { مدكر } ، بإدغام الذال في الدال المبدلة من تاء الافتعال؛ وقتادة : فيما نقل ابن عطية بالذال ، أدغمه بعد قلب الثاني إلى الأول.
وقال صاحب كتاب اللوامح قتادة : فهل من مذكر ، فاعل من التذكير ، أي من يذكر نفسه أو غيره بما مضى من القصص. انتهى.
وقرىء : مدتكر على الأصل.
{ فكيف كان عذابي ونذر } : تهويل لما حل بقوم نوح من العذاب وإعظام له ، إذ قد استأصل جميعهم وقطع دابرهم ، فلم ينسل منهم أحد؛ أي كيف كان عاقبة إنذاري؟ والنذر : جمع نذير وهو الإنذار ، وفيه توقيف لقريش على ما حل بالمكذبين أمثالهم.
وكان ، إن كانت ناقصة ، كانت كيف في موضع خبر كان؛ وإن كانت تامة ، كانت في موضع نصب على الحال.
والاستفهام هنا لا يراد به حقيقته ، بل المعنى على التذكير بما حل بهم.
{ ولقد يسرنا } : أي سهلنا ، { القرآن للذكر } : أي للإذكار والاتعاظ ، لما تضمنه من الوعظ والوعد والوعيد.
{ فهل من مدكر } ، قال ابن زيد : من متعظ.
وقال قتادة : فهل من طالب خير؟ وقال محمد بن كعب : فهل من مزدجر عن المعاصي؟ وقيل : للذكر : للحفظ ، أي سهلناه للحفظ ، لما اشتمل عليه من حسن النظم وسلامة اللفظ ، وعروه عن الحشو وشرف المعاني وصحتها ، فله تعلق بالقلوب.
{ فهل من مدكر } : أي من طالب لحفظه ليعان عليه ، وتكون زواجره وعلومه حاضرة في النفس.
وقال ابن جبير : لم يستظهر شيء من الكتب الإلهية غير القرآن.
وقيل : يسرنا : هيأنا { القرآن للذكر } ، كقولهم : يسر ناقته للسفر إذا رحلها ، ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه ، قال الشاعر :
وقمت إليه باللجام ميسراً . . .
هنالك يجزيني الذي كنت أصنع

كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)

تقدمت قصة عاد مطولة ومتوسطة ، وهنا ذكرها تعالى موجزة ، كما ذكر قصة نوح عليه السلام موجزة.
ولما لم يكن لقوم نوح علم ، ذكر قوم مضافاً إلى نوح.
ولما كانت عاد علماً لقوم هود ، ذكر العلم ، لأنه أبلغ في الذكر من التعريف بالإضافة.
وتكرر التهويل بالاستفهام قبل ذكر ما حل بهم وبعده ، لغرابة ما عذبوا به من الريح ، وانفرادهم بهذا النوع من العذاب ، ولأن الاختصار داعية الاعتبار والتدبر والصرصر الباردة ، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة.
وقيل ، المصوتة والجمهور : على إضافة يوم إلى نحس ، وسكون الحاء.
وقرأ الحسن : بتنوين يوم وكسر الحاء ، جعله صفة لليوم ، كقوله تعالى : { في أيام نحسات } { مستمر } ، قال قتادة : استمر بهم حتى بلغهم جهنم.
وعن الحسن والضحاك : كان مراً عليهم.
وروي أنه كان يوم الأربعاء ، والذي يظهر أنه ليس يوماً معيناً ، بل أريد به الزمان والوقت ، كأنه قيل : في وقت نحس.
ويدل على ذلك أنه قال في سورة فصلت : { فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيامٍ نحساتٍ } وقال في الحاقة : { سخرها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيامٍ حسوماً } إلا أن يكون ابتداء الريح في يوم الأربعاء ، فعبر بوقت الابتداء ، وهو يوم الأربعاء ، فيمكن الجمع بينها.
{ تنزع الناس } : يجوز أن يكون صفة للريح ، وأن يكون حالاً منها ، لأنها وصفت فقربت من المعرفة.
ويحتمل أن يكون تنزع مستأنفاً ، وجاء الظاهر مكان المضمر ليشمل ذكورهم وإناثهم ، إذ لو عاد بضمير المذكورين ، لتوهم أنه خاص بهم ، أي تقلعهم من أماكنهم.
قال مجاهد : يلقى الرجل على رأسه ، فتفتت رأسه وعنقه وما يلي ذلك من بدنه.
وقيل : كانوا يصطفون آخذي بعضهم بأيدي بعض ، ويدخلون في الشعاب ، ويحفرون الحفر فيندسون فيها ، فتنزعهم وتدق رقابهم.
والجملة التشبيهية حال من الناس ، وهي حال مقدرة.
وقال الطبري : في الكلام حذف تقديره : فتتركهم.
{ كأنهم أعجاز نخل } : فالكاف في موضع نصب بالمحذوف شبههم ، بأعجاز النخل المنقعر ، إذ تساقطوا على الأرض أمواتاً وهم جثث عظام طوال.
والأعجاز : الأصول بلا فروع قد انقلعت من مغارسها.
وقيل : كانت الريح تقطع رؤوسهم ، فتبقى أجساداً بلا رؤوس ، فأشبهت أعجاز النخل التي انقلعت من مغرسها.
وقرأ أبو نهيك : أعجز على وزن أفعل ، نحو ضبع وأضبع.
والنخل اسم جنس يذكر ويؤنث ، وإنما ذكر هنا لمناسبة الفواصل ، وأنث في قوله : { أعجاز نخل خاوية } في الحاقة لمناسبة الفواصل أيضاً.
وقرأ أبو السمال ، فيما ذكر الهذلي في كتابه الكامل ، وأبو عمرو والداني : برفعهما.
فأبشر : مبتدأ ، وواحد صفته ، والخبر نتبعه.
ونقل ابن خالويه ، وصاحب اللوامح ، وابن عطية رفع أبشر ونصب واحداً عن أبي السمال.
قال صاحب اللوامح : فأما رفع أبشر فبإضمار الخبر بتقدير : أبشر منا يبعث إلينا ، أو يرسل ، أو نحوهما؟ وأما انتصاب واحداً فعلى الحال ، إما مما قبله بتقدير : أبشر كائن منا في الحال توحده ، وإما مما بعده بمعنى : نتبعه في توحده ، أو في انفراده.

وقال ابن عطية : ورفعه إما على إضمار فعل مبني للمفعول ، التقدير : أينبأ بشر؟ وإما على الابتداء ، والخبر في قوله : { نتبعه } ، وواحداً على هذه القراءة حال إما من الضمير في نتبعه ، وإما من المقدر مع منا ، كأنه يقول : أبشر كائن منا واحداً؟ وفي هذا نظر.
وقولهم ذلك حسد منهم واستبعاد أن يكون نوع البشر يفضل بعضه بعضاً هذا الفضل ، فقالوا : نكون جمعاً ونتبع واحداً ، ولم يعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، ويفيض نور الهدى على من رضيه. انتهى.
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف أنكروا أن يتبعوا بشراً منهم واحداً؟ قلت : قالوا : أبشراً إنكاراً؟ لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية ، وطلبوا أن يكونوا من جنس أعلى من جنس البشر ، وهم الملائكة ، وقالوا منا ، لأنه إذا كان منهم ، كانت المماثلة أقوى ، وقالوا واحداً إنكاراً ، لأن تتبع الأمة رجلاً واحداً ، وأرادوا واحداً من أبنائهم ليس بأشرفهم ولا أفضلهم ، ويدل عليه.
{ أألقي الذكرعليه من بيننا } : أي أأنزل عليه الوحي من بيننا؟ وفينا من هو أحق منه بالاختيار للنبوة.
انتهى ، وهو حسن ، على أن فيه تحميل اللفظ ما لا يحتمله.
{ إنا إذا } : أي إن اتبعناه ، فنحن في ضلال : أي بعد عن الصواب وحيرة.
وقال الضحاك : في تيه.
وقال وهب : بعد عن الحق ، { وسعر } : أي عذاب ، قاله ابن عباس.
وعنه وجنون يقال : ناقة مسعورة إذا كانت تفرط في سيرها كأنها مجنونة ، وقال الشاعر :
كأن بها سعراً إذا العيس هزها . . .
زميل وإزجاء من السير متعب
وقال قتادة : وسعر : عناء.
وقال ابن بحر : وسعر جمع سعير ، وهو وقود النار ، أي في خطر كمن هو في النار. انتهى.
وروي أنه كان يقول لهم : إن لم تتبعوني ، كنتم في ضلال عن الحق وسعر : أي نيران ، فعكسوا عليه فقالوا : إن اتبعناك كنا إذاً كما تقول.
ثم زادوا في الإنكار والاستبعاد فقالوا : { أألقي } : أي أأنزل؟ قيل : وكأنه يتضمن العجلة في الفعل ، والعرب تستعمل هذا الفعل ، ومنه : { وألقَيت عليك محبة مني } { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } والذكر هنا : الوحي والرسالة وما جاءهم من الحكمة والموعظة.
ثم قالوا : ليس الأمر كما تزعم بل هو القرآن.
{ أشر } : أي بطر ، يريد العلوّ علينا ، وأن يقتادنا ويتملك طاعتنا.
وقرأ قتادة وأبو قلابة : بل هو الكذاب الأشر ، بلام التعريف فيهما وبفتح الشين وشد الراء ، وكذا الأشر الحرف الثاني.
وقرأ الحرف الثاني مجاهد ، فيما ذكر صاحب اللوامح وأبو قيس الأودي الأشر بثلاث ضمات وتخفيف الراء.
ويقال : أشر وأشر ، كحذر وحذر ، فضمة الشين لغة وضم الهمزة تبع لضمة الشين.
وحكى الكسائي عن مجاهد : ضم الشين.

وقرأ أبو حيوة : هذا الحرف الآخر الأشر أفعل تفضيل ، وإتمام خير ، وشر في أفعل التفضيل قليل.
وحكى ابن الأنباري أن العرب تقول : هو أخير وهو أشر.
قال الراجز.
بلال خير الناس وابن الأخير . . .
وقال أبو حاتم : لا تكاد العرب تتكلم بالأخير والأشر إلا في ضرورة الشعر ، وأنشد قول رؤبة بلال البيت.
وقرأ علي والجمهور : سيعلمون بياء الغيبة ، وهو من إعلام الله تعالى لصالح عليه السلام؛ وابن عامر وحمزة وطلحة وابن وثاب والأعمش : بتاء الخطاب : أي قل لهم يا صالح وعداً يراد به الزمان المستقبل ، لا اليوم الذي يلي يوم خطابهم ، فاحتمل أن يكون يوم العذاب الحال بهم في الدنيا ، وأن يكون يوم القيامة ، وقال الطرماح :
ألا عللاني قبل نوح النوائح . . .
وقبل اضطراب النفس بين الجوانح
وقبل غد يا لهف نفسي في غد . . .
إذا راح أصحابي ولست برائح
أراد وقت الموت ، ولم يرد غداً بعينه.
وفي قوله : { سيعلمون غداً } تهديد ووعيد ببيان انكشاف الأمر ، والمعنى : أنهم هم الكذابون الأشرون.
وأورد ذلك مورد الإبهام والاحتمال ، وإن كانوا هم المعنيين بقوله تعالى ، حكاية عن قول نوح عليه الصلاة والسلام : { فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه } والمعنى به قومه ، وكذا قول شعيب عليه السلام : { سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب } وقول الشاعر :
فلئن لقيتك خاليين لتعلمن . . .
أني وأيك فارس الأحزاب
وإنما عنى أنه فارس الأحزاب ، لا الذي خاطبه.
{ إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم } : أي ابتلاء واختباراً ، وآنس بذلك صالحاً.
ولما هددهم بقوله : { سيعلمون غداً } ، وكانوا قد ادعوا أنه كاذب ، قالوا : ما الدليل على صدقك؟ قال الله تعالى : { إنا مرسلوا الناقة } : أي مخرجوها من الهضبة التي سألوها.
{ فارتقبهم } : أي فانتظرهم وتبصر ما هم فاعلون ، { واصطبر } على أذاهم ولا تعجل حتى يأتي أمر الله.
{ ونبئهم أن الماء } : أي ماء البئر الذي لهم ، { قسمة بينهم } : أي بين ثمود وبين الناقة غلب ثمود ، فالضمير في بينهم لهم وللناقة.
أي لهم شرب يوم ، وللناقة شرب يوم.
وقرأ الجمهور : قسمة بكسر القاف؛ ومعاذ عن أبي عمرو : بفتحها.
{ كل شرب محتضر } أي محضور لهم وللناقة.
وتقدمت قصة الناقة مستوفاة ، فأغنى عن إعادتها ، وهنا محذوف ، أي فكانوا على هذه الوتيرة من قسمة الماء ، فملوا ذلك وعزموا على عقر الناقة.
{ فنادوا صاحبهم } ، وهو قدار بن سالف ، { فتعاطى } : هو مطاوع عاطى ، وكأن هذه الفعلة تدافعها الناس وعاطاها بعضهم بعضاً ، فتعاطاها قدار وتناول العقر بيده.
ولما كانوا راضين ، نسب ذلك إليهم في قوله : { فعقروا الناقة } وفي قوله : { فكذبوه فعقروها } والصيحة التي أرسلت عليهم.
يروى أن جبريل عليه السلام صاح في طرف منازلهم ، فتفتتوا وهمدوا وصاروا { كهشيم المحتظر } وهو ما تفتت وتهضم من الشجر.
والمحتظر : الذي يعمل الحظيرة ، فإنه تتفتت منه حالة العمل وتتساقط أجزاء مما يعمل به ، أو يكون الهشيم ما يبس من الحظيرة بطول الزمان ، تطأه البهائم فيتهشم.

وقرأ الجمهور : بكسر الظاء؛ وأبو حيوة وأبو السمال وأبو رجاء وأبو عمرو بن عبيد : بفتحها ، وهو موضع الاحتظار.
وقيل : هو مصدر ، أي كهشيم الاحتظار ، وهو ما تفتت حالة الاحتظار.
والحظيرة تصنعها العرب وأهل البوادي للمواشي والسكنى من الأغصان والشجر المورق والقصب.
والحظر : المنع؛ وعن ابن عباس وقتادة ، أن المحتظر هو المحترق.
قال قتادة : كهشيم محترق؛ وعن ابن جبير : هو التراب الذي يسقط من الحائط البالي.
وقيل : المحتظر بفتح الظاء هو الهشيم نفسه ، فيكون من إضافة الموصوف إلى صفته ، كمسجد الجامع على من تأوله كذلك ، وكان هنا قيل : بمعنى صار.

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

تقدمت قصة لوط عليه السلام وقومه.
والحاصب من الحصباء ، وهو المعنيّ بقوله تعالى : { وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل } { إلا آل لوط } ، قيل : إلا ابنتاه ، و { بسحر } : هو بكرة ، فلذلك صرف ، وانتصب { نعمة } على أنه مفعول من أجله ، أي نجيناهم لإنعامنا عليهم أو على المصدر ، لأن المعنى : أنعمنا بالتنجية إنعاماً.
{ كذلك نجزي } : أي مثل ذلك الإنعام والتنجية نجزي { من شكر } إنعامنا وأطاع وآمن.
{ ولقد أنذرهم بطشتنا } : أي أخذتنا لهم بالعذاب ، { فتماروا } : أي تشككوا وتعاطوا ذلك ، { بالنذر } : أي بالإنذار ، أو يكون جمع نذير.
{ فطمسنا } ، قال قتادة : الطمس حقيقة جر جبريل عليه السلام على أعينهم جناحه ، فاستوت مع وجوههم.
وقال أبو عبيدة : مطموسة بجلد كالوجه.
قيل : لما صفقهم جبريل عليه السلام بجناحه ، تركهم يترددون لا يهتدون إلى الباب ، حتى أخرجهم لوط عليه السلام.
وقال ابن عباس والضحاك : هذه استعارة ، وإنما حجب إدراكهم ، فدخلوا المنزل ولم يروا شيئاً ، فجعل ذلك كالطمس.
وقرأ الجمهور : فطمسنا بتخفيف الميم؛ وابن مقسم : بتشديدها.
{ فذوقوا } : أي فقلت لهم على ألسنة الملائكة : ذوقوا.
{ ولقد صبحهم بكرة } : أي أول النهار وباكره ، لقوله : { مشرقين } و { مصبحين } وقرأ الجمهور : بكرة بالتنوين ، أراد بكرة من البكر ، فصرف.
وقرأ زيد بن علي : بغير تنوين.
{ عذاب مستقر } : أي لم يكشفه عنهم كاشف ، بل اتصل بموتهم ، ثم بما بعد ذلك من عذاب القبر ، ثم عذاب جهنم.
{ فذوقوا عذابي ونذر } : توكيد وتوبيخ ذلك عند الطمس ، وهذا عند تصبيح العذاب.
قيل : وفائدة تكرار هذا ، وتكرار { ولقد يسرنا } ، التجرد عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ، للاتعاظ واستئناف التيقظ إذا سمعوا الحث على ذلك لئلا تستولي عليهم الغفلة ، وهكذا حكم التكرير لقوله : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } عند كل نعمة عدها في سورة الرحمن.
وقوله : { ويل يومئذ للمكذبين } عند كل آية أوردها في سورة والمرسلات ، وكذلك تكرير القصص في أنفسها ، لتكون العبرة حاضرة للقلوب ، مذكورة في كل أوان.
{ ولقد جاء آل فرعون النذر } : هم موسى وهارون وغيرهما من الأنبياء ، لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون ، أو يكون جمع نذير المصدر بمعنى الإنذار.
{ كذبوا بآياتنا } هي التسع ، والتوكيد هنا كهو في قوله : { ولقد أريناه آياتنا كلها } والظاهر أن الضمير في : { كذبوا } ، وفي : { فأخذناهم } عائد على آل فرعون.
وقيل : هو عائد على جميع من تقدم من الأمم ذكره ، وتم الكلام عند قوله : { النذر }.
{ فأخذناهم أخذ عزيز } : لا يغالب ، { مقتدر } : لا يعجز شيء.
{ أكفاركم } : خطاب لأهل مكة ، { خير من أولئكم } : الإشارة إلى قوم نوح وهود وصالح ولوط ، وإلى فرعون ، والمعنى : أهم خير في القوّة وآلات الحروب والمكانة في الدنيا ، أو أقل كفؤاً وعناداً؟ فلأجل كونهم خيراً لا يعاقبون على الكفر بالله ، وقفهم على توبيخهم ، أي ليس كفاركم خيراً من أولئكم ، بل هم مثلهم أو شرّ منهم ، وقد علمتم ما لحق أولئك من الهلاك المستأصل لما كذبوا الرسل.

{ أم لكم براءة في الزبر } : أي ألكم في الكتب الإلهية براءة من عذاب الله تعالى؟ قاله الضحاك وعكرمة وابن زيد.
{ أم يقولون نحن جميع } أي واثقون بجماعتنا ، منتصرون بقوتنا ، تقولون ذلك على سبيل الإعجاب بأنفسكم.
وقرأ الجمهور : أم يقولون ، بياء الغيبة التفاتاً ، وكذا ما بعده للغائب.
وقرأ أبو حيوة وموسى الأسواري وأبو البرهشيم : بتاء الخطاب للكفار ، اتباعا لما تقدم من خطابهم.
وقرأوا : ستهزم الجمع ، بفتح التاء وكسر الزاي وفتح العين ، خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ وأبو حيوة أيضاً ويعقوب : بالنون مفتوحة وكسر الزاي وفتح العين؛ والجمهور : بالياء مبنياً للمفعول ، وضم العين.
وعن أبي حيوة وابن أبي عبلة أيضاً : بفتح الياء مبنياً للفاعل ونصب العين : أي سيهزم الله الجمع.
والجمهور : { ويولون } بياء الغيبة؛ وأبو حيوة وداود بن أبي سالم ، عن أبي عمرو : بتاء الخطاب.
والدبر هنا : اسم جنس ، وجاء في موضع آخر { ليولن الأدبار } وهو الأصل ، وحسن اسم الجنس هنا كونه فاصلة.
وقال الزمخشري : { ويولون الدبر } : أي الأدبار ، كما قال : كلوا في بعض بطنكم تعفوا.
وقرىء : الأدبار.
انتهى ، وليس مثل بطنكم ، لأن مجيء الدبر مفرداً ليس بحسن ، ولا يحسن لإفراد بطنكم.
وفي قوله تعالى : { سيهزم الجمع } عدة من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بهزيمة جمع قريش؛ والجمهور : على أنها مكية ، وتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مستشهداً بها.
وقيل : نزلت يوم بدر.
{ بل الساعة موعدهم } : انتقل من تلك الأقوال إلى أمر الساعة التى عذابها أشد عليهم من كل هزيمة وقتال.
{ والساعة أدهى } : أي أفظع وأشد ، والداهية الأمر : المنكر الذي لا يهتدى لدفعه ، وهي الرزية العظمى تحل بالشخص.
{ وأمر } من المرارة : استعارة لصعوبة الشيء على النفس.
{ إن المجرمين في ضلال } : أي في حيرة وتخبط في الدنيا.
{ وسعر } : أي احتراق في الآخرة ، جعلوا فيه من حيث مصيرهم إليه.
وقال ابن عباس : وخسران وجنون ، والسعر : الجنون ، وتقدم مثله في قصة صالح عليه السلام.
{ يوم يسحبون } : يجرون { في النار } ، وفي قراءة عبد الله : إلى النار.
{ على وجوههم ذوقوا } : أي مقولاً لهم : { ذوقوا مس سقر }.
وقرأ محبوب عن أبي عمرو : مسقر ، بإدغام السين في السين.
قال ابن مجاهد : إدغامه خطأ لأنه مشدد. انتهى.
والظن بأبي عمرو أنه لم يدغم حتى حذف إحدى السينين لاجتماع الأمثال ، ثم أدغم.
{ إنا كل شيء خلقناه بقدر } ، قراءة الجمهور : كل شيء بالنصب.
وقرأ أبو السمال ، قال ابن عطية وقوم من أهل السنة : بالرفع.
قال أبو الفتح : هو الوجه في العربية ، وقراءتنا بالنصب مع الجماعة.
وقال قوم : إذا كان الفعل يتوهم فيه الوصف ، وأن ما بعده يصلح للخبر ، وكان المعنى على أن يكون الفعل هو الخبر ، اختير النصب في الاسم الأول حتى يتضح أن الفعل ليس بوصف ، ومنه هذا الموضع ، لأن في قراءة الرفع يتخيل أن الفعل وصف ، وأن الخبر يقدر.

فقد تنازع أهل السنة والقدرية الاستدلال بهذه الآية.
فأهل السنة يقولون : كل شيء فهو مخلوق لله تعالى بقدرة دليله قراءة النصب ، لأنه لا يفسر في مثل هذا التركيب إلا ما يصح أن يكون خبراً لو وقع الأول على الابتداء.
وقالت القدرية : القراءة برفع كل ، وخلقناه في موضع الصفة لكل ، أي إن أمرنا أو شأننا كل شيء خلقناه فهو بقدر أو بمقدار ، على حد ما في هيئته وزمنه وغير ذلك.
وقال الزمخشري : { كل شيء } منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر.
وقرىء : كل شيء بالرفع ، والقدر والقدر هو التقدير.
وقرىء : بهما ، أي خلقنا كل شيء مقدراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة ، أو مقدراً مكتوباً في اللوح ، معلوماً قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه. انتهى.
قيل : والقدر فيه وجوه : أحدها : أن يكون بمعنى المقدار في ذاته وصفاته.
والثاني : التقدير ، قال تعالى : { فقدرنا فنعم القادرون } وقال الشاعر :
وما قدّر الرحمن ما هو قادر . . .
أي ما هو مقدور.
والثالث : القدر الذي يقال مع القضاء ، يقال : كان ذلك بقضاء الله وقدره ، والمعنى : أن القضاء ما في العلم ، والقدر ما في الإرادة ، فالمعنى في الآية : { خلقناه بقدر } : أي بقدرة مع إرادة. انتهى.
{ وما أمرنا إلا واحدة } : أي إلا كلمة واحدة وهي : كن كلمح بالبصر ، تشبيه بأعجل ما يحس ، وفي أشياء أمر الله تعالى أوحى من ذلك ، والمعنى : أنه إذا أراد تكوين شيء لم يتأخر عن إرادته.
{ ولقد أهلكنا أشياعكم } : أي الفرق المتشايعة في مذهب ودين.
{ وكل شي فعلوه } : أي فعلته الأمم المكذبة ، محفوظ عليهم إلى يوم القيامة ، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة وابن زيد.
ومعنى { في الزبر } : في دواوين الحفظة.
{ وكل صغير وكبير } من الأعمال ، ومن كل ما هو كائن ، { مستطر } : أي مسطور في اللوح.
يقال : سطرت واستطرت بمعنى.
وقرأ الأعمش وعمران بن حدير وعصمة عن أبي بكر : بشد راء مستطر.
قال صاحب اللوامح : يجوز أن يكون من طرّ النبات ، والشارب إذا ظهر وثبت بمعنى : كل شيء ظاهر في اللوح مثبت فيه.
ويجوز أن يكون من الاستطار ، لكن شدّد الراء للوقف على لغة من يقول : جعفرّ ونفعلّ بالتشديد وقفاً.
انتهى ، ووزنه على التوجيه الأول استفعل ، وعلى الثاني افتعل.
وقرأ الجمهور : ونهر على الإفراد ، والهاء مفتوحة؛ والأعرج ومجاهد وحميد وأبو السمال والفياض بن غزوان : بسكونها ، والمراد به الجنس ، إن أريد به الأنهار ، أو يكون معنى ونهر : وسعة في الأرزاق والمنازل ، ومنه قول قيس بن الحطيم :
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها . . .
يرى قائم من دونها ما وراءها
أي : أوسعت فتقها.
وقرأ زهير العرقبي والأعمش وأبو نهيك وأبو مجلز واليماني : بضم النون والهاء ، جمع نهر ، كرهن ورهن ، أو نهر كأسد وأسد ، وهو مناسب لجمع جنات.
وقيل : نهر جمع نهار ، ولا ليل في الجنة ، وهو بعيد.
{ في مقعد صدق } : يجوز أن يكون ضد الكذب ، أي في المقعد الذي صدقوا في الخبر به ، وأن يكون من قولك : رجل صدق : أي خير وجود وصلاح.
وقرأ الجمهور : في مقعد ، على الإفراد ، يراد به اسم الجنس؛ وعثمان البتي : في مقاعد على الجمع؛ وعند تدل على قرب المكانة من الله تعالى ، والله تعالى أعلم.

الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)

{ الرحمن علم القرآن } ، فذكر ما نشأ عن صفة الرحمة ، وهو تعليم القرآن الذي هو شفاء للقلوب.
والظاهر أن { الرحمن } مرفوع على الابتداء ، { وعلم القرآن } خبره.
وقيل : { الرحمن } آية بمضمر ، أي الله الرحمن ، أو الرحمن ربنا ، وذلك آية؛ و { علم القرآن } استئناف إخبار.
ولما عدّد نعمه تعالى ، بدأ من نعمه بما هو أعلى رتبها ، وهو تعليم القرآن ، إذ هو عماد الدين ونجاة من استمسك به.
ولما ذكر تعليم القرآن ولم يذكر المعلم ، ذكره بعد في قوله : { خلق الإنسان } ، ليعلم أنه المقصود بالتعليم.
ولما كان خلقه من أجل الدين وتعليمه القرآن ، كان كالسبب في خلقه تقدّم على خلقه.
ثم ذكر تعالى الوصف الذي يتميز به الإنسان من المنطق المفصح عن الضمير ، والذي به يمكن قبول التعليم ، وهو البيان.
ألا ترى أن الأخرس لا يمكن أن يتعلم شيئاً مما يدرك بالنطق؟ وعلم متعدّية إلى اثنين ، حذف أولهما لدلالة المعنى عليه ، وهو جبريل ، أو محمد عليهما الصلاة والسلام ، أو الإنسان ، أقوال.
وتوهم أبو عبد الله الرازي أن المحذوف هو المفعول الثاني ، قال : فإن قيل : لم ترك المفعول الثاني؟ وأجاب بأن النعمة في التعليم ، لا في تعليم شخص دون شخص ، كما يقال : فلان يطعم الطعام ، إشارة إلى كرمه ، ولا يبين من يطعمه. انتهى.
والمفعول الأول هو الذي كان فاعلاً قبل النقل بالتضعيف أو الهمزة في علم وأطعم.
وأبعد من ذهب إلى أن معنى { علم القرآن } : جعله علامة وآية يعتبر بها ، وهذه جمل مترادفة ، أخبار كلها عن الرحمن ، جعلت مستقلة لم تعطف ، إذ هي تعداد لنعمه تعالى.
كما تقول : زيد أحسن إليك ، خوّلك : أشار بذكرك ، والإنسان اسم جنس.
وقال قتادة الإنسان : آدم عليه السلام.
وقال ابن كيسان : محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن زيد والجمهور : { البيان } : المنطق ، والفهم : الإبانة ، وهو الذي فضل به الإنسان على سائر الحيوان.
وقال قتادة : هو بيان الحلال والشرائع ، وهذا جزء من البيان العام.
وقال محمد بن كعب : ما يقول وما يقال له.
وقال الضحاك : الخير والشر.
وقال ابن جريج : الهدى.
وقال يمان : الكتابة.
ومن قال : الإنسان آدم ، فالبيان أسماء كل شيء ، أو التكلم بلغات كثيرة أفضلها العربية ، أو الكلام بعد أن خلقه ، أو علم الدنيا والآخرة ، أو الاسم الأعظم الذي علم به كل شيء ، أقوال ، آخرها منسوب لجعفر الصادق.
ولما ذكر تعالى ما أنعم به على الإنسان من تعليمه البيان ، ذكر ما امتن به من وجود الشمس والقمر ، وما فيهما من المنافع العظيمة للإنسان ، إذ هما يجريان على حساب معلوم وتقدير سوي في بروجهما ومنازلهما.
والحسبان مصدر كالغفران ، وهو بمعنى الحساب ، قاله قتادة.

وقال الضحاك وأبو عبيدة : جمع حساب ، كشهاب وشهبان.
قال ابن عباس وأبو مالك وقتادة : لهما في طلوعهما وغروبهما وقطعهما البروج ، وغير ذلك حسبانات شتى.
وقال ابن زيد : لولا الليل والنهار لم يدر أحد كيف يحسب شيئاً يريد من مقادير الزمان.
وقال مجاهد : الحسبان : الفلك المستدير ، شبهه بحسبان الرحى ، وهو العود المستدير الذي باستدارته تستدير المطحنة.
وارتفع الشمس على الابتداء وخبره بحسبان ، فأما على حذف ، أي جري الشمس والقمر كائن بحسبان.
وقيل : الخبر محذوف ، أي يجريان بحسبان ، وبحسبان متعلق بيجريان ، وعلى قول مجاهد : تكون الباء في بحسبان ظرفية ، لأن الحسبان عنده الفلك.
ولما ذكر تعالى ما أنعم به من منفعة الشمس والقمر ، وكان ذلك من الآيات العلوية ، ذكر في مقابلتهما من الآثار السفلية النجم والشجر ، إذ كانا رزقاً للإنسان ، وأخبر أنهما جاريان على ما أراد الله بهما ، من تسخيرهما وكينونتهما على ما اقتضته حكمته تعالى.
ولما ذكر ما به حياة الأرواح من تعليم القرآن ، ذكر ما به حياة الأشباح من النبات الذي له ساق ، وكان تقديم النجم ، وهو مالا ساق له ، لأنه أصل القوت ، والذي له ساق ثمره يتفكه به غالباً.
والظاهر أن النجم هو الذي شرحناه ، ويدل عليه اقترانه بالشجر.
وقال مجاهد وقتادة والحسن : النجم : اسم الجنس من نجوم السماء.
وسجودهما ، قال مجاهد والحسن : ذلك في النجم بالغروب ونحوه ، وفي الشجر بالظل واستدارته.
وقال مجاهد أيضاً : والسجود تجوز ، وهو عبارة عن الخضوع والتذلل.
والجمل الأول فيها ضمير يربطها بالمبتدأ ، وأما في هاتين الجملتين فاكتفى بالوصل المعنوي عن الوصل اللفظي ، إذ معلوم أن الحسبان هو حسبانه ، وأن السجود له لا لغيره ، فكأنه قيل : بحسبانه ويسجدان له.
ولما أوردت هذه الجمل مورد تعديد النعم ، رد الكلام إلى العطف في وصل ما يناسب وصله ، والتناسب الذي بين هاتين الجملتين ظاهر ، لأن الشمس والقمر علويان ، والنجم والشجر سفليان.
{ والسماء رفعها } : أي خلقها مرفوعة ، حيث جعلها مصدر قضاياه ومسكن ملائكته الذين ينزلون بالوحي على أنبيائه ، ونبه بذلك على عظم شأنه وملكه.
وقرأ الجمهور : { والسماء } ، بالنصب على الاشتغال ، روعي مشاكلة الجملة التي تليه وهي { يسجدان }.
وقرأ أبو السمال : والسماء بالرفع ، راعى مشاكلة الجملة الابتدائية.
وقرأ الجمهور : { ووضع الميزان } ، فعلاً ماضياً ناصباً الميزان ، أي أقره وأثبته.
وقرأ إبراهيم : ووضع الميزان ، بالخفض وإسكان الضاد.
والظاهر أنه كل ما يوزن به الأشياء وتعرف مقاديرها ، وإن اختلفت الآلات ، قال معناه ابن عباس والحسن وقتادة ، جعله تعالى حاكماً بالسوية في الأخذ والإعطاء.
وقال مجاهد والطبري والأكثرون : الميزان : العدل ، وتكون الآلات من بعض ما يندرج في العدل.
بدأ أولاً بالعلم ، فذكر ما فيه أشرف أنواع العلوم وهو القرآن؛ ثم ذكر ما به التعديل في الأمور ، وهو الميزان ، كقوله : { وأنزلنا معهم الكتاب والميزان } ، ليعلموا الكتاب ويفعلوا ما يأمرهم به الكتاب.

{ أن لا تطغوا في الميزان } : أي لأن لا تطغوا ، فتطغوا منصوب بأن.
وقال الزمخشري : أو هي أن المفسرة.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن تكون أن مفسرة ، فيكون تطغوا جزماً بالنهي.
انتهى ، ولا يجوز ما قالاه من أن أن مفسرة ، لأنه فات أحد شرطيها ، وهو أن يكون ما قبلها جملة فيها معنى القول.
{ ووضع الميزان } جملة ليس فيها معنى القول.
والطغيان في الميزان هو أن يكون بالتعمد ، وأما مالا يقدر عليه من التحرير بالميزان فمعفو عنه.
ولما كانت التسوية مطلوبة جداً ، أمر الله تعالى فقال : { وأقيموا الوزن }.
وقرأ الجمهور : { ولا تخسروا } ، من أخسر : أي أفسد ونقص ، كقوله : { وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } أي ينقصون.
وبلال بن أبي بردة وزيد بن علي : تخسر بفتح التاء ، يقال : خسر يخسر ، وأخسر يخسر بمعنى واحد ، كجبر وأجبر.
وحكى ابن جني وصاحب اللوامح ، عن بلال : فتح التاء والسين مضارع خسر بكسر السين ، وخرجها الزمخشري على أن يكون التقدير : في الميزان ، فحذف الجار ونصب ، ولا يحتاج إلى هذا التخريج.
ألا ترى أن خسر جاء متعدياً كقوله تعالى : { خسروا أنفسهم } و { خسر الدنيا والآخرة } ؟ وقرىء أيضاً : تخسروا ، بفتح التاء وضم السين.
لما منع من الزيادة ، وهي الطغيان ، نهى عن الخسران الذي هو نقصان ، وكرر لفظ الميزان ، تشديداً للتوصية به وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه.
ولما ذكر السماء ، ذكر مقابلتها فقال : { والأرض وضعها للأنام } : أي خفضها مدحوة على الماء لينتفع بها.
وقرأ الجمهور : والأرض بالنصب؛ وأبو السمال : بالرفع.
والأنام ، قال ابن عباس : بنو آدم فقط.
وقال أيضاً هو وقتادة وابن زيد والشعبي : الحيوان كله.
وقال الحسن : الثقلان ، الجن والإنس.
{ فيها فاكهة } : ضروب مما يتفكه به.
وبدأ بقوله : { فاكهة } ، إذ هو من باب الابتداء بالأدنى والترقي إلى الأعلى ، ونكر لفظها ، لأن الانتفاع بها دون الانتفاع بما يذكر بعدها.
ثم ثنى بالنخل ، فذكر الأصل ولم يذكر ثمرتها ، وهو الثمر لكثرة الانتفاع بها من ليف وسعف وجريد وجذوع وجمار وثمر.
ثم أتى ثالثاً بالحب الذي هو قوام عيش الإنسان في أكثر الأقاليم ، وهو البر والشعير وكل ما له سنبل وأوراق متشعبة على ساقه ، ووصفه بقوله : { ذو العصف } تنبيهاً على إنعامه عليهم بما يقوتهم من الحب ، ويقوت بهائمهم من ورقه الذي هو التبن.
وبدأ بالفاكهة وختم بالمشموم ، وبينهما النخل والحب ، ليحصل ما به يتفكه ، وما به يتقوت ، وما به تقع اللذاذة من الرائحة الطيبة.
وذكر النخل باسمها ، والفاكهة دون شجرها ، لعظم المنفعة بالنخل من جهات متعددة ، وشجرة الفاكهة بالنسبة إلى ثمرتها حقيرة ، فنص على ما يعظم به الانتفاع من شجرة النخل ومن الفاكهة دون شجرتها.
وقرأ الجمهور : { والحب ذو العصف والريحان } ، برفع الثلاثة عطفاً على المرفوع قبله؛ وابن عامر وأبو حيوة وابن أبي عبلة : بنصب الثلاثة ، أي وخلق الحب.

وجوزوا أن يكون { والريحان } حالة الرفع وحالة النصب على حذف مضاف ، أي وذو الريحان حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه؛ وحمزة والكسائي والأصمعي ، عن أبي عمرو : والريحان بالجر ، والمعنى : والحب ذو العصف الذي هو علف البهائم ، والريحان الذي هو مطعم الناس ، ويبعد دخول المشموم في قراءة الجر ، وريحان من ذوات الواو.
وأجاز أبو علي أن يكون اسماً ، ووضع موضع المصدر ، وأن يكون مصدراً على وزن فعلان كاللبان.
وأبدلت الواو ياء ، كما أبدلوا الياء واواً في أشاوى ، أو مصدراً شاذاً في المعتل ، كما شذ كبنونة وبينونة ، فأصله ريوحان ، قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء فصار ريحان ، ثم حذفت عين الكلمة ، كما قالوا : ميت وهين.
ولما عدد تعالى نعمه ، خاطب الثقلين بقوله : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } ، أي أن نعمه كثيرة لا تحصى ، فبأيها تكذبان؟ أي من هذه نعمه لا يمكن أن يكذب بها.
وكان هذا الخطاب للثقلين ، لأنهما داخلان في الأنام على أصح الأقوال.
ولقوله : { خلق الإنسان } ، و { خلق الجان } ؛ ولقوله : { سنفرغ لكم أيها الثقلان } ، وقد أبعد من جعله خطاباً للذكر والأنثى من بني آدم.
وأبعد من هذا قول من قال : إنه خطاب على حد قوله : { ألقيا في جهنم } ويا حرسيّ اضربا عنقه ، يعني أنه خطاب للواحد بصورة الاثنين ، فبأي منوناً في جميع السورة ، كأنه حذف منه المضاف إليه وأبدل منه { آلاء ربكما } بدل معرفة من نكرة ، وآلاء تقدم في الأعراف أنها النعم ، واحدها إلى وألا وإلى وألى.
{ خلق الإنسان } : لما ذكر العالم الأكبر من السماء والأرض وما أوجد فيها من النعم ، ذكر مبدأ من خلقت له هذه النعم ، والإنسان هو آدم ، وهو قول الجمهور.
وقيل : للجنس ، وساغ ذلك لأن أباهم مخلوق من الصلصال.
وإذا أريد بالإنسان آدم ، فقد جاءت غايات له مختلفة ، وذلك بتنقل أصله؛ فكان أولاً تراباً ، ثم طيناً ، ثم حمأ مسنوناً ، ثم صلصالاً ، فناسب أن ينسب خلقه لكل واحد منها.
والجان هو أبو الجن ، وهو إبليس ، قاله الحسن.
وقال مجاهد : هو أبو الجن ، وليس بإبليس.
وقيل : الجان اسم جنس ، والمارج : ما اختلط من أصفر وأحمر وأخضر ، أو اللهب ، أو الخالص ، أو الحمرة في طرف النار ، أو المختلط بسواد ، أو المضطرب بلا دخان ، أقوال ، ومن الأولى لابتداء الغاية ، والثانية في { من نار } للتبعيض.
وقيل للبيان والتكرار في هذه الفواصل : للتأكيد والتنبيه والتحريك ، وهي موجودة في مواضع من القرآن.
وذهب قوم منهم ابن قتيبة إلى أن هذا التكرار إنما هو لاختلاف النعم ، فكرر التوقيف في كل واحد منها.
وقرأ الجمهور : { رب } ، و { رب } بالرفع ، أي هو رب؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة : بالخفض بدلاً من ربكما ، وثنى المضاف إليه لأنهما مشرقا الصيف والشتاء ومغرباهما ، قاله مجاهد.

وقيل : مشرقا الشمس والقمر ومغرباهما.
وعن ابن عباس : للشمس مشرق في الصيف مصعد ، ومشرق في الشتاء منحدر ، تنتقل فيهما مصعدة ومنحدرة. انتهى.
فالمشرقان والمغربان للشمس.
وقيل : المشرقان : مطلع الفجر ومطلع الشمس ، والمغربان مغرب الشفق ومغرب الشمس.
ولسهل التستري كلام في المشرقين والمغربين شبيه بكلام الباطنية المحرفين مدلول كلام الله ، ضربنا عن ذكره صفحاً.
وكذلك ما وقفنا عليه من كلام الغلاة الذين ينسبون للصوفية ، لأنا لا نستحل نقل شيء منه.
وقد أولغ صاحب كتاب التحرير والتحبير بحسب ما قاله هؤلاء الغلاة في كل آية آية ، ويسمي ذلك الحقائق ، وأرباب القلوب وما ادعوا فهمه في القرآن فأغلوا فيه ، لم يفهمه عربي قط ، ولا أراده الله تعالى بتلك الألفاظ ، نعوذ بالله من ذلك.
{ مرج البحرين } : تقدم الكلام على ذلك في الفرقان.
قال ابن عطية : وذكر الثعلبي في مرج البحرين ألغازاً وأقوالاً باطنة لا يلتفت إلى شيء منها.
انتهى ، والظاهر التقاؤهما ، أي يتجاوزان ، فلا فصل بين الماءين في رؤية العين.
وقيل : يلتقيان في كل سنة مرة.
وقيل : معدان للالتقاء ، فحقهما أن يلتقيا لولا البرزخ بينهما.
{ برزخ } : أي حاجز من قدرة الله تعالى ، { لا يبغيان } : لا يتجاوزان حدهما ، ولا يبغي أحدهما على الآخر بالممارجة.
وقيل : البرزخ : أجرام الأرض ، قاله قتادة؛ وقيل : لا يبغيان : أي على الناس والعمران ، وعلى هذا والذي قبله يكون من البغي.
وقيل : هو من بغى ، أي طلب ، فالمعنى : لا يبغيان حالاً غير الحال التي خلقا عليها وسخرا لها.
وقيل : ماء الأنهار لا يختلط بالماء الملح ، بل هو بذاته باق فيه.
وقال ابن عطية : والعيان لا يقتضيه.
انتهى ، يعني أنه يشاهد الماء العذب يختلط بالملح فيبقي كله ملحاً ، وقد يقال : إنه بالاختلاط تتغير أجرام العذب حتى لا تظهر ، فإذا ذاق الإنسان من الملح المنبث فيه تلك الأجزاء الدقيقة لم يحس إلا الملوحة ، والمعقول يشهد بذلك ، لأن تداخل الأجسام غير ممكن ، لكن التفرق والالتقاء ممكن.
وأنشد القاضي منذر بن سعيد البلوطي ، رحمه الله تعالى :
وممزوجة الأمواه لا العذب غالب . . .
على الملح طيباً لا ولا الملح يعذب
وقرأ الجمهور : { يخرج } مبنياً للفاعل؛ ونافع وأبو عمرو وأهل المدينة : مبنياً للمفعول؛ والجعفي ، عن أبي عمرو : بالياء مضمومة وكسر الراء ، أي يخرج الله؛ وعنه وعن أبي عمرو ، وعن ابن مقسم : بالنون.
واللؤلؤ والمرجان نصب في هاتين القراءتين.
والظاهر في { منهما } أن ذلك يخرج من الملح والعذب.
وقال بذلك قوم ، حكاه الأخفش.
ورد الناس هذا القول ، قالوا : والحس يخالفه ، إذ لا يخرج إلا من الملح ، وعابوا قول الشاعر :
فجاء بها ما شئت من لطيمة . . .
على وجهها ماء الفرات يموج
وقال الجمهور : إنما يخرج من الأجاج في المواضع التي تقع فيها الأنهار والمياه العذبة ، فناسب إسناد ذلك إليهما ، وهذا مشهور عند الغواصين.

وقال ابن عباس وعكرمة : تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر ، لأن الصدف وغيرها تفتح أفواهها للمطر ، فلذلك قال { منهما }.
وقال أبو عبيدة : إنما يخرج من الملح ، لكنه قال { منهما } تجوزاً.
وقال الرماني : العذب فيها كاللقاح للملح ، فهو كما يقال؛ الولد يخرج من الذكر والأنثى.
وقال ابن عطية ، وتبع الزجاج من حيث هما نوع واحد ، فخروج هذه الأشياء إنما هي منهما ، وإن كانت تختص عند التفصيل المبالغ بأحدهما ، كما قال : { سبع سماوات طباقاً وجعل القمر فيهن نوراً } وإنما هو في إحداهن ، وهي الدنيا إلى الأرض.
وقال الزمخشري نحواً من قول ابن عطية ، قال : فإن قلت : لم قال { منهما } ، وإنما يخرجان من الملح قلت : لما التقيا وصارا كالشيء الواحد ، جاز أن يقال : يخرجان منهما ، كما يقال : يخرجان من البحر ، ولا يخرجان من جميع البحر ، ولكن من بعضه.
وتقول : خرجت من البلد ، وإنما خرجت من محلة من محالة ، بل من دار واحدة من دوره.
وقيل : لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب. انتهى.
وقال أبو علي الفارسي : هذا من باب حذف المضاف ، والتقدير : يخرج من أحدهما ، كقوله تعالى : { على رجل من القريتين عظيم } أي من إحدى القريتين.
وقيل : هما بحران ، يخرج من أحدهما اللؤلؤ ومن الآخر المرجان.
وقال أبو عبد الله الرازي : كلام الله تعالى أولى بالاعتبار من كلام بعض الناس ، ومن أعلم أن اللؤلؤ لا يخرج من الماء العذب ، وهب أن الغواصين ما أخرجوه إلا من المالح.
ولكن لم قلتم إن الصدف لا يخرج بأمر الله من الماء العذب إلى الماء الملح وكيف يمكن الجزم به والأمور الأرضية الظاهرة خفيت عن التجار الذين قطعوا المفاوز وداروا البلاد ، فكيف لا يخفى أمر ما في قعر البحر عليهم؟ واللؤلؤ ، قال ابن عباس والضحاك وقتادة : كبار الجوهر؛ والمرجان صغاره.
وعن ابن عباس أيضاً ، وعلي ومرة الهمداني عكس هذا.
وقال أبو عبد الله وأبو مالك : المرجان : الحجر الأحمر.
وقال الزجاج : حجر شديد البياض.
وحكي القاضي أبو يعلى أنه ضرب من اللؤلؤ ، كالقضبان ، والمرجان : اسم أعجميّ معرب.
قال ابن دريد : لم أسمع فيه نقل متصرف ، وقال الأعشى :
من كل مرجانة في البحر أحرزها . . .
تيارها ووقاها طينها الصدف
قيل : أراد اللؤلؤة الكبيرة.
وقرأ طلحة : اللؤلؤء بكسر اللام الثالثة ، وهي لغة.
وعبد اللولي : تقلب الهمزة المتطرفة ياء ساكنة بعد كسرة ما قبلها ، وهي لغة ، قاله أبو الفضل الرازي.
{ وله الجوار } : خص تعالى الجواري بأنها له ، وهو تعالى له ملك السموات والأرض وما فيهن ، لأنهم لما كانوا هم منشئيها ، أسندها تعالى إليه ، إذ كان تمام منفعتها إنما هو منه تعالى ، فهو في الحقيقة مالكها.
والجواري : السفن.
وقرأ عبد الله والحسن وعبد الوارث ، عن أبي عمرو : بضم الراء ، كما قالوا في شاك شاك.

وقرأ الجمهور؛ { المنشآت } بفتح الشين ، اسم مفعول : أي أنشأها الله ، أو الناس ، أو المرفوعات الشراع.
وقال مجاهد : ما له شراع من المنشآت ، وما لم يرفع له شراع ، فليس من المنشآت.
والشراع : القلع.
والأعمش وحمزة وزيد بن علي وطلحة وأبو بكر : بخلاف عنه ، بكسر الشين : أي الرافعات الشراع ، أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن ، أو التي تنشىء السفر إقبالاً وإدباراً.
وشدد الشين ابن أبي عبلة والحسن المنشأة ، وحد الصفة ، ودل على الجمع الموصوف ، كقوله : { أزواج مطهرة } وقلب الهمزة ألفاً على حد قوله :
إن السباع لتهدى في مرابضها . . .
يريد : لتهدأ ، التاء لتأنيث الصفة ، كتبت تاء على لفظها في الوصل.
{ كالأعلام } : أي كالجبال والآكام ، وهذا يدل على كبر السفن حيث شبهها بالجبال ، وإن كانت المنشآت تنطلق على السفينة الكبيرة والصغيرة.
وعبر بمن في قوله : { كل من عليها } تغليباً لمن يعقل ، والضمير في { عليها } قليل عائد على الأرض في قوله : { والأرض وضعها للأنام } ، فعاد الضمير عليها ، وإن كان بعد لفظها.
والفناء عبارة عن إعدام جميع الموجودات من حيوان وغيره ، والوجه يعبر به عن حقيقة الشيء ، والجارجة منتفية عن الله تعالى ، ونحو كل شيء هالك إلا وجهه.
وتقول صعاليك مكة : أين وجه عربي كريم يجود عليّ؟ وقرأ الجمهور : ذو بالواو ، وصفة للوجه؛ وأبي وعبد الله : ذي بالياء ، صفة للرب.
والظاهر أن الخطاب في قوله : { وجه ربك } للرسول ، وفيه تشريف عظيم له صلى الله عليه وسلم.
وقيل : الخطاب لكل سامع.
ومعنى { ذو الجلالِ } : الذي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه وعن أفعالهم ، أو الذي يتعجب من جلاله ، أو الذي عنده الجلال والإكرام للمخلصين من عباده.
{ يسأله من في السماوات والأرض } : أي حوائجهم ، وهو ما يتعلق بمن في السموات من أمر الدين وما استعبدوا به ، ومن في الأرض من أمر دينهم ودنياهم.
وقال أبو صالح : من في السموات : الرحمة ، وسن في الأرض : المغفرة والرزق.
وقال ابن جريج : الملائكة الرزق لأهل الأرض ، والمغفرة وأهل الأرض يسألونهما جميعاً.
والظاهر أن قوله : يسأله استئناف إخبار.
وقيل : حال من الوجه ، والعامل فيه يبقى ، أي هو دائم في هذه الحال.
انتهى ، وفيه بعد.
ومن لا يسأل ، فحاله تقتضي السؤال ، فيصح إسناد السؤال إلى الجميع باعتبار القدر المشترك ، وهو الافتقار إليه تعالى.
{ كل يوم } : أي كل ساعة ولحظة ، وذكر اليوم لأن الساعات واللحظات في ضمنه.
{ هو في شأن } ، قال ابن عباس : في شأن يمضيه من الخلق والرزق والإحياء والإماتة.
وقال عبيد بن عمير : يجيب داعياً ، ويفك عانياً ، ويتوب على قوم ، ويغفر لقوم.
وقال سويد بن غفلة : يعتق رقاباً ، ويعطي رغاماً ويقحم عقاباً.
وقال ابن عيينة : الدهر عند الله يومان ، أحدهما اليوم الذي هو مدة الدنيا ، فشأنه فيه الأمر والنهى والإمانة والإحياء؛ والثاني الذي هو يوم القيامة ، فشأنه فيه الجزاء والحساب.
وعن مقاتل : نزلت في اليهود ، فقالوا : إن الله لا يقضي يوم السبت شيئاً.
وقال الحسين بن الفضل ، وقد سأله عبد الله بن طاهر عن قوله : { كل يوم هو في شأن } : وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة فقال : شؤون يبديها ، لا شؤون يبتديها.
وقال ابن بحر : هو في يوم الدنيا في الابتلاء ، وفي يوم القيامة في الجزاء.
وانتصب { كل يوم } على الظرف ، والعامل فيه العامل في قوله : { في شأن } ، وهو مستقر المحذوف ، نحو : يوم الجمعة زيد قائم.

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59)

لما ذكر تعالى ما أنعم به من تعليم العلم وخلق الإنسان والسماء والأرض وما أودع فيهما وفناء ما على الأرض ، ذكر ما يتعلق بأحوال الآخرة الجزاء وقال : { سنفرغ لكم } : أي ننظر في أموركم يوم القيامة ، لا أنه تعالى كان له شغل فيفرغ منه.
وجرى على هذا كلام العرب في أن المعنى : سيقصد لحسابكم ، فهو استعارة من قول الرجل لمن يتهدده : سأفرغ لك ، أي سأتجرد للإيقاع بك من كل ما شغلني عنه حتى لا يكون لي شغل سواه ، والمراد التوفر على الانتقام منه.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون التوعد بعذاب في الدنيا ، والأول أبين.
انتهى ، يعني : أن يكون ذلك يوم القيامة.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد ستنتهي الدنيا ويبلغ آخرها ، وتنتهي عند ذلك شؤون الخلق التي أرادها بقوله : { كل يوم هو في شأن } ، فلا يبقى إلا شأن واحد وهو جزاؤكم ، فجعل ذلك فراغاً لهم على طريق المثل. انتهى.
والذي عليه أئمة اللغة أن فرغ تستعمل عند انقضاء الشغل الذي كان الإنسان مشتغلاً به ، فلذلك احتاج قوله إلى التأويل على أنه قد قد قيل : إن فرغ يكون بمعنى قصد واهتم ، واستدل على ذلك بما أنشده ابن الأنباري لجرير :
الآن وقد فرغت إلى نمير . . .
فهذا حين كنت لهم عذابا
أي : قصدت.
وأنشد النحاس :
فرغت إلى العبد المقيد في الحجل . . .
وفي الحديث : « فرغ ربك من أربع » ، وفيه : « لأتفرغن إليك يا خبيث » ، يخاطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم إرب العقبة يوم بيعتها : أي لأقصدن إبطال أمرك ، نقل هذا عن الخليل والكسائي والفراء.
وقرأ الجمهور : سنفرغ بنون العظمة وضم الراء ، من فرغ بفتح الراء ، وهي لغة الحجاز؛ وحمزة والكسائي وأبو حيوة وزيد بن علي : بياء الغيبة؛ وقتادة والأعرج : بالنون وفتح الراء ، مضارع فرغ بكسرها ، وهي تميمية؛ وأبو السمال وعيسى : بكسر النون وفتح الراء.
قال أبو حاتم : هي لغة سفلى مضر؛ والأعمش وأبو حيوة بخلاف عنهما؛ وابن أبي عبلة والزعفراني : بضم الياء وفتح الراء ، مبنياً للمفعول؛ وعيسى أيضاً : بفتح النون وكسر الراء؛ والأعراج أيضاً : بفتح الياء والراء ، وهي رواية يونس والجعفي وعبد الوارث عن أبي عمرو.
والثقلان : الإنس والجن ، سميا بذلك لكونهما ثقيلين على وجه الأرض ، أو لكونهما مثقلين بالذنوب ، أو لثقل الإنس.
وسمي الجن ثقلاً لمجاورة الإنس ، والثقل : الأمر العظيم.
وفي الحديث : « إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي » ، سميا بذلك لعظمهما وشرفهما.
والظاهر أن قوله : { يا معشر } الآية من خطاب الله إياهم يوم القيامة ، { يوم التناد } وقيل : يقال لهم ذلك.
قال الضحاك : يفرون في أقطار الأرض لما يرون من الهول ، فيجدون الملائكة قد أحاطت بالأرض ، فيرجعون من حيث جاءوا ، فحينئذ يقال لهم ذلك.

وقيل : هو خطاب في الدنيا ، والمعنى : إن استطعتم الفرار من الموت.
وقال ابن عباس : { إن استطعتم } بأذهانكم وفكركم ، { أن تنفذوا } ، فتعلمون علم { أقطار } : أي جهات { السماوات والأرض }.
قال الزمخشري : { يا معشر الجن والإنس } ، كالترجمة لقوله : { أيها الثقلان } ، { إن استطعتم } أن تهربوا من قضائي ، وتخرجوا من ملكوتي ومن سمائي وأرضي فافعلوا؛ ثم قال : لا تقدرون على النفوذ { إلا بسلطان } ، يعني : بقوة وقهر وغلبة ، وأنى لكم ذلك ، ونحوه : { وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء } انتهى.
{ فانفذوا } : أمر تعجيز.
وقال قتادة : السلطان هنا الملك ، وليس لهم ملك.
وقال الضحاك أيضاً : بينما الناس في أسواقهم ، انفتحت السماء ونزلت الملائكة ، فتهرب الجن والإنس ، فتحدق بهم الملائكة.
وقرأ زيد بن علي : إن استطعتما ، على خطاب تثنية الثقلين ومراعاة الجن والإنس؛ والجمهور : على خطاب الجماعة إن استطعتم ، لأن كلاً منهما تحته أفراد كثيرة ، كقوله : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } { يرسل عليكم شواظ } ، قال ابن عباس : إذا خرجوا من قبورهم ، ساقهم شواظ إلى المحشر.
والشواظ : لهب النار.
وقال مجاهد : اللهب الأحمر المنقطع.
وقال الضحاك : الدخان الذي يخرج من اللهب.
وقرأ الجمهور : شواظ ، بضم الشين؛ وعيسى وابن كثير وشبل : بكسرها.
والجمهور؛ { ونحاس } : بالرفع؛ وابن أبي إسحاق والنخعي وابن كثير وأبو عمرو : بالجر؛ والكلبي وطلحة ومجاهد : بكسر نون نحاس والسين.
وقرأ ابن جبير : ونحس ، كما تقول : يوم نحس.
وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة وابن أبي إسحاق أيضاً : ونحس مضارعاً ، وماضيه حسه ، أي قتله ، أي ويحس بالعذاب.
وعن ابن أبي إسحاق أيضاً : ونحس بالحركات الثلاث في الحاء على التخيير؛ وحنظلة بن نعمان : ونحس بفتح النون وكسر السين؛ والحسن وإسماعيل : ونحس بضمتين والكسر.
وقرأ زيد بن علي : نرسل بالنون ، عليكما شواظاً بالنصب ، من نار ونحاساً بالنصب عطفاً على شواظاً.
قال ابن عباس وابن جبير والنحاس : الدخان؛ وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد : هو الصفر المعروف ، والمعنى : يعجز الجن والإنس ، أي أنتما بحال من يرسل عليه هذا ، فلا يقدر على الامتناع مما يرسل عليه.
{ فإذا انشقت السماء } : جواب إذا محذوف ، أي فما أعظم الهول ، وانشقاقها : انفطارها يوم القيامة.
{ فكانت وردة } : أي محمرة كالورد.
قال ابن عباس وأبو صالح : هي من لون الفرس الورد ، فأنث لكون السماء مؤنثة.
وقال قتادة : هي اليوم زرقاء ، ويومئذ تغلب عليها الحمرة كلون الورد ، وهي النوار المعروف ، قاله الزجاج ، ويريد كلون الورد ، وقال الشاعر :
فلو كانت ورداً لونه لعشقتني . . .
ولكن ربي شانني بسواديا
وقال أبو الجوزاء : وردة صفراء.
وقال : أما سمعت العرب تسمي الخيل الورد؟ قال الفراء : أراد لون الفرس الورد ، يكون في الربيع إلى الصفرة ، وفي الشتاء إلى الحمرة ، وفي اشتداد البرد إلى الغبرة ، فشبه تلون السماء بتلون الوردة من الخيل ، وهذا قول الكلبي.

{ كالدهان } ، قال ابن عباس : الأديم الأحمر ، ومنه قول الأعشى :
وأجرد من كرام الخير طرف . . .
كأن على شواكله دهاناً
وقال الشاعر : كالدهان المختلفة ، لأنها تتلون ألواناً.
وقال الضحاك : كالدهان خالصة ، جمع دهن ، كقرط وقراط.
وقيل : تصير حمراء من حرارة جهنم ، ومثل الدهن لذوبها ودورانها.
وقيل : شبهت بالدهان في لمعانها.
وقال الزمخشري : { كالدهان } : كدهن الزيت ، كما قال : { كالمهل } وهو دردي الزيت ، وهو جمع دهن ، أو اسم ما يدهن به ، كالحرام والأدام ، قال الشاعر :
كأنهما مزادتا متعجل . . .
فريان لما سلعا بدهان
وقرأ عبيد بن عمير : وردة بالرفع بمعنى : فحصلت سماء وردة ، وهو من الكلام الذي يسمى التجريد ، كقوله :
فلئن بقيت لأرحلن بغزوة . . .
نحو المغانم أو يموت كريم
انتهى.
{ فيومئذ } : التنوين فيه للعوض من الجملة المحذوفة ، والتقدير : فيوم إذ انشقت السماء ، والناصب ليومئذ { لا يسأل } ، ودل هذا على انتفاء السؤال ، و : { وقفوهم أنهم مسئولون } وغيره من الآيات على وقوع السؤال.
فقال عكرمة وقتادة : هي مواطن يسأل في بعضها.
وقال ابن عباس : حيث ذكر السؤال فهو سؤال توبيخ وتقرير ، وحيث نفي فهي استخبار محض عن الذنب ، والله تعالى أعلم بكل شيء.
وقال قتادة أيضاً : كانت مسألة ، ثم ختم على الأفواه وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يعملون.
وقال أبو العالية وقتادة : لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم.
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد : ولا جأن بالهمز ، فراراً من التقاء الساكنين ، وإن كان التقاؤهما على حده.
وقرأ حماد بن أبي سليمان : بسيمائهم؛ والجمهور : { بسيماهم } ، وسيما المجرمين : سواد الوجوه وزرقة العيون ، قاله الحسن ، ويجوز أن يكون غير هذا من التشويهات ، كالعمى والبكم والصمم.
{ فيؤخذ بالنواصي والأقدام } ، قال ابن عباس : يؤخذ بناصيته وقدميه فيوطأ ، ويجمع كالحطب ، ويلقى كذلك في النار.
وقال الضحاك : يجمع بينهما في سلسلة من وراء ظهره.
وقيل : تسحبهم الملائكة ، تارة تأخذ بالنواصي ، وتارة بالأقدام.
وقيل : بعضهم سحباً ، بالناصية ، وبعضهم سحباً بالقدم؛ ويؤخذ متعد إلى مفعول بنفسه ، وحذف هذا الفاعل والمفعول ، وأقيم الجار والمجرور مقام الفاعل مضمناً معنى ما يعدى بالباء ، أي فيسحب بالنواصي والأقدام ، وأل فيهما على مذهب الكوفيين عوض من الضمير ، أي بنواصيهم وأقدامهم ، وعلى مذهب البصريين الضمير محذوف ، أي بالنواصي والأقدام منهم.
{ هذه جهنم } : أي يقال لهم ذلك على طريق التوبيخ والتقريع.
{ يطوفون بينها } : أي يتردّدون بين نارها وبين ما غلى فيها من مائع عذابها.
وقال قتادة : الحميم يغلي منذ خلق الله جهنم ، وآن : أي منتهى الحر والنضج ، فيعاقب بينهم وبين تصلية النار ، وبين شرب الحميم.
وقيل : إذا استغاثوا من النار ، جعل غياثهم الحميم.
وقيل : يغمسون في واد في جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فتنخلع أوصالهم ، ثم يخرجون منه ، وقد أحدث الله لهم خلقاً جديداً.

وقرأ علي والسلمي : يطافون؛ والأعمش وطلحة وابن مقسم : يطوفون بضم الياء وفتح الطاء وكسر الواو مشددة.
وقرىء : يطوفون ، أي يتطوفون؛ والجمهور : يطوفون مضارع طاف.
قوله تعالى : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } ، قال ابن الزبير : نزلت في أبي بكر.
{ مقام ربه } مصدر ، فاحتمل أن يكون مضافاً إلى الفاعل ، أي قيام ربه عليه ، وهو مروي عن مجاهد ، قال : من قوله : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } أي حافظ مهيمن ، فالعبد يراقب ذلك ، فلا يجسر على المعصية.
وقيل : الإضافة تكون بأدنى ملابسة ، فالمعنى أنه يخاف مقامه الذي يقف فيه العباد للحساب ، من قوله : { يوم يقوم الناس لرب العالمين } وفي هذه الإضافة تنبيه على صعوبة الموقف.
وقيل : مقام مقحم ، والمعنى : ولمن خاف ربه ، كما تقول : أخاف جانب فلان يعني فلاناً.
والظاهر أن لكل فرد فرد من الخائفين { جَنَّتَانِ } ، قيل : إحداهما منزله ، والأخرى لأزواجه وخدمه.
وقال مقاتل : جنة عدن ، وجنة نعيم.
وقيل : منزلان ينتقل من أحدهما إلى الآخر لتتوفر دواعي لذته وتظهر ثمار كرامته.
وقيل : هما للخائفين؛ والخطاب للثقلين ، فجنة للخائف الجني ، وجنة للخائف الإنسي.
وقال أبو موسى الأشعري : جنة من ذهب للسابقين ، وجنة من فضة للتابعين.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يقال : جنة لفعل الطاعات ، وجنة لترك المعاصي ، لأن التكليف دائر عليهما.
وأن يقال : جنة يبات بها ، وأخرى تضم إليها على وجه التفضل لقوله وزيادة؛ وخص الأفنان بالذكر جمع فنن ، وهي الغصون التي تتشعب عن فروع الشجر ، لأنها التي تورق وتثمر ، ومنها تمتد الظلال ، ومنها تجنى الثمار.
وقيل : الأفنان جمع فن ، وهي ألوان النعم وأنواعها ، وهي قول ابن عباس ، والأول قال قريباً منه مجاهد وعكرمة ، وهو أولى ، لأن أفعالاً في فعل أكثر منه في فعل بسكون العين ، وفن يجمع على فنون.
{ فيهما عينان تجريان } ، قال ابن عباس : هما عينان مثل الدنيا أضعافاً مضاعفة.
وقال : تجريان بالزيادة والكرامة على أهل الجنة.
وقال الحسن : تجريان بالماء الزلال ، إحداهما التسنيم ، والأخرى السلسبيل.
وقال ابن عطية : إحداهما من ماء ، والأخرى من خمر.
وقيل : تجريان في الأعالي والأسافل من جبل من مسك.
{ زوجان } ، قال ابن عباس : ما في الدنيا من شجرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة ، حتى شجر الحنظل ، إلا أنه حلواً. انتهى.
ومعنى زوجان : رطب ويابس ، لا يقصر هذا عن ذاك في الطيب واللذة.
وقيل : صنفان ، صنف معروف ، وصنف غريب.
وجاء الفصل بين قوله : { ذواتا أفنان } وبين قوله : { فيهما من كل فاكهة } بقوله : { فيهما عينان تجريان }.
والأفنان عليها الفواكه ، لأن الداخل إلى البستان لا يقدم إلا للتفرج بلذة ما فيه بالنظر إلى خضرة الشجر وجري الأنهار ، ثم بعد يأخذ في اجتناء الثمار للأكل.
وانتصب { متكئين } على الحال من قوله : { ولمن خاف } ، وحمل جمعاً على معنى من.

وقيل : العامل محذوف ، أي يتنعمون متكئين.
وقال الزمخشري : أي نصب على المدح ، والاتكاء من صفات المتنعم الدالة على صحة الجسم وفراغ القلب ، والمعنى : { متكئين } في منازلهم { على فرش }.
وقرأ الجمهور : وفرش بضمتين؛ وأبو حيوة : بسكون الراء.
وفي الحديث : « قيل لرسول لله صلى الله عليه وسلم هذه البطائن من استبرق ، كيف الظهائر؟ قال : هي من نور يتلألأ » ، ولو صح هذا لم يجز أن يفسر بغيره.
وقيل : من سندس.
قال الحسن والفراء : البطائن هي الظهائر.
وروي عن قتادة ، وقال الفراء : قد تكون البطانة الظهارة ، والظهارة البطانة ، لأن كلاً منهما يكون وجهاً ، والعرب تقول : هذا وجه السماء ، وهذا بطن السماء.
قال ابن عباس : تجتنيه قائماً وقاعداً ومضطجعاً ، لا يرد يده بعد ولا شوك وقرأ عيسى : بفتح الجيم وكسر النون ، كأنه أمال النون ، وإن كانت الألف قد حذفت في اللفظ ، كما أمال أبو عمرو { حتى نرى الله } وقرىء : وجنى بكسر الجيم.
والضمير في { فيهن } عائد على الجنان الدال عليهن جنتان ، إذ كل فرد فرد له جنتان ، فصح أنها جنان كثيرة ، وإن كان الجنتان أريد بهما حقيقة التثنية ، وأن لكل جنس من الجن والإنس جنة واحدة ، فالضمير يعود على ما اشتملت عليه الجنة من المجالس والقصور والمنازل.
وقيل : يعود على الفرش ، أي فيهن معدات للاستماع ، وهو قول حسن قريب المأخذ.
وقال الزمخشري : فيهن في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والجنى.
انتهى ، وفيه بعد.
وقال الفراء : كل موضع من الجنة جنة ، فلذلك قال : { فيهن } ، والطرف أصله مصدر ، فلذلك وحد.
والظاهر أنهن اللواتي يقصرون أعينهن على أزواجهن ، فلا ينظرن إلى غيرهم.
قال ابن زيد : تقول لزوجها : وعزة ربي ما أرى في الجنة أحسن منك.
وقيل : الطرف طرف غيرهن ، أي قصرن عيني من ينظر إليهن عن النظر إلى غيرهن.
{ لم يطمثهن } ، قال ابن عباس : لم يفتضهن قبل أزواجهن.
وقيل : لم يطأهن على أي وجه.
كان الوطء من افتضاض أو غيره ، وهو قول عكرمة.
والضمير في { قبلهم } عائد على من عاد عليه الضمير في { متكئين }.
وقرأ الجمهور : بكسر ميم يطمثهن في الموضعين؛ وطلحة وعيسى وأصحاب عبد الله وعليّ : بالضم.
وقرأ ناس : بضم الأول وكسر الثاني ، وناس بالعكس ، وناس بالتخيير ، والجحدري : بفتح الميم فيهما ، ونفي وطئهن عن الإنس ظاهر وأما عن الجن ، فقال مجاهد والحسن : قد تجامع نساء البشر مع أزواجهن ، إذ لم يذكر الزوج الله تعالى ، فنفى هنا جميع المجامعين.
وقال ضمرة بن حبيب : الجن في الجنة لهم قاصرات الطرف من الجن نوعهم ، فنفي الافتضاض عن البشريات والجنيات.
قال قتادة : { كأنهن } على صفاء الياقوت وحمرة المرجان ، لو أدخلت في الياقوت سلكاً ، ثم نظرت إليه ، لرأيته من ورائه. انتهى.
وفي الترمذي : أن المرأة من نساء الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة مخها.
وقال ابن عطية : الياقوت والمرجان من الأشياء التى يرتاح بحسنها ، فشبه بهما فيما يحسن التشبيه به ، فالياقوت في إملاسه وشفوفه ، والمرجان في إملاسه وجمال منظره ، وبهذا النحو من النظر سمت العرب النساء بذلك ، كدرة بنت أبي لهب ، ومرجانة أم سعيد. انتهى.

هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)

{ هل جزاء الإحسان } في العمل ، { إلا الإحسان } في الثواب؟ وقيل : هل جزاء التوحيد إلا الجنة؟ وقرأ ابن أبي إسحاق : إلا الحسان يعني : بالحسان الحور العين.
{ ومن دونهما } : أي من دون تينك الجنتين في المنزلة والقدر ، { جنتان } لأصحاب اليمين ، والأوليان هما للسابقين ، قاله ابن زيد والأكثرون.
وقال الحسن : الأوليان للسابقين ، والأخريان للتابعين.
وقال ابن عباس : { ومن دونهما } في القرب للمنعمين ، والمؤخرتا الذكر أفضل من الأوليين.
يدل على ذلك أنه وصف عيني هاتين بالنضخ ، وتينك بالجري فقط؛ وهاتين بالدهمة من شدة النعمة ، وتينك بالأفنان ، وكل جنة ذات أفنان.
ورجح الزمخشري هذا القول فقال : للمقربين جنتان من دونهم من أصحاب اليمين ادهامتا من شدة الخضرة ، ورجح غيره القول الأول بذكر جري العينين والنضخ دون الجري ، وبقوله فيهما : { من كل فاكهة } ، وفي المتأخرتين : { فيهما فاكهة } ، وبالاتكاء على ما بطائنه من ديباج وهو الفرش ، وفي المتأخرتين الاتكاء على الرفرف ، وهو كسر الخباء ، والفرش المعدة للاتكاء أفضل ، والعبقري : الوشي ، والديباج أعلى منه ، والمشبه بالياقوت والمرجان أفضل في الوصف من خيرات حسان ، والظاهر النضخ بالماء ، وقال ابن جبير : بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة ، كما ينضخ رش المطر.
وعنه أيضاً بأنواع الفواكه والماء.
{ ونخل ورمان } عطف فاكهة ، فاقتضى العطف أن لا يندرجا في الفاكهة ، قاله بعضهم.
وقال يونس بن حبيب وغيره : كررهما وهما من أفضل الفاكهة تشريفاً لهما وإشارة بهما ، كما قال تعالى : { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } وقيل : لأن النخل ثمره فاكهة وطعام ، والرمان فاكهة ودواء ، فلم يخلصا للتفكه.
{ فيهن خيرات } ، جمع خيرة : وصف بني على فعلة من الخير ، كما بنوا من الشر فقالوا : شرة.
وقيل : مخفف من خيرة ، وبه قرأ بكر بن حبيب وأبو عثمان النهدي وابن مقسم ، أي بشدّ الياء.
وروي عن أبي عمرو بفتح الياء ، كإنه جمع خايرة ، جمع على فعلة ، وفسر الرسول صلى الله عليه وسلم لأم سلمة ذلك فقال : « خيرات الأخلاق حسان الوجوه » { حور مقصورات } : أي قصرن في أماكنهن ، والنساء تمدح بذلك ، إذ ملازمتهن البيوت تدل على صيانتهن ، كما قال قيس بن الأسلت :
وتكسل عن جاراتها فيزرنها . . .
وتغفل عن أبياتهن فتعذر
قال الحسن : لسن بطوافات في الطرق ، وخيام الجنة : بيوت اللؤلؤ.
وقال عمر بن الخطاب : هي در مجوف ، ورواه عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم.
{ لم يطمثهن إنس قبلهم } : أي قبل أصحاب الجنتين ، ودل عليهم ذكر الجنتين.
{ متكئين } ، قال الزمخشري : نصب على الاختصاص.
{ على رفرف } ، قال ابن عباس وغيره : فضول المجلس والبسط.
وقال ابن جبير : رياض الجنة من رف البيت تنعم وحسن.
وقال ابن عيينة : الزرابي.
وقال الحسن وابن كيسان : المرافق.

وقرأ الفراء وابن قتيبة : المجالس.
وعبقري ، قال الحسن : بسط حسان فيها صور وغير ذلك يصنع بعبقر.
وقال ابن عباس : الزرابي.
وقال مجاهد : الديباج الغليظ.
وقال ابن زيد : الطنافس.
قال الفراء : الثخان منها.
وقرأ الجمهور : { على رفرف } ، ووصف بالجمع لأنه اسم جنس ، الواحد منها رفرفة ، واسم الجنس يجوز فيه أن يفرد نعته وأن يجمع لقوله : { والنخل باسقات } وحسن جمعه هنا مقابلته لحسان الذي هو فاصلة.
وقال صاحب اللوامح ، وقرأ عثمان بن عفان ، ونصر بن عاصم ، والجحدري ، ومالك بن دينار ، وابن محيصن ، وزهير العرقبي وغيره : رفارف جمع لا ينصرف ، خضر بسكون الضاد ، وعباقري بكسر القاف وفتح الياء مشددة؛ وعنهم أيضاً : ضم الضاد؛ وعنهم أيضاً : فتح القاف.
قال : فأما منع الصرف من عباقري ، وهي الثياب المنسوبة إلى عبقر ، وهو موضع تجلب منه الثياب على قديم الأزمان ، فإن لم يكن بمجاورتها ، وإلا فلا يكون يمنع التصرف من ياءي النسب وجه إلا في ضرورة الشعر. انتهى.
وقال ابن خالويه : على رفارف خضر ، وعباقري النبي صلى الله عليه وسلم والجحدري وابن محيصن.
وقد روي عمن ذكرنا على رفارف خضر وعباقري بالصرف ، وكذلك روي عن مالك بن دينار.
وقرأ أبو محمد المروزي ، وكان نحوياً : على رفارف خضار ، يعني : على وزن فعال.
وقال صاحب الكامل : رفارف جمع ، عن ابن مصرف وابن مقسم وابن محيصن ، واختاره شبل وأبو حيوة والجحدري والزعفراني ، وهو الاختيار لقوله : { خضر } ، وعباقري بالجمع وبكسر القاف من غير تنوين ، ابن مقسم وابن محيصن ، وروي عنهما التنوين.
وقال ابن عطية ، وقرأ زهير العرقبي : رفارف بالجمع والصرف ، وعنه : عباقري بفتح القاف والياء ، على أن اسم الموضع عباقر بفتح القاف ، والصحيح في اسم الموضع عبقر. انتهى.
وقال الزمخشري ، وروى أبو حاتم : عباقري بفتح القاف ومنع الصرف ، وهذا لا وجه لصحته. انتهى.
وقد يقال : لما منع الصرف رفارف ، شاكله في عباقري ، كما قد ينون ما لا ينصرف للمشاكلة ، يمنع من الصرف للمشاكلة.
وقرأ ابن هرمز : خضر بضم الضاد.
قال صاحب اللوامح : وهي لغة قليلة.
انتهى ، ومنه قول طرفة :
أيها الفتيان في مجلسنا . . .
جردوا منها وراداً وشقر
وقال آخر :
وما انتميت إلى خور ولا كسف . . .
ولا لئام غداة الروع أوزاع
فشقر جمع أشقر ، وكسف جمع أكسف.
وقرأ الجمهور : { ذي الجلال } : صفة لربك؛ وابن عامر وأهل الشام : ذو صفة للاسم ، وفي حرف.
أبي عبد الله وأبيّ : ذي الجلال ، كقراءتهما في الموضع الأول ، والمراد هنا بالاسم المسمى.
وقيل : اسم مقحم ، كالوجه في { ويبقى وجه ربك } ، ويدل عليه إسناد { تبارك } لغير الاسم في مواضع ، كقوله : { تبارك الله أَحسن الخالقين } { تبارك الذي إن شاء } { تبارك الذي بيده الملك }.
وقد صح الإسناد إلى الاسم لأنه بمعنى العلو ، فإذا علا الاسم ، فما ظنك بالمسمى؟
ولما ختم تعالى نعم الدنيا بقوله : { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } ، ختم نعم الآخرة بقوله : { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } وناسب هنالك ذكر البقاء والديمومة له تعالى ، إذ ذكر فناء العالم؛ وناسب هنا ذكر ما اشتق من البركة ، وهي النمو والزيادة ، إذ جاء ذلك عقب ما امتن به على المؤمنين ، وما آتاهم في دار كرامته من الخير وزيادته وديمومته ، ويا ذا الجلال والإكرام من الصفات التي جاء في الحديث أن يدعى الله بها ، قال صلى الله عليه وسلم : « ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام ».

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)

وقال ابن عباس : الواقعة من أسماء القيامة ، كالصاخة والطامّة والآزفة ، وهذه الأسماء تقتضي عظم شأنها ، ومعنى { وقعت الواقعة } : أي وقعت التي لا بد من وقوعها ، كما تقول : حدثت الحادثة ، وكانت الكائنة؛ ووقوع الأمر نزوله ، يقال : وقع ما كنت أتوقعه : أي نزل ما كنت أترقب نزوله.
وقال الضحاك : { الواقعة } : الصيحة ، وهي النفخة في الصور.
وقيل : { الواقعة } : صخرة بيت المقدس تقع يوم القيامة.
والعامل في إذا الفعل بعدها على ما قررناه في كتب النحو ، فهو في موضع خفض بإضافة إذا إليها احتاج إلى تقدير عامل ، إذ الظاهر أنه ليس ثم جواب ملفوظ به يعمل بها.
فقال الزمخشري : فإن قلت : بم انتصب إذا؟ قلت : بليس ، كقولك : يوم الجمعة ليس لي شغل ، أو بمحذوف يعني : إذا وقعت ، كان كيت وكيت ، أو بإضمار اذكر. انتهى.
أما نصبها بليس فلا يذهب نحوي ولا من شدا شيئاً من صناعة الإعراب إلى مثل هذا ، لأن ليس في النفي كما ، وما لا تعمل ، فكذلك ليس ، وذلك أن ليس مسلوبة الدلالة على الحدث والزمان.
والقول بأنها فعل هو على سبيل المجاز ، لأن حد الفعل لا ينطبق عليها.
والعامل في الظرف إنما هو ما يقع فيه من الحدث ، فإذا قلت : يوم الجمعة أقوم ، فالقيام واقع في يوم الجمعة ، وليس لا حدث لها ، فكيف يكون لها عمل في الظرف؟ والمثال الذي شبه به ، وهو يوم القيامة ، ليس لي شغل ، لا يدل على أن يوم الجمعة منصوب بليس ، بل هو منصوب بالعامل في خبر ليس ، وهو الجار والمجرور ، فهو من تقديم معمول الخبر على ليس ، وتقديم ذلك مبني على جواز تقديم الخبر الذي لليس عليها ، وهو مختلف فيه ، ولم يسمع من لسان العرب : قائماً ليس زيد.
وليس إنما تدل على نفي الحكم الخبري عن المحكوم عليه فقط ، فهي كما ، ولكنه لما اتصلت بها ضمائر الرفع ، جعلها ناس فعلاً ، وهي في الحقيقة حرف نفي كما النافية.
ويظهر من تمثيل الزمخشري إذاً بقوله : يوم الجمعة ، أنه سلبها الدلالة على الشرط الذي هو غالب فيها ، ولو كانت شرطاً ، وكان الجواب الجملة المصدرة بليس ، لزمت الفاء ، إلا إن حذفت في شعر ، إذ ورد ذلك ، فنقول : إذا أحسن إليك زيد فلست تترك مكافأته.
ولا يجوز لست بغير فاء ، إلا إن اضطر إلى ذلك.
وأما تقديره : إذا وقعت كان كيت وكيت ، فيدل على أن إذا عنده شرطية ، ولذلك قدر لها جواباً عاملاً فيها.
وأما قوله : بإضمار اذكر ، فإنه سلبها الظرفية ، وجعلها مفعولاً بها منصوبة باذكر.
و { كاذبة } : ظاهره أنه اسم فاعل من كذب ، وهو صفة لمحذوف ، فقدره الزمخشري : نفس كاذبة ، أي لا يكون حين تقع نفس تكذب على الله ، وتكذب في تكذيب الغيب ، لأن كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة ، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات ، لقوله تعالى :

{ فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده } { لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم } { ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة } واللام مثلها في قوله : { يقول ياليتني قدمت لحياتي } إذ ليس لها نفس تكذبها وتقول لها : لم تكذبي ، كما لها اليوم نفوس كثيرة يقلن لها : لم تكذبي ، أو هي من قولهم : كذبت فلاناً نفسه في الخطب العظيم ، إذا شجعته على مباشرته ، وقالت له : إنك تطيقه وما فوقه ، فتعرض له ولا تبال على معنى : أنها وقعة لا تطاق بشدة وفظاعة ، وأن لا نفس حينئذ تحدث صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور ، وتزين له احتمالها وإطاقتها ، لأنهم يومئذ أضعف من ذلك وأذل.
ألا ترى إلى قوله تعالى : { كالفراش المبثوث } والفراش مثل في الضعف.
انتهى ، وهو تكثير وإسهاب.
وقدره ابن عطية حال كاذبة ، قال : ويحتمل الكلام على هذا معنيين : أحدهما كاذبة ، أي مكذوب فيما أخبر به عنها ، فسماها كاذبة لهذا ، كما تقول : هذه قصة كاذبة ، أي مكذوب فيها.
والثاني : حال كاذبة ، أي لا يمضي وقوعها ، كما تقول : فلان إذا حمل لم يكذب.
وقال قتادة والحسن المعنى : ليس لها تكذيب ولا رد ولا منثوية ، فكاذبة على هذا مصدر ، كالعاقبة والعافية وخائنة الأعين.
والجملة من قوله : { ليس لوقعتها كاذبة } على ما قدّره الزمخشري من أن إذا معمولة لليس يكون ابتداء السورة ، إلا إن اعتقد أنها جواب لإذا ، أو منصوبة باذكر ، فلا يكون ابتداء كلام.
وقال ابن عطية : في موضع الحال ، والذي يظهر لي أنها جملة اعتراض بين الشرط وجوابه.
وقرأ الجمهور : { خافضة رافعة } برفعهما ، على تقدير هي؛ وزيد بن علي والحسن وعيسى وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم والزعفراني واليزيدي في اختياره بنصبهما.
قال ابن خالوية : قال الكسائي : لولا أن اليزيدي سبقني إليه لقرأت به ، ونصبهما على الحال.
قال ابن عطية : بعد الحال التي هي { ليس لوقعتها كاذبة } ، ولك أن تتابع الأحوال ، كما لك أن تتابع أخبار المبتدأ.
والقراءة الأولى أشهر وأبدع معنى ، وذلك أن موقع الحال من الكلام موقع ما لو لم يذكر لاستغنى عنه ، وموقع الجمل التي يجزم الخبر بها موقع ما يهتم به. انتهى.
وهذا الذي قاله سبقه إليه أبو الفضل الرازي.
قال في كتاب اللوامح : وذو الحال الواقعة والعامل وقعت ، ويجوز أن يكون { ليس لوقعتها كاذبة } حال أخرى من الواقعة بتقدير : إذا وقعت صادقة الواقعة ، فهذه ثلاثة أحوال من ذي حال ، وجازت أحوال مختلفة عن واحد ، كما جازت عنه نعوت متضادة وأخبار كثيرة عن مبتدأ واحد.
وإذا جعلت هذه كلها أحوالاً ، كان العامل في { إذا وقعت } محذوفاً يدل عليه الفحوى بتقدير يحاسبون ونحوه.

انتهى.
وتعداد الأحوال والأخبار فيه خلاف وتفصيل ذكر في النحو ، فليس ذلك مما أجمع عليه النحاة.
قال الجمهور : القيامة تنفظر له السماء والأرض والجبال ، وتنهد له هذه البنية برفع طائفة من الأجرام وبخفض أخرى ، فكأنها عبارة عن شدة الهول والاضطراب.
وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك : الصيحة تخفض قوتها لتسمع الأدنى ، وترفعها لتسمع الأقصى.
وقال قتادة وعثمان بن عبد الله بن سراقة : القيامة تخفض أقواماً إلى النار ، وترفع أقواماً إلى الجنة؛ وأخذ الزمخشري هذه الأقوال على عادته وكساها بعض ألفاظ رائعة ، فقال : ترفع أقواماً وتضع آخرين ، أما وصفاً لها بالشدة ، لأن الواقعات العظام كذلك يرتفع فيها ناس إلى مراتب ويتضع ناس؛ وأما أن الأشقياء يحطون إلى الدركات ، والسعداء يحطون إلى الدرجات؛ وأما أنها تزلزل الأشياء عن مقارها لتخفض بعضاً وترفع بعضاً ، حيث تسقط السماء كسفاً ، وتنتثر الكواكب وتنكدر ، وتسير الجبال فتمر في الجو مر السحاب. انتهى.
{ إذا رجت } ، قال ابن عباس : زلزلت وحركت بجذب.
وقال أيضاً هو وعكرمة ومجاهد : { بست } : فتتت ، وقيل : سيرت.
وقرأ زيد بن علي : { رجت } ، و { بست } مبنياً للفاعل ، { وإذا رجت } بدل من { إذا وقعت } ، وجواب الشرط عندي ملفوظ به ، وهو قوله : { فأصحاب الميمنة } ، والمعنى إذا كان كذا وكذا ، فأصحاب الميمنة ما أسعدهم وما أعظم ما يجازون به ، أي إن سعادتهم وعظم رتبتهم عند الله تظهر في ذلك الوقت الشديد الصعب على العالم.
وقال الزمخشري : ويجوز أن ينتصب بخافضة رافعة ، أي تخفض وترفع وقت رج الأرض وبس الجبال ، لأنه عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع ويرتفع ما هو منخفض. انتهى.
ولا يجوز أن ينتصب بهما معاً ، بل بأحدهما ، لأنه لا يجوز أن يجتمع مؤثران على أثر واحد.
وقال ابن جني وأبو الفضل الرازي : { إذ رجت } في موضع رفع على أنه خبر للمبتدأ الذي هو { إذا وقعت } ، وليست واحدة منهما شرطية ، بل جعلت بمعنى وقت ، وما بعد إذا أحوال ثلاثة ، والمعنى : وقت وقوع الواقعة صادقة الوقوع ، خافضة قوم ، رافعة آخرين وقت رج الأرض.
وهكذا ادعى ابن مالك أن إذا تكون مبتدأ ، واستدل بهذا.
وقد ذكرنا في شرح التسهيل ما تبقى به إذا على مدلولها من الشرط ، وتقدم شرح الهباء في سورة الفرقان.
{ منبثاً } : منتشراً.
منبتاً بنقطتين بدل الثاء المثلثة ، قراءة الجمهور ، أي منقطعاً.
{ وكنتم } : خطاب للعالم ، { أزواجاً ثلاثة } : أصنافاً ثلاثة ، وهذه رتب للناس يوم القيامة.
{ فأصحاب الميمنة } ، قال الحسن والربيع : هم الميامين على أنفسهم.
وقيل : الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم.
وقيل : أصحاب المنزلة السنية ، كما تقول : هو مني باليمين.
وقيل : المأخوذ بهم ذات اليمين ، أو ميمنة آدم المذكورة في حديث الإسراء في الأسودة.
{ وأصحاب المشئمة } : هم من قابل أصحاب الميمنة في هذه الأقوال ، فأصحاب مبتدأ ، وما : مبتدأ ثان استفهام في معنى التعظيم ، وأصحاب الميمنة خبر عن ما ، وما بعدها خبر عن أصحاب ، وربط الجملة بالمبتدأ تكرار المبتدأ بلفظه ، وأكثر ما يكون ذلك في موضع التهويل والتعظيم ، وما تعجب من حال الفريقين في السعادة والشقاوة ، والمعنى : أي شيء هم.

{ والسابقون السابقون } : جوزوا أن يكون مبتدأ وخبراً ، نحو قولهم : أنت أنت ، وقوله : أنا أبو النجم ، وشعرى شعرى ، أي الذين انتهوا في السبق ، أي الطاعات ، وبرعوا فيها وعرفت حالهم.
وأن يكون السابقون تأكيداً لفظياً ، والخبر فيما بعد ذلك؛ وأن يكون السابقون مبتدأ والخبر فيما بعده ، وتقف على قوله : { والسابقون } ، وأن يكون متعلق السبق الأول مخالفاً للسبق الثاني.
والسابقون إلى الإيمان السابقون إلى الجنة ، فعلى هذا جوزوا أن يكون السابقون خبراً لقوله : { والسابقون } ، وأن يكون صفة والخبر فيما بعده.
والوجه الأول ، قال ابن عطية : ومذهب سيبويه أنه يعني السابقون خبر الابتداء ، يعني خبر والسابقون ، وهذا كما تقول : الناس الناس ، وأنت أنت ، وهذا على تفخيم الأمر وتعظيمه. انتهى.
ويرجح هذا القول أنه ذكر أصحاب الميمنة متعجباً منهم في سعادتهم ، وأصحاب المشأمة متعجباً منهم في شقاوتهم ، فناسب أن يذكر السابقون مثبتاً حالهم معظماً ، وذلك بالإخبار أنهم نهاية في العظمة والسعادة ، والسابقون عموم في السبق إلى أعمال الطاعات ، وإلى ترك المعاصي.
وقال عثمان بن أبي سودة : السابقون إلى المساجد.
وقال ابن سيرين : هم الذين صلوا إلى القبلتين.
وقال كعب : هم أهل القرآن.
وفي الحديث : « سئل عن السابقين فقال هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، وحكموا للناس بحكمهم لأنفسهم » { أولئك } : إشارة إلى السابقين المقربين الذين علت منازلهم وقربت درجاتهم في الجنة من العرش.
وقرأ الجمهور : { في جنات } ، جمعاً؛ وطلحة : في جنات مفرداً.
وقسم السابقين المقربين إلى { ثلة من الأولين وقليل من الآخرين }.
وقال الحسن : السابقون من الأمم ، والسابقون من هذه الأمة.
وقالت عائشة : الفرقتان في كل أمة نبي ، في صدرها ثلة ، وفي آخرها قليل.
وقيل : هما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، كانوا في صدر الدنيا ، وفي آخرها أقل.
وفي الحديث : « الفرقتان في أمتي ، فسابق في أول الأمة ثلة ، وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل » ، وارتفع ثلة على إضمارهم.
وقرأ الجمهور : { على سرر } بضم الراء؛ وزيد ابن علي وأبو السمال : بفتحها ، وهي لغة لبعض بني تميم وكلب ، يفتحون عين فعل جمع فعيل المضعف ، نحو سرير ، وتقدم ذلك في والصافات.
{ موضونة } ، قال ابن عباس : مرمولة بالذهب.
وقال عكرمة : مشبكة بالدر والياقوت.
{ متكئين عليها } : أي على السرر ، ومتكئين : حال من الضمير المستكن في { على سرر } ، { متقابلين } : ينظر بعضهم إلى بعض ، وصفوا بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق وصفاء بطائنهم من غل إخواناً.
{ يطوف عليهم ولدان مخلدون } : وصفوا بالخلد ، وإن كان من في الجنة مخلداً ، ليدل على أنهم يبقون دائماً في سن الولدان ، لا يكبرون ولا يتحولون عن شكل الوصافة.

وقال مجاهد : لا يموتون.
وقال الفراء : مقرطون بالخلدات ، وهي ضروب من الأقراط.
{ وكأس من معين } ، قال : من خمر سائلة جارية معينة.
{ لا يصدعون عنها } ، قال الأكثرون : لا يلحق رؤوسهم الصداع الذي يلحق من خمر الدنيا.
وقرأت على أستاذنا العلامة أبي جعفر بن الزبير ، رحمه الله تعالى ، قول علقمة في صفة الخمر :
تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها . . .
ولا يخالطها في الرأس تدويم
فقال : هذه صفة أهل الجنة.
وقيل : لا يفرقون عنها بمعنى : لا تقطع عنهم لذتهم بسبب من الأسباب ، كما تفرق أهل خمر الدنيا بأنواع من التفريق ، كما جاء : فتصدع السحاب عن المدينة : أي فتفرق.
وقرأ مجاهد : لا يصدعون ، بفتح الياء وشد الصاد ، أصله يتصدعون ، أدغم التاء في الصاد : أي لا يتفرقون ، كقوله : { يومئذٍ يصدعون } والجمهور؛ بضم الياء وخفة الصاد؛ والجمهور : بجر { وفاكهة } ؛ ولحم وزيد بن علي : برفعهما ، أي ولهم؛ والجمهور : { ولا ينزفون } مبنياً للمفعول.
قال مجاهد وقتادة وجبير والضحاك : لا تذهب عقولهم سكراً؛ وابن أبي إسحاق : بفتح الياء وكسر الزاي ، نزف البئر : استفرغ ماءها ، فالمعنى : لا تفرغ خمرهم.
وابن أبي إسحاق أيضاً وعبد الله والسلمي والجحدري والأعمش وطلحة وعيسى : بضم الياء وكسر الزاي : أي لا يفنى لهم شراب ، { مما يتخيرون } : يأخذون خيره وأفضله ، { مما يشتهون } : أي يتمنون.
وقرأ الجمهور : { وحور عين } برفعهما؛ وخرج عليّ على أن يكون معطوفاً على { ولدان } ، أو على الضمير المستكن في { متكئين } ، أو على مبتدأ محذوف هو وخبره تقديره : لهم هذا كله ، { وحور عين } ، أو على حذف خبر فقط : أي ولهم حور ، أو فيهما حور.
وقرأ السلمي والحسن وعمرو بن عبيد وأبو جعفر وشيبة والأعمش وطلحة والمفضل وأبان وعصمة والكسائي : بجرهما؛ والنخعي : وحير عين ، بقلب الواو ياء وجرهما ، والجر عطف على المجرور ، أي يطوف عليهم ولدان بكذا وكذا وحور عين.
وقيل : هو على معنى : وينعمون بهذا كله وبحور عين.
وقال الزمخشري : عطفاً على { جنات النعيم } ، كأنه قال : هم في جنات وفاكهة ولحم وحور.
انتهى ، وهذا فيه بعد وتفكيك كلام مرتبط بعضه ببعض ، وهو فهم أعجمي.
وقرأ أبي وعبد الله : وحوراً عيناً بنصبهما ، قالوا : على معنى ويعطون هذا كله وحوراً عيناً.
وقرأ قتادة : وحور عين بالرفع مضافاً إلى عين؛ وابن مقسم : بالنصب مضافاً إلى عين؛ وعكرمة : وحوراء عيناء على التوحيد اسم جنس ، وبفتح الهمزة فيهما؛ فاحتمل أن يكون مجروراً عطفاً على المجرور السابق؛ واحتمل أن يكون منصوباً؛ كقراءة أبي وعبد الله وحوراً عيناً.
ووصف اللؤلؤ بالمكنون ، لأنه أصفى وأبعد من التغير.
وفي الحديث : « صفاؤهنّ كصفاء الدر الذي لا تمسه الأيدي » وقال تعالى : { كأنهن بيض مكنون }

وقال الشاعر ، يصف امرأة بالصون وعدم الابتذال ، فشبهها بالدرة المكنونة في صدفتها فقال :
قامت تراأى بين سجفي كلة . . .
كالشمس يوم طلوعها بالأسعد
أو درّة صدفية غواصها . . .
بهج متى يرها يهل ويسجد
{ جزاء بما كانوا يعملون } : روي أن المنازل والقسم في الجنة على قدر الأعمال ، ونفس دخول الجنة برحمة الله تعالى وفضله لا بعمل عامل ، وفيه النص الصحيح الصريح : « لا يدخل أحد الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ، قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني بفضل منه ورحمة » { لغواً } : سقط القول وفحشه ، { ولا تأثيماً } : ما يؤثم أحداً والظاهر أن { إلا قيلاً سلاماً سلاماً } استثناء منقطع ، لأنه لم يندرج في اللغو ولا التأثيم ، ويبعد قول من قال استثناء متصل.
وسلاماً ، قال الزجاج : هو مصدر نصبه { قيلاً } ، أي يقول بعضهم لبعض { سلاماً سلاماً }.
وقيل : نصب بفعل محذوف ، وهو معمول قيلاً ، أي قيلاً أسلموا سلاماً.
وقيل : { سلاماً } بدل من { قيلاً }.
وقيل : نعت لقيلا بالمصدر ، كأنه قيل : إلا قيلاً سالماً من هذه العيوب.
{ في سدر } : في الجنة شجر على خلقه ، له ثمر كقلال هجر طيب الطعم والريح.
{ مخضود } : عار من الشوك.
وقال مجاهد : المخضود : الموقر الذي تثني أغصانه كثرة حمله ، من خضد الغصن إذا أثناه.
وقرأ الجمهور : { وطلحٍ } بالحاء؛ وعليّ وجعفر بن محمد وعبد الله : بالعين ، قرأها على المنبر.
وقال عليّ وابن عباس وعطاء ومجاهد : الطلح : الموز.
وقال الحسن : ليس بالموز ، ولكنه شجر ظله بارد رطب.
وقيل : شجر أم غيلان ، وله نوّار كثير طيب الرائحة.
وقال السدّي : شجر يشبه طلح الدنيا ، ولكن له ثمر أحلى من العسل.
والمنضود : الذي نضد من أسفله إلى أعلاه ، فليست له ساق تظهر.
{ وظل ممدودٍ } : لا يتقلص.
بل منبسط لا ينسخه شيء.
قال مجاهد : هذا الظل من سدرها وطلحها.
{ وماء مسكوبٍ } ، قال سفيان وغيره : جار في أخاديد.
وقيل : منساب لا يتعب فيه بساقية ولا رشاء.
{ لا مقطوعة } : أي هي دائمة لا تنقطع في بعض الأوقات ، كفاكهة الدنيا ، { ولا ممنوعة } : أي لا يمنع من تناولها بوجه ، ولا يحظر عليها كالتي في الدنيا.
وقرىء : وفاكهة كثيرة برفعهما ، أي وهناك فاكهة ، وفرش : جمع فراش.
وقرأ الجمهور : بضم الراء؛ وأبو حيوة : بسكونها مرفوعة ، نضدت حتى ارتفعت ، أو رفعت على الأسرة.
والظاهر أن الفراش هو ما يفترش للجلوس عليه والنوم.
وقال أبو عبيدة وغيره : المراد بالفرش النساء ، لأن المرأة يكنى عنها بالفراش ، ورفعهن في الأقدار والمنازل.
والضمير في { أنشأناهن } عائد على الفرش في قول أبي عبيدة ، إذ هنّ النساء عنده ، وعلى ما دل عليه الفرش إذا كان المراد بالفرش ظاهر ما يدل عليه من الملابس التي تفرش ويضطجع عليها ، أي ابتدأنا خلقهن ابتداء جديداً من غير ولادة.
والظاهر أن الإنشاء هو الاختراع الذي لم يسبق بخلق ، ويكون ذلك مخصوصاً بالحور اللاتي لسن من نسل آدم ، ويحتمل أن يريد إنشاء الإعادة ، فيكون ذلك لبنات آدم.

{ فجعلناهن أبكاراً عرباً } : والعرب ، قال ابن عباس : العروب المتحببة إلى زوجها ، وقاله الحسن ، وعبر ابن عباس أيضاً عنهن بالعواشق ، ومنه قول لبيد :
وفي الخدور عروب غير فاحشة . . .
ريا الروادف يغشى دونها البصر
وقال ابن زيد : العروب : المحسنة للكلام.
وقرأ حمزة ، وناس منهم شجاع وعباس والأصمعي ، عن أبي عمرو ، وناس منهم خارجة وكردم وأبو حليد عن نافع ، وناس منهم أبو بكر وحماد وأبان عن عاصم : بسكون الراء ، وهي لغة تميم؛ وباقي السبعة : بضمها.
{ أتراباً } في الشكل والقد ، وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في { أنشأناهن } عائد على الحور العين المذكورة قبل ، لأن تلك قصة قد انقطعت ، وهي قصة السابقين ، وهذه قصة أصحاب اليمين.
واللام في { أصحاب } متعلقة بأنشأناهن.
{ ثلة من الأولين } : أي من الأمم الماضية ، { وثلة من الآخرين } : أي من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا تنافي بين قوله : { وثلة من الآخرين } وقوله قبل : { وقليل من الآخرين } ، لأن قوله : { من الآخرين } هو في السابقين ، وقوله { وثلة من الآخرين } هو في أصحاب اليمين.

وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)

اليحموم : الأسود البهيم.
الحنث ، قال الخطابي : هو في كلام العرب العدل الثقيل شبه الإثم به.
الهيم : جمع أهيم وهيماء ، والهيام داء معطش يصيب الإبل فتشرب حتى تموت ، أو تسقم سقماً شديداً ، قال :
فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد . . .
صداها ولا يقضي عليها هيامها
والهيم جمع هيام : وهو الرمل بفتح الهاء وهو المشهور.
وقال ثعلب : بضمها قال : هو الرمل الذي لا يتماسك ، فبالفتح كسحاب وسحب ، ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أهيم من قلب ضمته كسرة لتصح الياء ، أو بالضم يكون قد جمع على فعل ، كقراد وقرد ، ثم سكنت ضمة الراء فصار فعلاً ، ثم فعل به ما فعل ببيض.
أمنى الرجل النطفة ومناها : قذفها من إحليله.
المزن : السحاب.
قال الشاعر :
فلا مزنة ودقت ودقها . . .
ولا أرض أبقل أبقالها
أوريت النار من الزناد : قدحتها ، ووري الزند نفسه ، والزناد حجرين أو من حجر وحديدة ، ومن شجر ، لا سيما في الشجر الرخو كالمرخ والعفار والكلح ، والعرب تقدح بعودين ، تحك أحدهما بالأخر ، ويسمون الأعلى الزند والأسفل الزندة ، شبهوهما بالعجل والطروقة.
أقوى الرجل : دخل في الأرض ، القوا ، وهي.
الفقر ، كأصحر دخل في الصحراء ، وأقوى من أقام أياماً لم يأكل شيئاً ، وأقوت الدار : صارت قفراء.
قال الشاعر :
يا دارمية بالعلياء فالسند . . .
أقوت وطال عليها سالف الأمد
أدهن : لاين وهاود فيما لا يحمل عند المدهن ، وقال الشاعر :
الحزم والقوة خير من السادهان والفهه والمهاع . . .
الحلقوم : مجرى الطعام.
الروح : الاستراحة.
الريحان : تقدم في سورة الرحمن.
{ وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم هذا نزلهم يوم الدين نحن خلقناكم فلولا تصدقون أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين فسبح باسم ربك العظيم }.
لما ذكر حال السابقين ، وأتبعهم بأصحاب الميمنة ، ذكر حال أصحاب المشئمة فقال : { وأصحاب الشمال } ، وتقدّم إعراب نظير هذه الجملة ، وفي هذا الاستفهام تعظيم مصابهم.

{ في سموم } : في أشدّ حر ، { وحميم } : ماء شديد السخونة.
{ وظل من يحموم } ، قال ابن عباس ومجاهد وأبو مالك وابن زيد والجمهور : دخان.
وقال ابن عباس أيضاً : هو سرادق النار المحيط بأهلها ، يرتفع من كل ناحية حتى يظلهم.
وقال ابن كيسان : اليحموم من أسماء جهنم.
وقال ابن زيد أيضاً وابن بريدة : هو جبل في النار أسود ، يفزع أهل النار إلى ذراه ، فيجدونه أشد شيء وأمر.
{ لا بارد ولا كريم } : صفتان للظل نفيتا ، سمي ظلاً وإن كان ليس كالظلال ، ونفي عنه برد الظل ونفعه لمن يأوي إليه.
{ ولا كريم } : تتميم لنفي صفة المدح فيه ، وتمحيق لما يتوهم في الظل من الاسترواح إليه عند شدّة الحر ، أو نفي لكرامة من يستروح إليه.
ونسب إليه مجازاً ، والمراد هم ، أي يستظلون إليه وهم مهانون.
وقد يحتمل المجلس الرديء لنيل الكرامة ، وبدىء أولاً بالوصف الأصلي الذي هو الظل ، وهو كونه من يحموم ، فهو بعض اليحموم.
ثم نفى عنه الوصف الذي يبغي له الظل ، وهو كونه لا بارداً ولا كريماً.
وقد يجوز أن يكون { لا بارد ولا كريم } صفة ليحموم ، ويلزم منه أن يكون الظل موصوفاً بذلك.
وقرأ الجمهور : { لا بارد ولا كريم } بجرهما؛ وابن عبلة : برفعهما : أي لا هو بارد ولا كريم ، على حد قوله :
فأبيت لا حرج ولا محروم . . .
أي لا أنا حرج.
{ إنهم كانوا قبل ذلك } : أي في الدنيا ، { مترفين } : فيه ذم الترف والتنعم في الدنيا ، والترف طريق إلى البطالة وترك التفكر في العاقبة.
{ وكانوا يصرون } : أي يداومون ويواظبون ، { على الحنث العظيم } ، قال قتادة والضحاك وابن زيد : الشرك ، وهو الظاهر.
وقيل : ما تضمنه قوله : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } الآية من التكذيب بالبعث.
ويبعده : { وكانوا يقولون } ، فإنه معطوف على ما قبله ، والعطف يقتضي التغاير ، فالحنث العظيم : الشرك.
فقولهم : { أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون } : تقدم الكلام عليه في والصافات ، وكرر الزمخشري هنا وهمه فقال : فإن قلت : كيف حسن العطف على المضمر في { لمبعوثون } من غير تأكيد بنحن؟ قلت : حسن للفاصل الذي هو الهمزة ، كما حسن في قوله : { ما أشركنا ولا آباؤنا } الفصل لا المؤكدة للنفي. انتهى.
ورددنا عليه هنا وهناك إلى مذهب الجماعة في أنهم لا يقدرون بين همزة الاستفهام وحرف العطف فعلاً في نحو : { أفلم يسيروا } ولا اسماً في نحو : { أو آباؤنا } ، بل الواو والفاء لعطف ما بعدهما على ما قبلهما ، والهمزة في التقدير متأخرة عن حرف العطف.
لكنه لما كان الاستفهام له صدر الكلام قدمت.
ولما ذكر تعالى استفهامهم عن البعث على طريق الاستبعاد والإنكار ، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم ببعث العالم ، أولهم وآخرهم ، للحساب ، وبما يصل إليه المكذبون للبعث من العذاب.

والميقات : ما وقت به الشيء ، أي حد ، أي إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم ، والإضافة بمعنى من ، كخاتم حديد.
{ ثم إنكم } : خطاب لكفار قريش ، { أيها الضالون } عن الهدى ، { المكذبون } للبعث.
وخطاب أيضاً لمن جرى مجراهم في ذلك.
{ لآكلون من شجر من زقوم } : من الأولى لابتداء الغاية أو للتبعيض؛ والثانية ، إن كان من زقوم بدلاً ، فمن تحتمل الوجهين ، وإن لم تكن بدلاً ، فهي لبيان الجنس ، أي من شجر الذي هو زقوم.
وقرأ الجمهور : من شجر؛ وعبد الله : من شجرة.
{ فمالئون منها } : الضمير في منها عائد على شجر ، إذ هو اسم جنس يؤنث ويذكر ، وعلى قراءة عبد الله ، فهو واضح.
{ فشاربون عليه } ، قال الزمخشري : ذكر على لفظ الشجر ، كما أنث على المعنى في منها.
قال : ومن قرأ : من شجرة من زقوم ، فقد جعل الضميرين للشجرة ، وإنما ذكر الثانى على تأويل الزقوم لأنه يفسرها ، وهي في معناه.
وقال ابن عطية : والضمير في عليه عائد على المأكول ، أو على الأكل. انتهى.
فلم يجعله عائداً على شجر.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة : { شرب } بضم الشين ، وهو مصدر.
وقيل : اسم لما يشرب؛ ومجاهد وأبو عثمان النهدي : بكسرها ، وهو بمعنى المشروب ، اسم لا مصدر ، كالطحن والرعي؛ والأعرج وابن المسيب وسبيب بن الحبحاب ومالك بن دينار وابن جريج وباقي السبعة : بفتحها ، وهو مصدر مقيس.
والهيم ، قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك : جمع أهيم ، وهو الجمل الذي أصابه الهيام ، وقد فسرناه في المفردات.
وقيل : جمع هيماء.
وقيل : جمع هائم وهائمة ، وجمع فاعل على فعل شاذ ، كباذل وبذل ، وعائد وعوذ؛ والهائم أيضاً من الهيام.
ألا ترى أن الجمل أذا أصابه ذلك هام على وجهه وذهب؟ وقال ابن عباس وسفيان : الهيم : الرمال التى لا تروى من الماء ، وتقدم الخلاف في مفرده ، أهو الهيام بفتح الهاء ، أم بالضم؟ والمعنى : أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى أكل الزقوم الذي كالمهل ، فإذا ملأوا منه البطون ، سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاهم ، فيشربونه شرب الهيم ، قاله الزمخشري.
وقال أيضاً : فإن قلت : كيف صح عطف الشاربين على الشاربين ، وهما لذوات متفقة وصفتان متفقتان ، فكان عطفاً للشيء على نفسه؟ قلت : ليستا بمتفقتين من حيث أن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة ، وقطع الأمعاء أمر عجيب ، وشربهم له على ذلك ، كما تشرب الهيم الماء ، أمر عجيب أيضاً؛ فكانتا صفتين مختلفتين. انتهى.
والفاء تقتضي التعقيب في الشربين ، وأنهم أولاً لما عطشوا شربوا من الحميم ظناً أنه يسكن عطشهم ، فازداد العطش بحرارة الحميم ، فشربوا بعده شرباً لا يقع به ريّ أبداً ، وهو مثل شرب الهيم ، فهما شربان من الحميم لا شرب واحد ، اختلفت صفتاه فعطف ، والمقصود الصفة.

والمشروب منه في { فشاربون شرب الهيم } محذوف لفهم المعنى تقديره : فشاربون منه شرب الهيم.
وقرأ الجمهور : { نزلهم } بضم الزاي.
وقرأ ابن محيصن وخارجة ، عن نافع ونعيم ومحبوب وأبو زيد وهارون وعصمة وعباس ، كلهم عن أبي عمرو : بالسكون ، وهو أول ما يأكله الضيف ، وفيه تهكم بالكفار ، وقال الشاعر :
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا . . .
جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
{ يوم الدين } : أي يوم الجزاء.
{ نحن خلقناكم فلولا تصدقون } بالإعادة وتقرون بها ، كما أقررتم بالنشأة الأولى ، وهي خلقهم.
ثم قال : { فلولا تصدقون } بالإعادة وتقررن بها كما أقررتم ، فهو حض على التصديق.
{ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } أو : { فلولا تصدقون به } ، ثم حض على التصديق على وجه تقريعهم بسياق الحجج الموجبة للتصديق ، وكان كافراً ، قال : ولم أصدق؟ فقيل له : أفرأيت كذا مما الإنسان مفطور على الإقرار به؟ فقال : { أفرأيتم ما تمنون } ، وهو المني الذي يخرج من الإنسان ، إذ ليس له في خلقه عمل ولا إرادة ولا قدرة.
وقال الزمخشري : { يخلقونه } : تقدرونه وتصورونه.
انتهى ، فحمل الخلق على التقدير والتصوير ، لا على الإنشاء.
ويجوز في { أأنتم } أن يكون مبتدأ ، وخبره { تخلقونه } ، والأولى أن يكون فاعلاً بفعل محذوف ، كأنه قال : أتخلقونه؟ فلما حذف الفعل ، انفصل الضمير وجاء { أفرأيتم } هنا مصرحاً بمفعولها الأول.
ومجيء جملة الاستفهام في موضع المفعول الثاني على ما هو المقرر فيها ، إذا كانت بمعنى أخبرني.
وجاء بعد أم جملة فقيل : أم منقطعة ، وليست المعادلة للهمزة ، وذلك في أربعة مواضع هنا ، ليكون ذلك على استفهامين ، فجواب الأول لا ، وجواب الثاني نعم ، فتقدر أم على هذا ، بل أنحن الخالقون فجوابه نعم.
وقال قوم من النحاة : أم هنا معادلة للهمزة ، وكان ما جاء من الخبر بعد نحن جيء به على سبيل التوكيد ، إذ لو قال : أم نحن ، لوقع الاكتفاء به دون ذكر الخبر.
ونظير ذلك جواب من قال : من في الدار؟ زيد في الدار ، أو زيد فيها ، ولو اقتصر في الجواب على زيد لاكتفى به.
وقرأ الجمهور : { ما تمنون } بضم التاء؛ وابن عباس وأبو السمال : بفتحها.
والجمهور : { قدرنا } ، بشد الدال؛ وابن كثير : يخفها ، أي قضينا وأثبتنا ، أو رتبنا في التقدم والتأخر ، فليس موت العالم دفعة واحدة ، بل بترتيب لا يتعدى.
ويقال : سبقته على الشيء : أعجزته عنه وغلبته عليه ولم تمكنه منه ، والمعنى : { وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم } : أي نحن قادرون على ذلك ، لا تغلبوننا عليه ، إن أردنا ذلك.
وقال الطبري : المعنى نحن قادرون ، { قدرنا بينكم الموت } ، { على أن نبدل أمثالكم } : أي بموت طائفة ونبدلها بطائفة ، هكذا قرناً بعد قرن. انتهى.
فعلى أن نبدل متعلق بقوله : { نحن قدرنا } ، وعلى القول الأول متعلق { بمسبوقين } ، أي لا نسبق.
{ على أن نبدل أمثالكم } ، وأمثالكم جمع مثل ، { وننشئكم فيما لا تعلمون } من الصفات : أي نحن قادرون على أن نعدمكم وننشىء أمثالكم ، وعلى تغيير أوصافكم مما لا يحيط به فكركم.

وقال الحسن : من كونكم قردة وخنازير ، قال ذلك لأن الآية تنحو إلى الوعيد.
ويجوز أن يكون { أمثالكم } جمع مثل بمعنى الصفة ، أي نحن قادرون على أن نغير صفاتكم التي أنتم عليها خلقاً وخلقاً ، { وننشئكم } في صفات لا تعلمونها.
{ ولقد علمتم النشأة الأولى } : أي علمتم أنه هو الذي أنشأكم ، أولاً أنشأنا إنساناً.
وقيل : نشأة آدم ، وأنه خلق من طين ، ولا ينكرها أحد من ولده.
{ فلولا تذكرون } : حض على التذكير المؤدي إلى الإيمان والإقرار بالنشأة الآخرة.
وقرأ الجمهور : تذكرون بشد الذال؛ وطلحة يخفها وضم الكاف ، قالوا : وهذه الآية دالة على استعمال القياس والحض عليه.
انتهى ، ولا تدل إلا على قياس الأولى ، لا على جميع أنواع القياس.
{ أفرأيتم ما تحرثون } : ما تذرونه في الأرض وتبذرونه ، { أأنتم تزرعونه } : أي زرعاً يتم وينبت حتى ينتفع به ، والحطام : اليابس المتفتت الذي لم يكن له حب ينتفع به.
{ فظلتم تفكهون } ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : تعجبون.
وقال عكرمة : تلاومون.
وقال الحسن : تندمون.
وقال ابن زيد : تنفجعون ، وهذا كله تفسير باللازم.
ومعنى تفكهون : تطرحون الفكاهة عن أنفسكم وهي المسرة ، ورجل فكه : منبسط النفس غير مكترث بشيء ، وتفكه من أخوات تخرج وتحوب.
وقرأ الجمهور : { فظلتم } ، بفتح الظاء ولام واحدة؛ وأبو حيوة وأبو بكر في رواية القيكي عنه : بكسرها.
كما قالوا : مست بفتح الميم وكسرها ، وحكاها الثوري عن ابن مسعود ، وجاءت عن الأعمش.
وقرأ عبد الله والجحدري : فظللتم على الأصل ، بكسر اللام.
وقرأ الجحدري أيضاً : بفتحها ، والمشهور ظللت بالكسر.
وقرأ الجمهور : { تفكهون } ؛ وأبو حرام : بالنون بدل الهاء.
قال ابن خالويه : تفكه : تعجب ، وتفكن : تندم.
{ إنا لمغرمون } ، قبله محذوف : أي يقولون.
وقرأ الجمهور : إنا؛ والأعمش والجحدري وأبو بكر : أئنا بهمزتين ، { لمغرمون } : أي معذبون من الغرام ، وهو أشد العذاب ، قال :
إن يعذب يكن غراماً وإن . . .
يعط جزيلاً فإنه لا يبالي
أو لمحملون الغرم في النفقة ، إذ ذهب عنا غرم الرجل وأغرمته.
{ بل نحن محرومون } : محدودون ، لاحظ لنا في الخير.
{ الماء الذي تشربون } : هذا الوصف يغني عن وصفه بالعذاب.
ألا ترى مقابله ، وهو الأجاج؟ ودخلت اللام في { لجعلناه حطاماً } ، وسقطت في قوله : { جعلناه أجاجاً } ، وكلاهما فصيح.
وطول الزمخشري في مسوغ ذلك ، وملخصه : أن الحرف إذا كان في مكان ، وعرف واشتهر في ذلك المكان ، جاز حذفه لشهرة أمره.
فإن اللام علم لارتباط الجملة الثانية بالأولى ، فجاز حذفه استغناء بمعرفة السامع.
وذكر في كلامه أن الثاني امتنع لامتناع الأول ، وليس كما ذكر ، إنما هذا قول ضعفاء المعربين.
والذي ذكره سيبويه : أنها حرف لما كان سيقع لوقوع الأول.
ويفسد قول أولئك الضعفاء قولهم : لو كان إنساناً لكان حيواناً ، فالحيوانية لا تمتنع لامتناع الإنسانية.

ثم قال : ويجوز أن يقال : إن هذه اللام مفيدة معنى التوكيد لا محالة ، وأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أن أمر المطعوم مقدم على أمر المشروب ، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعاً للمطعوم ، ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب.
والظاهر أن { شجرتها } ، المراد منه الشجر الذي يقدح منه النار.
وقيل : المراد بالشجرة نفس النار ، كأنه يقول : نوعها أو جنسها ، فاستعار الشجرة لذلك ، وهذا قول متكلف.
{ نحن جعلناها تذكرة } : أي لنار جهنم ، { ومتاعاً للمقوين } : أي النازلين الأرض القوا ، وهي القفر.
وقيل : للمسافرين ، وهو قريب مما قبله؛ وقول ابن زيد : الجائعين ، ضعيف جداً.
وقدم من فوائد النار ما هو أهم وآكد من تذكيرها بنار جهنم ، ثم أتبعه بفائدتها في الدنيا.
وهذه الأربعة التي ذكرها الله تعالى ووقفهم عليها ، من أمر خلقهم وما به قوام عيشهم من المطعوم والمشروب.
والنار من أعظم الدلائل على البعث ، وفيها انتقال من شيء إلى شيء ، وإحداث شيء من شيء ، ولذلك أمر في آخرها بتنزيهه تعالى عما يقول الكافرون.
ووصف تعالى نفسه بالعظيم ، إذ من هذه أفعاله تدل على عظمته وكبريائه وانفراده بالخلق والإنشاء.

فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

قرأ الجمهور : { فلا أقسم } ، فقيل : لا زائدة مؤكدة مثلها في قوله : { لئلا يعلم أهل الكتاب } والمعنى : فاقسم.
وقيل : المنفي المحذوف ، أي فلا صحة لما يقول الكفار.
ثم ابتدأ أقسم ، قاله سعيد بن جبير وبعض النحاة؛ ولا يجوز ، لأن في ذلك حذف اسم لا وخبرها ، وليس جواباً لسائل سأل ، فيحتمل ذلك ، نحو قوله { لا } لمن قال : هل من رجل في الدار؟ وقيل : توكيد مبالغة ما ، وهي كاستفتاح كلام شبهه في القسم ، إلا في شائع الكلام القسم وغيره ، ومنه.
فلا وأبي أعدائها لا أخونها . . .
والأولى عندي أنها لام أشبعت فتحتها ، فتولدت منها ألف ، كقوله :
أعوذ بالله من العقراب . . .
وهذا وإن كان قليلاً ، فقد جاء نظيره في قوله : { فاجعل أفئيدة من الناس } بياء بعد الهمزة ، وذلك في قراءة هشام ، فالمعنى : فلأقسم ، كقراءة الحسن وعيسى ، وخرج قراءة الحسن أبو الفتح على تقدير مبتدأ محذوف ، أي فلأنا أقسم ، وتبعه على ذلك الزمخشري.
وإنما ذهبا إلى ذلك لأنه فعل حال ، وفي القسم عليه خلاف.
فالذي اختاره ابن عصفور وغيره أن فعل الحال لا يجوز أن يقسم عليه ، فاحتاجوا إلى أن يصوروا المضارع خبراً لمبتدأ محذوف ، فتصير الجملة اسمية ، فيقسم عليها.
وذهب بعض النحويين إلى أن جواز القسم على فعل الحال ، وهذا الذي اختاره فتقول : والله ليخرج زيد ، وعليه قول الشاعر :
ليعلم ربي أن بيتي واسع . . .
وقال الزمخشري : في قراءة الحسن ، ولا يصح أن تكون اللام لام قسم لأمرين ، أحدهما : أن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة ، والإخلال بها ضعيف قبيح؛ والثاني : أن لأفعلنّ في جواب القسم للاستقبال ، وفعل القسم يجب أن يكون للحال. انتهى.
أما الأمر الأول ففيه خلاف ، فالذي قاله قول البصريين ، وأما الكوفيون فيختارون ذلك ، ولكن يجيزون تعاقبهما ، فيجيزون لأضربن زيداً ، واضربن عمراً.
وأما الثاني فصحيح ، لكنه هو الذي رجح عندنا أن تكون اللام في لا أقسم لام القسم ، وأقسم فعل حال ، والقسم قد يكون جواباً للقسم؛ كما قال تعالى : { وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى } فاللام في { وليحلفن } جواب قسم ، وهو قسم ، لكنه لما لم يكن حلفهم حالاً ، بل مستقبلاً ، لزمت النون ، وهي مخلصة المضارع للاستقبال.
وقرأ الجمهور : { بمواقع } جمعاً؛ وعمر وعبد الله وابن عباس وأهل المدينة وحمزة والكسائي : بموقع مفرداً ، مراداً به الجمع.
قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهم : هي نجوم القرآن التي أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويؤيد هذا القول قوله : { إنه لقرآن } ، فعاد الضمير على ما يفهم من قوله : { بمواقع النجوم } ، أي نجوم القرآن.
وقيل : النجوم : الكواكب ومواقعها.
قال مجاهد وأبو عبيدة : عند طلوعها وغروبها.
وقال قتادة : مواقعها : مواضعها من السماء.
وقال الحسن : مواقعها عند الانكدار يوم القيامة.

وقيل : عند الانفضاض أثر العفاري ، ومن تأول النجوم على أنها الكواكب ، جعل الضمير في إنه يفسره سياق الكلام ، كقوله : { حتى توارت بالحجاب } وفي إقسامه تعالى بمواقع النجوم سر في تعظيم ذلك لا نعلمه نحن ، وقد أعظم ذلك تعالى فقال : { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم }.
والجملة المقسم عليها قوله : { إنه لقرآن كريم } ، وفصل بين القسم وجوابه؛ فالظاهر أنه اعتراض بينهما ، وفيه اعتراض بين الصفة والموصوف بقوله : { لو تعلمون }.
وقال ابن عطية : { وإنه لقسم } تأكيد للأمر وتنبيه من المقسم به ، وليس هذا باعتراض بين الكلامين ، بل هذا معنى قصد التهمم به ، وإنما الاعتراض قوله : { لو تعلمون }. انتهى.
وكريم : وصف مدح ينفي عنه مالا يليق به.
وقال الزمخشري : { كريم } : حسن مرضي في جنسه من الكتب ، أو نفاع جم المنافع ، أو كريم على الله تعالى.
{ في كتاب مكنون } : أي مصون.
قال ابن عباس ومجاهد : الكتاب الذي في السماء.
وقال عكرمة : التوراة والإنجيل ، كأنه قال : ذكر في كتاب مكنون كرمه وشرفه ، فالمعنى على هذا الاستشهاد بالكتب المنزلة.
وقيل : { في كتاب مكنون } : أي في مصاحف للمسلمين مصونة من التبديل والتغيير ، ولم تكن إذ ذاك مصاحف ، فهو إخبار بغيب.
والظاهر أن قوله : { لا يمسه إلا المطهرون } وصف لقرآن كريم ، فالمطهرون هم الملائكة.
وقيل : { لا يمسه } صفة لكتاب مكنون ، فإن كان الكتاب هو الذي في السماء ، فالمطهرون هم الملائكة أيضاً : أي لا يطلع عليه من سواهم ، وكذا على قول عكرمة : هم الملائكة ، وإن أريد بكتاب مكنون الصحف ، فالمعنى : أنه لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على طهارة من الناس.
وإذا كان { المطهرون } هم الملائكة ، { فلا يمسه } نفي ، ويؤيد المنفي ما يمسه على قراءة عبد الله.
وإذا عنى بهم المطهرون من الكفر والجنابة ، فاحتمل أن يكون نفياً محضاً ، ويكون حكمه أنه لا يمسه إلا المطهرون ، وإن كان يمسه غير المطهر ، كما جاء : « لا يعضد شجرها » ، أي الحكم هذا ، وإن كان قد يقع العضد.
واحتمل أن يكون نفياً أريد به النهي ، فالضمة في السين إعراب.
واحتمل أن يكون نهياً فلو فك ظهر الجزم ، ولكنه لما أدغم كان مجزوماً في التقدير ، والضمة فيه لأجل ضمة الهاء ، كما جاء في الحديث : « إنا لم نرده عليك » ، إلا إنا جزم ، وهو مجزوم ، ولم يحفظ سيبويه في نحو هذا من المجزوم المدغم المتصل بالهاء ضمير المذكر إلا الضم.
قال ابن عطية : والقول بأن لا يمسه نهي ، قول فيه ضعف ، وذلك أنه إذا كان خبراً ، فهو في موضع الصفة وقوله بعد ذلك { تنزيل } صفة ، فإذا جعلناه نهياً ، جاء معناه أجنبياً معترضاً بين الصفات ، وذلك لا يحسن في وصف الكلام فتدبره.
وفي حرف ابن مسعود ما يمسه ، وهذا يقوي ما رجحته من الخبر الذي معناه حقه وقدره أن لا يمسه إلا طاهر.

انتهى.
ولا يتعين أن يكون { تنزيل } صفة ، بل يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، فيحسن إذ ذاك أن يكون { لا يمسه } نهياً.
وذكروا هنا حكم مس المصحف ، وذلك مذكور في الفقه ، وليس في الآية دليل على منع ذلك.
وقرأ الجمهور : { المطهرون } اسم مفعول من طهر مشدّداً؛ وعيسى : كذلك مخففاً من أطهر ، ورويت عن نافع وأبي عمرو.
وقرأ سلمان الفارسي : المطهرون ، بخف الطاء وشد الهاء وكسرها : اسم فاعل من طهر ، أي المطهرين أنفسهم؛ وعنه أيضاً المطهرون بشدهما ، أصله المتطهرون ، فأدغم التاء في الطاء ، ورويت عن الحسن وعبد الله بن عوف.
وقرىء : المتطهرون.
وقرىء : تنزيلاً بالنصب ، أي نزل تنزيلاً ، والإشارة في : { أفبهذا الحديث } للقرآن ، و { أنتم } : خطاب للكفار ، { مدهنون } ، قال ابن عباس : مهاودون فيما لا يحل.
وقال أيضاً : مكذبون.
{ وتجعلون رزقكم } : أي شكر ما رزقكم الله من إنزال القرآن عليكم تكذيبكم به ، أي تضعون مكان الشكر التكذيب ، ومن هذا المعنى قول الراجز :
مكان شكر القوم عند المنن . . .
كي الصحيحات وفقء الأعين
وقرأ عليّ وابن عباس : وتجعلون شكركم ، وذلك على سبيل التفسير لمخالفته السواد.
وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة أزد شنؤه ما رزق فلان فلاناً ، بمعنى : ما شكره.
قيل : نزلت في الأنواء ، ونسبة السقيا إليها ، والرزق : المطر ، فالمعنى : ما يرزقكم الله من الغيب.
وقال ابن عطية : أجمع المفسرون على أن الآية توبيخ للقائلين في المطر ، هذا بنوء كذا وكذا ، وهذا بنوء الأسد ، وهذا بنوء الجوزاء ، وغير ذلك.
وقرأ الجمهور : { تكذبون } من التكذيب؛ وعليّ والمفضل عن عاصم : من الكذب ، فالمعنى من التكذيب أنه ليس من عند الله ، أي القرآن أو المطر ، حيث ينسبون ذلك إلى النجوم.
ومن الكذب قولهم : في القرآن سحر وافتراء ، وفي المطر من الأنواء.
{ فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون } ، قال الزمخشري : ترتيب الآية : فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين ، فلولا الثانية مكررة للتوكيد ، والضمير في ترجعونها للنفس.
وقال ابن عطية : توقيف على موضع عجز يقتضي النظر فيه أن الله مالك كل شيء.
{ وأنتم } : إشارة إلى جميع البشر ، { حينئذ } : حين إذ بلغت الحلقوم ، { تنظرون } : أي إلى النازع في الموت.
وقرأ عيسى : حينئذ بكسر النون اتباعاً لحركة الهمزة في إذ ، { ونحن أقرب إليه منكم } بالعلم والقدرة ، { ولكن لا تبصرون } : من البصيرة بالقلب ، أو { أقرب } : أي ملائكتنا ورسلنا ، { ولكن لا تبصرون } : من البصر بالعين.
ثم عاد التوقيف والتقدير ثانية بلفظ التخصيص.
والمدين : المملوك.
قال الأخطل :
ربت ورباني في حجرها ابن مدينة . . .
قيل : ابن مملوكة يصف عبداً ابن أمة ، وآخر البيت :
تراه على مسحانة يتوكل . . .
والمعنى : فلولا ترجعون النفس البالغة إلى الحلقوم إن كنتم غير مملوكين وغير مقهورين.

{ إن كنتم صادقين } في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدىء المعيد ، إذ كانوا فيما ذهبوا إليه من أن القرآن سحر وافتراء ، وأن ما نزل من المطر هو بنوء ، كذا تعطيل للصانع وتعجيز له.
وقال ابن عطية : قوله { ترجعونها } سد مسد جوابها ، والبيانات التي تقتضيها التخصيصات ، وإذا من قوله : { فلولا إذا } ، وإن المتكررة ، وحمل بعض القول بعضاً إيجازاً واقتصاراً. انتهى.
وتقول : { إذا } ليست شرطية ، فتسد { ترجعونها } مسد جوابها ، بل هي ظرف غير شرط معمول لترجعونها المحذوف بعد فلولا ، لدلالة ترجعونها في التخصيص الثاني علي ، فجاء التخصيص الأول مقيداً بوقت بلوغ الحلقوم ، وجاء التخصيص الثاني معلقاً على انتفاء مربوبيتهم ، وهم لا يقدرون على رجوعها ، إذ مربوبيتهم موجودة ، فهم مقهورون لا قدرة لهم.
{ فأما إن كان } : أي المتوفى ، { من المقرّبين } : وهم السابقون.
وقرأ الجمهور؛ { فروح } ، بفتح الراء؛ وعائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ونوح القارىء ، والضحاك ، والأشهب ، وشعيب بن الحبحاب ، وسليمان التيمي ، والربيع بن خيثم ، ومحمد بن عليّ ، وأبو عمران الجوني ، والكلبي ، وفياض ، وعبيد ، وعبد الوارث عن أبي عمرو ، ويعقوب بن صيان ، وزيد ، ورويس عنه : بضمها.
قال الحسن : الروح : الرحمة ، لأنها كالحياة للمرحوم.
وقال أيضاً : روحه تخرج في ريحان.
وقيل : الروح : البقاء ، أي فهذان له معاً ، وهو الخلود مع الرزق.
وقال مجاهد : الريحان : الرزق.
وقال الضحاك : الاستراحة.
وقال أبو العالية وقتادة والحسن أيضاً : الريحان ، هذا الشجر المعروف في الدنيا ، يلقى المقرب ريحاناً من الجنة.
وقال الخليل : هو ظرف كل بقلة طيبة فيها أوائل النور.
وقال صلى الله عليه وسلم ، في الحسن والحسين ، رضي الله تعالى عنهما : « هما ريحانتاي من الدنيا ».
وقال ابن عطية : الريحان : مما تنبسط به النفوس ، { فروح } : فسلام ، فنزل الفاء جواب أما تقدم.
أما وهي في تقدير الشرط ، وإن كان من المقربين ، وإن كان من أصحاب اليمين ، وإن كان من المكذبين الضالين شرط؛ وإذا اجتمع شرطان ، كان الجواب للسابق منهما.
وجواب الثاني محذوف ، ولذلك كان فعل الشرط ماضي للفظ ، أو مصحوباً بلم ، وأغنى عنه جواب أما ، هذا مذهب سيبويه.
وذهب أبو عليّ الفارسي إلى أن الفاء جواب إن ، وجواب أما محذوف ، وله قول موافق لمذهب سيبويه.
وذهب الأخفش إلى أن الفاء جواب لأمّا ، والشرط معاً ، وقد أبطلنا هذين المذهبين في كتابنا المسمى بالتذييل والتكميل في شرح التسهيل ، والخطاب في ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم ، أي لا ترى فيهم يا محمد إلا السلامة من العذاب.
ثم لكل معتبر من أمّته صلى الله عليه وسلم قبل لمن يخاطبه : { من أصحاب اليمين }.
فقال الطبري : المعنى : فسلام لك أنت من أصحاب اليمين.
وقال قوم : المعنى : فيقال لهم : مسلم لك إنك من أصحاب اليمين.
وقيل : فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين ، أي يسلمون عليك ، كقوله : { إلا قيلاً سلاماً سلاماً }.

والمكذبون الضالون هم أصحاب المشأمة ، أصحاب الشمال.
وقرأ الجمهور : وتصلية رفعاً ، عطفاً على { فنزل } ؛ وأحمد بن موسى والمنقري واللؤلؤي عن أبي عمرو : بحر عطفاً على { من حميم }.
ولما انقضى الإخبار بتقسيم أحوالهم وما آل إليه كل قسم منهم ، أكد ذلك بقوله : { إن هذا } : أي إن هذا الخبر المذكور في هذه السورة { هو حق اليقين } ، فقيل : هو من إضافة المترادفين على سبيل المبالغة ، كما تقول : هذا يقين اليقين وصواب الصواب ، بمعنى أنها نهاية في ذلك ، فهما بمعنى واحد أضيف على سبيل المبالغة.
وقيل : هو من إضافة الموصوف إلى صفته جعل الحق مبايناً لليقين ، أي الثابت المتيقن.
ولما تقدم ذكر الأقسام الثلاثة مسهباً الكلام فيهم ، أمره تعالى بتنزيهه عن ما لا يليق به من الصفات.
ولما أعاد التقسيم موجزاً الكلام فيه ، أمره أيضاً بتنزيهه وتسبيحه ، والإقبال على عبادة ربه ، والإعراض عن أقوال الكفرة المنكرين للبعث والحساب والجزاء.
ويظهر أن سبح يتعدى تارة بنفسه ، كقوله : { سبح اسم ربك الأعلى } ويسبحوه؛ وتارة بحرف الجر ، كقوله : { فسبح باسم ربك العظيم } ، والعظيم يجوز أن يكون صفة لاسم ، ويجوز أن يكون صفة لربك.

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)

والتسبيح هنا عند الأكثرين بمعنى التنزيه المعروف في قولهم : سبحان الله ، فقيل : هو حقيقة في الجميع ، وقيل : فيمن يمكن التسبيح منهم ، وقيل : مجاز ، بمعنى : أن أثر الصنعة فيها ينبه الرائي على التسبيح.
وقيل : التسبيح هنا الصلاة ، ففي الجماد بعيد ، وفي الكافر سجود ظله صلاته ، وفي المؤمن ذلك سائغ ، واللام في { لله } ، إما أن تكون بمنزلة اللام في : نصحت لزيد ، يقال : سبح الله ، كما يقال؛ نصحت زيداً ، فجيء باللام لتقوية وصول الفعل إلى المفعول؛ وإما أن تكون لام التعليل ، أي أحدث التسبيح لأجل الله ، أي لوجهه خالصاً.
{ يحيي ويميت } : جملة مستقلة لا موضع لها من الإعراب لقوله : { له ملك السماوات والأرض }.
لما أخبر بأنه له الملك ، أخبر عن ذاته بهذين الوصفين العظيمين اللذين بهما تمام التصرف في الملك ، وهو إيجاد ما شاء وإعدام ما شاء ، ولذلك أعقب بالقدرة التي بها الإحياء والإماتة.
وجوز أن يكون خبر مبتدأ ، أي هو يحيي ويميت.
وأن يكون حالاً ، وذو الحال الضمير في له ، والعامل فيها العامل في الجار والمجرور.
{ هو الأول } : الذي ليس لوجوده بداية مفتتحة ، { والآخر } : أي الدائم الذي ليس له نهاية منقضية.
وقيل : الأول الذي كان قبل كل شيء ، والآخر الذي يبقى بعد هلاك كل شيء.
{ والظاهر } بالأدلة ونظر العقول في صفته ، { والباطن } لكونه غير مدرك بالحواس.
وقال أبو بكر الورّاق : الأول بالأزلية ، والآخر بالأبدية.
وقيل : { الظاهر } العالي على كل شيء ، الغالب له من ظهر عليه إذا علاه وغلبه؛ { والباطن } : الذي بطن كل شيء ، أي علم باطنه.
وقال الزمخشري؛ فإن قلت : فما معنى الواو؟ قلت : الواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية؛ والثانية على أنه الجامع بين الظهور والخفاء؛ وأما الوسطى فعل أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين.
فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية ، وهو في جميعها ظاهر وباطن.
جامع الظهور بالأدلة والخفاء ، فلا يدرك بالحواس؛ وفي هذا حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة.
انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال.
{ يعلم ما يلج في الأرض } من المطر والأموات وغير ذلك ، { وما يخرج منها } من النبات والمعادن وغيرها ، { وما ينزل من السماء } من الملائكة والرحمة والعذاب وغيره ، { وما يعرج فيها } من الملائكة وصالح الأعمال وسيئها ، { وهو معكم أين ما كنتم } : أي بالعلم والقدرة.
قال الثوري : المعني علمه معكم ، وهذه آية أجمعت الأمّة على هذا التأويل فيها ، وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات ، وهي حجة على من منع التأويل في غيرها مما يجري مجراها من استحالة الحمل على ظاهرها.
وقال بعض العلماء : فيمن يمتنع من تأويل ما لا يمكن حمله على ظاهره ، وقد تأول هذه الآية ، وتأول الحجر الأسود يمين الله في الأرض ، لو اتسع عقله لتأول غير هذا مما هو في معناه.
وقرأ الجمهور؛ { ترجع } ، مبنياً للمفعول؛ والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج : مبنياً للفاعل؛ والأمور عام في جميع الموجودات ، أعراضها وجواهرها.
وتقدم شرح ما قبل هذا وما بعده ، فأغنى عن إعادته.

آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)

لما ذكر تعالى تسبيح العالم له ، وما احتوى عليه من الملك ، والتصرف ، وما وصف به نفسه من الصفات العلا ، وختمها بالعالم بخفيات الصدور ، أمر تعالى عباده المؤمنين بالثبات على الإيمان وإدامته ، والنفقة في سبيل الله تعالى.
قال الضحاك : نزلت في غزوة تبوك.
{ مستخلفين فيه } : أي ليست لكم بالحقيقة ، وإنما انتقلت إليكم من غيركم.
وكما وصلت إليكم تتركونها لغيركم ، وفيه تزهيد فيما بيد الناس ، إذ مصيره إلى غيره ، وليس له منه إلا ما جاء في الحديث : « يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت » وقيل لأعرابي : لمن هذه الإبل؟ فقال : هي لله تعالى عندي.
أو يكون المعنى : إنه تعالى أنشأ هذه الأموال ، فمتعكم بها وجعلكم خلفاء في التصرف فيها ، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء ، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى.
ثم ذكر تعالى ما للمؤمن المنفق من الأجر ، ووصفة بالكرم ليصرعه في أنواع الثواب.
قيل : وفيه إشارة إلى عثمان بن عفان ، حيث بذل تلك النفقة العظيمة في جيش العسرة ، ثم قال : { وما لكم لا تؤمنون بالله } ، وهو استفهام على سبيل التأنيب والإنكار : أي كيف لا تثبتون على الإيمان؟ ودواعي ذلك موجودة ، وذلك ركزة فيكم من دلائل العقل.
وموجب ذلك من السمع في قوله : { والرسول يدعوكم } لهذا الوصف الجليل.
وقد تقدم أخذ الميثاق عليكم بالإيمان ، فدواعي الإيمان موجودة ، وأسبابه حاصلة ، فلا مانع منه ، ولا عذر في تركه.
و { لا تؤمنون } حال ، كما تقول : ما لك لا تقوم تنكر عليه انتفاء قيامه؟ { والرسول } : الواو واو الحال ، فالجملة بعده حال ، وقد أخذ حال ثالثة ، وهذا الميثاق قيل : هو الذي أخذ عليهم حين الإخراج من ظهر آدم عليه الصلاة والسلام.
وقيل : ما نصب من الأدلة وركز في العقول من النظر فيها.
{ إن كنتم مؤمنين } : شرط وجوابه محذوف ، أي إن كنتم مؤمنين لموجب مّا ، فهذا هو الموجب لإيمانكم ، أو إن كنتم ممن يؤمن ، فما لكم لا تؤمنون والحالة هذه؟ وهي دعاء الرسول وأخذ الميثاق.
وقال الطبري : إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال فالآن.
وقرأ الجمهور : { وقد أخذ } مبنياً للفاعل ، { ميثاقكم } بالنصب؛ وأبو عمرو : مبنياً للمفعول ، ميثاقكم رفعاً.
وقال ابن عطية : في قوله : { إن كنتم مؤمنين } وإنما المعنى أن قوله : { والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين } يقتضي أن يقدر بأثره ، فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة.
{ إن كنتم مؤمنين } : أي إن دمتم على ما بدأتم به.
ولما ذكر توطئة ما يوجب الإيمان دعاء الرسول إياهم للإيمان ، ذكر أنه تعالى هو المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ما دعا به إلى الإيمان ، وذلك الآيات البينات المعجزات ، ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، أي الله تعالى ، إذ هو المخبر عنه ، أو الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأنه أقرب.

وقرىء في السبعة : { ينزل } مضارعاً ، فبعض ثقل وبعض خفف.
وقراءة الحسن : بالوجهين؛ وزيد بن علي والأعمش : أنزل ماضياً ، ووصف نفسه تعالى بالرأفة والرحمة تأنيساً لهم.
ولما كان قد أمرهم بالإيمان والإنفاق ، ثم ترك تأنيبهم على ترك الإيمان مع حصول موجبه ، أنبهم على ترك الإنفاق في سبيل الله مع قيام الداعي لذلك ، وهو أنهم يموتون فيخلفونه.
ونبه على هذا الموجب بقوله : { ولله ميراث السماوات والأرض } وهذا من أبلغ البعث على الإنفاق.
وأن لا تنفقوا تقديره : في أن لا تنفقوا ، فموضعه جر أو نصب على الخلاف ، وأن ليست زائدة ، بل مصدرية.
وقال الأخفش : في قوله : { وما لنا أَن لا نقاتل } إنها زائدة عاملة تقديره عنده : وما لنا لا نقاتل ، فلذلك على مذهبه في تلك هنا تكون أن ، وتقديره : وما لكم لا تنفقون ، وقد رد مذهبه في كتب النحو.
{ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل } ، قيل : نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، إذ كان أول من أسلم وهاجر وأنفق رضي الله تعالى عنه ، وكذا من تابعه في السبق في ذلك ، ولذلك قال : { أولئك أعظم درجة }.
وقيل : نزلت بسبب أن ناساً من الصحابة أنفقوا نفقات جليلة حتى قيل : إن هؤلاء أعظم أجراً من كل من أنفق.
وهذه الجملة تضمنت تباين ما بين المنفقين.
وقرأ الجمهور : { من قبل الفتح } ؛ وزيد بن علي ، قيل : بغير من.
والفتح مكة ، وهو المشهور ، وقول قتادة وزيد بن أسلم ومجاهد.
وقال أبو سعيد الخدري والشعبي : هو فتح الحديبة ، وقد تقدم في أول سورة الفتح كونه فتحاً ، ورفعه أبو سعيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم : إن أفضل ما بين الهجرتين فتح الحديبة.
والظاهر أن { من } فاعل { لا يستوي } ، وحذف مقابله ، وهو من أنفق من بعد الفتح وقاتل ، لوضوح المعنى.
{ أولئك } : أي الذين أنفقوا قبل الفتح وقبل انتشار الإسلام وفشوّه واستيلاء السلمين على أم القرى ، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين جاء في حقهم قوله صلى الله عليه وسلم : « لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه » وأبعد من ذهب إلى الفاعل بلا يستوي ضمير يعود على الإنفاق ، أي لا يستوي ، هو الإنفاق ، أي جنسه ، إذ منه ما هو قبل الفتح وبعده؛ ومن أنفق مبتدأ ، وأولئك مبتدأ خبره ما بعده ، والجملة في موضع خبر من ، وهذا فيه تفكيك للكلام ، وخروج عن الظاهر لغير موجب.
وحذف المعطوف لدلالة المقابل كثيرة ، فأنفق لا سيما المعطوف الذي يقتضيه وضع الفعل ، وهو يستوي.

وقرأ الجمهور : { وكلاً } بالنصب ، وهو المفعول الأول لوعد.
وقرأ ابن عامر وعبد الوارث من طريق المادر أي : وكل بالرفع والظاهر أنه مبتدأ ، والجملة بعده في موضع الخبر ، وقد أجاز ذلك الفراء وهشام ، وورد في السبعة ، فوجب قبوله؛ وإن كان غيرهما من النحاة قد خص حذف الضمير الذي حذف من مثل وعد بالضرورة.
وقال الشاعر :
وخالد تحمد ساداتنا . . .
بالحق لا تحمد بالباطل
يريده : تحمده ساداتنا ، وفر بعضهم من جعل وعد خبراً فقال : كل خبر مبتدأ تقديره : وأولئك كل ، ووعد صفة ، وحذف الضمير المنصوب من الجملة الواقعة صفة أكثر من حذفه منها إذا كانت خبراً ، نحو قوله :
وما أدري أغيرهم تناء . . .
وطول العهد أم مال أصابوا
يريد : أصابوه ، فأصابوه صفة لمال ، وقد حذف الضمير العائد على الموصوف والحسنى : تأنيث الأحسن ، وفسره مجاهد وقتادة بالجنة.
والوعد يتضمن ذلك في الآخرة ، والنصر والغنيمة في الدنيا.
{ والله بما تعملون خبير } : فيه وعد ووعيد.
وتقدم الكلام على مثل قوله : { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له } ، إعراباً وقراءة وتفسيراً ، في سورة البقرة.
وقال ابن عطية : هنا الرفع يعني في يضاعفه على العطف ، أو على القطع والاستئناف.
وقرأ عاصم : فيضاعفه بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام ، وفي ذلك قلق.
قال أبو علي ، يعني الفارسي : لأن السؤال لم يقع على القرض ، وإنما وقع السؤال على فاعل القرض ، وإنما تنصب الفاء فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه ، لكن هذه الفرقة ، يعني من القراء ، حملت ذلك على المعنى ، كأن قوله : { من ذا الذي يقرض } بمنزلة أن لو قال : أيقرض الله أحد فيضاعفه؟ انتهى.
وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أنه إنما تنصب الفاء فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه ليس بصحيح ، بل يجوز إذا كان الاستفهام بأدواته الاسمية نحو : من يدعوني فأستجيب له؟ وأين بيتك فأزورك؟ ومتى تسير فأرافقك؟ وكيف تكون فأصحبك؟ فالاستفهام هنا واقع عن ذات الداعي ، وعن ظرف المكان وظرف الزمان والحال ، لا عن الفعل.
وحكى ابن كيسان عن العرب : أين ذهب زيد فنتبعه؟ وكذلك : كم مالك فنعرفه؟ ومن أبوك فنكرمه؟ بالنصب بعد الفاء.
وقراءة فيضاعفه بالنصب قراءة متواترة ، والفعل وقع صلة للذي ، والذي صفة لذا ، وذا خبر لمن.
وإذا جاز النصب في نحو هذا ، فجوازه في المثل السابقة أحرى ، مع أن سماع بن كيسان ذلك محكياً عن العرب يؤيد ذلك.
والظاهر أن قوله : { وله أجر كريم } هو زيادة على التضعيف المترتب على القرض ، أي وله مع التضعيف أجر كريم.

يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)

العامل في يوم ما عمل في لهم؛ التقدير : ومستقر له أجر كريم يوم ترى ، أو اذكر يوم ترى إعظاماً لذلك اليوم.
والرؤية هنا رؤية عين ، والنور حقيقة ، وهو قول الجمهور ، وروي في ذلك عن ابن عباس وغيره آثار ، وأن كل مظهر من الإيمان له نور ، فيطفىء نور المنافق ، ويبقى نور المؤمن ، وهم متفاوتون في النور.
منهم من يضيء ، كما بين مكة وصنعاء ، ومن نوره كالنخلة السحوق ، ومن يضيء له ما قرب قدميه.
ومنهم من يهم بالانطفاء مرة ويبين مرة ، وذلك على قدر الأعمال.
وقال الضحاك : النور استعارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه.
والظاهر أن النور يتقدم لهم بين أيديهم ، ويكون أيضاً بأيمانهم ، فيظهر أنهما نوران : نور ساع بين أيديهم ، ونور بأيمانهم؛ فذلك يضيء الجهة التي يؤمونها ، وهذا يضيء ما حواليهم من الجهات.
وقال الجمهور : النور أصله بأيمانهم ، والذي بين أيديهم هو الضوء المنبسط من ذلك النور.
وقيل : الباء بمعنى عن ، أي عن أيمانهم ، والمعنى : في جميع جهاتهم.
وعبر عن ذلك بالأيمان تشريفاً لها.
وقال الزمخشري : وإنما قال { بين أيديهم وبأيمانهم } ، لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين ، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم.
وقرأ الجمهور : { وبأيمانهم } ، جمع يمين؛ وسهل بن شعيب السهمي ، وأبو حيوة : بكسر الهمزة ، وعطف هذا المصدر على الظرف لأن الظرف متعلق بمحذوف ، أي كائناً بين أيديهم ، وكائناً بسبب أيمانهم.
{ بشراكم اليوم جنات } : جملة معمولة لقول محذوف ، أي تقول لهم الملائكة : الذين يتلقونهم جنات ، أي دخول جنات.
قال ابن عطية : { خالدين فيها } ، إلى آخر الآية ، مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم. انتهى.
ولا مخاطبة هنا ، بل هذا من باب الالتفات من ضمير الخطاب في { بشراكم } إلى ضمير الغيبة في { خالدين }.
ولو جرى على الخطاب ، لكان التركيب خالداً أنتم فيها ، والالتفات من فنون البيان { يوم يقول } بدل من { يوم ترى }.
وقيل : معمول لاذكر.
قال ابن عطية : ويظهر لي أن العامل فيه { ذلك هو الفوز العظيم } ، ومجيء معنى الفوز أفخم ، كأنه يقول : إن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا وكذا ، لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه ومضاده أبدع وأفخم. انتهى.
فظاهر كلامه وتقديره أن يوم منصوب بالفوز ، وهو لا يجوز ، لأنه مصدر قد وصف قبل أخذ متعلقاته ، فلا يجوز إعماله.
فلو أعمل وصفة ، وهو العظيم ، لجاز ، أي الفوز الذي عظم ، أي قدره { يوم يقول }.
{ انظرونا } : أي انتظرونا ، لأنهم لما سبقوكم إلى المرور على الصراط ، وقد طفئت أنوارهم ، قالوا ذلك.
قال الزمخشري : { انظرونا } : انتظرونا ، لأنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على ركاب تذف بهم وهؤلاء مشاة ، أو انظروا إلينا ، لأنهم إذا انظروا إليهم استقبلوهم بوجوهم والنور بين أيديهم فيستضيئون به.

انتهى.
فجعل انظرونا بمعنى انظروا إلينا ، ولا يتعدى النظر هذا في لسان العرب إلا بإلى لا بنفسه ، وإنما وجد متعدياً بنفسه في الشعر.
وقرأ زيد بن علي وابن وثاب والأعمش وطلحة وحمزة : أنظرونا من أنظر رباعياً ، أي أخرونا ، أي اجعلونا في آخركم ، ولا تسبقونا بحيث تفوتوننا ، ولا نلحق بكم.
{ نقتبس من نوركم } : أي نصب منه حتى نستضيء به.
ويقال : اقتبس الرجل واستقبس : أخذ من نار غيره قبساً.
{ قيل ارجعوا وراءكم } : القائل المؤمنون ، أو الملائكة.
والظاهر أن { وراءكم } معمول لارجعوا.
وقيل : لا محل له من الأعراب لأنه بمعنى ارجعوا ، كقولهم : وراءك أوسع لك ، أي ارجع تجد مكاناً أوسع لك.
وارجعوا أمر توبيخ وطرد ، أي ارجعوا إلى الموقف حيث أعطينا الفوز فالتمسوه هناك ، أو ارجعوا إلى الدنيا والتمسوا نوراً ، أي بتحصيل سببه وهو الإيمان ، أو تنحوا عنا ، { فالتمسوا نوراً } غير هذا فلا سبيل لكم إلى الاقتباس منه.
وقد علموا أن لا نور وراءهم ، وإنما هو إقناط لهم.
{ فضرب بينهم } : أي بين المؤمنين والمنافقين ، { بسور } : بحاجز.
قال ابن زيد : هو الأعراف.
وقيل : حاجز غيره.
وقرأ الجمهور : فضرب مبنياً للمفعول؛ وزيد بن علي وعبيد بن عمير : مبنياً للفاعل ، أي الله ، ويبعد قول من قال : إن هذا السور هو الجدار الشرقي من مسجد بيت المقدس ، وهو مروي عن عبادة بن الصامت وابن عباس وعبد الله بن عمر وكعب الأحبار ، ولعله لا يصح عنهم.
والسور هو الحاجز الدائر على المدينة للحفظ من عدو.
والظاهر في باطنه أن يعود الضمير منه على الباب لقربه.
وقيل : على السور ، وباطنه الشق الذي لأهل الجنة ، وظاهره ما يدانيه من قبله من جهته العذاب.
{ ينادونهم } : استئناف إخبار ، أي ينادون المنافقون المؤمنين ، { ألم نكن معكم } : أي في الظاهر ، { قالوا بلى } : أي كنتم معنا في الظاهر ، { ولكنكم فتنتم أنفسكم } : أي عرضتم أنفسكم للفتنة بنفاقكم ، { وتربصتم } أي بأيمانكم حتى وافيتم على الكفر ، أو تربصتم بالمؤمنين الدوائر ، قاله قتادة ، { وارتبتم } : شككتم في أمر الدين ، { وغرتكم الأماني } : وهي الأطماع ، مثل قولهم : سيهلك محمد هذا العام ، تهزمه قبيلة قريش مستأخرة الأحزاب إلى غير ذلك ، أو طول الآمال في امتداد الأعمار ، { حتى جاء أمر الله } ، وهو الموت على النفاق ، والغرور : الشيطان بإجماع.
وقرأ سماك بن حرب : الغرور ، وتقدم ذلك.
{ فاليوم لا يؤخذ منكم فدية } أيها المنافقون ، والناصب لليوم الفعل المنفي بلا ، وفيه حجة على من منع ذلك ، { ولا من الذين كفروا } ، في الحديث : « إن الله تعالى يعزر الكافر فيقول له : أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا ، أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار؟ فيقول : نعم يا رب ، فيقول الله تبارك وتعالى : قد سألتك ما هو أيسر من ذلك وأنت في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك »

وقرأ الجمهور : لا يؤخذ؛ وأبو جعفر والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر وهارون عن أبي عمرو : بالتاء لتأنيث الفدية.
{ هي مولاكم } ، قيل : أولى بكم ، وهذا تفسير معنى.
وكانت مولاهم من حيث أنها تضمهم وتباشرهم ، وهي تكون لكم مكان المولى ، ونحوه قوله :
تحية بينهم ضرب وجيع . . .
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد هي ناصركم ، أي لا ناصر لكم غيرها.
والمراد نفي الناصر على البتات ، ونحوه قولهم : أصيب فلان بكذا فاستنصر الجزع ، ومنه قوله تعالى : { يغاثوا بماء كالمهل } وقيل : تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار.

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)

عن عبد الله : ملت الصحابة ملة ، فنزلت { ألم يأن }.
وعن ابن عباس : عوتبوا بعد ثلاث عشرة سنة.
وقيل : كثر المزاح في بعض شباب الصحابة فنزلت.
وقرأ الجمهور : { ألم } ؛ والحسن وأبو السمال : ألما.
والجمهور : { يأن } مضارع أنى حان؛ والحسن : يئن مضارع أن حان أيضاً ، والمعنى : قرب وقت الشيء.
{ أن تخشع } : تطمئن وتخبت ، وهو من عمل القلب ، ويظهر في الجوارح.
وفي الحديث : « أول ما يرفع من الناس الخشوع » { لذكر الله } : أي لأجل ذكر الله ، كقوله : { إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } قيل : أو لتذكير الله إياهم.
وقرأ الجمهور : وما نزل مشدداً؛ ونافع وحفص : مخففاً؛ والجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو في رواية يونس ، وعباس عنه : مبنياً للمفعول مشدداً؛ وعبد الله : أنزل بهمزة النقل مبنياً للفاعل.
والجمهور : { ولا يكونوا } بياء الغيبة ، عطفاً على { أن تخشع } ؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة وإسماعيل عن أبي جعفر ، وعن شيبة ، ويعقوب وحمزة في رواية عن سليم عنه : ولا تكونوا على سبيل الالتفات ، إما نهياً ، وإما عطفاً على { أن تخشع }.
{ كالذين أوتوا الكتاب من قبل } ، وهم معاصرو موسى عليه السلام من بني إسرائيل.
حذر المؤمنون أن يكونوا مثلهم في قساوة القلوب ، إذ كانوا إذا سمعوا التوراة رقوا وخشعوا ، { فطال عليهم الأمد } : أي انتظار الفتح ، أو انتظار القيامة.
وقيل : أمد الحياة.
وقرأ الجمهور : الأمد مخفف الدال ، وهي الغاية من الزمان؛ وابن كثير : بشدها ، وهو الزمان بعينه الأطول.
{ فقست قلوبهم } : صلبت بحيث لا تنفعل للخير والطاعة.
{ يحيي الأرض بعد موتها } : يظهر أنه تمثيل لتليين القلوب بعد قسوتها ، ولتأثير ذكر الله فيها.
كما يؤثر الغيث في الأرض فتعود بعد إجدابها مخصبة ، كذلك تعود القلوب النافرة مقبلة ، يظهر فيها أثر الطاعات والخشوع.
وقرأ الجمهور : { المصّدّقين والمصّدّقات } ، بشدّ صاديهما؛ وابن كثير وأبو بكر والمفضل وأبان وأبو عمرو في رواية هارون : بخفهما؛ وأبيّ : بتاء قبل الصاد فيهما ، فهذه وقراءة الجمهور من الصدقة ، والخف من التصديق ، صدّقوا رسوله الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغ عن الله تعالى.
قال الزمخشري : فإن قلت : علام عطف قوله : { وأقرضوا } ؟ قلت : على معنى الفعل في المصدّقين ، لأن اللام بمعنى الذين ، واسم الفاعل بمعنى اصدّقوا ، كأنه قيل : إن الذين اصدقوا وأقرضوا. انتهى.
واتبع في ذلك أبا علي الفارسي ، ولا يصح أن يكون معطوفاً على المصدقين ، لأن المعطوف على الصلة صلة ، وقد فصل بينهما بمعطوف ، وهو قوله : { والمصدقات }.
ولا يصح أيضاً أن يكون معطوفاً على صلة أل في المصدقات لاختلاف الضمائر ، إذ ضمير المتصدّقات مؤنث ، وضمير وأقرضوا مذكر ، فيتخرج هنا على حذف الموصول لدلالة ما قبله عليه ، لأنه قيل : والذين أقرضوا ، فيكون مثل قوله :

فمن يهجو رسول الله منكم . . .
ويمدحه وينصره سواه
يريد : ومن يمدحه ، وصديق من أبنية المبالغة.
قال الزجاج : ولا يكون فيما أحفظ إلا من ثلاثي.
وقيل : يجيء من غير الثلاثي كمسيك ، وليس بشيء ، لأنه يقال : مسك وأمسك ، فمسيك من مسك.
{ والشهداء } : الظاهر أنه مبتدأ خبره ما بعده ، فيقف على الصديقون ، وإن شئت فهو من عطف الجمل ، وهذا قول ابن عباس ومسروق والضحاك.
إن الكلام تام في قوله : { الصديقون } ، واختلف هؤلاء ، فبعض قال : الشهداء هم الأنبياء ، يشهدون للمؤمنين بالصدّيقية لقوله : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } الآية؛ وبعض قال : هم الشهداء في سبيل الله تعالى ، استأنف الخبر عنهم ، فكأنه جعلهم صنفاً مذكوراً وحده لعظم أجرهم.
وقال ابن مسعود ومجاهد وجماعة : والشهداء معطوف على الصديقون ، والكلام متصل ، يعنون من عطف المفرادت ، فبعض قال : جعل الله كل مؤمن صديقاً وشهيداً ، قاله مجاهد.
وفي الحديث ، من رواية البراء : « مؤمنو أمتي شهداء » ، وإنما ذكر الشهداء السبعة تشريفاً لهم لأنهم في أعلى رتب الشهادة ، كما خص المقتول في سبيل الله من السبعة بتشريف تفرد به ، وبعض قال : وصفهم بالصديقية والشهادة من قوله تعالى : { لتكونوا شهداء على الناس } { لهم أجرهم } : خبر عن الشهداء فقط ، أو عن من جمع بين الوصفين على اختلاف القولين.
والظاهر في نورهم أنه حقيقة.
وقال مجاهد وغيره : عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى.
{ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب } : أخبر تعالى بغالب أمرها من اشتمالها على أشياء لا تدوم ولا تجدي ، وأما ما كان من الطاعات وضروري ما يقوم به الأود ، فليس مندرجاً في هذه الآية.
{ لعب ولهو } ، كحالة المترفين من الملوك.
{ وزينة } : تحسين لما هو خارج عن ذات الشيء.
{ وتفاخر بينكم } : قراءة الجمهور بالتنوين ونصب بينكم ، والسلمى بالإضافة.
{ وتكاثر } بالعدد والعدد على عادة الجاهلية ، وهذه كلها محقرات ، بخلاف أمر الآخرة ، فإنها مشتملة على أمور حقيقية عظام.
قال الزمخشري : وشبه تعالى حال الدنيا وسرعة تقضيها ، مع قلة جدواها ، بنبات أنبته الغيث فاستوى واكتهل ، وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات ، فبعث عليهم العاهة ، فهاج واصفر وصار حطاماً ، عقوبة لهم على جحودهم ، كما فعل بأصحاب الجنة وصاحب الجنتين. انتهى.
وقال ابن عطية : { كمثل } في موضع رفع صفة لما تقدّم.
وصورة هذا المثال أن الإنسان ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك ، فيشب ويقوى ويكسب المال والولد ويغشاه الناس ، ثم يأخذ بعد ذلك في انحطاط ، فينشف ويضعف ويسقم ، وتصيبه النوائب في ماله ودينه ، ويموت ويضمحلّ أمره ، وتصير أمواله لغيره وتغير رسومه ، فأمره مثل مطر أصاب أرضاً فنبت عن ذلك الغيث نبات معجب أنيق ، ثم هاج ، أي يبس واصفر ، ثم تحطم ، ثم تفرق بالرياح واضمحل. انتهى.
قيل : الكفار : الزراع ، من كفر الحب ، أي ستره في الأرض ، وخصوا بالذكر لأنهم أهل البصر بالنبات والفلاحة ، فلا يعجبهم إلا المعجب حقيقة.
وقيل : من الكفر بالله ، لأنهم أشدّ تعظيماً للدنيا وإعجاباً بمحاسنها؛ وحطام : بناء مبالغة كعجاب.
وقرىء : مصفاراً.
ولما ذكر ما يؤول إليه أمر الدنيا من الفناء ، ذكر ما هو ثابت دائم من أمر الآخرة من العذاب الشديد ، ومن رضاه الذي هو سبب النعيم.

سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)

ولما ذكر تعالى ما في الآخرة من المغفرة ، أمر بالمسابقة إليها ، والمعنى : سابقوا إلى سبب مغفرة ، وهو الإيمان وعمل الطاعات.
وقد مثل بعضهم المسابقة في أنواع؛ فقال عبد الله : كونوا في أول صفة في القتاد.
وقال أنس : اشهدوا تكبيرة الإحرام مع الإمام.
وقال علي : كن أول داخل في المسجد وآخر خارج.
واستدل بهذا السبق على أن أول أوقات الصلوات أفضل ، وجاء لفظ سابقوا كأنهم في مضمار يجرون إلى غاية مسابقين إليهم.
{ عرضها } : أي مساحتها في السعة ، كما قال : فذو دعاء عريض ، أو العرض خلاف الطول.
فإذا وصف العرض بالبسطة ، عرف أن الطول أبسط وأمد.
{ أعدّت } : يدل على أنها مخلوقة ، وتكرر ذلك في القرآن يقوي ذلك ، والسنة ناصة على ذلك ، وذلك يرد على المعتزلة في قولهم : إنها الآن غير مخلوقة وستخلق.
{ ذلك } : أي الموعود من المغفرة والجنة ، { فضل الله } : عطاؤه ، { يؤتيه من يشاء } : وهم المؤمنون.
{ ما أصاب من مصيبة } : أي مصيبة ، وذكر فعلها ، وهو جائز التذكير والتأنيث ، ومن التأنيث { ما تسبق من أمة أجلها } ولفظ مصيبة يدل على الشر ، لأن عرفها ذلك.
قال ابن عباس ما معناه : أنه أراد عرف المصيبة ، وهو استعمالها في الشر ، وخصصها بالذكر لأنها أهم على البشر.
والمصيبة في الأرض مثل القحط والزلزلة وعاهة الزرع ، وفي الأنفس : الأسقام والموت.
وقيل : المراد بالمصيبة الحوادث كلها من خير وشر ، { إلا في كتاب } : هو اللوح المحفوظ ، أي مكتوبة فيه ، { من قبل أن نبرأها } : أي نخلقها.
برأ : خلق ، والضمير في نبرأها الظاهر أنه يعود على المصيبة ، لأنها هي المحدث عنها ، وذكر الأرض والأنفس هو على سبيل محل المصيبة.
وقيل : يعود على الأرض.
وقيل : على الأنفس ، قاله ابن عباس وقتادة وجماعة.
وذكر المهدوي جواز عود الضمير على جميع ما ذكر.
قال ابن عطية : وهي كلها معارف صحاح ، لأن الكتاب السابق أزليّ قبل هذه كلها. انتهى.
{ إن ذلك } : أي يحصل كل ما ذكر في كتاب وتقديره ، { على الله يسير } : أي سهل ، وإن كان عسيراً على العباد.
ثم بين تعالى الحكمة في إعلامنا بذلك الذي فعله من تقدير ذلك ، وسبق قضائه به فقال : { لكيلا تأسوا } : أي تحزنوا ، { على ما فاتكم } ، لأن العبد إن أعلم ذلك سلم ، وعلم أن ما فاته لم يكن ليصيبه ، وما أصابه لم يكن ليخطئه ، فلذلك لا يحزن على فائت ، لأنه ليس بصدد أن يفوته ، فهون عليه أمر حوادث الدنيا بذلك ، إذ قد وطن نفسه على هذه العقيدة.
ويظهر أن المراد بقوله : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } : أن يلحق الحزن الشديد على ما فات من الخير ، فيحدث عنه التسخط وعدم الرضا بالمقدور.
{ ولا تفرحوا بما آتاكم } : أن يفرح الفرح المؤدي إلى البطر المنهي عنه في قوله تعالى :

{ لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين } فإن الحزن قد ينشأ عنه البطر ، ولذلك ختم بقوله : { ولله لا يحب كل مختال فخور }.
فالفرح بما ناله من حطام الدنيا يلحقه في نفسه الخيلاء والافتخار والتكبر على الناس ، فمثل هذا هو المنهي عنه.
وأما الحزن على ما فات من طاعة الله ، والفرح بنعم الله والشكر عليها والتواضع ، فهو مندوب إليه.
وقال ابن عباس : ليس أحد إلا يحزن ويفرح ، ولكن من أصابته مصيبة فجعلها صبراً ، ومن أصاب خيراً جعله شكراً.
انتهى ، يعني هو المحمود.
وقال الزمخشري : فإن قلت : فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به ، ولا عند منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح.
قلت : المراد : الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر ، والتسليم لأمر الله تعالى ، ورجاء ثواب الصابرين ، والفرح المطغي الملهي عن الشكر.
فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر ، فلا بأس به. انتهى.
وقرأ الجمهور : بما آتاكم : أي أعطاكم؛ وعبد الله : أوتيتم ، مبنياً للمفعول : أي أعطيتم؛ وأبو عمرو : أتاكم : أي جاءكم.
{ الذين يبخلون } : أي هم الذين يبخلون ، أو يكون الذين مبتدأ محذوف الخبر على جهة الإبهام تقديره : مذمومون ، أو موعودون بالعذاب ، أو مستغنى عنهم ، أو على إضمار ، أعني فهو في موضع نصب ، أو في موضع نصب صفة لكل مختال ، وإن كان نكرة ، فهو مخصص نوعاً مّا ، فيسوغ لذلك وصفة بالمعرفة.
قال ابن عطية : هذا مذهب الأخفش. انتهى.
عظمت الدنيا في أعينهم ، فبخلوا أن يؤدوا منها حقوق الله تعالى ، وما كفاهم ذلك حتى أمروا الناس بالبخل ورغبوهم في الإمساك ، والظاهر أنهم أمروا الناس حقيقة.
وقيل : كانوا قدوة فيه ، فكأنهم يأمرون به.
{ ومن يتول } عن ما أمر الله به.
وقرأ الجمهور : { فإن الله هو } ؛ وقرأ نافع وابن عامر : بإسقاط هو ، وكذا في مصاحف المدينة والشام ، وكلتا القراءتين متواترة.
فمن أثبت هو ، فقال أبو علي الفارسي : يحسن أن يكون فصلاً ، قال : ولا يحسن أن يكون ابتداء ، لأن حذف الابتداء غير سائغ. انتهى.
يعني أنه في القراءة الأخرى حذف ، ولو كان مبتدأ لم يجز حذفه ، لأنك إذا قلت : إن زيداً هو الفاضل ، فأعربت هو مبتدأ ، لم يجز حذفه ، لأن ما بعده من قولك الفاضل صالح أن يكون خبراً لأن ، فلا يبقى دليل على حذف هو الرابط.
ونظيره : { الذين هم يراءون } لا يجوز حذف هم ، لأن ما بعده يصلح أن يكون صلة ، فلا يبقى دليل على المحذوف.
وما ذهب إليه أبو علي ليس بشيء ، لأنه بنى ذلك على توافق القراءتين وتركيب إحداهما على الأخرى ، وليس كذلك.
ألا ترى أنه يكون قراءتان في لفظ واحد ، ولكل منهما توجيه يخالف الآخر ، كقراءة من قرأ :

{ والله أعلم بما وضعت } بضم التاء ، والقراءة الأخرى : { بما وضعت } بتاء التأنيث فضم التاء يقتضي أن الجملة من كلام أم مريم ، وتاء التأنيث تقتضي أنها من كلام الله تعالى ، وهذا كثير في القراءات المتواترة.
فكذلك هذا يجوز أن يكون هو مبتدأ في قراءة من أثبته ، وإن كان لم يرد في القراءة الأخرى ، ولكل من التركيبين في الإعراب حكم يخصه.
{ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } : الظاهر أن الرسل هنا هم من بني آدم ، والبينات : الحجج والمعجزات.
{ وأنزلنا معهم الكتاب } : الكتاب اسم جنس ، ومعهم حال مقدرة ، أي وأنزلنا الكتاب صائراً معهم ، أي مقدراً صحبته لهم ، لأن الرسل منزلين هم والكتاب.
ولما أشكل لفظ معهم على الزمخشري ، فسر الرسل بغير ما فسرناه ، فقال : { لقد أرسلنا رسلنا } ، يعنى : الملائكة ، إلى الأنبياء بالحجج والمعجزات ، { وأنزلنا معهم الكتاب } : أي الوحي ، { والميزان }.
وروي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان ، فدفعه إلى نوح وقال : مر قومك يزنوا به.
{ وأنزلنا الحديد } ، قيل : نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة.
وروي : ومعه المسن والمسحاة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض ، أنزل الحديد والنار والماء والملح. انتهى.
وأكثر المتأولين على أن المراد بالميزان : العدل ، فقال ابن زيد وغيره : أراد بالموازين : المعرفة بين الناس ، وهذا جزء من العدل.
{ ليقوم الناس بالقسط } : الظاهر أنه علة لإنزال الميزان فقط ، ويجوز أن يكون علة لإنزال الكتاب والميزان معاً ، لأن القسط هو العدل في جميع الأشياء من سائر التكاليف ، فإنه لا جور في شيء منها ، ولذلك جاء : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط } { وأنزلنا الحديد } : عبر عن إيجاده بالإنزال ، كما قال : { وأنزل لكم من الأنعام } وأيضاً فإن الأوامر وجميع القضايا والأحكام لما كانت تلقى من السماء ، جعل الكل نزولاً منها ، قاله ابن عطية.
وقال الجمهور : أراد بالحديد جنسه من المعادن.
وقال ابن عباس : نزل آدم من الجنة ومعه السندان والكلبتان والميقعة.
{ فيه بأس شديد } : أي السلاح الذي يباشر به القتال ، { ومنافع للناس } : في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم؛ فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها.
{ وليعلم الله } علة لإنزال الكتاب والميزان والحديد.
{ من ينصره ورسله } بالحجج والبراهين المنتزعة من الكتاب المنزل ، وبإقامة العدل ، وبما يعمل من آلة الحرب للجهاد في سبيل الله.
قال ابن عطية : أي ليعلمه موجوداً ، فالتغير ليس في علم الله ، بل في هذا الحدث الذي خرج من العدم إلى الوجود.
وقوله : { بالغيب } معناه : بما سمع من الأوصاف الغائبة عنه ، فآمن بها لقيام الأدلة عليها.
ولما قال تعالى : { من ينصره ورسله } ، ذكر تعالى أنه غني عن نصرته بقدرته وعزته ، وأنه إنما كلفهم الجهاد لمنفعة أنفسهم ، وتحصيل ما يترتب لهم من الثواب.
وقال ابن عطية : ويترتب معنى الآية بأن الله تعالى أخبر بأنه أرسل رسله ، وأنزل كتباً وعدلاً مشروعاً ، وسلاحاً يحارب به من عاند ولم يهتد بهدي الله ، فلم يبق عذر.
وفي الآية ، على هذا التأويل ، حث على القتال.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

لما ذكر تعالى إرسال الرسل جملة ، أفرد منهم في هذه الآية نوحاً وإبراهيم ، عليهما السلام ، تشريفاً لهما بالذكر.
أما نوح ، فلأنه أول الرسل إلى من في الأرض؛ وأما إبراهيم ، فلأنه انتسب إليه أكثر الأنبياء عليهم السلام ، وهو معظم في كل الشرائع.
ثم ذكر أشرف ما حصل لذريتهما ، وذلك النبوة ، وهي التي بها هدي الناس من الضلال؛ { والكتاب } ، وهي الكتب الأربعة : التوراة والزبور والإنجيل والقرآن ، وهي جميعها في ذرية إبراهيم عليه السلام ، وإبراهيم من ذرية نوح ، فصدق أنها في ذريتهما.
وفي مصحف عبد الله : والنبية مكتوبة بالياء عوض الواو.
وقال ابن عباس : { والكتاب } : الخط بالقلم ، والظاهر أن الضمير في منهم عائد على الذرية.
وقيل : يعود على المرسل إليهم لدلالة ذكر الإرسال والمرسلين عليهم.
ومع إرسال الرسل وإنزال الكتب وإزاحة العلل بذلك ، انقسموا إلى مهتد وفاسق ، وأخبر بالفسق عن الكثير منهم.
{ ثم قفينا } : أي اتبعنا وجعلناهم يقفون من تقدم ، { على آثارهم } : أي آثار الذرية ، { برسلنا } : وهم الرسل الذين جاءوا بعد الذرية ، { وقفينا بعيسى } : ذكره تشريفاً له ، ولانتشار أمته ، ونسبه لأمه على العادة في الإخبار عنه.
وتقدمت قراءة الحسن : الإنجيل ، بفتح الهمزة في أول سورة آل عمران.
قال أبو الفتح : وهو مثال لا نظير له.
انتهى ، وهي لفظة أعجمية ، فلا يلزم فيها أن تكون على أبنية كلم العرب.
وقال الزمخشري : أمره أهون من أمر البرطيل ، يعني أنه بفتح الباء وكأنه عربي؛ وأما الإنجيل فأعجمي.
وقرىء : رآفة على وزن فعالة ، { وجعلنا } : يحتمل أن يكون المعنى وخلقنا ، كقوله : { وجعل الظلمات والنور } ويحتمل أن يكون بمعنى صيرنا ، فيكون { في قلوب } : في موضع المفعول الثاني لجعلنا.
{ ورهبانية } معطوف على ما قبله ، فهي داخلة في الجمل.
{ ابتدعوها } : جملة في موضع الصفة لرهبانية ، وخصت الرهبانية بالابتداع ، لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها ، بخلاف الرهبانية ، فإنها أفعال بدن مع شيء في القلب ، ففيها موضع للتكسب.
قال قتادة : الرأفة والرحمة من الله ، والرهبانية هم ابتدعوها؛ والرهبانية : رفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهنّ واتخاد الصوامع.
وجعل أبو علي الفارسي { ورهبانية } مقتطعة من العطف على ما قبلها من { رأفة ورحمة } ، فانتصب عنده { ورهبانية } على إضمار فعل يفسره ما بعده ، فهو من باب الاشتغال ، أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها.
واتبعه الزمخشري فقال : وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره : وابتدعوا رهبانية ابتدعوها ، يعني وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها.
انتهى ، وهذا إعراب المعتزلة ، وكان أبو عليّ معتزلياً.
وهم يقولون : ما كان مخلوقاً لله لا يكون مخلوقاً للعبد ، فالرأفة والرحمة من خلق الله ، والرهبانية من ابتداع الإنسان ، فهي مخلوقة له.
وهذا الإعراب الذي لهم ليس بجيد من جهة صناعة العربية ، لأن مثل هذا هو مما يجوز فيه الرفع بالابتداء ، ولا يجوز الابتداء هنا بقوله : { ورهبانية } ، لأنها نكرة لا مسوغ لها من المسوغات للابتداء بالنكرة.

وروي في ابتداعهم الرهبانية أنهم افترقوا ثلاث فرق : ففرقة قاتلت الملوك على الدين فغلبت وقتلت؛ وفرقة قعدت في المدن يدعون إلى الدين ويبينونه ولم تقاتل ، فأخذها الملوك ينشرونهم بالمناشير فقتلوا ، وفرقة خرجت إلى الفيافي ، وبنت الصوامع والديارات ، وطلبت أن تسلم على أن تعتزل فتركت.
والرهبانية : الفعلة المنسوبة إلى الرهبان ، وهو الخائف بني فعلان من رهب ، كالخشيان من خشي.
وقرىء : ورهبانية بالضم.
قال الزمخشري : كأنها نسبة إلى الرهبان ، وهو جمع راهب ، كراكب وركبان. انتهى.
والأولى أن يكون منسوباً إلى رهبان وغير بضم الراء ، لأن النسب باب تغيير.
ولو كان منسوباً إلى رهبان الجمع لرد إلى مفرده ، فكان يقال : راهبية ، إلا إن كان قد صار كالعلم ، فإنه ينسب إليه على لفظه كالأنصار.
والظاهر أن { إلا ابتغاء رضوان } الله استثناء متصل من ما هو مفعول من أجله ، وصار المعنى : أنه تعالى كتبها عليهم ابتغاء مرضاته ، وهذا قول مجاهد ، ويكون كتب بمعنى قضى.
وقال قتادة وجماعة : المعنى : لم يفرضها عليهم ، ولكنهم فعلوا ذلك ابتغاء رضوان الله تعالى ، فالاستثناء على هذا منقطع ، أي لكن ابتدعوها لابتغاء رضوان الله تعالى.
والظاهر أن الضمير في { رعوها } عائد على ما عاد عليه في { ابتدعوها } ، وهو ضمير { الذين اتبعوه } ، أي لم يرعوها كما يجب على الناذر رعاية نذره ، لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه.
وقال نحوه ابن زيد ، قال : لم يدوموا على ذلك ، ولا وفوه حقه ، بل غيروا وبدلوا ، وعلى تقدير أن فيهم من رعى يكون المعنى : فما رعوها بأجمعهم.
وقال ابن عباس وغيره : الضمير للملوك الذين حاربوهم وأجلوهم.
وقال الضحاك وغيره : الضمير للأخلاف الذين جاءوا بعد المبتدعين لها.
{ فآتينا الذين آمنوا } : وهم أهل الرأفة والرحمة الذين اتبعوا عيسى عليه السلام.
{ وكثير منهم فاسقون } : وهم الذين لم يرعوها.
{ يا أيها الذين آمنوا } : الظاهر أنه نداء لمن آمن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فمعنى آمنوا : دوموا واثبتوا ، وهكذا المعنى في كل أمر يكون المأمور ملتبساً بما أمر به.
{ يؤتكم كفلين } ، قال أبو موسى الأشعري : كفلين : ضعفين بلسان الحبشة.
انتهى ، والمعنى : أنه يؤتكم مثل ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الكفلين في قوله : { أولئك يؤتون أجرهم مرتين } إذ أنتم مثلهم في الإيمانين ، لا تفرقوا بين أحد من رسله.
وروي أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين ، وادعوا الفضل عليهم ، فنزلت.
وقيل : النداء متوجه لمن آمن من أهل الكتاب ، فالمعنى : يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ، آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، يؤتكم الله كفلين ، أي نصيبين من رحمته ، وذلك لإيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وإيمانكم بمن قبله من الرسل.

{ ويجعل لكم نوراً تمشون به } : وهو النور المذكور في قوله : { يسعى نورهم } ، ويغفر لكم ما أسلفتم من الكفر والمعاصي.
ويؤيد هذا المعنى ما ثبت في الصحيح : « ثلاثة يؤتهم الله أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي » ، الحديث.
ليعلم أهل الكتاب الذين لم يسلموا أنهم لا ينالون شيئاً مما ذكر من فضله من الكفلين والنور والمغفرة ، لأنهم لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم ينفعهم إيمانهم بمن قبله ، ولم يكسبهم فضلاً قط.
وإذا كان النداء لمؤمني هذه الأمة والأمر لهم ، فروي أنه لما نزل هذا الوعد لهم حسدهم أهل الكتاب ، وكانت اليهود تعظم دينها وأنفسها ، وتزعم أنهم أحباء الله وأهل رضوانه ، فنزلت هذه الآية معلمة أن الله تعالى فعل ذلك وأعلم به.
ليعلم أهل الكتاب أنهم ليسوا كما يزعمون.
وقرأ الجمهور : { لئلا يعلم } ، ولا زائدة كهي في قوله : { ما منعك أَن لا تسجد } وفي قوله : { أنهم لا يرجعون } في بعض التأويلات.
وقرأ خطاب بن عبد الله : لأن لا يعلم؛ وعبد الله وابن عباس وعكرمة والجحدري وعبد الله بن سلمة : على اختلاف ليعلم؛ والجحدري : لينيعلم ، أصله لأن يعلم ، قلب الهمزة ياء لكسرة ما قبلها وأدغم النون في الياء بغير غنة ، كقراءة خلف أن يضرب بغير غنة.
وروى ابن مجاهد عن الحسن : ليلاً مثل ليلى اسم المرأة ، يعلم برفع الميم أصله لأن لا بفتح لام الجر وهي لغة ، فحذفت الهمزة ، اعتباطاً ، وأدغمت النون في اللام ، فاجتمعت الأمثال وثقل النطق بها ، فأبدلوا من الساكنة ياء فصار ليلاً ، ورفع الميم ، لأن إن هي المخففة من الثقيلة لا الناصبة للمضارع ، إذ الأصل لأنه لا يعلم.
وقطرب عن الحسن أيضاً : لئلا بكسر اللام وتوجيهه كالذي قبله ، إلا أنه كسر اللام على اللغة الشهيرة في لام الجر.
وعن ابن عباس : كي يعلم ، وعنه : لكيلا يعلم ، وعن عبد الله وابن جبير وعكرمة : لكي يعلم.
وقرأ الجمهور : أن لا يقدرون بالنون ، فإن هي المخففة من الثقيلة؛ وعبد الله بحذفها ، فإن الناصبة للمضارع ، والله تعالى أعلم.

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)

قرأ الجمهور : { قد سمع } بالبيان؛ وأبو عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن : بالإدغام ، قال خلف بن هشام البزار : سمعت الكسائي يقول : من قرأ قد سمع ، فبين الدال عند السين ، فلسانه أعجمي ليس بعربي ، ولا يلتفت إلى هذا القول؛ فالجمهور على البيان.
والتي تجادل خولة بنت ثعلبة ، ويقال بالتصغير ، أو خولة بنت خويلد ، أو خولة بنت حكيم ، أو خولة بنت دليج ، أو جميلة ، أو خولة بنت الصامت ، أقوال للسلف.
وأكثر الرواة على أن الزوج في هذه النازلة أوس بن الصامت أخو عبادة.
" وقيل : سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته.
قالت زوجته : يا رسول الله ، أكل أوس شبابي ونثرت له بطني ، فلما كبرت ومات أهلي ظاهر مني ، فقال لها : " ما أراك إلا قد حرمت عليه " ، فقالت : يا رسول الله لا تفعل ، فإني وحيدة ليس لي أهل سواه ، فراجعها بمثل مقالته فراجعته ، فهذا هو جدالها ، وكانت في خلال ذلك تقول : اللهم إن لي منه صبية صغاراً ، إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا.
فهذا هو اشتكاؤها إلى الله ، فنزل الوحي عند جدالها ".
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : سبحان من وسع سمعه الأصوات.
كان بعض كلام خولة يخفى عليّ ، وسمع الله جدالها ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أوس وعرض عليه كفارة الظهار : «العتق» ، فقال : ما أملك ، و«الصوم» ، فقال : ما أقدر ، و«الاطعام» ، فقال : لا أجد إلا أن تعينني ، فأعانه صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعاً ودعا له ، فكفر بالإطعام وأمسك أهله.
وكان عمر ، رضي الله تعالى عنه ، يكرم خولة إذا دخلت عليه ويقول : قد سمع الله لها.
وقال الزمخشري : معنى قد : التوقع ، لأنه صلى الله عليه وسلم والمجادلة كانا متوقعين أن يسمع الله مجادلتها وشكواها ، وينزل في ذلك ما يفرح عنها. انتهى.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو : يظهرون بشدّهما؛ والأخوان وابن عامر : يظاهرون مضارع ظاهر؛ وأبيّ : يتظاهرون ، مضارع تظاهر؛ وعنه : يتظهرون ، مضارع تظهر؛ والمراد به كله الظهار ، وهو قول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي ، يريد في التحريم ، كأنه إشارة إلى الركوب ، إذ عرفه في ظهور الحيوان.
والمعنى أنه لا يعلوها كما لا يعلو أمّه ، ولذلك تقول العرب في مقابلة ذلك : نزلت عن امرأتي ، أي طلقتها.
وقوله : { منكم } ، إشارة إلى توبيخ العرب وتهجين عادتهم في الظهار ، لأنه كان من إيمان أهل جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم.
وقرأ الجمهور : { أمهاتهم } ، بالنصب على لغة الحجاز؛ والمفضل عن عاصم : بالرفع على لغة تميم؛ وابن مسعود : بأمهاتهم ، بزيادة الباء.
قال الزمخشري : في لغة من ينصب. انتهى.
يعني أنه لا تزاد الباء في لغة تميم ، وهذا ليس بشيء ، وقد رد ذلك على الزمخشري.

وزيادة الباء في مثل : ما زيد بقائم ، كثير في لغة تميم ، والزمخشري تبع في ذلك أبا عليّ الفارسي رحمه الله.
ولما كان معنى كظهر أمي : كأمي في التحريم ، ولا يراد خصوصية الظهر الذي هو من الجسد ، جاء النفي بقوله : { ما هنّ أمّهاتهم } ، ثم أكد ذلك بقوله : { إن أمّهاتهم } : أي حقيقة ، { إلا اللائي ولدنهم } وألحق بهنّ في التحريم أمّهات الرضاع وأمّهات المؤمنين أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم ، والزوجات لسن بأمّهات حقيقة ولا ملحقات بهنّ.
فقول المظاهر منكر من القول تنكره الحقيقة وينكره الشرع ، وزور : كذب باطل منحرف عن الحق ، وهو محرم تحريم المكروهات جدّاً ، فإذا وقع لزم ، وقد رجى تعالى بعده بقوله : { وإن الله لعفو غفور } مع الكفارة.
وقال الزمخشري : { وإن الله لعفو غفور } لما سلف منه إذ تاب عنه ولم يعد إليه.
انتهى ، وهي نزغة اعتزالية.
والظاهر أن الظهار لا يكون إلا بالأم وحدها.
فلو قال : أنت عليّ كظهر أختي أو ابنتي ، لم يكن ظهاراً ، وهو قول قتادة والشعبي وداود ، ورواية أبي ثور عن الشافعي.
وقال الجمهور : الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك والشافعي في قول هو ظهار ، والظاهر أن الذمي لا يلزمه ظهاره لقوله : { منكم } ، أي من المؤمنين وبه قال أبو حنيفة والشافعي لكونها ليست من نسائه.
وقال مالك : يلزمه ظهاره إذا نكحها ، ويصح من المطلقة الرجعية.
وقال : المزني لا يصح.
وقال بعض العلماء : لا يصح ظهار غير المدخول بها ، ولو ظاهر من أمته التي يجوز له وطئها ، لزمه عند مالك.
وقال أبو حنيفة والشافعي : لا يلزم ، وسبب الخلاف هو : هل تندرج في نسائهم أم لا؟ والظاهر صحة ظهار العبد لدخوله في يظهرون منكم ، لأنه من جملة المسلمين ، وإن تعذر منه العتق والإطعام ، فهو قادر على الصوم.
وحكى الثعلبي عن مالك أنه لا يصح ظهاره ، وليست المرأة مندرجة في الذين يظهرون ، فلو ظاهرت من زوجها لم يكن شيئاً.
وقال الحسن بن زياد : تكون مظاهرة.
وقال الأوزاعي وعطاء وإسحاق وأبو يوسف : إذا قالت لزوجها أنت عليّ كظهر فلانة ، فهي يمين تكفرها.
وقال الزهري : أرى أن تكفر كفارة الظاهر ، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها.
والظاهر أن قوله تعالى : { ثم يعودون لما قالوا } : أن يعودوا للفظ الذي سبق منهم ، وهو قول الرجل ثانياً : أنت مني كظهر أمي ، فلا تلزم الكفارة بالقول ، وإنما تلزم بالثاني ، وهذا مذهب أهل الظاهر.
وروي أيضاً عن بكير بن عبد الله بن الأشج وأبي العالية وأبي حنيفة : وهو قول الفراء.
وقال طاووس وقتادة والزهري والحسن ومالك وجماعة : { لما قالوا } : أي للوطء ، والمعنى : لما قالوا أنهم لا يعودون إليه ، فإذا ظاهر ثم وطىء ، فحينئذ يلزمه الكفارة ، وإن طلق أو ماتت.

وقال أبو حنيفة ومالك أيضاً والشافعي وجماعة : معناه يعودون لما قالوا بالعزم على الإمساك والوطء ، فمتى عزم على ذلك لزمته الكفارة ، طلق أو ماتت.
قال الشافعي : العود الموجب للكفارة أن يمسك عن طلاقها بعد الظهار ، ويمضي بعده زمان يمكن أن يطلقها فيه فلا يطلق.
وقال قوم : المعنى : والذين يظهرون من نسائهم في الجاهلية ، أي كان الظهار عادتهم ، ثم يعودون إلى ذلك في الإسلام ، وقاله القتيبي.
وقال الأخفش : فيه تقديم وتأخير ، والتقدير : فتحرير رقبة لما قالوا ، وهذا قول ليس بشيء لأنه يفسد نظم الآية.
{ فتحرير رقبة } ، والظاهر أنه يجزىء مطلق رقبة ، فتجزىء الكافرة.
وقال مالك والشافعي : شرطها الإسلام ، كالرقبة في كفارة القتل.
والظاهر إجزاء المكاتب ، لأنه عبد ما بقي عليه درهم ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه : وإن عتق نصفي عبدين لا يجزىء.
وقال الشافعي : يجزىء.
{ من قبل أن يتماسا } : لا يجوز للمظاهر أن يطأ حتى يكفر ، فإن فعل عصى ، ولا يسقط عنه التكفير.
وقال مجاهد : يلزمه كفارة أخرى.
وقيل : تسقط الكفارة الواجبة عليه ، ولا يلزمه شيء.
وحديث أوس بن الصامت يرد على هذا القول ، وسواء كانت الكفارة بالعتق أم الصوم أم الإطعام.
وقال أبو حنيفة : إذا كانت بالإطعام ، جاز له أن يطأ ثم يطعم ، وهو ظاهر قوله : { فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً } ، إذ لم يقل فيه : { من قبل أن يتماسا } ، وقيد ذلك في العتق والصوم.
والظاهر في التماس الحقيقة ، فلا يجوز تماسهما قبلة أو مضاجعة أو غير ذلك من وجوه الاستمتاع ، وهو قول مالك وأحد قولي الشافعي.
وقال الأكثرون : هو الوطء ، فيجوز له الاستمتاع بغيره قبل التكفير ، وقاله الحسن والثوري ، وهو الصحيح من مذهب الشافعي.
والضمير في { يتماسا } عائد على ما عاد عليه الكلام من المظاهر والمظاهر منها.
{ ذلكم توعظون به } : إشارة إلى التحرير ، أي فعل عظة لكم لتنتهوا عن الظهار.
{ فمن لم يجد } : أي الرقبة ولا ثمنها ، أو وجدها ، أو ثمنها ، وكان محتاجاً إلى ذلك ، فقال أبو حنيفة : يلزمه العتق ولو كان محتاجاً إلى ذلك ، ولا ينتقل إلى الصوم ، وهو الظاهر.
وقال الشافعي : ينتقل إلى الصوم.
والشهران بالأهلة ، وإن جاء أحدهما ناقصاً ، أو بالعدد لا بالأهلة ، فيصوم إلى الهلال ، ثم شهراً بالهلال ، ثم يتم الأول بالعدد.
والظاهر وجوب التتابع ، فإن أفطر بغير عذر استأنف ، أو بعذر من سفر ونحوه.
فقال ابن المسيب وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي ومالك والشافعي : في أحد قوليه يبني.
وقال النخعي وابن جبير والحكم بن عيينة والثوري وأصحاب الرأي والشافعي : في أحد قوليه.
والظاهر أنه إن وجد الرقبة بعد أن شرع في الصوم ، أنه يصوم ويجزئه ، وهو مذهب مالك والشافعي.
وقال أبو حنيفة وأصحابه : يلزمه العتق ، ولو وطىء في خلال الصوم بطل التتابع ويستأنف ، وبه قال مالك وأبو حنيفة.

وقال الشافعي : يبطل إن جامع نهاراً لا ليلاً.
{ فمن لم يستطع } لصوم لزمانة به ، أو كونه يضعف به ضعفاً شديداً ، كما جاء في حديث أوس لما قال : هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ فقال : والله يا رسول الله إني إذا لم آكل في اليوم والليلة ثلاث مرات كل بصري وخشيت أن تعشو عيني.
والظاهر مطلق الإطعام ، وتخصصه ما كانت العادة في الإطعام وقت النزول ، وهو ما يشبع من غير تحديد بمدّ.
ومذهب مالك أنه مد وثلث بالمدّ النبوي ، ويجب استيعاب العدد ستين عند مالك والشافعي ، وهو الظاهر.
وقال أبو حنيفة وأصحابه : لو أطعم مسكيناً واحداً كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه.
{ ذلك لتؤمنوا } ، قال ابن عطية : إشارة إلى الرجعة والتسهيل في الفعل من التحرير إلى الصوم والإطعام.
ثم شدّد تعالى بقوله : { وتلك حدود الله } : أي فالزموها وقفوا عندها.
ثم توعد الكافرين بهذا الحكم الشرعي.
وقال الزمخشري : ذلك البيان والتعليم للأحكام والتنبيه عليها ، لتصدقوا بالله ورسوله في العمل بشرائعه التي شرعها في الظهار وغيره ، ورفض ما كنتم عليه من جاهليتكم ، { وتلك حدود الله } التي لا يجوز تعديها ، { وللكافرين } الذين لا يتبعونها ولا يعملون عليها { عذاب أليم }. انتهى.
{ إن الذين يحادون الله ورسوله } : نزلت في مشركي قريش ، أخزوا يوم الخندق بالهزيمة ، كما أخزى من قاتل الرسل من قبلهم.
ولما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده ، ذكر المحادّين المخالفين لها ، والمحادة : المعاداة والمخالفة في الحدود.
{ كبتوا } ، قال قتادة : أخزوا.
وقال السدي : لعنوا.
قيل : وهي لغة مذحج.
وقال ابن زيد وأبو روق : ردّوا مخذولين.
وقال الفراء : غيظوا يوم الخندق.
{ كما كبت الذين من قبلهم } : أي من قاتل الأنبياء.
وقيل : يوم بدر.
وقال أبو عبيدة والأخفش : أهلكوا.
وعن أبي عبيدة : التاء بدل من الدال ، أي كبدوا : أصابهم داء في أكبادهم.
قيل : والذين من قبلهم منافقو الأمم.
قيل : وكبتوا بمعنى سيكبتون ، وهي بشارة للمؤمنين بالنصر.
وعبر بالماضي لتحقق وقوعه ، وتقدّم الكلام في مادة كبت في آل عمران.
{ وقد أنزلنا آيات بينات } على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وصحة ما جاء به.
{ وللكافرين } : أي الذين يحادّونه ، { عذاب مهين } : أي يهينهم ويذلهم.
والناصب ليوم يبعثهم العامل في للكافرين أو مهين أو اذكر أو يكون على أنه جواب لمن سأل متى يكون عذاب هؤلاء؟ فقيل له : { يوم يبعثهم الله } : أي يكون يوم يبعثهم الله ، وانتصب { جميعاً } على الحال : أي مجتمعين في صعيد واحد ، أو معناه كلهم ، إذ جميع يحتمل ذينك المعنيين؛ { فينبئهم بما عملوا } ، تخجيلاً لهم وتوبيخاً.
{ أحصاه } بجميع تفاصيله وكميته وكيفيته وزمانه ومكانه.
{ ونسوه } لاستحقارهم إياه واحتقارهم أنه لا يقع عليه حساب.

{ شهيد } : لا يخفى عليه شيء.
وقرأ الجمهور : ما يكون بالياء؛ وأبو جعفر وأبو حيوة وشيبة : بالتاء لتأنيث النجوى.
قال صاحب اللوامح : وإن شغلت بالجار ، فهي بمنزلة : ما جاءتني من امرأة ، إلا أن الأكثر في هذا الباب التذكير على ما في العامة ، يعني القراءة العامة ، قال : لأنه مسند إلى { من نجوى } وهو يقتضي الجنس ، وذلك مذكر. انتهى.
وليس الأكثر في هذا الباب التذكير ، لأن من زائدة.
فالفعل مسند إلى مؤنث ، فالأكثر التأنيث ، وهو القياس ، قال تعالى : { وما تأتيهم من آية من آيات ربهم } { ما تسبق من أمة أجلها } ويكون هنا تامة ، ونجوى احتمل أن تكون مصدراً مضافاً إلى ثلاثة ، أي من تناجي ثلاثة ، أو مصدراً على حذف مضاف ، أي من ذوي نجوى ، أو مصدراً أطلق على الجماعة المتناجين ، فثلاثة : على هذين التقديرين.
قال ابن عطية : بدل أو صفة.
وقال الزمخشري : صفة.
وقرأ ابن أبي عبلة ثلاثة وخمسة بالنصب على الحال ، والعامل يتناجون مضمرة يدل عليه نجوى.
وقال الزمخشري : أو على تأويل نجوى بمتناجين ونصبها من المستكن فيه.
وقال ابن عيسى : كل سرار نجوى.
وقال ابن سراقة : السرار ما كان بين اثنين ، والنجوى ما كان بين أكثر.
قيل : نزلت في المنافقين ، واختص الثلاثة والخمسة لأن المنافقين كانوا يتناجون على هذين العددين مغايظة لأهل الإيمان؛ والجملة بعد إلا في المواضع الثلاثة في موضع الحال ، وكونه تعالى رابعهم وسادسهم ومعهم بالعلم وإدراك ما يتناجون به.
وقال ابن عباس : نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية ، تحدّثوا فقال أحدهم : أترى الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر : يعلم بعضاً ولا يعلم بعضاً ، فقال الثالث : إن كان يعلم بعضاً فهو يعلمه كله.
{ ولا أدنى من ذلك } : إشارة إلى الثلاثة والخمسة ، والأدنى من الثلاثة الاثنين ، ومن الخمسة الأربعة؛ ولا أكثر يدل على ما يلي الستة فصاعداً.
وقرأ الجمهور : { ولا أكثر } عطفاً على لفظ المخفوض؛ والحسن وابن أبي إسحاق والأعمش وأبو حيوة وسلام ويعقوب : بالرفع عطفاً على موضع نجوى إن أريد به المتناجون ، ومن جعله مصدراً محضاً على حذف مضاف ، أي ولا نجوى أدنى ، ثم حذف وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب بإعرابه.
ويجوز أن يكون { ولا أدنى } مبتدأ ، والخبر { إلا هو معهم } ، فهو من عطف الجمل ، وقرأ الحسن أيضاً ومجاهد والخليل بن أحمد ويعقوب أيضاً : ولا أكبر بالباء بواحدة والرفع ، واحتمل الإعرابين : العطف على الموضع والرفع بالابتداء.
وقرىء : { ينبئهم } بالتخفيف والهمز؛ وزيد بن علي : بالتخفيف وترك الهمز وكسر الهاء؛ والجمهور : بالتشديد والهمز وضم الهاء.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)

نزلت { ألم تر } في اليهود والمنافقين.
كانوا يتناجون دون المؤمنين ، وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم عليهم ، موهمين المؤمنين من أقربائهم أنهم أصابهم شر ، فلا يزالون كذلك حتى يقدم أقرباؤهم.
فلما كثر ذلك منهم ، شكا المؤمنون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المؤمنين ، فلم ينتهوا ، فنزلت ، قاله ابن عباس.
وقال مجاهد : نزلت في اليهود.
وقال ابن السائب : في المنافقين.
وقرأ الجمهور : { ويتناجون } ؛ وحمزة وطلحة والأعمش ويحيى بن وثاب ورويس : وينتجون مضارع انتجى.
{ بما لم يحيك به الله } : كانوا يقولون : السام عليك ، وهو الموت؛ فيرد عليهم : وعليكم.
وتحية الله لأنبيائه : { وسلام على عباده الذين اصطفى } { لولا يعذبنا الله بما نقول } : أي إن كان نبياً ، فما له لا يدعو علينا حتى نعذب بما نقول؟ فقال تعالى : { حسبهم جهنم }.
ثم نهى المؤمنين أن يكون تناجيهم مثل تناجي الكفار ، وبدأ بالإثم لعمومه ، ثم بالعدوان لعظمته في النفوس ، إذ هي ظلامات العباد.
ثم ترقى إلى ما هو أعظم ، وهو معصية الرسول عليه الصلاة والسلام ، وفي هذا طعن على المنافقين ، إذ كان تناجيهم في ذلك.
وقرأ الجمهور : { فلا تتناجوا } ، وأدغم ابن محيصن التاء في التاء.
وقرأ الكوفيون والأعمش وأبو حيوة ورويس : فلا تنتجوا مضارع انتجى؛ والجمهور : بضم عين العدوان؛ وأبو حيوة بكسرها حيث وقع؛ والضحاك : ومعصيات الرسول على الجمع.
والجمهور : على الإفراد.
وقرأ عبد الله : إذا انتجيتم فلا تنتجوا.
وأل في { إنما النجوى } للعهد في نجوى الكفار { بالإثم والعدوان } ، وكونها { من الشيطان } ، لأنه هو الذي يزينها لهم ، فكأنها منه.
{ ليحزن الذين آمنوا } : كانوا يوهمون المؤمنين أن غزاتهم غلبوا وأن أقاربهم قتلوا.
{ وليس } : أي التناجي أو الشيطان أو الحزن ، { بضارهم } : أي المؤمنين ، { إلا بإذن الله } : أي بمشيئته ، فيقضي بالقتل أو الغلبة.
وقال ابن زيد : هي نجوى قوم من المسلمين يقصدون مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وليس لهم حاجة ولا ضرورة.
يريدون التبجح بذلك ، فيظن المسلمون أن ذلك في أخبار بعد وقاصداً نحوه.
وقال عطية العوفي : نزلت في المناجاة التي يراها المؤمن في النوم تسوءه ، فكأنه نجوى يناجي بها. انتهى.
ولا يناسب هذا القول ما قبل الآية ولا ما بعدها ، وتقدمت القراءتان في نحو : { ليحزن }.
وقرىء : بفتح الياء والزاي ، فيكون { الذين } فاعلاً ، وفي القراءتين مفعولاً.
ولما نهى تعالى المؤمنين عن ما هو سبب للتباغض والتنافر ، أمرهم بما هو سبب للتواد والتقارب ، فقال : { يا أيها الذين آمنوا } الآية.
قال مجاهد وقتادة والضحاك : كانوا يتنافسون في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض.
وقال ابن عباس : المراد مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب.
وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب : كان الصحابة يتشاحون على الصف الأول ، فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في الشهادة ، فنزلت.

وقرأ الجمهور : { تفسحوا } ؛ وداود بن أبي هند وقتادة وعيسى : تفاسحوا.
والجمهور : في المجلس؛ وعاصم وقتادة وعيسى : { في المجالس }.
وقرىء : في المجلس بفتح اللام ، وهو الجلوس ، أي توسعوا في جلوسكم ولا تتضايقوا فيه.
والظاهر أن الحكم مطرد في المجالس التي للطاعات ، وإن كان السبب مجلس الرسول.
وقيل : الآية مخصوصة بمجلس الرسول عليه الصلاة والسلام ، وكذا مجالس العلم؛ ويؤيده قراءة من قرأ { في المجالس } ، ويتأول الجمع على أن لكل أحد مجلساً في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم.
وانجزم { يفسح الله } على جواب الأمر في رحمته ، أو في منازلكم في الجنة ، أو في قبوركم ، أو في قلوبكم ، أو في الدنيا والآخرة ، أقوال.
{ وإذا قيل انشزوا } : أي انهضوا في المجلس للتفسح ، لأن مريد التوسعة على الوارد يرتفع إلى فوق فيتسع الموضع.
أمروا أولاً بالتفسح ، ثم ثانياً بامتثال الأمر فيه إذا ائتمروا.
وقال الحسن وقتادة والضحاك : معناه : إذا دعوا إلى قتال وصلاة أو طاعة نهضوا.
وقيل : إذا دعوا إلى القيام عن مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم نهضوا ، إذ كان عليه الصلاة والسلام أحياناً يؤثر الانفراد في أمر الإسلام.
وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج وابن عامر ونافع وحفص : بضم السين في اللفظين؛ والحسن والأعمش وطلحة وباقي السبعة : بكسرها.
والظاهر أن قوله : { والذين أوتوا العلم } معطوف على { الذين آمنوا } ، والعطف مشعر بالتغاير ، وهو من عطف الصفات ، والمعنى : يرفع الله المؤمنين العلماء درجات ، فالوصفان لذات واحدة.
وقال ابن مسعود وغيره : تم الكلام عند قوله : { منكم } ، وانتصب { والذين أوتوا العلم } بفعل مضمر تقديره : ويخص الذين أوتوا العلم درجات ، فللمؤمنين رفع ، وللعلماء درجات.
وقرأ عياش عن أبي عمرو خبير : بما يعملون بالياء من تحت ، والجمهور بالتاء.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

{ بين يدي نجواكم } : استعارة والمعنى : قبل نجواكم.
وعن ابن عباس وقتادة : أن قوماً من المؤمنين وأغفالهم كثرت مناجاتهم للرسول عليه الصلاة والسلام في غير جاحة إلا لتظهر منزلتهم وكان صلى الله عليه وسلم سمحاً لا يرد أحداً فنزلت مشددة عليهم أمر المناجاة.
وهذا الحكم قيل : نسخ قبل العمل به.
وقال قتادة : عمل به ساعة من نهار.
وقال مقاتل : عشرة أيام.
وقال عليّ كرم الله وجهه : ما عمل به أحد غيري أردت المناجاة ولي دينار فصرفته بعشرة دراهم وناجيت عشر مرار أتصدق في كل مرة بدرهم ثم ظهرت مشقة ذلك على الناس فنزلت الرخصة في ترك الصدقة.
وقرىء : صدقات بالجمع.
وقال ابن عباس : هي منسوخة بالآية التي بعدها.
وقيل بآية الزكاة.
{ أأشفقتم } : أخفتم من ذهاب المال في الصدقة أو من العجز عن وجودها تتصدقون به؟ { فإذ لم تفعلوا } : ما أمرتم به { وتاب الله عليكم } : عذركم ورخص لكم في أن لا تفعلوا فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وأفعال الطاعات.
{ الذين تولوا } : هم المنافقون ، والمغضوب عليهم : هم اليهود ، عن السدي ومقاتل ، " أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان ، فدخل عبد الله بن أبي بن سلول ، وكان أزرق أسمر قصيراً ، خفيف اللحية ، فقال عليه الصلاة والسلام : علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل ، فقال عليه الصلاة والسلام له : «فعلت» ، فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه " ، فنزلت.
والضمير في { ما هم } عائد على { الذين تولوا } ، وهم المنافقون : أي ليسوا منكم أيها المؤمنون ، { ولا منهم } : أي ليسوا من الذين تولوهم ، وهم اليهود.
وما هم استئناف إخبار بأنهم مذبذبون ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين لأنه مع المؤمنين بقوله ومع الكفار بقلبه " وقال ابن عطية : يحتمل تأويلاً آخر ، وهو أن يكون قوله : { ما هم } يريد به اليهود ، وقوله : { ولا منهم } يريد به المنافقين ، فيجيء فعل المنافقين على هذا التأويل أحسن ، لأنهم تولوا مغضوباً عليهم ، ليسوا من أنفسهم فيلزمهم ذمامهم ، ولا من القوم المحقين فتكون الموالاة صواباً. انتهى.
والظاهر التأويل الأول ، لأن الذين تولوا هم المحدث عنهم.
والضمير في { ويحلفون } عائد عليهم ، فتتناسق الضمائر لهم ولا تختلف.
وعلى هذا التأويل يكون { ما هم } استئنافاً ، وجاز أن يكون حالاً من ضمير { تولوا }.
وعلى احتمال ابن عطية ، يكون { ما هم } صفة لقوم.
{ ويحلفون على الكذب } ، إما أنهم ما سبوا ، كما روي في سبب النزول ، أو على أنهم مسلمون.
والكذب هو ما ادعوه من الإسلام.
{ وهم يعلمون } : جملة حالية يقبح عليهم ، إذ حلفوا على خلاف ما أبطنوا ، فالمعنى : وهم عالمون متعمدون له.

والعذاب الشديد : المعد لهم في الآخرة.
وقرأ الجمهور : { أيمانهم } جمع يمين؛ والحسن : إيمانهم ، بكسر الهمزة : أي ما يظهرون من الإيمان ، { جنة } : أي ما يتسترون به ويتقون المحدود ، وهو الترس ، { فصدوا } : أي أعرضوا ، أو صدوا الناس عن الإسلام ، إذ كانوا يثبطون من لقوا عن الإسلام ويضعفون أمر الإيمان وأهله ، أو صدوا المسلمين عن قتلهم بإظهار الإيمان ، وقتلهم هو سبيل الله فيهم ، لكن ما أظهروه من الإسلام صدوا به المسلمين عن قتلهم.
{ لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً } : تقدم الكلام على هذه الجملة في أوائل آل عمران.
{ فيحلفون له } : أي لله تعالى.
ألا ترى إلى قولهم : { والله ربنا ما كنا مشركين } { كما يحلفون لكم } أنهم مؤمنون ، وليسوا بمؤمنين.
والعجب منهم ، كيف يعتقدون أن كفرهم يخفى على عالم الغيب والشهادة ، ويجرونه مجرى المؤمنين في عدم اطلاعهم على كفرهم ونفاقهم؟ والمقصود أنهم مقيمون على الكذب ، قد تعودوه حتى كان على ألسنتهم في الآخرة كما كان في الدنيا ، { ويحسبون أنهم على شيء } : أي شيء نافع لهم.
{ استحوذ عليهم الشيطان } : أي أحاط بهم من كل جهة ، وغلب على نفوسهم واستولى عليها ، وتقدمت هذه المادة في قوله تعالى : { ألم نستحوذ عليكم } في النساء ، وأنها من حاذ الحمار العانة إذا ساقها ، وجمعها غالباً لها ، ومنه كان أحوذياً نسيج وحده.
وقرأ عمر : استحاذ ، أخرجه على الأصل والقياس ، واستحوذ شاذ في القياس فصيح في الاستعمال.
{ فأنساهم ذكر الله } : فهم لا يذكرونه ، لا بقلوبهم ولا بألسنتهم؛ و { حزب الشيطان } : جنده ، قاله أبو عبيدة.
{ أولئك في الأذلين } : هي أفعل التفضيل ، أي في جملة من هو أذل خلق الله تعالى ، لا ترى أحداً أذل منهم.
وعن مقاتل : لما فتح الله مكة للمؤمنين ، والطائف وخيبر وما حولهم ، قالوا : نرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم ، فقال عبد الله بن أبي : أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها؟ والله إنهم لأكثر عدداً وأشد بطشاً من أن تظنوا فيهم ذلك ، فنزلت : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } : { كتب } : أي في اللوح المحفوظ ، أو قضى.
وقال قتادة : بمعنى قال ، { ورسلي } : أي من بعثت منهم بالحرب ومن بعثت منهم بالحجة.
{ إن الله قوي } : ينصر حزبه ، { عزيز } : يمنعه من أن يذل.
{ لا تجد قوماً } ، قال الزمخشري ، من باب التخييل : خيل أن من الممتنع المحال أن تجد قوماً مؤمنين يوادون المشركين ، والغرض منه أنه لا ينبغي أن يكون ذلك ، وحقه أن يمتنع ، ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتصلب في مجانبة أعداء الله.
وزاد ذلك تأكيداً بقوله : { ولو كانوا آباءهم }. انتهى.
وبدأ بالآباء لأنهم الواجب على الأولاد طاعتهم ، فنهاهم عن موادتهم.

وقال تعالى : { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً } ثم ثنى بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب ، ثم أتى ثالثاً بالإخوان لأنهم بهم التعاضد ، كما قيل :
أخاك أخاك إن من لا أخاً له . . .
كساع إلى الهيجاء بغير سلاح
ثم رابعاً بالعشيرة ، لأن بها التناصر ، وبهم المقاتلة والتغلب والتسرع إلى ما دعوا إليه ، كما قال :
لا يسألون أخاهم حين يندبهم . . .
في النائبات على ما قال برهاناً
وقرأ الجمهور : { كتب } مبنياً للفاعل ، { في قلوبهم الإيمان } نصباً ، أي كتب الله.
وأبو حيوة والمفضل عن عاصم : كتب مبنياً للمفعول ، والإيمان رفع.
والجمهور : { أو عشيرتهم } على الإفراد؛ وأبو رجاء : على الجمع ، والمعنى : أثبت الإيمان في قلوبهم وأيدهم بروح منه تعالى ، وهو الهدى والنور واللطف.
وقيل : الروح : القرآن.
وقيل : جبريل يوم بدر.
وقيل : الضمير في منه عائد على الإيمان ، والإنسان في نفسه روح يحيا به المؤمن ، والإشارة بأولئك كتب إلى الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله.
قيل : والآية نزلت في أبي حاطب بن أبي بلتعة.
وقيل : الظاهر أنها متصلة بالآي التي في المنافقين الموالين لليهود.
وقيل : " نزلت في ابن أبيّ وأبي بكر الصديق ، رضى الله تعالى عنه ، كان منه سب للرسول صلى الله عليه وسلم ، فصكه أبو بكر صكة سقط منها ، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام : «أوفعلته»؟ قال : نعم ، قال : «لا تعد» ، قال : والله لو كان السيف قريباً مني لقتلته " وقيل : في أبي عبيدة بن الجراح ، قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أُحد ، وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز ، وفي مصعب بن عمير قتل أخاه بن عمير يوم أُحد.
وقال ابن شوذب : يوم بدر ، وفي عمر قتل خاله العاصي بن هشام يوم بدر ، وفي عليّ وحمزة وعبيد بن الحارث ، قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة ، والوليد بن عتبة يوم بدر.
وقال الواقدي في قصة أبي عبيدة أنه قتل أباه ، قال : كذلك يقول أهل الشام ، وقد سألت رجالاً من بني فهر فقالوا : توفي أبوه قبل الإسلام.
انتهى ، يعنون في الجاهلية قبل ظهور الإسلام.
وقد رتب المفسرون.
{ ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } على قصة أبي عبيدة وأبي بكر ومصعب وعمر وعليّ وحمزة وعبيد مع أقربائهم ، والله تعالى أعلم.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46