كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

وهذه الظروف التي هي قبل وبعد ونحوهما اطّرد إضافتها إلى أسماء الأعيان على حذف مضاف يدل عليه ما قبله ، في نحو خلفك أي خلف إخراجك ، أو جاء زيد قبل عمرو أي قبل مجيء عمرو ، وضحك بكر بعد خالد أي بعد ضحك خالد.
وانتصب { سنة } على المصدر المؤكد أي سنّ الله سنة ، والمعنى أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم فسنة الله أن يهلكهم بعد إخراجه ويستأصلهم ولا يقيمون بعده إلاّ قليلاً.
وقال الفراء : انتصب { سنة } على إسقاط الخافض لأن المعنى كسنة فنصب بعد حذف الكاف ، وعلى هذا لا يقف على قوله : { إلاّ قليلاً }.
وقال أبو البقاء : { سنة } منصوب على المصدر أي سننا بك سنة من تقدم من الأنبياء ، ويجوز أن يكون مفعولاً به أي اتبع { سنة من قد أرسلنا } كما قال تعالى : { فبهداهم اقتده } انتهى.
وهذا معنى غير الأول والمفسرون على الأول وهو المناسب لمعنى الآية قبلها { ولن تجد } لما أجرينا به العادة { تحويلاً } منه إلى غيره إذ كل حادث له وقت معين وصفة معينة ونفي الوجدان هنا وفيما أشبهه معناه نفي الوجود.

أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)

الدلوك الغروب قاله الفراء وابن قتيبة ، واستدل الفراء بقول الشاعر :
هذا مقام قدمي رباح . . .
غدوة حتى دلكت براح
أي حتى غابت الشمس ، وبراح اسم الشمس وأنشد ابن قتيبة لذي الرمة :
مصابيح ليست باللواتي يقودها . . .
نجوم ولا بالآفلات الدوالك
وقيل : الدلوك زوال الشمس نصف النهار.
قيل واشتقاقه من الدلك لأن الإنسان تدلك عينه عند النظر إليها.
وقيل الدلوك من وقت الزوال إلى الغروب.
الغسق سواد الليل وظلمته.
قال الكسائي غسق الليل غسوقاً والغسق الاسم بفتح السين.
وقال النضر بن شميل : غسق الليل دخول أوله.
قال الشاعر :
إن هذا الليل قد غسقا . . .
واشتكيت الهم والأرقا
وأصله من السيلان غسقت العين تغسق هملت بالماء والغاسق السائل ، وذلك أن الظلمة تنصب على العالم.
قال الشاعر :
ظلت تجود يداها وهي لاهية . . .
حتى إذا جنح الإظلام والغسق
وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس ما الغسق؟ قال : الليل بظلمته ، ويقال غسقت العين امتلأت دماً.
وحكى الفراء غسق الليل واغتسق وظلم وأظلم ودجى وأدجى وغبش وأغبش ، أبو عبيدة الهاجد النائم والمصلي.
وقال ابن الأعرابي : هجد الرجل صلى من الليل ، وهجد نام بالليل.
وقال الليث تهجد استيقظ للصلاة.
وقال ابن برزح هجدته أيقظته ، فعلى ما ذكروا يكون من الأضداد ، والمعروف في كلام العرب أن الهاجد النائم وقد هجد هجوداً نام.
قال الشاعر :
ألا زارت وأهل منى هجود . . .
وليت خيالنا منا يعود
وقال آخر :
ألا طرقتنا والرفاق هجود . . .
وقال آخر :
وبرك هجود قد أثارت مخافتي . . .
زهقت نفسه تزهق زهوقاً ذهبت ، وزهق الباطل زال واضمحل ، ولم يثبت.
قال الشاعر :
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها . . .
إقدامه مزالة لم تزهق
ناء ينوء : نهض.
الشاكلة الطريقة والمذهب الذي جبل عليه قاله الفراء ، وهو مأخوذ من الشكل يقال لست على شكلي ولا شاكلتي ، والشكل المثل والنضير ، والشِكل بكسر الشين الهيئة يقال جارية حسنة الشكل.
الينبوع مفعول من النبع وهو عين تفور بالماء.
الكسف القطع واحدها كسفة ، تقول العرب : كسفت الثوب ونحوه قطعته ، وما زعم الزجاج من أن كسف بمعنى غطى ليس بمعروف في دواوين اللغة.
الرُقِّي والرقى الصعود يقال : رقيت في السلم أرقى قال الشاعر :
أنت الذي كلفتني رقي الدرج . . .
على الكلال والمشيب والعرج
خبت النار تخبو : سكن لهبها وخمدت سكن جمرها وضعف وهمدت طفئت جملة.
قال الشاعر :
أمن زينب ذي النار قبيل الصبح . . .
ما تخبو إذا ما أخمدت ألقى عليها المندل الرطب
وقال آخر :
وسطه كاليراع أو سرج المجدل . . .
طوراً يخبو وطوراً ينير
الثبور : الهلاك يقال : ثبر الله العدوّ ثبوراً أهلكه.
وقال ابن الزبعرى :
إذا جارى الشيطان في سنن الغي . . .
ومن مال مثله مثبور
اللفيف الجماعات من قبائل شتى مختلطة قد لف بعضها ببعض.

وقال بعض اللغويين : هو من أسماء الجموع لا واحد له من لفظه.
وقال الطبري : هو بمعنى المصدر كقول القائل لففته لفاً ولفيفاً.
المكث : التطاول في المدّة ، يقال : مكث ومكث أطال الإقامة.
الذقن مجتمع اللحيين.
قال الشاعر :
فخرّوا لأذقان الوجوه تنوشهم . . .
سباع من الطير العوادي وتنتف
خافت بالكلام أسره بحيث لا يكاد يسمعه المتكلم وضربه حتى خفت أي لا يسمع له حس.
{ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً.
وقل جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً }.
ومناسبة { أقم الصلاة } لما قبلها أنه تعالى لما ذكر كيدهم للرسول وما كانوا يرومون به ، أمره تعالى أن يقبل على شأنه من عبادة ربه وأن لا يشغل قلبه بهم ، وكان قد تقدّم القول في الإلهيات والمعاد والنبوات ، فأردف ذلك بالأمر بأشرف العبادات والطاعات بعد الإيمان وهي الصلاة وتقدّم الكلام في إقامة الصلاة والمواجه بالأمر الرسول عليه الصلاة والسلام.
واللام في { لدلوك } قالوا : بمعنى بعد أي بعد دلوك { الشمس } كما قالوا ذلك في قوم متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكاً :
فلما تفرّقنا كأني ومالكاً . . .
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
أي بعد طول اجتماع ومنه كتبته لثلاث خلون من شهر كذا.
وقال الواحدي : اللام للسبب لأنها إنما تجب بزوال الشمس ، فيجب على المصلي إقامتها لأجل دلوك الشمس.
قال ابن عطية : { أقم الصلاة } الآية هذه بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة.
فقال ابن عمر وابن عباس وأبو بردة والحسن والجمهور : دلوك الشمس زوالها ، والإشارة إلى الظهر والعصر وغسق الليل إشارة إلى المغرب والعشاء { وقرآن الفجر } أريد به صلاة الصبح ، فالآية على هذا تعم جميع الصلوات.
وروى ابن مسعود أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر ".
" وروى جابر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج من عنده وقد طعم وزالت الشمس ، فقال : «أخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس» " وقال ابن مسعود وابن عباس وزيد بن أسلم : دلوك الشمس غروبها والإشارة بذلك إلى المغرب و { غسق الليل } ظلمته فالإشارة إلى العتمة { وقرآن الفجر } صلاة الصبح ، ولم تقع إشارة على هذا التأويل إلى الظهر والعصر انتهى.
وعن عليّ أنه الغروب ، وتتعلق اللام وإلى بأقم ، فتكون إلى غاية للإقامة.
وأجاز أبو البقاء أن تكون حالاً من الصلاة قال : أي ممدودة ويعني بقرآن الفجر صلاة الصبح ، وخصت بالقرآن وهو القراءة لأنه عظمها إذ قراءتها طويلة مجهور بها ، وانتصب { وقرآن الفجر } عطفاً على { الصلاة }.

وقال الأخفش : انتصب بإضمار فعل تقديره وآثر { قرآن الفجر } أو عليك { قرآن الفجر } انتهى.
وسميت صلاة الصبح ببعض ما يقع فيها.
وقال الزمخشري : سميت صلاة الفجر قرآناً وهي القراءة لأنها ركن كما سميت ركوعاً وسجوداً وقنوتاً وهي حجة عليّ بن أبي علية.
والأصم في زعمهما أن القراءة ليست بركن انتهى.
وقيل : إذا فسرنا الدلوك بزوال الشمس كان الوقت مشتركاً بين الظهر والعصر إذا غييت الإقامة بغسق الليل ، ويكون الغسق وقتاً مشتركاً بين المغرب والعشاء ، ويكون المذكور ثلاثة أوقات : أول وقت الزوال ، وأول وقت المغرب ، وأول وقت الفجر انتهى ، والذي يدل عليه ظاهر اللفظ أنه أمر بإقامة الصلاة إما من أول الزوال إلى الغسق ، وبقرآن الفجر ، وإما من الغروب إلى الغسق وبقرآن الفجر ، فيكون المأمور به الصلاة في وقتين ولا تؤخذ أوقات الصلوات الخمس من هذا اللفظ بوجه.
وقال أبو عبد الله الرازي في قوله { وقرآن الفجر } دلالة على أن الصلاة لا تتم إلاّ بالقراءة لأن الأمر على الوجوب ، ولا قراءة في ذلك الوقت واجبة إلا في الصلاة ومن قال معنى { وقرآن الفجر } صلاة الفجر غلط لأنه صرف الكلام عن حقيقته إلى المجاز بغير دليل ، ولأن في نسق التلاوة { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } ويستحيل التهجد بصلاة الفجر ليلاً.
والهاء في { به } كناية عن { قرآن الفجر } المذكور قبله ، فثبت أن المراد حقيقة القرآن لا مكان التهجد بالقرآن المقروء في صلاة الفجر واستحالة التهجد في الليل بصلاة الفجر ، وعلى أنه لو صح أن يكون المراد ما ذكروا لكانت دلالته قائمة على وجوب القراءة في الصلاة لأنه لم تجعل القراءة عبارة عن الصلاة إلا وهي من أركانها انتهى.
وفيه بعض تلخيص والظاهر ندبية إيقاع صلاة الصبح في أول الوقت لأنه مأمور بإيقاع قرآن الفجر ، فكان يقتضي الوجوب أول طلوع الفجر ، لكن الإجماع منع من ذلك فبقي الندب لوجود المطلوبية ، فإذا انتفى وجوبها بقي ندبها وأعاد { قرآن الفجر } في قوله { إن قرآن الفجر } ولم يأت مضمراً فيكون أنه على سبيل التعظيم والتنويه بقرآن الفجر ومعنى { مشهوداً } تشهده الملائكة حفظة الليل وحفظة النهار كما جاء في الحديث : « إنهم يتعاقبون ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر » وهذا قول الجمهور.
وقيل يشهده الكثير من المصلين في العادة.
وقيل : من حقه أن تشهده الجماعة الكثيرة.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون { وقرآن الفجر } حثاً على طول القراءة في صلاة الفجر لكونها مكثوراً عليها ليسمع الناس القرآن فيكثر الثواب ، ولذلك كانت الفجر أطول الصلوات قراءة انتهى.
ويعني بقوله حثاً أن يكون التقدير وعليك { قرآن الفجر } أو والزم.

وقال محمد بن سهل بن عسكر : { مشهوداً } يشهده الله وملائكته ، وذكر حديث أبي الدرداء أنه تعالى ينزل في آخر الليل ولأبي عبد الله الرازي كلام في قوله { مشهوداً } على عادته في تفسير كتاب الله على ما لا تفهمه العرب ، والذي ينبغي بل لا يعدل عنه ما فسره به الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله فيه : « يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار » وقال فيه الترمذي حديث حسن صحيح.
ولما أمره تعالى بإقامة الصلاة للوقت المذكور ولم يدل أمره تعالى إياه على اختصاصه بذلك دون أمته ذكر ما اختصه به تعالى وأوجبه عليه من قيام الليل وهو في أمته تطوع.
فقال : { ومن الليل فتهجد به } أي بالقرآن في الصلاة { نافلة } زيادة مخصوصاً بها أنت وتهجد هنا تفعل بمعنى الإزالة والترك ، كقولهم : تأثم وتحنث ترك التأثم والتحنث ، ومنه تحنثت بغار حراء أي بترك التحنث ، وشرح بلازمه وهو التعبد { ومن } للتبعيض.
وقال الحوفي : { من } متعلقة بفعل دل عليه معنى الكلام تقديره واسهر من الليل بالقرآن ، قال : ويجوز أن يكون التقدير وقم بعد نومة من الليل.
وقال ابن عطية { ومن } للتبعيض التقدير وقتاً من الليل أي وقم وقتاً من الليل.
وقال الزمخشري : { ومن الليل } وعليك بعض الليل { فتهجد به } والتهجد ترك الهجود للصلاة انتهى.
فإن كان تفسيره وعليك بعض الليل تفسير معنى فيقرب ، وإن كان أراد صناعة النحو والإعراب فلا يصح لأن المغري به لا يكون حرفاً ، وتقدير من ببعض فيه مسامحة لأنه ليس بمرادفه البتة ، إذ لو كان مرادفه للزم أن يكون اسماً ولا قائل بذلك ، ألا ترى إجماع النحويين على أن واو مع حرف وإن قدّرت بمع ، والظاهر أن الضمير في { به } يعود على القرآن لتقدّمه في الذكر ، ولا تلحظ الإضافة فيه والتقدير { فتهجد } بالقرآن في الصلاة.
وقال ابن عطية : والضمير في { به } عائد على وقت المقدر في وقم وقتاً من الليل انتهى.
فتكون الباء ظرفية أي { فتهجد } فيه وانتصب { نافلة }.
قال الحوفي : على المصدر أي نفلناك نافلة قال : ويجوز أن ينتصب { نافلة } بتهجد إذا ذهبت بذلك إلى معنى صل به نافلة أي صل نافلة لك.
وقال أبو البقاء : فيه وجهان أحدهما : هو مصدر بمعنى تهجد أي تنفل نفلاً و { نافلة } هنا مصدر كالعاقبة والثاني هو حال أي صلاة نافلة انتهى.
وهو حال من الضمير في { به } ويكون عائداً على القرآن لا على وقت الذي قدره ابن عطية.
وقال الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الأسود والحجاج بن عمرو : التهجد بعد نومة.
وقال الحسن : ما كان بعد العشاء الآخرة.
وقال ابن عباس : { نافلة } زيادة لك في الفرض وكان قيام الليل فرضاً عليه.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون على جهة الندب في التنفل والخطاب له والمراد هو وأمته كخطابه في { أقم الصلاة }.

وقال مجاهد والسدّي : إنما هي نافلة له قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر عام الحديبية ، فإنما كانت نوافله واستغفاره فضائل من العمل وقرباً أشرف من نوافل أمته لأن هذه أعني نوافل أمته إما أن يجبر بها فرائضهم ، وإما أن يحط بها خطيئاتهم.
وضعف الطبري قول مجاهد واستحسنه أبو عبد الله الرازي.
وقال مقاتل فله كرامة وعطاء لك.
وقيل : كانت فرضاً ثم رخص في تركها.
ومن حديث زيد بن خالد الجهني : رمق صلاته عليه الصلاة والسلام ليلة فصلى بالوتر ثلاث عشرة ركعة.
وعن عائشة : أنه ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة.
و { عسى } مدلولها في المحبوبات الترجي.
فقيل : هي على بابها في الترجي تقديره لتكن على رجاء من { أن يبعثك }.
وقيل هي بمعنى كي ، وينبغي أن يكون هذا تفسير معنى ، والأجود أن أن هذه الترجية والإطماع بمعنى الوجوب من الله تعالى وهو متعلق من حيث المعنى بقوله : { فتهجد } { وعسى } هنا تامة وفاعلها { أن يبعثك } ، و { ربك } فاعل بيبعثك و { مقاماً } الظاهر أنه معمول ليبعثك هو مصدر من غير لفظ الفعل لأن يبعثك بمعنى يقيمك تقول أقيم من قبره وبعث من قبره.
وقال ابن عطية : منصوب على الظرف أي في مقام محمود.
وقيل : منصوب على الحال أي ذا مقام.
وقيل : هو مصدر لفعل محذوف التقدير فتقوم { مقاماً } ولا يجوز أن تكون { عسى } هنا ناقصة ، وتقدّم الخبر على الاسم فيكون { ربك } مرفوعاً اسم { عسى } و { أن يبعثك } الخبر في موضع نصب بها إلا في هذا الإعراب الأخير.
وأما في قبله فلا يجوز لأن { مقاماً } منصوب بيبعثك و { ربك } مرفوع بعسى فيلزم الفصل بأجنبي بين ما هو موصول وبين معموله.
وهو لا يجوز.
وفي تفسير المقام المحمود أقوال :
أحدهما : أنه في أمر الشفاعة التي يتدافعها الأنبياء حتى تنتهي إليه صلى الله عليه وسلم ، والحديث في الصحيح وهي عدة من الله تعالى له عليه الصلاة والسلام ، وفي هذه الشفاعة يحمده أهل الجمع كلهم وفي دعائه المشهور : « وابعثه المقام المحمود الذي وعدته » واتفقوا على أن المراد منه الشفاعة.
الثاني : أنه في أمر شفاعته لأمته في إخراجه لمذنبهم من النار ، وهذه الشفاعة لا تكون إلاّ بعد الحساب ودخول الجنة ودخول النار ، وهذه لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء.
وقد روي حديث هذه الشفاعة وفي آخره : « حتى لا يبقى في النار إلاّ من حبسه القرآن » أي وجب عليه الخلود.
قال : ثم تلا هذه الآية { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً }.
وعن أبي هريرة أنه عليه السلام قال : « المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي »

فظاهر هذا الكلام تخصيص شفاعته لأمته ، وقد تأوله من حمل ذلك على الشفاعة العظمى التي يحمده بسببها الخلق كلهم على أن المراد لأمته وغيرهم أو يقال إن كل مقام منهما محمود.
الثالث : عن حذيفة : يجمع الله الناس في صعيد فلا تتكلم نفس فأوّل مدعوّ محمد صلى الله عليه وسلم ، فيقول : « لبيك وسعديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا منجأ ولا ملجأ إلا إليك ، تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت » قال : فهذا قوله { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً }.
الرابع قال الزمخشري : معنى المقام المحمود المقام الذي يحمده القائم فيه ، وكل من رآه وعرفه وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات انتهى.
وهذا قول حسن ولذلك نكر { مقاماً محموداً } فلم يتناول مقاماً مخصوصاً بل كل مقام محمود صدق عليه إطلاق اللفظ.
الخامس : ما قالت فرقة منها مجاهد وقد روي أيضاً عن ابن عباس أن المقام المحمود هو أن يجلسه الله معه على العرش.
وذكر الطبري في ذلك حديثاً وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال : من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متّهم ما زال أهل العلم يحدّثون بهذا.
قال ابن عطية : يعني من أنكر جوازه على تأويله.
وقال أبو عمرو ومجاهد : إن كان أحد الأئمة يتأول القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم أحدهما هذا والثاني في تأويل { إلى ربها ناظرة } قال : تنتظر الثواب ليس من النظر ، وقد يؤوّل قوله معه على رفع محله وتشريفه على خلقه كقوله { إن الذين عند ربك } وقوله { ابنِ لي عندك بيتاً } و { إن الله لمع المحسنين } كل ذلك كناية عن المكانة لا عن المكان.
وقال الواحدي : هذا القول مروي عن ابن عباس وهو قول رذل موحش فظيع لا يصح مثله عن ابن عباس ، ونص الكتاب ينادي بفساده من وجوه.
الأول : أن البعث ضد الإجلاس بعثت التارك وبعث الله الميت أقامه من قبره ، فتفسيره البعث بالإجلاس تفسير الضد بالضد.
الثاني : لو كان جالساً تعالى على العرش لكان محدوداً متناهياً فكان يكون محدثاً.
الثالث : أنه قال { مقاماً } ولم يقل مقعداً { محموداً } ، والمقام موضع القيام لا موضع القعود.
الرابع : أن الحمقى والجهّال يقولون إن أهل الجنة يجلسون كلهم معه تعالى ويسألهم عن أحوالهم الدنيوية فلا مزية له بإجلاسه معه.
الخامس : أنه إذا قيل بعث السلطان فلاناً لا يفهم منه أجلسه مع نفسه انتهى.
وفيه بعض تلخيص.
ولما أمره تعالى بإقامة الصلاة والتهجد ووعده بعثه { مقاماً محموداً } وذلك في الآخرة أمره بأن يدعوه بما يشمل أموره الدنيوية والأخروية ، فقال { وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق } والظاهر أنه عام في جميع موارده ومصادره دنيوية وأخروية ، والصدق هنا لفظ يقتضي رفع المذام واستيعاب المدح كما تقول : رجل صدق إذ هو مقابل رجل سوء.

وقال ابن عباس والحسن وقتادة : هو إدخال خاص وهو في المدينة ، وإخراج خاص وهو من مكة.
فيكون المقدم في الذكر هو المؤخر في الوقوع ، ومكان الواو هو الأهم فبدىء به.
وقال مجاهد وأبو صالح : ما معناه إدخاله فيما حمله من أعباء النبوة وأداء الشرع وإخراجه منه مؤدّياً لما كلفه من غير تفريط.
وقال الزمخشري : أدخلني القبر { مدخل صدق } إدخالاً مرضياً على طهارة وطيب من السيئات ، وأخرجني منه عند البعث إخراجاً مرضياً ملقى بالكرامة آمناً من السخط ، يدل عليه ذكره على ذكر البعث.
وقيل : إدخاله مكة ظاهراً عليها بالفتح ، وإخراجه منها آمناً من المشركين.
وقال محمد بن المنكدر : إدخاله الغار وإخراجه منه سالماً.
وقيل : الإخراج من المدينة والإدخال مكة بالفتح.
وقيل : الإدخال في الصلاة والإخراج منها.
وقيل : الإدخال في الجنة والإخراج من مكة.
وقيل : الإدخال فيما أمر به والإخراج مما نهاه عنه.
وقيل : { أدخلني } في بحار دلائل التوحيد والتنزيه ، { وأخرجني } من الاشتغال بالدليل إلى معرفة المدلول والتأمل في آثار محدثاته إلى الاستغراق في معرفة الأحد الفرد.
وقال أبو سهل : حين رجع من تبوك وقد قال المنافقون : { ليخرجنّ الأعز منها الأذل } يعني إدخال عز وإخراج نصر إلى مكة ، والأحسن في هذه الأقوال أن تكون على سبيل التمثيل لا التعيين ، ويكون اللفظ كما ذكرناه يتناول جميع الموارد والمصادر.
وقرأ الجمهور : { مدخل } و { مخرج } بضم ميمهما وهو جار قياساً على أفعل مصدر ، نحو أكرمته مكرماً أي إكراماً.
وقرأ قتادة وأبو حيوة وحميد وإبراهيم بن أبي عبلة بفتحهما.
وقال صاحب اللوامح : وهما مصدران من دخل وخرج لكنه جاء من معنى { أدخلني } { وأخرجني } المتقدمين دون لفظهما ومثلهما { أنبتكم من الأرض نباتاً } ويجوز أن يكونا اسم المكان وانتصابهما على الظرف ، وقال غيره : منصوبان مصدرين على تقدير فعل أي { أدخلني } فأدخل { مدخل صدق } { وأخرجني } فأخرج { مخرج صدق }.
والسلطان هنا قال الحسن : التسليط على الكافرين بالسيف ، وعلى المنافقين بإقامة الحدود.
وقال قتادة : ملكاً عزيزاً تنصرني به على كل من ناواني.
وقال مجاهد : حجة بينة.
وقيل : كتاباً يحوي الحدود والأحكام.
وقيل : فتح مكة.
وقيل : في كل عصر { سلطاناً } ينصرك دينك و { نصيراً } مبالغة في ناصر.
وقيل : فعيل بمعنى مفعول ، أي منصوراً ، وهذه الأقوال كلها محتملة لقوله { سلطاناً نصيراً } وروي أنه تعالى وعده ذلك وأنجزه له في حياته وتممه بعد وفاته.
قال قتادة : و { الحق } القرآن و { الباطل } الشيطان.
وقال ابن جريج : الجهاد و { الباطل } الشرك.
وقيل : الإيمان والكفر.
وقال مقاتل : جاءت عبادة الله وذهبت عبادة الشيطان ، وهذه الآية نزلت بمكة ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستشهد بها يوم فتح مكة وقت طعنه الأصنام وسقوطها لطعنه إياها بمخصرة حسبما ذكر في السير.
و { زهوقاً } صفة مبالغة في اضمحلاله وعلم ثبوته في وقت مّا.

و { من } في { من القرآن } لابتداء الغاية.
وقيل للتبعيض قاله الحوفي : وأنكر ذلك لاستلزامه أن بعضه لا شفاء فيه ورد هذا الإنكار لأن إنزاله إنما هو مبعض.
وقيل : لبيان الجنس قاله الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء ، وقد ذكرنا أن من التي لبيان الجنس لا تتقدم على المبهم الذي تبينه وإنما تكون متأخرة عنه.
وقرأ الجمهور : و { ننزل } بالنون ومجاهد بالياء خفيفة ورواها المروزي عن حفص.
وقرأ زيد بن عليّ : { شفاءً ورحمةً } بنصبهما ويتخرج النصب على الحال وخبر هو قوله { للمؤمنين } والعامل فيه ما في الجار والمجرور من الفعل ، ونظيره قراءة من قرأ { والسموات مطويات بيمينه } بنصب مطويات.
وقول الشاعر :
رهط ابن كوز محقي أدراعهم . . .
فيهم ورهط ربيعة بن حذار
وتقديم الحال على العامل فيه من الظرف أو المجرور لا يجوز إلاّ عند الأخفش ، ومن منع جعله منصوباً على إضمار أعني وشفاؤه كونه مزيلاً للريب كاشفاً عن غطاء القلب بفهم المعجزات والأمور الدالة على الله المقررة لدينه ، فصار لعلات القلوب كالشفاء لعلات الأجسام.
وقيل : شفاء بالرقى والعَوذ كما جاء في حديث الذي رقي بالفاتحة من لسعة العقرب.
واختلفوا في النشرة وهو أن يكتب شيء من أسماء الله تعالى أو من القرآن ثم يغسل بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقاه ، فأجاز ذلك ابن المسيب ولم يره مجاهد.
وعن عائشة : كانت تقرأ بالمعوذتين في إناء ثم تأمر أن يصب على المريض.
وقال أبو عبد الله المازني : النشرة أمر معروف عند أهل التعزيم ، سميت بذلك لأنها تنشر عن صاحبها أي تحل ، ومنعها الحسن والنخعي.
" وروى أبو داود من حديث جابر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال وقد سئل عن النشرة : «هي من عمل الشيطان» " ويحمل ذلك على ما إذا كانت خارجة عما في كتاب الله وسنة الرسول ، والنشرة من جنس الطب في غسالة شيء له فضل.
وقال مالك : لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقها بذلك مدافعة العين ، وهذا معناه قبل أن ينزل به شيء من العين أما بعد نزول البلاء فيجوز رجاء الفرج والبرء والمرض كالرقى المباحة التي وردت السنة بها من العين وغيرها.
وقال ابن المسيب : يجوز تعليق العوذة في قصبة أو رقعة من كتاب الله ويضعه عند الجماع وعند الغائط ، ورخص الباقر في العوذة تعلق على الصبيان وكان ابن سيرين لا يرى بأساً بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان.
وخسار الظالمين وهم الذين يضعون الشيء في غير موضعه هو بإعراضهم عنه وعدم تدبره بخلاف المؤمن فإنه يزداد بالنظر فيه وتدبر معانيه إيماناً.

وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)

لما ذكر تعالى تنويع ما أنزل من القرآن شفاء ورحمة للمؤمن وبزيادة خسار للظالم ، عرّض بما أنعم به وما حواه من لطائف الشرائع على الإنسان ، ومع ذلك { أعرض } عنه وبعد بجانبه اشمئزازاً له وتكبراً عن قرب سماعه وتبديلاً مكان شكر الإنعام كفره.
وقرأ الجمهور : { ونأى } من النأي وهو البعد ، وقرأ ابن عامر وناء.
وقيل هو مقلوب نأى فمعناه بعد.
وقيل : معناه نهض بجانبه.
وقال الشاعر :
حتى إذا ما التأمت مفاصله . . .
وناء في شق الشمال كاهله
أي نهض متوكئاً على شماله.
ومعنى { يؤوساً } قنوطاً من أن ينعم الله عليه.
والظاهر أن المراد بالإنسان هنا ليس واحداً بعينه بل المراد به الجنس كقوله { إن الإنسان لربه لكنود } { إن الإنسان خلق هلوعاً } الآية وهو راجع لمعنى الكافر ، والإعراض يكون بالوجه والنأي بالجانب يكون بتولية العطف أو يراد بنأي الجانب الاستكبار لأن ذلك من عادة المستكبرين.
والشاكلة قال ابن عباس : ناحيته.
وقال مجاهد : طبيعته.
وقال الضحاك : حدّته.
وقال قتادة والحسن : نيته.
وقال ابن زيد : دينه.
وقال مقاتل : خلقه وهذه أقوال متقاربة.
وقال الزمخشري : على مذهب الذي يشاكل حاله في الهدى والضلالة من قولهم طريق ذو شواكل وهي الطرق التي تشعبت منه ، والدليل عليه قوله { فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً } أي أشد مذهباً وطريقة.
وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه : لم أر في القرآن آية أرجى من التي فيها { غافر الذنب وقابل التوب } قدم الغفران قبل قبول التوبة.
وعن عثمان رضي الله عنه لم أر آية أرجى من { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم } وعن عليّ كرّم الله وجهه ورضي عنه لم أر آية أرجى من { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } الآية.
قالوا ذلك حين تذاكروا القرآن.
وعن القرطبي : لم أر آية أرجى من { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } الآية.
وقال أبو عبد الله الرازي : الأرواح والنفوس مختلفة بماهيتها فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور ، وبعضها كدِرة ظلمانية يظهر فيها من القرآن ضلال ونكال انتهى.
وثبت في الصحيح من حديث ابن مسعود أنه قال : إني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة وهو متكىء على عسيب ، فمر بنا ناس من اليهود فقال : سلوه عن الروح فقال بعضهم : لا تسألوه فسيفتيكم بما تكرهون فأتاه نفر منهم فقالوا : يا أبا القاسم ما تقول في الروح؟ فسكت ثم ماج فأمسكت بيدي على جبهته ، فعرفت أنه ينزل عليه فأنزل عليه { ويسألونك عن الروح } الآية.
وروي أن يهود قالوا لقريش : سلوه عن الروح وعن فتية فقدوا في أول الزمان ، وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها فإن أجاب في ذلك كله أو لم يجب في شيء فهو كذاب ، وإن أجاب في بعض ذلك وسكت عن بعض فهو نبي.

وفي بعض طرق هذا : إن فسر الثلاثة فهو كذاب وإن سكت عن الروح فهو نبي فنزل في شأن الفتية { أم حسبت أن أصحاب الكهف } ونزل في شأن الذي بلغ الشرق والغرب { ويسألونك عن ذي القرنين } ونزل في الروح { ويسألونك عن الروح } والظاهر من حديث ابن مسعود أن الآية مدنية ومن سؤال قريش أنها مكية ، والروح على قول الجمهور هنا الروح التي في الحيوان وهو اسم جنس وهو الظاهر.
وقال قتادة : هو جبريل عليه السلام قال وكان ابن عباس يكتمه.
وقيل : عيسى ابن مريم عليه السلام وعن عليّ أنه ملك ، وذكر من وصفه ما الله أعلم به ولا يصح عن عليّ.
وقيل : الروح القرآن ويدل عليه الآية قبله والآية بعده.
وقيل : خلق عظيم روحاني أعظم من الملك.
وقيل : الروح جند من جنود الله لهم أيد وأرجل يأكلون الطعام ذكره العزيزي.
وقال أبو صالح خلق كخلق آدم وليسوا بني آدم لهم أيد وأرجل ، ولا ينزل ملك من السماء إلاّ ومعه واحد منهم ، والصحيح من هذه الأقوال القول الأول ، والظاهر أنهم سألوا عن ماهيتها وحقيقتها وقيل عن كيفية مداخلتها الجسد الحيواني وانبعاثها فيه وصورة ملابستها له ، وكلاهما مشكل لا يعلمه قبل إلاّ الله.
وقد رأيت كتاباً يترجم بكتاب النفخة والتسوية لبعض الفقهاء المتصوفة يذكر فيها أن الجواب في قوله { قل الروح من أمر ربي } إنما هو للعوام ، وأما الخواص فهم عنده يعرفون الروح ، وأجمع علماء الإسلام على أن الروح مخلوقة ، وذهب كفرة الفلاسفة وكثير ممن ينتمي إلى الإسلام إلى أنها قديمة واختلاف الناس في الروح بلغ إلى سبعين قولاً ، وكذلك اختلفوا هل الروح النفس أم شيء غيرها ، ومعنى { من أمر ربي } أي فعل ربي كونها بأمره ، وفي ذلك دلالة على حدوثها والأمر بمعنى الفعل وارد قال تعالى { وما أمر فرعون برشيد } أي فعله ، ويحتمل أن يكون أمراً واحداً الأمور وهو اسم جنس لها أي من جملة أمور الله التي استأثر بعلمها.
وقيل : من وحي ربي ، وكلامه ليس من كلام البشر ويتخرج على قول من قال إن الروح هنا القرآن.
وقيل : من علم ربي والظاهر أن الخطاب في { وما أوتيتم } هم الذين سألوا عن الروح وهم طائفة من اليهود.
وقيل اليهود بجملتهم.
وقيل الناس كلهم.
قال ابن عطية : وهذا هو الصحيح لأن قوله { قل الروح } إنما هو أمر بالقول لجميع العالم إذ جميع علومهم محصورة وعلمه تعالى لا يتناهى.
وقرأ عبد الله بن مسعود والأعمش : وما أوتوا بضمير الغيبة عائداً على السائلين ، ولما ذكر تعالى ما أنعم به من تنزيل القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم شفاء ورحمة وقدرته على ذلك ، ذكر قدرته على أنه لو شاء لذهب بما أوحى ولكنه تعالى لم يشأ ذلك والمعنى أنّا كما نحن قادرون على إنزاله نحن قادرون على إذهابه.

وقال أبو سهل : هذا تهديد لغير الرسول صلى الله عليه وسلم بإذهاب ما أوتوا ليصدهم عن سؤال ما لم يؤتوا كعلم الروح وعلم الساعة.
وروي لا تقوم الساعة حتى يرتفع القرآن والحديث وفي حديث ابن مسعود يسري به في ليلة فيذهب بما في المصاحف وبما في القلوب ، ثم قرأ عبد الله { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك }.
وقال صاحب التحرير : ويحتمل عندي في تأويل الآية وجه غير ما ذكر وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما أبطأ عليه الوحي لما سُئل عن الروح شق ذلك عليه وبلغ منه الغاية ، فأنزل الله تعالى تهذيباً له هذه الآية.
ويكون التقدير أيعز عليك تأخر الوحي فإنّا لو شئنا ذهبنا بما { أوحينا إليك } جميعه فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وطاب قلبه ولزم الأدب انتهى.
والباء في { لنذهبن بالذي } للتعدية كالهمزة وتقدم الكلام على ذلك في قوله { لذهب بسمعهم } في أوائل سورة البقرة.
والكفيل هنا قيل من يحفظ ما أوحينا إليك.
وقيل كفيلاً بإعادته إلى الصدور.
وقيل كفيلاً يضمن لك أن يؤتيك ما أخذ منك.
وقال الزمخشري : والمعنى إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه عن الصدور والمصاحف ولم نترك له أثراً وبقيت كما كنت لا تدري ما الكتاب ثم لا تجد لك بهذا الذهاب من يتوكل علينا باسترداده وإعادته محفوظاً مسطوراً { إلاّ رحمة من ربك } إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك كان رحمته يتوكل عليه بالرد أو يكون على الاستثناء المنقطع بمعنى ولكن رحمة من ربك نتركه غير مذهوب به ، وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظاً بعد المنة في تنزيله وتحفيظه انتهى.
وعلى الاستثناء المنقطع خرجه ابن الأنباري وابن عطية.
قال ابن الأنباري : لكن رحمة من ربك تمنع من أن تسلب القرآن ، وقال في زاد المسير المعنى لكن الله يرحمك فأثبت ذلك في قلبك.
وقال ابن عطية : لكن { رحمة من ربك } تمسك ذلك عليك وتخريج الزمخشري الأول جعله استثناء متصلاً جعل رحمته تعالى مندرجة تحت قوله تعالى { وكيلاً }.

قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)

لما ذكر تعالى إنعامه على نبيه صلى الله عليه وسلم بالنبوّة بإنزال وحيه عليه وباهر قدرته بأنه تعالى لو شاء لذهب بالقرآن ، ذكر ما منحه تعالى من الدليل على نبوته الباقي بقاء الدهر ، وهو القرآن الذي عجز العالم عن الإتيان بمثله ، وأنه من أكبر النعم والفضل الذي أبقى له ذكراً إلى آخر الدهر ورفع له قدراً به في الدنيا والآخرة ، وإذا كان فصحاء اللسان الذي نزل به وبلغاؤهم عجزوا عن الإتيان بسورة واحدة مثله فلأن يكونوا أعجز عن { أن يأتوا بمثل } جميعه ، ولو تعاون الثقلان عليه { لا يأتون بمثله ولو كان } الجنّ تفعل أفعالاً مستغربة كما حكى الله عنهم في قصة سليمان عليه السلام أدرجوا مع الإنس في التعجيز ليكون ذلك أبلغ في العجز ، ويحتمل أن تكون الملائكة مندرجين تحت لفظ الجن لأنه قد يطلق عليهم هذا الاسم كقوله { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً } وإن كان الأكثر استعماله في غير الملائكة من الأشكال الجنية المستترين عن أبصار الإنس ، ويحتمل أن يكون ذكر الجن هنا لأنه عليه السلام بعث إلى الإنس والجن فوقع التعجيز للثقلين معاً لذلك.
وروي أن جماعة من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : جئنا بآية غريبة غير هذا القرآن فإنّا نحن نقدر على المجيء بمثل هذا ، فنزلت { ولا يأتون } جواب القسم المحذوف قبل اللام الموطئة في { لئن } وهي الداخلة على الشرط كقوله { لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم } فالجواب في نحو هذا للقسم المحذوف لا للشرط ، ولذلك جاء مرفوعاً.
فأما قول الأعشى :
لئن منيت بنا عن غب معركة . . .
لأتلفنا عن دماء القوم ننتفل
فاللام في { لئن } زائدة وليست موطئة لقسم قبلها.
فلذلك جزم في قوله لأتلفنا وقد احتج بهذا ونحوه الفراء في زعمه أنه إذا اجتمع القسم والشرط وتقدم القسم ولم يسبقهما ذو خبر أنه يجوز أن يكون الجواب للقسم وهو الأكثر وللشرط ، ومذهب البصريين يحتم الجواب للقسم خاصة.
وذكر ابن عطية هنا فصلاً حسناً في ذكر الإعجاز نقلناه بقصته.
قال : وفهمت العرب بخلوص فهمها في ميز الكلام ودريتها به ما لا نفهمه نحن ولا كل من خالطته حضارة ، ففهموا العجز عنه ضرورة وشاهده وعلمه الناس بعدهم استدلالاً ونظراً ولكل حصل علم قطعي لكن ليس في مرتبة واحدة ، وهذا كما علمت الصحابة شرع النبيّ صلى الله عليه وسلم وأعماله ومشاهده علم ضرورة ، وعلمنا نحن المتواتر من ذلك بنقل التواتر فحصل للجميع القطع لكن في مرتبتين ، وفهم إعجاز القرآن أرباب الفصاحة الذين لهم غرائب في ميز الكلام ، ألا ترى إلى فهم الفرزدق شعر جرير وذي الرمّة في قول الفرزدق :

علام تلفتين وأنت تحتي . . .
وفي قول جرير :
تلفت إنها تحت ابن قين . . .
وألا ترى قول الأعرابي : عز فحكم فقطع ، وألا ترى إلى الاستدلال الآخر على البعث بقوله { حتى زرتم المقابر } فقال : إن الزيارة تقتضي الانصراف ، ومنه علم بشار بقول أبي عمرو بن العلاء في شعر الأعشى :
وأنكرتني وما كان الذي نكرت . . .
ومنه قول الأعرابي للأصمعي :
من أحوج الكريم أن يقسم . . .
فهم مع هذه الأفهام أقروا بالعجز ، ولجأ النجاد منهم إلى السيف ورضي بالقتل والسباء وكشف الحرم.
وهو كان يجد المندوحة عن ذلك بالمعارضة انتهى.
ما اقتصرنا عليه من كلامه وكان قد قدم قبل ذلك قوله والعجز في معارضة القرآن إنما وقع في النظم ، وعلة ذلك الإحاطة التي لا يتصف بها إلاّ الله عز وجل والبشر مقصر ضرورة بالجهل والنسيان والغفلة وأنواع النقص ، فإذا نظم كلمة خفي عنه العلل التي ذكرنا.
وقال الزمخشري : { ولا يأتون } جواب قسم محذوف ، ولولا اللام الموطئة لجاز أن تكون جواباً للشرط.
كقوله :
يقول لا غائب مالي ولا حرم . . .
لأن الشرط وقع ماضياً انتهى.
يعني بالشرط قوله وهو صدر البيت :
وإن أتاه خليل يوم مسأله . . .
فأتاه فعل ماض دخلت عليه أداة الشرط فخلصته للاستقبال ، وأفهم كلام الزمخشري أن يقول : وإن كان مرفوعاً هو جواب الشرط الذي هو وإن أتاه ، وهذا الذي ذهب إليه هو مخالف لمذهب سيبويه ولمذهب الكوفيين والمبرد ، لأن مذهب سيبويه في مثل هذا التركيب وهو أن يكون فعل الشرط ماضياً وبعده مضارع مرفوع أن ذلك المضارع هو على نية التقديم وجواب الشرط محذوف ، ومذهب الكوفيين والمبرد أنه الجواب لكنه على حذف الفاء ، ومذهب ثالث وهو أنه هو جواب الشرط وهو الذي قال به الزمخشري والكلام على هذه المذاهب مذكور في علم النحو.
وقال الزمخشري : والعجب من المذاهب ومن زعمهم أن القرآن قديم مع اعترافهم بأنه معجز ، وإنما يكون المعجز حيث تكون القدرة فيقال : الله قادر على خلق الأجسام والعباد عاجزون عنه ، والمحال الذي لا مجال للقدرة فيه ولا مدخل لها فيه كثاني القديم فلا يقال للفاعل قد عجز عنه ولا هو معجز ، ولو قيل ذلك لجاز وصف الله بالعجز لأنه لا يوصف بالقدرة على المحال إلاّ أن يكابروا فيقولوا : هو قادر على المحال فإن رأس مالهم المكابرة وقلب الحقائق انتهى.
وتكرر لفظ مثل في قوله : { لا يأتون بمثله } على سبيل التأكيد والتوضيح ، وأن المراد منهم { أن يأتوا } بمثله إذ قد يراد بمثل الشيء في موضع الشيء نفسه ، فبين بتكرار { بمثله } ولم يكن التركيب { لا يأتون } به رفعاً لهذا الاحتمال ، وأن المطلوب منهم أن يأتوا بالمثل لا أن يأتوا بالقرآن.
ولما ذكر تعالى عجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن نبه على فضله تعالى بما ردّد فيه وضرب من الأمثال والعبر التي تدل على توحيده تعالى ، ومع كثرة ما ردد من الأمثلة وأسبغ من النعم لم يكونوا إلاّ كافرين به وبنعمه.

وقرأ الجمهور : { صرّفنا } بتشديد الراء والحسن بتخفيفها ، والظاهر أن مفعول { صرّفنا } محذوف تقديره البينات والعبر و { من } لابتداء الغاية.
وقال ابن عطية : ويجوز أن تكون مؤكدة زائدة التقدير ولقد { صرّفنا } { كل مثل } انتهى.
يعني فيكون مفعول { صرّفنا } { كل مثل } وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين والأخفش لا على مذهب جمهور البصريين ، والظاهر أن المراد بالمثل هو القول الغريب السائر في الآفاق ، والقرآن ملآن من الأمثال التي ضربها الله تعالى.
وقال الزمخشري : { من كل مثل } من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه.
وقال أبو عبد الله الرازي : { من كل مثل } إشارة إلى التحدّي به بالجهات المختلفة كالتحدي بكل القرآن كالذي هنا ، وبسورة مثله وبكلام من سورة كقوله { فليأتوا بحديث مثله } ومع ظهور عجزهم أبوا { إلاّ كفوراً } انتهى ملخصاً.
وقيل : { من كل مثل } من الترغيب والترهيب وأنباء الأولين والآخرين وذكر الجنة والنار وأكثر الناس.
قيل : من كان في عهد الرسول من المشركين وأهل الكتاب.
وقيل : أهل مكة وهو الظاهر بدليل ما أتى بعده من قوله { وقالوا لن نؤمن لك } وتقدم القول في دخول { إلاّ } بعد { أبى } في سورة براءة.
وروي في مقالتهم هذه أخبار مطولة هي في كتب الحديث والسير ملخصها أن صناديد قريش اجتمعوا وسيروا للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلما جاء إليهم جرت بينهم محاورات في ترك دينهم وطلبه منهم أن يوحدوا ويعبدوا الله فأرغبوه بالمال والرئاسة والملك فأبى ، فقال : «لست أطلب ذلك».
فاقترحوا عليه الست الآيات التي ذكرها الله هنا ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما تحداهم بأن { يأتوا بمثل هذا القرآن } فتبين عجزهم عن ذلك وإعجازه ، وانضمت إليه معجزات أخر وبينات واضحة فلزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعللون باقتراح آيات فعل الحائر المبهوت المحجوج ، فقالوا ما حكاه الله عنهم.
وقرأ الكوفيون : { تفجره } من فجر مخففاً وباقي السبعة من فجر مشدداً ، والتضعيف للمبالغة لا للتعدية ، والأعمش وعبد الله بن مسلم بن يسار من أفجر رباعياً وهي لغة في فجر الأرض هنا أرض مكة وهي الأرض التي فيها تصرف العالمين ومعاشهم ، روي عنهم أنهم قالوا له : أزل جبال مكة وفجر لنا { ينبوعاً } حتى يسهل علينا الحرث والزرع وأحي لنا قصياً فإنه كان صدوقاً يخبرنا عن صدقك اقترحوا لهم أولاً هذه الآية ثم اقترحوا أخرى له عليه السلام أن { تكون } له { جنة من نخيل وعنب } وهما كانا الغالب على بلادهم ، ومن أعظم ما يقتنون ، ومعنى { خلالها } أي وسط تلك الجنة وأثناءها.
فتسقي ذلك النخل وتلك الكروم وانتصب { خلالها } على الظرف.
وقرأ الجمهور : { تسقط } بتاء الخطاب مضارع أسقط السماء نصباً ، ومجاهد بياء الغيبة مضارع سقط السماء رفعاً ، وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي { كسْفاً } بسكون السين وباقي السبعة بفتحها.

وقولهم { كما زعمت } إشارة إلى قوله تعالى { إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء } وقيل : { كما زعمت } إن ربك إن شاء فعل.
وقيل : هو ما في هذه السورة من قوله { أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو نرسل عليكم حاصباً } قال أبو عليّ { قبيلاً } معاينة كقوله { لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا } وقال غيره : { قبيلاً } كفيلاً من تقبله بكذا إذا كفله ، والقبيل والزعيم والكفيل بمعنى واحد.
وقال الزمخشري : { قبيلاً } كفيلاً بما تقول شاهداً لصحته ، والمعنى أو تأتي بالله { قبيلاً } والملائكة { قبيلاً } كقوله :
كنت منه ووالدي بريا . . .
وإني وقيار بها لغريب
أي مقابلاً كالعشير بمعنى المعاشر ونحوه { لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا } أو جماعة حالاً من الملائكة.
وقرأ الأعرج قبلاً م المقابلة.
وقرأ الجمهور : { من زخرف } وعبد الله من ذهب ، ولا تحمل على أنها قراءة لمخالفة السواد وإنما هي تفسير.
وقال مجاهد : كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيت في قراءة عبد الله من ذهب.
وقال الزجّاج : الزخرف الزينة وتقدم شرح الزخرف.
{ وفي السماء } على حذف مضاف ، أي في معارج السماء.
والظاهر أن { السماء } هنا هي المظلة.
وقيل : المراد إلى مكان عال وكل ما علا وارتفع يسمى سماء.
وقال الشاعر :
وقد يسمى سماء كل مرتفع . . .
وإنما الفضل حيث الشمس والقمر
قيل : وقائل هذه هو ابن أبي أمية قال : لن نؤمن حتى تضع على السماء سلماً ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك منشور معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أن الأمر كما تقول ، ويحتمل أن يكون مجموع أولئك الصناديد قالوا ذلك وغيوا إيمانهم بحصول واحد من هذه المقترحات ، ويحتمل أن يكون كل واحد اقترح واحداً منها ونسب ذلك للجميع لرضاهم به أو تكون { أو } فيها للتفضيل أي قال كل واحد منهم مقالة مخصوصة منها ، وما اكتفوا بالتغيية بالرقي { في السماء } حتى غيوا ذلك بأن ينزل عليهم { كتاباً } يقرؤونه ، ولما تضمن اقتراحهم ما هو مستحيل في حق الله تعالى وهو أن يأتي { بالله والملائكة قبيلاً } أمره تعالى بالتسبيح والتنزيه عما لا يليق به ، ومن أن يقترح عليه ما ذكرتم فقال { سبحان ربي هل كنت إلاّ بشراً رسولاً } أي ما كنت إلاّ بشراً رسولاً أي من الله إليكم لا مقترحاً عليه ما ذكرتم من الآيات.
وقال الزمخشري : وما كانوا يقصدون بهذه الاقتراحات إلاّ العناد واللجاج ، ولو جاءتهم كل آية لقالوا هذا سحر كما قال عز وعلا { ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس } { ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون } وحين أنكروا.
الآية الباقية التي هي القرآن وسائر الآيات ، وليست بدون ما اقترحوه بل هي أعظم لم يكن انتهى وشق القمر أعظم من شق الأرض ونبع الماء من بين أصابعه أعظم من نبع الماء من الحجر.
وقرأ ابن كثير وابن عامر قال { سبحان ربي } على الخبر تعجب عليه الصلاة والسلام من اقتراحاتهم عليه ، ونزه ربه عما جوزوا عليه من الإتيان والانتقال وذلك في حق الله مستحيل { هل كنت إلاّ بشراً } مثلهم { رسولاً } ، والرسل لا تأتي إلاّ بما يظهره الله عليهم من الآيات وليس أمرها إليهم إنما ذلك إلى الله.

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)

الظاهر أن قوله : { وما منع الناس } إخبار من الله تعالى عن السبب الضعيف الذي منعهم من الإيمان ، إذ ظهر لهم المعجز وهو استبعاد أن يبعث الله رسولاً إلى الخلق واحداً منهم ولم يكن ملكاً ، وبعد أن ظهر المعجز فيجب الإقرار والاعتراف برسالته فقولهم : لا بد أن يكون من الملائكة تحكم فاسد ، ويظهر من كلام ابن عطية أن قوله { وما منع الناس } هو من قول الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذه الآية على معنى التوبيخ والتلهف من النبيّ عليه الصلاة والسلام كأنه يقول متعجباً منهم ما شاء الله كان { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلاّ } هذه العلة النزرة والاستبعاد الذي لا يسند إلى حجة ، وبعثة البشر رسلاً غير بدع ولا غريب فيها يقع الإفهام والتمكن من النظر كما لو كان في الأرض ملائكة يسكنونها مطمئنين لكان الرسول إليهم من الملائكة ليقع الإفهام ، وأما البشر فلو بعث إليهم ملك لنفرت طبائعهم من رؤيته ولم تحتمله أبصارهم ولا تجلدت له قلوبهم ، وإنما الله أجرى أحوالهم على معتادها انتهى.
و { أن يؤمنوا } في موضع نصب و { أن قالوا } : في موضع رفع ، و { إذ } ظرف العامل فيه منع والناس كفار قريش القائلون تلك المقالات السابقة و { الهدى } هو القرآن ومن جاء به ، وليس المراد مجرد القول بل قولهم الناشىء عن اعتقاد والهمزة في { أبعث } للإنكار و { رسولاً } ظاهره أنه نعت ، ويجوز أن يكون { رسولاً } مفعول بعث ، و { بشراً } حال متقدمة عليه أي { أبعث الله رسولاً } في حال كونه { بشراً } ، وكذلك يجوز في قوله { ملكاً رسولاً } أي { لنزلنا عليهم من السماء } { رسولاً } في حال كونه { ملكاً }.
وقوله { يمشون } يتصرفون فيها بالمشي وليس لهم صعود إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويعلمون ما يجب علمه ، بل هم مقيمون في الأرض يلزمهم ما يلزم المكلفين من عبادات مخصوصة وأحكام لا يدرك تفصيلها بالعقل ، { لنزلنا عليهم } من جنسهم من يعلمهم ذلك ويلقيه إليهم.
ولما دعاهم صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان وتحدى على صدق نبوته بالمعجز الموافق لداعوه ، أمره تعالى أن يعلمهم بأنه تعالى هو الشهيد بينه وبينهم على تبليغه وما قام به من أعباء الرسالة وعدم قبولهم وكفرهم ، وما اقترحوا عليه من الآيات على سبيل العناد ، وأردف ذلك بما فيه تهديد وهو قوله { إنه كان بعباده خبيراً } بخفيات أسرارهم { بصيراً } مطلقاً على ما يظهر من أفعالهم وأقوالهم.
والظاهر أن قوله : { ومن يهد الله } إخبار من الله تعالى وليس مندرجاً تحت { قل } لقوله { ونحشرهم } ويحتمل أن يكون مندرجاً لمجيء { ومن } بالواو ، ويكون { ونحشرهم } إخباراً من الله تعالى.
وعلى القول الأول يكون التفاتاً إذ خرج من الغيبة للتكلم ، ولما تقدم دعوة الرسول إلى الإيمان وتحدى بالمعجز الذي آتاه الله ، ولجوّا في كفرهم وعنادهم ولم يجد فيهم ما جاء به من الهدى أخبر بأن ذلك كله راجع إلى مشيئته تعالى وأنه هو الهادي وهو المفضل ، فسلاه تعالى بذلك وأخبر تعالى على سبيل التهديد لهم والوعيد الصدق لحالهم وقت حشرهم يوم القيامة.

وقال الزمخشري : { ومن يهد الله } ومن يوفقه ويلطف به { فهو المهتدي } لأنه لا يلطف إلاّ بمن عرف أن اللطف ينفع فيه { ومن يضلل } ومن يخذل { فلن تجد لهم أولياء } أنصاراً انتهى.
وهو على طريقة الأعتزال ومن مفعول بيهد وبيضلل ، وحمل على اللفظ في قوله { فهو المهتدي } فأفرد ملاحظة لسبيل الهدى وهي واحدة فناسب التوحيد التوحيد ، وحمل على المعنى في قوله { فلن تجد لهم أولياء } لا على اللفظ ملاحظة لسبيل الضلال فإنها متشعبة متعددة فناسب التشعيب والتعديد الجمع ، وهذا من المواضع التي جاء فيها الحمل على المعنى ابتداءً من غير أن يتقدّم الحمل على اللفظ وهي قليلة في القرآن ، والظاهر أن قوله { على وجوههم } حقيقة كما قال تعالى { يوم يسحبون في النار على وجوههم } الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم.
وفي هذا حديث قيل : " يا رسول الله كيف يمشي الكافر على وجهه؟ قال : «أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجلين قادراً أن يمشيه في الآخرة على وجهه» " قال قتادة : بلى وعزة ربنا.
وقيل : { على وجوههم } مجاز يقال للمنصرف عن أمر خائباً مهموماً انصرف على وجهه ، ويقال للبعير كأنما يمشي على وجهه.
وقيل : هو مجاز عن سحبهم على وجوههم على سرعة من قول العرب قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا.
والظاهر أن قوله { عمياً وبكماً وصماً } هو حقيقة وذلك عند قيامهم من قبورهم ، ثم يرد الله إليهم أبصارهم وسمعهم ونطقهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله عنهم.
وقيل : هي استعارات إما لأنهم من الحيرة والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات ، وإما من حيث لا يرون ما يسرهم ولا يسمعونه ولا ينطقون بحجة.
وقال الزمخشري : كما كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ويتصامّون عن سماعه فهم في الآخرة كذلك لا يبصرون ما يقرّ أعينهم ولا يسمعون ما يلذ أسماعهم ولا ينطقون بما يقبل منهم ، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى انتهى.
وهذا قول ابن عباس والحسن قالا المعنى { عمياً } عما يسرهم ، { بكماً } عن التكلم بحجة { صماً } عما ينفعهم.
وقيل : { عمياً } عن النظر إلى ما جعل الله لأوليائه ، { بكماً } عن مخاطبة الله ، { صماً } عما مدح الله به أولياءه ، وانتصب { عمياً } وما بعده على الحال والعامل فيها { نحشرهم }.
وقيل : يحصل لهم ذلك حقيقة عند قوله { قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون } فعلى هذا تكون حالاً مقدرة لأن ذلك لم يكن مقارناً لهم وقت الحشر.

{ كلما خبت } قال ابن عباس : كلما فرغت من إحراقهم فيسكن اللهيب القائم عليهم قدر ما يعادون ثم يثور فتلك زيادة السعير ، فالزيادة في حيزهم ، وأما جهنم فعلى حالها من الشدّة لا يصيبها فتور ، فعلى هذا يكون { خبت } مجازاً عن سكون لهبها مقدار ما تكون إعادتهم كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها ثم يعيدها ، لا يزالون على الإفناء والإعادة ليزيد ذلك في تحسيرهم على تكذيبهم ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد ، وقد دل على ذلك بقوله { ذلك جزاؤهم } والإشارة بذلك إلى ما تقدم من حشرهم على تلك الحال وصيرورتهم إلى جهنم والعذاب فيها ، والآيات تعم القرآن والحجج التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم ونص على إنكار البعث إذ هو طعن في القدرة الإلهية وهذا مع اعترافهم بأنه تعالى منشىء العالم ومخترعه ، ثم إنهم ينكرون الإعادة فصار ذلك تعجيزاً لقدرته.
وتقدم الكلام على قوله { وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً } في هذه السورة فأغنى عن إعادته ، ولما أنكروا البعث نبههم تعالى على عظيم قدرته وباهر حكمته فقال : { أو لم يروا } وهو استفهام إنكار وتوبيخ لهم على ما كانوا يستبعدونه من الإعادة ، واحتجاج عليهم بأنهم قد رأوا قدرة الله على خلق هذه الأجرام العظيمة التي بعض ما تحويه البشر ، فكيف يقرون بخلق هذا المخلوق العظيم ثم ينكرون إعادة بعض مما حله وذلك مما لا يحيله العقل بل هو مما يجوزه ، ثم أخبر الصادق بوقوعه فوجب قبوله والرؤية هنا رؤية القلب وهي العلم ، ومعنى { مثلهم } من الإنس لأنهم ليسوا أشد خلقاً منهن كما قال { أأنتم أشد خلقاً أم السماء } وإذا كان قادراً على إنشاء أمثالهم من الإنس من العدم الصرف فهو قادر على أن يعيدهم كما قال { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده } وهو أهون عليه.
وعطف قوله { وجعل لهم } على قوله { أو لم يروا } لأنه استفهام تضمن التقرير والمعنى قد علموا بدليل العقل كيت وكيت { وجعل لهم } أي للعالمين ذلك { أجلاً لا ريب فيه } وهو الموت أو القيامة ، وليس هذا الجعل واحداً في الاستفهام المتضمن التقرير ، أو إن كان الأجل القيامة لأنهم منكروها وإذا كان الأجل الموت فهو اسم جنس واقع موقع آجال : { فأبى الظالمون } وهم الواضعون الشيء غير موضعه على سبيل الاعتداء { إلاّ كفوراً } جحوداً لما أتى به الصادق من توحيد الله وإفراده بالعبادة ، وبعثهم يوم القيامة للجزاء.

قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)

مناسبة قوله { قل لو أنتم تملكون خزائن } الآية أن المشركين قالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً.
فطلبوا إجراء الأنهار والعيون في بلدهم لتكثر أقواتهم وتتسع عليهم ، فبين تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله لبقوا على بخلهم وشحهم ، ولما قدموا على إيصال النفع لأحد ، وعلى هذا فلا فائدة في إسعافهم بما طلبوا هذا ما قيل في ارتباط هذه الآية.
وقاله العسكري : والذي يظهر لي أن المناسب هو أنه عليه السلام قد منحه الله ما لم يمنحه لأحد من النبوة والرسالة إلى الإنس والجن ، فهو أحرص الناس على إيصال الخير وإنقاذهم من الضلال يثابر على ذلك ويخاطر بنفسه في دعائهم إلى الله ، ويعرض ذلك على القبائل وأحياء العرب سمحاً بذلك لا يطلب منهم أجراً ، وهؤلاء أقرباؤه لا يكاد يجيب منهم أحد إلاّ الواحد بعد الواحد قد لجوا في عناده وبغضائه ، فلا يصل منهم إليه إلاّ الأذى ، فنبه تعالى بهذه الآية على سماحته عليه السلام وبذله ما آتاه الله ، وعلى امتناع هؤلاء أن يصل منهم شيء من الخير إليه فقال : لو ملكوا التصرف في { خزائن رحمة } الله التي هي وسعت كل شيء كانوا أبخل من كل أحد بما أوتوه من ذلك بحيث لا يصل منهم لأحد شيء من النفع إذ طبيعتهم الإقتار وهو الإمساك عن التوسع في النفقة ، هذا مع ما أوتوه من الخزائن ، فهذه الآية جاءت مبينة تبين ما بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام من حرصه على نفعهم وعدم إيصال شيء من الخير منهم إليه ، والمستقرأ في { لو } التي هي حرف لما كان سيقع لوقوع غيره أن يليها الفعل إما ماضياً وإما مضارعاً.
كقوله { لو نشاء لجعلناه حطاماً } أو منفياً بلم أو أن وهنا في قوله { قل لو أنتم تملكون } وليها الاسم فاختلفوا في تخريجه ، فذهب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء وغيرهم إلى أنه مرفوع بفعل محذوف يفسره الفعل بعده ، ولما حذف ذلك الفعل وهو تملك انفصل الضمير وهو الفاعل بتملك كقوله :.
وإن هو لم يحمل على النفس ضميها . . .
التقدير وإن لم يحمل فحذف لم يحمل وانفصل الضمير المستكن في يحمل فصار هو ، وهنا انفصل الضمير المتصل البارز وهو الواو فصار { أنتم } ، وهذا التخريج بناء على أن { لو } يليها الفعل ظاهراً ومضمراً في فصيح الكلام ، وهذا ليس بمذهب البصريين.
قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور : لا تلي لو إلاّ الفعل ظاهر أو لا يليها مضمراً إلاّ في ضرورة أو نادر كلام مثل : ما جاء في المثل من قولهم :
لو ذات سوار لطمتني . . .
وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الصائغ : البصريون يصرحون بامتناع لو زيد قام لأكرمته على الفصيح ، ويجيزونه شاذاً كقولهم :

لو ذات سوار لطمتني . . .
وهو عندهم على فعل مضمر كقوله تعالى { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره } فهو من باب الاشتغال انتهى.
وخرّج ذلك أبو الحسن عليّ بن فضال المجاشعي على إضمار كان ، والتقدير { قل لو } كنتم { أنتم } تملكون فظاهر هذا التخريج أنه حذف كنتم برمته وبقي { أنتم } توكيداً لذلك الضمير المحذوف مع الفعل ، وذهب شيخنا الأستاذ أبو الحسن الصائغ إلى حذف كان فانفصل اسمها الذي كان متصلاً بها ، والتقدير { قل لو } كنتم { تملكون } فلما حذف الفعل انفصل المرفوع ، وهذا التخريج أحسن لأن حذف كان بعد { لو } معهود في لسان العرب ، والرحمة هنا الرزق وسائر نعمه على خلقه.
والكلام على { إذاً لأمسكتم } تقدم نظيره في قوله { إذاً لأذقناك } و { خشية } مفعول من أجله ، والظاهر أن { الإنفاق } على مشهور مدلوله فيكون على حذف مضاف ، أي { خشية } عاقبة { الإنفاق } وهو النفاد.
وقال أبو عبيدة : أنفق وأملق وأعدم وأصرم بمعنى واحد ، فيكون المعنى خشية الافتقار.
والقتور الممسك البخيل { والإنسان } هنا للجنس.
ولما حكى الله تعالى عن قريش ما حكى من تعنتهم في اقتراحهم وعنادهم للرسول صلى الله عليه وسلم سلاه تعالى بما جرى لموسى مع فرعون ومع قومه من قولهم { أرنا الله جهرة } إذ قالت قريش { أو تأتي بالله } وقالت { أو نرى ربنا } وسكن قلبه ونبه على أن عاقبتهم للدمار والهلاك كما جرى لفرعون إذ أهلكه الله ومن معه.
و { تسع آيات } قال ابن عباس وجماعة من الصحابة : هي اليد البيضاء ، والعصا ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم هذه سبع باتفاق ، وأما الثنتان فعن ابن عباس لسانه كان به عقد فحلها الله ، والبحر الذي فلق له.
وعنه أيضاً البحر والجبل الذي نتق عليهم.
وعنه أيضاً السنون ونقص من الثمرات وقاله مجاهد والشعبي وعكرمة وقتادة.
وقال الحسن : السنون ونقص الثمرات آية واحدة ، وعن الحسن ووهب البحر والموت أرسل عليهم.
وعن ابن جبير الحجر والبحر.
وعن محمد بن كعب : البحر والسنون.
وقيل : { تسع آيات } هي من الكتاب ، وذلك أن يهودياً قال لصاحبه : تعالى حتى نسأل هذا النبيّ فقال الآخر لا تقل إنه نبيّ فإنه لو سمع كلامك صارت له أربعة أعين ، فأتياه وسألاه عن { تسع آيات بينات } فقال : لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله ، ولا تسخروا ، ولا تقذفوا المحصنات ، ولا تفروا من الزحف ، وعليكم خاصة يهود أن لا تعتدوا في السبت ، قال : فقبلا يده وقالا : نشهد أنك نبيّ فقال : ما منعكما أن تسلما؟ قالا : إن داود دعا الله أن لا يزال في ذريته نبيّ وإنّا نخاف إن أسلمنا تقتلنا اليهود.
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.
وقرأ الجمهور : فسل { بني إسرائيل } وبنو إسرائيل معاصروه ، وفسل معمول لقول محذوف أي فقلنا سل ، والظاهر أنه خطاب للرسول محمد صلى الله عليه وسلم أمره أن يسألهم عما أعلمه به من غيب القصة.

ثم قال : { إذ جاءهم } يريد آباءهم وأدخلهم في الضمير إذ هم منهم.
وقال الزمخشري : سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم ، أو سلهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك.
ويدل عليه قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فسأل { بني إسرائيل } على لفظ الماضي بغير همز وهي لغة قريش.
وقيل : فسل يا رسول الله المؤمنين من بني إسرائيل وهم عبد الله بن سلام وأصحابه عن الآيات لتزداد يقيناً وطمأنينة قلب ، لأن الدلالة إذا تظافرت كان ذلك أقوى وأثبت كقول إبراهيم عليه السلام { ولكن ليطمئن قلبي } انتهى.
وهذا القول هو الأول وهو ما أعلمه به من غيب القصة.
ولما كان متعلق السؤال محذوفاً احتمل هذه التقديرات ، والظاهر أن الأمر بالسؤال لبني إسرائيل هو حقيقة.
وقال ابن عطية ما معناه : يحتمل أن يكون السؤال عبارة عن تطلب أخبارهم والنظر في أحوالهم وما في كتبهم.
نحو قوله { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } جعل النظر والتطلب معبراً عنه بالسؤال ، ولذلك قال الحسن : سؤالك إياهم نظرك في القرآن ، والظاهر أن { إذ } معمولة لآتينا أي { آتينا } حين جاء أتاهم.
وقال الزمخشري : فإن قلت : بم نعلق { إذ جاءهم } ؟ قلت : أما على الوجه الأول فبالقول المحذوف أي فقلنا له سلهم حين جاءهم ، وأما على الآخر فبآتينا أو بإضمار اذكر أو يخبرونك انتهى.
ولا يتأتى تعلقه باذكر ولا بيخبرونك لأنه ظرف ماض.
وقراءة فسأل مروية عن ابن عباس.
قال ابن عباس : كلام محذوف وتقديره فسأل موسى فرعون بني إسرائيل أي طلبهم لينجيهم من العذاب انتهى.
وعلى قراءة فسل يكون التقدير فقلنا له سل { بني إسرائيل } أي سل فرعون إطلاق بني إسرائيل.
وقال أبو عبد الله الرازي : فسل { بني إسرائيل } اعتراض في الكلام والتقدير ، { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } إذ جاء { بني إسرائيل } فسلهم وليس المطلوب من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم ، بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود صدق ما ذكره الرسول عليه السلام ، فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد انتهى.
وعلى قراءة فسأل ماضياً وقدره فسأل فرعون { بني إسرائيل } يكون المفعول الأول لسأل محذوفاً ، والثاني هو { بني إسرائيل } وجاز أن يكون من الأعمال لأنه توارد على فرعون سأل وفقال فأعمل ، الثاني على ما هو أرجح.
والظاهر أن قوله { مسحوراً } اسم مفعول أي قد سحرت بكلامك هذا مختل وما يأتي به غير مستقيم وهذا خطاب بنقيض.
وقال الفراء والطبري : مفعول بمعنى فاعل أي ساحراً ، فهذه العجائب التي يأتي بها من أمر السحر ، وقالوا : مفعول بمعنى فاعل مشؤوم وميمون وإنما هو شائم ويامن.
وقرأ الجمهور : { لقد علمت } بفتح التاء على خطاب موسى لفرعون وتبكيته في قوله عنه أنه مسحور أي لقد علمت أن ما جئت به ليس من باب السحر ، ولا أني خدعت في عقلي ، بل علمت أنه ما أنزلها إلاّ الله ، وما أحسن ما جاء به من إسناد إنزالها إلى لفظ { رب السموات والأرض } إذ هو لما سأله فرعون في أول محاورته فقال له : وما رب العالمين قال : { رب السموات والأرض } ينبهه على نقصه وأنه لا تصرّف له في الوجود فدعواه الربوبية دعوى استحالة ، فبكتَّه وأعلمه أنه يعلم آيات الله ومن أنزلها ولكنه مكابر معاند كقوله

{ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً } وخاطبه بذلك على سبيل التوبيخ أي أنت بحال من يعلم هذا وهي من الوضوح بحيث تعلمها وليس خطابه على جهة إخباره عن علمه.
وقرأ عليّ بن أبي طالب وزيد بن عليّ والكسائي { علمت } بضم التاء أخبر موسى عن نفسه أنه ليس بمسحور كما وصفه فرعون ، بل هو يعلم أن { ما أنزل هؤلاء } الآيات إلاّ الله.
وروي عن عليّ أنه قال : ما علم عدوّ الله قط وإنما علم موسى ، وهذا القول عن عليّ لا يصح لأنه رواه كلثوم المرادي وهو مجهول ، وكيف يصح هذا القول وقراءة الجماعة بالفتح على خطاب فرعون.
و { ما أنزل } جملة في موضع نصب علق عنها { علمت }.
ومعنى { بصائر } دلالات على وحدانية الله وصدق رسوله والإشارة بهؤلاء إلى الآيات التسع.
وانتصب { بصائر } على الحال في قول ابن عطية والحوفي وأبي البقاء ، وقالا : حال من { هؤلاء } وهذا لا يصح إلاّ على مذهب الكسائي والأخفش لأنهما يجيزان ما ضرب هنداً هذا إلاّ زيد ضاحكة.
ومذهب الجمهور أنه لا يجوز فإن ورد ما ظاهره ذلك أول على إضمار فعل يدل عليه ما قبله التقدير ضربها ضاحكة ، وكذلك يقدرون هنا أنزلها { بصائر } وعند هؤلاء لا يعمل ما قبل إلاّ فيما بعدها إلاّ أن يكون مستثنى منه أو تابعاً له.
وقابل موسى ظنه بظن فرعون فقال : { وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً } وشتان ما بين الظنين ظن فرعون ظن باطل ، وظن موسى ظن صدق ، ولذلك آلَ أمر فرعون إلى الهلاك كان أولاً موسى عليه السلام يتوقع من فرعون أذى كما قال { إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى } فأمر أن يقول له قولاً ليناً فلما قال له الله : لا تخف وثق بحماية الله ، فصال على فرعون صولة المحمي.
وقابله من الكلام بما لم يكن ليقابله به قبل ذلك.
ومثبور مهلك في قول الحسن ومجاهد ، وملعون في قول ابن عباس ، وناقص العقل فيما روى ميمون بن مهران ، ومسحور في قول الضحاك قال : رد عليه مثل ما قال له فرعون مع اختلاف اللفظ ، وعن الفراء مثبور مصروف عن الخير مطبوع على قلبك من قولهم : ما ثبرك عن هذا؟ أي ما منعك وصرفك.
وقرأ أبيّ وإن أخالك يا فرعون لمثبوراً وهي أن الخفيفة ، واللام الفارقة واستفزازه إياهم هو استخفافه لموسى ولقومه بأن يقلعهم من أرض مصر بقتل أو جلاء ، فحاق به مكره وأغرقه الله وقبطه أراد أن تخلو أرض مصر منهم فأخلاها الله منه.
ومن قومه والضمير في { من بعده } عائد على فرعون أي من بعد إغراقه ، و { الأرض } المأمور بسكناها أرض الشام ، والظاهر أن يكون الأمر بذلك حقيقة على لسان موسى عليه السلام ووعد الآخرة قيام الساعة.

وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)

{ وبالحق أنزلناه } هو مردود على قوله { لئن اجتمعت الإنس والجن } الآية وهكذا طريقة كلام العرب وأسلوبها تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى شيء آخر ثم إلى آخر ثم تعود إلى ما ذكرته أولاً ، وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في { أنزلناه } عائد على موسى عليه السلام وجعل منزلاً كما قال { وأنزلنا الحديد } أو عائد على الآيات التسع ، وذكر على المعنى أو عائد على الوعد المذكور قبله.
وقال أبو سليمان الدمشقي { وبالحق أنزلناه } أي بالتوحيد ، { وبالحق نزل } أي بالوعد والوعيد والأمر والنهي.
وقال الزهراوي : بالواجب الذي هو المصلحة والسداد للناس ، { وبالحق نزل } أي بالحق في أوامره ونواهيه وأخباره.
وقال الزمخشري : وما أنزلنا القرآن إلاّ بالحكمة المقتضية لإنزاله وما نزل إلاّ ملتبساً بالحق والحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير ، وما أنزلناه من السماء إلاّ بالحق محفوظاً بالرصد من الملائكة ، وما نزل على الرسول إلاّ محفوظاً بهم من تخليط الشياطين انتهى.
وقد يكون { وبالحق نزل } توكيداً من حيث المعنى لما كان يقال أنزلته فنزل ، وأنزلته فلم ينزل إذا عرض له مانع من نزوله جاء ، { وبالحق نزل } مزيلاً لهذا الاحتمال ومؤكداً حقيقة ، { وبالحق نزل } وإلى معنى التأكيد نحا الطبري.
وانتصب { مبشراً ونذيراً } على الحال أي { مبشراً } لهم بالجنة ومنذراً من النار ليس لك شيء من إكراههم على الدين.
وقرأ الجمهور : { فرقناه } بتخفيف الراء أي بيَّنا حلاله وحرامه قاله ابن عباس ، وعن الحسن فرقنا فيه بين الحق والباطل.
وقال الفراء : أحكمناه وفصلناه كقوله { فيها يفرق كل أمر حكيم } وقرأ أبيّ وعبد الله وعليّ وابن عباس وأبو رجاء وقتادة والشعبي وحميد وعمرو بن قائد وزيد بن عليّ وعمرو بن ذر وعكرمة والحسن بخلاف عنه بشد الراء أي { أنزلناه } نجماً بعد نجم.
وفصلناه في النجوم.
وقال بعض من اختار ذلك : لم ينزل في يوم ولا يومين ولا شهر ولا شهرين ولا سنة ولا سنتين.
قال ابن عباس : كان بين أوله وآخره عشرون سنة ، هكذا قال الزمخشري عن ابن عباس.
وحكي عن ابن عباس في ثلاث وعشرين سنة.
وقيل : في خمس وعشرين ، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف في سنه عليه السلام ، وعن الحسن نزل في ثمانية عشر سنة.
قال ابن عطية : وهذا قول مختل لا يصح عن الحسن.
وقيل معنى : { فرّقناه } بالتشديد فرقنا آياته بين أمر ونهي ، وحكم وأحكام ، ومواعظ وأمثال ، وقصص وأخبار مغيبات أتت وتأتي.
وانتصب { قرآناً } على إضمار فعل يفسره { فرقناه } أي وفرقنا { قرآناً فرقناه } فهو من باب الاشتغال وحسن النصب ، ورجحه على الرفع كونه عطفاً على جملة فعلية وهي قوله { وما أرسلناك }.
ولا بد من تقدير صفة لقوله { وقرآناً } حتى يصح كونه كان يجوز فيه الابتداء لأنه نكرة لا مسوغ لها في الظاهر للابتداء بها ، والتقدير { وقرآناً } أي قرآن أي عظيماً جليلاً ، وعلى أنه منصوب بإضمار فعل يفسره الظاهر بعده خرّجه الحوفي والزمخشري.

وقال ابن عطية وهو مذهب سيبويه.
وقال الفراء : هو منصوب بأرسلناك أي { ما أرسلناك إلاّ مبشراً ونذيراً وقرآناً } كما تقول رحمة لأن القرآن رحمة وهذا إعراب متكلف وأكثر تكلفاً منه قول ابن عطية ، ويصح أن يكون معطوفاً على الكاف في { أرسلناك } من حيث كان إرسال هذا وإنزال هذا المعنى واحد.
وقرأ أُبيّ وعبد الله { فرّقناه } عليك بزيادة عليك و { لتقرأه } متعلق بفرقناه ، والظاهر تعلق على مكث بقوله { لتقرأه } ولا يبالي بكون الفعل يتعلق به حرفاً جر من جنس واحد لأنه اختلف معنى الحرفين الأول في موضع المفعول به ، والثاني في موضع الحال أي متمهلاً مترسلاً.
قال ابن عباس ومجاهد وابن جريج : { على مكث } على ترسل في التلاوة.
وقيل : { على مكث } أي تطاول في المدة شيئاً بعد شيء.
وقال الحوفي : { على مكث } بدل من { على الناس } وهذا لا يصح لأن قوله { على مكث } هو من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القارىء ، أو صفات المقروء في المعنى وليس من صفات الناس فيكون بدلاً منهم.
وقيل يتعلق { على مكث } بقوله { فرقناه } ويقال مكث بضم الميم وفتحها وكسرها.
وقال ابن عطية : وأجمع القراء على ضم الميم من { مكث }.
وقال الحوفي : والمكث بالضم والفتح لغتان ، وقد قرىء بهما وفيه لغة أخرى كسر الميم.
{ ونزلناه تنزيلاً } على حسب الحوادث من الأقوال والأفعال.
{ قل آمنوا به أو لا تؤمنوا } يتضمن الإعراض عنهم والاحتقار لهم والازدراء بهم وعدم الاكثرات بهم وبإيمانهم وبامتناعهم منه ، وأنهم لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك ، فإن خيراً منهم وأفضل هم العلماء الذي قرؤوا الكتاب وعلموا ما الوحي وما الشرائع ، قد آمنوا به وصدقوه وثبت عندهم أنه النبيّ العربي الموعود في كتبهم ، فإذا تُلي عليهم خروا { سُجَّدًا } وسبحواً الله تعظيماً لوعده ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة وبشر به من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه ، وهو المراد بالوعد في قوله { إن كان وعد ربنا لمفعولاً }.
و { إن الذين أوتوا العلم من قبله } يجوز أن يكون تعليلاً لقوله { آمنوا به أو لا تؤمنوا } أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منكم ، وأن يكون تعليلاً لقل على سبيل التسلية كأنه قيل { قل } عن إيمان الجاهلية بإيمان العلماء انتهى من كلام الزمخشري ، وفيه بعض تلخيص.
وقال غيره : { قل آمنوا } الآية تحقير للكفار ، وفي ضمنه ضرب من التوعد والمعنى أنكم لستم بحجة فسواء علينا أأمنتم أم كفرتم وإنما ضرر ذلك على أنفسكم ، وإنما الحجة أهل العلم انتهى.

والظاهر أن الضمير في { قل آمنوا به } عائد على القرآن ، و { الذين أوتوا العلم } هم مؤمنو أهل الكتاب.
وقيل : ورقة بن نوفل ، وزيد بن عمرو بن نفيل ومَن جري مجراهما ، فإنهما كانا ممن أوتي العلم واطّلعاً على التوراة والإنجيل ووجدا فيهما صفته عليه الصلاة والسلام.
وقيل : هم جماعة من أهل الكتاب جلسوا وهم على دينهم ، فتذكروا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه.
وقرىء عليهم منه شيء فخشعوا وسجدوا لله وقالوا : هذا وقت نبوّة المذكور في التوراة وهذه صفته ، ووعد الله به واقع لا محالة ، وجنحوا إلى الإسلام هذا الجنوح فنزلت هذه الآية فيهم.
وقيل : المراد بالذين { أوتوا العلم من قبله } هو محمد صلى الله عليه وسلم ، والظاهر أن الضمير في { من قبله } عائد على القرآن كما عاد عليه في قوله : { به } ويدل عليه ما قبله وما بعده.
وقيل الضمير إن في { به } وفي { من قبله } عائدان على الرسول عليه الصلاة والسلام.
واستأنف ذكر القرآن في قوله { إذا يتلى عليهم } والظاهر في قوله { إذا يتلى عليهم } أن الضمير في { يتلى } عائد على القرآن.
وقيل : هو عائد على التوراة وما فيها من تصديق القرآن ومعرفة النبيّ عليه الصلاة والسلام ، والخرور هو السقوط بسرعة ، ومنه { فخر عليهم السقف } وانتصب { سجداً } على الحال ، والسجود وهو وضع الجبهة على الأرض هو غاية الخرور ونهاية الخضوع ، وأول ما يلقي الأرض حالة السجود الذقن ، أو عبر عن الوجوه بالأذقان كما يعبر عن كل شيء ببعض ما يلاقيه.
وقال الشاعر :
فخروا الأذقان الوجوه تنوشهم . . .
سباع من الطير العوادي وتنتف
وقيل : أريد حقيقة الأذقان لأن ذلك غاية التواضع وكان سجودهم كذلك.
وقال ابن عباس : المعنى للوجوه.
وقال الزمخشري : فإن قلت : حرف الاستعلاء ظاهر المعنى إذا قلت خر على وجهه وعلى ذقنه فما معنى اللام في خر لذقنه؟ قال :
فخر صريعاً لليدين وللفم . . .
قلت : معناه جعل ذقنه ووجهه للخرور ، واختصه به لأن اللام للاختصاص انتهى.
وقيل : اللام بمعنى على و { سبحان ربنا } نزهوا الله عما نسبته إليه كفار قريش وغيرهم من أنه لا يرسل البشر رسلاً وأنه لا يعيدهم للجزاء ، وأن هنا المخففة من الثقيلة المعنى أن ما وعد به من إرسال محمد عليه الصلاة والسلام وإنزال القرآن عليه قد فعله وأنجزه ، ونكر الخرور لاختلاف حالي السجود والبكاء ، وجاء التعبير عن الحالة الأولى بالاسم وعن الحالة الثانية بالفعل لأن الفعل مشعر بالتجدد ، وذلك أن البكاء ناشىء عن التفكر فهم دائماً في فكرة وتذكر ، فناسب ذكر الفعل إذ هو مشعر بالتجدد ، ولما كانت حالة السجود ليست تتجدد في كل وقت عبر فيها بالاسم.
{ ويزيدهم } أي ما تُلي عليهم { خشوعاً } أي تواضعاً.
وقال عبد الأعلى التيمي : من أوتي من العلم ما لا يبكيه خليق أن لا يكون أوتي علماً ينفعه لأن تعالى نعت العلماء فقال : { إن الذين أوتوا العلم } الآية.
وقال ابن عطية : ويتوجه في هذه الآية معنى آخر ، وهو أن يكون قوله { قل آمنوا به أو لا تؤمنوا } مخلصاً للوعيد دون التحقير ، المعنى فسترون ما تجازون به ، ثم ضرب لهم المثل على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب أي إن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر بل كان الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة في الجملة إذا يتُلى عليهم ما نزل عليهم خشعوا وآمنوا انتهى.
وقد تقدمت الإشارة إلى طرف من هذا.

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)

قال ابن عباس : تهجد الرسول صلى الله عليه وسلم ذات ليلة بمكة فجعل يقول في سجوده : «يا رحمن يا رحيم».
فقال المشركون : كان محمد يدعو إلهاً واحداً فهو الآن يدعو إلهين اثنين الله والرحمن ، ما الرحمن إلاّ رحمن اليمامة يعنون مسيلمة فنزلت قاله في التحرير.
ونقل ابن عطية نحواً منه عن مكحول.
وقال عن ابن عباس : سمعه المشركون يدعو يا الله يا رحمن ، فقالوا : كان يدعو إلهاً واحداً وهو يدعو إلهين فنزلت.
وقال ميمون بن مهران : كان عليه السلام يكتب : باسمك اللهم حتى نزلت إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فكتبها فقال مشركوا العرب : هذا الرحيم نعرفه ، فما الرحمن؟ فنزلت : وقال الضحاك : قال أهل الكتاب للرسول صلى الله عليه وسلم : إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم ، فنزلت لما لجوّا في إنكار القرآن أن يكون الله نزله على رسوله عليه السلام وعجزوا عن معارضته ، وكان عليه الصلاة والسلام قد جاءهم بتوحيد الله والرفض لآلهتهم عدلوا إلى رميه عليه الصلاة والسلام بأن ما نهاهم عنه رجع هو إليه ، فردّ الله تعالى عليهم بقوله { قل ادعوا الله } الآية.
والظاهر من أسباب النزول أن الدعاء هنا قوله يا رحمن يا رحيم أو يا الله يا رحمن من الدعاء بمعنى النداء ، والمعنى : إن دعوتم الله فهو اسمه وإن دعوتم الرحمن فهو صفته.
قال الزمخشري : والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء وهو يتعدّى إلى مفعولين ، تقول : دعوته زيداً ثم تترك أحدهما استغناءً عنه ، فتقول : دعوت زيداً انتهى.
ودعوت هذه من الأفعال التي تتعدّى إلى اثنين ثانيهما بحرف جر ، تقول : دعوت والدي بزيد ثم تتسع فتحذف الباء.
وقال الشاعر في دعا هذه :
دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن . . .
أخاها ولم أرضع لها بلبان
وهي أفعال تتعدى إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر ، يحفظ ويقتصر فيها على السماع وعلى ما قال الزمخشري يكون الثاني لقوله { ادعوا } لفظ الجلالة ، ولفظ { الرحمن } وهو الذي دخل عليه الباء ثم حذف وكأن التقدير { ادعوا } معبودكم بالله أو ادعوه بالرحمن ولهذا قال الزمخشري : المراد بهما اسم المسمى وأو للتخيير ، فمعنى { ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } سموا بهذا الاسم أو بهذا ، واذكروا إما هذا وإما هذا انتهى.
وكذا قال ابن عطية هما اسمان لمسمى واحد ، فإن دعوتموه بالله فهو ذاك ، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذاك وأي هنا شرطية.
والتنوين قيل عوض من المضاف و { ما } زائدة مؤكدة.
وقيل : { ما } شرط ودخل شرط على شرط.
وقرأ طلحة بن مصروف.
{ أياً } من { تدعوا } فاحتمل أن تكون من زائدة على مذهب الكسائي إذ قد ادّعى زيادتها في قوله :

يا شاة من قنص لمن حلت له . . .
واحتمل أن يكون جمع بين أداتي شرط على وجه الشذوذ كما جمع بين حرفي جر نحو قول الشاعر :
فأصبحن لا يسألنني عن بما به . . .
وذلك لاختلاف اللفظ.
والضمير في { فله } عائد على مسمى الاسمين وهو واحد ، أي فلمسماهما { الأسماء الحسنى } ، وتقدم الكلام على قوله { الأسماء الحسنى } في الأعراف.
وقوله : { فله } هو جواب الشرط.
قيل : ومن وقف على { أياً } جعل معناه أي اللفظين دعوتموه به جاز ، ثم استأنف فقال ما تدعوه { فله الأسماء الحسنى } وهذا لا يصح لأن ما لا تطلق على آحاد أولي العلم ، ولأن الشرط يقتضي عموماً ولا يصح هنا ، والصلاة هنا الدعاء قاله ابن عباس وعائشة وجماعة.
وعن ابن عباس أيضاً : هي قراءة القرآن في الصلاة فهو على حذف مضاف أي بقراءة الصلاة ، ولا يلبس تقدير هذا المضاف لأنه معلوم أن الجهر والمخافتة معتقبان على الصوت لا غير ، والصلاة أفعال وأذكار وكان عليه الصلاة والسلام يرفع صوته بقراءته فيسب المشركون ويلغون فأمر بأن يخفض من صوته حتى لا يسمع المشركين ، وأن لا يخافت حتى يسمعه من وراءه من المؤمنين.
{ وابتغ بين ذلك } أي بين الجهر والمخافتة { سبيلاً } وسطاً وتقدم الكلام على { بين ذلك } في قوله { عوان بين ذلك } وقال ابن عباس أيضاً والحسن : لا تحسن علانيتها وتسيء سرّيتها.
وعن عائشة : الصلاة يراد بها هنا التشهد.
وقال ابن سيرين : كان الأعراب يجهرون بتشهدهم فنزلت الآية في ذلك ، وكان أبو بكر يسرّ قراءته وعمر يجهر بها.
فقيل لهما في ذلك فقال أبو بكر : إنما أناجي ربي وهو يعلم حاجتي.
وقال عمر : أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان ، فلما نزلت قيل لأبي بكر ارفع أنت قليلاً.
وقيل لعمر : اخفض أنت قليلاً.
وعن ابن عباس أيضاً : المعنى { ولا تجهر } بصلاة النهار { ولا تخافت } بصلاة الليل.
وقال ابن زيد : معنى الآية على ما يفعله أهل الإنجيل والتوراة من رفع الصوت أحياناً فيرفع الناس معه ، ويخفض أحياناً فيسكت الناس خلفه انتهى.
كما يفعل أهل زماننا من رفع الصوت بالتلحين وطرائق النغم المتخذة للغناء.
ولما ذكر تعالى أنه واحد وإن تعددت أسماؤه أمر تعالى أن يحمده على ما أنعم به عليه مما آتاه من شرف الرسالة والاصطفاء ، ووصف نفسه بأنه { لم يتخذ ولداً } فيعتقد فيه تكثر بالنوع ، وكان ذلك ردّاً على اليهود والنصاري والعرب الذين عبدوا الأصنام وجعلوها شركاء لله ، والعرب الذين عبدوا الملائكة واعتقدوا أنهم بنات الله.
ونفى أولاً الولد خصوصاً ثم نفى الشريك في ملكه وهو أعم من أن ينسب إليه ولد فيشركه أو غيره ، ولما نفى الولد ونفى الشريك نفى الولي وهو الناصر ، وهو أعم من أن يكون ولداً أو شريكاً أو غير شريك.
ولما كان اتخاذ الولي قد يكون للانتصار والاعتزاز به والاحتماء من الذلَّ وقد يكون للتفضل والرحمة لمن والى من صالحيّ عباده كان النفي لمن ينتصر به من أجل المذلة ، إذ كان مورد الولاية يحتمل هذين الوجهين فنفى الجهة التي لأجل النقص بخلاف الولد والشريك فإنهما نفياً على الإطلاق.

وجاء الوصف الأول بقوله { الذي لم يتخذ ولداً } والمعنى أنه تعالى لم يسم ولم يعدّ أحداً ولداً ولم ينفه بجهة التوالد لاستحالة ذلك في بدائه العقول ، فلا يتعرض لنفيه بالمنقول ولذلك جاء ما اتخذ الله من ولد لم يتخذ صاحبة ولا ولداً.
وقال مجاهد : في قوله { ولم يكن له وليّ من الذلّ } المعنى لم يخالف أحداً ولا ابتغى نصر أحد.
وقال الزمخشري : { وليّ من الذلّ } ناصر من الذلّ ومانع له منه لاعتزازه به ، أو لم يوال أحداً من أجل المذلة به ليدفعها بموالاته انتهى.
وقيل : ولم يكن له { ولي } من اليهود والنصاري لأنهم أذل الناس فيكون { من الذل } صفة لولي انتهى.
أي { ولي من } أهل { الذل } ، فعلى هذا وما تقدّم يكون { من } في معنى المفعول به أو للسبب أو للتبعيض.
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك والذل بكلمة التحميد؟ قلت : لأن من هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة فهو الذي يستحق جنس الحمد ، والذي تقرر أن النفي تسلط من حيث المعنى على القيد أي لا ذل يوجد في حقه فيكون له ولي ينتصر به منه ، فالذل والولي الذي يكون اتخاذه بسببه منتفيان.
{ وكبره تكبيراً } التكبير أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال ، وأكد بالمصدر تحقيقاً له وإبلاغاً في معناه ، وابتدئت هذه السورة بتنزيه الله تعالى واختتمت به ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية { وقل الحمد لله } إلى آخرها والله أعلم.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)

هي مكية كلها إلا في قوله.
وعن ابن عباس وقتادة إلاّ قوله { واصبر نفسك } الآية فمدنية.
وقال مقاتل : إلاّ من أولها إلى { جرزاً } ومن قوله { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآيتين فمدني.
وسبب نزولها أن قريشاً بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة ، فقالوا لهما : سلاهم عن محمد وصِفالهم صفته فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألاهم فقالت : سلوه فإن أخبركم بهنّ فهو نبيّ مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فروا فيه رأيكم سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم ، فإنه كان لهم حديث عجيب ، وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان بناؤه ، وسلوه عن الروح فأقبل النضر وعقبة إلى مكة فسألوه فقال : «غداً أخبركم» ولم يقل إن شاء الله ، فاستمسك الوحي خمسة عشر يوماً فأرجف كفار قريش ، وقالوا : إن محمداً قد تركه رئيه الذي كان يأتيه من الجن.
وقال بعضهم : قد عجز عن أكاذيبه فشق ذلك عليه ، فلما انقضى الأمد جاءه الوحي بجواب الأسئلة وغيرها.
وروي في هذا السبب أن اليهود قالت : إن أجابكم عن الثلاثة فليس بنبيّ ، وإن أجاب عن اثنتين وأمسك عن الأخرى فهو نبيّ.
فأنزل الله سورة أهل الكهف وأنزل بعد ذلك { ويسألونك عن الروح } ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه لما قال { وبالحق أنزلناه وبالحق نزل } وذكر المؤمنين به أهل العلم وأنه يزيدهم خشوعاً ، وأنه تعالى أمر بالحمد له وأنه لم يتخذ ولداً ، أمره تعالى بحمده على إنزال هذا الكتاب السالم من العوج القيم على كل الكتب المنذر من اتخذ ولداً ، المبشر المؤمنين بالأجر الحسن.
ثم استطرد إلى حديث كفار قريش والتفت من الخطاب في قوله { وكبره تكبيراً } إلى الغيبة في قوله { على عبده } لما في { عبده } من الإضافة المقتضية تشريفه ، ولم يجيء التركيب أنزل عليك.
{ والكتاب } القرآن ، والعوج في المعاني كالعوج في الأشخاص ونكر { عوجاً } ليعم جميع أنواعه لأنها نكرة في سياق النفي ، والمعنى أنه في غاية الإستقامة لا تناقض ولا اختلاف في معانيه ، لا حوشية ولا عيّ في تراكيبه ومبانيه.
و { قيماً } تأكيد لإثبات الإستقامة إن كان مدلوله مستقيماً وهو قول ابن عباس والضحاك.
وقيل : { قيماً } بمصالح العباد وشرائع دينهم وأمور معاشهم ومعادهم.
وقيل : { قيماً } على سائر الكتب بتصديقها.
واختلفوا في هذه الجملة المنفية ، فزعم الزمخشري أنها معطوفة على { أنزل } فهي داخلة في الصلة ، ورتب على هذا أن الأحسن في انتصاب { قيماً } أن ينتصب بفعل مضمر ولا يجعل حالاً من { الكتاب } لما يلزم من ذلك وهو الفصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة ، وقدره جعله { قيماً }.

وقال ابن عطية : { قيماً } نصب على الحال من { الكتاب } فهو بمعنى التقديم مؤخر في اللفظ ، أي أنزل الكتاب { قيماً } واعترض بين الحال وذي الحال قوله { ولم يجعل له عوجاً } ذكره الطبري عن ابن عباس ، ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مضمر تقديره أنزله أو جعله { قيماً }.
أما إذا قلنا بأن الجملة المنفية اعتراض فهو جائز ، ويفصل بجمل للإعتراض بين الحال وصاحبها.
وقال العسكري : في الآية تقديم وتأخير كأنه قال : احمدوا الله على إنزال القرآن { قيماً } لا عوج فيه ، ومن عادة البلغاء أن يقدّموا الأهم.
وقال أبو عبد الله الرازي : { ولم يجعل له عوجاً } يدل على كونه مكملاً في ذاته.
وقوله قيماً يدل على كونه مكملاً بغيره ، فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح هو الذي ذكره الله ، وأن ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه.
وقال الكرماني : إذ جعلته حالاً وهو الأظهر فليس فيه تقديم ولا تأخير ، والصحيح أنهما حالان من { الكتاب } الأولى جملة والثانية مفرد انتهى.
وهذا على مذهب من يجوز وقوع حالين من ذي حال واحد بغير عطف ، وكثير من أصحابنا على منع ذلك انتهى.
واختاره الأصبهاني وقال : هما حالان متواليان والتقدير غير جاعل له { عوجاً قيماً } وقال صاحب حل العقد : يمكن أن يكون قوله قيماً بدلاً من قوله { ولم يجعل له عوجاً } أي جعله مستقيماً { قيماً } انتهى.
ويكون بدل مفرد من جملة كما قالوا في عرفت زيداً أبو من أنه بدل جملة من مفرد وفيه خلاف.
وقيل : { قيماً } حال من الهاء المجرورة في { ولم يجعل له } مؤكدة.
وقيل : منتقلة ، والظاهر أن الضمير في { له } عائد على { الكتاب } وعليه التخاريج الإعرابية السابقة.
وزعم قوم أن الضمير في { له } عائد على { عبده } والتقدير { على عبده } وجعله { قيماً }.
وحفص يسكت على قوله { عوجاً } سكتة خفيفة ثم يقول { قيماً }.
وفي بعض مصاحف الصحابة { ولم يجعل له عوجاً } لكن جعله قيماً ويحمل ذلك على تفسير المعنى لا أنها قراءة.
وأنذر يتعدى لمفعولين قال { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً } وحذف هنا المفعول الأول وصرح بالمنذر به لأنه هو الغرض المسوق إليه فاقتصر عليه ، ثم صرح بالمنذر في قوله حين كرر الإنذار فقال : { وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً } فحذف المنذر أولاً لدلالة الثاني عليه ، وحذف المنذر به لدلالة الأول عليه ، وهذا من بديع الحذف وجليل الفصاحة ، ولما لم يكرر البشارة أتى بالمبشر والمبشر به ، والظاهر أن { لينذر } متعلقة بأنزل.
وقال الحوفي : تتعلق بقيماً ، ومفعول لينذر المحذوف قدره ابن عطية { لينذر } العالم ، وأبو البقاء { لينذر } العباد أو لينذركم.
والزمخشري قدره خاصاً قال : وأصله { لينذر } الذين كفروا { بأساً شديداً } ، والبأس من قوله { بعذاب بئيس } وقد بؤس العذاب وبؤس الرجل بأساً وبأسة انتهى.

وكأنه راعي في تعيين المحذوف مقابله وهو { ويبشر المؤمنين الذين } والبأس الشديد عذاب الآخرة ويحتمل أن يندرج فيه ما يلحقهم من عذاب الدنيا.
ومعنى من { لدنه } صادر من عنده.
وقرأ أبو بكر بسكون الدال وإشمامها الضم وكسر النون ، وتقدّم الكلام عليها في أول هود.
وقرىء { ويبشر } بالرفع والجمهور بالنصب عطفاً على { لينذر } والأجر الحسن الجنة ، ولما كنى عن الجنة بقوله { أجراً حسناً } قال : { ماكثين فيه } أي مقيمين فيه ، فجعله ظرفاً لإقامتهم ، ولما كان المكث لا يقتضي التأبيد قال { أبداً } وهو ظرف دال على زمن غير متناه ، وانتصب { ماكثين } على الحال وذو الحال هو الضمير في { لهم } والذين نسبوا الولد إلى الله تعالى بعض اليهود في عزير ، وبعض النصارى في المسيح ، وبعض العرب في الملائكة ، والضمير في { به } الظاهر أنه عائد على الولد الذي ادّعوه.
قال المهدوي : فتكون الجملة صفة للولد.
قال ابن عطية : وهذا معترض لأنه لا يصفه إلاّ القائل وهم ليس قصدهم أن يصفوه ، والصواب عندي أنه نفى مؤتنف أخبر الله تعالى به بجهلهم في ذلك ، ولا موضع للجملة من الإعراب ويحتمل أن يعود على الله تعالى ، وهذا التأويل أذم لهم وأقضى في الجهل التام عليهم وهو قول الطبري انتهى.
قيل : والمعنى { ما لهم } بالله { من علم } فينزهوه عما لا يجوز عليه ، ويحتمل أن يعود على القول المفهوم من { قالوا } أي { ما لهم }.
بقولهم هذا { من علم } فالجملة في موضع الحال أي { قالوا } جاهلين من غير فكر ولا روية ولا نظر في ما يجوز ويمتنع.
وقيل : يعود على الاتخاذ المفهوم من { اتخذه } أي { ما لهم } بحكمة الاتخاذ من علم إذ لا يتخذه إلاّ من هو عاجز مقهور يحتاج إلى معين يشد به عضده.
وهذا مستحيل على الله.
قال الزمخشري : اتخاذ الله ولداً في نفسه محال ، فيكف { قيل ما لهم به من علم } ؟ قلت : معناه ما لهم به من علم لأنه ليس مما يعلم لاستحالته ، وانتفاء العلم بالشيء إما للجهل بالطريق الموصل إليه ، وإما لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلق العلم به انتهى.
{ ولا لآبائهم } معطوف على { لهم } وهم من تقدم من أسلافهم الذين ذهبوا إلى هذه المقالة السخيفة ، بل من قال ذلك إنما قاله عن جهل وتقليد.
وذكر الآباء لأن تلك المقالة قد أخذوها عنهم وتلقفوها منهم.
وقرأ الجمهور : { كلمة } بالنصب والظاهر انتصابها على التمييز ، وفاعل { كَبُرت } مضمر يعود على المقالة المفهومة من قوله { قالوا اتخذ الله ولداً } ، وفي ذلك معنى التعجب أي ما أكبرها كلمة ، والجملة بعدها صفة لها تفيد استعظام اجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم ، فإن كثيراً مما يوسوس به الشيطان في القلوب ويحدث به النفس لا يمكن أن يتفوه به بل يصرف عنه الفكر ، فكيف بمثل هذا المنكر وسميت { كلمة } كما يسمون القصيدة كلمة.

وقال ابن عطية : وهذه المقالة هي قائمة في النفس معنى واحداً فيحسن أن تسمى { كلمة } وقال أيضاً : وقرأ الجمهور بنصب الكلمة كما تقول نعم رجلاً زيد ، وفسر بالكلمة ووصفها بالخروج من أفواههم فقال بعضهم : نصبها على التفسير على حد نصب قوله تعالى { وساءت مرتفقاً }.
وقالت فرقة : نصبها على الحال أي { كبرت } فريتهم ونحو هذا انتهى.
فعلى قوله كما تقول نعم رجلاً زيد يكون المخصوص بالذم محذوفاً لأنه جعل { تخرج } صفة لكلمة ، والتقدير { كبرت كلمة } خارجة { من أفواههم } تلك المقالة التي فاهوا بها وهي مقالتهم { اتخذ الله ولداً }.
والضمير في { كبرت } ليس عائداً على ما قبله بل هو مضمر يفسره ما بعده ، وهو التمييز على مذهب البصريين ، ويجوز أن يكون المخصوص بالذم محذوفاً وتخرج صفة له أي { كبرت كلمة } كلمة { تخرج من أفواههم }.
وقال أبو عبيدة : نصب على التعجب أي أكبر بها { كلمة } أي من { كلمة }.
وقرىء { كبرت } بسكون الباء وهي في لغة تميم.
وقرأ الحسن وابن يعمر وابن محيصن والقواس عن ابن كثير بالرفع على الفاعلية والنصب أبلغ في المعنى وأقوى ، و { أن } نافية أي ما { يقولون } و { كذباً } نعت لمصدر محذوف أي قولاً { كذباً }.
{ فلعلك باخع } لعل للترجي في المحبوب وللإشفاق في المحذور.
وقال العسكري : فيها هنا هي موضوعة موضع النهي يعني أن المعنى لا تبخع نفسك.
وقيل : وضعت موضع الاستفهام تقديره هل أنت { باخع نفسك } ؟ وقال ابن عطية : تقرير وتوقيف بمعنى الإنكار عليه أي لا تكن كذلك.
وقال الزمخشري : شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما تداخله من الوجد والأسف على توليهم برجل فارقته أحبته وأعزته ، فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجداً عليهم وتلهفاً على فراقهم انتهى.
وتكون لعل للإستفهام قول كوفي ، والذي يظهر أنها للإشفاق أشفق أن يبخع الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لكونهم لم يؤمنوا.
وقوله { على آثارهم } استعارة فصيحة من حيث لهم إدبار وتباعد عن الإيمان وإعراض عن الشرع ، فكأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا فهو في إدبارهم يحزن عليهم ، ومعنى { على آثارهم } من بعدهم أي بعد يأسك من إيمانهم أو بعد موتهم على الكفر.
ويقال : مات فلان على أثر فلان أي بعده ، وقرىء { باخع نفسك } بالإضافة.
وقرأ الجمهور : { باخع } بالتنوين { نفسك } بالنصب.
قال الزمخشري : على الأصل يعني إن اسم الفاعل إذا استوفي شروط العلم فالأصل أن يعمل ، وقد أشار إلى ذلك سيبويه في كتابه.
وقال الكسائي : العمل والإضافة سواء ، وقد ذهبنا إلى أن الإضافة أحسن من العمل بما قررناه في ما وضعنا في علم النحو.
وقرىء : { إن لم يؤمنوا } بكسر الميم وفتحها فمن كسر.
فقال الزمخشري : هو يعني اسم الفاعل للإستقبال ، ومن فتح فللمضي يعني حالة الإضافة ، أي لأن { لم يؤمنوا } والإشارة بهذا الحديث إلى القرآن.

قال تعالى { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً } و { أسفاً } قال مجاهد : جزعاً.
وقال قتادة : غضباً وعنه أيضاً حزناً.
وقال السدّي : ندماً وتحسراً.
وقال الزجاج : الأسف المبالغة في الحزن والغضب.
وقال منذر بن سعيد : الأسف هنا الحزن لأنه على من لا يملك ولا هو تحت يد الآسف ، ولو كان الأسف من مقتدر على من هو في قبضته وملكه كان غضباً كقوله تعالى { فلما آسفونا انتقمنا منهم } أي أغضبونا.
قال ابن عطية : وإذا تأملت هذا في كلام العرب اطرد انتهى.
وانتصاب { أسفاً } على أنه مفعول من أجله أو على أنه مصدر في موضع الحال ، وارتباط قوله { إنّا جعلنا } الآية بما قبلها هو على سبيل التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه تعالى أخبر أنه خلق ما على الأرض من الزينة للإبتلاء والاختبار أي الناس { أحسن عملاً } فليسوا على نمط واحد في الاستقامة واتباع الرسل ، بل لا بد أن يكون فيهم من هو أحسن عملاً ومن هو أسوأ عملاً ، فلا تغتم وتحزن على من فضلت عليه بأنه يكون أسوأ عملاً ومع كونهم يكفرون بي لا أقطع عنهم موادّ هذه النعم التي خلقتها.
و { جعلنا } هنا بمعنى خلقنا ، والظاهر أن ما يراد بها غير العاقل وأنه يراد به العموم فيما لا يعقل.
و { زينة } كل شيء بحسبه.
وقيل : لا يدخل في ذلك ما كان فيه إيذاء من حيوان وحجر ونبات لأنه لا زينة فيه ، ومن قال بالعموم قال فيه { زينة } من جهة خلقه وصنعته وإحكامه.
وقيل : المراد بما هنا خصوص ما لا بعقل.
فقيل : الأشجار والأنهار.
وقيل : النبات لما فيه من الاختلاف والأزهار.
وقيل : الحيوان المختلف الأشكال والمنافع والأفعال.
وقيل : الذهب والفضة والنحاس والرصاص والياقوت والزبرجد والجوهر والمرجان وما يجري مجرى ذلك من نقائس الأحجار.
وقال الزمخشري : { ما على الأرض } يعني ما يصلح أن يكون { زينة لها } ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها.
وقالت : فرقة أراد النعيم والملابس والثمار والخضرة والمياه.
وقيل : { ما } هنا لمن يعقل ، فعن مجاهد هو الرجال وقاله ابن جبير عن ابن عباس وروى عكرمة أن الزينة الخلفاء والعلماء والأمراء.
وانتصب { زينة } على الحال أو على المفعول من أجله إن كان { جعلنا } بمعنى خلقنا ، وأوجدنا ، وإن كانت بمعنى صيرنا فانتصب على أنه مفعول ثان.
واللام من { لنبلوهم } تتعلق بجعلنا ، والابتلاء الاختبار وهو متأوّل بالنسبة إلى الله تعالى.
والضمير في { لنبلوهم } إن كانت ما لمن يعقل فهو عائد عليها على المعنى ، وأن لا يعود على ما يفهم من سياق الكلام وهو سكان الأرض المكلفون و { أيهم } يحتمل أن يكون الضمير فيها إعراباً فيكون { أيهم } مبتدأ و { أحسن } خبره.

والجملة في موضع المفعول { لنبلوهم } ويكون قد علق { لنبلوهم } إجراءً لها مجرى العلم لأن الابتلاء والاختبار سبب للعلم ، كما علقوا سل وانظر البصرية لأنهما سببان للعلم وإلى أن الجملة استفهامية مبتدأ وخبر ذهب الحوفي ، ويحتمل أن تكون الضمة فيها بناء على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء في أي.
وهو كونها مضافة قد حذف صدر صلتها ، فأحسن خبر مبتدأ محذوف فتقديره هو { أحسن } ويكون { أيهم } في موضع نصب بدلاً من الضمير في { لنبلوهم } ، والمفضل عليه محذوف تقديره ممن ليس { أحسن عملاً }.
وقال الثوري أحسنهم عملاً أزهدهم فيها.
وقال أبو عاصم العسقلاني : أََترك لها.
وقال الزمخشري : حسن العمل الزهد فيها وترك الاغترار بها.
وقال أبو بكر غالب بن عطية : أحسن العمل أخذ بحق مع الإيمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم والإكثار من المندوب إليه.
وقال الكلبي : أحسن طاعة.
وقال القاسم بن محمد ما عليها من الأنبياء والعلماء ليبلوَ المرسل إليهم والمقلدين للعلماء أيهم أحسن قبولاً وإجابة.
وقال سهل : أحسن توكلاً علينا فيها.
وقيل : أصفى قلباً وأحسن سمتاً.
وقال ابن إسحاق : أيهم أتبع لأمري وأعمل بطاعتي.
و { إنّا لجاعلون } أي مصيرون { ما عليها } مما كان زينة لها أو { ما عليها } مما هو أعم من الزينة وغيره { صعيداً } تراباً { جرزاً } الأنبات فيه ، وهذا إشارة إلى التزهيد في الدنيا والرغبة عنها وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عن ما تضمنته أيدي المترفين من زينتها ، إذ مآل ذلك كله إلى الفناء والحاق.
وقال الزمخشري : { ما عليها } من هذه الزينة { صعيداً جرزاً } يعني مثل أرض بيضاء لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة في إزالة بهجته وإماطة حسنة وإبطال ما به كان زينة من إماتة الحيوان وتجفيف النبات والأشجار ونحو ذلك انتهى.
قيل : والصعيد ما تصاعد على وجه الأرض.
وقال مجاهد : الأرض التي لا نبات بها.
وقال السدّي الأملس المستوي.
وقيل : الطريق.
وفي الحديث : « إياكم والقعود على الصعدات ».

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)

{ أم } هنا هي المنقطعة فتتقدر ببل والهمزة.
قيل : للإضراب عن الكلام الأول بمعنى الانتقال من كلام إلى آخر لا بمعنى الإبطال ، والهمزة للإستفهام.
وزعم بعض النحويين أن { أم } هنا بمعنى الهمزة فقط ، والظاهر في { أم حسبت } أنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم.
فقال مجاهد : لم ينهه عن التعجب وإنما أراد كل آياتنا كذلك.
وقال قتادة : لا يتعجب منها فالعجائب في خلق السموات والأرض أكثر.
وقال ابن عباس : سألوك عن ذلك ليجعلوا جوابك علامة لصدقك وكذبك ، وسائر آيات القرآن أبلغ وأعجب وأدل على صدقك.
وقال الطبري : تقرير له عليه السلام على حسبانه { أن أصحاب الكهف } كانوا { عجباً } بمعنى إنكار ذلك عليه أن لا يعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة ، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم.
قال : وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق.
وقال الزهراوي : يحتمل معنى آخر وهو أن يكون استفهاماً له هل علم { أن أصحاب الكهف كانوا من آياتنا عجباً } بمعنى إثبات أنهم عجب ، ويكون فائدة تقريره جمع نفسه للأمر لأن جوابه أن يقول لم أحسب ولا علمته ، فيقال له وصفهم عند ذلك والتجوز في هذا التأويل هو في لفظة حسبت انتهى.
وقال غيره : معناه أعلمت أي لم تعلمه حتى أعلمتك.
وقال الزمخشري : ذكر من الآيات الكلية تزيين الأرض بما خلق فوقها من الأجناس التي لا حصر لها ، وإزالة ذلك كله كأن لم يكن ثم قال : { أم حسبت } يعني { أن } ذلك من قصة أهل الكهف وإبقاء حياتهم مدة طويلة انتهى.
وقيل : أي أم علمت أي فاعلم أنهم { كانوا } { عجباً } كما تقول : أعلمت أن فلاناً فعل كذا أي قد فعل فاعلمه.
وقيل : الخطاب للسامع ، والمراد المشركون أي قل لهم { أم حسبتم } الآية.
والظن قد يقام مقام العلم ، فكذلك حسبت بمعنى علمت والكهف تقدم تفسيره في المفردات.
وعن أنس : الكهف الجبل.
قال القاضي : وهذا غير مشهور في اللغة.
وقال مجاهد : تفريج بين الجبلين ، والظاهر { أن أصحاب الكهف والرقيم } هم الفتية المذكورون هنا.
وعن ابن المسيب أنهم قوم كان حالهم كأصحاب الكهف.
فقال الضحاك { الرقيم } بلدة بالروم فيها غار فيه أحد وعشرون نفساً أموات كلهم نيام على هيئة { أصحاب الكهف }.
وقيل : هم أصحاب الغار ففي الحديث عن النعمان بن بشير أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر الرقيم قال : « إن ثلاثة نفر أصابتهم السماء فأووا إلى الكهف فانحطت صخرة من الجبل فانطبقت على باب الكهف » وذكر الحديث وهو حديث المستأجر والعفيف وبارّ والديه ، وفيما أورده فيه زيادة ألفاظ على ما في الصحيح.
ومن قال إنهم طائفتان قال : أخبر الله عن { أصحاب الكهف } ولم يخبر عن أصحاب { الرقيم } بشيء ، ومن قال : بأنهم طائفة واحدة اختلفوا في شرح { الرقيم } فعن ابن عباس : إنه لا يدري ما { الرقيم } أكتاب أم بنيان ، وعنه أنه كتاب كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين المسيح عليه السلام.

وقيل : من دين قبل عيسى ، وعن ابن عباس ووهب أنه اسم قريتهم.
وقيل : لوح من ذهب تحت الجدار أقامه الخضر عليه السلام.
وقيل : كتب فيه أسماؤهم وقصتهم وسبب خروجهم.
وقيل : لوح من رصاص كتب فيه شأن الفتية ووضع في تابوت من نحاس في فم الكهف.
وقيل : صخرة كتب فيها أسماؤهم وجعلت في سور المدينة.
وقيل : اسم كلبهم وتقدم بيت أمية قاله أنس والشعبي وابن جبير ، وعن الحسن : الجبل الذي به الكهف وعن عكرمة اسم الدواة بالرومية.
وقيل : اسم للوادي الذي فيه الكهف.
وقيل : رقم الناس حديثهم نقراً في الجبل.
و { عجباً } نصب على أنه صفة لمحذوف دل عليه ما قبله ، وتقديره آية { عجباً } ، وصفت بالمصدر أو على تقدير ذات عجب وأما أسماء فتية أهل الكهف فأعجمية لا تنضبط بشكل ولا نقط ، والسند في معرفتها ضعيف والرواة مختلفون في قصصهم وكيف كان اجتماعهم وخروجهم ، ولم يأت في الحديث الصحيح كيفية ذلك ولا في القرآن إلاّ ما قص تعالى علينا من قصصهم ، ومن أراد تطلب ذلك في كتب التفسير.
ورُوي أن اسم الملك الكافر الذي خرجوا في أيامه عن ملته اسمه دقيانوس.
وروي أنهم كانوا في الروم.
وقيل : في الشام وأن بالشام كهفاً فيه موتى ، ويزعم مجاوروه أنهم { أصحاب الكهف } وعليهم مسجد وبناء يسمى { الرقيم } ومعهم كلب رمة.
وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتي ومعهم كلب رمّة وأكثرهم قد انجرد لحمه وبعضهم متماسك ، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم ويزعم ناس أنهم { أصحاب الكهف }.
قال ابن عطية : دخلت إليهم فرأيتهم منذ أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمى { الرقيم } كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه ، وهو في فلاة من الأرض خربة وبأعلى حضرة غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة يقال لها مدينة دقيوس.
وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها وإنما استسهلت ذكر هذا مع بعده لأنه عجب يتخلد ذكره ما شاء الله عز وجل انتهى.
وحين كنا بالأندلس كان الناس يزورون هذا الكهف ويذكرون أنهم يغلطون في عدتهم إذا عدوهم ، وأن معهم كلباً ويرحل الناس إلى لوشة لزيارتهم ، وأما ما ذكرت من مدينة دقيوس التي بقبلي غرناطة فقد مررت عليها مراراً لا تحصى ، وشاهدت فيها حجارة كباراً ، ويترجح كون أهل الكهف بالأندلس لكثرة دين النصارى بها حتى أنها هي بلاد مملكتهم العظمى ، ولأن الأخبار بما هو في أقصى مكان من أرض الحجاز أغرب وأبعد أن يعرفه أحد إلاّ بوحي من الله تعالى.

والعامل في { إذ }.
قيل : أذكر مضمرة.
وقيل { عجباً } ، ومعنى { أوى } جعلوه مأوى لهم ومكان اعتصام ، ثم دعوا الله تعالى أن يؤتيهم رحمة من عنده وفسرها المفسرون بالرزق.
وقال الزمخشري : هي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء.
و { الفتية } جمع فتى جمع تكسير جمع قلة ، وكذلك كانوا قليلين.
وعند ابن السراج أنه اسم جمع لا جمع تكسير.
ولفظ { الفتية } يشعر بأنهم كانوا شباباً وكذا روي أنهم كانوا شباباً من أبناء الأشراف والعظماء مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب وهم من الروم ، اتبعوا دين عيسى عليه السلام.
وقيل : كانوا قبل عيسى وأصحابنا الأندلسيون تكثر في ألفاظهم تسمية نصارى الأندلس بالروم في نثرهم ونظمهم ومخاطبة عامتهم ، فيقولون : غزونا الروم ، جاءنا الروم.
وقل من ينطق بلفظ النصارى ، ولما دعوا بإيتاء الرحمة وهي تتضمن الرزق وغيره ، دعوا الله بأن يهيئ لهم من أمرهم الذي صاروا إليه من مفارقة دين أهليهم وتوحيد الله رشداً وهي الاهتداء والديمومة عليه.
وقال الزمخشري : واجعل { أمرنا رشداً } كله كقولك رأيت منك أسداً.
وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري : وهي ويهيي بياءين من غير همز ، يعني أنه أبدل الهمزة الساكنة ياء.
وفي كتاب ابن خالويه الأعشى عن أبي بكر عن عاصم : وهيء لنا ويهي لكم لا يهمز انتهى.
فاحتمل أن يكون أبدل الهمزة ياءً ، واحتمل أن يكون حذفها فالأول إبدال قياسي ، والثاني مختلف فيه ينقاس حذف الحرف المبدل من الهمزة في الأمر أو المضارع إذا كان مجزوماً.
وقرأ أبو رجاء : رشد بضم الراء وإسكان الشين.
وقرأ الجمهور { رشداً } بفتحهما.
قال ابن عطية : وهي أرجح لشبهها بفواصل الآيات قبل وبعد ، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم وألفاظه تقتضي ذلك ، وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها ، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه هذه الآية فإنها كافية ، ويحتمل ذكر الرحمة أن يراد بها أمر الآخرة انتهى.
{ فضربنا على آذانهم } استعارة بديعة للإنامة المستثقلة التي لا يكاد يسمع معها ، وعبر بالضرب ليدل على قوة المباشرة واللصوق واللزوم ومنه { ضربت عليهم الذلة } وضرب الجزية وضرب البعث.
وقال الفرزدق :
ضربت عليك العنكبوت بنسجها . . .
وقضى عليك به الكتاب المنزل
وقال الأسود بن يعفر :
ومن الحوادث لا أبا لك أنني . . .
ضربت على الأرض بالأشداد
وقال آخر :
إن المروءة والسماحة والندى . . .
في قبة ضربت على ابن الحشرج
استعير للزوم هذه الأوصاف لهذا الممدوح ، وذكر الجارحة التي هي الآذان إذ هي يكون منها السمع لأنه لا يستحكم نوم إلاّ مع تعطل السمع.
وفي الحديث : « ذلك رجل بال الشيطان في أذنه » أي استثقل نومه جداً حتى لا يقوم بالليل.

ومفعول ضربنا محذوف أي حجاباً من أن يسمع كما يقال بني على امرأته يريدون بني عليها القبة.
وانتصب { سنين } على الظرف والعامل فيه { فضربنا } ، و { عدداً } مصدر وصف به أو منتصب بفعل مضمر أي بعد { عدداً } وبمعنى اسم المفعول كالقبض والنفض ، ووصف به { سنين } أي { سنين } معدودة.
والظاهر في قوله { عدداً } الدلالة على الكثرة لأنه لا يحتاج أن يعد إلاّ ما كثر لا ما قل.
وقال الزمخشري : ويحتمل أن يريد القلة لأن الكثير قليل عنده كقوله { لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار } انتهى وهذا تحريف في التشبيه لأن لفظ الآية كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار ، فهذا تشبيه لسرعة انقضاء ما عاشوا في الدنيا إذا رأوا العذاب كما قال الشاعر :
كأن الفتى لم يعر يوماً إذا اكتسي . . .
ولم يك صعلوكاً إذا ما تمولا
{ ثم بعثناهم } أي أيقظناهم من نومهم ، والبعث التحريك عن سكون إما في الشخص وإما عن الأمر المبعوث فيه ، وإن كان المبعوث فيه متحركاً و { لنعلم } أي لنظر لهم ما علمناه من أمرهم ، وتقدم الكلام في نظير هذا في قوله { لنعلم من يتبع الرسول } وفي التحرير وقرأ الجمهور : { لنعلم } بالنون ، وقرأ الزهري بالياء وفي كتاب ابن خالوية ليعلم { أي الحزبين } حكاه الأخفش.
وفي الكشاف وقرىء ليعلم وهو معلق عنه لأن ارتفاعه بالإبتداء لا بإسناد يعلم إليه ، وفاعل يعلم مضمون الجملة كما أنه مفعول يعلم انتهى.
فأما قراءة لنعلم فيظهر أن ذلك التفات خرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة ، فيكون معناها ومعنى { لنعلم } بالنون سواء ، وأما ليعلم فيظهر أن المفعول الأول محذوف لدلالة المعنى عليه ، والتقدير ليعلم الله الناس { أي الحزبين }.
والجملة من الابتداء والخبر في موضع مفعولي يعلم الثاني والثالث ، وليعلم معلق.
وأما ما في الكشاف فلا يجوز ما ذكر على مذهب البصريين لأن الجملة إذ ذاك تكون في موضع المفعول الذي لا يسمى فاعله وهو قائم مقام الفاعل ، فكما أن تلك الجملة وغيرها من الجمل لا تقوم مقام الفاعل فكذلك لا يقوم مقام ما ناب عنه.
وللكوفيين مذهبان :
أحدهما : أنه يجوز الإسناد إلى الجملة اللفظية مطلقاً.
والثاني : أنه لا يجوز إلاّ إن كان مما يصح تعليقه.
والظاهر أن الحزبين هما منهم لقوله تعالى { وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم } الآية.
وكأن الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم علموا أن لبثهم تطاول ، ويدل على ذلك أنه تعالى بدأ بقصتهم أولاً مختصرة من قوله { أم حسبت } إلى قوله { أمداً } ثم قصها تعالى مطولة مسهبة من قوله { نحن نقص } - إلى قوله - { قل الله أعلم بما لبثوا }.
وقال ابن عطية : والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم { الفتية } أي ظنوا لبثهم قليلاً ، والحزب الثاني هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية ، وهذا قول الجمهور من المفسرين انتهى.

وقالت فرقة : هما حزبان كافران اختلفا في مدة أهل الكهف.
قال السدّي من اليهود والنصارى الذين علموا قريشاً السؤال عن أهل الكهف ، وعن الخضر وعن الروح وكانوا قد اختلفوا في مدة إقامة أهل الكهف في الكهف.
وقال مجاهد : قوم أهل الكهف كان منهم مؤمنون وكافرون واختلفوا في مدة إقامتهم.
وقيل : حزبان من المؤمنين في زمن { أصحاب الكهف } اختلفوا في مدة لبثهم قاله الفراء.
وقال ابن عباس الملوك الذين تداولوا ملك المدينة حزب وأهل الكهف حزب.
وقال ابن بحر : الحزبان الله والخلق كقوله { أأنتم أعلم أم الله } وهذه كلها أقوال مضطربة.
وقال ابن قتادة : لم يكن للفريقين علم بلبثهم لا لمؤمن ولا لكافر بدليل قوله { الله أعلم بما لبثوا }.
وقال مقاتل : كما بعثوا زال الشك وعرفت حقيقة اللبث.
و { أحصى } جوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون فعلاً ماضياً ، وما مصدرية و { أمداً } مفعول به ، وأن يكون أفعل تفضيل و { أمداً } تمييز.
واختار الزجّاج والتبريزي أن يكون أفعل للتفضيل واختار الفارسي والزمخشري وابن عطية أن تكون فعلاً ماضياً ، ورجحوا هذا بأن { أحصى } إذا كان للمبالغة كان بناء من غير الثلاثي ، وعندهم أن ما أعطاه وما أولاه للمعروف وأعدى من الجرب شاذ لا يقاس.
ويقول أبو إسحاق : إنه قد كثر من الرباعي فيجوز ، وخلط ابن عطية فأورد فيما بني من الرباعي ما أعطاه للمال وآتاه للخير وهي أسود من القار وماؤه أبيض من اللبن.
وفهو لما سواها أضيع.
قال : وهذه كلها أفعل من الرباعي انتهى.
وأسود وأبيض ليس بناؤهما من الرباعي.
وفي بناء أفعل للتعجب وللتفضيل ثلاثة مذاهب يبنى منه مطلقاً وهو ظاهر كلام سيبويه ، وقد جاءت منه ألفاظ ولا يبنى منه مطلقاً وما ورد حمل على الشذود والتفصيل بين أن تكون الهمزة للنقل.
فلا يجوز ، أو لغير النقل كأشكل الأمر وأظلم الليل فيجوز أن تقول ما أشكل هذه المسألة ، وما أظلم هذا الليل.
وهذا اختيار ابن عصفور من أصحابنا.
ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب النحو ، وإذا قلنا بأن { أحصى } اسم للتفضيل جاز أن يكون { أي الحزبين } موصولاً مبنياً على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء فيه ، وهو كون { أي } مضافة حذف صدر صلتها ، والتقدير ليعلم الفريق الذي هو { أحصى } { لما لبثوا أمداً } من الذين لم يحصوا ، وإذا كان فعلاً ماضياً امتنع ذلك لأنه إذ ذاك لم يحذف صدر صلتها لوقوع الفعل صلة بنفسه على تقدير جعل { أي } موصولة فلا يجوز بناؤها لأنه فات تمام شرطها ، وهو أن يكون حذف صدر صلتها.
وقال : فإن قلت : فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟ قلت : ليس بالوجه السديد ، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس ، ونحو أعدى من الجرب ، وأفلس من ابن المذلق شاذ ، والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع فكيف به ، ولأن { أمداً } لا يخلو إما أن ينصب بأفعل فأفعل لا يعمل ، وإما أن ينصب بلبثوا فلا يسد عليه المعنى ، فإن زعمت أني أنصبه بإضمار فعل يدل عليه { أحصى } كما أضمر في قوله :

واضرب منا بالسيوف القوانسا . . .
على يضرب القوانس فقد أبعدت المتناول وهو قريب حيث أبيت أن يكون { أحصى } فعلاً ثم رجعت مضطراً إلى تقديره وإضماره انتهى.
أما دعواه الشذوذ فهو مذهب أبي عليّ ، وقد ذكرنا أن ظاهر مذهب سيبويه جواز بنائه من أفعل مطلقاً وأنه مذهب أبي إسحاق وأن التفصيل اختيار ابن عصفور وقول غيره.
والهمزة في { أحصى } ليست للنقل.
وأما قوله فافعل لا يعمل ليس بصحيح فإنه يعمل في التمييز ، و { أمداً } تمييز وهكذا أعربه من زعم أن { أحصى } أفعل للتفضيل ، كما تقول : زيداً أقطع الناس سيفاً ، وزيد أقطع للهام سيفاً ، ولم يعربه مفعولاً به.
وأما قوله : وإما أن ينصب بلبثوا فلا يسد عليه المعنى أي لا يكون سديداً فقد ذهب الطبري إلى نصب { أمداً } بلبثوا.
قال ابن عطية : وهذا غير متجه انتهى.
وقد يتجه ذلك أن الأمد هو الغاية ويكون عبارة عن المدة من حيث أن للمدة غاية في أمد المدة على الحقيقة ، وما بمعنى الذي و { أمداً } منتصب على إسقاط الحرف ، وتقديره لما { لبثوا } من أمد أي مدة ، ويصير من أمد تفسيراً لما أنهم في لفظ { ما لبثوا } كقوله { ما ننسخ من آية } { ما يفتح الله للناس من رحمة } ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل.
وأما قوله : فإن زعمت إلى آخره فيقول : لا يحتاج إلى هذا الزعم لأنه لقائل ذلك أن يسلك مذهب الكوفيين في أن أفعل التفضيل ينتصب المفعول به ، فالقوانس عندهم منصوب بأضرب نصب المفعول به ، وإنما تأويله بضرب القوانس قول البصريين ، ولذلك ذهب بعض النحويين إلى أن قوله { أعلم من يضل } من منصوبة بأعلم نصب المفعول به ، ولو كثر وجود مثل :
واضرب منا بالسيوف القوانسا . . .
لكنا نقيسه ويكون معناه صحيحاً لأن أفعل التفضيل مضمن معنى المصدر فيعمل بذلك التضمين ، ألا ترى أن المعنى يزيد ضربنا بالسيوف القوانسا على ضرب غيرنا ، ولما ذكر قوله ليعلم مشعراً باختلاف في أمرهم عقب بأنه تعالى هو الذي يقص شيئاً فشيئاً على رسوله صلى الله عليه وسلم خبرهم { بالحق } أي على وجه الصدق ، وجاء لفظ { نحن نقص } موازياً لقوله لنعلم.
ثم قال { آمنوا بربهم } ففيه إضافة الرب وهو السيد والناظر في مصلحة عبيده ، ولم يأت التركيب { آمنوا } بناء للأشعار بتلك الرتبة وهي أنهم مربوبون له مملوكون.
ثم قال : { وزدناهم هدى } ولم يأت التركيب وزادهم لما في لفظة ن من العظمة والجلال ، وزيادته تعالى لهم { هدى } هو تيسيرهم للعمل الصالح والإنقطاع إليه ومباعدة الناس والزهد في الدنيا ، وهذه زيادة في الإيمان الذي حصل لهم.

وفي التحرير { زدناهم } ثمرات { هدى } أو يقيناً قولان ، وما حصلت به الزيادة امتثال المأمور وترك المنهي ، أو إنطاق الكلب لهم بأنه هو على ما هم عليه من الإيمان ، أو إنزال ملك عليهم بالتبشير والتثبيت وإخبارهم بظهور نبي من العرب يكون الدين به كله لله فآمنوا به قبل بعثه أقوال ملخصة من التحرير.
{ وربطنا على قلوبهم } ثبتناها وقوّيناها على الصبر على هجرة الوطن والنعيم والفرار بالدين إلى غار في مكان قفر لا أنيس به ولا ماء ولا طعام ، ولما كان الفزع وخوف النفس يشبه بالتناسب الإنحلال حسن في شدة النفس وقوّة التصميم أن تشبه الربط ، ومنه فلان رابط الجأش إذا كانت نفسه لا تتفرق عند الفزع والحرب.
وقال تعالى : { إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها } والعامل في { أن ربطنا } أي ربطنا حين { قاموا } ، ويحتمل القيام أن يكون مقامهم بين يديّ الملك الكافر دقيانوس ، فإنه مقام محتاج إلى الربط على القلب حيث صلبوا عليه وخلعوا دينه ورفضوا في ذات الله هيبته ، ويحتمل أن يكون عبارة عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله ومنابذة الناس كما يقال : قام فلان إلى كذا إذا اعتزم عليه بغاية الجد.
وقال الكرماني : { قاموا } على أرجلهم.
وقيل : { قاموا } يدعون الناس سرّاً.
وقال عطاء { قاموا } عند قيامهم من النوم قالوا وقيل : { قاموا } على إيمانهم.
وقال صاحب الغنيان : { إذ قاموا } بين يديّ الملك فتحركت هرة.
وقيل : فأرة ففزع دقيانوس فنظر بعضهم إلى بعض فلم يتمالكوا أن قالوا { ربنا رب السموات والأرض } وكان قومهم عباد أصنام ، وما أحسن ما وحدوا الله بأن ربهم هو موجد السموات والأرض المتصرّف فيها على ما يشاء ، ثم أكدوا هذا التوجيد بالبراءة من إله غيره بلفظ النفي المستغرق تأبيد الزمان على قول.
واللام في { لقد } لام توكيد و { إذا } حرف جواب وجزاء ، أي { لقد قلنا } لن ندعو من دونه إلهاً قولاً { شططاً } أي ذا شطط وهو التعدي والجور ، فشططاً نعت لمصدر محذوف إما على الحذف كما قدرناه ، وإما على الوصف به على جهة المبالغة.
وقيل : مفعول به بقلنا.
وقال قتادة : { شططاً } كذباً.
وقال أبو زيد : خطأً.

هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)

ولما وحدوا الله تعالى ورفضوا ما دونه من الآلهة أخذوا في ذم قومهم وسوء فعلهم وأنهم لا حجة لهم في عبادة غير الله ، ثم عظموا جرم من افترى على الله كذباً وهذه المقالة يحتمل أن قالوها في مقامهم بين يديّ الملك تقبيحاً لما هو وقومهم عليه وذلك أبلغ في التبرّي من عبادة الأصنام ، وأفتّ في عضد الملك إذا اجترؤوا عليه بذم ما هو عليه ، ويحتمل أن قالوا ذلك عند قيامهم للأمر الذي عزموا عليه و { هؤلاء } مبتدأ.
و { قومنا } قال الحوفي : خبر و { اتخذوا } في موضع الحال.
وقال الزمخشري : وتبعه أبو البقاء : { قومنا } عطف بيان و { اتخذوا } في موضع الخبر.
والضمير في { من دونه } عائد على الله ، ولولا تحضيض صحبه الإنكار إذ يستحيل وقوع سلطان بيَّن على ذلك فلا يمكن فيه التحضيض الصرف ، فحضوهم على ذلك على سبيل التعجيز لهم ، ومعنى { عليهم } على اتخاذهم آلهة و { اتخذوا } هنا يحتمل أن يكون بمعنى عملوا لأنها أصنام هم نحتوها ، وأن تكون بمعنى صيروا ، وفي ما ذكروه دليل على أن الدّين لا يؤخذ إلاّ بالحجة والدعوى إذا لم يكن عليها دليل فاسدة وهي ظلم وافتراء على الله وكذب بنسبة شركاء الله.
و { إذ اعتزلتموهم } خطاب من بعضهم لبعض والاعتزال يشمل مفارقة أوطان قومهم ومعتقداتهم فهو اعتزال جسماني وقلبي ، وما معطوف على المفعول في { اعتزلتموهم } أي واعتزلتم معبودهم و { إلاّ الله } استثناء متصل إن كان قومهم يعبدون الله مع آلهتهم لاندراج لفظ الجلالة في قوله { وما يعبدون إلاّ الله }.
وذكر أبو نعيم الحافظ عن عطاء الخراساني أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه آلهة فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم يعتزلوا عبادة الله.
وقال هذا أيضاً الفرّاء ، ومنقطع إن كانوا لا يعرفون الله ولا يعبدونه لعدم اندراجه في معبوداتهم.
وفي مصحف عبد الله { وما يعبدون } من دوننا انتهى وما في مصحف عبد الله فيما ذكر هارون إنما أريد به تفسير المعنى.
وإن هؤلاء الفتية اعتزلوا قومهم { وما يعبدون } من دون الله وليس ذلك قرآناً لمخالفتها لسواد المصحف ، ولأن المستفيض عن عبد الله بل هو متواتر ما ثبت في السواد وهو { وما يعبدون إلاّ الله }.
وقيل : { وما يعبدون إلاّ الله } كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله تعالى ، فعلى هذا { ما } فيه و { إلاّ } استثناء مفرغ له العامل.
{ فأووا إلى الكهف } أي اجعلوه مأوى لكم تقيمون فيه وتأوون إليه.
وقوله { ينشر } فيه ما كانوا عليه من التوكل حيث أووا إلى كهف ، ورتبوا على مأواهم إليه نشر رحمة الله عليهم وتهيئة رفقه تعالى بهم لأن من أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان لا يضيعه ، والمعنى أنه تعالى سيبسط علينا رحمته ويهيء لنا ما نرتفق به في أمر عيشنا.

قال ابن عباس : { ويهيئ لكم } يسهل عليكم ما تخافون من الملك وظلمه ، ويأتيكم باليسر والرفق واللطف.
وقال ابن الأنباري : المعنى { ويهيئ لكم } بدلاً من أمركم الصعب { مرفقاً }.
قال الشاعر :
فليت لنا من ماء زمزم شربة . . .
مبردة باتت على طهيان
أي بدلاً من ماء زمزم.
وقال الزمخشري : إما أن يقولوا ذلك ثقة بفضل الله وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه ونصوع يقينهم ، وإما أن يخبرهم به نبيّ في عصرهم ، وإما أن يكون بعضهم نبياً.
وقرأ أبو جعفر والأعرج وشيبة وحميد وابن سعدان ونافع وابن عامر وأبو بكر في رواية الأعشى والبرجمي والجعفي عنه ، وأبو عمرو في رواية هارون بفتح الميم وكسر الفاء.
وقرأ ابن أبي إسحاق وطلحة والأعمش وباقي السبعة بكسر الميم وفتح الفاء رفقاً لأن جميعاً في الأمر الذي يرتفق به وفي الجارحة حكاه الزجّاج وثعلب.
ونقل مكي عن الفراء أنه قال : لا أعرف في الأمر وفي اليد وفي كل شيء إلاّ كسر الميم ، وأنكر الكسائي أن يكون المرفق من الجارحة إلاّ بفتح الميم وكسر الفاء ، وخالفه أبو حاتم وقال : المرفق بفتح الميم الموضع كالمسجد.
وقال أبو زيد : هو مصدر كالرفق جاء على مفعل.
وقيل : هما لغتان فيما يرتفق به وإما من اليد فبكسر الميم وفتح الفاء لا غير ، وعن الفراء أهل الحجاز يقولون { مرفقاً } بفتح الميم وكسر الفاء فيما ارتفقت به ويكسرون مرفق الإنسان ، والعرب قد يكسرون الميم منهما جميعاً انتهى وأجاز معاذ فتح الميم والفاء.

وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)

هنا جمل محذوفة دل عليها ما تقدم ، والتقدير { فأووا إلى الكهف } فألقى الله عليهم النوم واستجاب دعاءهم وأرفقهم في الكهف بأشياء.
وقرأ الحرميان ، وأبو عمر و { تزّاور } بإدغام تتزاور في الزاي.
وقرأ الكوفيون ، والأعمش ، وطلحة ، وابن أبي ليلى ، وابن مناذر ، وخلف ، وأبو عبيد ، وابن سعدان ، ومحمد بن عيسى الأصبهاني ، وأحمد بن جبير الأنطاكي بتخفيف الزاي إذا حذفوا التاء.
وقرأ ابن أبي إسحاق ، وابن عامر ، وقتادة ، وحميد ، ويعقوب عن العمري : تزورّ على وزن تحمرّ.
وقرأ الجحدري ، وأبو رجاء ، وأيوب السختياني ، وابن أبي عبلة ، وجابر ، وورد عن أيوب { تزوار } على وزن تحمارّ.
وقرأ ابن مسعود ، وأبو المتوكل : تزوئرُّ بهمزة قبل الراء على قولهم ادهأمّ واشعألّ بالهمز فراراً من التقاء الساكنين ، والمعنى تزوغ وتميل.
و { ذات اليمين } جهة يمين الكهف ، وحقيقته الجهة المسماة باليمين يعني يمين الداخل إلى الكهف أو يمين الفتية.
و { تقرضهم } لا تقر بهم من معنى القطيعة { وهم في فجوة } أي متسع من الكهف.
وقرأ الجمهور : { تقرضهم } بالتاء.
وقرأت فرقة بالياء أي يقرضهم الكهف.
قال ابن عباس : المعنى أنهم كانوا لا تصيبهم الشمس البتة.
وقالت فرقة : إنها كانت الشمس بالعشي تنالهم بما في مسها صلاح لأجسامهم ، وهذه الصفة مع الشمس تقتضي أنه كان لهم حاجب من جهة الجنوب ، وحاجب من جهة الدبور ، وهم في زاوية.
وقال عبد الله بن مسلم : كان باب الكهف ينظر إلى بنات نعش وعلى هذا كان أعلى الكهف مستوراً من المطر.
قال ابن عطية : كان كهفهم مستقبل بنات نعش لا تدخله الشمس عند الطلوع ولا عند الغروب ، اختار الله لهم مضجعاً متسعاً في مقناة لا تدخل عليهم الشمس فتؤذيهم وتدفع عنهم كربة الغار وغمومه.
وقال الزمخشري : المعنى أنهم في ظل نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها مع أنهم في مكان واسع منفتح معرّض لإصابة الشمس لولا أن الله يحجبها عنهم انتهى.
وهو بسط قول الزجّاج.
قال الزجاج : فعل الشمس آية { من آيات الله } دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك.
وقال أبو عليّ : معنى { تقرضهم } تعطيهم من ضوئها شيئاً ثم تزول سريعاً كالقرض يسترد ، والمعنى عنده أن الشمس تميل بالغدوة وتصيبه بالعشي إصابة خفيفة انتهى.
ولو كان من القرض الذي يعطي ثم يسترد لكان الفعل رباعياً فكان يكون تقرضهم بالتاء مضمومة.
لكنه من القطع ، وإنما التقدير تقرض لهم أي تقطع لهم من ضوئها شيئاً.
قيل : ولو كانت الشمس لا تصيب مكانهم أصلاً لكان يفسد هواؤه ويتعفن ما فيه فيهلكوا ، والمعنى أنه تعالى دبر أمرهم فأسكنهم مسكناً لا يكثر سقوط الشمس فيه فيحمى ، ولا تغيب عنه غيبوبة دائمة فيعفن.

والإشارة بذلك إلى ما صنعه تعالى بهم من ازورار الشمس وقرضها طالعة وغاربة آية من آياته يعني أن ما كان في ذلك السمت تصيبه الشمس ولا تصيبهم اختصاصاً لهم بالكرامة ، ومن قال إنه كان مستقبل بنات نعش بحيث كان له حاجب من الشمس كان الإشارة إلى أن حديثهم { من آيات الله } وهو هدايتهم إلى توحيده وإخراجهم من بين عبدة الأوثان وإيواؤهم إلى ذلك الكهف ، وحمايتهم من عدوّهم وإلقاء الهيبة عليهم ، وصرف الشمس عنهم يميناً وشمالاً لئلا تفسد أجسامهم وإنامتهم هذه المدة الطويلة ، وصونهم من البلي وثيابهم من التمزّق.
ويدل على أنه إشارة إلى الهداية قوله { من يهد الله فهو المهتد } وهو لفظ عام يدخل فيه ما سبق نسبتهم وهم أهل الكهف ، { ومن يضلل } عام أيضاً مثل دقيانوس الكافر وأصحابه ، والخطاب في { وتحسبهم } وفي { وترى الشمس } لمن قدر له أنه يطلع عليهم.
قيل : كانوا مفتحة أعينهم وهم نيام فيحسبهم الناظر منتبهين.
قال أبو محمد بن عطية : ويحتمل أن يحسب الرائي ذلك لشدّة الحفظ الذي كان عليهم وقلة التغيير ، وذلك أن الغالب على النوام أن يكون لهم استرخاء وهيئات تقتضي النوم ، فيحسبه الرائي يقظان وإن كان مسدود العينين ، ولو صح فتح أعينهم بسند يقطع العذر كان أبين في أن يحسب عليهم التيقظ ، والظاهر أن قوله { وتحسبهم أيقاظاً } إخبار مستأنف وليس على تقدير.
وقيل : في الكلام حذف تقديره لو رأيتهم لحسبتهم { أيقاظاً }.
والظاهر أن قوله { ونقلبهم } خبر مستأنف.
وقيل : إنما وقع الحسبان من جهة تقلبهم ، ولا سيما إذا كان من اليمين إلى الشمال ومن الشمال إلى اليمين وفي قراءة الجمهور { ونقلبهم } بالنون مزيد اعتناء الله بهم حيث أسند التقليب إليه تعالى ، وأنه هو الفاعل ذلك.
وحكى الزمخشري أنه قرىء ويقلبهم بالياء مشدّداً أي يقلبهم الله.
وقرأ الحسن فيما حكى الأهوازي في الإقناع : ويقلبهم بياء مفتوحة ساكنة القاف مخففة اللام.
وقرأ الحسن فيما حكى ابن جنيّ : وتقلبهم مصدر تقلب منصوباً ، وقال : هذا نصب بفعل مقدر كأنه قال : وترى أو تشاهد تقلبهم ، وعنه أيضاً أنه قرأ كذلك إلاّ أنه ضم الياء فهو مصدر مرتفع بالابتداء قاله أبو حاتم ، وذكر هذه القراءة ابن خالويه عن اليماني.
وذكر أن عكرمة قرأ وتقلبهم بالتاء باثنتين من فوق مضارع قلب مخففاً.
قيل : والفائدة في تقليبهم في الجهتين لئلا تُبلي الأرض ثيابهم وتأكل لحومهم ، فيعتقدوا أنهم ماتوا وهذا فيه بعد ، فإن الله الذي قدر على أن يبقيهم أحياء تلك المدة الطويلة هو قادر على حفظ أجسامهم وثيابهم.
وعن ابن عباس : لو مستهم الشمس لأحرقتهم ، ولولا التقليب لأكلتهم الأرض انتهى.
و { ذات } بمعنى صاحبة أي جهة { ذات اليمين }.
ونقل المفسرون الخلاف في أوقات تقليبهم وفي عدد التقليبات ، عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وقتادة ، ومجاهد ، وابن عياض بأقوال متعارضة متناقضة ضربنا عن نقلها صفحاً وكذلك لم نتعرض لاسم كلبهم ولا لكونه كلب زرع أو غيره ، لأن مثل العدد والوصف والتسمية لا يدرك بالعقل وإنما يدرك بالسمع ، والسمع لا يكون في مثل هذا إلاّ عن الأنبياء أو الكتب الإلهية ، ويستحيل ورود هذا الاختلاف عنها.

والظاهر أن قوله { وكلبهم } أريد به الحيوان المعروف ، وأبعد من ذهب إلى أنه أسد ، وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنه رجل طباخ لهم تبعهم ، أو أحدهم قعد عند الباب طليعة لهم.
وحكى أبو عمر والزاهد غلام ثعلب أنه قرىء وكالئهم اسم فاعل من كلأ إذا حفظ ، فينبغي أن يحمل على أنه الكلب لحفظه للإنسان.
قيل : ويحتمل أن يراد بالكالئ الرجل على ما روي إذ بسط الذراعين واللصوق بالأرض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الريئة المستخفي بنفسه.
وقرأ أبو جعفر الصادق : وكالبهم بالباء بواحدة أي صاحب كلبهم ، كما تقول لابن وتامر أي صاحب لبن وتمر.
وقال الزمخشري : { باسط ذراعيه } حكاية حال ماضية ، لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي ، وإضافته إذا أضيف حقيقة معرفة كغلام زيد إلاّ إذا نويت حكاية الحال الماضية انتهى.
وقوله لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي ليس إجماعاً ، بل ذهب الكسائي وهشام ، ومن أصحابنا أبو جعفر بن مضاء إلى أنه يجوز أن يعمل ، وحجج الفريقين مذكورة في علم النحو.
والوصيد قال ابن عباس : الباب.
وعنه أيضاً وعن مجاهد وابن جبير : الفناء.
وعن قتادة : الصعيد والتراب.
وقيل : العتبة.
وعن ابن جبير أيضاً التراب.
والخطاب في { لو اطلعت } لمن هوله في قوله { وترى الشمس } { وتحسبهم أيقاظاً }.
وقرأ ابن وثاب والأعمش : { لو اطلعت } بضم الواو وصلاً.
وقرأ الجمهور : بكسرها ، وقد ذكر ضمها عن شيبة وأبي جعفر ونافع وتملية الرعب لما ألقى الله عليهم من الهيبة والجلال ، فمن رام الإطلاع عليهم أدركته تلك الهيبة.
ومعنى { لوليت منهم } أعرضت بوجهك عنهم.
وأوليتهم كشحك ، وانتصب { فراراً } على المصدر إما لفررت محذوفة ، وإما { لوليت } لأنه بمعنى لفررت ، وإما مفعولاً من أجله.
وانتصب { رعباً } على أنه مفعول ثان ، وأبعد من ذهب إلى أنه تمييز منقول من المفعول كقوله { وفجرنا الأرض عيوناً } على مذهب من أجاز نقل التمييز من المفعول ، لأنك لو سلطت عليه الفعل ما تعدى إليه تعدى المفعول به بخلاف ، { وفجرنا الأرض عيوناً } وقيل : سبب الرعب طول شعورهم وأظفارهم وصفرة وجوههم وتغيير أطمارهم.
وقيل : لإظلام المكان وإيحاشه ، وليس هذان القولان بشيء لأنهم لو كانوا بتلك الصفة أنكروا أحوالهم ولم يقولوا { لبثنا يوماً أو بعض يوم } ولأن الذي بعث إلى المدينة لم ينكر إلاّ العالم والبناء لا حاله في نفسه ، ولأنهم بحالة حسنة بحيث لا يفرق الرائي بينهم وبين الأيقاظ { وهم في فجوة } تتخرقه الرياح والمكان الذي بهذه الصورة لا يكون موحشاً.
وقرأ ابن عباس ، والحرميان ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة بتشديد اللام والهمزة.
وقرأ باقي السبعة بتخفيف اللام والهمزة.
وقرأ أبو جعفر وشيبة بتشديد اللام وإبدال الياء من الهمزة.
وقرأ الزهري بتخفيف اللام والإبدال ، وتقدم الخلاف في { رعباً } في آل عمران.
وقرأ هنا بضم العين أبو جعفر وعيسى.

وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)

الكاف للتشبيه والإشارة بذلك.
قيل إلى المصدر المفهوم من { فضربنا على آذانهم } أي مثل جعلنا إنامتهم هذه المدة الطويلة آية ، جعلنا بعثهم آية.
قاله الزجاج وحسنه الزمخشري.
فقال : وكما أنمناهم تلك النومة { كذلك بعثناهم } إذكاراً بقدرته على الإماتة والبعث جميعاً ، ليسأل بعضهم بعضاً ويتعرّفوا حالهم وما صنع الله بهم ، فيعتبروا ويستدلوا على عظم قدرة الله ، ويزدادوا يقيناً ويشكروا ما أنعم الله به عليهم وكرموا به انتهى.
وناسب هذا التشبيه قوله تعالى حين أورد قصتهم أولاً مختصرة { فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً ثم بعثناهم }.
وقال ابن عطية : الإشارة بذلك إلى الأمر الذي ذكره الله في جهتهم والعبرة التي فعلها فيهم ، واللام في { ليتساءلوا } لام الصيرورة لأن بعثهم لم يكن لنفس تساؤلهم انتهى.
والقائل.
قيل : كبيرهم مكسلمينا.
وقيل : صاحب نفقتهم تمليخاً وكم سؤال عن العدد والمعنى كم يوماً أقمتم نائمين ، والظاهر صدور الشك من المسؤولين.
وقيل : { أو } للتفصيل.
قال بعضهم { لبثنا يوماً }.
وقال بعضهم { بعض يوم } والسائل أحس في خاطره طول نومهم ولذلك سأل.
قيل : ناموا أول النهار واستيقظوا آخر النهار ، وجوابهم هذا مبني على غلبة الظن والقول بالظن الغالب لا يعد كذباً ، ولما عرض لهم الشك في الإخبار ردوا علم لبثهم إلى الله تعالى.
وقال الزمخشري : { قالوا ربكم أعلم بما لبثتم } إنكار عليهم من بعضهم وأن الله تعالى أعلم بمدة لبثهم كان هؤلاء قد علموا بالأدلة أو بإلهام من الله أن المدة متطاولة وأن مقدارها مبهم لا يعلمه إلاّ الله انتهى.
ولما انتبهوا من نومهم أخذهم ما يأخذ من نام طويلاً من الحاجة إلى الطعام ، واتصل { فابعثوا } بحديث التساؤل كأنهم قالوا خذوا فيما يهمكم ودعوا علم ذلك إلى الله.
والمبعوث قيل هو تمليخا ، وكانوا قد استصحبوا حين خرجوا فارين دراهم لنفقتهم وكانت حاضرة عندهم ، فلهذا أشار وإليها بقولهم { هذه }.
وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر والحسن والأعمش واليزيدي ويعقوب في رواية ، وخلف وأبو عبيد وابن سعدان { بورقكم } بإسكان الراء.
وقرأ باقي السبعة وزيد بن عليّ بكسرها.
وقرأ أبو رجاء بكسر الواو وإسكان الراء وإدغام القاف في الكاف وكذا إسماعيل عن ابن محيصن ، وعن ابن محيض أيضاً كذلك إلاّ أنه كسر الراء ليصح الإدغام ، وقال الزمخشري : وقرأ ابن كثير { بورقكم } بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف انتهى.
وهو مخالف لما نقل الناس عنه.
وحكى الزجاج قراءة بكسر الواو وسكون الراء دون إدغام.
وقرأ عليّ بن أبي طالب بوارقكم على وزن فاعل جعله اسم جمع كباقر وجائل.
و { المدينة } هي مدينتهم التي خرجوا منها ، وقيل وتسمى الآن طرسوس وكان اسمها عند خروجهم أفسوس.
{ فلينظر } يجوز أن يكون من نظر العين ، ويجوز أن يكون من نظر القلب ، والجملة في موضع نصب بفلينظر معلق عنها الفعل.

و { أيها } استفهام مبتدأ و { أزكى } خبره ، ويجوز أن يكون { أيها } موصولاً مبنياً مفعولاً لينظر على مذهب سيبويه ، و { أزكى } خبر مبتدأ محذوف.
و { أزكى } قال ابن عباس وعطاء أحل ذبيحة وأطهر لأن عامة بلدتهم كانوا كفاراً يذبحون للطواغيت.
وقال ابن جبير : أحل طعاماً.
قال الضحاك : وكان أكثر أموالهم غصوباً.
وقال مجاهد : قالوا له لا تبتع طعاماً فيه ظلم.
وقال عكرمة : أكثر.
وقال قتادة : أجود.
وقال ابن السائب ومقاتل : أطيب.
وقال يمان بن ريان : أرخص.
وقيل : أكثر بركة وريعاً.
وقيل : هو الأرز.
وقيل : التمر.
وقيل : الزبيب.
وقيل : في الكلام حذف أي أيّ أهلها { أزكى طعاماً } فيكون ضمير المؤنث عائداً على { المدينة } وإذا لم يكن حذف فيكون عائده على ما يفهم من سياق الكلام كأنه قيل أي المآكل.
وفي قوله : { فابعثوا أحدكم بورقكم } دليل على أن حمل النفقة وما يصلح للمسافر هو رأي المتوكلين على الله دون المتوكلين على الإنفاقات وعلى ما في أوعية الناس.
وقال بعض العلماء : ما لهذا السفر يعني سفر الحج إلا شيئان شد الهميان والتوكل على الرحمن.
{ وليتلطف } في اختفائه وتحيله مدخلاً ومخرجاً.
وقال الزمخشري : وليتكلف اللطف والنيقة فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن ، أو في أمر التخفي حتى لا يعرف انتهى.
والوجه الثاني هو الظاهر.
وقرأ الحسن : { وليتلطف } بكسر لام الأمر ، وعن قتيبة الميال { وليتطلف } بضم الياء مبنياً للمفعول.
{ ولا يشعرن } أي لا يفعل ما يؤدي من غير قصد منه إلى الشعور بنا ، سمي ذلك إشعاراً منه بهم لأنه سبب فيه.
وقرأ أبو صالح ويزيد بن القعقاع وقتيبة { ولا يشعرن بكم } أحد ببناء الفعل للفاعل ، ورفع أحد.
والضمير في { أنهم } عائد على ما دل عليه المعنى من كفار تلك المدينة.
وقيل : ويجوز أن يعود على { أحداً } لأن لفظه للعموم فيجوز أن يجمع الضمير كقوله { فما منكم من أحد عنه حاجزين } ففي حاجزين ضمير جمع عائد على أحد.
وقال الزمخشري : الضمير في { أنهم } راجع إلى الأهل المقدر في { أيها } والظهور هنا الإطلاع عليهم والعلم بمكانهم.
وقيل : العلو والغلبة.
وقرأ زيد بن عليّ { يظهروا } بضم الياء مبنياً للمفعول ، والظاهر الرجم بالحجارة وكان الملك عازماً على قتلهم لو ظفر بهم ، والرجم كان عادة فيما سلف لمن خالف من الناس إذ هي أشفى ولهم فيها مشاركة.
وقال حجاج : معناه بالقول يريد السب وقاله ابن جبير { أو يعيدوكم } يدخلوكم فيها مكرهين ، ولا يلزم من العود إلى الشيء التلبس به قبل إذ يطلق ويراد به الصيرورة { ولن تفلحوا } إن دخلتم في دينهم و { إذاً } حرف جزاء وجواب ، وقد تقدم الكلام عليها وكثيراً ما يتضح تقدير شرط وجزاء.

وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)

قبل هذا الكلام جمل محذوفة التقدير فبعثوا أحدهم ونظر أيها أزكى طعاماً وتلطف ، ولم يشعر بهم أحداً فأطلع الله أهل المدينة على حالهم وقصة ذهابه إلى المدينة وما جرى له مع أهلها ، وحمله إلى الملك وادعائهم عليه أنه أصاب كثيراً من كنوز الأقدمين ، وحمل الملك ومن ذهب معه إليهم مذكور في التفاسير ذلك بأطول مما جرى والله أعلم بتفاصيل ذلك ، ويقال عثرت على الأمر إذا اطّلعت عليه وأعثرني غيري إذا أطلعني عليه ، وتقدم الكلام على هذه المادة في قوله { فإن عثر على أنهما استحقا إثماً } ومفعول { أعثرنا } محذوف تقديره { أعثرنا عليهم } أهل مدينتهم ، والكاف في { وكذلك } للتشبيه والتقدير وكما أنمناهم بعثناهم لما في ذلك من الحكمة أطلعنا عليهم ، والضمير في { ليعلموا } عائد على مفعول { أعثرنا } وإليه ذهب الطبري.
و { وعد الله } هو البعث لأن حالتهم في نومهم وانتباهتهم بعد المدة المتطاولة كحال من يموت ثم يبعث و { لا ريب } فيها أي لا شك ولا ارتياب في قيامها والمجازاة فيها ، وكان الذين أعثروا على أهل الكهف قد دخلتهم فتنة في أمر الحشر وبعث الأجساد من القبور ، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه.
وقالوا : تحشر الأرواح فشق على ملكهم وبقي حيران لا يدري كيف يبين أمره لهم حتى لبس المسوح وقعد على الرماد ، وتضرع إلى الله في حجة وبيان ، فأعثر الله على أهل الكهف ، فلما بعثهم الله تعالى وتبين الناس أمرهم سرّ الملك ورجع من كان شك في أمر بعث الأجساد إلى اليقين ، وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله { إذ يتنازعون بينهم أمرهم } و { إذ } معمولة لأعثرنا أو { ليعلموا }.
وقيل : يحتمل أن يعود الضمير في و { ليعلموا } على أصحاب الكهف ، أي جعل الله أمرهم آية لهم دالة على بعث الأجساد من القبور.
وقوله { إذ يتنازعون } على هذا القول ابتداء خبر عن القوم الذين بعثوا على عهدهم ، والتنازع إذ ذاك في أمر البناء والمسجد لا في أمر القيامة.
وقيل : التنازع إنما هو في أن أطلعوا عليهم.
فقال بعض : هم أموات.
وقال بعض : هم أحياء.
وروي أن الملك وأهل المدينة انطلقوا مع تمليخا إلى الكهف وأبصروهم ثم قالت الفتية للملك : نستودعك الله ونعيذك به من شر الجن والإنس ثم رجعوا إلى مضاجعهم ، وتوفى الله أنفسهم وألقى الملك عليهم ثيابه ، وأمر فجعل لكل واحد تابوت من ذهب ، فرآهم في المنام كارهين للذهب فجعلها من الساج ، وبنى على باب الكهف.
والظاهر أن قوله { ربهم أعلم بهم } من كلام المتنازعين داخل تحت القول أي أمروا بالبناء وأخبروا بمضمون هذه الجملة كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ، ومدة لبثهم فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا { ربهم أعلم بهم }.

وقيل : يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى رد القول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين أو من الذين تنازعوا فيه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب ، والذين غلبوا.
قال قتادة : هم الولاة.
روي أن طائفة ذهبت إلى أن يطمس الكهف عليهم ويتركوا فيه مغيبين ، وقالت الطائفة الغالبة : { لنتخذن عليهم مسجداً } فاتخذوه.
وروي أن التي دعت إلى البنيان كانت كافرة أرادت بناء بيعة أو مصنع لكفرهم فمانعهم المؤمنون وبنوا عليهم مسجداً.
وقرأ الحسن وعيسى الثقفي : { غلبوا } بضم الغين وكسر اللام ، والمعنى أن الطائفة التي أرادت المسجد كانت تريد أن لا يبني عليهم شيء ولا يعرض لموضعهم.
وروي أن طائفة أخرى مؤمنة أرادت أن لا يطمس الكهف ، فلما غلبت الأولى على أن يكون بنيان ولا بد قالت يكون { مسجداً } فكان.
وعن ابن عمر أن الله عمى على الناس أمرهم وحجبهم عنه فذلك دعاء إلى بناء البنيان ليكون معلماً لهم.
والظاهر أن الضمير في { سيقولون } عائد على من تقدم ذكرهم وهم المتنازعون في حديثهم قبل ظهورهم عليهم ، فأخبر تعالى نبيه بما كان من اختلاف قومهم في عددهم وكون الضمير عائداً على ما قلنا ذكره الماوردي.
وقيل : يعود على نصارى نجران تناظروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في عددهم.
فقالت الملكانية : الجملة الأولى ، واليعقوبية الجملة الثانية ، والنسطورية الجملة الثالثة ، وهذا يروي عن ابن عباس.
وفي الكشاف أن السيد قال الجملة الأولى وكان يعقوبياً ، والعاقب قال الثانية وكان نسطورياً ، والمسلمون قالوا الثالثة وأصابوا وعرفوا ذلك بإخبار الرسول عن جبريل عليهما الصلاة والسلام ، فتكون الضمائر في { سيقولون } { ويقولون } عائداً بعضها على نصارى نجران ، وبعضها على المؤمنين.
وعن عليّ هم سبعة نفر أسماؤهم تمليخاً ، ومكشلبيناً ومشلبينا هؤلاء أصحاب يمين الملك ، وكان عن يساره مرنوش ، ودبرنوش ، وشاذنوش وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره ، والسابع الراعي الذي وافقهم ، هربوا من ملكهم دقيانوس واسم مدينتهم أفسوس واسم كلبهم قطمير انتهى.
وقال ابن عطية الضمير في قوله { سيقولون } يراد به أهل التوراة من معاصري محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهل الكهف هذا الاختلاف المنصوص انتهى.
قيل : وجاء بسين الاستقبال لأنه كانه في الكلام طي وإدماج ، والتقدير فإذا أجبتهم عن سؤالهم وقصصت عليهم قصة أهل الكهف فسلهم عن عددهم فإنهم إذا سألتهم { سيقولون }.
وقرأ ابن محيصن ثلاث بإدغام الثاء في التاء ، وحسن ذلك لقرب مخرجهما وكونهما مهموسين ، لأن الساكن الذي قبل الثاء من حروف اللين فحسن ذلك ، ويقولون لم يأت بالسين فيه ولا فيما بعده لأنه معطوف على المستقبل فدخل في الاستقبال ، أو لأنه أريد به معنى الاستقبال الذي هو صالح له.
وقرأ شبل بن عباد عن ابن كثير بفتح ميم { خمسة } وهي لغة كعشرة.

وقرأ ابن محيصن بكسر الخاء والميم وبإدغام التاء في السين ، وعنه أيضاً إدغام التنوين في السين بغير غنة.
{ رجماً بالغيب } رمياً بالشيء المغيب عنهم أو ظناً ، استعير من الرجم كأن الإنسان يرمي الموضع المجهول عنده بظنه المرة بعد المرة يرجم به عسى أن يصيب ، ومنه الترجمان وترجمة الكتاب.
وقول زهير :
وما الحرب إلاّ ما علمتم وذقتم . . .
وما هو عنها بالحديث المرجم
أي المظنون ، وأتت هذه عقب ما تقدم ليدل على أن قائل تلك المقالتين لم يقولوا ذلك عن علم وإنما قالوا ذلك على سبيل التخمين والحدس ، وجاءت المقالة الثالثة خالية عن هذا القيد مشعرة أنها هي المقالة الصادقة كما تقدم ذكر ذلك عن عليّ.
وعن رسول الله عن جبريل عليهما الصلاة والسلام.
وانتصب { رجماً } على أنه مصدر لفعل مضمر أي يرجمون بذلك ، أو لتضمين { سيقولون } و { يقولون } معنى يرجمون ، أو لكونه مفعولاً من أجله أي قالوا ذلك لرميهم بالخبر الخفي أو لظنهم ذلك ، أي الحامل لهم على هذا القول هو الرجم بالغيب.
و { ثلاثة } خبر مبتدأ محذوف ، والجملة بعده صفة أي هم ثلاثة أشخاص ، وإنما قدرنا أشخاصاً لأن { رابعهم } اسم فاعل أضيف إلى الضمير ، والمعنى أنه ربعهم أي جعلهم أربعة وصيرهم إلى هذا العدد ، فلو قدر { ثلاثة } رجال استحال أن يصير ثلاثة رجال أربعة لاختلاف الجنسين ، والواو في { وثامنهم } للعطف على الجملة السابقة أي { يقولون } هم { سبعة وثامنهم كلبهم } فأخبروا أولاً بسبعة رجال جزماً ، ثم أخبروا أخباراً ثانياً أن { ثامنهم كلبهم } بخلاف القولين السابقين ، فإن كلاً منهما جملة واحدة وصف المحدث عنه بصفة ، ولم يعطف الجملة عليه.
وذكر عن أبي بكر بن عياش وابن خالويه أنها واو الثمانية ، وأن قريشاً إذا تحدثت تقول ستة سبعة وثمانية تسعة فتدخل الواو في الثمانية ، وكونهما جملتين معطوف إحداهما على الأخرى مؤذن بالتثبيت في الإخبار بخلاف ما تقدم فإنهم أخبروا بشيء موصوف بشيء لم يتأخر عن الإخبار ، ولذلك جاء فيه { رجماً بالغيب } ولم يجيء في هاتين الجملتين بشيء يقدح فيهما.
وقرىء وثامنهم كالبهم أي صاحب كلبهم ، وزعم بعضهم أنهم ثمانية رجال ، واستدل بهذه القراءة وأول قوله وكلبهم على حذف مضاف ، أي وصاحب كلبهم.
وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله { وثامنهم } ليس داخلاً تحت قولهم بل لقولهم هو قوله : { ويقولون سبعة } ثم أخبر تعالى بهذا على سبيل الاستئناف ، وإذا كان استئنافاً من الله دل ذلك على أنهم ثمانية بالكلب ، وأما { رابعهم كلبهم } و { سادسهم كلبهم } فهو من جملة المحكي من قولهم ، لأن كلاً من الجملتين صفة ، وإلى أن العدة ثمانية بالكلب ذهب الأكثرون من الصحابة والتابعين وأئمة التفسير.
وقال الزمخشري : فإن قلت : فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة ولم دخلت عليها دون الأولتين؟ قلت : هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالاً عن المعرفة في نحو قولك : جاءني رجل ومعه آخر ، ومررت بزيد وفي يده سيف.

ومنه قوله عز وعلا { وما أهلكنا من قرية إلاّ ولها كتاب معلوم } وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف ، والدلالة على اتصافه أمر ثابت مستقر ، وهي الواو التي آذنت بأن الذين قالوا { سبعة وثامنهم كلبهم } قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما غيرهم انتهى.
وكون الواو تدخل على الجملة الواقعة صفة دالة على لصوق الصفة بالموصوف وعلى ثبوت اتصاله بها شيء لا يعرفه النحويون ، بل قرروا أنه لا تعطف الصفة التي ليست بجملة على صفة أخرى إلاّ إذا اختلفت المعاني حتى يكون العطف دالاً على المغايرة ، وأما إذا لم يختلف فلا يجوز العطف هذا في الأسماء المفردة ، وأما الجمل التي تقع صفة فهي أبعد من أن يجوز ذلك فيها ، وقد ردوا على من ذهب إلى أن قول سيبويه ، وأما ما جاء لمعنى وليس باسم ولا فعل هو على أن وليس باسم ولا فعل صفة لقوله لمعنى ، وأن الواو دخلت في الجملة بأن ذلك ليس من كلام العرب مررت برجل ويأكل على تقدير الصفة.
وأما قوله تعالى { إلاّ ولها } فالجملة حالية ويكفي رداً لقول الزمخشري : إنّا لا نعلم أحداً من علماء النحو ذهب إلى ذلك ، ولما أخبر تعالى عن مقالتهم واضطرابهم في عددهم أمره تعالى أن يقول { قل ربي أعلم بعدتهم } أي لا يخبر بعددهم إلا من يعلمهم حقيقة وهو الله تعالى { ما يعلمهم إلا قليل } والمثبت في حق الله تعالى هو الأعلمية وفي حق القليل العالمية فلا تعارض.
قيل : من الملائكة.
وقيل : من العلماء وعلم القليل لا يكون إلاّ بإعلام الله.
وقال ابن عباس : أنا من القليل ، ثم نهاه تعالى عن الجدال فيهم أي في عدتهم ، والمراء وسمي مراجعته لهم { مراء } على سبيل المقابلة لمماراة أهل الكتاب له في ذلك ، وقيده بقوله ظاهراً أي غير متعمق فيه وهو إن نقص عليهم ما أوحي إليك فحسب من غير تجهيل ولا تعنيف كما قال { وجادلهم بالتي هي أحسن } وقال ابن زيد : { مراء ظاهراً } هو قولك لهم ليس كما تعلمون.
وحكي الماوردي إلاّ بحجة ظاهرة.
وقال ابن الأنباري : إلاّ جدال متيقن عالم بحقيقة الخبر ، والله تعالى ألقى إليك ما لا يشوبه باطل.
وقال ابن بحر : { ظاهراً } يشهده الناس.
وقال التبريزي : { ظاهراً } ذاهباً بحجة الخصم.
وأنشد :
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها . . .
أي ذاهب ، ثم نهاه أن يسأل أحداً من أهل الكتاب عن قصتهم لا سؤال متعنت لأنه خلاف ما أمرت به من الجدال بالتي هي أحسن ، ولا سؤال مسترشد لأنه تعالى قد أرشدك بأن أوحى إليك قصتهم ، ثم نهاه أن يخبر بأنه يفعل في الزمن المستقبل شيئاً إلاّ ويقرن ذلك بمشيئة الله تعالى ، وتقدم في سبب النزول أنه عليه السلام حين سأله قريش عن أهل الكهف والخضر والروح قال : «غداً أخبركم».

ولم يقل إن شاء الله ، فتأخر عنه الوحي مدة.
قيل : خمسة عشر يوماً.
وقيل : أربعين و { إلاّ أن يشاء الله } استثناء لا يمكن حمله على ظاهره لأنه يكون داخلاً تحت القول ، فيكون من المقول ولا ينهاه الله أن يقول { إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله } لأنه كلام صحيح في نفسه لا يمكن ينهى عنه ، فاحتيج في تأويل هذا الظاهر إلى تقدير.
فقال ابن عطية : في الكلام حذف يقتضيه الظاهر ويحسنه الإيجاز تقديره إلاّ أن تقول { إلا أن يشاء الله } أو إلاّ أن تقول إن شاء الله ، فالمعنى إلاّ أن تذكر مشيئة الله فليس { إلا أن يشاء الله } من القول الذي نهى عنه.
وقال الزمخشري : { إلاّ أن يشاء الله } متعلق بالنهي لا بقوله { إني فاعل } لأنه لو قال { إني فاعل } كذا { إلاّ أن يشاء الله } كان معناه إلاّ أن تعترض مشيئة الله دون فعله ، وذلك ما لا مدخل فيه للنهي وتعلقه بالنهي على وجهين.
أحدهما : ولا تقولنّ ذلك القول إلاّ أن يشاء الله أن تقوله بأن ذلك فيه.
والثاني : ولا تقولنه إلاّ بأن يشاء الله أي إلاّ بمشيئته وهو في موضع الحال ، أي إلاّ ملتبساً بمشيئة الله قائلاً إن شاء الله.
وفيه وجه ثالث وهو أن يكون إلاّ أن يشاء الله في معنى كلمة ثانية كأنه قيل : ولا تقولنه أبداً ونحوه { وما يكون لنا أن نعود فيها إلاّ أن يشاء الله ربنا } لأن عودهم في ملتهم مما لن يشاء الله ، وهذا نهي تأديب من الله لنبيه حين قال : «ائتوني غداً أخبركم».
ولم يستثن انتهى.
قال ابن عطية : وقالت فرقة هو استثناء من قوله { ولا تقولن } وحكاه الطبري ، ورد عليه وهو من الفساد من حيث كان الواجب أن لا يحكى انتهى.
وتقدم تخريج الزمخشري : ذلك على أن يكون متعلقاً بالنهي ، وتكلم المفسرون في هذه الآية في الاستثناء في اليمين ، وليست الآية في الإيمان والظاهر أمره تعالى بذكر الله إذا عرض له نسيان ، ومتعلق النسيان غير متعلق الذكر.
فقيل : التقدير { واذكر ربك } إذا تركت بعض ما أمرك به.
وقيل واذكره إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسيّ ، وقد حمل قتادة ذلك على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها.
وقيل : { واذكر ربك } بالتسبيح والاستغفار { إذا نسيت } كلمة الاستثناء تشديداً في البعث على الاهتمام بها.
وقيل : { واذكر } مشيئة { ربك } إذا فرط منك نسيان لذلك أي { إذا نسيت } كلمة الاستثناء ثم تنبهت لها ، فتداركتها بالذكر قاله ابن جبير.
قال : ولو بعد يوم أو شهر أو سنة.

وقال ابن الأنباري : بعد تقضي النسيان كما تقول : اذكر لعبد الله إذا صلى صاحبك أي إذا قضى الصلاة.
والإشارة بقوله لأقرب من هذا إلى الشيء المنسي أي { اذكر ربك } عند نسيانه بأن تقول { عسى أن يهديني ربي } لشيء آخر بدل هذا المنسي أقرب منه { رشداً } وأدنى خيراً أو منفعة ، ولعل النسيان كان خيرة كقوله { أو ننسها نأت بخير منها } وقال الزمخشري : وهذا إشارة إلى بناء أهل الكهف ، ومعناه لعل الله يؤتيني من البينات والحجج على أني نبيّ صادق ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشداً من بناء أصحاب الكهف ، وقد فعل ذلك حيث آتاد من قصص الأنبياء والأخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك وأدل انتهى.
وهذا تقدمه إليه الزجّاج قال المعنى : { عسى } أن ييسر الله من الأدلة على نبوّتي أقرب من دليل أصحاب الكهف.
وقال ابن الأنباري : { عسى } أن يعرفني جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حددته لكم ويعجل لي من جهته الرشاد.
وقال محمد الكوفي المفسر : هي بألفاظها مما أمر أن يقولها كل من لم يستثن وإنها كفارة لنسيان الاستثناء.

وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)

الظاهر أن قوله { ولبثوا } الآية إخبار من الله تعالى بمدة لبثهم نياماً في الكهف إلى أن أطلع الله عليهم.
قال مجاهد : وهو بيان لمجمل قوله تعالى { فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً } ولما تحرر هذا العدد بإخبار من الله تعالى أمر نبيه أن يقول { قل الله أعلم بما لبثوا } فخبره هذا هو الحق والصدق الذي لا يدخله ريب ، لأنه عالم { غيب السموات والأرض } والظاهر أن قوله { بما لبثوا } إشارة إلى المدة السابق ذكرها.
وقال بعضهم : { بما لبثوا } إشارة إلى المدة التي بعد الاطلاع عليهم إلى مدة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقيل : لما قال { وازدادوا تسعاً } كانت التسعة منبهمة هي الساعات والأيام والشهور والأعوام ، واختلفت بنو إسرائيل بحسب ذلك فأمره تعالى برد العلم إليه يعني في التسع وهذا بعيد لأنه إذا سبق عدد مفسر وعطف عليه ما لم يفسر حمل تفسيره على السابق.
وحكى النقاش أنها ثلاثمائة شمسية ، ولما كان الخطاب للعرب زيدت التسع إذ حساب العرب هو بالقمر لاتفاق الحسابين.
وقال قتادة ومطر الورّاق : { لبثوا } إخبار من بني إسرائيل ، واحتجوا بما في مصحف عبد الله وقالوا { لبثوا } وعلى غير قراءة عبد الله يكون معطوفاً على المحكي بقوله { سيقولون }.
ثم أمر الله نبيه أن يرد العلم إليه { بما لبثوا } ردّاً عليهم وتفنيداً لمقالتهم.
قيل : هو من قول المتنازعين في أمرهم وهو الصحيح على مقتضى سياق الآية ، ويؤيده { قل الله أعلم بما لبثوا } جعل ذلك من الغيوب التي هو تعالى مختص بها.
وقرأ الجمهور : مائة بالتنوين.
قال ابن عطية : على البدل أو عطف البيان.
وقيل : على التفسير والتمييز.
وقال الزمخشري : عطف بيان لثلاثمائة.
وحكى أبو البقاء أن قوماً أجازوا أن يكون بدلاً من مائة لأن مائة في معنى مئات ، فأما عطف البيان فلا يجوز على مذهب البصريين ، وأما نصبه على التمييز فالمحفوظ من لسان العرب المشهور أن مائة لا يفسر إلاّ بمفرد مجرور ، وإن قوله إذا عاش الفتى مائتين عاماً من الضرورات ولا سيما وقد انضاف إلى ذلك كون { سنين } جمعاً.
وقرأ حمزة والكسائي وطلحة ويحيى والأعمش والحسن وابن أبي ليلى وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي مائة بغير تنوين مضافاً إلى { سنين } أوقع الجمع موقع المفرد ، وأنحى أبو حاتم على هذه القراءة ولا يجوز له ذلك.
وقال أبو عليّ : هذه تضاف في المشهور إلى المفرد ، وقد تضاف إلى الجمع.
وقرأ أبي سنة وكذا في مصحف عبد الله.
وقرأ الضحاك : سنون بالواو على إضمار هي سنون.
وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية اللؤلؤي عنه { تسعاً } بفتح التاء كما قالوا عشر.

ثم ذكر اختصاصه بما غاب في السموات والأرض وخفي فيها من أحوال أهلها ، وجاء بما دل على التعجب من إدراكه للمسموعات والمبصرات للدّلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حد ما عليه إدراك السامعين والمبصرين ، لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها كما يدرك أكبرها حجماً وأكثفها جرماً ، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر والضمير في { به } عائد على الله تعالى ، وهل هو في موضع رفع أو نصب وهل { أسمع } و { أبصر } أمران حقيقة أم أمران لفظاً معناهما إنشاء التعجب في ذلك خلاف مقرر في النحو.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى { أبصر } بدين الله { وأسمع } أي بصر بهدى الله وسمع فترجع الهاء إما على الهدى وإما على الله ذكره ابن الأنباري.
وقرأ عيسى : أسمع به وأبصر على الخبر فعلاً ماضياً لا على التعجب ، أي { أبصر } عباده بمعرفته وأسمعهم ، والهاء كناية عن الله تعالى.
والضمير في قوله { ما لهم } قال الزمخشري : لأهل السموات والأرض من { وليّ } متول لأمورهم { ولا يشرك } في قضائه { أحداً } منهم.
وقيل : يحتمل أن يعود على أصحاب الكهف أي هذه قدرته وحده.
ولم يوالهم غيره يتلطف بهم ولا أشرك معه أحداً في هذا الحكم.
ويحتمل أن يعود على معاصري الرسول صلى الله عليه وسلم من الكفار ومشاقيه ، وتكون الآية اعتراضاً بتهديد قاله ابن عطية.
وقيل : يحتمل أن يعود على مؤمني أهل السموات والأرض أي لن يتخذ من دونه ولياً.
وقيل : يعود على المختلفين في مدة لبثهم أي ليس لهم من دون الله من يتولى تدبيرهم ، فكيف يكونون أعلم منه؟ أو كيف يعلمون من غير إعلامه إياهم؟ وقرأ الجمهور : { ولا يشرك } بالياء على النفي.
وقرأ مجاهد بالياء والجزم.
قال يعقوب : لا أعرف وجهه.
وقرأ ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو حيوة وزيد وحميد ابن الوزير عن يعقوب والجعفي واللؤلؤي عن أبي بكر : ولا تشرك بالتاء والجزم على النهي.
ولما أنزل عليه ما أنزل من قصة أهل الكهف أمره بأن يقص ويتلو على معاصريه ما أوحى إليه تعالى من كتابه في قصة أهل الكهف وفي غيرهم ، وأن ما أوحاه إليه { لا مبدل } له و { لا مبدل } عام و { لكلماته } عام أيضاً فالتخصيص إما في { لا مبدل } أي لا مبدل له سواه ، ألا ترى إلى قوله { وإذا بدلنا آية مكان آية } وإما في كلماته أي { لكلماته } المتضمنة الخبر لأن ما تضمن غير الخبر وقع النسخ في بعضه ، وفي أمره تعالى أن يتلو ما أوحي إليه وإخباره أنه لا مبدّل { لكلماته } إشارة إلى تبديل المتنازعين في أهل الكهف ، وتحريف أخبارهم والملتحد الملتجأ الذي تميل إليه وتعدل.

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)

قال كفار قريش لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك ، يعنون عماراً وصهيباً وسلمان وابن مسعود وبلالاً ونحوهم من الفقراء ، وقالوا : إن ريح جبابهم تؤذينا ، فنزلت { واصبر نفسك } الآية ، وعن سلمان أن قائل ذلك عيينة بن حصين والأقرع وذووهم من المؤلفة فنزلت ، فالآية على هذا مدنية والأول أصح لأن السورة مكية ، وفعل المؤلفة فعل قريش فردّ بالآية عليهم { واصبر نفسك } أي احبسها وثبتها.
قال أبو ذؤيب :
فصبرت عارفة لذلك حرة . . .
ترسو إذا نفس الجبان تطلع
وفي الحديث النهي عن صبر الحيوان أي حبسه للرمي ، و { مع } تقتضي الصحبة والموافقة والأمر بالصبر هنا يظهر منه كبير اعتناء بهؤلاء الذين أمر أن يصبر نفسه معهم.
وهي أبلغ من التي في الأنعام { ولا تطرد الذين يدعون } الآية.
وقال ابن عمر ومجاهد وإبراهيم : { بالغداة والعشي } إشارة إلى الصلوات الخمس.
وقال قتادة : إلى صلاة الفجر وصلاة العصر ، وقد يقال : إن ذلك يراد به العموم أي { يدعون ربهم } دائماً ، ويكون مثل : ضرب زيد الظهر والبطن يريد جميع بدنه لا خصوص المدلول بالوضع.
وتقدّم الكلام على قوله { بالغداة والعشي } قراءة وإعراباً في الأنعام.
{ ولا تعد } أي لا تصرف { عيناك } النظر عنهم إلى أبناء الدنيا ، وعدا متعد تقول : عدا فلان طوره وجاء القوم عدا زيداً ، فلذلك قدرنا المفعول محذوفاً ليبقى الفعل على أصله من التعدية.
وقال الزمخشري : وإنما عدَّي بعن لتضمين عدا معنى نبا وعلا في قولك : نبت عنه عينه ، وعلت عنه عينه إذا اقتحمته ولم تعلق به.
فإن قلت : أي غرض في هذا التضمين؟ وهلا قيل ولا تعدهم عيناك أو { ولا تعد عيناك عنهم }.
قلت : الغرض فيه إعطاء مجموع معنيين.
وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ ، ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك ولا تقتحمهم عيناك مجاوزين إلى غيرهم ونحو قوله { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } أي ولا تضموها إليها آكلين لها انتهى.
وما ذكره من التضمين لا ينقاس عند البصريين وإنما يذهب إليه عند الضرورة ، أما إذا أمكن إجراء اللفظ على مدلوله الوضعي فإنه يكون أولى.
وقرأ الحسن : { ولا تعد } من أعدى ، وعنه أيضاً وعن عيسى والأعمش { ولا تعد }.
قال الزمخشري : نقلاً بالهمزة وبنقل الحشو ومنه قوله.
فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له . . .
لأن معناه فعد همك عما ترى انتهى.
وكذا قال صاحب اللوامح.
قال : وهذا مما عديته بالتضعيف كما كان في الأولى بالهمز ، وما ذهبا إليه ليس بجيد بل الهمزة والتكثير في هذه الكلمة ليسا للتعدية وإنما ذلك لموافقة أفعل وفعل للفعل المجرد ، وإنما قلنا ذلك لأنه إذا كان مجرداً متعد وقد أقر بذلك الزمخشري فإنه قال : يقال عداه إذا جاوزه ، ثم قال : وإنما عدّي بعن للتضمين والمستعمل في التضمين هو مجاز ولا يتسعون فيه إذا ضمنوه فيعدونه بالهمزة أو التضعيف ، ولو عدِّي بهما وهو متعد لتعدى إلى اثنين وهو في هذه القراءة ناصب مفعولاً واحداً ، فدل على أنه ليس معدى بهما.

وقال الزمخشري : { تريد زينة الحياة الدنيا } في موضع الحال انتهى.
وقال صاحب الحال : إن قدر { عيناك } فكان يكون التركيب تريدان ، وإن قدر الكاف فمجيء الحال من المجرور بالإضافة مثل هذا فيها إشكال لاختلاف العامل في الحال وذي الحال ، وقد أجاز ذلك بعضهم إذا كان المضاف جزءاً أو كالجزء ، وحسن ذلك هنا أن المقصود نهيه عليه الصلاة والسلام عن الإعراض عنهم والميل إلى غيرهم ، وإنما جيء بقوله { عيناك } والمقصود هو لأنهما بهما تكون المراعاة للشخص والتلفت له ، والمعنى { ولا تعد } أنت { عنهم } النظر إلى غيرهم.
وقال الزمخشري : { من أغفلنا قلبه } من جعلنا قلبه غافلاً عن الذكر بالخذلان أو وجدناه غافلاً عنه كقولك : أجبنته وأفحمته وأبحلته إذا وجدته كذلك ، أو من أغفل إبله إذا تركها بغير سمة أي لم نسمه بالذكر ، ولم نجعلهم من الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان ، وقد أبطل الله توهم المجبرة بقوله { واتبع هواه } انتهى.
وهذا على مذهب المعتزلة ، والتأويل الآخر تأويل الرماني وكان معتزلياً قال : لم نسمه بما نسم به قلوب المؤمنين بما يبين به ، فلاحهم كما قال : كتب في قلوبهم الإيمان من قولهم بعير غفل لم يكن عليه سمة ، وكتاب غفل لم يكن عليه إعجام ، وأما أهل السنة فيقولون : إن الله تعالى أغفله حقيقة وهو خالق الضلال فيه والغفلة.
وقال المفضل : أخليناه عن الذكر وهو القرآن.
وقال ابن جريج : شغلنا قلبه بالكفر وغلبة الشقاء ، والظاهر أن المراد بمن { أغفلنا } كفار قريش.
وقيل : عيينة والأقرع والأول أولى لأن الآية مكية.
وقرأ عمر بن فائد وموسى الأسواري وعمرو بن عبيد { أغفلنا } بفتح اللام { قلبه } بضم الباء أسند الأفعال إلى القلب.
قال ابن جنيِّ من ظننا غافلين عنه.
وقال الزمخشري : حسبنا قلبه غافلين من أغفلته إذا وجدته غافلاً انتهى.
{ واتبع هواه } في طلب الشهوات { وكان أمره فرطاً }.
قال قتادة ومجاهد : ضياعاً.
وقال مقاتل بن حيان : سرفاً.
وقال الفرّاء : متروكاً.
وقال الأخفش : مجاوزاً للحد.
قيل : وهو قول عتبة إن أسلمنا أسلم الناس.
وقال ابن بحر : الفرط العاجل السريع ، كما قال { وكان الإنسان عجولاً } وقيل : ندماً.
وقيل : باطلاً.
وقال ابن زيد : مخالفاً للحق.
وقال ابن عطية : الفرط يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتضييع ، أي أمره الذي يجب أن يلزم ، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف أي { أمره } و { هواه } الذي هو بسبيله انتهى.
و { الحق } يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، فقدره ابن عطية هذا { الحق } أي هذا القرآن أو هذا الإعراض عنكم وترك الطاعة لكم وصبر النفس مع المؤمنين.

وقال الزمخشري : { الحق } خبر مبتدأ محذوف والمعنى جاء الحق وزاحت العلل فلم يبق إلاّ اختياركم لأنفسكم ما شئتم من الأخذ في طريق النجاة أو في طريق الهلاك ، وجيء بلفظ الأمر والتخيير لأنه لما مكن من اختيار أيهما شاء فكأنه مخير مأمور بأن يتخير ما شاء من النجدين انتهى.
وهو على طريق المعتزلة ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره { من ربكم }.
قال الضحاك : هو التوحيد.
وقال مقاتل : هو القرآن.
وقال مكي : أي الهدى والتوفيق والخذلان من عند الله يهدي من يشاء فيوفقه فيؤمن ، ويضل من يشاء فيخذله فيكفر ليس إليّ من ذلك شيء.
وقال الكرماني : أي الإسلام والقرآن ، وهذا الذي لفظه لفظ الأمر معناه التهديد والوعيد ولذلك عقبه بقوله : { إنّا أعتدنا للظالمين } قال معناه ابن عباس.
وقال السدّي : هو منسوخ بقوله { وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله } وهذا قول ضعيف ، والظاهر أن الفاعل بشاء عائد على { من }.
وعن ابن عباس من شاء الله له بالإيمان آمن ، ومن لا فلا انتهى.
وحكى ابن عطية عن فرقة أن الضمير في { شاء } عائد على الله تعالى ، وكأنه لما كان الإيمان والكفر تابعين لمشيئة الله جاء بصيغة الأمر حتى كأنه تحتم وقوعه مأمور به مطلوب منه.
وقرأ أبو السمال قعنب وقلَ الحق بفتح اللام حيث وقع.
قال أبو حاتم : وذلك رديء في العربية انتهى.
وعنه أيضاً ضم اللام حيث وقع كأنه اتباع لحركة القاف.
وقرأ أيضاً { الحق } بالنصب.
قال صاحب اللوامح : هو على صفة المصدر المقدر لأن الفعل يدل على مصدره وإن لم يذكر فينصبه معرفة كنصبه إياه نكرة ، وتقديره { وقل } القول { الحق } وتعلق { من } بمضمر على ذلك مثل هو إرجاء والله أعلم.
وقرأ الحسن وعيسى الثقفي بكسر لامي الأمر.
ولما تقدم الإيمان والكفر أعقب بما أعد لهما فذكر ما أعد للكافرين يلي قوله { فليكفر } وأتى بعد ذلك بما أعد للمؤمنين ، ولما كان الكلام مع الكفار وفي سياق ما طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم كانت البداءة بما أعد لهم أهم وآكد ، وهما طريقان للعرب هذه الطريق والأخرى أنه يجعل الأول في التقسيم للأول في الذكر ، والثاني للثاني.
والسرادق قال ابن عباس : حائط من نار محيط بهم.
وحكى أقضى القضاة الماوردي أنه البحر المحيط بالدنيا.
وحكى الكلبي : أنه عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار.
وقيل : دخان { وإن يستغيثوا } يطلبوا الغوث مما حل بهم من النار وشدة إحراقها واشتداد عطشهم { يغاثوا } على سبيل المقابلة وإلاّ فليست إغاثة.
وروي في الحديث أنه عكر الزيت إذا قرب منه سقطت فروة وجهه فيه.
وقال ابن عباس : ماء غليظ مثل دردي الزيت.
وعن مجاهد أنه القيح والدم الأسود.
وعن ابن جبير : كل شيء ذائب قد انتهى حرّه.

وذكر ابن الأنباري أنه الصديد.
وعن الحسن أنه الرماد الذي ينفط إذا خرج من التنور.
وقيل : ضرب من القطران.
و { يشوي } في موضع الصفة لماء أو في موضع الحال منه لأنه قد وصف فحسن مجيء الحال منه ، وإنما اختص { الوجوه } لكونها عند شربهم يقرب حرّها من وجوههم.
وقيل : عبر بالوجوه عن جميع أبدانهم ، والمعنى أنه ينضج به جميع جلودهم كقوله { كلما نضجت جلودهم } والمخصوص بالذم محذوف تقديره { بئس الشراب } هو أي الماء الذي يغاثون به.
والضمير في { ساءت } عائد على النار.
والمرتفق قال ابن عباس : المنزل.
وقال عطاء : المقر.
وقال القتبي : المجلس.
وقال مجاهد : المجتمع ، وأنكر الطبري أن يعرف لقول مجاهد معنى ، وليس كذلك كان مجاهداً ذهب إلى معنى الرفاقة ومنه الرفقة.
وقال أبو عبيدة : المتكأ.
وقال الزجاج : المتكأ على المرفق ، وأخذه الزمخشري فقال : متكأ من المرفق وهذا لمشاكلة قوله { وحسنت مرتفقاً } وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء.
وقال ابن الأنباري : ساءت مطلباً للرفق ، لأن من طلب رفقاً من جهنم عدمه.
وقال ابن عطية : قريباً من قول ابن الأنباري.
قال : والأظهر عندي أن يكون المرتفق بمعنى الشيء الذي يطلب رفقه باتكاء وغيره.
وقال أبو عبد الله الرازي : والمعنى بئس الرفقاء هؤلاء ، وبئس موضع الترافق النار.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)

لما ذكر تعالى حال أهل الكفر وما أعد لهم في النار ذكر حال أهل الإيمان وما أعد لهم في الجنة ، وخبر { إن } يحتمل أن تكون الجملة من قوله أولئك لهم.
وقوله { إنّا لا نضيع } الجملة اعتراض.
قال ابن عطية : ونحو هذا من الاعتراض قول الشاعر :
إن الخليفة إن الله ألبسه . . .
سربال ملك به ترجى الخواتيم
انتهى ، ولا يتعين في قوله إن الله ألبسه أن يكون اعتراضاً هي اسم إن وخبرها الذي هو ترجى الخواتيم ، يجوز أن يكون إن الله ألبسه هو الخبر ، ويحتمل أن يكون الخبر قوله { إنّا لا نضيع أجر } والعائد محذوف تقديره { من أحسن عملاً } منهم.
أو هو قوله { من أحسن عملاً } على مذهب الأخفش في ربطه الجملة بالاسم إذا كان هو المبتدأ في المعنى ، لأن { من أحسن عملاً } هم { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } فكأنه قال : إنّا لا نضيع أجرهم ، ويحتمل أن تكون الجملتان خبرين لأن على مذهب من يقتضي المبتدأ خبرين فصاعداً من غير شرط أن يكونا ، أو يكن في معنى خبر.
واحد.
وإذا كان خبر { إن } قوله { إنّا لا نضيع } كان قوله { أولئك } استئناف اخبار موضح لما انبهم في قوله { إنّا لا نضيع } من مبهم الجزاء.
وقرأ عيسى الثقفي { لا نضيع } من ضيع عداه بالتضعيف ، والجمهور من أضاع عدوّه بالهمزة ، ولما ذكر مكان أهل الكفر وهو النار.
ذكر مكان أهل الإيمان وهي { جنات عدن } ولما ذكر هناك ما يغاثون به وهو الماء كالمهل ذكر هنا ما خص به أهل الجنة من كون الأنهار تجري من تحتهم ، ثم ذكر ما أنعم عليهم من التحلية واللباس اللذين هما زينة ظاهرة.
وقال سعيد بن جبير : يحلى كل واحد ثلاثة أساور سوار من ذهب ، وسوار من فضة ، وسوار من لؤلؤ ويواقيت.
وقال الزمخشري : و { من } الأول للابتداء والثانية للتبيين ، وتنكير { أساور } لإبهام أمرها في الحسن انتهى.
ويحتمل أن تكون { من } في قوله { من ذهب } للتبعيض لا للتبيين.
وقرأ أبان عن عاصم من اسورة من غير ألف وبزيادة هاء وهو جمع سوار.
وقرأ أيضاً أبان عن عاصم وابن أبي حماد عن أبي بكر : { ويلبسون } بكسر الباء.
وقرأ ابن محيصن { واستبرق } بوصل الألف وفتح القاف حيث وقع جعله فعلاً ماضياً على وزن استفعل من البريق ، ويكون استفعل فيه موافقاً للمجرد الذي هو برق كما تقول : قر واستقر بفتح القاف ذكره الأهوازي في الإقناع عن ابن محيصن.
قال ابن محيصن.
وحده : { واستبرق } بالوصل وفتح القاف حيث كان لا يصرفه انتهى.
فظاهره أنه ليس فعلاً ماضياً بل هو اسم ممنوع الصرف.
وقال ابن خالويه : جعله استفعل من البريق ابن محيصن فظاهره أنه فعل ماض وخالفهما صاحب اللوامح.

قال ابن محيصن : { واستبرق } بوصل الهمزة في جميع القرآن فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفاً على غير قياس ، ويجوز أنه جعله عربية من برق يبرق بريقاً.
وذلك إذا تلالأ الثوب لجدته ونضارته ، فيكون وزنه استفعل من ذلك فلما تسمى به عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة ، ومعاملة المتمكنة من الأسماء في الصرف والتنوين ، وأكثر التفاسير على أنه عربية وليس بمستعرب دخل في كلامهم فأعربوه انتهى.
ويمكن أن يكون القولان روايتين عنه فتح القاف وصرفه التنوين ، وذكر أبو الفتح بن جنيّ قراءة فتح القاف ، وقال : هذا سهو أو كالسهو انتهى.
وإنما قال ذلك لأنه جعله اسماً ومنعه من الصرف لا يجوز لأنه غير علم ، وقد أمكن جعله فعلاً ماضياً فلا تكون هذه القراءة سهواً.
قال الزمخشري : وجمع بين السندس وهو ما رقَّ من الديباج ، وبين الاستبرق وهو الغليظ منه جمعاً بين النوعين ، وقدمت التحلية على اللباس لأن الحلي في النفس أعظم وإلى القلب أحب ، وفي القيمة أغلى ، وفي العين أحلى ، وبناء فعله للمفعول الذي لم يسم فاعله إشعاراً بأنهم يكرمون بذلك ولا يتعاطون ذلك بأنفسهم كما قال الشاعر :
غرائر في كن وصون ونعمة . . .
تحلين ياقوتاً وشذراً مفقرا
وأسند اللباس إليهم لأن الإنسان يتعاطى ذلك بنفسه خصوصاً لو كان بادي العورة ، ووصف الثياب بالخضرة لأنها أحسن الألوان والنفس تنبسط لها أكثر من غيرها ، وقد روي في ذلك أثر إنها تزيد في ضوء البصر وقال بعض الأدباء :
أربعة مذهبة لكل هم وحزن . . .
الماء والخضرة والبستان والوجه الحسن
وخص الاتكاء لأنها هيئة المنعمين والملوك على أسرَّتهم.
وقرأ ابن محيصن : { على الأرائك } بنقل الهمزة إلى لام التعريف وإدغام لام على { فيها } فتنحذف ألف { على } لتوهم سكون لام التعريف والنطق به علرائك ومثله قول الشاعر :
فما أصبحت علرض نفس برية . . .
ولا غيرها إلاّ سليمان بالها
يريد على الأرض ، والمخصوص بالمدح محذوف أي نعم الثواب ما وعدوا به ، والضمير في { حسنت } عائد على الجنات.

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)

حفه : طاف به من جوانبه.
قال الشاعر :
يحفه جانباً نيق ويتبعه . . .
مثل الزجاجة لم يكحل من الرمد
وحففته به : جعلته مطيفاً به ، وحف به القوم صاروا في حفته ، وهي جوانبه.
كلتا : اسم مفرد اللفظ عند البصريين مثنى المعنى ومثنى لفظاً ، ومعنى عند البغداديين وتاؤه عند البصريين غير الجرمي بدل من واو فاصله كلوى ، والألف فيه للتأنيث وزائدة عند الجرمي ، والألف منقلبة عن أصلها ووزنها عنده فعيل.
المحاورة : مراجعة الكلام من حار إذا رجع.
البيدودة الهلاك ، ويقال منه : باد يبيد بيوداً وبيدودة.
قال الشاعر :
فلئن باد أهله . . .
لبما كان يوهل
{ واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً وفجرنا خلالهما نهراً وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً }.
قيل نزلت في أخوين من بني مخزوم الأسود بن عبد الأسود بن عبد ياليل وكان كافراً ، وأبي سلمة عبد الله بن الأسود كان مؤمناً.
وقيل : اخوان من بني إسرائيل فرطوس وهو الكافر وقيل : اسمه قطفير ، ويهوذا وهو المؤمن في قول ابن عباس.
وقال مقاتل : اسمه تمليخا وهو المذكور في الصافات في قوله { قال قائل منهم إني كان لي قرين } وعن ابن عباس أنهما ابنا ملك من بني إسرائيل أنفق أحدهما ماله في سبيل الله وكفر الآخر واشتغل بزينة الدنيا وتنمية ماله.
وعن مكي أنهما رجلان من بني إسرائيل اشتركاً في مال كافر ستة آلاف فاقتسماها.
وروي أنهما كانا حدادين كسبا مالاً.
وروي أنهما ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار ، فاشترى الكافر أرضاً بألف وبني داراً بألف وتزوج امرأة بألف واشترى خدماً ومتاعاً بألف ، واشترى المؤمن أرضاً في الجنة بألف فتصدق به ، وجعل ألفاً صداقاً للحور فتصدق به ، واشترى الولدان المخلدين بألف فتصدق به ، ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله.
والضمير في { لهم } عائد على المتجبرين الطالبين من الرسول صلى الله عليه وسلم طرد الضعفاء المؤمنين ، فالرجل الكافر بإزاء المتجبرين والرجل المؤمن بإزاء ضعفاء المؤمنين ، وظهر بضرب هذا المثل الربط بين هذه الآية والتي قبلها إذ كان من أشرك إنما افتخر بماله وأنصاره ، وهذا قد يزول فيصير الغني فقيراً ، وإنما المفاخرة بطاعة الله والتقدير { واضرب لهم مثلاً } قصة { رجلين } وجعلنا تفسير للمثل فلا موضع له من الإعراب ، ويجوز أن يكون موضعه نصباً نعتاً لرجلين.

وأبهم في قوله { جعلنا لأحدهما } وتبين أنه هو الكافر الشاك في البعث ، وأبهم تعالى مكان الجنتين إذ لا يتعلق بتعيينه كبير فائدة.
وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين وكانتا الأخوين ، فباع أحدهما نصيبه من الآخر وأنفقه في طاعة الله حتى عيره الآخر ، وجرت بينهما هذه المحاورة قال : فغرقها الله في ليلة وإياهما عنى بهذه الآية.
قال ابن عطية : وتأمل هذه الهيئة التي ذكر الله فإن المرء لا يكاد يتخيل أجل منهما في مكاسب الناس جنتا عنب أحاط بهما نخل بينهما فسحة هي مزدرع لجميع الحبوب والماء المعين ، يسقى جميع ذلك من النهر.
وقال الزمخشري : { جنتين من أعناب } بساتين من كروم ، { وحففناهما } { بنخل وجعلنا } النخل محيطاً بالجنتين ، وهذا مما يؤثره الدهاقين في كرومهم أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار المثمرة انتهى.
وقرأ الجمهور { كلتا الجنتين } وفي مصحف عبد الله كلا الجنتين ، أتى بصيغة التذكير لأن تأنيث الجنتين مجازي ، ثم قرأ { آتت } فأنث لأنه ضمير مؤنث ، فصار نظير قولهم طلع الشمس وأشرقت.
وقال الفراء في قراءة ابن مسعود : كل الجنتين آتى أكله انتهى فأعاد الضمير على كل.
وقال الزمخشري : جعلها أرضاً جامعة للأقوات والفواكه ، ووصف العمارة بأنها متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعها ويفصل بينهما مع الشكل الحسن والترتيب الأنيق ، ونعتهما بوفاء الثمار وتمام الأكل من غير نقص ثم بما هو أصل الخير ومادته من أمر الشرب ، فجعله أفضل ما يسقى به وهو السيح بالنهر الجاري فيها والأكل الثمر.
وقرأ الجمهور { وفجرّنا } بتشديد الجيم.
وقال الفراء : إنما شدد { وفجرّنا } وهو نهر واحد لأن النهر يمتد فكان التفجر فيه كله أعلم الله تعالى أن شربهما كان من نهر واحد وهو أغزر الشرب.
وقرأ الأعمش وسلام ويعقوب وعيسى بن عمر بتخفيف الجيم وكذا قرأ الأعمش في سورة القمر ، والتشديد في سورة القمر أظهر لقوله { عيوناً } وقوله هنا { نهراً } وانتصب { خلالهما } على الظرف أي وسطهما ، كان النهر يجري من داخل الجنتين.
وقرأ الجمهور { نهراً } بفتح الهاء.
وقرأ أبو السمال والفياض بن غزوان وطلحة بن سليمان بسكون الهاء.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن عامر وحمزة والكسائي وابن كثير ونافع وجماعة قراء المدينة : { ثمر } وبثمره بضم الثاء والميم جمع ثمار.
وقرأ الأعمش وأبو رجاء وأبو عمرو بإسكان الميم فيهما تخفيفاً أو جمع ثمرة كبدنة وبدن.
وقرأ أبو جعفر والحسن وجابر بن زيد والحجاج وعاصم وأبو حاتم ويعقوب عن رويس عنه بفتح الثاء والميم فيهما.
وقرأ رويس عن يعقوب { ثمر } بضمهما وبثمره بفتحهما فيمن قرأ بالضم.
قال ابن عباس وقتادة الثمر جميع المال من الذهب والحيوان وغير ذلك.
وقال النابغة :
مهلاً فداء لك الأقوام كلهم . . .
وما أثمروا من مال ومن ولد
وقال مجاهد : يراد بها الذهب والفضة خاصة.

وقال ابن زيد : هي الأصول فيها الثمر.
وقال أبو عمرو بن العلاء : الثمر المال ، فعلى هذا المعنى أنه كانت له إلى الجنتين أموال كثيرة من الذهب والفضة وغيرهما ، فكان متمكناً من عمارة الجنتين.
وأما من قرأ بالفتح فلا إشكال أنه يعني به حمل الشجر.
وقرأ أبو رجاء في رواية { ثمر } بفتح الثاء وسكون الميم ، وفي مصحف أُبيّ وآتيناه ثمراً كثيراً ، وينبغي أن يجعل تفسيراً.
ويظهر من قوله { فقال لصاحبه } أنه ليس أخاه ، { وهو يحاوره } جملة حالية ، والظاهر أن ذا الحال هو القائل أي يراجعه الكلام في إنكاره البعث ، وفي إشراكه بالله.
وقيل : هي حال من صاحبه أي المسلم كان يحاوره بالوعظ والدعاء إلى الله وإلى الإيمان بالبعث ، والظاهر كون أفعل للتفضيل وأن صاحبه كان له مال ونفر ولم يكن سبروتاً كما ذكر أهل التاريخ ، وأنه جاء يستعطيه ويدل على ذلك كونه قابله بقوله { إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً } وهذا على عادة الكفار في الافتخار بكثرة المال وعزة العشيرة والتكبر والاغترار بما نالوه من حطام الدنيا ، ومقالته تلك لصاحبه بإزاء مقالة عيينة والأقرع للرسول صلى الله عليه وسلم : نحن سادات العرب وأهل الوبر والمدر ، فنحِّ عنا سلمان وقرناءه.
وعنى بالنفر أنصاره وحشمه.
وقيل : أولاداً ذكوراً لأنهم ينفرون معه دون الإناث ، واستدل على أنه لم يكن أخاه بقوله : { وأعز نفراً } إذ لو كان أخاه لكان نفره وعشيرته نفر أخيه وعشيرته ، وعلى التفسيرين السابقين لا يرد هذا.
أما من فسر النفر بالعشيرة التي هي مشتركة بينهما فيرد ، وأفرد الجنة في قوله { ودخل جنته } من حيث الوجود كذلك لأنه لا يدخلهما معاً في وقت واحد.
وقال الزمخشري : فإن قلت : لم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلت : معناه ودخل ما هو جنته ما له جنة غيرها ، يعني أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المتقون فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما انتهى.
ولا يتصور ما قال لأن قوله ودخل جنته إخبار من الله تعالى بدخول ذلك الكافر جنته فلا بد أن قصد في الإخبار أنه دخل إحدى جنتيه إذ لا يمكن أن يدخلهما معاً في وقت واحد ، والمعنى { ودخل جنته } يري صاحبه ما هي عليه من البهجة والنضارة والحسن.
{ وهو ظالم لنفسه } جملة حالية أي وهو كافر بنعمة ربه مغتر بما ملكه شاك في نفاد ما خوله.
وفي البعث الذي حاوره فيه صاحبه ، والظاهر أن الإشارة بقوله { هذه } إلى الجنة التي دخلها ، وعنى بالأبد أبد حياته وذلك لطول أمله وتمادي غفلته ، ولحسن قيامه عليها بما أوتي من المال والخدم فهي باقية مدة حياته على حالها من الحسن والنضارة ، والحس يقتضي أن أحوال الدنيا بأسرها غير باقية أو يكون قائلاً بقدم العالم ، وأن ما حوته هذه الجنة إن فنيت أشخاص أثمارها فتخلفها أشخاص أخر ، وكذا دائماً.

ويبعد قول من قال : يحتمل أن يشير بهذه إلى الهيئة من السموات والأرض وأنواع المخلوقات ، ودل كلامه على أن المحاورة التي كانت بينهما هي في فناء هذا العالم الذي هذه الجنة جزء منه ، وفي البعث الأخروي أن صاحبه كان تقرر له هذان الأمران وهو يشك فيهما.
ثم أقسم على أنه إن رد إلى ربه على سبيل الفرض والتقدير وقياس الأخرى على الدنيا وكما يزعم صاحبه ليجدن في الآخرة خيراً من جنته في الدنيا تطمعاً ، وتمنياً على الله ، وادعاء لكرامته عليه ومكانته عنده ، وأنه ما أولاه الجنتين في الدنيا إلاّ لاستحقاقه ، وأن معه هذا الاستحقاق أين توجه كقوله { إن لي عنده للحسنى } وأما ما حكى الله تعالى عما قاله العاص بن وائل لأوتين مالاً وولداً فليس على حد مقالة هذا لصاحبه لأن العاصي قصد الاستخفاف وهو مصمم على التكذيب ، وهذا قال ما معناه إن كان ثم رجوع فسيكون حالي كذا وكذا.
وقرأ ابن الزبير وزيد بن عليّ وأبو بحرية وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد وابن مناذر ونافع وابن كثير وابن عامر منهما على التثنية وعود الضمير على الجنتين ، وكذا في مصاحف مكة والمدينة والشام.
وقرأ الكوفيون وأبو عمرو { منها } على التوحيد وعود الضمير على الجنة المدخولة وكذا في مصاحف الكوفة والبصرة ، ومعنى { منقلباً } مرجعاً وعاقبة أي منقلب الآخرة لبقائها خير من منقلب الدنيا لزوالها ، وانتصب { منقلباً } على التمييز المنقول من المبتدأ.

قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)

النطفة القليل من الماء ، يقال ما في القربة من الماء نطفة ، المعنى ليس فيها قليل ولا كثير ، وسمِّي المني نطفة لأنه ينطف أي يقطر قطرة بعد قطرة.
وفي الحديث : « جاء ورأسه ينطف ماء » أي يقطر.
الحسبان في اللغة الحساب ، ويأتي أقوال أهل التفسير فيه.
الزلق : ما لا يثبت فيه القدم من الأرض.
{ قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سوّاك رجلاً لكنّا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحداً ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقاً أو يصبح ماؤها غوراً فلن تستطيع له طلباً وأحيط بثمرة فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً هنالك الولاية لله الحق هو خير ثواباً وخير عقباً }.
{ وهو يحاوره } حال من الفاعل وهو صاحبه المؤمن.
وقرأ أُبيّ وهو يخاصمه وهي قراءة تفسير لا قراءة رواية لمخالفته سواد المصحف ، ولأن الذي روي بالتواتر { هو يحاوره } لا يخاصمه.
و { أكفرت } استفهام إنكار وتوبيخ حيث أشرك مع الله غيره.
وقرأ ثابت البناني : ويلك { أكفرت } وهو تفسير معنى التوبيخ والإنكار لا قراءة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم نبهه على أصل نشأته وإيجاده بعد العدم وأن ذلك دليل على جواز البعث من القبور ، ثم تحتم ذلك بإخبار الصادقين وهم الرسل عليهم السلام.
وقوله { خلقك من تراب } إما أن يراد خلق أصلك { من تراب } وهو آدم عليه السلام وخلق أصله سبب في خلقه فكان خلقه خلقاً له ، أو أريد أن ماء الرجل يتولد من أغذية راجعة إلى التراب ، فنبهه أولاً على ما تولد منه ماء أبيه ثم ثانيه على النطفة التي هي ماء أبيه.
وأما ما نقل من أن ملَكاً وكلّ بالنطفة يلقي فيها قليلاً من تراب قبل دخولها في الرحم فيحتاج إلى صحة نقل.
ثم نبهه على تسويته رجلاً وهو خلقه معتدلاً صحيح الأعضاء ، ويقال للغلام إذا تمّ شبابه قد استوى.
وقيل : ذكره بنعمة الله عليه في كونه رجلاً ولم يخلقه أنثى ، نبهه بهذه التنقلات على كمال قدرته وأنه لا يعجزه شيء.
قال الزمخشري : { سواك } عدلك وكملك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال ، جعله كافراً بالله جاحداً لأنعمه لشكه في البعث كما يكون المكذب بالرسول كافراً انتهى.
وانتصب { رجلاً } على الحال.
وقال الحوفي { رجلاً } نصب بسوى أي جعلك { رجلاً } فظاهره أنه عدى سوى إلى اثنين ، ولما لم يكن الاستفهام استفهام استعلام وإنما هو استفهام إنكار وتوبيخ فهو في الحقيقة تقرير على كفره وإخبار عنه به لأن معناه قد كفرت بالذي استدرك هو مخبراً عن نفسه ، فقال { لكنا هو الله ربي } إقرار بتوحيد الله وأنه لا يشرك به غيره.

وقرأ الكوفيون وأبو عمرو وابن كثير ونافع في رواية ورش وقالون لكن بتشديد النون بغير ألف في الوصل وبألف في الوقف وأصله ، ولكن أنا نقل حركة الهمزة إلى نون { لكن } وحذف الهمزة فالتقى مثلان فأدغم أحدهما في الآخر.
وقيل : حذف الهمزة من أنا على غير قياس فالتقت نون { لكن } وهي ساكنة مع نون أنا فأدغمت فيها ، وأما في الوقف فإنه أثبت ألف أنا وهو المشهور في الوقف على أنا ، وأما في الوصل فالمشهور حذفها وقد أبدلها ألفاً في الوقف أبو عمر وفي رواية فوقف لكنه ذكره ابن خالويه.
وقال ابن عطية : وروى هارون عن أبي عمر ولكنه { هو الله ربي } بضمير لحق { لكن }.
وقرأ ابن عامر ونافع في رواية المسيلي وزيد بن عليّ والحسن والزهري وأبو بحرية ويعقوب في رواية وأبو عمر وفي رواية وكردم وورش في رواية وأبو جعفر بإثبات الألف وقفاً ووصلاً ، أما في الوقف فظاهر ، وأما في الوصل فبنو تميم يثبتونها فيه في الكلام وغيرهم في الاضطرار فجاء على لغة بني تميم.
وعن أبي جعفر حذف الألف وصلاً ووقفاً وذلك من رواية الهاشمي ، ودل إثباتها في الوصل أيضاً على أن أصل ذلك { لكن } أنا.
وقال الزمخشري : وحسن ذلك يعني إثبات الألف في الوصل وقوع الألف عوضاً من حذف الهمزة انتهى.
ويدل على ذلك أيضاً قراءة فرقة لكننا بحذف الهمزة وتخفيف النونين.
وقال أيضاً الزمخشري ونحوه يعني ونحو إدغام نون { لكن } في نون أما بعد حذف الهمزة قول القائل :
وترمينني بالطرف أي أنت مذنب . . .
وتقلينني لكن إياك لا أقلي
أي لكن أنا لا أقليك انتهى.
ولا يتعين ما قاله في البيت لجواز أن يكون التقدير لكنني فحذف اسم لكن وذكروا أن حذفه فصيح إذا دل عليه الكلام ، وأنشدوا على ذلك قول الشاعر :
فلو كنت ضبياً عرفت قرابتي . . .
ولكن زنجي عظيم المشافر
أي ولكنك زنجي ، وأجاز أبو علي أن تكون لكن لحقتها نون الجماعة التي في خرجنا وضربنا ووقع الإدغام لاجتماع المثلين ثم وحد في { ربي } على المعنى ، ولو اتبع اللفظ لقال ربنا انتهى.
وهو تأويل بعيد.
وقال ابن عطية : ويتوجه في لكنا أن تكون المشهورة من أخوات إن المعنى لكن قولي { هو الله ربي } إلاّ أني لا أعرف من يقرأ بها وصلاً ووقفاً انتهى.
وذكر أبو القاسم يوسف بن عليّ بن جبارة الهذلي في كتاب الكامل في القراءات من تأليفه ما نصه : يحذفها في الحالين يعني الألف في الحالين يعني الوصل والوقف حمصي وابن عتبة وقتيبة غير الثقفي ، ويونس عن أبي عمر ويعني بحمصي ابن أبي عبلة وأبا حيوة وأبا بحرية.

قرأ أبيّ والحسن { لكن } أنا { هو الله } على الانفصال ، وفكه من الإدغام وتحقيق الهمز ، وحكاها ابن عطية عن ابن مسعود.
وقرأ عيسى الثقفي { لكن هو الله } بغير أنا ، وحكاها ابن خالويه عن ابن مسعود ، وحكاها الأهوازي عن الحسن.
فأما من أثبت { هو } فإنه ضمير الأمر والشأن ، وثم قول محذوف أي { لكن } أنا أقول { هو الله ربي } ويجوز أن يعود على الذي { خلقك من تراب } ، أي أنا أقول : { هو } أي خالقك { الله ربي } و { ربي } نعت أو عطف بيان أو بدل ، ويجوز أن لا يقدر.
أقول محذوفة فيكون أنا مبتدأ ، و { هو } ضمير الشأن مبتدأ ثان و { الله } مبتدأ ثالث ، و { ربي } خبره والثالث خبر عن الثاني ، والثاني وخبره خبر عن أنا ، والعائد عليه هو الياء في { ربي } ، وصار التركيب نظير هند هو زيد ضاربها.
وعلى رواية هارون يجوز أن يكون هو توكيد الضمير النصب في لكنه العائد على الذي خلقك ، ويجوز أن يكون فصلاً لوقوعه بين معرفين ، ولا يجوز أن يكون ضمير شأن لأنه لا عائد على اسم لكن من الجملة الواقعة خبراً.
وفي قوله و { لا أشرك بربي أحداً } تعريض بإشراك صاحبه وأنه مخالفه في ذلك ، وقد صرح بذلك صاحبه في قوله يا ليتني لم أشرك بربي أحداً.
وقيل : أراد بذلك أنه لا يرى الغنى والفقر إلاّ منه تعالى ، يفقر من يشاء ويغني من يشاء.
وقيل : لا أعجز قدرته على الإعادة ، فأسَّوي بينه وبين غيره فيكون إشراكاً كما فعلت أنت.
ولما وبخ المؤمن الكافر أورد له ما ينصحه فحضه على أن كان يقول إذا دخل جنته { ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله } أي الأشياء مقذوفة بمشيئة الله إن شاء أفقر ، وإن شاء أغنى ، وإن شاء نصر ، وإن شاء خذل.
ويحتمل أن تكون ما شرطية منصوبة بشاء ، والجواب محذوف أي أي شيء شاء الله كان ، ويحتمل أن تكون موصولة بمعنى الذي موفوعة على الابتداء ، أي الذي شاءه الله كائن ، أو على الخبر أي الأمر ما شاء الله { ولولا } تحضيضية ، وفصل بين الفعل وبينها بالظرف وهو معمول لقوله { قلت }.
ثم نصحه بالتبرىء من القوة فيما يحاوله ويعانيه وأن يجعل القوة لله تعالى.
وفي الحديث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة : «ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة»؟ قال : بلى يا رسول الله ، قال : «لا قوة إلاّ بالله إذا قالها العبد قال الله عز وجل أسلم عبدي واستسلم» " ونحوه من حديث أبي موسى وفيه إلاّ بالله العلي العظيم.

ثم أردف تلك النصيحة بترجية من الله ، وتوقعه أن يقلب ما به وما بصاحبه من الفقر والغنى.
فقال : { إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً } أي إني أتوقع من صنع الله تعالى وإحسانه أن يمنحني جنة خيراً من جنتك لإيماني به ، ويزيل عنك نعمته لكفرك به ويخرب بستانك.
وقرأ الجمهور : { أقل } بالنصب مفعولاً ثانياً لترني وهي علمية لا بصرية لوقوع { أنا } فصلاً ، ويجوز أن يكون توكيداً للضمير المنصوب في ترني ، ويجوز أن تكون بصرية و { أنا } توكيد للضمير في ترني المنصوب فيكون { أقل } حالاً.
وقرأ عيسى بن عمر { أقل } بالرفع على أن تكون أنا مبتدأ ، و { أقل } خبره ، والجملة في موضع مفعول ترني الثاني إن كانت علمية ، وفي موضع الحال إن كانت بصرية.
ويدل قوله { وولداً } على أن قول صاحبه { وأعز نفراً } عنى به الأولاد إن قابل كثرة المال بالقلة وعزة النفر بقلة الولد.
والحسبان ، قال ابن عباس وقتادة : العذاب.
وقال الضحاك : البرد.
وقال الكلبي : النار.
وقال ابن زيد : القضاء.
وقال الأخفش : سهام ترمي في مجرى فقلما تخطىء.
وقيل : النبل.
وقيل : الصواعق.
وقيل : آفة مجتاحة.
وقال الزجاج : عذاب حسبان وذلك الحسبان حساب ما كسبت يداك ، وهذا الترجي إن كان ذلك أن يؤتيه في الدنيا فهي أنكى للكافر وآلم إذ يرى حاله من الغنى قد انتقلت إلى صاحبه ، وإن كان ذلك أن يؤتيه في الآخرة فهو أشرف وأذهب مع الخير والصلاح { فتصبح صعيداً } أي أرضاً بيضاء لا نبات فيها لا من كرم ولا نخل ولا زرع ، قد اصطلم جميع ذلك فبقيت يباباً قفراً يزلق عليها لإملاسها ، والزلق الذي لا تثبت فيه قدم ذهب غراسه وبناؤه وسلب المنافع حتى منفعة المشي فيه فهو وحل لا ينبت ولا يثبت فيه قدم.
وقال الحسن : الزلق الطريق الذي لا نبات فيه.
وقيل : الخراب.
وقال مجاهد : رملاً هائلاً.
وقيل : الزلق الأرض السبخة وترجِّي المؤمن لجنة هذا الكافر آفة علوية من السماء أو آفة سفلية من الأرض ، وهو غور مائها فيتلف كل ما فيها من الشجر والزرع ، وغور مصدر خبر عن اسم أصبح على سبيل المبالغة و { أو يصبح } معطوف على قوله { ويرسل } لأن غؤور الماء لا يتسبب على الآفة السماوية إلاّ إن عنى بالحسبان القضاء الإلهي ، فحينئذ يتسبب عنه إصباح الجنة { صعيداً زلقاً } أو إصباح مائها { غوراً }.
وقرأ الجمهور { غوراً } بفتح الغين.
وقرأ البرجمي : { غوراً } بضم الغين.
وقرأت فرقة بضم الغين وهمز الواو يعنون وبواو بعد الهمزة فيكون غؤوراً كما جاء في مصدر غارت عينه غؤوراً ، والضمير في { له } عائد على الماء أي لن يقدر على طلبه لكونه ليس مقدوراً على ردّ ماغوره الله تعالى.
وحكى الماوردي أن معناه : لن تستطيع طلب غيره بدلاً منه ، وبلغ الله المؤمن ما ترجاه من هلاك ما بيد صاحبه الكافر وإبادته على خلاف ما ظنّ في قوله ما أظن أن تبيد هذه أبداً فأخبر تعالى أنه { أحيط بثمره } وهو عبارة عن الإهلاك وأصله من أحاط به العدّو وهو استدارته به من جوانبه ، ومتى أحاط به ملكه واستولى عليه ثم استعملت في كل إهلاك ومنه

{ إلاّ أن يحاط بكم } وقال ابن عطية : الإحاطة كناية عن عموم العذاب والفساد انتهى.
والظاهر أن الإحاطة كانت ليلاً لقوله { فأصبح } على أن أنه يحتمل أن يكون معنى { فأصبح } فصار فلا يدل على تقييد الخبر بالصباح ، وتقليب كفيه ظاهره أنه { يقلب كفيه } ظهراً لبطن وهو أنه يبدي باطن كفه ثم يعوج كفه حتى يبدو ظهرها ، وهي فعلة النادم المتحسر على شيء قد فاته ، المتأسف على فقدانه ، كما يكنى بقبض الكف والسقوط في اليد.
وقيل : يصفق بيده على الأخرى و { يقلب كفيه } ظهر البطن.
وقيل : يضع باطن إحداهما على ظهر الأخرى ، ولما كان هذا الفعل كناية عن الندم عداه تعدية فعل الندم فقال { على ما أنفق فيها } كأنه قال : فأصبح نادماً على ذهاب ما أنفق في عمارة تلك الجنة { وهي خاوية على عروشها } تقدم الكلام على هذه الجملة في أواخر البقرة.
وتمنيه انتفاء الشرك الظاهر أنه صدر منه ذلك في حالة الدنيا على جهة التوبة بعد حلول المصيبة ، وفي ذلك زجر للكفرة من قريش وغيرهم لئلا يجيء لهم حال يؤمنون فيها بعد نقم تحل بهم ، قيل : أرسل الله عليها ناراً فأكلتها فتذكر موعظة أخيه ، وعلم أنه أتى من جهة شركه وطغيانه فتمنى لو لم يكن مشركاً.
وقال بعض المفسرين : هي حكاية عن قول الكافر هذه القالة في الآخرة ، ولما افتخر بكثرة ماله وعزة نفره أخبر تعالى أنه لم تكن { له فئة } أي جماعة تنصره ولا كان هو منتصراً بنفسه ، وجمع الضمير في { ينصرونه } على المعنى كما أفرده على اللفظ في قوله { فئة تقاتل في سبيل الله } واحتمل النفي أن يكون منسحباً على القيد فقط ، أي له فئة لكنه لا يقدر على نصره.
وأن يكون منسحباً على القيد ، والمراد انتفاؤه لانتفاء ما هو وصف له أي لا فئة فلا نصر وما كان منتصراً بقوة عن انتقام الله.
وقرأ الأخوان ومجاهد وابن وثاب والأعمش وطلحة وأيوب وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير ولم يكن بالياء لأن تأنيث الفئة مجاز.
وقرأ باقي السبعة والحسن وأبو جعفر وشيبة بالتاء.
وقرأ ابن أبي عبلة { فئة } تنصره على اللفظ والحقيقة في هنالك أن يكون ظرف مكان للبعد ، فالظاهر أنه أشير به لدار الآخرة أي في تلك الدار الولاية لله كقوله { لمن الملك اليوم } قيل : لما نفى عنه الفئة الناصرة في الدنيا نفى عنه أن ينتصر في الآخرة ، فقال { وما كان منتصراً هنالك } أي في الدار الآخرة ، فيكون { هنالك } معمولاً لقوله { منتصراً }.

وقال الزجّاج : أي { وما كان منتصراً } في تلك الحال و { الولاية لله } على هذا مبتدأ وخبر.
وقيل : { هنالك الولاية لله } مبتدأ وخبر ، والوقف على قوله { منتصراً }.
وقرأ الأخوان والأعمش وابن وثاب وشيبة وابن غزوان عن طلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير { الولاية } بكسر الواو وهي بمعنى الرئاسة والرعاية.
وقرأ باقي السبعة بفتحها بمعنى الموالاة والصلة.
وحُكِي عن أبي عمرو والأصمعي أن كسر الواو هنا لحن لأن فعالة إنما تجيء فيما كان صنعة أو معنى متقلداً وليس هنالك تولي أمور.
وقال الزمخشري : { الولاية } بالفتح النصرة والتولي وبالكسر السلطان والملك ، وقد قرىء بهما والمعنى هنالك أي في ذلك المقام ، وتلك الحال النصرة لله وحده لا يملكها غيره ولا يستطيعها أحد سواه تقريراً لقوله { ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله } أو { هنالك } السلطان والملك { لله } لا يغلب ولا يمتنع منه ، أو في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطر يعني إن قوله { يا ليتني لم أشرك بربي أحداً } كلمة ألجىء إليها فقالها فزعاً من شؤم كفره ، ولولا ذلك لم يقلها.
ويجوز أن يكون المعنى { هنالك الولاية لله } ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة وينتقم لهم ويشفي صدورهم من أعدائهم ، يعني أنه نصر فيما فعل بالكافر أخاه المؤمن.
وصدق قوله عسى { ربي أن يؤتيني خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء } ويعضده قوله { هو خير ثواباً وخير عقباً } أي لأوليائه انتهى.
وقرأ النحويان وحميد والأعمش وابن أبي ليلى وابن مناذر واليزيدي وابن عيسى الأصبهاني { الحق } برفع القاف صفة للولاية.
وقرأ باقي السبعة بخفضها وصفاً لله تعالى.
وقرأ أُبيّ { هنالك الولاية } الحق لله برفع الحق للولاية وتقديمها على قوله { لله }.
وقرأ أبو حيوة وزيد بن عليّ وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال ويعقوب عن عصمة عن أبي عمرو { لله الحق } بنصب القاف.
قال الزمخشري : على التأكيد كقولك هذا عبد الله الحق لا الباطل وهي قراءة حسنة فصيحة ، وكان عمرو بن عبيد رحمة الله عليه ورضوانه من أفصح الناس وأنصحهم انتهى.
وكان قد قال الزمخشري : وقرأ عمرو بن عبيد رحمه الله انتهى.
فترحم عليه وترضى عنه إذ هو من أوائل أكابر شيوخه المعتزلة ، وكان على غاية من الزهد والعبادة وله أخبار في ذلك إلاّ أن أهل السنة يطعنون عليه وعلى أتباعه ، وفي ذلك يقول أبو عمرو الداني في أرجوزته التي سماها المنبهة :
وابن عبيد شيخ الاعتزال . . .
وشارع البدعة والضلال
وقرأ الحسن والأعمش وعاصم وحمزة { عقباً } بسكون القاف والتنوين ، وعن عاصم عقبى بألف التأنيث المقصورة على وزن رجعى ، والجمهور بضم القاف والتنوين والثلاث بمعنى العاقبة.

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)

الهشيم اليابس قاله الفرّاء واحده هشيمة.
وقال الزجّاج وابن قتيبة : كل شيء كان رطباً ويبس ، ومنه كهشيم المحتظر وهشيم الثريد ، وأصل الهشيم المتفتت من يابس العشب.
ذرى وأذرى لغتان فرّق قاله أبو عبيدة.
وقال ابن كيسان : تذروه تجيء به وتذهب.
وقال الأخفش : ترفعه.
غادر ترك من الغدر ، ومنه ترك الوفاء ، ومنه الغدير ، وهو ما تركه السيل.
الصف الشخص بإزاء الآخر إلى نهايتهم وقوفاً أو جلوساً أو على غير هاتين الحالتين طولاً أو تحليقاً يقال منه : صف يصف والجمع صفوف.
{ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملا ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً وعرضوا على ربك صفاً لقد جئتمونا كما خلقناكم أوّل مرة بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعداً ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً }.
لما بين تعالى في المثل الأول حال الكافر والمؤمن وما آل إليه ما افتخر به الكافر من الهلاك ، بيّن في هذا المثل حال { الحياة الدنيا } واضمحلالها ومصير ما فيها من النعيم والترفه إلى الهلاك و { كماء } قدره ابن عطية خبر مبتدأ محذوف ، أي هي أي { الحياة الدنيا كماء }.
وقال الحوفي : الكاف متعلقة بمعنى المصدر أي ضرباً { كماء أنزلناه } وأقول إن { كماء } في موضع المفعول الثاني لقوله { واضرب } أي وصيِّر { لهم مثل الحياة الدنيا } أي صفتها شبه ماء وتقدم الكلام على تفسير نظير هذه الجمل في قوله { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام } في يونس { فأصبح } أي صار ولا يراد تقييد الخبر بالصباح فهو كقوله :
أصبحت لا أحمل السلاح ولا . . .
أملك رأس البعير إن نفرا
وقيل : هي دالة على التقييد بالصباح لأن الآفات السماوية أكثر ما تطرق ليلاً فهي كقوله { فأصبح يقلب كفيه } وقرأ ابن مسعود : تذريه من أذرى رباعياً.
وقرأ زيد بن عليّ والحسن والنخعي والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن محيصن وخلف وابن عيسى وابن جرير : الريح على الإفراد.
والجمهور { تذروه الرياح }.
ولما ذكر تعالى قدرته الباهرة في صيرورة ما كان في غاية النضرة والبهجة إلى حالة التفتت والتلاشي إلى أن فرقته الرياح ولعبت به ذاهبة وجائية ، أخبر تعالى عن اقتداره على كل شيء من الإنشاء والإفناء وغيرهما مما تتعلق به قدرته تعالى.
ولما حقر تعالى حال الدنيا بما ضربه من ذلك المثل ذكر أن ما افتخر به عيينه وأضرابه من المال والبنين إنما ذلك { زينة } هذه { الحياة الدنيا } المحقرة ، وإن مصير ذلك إنما هو إلى النفاد ، فينبغي أن لا يكترث به ، وأخبر تعالى بزينة المال والبنين على تقدير حذف مضاف أي مقر { زينة } أو وضع المال والبنين منزلة المعنى والكثرة ، فأخبر عن ذلك بقوله { زينة } ولما ذكر مآل ما في الحياة الدنيا إلى الفناء اندرج فيه هذا الجزئي من كون المال والبنين زينة ، وأنتج.

أن زينة الحياة الدنيا فإن إذ ذاك فرد من أفراد ما في الحياة الدنيا ، وترتيب هذا الإنتاج أن يقال { المال والبنون زينة الحياة الدنيا } وكل ما كان { زينة الحياة الدنيا } فهو سريع الانقضاء فالمال والبنون سريع الانقضاء ، ومن بديهة العقل أن ما كان كذلك بقبح بالعاقل أن يفتخر به أو يفرح بسببه ، وهذا برهان على فساد قول أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأولاد.
{ والباقيات الصالحات } قال الجمهور هي الكلمات المأثور فضلها سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.
وقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل هي الصلوات الخمس.
وعن ابن عباس أنه كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة ، ورجحه الطبري وقول الجمهور مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم من طريق أبي هريرة وغيره.
وعن قتادة : كل ما أريد به وجه الله.
وعن الحسن وابن عطاء : أنها النيات الصالحة فإنّ بها تتقبل الأعمال وترفع ، ومعنى { خير عند ربك ثواباً } أنها دائمة باقية وخيرات الدنيا منقرضة فانية ، والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي.
{ وخير أملاً } أي وخير رجاء لأن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب الله ونصيبه في الآخرة دون ذي المال والبنين العاري من الباقيات الصالحات فإنه لا يرجو ثواباً.
ولما ذكر تعالى ما يؤول إليه حال الدنيا من النفاد أعقب ذلك بأوائل أحوال يوم القيامة فقال { ويوم تسير الجبال } كقوله { يوم تمور السماء موراً وتسير الجبال سيراً } وقال : { وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب } وقال { فقل ينسفها ربي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً } وقال { وإذا الجبال سيرت } والمعنى أنه ينفك نظام هذا العالم الدنيوي ويؤتى بالعالم الأخروي ، وانتصب { ويوم } على إضمار اذكر أو بالفعل المضمر عند قوله { لقد جئتمونا } أي قلنا يوم كذا لقد.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي والأعرج وشيبة وعاصم وابن مصرّف وأبو عبد الرحمن { نسير } بنون العظمة الجبال بالنصب ، وابن عامر وابن كثير وأبو عمرو والحسن وشبل وقتادة وعيسى والزهري وحميد وطلحة واليزيدي والزبيري عن رجاله عن يعقوب بضم التاء وفتح الياء المشددة مبنياً للمفعول { الجبال } بالرفع وعن الحسن كذلك إلاّ أنه بضم الياء باثنتين من تحتها ، وابن محيصن ومحبوب عن أبي عمر وتسير من سارت الجبال.

وقرأ أبيّ سيرت الجبال { وترى الأرض بارزة } أي منكشفة ظاهرة لذهاب الجبال والظراب والشجر والعمارة ، أو ترى أهل الأرض بارزين من بطنها.
وقرأ عيسى { وتُرى الأرض } مبنياً للمفعول { وحشرناهم } أي أقمناهم من قبورهم وجمعناهم لعرصة القيامة.
وقال الزمخشري : فإن قلت : لم جيء بحشرناهم ماضياً بعد تسير وترى؟ قلت : للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم ، كأنه قيل : { وحشرناهم } قبل ذلك انتهى.
والأولى أن تكون الواو واو الحال لا واو العطف ، والمعنى وقد { حشرناهم } أي يوقع التسيير في حالة حشرهم.
وقيل : { وحشرناهم } { وعرضوا } { ووضع الكتاب } مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل لتحقق وقوعه.
وقرأ الجمهور : نغادر بنون العظمة وقتادة تغادر على الإسناد إلى القدرة أو الأرض ، وأبان بن يزيد عن عاصم كذلك أو بفتح الدال مبنياً للمفعول واحد بالرفع وعصمة كذلك ، والضحاك نغدر بضم النون وإسكان الغين وكسر الدال ، وانتصب { صفاً } على الحال وهو مفرد تنّزل منزلة الجمع أي صفوفاً.
وفي الحديث الصحيح : " يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفاً يسمعهم الداعي وينفذهم البصر " الحديث بطوله وفي حديث آخر : " أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفاً أنتم منها ثمانون صفاً " أو انتصب على المصدر الموضوع موضع الحال أي مصطفين.
وقيل : المعنى { صفاً } صفاً فحذف صفاً وهو مراد ، وهذا التكرار منبيء عن استيفاء الصفوف إلى آخرها ، شبه حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان مصطفين ظاهرين يرى جماعتهم كما يرى كل واحد لا يحجب أحد أحداً.
{ لقد جئتمونا } معمول لقول محذوف أي وقلنا و { كما خلقناكم } نعت لمصدر محذوف أي مجيئاً مثل مجيء خلقكم أي «حفاة عراة غرلاً» كما جاء في الحديث ، وخالين من المال والولد و { أنْ } هنا مخففة من الثقيلة.
وفصل بينها وبين الفعل بحرف النفي وهو { لن } كما فصل في قوله { أيحسب الإنسان أن لن نجمع } و { بل } للإضراب بمعنى الانتقال من خبر إلى خبر ليس بمعنى الإبطال ، والمعنى أن لن نجمع لإعادتكم وحشركم { موعداً } أي مكان وعد أو زمان وعد لإنجاز ما وعدتم على ألسنة الأنبياء من البعث والنشور ، والخطاب في { لقد جئتمونا } للكفار المنكرين البعث على سبيل تقريعهم وتوبيخهم.
{ ووضع الكتاب } وقرأ زيد بن عليّ { ووضع } مبنياً للفاعل { الكتاب } بالنصب.
و { الكتاب } اسم جنس أي كتب أعمال الخلق ، ويجوز أن تكون الصحائف كلها جعلت كتاباً واحداً ووضعته الملائكة لمحاسبة الخلق وإشفاقهم خوفهم من كشف أعمالهم السيئة وفضحهم وما يترتب على ذلك من العذاب السرمدي ، ونادوا هلكتهم التي هلكوا خاصة من بين الهلكات فقالوا يا ويلنا والمراد من بحضرتهم كأنهم قالوا يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا ، وكذا ما جاء من نداء ما لا يعقل كقوله

{ يا أسفي على يوسف } { يا حسرتي على ما فرطت } { يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا } وقول الشاعر :
يا عجباً لهذه الفليقة . . .
فيا عجباً من رحلها المتحمل
إنما يراد به تنبيه من يعقل بالتعجب مما حل بالمنادي.
و { لا يغادر } جملة في موضع الحال.
وعن ابن عباس : الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة.
وعن ابن جبير : القبلة والزنا وعن غيره السهو والعمد.
وعن الفضيل صبحوا والله من الصغائر قبل الكبائر ، وقدمت الصغيرة اهتماماً بها ، وإذا أحصيت فالكبيرة أحرى { إلاّ أحصاها } ضبطها وحفظها { ووجدوا ما عملوا حاضراً } في الصحف عتيداً أو جزاء ما عملوا.
{ ولا يظلم ربك أحداً } فيكتب عليه ما لم يعمل أو يزيد في عقابه الذي يستحقه أو يعذبه بغير جرم.
قال الزمخشري : كما يزعم من ظلم الله في تعذيب أطفال المشركين انتهى.
ولا يقال : إن ذلك ظلم منه تعالى لأنه تعالى كل مملوكون له فله أن يتصرف في مملوكيه بما يشاء ، لا يسأل عما يفعل ، والصحيح في أطفال المشركين أنهم يكونون في الجنة خدماً لأهلها نص عليه في البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)

العضد العضو من الإنسان وغيره معروف وفيه لغتان ، فتح العين وضم الضاد وإسكانها وفتحها وضم العين والضاد وإسكان الضاد ، ويستعمل في العون والنصير.
قال الزجاج : والإعضاد التقوّي وطلب المعونة يقال : اعتضدت بفلان استعنت به.
الموبق المهلك يقال : وبق يوبق وبقاً ووبق يبق وبوقاً إذا هلك فهو وابق ، وأوبقته ذنوبه أهلكته.
{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدوّ بئس للظالمين بدلاً ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقاً ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً }.
ذكروا في ارتباط هذه الآية بما قبلها أنه تعالى لما أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بمجالسة الفقراء وكان أولئك المتكبرون قد تأنفوا عن مجالستهم ، وذكروا للرسول صلى الله عليه وسلم طردهم عنه وذلك لما جبلوا عليه من التكبر والتكثر بالأموال والأولاد وشرف الأصل والنسب ، وكان أولئك الفقراء بخلافهم في ذلك ناسب ذكر قصة إبليس بجامع ما اشتركا فيه من التكبر والافتخار بالأصل الذي خلق منه وهذا الذي ذكروه في الإرتباط هو ظاهر بالنسبة للآيات السابقة قبل ضرب المثلين ، وإما أنه واضح بالنسبة لما بعد المثلين فلا والذي يظهر في ارتباط هذه الآية بالآية التي قبلها هو أنه لما ذكر يوم القيامة والحشر وذكر خوف المشركين مما سطر في ذلك الكتاب ، وكان إبليس هو الذي حمل المجرمين على معاصيهم واتخاذ شركاء مع الله ناسب ذكر إبليس والنهي عن اتخاذ ذريته أولياء من دون الله تبعيداً عن المعاصي ، وعن امتثال ما يوسوس به.
وتقدم الكلام في استثناء إبليس أهو استثناء متصل أم منقطع ، وهل هو من الملائكة أم ليس منهم في أوائل سورة البقرة فأغني عن إعادته ، والظاهر من هذه الآية أنه ليس من الملائكة وإنما هو من الجن.
قال قتادة : الجن حي من الملائكة خلقوا من نار السموم.
وقال شهر بن حوشب : هو من الجن الذين ظفرت بهم الملائكة فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء.
وقال الحسن وغيره : هو أول الجن وبداءتهم كآدم في الإنس.
وقالت فرقة : كان إبليس وقبيله جناً لكن الشياطين اليوم من ذريته فهو كنوح في الإنس.
وقال الزمخشري : كان من الجن كلام مستأنف جارٍ مجري التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين كأن قائلاً قال : ما له لم يسجد فقيل { كان من الجن ففسق عن أمر ربه } والفاء للتسبيب أيضاً جعل كونه من الجن سبباً في فسقه ، يعني إنه لو كان ملكاً كسائر من سجد لآدم لم يفسق عن أمر الله لأن الملائكة معصومون ألبتة لا يجوز عليهم ما يجوز على الجن والإنس كما قال :

{ لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } وهذا الكلام المعترض تعمد من الله عز وعلا لصيانة الملائكة عن وقوع شبهة في عصمتهم ، فما أبعد البون بين ما تعمده الله وبين قول من ضادّه فزعم أنه كان ملكاً ورئيساً على الملائكة فعصى فلُعن ومُسخ شيطاناً ، ثم وركه على ابن عباس انتهى.
والظاهر أن معنى { ففسق عن أمر ربه } فخرج عما أمره ربه به من السجود.
قال رؤبة :
يهوين في نجد وغوراً غائراً . . .
فواسقاً عن قصدها حوائرا
وقيل : { ففسق } صار فاسقاً كافراً بسبب أمر ربه الذي هو قوله { اسجدوا لآدم } حيث لم يمتثله.
قيل : ويحتمل أن يكون المعنى { ففسق } بأمر ربه أي بمشيئته وقضائه لأن المشيئة يطلق عليها أمر كما تقول : فعلت ذلك عن أمرك أي بحسب مرادك ، والهمزة في { أفتتخذونه } للتوبيخ والإنكار والتعجب أي أبعد ما ظهر منه من الفسق والعصيان تتخذونه وذريته أولياء من دوني مع ثبوت عداوته لكم تتخذونه ولياً.
وقرأ عبيد الله بن زياد على المنبر وهو يخطب { أفتتخذونه وذريته } بفتح الذال ، والظاهر أن لإبليس ذرية وقال بذلك قوم منهم قتادة والشعبي وابن زيد والضحاك والأعمش.
قال قتادة : ينكح وينسل كما ينسل بنو آدم.
وقال الشعبي : لا يكون ذرية إلاّ من زوجة.
وقال ابن زيد : إن الله قال لإبليس إني لا أخلق لآدم ذرية إلاّ ذرأت لك مثلها ، فليس يولد لولد آدم ولد إلاّ ولد معه شيطان يقرن به.
وقيل للرسول صلى الله عليه وسلم : " ألك شيطان؟ قال : «نعم ألا أنّ الله تعالى أعانني عليه فأسلم» " وسمي الضحاك وغيره من ذرية إبليس جماعة الله أعلم بصحة ذلك ، وكذلك ذكروا كيفيات في وطئه وإنساله الله أعلم بذلك ، وذهب قوم إلى أنه ليس لإبليس ولد وإنما الشياطين هم الذين يعينونه على بلوغ مقاصده ، والمخصوص بالذم محذوف أي { بئس الظالمين بدلاً } من الله إبليس وذريته وقال { للظالمين } لأنهم اعتاضوا من الحق بالباطل وجعلوا مكان ولايتهم إبليس وذريته ، وهذا نفس الظالم لأنه وضع الشيء في غيره موضعه.
وقرأ الجمهور { ما أشهدتهم } بتاء المتكلم.
وقرأ أبو جعفر وشيبة والسبختياني وعون العقيلي وابن مقسم : ما أشهدناهم بنون العظمة ، والظاهر عود ضمير المفعول في { أشهدتهم } على إبليس وذريته أي لم أشاورهم في { خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم } بل خلقتهم على ما أردت ، ولهذا قال { وما كنت متخذ المضلين عضداً }.
وقال الزمخشري : يعني إنكم اتخذتم شركاء لي في العبادة وإنما كانوا يكونون شركاء فيها لو كانوا شركاء في الإلهية فنفي مشاركتهم في الإلهية بقوله : { ما أشهدتهم خلق السموات والأرض } لا أعتضد بهم في خلقها { ولا خلق أنفسهم } أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله

{ ولا تقتلوا أنفسكم } وما كنت متخذهم أعواناً فوضع { المضلين } موضع الضمير ذماً لهم بالإضلال فإذا لم يكونوا لي { عضداً } في الخلق فما لكم تتخذونهم شركاء في العبادة انتهى.
وقيل : يعود على الملائكة والمعنى أنه ما أشهدهم ذلك ولا استعان بهم في خلقها بل خلقتهم ليطيعوني ويعبدوني فكيف يعبدونهم.
وقيل : يعود على الكفار.
وقيل : على جميع الخلق.
وقال ابن عطية : الضمير في { أشهدتهم } عائد على الكفار وعلى الناس بالجملة ، فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والمتحكمين والأطباء وسواهم من كل من يتخرص في هذه الأشياء ، وقاله عبد الحق الصقلي وتأول هذا التأويل في هذه الآية وأنها رادة على هذه الطوائف ، وذكر هذا بعض الأصوليين انتهى.
وقرأ أبو جعفر والجحدري والحسن وشيبة { وما كنت } بفتح التاء خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الزمخشري : والمعنى وما صح لك الاعتضاد بهم ، وما ينبغي لك أن تعتز بهم انتهى.
والذي أقوله أن المعنى إخبار من الله عن نبيه وخطاب منه تعالى له في انتفاء كينونته متخذ عضد من المضلين ، بل هو مذ كان ووجد عليه السلام في غاية التبرّي منهم والبعد عنهم لتعلم أمته أنه لم يزل محفوظاً من أول نشأته لم يعتضد بمضل ولا مال إليه صلى الله عليه وسلم.
وقرأ عليّ بن أبي طالب متخذاً المضلين أعمل اسم الفاعل.
وقرأ عيسى { عضداً } بسكون الضاد خفف فعلاً كما قالوا : رجل وسبع في رجل وسبع وهي لغة عن تميم ، وعنه أيضاً بفتحتين.
وقرأ شيبة وأبو عمر وفي رواية هارون وخارجة والخفاف { عضداً } بضمتين ، وعن الحسن { عضداً } بفتحتين وعنه أيضاً بضمتين.
وقرأ الضحاك { عضداً } بكسر العين وفتح الضاد.
وقرأ الجمهور { ويوم يقول } بالياء أي الله.
وقرأ الأعمش وطلحة ويحيى وابن أبي ليلى وحمزة وابن مقسم : نقول بنون العظمة أي للذين أشركوا به في الدنيا { نادوا شركائي } وليس المعنى أنه تعالى أخبر أنهم شركاؤه ولكن ذلك على زعمكم ، والإضافة تكون بأدنى ملابسة ومفعولاً { زعمتم } محذوفان لدلالة المعنى عليهما إذ التقدير زعمتموهم شركائي والنداء بمعنى الاستغاثة ، أي استغيثوا بشركائكم والمراد نادوهم لدفع العذاب عنكم أو للشفاعة لكم ، والظاهر أن الضمير في { بينهم } عائد على الداعين والمدعوين وهم المشركون والشركاء.
وقيل : يعود على أهل الهدى وأهل الضلالة ، والظاهر وقوع الدعاء حقيقة وانتفاء الإجابة.
وقيل : يحتمل أن يكون استعارة كأن فكرة الكافر ونظره في أن تلك الجمادات لا تغني شيئاً ولا تنفع هي بمنزلة الدعاء وترك الإجابة.
وقرأ الجمهور { شركائي } ممدوداً مضافاً للياء ، وابن كثير وأهل مكة مقصوراً مضافاً لها أيضاً ، والظاهر انتصاب { بينهم } على الظرف.
وقال الفراء : البين هنا الوصل أي { وجعلنا } نواصلهم في الدنيا هلاكاً يوم القيامة ، فعلى هذا يكون مفعولاً أول لجعلنا ، وعلى الظرف يكون في موضع المفعول الثاني.

وقال ابن عباس وقتادة والضحاك : الموبق المهلك.
وقال الزجاج : جعلنا بينهم من العذاب ما يوبقهم.
وقال عبد الله بن عمر وأنس ومجاهد : واد في جهنم يجري بدم وصديد.
وقال الحسن : عداوة.
وقال الربيع بن أنس : إنه المجلس.
وقال أبو عبيدة : الموعد.
{ ورأى المجرمون النار } هي رؤية عين أي عاينوها ، والظن هنا قيل : على موضوعه من كونه ترجيح أحد الجانبين.
وكونهم لم يجزموا بدخولها رجاء وطمعاً في رحمة الله.
وقيل : معنى { فظنوا } أيقنوا قاله أكثر الناس ، ومعنى { مواقعوها } مخالطوها واقعون فيها كقوله { وظنوا أن لا ملجأ من الله إلاّ إليه } { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم } وقال ابن عطية : أطلق الناس أن الظن هنا بمعنى التيقن ، ولو قال بدل ظنوا أيقنوا لكان الكلام متسقاً على مبالغة فيه ، ولكن العبارة بالظن لا تجيء أبداً في موضع يقين تام قد ناله الحسن بل أعظم درجاته أن يجيء في موضع علم متحقق ، لكنه لم يقع ذلك المظنون وإلاّ فمن يقع ويحس لا يكاد يوجد في كلام العرب العبارة عنه بالظن.
وتأمل هذه الآية وتأمل قول دريد :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج . . .
انتهى.
وفي مصحف عبد الله ملاقوها مكان { مواقعوها } وقرأه كذلك الأعمش وابن غزوان عن طلحة ، والأولى جعله تفسيراً لمخالفة سواد المصحف.
وعن علقمة أنه قرأ ملافوها بالفاء مشددة من لففت.
وفي الحديث : « إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة » ومعنى { مصرفاً } معدلاً ومراعاً.
ومنه قول أبي كبير الهذلي :
أزهير هل عن شيبة من مصرف . . .
أم لا خلود لباذل متكلف
وأجاز أبو معاذ { مصرفاً } بفتح الراء وهي قراءة زيد بن عليّ جعله مصدراً كالمضرب لأن مضارعه يصرف على يفعل كيصرف.

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)

أدحض الحق أرهقه قاله ثعلب ، وأصله من إدحاض القدم وهو إزلاقها قال الشاعر :
وردت ويجىّ اليشكري حذاره . . .
وحاد كما حاد البعير عن الدّحض
وقال آخر :
أبا منذر رمت الوفاء وهبته . . .
وحدت كما حاد البعير المدحض
والدحض الطين الذي يزهق فيه.
الموئل قال الفراء : المنجي يقال والت نفس فلان نجت.
وقال الأعشى :
وقد أخالس رب البيت غفلته . . .
وقد يحاذر مني ثم ما يئل
أي ما ينجو.
وقال ابن قتيبة : الملجأ يقال : وأل فلان إلى كذا ألجأ ، يئل وألاً وؤولاً.
{ ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلاّ أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا وما نرسل المرسلين إلاّ مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدّمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجَّل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً }.
تقدّم تفسير نظير صدر هذه الآية : و { شيء } هنا مفرد معناه الجمع أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدال إن فصلتها واحداً بعد واحد.
{ جدلاً } خصومة ومماراة يعني إن جدل الإنسان أكثر من جدل كل شيء ونحوه ، فإذا هو خصيم مبين.
وانتصب { جدلاً } على التمييز.
قيل : { الإنسان } هنا النضر بن الحارث.
وقيل : ابن الزبعري.
وقيل : أبيّ بن خلف ، وكان جداله في البعث حين أتى بعظم فذره ، فقال : أيقدر الله على إعادة هذا؟ قاله ابن السائب.
قيل : كل من يعقل من ملك وجنّ يجادل و { الإنسان أكثر } هذه الأشياء { جدلاً } انتهى.
وكثيراً ما يُذكر الإنسان في معرض الذمّ وقد تلا الرسول صلى الله عليه وسلم قوله : { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } حين عاتب علياً كرم الله وجهه على النوم عن صلاة الليل ، فقال له عليّ : إنما نفسي بيد الله ، فاستعمل { الإنسان } على العموم.
وفي قوله { وما منع الناس } الآية تأسف عليهم وتنبيه على فساد حالهم لأن هذا المنع لم يكن بقصد منهم أن يمتنعوا ليجيئهم العذاب ، وإنما امتنعوا هم مع اعتقاد أنهم مصيبون لكن الأمر في نفسه يسوقهم إلى هذا فكان حالهم يقتضي التأسف عليهم.
و { الناس } يراد به كفار عصر الرسول صلى الله عليه وسلم الذين تولوا دفع الشريعة وتكذبيها قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري : إن الأولى نصب والثانية رفع وقبلهما مضاف محذوف تقديره { وما منع الناس } الإيمان { إلا } انتظار { أن تأتيهم سنّة الأولين } وهي الإهلاك { أو } انتظار { أن يأتيهم العذاب } يعني عذاب الآخرة انتهى.

وهو مسترق من قول الزجاج.
قال الزجاج : تقديره ما منعهم من الإيمان { إلاّ } طلب { أن تأتيهم سنّة الأولين }.
وقال الواحدي : المعنى ما منعهم إلاّ أني قد قدّرت عليهم العذاب ، وهذه الآية فيمن قتل ببدر وأُحد من المشركين ، وهذا القول نحو من قول من قال التقدير { وما منع الناس أن يؤمنوا } إلاّ ما سبق في علمنا وقضائنا أن يجري عليهم { سنّة الأولين } من عذاب الاستئصال من المسخ والصيحة والخسف والغرق وعذاب الظلة ونحو ذلك ، وأراد بالأولين من أهلك من الأمم السالفة.
وقال صاحب الغنيان : إلاّ إرادة أو انتظار أن تأتيهم سنتنا في الأولين ، ومن قدر المضاف هذا أو الطلب فإنما ذلك لاعتقادهم عدم صدق الأنبياء فيما وعدوا به من العذاب كما قال حكاية عن بعضهم { إن كان هذا هو الحق من عندك } وقيل : { ما } هنا استفهامية لا نافية ، والتقدير وأي شيء { منع الناس } أن { يؤمنوا } و { الهدى } الرسول أو القرآن قولان.
وقرأ الحسن والأعرج والأعمش وابن أبي ليلى وخلف وأيوب وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير والكوفيون بضم القاف والباء ، فاحتمل أن يكون بمعنى { قبلاً } لأن أبا عبيدة حكاهما بمعنى واحد في المقابلة ، وأن يكون جمع قبيل أي يجيئهم العذاب أنواعاً وألواناً.
وقرأ باقي السبعة ومجاهد وعيسى بن عمر { قبلاً } بكسر القاف وفتح الباء ومعناه عياناً.
وقرأ أبو رجاء والحسن أيضاً بضم القاف وسكون الباء وهو تخفيف قبل على لغة تميم.
وذكر ابن قتيبة أنه قرىء بفتحتين وحكاه الزمخشري وقال مستقبلاً.
وقرأ أُبيّ بن كعب وابن غزوان عن طلحة قبيلاً بفتح القاف وباء مكسورة بعدها ياء على وزن فعيل.
{ وما نرسل المرسلين إلاّ مبشرين } أي بالنعيم المقيم لمن آمن { ومنذرين } أي بالعذاب الأليم لمن كفر لا ليجادلوا ولا ليتمنى عليهم الاقتراحات { ليدحضوا } ليزيلوا { واتخذوا آياتي } يجمع آيات القرآن وعلامات الرسول قولاً وفعلاً { وما أنذروا } من عذاب الآخرة ، واحتملت { ما } أن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوف أي { وما } أنذروه وأن تكون مصدرية أي وإنذارهم فلا تحتاج إلى عائد على الأصح { هزواً } أي سخرية واستخفافاً لقولهم أساطير الأولين.
لو شئنا لقلنا مثل هذا وجداً لهم للرسل صلى الله عليه وسلم قولهم و { ما أنتم إلاّ بشر مثلنا } ولو شاء الله لأنزل ملائكة وما أشبه ذلك ، والآيات المضاف إلى الرب هو القرآن ولذلك عاد الضمير مفرداً في قوله { أن يفقهوه } وإعراضه عنها كونه لا يتذكر حين ذكر ولم يتدبر ونسي عاقبة ما قدّمت يداه من الكفر والمعاصي غير مفكر فيها ولا ناظر في أن المحسن والمسيء يجزيان بما عملا.
وتقدم تفسير نظير قوله { إنّا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً } ثم أخبر تعالى أن هؤلاء لا يهتدون أبداً وهذا من العام والمراد به الخصوص ، وهو من طبع الله على قلبه وقضى عليه بالموافاة على الكفر إذ قد اهتدى كثير من الكفرة وآمنوا ، ويحتمل أن يكون ذلك حكماً على الجميع أي { وإن تدعهم } أي { إلى الهدى } جميعاً { فلن يهتدوا } جميعاً { أبداً } وحمل أولاً على لفظ من فأفرد ثم على المعنى في قوله { إنّا جعلنا على قلوبهم } فجمع وجعلوا دعوة الرسول إلى الهدى وهي التي تكون سبباً لوجود الاهتداء ، سبباً لانتفاء هدايتهم ، وهذا الشرط كأنه جواب للرسول عن تقدير قوله مالي لا أدعوهم إلى الهدى حرصاً منه عليه الصلاة والسلام على حصول إيمانهم ، فقيل : { وإن تدعهم } وتقييده بالأبدية مبالغة في انتفاء هدايتهم.

و { الغفور } صفة مبالغة و { ذو الرحمة } أي الموصوف بالرحمة ، ثم ذكر دليل رحمته وهو كونه تعالى { لا يؤاخذهم } عاجلاً بل يمهلهم مع إفراطهم في الكفر وعداوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والموعد أجل الموت ، أو عذاب الآخرة ، أو يوم بدر ، أو يوم أحد ، وأيام النصر أو العذاب إما في الدنيا وإما في الآخرة أقوال.
والموئل قال مجاهد : المحرز.
وقال الضحاك : المخلص والضمير في { من دونه } عائد على الموعد.
وقرأ الزهري موّلاً بتشديد الواو من غير همز ولا ياء.
وقرأ أبو جعفر عن الحلواني عنه مولاً بكسر الواو خفيفة من غير همز ولا ياء.
وقرأ الجمهور بسكون الواو وهمزة بعدها مكسورة ، وأشارة تعالى بقوله { وتلك القرى } إلى القرى المجاورة أهل مكة والعرب كقرى ثمود وقوم لوط وغيرهم ، ليعتبروا بما جرى عليهم وليحذروا ما يحل بهم كما حل بتلك القرى.
{ وتلك } مبتدأ و { القرى } صفة أو عطف بيان والخبر { أهلكناهم } ويجوز أن تكون { القرى } الخبر و { أهلكناهم } جملة حالية كقوله { فتلك بيوتهم خاوية } ويجوز أن تكون { تلك } منصوباً بإضمار فعل يفسره ما بعده أي وأهلكنا { تلك القرى أهلكناهم } و { تلك القرى } على إضمار مضاف أي وأصحاب تلك القرى ، ولذلك عاد الضمير على ذلك المضمر في قوله { أهلكناهم }.
وقوله { لما ظلموا } إشعار بعلَّة الإهلاك وهي الظلم ، وبهذا استدل الأستاذ أبو الحسن بن عصفور على حرفية { لما } وأنها ليست بمعنى حين لأن الظرف لا دلالة فيه على العلية.
وفي قوله { لما ظلموا } تحذير من الظلم إذ نتيجته الإهلاك وضربنا لإهلاكهم وقتاً معلوماً ، وهو الموعد واحتمل أن تكون مصدراً أو زماناً.
وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح اللام ، واحتمل أن يكون مصدراً مضافاً إلى المفعول وأن يكون زماناً.
وقرأ حفص وهارون عن أبي بكر بفتحتين وهو زمان الهلاك.
وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام مصدر هلك يهلك وهو مضاف للفاعل.
وقيل : هلك يكون لازماً ومتعدياً فعلى تعديته يكون مضافاً للمفعول ، وأنشد أبو عليّ في ذلك :

ومهمه هالك من تعرجاً . . .
ولا يتعين ما قاله أبو عليّ في هذا البيت ، بل قد ذهب بعض النحويين إلى أن هالكاً فيه لازم وأنه من باب الصفة المشبهة أصله هالك من تعرجاً.
فمن فاعل ثم أضمر في هالك ضمير مهمه ، وانتصب { من } على التشبيه بالمفعول ثم أضاف من نصب ، وقد اختلف في الموصول هل يكون من باب الصفة المشبهة؟ والصحيح جواز ذلك وقد ثبت في أشعار العرب.
قال الشاعر وهو عمر بن أبي ربيعة :
أسيلات أبدان دقاق خصورها . . .
وثيرات ما التفت عليها الملاحف
وقال آخر :
فعجتها قبل الأخيار منزلة . . .
والطيبي كل ما التاثت به الأُزُر

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)

برح : زال مضارع يزول ، ومضارع يزال فتكون من أخوات كان الناقصة.
الحِقب : السنون واحدها حقبة.
قال الشاعر :
فإن تنأ عنها حقبة لاتلاقها . . .
فإنك مما أحدثت بالمحرب
وقال الفراء : الحقب سنة ، ويأتي قول أهل التفسير فيه.
السرب : المسلك في جوف الأرض.
النصب : التعب والمشقة.
الصخرة معروفة وهي حجر كبير.
{ وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباً فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سرباً فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً قال ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصاً فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً قال إنك لن تستطيع معي صبراً وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً قال ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً }.
{ موسى } المذكور في هذه الآية هو موسى بن عمران عليه السلام ، ولم يذكر الله في كتابه موسى غيره ، ومن ذهب إلى أنه غيره وهو موسى بن ميشا بن يوسف ، أو موسى بن افراثيم بن يوسف فقول لا يصح ، بل الثابت في الحديث الصحيح وفي التواريخ أنه موسى بن عمر نبيّ إسرائيل ، والمرسل هو وأخوه هارون إلى فرعون ، وفتاه هو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب عليهم الصلاة والسلام ، والفتى الشاب ولما كان الخدم أكثر ما يكونون فتياناً قيل للخادم فتى على جهة حسن الأدب ، وندبت الشريعة إلى ذلك.
ففي الحديث : « لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي » { لفتاه } لأنه كان يخدمه ويتبعه.
وقيل : كان يأخذ منه العلم.
ويقال : إن يوشع كان ابن اخت موسى عليه السلام وسبب هذه القصة أن موسى عليه السلام جلس يوماً في مجلس لبني إسرائيل وخطب فأبلغ ، فقيل له هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال : لا ، فأوحى الله إليه أن يسير بطول سيف البحر حتى يبلغ { مجمع البحرين } أسير أي لا أزال.
قال ابن عطية : وإنما قال هذه المقالة وهو سائر.
ومن هذا قول الفرزدق :
فما برحوا حتى تهادت نساؤهم . . .
ببطحاء ذي قار عباب اللطائم
انتهى.
وهذا الذي ذكره فيه حذف خبر { لا أبرح } وهي من أخوات كان ، ونص أصحابنا على أن حذف خبر كان وأخواتها لا يجوز وإن دل على حذفه إلاّ ما جاء في الشعر من قوله :

لهفي عليك للهفة من خائف . . .
يبغي جوارك حين ليس مجير
أي حين ليس في الدنيا.
وقال الزمخشري : فإن قلت : { لا أبرح } إن كان بمعنى لا أزول من برح المكان فقد دل على الإقامة على السفر ، وإن كان بمعنى لا أزال فلا بد من الخبر قلت : هو بمعنى لا أزال وقد حذف الخبر لأن الحال والكلام معاً يدلان عليه ، أما الحال فلأنها كانت حال سفر ، وأما الكلام فلأن قوله { حتى أبلغ مجمع البحرين } غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له ، فلا بد أن يكون المعنى لا يبرح مسيري { حتى أبلغ } على أن { حتى أبلغ } هو الخبر ، فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه وهو ضمير المتكلم ، فانقلب الفعل عن ضمير الغائب إلى لفظ المتكلم وهو وجه لطيف انتهى.
وهما وجهان خلطهما الزمخشري : أما الأول : فجعل الفعل مسنداً إلى المتكلم لفظاً وتقديراً وجعل الخبر محذوفاً كما قدره ابن عطية و { حتى أبلغ } فضلة متعلقة بالخبر المحذوف وغاية له.
والوجه الثاني جعل { لا أبرح } مسنداً من حيث اللفظ إلى المتكلم ، ومن حيث المعنى إلى ذلك المقدر المحذوف وجعله { لا أبرح } هو { حتى أبلغ } فهو عمدة إذ أصله خبر للمبتدأ لأنه خبر { أبرح }.
وقال الزمخشري.
أيضاً : ويجوز أن يكون المعنى { لا أبرح } ما أنا عليه بمعنى ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه { حتى أبلغ } كما تقول لا أبرح المكان انتهى.
يعني إن برح يكون بمعنى فارق فيتعدى إذ ذاك إلى مفعول ويحتاج هذا إلى صحة نقل ، وذكر الطبري عن ابن عباس قال : لما ظهر موسى وقومه على مصر أنزل قومه بمصر ، فلما استقرت الحال خطب يوماً فذكَّر بآلاء الله وأيامه عند بني إسرائيل ، ثم ذكر ما هو عليه من أنه لا يعلم أحداً أعلم منه.
قال ابن عطية : وما يرى قط أن موسى عليه السلام أنزل قومه بمصر إلاّ في هذا الكلام ، وما أراه يصح بل المتظاهر أن موسى مات بفحص التيه قبل فتح ديار الجبارين ، وهذا المروي عن ابن عباس ذكره الزمخشري فقال : روي أنه لما ظهر موسى على مصر مع بني إسرائيل واستقروا بعد هلاك القبط أمره الله أن يذكر قومه النعمة فقام فيهم خطيباً فذكر نعمة الله ، وقال : إن الله اصطفى نبيكم وكلمه فقالوا له : قد علمنا هذا فأي الناس أعلم؟ قال : أنا فعتب الله عليه حين لم يرد العلم إلى الله فأوحى الله إليه بل أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين وهو الخضر ، كان الخضر في أيام أفريدون قبل موسى وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى ، وذكر أيضاً في أسئلة موسى أنه قال : إن كان في عبادك من هو أعلم مني فادللني عليه ، قال : أعلم منك الخضر انتهى.

وهذا مخالف لما ثبت في الصحيح من أنه قيل له هل أحد أعلم منك؟ قال : لا.
و { مجمع البحرين } قال مجاهد وقتادة : هو مجتمع بحر فارس وبحر الروم.
قال ابن عطية : وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان ، فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام هو مجتمع البحرين على هذا القول.
وقالت فرقة منهم محمد بن كعب القرظي : هو عند طنجة حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه من دبور إلى صبا.
وعن أبيّ بإفريقية.
وقيل : هو بحر الأندلس والقرية التي أبت أن تضيفهما هي الجزيرة الخضراء.
وقيل : { مجمع البحرين } بحر ملح وبحر عذب فيكون الخضر على هذا عند موقع نهر عظيم في البحر.
وقالت فرقة : البحران كناية عن موسى والخضر لأنهما بحرا علم.
وهذا شبيه بتفسير الباطنية وغلاة الصوفية ، والأحاديث تدل على أنهما بحرا ماء.
وقال الزمخشري : من بدع التفاسير أن البحرين موسى والخضر لأنهما كانا بحرين في العلم انتهى.
وقيل : بحر القلزم.
وقيل : بحر الأزرق.
وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسار { مجمع } بكسر الميم الثانية والنضر عن ابن مسلم في كلا الحرفين وهو شاذ ، وقياسه من يفعل فتح الميم كقراءة الجمهور.
والظاهر أن { مجمع البحرين } هو اسم مكان جمع البحرين.
وقيل : مصدر.
قال ابن عباس : الحقب الدهر.
وقال عبد الله بن عمرو وأبو هريرة : ثمانون سنة.
وقال الحسن : سبعون.
وقيل : سنة بلغة قريش ذكره الفراء.
وقيل : وقت غير محدود قاله أبو عبيدة.
والظاهر أن قوله { أو أمضي } معطوف على { أبلغ } فغيا بأحد الأمرين إما ببلوغه المجمع وإما بمضيه { حقباً }.
وقيل : هي تغيية لقوله { لا أبرح } كقولك لا أفارقك أو تقضيني حقي ، فالمعنى { لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين } إلى أن أمضي زماناً أتيقن معه فوات مجمع البحرين.
وقرأ الضحاك { حقباً } بإسكان القاف والجمهور بضمها.
{ فلما بلغا مجمع بينهما } ثم جملة محذوفة التقدير فسار { فلما بلغا } أي موسى وفتاه { مجمع بينهما } أي بين البحرين { نسيا حوتهما } وكان من أمر الحوت وقصته أن موسى عليه السلام حين أوحي إليه أنَّ لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك.
قال موسى : يا رب فيكف لي به؟ قال : تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل ، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم ، فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فنام موسى واضطرب الحوت في المكتمل فخرج منه فسقط { في البحر سرباً } وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق.
قيل : وكان الحوت مالحاً.
وقيل : مشوياً.
وقيل : طرياً.
وقيل : جمع يوشع الحوت والخبز في مكتل فنزلا ليلة على شاطىء عين تسمى عين الحياة ونام موسى ، فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده عاشت.

وروي أنهما أكلا منها.
وقيل : توضأ يوشع من تلك العين فانتضح الماء على الحوت فعاش ووقع في الماء ، والظاهر نسبة النسيان إلى موسى وفتاه.
وقيل : كان النسيان من أحدهما وهو فتى موسى نسي أن يعلم موسى أمر الحوت إذ كان نائماً ، وقد أحس يوشع بخروجه من المكتل إلى البحر ورآه قد اتخذ السرب فأشفق أن يوقظ موسى.
وقال أؤخر إلى أن يستيقظ ثم نسي أن يعلمه حتى ارتحلا و { جاوزا } وقد يسند الشيء إلى الجماعة وإن كان الذي فعله واحد منهم.
وقيل : هو على حذف مضاف أي نسي أحدهما.
وقال الزمخشري : أي { نسيا } تفقد أمره وما يكون منه مما جعل إمارة على الظفر بالطلبة.
وقيل : نسي يوشع أن يقدمه ، ونسي موسى أن يأمر فيه بشيء انتهى.
وشبه بالسرب مسلك الحوت في الماء حين لم ينطبق الماء بعده بل بقي كالطاق ، هذا الذي ورد في الحديث.
وقال الجمهور : بقي موضع سلوكه فارغاً.
وقال قتادة : ماء جامداً وعن ابن عباس : حجراً صلداً.
وقال ابن زيد : إنما اتخذ سبيله سرباً في البر حتى وصل إلى البحر ثم عام على العادة كأنه يعني بقوله { سرباً } تصرفاً وجولاناً من قولهم : فحل سارب أي مهمل يرعى حيث شاء.
ومنه قوله تعالى { وسارب بالنهار } أي متصرف.
وقال قوم : اتخذ { سرباً } في التراب من المكتمل ، وصادف في طريقه حجراً فنقبه.
والظاهر أن السرب كان في الماء ولا يفسر إلاّ بما ورد في الحديث الصحيح أن الماء صار عليه كالطاق وهو معجزة لموسى عليه السلام أو الخضر إن قلنا أنه نبي وإلاّ تكن كرامة.
وقيل : عاد موضع سلوك الحوت حجراً طريقاً وأن موسى مشى عليه متبعاً للحوت حتى أفضى به ذلك إلى جزيرة في البحر وفيها وجد الخضر { فلما جاوزا } أي مجمع البحرين.
وقال الزمخشري : الموعد وهو الصخرة.
قيل : سارا بعد مجاوزة الصخرة الليلة والغد إلى الظهر وألقى على موسى النصب والجوع حين جاوزا لموعد ولم ينصب ولا جاع قبل ذلك فتذكر الحوت وطلبه.
وقوله { من سفرنا } هذا إشارة إلى مسيرهما وراء الصخرة.
وقرأ الجمهور { نصباً } بفتحتين وعبد الله بن عبيد بن عمير بضمتين.
قال صاحب اللوامح وهي إحدى اللغات الأربع التي فيها.
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف نسي يوشع ذلك ومثله لا ينسى لكونه إمارة لهما على الطلبة التي تناهضا من أجلها ولكونه معجزتين بينتين وهما حياة السمكة المملوحة المأكول منها وقيل : ما كانت إلاّ شق سمكة وقيام الماء وانتصابه مثل الطاق ونفوذها في مثل السرب ، ثم كيف استمر به النسيان حتى خلفا الموعد وسارا مسيرة ليلة إلى ظهر الغد ، وحتى طلب موسى عليه السلام الحوت قلت : قد شغله الشيطان بوساوسه فذهب بفكره كل مذهب حتى اعتراه النسيان ، وانضم إلى ذلك أنه ضري بمشاهدة أمثاله عند موسى من العجائب ، واستأنس بأخواته فأعان الإلف على قلة الإهتمام انتهى.

قال أبو بكر غالب بن عطية والداني عبد الحق المفسر : سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظة : مشى موسى إلى المناجاة فبقي أربعين يوماً لم يحتج إلى طعام ، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع في بعض يوم.
وقال الزمخشري : { أرأيت } بمعنى أخبرني فإن قلت : فما وجه التئام هذا الكلام فإن كل واحد من { أرأيت } و { إذ أوينا } و { فإني نسيت الحوت } لا متعلق له؟ قلت : لما طلب موسى الحوت ذكر يوشع ما رأى منه وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية فدهش فطفق يسأل موسى عن سبب ذلك ، كأنه قال : { أرأيت } ما دهاني { إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت } فحذف ذلك انتهى.
وكون أرأيتك بمعنى أخبرني ذكره سيبويه : وقد أمعّنا الكلام في ذلك في سورة الأنعام وفي شرحنا لكتاب التسهيل.
وأما ما يختص بأرأيت في هذا الموضع فقال أبو الحسن الأخفش : إن العرب أخرجتها عن معناها بالكلية فقالوا : أرأيتك وأريتك بحذف الهمزة إذا كانت بمعنى أخبرني ، وإذا كانت بمعنى أبصرت لم تحذف همزتها قال : وشذت أيضاً فألزمتها الخطاب على هذا المعنى ، ولا تقول فيها أبداً أراني زيد عمراً ما صنع ، وتقول هذا على معنى أعلم.
وشذت أيضاً فأخرجتها عن موضعها بالكلية بدليل دخول الفاء ألا ترى قوله { أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت } فما دخلت الفاء إلاّ وقد أخرجت لمعنى إما أو تنبه ، والمعنى أما { إذ أوينا إلى الصخرة } فالأمر كذا ، وقد أخرجتها أيضاً إلى معنى أخبرني كما قدمنا ، وإذا كانت بمعنى أخبرني فلا بد بعدها من الاسم المستخبر عنه وتلزم الجملة التي بعدها الاستفهام ، وقد يخرج لمعنى أما ويكون أبداً بعدها الشرط وظرف الزمان فقوله { فإني نسيت الحوت } معناه أما { إذ أوينا } { فإني نسيت الحوت } أو تنبه { إذ أوينا } وليست الفاء إلاّ جواباً لأرأيت ، لأن إذ لا يصح أن يجازى بها إلاّ مقرونة بما بلا خلاف انتهى كلام الأخفش.
وفيه إن { أرأيت } إذا كانت بمعنى أخبرني فلا بد بعدها من الاسم المستخبر عنه ، وتلزم الجملة التي بعدها الاستفهام وهذان مفقودان في تقدير الزمخشري { أرأيت } هنا بمعنى أخبرني ، ومعنى { نسيت الحوت } نسيت ذكر ما جرى فيه لك.
وفي قوله { وما أنسانيه إلاّ الشيطان } حسن أدب سبب النسيان إلى المتسبب فيه بوسوسته و { أن أذكره } بدل اشتمال من الضمير العائد على الحوت ، والظاهر أن الضمير في { واتخذ سبيله في البحر عجباً } عائد على الحوت كما عاد في قوله { فاتخذ سبيله في البحر سرباً } وهو من كلام يوشع.

وقيل : الضمير عائد على موسى أي اتخذ موسى.
ومعنى { عجباً } أي تعجب من ذلك أو اتخاذاً { عجباً } وهو أن أثره بقي إلى حيث سار.
وقدره الزمخشري { سبيله } { عجباً } وهو كونه شبيه السرب قال : أو قال { عجباً } في آخر كلام تعجباً من حاله في رؤية تلك العجيبة ونسيانه لها ، أو مما رأى من المعجزتين وقوله : { وما أنسانيه إلاّ الشيطان أن أذكره } اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه.
وقيل : إن { عجباً } حكاية لتعجب موسى وليس بذلك انتهى.
وقال ابن عطية : { واتخذ في سبيله في البحر عجباً } يحتمل أن يكون من قول يوشع لموسى أي اتخذ الحوت سبيلاً عجباً للناس ، ويحتمل أن يكون قوله { واتخذ سبيله في البحر } تمام الخبر ثم استأنف التعجب فقال من قبل نفسه { عجباً } لهذا الأمر ، وموضع العجب أن يكون حوت قد مات وأكل شقه ثم حيي بعد ذلك.
قال أبو شجاع في كتاب الطبري رأيته أتيت به فإذا هو شق حوت وعين واحدة وشق آخر ليس فيه شيّ.
قال ابن عطية : وأنا رأيته والشق الذي فيه شيّ عليه قشرة رقيقة ليست تحتها شوكة ، ويحتمل أن يكون { واتخذ سبيله } الآية إخباراً من الله تعالى وذلك على وجهين : إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذ سبيل الحوت من البحر { عجباً } أي تعجب منه ، وإما أن يخبر عن الحوت أنه اتخذ سبيله { عجباً } للناس انتهى.
وقرأ حفص : { وما أنسانيه } بضم الهاء وفي الفتح عليه الله وذلك في الوصل وأمال الكسائي فتحة السين ، وفي مصحف عبد الله وقراءته { أن أذكره } { إلاّ الشيطان }.
وقرأ أبو حيوة : واتخاذ سبيله عطف على المصدر على ضمير المفعول في { أذكره } والإشارة بقوله ذلك إلى أمر الحوت وفقده واتخاذه سبيلاً في البحر لأنه إمارة الظفر بالطلبة من لقاء ذلك العبد الصالح و { ما } موصولة والعائد محذوف أي نبغيه.
وقرىء نبغ ياء في الوصل وإثباتها أحسن وهي قراءة أبي عمرو والكسائي ونافع ، وأما الوقف فالأكثر فيه طرح الياء اتباعاً لرسم المصحف ، وأثبتها في الحالين ابن كثير.
{ فارتدا } رجعاً على أدراجهما من حيث جاءا.
{ قصصاً } أي يقصان الأثر { قصصاً } فانتصب على المصدرية بإضمار يقصان ، أو يكون في موضع الحال أي مقتصين فينصب بقوله { فارتدا } { فوجدا } أي موسى والفتى { عبداً من عبادنا } هذه إضافة تشريف واختصاص ، وجداه عند الصخرة التي فقد الحوت عندها وهو مسجى في ثوبه مستلقياً على الأرض فقال : السلام عليك فرفع رأسه ، وقال : أنى بأرضك السلام ثم قال له ، من أنت؟ قال : أنا موسى ، قال : موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم ، قال له : ألم يكن لك في بني إسرائيل ما يشغلك عن السفر إلى هنا؟ قال : بلى ، ولكن أحببت لقاءك وأن أتعلم منك ، قال له : إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه أنا.

والجمهور على أنه الخضر وخالف من لا يعتد بخلافه فزعم أنه عالم آخر.
وقيل : اليسع.
وقيل : الياس.
وقيل : خضرون ابن قابيل بن آدم عليه السلام.
قيل : واسم الخضر بليا بن ملكان ، والجمهور على أن الخضر نبي وكان علمه معرفة بواطن قد أوحيت إليه ، وعلم موسى الأحكام والفتيا بالظاهر.
وروي أنه وجد قاعداً على ثبج البحر.
وفي الحديث سمي خضراً لأنه جلس على فروة بالية فاهتزت تحته خضراء.
وقيل : كان إذا صلى اخضّر ما حوله.
وقيل : جلس على فروة بيضاء وهي الأرض المرتفعة.
وقيل : الصلبة واهتزت تحته خضراء.
وقيل : كانت أمه رومية وأبوه فارسي.
وقيل : كان ابن ملك من الملوك أراد أبوه أن يستخلفه من بعده فلم يقبل منه ولحق بجزائر البحر فطلبه أبوه فلم يقدر عليه.
والجمهور على أنه مات.
وقال شرف الدين أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي : أما خضر موسى بن عمران فليس بحي لأنه لو كان حياً للزمه المجيء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم والإيمان به واتبّاعه.
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لو كان موسى وعيسى حيين لم يسعهما إلاّ اتباعي » انتهى هكذا ورد لحديث ومذهب المسلمين أن عيسى حي وأنه ينزل من السماء ، ولعل الحديث : « لو كان موسى حياً لم يسعه إلاّ اتباعي ».
والرحمة التي آتاه الله إياها هي الوحي والنبوة.
وقيل : الرزق.
{ وعلمناه من لدنّا علماً } أي من عندنا أي مما يختص بنا من العلم وهو الإخبار عن الغيوب.
وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو { من لدنّا } بتخفيف النون وهي لغة في لدن وهي الأصل.
قيل : وقد أولع كثير ممن ينتمي إلى الصلاح بادعاء هذا العلم ويسمونه العلم اللدني ، وأنه يلقى في روع الصالح منهم شيء من ذلك حتى يخبر بأن من كان من أصحابه هو من أهل الجنة على سبيل القطع ، وأن بعضهم يرى الخضر.
وكان قاضي القضاة أبو الفتح محمد بن عليّ بن مطيع القشيري المعروف بابن دقيق العيد يخبر عن شيخ له أنه رأى الخضر وحدثه ، فقيل له : من أعلمه أنه الخضر؟ ومن أين عرف ذلك؟ فسكت.
وبعضهم يزعم أن الخضرية رتبة يتولاها بعض الصالحين على قدم الخضر ، وسمعنا الحديث عن شيخ يقال له عبد الواحد العباسي الحنبلي وكان أصحابه الحنابلة يعتقدون فيه أنه يجتمع بالخضر.
{ قال له موسى } في الكلام محذوف تقديره فلما التقيا وتراجعا الكلام وهو الذي ورد في الحديث الصحيح { قال له موسى هل أتبعك } وفي هذا دليل على التواضع للعالم ، وفي هذه القصة دليل على الحث على الرحلة في طلب العلم وعلى حسن التلطف والاستنزال والأدب في طلب العلم.

بقوله { هل أتبعك } وفيه المسافرة مع العالم لاقتباس فوائده ، والمعنى هل يخف عليك ويتفق لك وانتصب { رشداً } على أنه مفعول ثانٍ لقوله { تعلمني } أو على أنه مصدر في موضع الحال ، وذو الحال الضمير في { أتبعك }.
وقال الزمخشري : { علماً } ذا رشد أرشد به في ديني ، قال : فإن قلت : أما دلت حاجته إلى التعلم من آخر في عهده أنه كما قيل موسى بن ميشا لا موسى بن عمران لأن النبيّ يجب أن يكون أعلم أهل زمانه وإمامهم المرجوع إليه في أبواب الدين؟ قلت : لا غضاضة بالنبيّ في أخذ العلم من نبيّ قبله ، وإنما يغض منه أن يأخذ ممن دونه.
وعن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس : إن نوفاً ابن امرأة كعب يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى ، وأن موسى هو موسى بن ميشا فقال : كذب عدو الله انتهى.
وقرأ الحسن والزهري وأبو بحرية وابن محيصن وابن مناذر ويعقوب وأبو عبيد واليزيدي { رشداً } بفتحتين وهي قراءة أبي عمرو من السبعة.
وقرأ باقي السبعة بضم الراء وإسكان الشين ، ونفى الخضر استطاعة الصبر معه على سبيل التأكيد كأنها مما لا يصح ولا يستقيم ، وعلل ذلك بأنه يتولى أموراً هي في ظاهرها ينكرها الرجل الصالح فكيف النبيّ فلا يتمالك أن يشمئز لذلك ، ويبادر بالإنكار { وكيف تصبر } أي إن صبرك على ما لا خبرة لك به مستبعد ، وفيه إبداء عذر له حيث لا يمكنه الصبر لما يرى من منافاة ما هو عليه من شريعته.
وانتصب { خبراً } على التمييز أي مما لم يحط به خبرك فهو منقول من الفاعل أو على أنه مصدر على غير الصدر لأن معنى { على ما لم تحط به } لم تخبره.
وقرأ الحسن وابن هرمز { خبراً } بضم الباء.
{ قال ستجدني إن شاء الله صابراً } وعده بوجدانه { صابراً } وقرن ذلك بمشيئة الله علماً منه بشدة الأمر وصعوبته ، إذ لا يصبر إلاّ على ما ينافي ما هو عليه إذ رآه { ولا أعصي } يحتمل أن يكون معطوفاً على { صابراً } أي { صابراً } وغير عاص فيكون في موضع نصب عطف الفعل على الاسم إذا كان في معناه كقوله { صافات ويقبضن } أي وقابضات ، ويجوز أن يكون معطوفاً على { ستجدني } فلا محل له من الإعراب ولا يكون مقيداً بالمشيئة لفظاً.
وقال القشيري : وعد موسى من نفسه بشيئين : بالصبر وقرنه بالاستثناء بالمشيئة فصبر حين وجد على يدي الخضر فيما كان منه من الفعل ، وبأن لا يعصيه فأطلق ولم يقرنه بالاستثناء فعصاه حيث قال له { فلا تسألني } فكان يسأله فما قرن بالاستثناء لم يخالف فيه وما أطلقه وقع فيه الخلف انتهى.
وهذا منه على تقدير أن يكون { ولا أعصي } معطوفاً على { ستجدني } فلم يندرج تحت المشيئة.
{ قال فان اتبعتني } أي إذا رأيت مني شيئاً خفي عليك وجه صحته فأنكرت في نفسك فلا تفاتحني بالسؤال حتى أكون أنا الفاتح عليك ، وهذا من أدب المتعلم مع العالم المتبوع.
وقرأنا نافع وابن عامر { فلا تسألني } وعن أبي جعفر بفتح السين واللام من غير همز مشددة النون وباقي السبعة بالهمز وسكون اللام وتخفيف النون.
قال أبو علي.
كلهم بياء في الحالين انتهى.
وعن ابن عامر في حذف الياء خلاف غريب.

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)

السفينة معروفة وتجمع على سفن وعلى سفائن ، وتحذف التاء فيقال سفينة وسفين وهو مما بينه وبين مفردة تاء التأنيث وهو كثير في المخلوق نادر في المصنوع ، نحو عمامة وعمام.
وقال الشاعر :
متى تأته تأت لج بحر . . .
تقاذف في غوار به السفين
الأمر البشع من الأمور كالداهية والأد ونحوه.
الجدار معروف ويجمع على جدر وجدران.
انقض سقط ، ومن أبيات معاياة الأعراب :
مرّ كما انقضّ على كوكب . . .
عفريت جن في الدجى الأجدل
عاب الرجل ذكر وصفاً فيه يذم به ، وعاب السفينة أحدث فيها ما تنقص به.
{ فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً قال ألم أقل لك أنك لن تستطيع معي صبراً قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله قال أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضّ فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه أجراً قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً }.
{ فانطلقا } أي موسى والخضر وكان معهم يوشع ولم يضمر لأنه في حكم التبع.
وقيل : كان موسى قد صرفه وردّه إلى بني إسرائيل.
والألف واللام في { السفينة } لتعريف الجنس إذ لم يتقدم عهد في سفينة مخصوصة.
وروي في كيفية ركوبهما السفينة وخرقها وسدها أقوال ، والمعتمد ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما قالا : " «فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول ، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلاّ والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها { لتغرق أهلها } إلى قوله { عسراً } » قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وكان الأول من موسى نسياناً قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر فقال له الخضر : ما علمي وعلمك من علم الله إلاّ مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر» " واللام في { لتغرق أهلها }.
قيل : لام العاقبة.
وقيل : لام العلة.
وقرأ زيد بن عليّ والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وحمزة والكسائي وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني ليغرق بفتح الياء والراء وسكون الغين { أهلها } بالرفع.
وقرأ باقي السبعة بضم تاء الخطاب وإسكان الغين وكسر الراء ونصب لام { أهلها }.
وقرأ الحسن وأبو رجاء كذلك إلاّ أنهما فتحا الغين وشددا الراء.

ثم ذكره الخضر بما سبق له من نفي استطاعته الصبر لما يرى فقال { لا تؤاخذني بما نسيت } والظاهر حمل النسيان على وضعه.
وقد قال عليه السلام : « كانت الأولى من موسى نسياناً » والمعنى أنه نسي العهد الذي كان بينهما من عدم سؤاله حتى يكون هو المخبر له أولاً وهذا قول الجمهور.
وعن أُبيّ ابن كعب أنه ما نسي ولكن قوله هذا من معاريض الكلام.
قال الزمخشري : أراد أنه نسي وصيته ولا مؤاخذة على الناسي ، أو أخرج الكلام في معرض النهي عن المؤاخذة بالنسيان توهمه أنه نسي ليبسط عذره في الإنكار وهو من معاريض الكلام التي ينفي بها الكذب مع التوصل إلى الغرض كقول إبراهيم عليه السلام.
هذه أختي وإني سقيم : أو أراد بالنسيان الترك أي { لا تؤاخذني } بما تركت من وصيتك أول مرة انتهى.
وقد بيَّن ابن عطية كلام أبيّ بكلام طويل يوقف عليه في كتابه ، ولا يعتمد إلاّ قول الرسول : « كانت الأَولى من موسى نسياناً ».
{ ولا ترهقني } لا تغشني وتكلفني { من أمري } وهو اتباعك { عسراً } أي شيئاً صعباً ، بل سهِّل عليّ في متابعتك بترك المناقشة.
وقرأ أبو جعفر { عسراً } بضم السين حيث وقع فانطلقا في الكلام حذف تقديره فخرجا من السفينة ولم يقع غرق بأهلها ، فانطلقا فبينما هما يمشيان على الساحل إذا بصر الخضر { غلاماً } يلعب مع الصبيان وفي بعض الروايات فمر بغلمان يلعبون فعمد الخضر إلى غلام حسن الهيئة وضيء الوجه فاقتلع رأسه.
وقيل : رضه بحجر.
وقيل : ذبحه.
وقيل : فتل عنقه.
وقيل : ضرب برأسه الحائط.
قيل : وكان هذا الغلام لم يبلغ الحلم ولهذا قال : { أقتلت نفساً زكية }.
وقيل : كان الغلام بالغاً شاباً ، والعرب تبقي على الشاب اسم الغلام.
ومنه قول ليلى الأخيلية في الحجاج :
شفاها من الداء الذي قد أصابها . . .
غلام إذا هز القناة سقاها
وقال آخر :
تلق ذباب السيف عني فإنني . . .
غلام إذا هو جيت لست بشاعر
وقيل : أصله من الاغتلام وهو شدّة الشبق ، وذلك إنما يكون في الشباب الذين قد بلغوا الحلم ويتناول الصبي الصغير تجوّزاً تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه.
( واختلف في اسم هذا الغلام واسم أبيه واسم أمه ) ولم يرد شيء من ذلك في الحديث.
وفي الخبر أن هذا الغلام كان يفسد ويقسم لأبويه أنه ما فعل فيقسمان على قسمه ويحميانه ممن يطلبه.
وحكى القرطبي عن صاحب العرس والعرائس أن موسى عليه السلام لما قال للخضر { أقتلت نفساً زكية } غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه ، وإذا في عظم كتفه مكتوب كافر لا يؤمن بالله أبداً.
وقال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل { خرقها } بغير فاء و { فقتله } بالفاء؟ قلت : جعل خرقها جزاء للشرط ، وجعل قتله من جملة الشرط معطوفاً عليه والجزاء قال { أقتلت } : فإن قلت : فلم خولف بينهما؟ قلت : لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب وقد تعقب القتل لقاء الغلام انتهى.

ومعنى { زكية } طاهرة من الذنوب ، ووصفها بهذا الوصف لأنه لم يرها أذنبت ، قيل أو لأنها صغيره لم تبلغ الحنث.
وقوله { بغير نفس } يرده ويدل على كبر الغلام وإلاّ فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس ولا بغير نفس.
وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد والزهري ونافع واليزيدي وابن مسلم وزيد وابن بكير عن يعقوب والتمار عن رويس عنه وأبو عبيد وابن جبير الأنطاكي وابن كثير وأبو عمرو زاكية بالألف.
وقرأ زيد بن عليّ والحسن والجحدري وابن عامر والكوفيون { زكية } بغير ألف وبتشديد الياء وهي أبلغ من زاكية لأن فعيلا المحول من فاعل يدل على المبالغة.
وقرأ الجمهور { نكراً } بإسكان الكاف.
وقرأ نافع وأبو بكر وابن ذكوان وأبو جعفر وشيبة وطلحة ويعقوب وأبو حاتم برفع الكاف حيث كان منصوباً.
والنكر قيل : أقل من الأمر لأن قتل نفس واحدة أهون من إعراق أهل السفينة.
وقيل : معناه شيئاً أنكر من الأول ، لأن الخرق يمكن سده والقتل لا سبيل إلى تدارك الحياة معه.
وفي قوله { لك } زجر وإغلاظ ليس في الأول لأن موقعه التساؤل بأنه بعد التقدم إلى ترك السؤال واستعذار موسى بالنسيان أفظع وأفظع في المخالفة لما كان أخذ على نفسه من الصبر وانتفاء العصيان.
{ قال إن سألتك عن شيء بعدها } أي بعد هذه القصة أو بعد هذه المسألة { فلا تصاحبني } أي فأوقع الفراق بيني وبينك.
وقرأ الجمهور { فلا تصاحبني } من باب المفاعلة.
وقرأ عيسى ويعقوب فلا تصحبني مضارع صحب وعيسى أيضاً بضم التاء وكسر الحاء مضارع أصحب ، ورواها سهل عن أبي عمرو أي فلا تصحبني علمك وقدره بعضهم فلا تصحبني إياك وبعضهم نفسك.
وقرأ الأعرج بفتح التاء والباء وشد النون.
ومعنى { قد بلغت من لدني عذراً } أي قد اعتذرت إليّ وبلغت إلى العذر.
وقرأ الجمهور { من لدني } بإدغام نون لدن في نون الوقاية التي اتصلت بياء المتكلم.
وقرأ نافع وعاصم بتخفيف النون وهي نون لدن اتصلت بياء المتكلم وهو القياس ، لأن أصل الاسماء إذا أضيفت إلى ياء المتكلم لم تلحق نون الوقاية نحو غلامي وفرسي ، وأشم شعبة الضم في الدال ، وروي عن عاصم سكون الدال.
قال ابن مجاهد : وهو غلط وكأنه يعني من جهة الرواية ، وأما من حيث اللغة فليست بغلط لأن من لغاتها لد بفتح اللام وسكون الدال.
وقرأ عيسى { عذراً } بضم الذال ورويت عن أبي عمرو وعن أبي عذري بكسر الراء مضافاً إلى ياء المتكلم.
وفي البخاري قال : « يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا من أمرهما »

وأسند الطبري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا لأحد بدأ بنفسه فقال : « رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأى العجب » ولكنه قال { فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً }.
والقرية التي أتيا أهلها إنطاكية أو الأبلة أو بجزيرة الأندلس وهي الجزيرة الخضراء ، أو برقة أو أبو حوران بناحية أذربيجان ، أو ناصرة من أرض الروم أو قرية بأرمينية أقوال مضطربة بحسب اختلافهم في أي ناحية من الأرض كانت قصة والله أعلم بحقيقة ذلك.
وفي الحديث أنهما كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم وهذه عبرة مصرحة بهوان الدنيا على الله تعالى.
وتكرر لفظ { أهل } على سبيل التوكيد ، وقد يظهر له فائدة عن التوكيد وهو أنهما حين { أتيا أهل القرية } لم يأتيا جميع أهل القرية إنما أتيا بعضهم ، فلما قال { استطعما } احتمل أنهما لم يستطعما إلاّ ذلك البعض الذي أتياه فجيء بلفظ أهلها ليعم جميعهم وأنهم يتبعونهم واحداً واحداً بالاستطعام ، ولو كان التركيب استطعماهم لكان عائداً على البعض المأتي.
وقرأ الجمهور { يضيّفوهما } بالتشديد من ضيف.
وقرأ ابن الزبير والحسن وأبو رجاء وأبو رزين وابن محيصن وعاصم في رواية المفضل وأبان بكسر الضاد وإسكان الياء من أضاف ، كما تقول ميّل وأمال ، وإسناد الإرادة إلى الجدار من المجاز البليغ والاستعارة البارعة وكثيراً ما يوجد في كلام العرب إسناد أشياء تكون من أفعال العقلاء إلى ما لا يعقل من الحيوان وإلى الجماد ، أو الحيوان الذي لا يعقل مكان العاقل لكان صادراً منه ذلك الفعل.
وقد أكثر الزمخشري وغيره من إيراد الشواهد على ذلك ومن له أدنى مطالعة لكلام العرب لا يحتاج إلى شاهد في ذلك.
قال الزمخشري : ولقد بلغني أن بعض المحرفين لكلام الله ممن لا يعلم كان يجعل الضمير للخضر لأن ما كان فيه من آفة الجهل وسقم الفهم أراه أعلى الكلام طبقة أدناه منزلة ، فتمحل ليرده إلى ما هو عنده أصح وأفصح ، وعنده أن ما كان أبعد من المجاز أدخل في الإعجاز انتهى.
وما ذكره أهل أصول الفقه عن أبي بكر محمد بن داود الأصبهاني من أنه ينكر المجاز في القرآن لعله لا يصح عنه ، وكيف يكون ذلك وهو أحد الأدباء الشعراء الفحول المجيدين في النظم والنثر.
وقرأ الجمهور { ينقض } أي يسقط من انقضاض الطائر ، ووزنه انفعل نحو انجر.
قال صاحب اللوامح : من القضة وهي الحصى الصغار ، ومنه طعام قضض إذا كان فيه حصى ، فعلى هذا { يريد أن ينقض } أي يتفتت فيصير حصاة انتهى.
وقيل : وزنه أفعّل من النقض كاحمر.
وقرأ أبي { ينقض } بضم الياء وفتح القاف والضاد مبنياً للمفعول من نقضته وهي مروية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وفي حرف عبد الله وقراءة الأعمش يريد لينقض كذلك إلاّ أنه منصوب بأن المقدرة بعد اللام.
وقرأ علي وعكرمة وأبو شيخ خيوان بن خالد الهنائي وخليد بن سعد ويحيى بن يعمر ينقاص بالصاد غير معجمة مع الألف ، ووزنه ينفعل اللازم من قاص يقيص إذا كسرته تقول : قصيته فانقاص.
قال ابن خالويه : وتقول العرب انقاصت السنّ إذا انشقت طولاً.
قال ذو الرمة : منقاص ومنكثب.
وقيل : إذا تصدعت كيف كان.
ومنه قول أبي ذؤيب :
فراق كقص السن فالصبر إنه . . .
لكل أناس عشرة وحبور
وقرأ الزهري : ينقاض بألف وضاد معجمة وهو من قولهم : قضته معجمة فانقاض أي هدمته فانهدم.
قال أبو عليّ : والمشهور عن الزهري بصاد غير معجمة.
{ فأقامه } الظاهر أنه لم يهدمه وبناه كما ذهب إليه بعضهم من أنه هدمه وقعد يبنيه.
ووقع هذا في مصحف عبد الله وأيد بقوله { لتخذت عليه أجراً } لأن بناءه بعد هدمه يستحق عليه أجراً.
وقال ابن جبير : مسحه بيده وأقامه فقام.
وقيل : أقامه بعمود عمده به.
وقال مقاتل : سوّاه بالشيد أي لبسه به وهو الجيار.
وعن ابن عباس : دفعه بيده فاستقام وهذا أليق بحال الأنبياء.
قال الزمخشري : كانت الحال حال اضطرار وافتقار إلى المطعم وقد لزتهما الحاجة إلى آخر كسب المرء وهو المسألة فلم يجدا مواسياً ، فلما أقام الجدار لم يتمالك موسى لما رأى من الحرمان ومساس الحاجة أن { قال : لو شئت لاتخذت عليه أجراً } وطلبت على عملك جعلاً حتى تنتعش به وتستدفع الضرورة انتهى.
قال ابن عطية : وقوله { لو شئت لاتخذت عليه أجراً } وإن لم يكن سؤالاً ففي ضمنه الإنكار لفعله ، والقول بتصويب أخذ الأجر وفي ذلك تخطئة ترك الأجر انتهى.
وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وابن بحرية ولتخذت بتاء مفتوحة وخاء مكسورة ، يقال تخذ واتخذ نحو تبع واتبع ، افتعل من تخذ وأدغم التاء في التاء.
قال الشاعر :
وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها . . .
نسيفاً كأفحوص القطاة المطرق
والتاء أصل عند البصريين وليس من الأخذ ، وزعم بعضهم أن الاتخاذ افتعال من الأخذ وأنهم ظنوا التاء أصلية فقالوا في الثلاثي تخذ كما قالوا تقي من اتقى.
والظاهر أن هذا إشارة إلى قوله { لو شئت } أي هذا الإعراض سبب الفراق { بيني وبينك } على حسب ما سبق من ميعاده.
أنه قال { إن سألتك } وهذه الجملة وإن لم تكن سؤالاً فإنها تتضمنه ، إذ المعنى ألم تكن تتخذ عليه أجراً لاحتياجنا إليه.
وقال الزمخشري : قد تصور فراق بينهما عند حلول ميعاده على ما قال موسى عليه السلام { إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني } فأشار إليه وجعله مبتدأ وأخبر عنه كما تقول : هذا أخوك فلا يكون هذا إشارة إلى غير الأخ انتهى.
وفيما قاله نظر.

وقرأ ابن أبي عبلة { فراق بيني } بالتنوين والجمهور على الإضافة.
والبين قال ابن عطية : الصلاح الذي يكون بين المصطحبين ونحوهما ، وذلك مستعار فيه من الظرفية ومستعمل استعمال الأسماء ، وتكريره { بيني وبينك } وعدوله عن بيننا لمعنى التأكيد.
{ سأنبئك } أي سأخبرك { بتأويل } ما رأيت من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار ، أي بما آل إليه الأمر فيما كان ظاهره أن لا يكون.
وقرأ ابن وثاب سأنبيك بإخلاص الياء من غير همز.
وعن ابن عباس : كان قول موسى في السفينة وفي الغلام لله ، وكان قوله في الجدار لنفسه لطلب شيء من الدنيا فكان سبب الفراق.
وقال أرباب المعاني : هذه الأمثلة التي وقعت لموسى مع الخضر حجة على موسى وإعجاله ، وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة نودي : يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحاً في اليم؟ فلما أنكر قتل الغلام قيل له : أين إنكارك هذا من وكز القبطي وقضائك عليه؟ فلما أنكر إقامة الجدار نودي أين هذا من رفعك الحجر لبنات شعيب دون أجرة؟ { سأنبئك } في معاني هذا معك ولا أفارقك حتى أوضح لك ما استبهم عليك.

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)

روي أن موسى عليه السلام لما عزم الخضر على مفارقته أخذ بثيابه ، وقال : لا أفارقك حتى تخبرني بمَ أباح لك فعل ما فعلت ، فلما التمس ذلك منه أخذ في البيان والتفصيل ، فقال : { أما السفينة } فبدأ بقصة ما وقع له أولاً.
قيل : كانت لعشرة إخوة ، خمسة زمني وخمسة يعملون في البحر.
وقيل : كانوا أجراء فنسبت إليهم للاختصاص.
وقرأ الجمهور : مساكين بتخفيف السين جمع مسكين.
وقرأ عليّ كرم الله وجهه بتشديد السين جمع مساك جمع تصحيح.
فقيل : المعنى ملاحين ، والمساك الذي يمسك رجل السفينة وكل منهم يصلح لذلك.
وقيل : المساكون دبَغَة المسوك وهي الجلود واحدها مسك ، والقراءة الأولى تدل على أن السفينة كانت لقوم ضعفاء ينبغي أن يشفق عليهم ، واحتج بهذه الآية على أن المسكين هو الذي له بلغة من العيش كالسفينة لهؤلاء ، وأنه أصلح حالاً من الفقير.
وقوله { فأردت } فيه إسناد إرادة العيب إليه.
وفي قوله : فأراد ربك أن يبلغا لما في ذكر العيب ما فيه فلم يسنده إلى الله ، ولما في ذلك من فعل الخير أسنده إلى الله تعالى.
قال الزمخشري : فإن قلت : قوله { فأردت أن أعيبها } مسبب عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب فلم قدم عليه؟ قلت : النية به التأخير ، وإنما قدم للعناية ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده ، ولكن مع كونها { لمساكين } فكان بمنزلة قولك : زيد ظني مقيم.
وقيل في قراءة أبيّ وعبد الله كل سفينة صالحة انتهى.
ومعنى { أن أعيبها } بخرقها.
وقرأ الجمهور { وراءهم } وهو لفظ يطلق على الخلف وعلى الأمام ، ومعناه هنا أمامهم.
وكذا قرأ ابن عباس وابن جبير.
وكون { وراءهم } بمعنى أمامهم قول قتادة وأبي عبيد وابن السكيت والزجاج ، ولا خلاف عند أهل اللغة أن وراء يجوز بمعنى قدام ، وجاء في التنزيل والشعر قال تعالى { من ورائه جهنم } وقال { ومن ورائه عذاب غليظ } وقال { ومن ورائهم برزخ } وقال لبيد :
أليس ورائي إن تراخت منيتي . . .
لزوم العصا يحني عليها الأصابع
وقال سوار بن المضرب السعدي :
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي . . .
وقومي تميم والفلاة ورائيا
وقال آخر :
أليس ورائي أن أدب على العصا . . .
فتأمن أعداء وتسأمني أهلي
وقال ابن عطية : وقوله { وراءهم } عندي هو على بابه ، وذلك أن هذه الالفاظ إنما تجيء يراعى بها الزمن ، والذي يأتي بعد هو الوراء وهو ما خلف ، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي ، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطرد ، فهذه الآية معناها أن هؤلاء وعملهم وسعيهم يأتي بعده في الزمن غصب هذا الملك ، ومن قرأ أمامهم أراد في المكان أي إنهم كانوا يسيرون إلى بلده وقوله تعالى في التوراة والإنجيل.

إنها بين يدي القرآن ، مطرد على ما قلناه في الزمن.
وقوله { من ورائهم جهنم } مطرد كما قلنا من مراعاة الزمن.
وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : « الصلاة أمامك » يريد في المكان ، وإلاّ فكونهم في ذلك الوقت كان أمام الصلاة في الزمن.
وتأمل هذه المقالة فإنها مريحة من شغب هذه الألفاظ ووقع لقتادة في كتب الطبري { وكان وراءهم ملك }.
قال قتادة : أمامهم ألا ترى أنه يقول { من ورائهم جهنم } وهي من بين أيديهم ، وهذا القول غير مستقيم وهذه هي العجة التي كان الحسن بن أبي الحسن يضج منها قاله الزجّاج.
ويجوز أن كان رجوعهم في طريقهم على الغاصب فكان وراءهم حقيقة انتهى.
وهو كلام فيه تكثير وكأنه ينظر إلى ما قاله الفراء.
قال الفراء : لا يجوز أن يقال للرجل بين يديك هو وراءك ، إنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي والأيام والدهر تقول : وراءك برد شديد ، وبين يديك برد شديد جاز الوجهان لأن البرد إذا لحقك صار من ورائك ، وكأنك إذا بلغته صار بين يديك.
قال : إنما جاز هذا في اللغة لأن ما بين يديك وما قدامك إذا توارى عنك فقد صار وراءك.
وقال أبو علي : إنما جاز استعمال وراء بمعنى أمام على الاتساع لأنها جهة مقابلة لجهة فكانت كل واحدة من الجهتين وراء الأخرى إذا لم يرد معنى المواجهة ، ويجوز ذلك في الأجرام التي لا وجه لها مثل حجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر ، وأكثر أهل اللغة على أن وراء من الأضداد انتهى.
قيل : واسم هذا الملك هدد بن بدد وكان كافراً.
وقيل : الجلندي ملك غسان ، وقوله { فكان أبواه مؤمنين } في هذا حذف وهو أن المعنى وكان كافراً وكذا وجد في مصحف أبيّ.
وقرأ ابن عباس : { وأما الغلام فكان } كافراً وكان { أبواه مؤمنين } ونص في الحديث على أنه كان كافراً مطبوعاً على الكفر ، ويراد بأبويه أبوه وأمه ثنى تغليباً من باب القمرين في القمر والشمس ، وهي تثنية لا تنقاس.
وقرأ أبو سعيد الخدري والجحدري : فكان أبواه مؤمنان ، فخرجه الزمخشري وابن عطية وأبو الفضل الرازي على أن في كان ضمير الشأن ، والجملة في موضع خبر لكان ، وأجاز أبو الفضل الرازي على أن في كل ضمير الشأن والجملة في موضع خبر لكان ، وأجاز أبو الفضل الرازي أن يكون مؤمنان على لغة بني الحارث بن كعب ، فيكون منصوباً ، وأجاز أيضاً أن يكون في كان ضمير الغلام والجملة خبر كان.
{ فخشينا } أي خفنا أن يغشى الوالدين المؤمنين { طغياناً } عليهما { وكفراً } لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه ، ويلحق بهما شراً وبلاءً ، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفرة ، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان ، وطاغ كافر أو يعديهما بدائه ويضلهما بضلاله فيرتدا بسببه ويطغيا ويكفرا بعد الإيمان.
وإنما خشي الخضر منه ذلك لأن الله عز وعلا أعلمه بحاله وأطلعه على سرائر أمره وأمره بقتله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته.

وفي قراءة أُبيّ فخاف ربك ، والمعنى فكره ربك كراهة من خاف سوء عاقبة الأمر فغيره.
ويجوز أن يكون قوله { فخشينا } حكاية لقول الله عز وجل بمعنى فكرهنا كقوله { لأهب لك } قاله الزمخشري.
وفي قوله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته مذهب المعتزلة في قولهم بالأجلين ، والظاهر إسناد فعل الخشية في خشينا إلى ضمير الخضر وأصحابه الصالحين الذين أهمهم الأمر وتكلموا.
وقيل : هو في جهة الله وعنه عبر الخضر وهو الذي قال فيه الزمخشري ، ويجوز أن يكون إلى آخر كلامه.
قال الطبري : ومعناه وقال : معناه فكر هنا.
قال ابن عطية : والأظهر عندي في توجيه هذا التأويل وإن كان اللفظ يدافعه أنها استعارة أي على ظن المخلوقين ، والمخاطب لو علموا حاله لوقعت منهم خشية الرهق للوالدين.
وقرأ ابن مسعود فخاف ربك ، وهذا بين الاستعارة في القرآن في جهة الله تعالى من لعل وعسى فإن جميع ما في هذا كله من ترج وتوقع وخوف وخشية إنما هو بحسبكم أيها المخاطبون.
و { يرهقهما } معناه يجشمهما ويكلفهما بشدة ، والمعنى أن يلقيهما حبه في اتبّاعه.
وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة وحميد والأعمش وابن جرير { أن يبدلهما } بالتشديد هنا وفي التحريم والقلم.
وقرأ باقي السبعة والحسن وابن محيصن بالتخفيف ، والزكاة هنا الطهارة والنقاء من الذنوب وما ينطوي عليه من شرف الخلق والسكينة ، والرحم والرحمة العطف مصدران كالكثر والكثرة ، وافعل هنا ليست للتفضيل لأن ذلك الغلام لا زكاة فيه ولا رحمة.
والظاهر أن قوله { وأقرب رحماً } أي رحمة والديه وقال ابن جريج : يرحمانه.
وقال رؤبة بن العجاج :
يا منزل الرحم على إدريسا . . .
ومنزل اللعن على إبليسا
وقرأ ابن عامر وأبو جعفر في رواية ويعقوب وأبو حاتم { رحماً } بضم الحاء.
وقرأ ابن عباس { رحماً } بفتح الراء وكسر الحاء.
وقيل الرحم من الرحم والقرابة أي أو صل للرحم.
قيل : ولدت غلاماً مسلماً.
وقيل : جارية تزوجها نبي فولدت نبياً هدى الله على يديه أمة من الأمم.
وقيل : ولدت سبعين نبياً.
رُوي ذلك عن ابن عباس.
قال ابن عطية : وهذا بعيد ولا تعرف كثرة الأنبياء إلاّ في بني إسرائيل ، ولم تكن هذه المرأة منهم انتهى.
ووصف الغلامين باليتم يدل على أنهما كانا صغيرين.
وفي الحديث : « لا يتم بعد بلوغ » أي كانا { يتيمين } على معنى الشفقة عليهما.
قيل : واسمهما أصرم وصريم ، واسم أبيهما كاشح واسم أمهما دهنا ، والظاهر في الكنز أنه مال مدفون جسيم ذهب وفضة قاله عكرمة وقتادة.
وقال ابن عباس وابن جبير : كان علماً في مصحف مدفونة.
وقيل : لوح من ذهب فيه كلمات حكمة وذكر ، وقد ذكرها المفسرون في كتبهم ولا نطول بذكرها ، والظاهر أن أباهما هو الأقرب إليهما الذي ولدهما دنية.

وقيل : السابع.
وقيل : العاشر وحفظ هذان الغلامان بصلاح أبيهما.
وفي الحديث : « إن الله يحفظ الرجل الصالح في ذريته » وانتصب { رحمة } على المفعول له وأجاز الزمخشري أن ينصب على المصدر بأراد قال : لأنه في معنى رحمهما ، وأجاز أبو البقاء أن ينتصب على الحال وكلاهما متكلف.
{ وما فعلته } أي وما فعلت ما رأيت من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار عن اجتهاد مني ورأي ، وإنما فعلته بأمر الله وهذا يدل على أنه نبيّ أوحي إليه.
و { تسطع } مضارع اسطاع بهمزة الوصل.
قال ابن الكسيت : يقال ما استطيع وما اسطيع وما استتيع واستيع أربع لغات ، وأصل اسطاع استطاع على وزن استفعل ، فالمحذوف في اسطاع تاء الافتعال لوجود الطاء التي هي أصل ولا حاجة تدعو إلى أن المحذوف هي الطاء التي هي فاء الفعل ، ثم أبدلوا من تاء الافتعال طاءً ، وأما استتيع ففيه أنهم أبدلوا من الطاء تاء ، وينبغي في تستيع أن يكون المحذوف تاء الافتعال كما في تسطيع.
وفي كتاب التحرير والتحبير ما نصه : تعلق بعض الجهال بما جرى لموسى مع الخضر عليهما السلام على أن الخضر أفضل من موسى وطردوا الحكم ، وقالوا : قد يكون بعض الأولياء أفضل من آحاد الأنبياء ، واستدلوا أيضاً بقول أبي يزيد خضت بحراً وقف الأنبياء على ساحله وهذا كله من ثمرات الرعونة والظنة بالنفس انتهى.
وهكذا سمعنا من يحكي هذه المقالة عن بعض الضالين المضلين وهو ابن العربي الطائي الحاتمي صاحب الفتوح المكية ، فكان ينبغي أن يسمي بالقبوح الهلكية وأنه كان يزعم أن الولّي خير من النبيّ قال : لأن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة ، والنبيّ يأخذ بواسطة عن الله ، ولأن الولي قاعد في الحضرة الألهية والنبيّ مرسل إلى قوم ، ومن كان في الحضرة أفضل ممن يرسله صاحب الحضرة إلى أشياء من هذه الكفريات والزندقة ، وقد كثر معظِّمو هذا الرجل في هذا الزمان من غلاة الزنادقة القائلة بالوحدة نسأل الله السلام في أدياننا وأبداننا.

وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)

الضمير في { ويسألونك } عائد على قريش أو على اليهود ، والمشهور أن السائلين قريش حين دستها اليهود على سؤاله عن الروح ، والرجل الطواف ، وفتية ذهبوا في الدهر ليقع امتحانه بذلك.
وذو القرنين هو الإسكندر اليوناني ذكره ابن إسحاق.
وقال وهب : هو رومي وهل هو نبيّ أو عبد صالح ليس بنبي قولان.
وقيل : كان ملَكاً من الملائكة وهذا غريب.
قيل : ملك الدنيا مؤمنان سليمان وذو القرنين ، وكافران نمروذ وبخت نصر ، وكان بعد نمروذ.
وعن عليّ كان عبداً صالحاً ليس بملك ولا نبيّ ضرب على قرنه الأيمن فمات في طاعة الله ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات ، فبعثه الله فسمي ذا القرنين.
وقيل : طاف قرني الدنيا يعني جانبيها شرقها وغربها.
وقيل : كان له قرنان أي ضفيرتان.
وقيل : انقرض في وقته قرنان من الناس.
وعن وهب لأنه ملك الروم وفارس وروى الروم والترك وعنه كانت صفيحتا رأسه من نحاس.
وقيل : كان لتاجه قرنان.
وقيل : كان على رأسه ما يشبه القرنين.
قال الزمخشري : ويجوز أن يسمى بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشاً كأنه ينطح أقرانه ، وكان من الروم ولد عجوز ليس لها ولد غيره انتهى.
وقيل غير ذلك في تسميته ذا القرنين والمشهور أنه الإسكندر.
وقال أبو الريحان البيروتي المنجم صاحب كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية : هو أبو بكر بن سمي بن عمير بن إفريقس الحميري ، بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وهو الذي افتخر به أحد الشعراء من حمير حيث قال :
قد كان ذو القرنين قبلي مسلماً . . .
ملكاً علا في الأرض غير مبعد
بلغ المشارق والمغارب يبتغي . . .
أسباب ملك من كريم سيد
قال أبو الريحان : ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لأن الأذواء كانوا من اليمن وهم الذين لا تخلوا أسماؤهم من ذي كذي المنار ، وذي يواس انتهى.
والشعر الذي أنشده نسب أيضاً إلى تبع الحميري وهو :
قد كان ذو القرنين جدي مسلماً . . .
وعن عليّ وابن عباس أن اسمه عبد الله بن الضحاك.
وعن محمد بن عليّ بن الحسين عياش.
وعن أبي خيثمة هو الصعب بن جابر بن القلمس.
وقيل : مرزبان بن مرزبة اليوناني من ولد يونان بن يافث.
وعن عليّ هو من القرن الأول من ولد يافث بن نوح.
وعن الحسن : كان بعد ثمود وكان عمره ألف سنة وستمائة.
وعن وهب : كان في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم.
والخطاب في { عليكم } للسائلين إما اليهود وإما قريش على الخلاف الذي سبق في السائلين.
وقوله { ذكراً } يحتمل أن يريد قرآناً وأن يريد حديثاً وخيراً ، والتمكين الذي له { في الأرض } كونه ملك الدنيا ودانت له الملوك كلها.

قال بعض المفسرين : والدليل على أنه الإسكندر أن القرآن دل على أن الرجل المسمى بذي القرنين بلغ ملكه إلى أقصى المغرب وإلى أقصى المشرق وإلى أقصى الشمال ، بدليل أن يأجوج ومأجوج قوم من الترك يسكنون في أقصى الشمال ، وهذا الذي بلغه ملك هذا الرجل هو نهاية المعمور من الأرض ، ومثل هذا الملك البسيط لا شك أنه على خلاف العادات وما كان كذلك وجب أن يبقى ذكره مخلداً على وجه الدهر ، وأن لا يكون مختفياً ، والملك الذي اسمه في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلاّ الإسكندر وذلك أنه لما مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان مع طوائف ثم قصد ملوك العرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ، ثم عاد إلى مصر وبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه ، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم عطف إلى أرمينية ودان له العراقيون والقبط والبربر ، ثم نحو دار ابن دارا وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حربه ، واستولى الإسكندر على ممالك الفرس وقصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهر زور ومات بها.
وورد في الحديث : « إن الذين ملكوا الأرض أربعة مؤمنان : سليمان بن داود ، وذو القرنين » وقد تقدم ذكر ذلك وثبت في علم التواريخ أن الذي هذا شأنه ما كان إلاّ الإسكندر فوجب القطع أن المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلفوس اليوناني.
وقيل تمكينه في الأرض بالنبوة وإجراء المعجزات.
وقيل : تمكينه بأن سخر له السحاب وحمله عليها وبسط له النور فكان الليل والنهار عليه سواء.
وقيل : بكثرة أعوانه وجنوده والهيبة والوقار وقذف الرعب في أعدائه وتسهيل السير عليه وتعريفه فجاج الأرض واستيلائه على برها وبحرها.
{ وآتيناه من كل شيء } أي يحتاج إليه في الوصول إلى أغراضه { سبباً } أي طريقاً موصلاً إليه ، والسبب ما يتوصل به إني المقصود من علم أو قدرة أو آلة ، فأراد بلوغ المغرب { فاتبع سبباً } يوصله إليه حتى بلغ ، وكذلك أراد المشرق { فاتبع سبباً } وأراد بلوغ السدين { فاتبع سبباً } وأصل السبب الحبل ، ثم توسع فيه حتى صار يطلق على ما يتوصل به إلى المقصود.
وقال الحسن : بلاغاً إلى حيث أراد.
وقرأ زيد بن علي والزهري والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى والكوفيون وابن عامر { فاتبع } ثلاثتها بالتخفيف.
وقرأ باقي السبعة بالتشديد والظاهر أنهما بمعنى واحد.
وعن يونس بن حبيب وأبي زيد أنه بقطع الهمزة عبارة عن المجد المسرع الحثيث الطلب ، وبوصلها إنما يتضمن الاقتفاء دون هذه الصفات.
وقرأ عبد الله وطلحة بن عبيد الله وعمرو بن العاصي وابن عمر وعبد الله بن عمرو ومعاوية والحسن وزيد بن عليّ وابن عامر وحمزة والكسائي حامية بالياء أي حارة.

وقرأ ابن عباس وباقي السبعة وشيبة وحميد وابن أبي ليلى ويعقوب وأبو حاتم وابن جبير الأنطاكي { حمئة } بهمزة مفتوحة والزهري يلينها ، يقال حمئت البئر تحمأ حمأً فهي حمئة ، وحمأتها نزعت حمأتها وأحمأتها أبقيت فيها الحمأة ، ولا تنافي بين الحامية والحمئة إذ تكون العين جامعة للوصفين.
وقال أبو حاتم : وقد تمكن أن تكون حامية مهموزة بمعنى ذات حمأة فتكون القراءتان بمعنى واحد يعني إنه سهلت الهمزة بإبدالها ياء لكسرة ما قبلها ، وفي التوراة تغرب في ماء وطين.
وقال تبع :
فرأى مغيب الشمس عند مآبها . . .
في عين ذي خلب وثاط حرمد
أي في عين ماء ذي طين وحم أسود.
وفي حديث أبي ذر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى الشمس عند غروبها فقال : «أتدري أين تغرب يا أبا ذر؟» فقلت : لا.
فقال : «إنها تغرب في عين حامية» " وهذا الحديث وظاهر النص دليل على أن قوله { في عين } متعلق بقوله { تغرب } لا ما قاله بعض المتعسفين أن قوله في { عين حمئة } إنما المراد أن ذا القرنين كان فيها أي هي آخر الأرض ، ومعنى { تغرب في عين } أي فيما ترى العين لا أن ذلك حقيقة كما نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض ، ويجوز أن تكون هذه العين من البحر ، ويجوز أن تكون الشمس تغيب وراءها ، وزعم بعض البغداديين أن { في } بمعنى عند أي { تغرب } عند عين.
{ ووجد عندها قوماً } أي عند تلك العين.
قال ابن السائب : مؤمنين وكافرين.
وقال غيره : كفرة لباسهم جلود السباع وطعامهم ما أحرقته الشمس من الدواب ، وما لفظته العين من الحوت إذا غربت.
وقال وهب : انطلق يؤم المغرب إلى أن انتهى إلى باسك فوجد جمعاً لا يحصيهم إلاّ الله ، فضرب حولهم ثلاثة عساكر حتى جمعهم في مكان واحد ، ثم دخل عليهم في النور ودعاهم إلى عبادة الله ، فمنهم من آمن ومنهم من صدّ عنه.
وقال أبو زيد السهيلي : هم أهل حابوس ويقال لها بالسريانية جرجيساً يسكنها قوم من نسل ثمود.
بقيتهم الذين آمنوا بصالح عليه السلام.
وظاهر قوله { قلنا } أنه أوحى الله إليه على لسان ملك.
وقيل : كلمه كفاحاً من غير رسول كما كلم موسى عليه السلام ، وعلى هذين القولين يكون نبياً ويبعد ما قاله بعض المتأولين أنه إلهام وإلقاء في روعه لأن مثل هذا التخيير لا يكون إلاّ بوحي إذ التكاليف وإزهاق النفوس لا تتحقق بالإلهام إلاّ بالإعلام.
وقال عليّ بن عيسى : المعنى { قلنا } يا محمد قالوا { يا ذا القرنين } ثم حذف القول الأول لأن ذا القرنين لم يصح أنه نبي فيخاطبه الله ، وعلى هذا يكون الضمير الذي في قالوا.
المحذوفة يعود على جنده وعسكره الذين كانوا معه.

وقوله { إما أن تعذب } بالقتل على الكفر { وإما أن تتخذ فيهم حسناً } أي بالحمل على الإيمان والهدى ، إما أن تكفر فتعذب ، وإما أن تؤمن فتحسن فعبر في التخيير بالمسبب عن السبب.
قال الطبري : اتخاذ الحسن هو أسرهم مع كفرهم يعني أنه خير مع كفرهم بين قتلهم وبين أسرهم ، وتفصيل ذي القرنين { أما من ظلم } و { أما من آمن } يدفع هذا القول ولما خيره تعالى بين تعذيبهم ودعائهم إلى الإسلام اختار الدعوة والاجتهاد في استمالتهم.
فقال : أما من دعوته فأبى إلاّ البقاء على الظلم وهو الكفر هنا بلا خلاف فذلك هو المعذب في الدارين ، وأما من آمن وعمل ما يقتضيه الإيمان فله جزاء الحسنى.
وأتى بحرف التنفيس في { فسوف نعذبه } لما يتخلل بين إظهاره كفره وبين تعذيبه من دعائه إلى الإيمان وتأبيه عنه ، فهو لا يعاجلهم بالقتل على ظلمهم بل يدعوهم ويذكرهم فإن رجعوا وإلاّ فالقتل.
وقوله { ثم يرد إلى ربه } أي يوم القيامة وأتى بنون العظمة في { نعذبه } على عادة الملوك في قولهم نحن فعلنا.
وقوله { إلى ربه } فيه إشعار بأن التخيير لذي القرنين ليس من الله تعالى ، إذ لو كان كذلك لكان التركيب ثم يرد إليك فتعذبه ، ولا يبعد أن يكون التخيير من الله ويكون قد أعلم ذو القرنين بذلك أتباعه ثم فصل مخاطباً لأتباعه لا لربه تعالى ، وما أحسن مجيء هذه الجمل لما ذكر ما يستحقه من ظلم بدأ بما هو أقرب لهم ومحسوس عندهم ، وهو قوله { فسوف نعذبه } ثم أخبر بما يلحقه آخراً يوم القيامة وهو تعذيب الله إياه العذاب النكر ولأن الترتيب الواقع هو كذا ولما ذكر ما يستحقه { من آمن وعمل صالحاً } ذكر جزاء الله له في الآخرة وهو { الحسنى } أي الجنة لأن طمع المؤمن في الآخرة ورجاءه هو الذي حمله على أن آمن لأجل جزائه في الآخرة ، وهو عظيم بالنسبة للإحسان في الدنيا ثم أتبع ذلك بإحسانه له في الدنيا بقوله { وسنقول له من أمرنا يسراً } أي لا نقول له ما يتكلفه مما هو شاق عليه أي قولاً ذا يسر وسهولة كما قال قولاً ميسوراً.
ولما ذكر ما أعد الله له من الحسنى جزاء لم يناسب أن يذكر جزاءه بالفعل بل اقتصر على القول أدباً مع الله تعالى وإن كان يعلم أنه يحسن إليه فعلاً وقولاً.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص وأبو بحرية والأعمش وطلحة وابن مناذر ويعقوب وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي ومحمد بن جرير { فله جزاء } بالنصب والتنوين وانتصب { جزاء } على أنه مصدر في موضع الحال أي مجازي كقولك في الدار قائماً زيد.
وقال أبو علي قال أبو الحسن : هذا لا تكاد العرب تكلم به مقدماً إلاّ في الشعر.

وقيل : انتصب على المصدر أي يجزي { جزاء }.
وقال الفراء : ومنصوب على التفسير والمراد بالحسنى على قراءة النصب الجنة.
وقرأ باقي السبعة { جزاء الحسنى } برفع { جزاء } مضافاً إلى { الحسنى }.
قال أبو عليّ جزاء الخلال الحسنة التي أتاها وعملها أو يراد بالحسنى الحسنة والجنة هي الجزاء ، وأضاف كما قال دار الآخرة و { جزاء } مبتدأ وله خبره.
وقرأ عبد الله بن إسحاق { فله جزاء } مرفوع وهو مبتدأ وخبر و { الحسنى } بدل من { جزاء }.
وقرأ ابن عباس ومسروق { جزاء } نصب بغير تنوين { الحسنى } بالإضافة ، ويخرج على حذف المبتدأ لدلالة المعنى عليه ، أي { فله } الجزاء { جزاء الحسنى } وخرجه المهدوي على حذف التنوين لالتقاء الساكنين.
وقرأ أبو جعفر { يسراً } بضم السين حيث وقع.
{ ثم أتبع سبباً } أي طريقاً إلى مقصده الذي يسر له.
وقرأ الحسن وعيسى وابن محيصن { مطلع } بفتح اللام ، ورويت عن ابن كثير وأهل مكة وهو القياس.
وقرأ الجمهور بكسرها وهو سماع في أحرف معدودة ، وقياس كسره أن يكون المضارع تطلع بكسر اللام وكان الكسائي يقول : هذه لغة ماتت في كثير من لغات العرب ، يعني ذهب من يقول من العرب تطلع بكسر اللام وبقي { مطلع } بكسرها في اسم المكان والزمان على ذلك القياس ، والقوم هنا الزنج.
وقال قتادة هم الهنود وما وراءهم.
والستر البنيان أو الثياب أو الشجر والجبال أقوال ، والمعنى أنهم لا شيء لهم يسترهم من حر الشمس.
وقيل : تنفذ الشمس سقوفهم وثيابهم فتصل إلى أجسامهم.
فقيل : إذا طلعت نزلوا الماء حتى ينكسر حرها قاله الحسن وقتادة وابن جريج.
وقيل : يدخلون أسراباً.
وقال مجاهد : السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض.
قال ابن عطية : والظاهر من اللفظ أنها عبارة بليغة عن قرب الشمس منهم ، وفعلها بقدرة الله فيهم ونيلها منهم ، ولو كانت لهم أسراب لكان ستراً كثيفاً انتهى.
وقال بعض الرجاز :
بالزنج حرّ غير الأجسادا . . .
حتى كسى جلودها سوادا
وذلك إنما هو من قوة حرّ الشمس عندهم واستمرارها.
كذلك الإشارة إلى البلوغ أي كما بلغ مغرب الشمس بلغ مطلعها.
وقيل { أتبع سبباً } كما { أتبع سبباً }.
وقيل : كما وجد أولئك عند مغرب الشمس وحكم فيهم كذلك وجد هؤلاء عند مطلع الشمس وحكم فيهم.
وقيل : كذلك أمرهم كما قصصنا عليكم.
وقيل : { تطلع } طلوعها مثل غروبها.
وقيل : { لم نجعل لهم من دونها ستراً } أي مثل أولئك الذين وجدهم في مغرب الشمس كفرة مثلهم ، وحكمهم مثل حكمهم في التعذيب لمن بقي على الكفر والإحسان لمن آمن.
وقال الزمخشري : { كذلك } أي أمر ذي القرنين كذلك أي كما وصفناه تعظيماً لأمره.
وقيل { لم نجعل لهم من دونها ستراً } مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الجبال والحصون والأبنية والأكنان من كل جنس ، والثياب من كل صنف.
وقال ابن عطية : { كذلك } معناه فعل معهم كفعله مع الأولين أهل المغرب ، وأخبر بقوله { كذلك } ثم أخبر تعالى عن إحاطته بجميع ما لدى ذي القرنين وما تصرّف فيه من أفعاله ، ويحتمل أن يكون { كذلك } استئناف قول ولا يكون راجعاً على الطائفة الأولى فتأمله ، والأول أصوب انتهى.
وإذا كان مستأنفاً لا تعلق له بما قبله فيحتاج إلى تقدير يتم به كلاماً.

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)

السد الحاجز والحائل بين الشيئين ، ويقال بالضم وبالفتح.
الردم : السد.
وقيل : الردم أكبر من السد لأن الردم ما جعل بعضه على بعض ، يقال : ثوب مردّم إذا كان قد رقع رقعة فوق رقعة.
وقيل : سد الخلل ، قال عنترة :
هل غادر الشعراء من متردم . . .
أي خلل في المعاني فيسد ردماً.
الزبرة : القطعة وأصله الاجتماع ، ومنه زبرة الأسد لما اجتمع على كاهله من الشعر ، وزبرت الكتاب جمعت حروفه.
الصدفان جانبا الجبل إذا تحاذيا لتقاربهما أو لتلاقيهما قاله الأزهري ، ويقال : صدف بضمهما وبفتحهما وبضم الصاد وسكون الدال وعكسه.
قال بعض اللغويين : وفتحهما لغة تميم وضمهما لغة حمير.
وقال أبو عبيدة : الصدف كل بناء عظيم مرتفع.
القطر النحاس المذاب في قول الأكثرين.
وقيل : الحديد المذاب.
وقيل : الرصاص المذاب.
النقب مصدر نقب أي حفر وقطع.
الغطاء معروف وجمعه أغطية ، وهو من غطى إذا ستر.
{ ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدّين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً ءاتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال ءاتوني أفرغ عليه قطراً فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعاً وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا }.
{ سبباً } أي طريقاً أو مسيراً موصلاً إلى الشمال فإن { السدّين } هناك.
قال وهب : السدّان جبلان منيفان في السماء من ورائهما ومن أمامهما البلدان ، وهما بمنقطع أرض الترك مما يلي أرمينية وأذربيجان.
وذكر الهروي أنهما جبلان من وراء بلاد الترك.
وقيل : هما جبلان من جهة الشمال لينان أملسان ، يزلق عليهما كل شيء ، وسمي الجبلان سدّين لأن كل واحد منهما سد فجاج الأرض وكانت بينهما فجوة كان يدخل منها يأجوج ومأجوج.
وقرأ مجاهد وعكرمة والنخعي وحفص وابن كثير وأبو عمرو { بين السدين } بفتح السين.
وقرأ باقي السبعة بضمها.
قال الكسائي هما لغتان بمعنى واحد.
وقال الخليل وسيبويه : بالضم الاسم وبالفتح المصدر.
وقال عكرمة وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة : ما كان من خلق الله لم يشارك فيه أحد فهو بالضم ، وما كان من صنع البشر فبالفتح.

وقال ابن أبي إسحاق ما رأت عيناك فبالضم ، وما لا يرى فبالفتح.
وانتصب { بين } على أنه مفعول به يبلغ كما ارتفع في { لقد تقطع بينكم } وانجر بالإضافة في { هذا فراق بيني وبينك } و { بين } من الظروف المتصرفة ما لم تركب مع أخرى مثلها ، نحو قولهم همزة بين بين.
{ من دونهما } من دون السدين و { قوماً } يعني من البشر.
وقال الزمخشري : هم الترك انتهى.
وأبعد من ذهب إلى أنهم جان.
قال الزمخشري : وهذا المكان في منقطع أرض الترك مما يلي المشرق ، ونفى مقارنة فقههم { قولاً } وتضمن نفي فقههم.
وقال الزمخشري : لا يكادون يفهمونه إلاّ بجهد ومشقة كأنه فهم من نفى يكاد أنه يقع منهم الفهم بعد عسر ، وهو قول لبعضهم إن نفيها إثبات وإثباتها نفي ، وليس بالمختار.
وقرأ الأعمش وابن أبي ليلى وخلف وابن عيسى الأصبهاني وحمزة والكسائي { يفقهون } بضم الياء وكسر القاف أي يفهمون السامع كلامهم ، ولا يبينونه لأن لغتهم غريبة مجهولة.
والضمير في { قالوا } عائد على هؤلاء القوم شكوا ما يلقون من يأجوج ومأجوج إذ رجوا عنده ما ينفعهم لكونه ملك الأرض ودوخ الملوك وبلغ إليهم وهم لم يبلغ أرضهم ملك قبله ، و { يأجوج ومأجوج } من ولد آدم قبيلتان.
وقيل : هما من ولد يافث بن نوح.
وقيل : { يأجوج } من الترك { ومأجوج } من الجيل والديلم.
وقال السدي والضحاك : الترك شرذمة منهم خرجت تغير ، فجاء ذو القرنين فضرب السد فبقيت في هذا الجانب.
وقال قتادة والسدي : بني السد على إحدى وعشرين قبيلة ، وبقيت منهم قبيلة واحدة دون السد فهم الترك وقد اختلف في عددهم وصفاتهم ولم يصح في ذلك شيء وهما ممنوعا الصرف ، فمن زعم أنهما أعجميان فللعجمة والعلمية ، ومن زعم أنهما عربيان فللتأنيث والعلمية لأنهما اسما قبيلتين.
وقال الأخفش : إن جعلنا ألفهما أصلية فيأجوج يفعول ومأجوج مفعول ، كأنه من أجيج النار ومن لم يهمزهما جعلها زائدة فيأجوج من يججت ، ومأجوج من مججت.
وقال قطرب في غير الهمز مأجوج فاعول من المج ، ويأجوج فاعول من يج.
وقال أبو الحسن عليّ بن عبد الصمد السخاوي أحد شيوخنا : الظاهر أنه عربي وأصله الهمز ، وترك الهمز على التخفيف وهو إما من الأجّة وهو الاختلاف كما قال تعالى { وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض } أو من الأج وهو سرعة العدو ، قال تعالى { وهم من كل حدب ينسلون } وقال الشاعر :
يؤج كما أج الظليم المنفر . . .
أو من الأجة وهو شدة الحرّ ، أو من أجّ الماء يئج أجوجاً إذا كان ملحاً مراً انتهى.
وقرأ عاصم والأعمش ويعقوب في رواية بالهمز وفي { يأجوج ومأجوج } وكذا في الأنبياء وفي لغة بني أسد ذكره الفراء.
قيل : ولا وجه له إلاّ اللغة الغربية المحكية عن العجاج أنه كان يهمز العألم والخأتم.
وقرأ باقي السبعة بألف غير مهموزة وهي لغة كل العرب غير بني أسد.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46