كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

{ وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون } يحتمل أن تكون الجملة داخلة تحت الاستدراك ويحتمل أن تكون استئناف إخبار ، والظاهر الأول فيكون الحامل على ترك التضرع قسوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي كان الشيطان سبباً في تحسينها لهم.
{ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء } أي فلما تركوا الاتعاظ والازدجار بما ذكروا به من البأس استدرجناهم بتيسير مطالبهم الدنيوية وعبر عن ذلك بقوله : { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } إذ يقتضي شمول الخيرات وبلوغ الطلبات.
{ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة } معنى هذه الجمل معنى قوله { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } وفي الحديث الصحيح عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا رأيتم الله تعالى يعطي العباد ما يشاؤون على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم » ثم تلا { فلما نسوا ما ذكروا به } الآية ، والأبواب استعارة عن الأسباب التي هيأها الله لهم المقتضية لبسط الرزق عليهم والإبهام في هذا العموم لتهويل ما فتح عليهم وتعظيمه وغيا الفتح بفرحهم بما أوتوا وترتب على فرحهم أخذهم بغتة أي إهلاكهم فجأة وهو أشد الإهلاك إذ لم يتقدم شعور به فتتوطن النفس على لقائه ، ابتلاهم أولاً بالبأساء والضراء فلم يتعظوا ثم نقلهم إلى ما أوجب سرورهم من إسباغ النعم عليهم فلم يجد ذلك عندهم ولا قصدوا الشكر ولا أصغوا إلى إنابة بل لم يحصلوا إلا على فرح بما أسبغ عليهم.
قال محمد بن النضر الحارثي : أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة.
{ فإذا هم مبلسون } أي باهتون بائسون لا يخبرون جواباً.
وقرأ ابن عامر فتحنا بتشديد التاء والتشديد لتكثير الفعل وإذا هي الفجائية وهي حرف على مذهب الكوفيين وظرف مكان ، ونسب إلى سيبويه وظرف زمان وهو مذهب الرياشي والعامل فيها إذا قلنا بظرفيتها هو خبر المبتدإ أي ، ففي ذلك المكان { هم مبلسون } أي مكان إقامتهم وذلك الزمان { هم مبلسون } وأصل الإبلاس الإطراق لحلول نقمة أو زوال نعمة.
قال الحسن : مكتئبون.
وقال السدي : هالكون.
وقال ابن كيسان وقطرب : خاشعون.
وقال ابن عباس : متحيرون.
وقال الزجاج : متحسرون.
وقال ابن جرير : الساكت عند انقطاع الحجة.
{ فقطع دابر القوم الذين ظلموا } عبارة عن استئصالهم بالهلاك والمعنى : فقطع دابرهم ونبه على سبب الاستئصال بذكر الوصف الذي هو الظلم ، وهو هنا الكفر والدابر التابع للشيء من خلفه يقال : دبر الوالد الولد يدبره ، وفلان دبر القوم دبوراً ودبراً إذا كان آخرهم.
وقال أمية بن أبي الصلت :
فاستؤصلوا بعذاب خص دابرهم . . .
فما استطاعوا له صرفاً ولا انتصروا

قال أبو عبيدة : { دابر القوم } آخرهم الذي يدبرهم.
وقال الأصمعي : الدابر الأصل يقال : قطع الله دابره أي أذهب أصله ، وقرأ عكرمة { فقطع دابر } بفتح القاف والطاء والراء أي فقطع الله وهو التفات إذ فيه الخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب.
{ والحمد لله رب العالمين } قال الزمخشري : إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك الظلمة وأنه من أجل النعم وأجزل القسم؛ انتهى.
والذي يظهر أنه تعالى لما أرسل إلى هؤلاء الأمم كذبوهم وآذوهم فابتلاهم الله تارة بالبلاء ، وتارة بالرخاء فلم يؤمنوا فأهلكهم واستراح الرسل من شرهم وتكذيبهم وصار ذلك نعمة في حق الرسل إذ أنجز الله وعده على لسانهم بهلاك المكذبين فناسب هذا الفعل كله الختم بالحمدلة.
{ قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به } لما ذكر أولاً تهديدهم بإتيان العذاب أو الساعة كان ذلك أعظم من هذا التهديد ، فأكد خطاب الضمير بحرف الخطاب فقيل أرأيتكم ولما كان هذا التهديد أخف من ذلك لم يؤكد به ، بل اكتفى بخطاب الضمير فقيل { أرأيتم } وفي تلك وهذه الاستدلال على توحيد الله تعالى وأنه المتصرف في العالم الكاشف للعذاب والراد لما شاء بعد الذهاب ، وأن آلهتهم لا تغني عنهم شيئاً والظاهر من قوله { أخذ سمعكم وأبصاركم } أنه ذهاب الحاسة السمعية والبصرية فيكون أخذاً حقيقياً.
وقيل : هو أخذ معنوي والمراد إذهاب نور البصر بحيث يحصل العمى ، وإذهاب سمع الأذن بحيث يحصل الصمم ، وتقدم الكلام على إفراد السمع وجمع الأبصار وعلى الختم على القلوب في أول البقرة فأغنى عن إعادته.
ومفعول { أرأيتم } الأول محذوف والتقدير قل أرأيتم سمعكم وأبصاركم إن أخذها الله ، والمفعول الثاني هو الجملة الاستفهامية كما تقول : أرأيتك زيداً ما يصنع وقد قررنا أن ذلك من باب الأعمال أعمل الثاني وحذف من الأول وأوضحنا كيفية ذلك في الآية قبل هذه ، والضمير في { به } أفرده إجراء له مجرى اسم الإشارة كأنه قيل تأتيكم بذلك أو يكون التقدير بما أخذ وختم عليه.
وقيل : يعود على السمع بالتصريح وتدخل فيه القلوب والأبصار.
وقيل : هو عائد على الهدى الذي يدل عليه المعنى لأن أخذ السمع والبصر والختم على القلوب سبب الضلال وسد لطرق الهداية ، و { من إله } استفهام معناه توقيفهم على أنه ليس ثم سواه فالتعلق بغيره لا ينفع.
قال الحوفي : وحرف الشرط وما اتصل به في موضع نصب على الحال والعامل في الحال { أرأيتم } كقوله : اضربه إن خرج أي خارجاً ، وجواب الشرط ما تقدم مما دخلت عليه همزة الاستفهام؛ انتهى ، وهذا الإعراب تخليط.
انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون } روى أبو قرة المسيبي عن نافع به { انظر } بضم الراء وهي قراءة الأعرج ، وانظر خطاب للسامع وتصريف الآيات قال مقاتل : نخوفهم بأخذ الأسماع والأبصار والقلوب وبما صنع بالأمم السالفة.

وقال ابن فورك : تصريفها مرة تأتي بالنقمة ومرة تأتي بالنعمة ومرة بالترغيب ومرة بالترهيب.
وقيل : تتابع لهم الحجج وتضرب لهم الأمثال.
وقيل : نوجهها إلى الإنشاء والإفناء والإهلاك.
وقيل : الآيات على صحة توحيده وصدق نبيه والصدف والصدوف الإعراض والنفور.
قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والسدي : { يصدفون } يعرضون ولا يعتبرون.
وقرأ بعض القراء كيف نصرف من صرف ثلاثياً.
{ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون } هذا تهديد ثالث فالأول بأحد أمرين : العذاب والساعة ، والثاني : بالأخذ والختم ، والثالث : بالعذاب فقط.
قيل : { بغتة } فجأة لا يتقدم لكم به علم وجهرة تبدو لكم مخايلة ثم ينزل.
وقال الحسن : { بغتة } ليلاً و { جهرة } نهاراً.
وقال مجاهد : { بغتة } فجأة آمنين و { جهرة } وهم ينظرون ، ولما كانت البغتة تضمنت معنى الخفية صح مقابلتها للجهرة وبدىء بها لأنها أردع من الجهرة ، والجملة من قوله { هل يهلك } معناها النفي أي ما يهلك { إلا القوم الظالمون } ولذلك دخلت { إلا } وهي في موضع المفعول الثاني لأرأيتكم والرابط محذوف أي هل يهلك به؟ والأول من مفعولي { أرأيتكم } محذوف من باب الإعمال لما قررناه ، ولما كان التهديد شديداً جمع فيه بين أداتي الخطاب والخطاب لكفار قريش والعرب وفي ذكر الظلم تنبيه على علة الإهلاك والمعنى هل يهلك إلا أنتم لظلمكم؟ وقرأ ابن محيصن : { هل يهلك } مبنياً للفاعل.
{ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين } أي { مبشرين } بالثواب { ومنذرين } بالعقاب وانتصب { مبشرين ومنذرين } على الحال وفيهما معنى العلية ، أي أرسلناهم للتبشير والإنذار لا لأن تقترح عليهم الآيات بعد وضوح ما جاؤوا به وتبيين صحته.
{ فمن آمن وأصلح } أي من صدق بقلبه وأصلح في عمله.
{ فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون } جعل { العذاب } ماساً كأنه ذو حياة يفعل بهم ما شاء من الآلام.
وقرأ علقمة : نمسهم العذاب بالنون من أمس وأدغم الأعمش العذاب بما كأبي عمرو.
وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش { يفسقون } بكسر السين.
{ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إليّ } قال الزمخشري : أي لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشر من ملك خزائن الله وهي قسمة بين الخلق وأرزاقه وعلم الغيب ، وإني من الملائكة الذين هم أشرف جنس خلقه الله وأفضله وأقربه منزلة منه ، أي لم أدع الألوهية ولا الملكية لأنه ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة حتى تستبعدون دعواي وتستنكرونها ، وإنما ادّعي ما كان مثله لكثير من البشر وهو النبوة ، انتهى.
وما قاله : من أن المعنى إني أقول لكم إني لست بإله فأنصف بصفاته من كينونة خزائنه عندي وعلم الغيب ، وهو قول الطبري ، والأظهر أنه يريد أنه بشر لا شيء عنده من خزائن الله ولا من قدرته ولا يعلم شيئاً مما غاب عنه قاله ابن عطية.

وأما قول الزمخشري في الملائكة هم أشرف جنس خلقه الله وأفضله وأقربه منزلة فهو جار على مذهب المعتزلة من أن الملك أفضل خلق الله ، وقد استدل الجبائي بهذه الآية على أن الملائكة أفضل من الأنبياء قال : لأن معنى الآية لا أدّعي منزله فوق منزلتي فلولا أن الملك أفضل لم يصح ذلك.
قال القاضي : إن كان الغرض مما نفى طريقة التواضع فالأقرب أن يدل على أن الملك أفضل وإن كان نفى قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة لم يدل على كونهم أفضل؛ انتهى.
وقد تكلمنا على ذلك عند قوله : { ولا الملائكة المقربون } وقال ابن عطية : وتعطى قوة اللفظ في هذه الآية أن الملك أفضل من البشر وليس ذلك بلازم من هذا الموضع ، وإنما الذي يلزم منه أن الملك أعظم موقعاً في أنفسهم وأقرب إلى الله والتفضيل يعطيه المعنى عطاءً خفياً وهو ظاهر من آيات أخر وهي مسألة خلاف ، و { ما يوحى } يريد به القرآن وسائر ما يأتي به الملك أي في ذلك عبر وآيات لمن تأمل ونظر؛ انتهى.
وقال الكلبي : { خزائن الله } مقدوراته من إغناء الفقير وإفقار الغني.
وقال مقاتل : الرحمة والعذاب.
وقيل : آياته.
وقيل : مجموع هذا لقوله { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } قيل : وهذه الثلاث جواب لما سأله المشركون ، فالأول جواب لقولهم : إن كنت رسولاً فاسأل الله حتى يوسع علينا خزائن الدنيا ، والثاني : جواب لقولهم إن كنت رسولاً فأخبرنا بما يقع في المستقبل من المصالح والمضار فنستعد لتحصيل تلك ودفع هذه ، والثالث : جواب قولهم : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ انتهى.
وقال الزمخشري ( فإن قلت ) : أعلم الغيب ما محله من الإعراب؟ قلت : النصب عطفاً على محل قوله : { خزائن الله } لأنه من جملة المقول كأنه قال : لا أقول لكم هذا القول ولا هذا القول؛ انتهى.
ولا يتعين ما قاله ، بل الظاهر أنه معطوف على لا أقول لا معمول له فهو أمر أن يخبر عن نفسه بهذه الجمل الثلاث فهي معمولة للأمر الذي هو قل وغاير في متعلق النفي فنفى قوله : { عندي خزائن الله } وقوله : { إني ملك } ونفى علم الغيب ولم يأت التركيب.
ولا أقول : إني أعلم الغيب لأن كونه ليس عنده { خزائن الله } من أرزاق العباد وقسمهم معلوم ذلك للناس كلهم فنفى ادعاءه ذلك وكونه بصورة البشر معلوم أيضاً لمعرفتهم بولادته ونشأته بين أظهرهم ، فنفى أيضاً ادعاءه ذلك ولم ينفهما من أصلهما لأن انتفاء ذلك من أصله معلوم عندهم ، فنفى أن يكابرهم في ادعاء شيء يعلمون خلافه قطعاً.

ولما كان علم الغيب أمراً يمكن أن يظهر على لسان البشر بل قد يدعيه كثير من الناس كالكهان وضراب الرمل والمنجمين ، وكان صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأشياء من المغيبات وطابقت ما أخبر به نفي علم الغيب من أصله فقال : { ولا أعلم الغيب } تنصيصاً على محض العبودية والافتقار وإن ما صدر عنه من إخبار بغيب إنما هو من الوحي الوارد عليه لا من ذات نفسه ، فقال : { أن أتبع إلا ما يوحى إليّ } كما قال فيما حكى الله عنه { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء } وكما أثر عنه عليه السلام « لا أعلم ما وراء هذا الجدار إلا أن يعلمني ربي » وجاء هذا النفي على سبيل الترقي فنفى أولاً ما يتعلق به رغبات الناس أجمعين من الأرزاق التي هي قوام الحياة الجسمانية ، ثم نفى ثانياً ما يتعلق به وتتشوف إليه النفوس الفاضلة من معرفة ما يجهلون وتعرّف ما يقع من الكوائن ثم نفى ثالثاً ما هو مختص بذاته من صفة الملائكة التي هي مباينة لصفة البشرية فترقى في النفي من عام إلى خاص إلى أخص ، ثم حصر ما هو عليه في أحواله كلها بقوله : { إن أتبع إلا ما يوحى إليّ } أي أنا متبع ما أوحى الله غير شارع شيئاً من جهتي ، وظاهره حجة لنفاة القياس.
{ قل هل يستوي الأعمى والبصير } أي لا يستوي الناظر المفكر في الآيات والمعرض الكافر الذي يهمل النظر.
قال ابن عباس : الكافر والمؤمن.
وقال ابن جبير : الضال والمهتدي.
وقيل : الجاهل والعالم.
وقال الزمخشري : مثل للضلاّل والمهتدين ويجوز أن يكون مثلاً لمن اتبع ما يوحى إليه ومن لم يتبع أو لمن ادعى المستقيم ، وهو النبوة والمحال وهو الألوهية والملكية.
{ أفلا تتفكرون } هذا عرض وتحضيض معناه الأمر أي ففكروا ولا تكونوا ضالين أشباه العميّ أو فكروا فتعلمون ، أي لا أتبع إلا ما يوحى إليّ أو فتعلمون إني لا أدّعي ما لا يليق بالبشر.
{ وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } لما أخبر أنه لا يتبع إلا ما يوحى إليه أمره الله تعالى أن ينذر به فقال : { وأنذر به } أي بما أوحي إليك.
وقيل : يعود على الله أي بعذاب الله.
وقيل : يعود على الحشر وهو مأمور بإنذار الخلائق كلهم وإنما خص بالإنذار هنا من خاف الحشر لأنه مظنة الإيمان ، وكأنه قيل : الكفرة المعرضون دعهم ورأيهم وأنذر بالقرآن من يرجى إيمانه.
وروى أبو صالح عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في الموالي منهم بلال وصهيب وخباب وعمار ومهجع وسلمان وعامر بن بهيرة وسالم مولى أبي حذيفة ، وظاهر قوله : { الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } عموم من خاف الحشر وآمن بالبعث من مسلم ويهودي ونصراني فلا يتخصص بالمسلمين المقرين بالبعث إلا أنهم مفرطون في العمل فينذرهم بما أوحي إليه لعلهم يتقون ، أي يدخلون في زمرة أهل التقوى ولا بأهل الكتاب ولا بناس من المشركين علم من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقاً فيهلكوا ، فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار دون المتمردين منهم و { يخافون } باق على حقيقته أي يخافون ما يترتب على الحشر من مؤاخذتهم بذنوبهم ، وأما الحشر فمتحقق.

وقال الطبري : { يخافون } هنا يعلمون ومعنى { إلى ربهم } أي إلى جزاء ربهم أي موعوده وقد تعلق بهذه الآية المجسمة بأن الله في حيز ومكان مختص وجهة معينة لأن كلمة إلى لانتهاء الغاية.
{ ليس لهم من دونه وليّ ولا شفيع } ، قال الزمخشري : في موضع الحال من { يحشروا } بمعنى { يخافون أن يحشروا } غير منصورين ولا مشفوعاً لهم ولا بد من هذه الحال ، لأن كلاًّ محشور فالخوف إنما هو الحشر على هذه الحال.
وقال ابن عطية : إن جعلناه داخلاً في الخوف كان في موضع الحال أي { يخافون أن يحشروا } في حال من لا ولي له ولا شفيع فهي مختصة بالمؤمنين المسلمين لأن اليهود والنصارى يزعمون أن لهم شفعاء وأنهم أبناء الله ونحو هذا من الأباطيل وإن جعلناه إخباراً من الله عن صفة الحال يومئذ فهي عامة للمسلمين وأهل الكتاب.
{ لعلهم يتقون } ترجئة لحصول تقواهم إذا حصل الإنذار.
{ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } قال سعد بن أبي وقاص : نزلت فينا ستة فيّ وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال قالت قريش : إنا لا نرضى أن نكون لهؤلاء تبعاً فاطردهم عنك فنزلت.
وقال خباب بن الأرت : فينا نزلت كنا ضعفاء عند النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا بالغداة والعشي ما ينفعنا ، فقال الأقرع بن حابس وعيينة بن حصين : إنا من أشراف قومنا وإنا نكره أن يرونا معهم فاطردهم إذا جالسناك فنزلت ، فأتيناه وهو يقول : سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته وهذا فيه بعد ، لأن الآية مكية وهؤلاء الأشراف لم ينذروا إلا بالمدينة.
وفي رواية عن خباب فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله تعالى { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } الآية.
فكان يقعد معنا فإذا بلغ الوقت الذي يقوم فيه قمنا وتركناه حتى يقوم.
وروى العوفي عن ابن عباس إن ناساً من الأشراف قالوا : نؤمن بك وإذا صلينا خلفك فأخر هؤلاء الذين معك فيصلوا خلفنا فيكون الطرد تأخرهم من الصف لا طردهم من المجلس.
ورويت هذه الأسباب بزيادة ونقص ومضمونها أن ناساً من أشراف العرب سألوا من الرسول صلى الله عليه وسلم طرد فقراء المؤمنين عنه فنزلت ، ولما أمر تعالى بإنذار غير المتقين { لعلهم يتقون } أردف ذلك بتقريب المتقين وإكرامهم ونهاه عن طردهم ووصفهم بموافقة ظاهرهم لباطنهم من دعاء ربهم وخلوص نياتهم ، والظاهر من قوله تعالى : { يدعون ربهم } يسألونه ويلجأون إليه ويقصدونه بالدعاء والرغبة { بالغداة والعشي } كناية عن الزمان الدائم ولا يراد بهما خصوص زمانهما كما تقول : الحمد لله بكرة وأصيلاً تريد في كل حال فكنى بالغداة عن النهار وبالعشي عن الليل ، أو خصهما بالذكر لأن الشغل فيهما غالب على الناس ومن كان في هذين الوقتين يغلب عليه ذكر الله ودعاؤه كان في وقت الفراغ أغلب عليه.

وقيل : المراد بالدعاء الصلاة المكتوبة.
فقال الحسن ومقاتل : هي الصلاة بمكة التي كانت مرتين في اليوم بكرة وعشياً.
وقال قتادة ومجاهد : في رواية عنه هي صلاة الصبح والعصر.
وقال ابن عمر وابن عباس ومجاهد في رواية وابراهيم : هي الصلوات الخمس.
وقال بعض القصاص : إنه الاجتماع إليهم غدوة وعشياً فأنكر ذلك ابن المسيب وعبد الرحمن بن أبي عمرة وغيرهما ، وقالوا : إلا الآية في الصلوات في الجماعة.
وقال أبو جعفر : هي قراءة القرآن وتعلمه.
وقال الضحاك : العبادة.
وقال ابراهيم في رواية : ذكر الله.
وقال الزجاج : دعاء الله تعالى بالتوحيد والإخلاص وعبادته.
وقرأ الجمهور { بالغداة }.
وقرأ ابن عامر وأبو عبد الرحمن ومالك بن دينار والحسن ونصر بن عاصم وأبو رجاء العطاردي بالغدو.
وروي عن أبي عبد الرحمن أيضاً بالغدوّ بغيرها.
وقرأ ابن أبي عبلة : بالغدوات والعشيات بالألف فيهما على الجمع ، والمشهور في غدوة أنها معرفة بالعلمية ممنوعة الصرف.
قال الفرّاء : سمعت أبا الجرّاح يقول : ما رأيت كغدوة قط يريد غداة يومه ، قال : ألا ترى أن العرب لا تضيفها فكذا لا تدخلها الألف واللام إنما يقولون : جئتك غداة الخميس؛ انتهى.
وحكى سيبويه والخليل أن بعضهم ينكرها فيقول : رأيته غدوة بالتنوين وعلى هذه اللغة قرأ ابن عامر ومن ذكر معه وتكون إذ ذاك كفينة.
حكى أبو زيد : لقيته فينة غير مصروف ولقيته الفينة بعد الفينة أي الحين بعد الحين ولما خفيت هذه اللغة على أبي عبيد أساء الظن بمن قرأ هذه القراءة فقال : إنما نرى ابن عامر والسلمي قرآ تلك القراءة اتباعاً للخط وليس في إثبات الواو في الكتاب دليل على القراءة بها ، لأنهم كتبوا الصلاة والزكاة بالواو ولفظهما على تركها وكذلك الغداة على هذا وجدنا العرب؛ انتهى.
وهذا من أبي عبيد جهل بهذه اللغة التي حكاها سيبويه والخليل وقرأ بها هؤلاء الجماعة وكيف يظن بهؤلاء الجماعة القرّاء أنهم إنما قرؤا بها لأنها مكتوبة في المصحف بالواو والقراءة ، إنما هي سنة متبعة وأيضاً فابن عامر عربي صريح كان موجوداً قبل أن يوجد اللحن لأنه قرأ القرآن على عثمان بن عفان ونصر بن عاصم أحد العرب الأئمة في النحو ، وهو ممن أخذ علم النحو عن أبي الأسود الدؤلي مستنبط علم النحو والحسن البصري من الفصاحة بحيث يستشهد بكلامه فكيف يظن بهؤلاء إنهم لحنوا؟ انتهى.

واغتروا بخط المصحف ولكن أبو عبيدة جهل هذه اللغة وجهل نقل هذه القراءة فتجاسر على ردها عفا الله عنه ، والظاهر أن العشي مرادف للعشية ألا ترى قوله : { إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد } وقيل : هو جمع عشية ومعنى { يريدون وجهه } يخلصون نياتهم له في عبادتهم ويعبر عن ذات الشيء وحقيقته بالوجه.
وقال ابن عباس : يطلبون ثواب الله والجملة في موضع الحال وقد استدل بقوله : { وجهه } من أثبت الأعضاء لله تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً.
{ ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء } قال الحسن والجمهور : الحساب هنا حساب الأعمال.
وقيل : حساب الأرزاق أي لا ترزقهم ولا يرزقونك حكاه الطبري.
وقال الزمخشري : كقوله : { إن حسابهم إلا على ربي } وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم فقال : { ما عليك من حسابهم من شيء } بعد شهادته لهم بالإخلاص وبإرادة وجه الله تعالى في أعمالهم وإن كان الأمر كما يقولون عند الله ، فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر والاتسام بسيرة المتقين وإن كان لهم باطن غير مرضي فحسابهم عليهم لازم لهم لا يتعداهم إليك ، كما إن حسابك عليك لا يتعداك إليهم كقوله { ولا تزر وازرة وزر أخرى } انتهى.
ولا يمكن ما ذكره من الترديد في قوله : وإن كان الأمر إلى آخره لأنه تعالى قد أخبر بأنهم { يدعون ربهم بالغداة العشي يريدون وجهه } وإخبار الله تعالى هو الصدق الذي لا شك فيه فلا يقال فيهم وإن كان الأمر كما يقولون وإن كان لهم باطن غير مرضي لأنه فرض مخالف لما أخبر الله تعالى به من خلوص بواطنهم ونياتهم له تعالى.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما كفى قوله : { ما عليك من حسابهم من شيء } حتى ضم إليه { ما من حسابك عليهم من شيء } ( قلت ) : قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقصدهما مؤدّي واحد وهو المعنى في قوله { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً كأنه قيل : لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه؛ انتهى.
وقوله : كأنه قيل لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه تركيب غير عربي ، لا يجوز عود الضمير هنا غائباً ولا مخاطباً لأنه إن أعيد غائباً فلم يتقدّم له اسم مفرد غائب يعود عليه ، إنما يتقدّم قوله : ولا هم ولا يمكن العود إليه على اعتقاد الاستغناء بالمفرد عن الجمع لأنه يصير التركيب بحساب صاحبهم وإن أعيد مخاطباً فلم يتقدّم له مخاطب يعود عليه إنما تقدم قوله : لا تؤاخذ أنت ، ولا يمكن العود إليه لأنه مخاطب فلا يعود عليه غائباً ولو أبرزته مخاطباً لم يصح التركيب أيضاً وإصلاح هذا التركيب أن يقال : لا يؤاخذ كل واحد منكم ولا منهم بحساب صاحبه أو لا تؤاخذ أنت بحسابهم ولا هم بحسابك ، أو لا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم فتغلب الخطاب على الغيبة كما تقول أنت وزيد تضربان ، والظاهر أن الضمائر كلها عائدة على { الذين يدعون }.

وقيل : الضمير في { من حسابهم } وفي { عليهم } عائد على المشركين وتكون الجملتان اعتراضاً بين النهي وجوابه ، قال الزمخشري : والمعنى لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويحركك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الضمير في { حسابهم } و { عليهم } للكفار الذين أرادوا طرد المؤمنين أي ما عليك منهم آمنوا ولا كفروا فتطرد هؤلاء رعياً بذلك ، والضمير في تطردهم عائد على الضعفة من المؤمنين ويؤيد هذا التأويل أن ما بعد الفاء أبداً سبب ما قبلها وذلك لا يبين إذا كانت الضمائر كلها للمؤمنين.
وحكى الطبري أن الحساب هنا إنما هو في رزق الدنيا أي لا ترزقهم ولا يرزقونك ، قال : فعلى هذا تجيء الضمائر كلها للمؤمنين؛ انتهى.
{ ومن } في { من حسابهم } وفي { من حسابك } مبعضة في موضع نصب على الحال في { من حسابهم } وذو الحال هو { من شيء } لأنه لو تأخر من حسابهم لكان في موضع النعت لشيء فلما تقدّم انتصب على الحال و { عليك } في موضع الخبر لما إن كانت حجازية ، وأجزنا توسط خبرها إذا كانت ظرفاً أو مجروراً وفي موضع خبر المبتدإ إن لم نجز ذلك أو اعتقدنا أن ما تميمية وأما في { من حسابك } فقيل : هو في موضع نصب على الحال ويضعف ذلك بأن الحال إذا كان العامل فيها معنى الفعل لم يجز تقديمها عليه خصوصاً إذا تقدمت على العامل وعلى ذي الحال.
وقيل : يجوز أن يكون الخبر { من حسابك } و { عليهم } صفة لشيء تقدّمت عليه فانتصب على الحال وهذا ضعيف ، لأن { عليهم } هو محط الفائدة فترجح أن يكون هو الخبر ويكون { من حسابك } على هذا تنبيهاً لا حالاً ولا خبراً وانظر إلى حسن اعتنائه بنبيه وتشريفه بخطابه حيث بدأ به في الجملتين معاً فقال : { ما عليك من حسابهم من شيء } ثم قال : { وما من حسابك عليهم من شيء } فقدم خطابه في الجملتين وكان مقتضى التركيب الأول لو لوحظ أن يكون التركيب الثاني { وما عليهم من حسابك من شيء } لكنه قدم خطاب الرسول وأمره تشريفاً له عليهم واعتناء بمخاطبته وفي هاتين الجملتين رد العجز على الصدر ، ومنه قول الشاعر :
وليس الذي حللته بمحلل . . .
وليس الذي حرمته بمحرّم
{ فتطردهم فتكون من الظالمين } الظاهر أن قوله : { فتطردهم } جواب لقوله { ما عليك من حسابهم من شيء } يكون النصب هنا على أحد معنى النصب في قولك : ما تأتينا فتحدّثنا لأن أحد معنيي هذا ما تأتينا محدثاً إنما تأتي ولا تحدث ، وهذا المعنى لا يصح في الآية والمعنى الثاني ما تأتينا فكيف تحدثنا؟ أي لا يقع هذا فكيف يقع هذا وهذا المعنى هو الذي يصح في الآية أن لا يكون حسابهم عليك فيكون وقع الطرد ، وأطلقوا جواب أن يكون { فتطردهم } جواباً للنفي ولم يبينوا كيفية وقوعه جواباً والظاهر في قوله : { فتكون من الظالمين } أن يكون معطوفاً على { فتطردهم } والمعنى الإخبار بانتفاء حسابهم وانتفاء الطرد والظلم المتسبب عن الطرد ، وجوّزوا أن يكون { فتكون } جواباً للنهي في قوله : { ولا تطرد } كقوله :

{ لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب } وتكون الجملتان وجواب الأولى اعتراضاً بين النهي وجوابه ، ومعنى { من الظالمين } من الذين يضعون الشيء في غير مواضعه.

وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)

{ وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا } الكاف للتشبيه في موضع نصب والإشارة بذلك إلى فتون سابق وقد تقدم ذكر أمم رسل وإرسالهم مبشرين ومنذرين ، وتقسيم أممهم إلى مؤمن ومكذب فدل ذلك على أن اتباع الرسل مختلفون وواقع فيهم الفتون لا محالة؛ كما وقع في هذه الأمة فشبه تعالى ابتلاء هذه الأمة واختبارها بابتلاء الأمم السالفة أي حال هذه الأمّة حال الأمم السابقة في فتون بعضهم ببعض والفتون بالغني والفقر أو بالشرف والوضاعة والقوّة والضعف.
قال الزمخشري : ومثل ذلك الفتن العظيم فتن بعض الناس ببعض أي ابتليناهم به وذلك إن المشركين كانوا يقولون للمسلمين { أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا } أي أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق ولما يسعدهم عنده من دوننا ونحن المقدمون والرؤساء وهم العبيد والفقراء إنكاراً لأن يكون أمثالهم على الحق وممنوناً عليهم من بيننا بالخير نحواً { أألقي الذكر عليه من بيننا } { لو كان خيراً ما سبقونا إليه } ومعنى فتناهم ليقولوا ذلك خذلانهم فافتتنوا حتى كان افتتانهم سبباً لهذا القول لأنه لا يقول مثل قولهم هذا إلا مخذول متقوّل؛ انتهى.
وآخر كلامه على طريقة المعتزلة من تأويل الفتنة التي نسبها تعالى إليه بالخذلان لأن جرياً على عادته.
قال ابن عطية : ابتلاء المؤمنين بالمشركين هو ما يلقون منهم من الأذى ، وابتلاء المشركين بالمؤمنين هو أن يرى الرجل الشريف من المشركين قوماً لا شرف لهم قد عظمهم هذا الدين وجعل لهم عند نبيهم قدراً ومنزلة ، والإشارة بذلك إلى من ذكر من ظلمهم أن تطرد الضعفة؛ انتهى.
ولا ينتظم هذا التشبيه إذ يصير التقدير ومثل ذلك أي طلب الطرد { فتنا بعضهم ببعض } والذي يتبادر إليه الذهن إنك إذا قلت : ضربت مثل ذلك إنما يفهم منه مثل ذلك الضرب لا أنه تقع المماثلة في غيره واللام في { ليقولوا } الظاهر أنها لام كي أي هذا الابتلاء لكي يقولوا : هذه المقالة على سبيل الاستفهام لأنفسهم والمناجاة لها ، ويصير المعنى ابتلينا أشراف الكفار بضعفاء المؤمنين ليتعجبوا في نفوسهم من ذلك ويكون سبباً للنظر لمن هدى ومن أثبت أن اللام تكون للصيرورة ، جوز هنا أن تكون للصيرورة ويكون قولهم على سبيل الاستحقاق { وهؤلاء } إشارة إلى المؤمنين { ومن الله عليهم } أي بزعمهم إن دينهم منه تعالى.
{ أليس الله بأعلم بالشاكرين } هذا استفهام معناه التقرير والردّ على أولئك القائلين أي الله أعلم بمن يشكر فيضع فيه هدايته دون من يكفر فلا يهديه ، وجاء لفظ الشكر هنا في غاية من الحسن إذ تقدم من قولهم : { أهؤلاء منّ الله عليهم } أي أنعم عليهم فناسب ذكر الإنعام لفظ الشكر؟ والمعنى أنه تعالى عالم بهؤلاء المنعم عليهم الشاكرين لنعمائه وتضمن العلم معنى الثواب والجزاء لهم على شكرهم فليسوا موضع استخفافكم ولا استعجابكم.

وقيل : بالشاكرين من منّ عليهم بالإيمان دون الرؤساء الذين علم منهم الكفر.
وقيل : من يشكر على الإسلام إذا هديته.
وقيل : بمن يوفق للإيمان كبلال ومن دونه.
وقال الزمشخري : أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق؛ انتهى.
وهو على طريقة الاعتزال.
{ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم } الجمهور أنها نزلت في الذين نهى الله عن طردهم فكان إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال : « الحمد لله الذي جعل في أمتي من أبدأهم بالسلام » وقيل : الذين صوّبوا رأي أبي طالب في طرد الضعفة.
وقال الفضيل بن عياض : قال قوم : قد أصبنا ذنوباً فاستغفر لنا فأعرض عنهم فنزلت.
وقيل : نزلت في عمر حين أشار بإجابة الكفرة ولم يعلم أنها مفسدة ، وعلى هذه الأسباب يكون تفسير { الذين يؤمنون } فإن كان عنى بهم الستة الذين نهى عن طردهم فيكون من باب العام أريد به الخاص ويكون قوله { سلام عليكم } أمراً بإكرامهم وتنبيهاً على خصوصية تشريفهم بهذا النوع من الإكرام وإن كان عنى عمر حين اعتذر واستغفر وقال : ما أردت بذلك إلا الخير كان من إطلاق الجمع على الواحد المعظم ، والظاهر أنه يراد به المؤمنون من غير تخصيص لا بالستة ولا بغيرهم وإنها استئناف إخبار من الله تعالى بعد تقصي خبر أولئك الذين نهى عن طردهم ولو كانوا إياهم لكان التركيب الأحسن ، وإذا جاؤك والآيات هنا آيات القرآن وعلامات النبوة.
وقال أبو عبد الله الرازي : آيات الله آيات وجوده وآيات صفات جلاله وإكرامه وكبريائه ووحدانيته وما سوى الله لا نهاية له ، ولا سبيل للعقول إلى الوقوف عليه على التفصيل التام إلا أن الممكن هو أن يطلع على بعض الآيات ثم يؤمن بالبقية على سبيل الإجمال ثم يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار وكالسائح في تلك القفار ، ولما كان لا نهاية لها فكذلك ، لا نهاية في ترقي العبد في معارج تلك الآيات وهذا مشرع جملي لا نهاية لتفاصيله ، ثم إن العبد إذا كان موصوفاً بهذه الصفات فعندها أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم سلام عليكم فيكون هذا التسليم بشارة بحصول الكرامة عقيب تلك السلامة والنجاة من بحر عالم الظلمات ومركز الجسمانيات ومعدن الآفات والمخافات وموضع التغييرات والتبديلات ، وأما الكرامة بالوصول إلى الباقيات الصالحات المجردات المقدسات والوصول إلى فسحة عالم الأنوار والترقي إلى معارج سرادقات الجلال؛ انتهى كلامه وهو تكثير لا طائل تحته طافح بإشارات أهل الفلسفة بعيد من مناهج المتشرّعين وعن مناحي كلام العرب ومن غلب عليه شيء حتى في غير مظانه ولله در القائل يغري منصور الموحدين بأهل الفلسفة من قصيدة :

وحرق كتبهم شرقاً وغربا . . .
ففيها كامن شرّ العلوم
يدب إلى العقائد من أذاها . . .
سموم والعقائد كالجسوم
وقال المبرد : السلام في اللغة اسم من أسماء الله تعالى وجمعه سلامة ومصدر واسم شجر.
وقال الزجاج : مصدر لسلم تسليماً وسلاماً كالسراح من سرّح والأداء من أدى.
وقال عكرمة والحسن : أمر بابتداء السلام عليهم تشريفاً لهم.
وقال ابن زيد : أمر بإبلاغ السلام عليهم من الله ، وقيل : معنى السلام هنا الدعاء من الآفات.
وقال أبو الهيثم : السلام والتحية بمعنى واحد ومعنى السلام عليكم حياكم الله.
وقال الزمخشري : إما أن يكون أمر بتبليغ سلام الله إليهم وإما أن يكون أمر بأن يبدأهم بالسلام إكراماً لهم وتطييباً لقلوبهم؛ انتهى.
وترديده إما وأما الأول قول ابن زيد ، والثاني قول عكرمة.
وقال ابن عطية : لفظه لفظ الخبر وهو في معنى الدعاء وهذا من المواضع التي جاز فيها الابتداء بالنكرة إذ قد تخصصت؛ انتهى.
والتخصيص الذي يعنيه النحاة في النكرة التي يبتدأ بها هو أن يتخصص بالوصف أو العمل أو الإضافة ، وسلام ليس فيه شيء من هذه التخصيصات وقد رام بعض النحويين أن يجعل جواز الابتداء بالنكرة راجعاً إلى التخصيص والتعميم والذي يظهر من كلام ابن عطية أنه يعني بقوله إذ قد تخصصت أي استعملت ، في الدعاء فلم تبق النكرة على مطلق مدلولها الوصفي إذ قد استعملت يراد بها أحد ما تحتمله النكرة.
{ كتب ربكم على نفسه الرحمة } أي أوجبها والبارىء تعالى لا يجب عليه شيء عقلاً إلا إذا أعلمنا أنه حتم بشيء فذلك الشيء واجب.
وقيل : { كتب } وعد والكتب هنا في اللوح المحفوظ.
وقيل : في كتاب غيره ، وفي صحيح البخاري : « إن الله تعالى كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي » وهذه الجملة مأمور بقولها تبشيراً لهم بسعة رحمة الله وتفريحاً لقلوبهم.
{ أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة } السوء : قيل : الشرك.
وقيل المعاصي ، وتقدم تفسير عمل السوء بجهالة في قوله : { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة } فأغنى عن إعادته.
{ ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم } أي من بعد عمل السوء { وأصلح } شرط استدامة الإصلاح في الشيء الذي تاب منه.
قرأ عاصم وابن عامر أنه بفتح الهمزتين فالأولى بدل من الرحمة والثانية خبر مبتدأ محذوف تقديره فأمره أنه أي أن الله غفور رحيم له ، ووهم النحاس فزعم أن قوله { فأنه } عطف على أنه وتكرير لها لطول الكلام وهذا كما ذكرناه وهم ، لأن { من } مبتدأ سواء كان موصولاً أو شرطاً فإن كان موصولاً بقي بلا خبر وإن كان شرطاً بقي بلا جواب.
وقيل : إنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره عليه أنه من عمل.

وقيل : فإنه بدل من أنه وليس بشيء لدخول الفاء فيه ولخلو { من } من خبر أو جواب.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والاخوان بكسر الهمزة فيهما الأولى على جهة التفسير للرحمة والثانية في موضع الخبر أو الجواب.
وقرأ نافع بفتح الأولى على الوجهين السابقين وكسر الثانية على وجهها أيضاً ، وقرأت فرقة بكسر الأولى وفتح الثانية حكاها الزهراوي عن الأعرج.
وحكى سيبويه عنه مثل قراءة نافع.
وقال الداني : قراءة الأعرج ضد قراءة نافع و { بجهالة } في موضع نصب على الحال أي وهو جاهل وما أحسن مساق هذا المقول أمره أولاً أن يقول للمؤمنين سلام عليكم فبدأ أولاً بالسلامة والأمن لمن آمن ثم خاطبهم ثانياً بوجوب الرحمة وأسند الكتابة إلى ربهم أي كتب الناظر لكم في مصالحكم والذي يربيكم ويملككم الرحمة فهذا تبشير بعموم الرحمة ، ثم أبدل منها شيئاً خاصاً وهو غفرانه ورحمته لمن تاب وأصلح ، ولو ذهب ذاهب إلى أن الرحمة مفعول من أجله وأن أنه في موضع نصب لكتب أي لأجل رحمته إياكم لم يبعد ولكن الظاهر أن الرحمة مفعول { كتب } واستدل المعتزلة بقوله : { كتب على نفسه الرحمة } أنه لا يخلق الكفر في الكافر لأن الرحمة تنافي ذلك وتنافي تعذيبه أبد الآباد.
{ وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } الكاف للتشبيه وذلك إشارة إلى التفصيل الواقع في هذه السورة أي ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين من هو مطبوع على قلبه لا يرجى إسلامه ومن ترى فيه أمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة ومن دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده.
وقيل : المعنى كما فصلنا في هذه السورة دليل على صحة التوحيد والنبوة والقضاء والقدر نفصل لك دليلنا وحججنا في تقرير كل حق ينكره أهل الباطل.
وقيل : إشارة إلى التفصيل للأمم السابقة ومثل ذلك التفصيل لمن كان قبلكم نفصل لكم.
وقال التبريزي : معناه كما بينا للشاكرين والكافرين.
وقال ابن قتيبة : تفصيلها إتيانها متفرقة شيئاً بعد شيء.
وقال تاج القراء : الفصل بون ما بين الشيئين والتفصيل التبيين بين المعاني الملتبسة.
وقال ابن عطية : والإشارة بقوله : { وكذلك } إلى ما تقدم من النهي عن طرد المؤمنين وبيان فساد منزع المعارضين لذلك ، وتفصيل الآيات تبيينها وشرحها وإظهارها؛ انتهى.
واستبان يكون لازماً ومتعدّياً وتميم وأهل نجد يذكرون السبيل وأهل الحجاز يؤنثونها.
وقرأ العربيان وابن كثير وحفص { ولتستبين } بالتاء { سبيل } بالرفع.
وقرأ الأخوان وأبو بكر وليستبين بالياء { سبيل } بالرفع فاستبان هنا لازمة أي ولتظهر سبيل المجرمين.
وقرأ نافع { ولتستبين } بتاء الخطاب { سبيل } بالنصب فاستبان هنا متعدية.
فقيل : هو خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم.
وقيل له ظاهراً والمراد أمته لأنه صلى الله عليه وسلم كان استبانها وخص { سبيل المجرمين } لأنه يلزم من استبانتها استبانة سبيل المؤمنين أو يكون على حذف معطوف لدلالة المعنى عليه التقدير سبيل المجرمين والمؤمنين.

وقيل : خص { سبيل المجرمين } لأنهم الذين أثاروا ما تقدم من الأقوال وهم أهم في هذا الموضع لأنها آيات رد عليهم ، وظاهر المجرمين العموم وتأوله ابن زيد على أنه عنى بالمجرمين الآمرون بطرد الضعفة واللام في { ولتستبين } متعلقة بفعل متأخر أي { ولتستبين سبيل المجرمين } فصلناها لكم أو قبلها علة محذوفة وهو قول الكوفيين التقدير لنبين لكم ولتستبين.
وقال الزمخشري : لنستوضح سبيلهم فتعامل كلاًّ منهم بما يجب أن يعامل به فصلنا ذلك التفصيل.
{ قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله } أمره تعالى أن يجاهرهم بالتبري من عبادتهم غير الله ، ولما ذكر تعالى تفصيل الآيات لتستبين سبيل المبطل من المحق نهاه عن سلوك سبيلهم ومعنى نهيت زجرت.
قال الزمخشري : بما ركب في من أدلة العقل وبما أوتيت من أدلة السمع والذين يدعون هم الأصنام ، عبر عنها بالذين على زعم الكفار حين أنزلوها منزلة من يعقل و { تدعون }.
قال ابن عباس : معناه تعبدون.
وقيل : تسمونهم آلهة من دعوت ولدي زيداً سميته.
وقيل : يدعون في أموركم وحوائجكم وفي قوله : { تدعون من دون الله } استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا منه على غير بصيرة ، ولفظة { نهيت } أبلغ من النفي بلا { أعبد } إذ فيه ورود تكليف.
{ قل لا أتبع أهواءكم } أي ما تميل إليه أنفسكم من عبادة غير الله ولما كانت أصنامهم مختلفة كان لكل عابد صنم هوى يخصه فلذلك جمع ، و { أهواءكم } عام وغالب ما يستعمل في غير الخير ويعم عبادة الأصنام وما أمروا به من طرد المؤمنين الضعفاء وغير ذلك مما ليس بحق وهي أعم من الجملة السابقة وأنص على مخالفتهم ، وفي قوله { أهواءكم } تنبيه على السبب الذي حصل منه الضلال وتنبيه لمن أراد اتباع الحق ومجانبة الباطل كما قال ابن دريد :
وآفة العقل الهوى فمن علا . . .
على هواه عقله فقد نجا
{ قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين } المعنى إن اتبعت أهواءكم ضللت وما اهتديت والجملة من قوله : { وما أنا من المهتدين } مؤكدة لقوله { قد ضللت } وجاءت تلك فعلية لتدل على التجدد وهذه اسمية لتدل على الثبوت فحصل نفي تجدد الضلال وثبوته وجاءت رأس آية.
وقرأ السلمي وابن وثاب وطلحة { ضللت } بكسر فتحة اللام وهي لغة ، وفي التحرير قرأ يحيى وابن أبي ليلى هنا في السجدة في أئذا ضللنا بالصاد غير معجمة ويقال صل اللحم أنتن ويروى ضللنا أي دفنا في الضلة وهي الأرض الصلبة رواه أبو العباس عن مجاهد بن الفرات في كتاب الشواذ له.
{ قل إني على بينة من ربي } أي على شريعة واضحة وملة صحيحة.
وقيل : البينة هي المعجزة التي تبين صدقي وهي القرآن ، قالوا : ويجوز أن تكون التاء في { بينة } للمبالغة والمعنى على أمر بين لما نفي أن يكون متبعاً للهوى نبه على ما يجب اتباعه وهو الأمر الواضح من الله تعالى.

{ وكذبتم به } إخبار منه عنهم أنهم كذبوا به والظاهر عود الضمير على الله أي وكذبتم بالله.
وقيل : عائد على { بينة } لأن معناه على أمر بيِّن.
وقيل : على البيان الدال عليه بينة.
وقيل : على القرآن.
{ ما عندي ما تستعجلون به } الذي استعجلوا به قيل الآيات المقترحة قاله الزجاج.
وقيل : العذاب ورجح بأن الاستعجال لم يأت في القرآن إلا للعذاب لأنهم لم يستعجلوا بالآيات المقترحة وبأن لفظ { وكذبتم به } يتضمن أنكم واقعتم ما أنتم تستحقون به العذاب إلا أن ذلك ليس لي.
قال الزمخشري : يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم : { فأمطر علينا حجارة من السماء } { إن الحكم إلا لله } أي الحكم لله على الإطلاق وهو الفصل بين الخصمين المختلفين بإيجاب الثواب والعقاب.
وقيل : القضاء بإنزال العذاب وفيه التفويض العام لله تعالى.
{ يقضي الحق } هي قراءة العربيين والأخوين أي يقضي القضاء الحق في كل ما يقضى فيه من تأخير أو تعجيل ، وضمن بعضهم يقضي معنى ينفذ فعداه إلى مفعول به.
وقيل : يقضي بمعنى يصنع أي كل ما يصنعه فهو حق قال الهذلي :
وعليهما مسدودتان قضاهما . . .
داود أو صنع السوابغ تبع
أي صنعهما وقيل حذف الباء والأصل بالحق ، ويؤيده قراءة عبد الله وأبي وابن وثاب والنخعي وطلحة والأعمش يقضي بالحق بياء الجر وسقطت الباء خطأ لسقوطها لفظاً لالتقاء الساكنين.
وقرأ مجاهد وابن جبير يقضي بالحق.
{ وهو خير الفاصلين } وفي مصحف عبد الله وهو أسرع الفاصلين.
وقرأ ابن عباس والحرميان وعاصم { يقص الحق } من قص الحديث كقوله { نحن نقص عليك أحسن القصص } أو من قص الأثر أي اتبعه.
وحكى أن أبا عمرو بن العلاء سئل أهو يقص الحق أو يقضي الحق؟ فقال : لو كان يقص لقال وهو خير القاصين أقرأ أحد بهذا وحيث قال { وهو خير الفاصلين } فإنما يكون الفصل في القضاء؛ انتهى.
ولم يبلغ أبا عمرو أنه قرىء بها ويدل على ذلك قوله : أقرأ بها أحد ولا يلزم ما قال ، فقد جاء الفصل في القول قال تعالى : { إنه لقول فصل } وقال : { أحكمت آياته ثم فصلت } وقال : { نفصل الآيات } فلا يلزم من ذكر الفاصلين أن يكون معيناً ليقضي و { خير } هنا أفعل التفضيل على بابها.
وقيل : ليست على بابها لأن قضاءه تعالى لا يشبه قضاء ولا يفصل كفصله أحد وهذا الاستدلال يدل على أنها بابها.
{ قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم } أي لو كان في قدرتي الوصول إلى ما تستعجلون به من اقتراح الآيات أو من حلول العذاب لبادرت إليه ووقع الانفصال بيني وبينكم.
وروي عن عكرمة في { لقضي الأمر بيني وبينكم } أي لقامت القيامة وما روي عن ابن جريج من أن المعنى لذبح الموت لا يصح ولا له هنا معنى.

وقال الزمخشري و { ما تستعجلون به } من العذاب لأهلكنكم عاجلاً غضباً لربي وامتعاضاً من تكذيبكم به ولتخلصت منكم سريعاً؛ انتهى.
وهو قول ابن عباس لم أمهلكم ساعة ولأهلكنكم.
{ والله أعلم بالظالمين } الظاهر أن المعنى والله أعلم بكم فوضع الظاهر المشعر بوصفهم بالظلم موضع المضمر ومعنى { أعلم } بهم أي بمجازاتهم ففيه وعيد وتهديد.
وقيل : بتوقيت عقابهم وقيل : بما آل أمرهم من هداية بعض واستمرار بعض.
وقيل : بمن ينبغي أن يؤخذ وبمن يمهل.
وقيل : بما تقتضيه الحكمة من عذابهم.

وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)

السقوط : الوقوع من علو.
الورقة : واحدة الورق من النبات والكاغد وهي معروفة.
الرطب واليابس معروفان يقال رطب فهو رطب ورطيب ويبس وييبس ، وشذ فيه يبس بحذف الياء وكسر الباء.
الكرب الغم يأخذ بالنفس كربت الرجل فهو مكروب.
قال الشاعر :
ومكروب كشفت الكرب عنه . . .
بطعنة فيصل لما دعاني
الشيعة : الفرقة تتبع الأخرى ويجمع على أشياع ، وشيعت فلاناً اتبعته وتقول : العرب شاعكم السلام أي اتبعكم وأشاعكم الله السلم أي اتبعكم.
الإبسال : تسليم المرء نفسه للهلاك ويقال أبسلت ولدي أرهنته ، قال الشاعر :
وابسالي بني بغير جرم . . .
بعوناه ولا بدم مراق
بعوناه جنيناه والبعو الجناية.
الحميم : الماء الحار.
الحيرة : التردد في الأمر لا يهتدي إلى مخرج منه ومنه تحير الماء في الغيم يقال حار يحار حيرة وحيراً وحيراناً وحيرورة.
الصور : جمع صورة والصور القرن بلغة أهل اليمن.
قال :
نحن نطحناهم غداة الجمعين . . .
بالشامخات في غبار النقعين
نطحاً شديداً لا كنطح الصورين . . .
{ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } لما قال تعالى : إن الحكم إلا لله وقال هو أعلم بالظالمين بعد قوله { ما تستعجلون به } انتقل من خاص إلى عام وهو علم الله بجميع الأمور الغيبية ، واستعارة للقدرة عليها المفاتح لما كانت سبباً للوصول إلى الشيء فاندرج في هذا العام ما استعجلوا وقوعه وغيره.
والمفاتح جمع مفتح بكسر الميم وهي الآية التي يفتح بها ما أغلق.
قال الزهراوي : ومفتح أفصح من مفتاح ويحتمل أن يكون جمع مفتاح لأنه يجوز في مثل هذا أن لا يؤتى فيه بالياء قالوا : مصابح ومحارب وقراقر في جميع مصباح وقرقور.
وقرأ ابن السميفع : مفاتيح بالياء وروي عن بعضهم مفتاح الغيب على التوحيد.
وقيل : جمع مفتح بفتح الميم ويكون للمكان أي أماكن الغيب ومواضعها يفتح عن المغيبات ويؤيده ما روي عن ابن عباس إنها خزائن المطر والنبات ونزول العذاب.
وقال السدي وغيره : خزائن الغيب.
وروي عن ابن عمر عنه عليه السلام أنه قال : « مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله » ، { إن الله عنده علم الساعة } إلى آخر السورة.
وقيل : { مفاتح الغيب } الأمور التي يستدلّ بها على الغائب فتعلم حقيقته من قولك : فتحت على الإمام إذا عرّفته ما نسي.
وقال أبو مسعود : أوتي نبيكم كل شيء إلا مفاتح الغيب.
وروي عن ابن عباس أنها خزائن غيب السموات والأرض من الأقدار والأرزاق.
وقال عطاء : ما غاب من الثواب والعقاب وما تصير إليه الأمور.
وقال الزجاج : الوصلة إلى علم الغيب إذا استعلم.
وقيل : عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال.
وقيل : ما لم يكن هل يكون أم لا يكون؟ وما يكون كيف يكون وما لا يكون إن كان كيف يكون؟ و { لا يعلمها إلا هو } حصر أنه لا يعلم تلك المفاتح ولا يطلع عليها غيره تعالى ، ولقد يظهر من هؤلاء المنتسبة إلى الصوف أشياء من ادعاء علم المغيبات والاطلاع على علم عواقب أتباعهم وأنهم معهم في الجنة مقطوع لهم ولأتباعهم بها يخبرون بذلك على رؤوس المنابر ولا ينكر ذلك أحد هذا مع خلوهم عن العلوم يوهمون أنهم يعلمون الغيب.

وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها ومن زعم أن محمداً يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول : { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } وقد كثرت هذه الدّعاوى والخرافات في ديار مصر وقام بها ناس صبيان العقول يسمون بالشيوخ عجزوا عن مدارك العقل والنقل وأعياهم طلاب العلوم :
فارتموا يدعون أمراً عظيما . . .
لم يكن للخليل لا والكليم
بينما المرء منهم في انسفال . . .
أبصر اللوح ما به من رقوم
فجنى العلم منه غضاً طرياً . . .
ودرى ما يكون قبل الهجوم
إن عقلي لفي عقال إذا ما . . .
أنا صدقت بافتراء عظيم
{ ويعلم ما في البرّ والبحر } لما كان ذكره تعالى { مفاتح الغيب } أمراً معقولاً أخبر تعالى باستئثاره بعلمه واختصاصه به ذكر تعلق علمه بهذا المحسوس على سبيل العموم ثم ذكر علمه بالورقة والحبة والرطب واليابس على سبيل الخصوص ، فتحصل إخباره تعالى بأنه عالم بالكليات والجزئيات مستأثر بعلمه وما نعلمه نحن وقدم { البر } لكثرة مشاهدتنا لما اشتمل عليه من المدن والقرى والمفاوز والجبال والحيوان والنبات والمعادن أو على سبيل الترقي إلى ما هو أعجب في الجملة ، لأن ما فيه من أجناس الحيوانات أعجب وطوله وعرضه أعظم والبر مقابل البحر.
وقيل : { البر } القفار { والبحر } المعروف فالمعنى ويعلم ما في البر من نبات ودواب وأحجار وأمدار وغير ذلك ، وما في البحر من حيوان وجواهر وغير ذلك.
وقال مجاهد : { البرّ } الأرض القفار التي لا يكون فيها الماء { والبحر } كل قرية وموضع فيه الماء.
وقيل : لم يرد ظاهر البرّ والبحر وإنما أراد أن علمه تعالى محيط بنا وبما أعد لمصالحنا من منافعهما وخصا بالذكر لأنهما أعظم مخلوق يجاوزنا.
{ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } { من } زائدة لاستغراق جنس الورقة و { يعلمها } مطلقاً قبل السقوط ومعه وبعده.
قال الزجاج : { يعلمها } ساقطة وثابتة كما تقول : ما يجيئك أحد إلا وأنا أعرفه ليس تأويله في حال مجيئه فقط.
وقيل : يعلم متى تسقط وأين تسقط وكم تدور في الهواء.
وقيل : يعلمها كيف انقلبت ظهراً لبطن إلى أن وقعت على الأرض ، و { يعلمها } في موضع الحال من { ورقة } وهي حال من النكرة.
كما تقول : ما جاء أحد إلا راكباً.
{ ولا حبة في ظلمات الأرض } قيل : تحت الأرض السابعة.

وقيل : تحت التراب.
وقيل : الحب الذي يزرع يخفيها الزرّاع تحت الأرض.
وقيل : تحت الصخرة في أسفل الأرضين.
وقيل : ولا حبة إلا يعلم متى تنبت ومن يأكلها ، وانظر إلى حسن ترتيب هذه المعلومات بدأ أولاً بأمر معقول لا ندركه نحن بالحس وهو قوله : { وعنده مفاتح الغيب } ثم ثانياً بأمر ندرك كثيراً منه بالحس وهو { يعلم ما في البرّ والبحر } وفيه عموم ثم ثالثاً بأمر بجزأين لطيفين أحدهما علوي وهو سقوط ورقة من علوّ إلى أسفل ، والثاني سفلي وهو اختفاء حبة في بطن الأرض.
ودلت هذه الجمل على أنه تعالى عالم بالكليات والجزئيات وفيها ردّ على الفلاسفة في زعمهم أن الله لا يعلم الجزئيات ومنهم من يزعم أنه تعالى لا يعلم الكليات ولا الجزئيات حتى هو لا يعلم ذاته تعالى الله عن ذلك.
{ ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } الرطب واليابس وصفان معروفان والمراد العموم في المتصف بهما ، وقد مثل المفسرون ذلك بمثل.
فقيل : ما ينبت وما لا ينبت.
وقيل : لسان المؤمن ولسان الكافر.
وقيل : العين لباكية من خشية الله والعين الجامدة للقسوة ، وأما ما حكاه النقاش عن جعفر الصادق أن الورقة هي السقط من أولاد بني آدم والحبة يراد بها الذي ليس بسقط ، والرّطب المراد به الحيّ واليابس يراد به الميت فلا يصح عن جعفر وهو من تفسير الباطنية لعنهم الله.
وقال مقاتل { في كتاب مبين } : هو اللوح المحفوظ.
وقال الزجاج : كناية عن علم الله المتيقن وهذا الاستثناء جار مجرى التوكيد لأن قوله : ولا حبة { ولا رطب ولا يابس } معطوف على قوله { من ورقة } والاستثناء الأول منسحب عليها كما تقول : ما جاءني من رجل إلا أكرمته ولا امرأة ، فالمعنى إلا أكرمتها ولكنه لما طال الكلام أعيد الاستثناء على سبيل التوكيد وحسنه كونه فاصلة رأس آية.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن السميفع { ولا رطب ولا يابس } بالرفع فيهما والأولى أن يكونا معطوفين على موضع { من ورقة } ويحتمل الرفع على الابتداء وخبره { إلا في كتاب مبين } { وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر استئثاره بالعلم التام للكليات والجزئيات ذكر استئثاره بالقدرة التامّة تنبيهاً على ما تختص به الإلهية وذكر شيئاً محسوساً قاهراً للأنام وهو التوفي بالليل والبعث بالنهار وكلاهما ليس للإنسان فيه قدرة ، بل هو أمر يوقعه الله تعالى بالإنسان والتوفي عبارة في العرف عن الموت وهنا المعني به النوم على سبيل المجاز للعلاقة التي بينه وبين الموت وهي زوال إحساسه ومعرفته وفكره.
ولما كان التوفي المراد به النوم سبباً للراحة أسنده تعالى إليه وما كان بمعنى الموت مؤلماً قال :

{ قل يتوفاكم ملك الموت } و { توفته رسلنا } { تتوفاهم الملائكة } والظاهر أن الخطاب عام لكل سامع.
وقال الزمخشري : الخطاب للكفرة وخص الليل بالنوم والبعث بالنهار وإن كان قد ينام بالنهار ويبعث بالليل حملاً على الغالب ، ومعنى { جرحتم } كسبتم ومنه جوارح الطير أي كواسبها واجترحوا السيئات اكتسبوها والمراد منها أعمال الجوارح ومنه قيل للأعضاء جوارح.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون من الجرح كأن الذنب جرح في الدين والعرب تقول : وجرح اللسان كجرح اليد.
وقال مكي : أصل الاجتراح عمل الرجل بجارحة من جوارحه يده أو رجله ثم كثر حتى قيل لكل مكتسب مجترح وجارح ، وظاهر قوله : { ما جرحتم } العموم في المكتسب خيراً كان أو شراً.
وقال الزمخشري : ما كسبتم من الآثام؛ انتهى ، وهو قول ابن عباس.
وقال قتادة : ما عملتم.
وقال مجاهد : ما كسبتم والبعث هنا هو التنبه من النوم والضمير في { فيه } عائد على { النهار } قاله مجاهد وقتادة والسدي ، عاد عليه لفظاً والمعنى في يوم آخر كما تقول : عندي درهم ونصفه وقال عبد الله بن كثير يعود على التوفي أي يوقظكم في التوفي أي في خلاله وتضاعيفه.
وقيل : يعود على الليل.
وقال الزمخشري : ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار ، ومن أجله ، كقولك : فيم دعوتني فتقول : في أمر كذا؛ انتهى.
وحمله على البعث من القبور ينبو عنه قوله : { ليقضى أجل مسمى } لأن المعنى والله أعلم أنه تعالى يحييهم في هاتين الحالتين من النوم واليقظة ليستوفوا ما قدر لهم من الآجال والأعمار المكتوبة ، وقضاء الأجل فصل مدّة العمر من غيرها ومسمى في علم الله أو في اللوح المحفوظ أو عند تكامل الخلق ونفخ الروح ، ففي الصحيح أن الملك يقول عند كمال ذلك.
فما الرزق فما الأجل.
وقال الزمخشري : هو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم { ثم إليه مرجعكم } هو المرجع إلى موقف الحساب { ثم ينبئكم بما كنتم تعملون } في ليلكم ونهاركم؛ انتهى.
وقال غيره : كابن جبير : مرجعكم بالموت الحقيقي.
ولما ذكر تعالى النوم واليقظة كان ذلك تنبيهاً على الموت والبعث وإن حكمهما بالنسبة إليه تعالى واحد فكما أنام وأيقظ يميت ويحيي.
وقرأ طلحة وأبو رجاء ليقضي أجلاً مسمى بنى الفعل للفاعل ونصب أجلاً أي ليتم الله آجالهم كقوله : { فلما قضى موسى الأجل } وفي قراءة الجمهور ، ويحتمل أن يكون الفاعل المحذوف ضميره أو ضميرهم.
{ وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة } تقدم الكلام في تفسير وهو القاهر فوق عباده.
قال هنا ابن عطية : { القاهر } أن أخذ صفة فعل أي مظهر القهر بالصواعق والرياح والعذاب ، فيصح أن تجعل { فوق } ظرفية للجهة لأن هذه الأشياء إنما تعاهدها للعباد من فوقهم وإن أخذ { القاهر } صفة ذات بمعنى القدرة والاستيلاء ففوق لا يجوز أن يكون للجهة وإنما هو لعلو القدر والشأن ، كما تقول : الياقوت فوق الحديد؛ انتهى.

وظاهر { ويرسل } أن يكون معطوفاً على { وهو القاهر } عطف جملة فعلية على جملة اسمية وهي من آثار القهر.
وجوز أبو البقاء أن تكون معطوفة على قوله : { يتوفاكم } وما بعده من الأفعال وأن يكون معطوفاً على { القاهر } التقدير وهو الذي يقهر ويرسل ، وأن يكون حالاً على إضمار مبتدإ أي وهو يرسل وذو الحال إما الضمير في { القاهر } وإما الضمير في الظرف وهذا أضعف هذه الأعاريب ، { وعليكم } ظاهره أنه متعلق بيرسل كقوله : { يرسل عليكما شواظ } ولفظة على مشعرة بالعلو والاستعلاء لتمكنهم منا جعلوا كان ذلك علينا ويحتمل أن يكون متعلقاً بحفظة أي ويرسل حفظة عليكم أي يحفظون عليكم أعمالكم ، كما قال : { وإن عليكم لحافظين } كما تقول : حفظت عليك ما تعمل.
وجوّزوا أن يكون حالاً لأنه لو يتأخر لكان صفة أي حفظه كائنة عليكم أي مستولين عليكم و { حفظة } جمع حافظ وهو جمع منقاس لفاعل وصفاً مذكراً صحيح اللام عاقلاً وقل فيما لا يعقل.
قال الزمخشري : أي ملائكة حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبون؛ انتهى.
وقال ابن عطية : المراد بذلك الملائكة الموكلون بكتب الأعمال؛ انتهى.
وما قالاه هو قول ابن عباس وظاهر الجمع أنه مقابل الجمع ولم تتعرض الآية لعدد ما على كل واحد ولا لما يحفظون عليه.
وعن ابن عباس : ملكان مع كل إنسان أحدهما عن يمينه للحسنات ، والآخر عن شماله للسيئات وإذا عمل سيئة قال من على اليمين : انتظره لعله يتوب منها فإن لم يتب كتبت عليه.
وقيل : ملكان بالليل وملكان بالنهار أحدهما يكتب الخير والآخر يكتب الشر ، فإذا مشى كان أحدهما بين يديه والآخر وراءه وإذا جلس فأحدهما عن يمينه والآخر عن شماله.
وقيل : خمسة من الملائكة اثنان بالليل واثنان بالنهار ، وواحد لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً والمكتوب الحسنة والسيئة.
وقيل : الطاعات والمعاصي والمباحات.
وقيل : لا يطلعون إلا على القول والفعل لقوله : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } ولقوله : { يعلمون ما تفعلون } وأما أعمال القلوب فعلمه لله تعالى.
وقيل : يطلعون عليها على الإجمال لا على التفصيل فإذا عقد سيئة خرجت من فيه ريح خبيثة أو حسنة خرجت ريح طيبة.
وقال الزمخشري ( فإن قلت ) : الله غني بعلمه عن كتب الكتبة فما فائدتها؟ ( قلت ) : فيها لطف للعباد لأنهم إذا علموا أن الله رقيب عليهم ، والملائكة الذين هم أشرف خلقه موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة ، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد من السوء؛ انتهى.
وقوله : والملائكة الذين هم أشرف خلقه هو جار على مذهب المعتزلة في الملائكة ، ولا تتعين هذه الفائدة إذ يحتمل أن تكون الفائدة فيها أن توزن صحائف الأعمال يوم القيامة لأن وزن الأعمال بمجردها لا يمكن ، وهذه الفائدة جارية على مذهب أهل السنة ، وأما المعتزلة فتأولوا الوزن والميزان ولا يشعر قوله : { حفظة } أن ذلك الحفظ بالكتابة كما فسروا بل قد قيل : هم الملائكة الذي قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم :

« تتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار » قاله قتادة والسدّي.
وقيل : يحفظون الإنسان من كل شيء حتى يأتي أجله.
{ حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا } أي أسباب الموت { توفته } قبضت روحه { رسلنا } جاء جمعاً.
فقيل : عنى به ملك الموت عليه السلام وأطلق عليه الجمع تعظيماً.
وقيل : ملك الموت وأعوانه والأكثرون على أن { رسلنا } عين الحفظة يحفظونهم مدة الحياة ، وعند مجيء أسباب الموت يتوفونهم ولا تعارض بين قوله : { الله يتوفى الأنفس حين موتها } وبين قوله : { قل يتوفاكم ملك الموت } وبين قوله : { توفته رسلنا } لأن نسبة ذلك إلى الله تعالى بالحقيقة ولغيره بالمباشرة ، ولملك الموت لأنه هو الآمر لأعوانه وله ولهم بكونهم هم المتولون قبض الأرواح.
وعن مجاهد جعلت الأرض له كالطست يتناول منه من يتناوله وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرتين.
وقرأ حمزة : توفاه بألف ممالة وظاهره أنه فعل ماض كتوفته إلا أنه ذكر على معنى الجمع ، ومن قرأ توفته أنث على معنى الجماعة ويحتمل أن يكون مضارعاً وأصله تتوفاه فحذفت إحدى التاءين على الخلاف في تعيين المحذوفة.
وقرأ الأعمش يتوفاه بزيادة ياء المضارعة على التذكير.
{ وهم لا يفرطون } جملة حالية والعامل فيها توفته أو استئنافية أخبر عنهم بأنهم لا يفرطون في شيء مما أمروا به من الحفظ والتوفي ومعناه : لا يقصرون.
وقرأ الأعرج وعمرو بن عبيد { لا يفرطون } بالتخفيف أي لا يجاوزون الحد فيما أمروا به.
قال الزمخشري : فالتفريط التولي والتأخر عن الحد والإفراط مجاوزة الحد أي لا ينقصون مما أمروا به ولا
يزيدون فيه؛ انتهى ، وهو معنى كلام ابن جني.
وقال ابن بحر : { يفرطون } لا يدعون أحداً يفرط عنهم أي يسبقهم ويفوتهم.
وقيل : يجوز أن تكون قراءة التخفيف معناها لا يتقدّمون على أمر الله وهذا لا يصح إلا إذا نقل أن أفرط بمعنى فرط أي تقدم.
وقال الحسن : إذا احتضر الميت احتضره خمسمائة ملك يقبضون روحه فيعرجون بها.
{ ثم ردّوا إلى الله مولاهم الحق } الظاهر عود الضمير على العباد ، وجاء عليكم على سبيل الالتفات لما في الخطاب من تقريب الموعظة من السامعين ، ويحتمل أن يعود الضمير في { ردّوا } على أحدكم على المعنى لأنه لا يريد ب { أحدكم } ظاهره من الإفراد إنما معناه الجمع وكأنه قيل : حتى إذا جاءكم الموت ، وقرىء { ردّوا } بكسر الراء نقل حركة الدال التي أدغمت إلى الراء والراد المحذر من الله أو بالبعث في الآخرة أو الملائكة ردّتهم بالموت إلى الله.

وقيل : الضمير يعود على { رسلنا } أي الملائكة يموتون كما يموت بنو آدم ويردّون إلى الله تعالى وعوده على العباد أظهر و { مولاهم } لفظ عام لأنواع الولاية التي تكون بين الله وبين عبيده من الملك والنصرة والرزق والمحاسبة وغير ذلك ، وفي الإضافة إشعار برحمته لهم وظاهر الإخبار بالرد إلى الله أنه يراد به البعث والرجوع إلى حكم الله وجزائه يوم القيامة ويدل عليه آخر الآية.
وقال أبو عبد الله الرازي : صريح الآية يدل على حصول الموت للعبد ورده إلى الله والميت مع كونه ميتاً لا يمكن أن يرد إلى الله بل المردود هو النفس والروح وهنا موت وحياة ، فالموت نصيب البدن والحياة نصيب النفس والروح فثبت أن الإنسان ليس إلا النفس والروح وليس عبارة عن مجرد هذه البنية وفي قوله : { ردّوا إلى الله } إشعار بكون الروح موجودة قبل البدن لأن الرد من هذا العالم إلى حضرة الجلال إنما يكون إذا كانت موجودة قبل التعلق بالبدن ونظيره { ارجعي إلى ربك } { إلى الله مرجعكم جميعاً } وجاء في الحديث : « خلقت الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ».
وحجة الفلاسفة على كون النفوس غير موجودة قبل وجود البدن ضعيفة وبينا ضعفها في الكتب العقلية؛ انتهى كلامه وفيه بعض تلخيص.
وقال أيضاً : { إلى الله } يشعر بالجهة وهو باطل فوجب حمله على أنهم ردّوا إلى حيث لا مالك ولا حاكم سواه؛ انتهى.
والظاهر أن هذا الرد هو بالبعث يوم القيامة إلا ما أراده الرازي ووصفه تعالى بالحق معناه العدل الذي ليس بباطل ولا مجاز.
وقال أبو عبد الله الرازي : كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس والشهوة والغضب كما قال تعالى : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } فلما مات تخلص من تصرفات الموالي الباطلة وانتقل إلى تصرف المولى الحق انتهى كلامه.
وتفسيره خارج عن مناحي كلام العرب ومقاصدها وهو في أكثره شيبة بكلام الذين يسمون أنفسهم حكماء.
وقرأ الحسن والأعمش { الحق } بالنصب والظاهر أنه صفة قطعت فانتصبت على المدح وجوز نصبه على المصدر تقديره الرد الحق.
{ ألا له الحكم } تنبيه منه تعالى عباده بأن جميع أنواع التصرفات له.
وقال الزمخشري : { ألا له الحكم } يومئذ لا حكم فيه لغيره.
{ وهو أسرع الحاسبين } تقدم الكلام في سرعة حسابه تعالى في قوله : { والله سريع الحساب } { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } لما تقدم ذكره دلائل على ألوهيته تعالى من العلم التام والقدرة الكاملة ذكر نوعاً من أثرهما وهو الإنجاء من الشدائد وهو استفهام يراد به التقرير والإنكار والتوبيخ والتوقيف على سوء معتقدهم عند عبادة الأصنام وترك الذي ينجي من الشدائد ويلجأ إليه في كشفها.
قيل : وأريد حقيقة الظلمة وجمعت باعتبار موادها ففي البر والبحر ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الصواعق ، وفي البر أيضاً ظلمة الغبار وظلمة الغيم وظلمة الريح ، وفي البحر أيضاً ظلمة الأمواج ويكون ذلك على حذف مضاف التقدير مهالك ظلمة البر والبحر ومخاوفها وأكثر المفسرين على أن الظلمات مجاز عن شدائد البر والبحر ومخاوفهما وأهوالهما ، والعرب تقول : يوم أسود ويوم مظلم ويوم ذو كواكب كأنه لإظلامه وغيبوبة شمسه بدت فيه الكواكب ويعنون به أن ذلك اليوم شديد عليهم.

قال قتادة والزجاج : من كرب البر والبحر.
وحكى الطبري : ضلال الطريق في الظلمات.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد ما يشفون عليه من الخسف في البر والغرق في البحر بذنوبهم فإذا دعوا وتضرعوا كشف الله عنهم الخسف والغرق فنجوا من ظلماتها؛ انتهى.
{ تدعونه تضرعاً وخفية } أي تنادونه مظهري الحاجة إليه ومخفيها والتضرع وصف باد على الإنسان والخفية الإخفاء.
وقال الحسن : تضرعاً وعلانية خفية أي نية وانتصبا على المصدر ، و { تدعونه } حال ويقال : خفية بضم الخاء وهي قراءة الجمهور وبكسرها وهي قراءة أبي بكر.
وقرأ الأعمش { وخفية } من الخوف.
وقرأ الكوفيون { من ينجيكم قل الله ينجيكم } بالتشديد فيهما ، وحميد بن قيس ويعقوب وعلي بن نصر عن أبي عمرو بالتخفيف فيهما والحرميان والعربيان بالتشديد في { من ينجيكم } والتخفيف في { قل الله ينجيكم } جمعوا بين التعدية بالهمزة والتضعيف ، كقوله : { فمهل الكافرين أمهلهم } { لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين } هذه إشارة إلى الظلمات والمعنى قائلين لئن أنجانا لما دعوه ، أقسموا أنهم يشكرونه على كشف هذه الشدائد ودل ذلك على أنهم لم يكونوا قبل الوقوع في هذه الشدائد شاكرين لأنعمه.
وقرأ الكوفيون { لئن أنجانا } على الغائب وأماله الاخوان.
وقرأ باقي السبعة على الخطاب.
{ قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون } الضمير في { منها } عائد على ما أشير إليه بقوله { من هذه } ومن كل معطوف على الضمير المجرور أعيد معه الخافض وأمره تعالى بالمسابقة إلى الجواب ليكون هو صلى الله عليه وسلم أسبق إلى الخير وإلى الاعتراف بالحق ثم ذكر أنه تعالى ينجي من هذه الشدائد التي حضرتهم ومن كل كرب فعم بعد التخصيص ثم ذكر قبيح ما يأتون بعد ذلك وبعد إقرارهم بالدعاء والتضرع ووعدهم إياه بالشكر من إشراكهم معه في العبادة.
قال ابن عطية : وعطف ب { ثم } للمهلة التي تبين قبح فعلهم أي ثم بعد معرفتكم بهذا كله وتحققه أنتم تشركون؛ انتهى.
وقيل : معنى { تشركون } تعودون إلى ما كنتم عليه من الإشراك وعبادة الأصنام ولا يخفى ما في هذه الجملة الإسمية من التقبيح عليهم إذ ووجهوا بقوله : { ثم أنتم } كقوله : { ثم أنتم } هؤلاء بعد قوله { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم } وإذا كان الخبر { تشركون } بصيغة المضارع المشعر بالاستمرار والتجدد في المستقبل كما كانوا عليه فيما مضى.
{ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم } هذا إخبار يتضمن الوعيد ، والأظهر من نسق الآيات أنه خطاب للكفار وهو مذهب الطبري.

وقال أبي وأبو العالية وجماعة : هي خطاب للمؤمنين.
قال أبي : هنّ أربع : عذاب قبل يوم القيامة مضت اثنتان قبل وفاة الرسول بخمس وعشرين سنة لبسوا شيعاً وأذيق بعضهم بأس بعض ، وثنتان واقعتان لا محالة الخسف والرجم.
وقال الحسن : بعضها للكفار بعث العذاب من فوق ومن تحت وسائرها للمؤمنين ، انتهى.
وحين نزلت استعاذ الرسول صلى الله عليه وسلم وقال في الثالثة : « هذه أهون أو هذه أيسر » واحتج بهذا من قال هي للمؤمنين.
وقال الطبري : لا يمتنع أن يكون عليه لسلام تعوذ لأمته مما وعد به الكفار وهون الثالثة لأنها في المعنى هي التي دعا فيها فمنع كما في حديث الموطأ وغيره.
والظاهر { من فوقكم أو من تحت أرجلكم } الحقيقة كالصواعق وكما أمطر على قوم لوط وأصحاب الفيل الحجارة وأرسل على قوم نوح الطوفان ، كقوله : { ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر } وكالزلازل ونبع الماء المهلك وكما خسف بقارون.
وقال السدي عن أبي مالك وابن جبير : الرجم والخسف.
وقال ابن عباس : { من فوقكم } ولاة الجور و { من تحت أرجلكم } سفلة السوء وخدمته.
وقيل : حبس المطر والنبات.
وقيل : { من فوقكم } خذلان السمع والبصر والآذان واللسان و { من تحت أرجلكم } خذلان الفرج والرجل إلى المعاصي؛ انتهى ، وهذا والذي قبله مجاز بعيد.
{ أو يلبسكم شيعاً } أي يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواء شتى كلّ فرقة منكم مشايعة لإمام ومعنى خلطهم انشاب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال كقول الشاعر :
وكتيبة لبستها بكتيبة . . .
حتى إذا التبست نفضت لها يدي
فتركتهم تقص الرماح ظهورهم . . .
ما بين منعفر وآخر مسند
قال ابن عباس ومجاهد : تثبت فيكم الأهواء المختلفة فتصيرون فرقاً.
وقيل : المعنى يقوي عدوكم حتى يخالطوكم.
وقرأ أبو عبد الله المدني { يلبسكم } بضمّ الياء من اللبس استعارة من اللباس فعلى فتح الياء يكون { شيعاً } حالاً.
وقيل : مصدر والعامل فيه { يلبسكم } من غير لفظه؛ انتهى.
ويحتاج في كونه مصدراً إلى نقل من اللغة وعلى ضم الياء يحتمل أن يكون التقدير أو يلبسكم الفتنة شيعاً ويكون { شيعاً } حالاً ، وحذف المفعول الثاني ويحتمل أن يكون المفعول الثاني شيعاً كان الناس يلبسهم بعضهم بعضاً كما قال الشاعر :
لبست أناساً فأفنيتهم . . .
وغادرت بعد أناس أناسا
وهي عبارة عن الخلطة والمعايشة.
{ ويذيق بعضكم بأس بعض } البأس الشدة من قتل وغيره والإذاقة والإنالة والإصابة هي من أقوى حواس الاختبار وكثر استعمالها في كلام العرب وفي القرآن قال تعالى : { ذوقوا مس سقر } وقال الشاعر :
أذقناهم كؤوس الموت صرفاً . . .
وذاقوا من أسنتنا كؤوسا
وقرأ الأعمش : ونذيق بالنون وهي نون عظمة الواحد وهي التفات فأيدته نسبة ذلك إلى الله على سبيل العظمة والقدرة القاهرة.

{ انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون } هذا استرجاع لهم ولفظة تعجب للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى إنا نسألك في مجيء الآيات أنواعاً رجاء أن يفقهوا ويفهموا عن الله تعالى ، لأن في اختلاف الآيات ما يقتضي الفهم إن غربت آية لم تعزب أخرى.
{ وكذب به قومك وهو الحق } قال السديّ : { به } عائد على القرآن الذي فيه جاء تصريف الآيات.
وقال الزمخشري : { به } راجع إلى العذاب وهو الحق أي لا بد أن ينزل بهم.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يعود على الوعيد الذي تضمنته الآية ونحا إليه الطبري.
وقيل : يعود على النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لقرب مخاطبته بعد ذلك بالكاف؛ انتهى.
وقرأ ابن أبي عبلة : وكذبت به قومك بالتاء ، كما قال : { كذبت قوم نوح } والظاهر أن قوله : { وهو الحق } جملة استئناف لا حال.
{ قل لست عليكم بوكيل } أي لست بقائم عليكم لإكراهكم على التوحيد.
وقيل : { بوكيل } بمسلط وقيل : لا أقدر على منعكم من التكذيب إجباراً إنما أنا منذر.
قال ابن عطية : وهذا كان قبل نزول الجهاد والأمر بالقتال ثم نسخ.
وقيل : لا نسخ في هذا إذ هو خبر والنسخ فيه متوجه لأن اللازم من اللفظ لست الآن وليس فيه أنه لا يكون في المستقبل.
{ لكل نبأ مستقر } أي لكل أجل شيء ينبأ به يعني من أنبائه بأنهم يعذبون وإبعادهم به وقت استقرار وحصول لا بد منه.
وقيل : لكل عمل جزاء وليس هذا بالظاهر.
وقال السدي : استقر نبأ القرآن بما كان يعدهم من العذاب يوم بدر.
وقال مقاتل : منه في الدنيا يوم بدر وفي الآخرة جهنم.
{ وسوف تعلمون } مبالغة في التهديد والوعيد فيجوز أن يكون تهديد بعذاب الآخرة ، ويجوز أن يكون تهديداً بالحرب وأخذهم بالإيمان على سبيل القهر والاستيلاء.
{ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه المؤمنون لأن علة النهي وهو سماع الخوض في آيات الله يشمله وإياهم.
وقيل : هو خاص بتوحيده لأن قيامه عنهم كان يشق عليهم وفراقه على مغاضبه والمؤمنون عندهم ليسوا كهو.
وقيل : خطاب للسامع والذين يخوضون المشركون أو اليهود أو أصحاب الأهواء ثلاثة أقوال ، و { رأيت } هنا بصرية ولذلك تعدت إلى واحد ولا بد من تقدير حال محذوفة أي { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا } وهم خائضون فيها أي وإذا رأيتهم ملتبسين بهذه الحالة.
وقيل : { رأيت } علمية لأن الخوض في الآيات ليس مما يدرك بحاسة البصر وهذا فيه بعد لأنه يلزم من ذلك حذف المفعول الثاني من باب علمت فيكون التقدير { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا } خائضين فيها وحذفه اقتصاراً لا يجوز وحذفه اختصاراً عزيز جداً حتى أن بعض النحويين منعه والخوض في الآيات كناية عن الاستهزاء بها والطعن فيها.

وكانت قريش في أنديتها تفعل ذلك { فأعرض عنهم } أي لا تجالسهم وقم عنهم وليس إعراضاً بالقلب وحده بينه { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم } وقد تقدم من قول المفسرين في هذه الآية أن قوله : وقد نزل عليكم في الكتاب : أن الذي نزل في الكتاب هو قوله : { وإذا رأيت الذين يخوضون } الآية و { حتى يخوضوا } غاية الإعراض عنهم أي فلا بأس أن تجالسهم والضمير في { غيره } قال الحوفي عائد إلى الخوض كما قال الشاعر :
إذ نهى السفيه جرى إليه . . .
وخالف والسفيه إلى خلاف
أي جرى إلى السفه.
وقال أبو البقاء : إنما ذكر الهاء لأنه أعادها على معنى الآيات ولأنها حديث وقول :
{ وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } أي إن شغلك بوسوسته حتى تنسى النهي عن مجالستهم فلا تقعد معهم بعد الذكرى أي ذكرك النهي.
قال الزمخشري : ويجوز أن يراد وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد الذكرى أي بعد إن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم؛ انتهى.
وهو خلاف ظاهر الشرط لأنه قد نهي عن القعود معهم قبل ثم عطف على الشرط السابق هذا الشرط فكله مستقبل وما أحسن مجيء الشرط الأول بإذا التي هي للمحقق لأن كونهم يخوضون في الآيات محقق ومجيء الشرط الثاني بأن لأن إن لغير المحقق وجاء { مع القوم الظالمين } تنبيهاً على علة الخوض في الآيات والطعن فيها وأن سبب ذلك ظلمهم وهو مجاوزة الحد ووضع الأشياء غير مواضعها.
قال ابن عطية : وأما شرط ويلزمها النون الثقيلة في الأغلب وقد لا تلزم كما قال الشاعر :
أما يصبك عدو في مناوأة . . .
إلى غير ذلك من الأمثلة؛ انتهى.
وهذه المسألة فيها خلاف ، ذهب بعض النحويين إلى أنها إذا زيدت بعد إن ما لزمت نون التوكيد ولا يجوز حذفها إلا ضرورة وذهب بعضهم إلى أنها لا تلزم وإنه يجوز في الكلام وتقييده الثقيلة ليس بجيد بل الصواب النون المؤكدة سواء كانت ثقيلة أم خفيفة وكأنه نظر إلى مواردها في القرآن وكونها لم تجيء فيها بعد أما إلا الثقيلة.
وقرأ ابن عامر { ينسينك } مشدّداً عداه بالتضعيف وعداه الجمهور بالهمزة.
وقال ابن عطية : وقد ذكر القراءتين إلا أن التشديد أكثر مبالغة؛ انتهى.
وليس كما ذكر لا فرق بين تضعيف التعدية والهمزة ومفعول { ينسينك } الثاني محذوف تقديره { وإما ينسينك الشيطان } نهينا إياك عن القعود معهم والذكرى مصدر ذكر جاء على فعلى وألفه للتأنيث ولم يجيء مصدر على فعلى غيره.

{ وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء } { الذين يتقون } هم المؤمنون والضمير في { حسابهم } عائد على المستهزئين الخائضين في الآيات.
وروي أن المؤمنين قالوا : لما نزلت { فلا تقعدوا معهم } لا يمكننا طواف ولا عبادة في الحرم فنزلت { وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء } فأبيح لهم قدر ما يحتاج إليه من التصرف بينهم في العبادة ونحوها ، والظاهر أن حكم الرسول موافق لحكم غيره لاندراجه في قوله : { وما على الذين يتقون } أمر هو صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم حتى إن عرض نسيان وذكر فلا تقعد معهم.
وقيل : للمتقين وهو رأسهم أي ما عليكم من حسابهم من شيء.
{ ولكن ذكرى } أي ولكن عليكم أن تذكروهم ذكرى إذا سمعتموهم يخوضون بأن تقوموا عنهم وتظهروا كراهة فعلهم وتعظوهم.
{ لعلهم يتقون } أي لعلهم يجتنبون الخوض في الآيات حياء منكم ورغبة في مجالستكم قاله مقاتل ، أو { لعلهم يتقون } الوعيد بتذكيركم إياهم.
وقيل : المعنى لا تقعدوا معهم ولا تقربوهم حتى لا تسمعوا استهزاءهم وخوضهم ، وليس نهيكم عن القعود لأن عليكم شيئاً من حسابهم وإنما هو ذكرى لكم لعلكم تتقون أي تثبتون على تقواكم وتزدادونها ، فالضمير في { لعلهم } عائد على { الذين يتقون } ومن قال الخطاب في { وإذا رأيت } خاص بالرسول قال { الذين يتقون } للمؤمنين دونه ومعناها الإباحة لهم دونه كأنه قال : يا محمد لا تقعد معهم وأما المؤمنون فلا شيء عليهم من حسابهم فإن قعدوا فليذكروهم { لعلهم يتقون } الله في ترك ما هم عليه.
وقال هذا القائل : هذه الإباحة التي اقتضتها هذه الآية نسختها آية النساء وذكرى يحتمل أن تكون في موضع نصب أي ولكن تذكرونهم ، ومن قال الإباحة كانت بسبب العبادات قال نسخ ذلك آية النساء أو ذكروهم وفي موضع رفع أي ولكن عليهم ذكرى وقدّره بعضهم ولكن هو ذكري أي الواجب ذكري.
وقيل : هذا ذكرى أي النهي ذكرى.
قال الزمخشري : ولا يجوز أن يكون عطفاً على محل من شيء كقولك : ما في الدار من أحد ولكن زيد لأن قوله : { من حسابهم } يأبى ذلك؛ انتهى.
كأنه تخيل أن في العطف يلزم القيد الذي في المعطوف عليه وهو من حسابهم لأنه قيد في شيء فلا يجوز عنده أن يكون من عطف المفردات عطفاً على { من شيء } على الموضع لأنه يصير التقدير عنده و { لكن ذكرى } من حسابهم وليس المعنى على هذا وهذا الذي تخيله ليس بشيء لا يلزم في العطف بولكن ما ذكر تقول : ما عندنا رجل سوء ولكن رجل صدق وما عندنا رجل من تميم ولكن رجل من قريش ، وما قام من رجل عالم ولكن رجل جاهل فعلى هذا الذي قررناه يجوز أن يكون من قبيل عطف الجمل كما تقدم ، ويجوز أن يكون من عطف المفردات والعطف إنما هو للواو ودخلت { لكن } للاستدراك.

قال ابن عطية : وينبغي للمؤمن أن يمتثل حكم هذه الآية مع الملحدين وأهل الجدل والخوض فيه.
وحكى الطبري عن أبي جعفر أنه قال : لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله تعالى.
{ وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً } هذا أمر بتركهم وكان ذلك لقلة أتباع الإسلام حينئذ.
قال قتادة : ثم نسخ ذلك وما جرى مجراه بالقتال.
وقال مجاهد : إنما هو أمر تهديد ووعيد كقوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيداً } ولا نسخ فيها لأنها متضمنة خبراً وهو التهديد ودينهم ما كانوا عليه من البحائر والسوائب والجوامي والوصائل وعبادة الأصنام والطواف حول البيت عراة يصفرون ويصفقون أو الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام { لعباً ولهواً } حيث سخروا به واستهزؤوا ، أو عبادتهم لأنهم كانوا مستغرقين في اللهو واللعب وشرب الخمر والعزف والرقص لم تكن لهم عبادة إلا ذلك أقوال ثلاثة وانتصب { لعباً ولهواً } على المفعول الثاني لاتخذوا.
وقال أبو عبد الله الرازي : الأقرب أن المحقق في { الدّين } هو الذي ينصر الدّين لأجل أنه قام الدليل على أنه حق وصدق وصواب ، وأما الذين ينصرونه ليتوسلوا به إلى أخذ المناصب والرئاسة وغلبة الخصم وجمع الأموال فهم نصروا الدّين للدنيا وقد حكم الله على الدّنيا في سائر الآيات بأنها لعب ولهو ، فالآية إشارة إلى من يتوسل بدينه إلى دنياه وأكثر الخلق موصوفون بهذه الصفة؛ انتهى ، وفيه بعض تلخيص وظاهر تفسيره يقتضي أن { اتخذوا } هنا متعدّية إلى واحد وأن انتصاب { لعباً ولهواً } على المفعول من أجله فيصير المعنى اكتسبوا دينهم وعملوه وأظهروا اللعب واللهو أي للدّنيا واكتسابها ويظهر من بعض كلام الزمخشري وابن عطية أن { لعباً ولهواً } هو المفعول الأول لاتخذوا و { دينهم } هو المفعول الثاني.
قال الزمخشري : أي دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به { لعباً ولهواً } وذلك أن عبادتهم وما كانوا عليه من تحريم البحائر والسوائب وغير ذلك من باب اللعب واتباع هوى النفس والعمل بالشهوة ، ومن جنس الهزل دون الجدّ واتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها ديناً لهم واتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه هو دين الإسلام { لعباً ولهواً } حيث سخروا به واستهزؤوا؛ انتهى.
فظاهر تقديره الثاني هو ما ذكرناه عنه.
وقال ابن عطية : وأضاف الدين إليهم على معنى أنهم جعلوا اللهو واللعب ديناً ويحتمل أن يكون المعنى { اتخذوا دينهم } الذي كان ينبغي لهم { لعباً ولهواً } ؛ انتهى.
فتفسيره الأول هو ما ذكرناه عنه.
قال الزمخشري : وقيل : جعل الله لكل قوم عيداً يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله والناس كلهم من المشركين ، وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم { لعباً ولهواً } غير المسلمين فإنهم اتخذوا دينهم عيدهم كما شرعه الله ومعنى ذرهم أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تشغل قلبك بهم؛ انتهى.

{ وغرّتهم الحياة الدنيا } يحتمل أن يكون معطوفاً على الصلة وأن يكون استئناف إخبار أي خدعتهم الغرور وهي الأطماع فيما لا يتحصل فاغتروا بنعم الله ورزقه وإمهاله إياهم.
وقيل : غرّتهم بتكذيبهم بالبعث.
وقال أبو عبد الله الرازي : لأجل استيلاء حب الدنيا أعرضوا عن حقيقة الدين واقتصروا على تزيين الظواهر ليتوصلوا بها إلى حطام الدنيا؛ انتهى.
وقيل : { غرتهم } من الغرّ بفتح الغين أي ملأت أفواههم وأشبعتهم.
ومنه قول الشاعر :
ولما التقينا بالحليبة غرّني . . .
بمعروفه حتى خرجت أفوق
ومنه غر الطائر فرخه.
{ وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت } الضمير في { به } عائد على القرآن أو على { الذين } أو على { حسابهم } ثلاثة أقوال : أولاها الأوّل كقوله : { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } و { تبسل } ، قال ابن عباس : تفضح.
وقال الحسن وعكرمة : تسلم.
وقال قتادة : تحبس وترتهن.
وقال الكلبي وابن زيد والأخفش : تجزي.
وقال الضحاك : تحرق.
وقال ابن زيد أيضاً : يؤخذ.
وقال مؤرخ : تعذب.
وقيل يحرم عليها النجاة ودخول الجنة.
وقال أبو بكر : استحسن بعض شيوخنا قول من قال : تسلم بعملها لا تقدر على التخلص لأنه يقال : استبسل للموت أي رأى ما لا يقدر على دفعه واتفقوا على أن { تبسل } في موضع المفعول من أجله وقدروا كراهة { أن تبسل } ومخافة { أن تبسل } ولئلا { تبسل } ويجوز عندي أن يكون في موضع جر على البدل من الضمير ، والضمير مفسر بالبدل وأضمر الإبسال لما في الإضمار من التفخيم كما أضمر الأمر والشأن وفسر بالبدل وهو الإبسال فالتقدير وذكر بارتهان النفوس وحبسها بما كسبت كما قالوا : اللهم صل عليه الرؤوف الرحيم وقد أجاز ذلك سيبويه قال : فإن قلت ضربت وضربوني قومك نصبت إلا في قول من قال : أكلوني البراغيث أو يحمله على البدل من المضمر وقال أيضاً : فإن قلت ضربني وضربتهم قومك رفعت على التقديم والتأخير إلا أن تجعل هاهنا البدل كما جعلته في الرفع؛ وقد روي قوله :
تنخل فاستاكت به عود أسحل . . .
بجر عود على أنه بدل من الضمير والمعنى { أن تبسل } نفس تاركة للإيمان بما كسبت من الكفر أو بكسبها السيئ.
{ ليس لها من دون الله } أي من دون عذاب الله.
{ ولي } فينصرها.
{ ولا شفيع } فيدفع عنها بمسألته وهذه الجملة صفة أو حال أو مستأنفة إخبار وهو الأظهر و { من } لابتداء الغاية.
وقال ابن عطية : ويجوز أن تكون زائدة؛ انتهى ، وهو ضعيف.
{ وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها } أي وإن تفد كل فداء والعدل الفدية لأن الفادي يعدل الفداء بمثله ، ونقل عن أبي عبيدة أن المعنى بالعدل هنا ضدّ الجور وهو القسط أي وإن تقسط كل قسط بالتوحيد والانقياد بعد العناد وضعف هذا القول الطبري بالإجماع على أن توبة الكافر مقبولة ، ولا يلزم هذا لأنه إخبار عن حالة يوم القيامة وهي حال معاينة وإلجاء لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ، قالوا : وانتصب { كل عدل } على المصدر ويؤخذ الضمير فيه عائد على المعدول به المفهوم من سياق الكلام ولا يعود على المصدر لأنه لا يسند إليه الأخذ وأما في { لا يؤخذ منها } عدل فمعنى المفدى به فيصح إسناده إليه ويجوز أن ينتصب كل عدل على المفعول به أي { وإن تعدل } بذاتها { كل } أي كل ما تفدى به { لا يؤخذ منها } ويكون الضمير على هذا عائداً على { كل عدل } وهذه الجملة الشرطية على سبيل الفرض والتقدير لا على سبيل إمكان وقوعها.

{ أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا } الظاهر أنه يعود على الذين اتخذوا } وقاله الحوفي وتبعه الزمخشري.
وقال ابن عطية : { أولئك } إشارة إلى الجنس المدلول عليه بقوله : { أن تبسل نفس }.
{ لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } الأظهر أنها جملة استئناف إخبار ويحتمل أن تكون حالاً وشراب فعال بمعنى مفعول كطعام بمعنى مطعوم ولا ينقاس فعال بمعنى مفعول ، لا يقال : ضراب ولا قتال بمعنى مضروب ولا مقتول.
{ قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله } أي من دون الله النافع الضار المبدع للأشياء القادر ما لا يقدر على أن ينفع ولا يضر إذ هي أصنام خشب وحجارة وغير ذلك { ونرد } إلى الشرك { على أعقابنا } أي رد القهقرى إلى وراء وهي المشية الدنية بعد هداية الله إيانا إلى طريق الحق وإلى المشية السجح الرفيعة { ونرد } معطوف على { أندعو } أي أيكون هذا وهذا استفهام بمعنى الإنكار أي لا يقع شيء من هذا وجوز أبو البقاء أن تكون الواو فيه للحال أي ونحن نرد أي أيكون هذا الأمر في هذه الحال وهذا فيه ضعف لإضمار المبتدأ ولأنها تكون حالاً مؤكدة ، واستعمل المثل بها فيمن رجع من خير إلى شر.
قال الطبري وغيره : الردّ على العقب يستعمل فيمن أمّل أمراً فخاب.
{ كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا } قال الزمخشري : { كالذي } ذهب به مردة الجن والغيلان في الأرض في المهمة حيران تائهاً ضالاً عن الجادة لا يدري كيف يصنع له أي لهذا المستهوي أصحاب رفقة يدعونه إلى الهدى أي إلى أن يهدوه الطريق المستوي ، أو سمي الطريق المستقيم بالهدى يقولون له : { ائتنا } وقد اعتسف المهمة تابعاً للجن لا يجيبهم ولا يأتيهم وهذا مبني على ما تزعمه العرب وتعتقده من أن الجنّ تستهوي الإنسان والغيلان تستولي عليه كقوله : { كالذي يتخبطه الشيطان } فشبه به الضال عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم؛ انتهى.
وأصل كلامه مأخوذ من قول ابن عباس ولكنه طوله وجوده.

قال ابن عباس : مثل عابد الصنم مثل من دعاه الغول فيتبعه فيصبح وقد ألقته في مهمة ومهلكة فهو حائر في تلك المهامة وحمل الزمخشري { استهوته } على أنه من الهوى الذي هو المودة والميل كأنه قيل كالذي أمالته الشياطين عن الطريق الواضح إلى المهمة القفر وحمله غيره كأبي علي على أنه من الهوي أي ألقته في هوة ، ويكون استفعل بمعنى افعل نحو استزل وأزل تقول العرب : هوى الرجل وأهواه غيره واستهواه طلب منه أن يهوى هوى ويهوى شيئاً والهوي السقوط من علو إلى سفل.
قال الشاعر :
هوى ابني من ذرى شرف . . .
فزلت رجله ويده
ويستعمل الهوى أيضاً في ركوب الرأس في النزوع إلى الشيء ومنه { واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم } وقال :
تهوي إلى مكة تبغي الهدى . . .
ما مؤمنوا الجن ككفارها
وقال أبو عبد الله الرازي : هذا المثل في غاية الحسن وذلك أن الذي يهوي من المكان العالي إلى الوهدة العميقة يهوي إليها مع الاستدارة على نفسه ، لأن الحجر كان حال نزوله من الأعلى إلى الأسفل ينزل على الاستدارة وذلك يوجب كمال التردد والتحير ، فعند نزوله من الأعلى إلى الأسفل لا يعرف أنه يسقط على موضع يزداد بلاؤه بسبب سقوطه عليه أو يقل ، ولا تجد للحائر الخائف أكمل ولا أحسن من هذا المثل؛ انتهى.
وهو كلام تكثير لا طائل تحته وجعل الزمخشري قوله : { له أصحاب } أي له رفقة وجعل مقابلهم في صورة التشبيه المسلمين يدعونه إلى الهدى فلا يلتفت إليهم وهو تأويل ابن عباس ومجاهد ، وجعلهم غيره { له أصحاب } من الشياطين الدعاة أو لا يدعونه إلى الهدى بزعمهم وبما يوهمونه فشبه بالأصحاب هنا الكفرة الذين يثبتون من ارتد عن الإسلام على الارتداد.
وروي هذا التأويل عن ابن عباس أيضاً وحكى مكي وغيره أن المراد بالذي استهوته الشياطين هو عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وبالأصحاب أبوه وأمه ، وذكر أهل السير أنه فيه نزلت هذه الآية دعا أياه أبا بكر إلى عبادة الأوثان وكان أكبر ولد أبي بكر وشقيق عائشة أمهما أم رومان بنت الحارث بن غنم الكنانية وشهد بدراً وأحداً مع قومه كافراً ودعا إلى البراز فقام إليه أبوه أبو بكر رضي الله عنه ليبارزه فذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : « متعني بنفسك » ثم أسلم وحسن إسلامه وصحب الرسول عليه السلام في هدنة الحديبية وكان اسمه عبد الكعبة فسماه الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن ، وفي الصحيح أن عائشة سمعت قول من قال : إن قوله : { والذي قال لوالديه أف لكما } أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر فقالت : كذبوا والله ما نزل فينا من القرآن شيء إلا براءتي.
قال الزمخشري ( فإن قلت ) : إذا كان هذا وارداً في شأن أبي بكر فكيف قيل للرسول : { قل أندعو }.

قلت : للاتحاد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وخصوصاً بينه وبن الصديق رضي الله عنه؛ انتهى.
وهذا السؤال إنما يرد إذا صح أنها نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن ولن يصح ، وموضع { كالذي } نصب قيل : على أنه نعت لمصدر محذوف أي رداً مثل رد الذي والأحسن أن يكون حالاً أي كائنين كالذي والذي ظاهره أنه مفرد ويجوز أن يراد به معنى الجمع أي كالفريق الذي وقرأ حمزة استهواه بألف ممالة.
وقرأ السلمي والأعمش وطلحة : { استهوته } الشيطان بالتاء وأفراد الشيطان.
وقال الكسائي : أنها كذلك في مصحف ابن مسعود؛ انتهى.
والذي نقلوا لنا القراءة عن ابن مسعود إنما نقلوه الشياطين جمعاً.
وقرأ الحسن : الشياطون وتقدم نظيره وقد لحن في ذلك.
وقد قيل : هو شاذ قبيح وظاهر قوله { في الأرض } أن يكون متعلقاً باستهوته.
وقيل : حال من مفعول { استهوته } أي كائناً في الأرض.
وقيل : من { حيران }.
وقيل : من ضمير { حيران } و { حيران } لا ينصرف ومؤنثه حيرى و { حيران } حال من مفعول { استهوته }.
وقيل : حال من الذي والعامل فيه الرد المقدر والجملة من قوله { له أصحاب } حالية أو صفة لحيران أو مستأنفة و { إلى الهدى } متعلق بيدعونه وأتنا من الإتيان.
وفي مصحف عبد الله أتينا فعلاً ماضياً لا أمراً فإلى الهدى متعلق به.
{ قل إن هدى الله هو الهدى } من قال : { إن له أصحاب } يعني به الشياطين وإن قوله { إلى الهدى } بزعمهم كانت هذه الجملة رداً عليهم أي ليس ما زعمتم هدى بل هو كفر وإنما الهدى هدى الله وهو الإيمان ومن قال : إن قوله { أصحاب } مثل للمؤمنين الداعين إلى الهدى الذي هو الإيمان ، كانت إخباراً بأن الهدى هدى الله من شاء لا إنه يلزم من دعائهم إلى الهدى وقوع الهداية بل ذلك بيد الله من هداه اهتدى.
{ وأمرنا لنسلم لرب العالمين } الظاهر أن اللام لام كي ومفعول { أمرنا } الثاني محذوف وقدروه { وأمرنا } بالإخلاص لكي ننقاد ونستسلم { لرب العالمين } والجملة داخلة في المقول معطوفة على { إن هدى الله هو الهدى }.
وقال الزمخشري : هو تعليل للأمر فمعنى { أمرنا } قيل لنا : اسلموا لأجل أن نسلم.
وقال ابن عطية : ومذهب سيبويه أن { لنسلم } في موضع المفعول وإن قولك : أمرت لأقوم وأمرت أن أقوم يجريان سواء ومثله قول الشاعر :
أريد لأنسى ذكرها فكأنما . . .
تمثل لي ليلى بكل سبيل
إلى غير ذلك من الأمثلة؛ انتهى.
فعلى ظاهر كلامه تكون اللام زائدة وكون أن نسلم هو متعلق { أمرنا } على جهة أنه مفعول ثان بعد إسقاط حرف الجر.
وقيل : اللام بمعنى الباء كأنه قيل { وأمرنا } بأن نسلم ومجيء اللام بمعنى الباء قول غريب ، وما ذكره ابن عطية عن سيبويه ليس كما ذكر بل ذلك مذهب الكسائي والفراء زعما أن لام كي تقع في موضع أن في أردت وأمرت ، قال تعالى :

{ يريد الله ليبين لكم } { يريدون ليطفئوا } أي أن يطفئوا { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس } أريد لأنسى ذكرها ورد ذلك عليهما أبو إسحاق ، وذهب سيبويه وأصحابه إلى أن اللام هنا تتعلق بمحذوف وأن الفعل قبلها يراد به المصدر والمعنى الإرادة للبيان والأمر للإسلام فهما مبتدأ وخبر فتحصل في هذه اللام أقوال : أحدها أنها زائدة ، والثاني أنها بمعنى كي للتعليل إما لنفس الفعل وإما لنفس المصدر المسبوك من الفعل ، والثالث أنها لام كي أجريت مجرى أن ، والرابع أنها بمعنى الباء وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتاب التكميل وجاء { لرب العالمين } تنبيهاً على أنه مالك العالم كله معبودهم من الأصنام وغيرها.
{ وأن أقيموا الصلاة واتقوه } أن هنا مصدرية واختلف في ما عطف عليه ، قال الزجاج هو معطوف على قوله : لنسلم تقديره لأن نسلم و { أن أقيموا }.
قال ابن عطية : واللفظ يمانعه لأنّ { نسلم } معرب و { أقيموا } مبني وعطف المبني على المعرب لا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك في العامل انتهى ، وما ذكره من أنه لا يعطف المبني على المعرب وأنّ ذلك لا يجوز ليس كما ذكر ، بل ذلك جائز نحو قام زيد وهذا ، وقال تعالى : { يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار } غاية ما في هذا أن العامل إذا وجد المعرب أثر فيه وإذا وجد المبني لم يؤثر فيه ويجوز إن قام زيد ويقصدني أحسن إليه ، بجزم يقصدني فإنْ لم تؤثر في قام لأنه مبني وأثرت في يقصدني لأنه معرب ، ثم قال ابن عطية : اللهم إلا أن يجعل العطف في إن وحدها وذلك قلق وإنما يتخرج على أن يقدر قوله : { أن أقيموا } بمعنى وليقم ثم خرجت بلفظ الأمر لما في ذلك من جزالة اللفظ فجاز العطف على أن نلغي حكم اللفظ ونعوّل على المعنى ، ويشبه هذا من جهة ما حكاه يونس عن العرب : أدخلوا الأول فالأول وإلا فليس يجوز إلا ادخلوا الأول فالأول بالنصب انتهى ، وهذا الذي استدركه ابن عطية بقوله اللهم إلا أن إلى آخره هو الذي أراده الزجاج بعينه وهو أنّ { أن أقيموا } معطوف على أن نسلم وأنّ كلاهما علة للمأمور به المحذوف وإنما قلق عند ابن عطية لأنه أراد بقاء { أن أقيموا } على معناها من موضوع الأمر وليس كذلك لأن أن إذا دخلت على فعل الأمر وكانت المصدرية انسبك منها ومن الأمر مصدر ، وإذا انسبك منهما مصدر زال منها معنى الأمر ، وقد أجاز النحويون سيبويه وغيره أن توصل أن المصدرية الناصبة للمضارع بالماضي وبالأمر ، قال سيبويه : وتقول : كتبت إليه بأن قم ، أي بالقيام فإذا كان الحكم كذا كان قوله : { لنسلم } { وأن أقيموا } في تقدير للإسلام ، ولإقامة الصلاة وأما تشبيه ابن عطية بقوله : ادخلوا الأول فالأول بالرفع فليس يشبهه لأن ادخلوا لا يمكن لو أزيل عنه الضمير أن يتسلط على ما بعده ، بخلاف أن فإنها توصل بالأمر فإذاً لا شبه بينهما.

وقال الزمخشري ( فإن قلت ) : على عطف قوله : { وأن أقيموا } ( قلت ) : على موضع { لنسلم } كأنه قيل وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا انتهى وظاهر هذا التقدير أنّ { أنْ نسلم } في موضع المفعول الثاني لقوله : { وأمرنا } وعطف عليه { وأن أقيموا } فتكون اللام على هذا زائدة ، وكان قد قدّم قبل هذا أن اللام تعليل للأمر فتناقض كلامه لأن ما يكون علة يستحيل أن يكون مفعولاً ويدل على أنه أراد بقوله { أن نسلم } أنه في موضع المفعول الثاني قوله بعد ذلك ، ويجوز أن يكون التقدير وأمرنا لأن نسلم ولأن أقيموا أي للإسلام ولإقامة الصلاة انتهى ، وهذا قول الزجاج فلو لم يكن هذا القول مغايراً لقوله الأول : لاتحد قولاه وذلك خلف ، وقال الزجاج : ويحتمل أن يكون { وأن أقيموا } معطوفاً على { أتنا }.
وقيل : معطوف على قوله : { إن هدى الله هو الهدى } والتقدير قل أن أقيموا وهذان القولان ضعيفان جدًّا ، ولا يقتضيهما نظم الكلام ، قال ابن عطية : يتجه أن يكون بتأويل وإقامة فهو عطف على المفعول المقدّر في أمرنا؛ انتهى.
وكان قد قدّر : وأمرنا بالإخلاص أو بالإيمان لأن نسلم وهذا قول لا بأس به وهو أقرب من القولين قبلة إذ لا بد من تقدير المفعول الثاني لأمرنا ويجوز حذف المعطوف عليه لفهم المعنى تقول : أضربت زيداً فتجيب نعم وعمراً التقدير ضربته وعمراً وقد أجاز الفراء جاءني الذي وزيد قائمان التقدير جاءني الذي هو وزيد قائمان فحذف هو لدلالة المعنى عليه والضمير المنصوب في { واتقوا } عائد على رب العالمين.
{ وهو الذي إليه تحشرون } جملة خبرية تتضمن التنبيه والتخويف لمن ترك امتثال ما أمر به من الإسلام والصلاة واتقاء الله ، وإنما تظهر ثمرات فعل هذه الأعمال وحسرات تركها يوم الحشر والقيامة.
{ وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق } لما ذكر تعالى أنه إلى جزائه يحشر العالم وهو منتهى ما يؤول إليه أمرهم ذكر مبتدأ وجود العالم واختراعه له بالحق أي بما هو حق لا عبث فيه ولا هو باطل أي لم يخلقهما باطلاً ولا عبثاً بل صدرا عن حكمة وصواب وليستدل بهما على وجود الصانع إذ هذه المخلوقات العظيمة الظاهر عليها سمات الحدوث لا بد لها من محدث واحد عالم قادر مريد سبحانه وعلا.
وقيل : معنى { بالحق } بكلامه في قوله للمخلوقات { كن } وفي قوله : { ائتيا طوعاً أو كرهاً } والمراد في هذا ونحوه إنما هو إظهار انفعال ما يريد تعالى أن يفعله وإبرازه للوجود بسرعة وتنزيله منزلة ما يؤمر فيمتثل.
{ ويوم يقول كن فيكون قوله الحق } جوزوا في { يوم } أن يكون معمولاً لمفعول فعل محذوف وقدروه واذكر الإعادة يوم يقول : كن أي يوم يقول للأجساد كن معادة ويتم الكلام عند قوله : { كن } ، ثم أخبر بأنه يكون قوله الحق الذي كان في الدنيا إخباراً بالإعادة فيكون قوله فاعلاً بفيكون أو يتم الكلام عند قوله : { كن فيكون } ويكون { قوله الحق } مبتدأ وخبراً.

وقال الزجاج { يوم يقول } معطوف على الضمير من قوله { واتقوه } أي واتقوا عقابه والشدائد ويوم فيكون انتصابه على أنه مفعول به لا ظرف.
وقيل : { ويوم } معطوف على السموات والأرض } والعامل فيه خلق ، وقيل : العامل اذكر أو معطوفاً على قوله { بالحق } إذ هو في موضع نصب ويكون { يِقُول } بمعنى الماضي كأنه قال وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم قال لها كن ويتم الكلام عند قوله { فيكون } ، ويكون { قوله الحق } مبتدأً وخبراً أو يتم عند { كن } ويبتدىء { فيكون قوله الحق } أي يظهر ما يظهر وفاعل يكون { قوله } و { الحق } صفة و { يكون } تامة وهذه الأعاريب كلها بعيدة ينبو عنها التركيب وأقرب ما قيل ما قاله الزمخشري وهو أن { قوله الحق } مبتدأ { والحق } صفة له و { يوم يقول } خبر المبتدأ فيتعلق بمسْتقر كما تقول يوم الجمعة القتال واليوم بمعنى الحين والمعنى أنه خلق السموات والأرض قائماً بالحق والحكمة وحين يقول للشيء من الأشياء كن فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة أي لا يكون شيء من السموات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب ، وجوز الزمخشري وجهاً آخر وهو أن يكون { قوله الحق } فاعلاً بقوله { فيكون } فانتصاب { يوم } بمحذوف دل عليه قوله { بالحق } كأنه قيل : كن يوم بالحق وهذا إعراب متكلف.
{ وله الملك يوم ينفخ في الصور } قيل { يوم } بدل من قوله { ويوم يقول } ، وقيل : منصوب بالملك وتخصيصه بذلك اليوم كتخصيصه بقوله : { لمن الملك اليوم } وبقوله : { والأمر يومئذ لله } وفائدته الإخبار بانفراده بالملك حين لا يمكن أن يدعي فيه ملك ، وقيل هو في موضع نصب على الحال وذو الحال الملك والعامل له ، وقيل هو في موضع الخبر لقوله : { قوله الحق } أي يوم ينفخ في الصور ، وقيل ظرف لقوله { تحشرون } أو ليقول أو لعالم الغيب والشهادة.
وقرأ الحسن { في الصور } وحكاها عمرو بن عبيد عن عياض ويؤيد تأويل من تأوله أن الصور جمع صورة كثومة وثوم والظاهر أن ثم نفخاً حقيقة ، وقيل : هو عبارة عن قيام الساعة ونفاد الدنيا واستعارة.
وروي عن عبد الوارث عن أبي عمرو ننفخ بنون العظمة.
{ عالم الغيب والشهادة } أي هو عالم أو مبتدأ على تقدير من النافخ أو فاعل بيقول أو بينفخ محذوفة يدل عليه ينفخ نحو رجال بعد قوله : { يسبح } بفتح الباء وشركاؤهم بعد { زين } مبنياً للمفعول ورفع قتل ونحو ضارع لخصومة بعد ليبكِ يزيد التقدير يسبح له رجال وزينه شركاؤهم ويبكيه ضارع أو نعت للذي أقوال أجودها الأول والغيب والشهادة يعمان جميع الموجودات ، وقرأ الأعمش { عالم } بالخفض ووجه على أنه بدل من الضمير في له أو من رب العالمين أو نعت للضمير في { له } ، والأجود الأول لبعد المبدل منه في الثاني وكون الضمير الغائب يوصف وليس مذهب الجمهور إنما أجازه الكسائي وحده.
{ وهو الحكيم الخبير } لما ذكر خلق الخلق وسرعة إيجاده لما يشاء وتضمن البعث إفناءهم قبل ذلك ناسب ذكر الوصف بالحكيم ولما ذكر أنه عالم الغيب والشهادة ناسب ذكر الوصف بالخبير إذ هي صفة تدل على علم ما لطف إدراكه من الأشياء.

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)

{ آزر } اسم أعجمي علم ممنوع الصرف للعلمية والعجمة الشخصية.
الصنم الوثن يقال إنه معرب شمر والصنم : خبث الرائحة والصنم : العبد القوي وصنم صور وصوّر بنو فلان نوقهم اعزروها.
جن عليه الليل وأجن أظلم هذا تفسير المعنى وهو بمعنى ستر متعدياً ، قال الشاعر :
وماء وردت قبيل الكرى . . .
وقد جنه السدف الأدهم
والاختيار جن الليل وأجنه ومصدر جن جنون وجنان وجن الكوكب والكوكبة النجم وهو مشترك بين معان كثيرة ويقال كوكب توقد ، وقال الصاغاني : حق لفظ كوكب أن يذكر في تركيب و ك ب عند حذاق النحويين فإنها صدرت بكاف زائدة عندهم إلا أن الجوهري أوردها في تركيب ك و ك ب ولعله تبع فيه الليث فإنه ذكره في الرباعي ذاهباً إلى أن الواو أصلية انتهى.
وليت شعري من حذاق النحويين الذين تكون الكاف عندهم من حروف الزيادة فضلاً عن زيادتها في أول كلمة ، فأما قولهم هندي وهندكي في معنى واحد وهو المنسوب إلى الهند قال الشاعر :
ومقرونة دهم وكمت كأنها . . .
طماطم يوفون الوفاز هنادك
فخرجه أصحابنا على أن الكاف ليست زائدة لأنه لم تثبت زيادتها في موضع من المواضع فيحمل هذا عليه وإنما هو من باب سبط وسبطر ، والذي أخرجه عليه أن من تكلم بهذا من العرب إن كان تكلم به فإنما سرى إليه من لغة الحبش لقرب العرب من الحبش ودخول كثير من لغة بعضهم في لغة بعض ، والحبشة إذا نسبت ألحقت آخر ما تنسب إليه كافاً مكسورة مشوبة بعدها ياء يقولون في النسب إلى قندي قندكي وإلى شواء : شوكي وإلى الفرس : الفرسكي وربما أبدلت تاء مكسورة قالوا في النسب إلى جبري : جبرتي ، وقد تكلمت على كيفية نسبة الحبش في كتابنا المترجم عن هذه اللغة المسمى بجلاء الغبش عن لسان الحبش ، وكثيراً ما تتوافق اللغتان لغة العرب ولغة الحبش في ألفاظ وفي قواعد من التراكيب نحوية كحروف المضارعة وتاء التأنيث وهمزة التعدية.
أفل يأفل أفولاً غاب.
وقيل : ذهب وهذا اختلاف في عبارة.
وقال ذو الرمة :
مصابيح ليست باللواتي يقودها . . .
نجوم ولا بالآفلات الدوالك
القمر معروف يسمى بذلك لبياضه والأقمر الأبيض وليلة قمراء مضيئة قاله ابن قتيبة.
البزوغ أول الطلوع بزغ يبزغ.
اقتدى به اتبعه وجعله قدوة له أي متبعاً.
الغمرة الشدة المذهلة وأصلها في غمرة الماء وهي ما يغطي الشيء.
قال الشاعر :
ولا ينجي من الغمرات إلا . . .
براكاء القتال أو الفرار
ويجمع على فعل كنوبة ونوب قال الشاعر :
وحان لتالك الغمر انحسار . . .
فرادى : الألف فيه للتأنيث ومعناها فرداً فرداً ، ويقال فيه فراد منوناً على وزن فعال وهي لغة تميم وفراد غير مصروف كآحاد وثلاث وحكاه أبو معاذ ، قال أبو البقاء : من صرفه جعله جمعاً مثل تؤام ورخال وهو جمع قليل ، قيل : وفرادى جمع فرد بفتح الراء.

وقيل : بسكونها ، قال الشاعر :
يرى النعرات الزرق تحت لبانه . . .
فرادى ومثنى أصعقتها صواهله
وقيل : جمع فريد كرديف وردافى ويقال رجل أفرد وامرأة فردى إذا لم يكن لها أخ وفرد الرجل يفرد فروداً إذا انفرد فهو فارد.
خوله : أعطاه وملكه وأصله تمليك الخول كما تقول مولته ملكته المال.
البين : الفراق.
قيل : وينطلق على الوصل فيكون مشتركاً.
قال الشاعر :
فوالله لولا البين لم يكن الهوى . . .
ولولا الهوى ما حن للبين آلفه
{ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلة إني أراك وقومك في ضلال مبين }.
لما ذكر قوله تعالى : { قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا } ناسب ذكر هذه الآية هنا وكان التذكار بقصة ابراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه أنسب لرجوع العرب إليه إذ هو جدّهم الأعلى فذكروا بأن إنكار هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم عليكم عبادة الأصنام هو مثل إنكار جدّكم ابراهيم على أبيه وقومه عبادتها وفي ذلك التنبيه على اقتفاء من سلف من صالحي الآباء والأجداد وهم وسائر الطوائف معظمون لإبراهيم عليه السلام ، والظاهر أن آزر اسم أبيه قاله ابن عباس والحسن والسدّي وابن إسحاق وغيرهم ، وفي كتب التواريخ أن اسمه بالسريانية تارخ والأقرب أن وزنه فاعل مثل تارخ وعابر ولازب وشالح وفالغ وعلى هذا يكون له اسمان كيعقوب وإسرائيل وهو عطف بيان أو بدل ، وقال مجاهد : هو اسم صنم فيكون أطلق على أبي إبراهيم لملازمته عبادته كما أطلق على عبيد الله بن قيس الرقيات لحبه نساء اسم كل واحدة منهنّ رقية.
فقيل ابن قيس الرقيات ، وكما قال بعض المحدّثين :
أدعى بأسماء تترى في قبائلها . . .
كأن أسماء أضحت بعض أسمائي
ويكون إذ ذاك عطف بيان أو يكون على حذف مضاف أي عابد آزر حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أو يكون منصوباً بفعل مضمر أي تتخذ آزر ، وقيل : إن آزر عم ابراهيم وليس اسم أبيه وهو قول الشيعة يزعمون أن آباء الأنبياء لا يكونون كفاراً وظواهر القرآن ترد عليهم ولا سيما محاورة ابراهيم مع أبيه في غير ما آية ، وقال مقاتل : هو لقب لأبي ابراهيم وليس اسماً له وامتنع آزر من الصرف للعلمية والعجمة ، وقيل هو صفة ، قال الفراء بمعنى المعوجّ.
وقال الزجاج : بمعنى المخطىء ، وقال الضحاك : الشيخ الهمّ بالفارسية ، وإذا كان صفة أشكل منع صرفه ووصف المعرفة به وهو نكرة ووجهه الزجاج بأن تزاد فيه أل وينصب على الذمّ كأنه قيل : أذمّ المخطىء ، وقيل : انتصب على الحال وهو في حال عوج أو خطأ ، وقرأ الجمهور { آزر } بفتح الراء وأبيّ وابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم بضم الراء على النداء وكونه علماً ولا يصح أن يكون صفة لحذف حرف النداء وهو لا يحذف من الصفة إلا شذوذاً ، وفي مصحف أبيّ يا آزر بحرف النداء اتخذت أصناماً بالفعل الماضي فيحتمل العلمية والصفة ، وقرآ ابن عباس أيضاً أأزراً تتخذ بهمزة استفهام وفتح الهمزة بعدها وسكون الزاي ونصب الراء منوّنة وحذف همزة الاستفهام من أتتخذ ، قال ابن عطية : المعنى أعضداً وقوّة ومظاهرة على الله تتخذ وهو قوله :

{ اشدد به أزري } وقال الزمخشري : هو اسم صنم ومعناه أتعبد أزراً على الإنكار ثم قال : { أتتخذ أصناماً آلهة } تبييناً لذلك وتقريراً وهو داخل في حكم الإنكار لأنه كالبيان له ، وقرأ ابن عباس أيضاً وأبو اسماعيل الشامي أإزراً بكسر الهمزة بعد همزة الاستفهام تتخذ ، قال ابن عطية : ومعناها إنها مبدلة من واو كوسادة وإسادة كأنه قال : أوزراً أو مأثماً تتخذ أصناماً ونصبه على هذا بفعل مضمر ، وقال الزمخشري : هو اسم صنم ووجهه على ما وجه عليه أأزراً بفتح الهمزة ، وقرأ الأعمش إزراً تتخذ بكسر الهمزة وسكون الزاي ونصب الراء وتنوينها وبغير همزة استفهام في تتخذ والهمزة في { أتتخذ } للإنكار وفيه دليل على الإنكار على من أمر الإنسان بإكرامه إذا لم يكن على طريقة مستقيمة وعلى البداءة بمن يقرب من الإنسان كما قال : { وأنذر عشيرتك الأقربين } وفي ذكره أصناماً آلهة بالجمع تقبيح عظيم لفعلهم واتخاذهم جمعاً آلهة وذكروا أن ابراهيم كان نجاراً منجماً مهندساً وكان نمرود يتعلق بالهندسة والنجوم فحظى عنده بذلك وكان من قرية تسمى كوثا من سواد الكوفة ، قاله مجاهد قيل وبها ولد ابراهيم ، وقيل : كان آزر من أهل حرّان وهو تارخ بن ناجور بن ساروع بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ، وأراك يحتمل أن تكون بصرية وأن تكون علمية ، والظاهر أن تتخذ يتعدّى إلى مفعولين وجوزوا أن يكون بمعنى أتعمل وتصنع لأنه كان ينحتها ويعملها ولما أنكر على أبيه أخبر أنه وقومه في ضلال وجعلهم مظروفين للضلال أبلغ من وصفهم بالضلال كأن الضلال صار ظرفاً لهم ومبين واضح ظاهر من أبان اللازمة ، قال ابن عطية : ليس بالفعل المتعدّي المنقول من بان يبين انتهى ، ولا يمتنع ذلك يوضح كفركم بموجدكم من حيث اتخذتم دونه آلهة وهذا الإنكار من ابراهيم على أبيه والإخبار أنه وقومه في ضلال مبين أدل دليل على هداية ابراهيم وعصمته من سبق ما يوهم ظاهر قوله : هذا ربي من نسبة ذلك إليه على أنه أخبر عن نفسه وإنما ذلك على سبيل التنزل مع الخصم وتقرير ما يبنى عليه من استحالة أن يكون متصفاً بصفات الحدوث من الجسمانية وقبوله التغيرات من البزوع والأفول ونحوها.
{ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض } هذه جملة اعتراض بين قوله : { وإذ قال إبراهيم } منكراً على أبيه عبادة الأصنام وبين جملة الاستدلال عليهم بإفراد المعبود ، وكونه لا يشبه المخلوقين وهي قوله : { فلما جنّ عليه الليل } و { نري } بمعنى أريناه وهي حكاية حال وهي متعدية إلى اثنين ، فالظاهر أنها بصرية.

قال ابن عطية وإما من أرى التي بمعنى عرف انتهى ، ويحتاج كون رأي بمعنى عرف ثم تعدّى بالهمزة إلى مفعولين إلى نقل ذلك عن العرب والذي نقل النحويون إن رأى إذا كانت بصرية تعدّت إلى مفعول واحد وإذا كانت بمعنى علم الناصبة لمفعولين تعدت إلى مفعولين ، وعلى كونها بصرية فقال سلمان الفارسي وابن جبير ومجاهد : فرجت له السموات والأرض فرأى ببصره الملكوت الأعلى والملكوت الأسفل ورأى مقامه في الجنة ، قال ابن عطية : فإن صح هذا النقل ففيه تخصيص لابراهيم بما لم يدركه غيره قبله ولا بعده؛ انتهى
.
وروي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كشف الله له عن السموات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين وإذا كانت أبصاراً فليس المعنى مجرد الإبصار ولكن وقع له معها من الاعتبار والعلم ما لم يقع لأحد من أهل زمانه الذين بعث إليهم ، قاله ابن عباس وغيره.
وفي ذلك تخصيص له على جهة التقييد بأهل زمانه وكونها من رؤية القلب ، وجوز ابن عطية ولم يذكر الزمخشري غيره ، قال ابن عطية : رأى بها ملكوت السموات والأرض بفكرته ونظره وذلك لا بد متركب على ما تقدّم من رؤيته ببصره وإدراكه في الجملة بحواسه ، وقال الزمخشري : ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرّف ابراهيم ونبصره ملكوت السموات والأرض يعني الربوبية والإلهية ونوقفه لمعرفتهما ونرشده بما شرحنا صدره وسدّدنا نظره لطريق الاستدلال و { نري } حكاية حال ماضية انتهى ، والإشارة بذلك إلى الهداية أو ومثل هدايته إلى توحيد الله تعالى ودعاء أبيه وقومه إلى عبادة الله تعالى ورفض الأصنام أشهدناه ملكوت السموات والأرض ، وحكى المهدوي أن المعنى وكما هديناك يا محمد أرينا ابراهيم وهذا بعيد من دلالة اللفظ ويجوز أن تكون الكاف للتعليل أي وكذلك الإنكار والدعاء إلى الله زمان ادعاء غير الله الربوبية أشهدناه ملكوت السموات والأرض فصار له بذلك اختصاص ، قال ابن عباس : جلائل الأمور سرها وعلانيتها ، فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق فلما رأى ذلك جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله : إنك لا تستطيع هذا فرده لا يرى أعمالهم انتهى ، قال الزجاج وغيره : الملكوت الملك كالرغبوت والرهبوت والجبروت وهو بناء مبالغة ومن كلامهم : له ملكوت اليمن والعراق ، قال مجاهد : ويعني به آيات السموات والأرض ، وقال قتادة : ملكوت السموات : الشمس والقمر والنجوم وملكوت الأرض : الجبال والشجر والبحار ، وقيل : عبادة الملائكة وعصيان بني آدم ، وقرأ أبو السمال : ملكوت بسكون اللام وهي لغة بمعنى الملك ، وقرأ عكرمة ملكوت بالثاء المثلثة وقال : ملكوثا باليونانية أو القبطية ، وقال النخعي : هي ملكوثا بالعبرانية وقرىء وكذلك تري ، بالتاء من فوق ، { ابراهيم ملكوت } ، برفع التاء ، أي تبصره دلائل الربوبية.

{ وليكون من الموقنين } أي أريناه الملكوت ، وقيل : ثم علة محذوفة عطفت هذه عليها وقدرت ليقيم الحجة على قومه ، وقال قوم : ليستدل بها على الصانع ، وقيل : الواو زائدة ومتعلق الموقنين قيل : بوحدانية الله وقدرته ، وقيل : بنبوته وبرسالته.
وقيل : عياناً كما أيقن بياناً انتقل من علم اليقين إلى عين اليقين كما سأل في قوله : { أرني كيف تحيي الموتى } والإيقان تقدم تفسيره أول البقرة ، وقال أبو عبد الله الرازي : اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل ولهذا لا يوصف علم الله بكونه يقيناً لأن علمه غير مسبوق بالشبهة وغير مستفاد من الفكر والتأمل ، وإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت صارت سبباً لحصول اليقين إذ يحصل بكل واحد منها نوع تأثير وقوة فتتزايد حتى يجزم.
{ فلما جن عليه الليل رأى كوكباً فقال هذا ربي }.
هذه الجملة معطوفة على قوله : { وإذ قال إبراهيم } على قول من جعل { وكذلك نري } اعتراضاً وهو قول الزمخشري.
قال ابن عطية : الفاء في قوله { فلما } رابطة جملة ما بعدها بما قبلها وهي ترجح أن المراد بالملكوت هو هذا التفصيل الذي في هذه الآية ، وقال الزمخشري : كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال ، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤدٍ إلى أن شيئاً منها لا يصح أن يكون إلهاً لقيام دليل الحدوث فيها وأن وراءها محدثاً أحدثها وصانعاً صنعها ومدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها والكوكب الزهرة ، قاله ابن عباس وقتادة ، أو المشتري ، قاله مجاهد والسدي وهو رباعي والواو فيه أصل وتكررت فيه الفاء فوزنه فعفل نحو قوقل وهو تركيب قليل ، والظاهر أن جواب { لما رأى كوكباً } وعلى هذا جوزوا في { قال هذا ربي } أن يكون نعتاً للكوكب وهو مشكل أو مستأنفاً وهو الظاهر ويجوز أن يكون الجواب { قال هذا ربي } و { رأى كوكباً } حال أي جن عليه الليل رائياً كوكباً وهذا ربي الظاهر أنها جملة خبرية ، وقيل هي استفهامية على جهة الإنكار حذف منها الهمزة كقوله :
بسبع رمين الجمر أم بثمان . . .
قال ابن الأنباري : وهذا شاذ لأنه لا يجوز أن يحذف الحرف إلا إذا كان ثم فارق بين الأخبار والاستخبار وإذا كانت خبرية فيستحيل عليه أن يكون هذا الإخبار على سبيل الاعتقاد والتصميم لعصمة الأنبياء من المعاصي ، فضلاً عن الشرك بالله ، وما روي عن ابن عباس أن ذلك وقع له في حال صباه وقبل بلوغه وأنه عبده حتى غاب وعبد القمر حتى غاب وعبد الشمس حتى غابت فلعله لا يصح ، وما حكي عن قوم أن ذلك بعد البلوغ والتكليف ليس بشيء وما حكوا من أن أمه أخفته في غار وقت ولادته خوفاً من نمروذ أنه أخبره المنجمون أنه يولد ولد في سنة كذا يخرب ملكه على يديه ، وأنه تقدّم إلى أنه من ولد من أنثى تركت ومن ذكر ذبحه إلى أن صار ابن عشرة أعوام ، وقيل : خمسة عشر وأنه نظر أول ما عقل من الغار فرأى الكوكب فحكاية يدفعها مساق الآية ، وقوله : { إني بريء مما تشركون } وقوله : { تلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } وتأول بعضهم ذلك على إضمار القول وكثيراً ما يضمر تقديره قال : يقولون هذا ربي على حكاية قولهم وتوضيح فساده مما يظهر عليه من سمات الحدوث ولا يحتاج هذا إلى الإضمار بل يصح أن يكون هذا كقوله تعالى : { أين شركائي } أي على زعمكم ، وقال الزمخشري : { هذا ربي } قول من ينصف خصمه مع علمه أنه مبطل فيحكى قوله كما هو غير متعصب لمذهبه ، لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب ثم يكر عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة انتهى ، فيكون هذا القول منه استدراجاً لإظهار الحجة وتوسلاً إليها كما توسل إلى كسر الأصنام بقوله :

{ فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم } فوافقهم ظاهراً على النظر في النجوم وأوهمهم أن قوله { إني سقيم } ناشىء عن نظره فيها.
{ فلما أفل قال لا أحب الآفلين } أي لا أحب عبادة الآفلين المتغيرين عن حال إلى حال المنتقلين من مكان إلى مكان المحتجبين بستر فإن ذلك من صفات الأجرام وإنما احتج بالأفول دون البزوغ ، وكلاهما انتقال من حال إلى حال ، لأن الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب ، وجاء بلفظ الآفلين ليدل على أن ثم آفلين كثيرين ساواهم هذا الكوكب في الأفول فلا مزية له عليهم في أن يعبد للاشتراك في الصفة الدالة على الحدوث.
{ فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي } لم يأت في الكواكب رأى كوكباً بازغاً لأنه أولاً ما ارتقب حتى بزغ الكوكب لأنه بإظلام الليل تظهر الكواكب بخلاف حاله مع القمر والشمس فإنه لما أوضح لهم أن هذا النير وهو الكوكب الذي رآه لا يصلح أن يكون رباً ارتقب ما هو أنور منه وأضوأ على سبيل إلحاقه بالكوكب ، والاستدلال على أنه لا يصلح للعبادة فرآه أول طلوعه وهو البزوغ ، ثم عمل كذلك في الشمس ارتقبها إذ كانت أنور من القمر وأضوأ وأكبر جرماً وأهم نفعاً ومنها يستمد القمر على ما قيل فقال ذلك على سبيل الاحتجاج عليهم وبين أنها مساوية للقمر والكواكب في صفة الحدوث.
{ فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين } القوم الضالون هنا عبدة المخلوقات كالأصنام وغيرها واستدل بهذا من زعم أن قوله : { هذا ربي } على ظاهره وأن النازلة كانت في حال الصغر ، وقال الزمخشري { لئن لم يهدني ربي } تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلهاً وهو نظير الكوكب في الأفول فهو ضال فإن الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه.

{ فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر } المشهور في الشمس أنها مؤنثة.
وقيل : تذكر وتؤنث فأنثت أولاً على المشهور وذكرت في الإشارة على اللغة القليلة مراعاة ومناسبة للخبر ، فرجحت لغة التذكير التي هي أقل على لغة التأنيث وأما من لم ير فيها إلا التأنيث.
فقال ابن عطية : ذكر أي هذا المرئي أو النير وقدره الأخفش ، هذا الطالع ، وقيل : الشمس بمعنى الضياء قال تعالى : { جعل الشمس ضياء } فأشار إلى الضياء والضياء مذكر ، وقال الزمخشري : جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد كقولهم : ما جاءت حاجتك وما كانت أمك ، ولم تكن فتنتهم إلا أن قالوا وكان اختيار هذه الطريقة واجباً لصيانة الرب عن شبهة التأنيث ألا تراهم قالوا في صفة الله : علام ولم يقولوا علامة ، وإن كان علامة أبلغ احترازاً من علامة التأنيث انتهى ، ويمكن أن أكثر لغة الأعاجم لا يفرقون في الضمائر ولا في الإشارة بين المذكر والمؤنث ، ولا علامة عندهم للتأنيث بل المذكر والمؤنث سواء في ذلك عندهم فلذلك أشار إلى المؤنث عندنا حين حكى كلام ابراهيم بما يشار به إلى المذكر ، بل لو كان المؤنّث بفرج لم يكن لهم علامة تدل عليه في كلامهم وحين أخبر تعالى عنها بقوله { بازغة } و { أفلت } أنث على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية.
{ فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون } أي من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها ، ولما أفلت الشمس لم يبق لهم شيء يمثل لهم به وظهرت حجته وقوي بذلك على منابذتهم تبرأ من إشراكهم ، وقال الماتريدي : الاختيار أن يقال : استدل على عدم صلاحيتها للإلهية لغلبة نور القمر نور الزهرة ونور الشمس لنوره وقهرتيك بذاك وهذا بتلك ، والرب لا يقهر والظلام غلب نور الشمس وقهره انتهى ملخصاً.
قال ابن أبي الفضل : ما جاء الظلام إلا بعد ذهاب الشمس فلم يجتمع معها حتى يقال قهرها وقهر نورها انتهى ، وقال غيره من المفسرين : إنه استدل بما ظهر عليها من شأن الحدوث والانتقال من حال إلى حال وذلك من صفات الأجسام فكأنه يقول : إذا بان في هذه النيرات الرفيعة أنها لا تصلح للربوبية فأصنامكم التي من خشب وحجارة أحرى أن يتبين ذلك فيها ومثل لهم بهذه النيرات لأنهم كانوا أصحاب نظر في الأفلاك وتعلق بالنجوم وأجمع المفسرون على أن رؤية هذه النيرات كانت في ليلة واحدة ، رأى الكوكب الزهرة أو المشتري على الخلاف السابق جانحاً للغروب فلما أفل بزغ القمر فهو أول طلوعه فسرى الليل أجمع فلما بزغت الشمس زال ضوء القمر قبلها لانتشار الصباح وخفى نوره ودنا أيضاً من مغربه ، فسمي ذلك أفولاً لقربه من الأفول التام على تجوز في التسمية ثم بزغت الشمس على ذلك ، قال ابن عطية : وهذا الترتيب يستقيم في الليلة الخامسة عشر من الشهر إلى ليلة عشرين ، وليس يترتب في ليلة واحدة كما أجمع أهل التفسير إلا في هذه الليالي وبذلك التجوز في أفول القمر؛ انتهى ، والظاهر والذي عليه المفسرون أن المراد من الكوكب والقمر والشمس هو ما وضعته له العرب من إطلاقها على هذه النيرات ، وحكي عن بعض العرب ولعله لا يصح عنه أن الرؤية رؤية قلب ، وعبر بالكوكب عن النفس الحيوانية التي لكل كوكب وبالقمر عن النفس الناطقة التي لكل فلك ، وبالشمس عن العقل المجرد الذي لكل فلك وكان ابن سينا يفسر الأفول بالإمكان فزعم الغزالي أن المراد بأفولها إمكانها لذاتها ، وكل ممكن فلا بد له من مؤثر ولا بد له من الانتهاء إلى واجب الوجود ، ومن الناس من حمل الكوكب على الحس والقمر على الخيال والوهم والشمس على العقل ، والمراد أن هذه القوى المدركة الثلاثة قاصرة متناهية القوة ، ومدبر العالم مستول عليها قاهر لها؛ انتهى ، وهذان التفسيران شبيهان بتفسير الباطنية لعنهم الله إذ هما لغز ورمز ينزه كتاب الله عنهما ولولا أن أبا عبد الله الرازي وغيره قد نقلهما في التفسير ، لأضربت عن نقلهما صفحاً إذ هما مما نجزم ببطلانه ومن تفسير الباطنية الإمامية ونسبوه إلى عليّ أن الكوكب هو المأذون ، وهو الداعي والقمر اللاحق وهو فوق المأذون بمنزلة الوزير من الإمام والشمس الإمام وابراهيم في درجة المستجيب ، فقال للمأذون : هذا ربي عنى رب التربية للعلم فإنه يربي المستجيب بالعلم ويدعوه إليه ، فلما أفل فنى ما عند المأذون من العلم رغب عنه ولزم اللاحق فلما فنى ما عنده رغب عنه وتوجه إلى التالي وهو الصامت الذي يقبل العلم من الرسول الذي يسمى الناطق لأنه ينطق بجميع ما ينطق به الرسول فلما فنى ما عنده ارتقى إلى الناطق وهو الرسول وهو المصور للشرائع عندهم؛ انتهى هذا التخليط ، واللغز الذي لا تدل عليه الآية بوجه من وجوه الدلالات والتفسير أن قبل هذا شبيهان بهذا التفسير المستحيل وللمنسوبين إلى الصوف في تفسير كتاب الله تعالى أنواع من هذه التفاسير.

قال القشيري : لما جنّ عليه الليل أحاط به سجوف الطلب ولم يتجل له بعد صباح الوجود فطلع له نجم العقول فشاهد الحق بسره بنور البرهان فقال : هذا ربي ثم زيد في ضيائه فطلع قمر العلم وطالعه بسر البيان ، فقال : { هذا ربي } ثم أسفر الصبح ومتع النهار وطلعت شمس العرفان من برج شرفها فلم يبق للطلب مكان ولا للتجويز حكم ولا للتهمة قرار ، فقال : { إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ } إذ ليس بعد البعث ريب ولا بعد الظهور ستر انتهى ، والعجب كل العجب من قوم يزعمون أن هؤلاء المنسوبين إلى الصوف هم خواص الله تعالى وكلامهم في كتاب الله تعالى هذا الكلام.

{ إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً } أي أقبلت بقصدي وعبادتي وتوحيدي وإيماني وغير ذلك مما يعمه المعنى المعبر عنه بوجهي للذي ابتدع العالم محل هذه النيرات المحدثات وغيرها ، واكتفى بالظرف عن المظروف لعمومه إذ هذه النيرات مظروف السموات ولما كانت الأصنام التي يعبدها قومه النيرات ومن خشب وحجارة وذكر ظرف النيرات عطف عليه الأرض التي هي ظرف الخشب والحجارة ، و { حنيفاً } مائلاً عن كل دين إلى دين الحق وهو عبادة الله تعالى مسلماً أي منقاداً إليه مستسلماً له.
{ وما أنا من المشركين } ولما أنكر على أبيه عبادة الأصنام وضلله وقومه ، ثم استدل على ضلالهم بقضايا العقول إذ لا يذعنون للدليل السمعي لتوقفه في الثبوت على مقدمات كثيرة وأبدى تلك القضايا منوطة بالحس الصادق تبرأ من عبادتهم وأكد ذلك بأن ثم أخبر أنه وجه عبادته لمبدع العالم التي هذه النيرات المستدل بها ، بعضه ثم نفى عن نفسه أن يكون من المشركين مبالغة في التبريء منهم.
{ وحاجَّه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان } المحاجة مفاعلة من اثنين مختلفين في حكمين يدلي كل منهما بحجته على صحة دعواه ، والمعنى وحاجه قومه في توحيد الله ونفى الشركاء عنه منكرين لذلك ومحاجة مثل هؤلاء إنما هي بالتمسك باقتفاء آبائهم تقليداً وبالتخويف من ما يعبدونه من الأصنام كقول : قوم هود { إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } فأجابهم بأن الله قد هداه بالبرهان القاطع على توحيده ورفض ما سواه وأنه لا يخاف من آلهتهم ، وقرأ نافع وابن عامر بخلاف عن هشام { أتحاجوني } بتخفيف النون وأصله بنونين الأولى علامة الرفع والثانية نون الوقاية والخلاف في المحذوف منهما مذكور في علم النحو ، وقد لحن بعض النحويين من قرأ بالتخفيف وأخطأ في ذلك ، وقال مكي : الحذف بعيد في العربية قبيح مكروه وإنما يجوز في الشعر للوزن والقرآن لا يحتمل ذلك فيه إذ لا ضرورة تدعو إليه وقول مكي ليس بالمرتضى ، وقيل : التخفيف لغة لغطفان ، وقرأ باقي السبعة بتشديد النون أصله أتحاجونني فأدغم هروباً من استثقال المثلين متحركين فخفف بالإدغام ولم يقرأ هناك بالفك وإن كان هو الأصل ويجوز في الكلام ، و { في الله } متعلق بأتحاجوني لا بقوله { وحاجه قومه } والمسألة من باب الإعمال إعمال الثاني فلو كان متعلقاً بالأول لأضمر في الثاني ونظير { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } والجملة من قوله { وقد هدان } حالية أنكر عليهم أن تقع منهم محاجة له وقد حصلت من الله له الهداية لتوحيده فمحاجتهم لا تجدي لأنها داحضة.

{ ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً } حكي أن الكفار قالوا لإبراهيم عليه السلام : أما خفت أن تصيبك آلهتنا ببرص أو داء لإذايتك لها وتنقيصك فقال لهم : لست أخاف الذي تشركون به لأنه لا قدرة له ولا غنى عنده و { ما } بمعنى الذي والضمير في { به } عائد عليه أي الذي تشركونه بالله في الربوبية { وإلا أن يشاء ربي } قال ابن عطية استثناء ليس من الأول ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضراً استثنى مشيئة ربه تعالى في أن يريد بضر انتهى ، فيكون استنثاءً منقطعاً وبه قال الحوفي فيصير المعنى لكن مشيئة الله إياي بضر أخاف وقال الزمخشري { إلا أن يشاء ربي } إلا وقت مشيئة ربي شيئاً يخاف فحذف الوقت يعني لا أخاف معبوداتكم في وقت قط لأنها لا تقدر ولا على منفعة ولا على مضرة إلا أن يشاء ربي أن يصيبني بمخوف من جهتها إن أصبت ذنباً أستوجب به إنزال المكروه مثل أن يرجمني بكوكب أو بشقة من الشمس والقمر ، أو يجعلها قادرة على مضرتي انتهى ، فيكون استثناءً متصلاً من عموم الأزمان الذي تضمنه النفي وجوز أبو البقاء أن يكون متصلاً ومنقطعاً إلا أنه جعله متصلاً مستثنى من الأحوال وقدره إلا في حال مشيئة ربي أي لا أخافها في كل حال إلا في هذه الحال ، وانتصب شيئاً على المصدر أي مشيئة أو على المفعول به.
{ وسع ربي كل شيء علماً } ذكر عقيب الاستثناء سعة علم الله في تعلقه بجميع الكوائن فقد لا يستبعد أن يتعلق علمه بإنزال المخوف بي إما من جهتها إن كان استثناءً متصلاً أو مطلقاً إن كان منقطعاً وانتصب علماً على التمييز المحول من الفاعل ، أصله وسع علم ربي كل شيء.
{ أفلا تتذكرون } تنبيه لهم على غفلتهم حيث عبدوا ما لا يضر ولا ينفع ، وأشركوا بالله وعلى ما حاجهم به من إظهار الدلائل التي أقامها على عدم صلاحية هذه الأصنام للربوبية.
وقال الزمخشري : { أفلا تتذكرون } فتميزوا بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز ، وقيل : أفلا تتعظون بما أقول لكم ، وقال عبد الله الرازي : { أفلا تتذكرون } أن نفي الشركاء والأضداد والأنداد عن الله لا يوجب حلول العذاب ونزول العقاب.
{ وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون إنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً } استفهام معناه التعجب والإنكار كأنه تعجب من فساد عقولهم حيث خوفوه خشباً وحجارة لا تضر ولا تنفع ، وهم لا يخافون عقبى شركهم بالله وهو الذي بيده النفع والضر والأمر كله { ولا تخافون } معطوف على { أخاف } فهو داخل في التعجب والإنكار واختلف متعلق الخوف فبالنسبة إلى إبراهيم علق الخوف بالأصنام وبالنسبة إليهم علقه بإشراكهم بالله تعالى تركاً للمقابلة ، ولئلا يكون الله عديل أصنامهم لو كان التركيب ولا تخافون الله تعالى وأتى بلفظ { ما } الموضوعة لما لا يعقل لأن الأصنام لا تعقل إذ هي حجارة وخشب وكواكب ، والسلطان الحجة والإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة وكأنه لما أقام الدليل العقلي على بطلان الشركاء وربوبيتهم ، نفى أيضاً أن يكون على ذلك دليل سمعي فالمعنى أن ذلك ممتنع عقلاً وسمعاً فوجب اطراحه ، وقرىء { سلطاناً } بضم اللام والخلاف هل ذلك لغة فيثبت به بناء فعلان بضم الفاء والعين أو هو اتباع فلا يثبت به.

{ فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } لما خوفوه في مكان الأمن ولم يخافوا في مكان الخوف أبرز الاستفهام في صورة الاحتمال وإن كان قد علم قطعاً أنه هو الآمن لا هم كما قال الشاعر :
فلئن لقيتك خاليين لتعلمن . . .
أني وايك فارس الأحزاب
أي أينا ومعلوم عنده أنه هو فارس الأحزاب لا المخاطب وأضاف أيا إلى الفريقين ، ويعني فريق المشركين وفريق الموحدين وعدل عن أينا أحق بالأمن أنا أم أنتم احترازاً من تجريد نفسه فيكون ذلك تزكية لها ، وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم من ذوي العلم والاستبصار فأخبروني أي هذين الفريقين أحق بالأمن.
{ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } الظاهر أنه من كلام إبراهيم لما استفهمهم استفهام عالم بمن هو الآمن وأبرزه في صورة السائل الذي لا يعلم استأنف الجواب عن السؤال ، وصرح بذلك المحتمل فقال : الفريق الذي هو أحق بالأمن هم الذين آمنوا ، وقيل : هو من كلام قوم إبراهيم أجابوا بما هو حجة عليهم ، وقيل : هو من كلام الله أمر إبراهيم أن يقوله لقومه أو قاله على جهة فصل القضاء بين خلقه وبين من حاجه قومه ، واللبس الخلط و { الذين آمنوا } : ابراهيم وأصحابه وليست في هذه الأمة قاله علي وعنه ابراهيم خاصة أو من هاجر إلى المدينة ، قاله عكرمة أو عامة قاله بعضهم وهو الظاهر ، والظلم هنا الشرك قاله ابن مسعود وأبيّ ، وعن جماعة من الصحابة أنه لما نزلت أشفق الصحابة وقالوا : أينا لم يظلم نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنما ذلك كما قال لقمان : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } » ولما قرأها عمر عظمت عليه فسأل أبياً فقال : إنه الشرك يا أمير المؤمنين فسرى عنه وجرى لزيد بن صوحان مع سلمان نحو مما جرى لعمر مع أبيّ ، وقرأ مجاهد : { ولم يلبسوا إيمانهم } بشرك ولعل ذلك تفسير معنى إذ هي قراءة تخالف السواد ، وقال الزمخشري : أي لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس انتهى ، وهذه دفينة اعتزال أي إن الفاسق ، ليس له الأمن إذا مات مصراً على الكبيرة ، وقوله : وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس هذا رد على من فسر الظلم بالكفر ، والشرك وهم الجمهور وقد فسره الرسول صلى الله عليه وسلم بالشرك فوجب قبوله ولعل الزمخشري لم يصح له ذلك عن الرسول ، وإنما جعله يأباه لفظ اللبس لأن اللبس هو الخلط فيمكن أن يكون الشخص في وقت واحد مؤمناً عاصياً معصية تفسقه ، ولا يمكن أن يكون مؤمناً مشركاً في وقت واحد { ولم يلبسوا } يحتمل أن يكون معطوفاً على الصلة ويحتمل أن يكون حالاً دخلت واو الحال على الجملة المنفية بلم كقوله تعالى :

{ أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر } وما ذهب إليه ابن عصفور من أن وقوع الجملة المنفية بلم قليل جداً وابن خروف من وجوب الواو فيها وإن كان فيها ضمير يعود على ذي الحال خطأ بل ذلك قليل وبغير الواو كثير على ذلك لسان العرب ، وكلام الله ، وقرأ عكرمة : { ولم يلبسوا } بضم الياء ويجوز في { الذين } أن يكون خبر مبتدأ محذوف وأن يكون خبره المبتدأ والخبر الذي هو { أولئك لهم الأمن } وأبعد من جعل لهم الأمن خبر الذين وجعل { أولئك } فاصلة وهو النحاس والحوفي.
{ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } الإشارة بتلك إلى ما وقع به الاحتجاج من قوله { فلما جن عليه الليل } إلى قوله { وهم مهتدون } وهذا الظاهر ، وأضافها إليه تعالى على سبيل التشريف وكان المضاف إليه بنون العظمة لإيتاء المتكلم و { آتيناها } أي أحضرناها بباله وخلقناها في نفسه إذ هي من الحجج العقلية ، أو { آتيناها } بوحي منا ولقناه إياها وإن أعربت { وتلك } مبتدأ و { حجتنا } بدلاً { وآتيناها } خبر لتلك ، لم يخبر أن يتعلق { على قومه } بحجتنا وكذا إن أعربت { وتلك حجتنا } مبتدأ وخبر و { آتيناها } حال العامل فيها اسم الإشارة لأن الحجة ليست مصدراً وإنما هو الكلام المؤلف للاستدلال على الشيء ولو جعلناه مصدراً مجازاً لم يجز ذلك أيضاً لأنه لا يفصل بالخبر ولا بمثل هذه الحال بين المصدر ومطلوبه ، وأجاز الحوفي أن يكون { آتيناها } في موضع النعت لحجتنا والنية فيها الانفصال والتقدير : وتلك حجة لنا آتيناها انتهى ، وهذا بعيد جداً.
وقال الحوفي : وهاء مفعول أول وإبراهيم مفعول ثان وهذا قد قدمنا أنه مذهب السهيلي ، وأما مذهب الجمهور فالهاء مفعول ثان وابراهيم مفعول أول ، وقال الحوفي وابن عطية { على قومه } متعلق ب { آتيناها }.
قال ابن عطية أظهرناها لإبراهيم على قومه ، وقال أبو البقاء : بمحذوف تقديره حجة على قومه ودليلاً ، وقال الزمخشري : { آتيناها ابراهيم } أرشدناه إليها ووفقناه لها وهذا تفسير معنى ، ويجوز أن يكون في موضع الحال وحذف مضاف أي { آتيناها ابراهيم } مستعلية على حجج قومه قاهرة لها.
{ نرفع درجات من نشاء } أي مراتب ومنزلة من نشاء وأصل الدرجات في المكان ورفعها بالمعرفة أو بالرسالة أو بحسن الخلق أو بخلوص العمل في الآخرة أو بالنبوة والحكمة في الدنيا أو بالثواب والجنة في الآخرة ، أو بالحجة والبيان ، أقوال أقر بها الأخير لسياق الآية ونوّن درجات الكوفيون وأضافها الباقون ونصبوا المنون على الظرف أو على أنه مفعول ثان ، ويحتاج هذا القول إلى تضمين نرفع معنى ما يعدّي إلى اثنين أي نعطي من نشاء درجات.

{ إن ربك حكيم عليم } أي { حكيم } في تدبير عباده { عليم } بأفعالهم أو { حكيم } في تقسيم عباده إلى عابد صنم وعابد الله { عليم } بما يصدر بينهم من الاحتجاج ، ويحتمل أن يكون الخطاب في { إن ربك } للرسول ويحتمل أن يكون المراد به إبراهيم فيكون من باب الالتفات والخروج من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب على سبيل التشريف بالخطاب.
{ ووهبنا له إسحاق ويعقوب } { إسحاق } ابنه لصلبه من سارة و { يعقوب } ابن إسحاق كما قال تعالى : { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } وعدد تعالى نعمه على إبراهيم فذكر إيتاءه الحجة على قومه ، وأشار إلى رفع درجاته وذكر ما منّ به عليه من هبته له هذا النبي الذي تفرعت منه أنبياء بني إسرائيل ، ومن أعظم المنن أن يكون من نسل الرجل الأنبياء والرسل ولم يذكر إسماعيل مع إسحاق.
قيل : لأن المقصود بالذكر هنا أنبياء بني إسرائيل وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب ولم يخرج من صلب إسماعيل نبي إلا محمد صلى الله عليه وسلم ولم يذكره في هذا المقام لأنه أمره عليه السلام أن يحتج على العرب في نفي الشرك بالله بأن جدّهم إبراهيم لما كان موحداً لله متبرئاً من الشرك رزقه الله أولاً ملوكاً وأنبياء ، والجملة من قوله : { ووهبنا } معطوفة على قوله : { وتلك حجتنا } عطف فعلية على اسمية ، وقال ابن عطية : { ووهبنا } عطف على { آتيناها } انتهى.
ولا يصح هذا لأن { آتيناها } لها موضع من الإعراب إما خبر.
وإما حال ولا يصح في { ووهبنا } شيء منهما.
{ كلاًّ هدينا } أي كل واحد من إسحاق ويعقوب هدينا.
{ ونوحاً هدينا من قبل } لما ذكر شرف أبناء إبراهيم ذكر شرف آبائه فذكر نوحاً الذي هو آدم الثاني وقال : { من قبل } تشبيهاً على قدمه وفي ذكره لطيفة وهي أن نوحاً عليه السلام عبدت الأصنام في زمانه ، وقومه أول قوم عبدوا الأصنام ووحد هو الله تعالى ودعا إلى عبادته ورفض تلك الأصنام وحكى الله عنه مناجاته لربه في قومه حيث قالوا : { لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودًّا ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً } وكان إبراهيم عبدت الأصنام في زمانه ووحد هو الله تعالى ودعا إلى رفضها فذكر الله تعالى نوحاً وأنه هداه كما هدى إبراهيم.
{ ومن ذريته داود وسليمان } قيل : ومن ذرية نوح عاد الضمير عليه لأنه أقرب مذكور ولأن في جملتهم لوطاً وهو ابن أخي ابراهيم فهو من ذرية نوح لا من ذرية ابراهيم ، وقيل : ومن ذرية ابراهيم عاد الضمير عليه لأنه المقصود بالذكر ، قال ابن عباس : هؤلاء الأنبياء كلهم مضافون إلى ذرية ابراهيم وإن كان فيهم من لا يلحقه بولادة من قبل أم ولا أب ، لأن لوطاً ابن أخي إبراهيم والعرب تجعل العمّ أباً ، وقال أبو سليمان الدمشقي : ووهبنا له لوطاً في المعاضدة والنصرة انتهى.

قالوا : والمعنى وهدينا أو ووهبنا { من ذريته داود وسليمان } وقرنهما لأنهما أب وابن ولأنهما ملكان نبيان وقدم داود لتقدمه في الزمان ولكونه صاحب كتاب ولكونه أصلاً لسليمان وهو فرعه.
{ وأيوب ويوسف } قرنهما لاشتراكهما في الامتحان أيوب بالبلاء في جسده ونبذ قومه له ويوسف بالبلاء بالسجن ولغربته عن أهله ، وفي مآلهما بالسلامة والعافية ، وقدم أيوب لأنه أعظم في الامتحان.
{ وموسى وهارون } قرونهما لاشتراكهما في الأخوة وقدّم موسى لأنه كليم الله.
{ وكذلك نجزي المحسنين } أي مثل ذلك الجزاء من إيتاء الحجة وهبة الأولاد الخيرين نجزي من كان محسناً في عبادتنا مراقباً في أعماله لنا.
{ وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس } قرن بينهم لاشتراكهم في الزهد الشديد والإعراض عن الدنيا وبدأ بزكريا ويحيى لسبقهما عيسى في الزمان وقدّم زكريا لأنه والد يحيى فهو أصل ، ويحيى فرع وقرن عيسى وإلياس لاشتراكهما في كونهما لم يموتا بعد وقدّم عيسى لأنه صاحب كتاب ودائرة متسعة ، وتقدّم ذكر أنساب هؤلاء الأنبياء إلا إلياس وهو إلياس بن بشير بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران ، وروي عن ابن مسعود أن ادريس هو الياس ورد ذلك بأن إدريس هو جد نوح عليهما السلام تظافرت بذلك الروايات ، وقيل : الياس هو الخضر وتقدّم خلاف القرّاء في زكريا مداً وقصراً ، وقرأ ابن عباس باختلاف عنه والحسن وقتادة بتسهيل همزة إلياس وفي ذكر عيسى هنا دليل على أن ابن البنت داخل في الذرية وبهذه الآية استدل على دخوله في الوقف على الذرية ، وسواء كان الضمير في { ومن ذريته } عائداً على نوح أو على إبراهيم فنقول : الحسن والحسين ابنا فاطمة رضي الله عنهم هما من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهذه الآية استدل أبو جعفر الباقر ويحيى بن يعمر على ذلك ، وكان الحجاج بن يوسف طلب منهما الدليل على ذلك إذ كان هو ينكر ذلك فسكت في قصتين جرتا لهما معه.
{ كل من الصالحين } لا يختص كل بهؤلاء الأربعة ، بل يعم جميع من سبق ذكره من الأربعة عشر نبياً.
{ وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً } المشهور أن إسماعيل هو ابن إبراهيم من هاجر وهو أكبر ولده ، وقيل : هو نبي من بني إسرائيل كان زمان طالوت وهو المعنى بقوله { إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله } واليسع قال زيد بن أسلم : هو يوشع بن نون ، وقال غيره : هو اليسع بن أخطوب بن العجوز ، وقرأ الجمهور واليسع كأن أل أدخلت على مضارع وسع ، وقرأ الأخوان والليسع على وزن فيعل نحو الضيغم واختلف فيه أهو عربي أم عجمي ، فأما على قراءة الجمهور وقول من قال : إنه عربي فقال : هو مضارع سمي به ولا ضمير فيه فأعرب ثم نكر وعرف بأل ، وقيل سمي بالفعل كيزيد ثم أدخلت فيه أل زائدة شذوذاً كاليزيد في قوله :

رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً . . .
ولزمت كما لزمت في الآن ، ومن قال : إنه أعجمي فقال : زيدت فيه أل ولزمت شذوذاً ، وممن نص على زيادة أل في اليسع أبو عليّ الفارسي وأما على قراءة الأخوين فزعم أبو عليّ أن أل فهي كهي في الحارث والعباس ، لأنهما من أبنية الصفات لكن دخول أل فيه شذوذ عن ما عليه الأسماء الأعجمية إذ لم يجيء فيها شيء على هذا الوزن كما لم يجيء فيها شيء فيه أل للتعريف ، وقال أبو عبد الله بن مالك الجياني ، ما قارنت أل نقله كالمسمى بالنضر أو بالنعمان أو ارتجاله كاليسع والسموأل ، فإن الأغلب ثبوت أل فيه وقد يجوز أن يحذف فعلى هذا لا تكون أل فيه لازمة واتضح من قوله : إن اليسع ليس منقولاً من فعل كما قال بعضهم ، وتقدّم أنه قال : يونس بضم النون وفتحها وكسرها وكذلك يوسف وبفتح النون وسين يوسف قرأ الحسن وطلحة ويحيى والأعمش وعيسى بن عمر في جميع القرآن وإنما جمع هؤلاء الأربعة لأنهم لم يبق لهم من الخلق أتباع ولا أشياع فهذه مراتب ست : مرتبة الملك والقدرة ذكر فيها داود وسليمان ، ومرتبة البلاء الشديد ، ذكر فيها أيوب ، ومرتبة الجمع بين البلاء والوصول إلى الملك ذكر فيها يوسف ، ومرتبة قوة البراهين والمعجزات والقتال والصولة ذكر فيها موسى وهارون ، ومرتبة الزهد الشديد والانقطاع عن الناس للعبادة ذكر فيها زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ، ومرتبة عدم الاتباع ذكر فيها إسماعيل واليسع ويونس ولوطاً ، وهذه الأسماء أعجمية لا تجر بالكسرة ولا تنون إلا اليسع فإنه يجر بها ولا ينون وإلا لوطاً فإنه مصروف لخفة بنائه بسكون وسطه ، وكونه مذكراً وإن كان فيه ما في إخوته من مانع الصرف وهو العلمية والعجمة الشخصية وقد تحاشى المسلمون هذا الاسم الشريف ، فقلّ من تسمى به منهم كأبي مخنف لوط بن يحيى ، ولوط النبي هو لوط بن هارون بن آزر وهو تارخ وتقدّم رفع نسبه.
{ وكلاًّ فضلنا على العالمين } فيه دلالة على أن الأنبياء أفضل من الأولياء خلافاً لبعض من ينتمي إلى الصوف في زعمهم أن الولي أفضل من النبي كمحمد بن العربي الحاتمي صاحب كتاب الفتوح المكية وعنقاء مغرب وغيرهما من كتب الضلال ، وفيه دلالة على أن الأنبياء أفضل من الملائكة لعموم العالمين وهم الموجودون سوى الله تعالى فيندرج في العموم الملائكة.
قال ابن عطية : معناه عالمي زمانهم.

{ ومن آبائهم وذرّياتهم وإخوانهم } المجرور في موضع نصب.
فقال الزمخشري : عطفاً على { كلاًّ } بمعنى وفضلنا بعض آبائهم ، وقال ابن عطية : وهدينا { من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم } جماعات فمن للتبعيض والمراد من آمن نبياً كان أو غير نبي ويدخل عيسى في ضمير قوله : { ومن آبائهم } ولهذا قال محمد بن كعب : الخال والخالة انتهى ، { ومن آبائهم } كآدم وإدريس ونوح وهود وصالح { وذرياتهم } كذرية نوح عليه السلام المؤمنين { وإخوانهم } كإخوة يوسف ذكر الأصول والفروع والحواشي.
{ واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم } الظاهر عطف { واجتبيناهم } على { فضلنا } أي اصطفيناهم وكرر الهداية على سبيل التوضيح للهداية السابقة ، وأنها هداية إلى طريق الحق المستقيم القويم الذي لا عوج فيه وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن الشرك.
{ ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده } أي ذلك الهدى إلى الطريق المستقيم هو هدى الله ، وقال ابن عطية : ذلك إشارة إلى النعمة في قوله { واجتبيناهم } انتهى ، وفي الآية دليل على أن الهدى بمشيئة الله تعالى.
{ ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } أي { ولو أشركوا } مع فضلهم وتقدّمهم وما رفع لهم من الدرجات لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم كما قال تعالى : { لئن أشركت ليحبطن عملك } وفي قوله : { ولو أشركوا } دلالة على أن الهدى السابق هو التوحيد ونفي الشرك.
{ أولك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة } لما ذكر أنه تعالى فضلهم واجتباهم وهداهم ذكر ما فضلوا به ، والكتاب : جنس للكتب الإلهية كصحف إبراهيم والتوراة والزبور والإنجيل ، والحكم : الحكمة أو الحكم بين الخصوم أو ما شرعوه أو فهم الكتاب أو الفقه في دين الله أقوال ، وقال أبو عبد الله الرازي : { آتيناهم الكتاب } هي رتبة العلم يحكمون بها على بواطن الناس وأرواحهم و { الحكم } مرتبة نفوذ الحكم بحسب الظاهر و { النبوة } المرتبة الثالثة وهي التي يتفرع على حصولها حصول المرتبتين فالحكام على الخلق ثلاث طوائف.
انتهى ملخصاً.
{ فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين } الظاهر أن الضمير في { بها } عائد إلى النبوة لأنها أقرب مذكور ، وقال الزمخشري : { بها } بالكتاب والحكم والنبوة فجعل الضمير عائداً على الثلاثة وهو أيضاً له ظهور ، والإشارة بهؤلاء إلى كفار قريش وكل كافر في ذلك العصر ، قاله ابن عباس وقتادة والسدّي وغيرهم ، وقال الزمخشري : { هؤلاء } يعني أهل مكة انتهى وقال السدّي ، وقال الحسن : أمّة الرسول ومعنى { وكلنا } أرصدنا للإيمان بها والتوكيل هنا استعارة للتوفيق للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه ، والقوم الموكلون بها هنا هم الملائكة قاله أبو رجاء ، أو مؤمنوا أهل المدينة قاله ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي ، وقال الزمخشري : { قوماً } هم الأنبياء المذكورون ومن تابعهم بدليل قوله { أولئك الذين هدى الله } انتهى.
وهو قول الحسن وقتادة أيضاً قالا : المراد بالقوم من تقدّم ذكره من الأنبياء والمؤمنين ، وقيل : الأنبياء الثمانية عشر المتقدم ذكرهم واختاره الزجاج وابن جرير لقوله بعد { أولئك الذين هدى الله }.

وقيل : المهاجرون والأنصار ، وقيل : كل من آمن بالرسول ، وقال مجاهد هم الفرس والآية وإن كان قد فسر بها مخصوصون فمعناها عام في الكفرة والمؤمنين إلى يوم القيامة.
{ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } الإشارة بأولئك إلى المشار إليهم بأولئك الأولى وهم الأنبياء السابق ذكرهم وأمره تعالى أن يقتدى بهداهم ، والهداية السابقة هي توحيد الله تعالى وتقديسه عن الشريك ، فالمعنى فبطريقتهم في الإيمان بالله تعالى وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع ، فإنها مختلفة فلا يمكن أن يؤمر بالاقتداء بالمختلفة وهي هدى ما لم تنسخ فإذا نسخت لم تبق هدى بخلاف أصول الدين فإنها كلها هدى أبداً.
وقال تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } وقال ابن عطية : ويحتمل أن تكون الإشارة بأولئك إلى { قوماً } وذلك يترتب على بعض التأويلات في المراد بالقوم على بعضها انتهى ، ويعني أنه إذا فسر القوم بالأنبياء المذكورين أو بالملائكة فيمكن أن تكون الإشارة إلى قوم وإن فسروا بغير ذلك فلا يصح ، وقيل : الاقتداء في الصبر كما صبر من قبله ، وقيل : يحمل على كل هداهم إلا ما خصه الدليل ، وقيل : في الأخلاق الحميدة من الصبر على الأذى والعفو ، وقال : في ريّ الظمآن أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية بمكارم الأخلاق فأمر بتوبة آدم وشكر نوح ووفاء إبراهيم وصدق وعد إسماعيل وحلم إسحاق وحسن ظنّ يعقوب؟ واحتمال يوسف وصبر أيوب وإثابة داود وتواضع سليمان وإخلاص موسى وعبادة زكريا وعصمة يحيى وزهد عيسى ، وهذه المكارم التي في جميع الأنبياء اجتمعت في الرسول صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين ولذلك وصفه تعالى بقوله : { وإنك لعلى خلق عظيم } وقال الزمخشري : { فبهداهم اقتده } فاختص هداهم بالاقتداء ولا يقتدى إلا بهم ، وهذا بمعنى تقديم المفعول وهذا على طريقته في أن تقديم المفعول يوجب الاختصاص وقد رددنا عليه ذلك في الكلام على { إياك نعبد } وقرأ الحرميان وأهل حرميهما وأبو عمرو { اقتده } بالهاء ساكنة وصلاً ووقفاً وهي هاء السكت أجروها وصلاً مجراها وقفاً ، وقرأ الأخوان بحذفها وصلاً وإثباتها وقفاً وهذا هو القياس ، وقرأ هشام { اقتده } باختلاس الكسرة في الهاء وصلاً وسكونها وقفاً ، وقرأ ابن ذكوان بكسرها ووصلها بياء وصلاً وسكونها وقفاً ويؤول على أنها ضمير المصدر لا هاء السكت ، وتغليظ ابن مجاهد قراءة الكسر غلط منه وتأويلها على أنها هاء السكت ضعيف.
{ قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين } أي على الدعاء إلى القرآن وهو الهدى والصراط المستقيم.
{ أجراً } أي أجرة أتكثر بها وأخص بها إن القرآن { إلا ذكرى } موعظة لجميع العالمين.
{ وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } نزلت في اليهود قاله ابن عباس ومحمد بن كعب ، أو في مالك بن الصيف اليهودي إذ قال له الرسول :

« أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أتجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين » ؟ قال : نعم.
قال : « فأنت الحبر السمين » فغضب ثم قال : ما أنزل الله على بشر من شيء قاله ابن عباس وابن جبير وعكرمة ، أو في فنحاص بن عازورا منهم قاله السدي ، أو في اليهود والنصارى قاله قتادة ، أو في مشركي العرب قاله مجاهد ، وغيره ، وبعضهم خصه عنه بمشركي قريش وهي رواية ابن أبي نجيح عنه ، وفي رواية ابن كثير عن مجاهد أن من أولها إلى { من شيء } في مشركي قريش وقوله : { أنزل الكتاب } في اليهود
ولما ذكر تعالى عن إبراهيم دليل التوحيد وتسفيه ، رأى أهل الشرك وذكر تعالى ما منّ به على إبراهيم من جعل النبوّة في بنيه وأن نوحاً عليه السلام جدّه الأعلى كأن الله تعالى قد هداه وكان مرسلاً إلى قومه وأمر تعالى الرسول بالاقتداء بهدى الأنبياء أخذ في تقرير النبوّة والردّ على منكريّ الوحي فقال تعالى : { وما قدروا الله حق قدره } وأصل القدر معرفة الكمية يقال : قدر الشيء إذا حزره وسبره وأراد أن يعلم مقدار يقدره بالضم قدراً وقدراً ومنه « فإن غم عليكم فاقدروا له » أي فاطلبوا أن تعرفوه ، ثم توسع فيه حتى قيل : لكل من عرف شيئاً هو يقدر قدره ولا يقدر قدره إذا لم يعرفه بصفاته ، قال ابن عباس والحسن واختاره الفراء وثعلب والزُّجاج معناه ما عظموا الله حق تعظيمه ، وقال أبو عبيدة والأخفش : ما عرفوه حق معرفته ، قال الماتريدي : ومن الذي يعظم الله حق عظمته أو يعرفه حق معرفته؟ قالت الملائكة : ما عبدناك حق عبادتك والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : « لا أحصي ثناءً عليك » وينفصل عن هذا أن يكون المعنى : ما عظموه العظمة التي في وسعهم وفي مقدورهم وما عرفوه كذلك ، وقال أبو العالية : واختاره الخليل بن أحمد معناه : ما وصفوه حق صفته فيما وجب له واستحال عليه وجاز ، وقال ابن عباس أيضاً : ما آمنوا بالله حق إيمانه وعلموا أن الله على كل شيء قدير ، وقال أبو عبيدة أيضاً : ما عبدوه حق عبادته ، وقيل : ما أجلُّوه حق إجلاله حكاه ابن أبي الفضل في ريّ الظمآن وهو بمعنى التعظيم ، وقال ابن عطية : من توفية القدر فهي عامّة يدخل تحتها من لم يعرف ومن لم يعظم وغير ذلك غير أن تعليله بقولهم : { ما أنزل الله } يقضي بأنهم جهلوا ولم يعرفوا الله حق معرفته إذ أحالوا عليه بعثة الرسل ، وقال الزمخشري : ما عرفوا الله حق معرفته في الرحمة على عباده واللطف بهم حين أنكروا بعثة الرسل والوحي إليهم ، وذلك من أعظم رحمته وأجلّ نعمته

{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } أو ما عرفوه حق معرفته في سخطه على الكافرين وشدة بطشه بهم ولم يخافوه حين جسروا على تلك المقالة العظيمة من إنكار النبوّة ، والقائلون هم اليهود بدليل قراءة من قرأ { تجعلونه } بالتاء وكذلك { تبدونها } و { تخفون } وإنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فألزموا ما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى.
انتهى ، والضمير في { وما قدروا } عائد على من أنزلت الآية بسببه على الخلاف السابق ويلزم من قال : إنها في بني إسرائيل أن تكون مدنية ولذا حكى النقاش أنها مدنية ، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي { وما قدروا } بالتشديد { حَقَّ قَدْرِهِ } بفتح الدال وانتصب { حق قدره } بفتح الدال وانتصب { حق قدره } على المصدر وهو في الأصل وصف أي قدره الحق ووصف المصدر إذا أضيف إليه انتصب نصب المصدر ، والعامل في إذ قدروا وفي كلام ابن عطية ما يشعر أن إذ تعليلاً.
{ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس } إن كان المنكرون بني إسرائيل فالاحتجاج عليهم واضح لأنهم ملتزمون نزول الكتاب على موسى وإن كانوا العرب فوجه الاحتجاج عليهم أن إنزال الكتاب على موسى أمر مشهور منقول ، نقل قوم لم تكن العرب مكذبة لهم وكانوا يقولون : لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ، وقال أبو حامد الغزالي : هذه الآية مبنية على الشكل الثاني من الأشكال المنطقية وذلك لأن حاصله يرجع إلى أن موسى عليه السلام أنزل عليه شيء واحد من البشر ما أنزل الله عليه شيئاً ينتج من الشكل الثاني أن موسى ما كان من البشر ، وهذا خلف محال وليست هذه الاستحالة بحسب شكل القياس ولا بحسب صحة المقدمة ، فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة وهي قولهم : { ما أنزل الله على بشر من شيء } فوجب القول بكونها كاذبة فتمت أن دلالة هذه الآية على المطلوب إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني من الأشكال المنطقية وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف ، انتهى كلامه.
وفي الآية دليل على أن النقض يقدح في صحة الكلام وذلك أنه نقض قولهم : { ما أنزل الله } بقوله : { قل من أنزل الكتاب } فلو لم يكن النقض دليلاً على فساد الكلام لما كانت حجة مفيدة لهذا المطلوب ، والكتاب هنا التوراة وانتصب { نوراً وهدى } على الحال والعامل { أنزل } أو جاء.
{ تجعلونها قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً } التاء قراءة الجمهور في الثلاثة ، وظاهره أنه لبني إسرائيل والمعنى : { تجعلونها } ذا { قراطيس } ، أي أوراقاً وبطائق ، { وتخفون كثيراً } كإخفائهم الآيات الدالة على بعثة الرسول وغير ذلك من الآيات التي أخفوها ، وأدرج تعالى تحت الإلزام توبيخهم وإن نعى عليهم سوء حملهم لكتابهم وتحريفهم وإبداء بعض وإخفاء بعض ، فقيل : جاء به موسى وهو نور وهدى للناس فغيرتموه وجعلتموه قراطيس وورقات لتستمكنوا مما رمتم من الإبداء والإخفاء ، وتتناسق قراءة التاء مع قوله : { علمتم } ومن قال : إن المنكرين العرب أو كفار قريش لم يمكن جعل الخطاب لهم ، بل يكون قد اعترض بني إسرائيل فقال : خلال السؤال والجواب : تجعلونه أنتم يا بني إسرائيل قراطيس ومثل هذا يبعد وقوعه لأن فيه تفكيكاً لنظم الآية وتركيبها ، حيث جعل الكلام أولاً خطاباً مع الكفار وآخراً خطاباً مع اليهود وقد أجيب بأن الجميع لما اشتركوا في إنكار نبوة الرسول ، جاء بعض الكلام خطاباً للعرب وبعضه خطاباً لبني إسرائيل ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة في الثلاثة.

{ وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } ظاهره أنه خطاب لبني إسرائيل مقصود به الامتنان عليهم وعلى آبائهم ، بأن علموا من دين الله وهداياته ما لم يكونوا عالمين به لأن آباءهم كانوا علموا أيضاً وعلم بعضهم وليس كذلك آباء العرب ، أو مقصود به ذمهم حيث لم ينتفعوا به لإعراضهم وضلالهم ، وقيل : الخطاب للعرب ، قاله مجاهد ذكر الله منته عليهم أي علمتم يا معشر العرب من الهدايات والتوحيد والإرشاد إلى الحق ما لم تكونوا عالمين { ولا آباؤكم } وقيل : الخطاب لمن آمن من اليهود ، وقيل : لمن آمن من قريش وتفسير { ما لم تعلموا } يتخرج على حسب المخاطبين التوراة أو دين الإسلام وشرائعه أو هما أو القرآن ، قال الزمخشري : الخطاب لليهود أي علمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم مما أوحي إليه { ما لم تعلموا أنتم } وأنتم حملة التوراة ولم يعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم أن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ، وقيل : الخطاب لمن آمن من قريش { لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم } انتهى.
{ قل الله } أمره بالمبادرة إلى الجواب أي قل الله أنزله فإنهم لا يقدرون أن يناكروك ، لأن الكتاب الموصوف بالنور والهدى الآتي به من أيد بالمعجزات بلغت دلالته من الوضوح إلى حيث يجب أن يعترف بأن منزله هو الله سواء أقرّ الخصم بها أم لم يقر ، ونظيره : { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله } قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى فإن جهلوا أو تحيروا أو سألوا ونحو هذا فقل الله انتهى ، ولا يحتاج إلى هذا التقدير لأن الكلام مستغن عنه.
{ ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } أي في باطلهم الذي يخوضون فيه ويقال لمن كان في عمل لا يجدي عليه إنما أنت لاعب و { يلعبون } حال من مفعول ذرهم أي من ضمير { خوضهم } و { في خوضهم } متعلق ب { ذرهم } أو ب { يلعبون } أو حال من { يلعبون } وظاهر الأمر أنه موادعة فيكون منسوخاً بآيات القتال وإن جعل تهديداً أو وعيداً خالياً من موادعة فلا نسخ.

{ وهذا كتاب أنزلناه مبارك } أي وهذا القرآن لما ذكر وقرر أن إنكار من أنكر أن يكون الله أنزل على بشر شيئاً وحاجهم بما لا يقدرون على إنكاره أخبر أن هذا الكتاب الذي أنزل على الرسول مبارك كثير النفع والفائدة ، ولما كان الإنكار إنما وقع على الإنزال فقالوا : { ما أنزل الله } ، وقيل : { قل من أنزل الكتاب } كان تقديم وصفه بالإنزال آكد من وصفه بكونه مباركاً ولأن ما أنزل الله تعالى فهو مبارك قطعاً فصارت الصفة بكونه مباركاً ، كأنها صفة مؤكدة إذ تضمنها ما قبلها ، فأما قوله : { وهذا ذكر مبارك أنزلناه } فلم يرد في معرض إنكار أن ينزل الله شيئاً بل جاء عقب قوله تعالى : { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرى للمتقين } ذكر أن الذي آتاه الرسول هو ذكر مبارك ولما كان الإنزال يتجدد عبر بالوصف الذي هو فعل ، ولما كان وصفه بالبركة وصفاً لا يفارق عبر بالاسم الدال على الثبوت.
{ مصدق الذي بين يديه } أي من كتب الله المنزلة ، وقيل التوراة ، وقيل البعث ، قال ابن عطية : وهذا غير صحيح لأن القرآن هو بين يدي القيامة.
{ ولتنذر أم القرى ومن حولها } { أم القرى } مكة وسميت بذلك لأنها منشأ الدين ودحو الأرض منها ولأنها وسط الأرض ولكونها قبلة وموضع الحج ومكان أول بيت وضع للناس ، والمعنى : { ولتنذر } أهل { أم القرى ومن حولها } وهم سائر أهل الأرض قاله ابن عباس ، وقيل : العرب وقد استدل بقوله : { أم القرى ومن حولها } طائفة من اليهود زعموا أنه رسول إلى العرب فقط ، قالوا : { ومن حولها } هي القرى المحيطة بها وهي جزيرة العرب ، وأجيب بأن { ومن حولها } عام في جميع الأرض ولو فرضنا الخصوص لم يكن في ذكر جزيرة العرب دليل على انتفاء الحكم عن ما سواها إلا بالمفهوم وهو ضعيف ، وحذف أهل الدلالة المعنى عليه لأن الأبنية لا تنذر كقوله : { واسأل القرية } لأن القرية لا تسأل ولم تحذف من فيعطف { حولها } على { أم القرى } وإن كان من حيث المعنى كان يصح لأن حول ظرف لا يتصرف فلو عطف على أم القرى لزم أن يكون مفعولاً به لعطفه على المفعول به وذلك لا يجوز لأن في استعماله مفعولاً به خروجاً عن الظرفية وذلك لا يجوز فيه لأنه كما قلنا لم تستعمله العرب إلاّ لازم الظرفية غير متصرف فيه بغيرها ، وقرأ أبو بكر لينذر أي القرآن بمواعظه وأوامره ، وقرأ الجمهور { ولتنذر } خطاباً للرسول والمعنى { ولتنذر } به أنزلناه فاللام تتعلق بمتأخر محذوف دل عليه ما قبله ، وقال الزمخشري : { ولتنذر } معطوف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قيل : أنزلنا للبركات وتصديق ما تقدمه من الكتب والإنذار.
{ والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به } الظاهر أن الضمير في { به } عائد على الكتاب أي الذين يصدقون بأن لهم حشراً ونشراً وجزاءً تؤمنون بهذا الكتاب لما انطوى عليه من ذكر الوعد والوعيد والتبشير والتهديد ، إذ ليس فيه كتاب من الكتب الإلهية ولا في شريعة من الشرائع ما في هذا الكتاب ولا ما في هذه الشريعة من تقدير يوم القيامة والبعث ، والمعنى : يؤمنون به الإيمان المعتضد بالحجة الصحيحة وإلا فأهل الكتاب يؤمنون بالبعث ولا يؤمنون بالقرآن واكتفى بذكر الإيمان بالبعث وهو أحد الأركان الستة التي هي واجب الوجود والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر لأن الإيمان به يستلزم الإيمان بباقيها ولإسماع كفار العرب وغيرهم ممن لا يؤمن بالبعث ، أن من آمن بالبعث آمن بهذا الكتاب وأصل الدين خوف العاقبة فمن خالفها لم يزل به الخوف حتى يؤمن ، وقيل : يعود الضمير على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{ وهم على صلاتهم يحافظون } خص الصلاة لأنها عماد الدين ومن حافظ عليها كان محافظاً على أخواتها ومعنى المحافظة المواظبة على أدائها في أوقاتها على أحسن ما توقع عليه والصلاة أشرف العبادات بعد الإيمان بالله ولذلك لم يوقع اسم الإيمان على شيء من العبادات إلا عليها قال تعالى : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } أي صلاتكم ولم يقع الكفر على شيء من المعاصي إلا على تركها.
روي : « من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر » وقرأ الجمهور { على صلاتهم } بالتوحيد والمراد به الجنس وروى خلف عن يحيى عن أبي بكر صلواتهم بالجمع ذكر ذلك أبو علي الحسن بن محمد بن إبراهيم البغدادي في كتاب الروضة من تأليفه وقال تفرد بذلك عن جميع الناس.
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليّ ولم يوحَ إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } ذكر الزهراوي والمهدوي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث قيل : وفي المستهزئين معه لأنه عارض القرآن بقوله : والزارعات زرعاً والخابزات خبزاً والطابخات طبخاً والطاحنات طحناً واللاقمات لقماً إلى غير ذلك من السخافات ، وقال قتادة وغيره : المراد بها مسيلمة الحنفي والأسود العنسي وذكروا رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم للسوارين ، وقال الزمخشري : وهو مسيلمة الحنفي أو كذاب صنعاء الأسود العنسي.
وقال السدي : المراد بها عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري أخو عثمان من الرضاعة كتب آية { قد أفلح } بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم فلما أمل عليه { ثم خلقنا النطفة علقة } عجب من تفصيل خلق الإنسان فقال : { فتبارك الله أحسن الخالقين } فقال الرسول : « اكتبها فهكذا أنزلت » فتوهم عبد الله ولحق بمكة مرتداً وقال : أنا أنزل مثل ما أنزل الله ، وقال عكرمة : أولها في مسيلمة وآخرها في ابن أبي سرح وروي عنه أنه كان إذا أملي عليه

{ سميعاً عليماً } كتب هو عليماً حكيماً وإذا قال : عليماً حكيماً كتب هو غفوراً رحيماً ، وقال شرحبيل بن سعد : نزلت في ابن أبي سرح ومن قال : سأنزل مثل ما أنزل الله ارتد ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح فغيبه عثمان وكان أخاه من الرضاعة حتى اطمأن أهل مكة ثم أتى به الرسول فاستأمن له الرسول فأمّنه.
انتهى ، وقد ولاه عثمان بن عفان في أيامه وفتحت على يديه الأمصار ففتح أفريقية سنة إحدى وثلاثين وغزا الأساود من أرض النوبة وهو الذي هادنهم الهدنة الباقية إلى اليوم وغزا الصواري من أرض الروم وكان قد حسن إسلامه ولم يظهر عليه شيء ينكر عليه وهو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش وفارس بني عامر بن لؤي وأقام بعسقلان ، قيل : أو الرملة فاراً من الفتنة حين قتل عثمان ومات بها سنة ست ، قيل : أو سبع وثلاثين ودعا ربه فقال : اللهم اجعل خاتمة عملي صلاة الصبح ، فقبض آخر الصبح وقد سلم عن يمينه وذهب يسلم عن يساره وذلك قبل أن يجتمع الناس على معاوية.
ولما ذكر القرآن وأنه كتاب منزل من عنده مبارك أعقبه بوعيد من ادعى النبوة والرسالة على سبيل الافتراء ، وتقدم الكلام على { ومن أظلم } وفسروه بأنه استفهام معناه النفي أي لا أحد أظلم وبدأ أولاً بالعام وهو افتراء الكذب على الله وهو أعم من أن يكون ذلك الافتراء بادعاء وحي أو غيره ثم ثانياً بالخاص وهو افتراء منسوب إلى وحي من الله تعالى { ولم يوح إليه شيء } جملة حالية أو غير موحى إليه لأن من قال أوحي إليّ وهو موحى إليه هو صادق ثم ثانياً بأخص مما قبله ، لأن الوحي قد يكون بإنزال قرآن وبغيره وقصة ابن أبي سرح هي دعواه أنه سينزل قرآناً مثل ما أنزل الله وقوله : { مثل ما أنزل الله } لبس معتقده أن الله أنزل شيئاً وإنما المعنى { مثل ما أنزل الله } على زعمكم وإعادة من تدل على تغاير مدلوله لمدلول من المتقدمة فالذي قال { سأنزل } غير من افترى أو قال : أوحى وإن كان ينطلق عليه ما قبله انطلاق العام على الخاص وقوله : { سأنزل } وعد كاذب وتسميته إنزالاً مجاز وإنما المعنى سأنظم كلاماً يماثل ما ادعيتم إن الله أنزله ، وقرأ أبو حيوة ما نزل بالتشديد وهذه الآية وإن كان سبب نزولها في مخصوصين فهي شاملة لكل من ادعى مثل دعواهم كطليحة الأسدي والمختار بن أبي عبيد الثقفي وسجاح وغيرهم ، وقد ادعى النبوة عالم كثيرون كان ممن عاصرناه ابراهيم الغازازي الفقير ادعى ذلك بمدينة مالقة وقتله السلطان أبو عبد الله محمد بن يوسف بن نصر الخزرجي ملك الأندلس بغرناطة وصلبه ، وبارقطاش بن قسيم النيلي الشاعر تنبأ بمدينة النيل من أرض العراق وله قرآن صنعه ولم يقتل ، لأنه كان يضحك منه ويضعف في عقله.

{ ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت } الظالمون عام اندرج فيه اليهود والمتنبئة وغيرهم.
وقيل : أل للعهد أي من اليهود ومن تنبأ وهم الذين تقدم ذكرهم.
{ والملائكة باسطو أيديهم } قال ابن عباس : بالضرب أي ملائكة قبض الروح يضربون وجوههم وأدبارهم عند قبضه وقاله الفراء وليس المراد مجرد بسط اليد لاشتراك المؤمنين والكافرين في ذلك وهذا أوائل العذاب وأمارته ، وقال ابن عباس أيضاً يوم القيامة ، وقال الحسن والضحاك : بالعذاب ، وقال الحسن أيضاً : هذا يكون في النار.
{ أخرجوا أنفسكم } قال الزمخشري : يبسطون إليهم أيديهم يقولون : هاتوا أرواحكم أخرجوها إلينا من أجسادكم وهذه عبارة عن العنف في السياق والإلحاح الشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم المسلط ببسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له أخرج إليّ ما لي عليك الساعة وإلا أديم مكاني حتى أنزعه من أصدقائك ومن قال : إن بسط الأيدي هو في النار فالمعنى أخرجوا أنفسكم من هذه المصائب والمحن وخلصوها إن كان ما زعمتموه حقاً في الدنيا وفي ذلك توقيف وتوبيخ على سالف فعلهم القبيح ، وقيل هو أمر على سبيل الإهانة والإرعاب وإنهم بمنزلة من تولى إزهاق نفسه.
{ اليوم تجزون عذاب الهون } أي الهوان ، وقرأ عبد الله وعكرمة { عذاب الهون } بالألف وفتح الهاء و { اليوم } من قال : إن هذا في الدنيا كان عبارة عن وقت الإماتة والعذاب ما عذبوا به من شدة النزع أو الوقت الممتد المتطاول الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ ، ومن قال : إن هذا في القيامة كان عبارة عن يوم القيامة أو عن وقت خطابهم في النار ، وأضاف العذاب إلى الهون لتمكنه فيه لأن التنكيل قد يكون على سبيل الزجر والتأديب ، ولا هوان فيه وقد يكون على سبيل الهوان.
{ بما كنتم تقولون على الله غير الحق } القول على الله غير الحق يشمل كل نوع من الكفر ويدخل فيه دخولاً أولوياً من تقدم ذكره من المفترين على الله الكذب.
{ وكنتم عن آياته تستكبرون } أي عن الأيمان بآياته وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمراً عظيماً ولرأيت عجباً وحذفه أبلغ من ذكره وترى بمعنى رأيت لعمله في الظرف الماضي وهو إذ { والملائكة باسطو } جملة حالية و { أخرجوا } معمول لحال محذوفة أي قائلين أخرجوا وما في بما مصدرية.
{ ولقد جئتموننا فرادى كما خلقناكم أول مرة } قال عكرمة قال النضر بن الحارث : سوف تشفع في اللات والعزى فنزلت : ولما قال { اليوم تجزون عذاب الهون } وقفهم على أنهم يقدمون يوم القيامة منفردين لا ناظر لهم محتاجين إليه بعد أن كانوا ذوي خول وشفعاء في الدنيا ويظهر أن هذا الكلام هو من خطاب الملائكة الموكلين بعقابهم ، وقيل : هو كلام الله لهم وهذا مبني على أن الله تعالى يكلم الكفار ، وهو ظاهر من قوله :

{ فلنسألن الذين أرسل إليهم } ومن قوله : { لنسألنهم أجمعين } و { جئتمونا } من الماضي الذي أريد به المستقبل ، وقيل : هو ماض على حقيقته محكي فيقال لهم : حالة الوقوف بين يدي الله للجزاء والحساب ، قال ابن عباس : { فرادى } من الأهل والمال والولد ، وقال الحسن : كل واحد على حدته بلا أعوان ولا شفعاء ، وقال مقاتل : ليس معكم شيء من الدنيا تفتخرون به ، وقال الزّجاج : كل واحد مفرد عن شريكه وشفيعه ، وقال ابن كيسان : { فرادى } من المعبود ، وقيل : أعدناكم بلا معين ولا ناصر وهذه الأقوال متقاربة لما كانوا في الدنيا جهدوا في تحصيل الجاه والمال والشفعاء جاؤوا في الآخرة منفردين عن كل ما حصلوه في الدنيا ، وقرىء فراد غير مصروف ، وقرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة فراداً بالتنوين وأبو عمرو ونافع في حكاية خارجة عنهما فردى مثل سكرى كقوله : { وترى الناس سكارى } وأنث على معنى الجماعة والكاف في كما في موضع نصب ، قيل : بدل من فرادى ، وقيل : نعت لمصدر محذوف أي مجيئا { كما خلقناكم } يريد كمجيئكم يوم خلقناكم وهو شبيه بالانفراد الأول وقت الخلقة فهو تقييد لحالة الانفراد تشبيه بحالة الخلق لأن الإنسان يخلق أقشر لا مال له ولا ولد ولا حشم ، وقيل : عراة غرلاً ومن قال : على الهيئة التي ولدت عليها في الانفراد يشمل هذين القولين وانتصب أول مرة على الظرف أي أول زمان ولا يتقدر أول خلق الله لأن أول خلق يستدعي خلقاً ثانياً ولا يخلق ثانياً إنما ذلك إعادة لا خلق.
{ وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم } أي ما تفضلنا به عليكم في الدنيا لم ينفعكم ولم تحتملوا منه نقيراً ولا قدمتموه لأنفسكم وأشار بقوله : { وراء ظهوركم } إلى الدنيا لأنهم يتركون ما خولوه موجوداً.
{ وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } وقفهم على الخطأ في عبادتهم الأصنام وتعظيمها وقال مقاتل : كانوا يعتقدون شفاعة الملائكة ويقولون : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } و { فيكم } متعلق بشركاء والمعنى في استعبادكم لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها فقد جعلوا لله شركاء فيهم وفي استعبادهم ، وقيل : جعلوهم شركاء لله باعتبار أنهم يشفعون فيهم عنده فهم شركاء بهذا الاعتبار ويمكن أن يكون المعنى شركاء لله في تخليصكم من العذاب أن عبادتهم تنفعكم كما تنفعكم عبادته ، وقيل : { فيكم } بمعنى عندكم ، وقال ابن قتيبة إنهم لي في خلقكم شركاء ، وقيل : متحملون عنكم نصيباً من العذاب.
{ لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون } قرأ جمهور السبعة { بينكم } بالرفع على أنه اتسع في الظرف وأسند الفعل إليه فصار اسماً كما استعملوه اسماً في قوله : { ومن بيننا وبينك حجاب } وكما حكى سيبويه هو أحمر بين العينين ورجحه الفارسي أو على أنه أريد بالبين الوصل أي لقد تقطع وصلكم قاله أبو الفتح والزهراوي والمهدوي وقطع فيه ابن عطية وزعم أنه لم يسمع من العرب البين بمعنى الوصل وإنما انتزع ذلك من هذه الآية أو على أنه أريد بالبين الافتراق وذلك مجاز عن الأمر البعيد ، والمعنى : لقد تقطعت المسافة بينكم لطولها فعبر عن ذلك بالبين ، وقرأ نافع والكسائي وحفص { بينكم } بفتح النون وخرجه الأخفش على أنه فاعل ولكنه مبني على الفتح حملاً على أكثر أحوال هذا الظرف وقد يقال لإضافته إلى مبني كقوله :

{ ومنادون ذلك } وخرجه غيره على أن منصوب على الظرف وفاعل { تقطع } التقطع ، قال الزمخشري : وقع التقطع بينكم كما تقول : جمع بين الشيئين تريد أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل انتهى.
وظاهره ليس بجيد وتحريره أنه أسند الفعل إلى ضمير مصدره فأضمره فيه لأنه إن أسنده إلى صريح المصدر ، فهو محذوف فلا يجوز حذف الفاعل وهو مع هذا التقدير فليس بصحيح لأن شرط الإسناد مفقود فيه وهو تغاير الحكم والمحكوم عليه ، ولذلك لا يجوز قام ولا جلس وأنت تريد قام هو أي القيام ، وقيل : الفاعل مضمر يعود على الاتصال الدال عليه قوله : { شركاء } ولا يقدر الفاعل صريح المصدر كما قاله ابن عطية قال : ويكون الفعل مستنداً إلى شيء محذوف تقديره : لقد تقطع الاتصال والارتباط بينكم أو نحو هذا وهذا وجه واضح وعليه فسره الناس مجاهد والسدّي وغيرهما انتهى ، وقوله إلى شيء محذوف ليس بصحيح لأن الفاعل لا يحذف ، وأجاز أبو البقاء أن يكون بينكم صفة لفاعل محذوف أي لقد تقطع شيء بينكم أو وصل وليس بصحيح أيضاً لأن الفاعل لا يحذف والذي يظهر لي أن المسألة من باب الإعمال تسلط على { ما كنتم تزعمون } تقطع وضل فأعمل الثاني وهو ضل وأضمر في { تقطع } ضمير ما وهم الأصنام فالمعنى { لقد تقطع بينكم } { ما كنتم تزعمون } وضلوا عنكم كما قال تعالى : { وتقطعت بكم الأسباب } أي لم يبق اتصال بينكم وبين { ما كنتم تزعمون } أنهم شركاء فعبدتموهم وهذا إعراب سهل لم يتنبه له أحد ، وقرأ عبد الله ومجاهد والأعمش { ما بينكم } والمعنى تلف وذهب ما { بينكم } وبين { ما كنتم تزعمون } ومفعولاً { تزعمون } محذوفان التقدير تزعمونهم شفعاء حذفاً للدلالة عليهما كما قال الشاعر :
ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب . . .
أي وتحسبه عاراً ، ولأبي عبد الله الرازي في هذه الآية كلام يشبه آراء الفلاسفة قال في آخره وإليه الإشارة بقوله تعالى : { لقد تقطع بينكم } والمعنى أن الوصلة الحاصلة بين النفس والجسد قد انقطعت ولا سبيل إلى تحصيلها مرة أخرى انتهى.
وليس هذا مفهوماً من الآية.

إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)

فلق الشيء شقه.
النواة معروفة والنوى اسم جنس بينه وبين مفرده تاء التأنيث.
النجم معروف سمي بذلك لطلوعه يقال نجم النبت إذا طلع.
الإنشاء الإيجاد لا يفيد الابتداء بل على وجه النمو كما يقال في النبات أنشأه بمعنى النمو والزيادة إلى وقت الانتهاء.
مستودع مستفعل من الوديعة يكون مصدراً وزماناً ومكاناً ، والوديعة معروفة.
الخضر الغض وهو الرطب من البقول وغيرها ، قال الزجاج الخضر بمعنى الأخضر اخضرّ فهو أخضر وخضر كاعورّ فهو أعور وعور ، وقال غيره الخضر النضارة ولا مدخل للون فيه ومنه الدنيا خضرة حلوة والأخضر يغلب في اللون وهو في النضارة تجوز ، وقال الليث الخضر في كتاب الله الزرع وفي الكلام كل نبات من الخضرة.
تراكب الشيء ركب بعضه بعضاً.
الطلع أوّل ما يخرج من النخلة في أكمامه أطلعت النخلة أخرجت طلعها ، قال أبو عبيد وطلعها كعراها قبل أن ينشق عن الإغريض والإغريض يسمى طلعاً ويقال طلع يطلع طلوعاً.
القنو بكسر القاف وضمها العذق بكسر العين وهو الكباسة وهو عنقود النخلة ، وقيل الجمار حكاه القرطبي وجمعه في القلة أقناء وفي الكثرة قنوان بكسر القاف في لغة الحجاز وضمها في لغة قيس وبالياء بدل الواو في لغة ربيعة وتميم بكسر القاف وضمها ويجتمعون في المفرد على قنو ، وقنو بالواو ولا يقولون فيه قنى ولا قنى.
الزيتون شجر معروف ووزنه فيعول كقيصوم لقولهم أرض زتنة ولعدم فعلول أو قلته فمادّته مغايرة لمادّة الزيت.
الرمّان فعال كالحماض والعناب وليس بفعلان لقولهم أرض رمنة.
الينع مصدر ينع بفتح الياء في لغة الحجاز وبضمها في لغة بعض نجد وكذا اليُنُع بضم الياء والنون والينوع بواو بعد الضمتين يقال ينعت الثمرة إذا أدركت ونضجت وأينعت أيضاً ومنه قول الحجاج : أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها ، قال الفراء ينع الثمر وأينع واحمرّ ومنه في حديث الملاعنة أن ولدته أحمر مثل الينعة وهي خرزة حمراء يقال أنها العقيق أو نوع منه ، وقيل الينع جمع يانع كتاجر وتجر وصاحب وصحب.
خرق وخرّق اختلق وافترى.
اللطيف قال ابن أعرابي هو الذي يوصل إليك أربك في رفق ومنه لطف الله بك ، وقال الأزهريّ اللطيف من أسمائه تعالى الرفيق بعباده ، وقيل اللطيف ضد الكثيف.
السب الشتم.
الفؤاد القلب.
{ إن الله فالق الحب والنوى } الظاهر أن المعنى أنه تعالى { فالق الحب } شاقه فمخرج منه { النبات والنوى } فمخرج منه الشجر ، والحب والنوى عامّان أي كل حبة وكل نواة وبه قال قتادة والضحاك والسدي وغيرهم قالوا : هذه إشارة إلى فعل الله في أن يشق جميع الحب عن جميع النبات الذي يكون منه ويشق النوى عن جميع الأشجار الكائنة عنه؛ وقال ابن عباس والضحاك أيضاً { فالق } بمعنى خالق؛ قيل ولا يعرف ذلك في اللغة ، وقال تاج القراء : فطر وخلق وفلق بمعنى واحد ، وقال مجاهد وأبو مالك : إشارة في الشق الذي في حبة البرّ ونواة التمر ، وقال اسماعيل الضرير : المعنى فالق ما فيه الحب من السنبل وما فيه النوى من التمر وأما أشبهه ، وقال الماتريدي وخصّهما بالذكر لأن جميع ما في الدنيا من الإبدال منهما فأضاف ذلك إلى نفسه كما أضاف خلق جميع البشر إلى نفس واحدة لأنهم منها في قوله

{ خلقكم من نفس واحدة } فكأنه قال : خالق الإبدال كلها انتهى ، ولما كان قد تقدم ذكر البعث نبه على قدرته تعالى الباهرة في شق النواة مع صلابتها وإخراجه منها نبتاً أخضر ليناً إلى ما بعد ذلك مما فيه إشارة إلى القدرة التامة والبعث والنشر بعد الموت ، وقرأ عبد الله { فالق الحب } جعله فعلاً ماضياً.
{ يخرج الحيّ من الميت ومخرج الميت من الحيّ } تقدم تفسير هذا في أوائل آل عمران وعطف قوله : { ومخرج الميت } على قوله : { فالق الحب } اسم فاعل على اسم فاعل ولم يعطفه على يخرج لأن قوله : { فالق الحب والنوى } من جنس إخراج الحيّ من الميت لأن النامي في حكم الحيوان ألا ترى إلى قوله : { يحيي الأرض بعد موتها } فوقع قوله : { يخرج الحيّ من الميت } من قوله : { فالق الحب والنوى } موقع الجملة المبينة فلذلك عطف اسم الفاعل لا على الفعل ولما كان هذا مفقوداً في آل عمران وتقدم قبل ذلك جملتان فعليتان وهما { يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل } كان العطف بالفعل على أنه يجوز أن يكون معطوفاً وهو اسم فاعل على المضارع لأنه في معناه كما قال الشاعر :
بات يغشيها بعضب باتر . . .
يقصد في أسوقها وجائر
{ ذلكم الله فأنى تؤفكون } أي ذلكم المتصف بالقدرة الباهرة فأنى تصرفون عن عبادته وتوحيده والإيمان بالبعث إلى عبادة غيره واتخاذ شريك معه وإنكار البعث.
{ فالق الإصباح } مصدر سمي به الصبح ، قال الشاعر :
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي . . .
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
( فإن قلت ) : الظلمة هي التي تنفلق عن الصبح كما قال الشاعر :
تفرّي ليل عن بياض نهار . . .
.
فالجواب من وجوه : أحدها : أن يكون ذلك على حذف مضاف أي فالق ظلمة الإصباح وهي الغبش الذي يلي الصبح أو يكون على ظاهره ومعناه فالقه عن بياض النهار.
وقالوا : انصدع الفجر وانشق عمود الفجر ، قال الشاعر :
فانشق عنها عمود الصبح جافلة . . .
عدو النحوص تخاف القانص اللحيا
وسموا الفجر فلقاً بمعنى مفلوق أو يكون المعنى مظهر الإصباح إلا أنه لما كان الفلق مقتضياً لذلك الإظهار أطلق على الإظهارفلقاً والمراد المسبب وهو الإظهار ، وقيل : { فالق الإصباح } خالق ، وقال مجاهد : الإصباح إضاءة الفجر ، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أن { الإصباح } ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل ، وقال الليث والفراء والزجاج : الصبح والصباح والإصباح أول النهار قال :

أفنى رياحاً وبني رياح . . .
تناسخ الإمساء والإصباح
يريد المساء والصباح ويروى بفتح الهمزة جمع مسي وصبح ، وقال ابن عباس أيضاً : معناه خالق النهار والليل ، وقال الكرماني : شاق عمود الصبح عن الظلمة وكاشفه ، وقرأ الحسن وعيسى وأبو رجاء الأصباح بفتح الهمزة جمع صبح وقرأت فرقة بنصب { الإصباح } وحذف تنوين { فالق } وسيبويه إنما يجوز هذا في الشعر نحو قوله :
ولا ذاكر اللَّه إلا قليلاً . . .
حذف التنوين لالتقاء الساكنين والمبرد يجوّزه في الكلام ، وقرأ النخعي وابن وثاب وأبو حيوة فلق الإصباح فعلاً ماضياً.
{ وجاعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً } لما استدل على باهر حكمته وقدرته بدلالة أحوال النبات والحيوان وذلك من الأحوال الأرضية استدل أيضاً على ذلك بالأحوال الفلكية لأن قوله فلق الصبح أعظم من فلق الحب والنوى ، لأن الأحوال الفلكية أعظم وقعاً في النفوس من الأحوال الأرضية ، والسكن فعل بمعنى مفعول أي مسكون إليه وهو من تستأنس به وتطمئن إليه ومنه قيل للنار لأنه يستأنس بها ولذلك يسمونها المؤنسة ، ومعنى أن الليل سكن لأن الإنسان يتعب نهاره ويسكن في الليل ولذلك قال تعالى : { لتسكنوا فيه } والحسبان جمع حساب كشهاب وشهبان قاله الأخفش أو مصدر حسب الشيء والحساب الاسم قاله يعقوب ، قال ابن عباس : يعني بها عدد الأيام والشهور والسنين ، وقال قتادة : { حسباناً } ضياء انتهى.
قيل : وتسمى النار حسباناً وفي صحيح البخاري.
قال مجاهد : المراد حسبان كحسبان الرحى وهو الدولاب والعود الذي عليه دورانه ، وقال تاج القرّاء : { حسباناً } أي بحساب قال تعالى : { الشمس والقمر بحسبان } والمعنى أنه جعل سيرهما بحساب ومقدار لأن الشمس تقطع البروج كلها في ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً وربع يوم وتعود إلى مكانها والقمر يقطعها في ثمانية وعشرين يوماً ، وبدورانهما يعرف الناس حساب الأيام والشهور والأعوام ، وقيل : يجريان بحساب وعدد لبلوغ نهاية آجالهما ، وقال الزمخشري : جعلهما على حساب لأن حساب الأوقات يعلم بدورهما وسيرهما ، وقرأ الكوفيون { وجعل الليل } فعلاً ماضياً لما كان { فالق } بمعنى المضي حسن عطف { وجعل } عليه وانتصب { والشمس والقمر حسباناً } عطفاً على { الليل سكناً } ، وقرأ باقي السبعة { وجاعل } باسم الفاعل مضافاً إلى { الليل } والظاهر أنه اسم فاعل ماض ولا يعمل عند البصريين فانتصاب { سكناً } على إضمار فعل أي يجعله سكناً لا باسم الفاعل هذا مذهب أبي علي فيما انتصب مفعولاً ثانياً بعد اسم فاعل ماض وذهب السيرافي إلى أنه ينتصب باسم الفاعل وإن كان ماضياً لأنه لما وجبت إضافته إلى الأول لم تكن أن يضاف إلى الثاني فعمل فيه النصب وإن كان ماضياً وهذه مسألة تذكر في علم النحو وأما من أجاز إعمال اسم الفاعل الماضي وهو الكسائي وهشام فسكناً منصوب به ، وقرأ يعقوب ساكناً ، قال الداني : ولا يصح عنه ، وقرأ أبو حيوة بجر { والشمس والقمر حسباناً } عطفاً على { الليل سكناً } وأما قراءة النصب وهي قراءة الجمهور فعلى قراءة { جاعل الليل } ينتصبان على إضمار فعل أي وجعل الشمس والقمر حسباناً ، قال الزمخشري : أو يعطفان على محل الليل ، ( فإن قلت ) : كيف يكون لليل محل؟ والإضافة حقيقة لأن اسم الفاعل المضاف إليه في معنى المضي ولا تقول زيد ضارب عمراً أمس ( قلت ) : ما هو في معنى الماضي وإنما هو دال على جعل مستمر في الأزمنة انتهى ، وملخصه أنه ليس اسم فاعل ماضياً فلا يلزم أن يكون عاملاً فيكون للمضاف إليه موضع من الإعراب ، وهذا على مذهب البصريين أن اسم الفاعل الماضي لا يعمل وأما قوله إنما هو دال على جعل مستمر في الأزمنة يعني فيكون إذ ذاك عاملاً ويكون للمجرور بعده موضع من الإعراب فيعطف عليه { والشمس والقمر } وهذا ليس بصحيح إذا كان لا يتقيد بزمان خاص وإنما هو للاستمرار فلا يجوز له أن يعمل ولا لمجروره محل وقد نصوا على ذلك وأنشدوا :

ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة . . .
فليس الكاسب هنا مقيداً بزمان وإذا تقيد بزمان فإما أن يكون ماضياً دون أل فلا يعمل إذ ذاك عند البصريين أو بأل أو حالاً أو مستقبلاً فيجوز إعماله ، والإضافة إليه على ما أحكم في علم النحو وفصل وعلى تسليم أن يكون حالاً على الاستمرار في الأزمنة وتعمل فلا يجوز العطف على محل مجروره بل لو كان حالاً أو مستقبلاً لم يجز ذلك على القول الصحيح وهو مذهب سيبويه ، فلو قلت : زيد ضارب عمرو الآن أو غداً أو خالداً لم يجز أن تعطف وخالداً.
على موضع عمرو وعلى مذهب سيبويه بل تقدره وتضرب خالداً لأن شرط العطف على الموضع مفقود فيه وهو أن يكون الموضع محرزاً لا يتغير ، وهذا موضح في علم النحو وقرىء شاذاً { والشمس والقمر } برفعهما على الابتداء والخبر محذوف تقديره مجعولان حسباناً أو محسوبان حسباناً.
{ ذلك تقدير العزيز العليم } أي ذلك الجعل أو ذلك الفلق والجعل أو ذلك إشارة إلى جميع الأخبار من قوله : { فالق الحب } إلى آخرها تقدير العزيز الغالب الذي كل شيء من هذه في تسخيره وقهره العليم الذي لا يعزب عنه شيء من هذه الأحوال ولا من غيرها وفي جعل ذلك كله بتقديره دلالة على أنه هو المختص الفاعل المختار لا أن ذلك فيها بالطبع ولا بالخاصية.
{ وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر } نبه على أعظم فوائد خلقها وهي الهداية للطرق والمسالك والجهات التي تقصد والقبلة إذ حركات الكواكب في الليل يستدل بها على القبلة كما يستدل بحركة الشمس في النهار عليها ، والخطاب عام لكل الناس و { لتهتدوا } متعلق بجعل مضمرة لأنها بدل من { لكم } أي جعل ذلك لاهتدائكم و { جعل } معناها خلق فهي تتعدى إلى واحد ، قال ابن عطية : وقد يمكن أن تكون بمعنى صير ويقدر المفعول الثاني من { لتهتدوا } أي جعل لكم النجوم هداية انتهى ، وهو ضعيف لندور حذف أحد مفعولي باب ظن وأخواتها والظاهر أن الظلمات هنا على ظاهرها وأبعد من قال : يصح أن تكون الظلمات هنا الشدائد في المواضع التي يتفق أن يهتدى فيها بها ، وأضاف { الظلمات } إلى { البر والبحر } لملابستها لهما أو شبه مشتبهات الطرق بالظلمات وذكر تعالى النجوم في كتابه للزينة والرحم والهداية فما سوى ذلك اختلاق على الله وافتراء.

{ قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون } أي بينا وقسمنا وخص من يعلم لأنهم الذين ينتفعون بتفصيلها وأما غيرهم فمعرضون عن الآيات وعن الاستدلال بها.
{ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة } وهي آدم عليه السلام.
{ فمستقر ومستودع } قرأ الجمهور بفتح القاف جعلوه مكاناً أي موضع استقرار وموضع استيداع أو مصدراً أي فاستقرار واستيداع ولا يكون مستقر اسم مفعول لأنه لا يتعدّى فعله فيبنى منه اسم مفعول ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر القاف اسم فاعل وعلى هذه القراءة يكون { مستودع } بفتح الدال اسم مفعول لما ذكر إنشاءهم ذكر انقسامهم إلى مستقر { ومستودع } أي فمنكم مستقر { ومستودع } ، وروى هارون الأعور عن أبي عمرو { ومستودع } بكسر الدال اسم فاعل ، قال ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعطاء والنخعي والضحاك وقتادة والسدّي وابن زيد : مستقر في الرّحم { ومستودع } في الصلب ، وقال ابن بحر : عكسه قال والمعنى فذكّر وأنَّث عبر عن الذكر بالمستقر لأن النطفة إنما تتولد في صلبه وعبر عن الأنثى بالمستودع لأن رحمها مستودع للنطفة ، وقال ابن مسعود : إن المستقر في الرّحم والمستودع في القبر ، وروي عن ابن عباس المستقر في الأرض والمستودع في الأصلاب وعنه كلاهما في الرّحم ، وعنه المستقر حيث يأوي والمستودع حيث يموت وعنه المستقر من خلق والمستودع من لم يخلق ، وقال مجاهد : المستقر في الدّنيا والمستودع عند الله ، وقيل : كلاهما في الدّنيا ، وقيل : المستقر الجنة والمستودع النار.
وقيل : مستقر في الآخرة بعمله { ومستودع } في أصله ينتقل من حال إلى حال ومن وقت إلى وقت إلى انتهاء أجله انتهى ، والذي يقتضيه النظر أن الاستقرار والاستيداع حالان يعتوران على الإنسان من الظهر إلى الرحم إلى الدنيا إلى القبر إلى الحشر إلى الجنة أو إلى النار ، وفي كل رتبة يحصل له استقرار واستيداع استقرار بالإضافة إلى ما قبلها واستيداع بالإضافة إلى ما بعدها ولفظ الوديعة يقتضي الانتقال.
{ قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون } لما كان الاهتداء بالنجوم واضحاً ختمه بقوله : { يعلمون } أي من له أدنى إدراك ينتفع بالنظر في النجوم وفائدتها ، ولما كان الإنشاء من نفس واحدة والتصريف في أحوال كثيرة يحتاج إلى فكر وتدقيق نظر ختمه بقوله : { يفقهون } إذ الفقه هو استعمال فطنة ودقة نظر وفكر فناسب ختم كل جملة بما يناسب ما صدّر به الكلام.

{ وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء } لما ذكر إنعامه تعالى بخلقنا ذكر إنعامه علينا بما يقوم به أودنا ومصالحنا والسماء هنا السحاب ، والظاهر أن المعنى بنبات كل شيء ما يسمى نباتاً في اللغة وهو ما ينمو من الحبوب والفواكه والبقول والحشائش والشجر ومعنى { كل شيء } مما ينبت وأشار إلى أن السبب واحد والمسببات كثيرة كما قال تعالى : { تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل } وقال الطبري : { نبات كل شيء } جميع ما ينمو من الحيوان والنبات والمعادن وغير ذلك ، لأن ذلك كله يتغذى وينمو بنزول الماء من السماء ، وقال الفراء : معناه رزق كل شيء أي ما يصلح غذاءً لكل شيء فيكون كل شيء مخصوصاً بالمتغذي ويكون إضافة النبات إليه إضافة بيانية بالكلية ، وعلى الوجهين السابقين تكون الإضافة راجعة في المعنى إلى إضافة ما يشبه الصفة إلى الموصوف إذ يصير المعنى : فأخرجنا به كل شيء منبت وفي قوله : { فأخرجنا } التفات من غيبة إلى تكلم بنون العظمة.
{ فأخرجنا منه خضراً } أي من النبات غضاً ناضراً طرياً و { فأخرجنا } معطوف على { فأخرجنا } وأجاز أبو البقاء أن يكون بدلاً من { فأخرجنا }.
{ نخرج منه حباً متراكماً } أي من الخضر كالقمح والشعير وسائر القطاني ومن الثمار كالرمان والصنوبر وغيرهما مما تراكب حبه وركب بعضه بعضاً و { نخرج } جملة في موضع الصفة لخضر أو يجوز أن يكون استئناف إخبار ، وقرأ الأعمش وابن محيصن يخرج منه حب متراكب على أنه مرفوع بيخرج ومتراكب صفة في نصبه ورفعه.
{ ومن النخل من طلعها قنوان دانية } أي قريبة من المتناول لقصرها ولصوق عروقها بالأرض قاله ابن عباس والبراء والضحاك وحسنه الزمخشري فقال : سهلة المجتنى معرضة للقاطف كالشيء الداني القريب المتناول ولأن النخلة وإن كانت صغيرة ينالها القاعد فإنها تأتي بالثمر ، وقال الحسن : قريب بعضها من بعض ، وقيل { دانية } مائلة ، قيل : وذكر الدانية دون ذكر السحوق لأن النعمة بها أظهر أو حذف السحوق لدلالة الدانية عليها كقوله : { سرابيل تقيكم الحر } أي والبرد.
وقرأ الجمهور { قنوان } بكسر القاف وقرأ الأعمش والخفاف عن أبي عمر والأعرج في رواية بضمها ورواه السلمي عن علي بن أبي طالب ، وقرأ الأعرج في رواية وهارون عن أبي عمرو { قنوان } بفتح القاف وخرجه أبو الفتح على أنه اسم جمع على فعلان لأن فعلاناً ليس من أبنية جمع التكسير ، وفي كتاب ابن عطية روي عن الأعرج ضم القاف على أنه جمع قنو بضم القاف ، وقال الفراء : وهي لغة قيس وأهل الحجاز والكسر أشهر في العرب وقنو على { قنوان } انتهى ، وهو مخالف لما نقلناه في المفردات من أن لغة الحجاز { قنوان } بكسر القاف وهذه الجملة مبتدأ وخبر و { من طلعها } بدل من { ومن النخل } والتقدير و { قنوان دانية } كائنة من طلع { النخل } وأفرد ذكر القنوان وجرد من قوله : { نبات كل شيء } نخرج منه خضراً لما في تجريدها من عظيم المنة والنعمة ، إذ كانت أعظم أو من أعظم قوت العرب وأبرزت في صورة المبتدأ والخبر ليدل على الثبوت والاستقرار وأن ذلك مفروغ منه ، وقال ابن عطية : { ومن النخل } تقديره نخرج من النخل ومن طلعها { قنوان } ابتداء خبره مقدم والجملة في موضع المفعول بتخرج انتهى.

وهذا خطأ لأن ما يتعدى إلى مفعول واحد لا تقع الجملة في موضع مفعوله إلا إذا كان الفعل مما يعلق وكانت الجملة فيها مانع من أن يعمل في شيء من مفرداتها الفعل من الموانع المشروحة في علم النحو و { نخرج } ليست مما يعلق وليس في الجملة ما يمنع من عمل الفعل في شيء من مفرداتها إذ لو كان الفعل هنا مقدّراً لتسلط على ما بعده ولكان التركيب والتقدير ونخرج { من النخل من طلعها } قنواناً دانية بالنصب ، وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة { أخرجنا } عليه تقديره ومخرجة من طلع النخل قنوان انتهى ، ولا حاجة إلى هذا التقدير إذ الجملة مستقلة في الاخبار بدونه ، وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون { قنوان } مبتدأ والخبر { من طلعها } وفي { من النخل } ضمير تقديره وينبت من النخل شيء أو ثمر فيكون { من طلعها } بدلاً منه ، ويجوز أن يرتفع { قنوان } على أنه فاعل { من طلعها } فيكون في { من النخل } ضمير يفسره { قنوان } وإن رفعت { قنوان } بقوله : { من النخل } على قول من أعمل أول الفعلين جاز وكان في { من طلعها } ضمير مرفوع انتهى ، وهو إعراب فيه تخليط لا يسوغ في القرآن ومن قرأ { يخرج منه حب متراكب } جاز أن يكون قوله : { من النخل من طلعها قنوان دانية } معطوفاً عليه كما تقول يضرب في الدار زيد ، وفي السوق عمرو وجاز أن يكون مبتدأ وخبراً وهو الأوجه.
{ وجنات من أعناب } قراءة الجمهور بكسر التاء عطفاً على قوله نبات وهو من عطف الخاص على العام لشرفه ولما جرد النخل جردت { جنات } الأعناب لشرفهما ، كما قال : { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب } وقرأ محمد بن أبي ليلى والأعمش وأبو بكر في رواية عنه عن عاصم { وجنات } بالرفع وأنكر أبو عبيد وأبو حاتم هذه القراءة حتى قال أبو حاتم : هي محال لأن الجنات من الأعناب لا تكون من النخل ولا يسوغ إنكار هذه القراءة ولها التوجيه الجيد في العربية وجهت على أنه مبتدأ محذوف الخبر فقدره النحاس ولهم جنات وقدره ابن عطية ، ولكم جنات وقدره أبو البقاء ومن الكرم جنات وقدره ومن الكرم لقوله : { ومن النخل } وقدره الزمخشري وثم جنات أي مع النخل ونظيره قراءة من قرأ { وحور عين } بالرفع بعد قوله :

{ يطاف عليهم بكأس من معين } الآية وتقديره ولهم حور وأجاز مثل هذا سيبويه والكسائي والفراء ومثله كثير وقدر الخبر أيضاً مؤخراً تقديره { وجنات من أعناب } أخرجناها ودل على تقديره قوله قبل : { فأخرجنا } كما تقول : أكرمت عبد الله وأخوه التقدير وأخوه أكرمته فحذف أكرمته لدلالة أكرمت عليه ، ووجهها الطبري على أن { وجنات } عطف على { قنوان } ، قال ابن عطية : وقوله ضعيف ، وقال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون معطوفاً على { قنوان } لأن العنب لا يخرج من النخل ، وقال الزمخشري : وقد ذكر أن في رفعه وجهين أحدهما أن يكون مبتدأ محذوف الخبر تقديره وثم جنات وتقدّم ذكر هذا التقدير عنه ، قال : والثاني أن يعطف على { قنوان } على معنى وحاصله أو ومخرجه من النخل قنوان { وجنات من أعناب } أي من نبات أعناب انتهى ، وهذا العطف هو على أن لا يلاحظ فيه قيد من النخل فكأنه قال { من النخل قنوان دانية } { جنات من أعناب } حاصلة كما تقول من بني تميم رجل عاقل ورجل من قريش منطلقان.
{ والزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه } قرىء بالنصب إجماعاً.
قال ابن عطية : عطفاً على { حباً }.
وقيل : عطفاً على { نبات } ، وقال الزمخشري : وقرىء { وجنات } بالنصب عطفاً على { نبات كل شيء } أي وأخرجنا به { جنات من أعناب } وكذلك قوله : { والزيتون والرمان }.
انتهى فظاهره أنه معطوف على نبات كما أن { وجنات } معطوف عليه ، قال الزمخشري : والأحسن أن ينتصب على الاختصاص كقوله : { والمقيمين الصلاة } لفضل هذين الصنفين انتهى ، قال قتادة : يتشابه في الورق ويتباين في الثمر وتشابه الورق في الحجم وفي اشتماله على جميع الغصن ، وقال ابن جريج : متشابهاً في النظر وغير متشابه في الطعم مثل الرمانتين لونهما واحد وطعمهما مختلف ، وقال الطبري : جائز أن يتشابه في الثمر يتباين في الطعم ويحتمل أن يريد تشابه الطعم وتباين النظر ، وهذه الأحوال موجودة في الاعتبار في أنواع الثمرات ، وقال الزمخشري : بعضه متشابه وبعضه غير متشابه في القدر واللون والطعم وذلك دليل على أن التعمد دون الإهمال انتهى ، وقرأ الجمهور : { مشتبهاً } وقرىء شاذاً متشابهاً وهما بمعنى واحد كاختصم وتخاصم واشترك واستوى وتساوى ونحوها مما اشترك فيه باب الافتعال والتفاعل ، وانتصب { مشتبهاً } على أنه حال من { الرمان } لقربه وحذفت الحال من الأول أو حال من الأول لسبقه فالتقدير { والزيتون } مشتبهاً وغير متشابه { والرمان } كذلك هكذا قدره الزمخشري وقال كقوله : كنت منه ووالدي بريئاً. انتهى.
فعلى تقديره يكون تقدير البيت كنت منه بريئاً ووالدي كذلك أي بريئاً والبيت لا يتعين فيه ما ذكر لأن بريئاً على وزن فعيل كصديق ورفيق ، فيصح أن يخبر به عن المفرد والمثنى والمجموع فيحتمل أن يكون بريئاً خبر كان على اشتراك الضمير ، والظاهر المعطوف عليه فيه إذ يجوز أن يكون خبراً عنهما ولا يجوز أن يكون حالاً منهما وإن كان قد أجازه بعضهم إذ لو كان حالاً منهما لكان التركيب متشابهين وغيره متشابهين ، وقال الزجاج : قرن الزيتون بالرمان لأنهما شجرتان تعرف العرب أن ورقهما يشتمل على الغصن من أوله إلى آخره ، قال الشاعر :

بورك الميت الغريب كما بو . . .
رك نضج الرمان والزيتون
انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه } النظر نظر رؤية العين ولذلك عداه بإلى لكن يترتب عليه الفكر والاعتبار والاستبصار والاستدلال على قدرة باهرة تنقله من حال إلى حال ، ونبه على حالين الابتداء وهو وقت ابتداء الأثمار والانتهاء وهو وقت نضجه أي كيف يخرجه ضئيلاً ضعيفاً لا يكاد ينتفع به وكيف يعود نضيجاً مشتملاً على منافع؟ ونبه على هاتين الحالتين وإن كان بينهما أحوال يقع بها الاعتبار والاستبصار لأنهما أغرب في الوقوع وأظهر في الاستدلال ، وقرأ ابن وثاب ومجاهد وحمزة والكسائي { إلى ثمره } بضم الثاء والميم.
قال ابن وثاب : ومجاهد وهي أصناف الأموال يعني الأموال التي تتحصل منه ، قال أبو علي : والأحسن أن يكون جمع ثمرة كخشبة وخشب وأكمّة وأكم ونظيره في المعتل لابة ولوب وناقة ونوق وساحة وسوح وقرأت فرقة بضم الثاء وإسكان الميم طلباً للخفة كما تقول في الكتب كتب ، وقرأ باقي السبعة { ثمره } بفتح الثاء والميم وهو اسم جنس كشجرة وشجر والثمر حتى الشجر وما يطلع وإن سمى الشجرثمراً فمجاز والعامل في { إذا } { انظروا } وقرأ الجمهور { وينعه } بفتح الياء وسكون النون ، وقرأ قتادة والضحاك وابن محيصن بضم الياء وسكون النون ، وقرأ ابن أبي عبلة واليماني ويانعة اسم فاعل من ينع ونسبها الزمخشري إلى ابن محيصن ، وقال المروزي : { إذا أثمر } عند لا ظل له دائم فلا ينضج ولا شمس دائمة فتحرق أرسل على كل فاكهة ريحين مختلفين ريح تحرك الورق فيبدو الثمر فتقرعه الشمس وريح أخرى تحرك الورق وتظل الثمر فلا يحترق.
{ إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } الإشارة بذلكم إلى جميع ما سبق ذكره من فلق الحب والنوى إلى آخر ما خلق تعالى وما امتن به ، والآيات العلامات الدالة على كمال قدرته وإحكام صنعته وتفرده بالخلق دون غيره ، وظهور الآيات لا ينفع إلا لمن قدر الله له الإيمان فأما من سبق قدر الله له بالكفر فإنه لا ينتفع بهذه الآيات.
فنبه بتخصيص الإيمان على هذا المعنى وانظر إلى حسن مساق هذا الترتيب لما تقدم { أن الله فالق الحب والنوى } جاء الترتيب بعد ذلك تابعاً لهذا الترتيب فحين ذكر أنه أخرج نبات كل شيء ذكر الزرع وهو المراد بقوله : { خضراً نخرج منه حباً متراكباً } وابتدأ به كما ابتدأ به في قوله : { فالق الحب } ثم ثنى بما له نوى فقال : { من النخل من طلعها قنوان دانية } إلى آخره كما ثنى به في قوله : { والنوى } وقدم الزرع على الشجر لأنه غذاء والثمر فاكهة ، والغذاء مقدم على الفاكهة ، وقدم النخل على سائر الفواكه لأنه يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب ، وقدم العنب لأنه أشرف الفواكه وهو في جميع أطواره منتفع به حنوط ثم حصرم ثم عنب ثم إن عصر كان منه خل ودبس وإن جفف كان منه زبيب ، وقدم الزيتون لأنه كثير المنفعة في الأكل وفيما يعصر منه من الدهن العظيم النفع في الأكل والاستصباح وغيرهما ، وذكر الرمان لعجب حاله وغرابته فإنه مركب من قشر وشحم وعجم وماء ، فالثلاثة باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عفصة قوية في هذه الصفات ، وماؤه بالضد ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى حيز الاعتدال وفيه تقوية للمزاج الضعيف غذاء من وجه ودواء من وجه ، فجمع تعالى فيه بين المتضادين المتعاندين فما أبهر قدرته وأعجب ما خلق.

{ وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم } لما ذكر تعالى ما اختص به من باهر قدرته ومتقن صنعته وامتنانه على عالم الإنسان بما أوجد له مما يحتاج إليه في قوام حياته ، وبين ذلك { آيات لقوم يعلمون } و { لقوم يفقهون } { ولقوم يؤمنون } ذكر ما عاملوا به منشئهم من العدم وموجد أرزاقهم من إشراك غيره له في عبادته ، ونسبه ما هو مستحيل عليه من وصفه بسمات الحدوث من البنين والبنات ، وقال الكلبي : نزلت في الزنادقة قالوا إن الله خالق الناس والدواب وإبليس خالق الحيات والعقارب والسباع ويقرب من هذا قول المجوس قالوا : للعالم صانعان إله قديم ، والثاني : شيطان حادث من فكرة الإله القديم ، وكذلك الحائطية من المعتزلة من أصحاب أحمد بن حائط زعموا أن للعالم صانعين الإله القديم والآخر محدث خلقه الله أولاً ثم فوض إليه تدبير العالم ، وهو الذي يحاسب الخلق في الآخرة والضمير في { وجعلوا } عائد على الكفار لأنهم مشركون وأهل كتاب ، وقيل : هو عائد على عبدة الأوثان والنصارى قالت : المسيح ابن الله واليهود قالوا : عزير ابن الله وطوائف من العرب جعلوا لله تعالى بنات الملائكة وبنو مدلج زعموا أن الله تعالى صاهر الجن فولدت له الملائكة ، وقد قيل : إن من الملائكة طائفة يسمون الجن وإبليس ومنهم وهم خدم الجنة ، وقال الحسن : هذه الطوائف كلها أطاعوا الشيطان في عبادة الأوثان واعتقدوا الإلهية فيمن ليست له ، فجعلوهم شركاء لله في العبادة وظاهر الكلام أنهم جعلوا لله شركاء الجن أنفسهم ، وما قاله الحسن مخالف لهذا الظاهر ، إذ ظاهر كلامه أن الشركاء هي الأوثان وأنه جعلت طاعة الشيطان تشريكاً له مع الله تعالى إذ كان التشريك ناشئاً عن أمره وإغوائه وكذا قال إسماعيل الضرير : أراد بالجن إبليس أمرهم فأطاعوه ، وظاهر لفظ الجن أنهم الذين يتبادر إليهم الذهن من أنهم قسيم الإنس في قوله تعالى :

{ يا معشر الجن والإنس } وأنهم ليسوا الملائكة لقوله : { ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } قالوا : سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن ، فالآية مشيرة إلى الذين جعلوا الجن شركاء لله في عبادتهم إياهم وأنهم يعلمون الغيب ، وكانت طوائف من العرب تفعل ذلك وتستجير بجن الأودية في أسفارها ، والجمهور على نصب { الجن } وأعربه الزمخشري وابن عطية مفعولاً أولاً بجعلوا { وجعلوا } بمعنى صيروا { وشركاء } مفعول ثان و { لله } متعلق بشركاء ، قال الزمخشري ( فإن قلت ) : فما فائدة التقديم ( قلت ) : فائدته استعظام أن يتخذ لله شريك من كان ملكاً أو جنياً أو إنسياً أو غير ذلك ، ولذلك قدم اسم الله على الشركاء انتهى ، وأجاز الحوفي وأبو البقاء فيه أن يكون الجن بدلاً من { شركاء } و { لله } في موضع المفعول الثاني و { شركاء } هو المفعول الأول وما أجازاه لا يجوز ، لأنه يصح للبدل أن يحل محل المبدل منه فيكون الكلام منتظماً لو قلت وجعلوا لله الجن لم يصح وشرط البدل أن يكون على نية تكرار العامل على أشهر القولين أو معمولاً للعامل في المبدل منه على قول : وهذا لا يصح هنا البتة كما ذكرنا وأجاز الحوفي أن يكون شركاء المفعول الأول والجن المفعول الثاني كما هو ترتيب النظم ، وأجاز أبو البقاء أن يكون { لله شركاء } حالاً وكان لو تأخر للشركاء وأحسن مما أعربوه ما سمعت من أستاذنا العلامة أبي جعفر أحمد بن ابراهيم بن الزبير الثقفي يقول فيه قال انتصب الجن على إضمار فعل جواب سؤال مقدّر كأنه قيل من { جعلوا لله شركاء } قيل : الجن أي جعلوا الجن ويؤيد هذا المعنى قراءة أبي حيوة ويزيد بن قطيب الجن بالرفع على تقديرهم الجن جواباً لمن قال : من الذي جعلوه شريكاً فقيل له : هم الجن ويكون ذلك على سبيل الاستعظام لما فعلوه والانتقاص لمن جعلوه شريكاً لله.
وقرأ شعيب بن أبي حمزة : الجن بخفض النون ورويت هذه عن أبي حيوة وابن قطيب أيضاً ، قال الزمخشري : وقرىء على الإضافة التي للتبيين والمعنى أشركوهم في عبادته لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله انتهى ، ولا يتضح معنى هذه القراءة إذ التقدير : وجعلوا شركاء الجن لله ، وهذا معنى لا يظهر والضمير في { وخلقهم } عائد على الجاعلين إذ هم المحدث عنهم وهي جملة حالية أي وقد خلقهم وانفرد بإيجادهم دون من اتخذه شريكاً له وهم الجن فجعلوا من لم يخلقهم شريكاً لخالقهم وهذه غاية الجهالة ، وقيل الضمير يعود على الجن أي والله خلق من اتخذوه شريكاً له فهم متساوون في أن الجاعل والمجعول مخلوقون لله فكيف يناسب أن يجعل بعض المخلوق شريكاً لله تعالى؟ وقرأ يحيى بن يعمر { وخلقهم } بإسكان اللام وكذا في مصحف عبد الله ، والظاهر أنه عطف على الجن أي وجعلوا خلقهم الذي ينحتونه أصناماً شركاء لله كما قال تعالى :

{ أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون } فالخلق هنا واقع على المعمول المصنوع بمعنى المخلوق ، قال : هنا معناه ابن عطية ، وقال الزمخشري : وقرىء { وخلقهم } أي اختلاقهم الإفك يعني وجعلوا لله خلقهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم والله أمرنا بها انتهى ، فالخلق هنا مصدر بمعنى الاختلاق.
{ وخرقوا له بنين وبنات بغير علم } أي اختلقوا وافتروا ، ويقال خرق الإفك وخلقه واختلقه واخترقه واقتلعه وافتراه وخرصه إذ كذب فيه قاله الفراء ، وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه أي اشتقوا له بنين وبنات ، وقال قتادة ومجاهد وابن زيد وابن جريج : { خرقوا } كذبوا وأشار بقوله : { بنين } إلى أهل الكتابين في المسيح وعزير ، { وبنات } إلى قريش في الملائكة ، وقرأ نافع { وخرقوا } بتشديد الراء وباقي السبعة بتخفيفها ، وقرأ ابن عمر وابن عباس وحرفوا بالحاء المهملة والفاء وشدد ابن عمر الراء وخففها ابن عباس بمعنى وزورا له أولاداً لأن المزوّر محرف مغير للحق إلى الباطل ، ومعنى { بغير علم } من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطاب وصواب ، ولكن رمياً بقول عن عمي وجهالة من غير فكر وروية وفيه نص على قبح تقحمهم المجهلة وافترائهم الباطل.
{ سبحانه وتعالى عما يصفون } نزه ذاته عن تجويز المستحيلات عليه والتعالى هنا هو الارتفاع المجازي ومعناه أنه متقدّس في ذاته عن هذه الصفات قيل : وبين { سبحانه وتعالى } فرق من جهة أن سبحان مضاف إليه تعالى فهو من حيث المعنى منزه و { تعالى } فيه إسناد التعالي إليه على جهة الفاعلية فهو راجع إلى صفات الذات سواء سبحه أحد أم لم يسبحه.
{ بديع السموات والأرض } تقدّم تفسيره في البقرة.
{ أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } أي كيف يكون له ولد؟ وهذه حاله أي إن الولد إنما يكون من الزوجة وهو لا زوجة له ولا ولد ، وقرأ النخعي : ولم يكن بالياء ووجه على أن فيه ضميراً يعود على الله أو على أن فيه ضمير الشأن ، والجملة في هذين الوجهين في موضع خبر { تكن } أو على ارتفاع { صاحبة } بتكن وذكر للفصل بين الفعل والفاعل كقوله :
لقد ولد الأخيطل أم سوء . . .
وحضر للقاضي امرأة.
وقال ابن عطية : وتذكيرها وأخواتها مع تأنيث اسمها أسهل من ذلك في سائر الأفعال.
انتهى ، ولا أعرف هذا عن النحويين ، ولم يفرقوا بين كان وغيرها والظاهر ارتفاع بديع على أنه خبر مبتدأ أي هو بديع فيكون الكلام جملة واستقلال الجملة بعدها ، وجوزوا أن يكون بديع مبتدأ والجملة بعده خبره فيكون انتفاء الولدية من حيث المعنى بجهتين : إحداهما : انتفاء الصاحبةا والأخرى : كونه بديعاً أي عديم المثل ومبدعاً لما خلق ومن كان بهذه الصفة لا يمكن أن يكون له ولد لأن تقدير الولدية وتقدير الإبداع ينافي الولدية ، وهذه الآية رد على الكفار بقياس الغائب على الشاهد ، وقرأ المنصور : بديع بالجر رداً على قوله : { جعلوا لله } أو على { سبحانه }.

وقرأ صالح الشامي : { بديع } بالنصب على المدح.
{ وخلق كل شيء } قيل : هذا عموم معناه الخصوص أي وخلق العالم فلا تدخل فيه صفاته ولا ذاته كقوله : { ورحمتي وسعت كل شيء } ولا تسع إبليس ولا من مات كافراً وتدمر كل شيء ولم تدمر السموات والأرض ، قال ابن عطية : ليس هو عموماً مخصصاً على ما ذهب إليه قوم لأن العموم المخصص هو أن يتناول العموم شيئاً ثم يخرجه بالتخصيص ، وهذا لم يتناول قط هذا الذي ذكرناه وإنما هو بمنزلة قول الإنسان : قتلت كل فارس وأفحمت كل خصم فلم يدخل القاتل قط في هذا العموم الظاهر من لفظه ، قال الزمخشري : وفيه إبطال الولد من ثلاثة أوجه : أحدها : أن مبتدع السموات والأرض وهي أجسام عظيمة لا يستقيم أن يوصف بالولادة ، لأن الولادة من صفات الأجسام ومخترع الأجسام لا يكون جسماً حتى يكون والداً ، والثاني : أن الولادة لا تكون إلا بين زوجين من جنس واحد ، وهو تعالى متعال عن مجانس فلم يصح أن تكون له صاحبة فلم تصح الولادة ، والثالث : أنه ما من شيء إلا وهو خالقه والعالم به ومن كان بهذه الصفة كان غنياً عن كل شيء والولد إنما يطلبه المحتاج.
{ وهو بكل شيء عليم } قال ابن عطية : هذا عموم على الإطلاق لأن الله تعالى يعلم كل شيء ، وقال التبريري : { بكل شيء } من الواجب والممكن والممتنع.
{ ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل } أي { ذلكم } الموصوف بتلك الأوصاف السابقة من كونه بديعاً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً خالق الموجودات عالماً بكل شيء هو الله بدأ بالاسم العلم ثم قال : { ربكم } أي مالككم والناظر في مصالحكم ، والناظر في مصالحكم ، ثم حصر الألوهية فيه ثم كرر وصف خلقه { كل شيء } ثم أمر بعبادته لأن من استجمعت فيه هذه الصفات كان جديراً بالعبادة وأن يفرد بها فلا يتخذ معه شريك ، ثم أخبر أنه مع تلك الصفات السابقة التي منها خلق كل شيء وهو المالك لكل شيء من الأرزاق والآجال رقيب على الأعمال.
{ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } الإدراك قيل معناه الإحاطة بالشيء وبذلك فسره هنا ابن عباس وقتادة وعطية العوفي وابن المسيب والزجاج ، قال ابن المسيب لا تحيط به الأبصار ، وقال الزجاج : لا تحيط بحقيقته والإدراك يتضمن الإحاطة بالشيء والوصول إلى أعماقه وحوزه من جميع جهاته أو كنى بالإبصار عن الأشخاص لأن بها تدرك الأشخاص الأشياء ، وكان المعنى لا تدركه الخلق وهو يدركهم أو يكون المعنى إبصار القلب أي لا تدركه علوم الخلق وهو يدرك علومهم وذواتهم ، لأنه غير محاط به وهو على هذا مستحيل على الله عند المسلمين ولا تنافي الرؤية انتفاء الإدراك ، وقيل : الإدراك هنا الرؤية وهي مختلف فيها بين المسلمين فالمعتزلة يحيلونها وأهل السنة يجوزونها عقلاً ويقولون : هي واقعة سمعاً وهذه مسألة يبحث عنها في علم أصول الدين وفيه ذكر دلائل الفريقين مستوفاة وقد رأيت فيها لأبي جعفر الطوسي وهو من عقلاء الإمامية سفراً كبيراً ينصر فيه مقالة أصحابه نفاة الرؤية وقد استدل نفاة الرؤية بهذه الآية لمذهبهم وأجيبوا بأن الإدراك غير الرؤية ، وعلى تسليم أن الإدراك هو الرؤية فالإبصار مخصوصة أي أبصار الكفار الذين سبق ذكرهم أو لا تدركه في الدنيا ، قال الماتريدي : والبصر هو الجوهر اللطيف الذي ركبه الله تعالى في حاسة النظر به تدرك المبصرات وفي قوله : { وهو يدرك الأبصار } دلالة على أن الإدراك لا يراد به هنا مجرد الرؤية إذ لو كان مجرد الرؤية لم يكن له تعالى بذلك اختصاص ولا تمدح ، لأنا نحن نرى الأبصار فدل على أن معنى الإدراك الإحاطة بحقيقة الشيء فهو تعالى لا تحيط بحقيقته الأبصار وهو محيط بحقيقتها ، وقال الزمخشري : والمعنى أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه ، لأنه متعال أن يكون مبصراً في ذاته لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلاً أو تابعاً كالأجسام والهيئات { وهو يدرك الأبصار } وهو للطف إدراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك.

{ وهو اللطيف الخبير } يلطف عن أن تدركه الأبصار الخبير بكل لطيف { وهو يدرك الأبصار } لا تلطف عن إدراكه وهذا من باب اللف انتهى ، وهو على مذهبه الاعتزالي وتظافرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برؤية المؤمنين الله في الآخرة ، وقد اختلفوا هل رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا ببصره ليلة المعراج؟ فذهب جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين إلى إنكار ذلك ، وقالت عائشة وابن مسعود وأبو هريرة على خلاف عنهما بذلك ، وذهب ابن عباس وكعب والحسن وعكرمة وأحمد بن حنبل وأبو الحسن الأشعري وجماعة من الصحابة إلى أنه رآه ببصره وعيني رأسه ، وروي هذا عن ابن مسعود وأبي هريرة والأول عن ابن مسعود أشهر ، وقيل : { وهو يدرك الأبصار } معناه لا يخفى عليه شيء وخص الأبصار لتجنيس الكلام يعني المقابلة ، وقال الزجاج : في هذا دليل على أن الخلق لا يدركون الأبصار أي لا يعرفون كيفية حقيقة البصر الذي صار به الإنسان مبصراً من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه : { وهو اللطيف الخبير } قال أبو العالية : لطيف باستخراج الأشياء خبير بأماكنها.

{ قد جاءكم بصائر من ربكم } هذا وارد على لسان الرسول لقوله آخره { وما أنا عليكم بحفيظ } والبصيرة نور القلب الذي يستبصر به كما أن البصر نور العين الذي به تبصرأي جاءكم من الوحي والتنبيه بما يجوز على الله تعالى وما لا يجوز ما هو للقلوب كالبصائر قاله الزمخشري ، وقال ابن عطية : البصيرة هي ما ينقب عن تحصيل العقل للأشياء المنظور فيها بالاعتبار فكأنه قال : قد جاءكم في القرآن والآيات طرائق إبصار الحق والمعينة عليه والبصيرة للقلب مستعارة من إبصار العين ، وقال الحوفي : البصيرة الحجة البينة الظاهرة كما قال تعالى : { ادعوا إلى الله على بصيرة } { بل الإنسان على نفسه بصيرة } وقال الكلبي : البصائر آيات القرآن التي فيها الإيضاح والبينات والتنبيه على ما يجوز عليه وعلى ما يستحيل وإسناد المجيء إلى البصائر مجاز لتفخيم شأنها إذا كانت بمنزلة الغائب المتوقع حضوره كما يقال جاءت العافية.
{ فمن أبصر فلنفسه } أي فالإبصار لنفسه أي نفعه وثمرته.
{ ومن عمي فعليها } أي فالعمى عليها أي فجدوى العمى عائد على نفسه والإبصار والعمى كنايتان عن الهدى والضلال ، والمعنى أن ثمرة الهدى والضلال إنما هي للمهتدي والضال لأنه تعالى غني عن خلقه ، وهي من الكنايات الحسنة لما ذكر البصائر أعقبها تعالى بالإبصار والعمى وهذه مطابقة ، وقدره الزمخشري { فمن أبصر } الحق وآمن { فلنفسه } أبصر وإيّاها نفع { ومن عمي } عنه فعلى نفسه عمي والذي قدرناه من المصدر أولى وهو فالإبصار والعمى لوجهين : أحدهما : أن المحذوف يكون مفرداً لا جملة ويكون الجار والمجرور عمدة لا فضلة ، وفي تقديره هو المحذوف جملة والجار والمجرور فضلة ، والثاني : وهو أقوى وذلك أنه لو كان التقدير فعلاً لم تدخل الفاء سواء كانت من شرطاً أم موصولة مشبهة بالشرط لأن الفعل الماضي إذا لم يكن دعاء ولا جامداً ووقع جواب شرط أو خبر مبتدأ مشبه باسم الشرط لم تدخل الفاء في جواب الشرط ولا في خبر المبتدأ ، لو قلت : من جاءني فأكرمته لم يجز بخلاف تقديرنا فإنه لا بد فيه من الفاء ولا يجوز حذفها إلا في الشعر وقال أبو عبد الله الرازي : البصيرة اسم الإدراك التام الحاصل في القلب والآيات المتقدمة ليست في أنفسها بصائر إلا أنها لقوتها وجلائها توجب البصائر لمن عرفها ، فلما كانت أسباباً لحصول البصائر سميت بصائر.
{ وما أنا عليكم بحفيظ } أي برقيب أحصر أعمالكم أو بوكيل آخذكم بالإيمان أو بحافظكم من عذاب الله أو برب أجازيكم أو بشاهد أقوال رابعها للحسن وخامسها للزجاج ، وقال الزمخشري : { بحفيظ } أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم.
انتهى ، وهو بسط قول الحسن ، وقال ابن عطية : كان قبل ظهور الإسلام ثم بعد ذلك كان حفيظاً على العالم آخذاً لهم بالإسلام والسيف.
{ وكذلك نصرف الآيات } أي ومثل ما بينا تلك الآيات التي هي بصائر وصرفناها نصرف الآيات ونرددها على وجوه كثيرة.

{ وليقولوا درست } يعني أهل مكة حين يقرأ عليهم القرآن ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو دارست أي دارست يا محمد غيرك في هذه الأشياء أي قارأته وناظرته إشارة منهم إلى سلمان وغيره من الأعاجم واليهود ، وقرأ ابن عامر وجماعة من غير السبعة { درست } مبنياً للفاعل مضمراً فيه أي درست الآيات أي ترددت على أسماعهم حتى بليت وقدمت في نفوسهم وأمحيت ، وقرأ باقي السبعة { درست } يا محمد في الكتب القديمة ما تجيئنا به كما قالوا : { أساطير الأولين اكتتبها } وقال الضحاك : { درست } قرأت وتعلمت من أبي فكيهة وجبر ويسار ، وقرىء { درّست } بالتشديد والخطاب أي درست الكتب القديمة ، وقرىء درّست مشدداً مبنياً للمفعول المخاطب ، وقرىء دورست بالتخفيف والواو مبنياً للمفعول والواو مبدلة من الألف في دارست ، وقرأت فرقة دارست أي دارستك الجماعة الذين تتعلم منهم وجاز الإضمار ، لأن الشهرة بالدراسة كانت لليهود عندهم ، ويجوز أن يكون الفعل للآيات وهو لأهلها أي دارس أهل الآيات ، وقرأت فرقة { درست } بضم الرّاء مسنداً إلى غائب مبالغة في درست أي اشتد دروسها وبلاها ، وقرأ قتادة والحسن وزيد بن عليّ { درست } مبنياً للمفعول وفيه ضمير الآيات غائباً وهي قراءة ابن عباس بخلاف عنه ، قال أبو الفتح : ويحتمل أن يراد عفيت أو تليت وكذا قال الزمخشري : قال بمعنى قرئت أو عفيت أما بمعنى قرئت فظاهر لأن درس بمعنى كرّر القراء متعد وأما درس بمعنى بلى وأمحى فلا أحفظه متعدياً ، وما وجدناه في أشعار من وقفنا على شعره من العرب إلا لازماً ، وقرأ أبيّ درس أي محمد أو الكتاب وهي مصحف عبد الله ، وروي عن الحسن درسن مبنياً للفاعل مسنداً إلى النون أي درس الآيات وكذا هي في بعض مصاحف عبد الله ، وقرأت فرقة درسن بتشديد الراء مبالغة في درسن ، وقرىء دراسات أي هي قديمات أو ذات درس كعيشة راضية فهذه ثلاث عشر قراءة في هذه الكلمة ، وقرأت طائفة { وليقولوا } بسكون اللام على جهة الأمر المتضمن للتوبيخ والوعيد ، وقرأ الجمهور بكسرها وقالوا : هذه اللام هي التي تضمر أن بعدها والفعل منصوب بأن المضمرة.
قال ابن عطية : على أنها لام كي وهي على هذا لام الصيرورة كقوله : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } أي لما صار أمرهم إلى ذلك ، وقال الزمخشري : و { ليقولوا } جوابه محذوف تقديره وليقولوا دارست نصرفها ( فإن قلت ) : أي فرق بين اللامين في { ليقولوا } و { لنبينه } ( قلت ) : الفرق بينهما أن الأولى مجاز والثانية حقيقة وذلك أن الآيات صرفت للتبيين ولم تصرف ليقولوا دارست ولكنه لأنه حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين شبه به فسيق مساقه ، وقيل { ليقولوا } كما قيل : { لنبينه } انتهى ، وتسميته ما يتعلق به قوله { ليقولوا } جواباً اصطلاح غريب ومثل هذا لا يسمى جواباً لا تقول : في جئت من قولك : جئت لتقوم أنه جواب وهذا الذي ذكره الزمخشري من تخريج { ليقولوا } عليه هو الذي ذهب إليه من أنكر لام الصيرورة وهي التي تسمى أيضاً لام العاقبة والمآل وهو أنه لما ترتب على التقاطه كونه صار لهم عدواً وحزناً جعل كأنه علة لالتقاطه فهو علة مجازية ، وقال أبو عليّ الفارسي : واللام في { ليقولوا } على قراءة ابن عامر ومن وافقه بمعنى لئلا يقولوا أي صرف الآيات وأحكمت لئلا يقولوا هذه أساطير الأوّلين قديمة قد تليت وتكرّرت على الأسماع واللام على سائر القراءآت لام الصيرورة ، وما أجازه أبو عليّ من إضمار لا بعد اللام المضمر بعدها أن هو مذهب لبعض الكوفيين ، وتقدير الكلام لئلا يقولوا كما أضمروها بعد أن المظهرة في قوله :

{ أن تضلوا } ولا يجيز البصريون إضمار لا إلا في القسم على ما تبين فيه ، وقد حمله بعضهم على أن اللام لام كي حقيقة فقال : المعنى تصريف هذه الدلائل حالاً بعد حال ليقول بعضهم دارست فيزدادوا كفراً على كفر وتنبيه لبعضهم فيزدادوا إيماناً على إيمان ولنظيره { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم } ولا يتعين ما ذكره المعرّبون والمفسرون من أن اللام في { وليقولوا } لام كي أو لام الصيرورة بل الظاهر أنها لام الأمر ، والفعل مجزوم بها لا منصوب بإضمار أن ويؤيده قراءة من سكن اللام والمعنى عليه متمكن كأنه قيل : ومثل ذلك نصرف الآيات وليقولوا هم ما يقولون من كونك درستها وتعلمتها أو درست هي أي بليت وقدمت فإنه لا يحفل بهم ولا يلتفت إلى قولهم ، وهو أمر معناه الوعيد بالتهديد وعدم الاكتراث بهم وبما يقولون في الآيات أي نصرفها ليدّعوا فيها ما شاؤوا فلا اكتراث بدعواهم.
{ ولنبينه لقوم يعلمون } أي نصرف الآيات وأعاد الضمير مفرداً قالوا على معنى الآيات لأنها القرآن كأنه قال : وكذلك نصرف القرآن أو على القرآن ودل عليه الآيات أو درست أو على المصدر المفهوم من { ولنبينه } أي ولنبين التبيين كما تقول : ضربته زيداً إذا أردت ضربت الضرب زيداً أو على المصدر المفهوم من نصرف ، قال ابن عباس : { لقوم } يريد أولياء الذين هداهم إلى سبيل الرشاد.
{ اتبع ما أوحي إليك من ربكلا إله إلا هو وأعرض عن المشركين } أمره تعالى بأن يتبع ما أوحي إليه وبأن يعرض عن من أشرك والأمر بالإعراض عنهم كان قبل نسخه بالقتال والسوق إلى الدّين طوعاً أو كرهاً ، والجملة بين الأمرين اعتراض أكدّ به وجوب اتباع الموحى أو في موضع الحال المؤكدة.
{ ولو شاء الله ما أشركوا } أي إن إشراكهم ليس في الحقيقة بمشيئتهم وإنما هو بمشيئة الله تعالى ، وظاهر الآية يرد على المعتزلة ويتأوّلونها على مشيئة القسر والإلجاء.

{ وما جعلناك عليهم حفيظاً } أي رقيباً تحفظهم من الإشراك.
{ وما أنت عليهم بوكيل } أي بمسلط عليهم والجملتان متقاربتان في المعنى إلا أن الأولى فيها نفي جعل الحفظ منه تعالى له عليهم.
والثانية فيها نفي الوكالة عليهم والمعنى إنّا لم نسلطك ولا أنت في ذاتك بمسلط فناسب أن تعرض عنهم إذ لست مأموراً منا بأن تكون حفيظاً عليهم ولا أنت وكيل عليهم من تلقائك.
{ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم } قال ابن عباس : سببها أن كفار قريش قالوا لأبي طالب : إما أن ينتهي محمد وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما أن نسب إلهه ونهجوه فنزلت ، وقيل : قالوا ذلك عند نزول قوله : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } وقيل : كان المسلمون يسبون آلهتهم فنهوا لئلا يكون سبهم سبباً لسب الله تعالى ، وحكم هذه الآية باق في هذه الأمة فإذا كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو الرسول أو الله فلا يحل لمسلم ذم دين الكافر ولا صنمه ولا صليبه ولا يتعرض إلى ما يؤدّي إلى ذلك ، ولما أمر تعالى باتباع ما أوحي إليه وبموادعة المشركين عدل عن خطابه إلى خطاب المؤمنين ، فنهوا عن سب أصنام المشركين ولم يواجه هو صلى الله عليه وسلم بالخطاب وإن كان هو الذي سبت الأصنام على لسانه وأصحابه تابعون له في ذلك لما في مواجهته وحده بالنهي من خلاف ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الأخلاق الكريمة ، إذ لم يكن عليه السلام فحّاشاً ولا صخّاباً ولا سبّاباً فلذلك جاء الخطاب للمؤمنين فقيل : { ولا تسبّوا } ولم يكن التركيب ولا تسب كما جاء { وأعرض } وإذا كانت الطاعة تؤدّي إلى مفسدة خرجت عن أن تكون طاعة فيجب النهي عنها كما ينهى عن المعصية و { الذين يدعون } هم الأصنام أي يدعونهم المشركون وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل بالذين كما يعبر عن العاقل على معاملة مالا يعقل معاملة من يعقل ، إذ كانوا ينزلونهم منزلة من يعقل في عبادتهم واعتقادهم فيهم أنهم شفعاء لهم عند الله تعالى ، وقيل : يحتمل أن يراد ب { الذين يدعون } الكفار وظاهر قوله : { فيسبوا الله } أنهم يقدمون على سب الله إذا سُبت آلهتهم وإن كانوا معترفين بالله تعالى ، لكن يحملهم على ذلك انتصارهم لآلهتهم وشدة غيظهم لأجلها فيخرجون عن الاعتدال إلى ما ينافي العقل كما يقع من بعض المسلمين إذا اشتد غضبه وانحرف فإنه قد يلفظ بما يؤدّي إلى الكفر نعوذ بالله من ذلك ، وقال أبو عبد الله الرازي : ربما كان بعضهم قائلاً بالدهر ونفى الصانع فكان يأتي بهذا النوع من الشناعة أو كان المسلمون يسبون الأصنام وهم كانوا يسبون الرسول فأجرى سب الرسول مجرى سب الله تعالى كما قال :

{ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } وكما قال : { إن الذين يؤذون الله ورسوله } أو كان بعض الكفرة يعتقد أن شيطاناً يحمل الرسول على ادعاء النبوّة والرسالة وكانوا بجهلهم يشتمون ذلك الشيطان بأنه إله محمد ، انتهى.
وهذه احتمالات مخالفة للظاهر وإنما أوردها لأنه ذكر أن المعترفين بوجود الصانع لا يجسرون أن يقدموا على سبه تعالى ، وقد ذكرنا ما يحمل على حمل الكلام على ظاهره ، وقال بعض الصوفية : بمعنى خاطبوهم بلسان الحجة وإلزام الدليل ولا تكلموهم على نوازع النفس والعادة و { فيسبوا } منصوب على جواب النهي ، وقيل : هو مجزوم على العطف كقولك : لا تمددها فتشققها ، و { عدواً } مصدر عدا وكذا عدو وعدوان بمعنى اعتدى أي ظلم ، وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة ويعقوب وسلام وعبد الله بن يزيد بضم العين والدال وتشديد الواو وهو مصدر لعدا كما ذكرناه ، وجوّزوا فيهما انتصابهما على المصدر في موضع الحال أو على المصدر من غير لفظ الفعل لأن سب الله عدوان أو على المفعول له ، وقال ابن عطية : وقرأ بعض المكيين وعينه الزمخشري فقال عن ابن كثير : بفتح العين وضم الدال وتشديد الواو أي أعداء وهو منصوب على الحال المؤكدة وعدو يخبر به عن الجمع كما قال : { هم العدوّ } ومعنى { بغير علم } على جهالة بما يجب لله تعالى أن يذكر به وهو بيان لمعنى الاعتداء.
{ كذلك زينا لكل أمّة عملهم } أي مثل تزيين عبادة الأصنام للمشركين { زينا لكل أمّة } وظاهر { لكل أمّة عملهم } لعموم في الأمم وفي العمل فيه فيدخل فيه المؤمنون والكافرون وتزيينه هو ما يخلقه ويخترعه في النفوس من المحبة للخير أو الشر والاتباع لطرقه ، وتزيين الشيطان هو ما يقذفه في النفوس من الوسوسة وخطرات السوء ، وخص الزمخشري { لكل أمّة عملهم } فقال : من أمم الكفار سوء عملهم أي خليناهم وشأنهم ولم نكفهم حتى حسن عندهم سوء عملهم ، وأمهلنا الشيطان حتى زين لهم أو زيناه في زعمهم وقولهم : إن الله أمرنا بهذا وزينه لنا انتهى ، وهو على طريقته الاعتزالية ، وقال الحسن : أي { زينا لكل أمّة } العمل الذي أوجبناه عليهم فجعل { زينا } بمعنى شرعنا { ولكل أمّة } عام والعمل خاص بما أوجبه الله تعالى ، وأنكر هذا الزجاج وقال : هو بمعنى طبع الله على قلوبهم والدليل عليه : { فمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء } انتهى.
وما فسر به الحسن قد أوضحه بعض المعتزلة فقال : المراد بتزيين العمل تزيين المأمور به لا المنهى عنه ويحمل على الخصوص وإن كان عاماً لئلا يؤدّي إلى تناقض النصوص لأنه نص على تزيين الله للإيمان وتكريهه للكفر في قوله : { حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر } فلو دخل تزيين الكفر في هذه الآية في المراد لوجب التناقض بين الآيتين ولذلك أضاف التزيين إلى الشيطان بقوله :

{ زين لهم الشيطان أعمالهم } فلا يكون الله مزيناً ما زينه الشيطان فنقول : الله يزين ما يأمر به والشيطان يزين ما ينهى عنه حتى يكون ذلك عملاً بجميع النصوص انتهى ، وأجيب بأن لا تناقض لاختلاف التزيين تزيين الله بالخلق للشهوات وتزيين الشيطان بالدعاء إلى المعاصي فالآية على عمومها في كل أمّة وفي عملهم.
{ ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون } أي أمرهم مفوّض إلى الله وهو عالم بأحوالهم مطلع على ضمائرهم ومنقلبهم يوم القيامة إليه فيجازي كل بمقتضى عمله وفي ذلك وعد جميل للمحسن ووعيد للمسيء.
{ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها } أي آية من اقتراحهم نحو قولهم حتى تنزل { إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين } أنزلها علينا حتى نؤمن بها فقال المسلمون يا رسول الله أنزلها عليهم فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس أو نحو قولهم يجعل الصفا ذهباً حتى ذكروا معجزة موسى في الحجر وعيسى في إحياء الموتى وصالح في الناقة فقام الرسول يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال له : إن شئت أصبح الصفا ذهباً فإن لم يؤمنوا هلكوا عن آخرهم معاجلة كما فعل بالأمم الماضية ، إذ لم يؤمنوا بالآيات المقترحة وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم فقال : بل حتى يتوب تائبهم ، وإنما اقترحوا آية معينة لأنهم شكوا في القرآن ولهذا قالوا : دارست أي العلماء وباحثت أهل التوراة والإنجيل وكابر أكثرهم وعاند ، والمعنى أنهم حلفوا غاية حلفهم وسمي الحلف قسماً لأنه يكون عند انقسام الناس إلى التصديق والتكذيب فكأنه يقوي القسم الذي يختاره ، قال التبريزي : الإقسام إفعال من القسم الذي هو بمعنى النصيب والقسمة ، وكان إقسامهم بالله غاية في الحلف وكانوا يقسمون بآبائهم وآلهتهم فإذا كان الأمر عظيماً أقسموا بالله تعالى ، والجهد : بفتح الجيم المشقة وبضمها الطاقة ومنهم من يجعلهما بمعنى واحد وانتصب جهد على المصدر المنصوب بأقسموا أي أقسموا جهد إقساماتهم والأيمان بمعنى الإقسامات كما تقول : ضربته أشد الضربات ، وقال الحوفي : مصدر في موضع الحال من الضمير في { أقسموا } أي مجتهدين في أيمانهم ، وقال المبرد : مصدر منصوب بفعل من لفظه وقد تقدم الكلام على { جهد أيمانهم } في المائدة ، ولئن جاءتهم أخبار عنهم لا حكاية لقولهم إذ لو حكي قولهم لكان لئن جاءتنا آية وتعامل الإخبار عن القسم معاملة حكاية القسم بلفظ ما نطق به المقسم ، وأنه لا يراد بها مطلق آية إذ قد جاءتهم آيات كثيرة ولكنهم أرادوا آية مقترحة كما ذكرناه ، وقرأ طلحة بن مصرّف { ليؤمننّ بها } مبنياً للمفعول وبالنون الخفيفة.
{ قل إنما الآيات عند الله } هذا أمر بالردّ عليهم وأن مجيء الآيات ليس لي إنما ذلك لله تعالى وهو القادر عليها ينزلها على وجه المصلحة كيف شاء لحكمته وليست عندي فتقترح علي.

{ وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون } ما استفهامية ويعود عليها ضمير الفاعل في { يشعركم } ، وقرأ قوم بسكون ضمة الراء ، وقرىء باختلاسها وأما الخطاب فقال مجاهد وابن زيد : هو للكفار ، وقال الفراء وغيره : المخاطب بها المؤمنون ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والعليمي والأعشى عن أبي بكر ، وقال ابن عطية ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية داود الإيادي أنها بكسر الهمزة ، وقرأ باقي السبعة بفتحها ، وقرأ ابن عامر وحمزة لا تؤمنون بتاء الخطاب ، وقرأ باقي السبعة بياء الغيبة فترتبت أربع قراءات الأولى كسر الهمزة والياء وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر بخلاف عنه في كسر الهمزة وهذه قراءة واضحة ، أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون البته على تقدير مجيء الآية وتم الكلام عند قوله : { وما يشعركم } ومتعلق { يشعركم } محذوف أي { وما يشعركم } ما يكون فإن كان الخطاب للكفار كان التقدير { وما يشعركم } ما يكون منكم ثم أخبر على جهة الالتفات بما علمه من حالهم لو جاءتهم الآيات وإن كان الخطاب للمؤمنين كان التقدير { وما يشعركم } أيها المؤمنون ما يكون منهم ، ثم أخبر المؤمنين بعلمه فيهم ، القراءة الثانية كسر الهمزة والتاء وهي رواية العليمي والأعشى عن أبي بكر عن عاصم ، والمناسب أن يكون الخطاب للكفار في هذه القراءة كأنه قيل : وما يدريكم أيها الكفار ما يكون منكم ثم أخبرهم على جهة الجزم أنهم لا يؤمنون على تقدير مجيئها ويبعد جداً أن يكون الخطاب في { وما يشعركم } للمؤمنين وفي لا تؤمنون للكفار ، القراءة الثالثة فتح الهمزة والتاء وهي قراءة نافع والكسائي وحفص ، فالظاهر أن الخطاب للمؤمنين والمعنى وما يدريكم أيها المؤمنون أن الآية التي تقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون بها يعني أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون وأنتم لا تدرون بذلك ، وكان المؤمنون يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ، ويتمنون مجيئها فقال : وما يدريكم أنهم لا يؤمنون على معنى أنكم لا تدرون ما سبق علمي به من أنهم لا يؤمنون ألا ترى إلى قوله { كما لم يؤمنوا به أول مرة } ويبعد جداً أن يكون الخطاب في { وما يشعركم } للكفار وأن في هذه القراءة مصدرية ولا على معناها من النفي ، وجعل بعض المفسرين أن هنا بمعنى لعل وحكي من كلامهم ذلك قالوا : إيت السوق إنك تشتري لحماير بدون لعلك ، وقال امرؤ القيس :
عوجاً على الطلل المحيل لأننا . . .
نبكي الديار كما بكى ابن حرام
وذكر ذلك أبو عبيدة وغيره ولعل تأتي كثيراً في مثل هذا الموضع قال تعالى : { وما يدريك لعله يزكى } { وما يدريك لعل الساعة قريب } وفي مصحف أبي وما أدراكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون وضعف أبو علي هذا القول بأن التوقع الذي يدل عليه لعل لا يناسب قراءة الكسر ، لأنها تدل على حكمه تعالى عليهم بأنهم لا يؤمنون لكنه لم يجعل أنها معمولة { ليشعركم } بل جعلها علة على حذف لامها والتقدير عنده { قل إنما الآيات عند الله } لأنها إذا جاءت لا يؤمنون فهو لا يأتي بها لإصرارهم على كفرهم فيكون نظير

{ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون } أي بالآيات المقترحة انتهى ، ويكون { وما يشعركم } اعتراضاً بين المعلول وعلته إذ صار المعنى : { قل إنما الآيات عند الله } أي المقترحة لا يأتي بها لانتفاء أيمانهم وإصرارهم على ضلالهم وجعل بعضهم لا زائدة فيكون المعنى وما يدريكم بإيمانهم كما قالوا : إذا جاءت وإنما جعلها زائدة لأنها لو بقيت على النفي لكان الكلام عذراً للكفار وفسد المراد بالآية قاله ابن عطية ، قال وضعف الزجاج وغيره زيادة لا ، انتهى.
قول ابن عطية والقائل بزيادة لا هو الكسائي والفراء ، وقال الزجاج : زعم سيبويه أن معناها لعلها إذا جاءت لا يؤمنون وهي قراءة أهل المدينة ، قال : وهذا الوجه أقوى في العربية والذي ذكر أن لا لغو غالط لأن ما كان لغواً لا يكون غير لغو ومن قرأ بالكسر فالإجماع على أن لا غير لغو فليس يجوز أن يكون المعنى مرة إيجاباً ومرة غير ذلك في سياق كلام واحد ، وتأول بعض المفسرين الآية على حذف معطوف يخرج لا عن الزيادة وتقديره { وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون } أو يؤمنون أي ما يدريكم بانتفاء الإيمان أو وقوعه ، ذكره النحاس وغيره ، ولا يحتاج الكلام إلى زيادة لا ولا إلى هذا الإضمار ولا لا يكون أن بمعنى لعل وهذا كله خروج عن الظاهر لفرضه بل حمله على الظاهر أولى وهو واضح سائغ كما بحثناه أولاً أي { وما يشعركم } ويدريكم بمعرفة انتفاء إيمانهم لا سبيل لكم إلى الشعور بها ، القراءة الرابعة : فتح الهمزة والتاء وهي قراءة ابن عامر وحمزة ، والظاهر أنه خطاب للكفار ويتضح معنى هذه القراءة على زيادة لا أي وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت كما أقسمتم عليه ، وعلى تأويل أن بمعنى لعل وكون لا نفياً أي وما يدريكم بحالهم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون بها وكذلك يصح المعنى على تقدير حذف المعطوف أي وما يدريكم بانتفاء إيمانكم إذا جاءت أو وقوعه لأن مآل أمركم مغيب عنكم فكيف تقسمون على الإيمان إذا جاءتكم الآية ، وكذلك يصح معناها على تقدير أي على أن تكون أنها علة أي { قل إنما الآيات عند الله } فلا يأتيكم بها لأنها { إذا جاءت لا يؤمنون } وما يشعركم بأنكم تؤمنون وأما على إقرار أن { أنها } معمولة { ليشعركم } وبقاء { لا } على النفي فيشكل معنى هذه القراءة لأنه يكون المعنى { وما يشعركم } أيها الكفار بانتفاء إيمانكم إذا جاءتكم الآية المقترحة ، والذي يناسب صدر الآية { وما يشعركم } بوقوع الإيمان منكم إذا جاءت ، وقد يصح أن يكون التقدير : وأيّ شيء يشعركم بانتفاء الإيمان إذا جاءت ، أي لا يقع ذلك في خواطركم بل أنتم مصممون على الإيمان إذا جاءت ، وأنا أعلم أنكم لا تؤمنون إذا جاءت لأنكم مطبوع على قلوبكم.

وكم آية جاءتكم فلم تؤمنوا.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن { ما } في قوله { ما يشعركم } نافية والفاعل بيشعركم ضمير يعود على الله ، ويتكلف معنى الآية على جعلها نافية ، سواء فتحت أن أم كسرت.
ومتعلق { لا يؤمنون } محذوف وحسن حذفه كون ما يتعلق به وقع فاصلة ، وتقديره { لا يؤمنون } بها وقد اتضح من ترتيب هذه القراءات الأربع أنه لا يصلح أن يكون الخطاب للمؤمنين على الإطلاق ولا للكفار على الإطلاق ، بل الخطاب يكون على ما يصح به المعنى التي للقراءة.
{ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون } الظاهر أن قوله : { ونقلب } جملة استئنافية أخبر تعالى أنه يفعل بهم ذلك وهي إشارة إلى الحيرة والتردد وصرف الشيء عن وجهه.
والمعنى أنه تعالى يحولهم عن الهدى ويتركهم في الضلال والكفر.
وكما للتعليل أي يفعل بهم ذلك لكونهم لم يؤمنوا به أول وقت جاءهم هدى الله كما قال تعالى : { وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } ويؤكد هذا المعنى آخر الآية { ونذرهم في طغيانهم يعمهون } أي ونتركهم في تغمطهم في الشرِّ والإفراط فيه يتحيرون ، وهذا كله إخبار من الله تعالى بفعله بهم في الدنيا.
وقالت فرقة : هذا الإخبار هو على تقدير : أنه لو جاءت الآية التي اقترحوها صنعنا بهم ذلك.
ولذلك قال الزمخشري { ونقلب أفئدتهم } { ونذرهم } عطف على { لا يؤمنون } داخل في حكم { وما يشعركم } بمعنى وما يشعركم أنهم لا يؤمنون { وما يشعركم } أنّا { نقلب أفئدتهم وأبصارهم } أي فنطبع على أبصارهم وقلوبهم فلا يفقهون ولا يبصرون الحق كما كانوا عند نزول آياتنا أولاً لا يؤمنون بها ، لكونهم { وما يشعركم } أنّا { نذرهم في طغيانهم } أي نخليهم وشأنهم لا نكفهم ونصرفهم عن الطغيان حتى يعمهوا فيه انتهى.
وهذا معنى ما قاله ابن عباس ومجاهد وابن زيد قالوا : لو أتيناهم بآية كما سألوا لقلبنا أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان بها ، وحلنا بينهم وبين الهدى فلم يؤمنوا كما لم يؤمنوا بما رأوا قبلها ، عقوبة لهم على ذلك.
والفرق بين هذا القول والذي بدأنا به أولاً أن ذلك استئناف إخبار بما يفعل بهم تعالى في الدنيا.
وهذا إخبار على تقدير مجيء الآية المقترحة فذلك واقع وهذا غير واقع ، لأن الآية المقترحة لم تقع فلم يقع ما رتب عليها.
وقال مقاتل : نقلب أفئدة هؤلاء وأبصارهم عن الإيمان وعن الآيات كما لم يؤمن أوائلهم من الأمم الخالية بما رأوا من الآيات.

وقيل : تقليبها بإزعاج نفوسهم همّاً وغمّاً.
وقال الكرماني : مغناه أنّا نحيط علماً بذات الصدور وخائنة الأعين منهم انتهى.
ولا يستقيم هذا التفسير لقوله : { كما لم يؤمنوا به أول مرة } لا على التعليل ولا على التشبيه إلا أن جعل متعلقاً بقوله { أنها إذا جاءت لا يؤمنون } أي { كما لم يؤمنوا به أول مرة } فيصح على بعد في تفسير التقليب بإحاطة العلم.
وقال الكعبي : المراد أنا لا نفعل بهم ما نفعل بالمؤمنين من الفوائد والألطاف من حيث أخرجوا أنفسهم عن الهداية بسبب الكفر انتهى.
وهو على طريقة الاعتزالي ومعنى تقليب القلب والبصر ما ينشأ عن القلب والبصر من الدواعي إلى الحيرة والضلال ، لأن القلب والبصر يتقلبان بأنفسهما فنسبة التقليب إليهما مجاز.
وقدمت الأفئدة لأن موضع الدواعي والصوارف هو القلب فإذا حصلت الداعية في القلب انصرف البصر إليه شاء أم أبى ، وإذا حصلت الصوارف في القلب انصرف البصر عنه وإن كان تحدق النظر إليه ظاهراً وهذه التفاسير على أن ذلك في الدنيا.
وقالت فرقة : إن ذلك إخبار من الله تعالى يفعل بهم ذلك في الآخرة.
فروي عن ابن عباس أنه جواب لسؤالهم في الآخرة الرجوع إلى الدنيا.
والمعنى لو ردّوا لحلنا بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا انتهى.
وهذا ينبو عنه تركيب الكلام.
وقيل : تقليبها في النار في جهنم على لهيبها وجمرها ليعذبوا { كما لم يؤمنوا به أول مرة } يعني في الدنيا وقاله
الجبائي.
وقال أبو الهذيل : تقليب أفئدتهم بلوغها الحناجر كما قال تعالى : { وأنذرهم يوم الآزفة } وقيل : تقليب أبصارهم إلى الزرقة وحمل ذلك على أنه في الآخرة ضعيف قلق النظم ، لأن التقليب في الآخرة وتركهم في الطغيان في الدنيا ، فيختلف الظرفان من غير دليل على اختلافهما ، بل الظاهر أن ذلك إخبار مستأنف كما قررناه أولاً ، والكاف في { كما } ذكرنا أنها للتعليل ، وهو واضح فيها وإن كان استعمالها فيه قليلاً.
وقالت فرقة { كما } : هي بمعنى المجازاة أي لما { لم يؤمنوا به أول مرة } نجاريهم بأن { نقلب أفئدتهم } عن الهدى ونطبع على قلوبهم.
فكأنه قال : ونحن نقلب أفئدتهم وأبصارهم جزاء لما { لم يؤمنوا أول مرة } بما دعوا إليه من الشرع.
قاله ابن عطية ، وهو معنى التعليل الذي ذكرناه إلا أنّ تسمية ذلك بمعنى المجازاة غريبة ، لا يعهد في كلام النحويين أنّ الكاف للمجازاة.
وقيل : للتشبه قيل وفي الكلام حذف تقديره فلا يؤمنون به ثاني مرة { كما لم يؤمنوا به أول مرة }.
وقيل : الكاف نعت لمصدر محذوف أي تقليباً لكفرهم ، أي عقوبة مساوية لمعصيتهم ، قاله أبو البقاء.
وقال الحوفي : نعت لمصدر محذوف والتقدير : لا يؤمنون به إيماناً ثانياً { كما لم يؤمنوا به أول مرة } انتهى.
والضمير عائد على الله أو القرآن أو الرسول ، أقوال وأبعد من ذهب إلى أنه يعود على القليب ، وانتصب أول مرة على أنه ظرف زمان.
وقرأ النخعي ويقلب ويذرهم بالياء فيهما والفاعل ضمير الله.
وقرأ أيضاً فيما روى عنه مغيرة وتقلب أفئدتهم وأبصارهم ، بالرفع فيهما على البناء للمفعول ، ويذرهم بالياء وسكون الراء.
وافقه على ويذرهم الأعمش والهمداني.
وقال الزمخشري : وقرأ الأعمش وتقلب أفئدتهم وأبصارهم على البناء للمفعول.

وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)

قبل : جمع قبيل كرغيف ورغف ، ومعناه جماعة أو كقبل أو مفرد بمعنى قبل ، أي مواجهة ومقابلة ويكون قبل ظرف أيضاً.
الزخرف الزينة ، قاله الزجاج.
وقال أبو عبيدة : كل ما حسنته وزينته وهو باطل فهو زخرف انتهى.
والزخرف الذهب.
صغوت وصغيت وصغيت بكسر الغين فمصدر الأول صغوا والثاني صغا ، والثالث صغا ، ومضارعها يصغي بفتح الغين ، وهي لازمة ، وأصغى مثلها لازم ويأتي متعدّياً بكون الهمزة فيه للنقل ، قال الشاعر في اللازم :
ترى السفيه به عن كل محكمة . . .
زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء
وقال في المتعدّي :
أصاخ من نبأة أصغى لها أذنا . . .
صماخها بدسيس الذوق مستور
وأصله الميل يقال : صغت النجوم : مالت للغروب.
وفي الحديث : « فأصغى لها الإناء ».
قال أبو زيد : ويقال : صغوه معك وصغوه وصغاه.
ويقال : أكرموا فلاناً في صاغيته أي في قرابته الذين يميلون إليه ويطلبون ما عنده.
اقترف اكتسب وأكثر ما يكون في الشر والذنوب.
ويقال : خرج يقترف لأهله : أي يكتسب لهم ، وقارف فلان الأمر : أي واقعه وقرفه بكذا رماه بريبة ، واقترف كذباً وأصله اقتطاع قطعة من الشيء.
خرص حزر وقال بغير تيقن ولا علم ومنه خرص بمعنى كذب وافتى خرصاً وخروصاً.
وقال الأزهري : وأصله التظني فيما لا يستيقن.
الشرح البسط والتوسعة.
قال الليث يقال : شرح الله صدره فانشرح.
وقال ابن الأعرابي : الشرح الفتح.
وقال ابن قتيبة : ومنه شرحت لك الأمر وشرحت اللحم فتحته.
الضيق فيعل من ضاق الشيء انضمت أجزاؤه إذا كان مجوفاً.
الحرج : اسم فاعل من حرج إذا اشتد ضيقه ، وبالفتح المصدر ، قاله الزجاج وأبو علي.
وقال الفراء : هما بمنزلة الواحد والوحد والفرد ، والفرد والدنف والدنف يعني أنهما وصفان انتهى.
وأصله من الحرجة وهي شجرة تحف بها الأشجار حتى تمنع الداعي أن يصل إليها.
وقال أبو الهيثم : الحراج غياض من شجر السلم ملتفة واحدها حرجة لا يقدر أحد أن يدخل فيها أو ينفذ.
{ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله } أي لو أتيناهم بالآيات التي اقترحوها من إنزال الملائكة في قولهم { لولا أنزل عليه ملك } وتكليم الموتى إياه في قولهم { فأتوا بآبائنا } وفي قولهم أخي قصي بن كلاب وجدعان بن عمرو ، وهما أمينا العرب ، والوسطان فيهم.
وحشر كل شيء عليهم من السباع والدواب والطيور وشهادتهم بصدق الرسول.
وقال الزمخشري : { وحشرنا عليهم كل شيء } قالوا : { أو تأتي بالله والملائكة قبلاً } وقرأ نافع وابن عامر قبلاً بكسر القاف وفتح الباء ، ومعناه مقابلة أي عياناً ومشاهدة.
قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد ، ونصبه على الحال.
وقال المبرد : معناه ناحية كما تقول : زيد قبلك ، ولي قبل فلان دين ، فانتصابه على الظرف وفيه بعد.

وقرأ باقي السبعة قبلاً بضم القاف والباء.
فقال مجاهد وابن زيد وعبد الله بن يزيد : جمع قبيل وهو النوع ، أي نوعاً نوعاً وصنفاً صنفاً.
وقال الفراء والزجاج : جمع قبيل بمعنى كفيل أي : كفلاً بصدق محمد.
يقال قبلت الرجل أقبله قبالة ، أي كفلت به والقبيل والكفيل والزعيم والأدين والحميل والضمين بمعنى واحد.
وقيل قبلاً بمعنى قبلاً أي مقابلة ومواجهة.
ومنه أتيتك قبلاً لا دبراً.
أي من قبل وجهك.
وقال تعالى : { إن كان قميصه قدّ من قبل } وقرىء لقبل عدتهن : أي لاستقبالها ومواجهتها.
وهذا القول عندي أحسن لاتفاق القراءتين.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة ، قبلاً بضم القاف وسكون الباء على جهة التخفيف من الضم.
وقرأ أبيّ والأعمش { قبيلاً } بفتح القاف وكسر الباء وياء بعدها ، وانتصابه في هذه القراءة على الحال.
وقرأ ابن مصرّف بفتح القاف وسكون الباء وجواب { لو } { ما كانوا ليؤمنوا } وقدره الحوفي لما كانوا قال : وحذفت اللام وهي مرادة ، وليس قوله بجيد لأن المنفي بما إذا وقع جواباً للو فالأكثر في لسان العرب ، أن لا تدخل اللام على ما وقل دخولها على ما ، فلا تقول إن اللام حذفت منه بل إنما أدخلوها على ما تشبيهاً للمنفى بما بالموجب ، ألا ترى أنه إذا كان النفي بلم لم تدخل اللام على لم فدل على أن أصل المنفي أن لا تدخل عليه اللام و { ما كانوا ليؤمنوا } أبلغ في النفي من لم يؤمنوا لأن فيه نفي التأهل والصلاحية للإيمان ، ولذلك جاءت لام الجحود في الخبر وإلا أن يشاء الله استثناء متصل من محذوف هو علة.
وسبب التقدير { ما كانوا ليؤمنوا } لشيء من الأشياء إلا لمشيئة الله.
وقدره بعضهم في كل حال إلا في حال مشيئة الله ومن ذهب إلى أنه استثناء منقطع كالكرماني وأبي البقاء والحوفي.
فقوله فيه بعد إذ هو ظاهر الاتصال أو علق إيمانهم بمشيئة الله دليل على ما يذهب إليه أهل السنة من أن إيمان العبد واقع بمشيئة الله ، وحمل ذلك المعتزلة على مشيئة الإلجاء والقهر.
ولذلك قال الزمخشري : مشيئة إكراه واضطرار ، والظاهر أن الضمير في { أكثرهم } عائد على ما عادت عليه الضمائر قيل من الكفار أي يجهلون الحق ، أو يجهلون أنه لا يجوز اقتراح الآيات بعد أن رأوا آية واحدة ، أو يجهلون أن كلاًّ من الإيمان والكفر هو بمشيئة الله وقدره.
وقال الزمخشري يجهلون فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم عند نزول الآيات.
قال أو لكن أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون إلا أن يضطرهم فيطمعون في إيمانهم إذا جاءت الآية المقترحة.
وقال غيره من المعتزلة يجهلون أنهم يبقون كفاراً عند ظهور الآيات التي اقترحوها.

وقال الجبائي { إلا أن يشاء الله } يدل على حدوث مشيئة الله إذ لو كانت قديمة لم يجز أن يعلق عليها الحادث لأنها شرط ويلزم من حصول المشروط حصول الشرط والحسن دل على حدوث الإيمان فوجب كون الشرط حادثاً وهو المشيئة.
وأجاب أبو عبد الله الرازي بأن المشيئة وإن كانت قديمة تعلقها بإحداث ذلك المحدث في الحالة إضافة حادثة انتهى.
وهذه الآية مؤيسة من إيمان هؤلاء الذين اقترحوا الآيات إلا من شاء الله منهم.
ولذلك جاء قوله : { إلا أن يشاء الله } وهم من ختم له بالسعادة فآمن منهم.
{ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوّاً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً } المعنى مثل ما جعل هؤلاء الكفار المقترحين الآيات وغيرهم أعداء لك جعلنا لمن قبلك من الأنبياء أعداء شياطين الإنس والجن أي متمردي الصنفين { يوحى } يلقي في خفية بعضهم إلى بعض ، أي بعض الصنف الجني إلى بعض الصنف الإنسي ، أو يوحي شياطين الجن إلى شياطين الإنس زخرف القول ، أي محسنه ومزينه ، وثمرة هذا الجعل الامتحان فيظهر الصبر على ما منوا به ممن يعاديهم فيعظم الثواب والأجر وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتأس بمن تقدمه من الأنبياء وأنك لست منفرداً بعداوة من عاصرك ، بل هذه سنة من قبلك من الأنبياء.
وعدو كما قلنا قبل في معنى أعداء.
وقال تعالى : { وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً } وقال الشاعر :
إذ أنا لم أنفع صديقي بودّه . . .
فإن عدوّي لن يضرهم بغضي
وأعرب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء هنا كإعرابهم { وجعلوا لله شركاء الجن } وجوّزوا في شياطين البدلية من عدواً ، كما جوّزوا هناك بدلية الجن من شركاء وقد رددناه عليهم.
والظاهر أن قوله { شياطين الإنس والجن } هو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي الإنس والجن الشياطين فيلزم أن يكون من الإنس شياطين ومن الجن شياطين ، والشيطان هو المتمرّد من الصنفين كما شرحناه.
وهذا قول قتادة ومجاهد والحسن ، وكذا فهم أبو ذر من قول الرسول له : « هل تعوّذت من شياطين الجن والإنس » قلت : يا رسول الله وهل للإنس من شياطين؟ قال : « نعم وهم شر من شياطين الجن ».
وقال مالك بن دينار شيطان الإنس عليّ أشد من شيطان الجن لأني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن ، وشيطان الإنس بجيئني ويجرني إلى المعاصي عياناً.
وقال عطاء : أما أعداء النبي صلى الله عليه وسلم من شياطين الإنس : فالوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأبو جهل بن هشام والعاصي بن عمرو ، وزمعة بن الأسود والنضر بن الحارث والأسود بن عبد الأسد وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وعتبة بن أبي معيط والوليد بن عتبة وأبيّ وأمية ابنا خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وعتبة بن عبد العزى ، ومعتب بن عبد العزى.

وفي الحديث : " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن قيل : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : «ولا أنا إلا أن الله عافاني وأعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير ".
وقيل : الإضافة ليست من باب إضافة الصفة للموصوف بل هي من باب غلام زيد أي شياطين الإنس والجن ، أي متمردين مغوين لهم.
وعلى هذا فسره عكرمة والضحاك والسدّي والكلبي قالوا : ليس من الإنس شياطين والمعنى شياطين الإنس التي مع الإنس ، وشياطين الجن التي مع الجن ، قسم إبليس جنده فريقاً إلى الإنس وفريقاً إلى الجنّ ، يتلاقون فيأمر بعض بعضاً أن يضل صاحبه بما أضل هو به صاحبه ، ورجحت هذه الإضافة بأن أصل الإضافة المغايرة بين المضاف والمضاف إليه ، ورجحت الإضافة السابقة بأن المقصود التسلّي والائتسا بمن سبق من الأنبياء ، إذ كان في أممهم من يعاديهم كما في أمّة محمد من كان يعاديه ، وهم شياطين الإنس والظاهر في جعلنا أنه تعالى هو مصيرهم أعداء للأنبياء والعداوة للأنبياء معصية وكفر ، فاقتضى أنه خالق ذلك وتأول المعتزلة هذا الظاهر.
فقال الزمخشري وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم ، لم يمنعهم من العداوة انتهى.
وهذا قول الكعبي قال : خلي بينه وبينه.
وقال الجبائي : الجعل هنا الحكم والبيان يقال كفره حكم بكفره وعدله أخبر عن عدالته.
ولما بين للرسول كونهم أعداء لهم قال جعلهم أعداء لهم.
وقال أبو بكر الأصم لما أرسله الله إلى العالمين وخصه بالمعجزات حسدوه وصار الجسد مبيناً للعداوة القوية ، فلهذا التأويل قال جعلهم له أعداء كما قال الشاعر :
فأنت صيرتهم لي حسداً . . .
وذلك يقتضي صيرورتهم أعداء للأنبياء ، وانتصب غروراً على أنه مفعول له وجوّزوا أن يكون مصدراً ليوحي لأنه بمعنى يغرّ بعضهم بعضاً أو مصدراً في موضع الحال أي غارّين.
{ ولو شاء ربك ما فعلوه } أي ما فعلوا العداوة أو الوحي أو الزخرف ، أو القول أو الغرور أوجه ذكروها.
{ فذرهم وما يفترون } أي اتركهم وما يفترون من تكذيبك ويتضمن الوعيد والتهديد.
قال ابن عباس يريد ما زين لهم إبليس وما غرّهم به انتهى.
وظاهر الأمر الموادعة وهي منسوخة بآيات القتال.
وقال قتادة كل ذر في كتاب الله فهو منسوخ بالقتال وما بمعنى الذي أو موصوفة أو مصدرية.
{ ولتصغي له أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون } أي ولتميل إليه الضمير يعود على ما عاد عليه في فعلوه ، وليرضوه وليكتسبوا ما هم مكتسبون من الآثام.
واللام لام كي وهي معطوفة على قوله غروراً لما كان معناه للغرور ، فهي متعلقة بيوحي ونصب غرور الاجتماع شروط النصب فيه ، وعدى يوحى إلى هذا باللام لفوت شرط صريح المصدرية واختلاف الفاعل لأن فاعل يوحي هو بعضهم وفاعل تصغى هو { أفئدة } ، وترتيب هذه المفاعيل في غاية الفصاحة لأنه أولاً يكون الخداع فيكون الميل فيكون الرضا فيكون الفعل فكأن كل واحد مسبب عما قبله.

وقال الزمخشري : { ولتصغي } جوابه محذوف تقديره ، وليكون ذلك جعلنا لكل نبيّ عدوّاً على أن اللام لام الصيرورة ، والضمير في { إليه } راجع إلى ما يرجع إليه الضمير في فعلوه أي ولتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين أفئدة الكفار انتهى.
وتسمية ما تتعلق به اللام جواباً اصطلاح غريب ، وما قاله هو قول الزجاج ، قال : تقديره { ولتصغي إليه } فعلوا ذلك فهي لام صيرورة.
وذهب الأخفش إلى أن لام { ولتصغي } هي لام كي وهي جواب لقسم محذوف تقديره.
والله { ولتصغي } موضع ولتصغين فصار جواب القسم من قبيل المفرد فتقول والله ليقوم زيد التقدير أقسم بالله لقيام زيد واستدل على ذلك بقول الشاعر :
إذا قلت قدني قال الله حلفة . . .
لتغني عني ذا أنائك أجمعا
وبقوله : { ولتصغي } والرد عليه مذكور في كتب النحو.
وقرأ النخعي والجراح بن عبد الله { ولنصغي } من أصغى رباعياً.
وقرأ الحسن بسكون اللام في الثلاثة.
وقيل عنه في ليرضوه وليقترفوا بالكسر في { ولتصغي }.
وقال أبو عمرو الداني قراءة الحسن ، إنما هي { ولتصغي } بكسر الغين انتهى ، وخمرج سكون اللام في الثلاثة على أنه شذوذ في لام كي وهي لام كي في الثلاثة.
وهي معطوفة على غرور أو سكون لام كي في نحو هذا شاذ في السماع قوي في القياس قاله أبو الفتح.
وقال غيره : هي لام الأمر في الثلاثة ويبعد ذلك في { ولتصغي } بإثبات الياء وإن كان قد جاء ذلك في قليل من الكلام.
قرأ قنبل أنه من يتقي ويصبر على أنه يحتمل التأويل.
وقيل هي في { ولتصغي } لام كي سكنت شذوذاً ، وفي { ليرضوه وليقترفوا } لام الأمر مضمناً التهديد والوعيد ، كقوله : { اعملوا ما شئتم } وفي قوله : { ما هم مقترفون } أنها تفيد التعظيم والتبشيع لما يعملون ، كقوله تعالى : { فغشيهم من اليم ما غشيهم } { أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً } قال مشركو قريش للرسول : اجعل بيننا وبينك حكماً من أحبار اليهود ، وإن شئت من أساقفة النصارى ، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت.
ووجه نظمها بما قبلها أنه لما حكى حلف الكفار وأجاب بأنه لا فائدة في إظهار الآيات المقترحة لهم أنهم لا يبقون مصرين على الكفر بين الدليل على نبوته بإنزال القرآن عليه ، وقد عجز الخلق عن معارضته وحكم فيه بنبوته ، وباشتمال التوراة والإنجيل على أنه رسول حق ، وأن القرآن كتاب من عند الله حق.
ووجه آخر وهو أنه لما ذكر العداوة وتهددهم قالوا ما ذكرناه في سبب النزول.

وكان من عادتهم إذا التبس عليهم أمر واختلفوا فيه جعلوا بينهم كاهناً حكماً فأمره الله أن يقول : { أفغير الله أبتغي حكماً } وهذا استفهام معناه النفي أي لا أبتغي حكماً غير الله.
قال الكرماني : والحكم أبلغ من الحاكم لأنه من عرف منه الحكم مرة بعد أخرى ، والحاكم اسم فاعل يصدق على المرة الواحدة.
وقال إسماعيل : الضرير الفرق بينهما أن الحكم لا يحكم إلا بالحق والحاكم يحكم بالحق وبغير الحق.
وقال ابن عطية نحوه.
قال الحكم : أبلغ من الحاكم إذ هي صيغة للعدل من الحكام ، والحاكم جار على الفعل وقد يقال للجائر؛ انتهى.
وكأنه إشارة إلى حكم الله عليهم بأنهم لا يؤمنون ولو بعث إليهم كل الآيات ، أو حكمه بأن جعل للأنبياء أعداء وحكماً أي فاصلاً بين الحق والباطل ، وجوزوا في إعراب غير أن يكون مفعولاً بأبتغي وحكماً حال وعكسه وأجاز الحوفي وابن عطية أن ينتصب على التمييز عن غيرهم كقولهم : إن لنا غيرها إبلاً وهو متجه.
وحكاه أبو البقاء فالكتاب القرآن ومفصلاً موضحاً مزال الإشكال أو مفضلاً بالوعد والوعيد أو مفصلاً مفرقاً على حسب المصالح أي لم ينزله مجموعاً أو مفصلاً فيه الأحكام من النهي والأمر والحلال والحرام والواجب والمندوب والضلال والهدى ، أو مفصلاً مبيناً فيه الفصل بين الحق والباطل والشهادة لي بالصدق وعليكم بالافتراء أقوال خمسة وبهذه الآية خاصمت الخوارج علياً في تكفيره بالتحكيم وهذه الجملة حالية.
{ والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } أي والذين أعطيناهم علم التوراة والإنجيل والزبور والصحف ، والمراد علماء أهل الكتاب فهو عام بمعنى الخصوص وهذه الجملة تكون استئنافاً وتتضمن الاستشهاد بمؤمني أهل الكتاب والطعن على مشركيهم وحسدتهم ، والعضد في الدلالة بأن القرآن حق يعلم أهل الكتاب أنه حق لتصديقه كتبهم وموافقته لها.
{ فلا تكونن من الممترين }.
قيل : الخطاب للرسول خطاب لأمته.
وقيل : لكل سامع أي إذا ظهرت الدلالة فلا ينبغي أن يمتري فيه.
وقيل : هو من باب التهييج والإلهاب كقوله : { ولا تكونن من المشركين }.
وقيل : { فلا تكونن من الممترين } في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ولا يريبك جحود أكثرهم وكفرهم.
وقرأ ابن عباس وحفص { منزل } بالتشديد والباقون بالتخفيف.
{ وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً } لما تقدّم من أول السورة إلى هنا دلائل التوحيد والنبوة والبعث والطعن على مخالفي ذلك وكان من هنا إلى آخر السورة أحكام وقصص ، ناسب ذكر هذه الآيات هنا أي تمت أقضيته وأقداره قاله ابن عباس.
وقال قتادة : كلماته هو القرآن ، وقال الزمخشري : كل ما أخبر به وأمر ونهى ووعد وأوعد.
وقال الحسن : صدقاً في الوعد وعدلاً في الوعيد.
وقيل : في ما تضمن من خبر وحكم أو فيما كان وما يكون ، أو فيما أمر وما نهى أو في الترغيب والترهيب أو فيما قال : هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار أو في الثواب والعقاب أو في نصرة أوليائه وخذلان أعدائه ، أو في نصرة الرسول ببدر وإهلاك أعدائه أو في الإرشاد والإضلال أو في الغفران والتعذيب ، أو في الفضل والمنع أو في توسيع الرزق وتقتيره أو في إعطائه وبلائه وهذه الأقوال أول القول فسر به الصدق والمعطوف فسر به العدل ، وأعرب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء { صدقاً وعدلاً } مصدرين في موضع الحال والطبري تمييزاً وجوزه أبو البقاء.

وقال ابن عطية : هو غير صواب وزاد أبو البقاء مفعولاً من أجله وليس المعنى في { تمت } أنها كان بها نقص فكملت وإنما المعنى استمرت وصحت كما جاء في الحديث : « وتم حمزة على إسلامه ».
وكقوله تعالى : { وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم } أي استمرت وهي عبارة عن نفوذ أقضيته.
وقرأ الكوفيون هنا كلمة بالإفراد ونافع جميع ذلك { كلمات } بالجمع تابعه أبو عمرو وابن كثير هنا.
{ لا مبدل لكلماته } أي لا مغير لأقضيته ولا مبدل لكلمات القرآن فلا يلحقها تغيير ، لا في المعنى ولا في اللفظ وفي حرف أبي لا مبدل لكلمات الله.
{ وهو السميع العليم } أي السميع لأقوالكم العليم بالضمائر.
{ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } أي وإن توافق فيما هم عليه من عبادة غير الله وشرع ما شرعوه بغير إذن الله أكثر لأن الأكثر إذ ذاك كانوا كفاراً ، والأرض هنا الدنيا قاله ابن عباس.
وقيل : أكثر من في الأرض رؤساء مكة والأرض خاص بأرض مكة وكثيراً ما ذم الأكثر في كتابه والغالب أنه لا يقال الأكثر إلا للذين يتبعون أهواءهم.
{ إن يتبعون إلا الظن } أي ليسوا راجعين في عقائدهم إلى علم ولا فيما شرعوه إلى حكم الله.
{ وإن هم لا يحرصون } أي يقدرون ويحزرون وهذا تأكيد لما قبله.
ومن المفسرين من خص هذه الطاعة واتباعهم الظن وتخرصهم بأمر الذبائح ، وحكي أن سبب النزول مجادلة المشركين الرسول في أمر الذبائح وقولهم : نأكل ما تقتل ولا نأكل ما قتل الله فنزلت مخبرة أنهم يقدرون بظنونهم وبخرصهم.
{ إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } لما ذكر تعالى يضلوك عن سبيل الله أخبر أنه أعلم العالمين بالضال والمهتدي ، والمعنى أنه أعلم بهم وبك فإنهم الضالون وأنت المهتدي و { من } قيل في موضع جر على إسقاط حرف الجر وإبقاء عمله ، وهذا ليس بجيد لأن مثل هذا لا يجوز إلا في الشعر نحو زيد أضرب السيف أي بالسيف.
وقال أبو الفتح : في موضع نصب بأعلم بعد حذف حر الجر وهذا ليس بجيد ، لأن أفعل التفضيل لا يعمل النصب في المفعول به ، وقال أبو علي : في موضع نصب بفعل محذوف أي يعلم من يضل ودل على حذفه أعلم ومثله ما أنشده أبو زيد

وأضرب منا بالسيوف القوانسا . . .
أي تضرب القوانس وهي إذ ذاك موصولة وصلتها { يضل } وجوز أبو البقاء أن تكون موصوفة بالفعل.
وقال الكسائي والمبرد والزجاج ومكي في موضع رفع وهي استفهامية مبتدأ والخبر { يضل } والجملة في موضع نصب بأعلم أي أعلم أي الناس يضل كقوله { لنعلم أي الحزبين } وهذا ضعيف لأن التعليق فرع عن جواز العمل وأفعل التفضيل لا يعمل في المفعول به فلا يعلق عنه ، والكوفيون يجيزون إعمال أفعل التفضيل في المفعول به والرد عليهم في كتب النحو.
وقرأ الحسن وأحمد أبي شريح { يضل } بضم الياء وفاعل { يضل } ضمير من ومفعوله محذوف أي من يضل الناس أو ضمير الله على معنى يجده ضالاً أو يخلق فيه الضلال ، وهذه الجملة خبرية تتضمن الوعيد والوعد لأن كونه تعالى عالماً بالضال والمهتدي كناية عن مجازاتهما.
{ فكلوا مما ذكر اسم عليه إن كنتم بآياته مؤمنين } ذكر أن السبب في نزولها أنهم قالوا للرسول : من قتل الشاة التي ماتت؟ قال الله : قالوا فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك وما قتله الصقر والكلب حلال وما قتله الله حرام.
وقال عكرمة : لما أنزل تحريم الميتة كتب مجوس فارس إلى مشركي قريش فكانوا أولياءهم في الجاهلية وبينهم مكاتبة أن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يبتغون أمر الله ثم يزعمون أن ما ذبحوا فهو حلال وما ذبح الله فهو حرام فوقع في أنفس ناس من المسلمين ، فأنزل الله : { ولا تأكلوا مما } ولما تضمنت الآية التي قبلها الإنكار على اتباع المضلين الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال وكانوا يسمون في كثير مما يذكرونه اسم آلهتهم أمر المؤمنين بأكل ما سمي على ذكاته اسم الله لا غيره من آلهتهم أمر إباحة وما ذكر اسم الله عليه فهو المذكى لإمامات حتف أنفه.
وقال الزمخشري : { فكلوا } متسبب عن إنكار اتباع المضلين وعلق أكل ما سمي الله على ذكاته بالإيمان كما تقول : أطعني إن كنت ابني أي أنتم مؤمنون فلا تخالفوا أمر الله وهو حث على أكل ما أحل وترك ما حرم.
{ وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } أي وأي غرض لكم في الامتناع من أكل ما ذكر اسم الله عليه؟ وهو استفهام يتضمن الأنكار على من امتنع من ذلك أي لا شيء يمنع من ذلك { وقد فصل لكم } في هذه السورة لأنها على ما نقل مكية ، ونزلت في مرة واحدة فلا يناسب أن تكون { وقد فصل } راجعاً إلى تفصيل البقرة والمائدة لتأخيرهما في النزول عن هذه السورة.
وقال الزمخشري : { قد فصل لكم ما حرم عليكم } مما لم يحرم عليكم وهو قوله :

{ حرمت عليكم الميتة } انتهى.
وذكرنا أن تفصيل التحريم بما في البقرة والمائدة لا يناسب ودعوى زيادة لا هنا لا حاجة إليها والمعنى على كونها نافية صحيح واضح ، و { أن لا تأكلوا } أصله في أن لا تأكلوا فحذف في المتعلقة بما تعلق به لكم الواقع خبراً لما الاستفهامية ونفى { أن لا تأكلوا } على الخلاف أهو منصوب أو مجرور ومن ذهب إلى { أن لا تأكلوا } في موضع الحال أي تاركين الأكل فقوله : ضعيف لأن أن ومعمولها لا يقع حالاً وهذا منصوص عليه من سيبويه ، ولا نعلم مخالفاً له ممن يعتبر وله علة مذكورة في النحو والجملة من قوله : { وقد فصل } في موضع الحال.
وقرأ العربيان وابن كثير { فصل } و { حرم } مبنياً للمفعول ونافع وحفص { فصل } و { حرم } على بنائهما للفاعل والأخوان وأبو بكر { فصل } مبنياً للفاعل و { حرم } مبنياً للمفعول وعطية كذلك إلا أنه خفف الصاد ومعنى { إلا ما اضطررتم إليه } من { ما حرم عليكم } في حالة الاختيار فإنه حلال لكم في حالة الاضطرار.
قال ابن عطية : وما يريد بها جميع ما حرم كالميتة وغيرها قال هو والحوفي ، وهي في موضع نصب بالاستثناء أو الاستثناء منقطع.
وقال أبو البقاء : { ما } في موضع نصب على الاستثناء من الجنس من طريق المعنى كأنه وبخهم بترك الأكل مما سمي عليه وذلك يتضمن إباحة الأكل مطلقاً.
{ وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم } أي وإن كثيراً من الكفار المجادلين في المطاعم وغيرها ليضلون بالتحريم والتحليل وبأهوائهم وشهواتهم بغير علم ، أي بغير شرع من الله بل بمجرد أهوائهم كعمرو بن لحي ومن دونه من المشركين كأبي الأحوص بن مالك الجشمي وبديل بن ورقاء الخزاعي وحليس بن يزيد القرشي الذين اتخذوا البحائر والسوائب.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { ليضلون } بفتح الياء هنا وفي يونس { ربنا ليضلوا } وفي إبراهيم { أنداداً ليضلوا } وفي الحج { ثاني عطفه ليضل } وفي لقمان { ليضل عن سبيل الله } وفي الزمر { أَنداداً ليضل } وضمها الكوفيون في الستة وافقهم الصاحبان إلا في يونس وهنا ففتح.
{ إن ربك هو أعلم بالمعتدين } أي بالمجاوزين الحد في الاعتداء فيحللون ويحرمون من غير إذن الله وهذا إخبار يتضمن الوعيد الشديد لمن اعتدى أي فيجازيهم على اعتدائهم.
{ وذروا ظاهر الإثم وباطنه } { الإثم } عام في جميع المعاصي لما عتب عليهم في ترك أكل ما سمي الله عليه أمروا بترك { الإثم } ما فعل ظاهراً وما فعل في خفية فكأنه قال : اتركوا المعاصي ظاهرها وباطنها قاله أبو العالية ومجاهد وقتادة وعطاء وابن الأنباري والزجاج.
وقال ابن عباس : ظاهره الزنا.
وقال السدي : الزنا الشهير الذي كانت العرب تفعله وباطنه اتخاذ الأخدان.
وقال ابن جبير : ظاهره ما نص الله على تحريمه بقوله : { حرمت عليكم } الآية { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } الآية ، والباطن الزنا.
وقال ابن زيد : ظاهره نزع أثوابهم إذ كانوا يطوفون بالبيت عراة وباطنه الزنا.

وقيل : ظاهره عمل الجوارح وباطنه عمل القلب من الكبر والحسد والعجب وسوء الاعتقاد وغير ذلك من معاصي القلب.
وقيل : ظاهره الخمر وباطنه النبيذ ، وقال مجاهد أيضاً : ظاهره الزنا وباطنه ما نواه.
وقال الماتريدي : الأليق أن يحمل ظاهر { الإثم وباطنه } على أكل الميتة وما لم يذكر اسم الله عليه ، وقال مقاتل : { الإثم } هنا الشرك وقال غيره جميع الذنوب سوى الشرك ، وكل هذه الأقوال تخصصات لا دليل عليها والظاهر العموم في المعاصي كلها من الشرك وغيره ، ظاهرها وخفيها ويدخل في هذا العموم كل ما ذكروه.
{ إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون } أي يكسبون الإثم في الدنيا سيجزون في الآخرة وهذا وعيد وتهديد للعصاة.
{ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق } قال السخاوي قال مكحول : وروي عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت مثل ذلك وأجاز ذبائح أهل الكتاب وإن لم يذكر اسم الله عليها ، وذهب جماعة إلى أن الآية محكمة ولا يجوز لنا أن نأكل من ذبائحهم إلا ما ذكر عليه اسم الله ، وروي ذلك عن علي وعائشة وابن عمر؛ انتهى.
ولا يسمى هذا نسخاً بل هو تخصيص ولما أمر بأكل ما سمي الله عليه وكان مفهومه أنه لا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه أكد هذا المفهوم بالنص عليه ، والظاهر تحريم أكل ما لم يذكر اسم الله عليه عمداً كان ترك التسمية أو نسياناً وبه قال ابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وعبد الله بن يزيد الخطيمي وابن سيرين والشعبي ونافع وأبو ثور وداود في رواية.
وقال أبو هريرة وابن عباس أيضاً في رواية وأبو عياض وأبو رافع وعطاء وابن المسيب والحسن وجابر وعكرمة وطاووس والنخعي وقتادة وابن زيد وعبد الرحمن بن أبي ليلى وربيعة ومالك في رواية ، والشافعي والأصم : يحل أكل متروك التسمية عمداً كان الترك أو نسياناً.
وقال مجاهد وطاووس أيضاً وابن شهاب وابن جبير وعطاء في رواية وأبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حيي والحسن بن صالح وإسحاق ومالك في رواية ، وأحمد في رواية وابن أبي القاسم وعيسى وأصبغ : يؤكل إن كان الترك ناسياً وإن كان عمداً لم يؤكل واختاره النحاس وقال : لا يسمى فاسقاً إذا كان ناسياً وروي عن علي وابن عباس جواز أكل ذبيحة الناسي للتسمية ، وقال ابن عطية : وهذا قول الجمهور ، وقال أشهب والطبري : تؤكل ذبيحة تارك التسمية عمداً إلا أن يكون مستخفاً.
وقال أبو بكر الآيذي : يكره أكل ذبيحة تارك التسمية عمداً وتحتاج هذه التخصيصات إلى دلائل.
والظاهر أن المراد بقوله : { مما لم يذكر اسم الله عليه } ظاهره لعموم الآية وهو متروك التسمية.
وقال ابن عباس في رواية : إنه الميتة وعنه أنه الميتة والمنخنقة إلى وما ذبح على النصب ، وقال عطاء : ذبائح للأوثان كانت العرب تفعل ذلك ، وقال ابن بحر : صيد المشركين لأنهم لا يسمون عند إرسال السهم ولا هم من أهل التسمية.

قال الحسن : { لفسق } لكفر ، قال الكرماني : يريد مع الاستحلال وقال غيره لفسق المعصية والضمير في { وإنه } عائد إلى المصدر الدال عليه تأكلوا أي وإن الأكل قاله الزمخشري ، واقتصر عليه وجوز معه الحوفي في أن يعود على ما من قوله : { مما لم يذكر } وجوز معه ابن عطية أن يعود على الذكر الذي تضمنه قوله { لم يذكر } ، انتهى.
ومعنى إنه عائد على المصدر المنفي كأنه قيل : وإن ترك الذكر لفسق وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب وتضمنت معنى التعليل فكأنه قيل لفسقه.
{ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } أي وإن شياطين الجن قاله ابن عباس وعبد الله بن كثير.
وقال عكرمة : مردة الإنس من مجوس فارس وتقدم ذكر كتابتهم إلى قريش أي ليوسوسون إلى كفار قريش بإلهامهم تلك الحجة في أمر الذبائح التي تقدّم ذكرها ، أو على ألسنة الكهان في زمانهم ليجادلوكم.
قال الزمخشري بقولهم : ولا تأكلون ما قتله الله ، وبهذا ترجح تأويل من تأول بالميتة؛ انتهى.
والأحسن حمل الآية على عدم التخصيص بما ذكروه بل هذا إخبار أن ما صدر من جدال الكفار للمؤمنين ومنازعتهم فإنما هو من الشياطين يوسوسون لهم بذلك ولذلك ختم بقوله :
{ وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } أي وإن أطعتم أولياء الشياطين إنكم لمشركون لأن طاعتهم طاعة للشياطين وذلك إشراك ولا يكون مشركاً حقيقة حتى يطيعه في الاعتقاد ، وأما إذا أطاعه في الفعل وهو سليم الاعتقاد فهو فاسق وهذه الجملة إخبار يتضمن الوعيد وأصعب ما على المؤمن أن يشبه المشرك فضلاً أن يحكم عليه بالشرك.
وحكي عن ابن عباس أن الذين جادلوا بتلك الحجة قوم من اليهود وضعف بأن اليهود لا تأكل الميتة اللهم إلا أن قالوا ذلك على سبيل المغالطة وإجابتهم عن العرب فيمكن وجواب الشرط.
زعم الحوفي أنه { إنكم لمشركون } على حذف الفاء أي فإنكم وهذا الحذف من الضرائر فلا يكون في القرآن وإنما الجواب محذوف و { إنكم لمشركون } جواب قسم محذوف التقدير والله { إن أطعتموهم } لقوله : { وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن } وقوله : { وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن } وأكثر ما يستعمل هذا التركيب بتقدير اللام المؤذنة بالقسم المحذوف على إن الشرطية ، كقوله : { لئن أخرجوا لا يخرجون معهم } وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه.
{ أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } قال ابن عباس : نزلت في حمزة وأبي جهل رمي الرسول بفرث فأخبر بذلك حمزة حين رجع من قنصه وبيده قوس ، وكان لم يسلم فغضب فعلاً بها أبا جهل وهو يتضرع إليه ويقول : سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا ، فقال حمزة : ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله وأسلم.

وعن ابن عباس أيضاً أنها نزلت في عمار وأبي جهل.
وقال زيد بن أسلم : في عمر وأبي جهل لما تقدم ذكر المؤمنين والكافرين مثل تعالى بأن شبه المؤمن بعد أن كان كافراً بالحي المجعول له نور يتصرف به كيف سلك ، والكافر بالمختلط في الظلمات المستقر فيها دائماً ليظهر الفرق بين الفريقين والموت والحياة والنور والظلمة مجاز فالظلمة مجاز عن الكفر والنور مجاز عن الإيمان والموت مجاز عن الكفر.
وقال الماتريدي : الموت مجاز عن كونه في ظلمة البطن لا يبصر ولا يعقل شيئاً ثم أخرج فأبصر وعقل ، نقول : لا يستوي من أخرج من الظلمات ومن ترك فيها فكذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر الحق ويعمل به ، والكافر الذي لا يبصر ونحو منه قول ابن بحر قال : أو من كان نطفة أو علقة أو مضغة فصورناه ونفخنا فيه الروح ، انتهى؛ وأما النور فهو نور الحكمة أو نور الدين أو القرآن أقوال.
وقال أبو عبد الله الرازي : الحياة الاستعداد لقبول المعارف فتحصل له علوم كلية أولية وهي المسماة بالعقل والنور ما توصل إليه تركيب تلك البديهيات من المجهولات النظرية ومشيه في الناس كونه صار محضراً للمعارف القدسية والجلايا الروحانية ناظراً إليها ، ويمكن أن يقال : الحياة الاستعداد القائم بجوهر الروح والنور اتصال نور الوحي والتنزيل به فالبصيرة لا بد فيها من أمرين : سلامة حاسة العقل ، وطلوع نور الوحي كما أن البصر لا بد فيه من أمرين : سلامة الحاسة وطلوع الشمس؛ انتهى ، ملخصاً.
وهو بعيد من مناحي كلام العرب ومفهوماتها ولما ذكر صفة الإحسان إلى العبد المؤمن نسب ذلك إليه فقال : { فأحييناه وجعلنا له نوراً } وفي صفة الكافر لم ينسبها إلى نفسه بل قال : { كمن مثله في الظلمات } ولما كانت أنواع الكفر متعددة قال { في الظلمات } ولما ذكر جعل النور للميت قال : { يمشي به في الناس } أي يصحبه كيف تقلب ، وقال : { في الناس } إشارة إلى تنويره على نفسه وعلى غيره من الناس فذكر أن منفعة المؤمن ليست مقتصرة على نفسه وقابل تصرفه بالنور وملازمة النور له باستقرار الكافر { في الظلمات } وكونه لا يفارقها ، وأكد ذلك بدخول الباء في خبر ليس ويبعد قول من قال : إن النور والظلمة هما يوم القيامة إشارة إلى قوله : { يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } وإلى ظلمة جهنم وتقدم الكلام على مثل في قوله { كمثل الذي استوقد ناراً } وقرأ طلحة أفمن الفاء بدل الواو.
{ كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون } الإشارة بذلك إلى إحياء المؤمن أو إلى كون الكافر في الظلمات أي كما أحيينا المؤمن زين للكافر أو ككينونة الكافر في الظلمات ، زين للكافرين والفاعل محذوف.

قال الحسن : هو الشيطان ، وقال غيره : الله تعالى وجوز الوجهين الزمخشري ، وتقدم الكلام في التزيين وقيل : المزين الأكابر الأصاغر.
{ وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها } أي كما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية ، وتضمن ذلك فساد حال الكفرة المعاصرين للرسول إذ حالهم حال من تقدمهم من نظرائهم الكفار.
وقال عكرمة : نزلت في المستهزئين يعني أن التمثيل لهم وقيل : هو معطوف على { كذلك زين } فتكون الإشارة فيه إلى ما أشير إليه بقوله : { كذلك زين } و { جعلنا } بمعنى صيرنا ومفعولها الأول { أكابر مجرميها } { وفي كل قرية } المفعول الثاني و { أكابر } على هذا مضاف إلى { مجرميها } ، وأجاز أبو البقاء أن يكون { مجرميها } بدلاً من { أكابر } وأجاز ابن عطية أن يكون { مجرميها } المفعول الأول و { أكابر } المفعول الثاني والتقدير مجرميها أكابر ، وما أجازه خطأ وذهول عن قاعدة نحوية وهو أن أفعل التفضيل إذا كان بمن ملفوظاً بها أو مقدرة أو مضافة إلى نكرة كان مفرداً مذكراً دائماً سواء كان لمذكر أو مؤنث ، مفرد أو مثنى أو مجموع ، فإذا أنث أو ثنى أو جمع طابق ما هو له في ذلك ولزمه أحد أمرين : إما الألف واللام أو الإضافة إلى معرفة ، وإذا تقرر هذا فالقول بأن { مجرميها } بدل من { أكابر } أو أن { مجرميها } مفعول أول خطأ لالتزامه أن يبقى { أكابر } مجموعاً وليس فيه ألف ولام ولا هو مضاف إلى معرفة وذلك لا يجوز ، وقد تنبه الكرماني لهذه القاعدة فقال : أضاف الأكابر إلى مجرميها لأن أفعل لا يجمع إلا مع الألف واللام أو مع الإضافة؛ انتهى.
وكان ينبغي أن يقيد فيقول : أو مع الإضافة إلى معرفة وقدر بعضهم المفعول الثاني محذوفاً أي فساقاً { ليمكروا فيها } وهو ضعيف جداً لا يجوز أن يحمل القرآن عليه ، وقال ابن عطية : ويقال أكابرة كما قالوا أحمر وأحامرة ومنه قول الشاعر :
إن الأحامرة الثلاثة أهلكت . . .
مالي وكنت بهنّ قدماً مولعا
انتهى ، ولا أعلم أحداً أجاز في الأفاضل أن يقال الأفاضلة بل الذي ذكره النحويون أن أفعل التفضيل يجمع للمذكر على الأفضلين أو الأفاضل ، وخص الأكابر لأنهم أقدر على الفساد والتحيل والمكر لرئاستهم وسعة أرزاقهم واستتباعهم الضعفاء والمحاويج.
قال البغوي : سنة الله أنه جعل أتباع الرسل الضعفاء كما قال : { واتبعك الأرذلون } وجعل فساقهم أكابرهم ، وكان قد جلس على طريق مكة أربعة ليصرفوا الناس عن الإيمان بالرسول يقولون لكل من يقدم إياك وهذا الرجل فإنه ساحر كاهن كذاب وهذه الآية تسلية للرسول إذ حاله في أن كان رؤساء قومه يعادونه كما كان في كل قرية من يعاند الأنبياء ، وقرأ ابن مسلم أكبر مجرميها وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة وكان لمثنى أو مجموع أو مؤنث جاز أن يطابق وجاز أن يفرد كقوله :

{ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } وتحرير هذا وتفصيله وخلافه مذكور في علم النحو ، ولام { ليمكروا } لام كي.
وقيل : لام العاقبة والصيرورة.
{ وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون } أي وباله يحيق بهم كما قال ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله { وما يشعرون } يحيق ذلك بهم ولا يعني شعورهم على الإطلاق وهو مبالغة في نفي العلم إذ نفى عنهم الشعور الذي يكون للبهائم.
{ وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } قال مقاتل : روي أن الوليد بن المغيرة قال : لو كانت النبوّة حقاً لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً.
روي أن أبا جهل قال : زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت ونحوه ، { بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفاً منشرة } والآية العلامة على صدق الرسول والضمير في { جاءتهم } عائد على الأكابر قاله الزجاج.
وقال غيره : يعود على المجادلين في أكل الميتة وتغيية إيمانهم بقوله : { حتى نؤتى } دليل على تمحلهم في دعواهم واستبعاد منهم أن الإيمان لا يقع منهم البتة إذ علقوه بمستحيل عندهم ، وقولهم : { رسل الله } ليس فيه إقرار بالرسل من الله وإنما قالوا ذلك على سبيل التهكم والاستهزاء ، ولو كانوا موقنين وغير معاندين لاتبعوا رسل الله والمثلية كونهم يجري على أيديهم المعجزات فتحيى لهم الأموات ويفلق لهم البحر ونحو ذلك ، كما جرت على أيدي الرسل أو النبوّة أو جبريل والملائكة أو انشقاق القمر أو الدخان أو آية من القرآن تأمرهم بالإيمان أقوال آخرها للحسن وابن عباس ، وفيه تأمرهم باتباع الرسول وأولاها النبوّة والرسالة لقوله : { الله أعلم } حيث يجعل رسالاته فظاهره يدل على أنه المثلية هي في الرسالة.
وقال الماتريدي : أخبر عن غاية سفههم وأنهم ينكرون رسالته عن علم بها ولولا ذلك ما تمنوا أن يؤتوا مثل ما أوتي انتهى؛ ولم يتمنوا ذلك إنما أخبروا أنهم لا يؤمنون حتى يؤتوا مثل ما أوتي الرسل فعلقوا ذلك على ممتنع وقصدوا بذلك أنهم لا يؤمنون البتة.
{ الله أعلم حيث يجعل رسالاته } هذا استئناف إنكارعليهم وأنه تعالى لا يصطفي للرسالة إلا من علم أنه يصلح لها وهو أعلم بالجهة التي يضعها فيها وقد وضعها فيمن اختاره لها وهو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم دون أكابر مكة كأبي جهل والوليد بن المغيرة ونحوهما.
وقيل : الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل البعث مطاعين في قومهم لأنهم إن كانوا مطاعين قبل اتبعوا لأجل الطاعة السابقة وقالوا : حيث لا يمكن إقرارها على الظرفية هنا.

قال الحوفي : لأنه تعالى لا يكون في مكان أعلم منه في مكان فإذا لم تكن ظرفاً كانت مفعولاً على السعة والمفعول على السعة لا يعمل فيه أعلم لأنه لا يعمل في المفعولات فيكون العامل فيه فعل دل عليه أعلم.
وقال أبو البقاء : والتقدير يعلم موضع رسالاته وليس ظرفاً لأنه يصير التقدير يعلم في هذا المكان كذا وليس المعنى عليه ، وكذا قدره ابن عطية.
وقال التبريزي : { حيث } هنا اسم لا ظرف انتصب انتصاب المفعول كما في قول الشماخ :
وحلأها عن ذي الأراكة عامر . . .
أخو الخضر يرمي حيث تكوى النواحر
فجعل مفعولاً به لأنه ليس يريد أنه يرمي شيئاً حيث تكوى النواحر ، إنما يريد أنه يرمي ذلك الموضع؛ انتهى.
وما قاله من أنه مفعول به على السعة أو مفعول به على غير السعة تأباه قواعد النحو ، لأن النحاة نصوا على أن { حيث } من الظروف التي لا تتصرف وشذ إضافة لدى إليها وجرها بالياء ونصوا على أن الظرف الذي يتوسع فيه لا يكون إلا متصرفاً وإذا كان الأمر كذلك امتنع نصب { حيث } على المفعول به لا على السعة ولا على غيرها ، والذي يظهر لي يجعل رسالته إقرار { حيث } على الظرفية المجازية على أن تضمن { أعلم } معنى ما يتعدى إلى الظرف فيكون التقدير الله أنفذ علماً { حيث يجعل رسالاته } أي هو نافذ العلم في الموضع الذي يجعل فيه رسالته ، والظرفية هنا مجاز كما قلنا وروى { حيث } بالفتح.
فقيل : حركة بناء.
وقيل : حركة إعراب ويكون ذلك على لغة بني فقعس فإنهم يعربون { حيث } حكاها الكسائي.
وقرأ ابن كثير وحفص رسالته بالتوحيد وباقي السبعة على الجمع.
{ سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون } هذا وعيد شديد وعلق الإصابة بمن أجرم ليعم الأكابر وغيرهم ، والصغار الذل والهوان يقال : منه صغر يصغر وصغر يصغر صغراً وصغاراً واسم الفاعل صاغر وصغير وأرض مصغر لم يطل نبتها ، عن ابن السكيت وقابل الأكبرية بالصغار والعذاب الشديد من الأسر والقتل في الدنيا والنار في الآخرة وإصابة ذلك لهم بسبب مكرهم في قوله : { ليمكروا فيها } وقوله : { وما يمكرون إلا أنفسهم } وقدّم الصغار على العذاب لأنهم تمرّدوا عن اتباع الرسول وتكبروا طلباً للعز والكرامة فقوبلوا أوّلاً بالهوان والذل ، ولما كانت الطاعة ينشأ عنها التعظيم ثم الثواب عليها نشأ عن المعصية الإهانة ثم العقاب عليها ومعنى { عند الله } قال الزجاج : في عرصة قضاء الآخرة.
وقال الفراء : في حكم الله كما يقول عند الشافعي أي في حكمه.
وقيل : في سابق علمه.
وقيل : إن الجزية توضع عليهم لا محالة وأن حكم الله بذلك مثبت عنده بأنه سيكون ذلك فيهم.
وقال إسماعيل الضرير : في الكلام تقديم وتأخير أي صغار { وعذاب شديد } عند الله في الآخرة ، وانتصب عند { سيصيب } أو بلفظ { صغار } لأنه مصدر فيعمل أو على أنه صفة لصغار فيتعلق بمحذوف ، وقدّره الزجاج ثابت عند الله و { ما } الظاهر أنها مصدرية أي بكونهم { يمكرون }.

وقيل : موصولة بمعنى الذي.
{ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء } قال مقاتل : نزلت في الرسول صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل ، والهداية هنا مقابلة الضلالة والشرح كناية عن جعله قابلاً للإسلام متوسعاً لقبول تكاليفه ، ونسبة ذلك إلى صدره مجاز عن ذات الشخص ولذلك قالوا : فلان واسع الصدر إذا كان الشخص محتملاً ما يرد عليه من المشاق والتكاليف ، ونسبة إرادة الهدى والضلال إلى الله إسناد حقيقي لأنه تعالى هو الخالق ذلك والموجد له والمريد له وشرح الصدر تسهيل قبول الإيمان عليه وتحسينه وإعداده لقبوله : وضمير فاعل الهدى عائد على الله أي يشرح الله صدره.
وقيل : يعود على الهدى المنسبك من { أن يهديه } أي يشرح الهدى صدره.
قال ابن عطية : ويتركب عليه مذهب القدرية في خلق الأعمال؛ انتهى.
وفي الحديث السؤال عن كيفية هذا الشرح وأنه إذا وقع النور في القلب انشرح الصدر وأمارته الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل الفوت والضيق والحرج كناية عن ضد الشرح واستعارة لعدم قبول الإيمان والحرج الشديد الضيق ، والضمير في { يجعل } عائد على { الله } ومعنى يجعل يصير لأن الإنسان يخلق أوّلاً على الفطرة وهي كونه مهيأ لما يلقى إليه ولما يجعل فيه فإذا أراد الله إضلاله أضله وجعله لا يقبل الإيمان ويحتمل أن يكون { يجعل } بمعنى يخلق وينتصب { ضيقاً حرجاً } على الحال أي يخلقه على هذه الهيئة فلا يسمع الإيمان ولا يقبله ولاعتزال أبي عليّ الفارسي ذهب إلى أن يجعل هنا بمعنى يسمى قال كقوله : { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً } قال : أي سموهم أو بمعنى يحكم له بالضيق كما تقول : هذا يجعل البصرة مصراً أي يحكم لها بحكمها فراراً من نسبة خلق ذلك إلى الله تعالى ، أو تصييره وجوباً على مذهبه الاعتزالي ونحو منه في خروج اللفظ عن ظاهره.
قول الزمخشري { أن يهديه } أن يلطف به ولا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف بشرح صدره للإسلام يلطف به حتى يرغب في الإسلام وتسكن إليه نفسه ويحب الدخول فيه ، { ومن يرد أن يضله } أن يخذله ويخليه وشأنه وهو الذي لا لطف له { يجعل صدره ضيقاً حرجاً } يمنعه ألطافه حتى يقسو قلبه وينبو عن قبول الحق وينسد فلا يدخله الإيمان؛ انتهى.
وهذا كله إخراج اللفظ عن ظاهره وتأويل على مذهب المعتزلة والجملة التشبيهية معناها أنه كما يزاول أمراً غير ممكن لأن صعود السماء مثل فيما يبعد ويمتنع من الاستطاعة ويضيق عليه عند المقدرة قاله الزمخشري.

وهو قريب من تأويل ابن جريج وعطاء الخراساني والسدي قالوا : أي كان هذا الضيق الصدر الحرج يحاول الصعود في السماء حتى حاول الإيمان أو فكر فيه ويجد صعوبته عليه كصعوبة الصعود في السماء؛ انتهى.
ولامتناع ذلك عندهم حكى الله عنهم أنهم اقترحوا قولهم أو ترقى في السماء.
وقال ابن جبير : المعنى لا تجد مسلكاً إلا صعداً من شدة التضايق ، يريد ضاقت عليه الأرض فظل مصعداً إلى السماء.
وقيل : المعنى أنه عازب الرأي طائر القلب في الهواء كما يطير الشيء الخفيف عند عصف الرّياح.
وقرأ ابن كثير : { ضيقاً } هنا وفي الفرقان فاحتمل أن يكون مخففاً من ضيق كما قالوا لين.
وقال الكسائي : الضيق بالتشديد في الإجرام وبالتخفيف في المعاني ، واحتمل أن يكون مصدراً قالوا في مصدر ضاق ضيق بفتح الضاد وكسرها بمعنى واحد فإما ينسب إلى الصدر على المبالغة أو على معنى الإضافة ، أي ذا ضيق أو على جعله مجازاً عن اسم الفاعل وهذا على الأوجه الثلاثة المقولة في نعت الإجرام بالمصادر.
وقرأ نافع وأبو بكر { حرجاً } بفتح الراء وهو مصدر أي ذا حرج أو جعل نفس الحرج ، أو بمعنى حرج بكسر الراء ورويت عن عمر وقرأها له ثمة بعض الصحابة بالكسر.
فقال : ابغوني رجلاً من كنانة راعياً ولكن من بني مدلج فلما جاءه قال : يا فتى ما الحرجة عندكم؟ قال : الشجرة تكون بين الأشجار لا يصل إليها راعية ولا وحشية ، فقال عمر : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير؛ انتهى.
وهذا تنبيه والله أعلم على جهة اشتقاق الفعل من نفس العين كقولهم : استحجر واستنوق.
وقرأ ابن كثير { يصعد } مضارع صعد.
وقرأ أبو بكر يصاعد أصله يتصاعد فأدغم.
وقرأ باقي السبعة { يصعد } بتشديد الصاد والعين وأصله يتصعد ، وبها قرأ عبد الله وابن مصرف والأعمش.
وقال أبو علي : { كأنما يصعد } من سفل إلى علو ولم يرد السماء المظلة بعينها كما قال سيبويه والقيدود الطويل في غير سماء أي في غير ارتفاع.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون التشبيه بالصاعد في عقبة كؤود كأنه يصعد بها في الهواء ، ويصعد معناه يعلو ويصعد معناه يتكلف من ذلك ما يشق عليه ومنه قول عمر بن الخطاب : ما تصعدني شيء كما تصعدني خطبة النكاح وروي ما تصعدني خطبة.
{ كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } أي مثل ذلك الجعل جعله الصدر { ضيقاً حرجاً } ويبعد ما قاله الزجاج : أي مثل ما قصصنا عليك { يجعل } ومعنى { يجعل الله الرجس } يلقى الله أو يصير الله العذاب والرجس بمعنى العذاب قاله أهل اللغة.
وتعدية { يجعل } بعلى يحتمل أن يكون معناه نلقي كما تقول : جعلت متاعك بعضه على بعض وأن تكون بمعنى يصير و { على } في موضع المفعول الثاني.

وقال الزمخشري : { يجعل الله } يعني الخذلان ومنع التوفيق وصفه بنقيض ما يوصف به التوفيق من الطيب أو أراد الفعل المؤدّي إلى الرجس وهو العذاب من الارتجاس وهو الاضطراب؛ انتهى.
وهو على طريقة الاعتزالي ونقيض الطيب النتن الرائحة الكريهة ، و { الرجس } والنجس بمعنى واحد قاله بعض أهل الكوفة.
وقال مجاهد : { الرجس } كل ما لا خير فيه.
وقال عطاء وابن زيد وأبو عبيدة : { الرجس } العذاب في الدنيا والآخرة.
وقال الزجاج : اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة ، وقيل : { الرجس } السخط.
وقال إسماعيل الضرير : { الرجس } التعذيب وأصله النتن النجس وهو رجاسة الكفر.
{ وهذا صراط ربك مستقيماً } الإشارة بقوله : { وهذا } إلى القرآن والشرع الذي جاء به الرسول قاله ابن عباس ، أو القرآن قاله ابن مسعود ، أو التوحيد قاله بعضهم ، أو ما قرره في الآيات المتقدّمة في هذه الآية وفي غيرها من سبل الهدى وسبل الضلالة.
وقال الزمخشري : { وهذا صراط ربك } طريقه الذي اقتضته الحكمة وعادته في التوفيق والخذلان ونحو منه قول إسماعيل الضرير يعني هذا صنع ربك و { هذا } إشارة إلى الهدى والضلال ، وأضيف الصراط إلى الرب على جهة أنه من عنده وبأمره { مستقيماً } لا عوج فيه وانتصب { مستقيماً } على أنه حال مؤكدة.
{ قد فصلنا الآيات } أي بيناها ولم نترك فيها إجمالاً ولا التباساً.
{ لقوم يذكرون } يتدبرون بعقولهم وكأن الآيات كانت شيئاً غائباً عنهم لم يذكروها فلما فصلت تذكروها.

لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)

{ لهم دار السلا م عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون } أي لهم الجنة و { السلام } اسم من أسماء الله تعالى كما قيل في الكعبة بيت الله قاله ابن عباس وقتادة وأضيفت إليه تشريفاً أو دار السلامة من كل آفة والسلام والسلامة بمعنى كاللذاد واللذاذة والضلال والضلالة قاله الزجاج ، أو { دار السلام } بمعنى التحية لأن تحية أهلها فيها سلام قاله أبو سليمان الدمشقي ، ومعنى { عند ربهم } في نزله وضيافته كما تقول : نحن اليوم عند فلان أي في كرامته وضيافته قاله قوم ، أو في الآخرة بعد الحشر قاله ابن عطية ، أو في ضمانه كما تقول لفلان : عليّ حق لا ينسى أو ذخيرة لهم لا يعلمون كنهها لقوله : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين } قاله قوم منهم الزمخشري أو على حذف مضاف ، أو عند لقاء ربهم قاله قوم أو في جواره كما جاء في جوار الرحمن في جنة عدن على الظرفية المجازية الدالة على شرف الرتبة والمنزلة ، كما قاله في صفة الملائكة { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته } وكما قال { في مقعد صدق عند مليك مقتدر } وكما قال { ابن لي عندك بيتاً في الجنة } وهو وليهم أي مواليهم ومحبهم أو ناصرهم على أعدائهم أو متوليهم بالجزاء على أعمالهم.
{ ويوم يحشرهم } جميعاً { يا معشر الجنّ قد استكثرتم من الإنس } الظاهر العموم في الثقلين لتقدم ذكر الشياطين وهم الجنّ والكفرة أولياؤهم والمؤمنون الذين { لهم دار السلام } قال معناه الزمخشري وابن عطية ، قال ابن عطية : ويدل عليه التأكيد العام بقوله : { جميعاً }.
وقال التبريزي : وهذا النداء يدل على أن الضمير في يحشرهم دخل فيه الجنّ حين حشرهم ثم ناداهم ، أما الثقلان فحسب أو هما وغيرهما من الخلائق؛ انتهى.
ومن جعل ويوم معطوفاً على { بما كانوا يعملون } ويوم نحشرهم فالعامل في الظرف وليهم وكان الضمير خاصاً بالمؤمنين وهو بعيد ، والأولى أن يكون الظرف معمولاً لفعل القول المحكى به النداء أي ويوم نحشرهم نقول يا معشر الجن وهو أولى مما أجاز بعضهم من نصبه باذكر مفعولاً به لخروجه عن الظرفية ومما أجاز الزمخشري من نصبه بفعل مضمر غير فعل القول واذكر تقديره عنده { ويوم نحشرهم } وقلنا { يا معشر الجن } كان ما لا يوصف لفظاعته لاستلزامه حذف جملتين من الكلام جملة وقلنا وجملة العامل ، وقدر الزجاج فعل القول المحذوف مبنياً للمفعول التقدير فيقال لهم لأنه يبعد أن يكلمهم الله شفاها بدليل قوله { ولا يكلمهم الله } ونداؤهم نداء شهرة وتوبيخ على رؤوس الأشهاد والمعشر الجماعة ويجمع على المعاشر كما جاء نحن معاشر الأنبياء لا نورث.
وقال الأفوه :
فينا معاشر لن يبنوا لقومهم . . .
وإن بنى قومهم ما أفسدوا وعادوا

ومعنى الاستكثار هنا إضلالهم منهم كثيراً وجعلهم أتباعهم كما تقول : استكثر فلان من الجنود واستكثر فلان من الأشياع.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : أفرطتم في إضلالهم وإغوائهم.
وقرأ حفص يحشرهم بالياء وباقي السبعة بالنون.
{ وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } وقال : أولياء الجن أي الكفار من الإنس { ربنا استمتع } انتفع { بعضنا ببعض } فانتفاع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى التوصلات إليها ، وانتفاع الجن بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم في إغوائهم روي هذا المعنى عن ابن عباس وبه قال محمد بن كعب والزجاج.
وقال ابن عباس أيضاً ومقاتل : استمتاع الإنس بالجن قول بعضهم : أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر أهله إذا بات بالوادي في سفره ، واستمتاع الجن بالإنس افتخارهم على قومهم وقولهم : قد سدنا الإنس حتى صاروا يعوذون بنا.
قال الكرماني : كانوا يعتقدون أن الأرض مملوءة جناً وأن من لم يدخله جني في جواره خبله الآخرون ، وكذلك كانوا إذا قتلوا صيد استعاذوا بهم لأنهم يعتقدون أن هذه البهائم للجن منها مراكبهم.
وقيل : في كون عظامهم طعاماً للجن وأرواث دوابهم علفاً واستمتاع الإنس بالجن استعانتهم بهم على مقاصدهم حين يستخدمونهم بالعزائم ، أو يلقون إليهم بالمودة؛ انتهى.
ووجوه الاستمتاع كثيرة تدخل هذه الأقوال كلها تحتها فينبغي أن يعتقد في هذه الأقوال أنها تمثيل في الاستمتاع لا حصر في واحد منها ، وظاهر قوله : { استمتع بعضنا ببعض } أي بعض الإنس بالجن وبعض الجن بالإنس.
وقيل : المعنى استمتع بعض الإنس ببعضه وبعض الجن ببعضه ، جعل الاستمتاع لبعض الصنف لبعض والقول السابق بعض الصنفين ببعض الصنفين والأجل الذي بلغوه الموت قاله الجمهور وابن عباس والسدي وغيرهما.
وقيل : البعث والحشر ولم يذكر الزمخشري غيره.
وقيل : هو الغاية التي انتهى إليها جميعهم من الاستمتاع وهذا القول منهم اعتذار عن الجن في كونهم استكثروا منهم وإشارة إلى أن ذلك بقدرك وقضائك إذ لكل كتاب أجل واعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى والتكذيب بالبعث واستسلام وتحسر على حالهم.
وقرىء آجالنا على الجمع الذي على التذكير والإفراد.
قال أبو علي : هو جنس أوقع الذي موقع التي؛ انتهى.
وإعرابه عندي بدل كأنه قيل : الوقت الذي وحينئذ يكون جنساً ولا يكون إعرابه نعتاً لعدم المطابقة وفي قوله : { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } دليل على المعتزلة في قولهم : بالأجلين لأنهم أقروا بذلك وفيهم المعقول وغيره.
{ قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله } أي مكان نوائكم أي إقامتكم قال الزجاج وقال أبو علي : هو عندي مصدر لا موضع وذلك لعمله في الحال التي هي { خالدين } والموضع ليس فيه معنى فعل فيكون عاملاً والتقدير النار ذات ثوائكم؛ انتهى.
ويصح قول الزجاج على إضمار يدل عليه { مثواكم } أي يثوون { خالدين فيها } والظاهر أن هذا الاستثناء من الجملة التي يليها الاستثناء.

وقال أبو مسلم : هو من قوله : { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } أي إلا من أهلكته واخترمته.
قيل : الأجل الذي سميته لكفره وضلاله وهذا ليس بجيد ، لأنه لو كان على ما زعم لكان التركيب إلا ما شئت ، ولأن القول بالأجلين أجل الاخترام والأجل الذي سماه الله باطل والفصل بين المستثنى منه والمستثنى بقوله : { قال النار مثواكم خالدين فيها } وفي ذلك تنافر التركيب ، والظاهر أن هذا الاستثناء مراد حقيقة وليس بمجاز.
وقال الزمخشري : أو يكون من قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يخرق عليه أنيابه وقد طلب إليه أن ينفس عنه خناقه أهلكني الله إن نفّست عنك إلا إذا شئت ، وقد علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد فيكون قوله إلا إذا شئت من أشد الوعيد مع تهكم بالموعد لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع؛ انتهى.
وإذا كان استثناء حقيقة فاختلفوا في الذي استثنى ما هو؟ فقال قوم : هو استثناء أشخاص من المخاطبين وهم من آمن في الدنيا بعذاب كان من هؤلاء الكفرة ، ولما كان هؤلاء صنفاً ساغ في العبارة عنهم ما فصار كقوله : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } حيث وقعت على نوع من يعقل وهذا القول بعد لأن هذا خطاب للكفار يوم القيامة فكيف يصح الاستثناء فيمن آمن منهم في الدنيا وشرط من أخرج بالاستثناء اتحاد زمانه وزمان المخرج منه.
فإذا قلت : قام القوم إلا زيداً فمعناه إلا زيداً فإنه ما قام ، ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيداً فإنه ما يقوم في المستقبل وكذلك سأضرب القوم إلا زيداً معناه إلا زيداً فإني لا أضربه في المستقبل ، ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيداً فإني ضربته أمس إلا إن كان الاستثناء منقطعاً فإنه يسوغ ، كقوله تعالى : { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } أي لكن الموتة الأولى في الدنيا فإنهم ذاقوها.
وقال قوم : المستثنى هم العصاة الذين يدخلون النار من أهل التوحيد أي إلا النوع الذي دخلها من العصاة فإنهم لا يخلدون في النار.
وقال قوم : الاستثناء من الأزمان أي { خالدين فيها } أبداً إلا الزمان الذي شاء الله أن لا يخلدون فيها ، واختلف هؤلاء في تعيين الزمان.
فقال الطبري : هي المدّة التي بين حشرهم إلى دخولهم النار وساغ هذا من حيث العبارة بقوله : { النار مثواكم } لا يخص بصيغتها مستقبل الزمان دون غيره.
وقال الزمخشري : إلا ما شاء الله أي يخلدون في عذاب الأبد كله إلا ما شاء الله أي الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير ، فقد روي أنهم يدخلون وادياً من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض فيتعاوون ويطلبون الردّ إلى الجحيم.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46