كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

وسبقه إليه الزجاج قال : أمره بالجهاد وإن قاتل وحده ، لأنه ضمن له النصرة.
وقال ابن عطية : لم نجد قط في خبر أنّ القتال فرض على النبي دون الأمة مرة ما ، فالمعنى والله أعلم أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في اللفظ ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه : أي : أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له فقاتل في سبيل الله ، ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر ، أن يجاهد ولو وحده ، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : « لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي » وقول أبي بكر وقت الردة : ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي.
ومعنى لا تكلف إلا نفسك : أي : لا تكلف في القتال إلا نفسك ، فقاتل ولو وحدك.
وقيل : المعنى إلا طاقتك ووسعك.
والنفس يعبر بها عن القوّة يقال : سقطت نفسه أي قوته.
وقرأ الجمهور : لا تكلف خبراً مبنياً للمفعول ، قالوا : والجملة في موضع الحال ، ويجوز أن يكون إخباراً من الله لنبيه ، لا حالاً شرع له فيها أنه لا يكلف أمر غيره من المؤمنين ، إنما يكلف أمر نفسه فقط.
وقرىء : لا نكلف بالنون وكسر اللام ، ويحتمل وجهي الإعراب : الحال والاستئناف.
وقرأ عبد الله بن عمر : لا تكلف بالتاء وفتح اللام ، والجزم على جواب الأمر.
وأمره تعالى بحث المؤمنين على القتال ، وتحريك هممهم إلى الشهادة.
{ عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا } قال عكرمة وغيره : عسى من الله واجبه ، ومن البشر متوقعة مرجوّة.
والذين كفروا : هم كفار قريش ، وقد كف الله تعالى بأسهم ، وبدا لأبي سفيان ترك القتال.
وقال : هذا عام مجدب ، وما كان معهم إلا السويق ، ولا يلقون إلا في عام مخصب فرجع بهم.
وقيل : كف البأس يكون عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام.
وقيل : ذلك يوم الحديبية.
وقيل : هي فيمن ضربت عليهم الجزية.
والجمهور على ما قدمناه من أنّ ذلك كان عند خروجهم إلى بدر الصغرى.
والظاهر في هذا أنه لا يتقيد كف بأس الذين كفروا بما ذكروا ، والتخصيص بشيء يحتاج إلى دليل.
{ والله أشدّ بأساً وأشدّ تنكيلاً } هذا تقوية لقلوب المؤمنين ، وأنّ بأس الله أشدّ من بأس الكفار.
وقد رجى كف بأسهم ، ثم ذكر ما أعد لهم من النكال ، وأن الله تعالى هو أشد عقوبة.
فذكر قوّته وقدرته عليهم ، وما يؤول إليه أمرهم من التعذيب.
قال الحسن وقتادة : وأشد تنكيلاً أي عقوبة فاصحة ، والأظهر أن أفعل التفضيل هنا على بابها.
وقيل : هو من باب العسل أحلى من الخل ، لأن بأسهم بالنسبة إلى بأسه تعالى ليس بشيء.

{ من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها } قال قوم : من يكن شفيعاً لوتر أصحابك يا محمد في الجهاد فيسعفهم في جهاد عدوّهم يكن له نصيب من الجهاد أو من يشفع وتر الإسلام بالمعونة للمسلمين ، فتلك حسنة ، وله نصيب منها.
وحملهم على هذا التأويل ما تقدم من ذكر القتال والأمر به ، وقال قريباً منه الطبري.
وقال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم : هي في حوائج الناس ، فمن يشفع لنفع فله نصيب ، ومن يشفع لضر فله كفل.
وقال الزمخشري : الشفاعة الحسنة هي التي روعي فيها حق مسلم ، ودفع عنه بها شر ، أو جلب إليه خير وابتغى بها وجه الله ، ولم يؤخذ عليها رشوة ، وكانت في أمر جائز لا في حد من حدود الله ، ولا حق من الحقوق.
والسيئة ما كان بخلاف ذلك انتهى.
وهذا بسط ما قاله الحسن ، قال : الشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة ، والسيئة في المعاصي.
وقيل : الشفاعة الحسنة هي الدعوة للمسلم لأنها في معنى الشفاعة إلى الله تعالى.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « من دعا لأخيه بظهر الغيب استجيب له ، وقال له الملك : ولك مثل ذلك النصيب » ولدعوة على المسلم بضد ذلك.
وقال ابن السائب ومقاتل : الشفاعة الحسنة هنا الصلح بين الاثنين ، والسيئة الإفساد بينهما والسعي بالنميمة.
وقيل : الشفاعة الحسنة أن يشفع إلى الكافر حتى يوضح له من الحجج لعله يسلم ، والسيئة أن يشفع إلى المسلم عسى يرتد أو ينافق.
والظاهر أنّ من للسبب أي : نصيب من الخير بسببها ، وكفل من الشر بسببها.
وتقدم في المفردات أن الكفل النصيب.
وسمي المجازي.
وقال أبان بن تغلب : الكفل المثل.
وقال الحسن وقتادة : هو الوزر والإثم ، وغاير في النصيب فذكره بلفظ الكفل في الشفاعة السيئة ، لأنه أكثر ما يستعمل في الشر ، وإن كان قد استعمل في الخير لقوله : { يؤتكم كفلين من رحمته } قالوا : وهو مستعار من كفل البعير ، وهو كساء يدار على سنامه ليركب عليه ، وسمي كفلاً لأنه لم يعم الظهر ، بل نصيباً منه.
{ وكان الله على كل شيء مقيتاً } أي : مقتدراً قاله السدّي وابن زيد والكسائي.
وقال ابن عباس ومجاهد : حفيظاً وشهيداً.
وقال عبد الله بن كثير : واصباً قيماً بالأمور.
وقيل : المحيط.
وقيل : الحسيب.
وقيل : المجازي.
وقيل : المواظب للشيء الدائم عليه.
قال ابن كثير : وهو قول ابن عباس أيضاً.
وهذه أقوال متقاربة لاستلزام بعضها معنى بعض.
وقال الطبري في قوله : إني على الحساب مقيت ، إنه من غير هذه المعاني المتقدّمة ، وإنه بمعنى موقوت.
وهذا يضعفه أن يكون بناء اسم الفاعل بمعنى بناء اسم المفعول.
وقال غيره : معناه مقتدر.
{ وإذا حييتم بتحية فيحوا بأحسن منها أو ردّوها } الظاهر أن التحية هنا السلام ، وأنّ المسلم عليه مخير بين أن يرد أحسن منها ، أو أن يردها يعني مثلها ، فأو هنا للتخيير.

وقال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وابن زيد : بأحسن منها إذا كان مسلماً ، أو ردوها إذا كان يسلم عليك كافر فاردد ، وإن كان مجوسياً فتكون أو هنا للتنويع.
والذي يظهر أنّ الكافر لا يرد عليه مثل تحيته ، لأن المشروع في الرد عليهم أن يقال لهم : وعليكم ، ولا يزادوا على ذلك ، فيكون قوله : وإذا حييتم معناه : وإذا حياكم المسلمون ، وإلى هذا ذهب.
عطاء.
وعن الحسن : ويجوز أن يقال للكافر : وعليك السلام ، ولا يقل : ورحمة الله ، فإنها استغفار ، وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه : وعليك السلام ورحمة الله فقيل له ، فقال : أليس في رحمة الله يعيش؟ وكأن من قال بهذا أخذ بعموم وإذا حييتم ، لكن ذلك مخالف للنص النبوي من قوله : « فقولوا وعليكم » وكيفية رد الأحسن أنه إذا قال : سلام عليك ، فيقول : عليك السلام ورحمة الله.
فإذا قال : سلام عليك ورحمة الله قال : عليك السلام ورحمة الله وبركاته.
فإذا قال المسلم هذا بكماله رد عليه مثله.
وروي عن عمر ، وابن عباس ، وغيرهما : أن غاية السلام إلى البركة.
وفي الآية دليل على أنّ الرد واجب لأجل الأمر ، ولا يدل على وجوب البداءة ، بل هي سنة مؤكدة ، هذا مذهب أكثر العلماء.
والجمهور على أنْ لا يبدأ أهل الكتاب بالسلام ، وشذ قوم فأباحوا ذلك.
وقد طول الزمخشري وغيره بذكر فروع كثيرة في السلام ، وموضوعها علم الفقه.
وذهب مجاهد : إلى تخصيص هذه التحية بالجهاد ، فقال : إذا حييتم في سفركم بتحية الإسلام { فلا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً } فإن أحكام الإسلام تجري عليهم.
وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك : أن هذه الآية في تشميت العاطس ، والرد على المشمت.
وضعف ابن عطية وغيره من أصحاب مالك هذا القول.
قال ابن عطية : لأنه ليس في الكلام على ذلك دلالة.
أما أنّ الرد على المشمت مما يدخل بالقياس في معنى رد التحية ، وهذا هو منحى مالك إن صح ذلك ، انتهى.
وذهب قوم إلى أنّ المراد بالتحية هنا الهداية واللطف ، وقال : حق من أعطى شيئاً من ذلك أن يعطى مثله أو أحسن منه.
قال ابن خويز منداد : يجوز أن تحمل هذه الآية على الهبة إذا كانت للثواب ، وقد شحن بعض الناس تأليفه هنا بفروع من أحكام القتال والسلام ، وتشميت العاطس ، والهدايا ، وموضوعها علم الفقه وذكروا أيضاً في ما يدخل في التحية مقارناً للسلام ، واللقاء والمصافحة ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بها وفعلها مع السلام والمعانقة ، وأول من سنها ابراهيم عليه السلام ، والقبلة.
وعن الحسن في قوله تعالى : { رحماء بينهم } قال : كان الرجل يلقى أخاه فما يفارقه حتى يلزمه ويقبله.

وعن عليّ قبلة الولد رحمة ، وقبلة المرأة شهوة ، وقبلة الوالدين برّ ، وقبلة الأخ دين ، وقبلة الإمام العادل طاعة ، وقبلة العالم إجلال الله تعالى.
قال القشيري : في الآية تعليم لهم حسن العشرة وآداب الصحبة ، وأنَّ من حملك فضلاً صار ذلك في ذمتك قرضاً ، فإنْ زدت على فعله وإلا فلا تنقص عن مثله.
{ إن الله كان على كل شيء حسيباً } أي : حاسباً من الحساب ، أو محسباً من الاحساب ، وهو الكفاية.
فإما فعيل للمبالغة ، وإما بمعنى مفعل.
وتضمنت هذه الآيات من البيان والبديع أنواعاً الالتفات في قوله : فما أرسلناك.
والتكرار في : من يطع فقد أطاع ، وفي : بيت ويبيتون ، وفي : اسم الله في مواضع ، وفي : أشد ، وفي : من يشفع شفاعة.
والتجنيس المماثل في : يطع وأطاع ، وفي : بيت ويبيتون ، وفي : حييتم فحيوا.
والمغاير في : وتوكل ووكيلاً ، وفي : من يشفع شفاعة ، وفي : وإذا حييتم بتحية.
والاستفهام المراد به الإنكار في : أفلا يتدبرون.
والطباق في : من الأمن أو الخوف ، وفي : شفاعة حسنة وشفاعة سيئة.
والتوجيه في : غير الذي تقول.
والاحتجاج النظري ويسمى المذهب الكلامي في : ولو كان من عند غير الله.
وخطاب العين والمراد به الغير في : فقاتل.
والاستعارة في : في سبيل الله ، وفي : أن يكف بأس.
وافعل في : غير المفاضلة في أشد.
وإطلاق كل على بعض في : بأس الذين كفروا واللفظ مطلق والمراد بدر الصغرى.
والحذف في عدة مواضع تقتضيها الدلالة.

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)

الإركاس : الرد والرجع.
قيل : من آخره على أوله ، والركس : الرجيع.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في « الروثة هذا ركس » وقال أمية بن أبي الصلت :
فأركسوا في حميم النار أنهم . . .
كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا
وحكى الكسائي والنضر بن شميل : ركس وأركس بمعنى واحد أي : رجعهم.
ويقال : ركَّس مشدّداً بمعنى أركس ، وارتكس هو أي ارتجع.
وقيل : أركسه أوبقه قال :
بشؤمك أركستني في الخنا . . .
وأرميتني بضروب العنا
وقيل : أضلهم.
وقال الشاعر :
وأركستني عن طريق الهدى . . .
وصيرتني مثلاً للعدا
وقيل : نكسه.
قاله الزجاج قال :
ركسوا في فتنة مظلمة . . .
كسواد الليل يتلوها فتن
الدية : ما غرم في القتل من المال ، وكان لها في الجاهلية أحكام ومقادير ، ولها في الشرع أحكام ومقادير ، سيأتي ذكر شيء منها.
وأصلها : مصدر أطلق على المال المذكور ، وتقول : منه ودي ، يدي ، وديا ودية.
كما تقول : وشى يشي ، وشيا وشية ، ومثاله من صحيح اللام : زنة وعدة.
التعمد والعمد : القصد إلى الشيء { الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه } قال مقاتل : نزلت فيمن شك في البعث ، فاقسم الله ليبعثنه.
ومناسبتها لما قبلها ظاهرة وهي : أنه تعالى لما ذكر أن الله كان على كل شيء حسيباً ، تلاه بالاعلام بوحدانية الله تعالى والحشر والبعث من القبور للحساب.
ويحتمل أن يكون لا إله إلا هو خبر عن الله ، ويحتمل أن يكون جملة اعتراض ، والخبر الجملة المقسم عليها ، وحذف هنا القسم للعلم به.
وإلى إما على بابها ومعناها : من الغاية ، ويكون الجمع في القبور ، أو يضمن معنى : ليجمعنكم معنى : ليحشرنكم ، فيعدى بإلى.
قيل : أو تكون إلى بمعنى في ، كما أولوه في قول النابغة :
فلا تتركني بالوعيد كأنني . . .
إلى الناس مطلى به القار أجرب
أي : في الناس.
وقيل : إلى بمعنى مع.
والقيامة والقيام بمعنى واحد ، كالطلابة والطلاب.
قيل : ودخلت الهاء للمبالغة لشدة ما يقع فيه من الهول ، وسمي بذلك إما لقيامهم من القبور ، أو لقيامهم للحساب.
قال تعالى : { يوم يقوم الناس لرب العالمين } ولما كان الحشر جائزاً بالعقل ، واجباً بالسمع ، أكده بالقسم قبله وبالجملة بعده من قوله : لا ريب فيه.
واحتمل الضمير في فيه أن يعود إلى اليوم ، وهو الظاهر.
وأن يعود على المصدر المفهوم من قوله تعالى : ليجمعنكم.
وتقدم تفسير لا ريب فيه في أول البقرة.
{ ومن أصدق من الله حديثاً }.
هذا استفهام معناه النفي ، التقدير : لا أحد أصدق من الله حديثاً.
وفسر الحديث بالخبر أو بالوعد قولان ، والأظهر هنا الخبر.
قال ابن عطية : وذلك أنّ دخول الكذب في حديث البشر إنما علته الخوف أو الرجاء أو سوء السجية ، وهذه منفية في حق الله تعالى ، والصدق في حقيقته أن يكون ما يجري على لسان المخبر موافقاً لما في قلبه ، والأمر المخير عنه في وجوده انتهى.

وقال الماتريدي : أي إنكم تقبلون حديث بعضكم من بعض مع احتمال صدقه وكذبه ، فإنْ تقبلوا حديث من يستحيل عليه الكذب في كل ما أخبركم به من طريق الأولى.
وطوّل الزمخشري هنا إشعاراً بمذهبه فقال : لا يجوز عليه الكذب ، وذلك أنَّ الكذب مستقل بصارف عن الإقدام عليه وهو قبحه الذي هو كونه كذباً وإخباراً عن الشيء بخلاف ما هو عليه ، فمن كذب لم يكذب إلا لأنه محتاج إلى أن يكذب ، ليجرّ منفعة ، أو يدفع مضرة ، أو هو غني عنه ، إلا أنه يجهل غناه ، أو هو جاهل بقبحه ، أو هو سفيه لا يفرق بين الصدق والكذب في أخباره ، ولا يبالي بأيهما نطق ، وربما كان الكذب أحلى على حنكه من الصدق.
وعن بعض السفهاء : أنه عوتب على الكذب فقال : لو غرغرت لهراتك به ، ما فارقته.
وقيل لكذاب : هل صدقت قط؟ فقال : لولا أني صادق في قولي لا ، لقلتها.
فكان الحكيم الغني الذي لا تجوز عليه الحاجات ، العالم بكل معلوم ، منزهاً عنه كما هو منزه عن سائر القبائح انتهى.
وكلامه تكثير لا يليق بكتابه ، فإنه مختصر في التفسير.
وقرأ حمزة والكسائي : أصدق بإشمام الصاد زاياً ، وكذا فيما كان مثله من صاد ساكنة بعدها دال ، نحو : يصدقون وتصدية.
وأما إبدالها زاياً محضة في ذلك فهي لغة كلب.
وأنشدوا :
يزيد الله في خيراته . . .
حامي الذمار عند مصدوقاته
يريد : عند مصدوقاته.
{ فما لكم في المنافقين فئتين } ذكروا في سبب نزولها أقوالاً طولوا بها وملخصها : أنّهم قوم أسلموا فاستوبئوا المدينة فخرجوا ، فقيل لهم : أما لكم في الرسول أسوة؟ أو ناس رجعوا من أحد لِما خرج الرسول ، وهذا في الصحيحين من قول زيد بن ثابت.
أو ناس بمكة تكلموا بالإسلام وهم يعينون الكفار ، فخرجوا من مكة.
قال الحسن ، ومجاهد : خرجوا الحاجة لهم ، فقال قوم من المسلمين ، اخرجوا إليهم فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عدوكم.
وقال قوم : كيف نقتلهم وقد تكلموا بالإسلام؟ رواه ابن عطية عن ابن عباس.
أو قوم قدموا المدينة وأظهروا الإسلام ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك ، أو قوم أعلنوا الإيمان بمكة وامتنعوا من الهجرة قاله : الضحاك.
أو العرنيون الذين أغاروا على السرح وقتلوا يساراً ، أو المنافقون الذين تكلموا في حديث الإفك.
وما كان من هذه الأقوال يتضمن أنهم كانوا بالمدينة ، يردّه قوله : { حتى يهاجروا في سبيل الله } إلا إنْ حملت المهاجرة على هجرة ما نهى الله عنه ، والمعنى : أنه تعالى أنكر عليهم اختلافهم في نفاق من ظهر منه النفاق أي : من ظهر منه النفاق قطع بنفاقه ، ولو لم يكونوا بادياً نفاقهم ، لما أطلق عليه اسم النفاق.

وفي المنافقين متعلق بما تعلق به لكم ، وهو كائن أي : أيّ شيء كائن لكم في شأن المنافقين.
أو بمعنى فئتين أي : فرقتين في أمر المنافقين.
وانتصب فئتين على الحال عند البصريين من ضمير الخطاب في لكم ، والعامل فيها العامل في لكم.
وذهب الكوفيون إلى أنه منصوب على إضمار كان أي : كنتم فئتين.
ويجيزون مالك الشاتم أي : كنت الشاتم ، وهذا عند البصريين لا يجوز ، لأنه عندهم حال ، والحال لا يجوز تعريفها.
{ والله أركسهم بما كسبوا } أي : رجّعهم وردّهم في كفرهم قاله : ابن عباس ، واختار الفراء والزجاج : أوبقهم.
روى عن ابن عباس : أو أضلهم ، قاله السدي.
أو أهلكهم قاله قتادة ، أو نكسهم قاله الزجاج.
وكلها متقاربة.
ومن عبر به عن الإهلاك فإنه أخذ بلازم الإركاس.
ومعنى بما كسبوا أي : بما أجراه الله عليهم من المخالفة ، وذلك الاركاس هو بخلق الله واختراعه ، وينسب للعبد كسباً.
وقال الزمخشري : والله أرسكهم أي : ردّهم في حكم المشركين كما كانوا بما كسبوا من ارتدادهم ، ولحوقهم بالمشركين ، واحتيالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أو أركسهم في الكفر بأنْ خذلهم حتى ارتكسوا فيه لما علم من مرض قلوبهم انتهى.
وهو جار على عقيدته الاعتزالية ، فلا ينسب الاركاس إلى الله حقيقة ، بل يؤوّله على معنى الخذلان وترك اللطف ، أو على الحكم بكونهم من المشركين.
إذ هم فاعلو الكفر ومخترعوه ، لا الله تعالى الله عن قولهم.
وقرأ عبد الله : ركسهم ثلاثياً.
وقرىء : ركسهم ركسوا فيها بالتشديد ، قال الراغب : الركس والنكس الرذل ، والركس أبلغ من النكس ، لأن النكس ما جعل أسفله أعلاه ، والركس أصله ما رجع رجيعاً بعد أن كان طعاماً فهو كالرجس وصف أعمالهم به ، كما قال : { إنما المشركون نجس } وأركسه أبلغ من ركسه ، كما أنَّ أسقاه بلغ من سقاه انتهى.
وهذه الجملة في موضع الحال ، أنكر تعالى عليهم اختلافهم في هؤلاء المنافقين في حال أنّ الله تعالى قد ردهم في الكفر ، ومن يرده الله إلى الكفر لا يختلف في كفره.
{ أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله } هذا استفهام إنكار أي : من أراد الله ضلاله ، لا يريد أحد هدايته لئلا تقع إرادته مخالفة لإرادة الله تعالى ، ومَن قضى الله عليه بالضلال لا يمكن إرشاده ، ومن أضل الله اندرج فيه المركسون وغيرهم.
ممن أضله الله فكأنه قيل : أتريدون أن تهدوا هؤلاء المنافقين؟ ومن أضله الله تعالى من غيرهم واندراجهم في عموم من بعد قوله : والله أركسهم ، هو على سبيل التوكيد ، إذ ذكروا أولاً على سبيل الخصوص ، وثانياً على سبيل اندراجهم في العموم.
وقال الزمخشري : أتريدون أن تجعلوا من جملة المهتدين؟ من أضله الله من جعله من الضلال وحكم عليه بذلك ، أو خذله حتى ضل انتهى.

وهو على طريقته الاعتزالية من أنه لا ينسب الإضلال إلى الله على سبيل الحقيقة.
{ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً } أي : فلن تجد لهدايته سبيلاً.
والمعنى : لخلق الهداية في قلبه ، وهذا هو المنفى.
والهداية بمعنى الإرشاد والتبيين ، هي للرسل.
وخرج من خطابهم إلى خطاب الرسول على سبيل التوكيد في حق المختلفين ، لأنه إذا لم يكن له ذلك ، فالأحرى أن لا يكون ذلك لهم.
وقيل : من يحرمه الثواب والجنة لا يجد له أحد طريقاً إليهما.
وقيل : من يهلكه الله فليس لأحد طريق إلى نجاته من الهلاك.
وقيل : ومن يضلل الله فلن تجد له مخرجاً وحجة.
{ ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء } مَن أثبت أن لو تكون مصدرية قدره : ودُّوا كفركم كما كفروا.
ومَن جعل لو حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره ، جعل مفعول ودُّوا محذوفاً ، وجواب لو محذوفاً ، والتقدير : ودُّوا كفركم لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ، لسرُّوا بذلك.
وسبب ودّهم ذلك إمّا حسداً لما ظهر من علوّ الإسلام كما قال في نظيرتها : { حسداً من عند أنفسهم } وإمّا إيثاراً لهم أن يكونوا عباد أصنام لكونهم يرون المؤمنين على غير شيء ، وهذا كشف من الله تعالى لخبيث معتقدهم ، وتحذير للمؤمنين منهم.
وفتكونون معطوف على قوله : تكفرون.
قال الزمخشري : ولو نصب على جواب التمني لجاز ، والمعنى : ودُّوا كفركم وكونكم معهم شرعاً واحداً فيما هم عليه من الضلال واتباع دين الآباء انتهى.
وكون التمني بلفظ الفعل ، ويكون له جواب فيه نظر.
وإنما المنقول أنَّ الفعل ينتصب في جواب التمني إذا كان بالحرف نحو : ليت ، ولو وإلا ، إذا أشربتا معنى التمني ، أما إذا كان بالفعل فيحتاج إلى سماع من العرب.
بل لو جاء لم تتحقق فيه الجوابية ، لأن ودّ التي تدل على التمني إنما متعلقها المصادر لا الذوات ، فإذا نصب الفعل بعد الفاء لم يتعين أن تكون فاء جواب ، لاحتمال أن يكون من باب عطف المصدر المقدر على المصدر الملفوظ به ، فيكون من باب : للبس عباءة وتقرّ عيني.
{ فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله } لما نص على كفرهم ، وأنَّهم تمنوا أن تكونوا مثلهم بانت عداوتهم لاختلاف الدّينين ، فهي تعالى أن يوالي منهم أحد وإن آمنوا ، حتى يظاهروا بالهجرة الصحيحة لأجل الإيمان ، لا لأجل حظ الدّنيا ، وإنما غياباً بالهجرة فقط لأنها تتضمن الإيمان.
وفي هذه الآية دليل على وجوب الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ولم يزل حكمها كذلك إلى أن فتحت مكة ، فنسخ بقوله صلى الله عليه وسلم : « لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا ».
وخالف الحسن البصري فقال بوجوبها ، وإن حكمها لم ينسخ ، وهو باق فتحرم الإقامة بعد الإسلام في دار الشرك.

وإجماع أهل المذاهب على خلافه.
قال القاضي أبو يعلى وغيره : من هو قادر على الهجرة ولا يقدر على إظهار دينه فهي تجب عليه لقوله تعالى : { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } ومن كان قادراً على إظهار دينه استحبت له ، ومن لا يقدر على إظهار دينه ولا على الحركة كالشيخ الفاني والزمِنْ ، لا يستحب له.
{ فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً } أي.
فإن تولوا عن الإيمان المظاهر بالهجرة الصحيحة فحكمهم حكم الكفار يقتلون حيث وجدوا في حل وحرم ، وجانبوهم مجانبة كلية ، ولو بذلوا لكم الولاية والنصرة فلا تقبلوا منهم.
{ إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم } هذا استثناء من قوله : فخذوهم واقتلوهم ، والوصول هنا : البلوغ إلى قوم.
وقيل : معناه ينتسبون قاله أبو عبيدة.
وأنشد الأعشى :
إذا اتصلت قالت لبكر بن وائل . . .
وبكر سبتها والأنوف رواغم
وقال النحاس : هذا غلط عظيم ، لأنه ذهب إلى أنه تعالى حظر أن يقاتلَ أحدُ بينه وبين المسلمين نسب والمشركون قد كان بينهم وبين المسلمين السابقين أنساب.
يعني : وقد قاتل الرسول ومن معه من انتسب إليهم بالنسب الحقيقي ، فضلاً عن الانتساب.
قال النحاس : وأشد من هذا الجهل قول من قال : إنه كان ثم نسخ ، لأن أهل التأويل مجمعون على أنّ الناسخ له براءة ، وإنما نزلت بعد الفتح ، وبعد أن انقطعت الحروب ، ووافقه على ذلك الطبري.
وقال القرطبي : حمل بعض أهل العلم معنى ينتسبون على الأمان ، أو أن ينتسب إلى أهل الأمان ، لا على معنى النسب الذي هو القرابة انتهى.
قال عكرمة : إلى قوم هم قوم هلال بن عويمر الأسلمي ، وادع الرسول على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، ومن لجأ إليهم فله مثل ما لهلال.
وروي عن ابن عباس : أنهم بنو بكر بن زيد مناة.
والجمهور على أنّهم خزاعة وذو خزاعة.
وقال مقاتل : خزاعة وبنو مدلج.
وقال ابن عطية : كان هذا الحكم في أول الإسلام قبل أن يستحكم أمر الطاعة من الناس ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هادن من العرب قبائل كرهط هلال بن عويمر الأسلمي ، وسراقة بن مالك بني جعشم ، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف ، فقضت هذه الآية أنه من وصل من المشركين الذين لا عهد بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء أهل العهد ، ودخل في عدادهم ، وفعل فعلهم من الموادعة ، وفعل فعلهم من الموادعة ، فلا سبيل عليه.
قال عكرمة والسدي وابن زيد : ثمّ لما تقوى الإسلام وكثر ناصره نسخت هذه الآية والتي بعدها بما في سورة براءة انتهى.
وقيل : هم خزاعة وخزيمة بن عبد مناف.
والذين حصرت صدورهم هم ، بنو مدلج ، اتصلوا بقريش.

وبه وعن ابن عباس : إنهم قوم من الكفار اعتزلوا المسلمين يوم فتح مكة ، فلم يكونوا مع الكافرين ، ولا مع المسلمين ، ثم نسخ ذلك بآية القتال.
وأصل الاستثناء أن يكون متصلاً ، وظاهر الآية وهذه الأقوال التي تقدّمت : أنه استثناء متصل.
والمعنى : إلا الكفار الذين يصلون إلى قوم معاندين ، أو يصلون إلى قوم جاؤوكم غير مقاتلين ولا مقاتلي قومهم.
إن كان جاؤوكم عطفاً على موضع صفة قوم ، وكلا العطفين جوز الزمخشري وابن عطية ، إلا أنهما اختارا العطف على الصلة.
قال ابن عطية بعد أن ذكر العطف على الصلة قال : ويحتمل أن يكون على قوله : بينكم وبينهم ميثاق ، والمعنى في العطفين مختلف انتهى.
واختلافه أنّ المستثنى إمّا أن يكونا صنفين واصلاً إلى معاهد ، وجائياً كافاً عن القتال.
أو صنفاً واحداً يختلف باختلاف من وصل إليه من معاهد أو كاف.
قال ابن عطية : وهذا أيضاً حكم ، كان قبل أن يستحكم أمر الإسلام ، فكان المشرك إذا جاء إلى دار الإسلام مسالماً كارهاً لقتال قومه مع المسلمين ولقتال المسلمين مع قومه ، لا سبيل عليه.
وهذه نسخت أيضاً بما في براءة انتهى.
وقال الزمخشري : الوجه العطف على الصلة لقوله : { فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم } الآية بعد قوله : فخذوهم واقتلوهم ، فقرر أنّ كفهم عن القتال أحد سببي استحقاقهم لنفي التعرض لهم ، وترك الإيقاع بهم.
( فإن قلت ) : كل واحد من الاتصالين له تأثير في صحة الاستثناء ، واستحقاق ترك التعرّض الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافين ، فهلا جوزت أن يكون العطف على صفة قومٍ ، ويكونَ قوله : فإن اعتزلوكم تقريراً لحكم اتصالهم بالكافين ، واختلاطهم فيهم ، وجريهم على سننهم؟ ( قلت ) : هو جائز ، ولكنَّ الأول أظهر وأجرى على أسلوب الكلام انتهى.
وإنما كان أظهروا وأجرى على أسلوب الكلام لأنّ المستثنى محدث عنه محكوم له بخلاف حكم المستثنى منه.
وإذا عطفت على الصلة كان محدثاً عنه ، وإذا عطفت على الصفة لم يكن محدثاً عنه ، إنما يكون ذلك تقييداً في قوم الذين هم قيد في الصلة المحدث عن صاحبها ، ومتى دار الأمر بين أن تكون النسبة إسنادية في المعنى ، وبين أن تكون تقييدية ، كان حملُها على الإسنادية أولى للاستثقال الحاصل بها ، دون التقييدية هذا من جهة الصناعة النحوية.
وأما من حيث ما يترتب على كل واحد من العطفين من المعنى ، فإنه يكون تركهم القتال سبباً لترك التعرّض لهم ، وهو سبب قريب ، وذلك على العطف على الصلة ، ووصولهم إلى من يترك القتال سبب لترك التعرض لهم ، وهو سبب بعيد ، وذلك على العطف على الصفة.
ومراعاة السبب القريب أولى من مراعاة البعيد.
وعلى أن الاستثناء متصل من مفعول : فخذوهم واقتلوهم ، والمعنى : أنه تعالى أوجب قتل الكافر إلا إذا كان معاهداً أو داخلاً في حكم المعاهد ، أو تاركاً للقتال ، فإنه لا يجوز قتلهم.

وقول الجمهور : إن المستثنين كفار.
وقال أبو مسلم : إنه تعالى لما أوجبَ الهجرة على كل من أسلم ، استثنى مَن له عذر فقال : { إِلا الذين يصلون } وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول بالهجرة والنصرة ، إلا أنهم كان في طريقهم من الكفار ما لم يجدوا طريقاً إليه خوفاً من أولئك الكفار ، فصاروا إلى قوم بين المسلمين وبينهم عهد ، وأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص ، واستثنى بعد ذلك من صار إلى الرسول وإلى الصحابة ، لأنه يخاف الله فيه ، ولا يقاتل الكفار أيضاً لأنهم أقاربه ، أو لأنه بقي أزواجه وأولاده بينهم فيخاف لو قاتلهم أن يقتلوا أولاده وأصحابه.
فهذان الفريقان من المسلمين لا يحل قتالهم ، وإن كان لم توجد منهم الهجرة ، ولا مقاتلة الكفار انتهى.
واختاره الراغب.
وعلى قول أبي مسلم : يكون استثناء منقطعاً ، لأن المؤمنين لم يدخلوا تحت قوله : { فما لكم في المنافقين فئتين }.
وقال الماتريدي : إلا الذين يصلون أي : إن لحق المنافقون بمن لا ميثاق بينكم وبينهم فاقتلوهم حتى يتوبوا ويهاجروا ، وإن لحقوا بأهل الميثاق فلا تقاتلوهم ، أو جاؤوكم حصرت صدورهم هذا صفة لمن سبق ذكرهم ، فيكون الاستثناء عن الذين يصلون إلى أهل العهد ، إذا كان وصفهم أنْ تضيق صدورهم عن مقاتلة المؤمنين والكفار جميعاً ، إما لنفار طباعهم ، وإما لوفاء العهد ، وإما لكونهم في مهلة النظر ليتبينوا الحق من الباطل ، وعلى هذا وصف الله جميع المعاهدين الذين عزموا على الوفاء بالعهد : أنهم إنما قبلوا العهد والذمة لما تعذر عليهم قتال المسلمين وأبت نفوسهم معاونة المسلمين على قومهم ، فلم يسلموا حقيقة ، ولكن سالموا لقبول العهد انتهى.
وقال القفال بعد ذكر من دخل في عهد مَن كان داخلاً في عهدكم ، فهو أيضاً داخل في العهد ، قال : وقد يدخل في الآية أن يقصد قوم حضرت الرسول عليه السلام ، فيتعذر عليهم ذلك المطلوب ، فيلجوا إلى قوم بينهم وبين الرسول عهد ، إلى أن يجدوا السبيل إليه انتهى.
وفي مصحف أُبي وقراءته : ميثاق جاؤوكم بغير واو.
قال الزمخشري : ووجهه أن يكون جاؤوكم بياناً ليصلون ، أو بدلاً ، أو استئنافاً ، أو صفة بعد صفة لقوم انتهى.
وهي وجوه محتملة ، وفي بعضها ضعف.
وهو البيان والبدل ، لأن البيان لا يكون في الأفعال ، ولأن البدل لا يتأتى لكونه ليس إياه ، ولا بعضاً ، ولا مشتملاً.
ومعنى حصرت : ضاقت ، وأصل الحصر في المكان ، ثم توسع فيه حتى صار في القول.
قال :
ولقد تكنفني الوشاة فصادفوا . . .
حصراً بسرك يا أميم ضنينا
وقيل : معناه كرهت.
والمعنى : كرهوا قتالكم مع قومهم معكم.
وقيل : معناه أنهم لا يقاتلونكم ولا يقاتلون قومهم معكم ، فيكونون لا عليكم ولا لكم.
وقرأ الجمهور : حصرت.
وقرأ الحسن وقتادة ويعقوب : حصرة على وزن نبقة ، وكذا قال المهدوي عن عاصم في رواية حفص.

وحكى عن الحسن أنه قرأ : حصرات.
وقرىء : حاصرات.
وقرىء : حصرة بالرفع على أنه خبر مقدم ، أي : صدورهم حصرة ، وهي جملة اسمية في موضع الحال.
فأما قراءة الجمهور فجمهور النحويين على أنَّ الفعل في موضع الحال.
فمَن شرط دخول قد على الماضي إذا وقع حالاً زعم أنها مقدرة ، ومن لم ير ذلك لم يحتج إلى تقديرها ، فقد جاء منه ما لا يحصى كثرة بغير قد.
ويؤيد كونه في موضع الحال قراءة من قرأ ذلك اسماً منصوباً ، وعن المبرد قولان : أحدهما : أنّ ثم محذوفاً هو الحال ، وهذا الفعل صفته أي : أو جاؤوكم قوماً حصرت صدورهم.
والآخر : أنه دعاء عليهم ، فلا موضع له من الإعراب.
ورد الفارسي على المبرد في أنه دعاء عليهم بأنا أمرنا أن نقول : اللهم أوقع بين الكفار العداوة ، فيكون في قوله : أو يقاتلوا قومهم ، نفي ما اقتضاه دعاء المسلمين عليهم.
قال ابن عطية : ويخرج قول المبرد على أنّ الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا المسلمين تعجيز لهم ، والدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم تحقير لهم ، أي : هم أقل وأحقر ، ويستغني عنهم كما تقول إذا أردت هذا المعنى : لا جعل الله فلاناً علي ولا معي ، بمعنى : استغنى عنه ، واستقل دونه.
وقال غير ابن عطية : أو تكون سؤالاً لموتهم ، على أنّ قوله : قومهم ، قد يعبر به عن من ليسوا منهم ، بل عن معاديهم.
وأجاز أبو البقاء أن يكون حصرت في موضع جر صفة لقوم ، وأو جاؤوكم معترض.
قال : يدل عليه قراءة من أسقط أو ، وهو أبي.
وأجاز أيضاً أن يكون حصرت بدلاً من جاؤوكم ، قال : بدل اشتمال ، لأن المجيء مشتمل على الحصر وغيره.
وقال الزجاج : حصرت صدورهم خبر بعد خبر.
قال ابن عطية : يفرق بين تقدير الحال ، وبين خبر مستأنف في قولك : جاء زيد ركب الفرس ، إنك إن أردت الحال بقولك : ركب الفرس ، قدرت قد.
وإن أردت خبراً بعد خبر لم نحتج إلى تقديرها.
وقال الجرجاني : تقديره إن جاؤوكم حصرت ، فحذف إنْ ، وما ادعاه من الإضمار لا يوافق عليه ، أن يقاتلوكم تقديره : عن أن يقاتلوكم.
{ ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم } هذا تقرير للمؤمنين على مقدار نعمته تعالى عليهم.
أي : لو شاء لقواهم وجرأهم عليكم ، فإذا قد أنعم عليكم بالهدنة فاقبلوها.
وهذا إذا كان المستثنون كفاراً ، فأما على قول من قال : إنهم مؤمنون ، فالمعنى أنه تعالى أظهر نعمته على المسلمين ، وأنه تعالى لو لم يهدهم لكانوا في جملة المسلطين عليكم.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف يجوز أن يسلط الله الكفرة على المؤمنين ما كان مكافتهم إلا لقذف الله الرعب في قلوبهم؟ ولو شاء لمصلحة يراها من ابتلاء ونحوه لم يقذفه ، فكانوا مسلطين مقاتلين غير كافين ، فذلك معنى التسليط انتهى.

وهذا على طريقته الاعتزالية.
وهذا الذي قاله الزمخشري قاله أبو هاشم قبله.
قال : أخبر تعالى عن قدرته على ما يشاء أن يفعل ، وتسليط الله المشركين على المؤمنين ليس بأمر منه ، وإنما هو بإزالة خوف المسلمين من قلوبهم ، وتقوية أسباب الجرأة عليهم.
والغرض بتسليطهم عليهم لأمور ثلاثة : أحدها : تأديباً لهم وعقوبة لما اجترحوا من الذنوب.
الثاني : ابتلاء لصبرهم واختباراً لقوة إيمانهم وإخلاصهم كما قال : { ولنبلونكم } الآية.
الثالث : لرفع درجاتهم وتكثير حسناتهم.
أو المجموع وهو أقرب للصواب انتهى.
وأمّا غيرهما من المعتزلة فقال الجبائي : قد بينا أن القوم الذين استثنوا مؤمنون لا كافرون ، وعلى هذا معنى الآية.
ولو شاء الله لسلطهم عليكم بتقوية قلوبهم ليدفعوا عن أنفسهم إن أقدمتهم على مقاتلتهم على سبيل الظلم.
وقال الكعبي : إنه تعالى أخبر أنه لو شاء فعل ، وهذا لا يفيد ، إلا أنه قادر على الظلم ، وهذا مذهبنا إلا أنا نقول : إنه تعالى لا يفعل الظلم ، وليس في الآية دلالة على أنه شاء ذلك وأراده ، انتهى كلامه.
وقال أهل السنة : في هذه الآية دليل على أنه تعالى لا يقبح منه تسليط الكافر على المؤمن وتقويته عليه.
وقرأ الجمهور : فيقاتلوكم بألف المفاعلة.
وقرأ مجاهد وطائفة : فلقتلوكم على وزن ضربوكم.
وقرأ الحسن والجحدري : فلقتلوكم بالتشديد ، واللام في لقاتلوكم لام جواب لو ، لأن المعطوف على الجواب جواب ، كما لو قلت : لو قام زيد لقام عمرو ولقام بكر.
وقال ابن عطية : واللام في لسلطهم جواب لو ، وفي فلقاتلوكم لام المحاذاة والازدواج ، لأنها بمثابة الأولى لو لم تكن الأولى كنت تقول : لقاتلوكم انتهى.
وتسميته هذه اللام لام المحاذاة والازدواج تسمية غريبة ، لم أر ذلك إلا في عبارة هذا الرجل ، وعبارة مكي قبله.
{ فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً } إذا كان المستثنون كفاراً فالاعتزال حقيقة لا يتهيأ إلا في حالة المواجهة في الحرب كأنه يقول : إذا اعتزلوكم بانفرادهم عن قومهم الذين يقاتلونكم فلا تقتلوهم.
وقيل : أراد بالاعتزال هنا المهادنة ، وسميت اعتزالاً لأنها سبب الاعتزال عن القتال.
والسلم هنا الانقياد قاله : الحسن ، أو الصلح قاله : الربيع ومقاتل ، أو الإسلام قاله : الحسن أيضاً.
وأما على من قال : إن المستثنين مؤمنون ، فالمعنى أنهم إذ قد اعتزلوكم وأظهروا الإسلام فاتركوهم ، فعلى هذا تكون في « الذين أسلموا ولم يستحكم إيمانهم » والمعنى : سبيلاً إلى قتلهم ومقاتلتهم.
وقرأ الجحدري : السلم بسكون اللام.
وقرأ الحسن : بكسر السين ، وسكون اللام.
{ ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردّوا إلى الفتنة أركسوا فيها } لمّا ذكر صفة المحقين في المتاركة ، المجدّين في إلقاء السلم ، نبّه على طائفة أخرى مخادعة يريدون الإقامة في مواضعهم مع أهليهم يقولون لهم : نحن معكم وعلى دينكم ، ويقولون للمسلمين كذلك إذا وجدوا.

قيل : كانت أسد وغطفان بهذه الصفة فنزلت فيهم ، قاله : مقاتل.
وقيل : نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي كان ينقل بين النبي صلى الله عليه وسلم الأخبار قاله : السدي.
وقيل : في قوم يجيئون من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم رياء ويظهرون الإسلام ثم يرجعون إلى قريش يكفرون ، ففضحهم الله تعالى ، وأعلم أنهم ليسوا على صفة من تقدّم قاله : مجاهد.
وقيل : إنهم من أهل تهامة قاله : قتادة.
وقيل : إنهم من المنافقين قاله : الحسن.
والظاهر من قوله : ستجدون آخرين ، أنهم قوم غير المستثنين في قوله : { إلا الذين يصلون }.
وذهب قوم : إلى أنها بمنزلة الآية الأولى ، والقوم الذين نزلت فيهم هم الذين نزلت فيهم الأولى ، وجاءت مؤكدة لمعنى الأولى مقررة لها.
والسين في ستجدون ليست للاستقبال قالوا : إنما هي دالة على استمرارهم على ذلك الفعل في الزمن المستقبل كقوله : { سيقول السفهاء } وما نزلت إلا بعد قوله : { ما ولاهم عن قبلتهم } فدخلت السين إشعاراً بالاستمرار انتهى.
ولا تحرير في قولهم : إن السين ليست للاستقبال وإنما تشعربالاستمرار ، بل السين للاستقبال ، لكنْ ليس في ابتداء الفعل ، لكن في استمراره أن يأمنوكم أي : يأمنوا أذاكم ويأمنوا أذى قومهم.
والفتنة هنا : المحنة في إظهار الكفر.
ومعنى أركسوا فيها رجعوا أقبح رجوع وأشنعه ، وكانوا شراً فيها من كل عدو.
وحكى أنهم كانوا يرجعون إلى قومهم فيقال لأحدهم : قل ربي الخنفساء ، وربي القردة ، وربي العقرب ، ونحوه فيقولها.
وقرأ ابن وثاب والأعمش : ردّوا بكسر الراء ، لما أدغم نقل الكسرة إلى الراء.
وقرأ عبد الله : ركسوا بضم الراء من غير ألف مخففاً.
وقال ابن جني عنه : بشدّ الكاف.
{ فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم } أمر تعالى بقتل هؤلاء في أي مكان ظفر بهم ، على تقدير انتفاء الاعتزال وإلقاء السلم ، وكف الأيدي.
ومفهوم الشرط يدل على أنه إذا وجهوا الاعتزال وإلقاء السلم وكف الأيدي ، لم يؤخذوا ولم يقتلوا.
قال ابن عطية : وهذه الآية حضّ على قتل هؤلاء المخادعين إذا لم يرجعوا عن حالهم إلى حال الآخرين المعتزلين الملقين للسلم.
وتأمل فصاحة الكلام في أنْ ساقه في الصيغة المتقدّمة قبل هذه سياق إيجاب الاعتزال ، وإيجاب إلقاء السلم ، ونفى المقاتلة ، إذ كانوا محقين في ذلك معتقدين له.
وسياقه في هذه الصيغة المتأخرة سياق نفى الاعتزال ، ونفى إلقاء السلم ، إذ كانوا مبطلين فيه مخادعين ، والحكم سواء على السياقين.
لأن الذين لم يجعل عليهم سبيلاً لو لم يعتزلوا ، لكان حكمهم ، حكم هؤلاء الذين جعل عليهم السلطان المبين.
وكذلك هؤلاء الذين عليهم السلطان إذا لم يعتزلوا ، لو اعتزلوا كان حكمهم حكم الذين لا سبيل عليهم ، ولكنهم بهذه العبارة تحت القتل إن لم يعتزلوا انتهى كلامه.
وهو حسن.
ولما كان أمر الفرقة الأولى أخف ، رتّب تعالى انتفاء جعل السبيل عليهم على تقدير سببين : وجود الاعتزال ، وإلقاء السلم.

ولما كان أمر هذه الفرقة المخادعة أشدّ ، رتب أخذهم وقتلهم على وجود ثلاثة أشياء : نفي الاعتزال ، ونفي إلقاء السلم ، ونفي كف الأذى.
كل ذلك على سبيل التوكيد في حقهم والتشديد.
{ وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً } أي على أخذهم وقتلهم حجة واضحة ، وذلك لظهور عداوتهم ، وانكشاف حالهم في الكفر والغدر ، وإضرارهم بأهل الإسلام ، أو حجة ظاهرة حيث أذنا لكم في قتلهم.
قال عكرمة : حيثما وقع السلطان في كتاب الله فالمراد به الحجة.
{ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ } روي أن عياش بن أبي ربيعة وكان أخا أبي جهل لأمه ، أسلم وهاجر خوفاً من قومه إلى المدينة وذلك قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا يأويها سقف حتى يرجع ، فخرج أبو جهل ومعه الحرث بن زيد بن أبي أنيسة فأتياه وهو في أطم ، ففتك منه أبو جهل في الزرود والغارب وقال : أليس محمد بحثك على صلة الرحم؟ انصرف وبرَّ أمك وأنت على دينك ، حتى نزل وذهب معهما ، فلما أبعدا عن المدينة كتفاه وجلده كل واحد مائة جلدة ، فقال للحرث : هذا أخي ، فمن أنت يا حرث الله؟ عليّ إن وجدتك خالياً أن أقتلك.
وقدما به على أمه فحلفت لا تحلّ كتافه أو يرتد ، ففعل.
ثم هاجر بعد ذلك ، وأسلم الحارث ، وهاجر فلقيه عياش بظهر قبا ولم يشعر بإسلامه ، فأنحى عليه فقتله ، ثم أُخبر بإسلامه ، فانحنى عليه فقتله ، ثم أُخبر بإسلامه ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قتلته ولم أشعر بإسلامه ، فنزلت.
وقيل : نزلت في رجل كان يرعى غنماً فقتله في بعض السرايا أبو الدرداء وهو يتشهد وساق غنمه ، فعنفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.
وقيل : نزلت في أبي حذيفة بن اليمان حين قتل يوم أحد خطأ.
وقيل غير ذلك انتهى.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما رغب في مقاتلة الكفار ، ذكر بعد ذلك ما يتعلق بالمحاربة ، ومنها أن يظن رجلاً حربياً وهو مسلم فيقتله.
وهذا التركيب تقدم نظيره في قوله : { ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين } وفي قوله : { وما كان لنبي أن يغل } وكان يغني الكلام هناك عن الكلام هنا ، ولكن رأينا جمع ما قاله من وقفنا على كلامه من المفسرين هنا.
قال الزمخشري : ما كان لمؤمن : ما صح له ، ولا استقام ، ولا لاق بحاله ، كقوله : وما كان لنبي أن يغل ، وما يكون لنا أن نعود ، أن يقتل مؤمناً ابتداء غير قصاص إلا خطأ على وجه الخطأ.
( فإن قلت ) : بما انتصب خطأ؟ ( قلت ) : بأنه مفعول له أي : ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده ، ويجوز أن يكون حالاً بمعنى : لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ ، وأن يكون صفة لمصدر أي : إلا قتلا خطأ.

والمعنى : أنَّ من شأن المؤمن أن تنتفي عنه وجوه قتل المؤمن ابتداء البتة ، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد بأن يرمي كافراً فيصيب مسلماً ، أو يرمي شخصاً على أنه كافر فإذا هو مسلم.
وقال ابن عطية : قال جمهور أهل التفسير : ما كان في إذن الله ولا في أمره للمؤمن أن يقتل مؤمناً بوجه ، ثم استثنى استثناء منقطعاً ليس من الأول ، وهو الذي يكون فيه إلا بمعنى لكن ، والتقدير : ولكن الخطأ قد يقع ، ويتجه وجه آخر وهو أن تقدر كان بمعنى استقر ووجد.
كأنه قال : وما وجد ولا تقرر ولا ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ إذ هو مغلوب فيه أحياناً ، فيجيء الاستثناء على هذا غير منقطع ، وتتضمن الآية على هذا إعظام العهد وبشاعة شأنه كما تقول : ما كان لك يا فلان أن تتكلم بهذا إلا ناسياً إعظاماً للعمد والقصد ، مع حظر الكلام به البتة.
وقال الراغب : إنْ قيل : أيجوز أن يقتل المؤمن خطأ حتى يقال : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ قيل قولك يجوز أو لا يجوز؟ إنما يقال في الأفعال الاختيارية المقصودة ، فأما الخطأ فلا يقال فيه ذلك ، وما كان لك أن تفعل كذا ، وما كنت لتفعل كذا متقاربان ، وهما لا يقالان بمعنى.
وإن كان أكثر ما يقال الأول لما كان الإحجام عنه من قبل نفسه ، أي : ما كان المؤمن ليقتل مؤمناً إلا خطأ ولهذا المعنى أراد من قال معناه : ما ينبغي للمؤمن أن يقتل مؤمناً متعمداً ، لكن يقع ذلك منه خطأ.
وكذا من قال : ليس في حكم الله أن يقتل المؤمن المؤمن إلا خطأ.
وقال الأصم : معناه ليس القتل لمؤمن بمتروك أن يقتضي له ، إلا أن يكون قتله خطأ.
وقال أبو عبد الله الرازي : وما كان أي : فيما آتاه الله ، أو عهد إليه ، أو ما كان له في شيء من الأزمنة ذلك ، والغرض منه بيان أن حرمة القتل كانت ثابتة من أول زمان التكليف.
وقال أبو هاشم : تقدير الآية وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً ويبقى مؤمناً ، إلا أن يقتله خطأ ، فيبقى حينئذ مؤمناً ، وهذا الذي قاله أبو هاشم قاله السدي.
قال السدي : قتل المؤمن المؤمن يخرجه عن أن يكون مؤمناً ، إلا أن يكون خطأ ، وليس هذا معتقد أهل السنة والجماعة.
وقيل : هو نفي جواز قتل المؤمن ، ومعناه : النهي ، وأفاد دخول كان أنه لم يزل حكم الله.
وقال الماتريدي : الإشكال أن الله تعالى نهى المؤمن عن القتل مطلقاً ، واستثنى الخطأ ، والاستثناء من النفي إثبات ، ومن التحريم إباحة ، وقتل الخطأ ليس بمباح بالإجماع ، وفي كونه حراماً كلام انتهى.

وملخص ما بني على هذا أنه إن كان نفياً وأريد به معنى النهي كان استثناء منقطعاً إذ لا يجوز أن يكون متصلاً لأنه يصير المعنى : إلا خطأ فله قتله.
وإن كان نفياً أريد به التحريم ، فيكون استثناء متصلاً إذ يصير المعنى : إلا خطأ بأن عرفه كافراً فقتله ، وكشف الغيب أنه كان مؤمناً ، فيكون قد أبيح الإقدام على قتل الكفرة ، وإن كان فيهم من أسلم إذا لم يعلم بهم ، فيكون الإستثناء من الحظر إباحة.
وقال بعض أهل العلم : المعنى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً عمداً ولا خطأ فيكون إلا بمعنى : ولا ، وأنكر الفراء هذا القول ، وقال : مثل هذا لا يجوز ، إلا إذا تقدم استثناء آخر ، ويكون الثاني عطف استثناء على استثناء ، كما في قول الشاعر :
ما بالمدينة دار غير واحدة . . .
دار الخليفة إلا دار مروانا
وروى أبو عبيدة عن يونس أنه سأل رؤبة بن العجاج عن هذه الآية فقال : ليس له أن يقتله عمداً ولا خطأ ، ولكنه أقام إلا مقام الواو ، وهو كقول الشاعر :
وكل أخ مفارقه أخوه . . .
لعمر أبيك إلا الفرقدان
والذي يظهر أن قوله : إلا خطأ ، استثناء منقطع ، وهو قول الجمهور منهم : أبان بن تغلب.
والمعنى : لكن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ ، والقتل عند مالك عمد وخطأ ، فيقاد باللطمة ، والعضة ، وضرب السوط مما لا يقتل غالباً.
وعند الشافعي : عمد ، وشبه عمد.
ولا قصاص في شبه العمد ، ولا الخطأ.
وعند أبي حنيفة : عمد ، وخطأ ، وشبه ، عمد ، وما ليس بخطأ ولا عمد ولا شبه عمد.
والخطأ ضربان : أن يقصد رمي مشرك أو طائر فيصيب مسلماً ، أو يظنه مشركاً لكونه عليه سيما أهل الشرك ، أو في حيزهم.
وشبه العمد ما يعمد بما لا يقتل غالباً من حجر أو عصا ، وما ليس بخطأ ولا عمد ولا شبه عمد قتل الساهي والنائم.
وقرأ الجمهور خطاء على وزن بناء.
وقرأ الحسن والأعمش : على وزن سماء ممدوداً.
وقرأ الزهري : على وزن عصا مقصوراً لكونه خفف الهمزة بإبدالها ألفاً ، أو إلحاقاً بدم ، أو حذف الهمزة حذفاً كما حذف لام دم.
وقال ابن عطية : وجوه الخطأ كثيرة ، ومربطها عدم القصد.
{ ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلممة إلى أهله إلا أن يصدقوا } التحرير : الإعتاق ، والعتيق : الكريم ، لأن الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العبيد.
ومنه عتاق الطير ، وعتاق الخيل لكرامها.
وحر الوجه أكرم موضع منه ، والرقبة عبر بها عن النسمة ، كما عبر عنها بالرأس في قولهم : فلان يملك كذا رأساً من الرقيق.
والظاهر أنَّ كل رقبة اتصفت بأن يحكم لها بالإيمان منتظم تحت قوله : رقبة مؤمنة ، انتظام عموم البدل.
فيندرج فيها من ولد بين مسلمين ، ومن أحد أبويه مسلم ، صغيراً كان أو كبيراً ، ومن سباه مسلم من دار الحرب قبل البلوغ.

وقال ابراهيم : لا يجزى إلا البالغ.
وقال ابن عباس ، والحسن ، والشعبي ، والنخعي ، وقتادة ، وغيرهم : لا يجزىء إلا التي صامت وعقلت الإيمان ، لا يجزىء في ذلك الصغيرة.
وقال أبو حنيفة ، والأوزاعي ، ومالك ، والشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد بن زياد ، وزفر : يجزى في كفارة القتل الصبي إذا كان أحد أبويه مسلماً.
وقال عطاء : يجزىء الصغير المولود بين المسلمين.
وقال مالك : من صلى وصام أحب إليّ ، ولا خلاف أنّ قوله : ومن قتل مؤمناً ، ينتظم الصغير والكبير ، وكذلك ينبغي أن يكون في فتحرير رقبة مؤمنة.
قال ابن عطية : وأجمع أهل العلم على أن الناقص النقصان الكبير كقطع اليدين والرجلين والأعمى ، لا يجزىء فيما حفظت ، فإن كان يسيراً يمكن معه المعيشة والتحرف كالعرج ونحوه ففيه قولان.
وقال أبو بكر الرازي : لا خلاف بين الأمة أنه لا يجزىء في الكفارة أعمى ، ولا مقعد ، ولا مقطوع اليدين أو الرجلين ، ولا أشلهما ، واختلفوا في الأعرج.
وقال أبو حنيفة وأصحابه : يجزىء مقطوع إحدى اليدين أو الرجلين.
وقال مالك والشافعي والأكثرون : لا يجزىء عند أكثرهم المجنون المطبق ، ولا عند مالك الذي يجن ويفيق ، ولا المعتق إلى سنين ، ويجزئان عند الشافعي.
ولا يجزىء المدبر عند مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي ، ويجزىء في قول الشافعي وأبي ثور ، واختاره ابن المنذر.
وقال مالك : لا يصح من أعتق بعضه ، واختلفوا في سبب وجوب الكفارة في قتل الخطأ.
فقيل : تمحيصاً وطَهر الذنب القاتل ، حيث ترك الاحتياط والتحفظ حتى هلك على يديه امرؤ محقون الدم.
وقيل : لما أخرج نفساً مؤمنة عن جملة الاحياء ، لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار ، لأن إطلاقها من قيد الرق حياتها ، من قبل أنّ الرقيق ممنوع من تصرّف الأحرار.
والظاهر أن وجوب التحرير والدية على القائل ، لأنه مستقرأ في الكتاب والسنة : أن من فعل شيئاً يلزم فيه أمر من الغرامات مثل الكفارات ، إنما يجب ذلك على فاعله.
فأما التحرير ففي مال القاتل.
وأما الدية فعلى العاقلة كلها في قول طائفة منهم : الأوزاعي ، والحسن بن صالح.
وما جاوز الثلث في قول الجمهور أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، والليث ، وابن شبرمة ، وغيرهم.
وأما الثلث ففي مال الجاني ، ولم يجب عليهم إلا على سبيل المواساة.
وهي خلاف قياس الأصول في الغرمات والمتلفات.
والدية كانت مستقرة في الجاهلية.
قال الشاعر :
نأسوا بأموالنا آثار أيدينا . . .
ولم تتعرض الآية لمقدار ما يعطى في الدية ، ولا من أي شيء تكون.
فذهب أبو حنيفة : إلى أنها من الإبل مائة على ما يأتي تفصيلها ، والدنانير والدراهم ألف دينار ، أو عشرة آلاف درهم.
وقال أبو يوسف ومحمد : ومن البقر والشاة والحلل ، وبه قالت طائفة من التابعين ، وهو قول الفقهاء السبعة المدنيين.

فمن البقر مائتا بقرة ، ومن الشاة ألف شاة ، ومن الحلل مائتا حلة ، وذلك فعل عمر وجعله على كل أهل صنف من ذلك ما ذكر.
وقال مالك : أهل الذهب أهل الشام ومصر ، وأهل الورق أهل العراق ، وأهل الإبل أهل البوادي ، فلا يقبل من أهل الإبل إلا الإبل ، ولا من أهل الذهب إلا الذهب ، ولا من أهل الورق إلا الورق.
وقالت طائفة منهم طاووس والشافعي : هي مائة من الإبل لا غير.
قال الشافعي : والدراهم والدنانير بدل عنها إذا عدمت ، وله قول آخر : إنه يجب اثنا عشر ألف درهم ، أو ألف دينار.
قال أبو بكر الرازي : أجمع فقهاء الأمصار أبو حنيفة والشافعي ومالك أن دية الخطأ أخماس ، واختلفوا في الأسنان.
فقال أصحابنا جميعاً : عشرون بني مخاض ، وعشرون بنات لبون ، وعشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وهو : مذهب ابن مسعود ، وبه قال أحمد.
وقال مالك : عشرون حقاقاً ، وعشرون جذاعاً ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن لبون ، وعشرون بنت مخاض.
وحكي هذا عن عمر بن عبد العزيز ، وسليمان بن يسار ، والزهري ، وربيعة والليث.
وقال الشافعي : الدية قسمان ، مغلظة أثلاثاً ، ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة في بطونها أولادها ، ومخففة أخماساً كقول مالك.
وروي عن عطاء أن دية الخطأ أربع : خمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون جذعة ، وخمس وعشرون بنت مخاض ، وخمس وعشرون بنت لبون ، مثل أسنان الذكور.
وقال عمر وزيد بن ثابت : في الخطا ثلاثون بنت لبون ، وثلاثون جذعة ، وعشرون ابن لبون ، وعشرون بنت مخاض.
وروي عنهما مكان الجذاع الحقات.
والظاهر أنه لا فرق بين القتل خطأ في الحرم وفي شهر حرام ، وبينه في الحل ، وفي شهر غير حرام.
وسئل الأوزاعي عن القتل في الشهر الحرام ، أو في الحرم ، هل تغلظ فيه الدية؟ فقال : بلغنا أنه إذا قتل في الشهر الحرام أو في الحرم زيد على القاتل الثلث ، ويزاد في شبه العمد في أسنان الإبل.
وأما من العاقلة فقيل هم العصبات الأربعة : الأب ، والجدّ وان علا ، والابن ، وابن الابن وإن سفل.
وهو قول مالك.
وقال أبو حنيفة وأصحابه : هم أهل ديوانه دون أقربائه ، فإن لم يكن القاتل من أهل الديوان فرضت على عاقلته الأقرب فالأقرب ، ويضم إليهم أقرب القبائل في النسب.
وقال الشافعي فيما روي عنه المزني في مختصره : العقل على ذوي الأنساب دون أهل الديوان والحلفاء ، على الأقرب فالأقرب من بني أبيه ثم جدّه ، ثم بني جد أبيه.
وأما المدة التي تؤدّي فيها الدية فقد انعقد الإجماع ووردت به الأحاديث الصحاح : أنها تتأدّى في ثلاث سنين ، وفي الدية والعاقلة أحكام كثيرة تعرض لها بعض المفسرين وهي مذكورة في كتب الفقه.
ومعنى مسلمة إلى أهله : أي مؤدّاة مدفوعة إلى أهل المقتول ، أي أوليائه الذين يرثونه يقتسمونها كالميراث ، لا فرق بينها وبين سائر التركة في كل شيء ، يقضي منها الدين ، وتنفذ الوصية.

وإذا لم يكن وارث فهي لبيت المال.
وقال شريك : لا يقضي من الدية دين ، ولا تنفذ منها وصية.
وقال ابن مسعود : يرث كل وارث منها غير القاتل ، ومعنى قوله : إلا أن يصدقوا أي إلا أن يعفو ورّاثه عن الدية فلا دية.
وجاء بلفظ التصدق تنبيهاً على فضيلة العفو وحضاً عليه ، وأنه جار مجرى الصدقة ، واستحقاق الثواب الآجل به دون طلب العرض العاجل ، وهذا حكم من قتل في دار الإسلام خطأ.
وفي قوله : إلا أن يصدقوا ، دليل على جواز البراءة من الدين بلفظ الصدقة ، ودليل على أنه لا يشترط القبول في الإبراء خلافاً لزفر ، فإنه قال : لا يبرأ الغريم من الدين إلا أن يقبل البراءة.
والظاهر أنَّ الجماعة إذا اشتركوا في قتل رجل خطأ أنه ليس عليهم كلهم إلا كفارة واحدة ، لعموم قوله : ومن قتل ، وترتيب تحرير رقبة واحدة ، ودية على ذلك.
وبه قالت طائفة هكذا قال أبو ثور ، وحكي عن الأوزاعي ذلك ، وقال الحسن ، وعكرمة ، والنخعي ، والحارث ، ومالك ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي : على كل واحد منهم الكفارة.
وهذا الاستثناء قيل : منقطع ، وقيل : إنه متصل.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : بم تعلق أن يصدقوا؟ وما محله؟ ( قلت ) : تعلق بعليه ، أو بمسلمة.
كأن قيل : وتجب عليه الدية أو يسلمها ، إلا حين يتصدقون عليه ، ومحلها النصب على الظرف بتقدير حذف الزمان كقولهم : اجلس ما دام زيد جالساً ، ويجوز أن يكون حالاً من أهله بمعنى : إلا متصدقين انتهى كلامه.
وكلا التخريجين خطأ.
أما جعل أن وما بعدها ظرفاً فلا يجوز ، نص النحويون على ذلك ، وأنه مما انفردت به ما المصدرية ومنعوا أن تقول : أجيئك أن يصيح الديك ، يريد وقت صياح الديك.
وأما أن ينسبك منها مصدر فيكون في موضع الحال ، فنصوا أيضاً على أن ذلك لا يجوز.
قال سيبويه في قول العرب : أنت الرجل أن تنازل أو أن تخاصم ، في معنى أنت الرجل نزالاً وخصومة ، أنَّ انتصاب هذا انتصاب المفعول من أجله ، لأن المستقبل لا يكون حالاً ، فعلى هذا الذي قررناه يكون كونه استثناء منقطعاً هو الصواب.
وقرأ الجمهور يصدقوا ، وأصله يتصدقوا ، فأدغمت التاء في الصاد.
وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن ، وعبد الوارث عن أبي عمرو : تصدقوا بالتاء على المخاطبة للحاضرة.
وقرىء : تصدقوا بالتاء وتخفيف الصاد ، وأصله تتصدقوا ، فحذف إحدى التاءين على الخلاف في أيهما هي المحذوفة.
وفي حرف أبيّ وعبد الله : يتصدقوا بالياء والتاء.
{ فإن كان من قوم عدوٍّ لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } قال ابن عباس وقتادة والنخعي والسدي وعكرمة وغيرهم : المعنى إن كان هذا المقتول خطأ رجلاً مؤمناً قد آمن وبقي في قومه وهم كفرة عدوّ لكم فلا دية فيه ، وإنما كفارته تحرير رقبة.

والسبب عندهم في نزولها : أنَّ جيوش المسلمين كانت تمر بقبائل الكفرة ، فربما قتل من آمن ولم يهاجر ، أو من هاجر ثم رجع إلى قومه ، فيقتل في حملات الحرب على أنه من الكفار ، فنزلت الآية.
وسقطت الدية عند هؤلاء ، لأن أولياء المقتول كفرة ، فلا يعطون ما يتقوّون به.
ولأنّ حرمته إذا آمن ولم يهاجر قليلة فلا دية.
وإذا قتل مؤمناً في بلاد المسلمين وقومه حرب ، ففيه الدية لبيت المال والكفارة.
وقالت فرقة : الوجه في سقوط الدية أنّ أولياءه كفار ، سواء أكان القتل خطأ بين أظهر المسلمين وبين قومه ولم يهاجر ، ولو هاجر ثم رجع إلى قومه ، وكفارته ليس إلا التحرير ، لأنه إنْ قتل بين أظهر قومه فهو مسلط على نفسه ، أو بين أظهر المسلمين فأهله لا يستحقون الدية ، ولا المسلمون لأنهم ليسوا أهله ، فلا تجب على الحالين ، هذا قول : مالك ، والأوزاعي ، والثوري ، والشافعي ، وأبي ثور.
وقال ابراهيم : المؤمن المقتول خطأ إن كان قومه المشركون ليس بينهم وبين النبي عهد فعلى قاتله تحرير رقبة ، أو كان فتؤدى ديته لقرابته المعاهدين.
قال بعض المصنفين : اختلفت فقهاء الأمصار في من أسلم في دار الحرب وقتل قبل أن يهاجر ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف في المشهور عنه : إن قتله مسلم مستأمن فكفارة الخطأ ، أو كانا مستأمنين فعلى القاتل الدية وكفارة الخطأ ، أو أسيرين فعلى القاتل كفارة الخطأ في قول أبي حنيفة.
وقال محمد وأبو يوسف : الدية في العمد والخطأ.
وقال مالك : على قاتل من أسلم في دار الحرب ، ولم يخرج ، الدية والكفارة إن كان خطأ.
والآيةُ إنما كانت في صلح النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة ، لأنه من لم يهاجر لم يورث ، لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة.
وقال الحسن بن صالح : إذا أقام بدار الحرب وهو قادر على الخروج حكم عليه بما يحكم على أهل الحرب في نفسه وماله وأدّ الحق بدار الحرب ولم يرتد عن الإسلام فهو مرتد بتركه دار الإسلام.
وقال الشافعي : إذا قتل مسلماً في دار الحرب في الغارة وهو لا يعلمه مسلماً فلا عقل فيه ولا قود ، وعليه الكفارة.
وسواء أكان المسلم أسيراً ، أو مستأمناً ، أو رجلاً أسلم هناك ، وإن علمه مسلماً فقتله فعليه القود انتهى ما نقله هذا المصنف.
والذي يظهر من مدلول هذه الجمل إن الله تعالى بين أحكام المؤمن المقتول خطأ في هذه الجمل الثلاث ولذلك قابلها بقوله : ومن يقتل مؤمناً متعمداً ، فهو المؤمن المقتول خطأ إن كان أهله مؤمنين أو معاهدين ، فالتحرير والدية.
ونزل المعاهدون في أخذ الدية منزلة المؤمنين ، لأن أحكام المؤمنين جارية عليهم ، وإن كان أهله حربيين فالتحرير فقط.
{ وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلَّمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة } قال الحسن وجابر بن زيد وابراهيم وغيرهم : وإن كان المقتول خطأ مؤمناً من قوم معاهدين لكم ، فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم ، وكفارته التحرير ، وأداء الدية إليهم.

وقال النخعي : ميراثه للمسلمين.
وقرأها الحسن : وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ، وهو مؤمن.
وبهذا قال مالك.
وقال ابن عباس ، والشعبي ، وابراهيم أيضاً ، والزهري : المقتول من أهل العهد خطأ كان مؤمناً أو كافراً على عهد قومه ، فيه الدية كدية المسلم والتحرير.
واختلف على هذا في دية المعاهد.
فقال أبو حنيفة وغيره : ديته كدية المسلم.
وروى ذلك عن أبي بكر وعمر.
وقال مالك وأصحابه : نصف دية المسلم.
وقال الشافعي وأبو ثور : ثلث دية المسلم.
والذي يظهر من دلالة من التبعيضية أنها قيد في الجملة الأولى بكونه من قوم عدو ، وقيد في الجملة الثانية بكونه من قوم معاهدين ، والمعنى في النسب لا في الدين ، لأنه مؤمن وهم كفار.
فإذا تقيدت هاتان الجملتان دل ذلك على تقييد الأولى بأن يكون من المؤمنين في النسب ، وهي من قتل مؤمناً خطأ كأنه قال : وأهله مؤمنون لا حربيون ولا معاهدون.
ولا يمكن حمله على الإطلاق للتعارض والتعاند الذي بينه وبين الآيتين بعد.
وقال أبو بكر الرازي : قوله : وإن كان من قوم عدو لكم ، استئناف كلام لم يتقدم له ذكر في الخطاب ، لأنه لا يجوز أعط هذا رجلاً وإن كان رجلاً فاعطه ، فهذا كلام فاسد لا يتكلم به حكيم ، فثبت أنّ هذا المؤمن المعطوف على الأول غير داخل في الخطاب.
ثم قال : ظاهر الآية يعني : وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ، يقتضي أن يكون المقتول المذكور في الآية ذا عهد ، وأنه غير جائز إضمار الإيمان له إلا بدلالة ، ويدل عليه : أنه لما أراد مؤمناً من أهل دار الحرب ذكر الإيمان فقال : وهو مؤمن ، لأنه لو أطلق لاقتضى الإطلاق أن يكون كافراً من قوم عدو لكم انتهى كلامه.
أما قوله : استئناف لم يتقدم له ذكر في الخطاب ، فليس بصحيح ، بل تقدم له ذكر في الخطاب في قوله : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ ، ومن قتل مؤمناً خطأ ، ولكنه ليس استئنافاً ، إنما هو من باب التقسيم كما ذكرناه.
بدأ أولاً بالأشرف وهو المؤمن ، وأهله مؤمنون ليسوا بحربيين ولا معاهدين.
وأما قوله : لأنه لا يجوز أعط هذا رجلاً وإن كان رجلاً فأعطه ، فهذا ليس نظير الآية بوجه ، وإنما الضمير في كان عائداً على المقتول خطأ ، المؤمن إذا كان من قوم عدو لكم ، وجاء قوله : وهو مؤمن على سبيل التوكيد لا سبيل التقييد ، إذ القيد مفهوم مما قبله في الاستثناء ، وفي جملة الشرط.
وقوله : ويدل عليه إلى آخره ، لا يدل عليه لما ذكرنا أنَّ الحال مؤكدة ، وفائدة تأكيدها أن لا يتوهم أنَّ الضمير يعود على مطلق المقتول لا بقيد الإيمان.

وقوله : لأنه لو أطلق لاقتضى الإطلاق أن يكون كافراً من قوم عدو ، وليس كذلك بل لو لم يأت بقوله : وهو مؤمن ، لكان الضمير الذي في كان عائداً على المقتول خطأ ، لأنّه لم يجر ذكر لغيره ، فلا يعود الضمير على غير من لم يجر له ذكر ، ويترك عوده على ما يجري عليه ذكر.
{ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } يعني : رقبة لم يملكها ، ولا وجد ما يتوصل به إلى ملكها ، فعليه صيام شهرين متتابعين.
وظاهر الآية يقضي أنه لا يجب غير ذلك ، إذ لو وجبت الدّية لعطفها على الصيام ، وإلى هذا ذهب : الشعبي ، ومسروق ، وذهب الجمهور : إلى وجوب الدّية.
قال ابن عطية : وما قاله الشعبي ومسروق وهم ، لأنّ الدّية إنما هي على العاقلة وليست على القاتل انتهى.
وليس بوهم ، بل هو ظاهر الآية كما ذكرناه.
ومعنى التتابع : لا يتخللها فطر.
فإن عرض حيض في أثنائه لم يعد قاطعاً بإجماع.
وليس له أن يسافر فيفطر ، والمرض كالحيض عند : ابن المسيب ، وسليمان بن يسار ، والحسن ، والشعبي ، وعطاء ، ومجاهد ، وقتادة ، وطاووس ، ومالك.
وقال ابن جبير ، والنخعي ، والحكم بن عتيبة ، وعطاء الخراساني ، والحسن بن حي ، وأبو حنيفة وأصحابه : يستأنف إذا أفطر لمرض.
وللشافعي القولان.
وقال ابن شبرمة : يقضي ذلك اليوم وحده إن كان عذر غالب كصوم رمضان.
{ توبة من الله } انتصب على المصدر أي : رجوعاً منه إلى التسهيل والتخفيف ، حيث نقلكم من الرقبة إلى الصوم.
أو توبة من الله أي قبولاً منه ورحمة من تاب الله عليه إذا قبل توبته.
ودعا تعالى قاتل الخطأ إلى التوبة ، لأنه لم يتحرز ، وكان من حقه أن يتحفظ.
{ وكان الله عليماً حكيماً } أي عليماً بمن قتل خطأ ، حكيماً حيث رتب ما رتب على هذه الجناية على ما اقتضته حكمته تعالى.
{ ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً } نزلت في مقيس بن صبابة حين قتل أخاه هشام بن صبابة رجل من الأنصار ، فأخذ له رسول الله صلى الله عليه وسلم الدّية ، ثم بعثه مع رجل من فهر بعد ذلك في أمر مّا ، فقتله مقيس ، ورجع إلى مكة مرتداً وجعل ينشد :
قتلت به فهراً وحملت عقله . . .
سراه بني النجار أرباب فارع
حللت به وتري وأدركت ثورتي . . .
وكنت إلى الأوثان أوّل راجع
فقال صلى الله عليه وسلم : « لا أؤمنه في حل ولا حرم ، وأمر بقتله يوم فتح مكة وهو متعلق بالكعبة » وهذا السبب يخص عموم قوله : ومن يقتل ، فيكون خاصاً بالكافر ، أو يكون على ما قال ابن عباس ، قال : معنى متعمداً أي : مستحلاً ، فهذا.

يؤول أيضاً إلى الكفر.
وأما إذا كانت عامة فيكون ذلك على تقدير شرط كسائر التوعدات على سائر المعاصي ، والمعنى : فجزاؤه إن جازاه ، أي : هو ذلك ومستحقه لعظم ذنبه ، هذا مذهب أهل السنة.
ويكون الخلود عبارة في حق المؤمن العاصي عن المكث الطويل ، لا المقترن بالتأبيد ، إذ لا يكون كذلك إلا في حق الكفار.
وذهبت المعتزلة إلى عموم هذه الآية ، وأنها مخصصة بعمومها لقوله : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } واعتمدوا على ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال : نزلت الشديدة بعد الهينة ، يريد نزلت : ومن يقتل مؤمناً بعدوٍ يغفر ما دون ذلك ، فكأنه قيل : ويغفر ما دون ذلك إلا من قتل عمداً.
وقد نازعوا في دلالة مَن الشرطية على العموم.
وقيل : هو لفظ يقع كثيراً للخصوص كقوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } وليس من حكم من المؤمنين بغير ما أنزل الله بكافر.
وقال الشاعر :
ن لا يذد عن حوضه بسلاحه . . .
يهدّم ومن لا يظلم الناس يظلم
وإذا سلم العموم فقد دخله التخصيص بالإجماع من المعتزلة وأهل السنة فيمن شهد عليه بالقتل عمداً أو أقرّ بأنه قتل عمداً ، وأتى السلطان أو الأولياء فأقيم عليه الحد وقتل ، فهذا غير متبع في الآخرة.
والوعيد غير صائر إليه إجماعاً للحديث الصحيح من حديث عبادة : « أنه من عوقب في الدنيا فهو كفارة له » وهذا تخصيص للعموم.
وإذا دخله التخصيص فيكون مختصاً بالكافر ، ويشهد له سبب النزول كما قدمناه
ولم تتعرض الآية لتوبة القاتل ، وتكلم فيها المفسرون هنا.
فقالت جماعة : لا تقبل توبته ، روي ذلك عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس.
وكان ابن عباس يقول : الشرك والقتل سهمان من مات عليهما خلد ، وكان يقول : هذه الآية مدنية نسخت التي في الفرقان لأنها مكية.
وكان ابن شهاب إذا سأله من يفهم منه أنه قتل قال له : توبتك مقبولة ، ومن لم يقتل قال : لا توبة للقاتل.
وروي عن ابن عباس في تفسير عبد بن حميد نحو من كلام ابن شهاب.
وعن سفيان كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا : لا توبة له.
قال الزمخشري : وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد ، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة ، وناهيك بمحو الشرك دليلاً.
وفي الحديث : « من أعان على قتل مسلم مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله » والعجب من قوم يقرأون هذه الآية ويرون ما فيها ، ويسمعون هذه الأحاديث القطعية ، وقول ابن عباس مع التوبة ، ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة ، واتباعهم هواهم ، وما يخيل إليهم مناهم أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغيرتوبة ، { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها }

ثم ذكر الله تعالى التوبة في قتل الخطأ لما عسى أن يقع من نوع تفريط فيما يجب من الاحتياط والتحفظ فيه حسم للأطماع وأي حسم ، ولكنْ لا حياة لمن تنادي.
( فإن قلت ) : هل فيها دليل على طرد من لم يتب من أهل الكبائر؟ ( قلت ) : ما أبين الدليل فيها ، وهو تناول قوله : ومن يقتل ، أي قاتل كان من مسلم ، أو كافر تائب ، أو غير نائب ، إلا أنَّ التائب أخرجه الدليل.
فمن ادعى إخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله انتهى كلامه.
وهو على طريقته الاعتزالية والتعرض لمخالفيه بالسب والتشنيع.
وأما قوله : ما أبين الدليل فيها ، فليس ببين ، لأن المدّعي هل فيها دليل على خلود من لم يتب من الكبائر ، وهذا عام في الكبائر.
والآية في كبيرة مخصوصة وهي : القتل لمؤمن عمداً ، وهي كونها أكبر الكبائر بعد الشرك ، فيجوز أن تكون هذه الكبيرة المخصوصة حكمها غير حكم سائر الكبائر ، مخصوصة كونها أكبر الكبائر بعد الشرك ، فلا يكون في الآية دليل على ما ذكر ، فظهر أنّ قوله : ما أبين الدّليل منها ، غير صحيح.
واختلفوا في ما به يكون قتل العمد ، وفي الحرّ يقتل عبداً عمداً مؤمناً ، هل يقتص منه؟ وذلك موضح في كتب الفقه.
وانتصب متعمداً على الحال من الضمير المستكن في يقتل ، والمعنى : متعمداً قتله.
وروى عبدان عن الكسائي : تسكين تاء متعمداً ، كأنه يرى توالي الحركات.
وتضمنت هذه الآيات من البلاغة والبيان والبديع أنواعاً.
التتميم في : ومن أصدق من الله حديثاً.
والاستفهام بمعنى الإنكار في : فما لكم في المنافقين ، وفي : أتريدون أن تهدوا.
والطباق في : أن تهدوا من أضل الله.
والتجنيس المماثل في : لو تكفرون كما كفروا ، وفي : بينكم وبينهم ، وفي : أن يقاتلوكم أو يقاتلوا ، وفي : أن يأمنوكم ويأمنوا ، وفي : خطأ وخطأ.
والاستعارة في : بينكم وبينهم ، وفي : حصرت صدورهم ، وفي : فإن اعتزلوكم وألقوا إليكم السلم ، وفي : سبيلاً وكلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم الآية.
والاعتراض في : ولو شاء الله لسلطهم.
والتكرار في مواضع.
والتقسيم في : ومن قتل إلى آخره.
والحذف في مواضع.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)

المغنم : مفعل من غنم ، يصلح للزمان والمكان.
والمصدر ويطلق على الغنيمة تسمية للمفعول بالمصدر أي : المغنوم ، وهو ما يصيبه الرجل من مال العدو في الغزو.
المراغم : مكان المراغمة ، وهي : أن يرغم كل واحد من المتنازعين بحصوله في منعة منه أنف صاحبه بأن يغلب على مراده يقال : راغمت فلاناً إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك.
والرغم الذل والهوان ، وأصله : لصوق الأنف بالرغام ، وهو التراب.
{ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة } روى البخاري ومسلم : أن رجلاً من سليم مرّ على نفر من الصحابة ومعه غنم ، فسلم عليهم ، فقالوا : ما سلم إلا ليتعوذ ، فقتلوه وأخذوا غنمه وأتوا بها الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت.
وقيل : بعث سرية فيها المقداد ، فتفرق القوم وبقي رجل له مال كثير لم يبرح ، فتشهد ، فقتله المقداد ، فأخبر الرسول عليه السلام بذلك فقال : « أقتلت رجلاً قال لا إله إلا الله ، فكيف لك بلا إله إلا الله غداً » ؟ وقيل : لقي الصحابة المشركين فهزموهم ، فشد رجل منهم على رجل ، فلما غشيه السنان قال : إني مسلم ، فقتله وأخذ متاعه ، فرفع ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : « قتلته وقد زعم أنه مسلم؟ » فقال : قالها متعوذاً قال : « هلا شققت عن قلبه؟ » في قصة آخرها : أن القاتل مات فلفظته الأرض مرتين أو ثلاثاً ، فطرح في بعض الشعاب.
وقيل : هي السرية التي قتل فيها أسامة بن زيد مرداس بن نهيك من أهل فدك ، وهي مشهورة.
وقيل : بعث الرسول عليه السلام أبا حدرد الأسلمي وأبا قتادة ومحلم بن جثامة في سرية إلى أسلم ، فلما بلغوا إلى عامر بن الأضبط الأشجعي حياهم بتحية الإسلام ، فقتله محكم وسلبه ، فلما قدموا قال : « أقتلته بعدما قال آمنت؟ » فنزلت.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة وهي أنه تعالى لما ذكر جزاء من قتل مؤمناً متعمداً وأن له جهنم ، وذكر غضب الله عليه ولعنته وإعداد العذاب العظيم له ، أمر المؤمنين بالتثبت والتبين ، وأن لا يقدم الإنسان على قتل من أظهر الإيمان ، وأن لا يسفكوا دماً حراماً بتأويل ضعيف ، وكرر ذلك آخر الآية تأكيداً أن لا يقدم عند الشبه والإشكال حتى يتضح له ما يقدم عليه ، ولما كان خفاء ذلك منوطاً بالأسفار والغمزات قال : إذا ضربتم في الأرض ، وإلا فالتثبت والتبين لازم في قتل من تظاهر بالإسلام في السفر وفي الحضر ، وتقدم تفسير الضرب في قوله : { لا يستطيعون ضرباً في الأرض }

وقرأ حمزة والكسائي : فتثبتوا بالثاء المثلثة ، والباقون : فتبينوا.
وكلاهما تفعل بمعنى استفعل التي للطلب ، أي : اطلبوا إثبات الأمر وبيانه ، ولا تقدموا من غير روية وإيضاح.
وقال قوم : تبينوا أبلغ وأشد من فتثبتوا ، لأن المتثبت قد لا يتبين.
وقال الراغب : لأنه قلما يكون إلا بعد تثبت ، وقد يكون التثبت ولا تبين ، وقد قوبل بالعجلة في قوله عليه السلام : « التبين من الله والعجلة من الشيطان » وقال أبو عبيد هما : متقاربان.
قال ابن عطية : والصحيح ما قال أبو عبيد ، لأن تبين الرجل لا يقتضي أن الشيء بان ، بل يقتضي محاولة للتبين ، كما أنّ تثبت يقتضي محاولة للتبين ، فهما سواء.
وقال أبو علي الفارسي : التثبت هو خلاف الإقدام ، والمراد : التأني ، والتثبت أشد اختصاصاً بهذا الموضع.
ومما يبين ذلك قوله : { وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } أي أشد وقفاً لهم عن ما وعظوا بأن لا يقدموا عليه ، وكلام الناس : تثبَّتْ في أمرك.
وقد جاء أنّ التبين من الله ، والعجلة من الشيطان ، ومقابلة العجلة بالتبين دلالة على تقارب اللفظين.
والأكثرون على أنّ القاتل هو محلم ، والمقتول عامر كما ذكرنا ، وكذا هو في سير ابن إسحاق ، ومصنف أبي داود ، وفي الاستيعاب.
وقيل : المقتول مرداس ، وقاتله أسامة.
وقيل : قاتله غالب بن فضالة الليثي.
وقيل : القاتل أبو الدرداء.
وقيل : أبو قتادة.
وقرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، والكسائي ، وحفص ، السلام بألف.
قال الزجاج : يجوز أن يكون بمعنى التسليم ، ويجوز أن يكون بمعنى الاستسلام.
وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، وابن كثير.
من بعض طرقه ، وجبلة عن المفضل عن عاصم : بفتح السين واللام من غير ألف ، وهو من الاستسلام.
وقرأ أبان بن زيد ، عن عاصم : بكسر السين وإسكان اللام ، وهو الانقياد والطاعة.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد بالسلام الانحياز والترك ، قال الأخفش : يقال فلان سلام إذا كان لا يخالط أحداً.
قال أبو عبد الله الرازي : أي لا تقولوا لمن اعتزلكم ولم يقاتلكم لست مؤمناً ، وأصله من السلامة ، لأن المعتزل عن الناس طالب للسلامة.
وقرأ الجحدري : بفتح السين وسكون اللام.
وقرأ أبو جعفر : مأمناً بفتح الميم أي : لا نؤمنك في نفسك ، وهي قراءة : عليّ ، وابن عباس ، وعكرمة ، وأبي العالية ، ويحيى بن يعمر.
ومعنى قراءة الجمهور ليس لإيمانك حقيقة أنك أسلمت خوفاً من القتل.
قال أبو بكر الرازي : حكم تعالى بصحة إسلام من أظهر الإسلام ، وأمر بإجرائه على أحكام المسلمين ، وإن كان في الغيب على خلافه.
وهذا مما يحتج به على توبة الزنديق إذا أظهر الإسلام ، فهو مسلم انتهى.
والغرض هنا هو ما كان مع المقتول من غنيمة ، أو من حمل ، ومتاع ، على الخلاف الذي في سبب النزول.
والمعنى : تطلبون الغنيمة التي هي حطام سريع الزوال.
وتبتغون في موضع نصب على الحال من ضمير : ولا تقولوا ، وفي ذلك إشعار بأن الداعي إلى ترك التثبت أو التبين هو طلبكم عرض الدنيا ، فعند الله مغانم كثيرة هذه عدة بما يسني الله تعالى لهم من الغنائم على وجهها من حل دون ارتكاب محظور بشبهة وغير تثبت ، قاله الجمهور.

وقال مقاتل : أراد ما أعده تعالى لهم في الآخرة من جزيل الثواب والنعيم الدائم الذي هو أجلّ المغانم.
{ كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا } قال ابن جبير : معناه كنتم مستخفين من قومكم بإسلامكم ، خائفين منهم على أنفسكم ، فمنّ الله عليكم بإعزاز دينكم ، فهم الآن كذلك كل منهم خائف في قومه ، متربص أن يصل إليكم ، فلم يصلح إذا وصل أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره.
قال أبو عبد الله الرازي : وهذا فيه إشكال ، لأنّ إخفاء الإيمان ما كان عاماً فيهم انتهى.
ولا إشكال فيه ، لأن المسلمين كانوا أول الإسلام يحبون دينهم ، فالتشبيه وقع بتلك الحال الأولى ، وعلى تقدير تسليم أنّ إخفاء الإيمان ما كان عاماً فيهم ، لا إشكال أيضاً لأنه ينسب إلى الجملة ما وجد من بعضهم.
وقال ابن زيد : كذلك كنتم كفرة فمنّ الله عليكم بأن أسلمتم ، فلا تنكروا أن يكون هو كافراً ثم يسلم لحينه حين لقيكم ، فيجب أن يتثبت في أمره ، وقال الأكثرون : المعنى أنكم قبل الهجرة حين كنتم فيما بين الكفار تؤمنون بكلمة لا إله إلا الله ، فاقبلوا منهم ذلك.
وقال أبو عبد الله الرازي : فيه إشكال لأنّ لهم أن يقولوا ما كان إيماننا مثل إيمانهم ، لأنا آمنا اختياراً ، وهؤلاء أظهروا الإيمان تحت ظلال السيوف انتهى.
ولا إشكال في ذلك ، لأنه لا يلزم أن يكون التشبيه من كل الوجوه إذ كان يكون المشبه هو المشبه به ، وذلك محال ، ولا من معظم الوجوه.
والتشبيه هنا وقع في بعض الوجوه ، وهو : أن الدخول في الإسلام هو كان بكلمة الشهادة ، وقد حسن الزمخشري هذا القول وطوله جداً.
فقال : أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة ، فحصنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم ، فمنّ الله عليكم بالاستقامة والاشتهار بالإيمان والتقدم ، وإن صرتم أعلاماً فيه فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم ، وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في الكافة ، ولا تقولوا إن تهليل هذا لاتقاء القتل ، لا لصدق النية ، فتجعلوه سلماً إلى استباحة دمه وماله ، وقد حرمهما الله تعالى انتهى.
قال أبو عبد الله الرازي : والأقرب عندي أن يقال : إنَّ من ينتقل عن دين إلى دين ، ففي أول الأمر يحدث له ميل بسبب ضعيف ، ثم لا يزال ذلك الميل يتأكد ويتقوى إلى أن يكمل ويستحكم ويحصل الانتقال ، فكأنه قيل لهم : كنتم في أول الإسلام إنما حدث فيكم ميل ضعيف بأسباب ضعيفة إلى الإسلام ، ثم مَنّ الله عليكم بتقوية ذلك الميل وتأكيد النفرة عن الكفر ، فكذلك هؤلاء لما حدث فيهم ميل ضعيف إلى الإسلام بسبب هذا الخوف فاقبلوا منهم هذا الإيمان ، فإنّ الله يؤكد حلاوة الإيمان في قلوبهم ، ويقوي تلك الرغبة في صدورهم انتهى كلامه.

وليس كل من آمن من الصحابة كان ميله أولاً إلى الإسلام ميلاً ضعيفاً ثم يقوى ، بل من الصحابة من استبصر بأول وهلة دعاء الرسول ، أو رأى الرسول صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وأبي ذر وعبد الله بن سلام وأمثالهم ممن كان مستبصراً منتظراً.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى إشارة بذلك إلى القتل قبل التثبت ، أي على هذه الحال في جاهليتكم لا تثبتون ، حتى جاء الإسلام ومنّ الله عليكم انتهى.
والظاهر أنّ قوله : فمنّ الله عليكم ، هو من تمام كذلك كنتم من قبل.
وقيل : من تمام تبتغون عرض الحياة الدنيا وما قبله ، فالمعنى : منَّ عليكم بأنْ قبل توبتكم عن ذلك الفعل المنكر قاله : أبو عبد الله الرازي ، فتبينوا : تقدّم أنه قرىء فتثبتوا ، ويحتمل أن يكون هذا تأكيداً للأول ، ويحتمل أن يكون فتبينوا في قراءة من جعله من التبين ، أن لا يكون تأكيد الاختلاف متعلق التبين.
فالمعنى في الأول : فتبينوا أمر من تقدمون على قتله ، وفي الثاني : فتبينوا نعمة الله عليكم بالإسلام.
{ إن الله كان بما تعملون خبيراً } أي خبيراً بنياتكم وطلباتكم ، فكونوا محتاطين فيما تقصدونه ، متوخين أمر الله تعالى.
وهذا فيه تحذير ، فاحفظوا أنفسكم من موارد الزلل.
وقرأ الجمهور : إنَّ بكسر الهمزة على الاستئناف ، وقرىء بفتحها على أن تكون معمولة لقوله : { فتبينوا }
{ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } قال أبو سليمان الدمشقي : نزلت من أجل قوم كانوا إذا حضرت غزاة يستأذنون في القعود والتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما غير أولي الضرر فسببها قول ابن أم مكتوم : كيف من لا يستطيع الجهاد؟.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما رغب المؤمنين في القتال في سبيل الله أعداء الله الكفار ، واستطرد من ذلك إلى قتل المؤمن خطأ وعمداً بغير تأويل وبتأويل ، فنهى أن يقدم على قتله بتأويل أمر يحمله على الإسلام إذا كان ظاهره يدل على ذلك ، ذكر بيان فضل المجاهد على القاعد ، وبيان تفاوتهما ، وأن ذلك لا يمنع منه كون الجهاد ، مظنة أن يصيب المجاهد مؤمناً خطأ ، أو من يلقي السلم فيقتله بتأويل فيتقاعسن عن الجهاد لهذه الشبهة ، فأتى عقيب ذلك بفضل الجهاد وفوزه بما ذكر في الآية من الدرجات والمغفرة والرحمة والأجر العظيم ، دفعاً لهذه الشبهة.
ويستوي هنا من الأفعال التي لا تكتفي بفاعل واحد ، وإثباته لا يدل على عموم المساواة ، وكذلك نفيه.

وإنما عنى نفي المساواة في الفضل ، وفي ذلك إبهام على السامع ، وهو أبلغ من تحرير المنزلة التي بين القاعد والمجاهد.
فالمتأمل يبقي مع فكره ، ولا يزال يتخيل الدرجات بينهما ، والقاعد هو المتخلف عن الجهاد ، وعبر عن ذلك بالقعود ، لأن القعود هيئة من لا يتحرك إلى الأمر المقعود عنه في الأغلب.
وأولوا الضرر هم من لا يقدر على الجهاد لعمى ، أو مرض ، أو عرج ، أو فقد أهبة.
والمعنى : لا يستوي القاعدون القادرون على الغزو والمجاهدون.
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة : غير برفع الراء.
ونافع ، وابن عامر ، والكسائي : بالنصب ، ورويا عن عاصم.
وقرأ الأعمش وأبو حيوة : بكسرها.
فأما قراءة الرفع فوجهها الأكثرون على الصفة ، وهو قول سيبويه ، كما هي عنده صفة في { غير المغضوب عليهم } ومثله قول لبيد :
وإذا جوزيت قرضاً فاجزه . . .
إنما يجزي الفتى غير الجمل
كذا ذكره أبو عليّ ، ويروى : ليس الجمل.
وأجاز بعض النحويين فيه البدل.
قيل : وهو إعراب ظاهر ، لأنه جاء بعد نفي ، وهو أولى من الصفة لوجهين : أحدهما : أنهم نصوا على أنَّ الأفصح في النفي البدل ، ثم النصب على الاستثناء ، ثم الوصف في رتبة ثالثة.
الثاني : أنه قد تقرر أنّ غيراً نكرة في أصل الوضع وإن أضيفت إلى معرفة هذا ، هو المشهور ، ومذهب سيبويه.
وإن كانت قد تتعرف في بعض المواضع ، فجعلها هنا صفة يخرجها عن أصل وضعها إما باعتقاد التعريف فيها ، وإما باعتقاد أنّ القاعدين لما لم يكونوا ناساً معينين ، كانت الألف واللام فيه جنسية ، فأجرى مجرى النكرات حتى وصف بالنكرة ، وهذا كله ضعيف.
وأما قراءة النصب فهي على الاستثناء من القاعدين.
وقيل : استثناء من المؤمنين ، والأول أظهر لأنه المحدث عنه.
وقيل : انتصب على الحال من القاعدين.
وأما قراءة الجر فعلى الصفة للمؤمنين ، كتخريج من خرج غير المغضوب عليهم على الصفة من { الذين أنعمت عليهم } ومن المؤمنين في موضع الحال من قوله : القاعدون.
أي : كائنين من المؤمنين.
واختلفوا : هل أولو الضرر يساوون المجاهدين أم لا؟ فإن اعتبرنا مفهوم الصفة ، أو قلنا بالأرجح من أنّ الاستثناء من النفي إثبات ، لزمت المساواة.
وقال ابن عطية : وهذا مردود ، لأن الضرر لا يساوون المجاهدين ، وغايتهم إنْ خرجوا من التوبيخ والمذمة التي لزمت القاعدين من غير عذر ، وكذا قال ابن جريج : الاستثناء لرفع العقاب ، لا لنيل الثواب.
المعذور يستوفي في الأجر مع الذي خرج إلى الجهاد ، إذ كان يتمنى لو كان قادراً لخرج.
قال : استثنى المعذور من القاعدين ، والاستثناء من النفي إثبات ، فثبت الاستواء بين المجاهد والقاعد المعذور انتهى.
وإنما نفي الاستواء فيما علم أنه منتفٍ ضرورة لإذكاره ما بين القاعد بغير عذر ، والمجاهد من التفاوت العظيم ، فيأنف القاعد من انحطاط منزلته فيهتز للجهاد ويرغب فيه.
ومثله : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون }

أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته لينهضم إلى التعلم ، ويرتقي عن حضيض الجهل إلى شرف العلم.
قال بعض العلماء : كان نزول هذه الآية في الوقت الذي كان الجهاد فيه تطوعاً ، وإلا لم يكن لقوله : لا يستوي معنى ، لأن من ترك الفرض لا يقال : إنه لا يستوي هو والآتي به ، بل يلحق الوعيد بالتارك ، ويرغب الآتي به في الثواب.
وقال الماتريدي : نفى التساوي بين فاعل الجهاد وتاركه ، لا يدلّ على أنّ الجهاد ما كان فرضاً في ذلك الوقت.
ألا ترى أن قوله تعالى : { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون } نفى المساواة بين المؤمن والفاسق ، والإيمان فرض.
وقال تعالى : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات } الآية وقال : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، والعلم في كثير من الأشياء فرض.
وإذ جاز نفي الاستواء بين فاعل التطوع وتاركه ، فلأن يجوز بين فاعل الفرض وتاركه بطريق الأولى ، وإنما لم يلحق الإثم تاركه لأنه فرض كفاية انتهى.
والظاهر أنّ نفي هذا الاستواء ليس مخصوصاً بقاعدة عن جهاد مخصوص ، ولا مجاهد جهاداً مخصوصاً بل ذلك عام.
وعن ابن عباس : لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها.
وعن مقاتل : إلى تبوك.
وقال ابن عباس وغيره : أولوا الضرر هم أهل الأعذار.
إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد.
وفي الحديث : « لقد خلفتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر » وجاء هنا تقديم الأموال على الأنفس.
وفي قوله : { إن الله اشترى من المومنين أنفسهم وأموالهم } تقديم الأنفس على الأموال لتباين الغرضين ، لأن المجاهد بائع ، فأخر ذكرها تنبيهاً على أنّ المضايقة فيها أشد ، فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب.
والمشتري قدمت له النفس تنبيهاً على أنّ الرغبة فيها أشد ، وإنما يرعب أولاً في الأنفس الغالي.
{ فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } الظاهر : أن المفضل عليهم هم القاعدون غير أولي الضرر ، لأنهم هم الذين نفى التسوية بينهم ، فذكر ما امتازوا به عليهم ، وهو تفضيلهم عليهم بدرجة ، فهذه الجملة بيان للجملة الأولى جواب سؤال مقدر ، كان قائلاً قال : ما لهم لا يستوون؟ فقيل : فضل الله المجاهدين ، والمفضل عليهم هنا درجة هم المفضل عليهم آخراً درجات ، وما بعدها وهم القاعدون غير أولي الضرر.
وتكرر التفضيلان باعتبار متعلقهما ، فالتفضيل الأول بالدرجة هو ما يؤتى في الدنيا من الغنيمة ، والتفضيل الثاني هو ما يخولهم في الآخرة ، فنبه بإفراد الأول ، وجمع الثاني على أنّ ثواب الدنيا في جنب ثواب الآخرة يسير.
وقيل : المجاهدون تتساوى رتبهم في الدنيا بالنسبة إلى أحوالهم ، كتساوي القاتلين بالنسبة إلى أخذ سلب من قتلوه ، وتساوي نصيب كل واحد من الفرسان ونصيب كل واحد من الرجال ، وهم في الآخرة متفاوتون بحسب إيمانهم ، فلهم درجات بحسب استحقاقهم ، فمنهم من يكون له الغفران ، ومنهم من يكون له الرحمة فقط.

فكان الرحمة أدنى المنازل ، والمغفرة فوق الرحمة ، ثم بعد الدرجات على الطبقات ، وعلى هذا نبه بقوله : { هم درجات عند الله } ومنازل الآخرة تتفاوت.
وقيل : الدرجة المدح والتعظيم ، والدرجات منازل الجنة.
وقيل : المفضل عليهم أولاً غير المفضل عليهم ثانياً.
فالأول هم القاعدون بعذر ، والثاني هم القاعدون بغير عذر ، ولذلك اختلف المفضل به : ففي الأول درجة ، وفي الثاني درجات ، وإلى هذا ذهب ابن جريج ، وهو من لا يستوي عنده أولوا الضرر والمجاهدون.
وقيل : اختلف الجهادان ، فاختلف ما فضل به.
وذلك أن الجهاد جهادان : صغير ، وكبير.
فالصغير مجاهدة الكفار ، والكبير مجاهدة النفس.
وعلى ذلك دل قوله عليه السلام : « رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر » وإنما كان مجاهدة النفس أعظم ، لأنّ من جاهد نفسه فقد جاهد الدنيا ، ومن غلب الدنيا هانت عليه مجاهدة العدا ، فخصّ مجاهدة النفس بالدرجات تعظيماً لها.
وقد تناقض الزمخشري في تفسير القاعدين فقال : فضل الله المجاهدين جملة موضحة لما نفي من استواء القاعدين والمجاهدين ، كأنه قيل : ما لهم لا يستوون؟ فأجيب بذلك : والمعنى على القاعدين غير أولي الضرر ، لكون الجملة بياناً للجملة الأولى المتضمنة لهذا الوصف.
ثم قال : ( فإن قلت ) : قد ذكر الله تعالى مفضلين درجة ومفضلين درجات من هم؟ ( قلت ) : أما المفضلون درجة واحدة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء ، وأما المفضلون درجات فالذين فضلوا على القاعدين الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم ، لأن الغزو فرض كفاية انتهى كلامه.
فقال : أولاً المعنى على القاعدين غير أولي الضرر ، وقال في هذا الجواب : على القاعدين الأضراء ، وهذا تناقض.
والظاهر أنّ قوله : درجات ، لا يراد به عدد مخصوص ، بل ذلك على حسب اختلاف المجاهدين.
وقال ابن زيد : هي السبع المذكورة في براءة في قوله : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ } الآيات.
وقال ابن عطية : درجات الجهاد لو حصرت لكانت أكثر من هذه انتهى.
وقال ابن مجيريز : الدرجات في الجنة سبعون درجة ، كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة ، وإلى نحوه ذهب : مقاتل ، ورجحه الطبري.
وفي الحديث الصحيح : « أن في الجنة مائة درجة أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض » وذهب بعض العلماء إلى أنّ قوله : وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجات منه ، هو على سبيل التوكيد ، لا أنّ مدلول درجة مخالف لمدلول درجات في المعنى ، بل هما سواء في المعنى.
قال تعالى : { وللرجال عليهن درجة } لا يراد بها شيء واحد ، بل أشياء.
وكرر التفضيل للتأكيد والترغيب في أمر الجهاد ، وإلى هذا ذهب الماتريدي قال : وفي الآية دلالة على أنّ الجهاد فرض كفاية ، حيث يسقط بقيام بعض ، وإن كان خطاب قوله : وقاتلوا في سبيل الله يعم انتهى.

{ وكلاًّ وعد الله الحسنى } أي وكلاً من القاعدين والمجاهدين.
وقيل : وكلاً من القاعدين غير أولي الضرر ، وأولي الضرر ، والمجاهدين.
والحسنى هنا : الجنة باتفاق.
وقال عبد الجبار : هذا الوعد لا يليق بأمر الآخرة.
ولما ذكر ما للمجاهدين من الحظ عاجلاً جاز أن يتوهم أنه كما اختص بهذه النعم ، فكذلك يختص بالثواب.
فبيّن أنَّ للقاعدين ما للمجاهدين من الحسنى في الوعد مع ذلك ، ثم بيّن أنّ لهم فضل درجات ، لأنه لو لم يذكر ذلك لأوهم أنّ حالهما في الوعد بالحسنى سواء انتهى.
وانتصب كلاً على أنه مفعول أوّل لوعد ، والثاني هو الحسنى.
وقرىء : وكل بالرفع على الابتداء ، وحذف العائد أي : وكلهم وعد الله.
{ وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجاتٍ منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيماً } قيل : الدرجات باعتبار المنازل الرفيعة بعد إدخال الجنة ، والمغفرة باعتبار ستر الذنب ، والرحمة باعتبار دخول الجنة.
والظاهر أنّ هذا التفضيل الخاص للمجاهد بنفسه وماله ، ومن تفرد بأحدهما ليس كذلك.
ومن المعلوم أنّ من جاهد ، ومَن أنفق ماله في الجهاد ، ليس كمن جاهد بنفقة من عند غيره.
وفي انتصاب درجة ودرجات وجوه : أحدها : أنهما ينتصبان انتصاب المصدر لوقوع درجة موقع المرة في التفضيل ، كأنه قيل : فضلهم تفضيله.
كما تقول : ضربته سوطاً ، ووقوع درجات موقع تفضيلات كما تقول : ضربته أسواطاً تعني : ضربات.
والثاني : أنهما ينتصبان انتصاب الحال أي : ذوي درجة ، وذوي درجات.
والثالث : على تقدير حرف الجر أي : بدرجة وبدرجات.
والرابع : أنهما انتصبا على معنى الظرف ، إذ وقعا موقعه أي : في درجة وفي درجات.
وقيل : انتصاب درجات على البدل من أجراً قيل : ومغفرة ورحمة معطوفان على درجات.
وقيل : انتصبا بإضمار فعلهما أي : غفر ذنبهم مغفرة ورحمهم رحمة.
وأما انتصابُ أجراً عظيماً فقيل : على المصدر ، لأنّ معنى فضل معنى أجر ، فهو مصدر من المعنى ، لا من اللفظ.
وقيل : على إسقاط حرف الجر أي بأجر.
وقيل : مفعول بفضلهم لتضمينه معنى أعطاهم.
قال الزمخشري : ونصب أجراً عظيماً على أنه حال من النكرة التي هي درجات مقدّمة عليها انتهى.
وهذا لا يظهر لأنه لو تأخر لم يجز أن يكون نعتاً لعدم المطابقة ، لأنّ أجراً عظيماً مفرد ، ولا يكون نعتاً لدرجات ، لأنها جمع.
وقال ابن عطية : ونصب درجات ، إما على البدل من الأجر ، وإما بإضمار فعل على أن يكون تأكيداً للأجر ، كما نقول لك : على ألف درهم عرفاً ، كأنك قلت : أعرفها عرفاً انتهى.
وهذا فيه نظر.
{ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض } روى البخاري عن ابن عباس : أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم ، أو يضرب فيقتل ، فنزلت.

وقيل : قوم من أهل مكة أسلموا ، فلما هاجر الرسول أقاموا مع قومهم ، وفتن منهم جماعة ، فلما كان يوم بدر خرج منهم قوم مع الكفار ، فقتلوا ببدر فنزلت.
قال عكرمة : نزلت في خمسة قتلوا يوم بدر : قيس بن النائحة بن المغيرة ، والحرث بن زمعة بن الأسود بن أسد ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو العاصي بن منبه بن الحجاج ، وعلي بن أمية بن خلف.
وقال النقاش : في أناس سواهم أسلموا ثم خرجوا إلى بدر ، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا : غر هؤلاء دينهم.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي : أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد ، أتبعه بعقاب من قعد عن الجهاد وسكن في بلاد الكفر.
قال ابن عباس ومقاتل : التوفي هنا قبض الأرواح.
وقال الحسن : الحشر إلى النار.
والملائكة هنا قيل : ملك الموت ، وهو من باب إطلاق الجمع على الواحدة تفخيماً له وتعظيماً لشأنه ، لقوله تعالى : { قل يتوفاكم ملك الموت } هذا قول الجمهور.
وقيل : المراد ملك الموت وأعوانه وهم : ستة ، ثلاثة لأرواح المؤمنين ، وثلاثة لأرواح الكافرين.
ويشهد لهذا { توفته رسلنا وهم لا يفرطون } وظلمهم أنفسهم بترك الهجرة ، وقعودهم مع قومهم حين رجعوا للقتال ، أو برجوعهم إلى الكفر ، أو بشكهم ، أو بإعانة المشركين ، أقوال أربعة : وتوفاهم : ماض لقراءة من قرأ توفتهم ، ولم يلحق تاء التأنيث للفصل ، ولكون تأنيث الملائكة مجازاً أو مضارع ، وأصله تتوفاهم.
وقرأ ابراهيم : توفاهم بضم التاء مضارع وفيت ، والمعنى : أنّ الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها ، أي : يمكنهم من استيفائها فيستوفونها.
والضمير في قالوا للملائكة ، والجملة خبر إنّ ، والرابط ضمير محذوف دل عليه المعنى ، التقدير : قالوا : قالوا لهم فيم كنتم؟ وهذا الاستفهام معناه التوبيخ والتقريع.
والمعنى : في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ وقيل : من أحوال الدنيا ، وجوابهم للملائكة اعتذار عن تخلفهم عن الهجرة ، وإقامتهم بدار الكفر ، وهو اعتذار غير صحيح.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف صح وقوع قوله : كنا مستضعفين في الأرض ، جواباً عن قولهم : فيم كنتم؟ وكان حق الجواب أن يقولوا : كنا في كذا ، ولم يكن في شيء؟ ( قلت ) : معنى فيم كنتم ، التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على الهجرة ولم يهاجروا ، فقالوا : كنا مستضعفين اعتذاراً مما وبخوا به ، واعتلالاً بالاستضعاف ، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء انتهى كلامه.
والذي يظهر أنّ قولهم : كنا مستضعفين في الأرض جواب لقوله : فيم كنتم على المعنى ، لا على اللفظ.
لأن معنى : فيم كنتم في أي حال مانعة من الهجرة كنتم ، قالوا : كنا مستضعفين أي في حالة استضعاف في الأرض بحيث لا نقدر على الهجرة ، وهو جواب كذب ، والأرض هنا أرض مكة.
{ قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } هذا تبكيت من الملائكة لهم ، وردّ لما اعتذروا به.

أي لستم مستضعفين ، بل كانت لكم القدرة على الخروج إلى بعض الأقطار فتهاجروا حتى تلحقوا بالمهاجرين ، كما فعل الذين هاجروا إلى الحبشة ، ثم لحقوا بعد بالمؤمنين بالمدينة.
ومعنى فتهاجروا فيها أي : في قطر من أقطارها ، بحيث تأمنون على دينكم.
وقيل : أرض الله أي المدينة.
واسعة آمنة لكم من العدوّ فتخرجوا إليها.
وهل هؤلاء الذين توفتهم الملائكة مسلمون خرجوا مع المشركين في قتال فقتلوا؟ أو منافقون ، أو مشركون؟ ثلاثة أقوال.
الثالث قاله الحسن.
قال ابن عطية : قول الملائكة لهم بعد توفي أرواحهم يدل على أنهم مسلمون ، ولو كانوا كفاراً لم يقل لهم شيء من ذلك ، وإنما لم يذكروا في الصحابة لشدة ما واقعوه ، ولعدم تعين أحد منهم بالإيمان ، واحتمال ردته.
انتهى ملخصاً.
وقال السدّي : يوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر كافراً حتى يهاجر ، إلا من لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً انتهى.
قال ابن عطية : والذي تقتضيه الأصول أنّ من ارتد من أولئك كافر ومأواه جهنم على جهة الخلود ، ومن كان مؤمناً فمات بمكة ولم يهاجر ، أو أخرج كرهاً فقتل ، عاص مأواه جهنم دون خلود.
ولا حجة للمعتزلة في هذه الآية على التكفير بالمعاصي.
وفي الآية دليل على أنَّ من لا يتمكن من إقامة دينه في بلد كما يحب ، وجبت عليه الهجرة.
وروي في الحديث « من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجبت له الجنة ، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم ».
{ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً } الفاء للعطف ، عطفت جملة على جملة.
وقيل : فأولئك خبر إنْ ، ودخلت الفاء في خبر إنّ تشبيهاً لاسمها باسم الشرط ، وقالوا : فيم كنتم حال من الملائكة ، أو صفة لظالمي أنفسهم أي : ظالمين أنفسهم قائلاً لهم الملائكة : فيم كنتم؟ وقيل : خبر إنّ محذوف تقديره : هلكوا ، ثم فسر الهلاك بقوله : قالوا فيم كنتم.
{ إلا المستضعفين من الرّجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً } من الرجال جماعة ، كعياش بن أبي زمعة ، وسلمة بن هشام ، والوليد بن الوليد.
ومن النساء جماعة : كأمّ الفضل أمامة بنت الحرث أم عبد الله بن عباس.
ومن الولدان : عبد الله بن عباس وغيره.
فإنْ أريد بالولدان العبيد والإماء البالغون فلا إشكال في دخولهم في المستثنين ، وإن أريد بالولدان الأطفال فهم لا يكونون إلا عاجزين فلا يتوجه عليهم وعيد ، بخلاف الرّجال والنساء قد يكونون عاجزين ، وقد يكونون غير عاجزين.
وإنما ذكروا مع الرّجال والنساء وإنْ كانوا لا يتوجه عليهم الوعيد باعتبار أنَّ عجزهم هو عجز لآبائهم الرّجال والنساء ، لأنَّ من أقوى أسباب العجز وعدم الحنكة وكون الرّجال والنساء مشغولين بأطفالهم ، مشغوفين بهم ، فيعجزون عن الهجرة بسبب خوف ضياع أطفالهم وولدانهم.

فذكر الولدان في المستثنين تنبيه على أعظم طرق العجز للرّجال والنساء ، لأن طرق العجز لا تنحصر ، فنبه بذكر عجز الولدان على قوة عجز الآباء والأمهات بسببهم.
قال الزمخشري : ويجوز أن يراد المراهقون منهم الذين عقلوا ما يعقل الرّجال والنساء ، فيلحقوا بهم في التكليف انتهى.
وليس بجيد ، لأنّ المراهق لا يلحق بالمكلف أصلاً ، ولا وعيد عليه ما لم يكلف.
وقيل : يحتمل أن يراد بالمستضعفين أسرى المسلمين الذين هم في أيدي المشركين لا يستطيعون حيلة إلى الخروج ، ولا يهتدون إلى تخليص أنفسهم.
وهذا الاستثناء قال الزجاج : هو من قوله : { مأواهم جهنم }.
قال غيره : كأنه قيل : فأولئك في جهنم إلا المستضعفين ، فعلى هذا استثناء متصل.
والذي يقتضيه النظر أنه استثناء منقطع ، لأن قوله : { إن الذين توفاهم الملائكة } إلى آخره يعود الضمير في مأواهم إليهم.
وهم على أقوال المفسرين إما كفار ، وإما عصاة بالتخلف عن الهجرة وهم قادرون ، فلم يندرج فيهم المستضعفون المستثنون لأنهم عاجزون ، فهو منقطع لا يستطيعون حيلة ، ولا يهتدون سبيلاً.
الحيلة : لفظ عام لأنواع أسباب التخلص.
والسبيل هنا طريق المدينة قاله : مجاهد ، والسدي.
وغيرهما.
قال ابن عطية : والصواب أنه عام في جميع السبل ، يعني المخلصة من دار الكفر انتهى.
وقيل : لا يعرفون طريقاً إلى الخروج ، وهذه الجملة قيل؛ مستأنفة.
وقيل : في موضع الحال.
وقال الزمخشري : صفة للمستضعفين ، أو الرّجال والنساء والولدان.
قال : وإنما جاز ذلك والجمل نكرات ، لأن الموصوف وإن كان فيه حرف التعريف فليس بشيء بعينه كقوله :
ولقد أمر على اللئيم يسبني . . .
انتهى كلامه.
وهو تخريج ذهب إلى مثله بعض النحويين في قوله تعالى : { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } وهو هدم للقاعدة المشهورة : بأن النكرة لا تنعت إلا بالنكرة ، والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة.
والذي يظهر أنها جملة مفسرة لقوله : المستضعفين ، لأنها في معنى : «إلا الذين استضعفوا فجاء بياناً وتفسيراً لذلك ، لأنّ الاستضعاف يكون بوجوه ، فبين جهة الاستضعاف النافع في التخلف عن الهجرة وهي عدم استطاعة الحيلة وعدم اهتداء السبيل.
والثاني مندرج تحت الأول ، لأنه يلزم من انتفاء القدرة على الحيلة التي يتخلص بها انتفاء اهتداء السبيل.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى مسلمي مكة بهذه الآية ، فقال جندب بن ضمرة الليثي : ويقال : جندع بالعين ، أو ضمرة بن جندب لبنيه : احملوني فإني لست من المستضعفين ، وإني لأهتدي الطريق ، والله لا أبيت الليلة بمكة ، فحملوه على سرير متوجهاً إلى المدينة ، وكان شيخاً كبيراً فمات بالتنعيم.
{ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم } عسى : كلمة أطماع وترجية ، وأتى بها وإن كانت من الله واجبة ، دلالة على أنّ ترك الهجرة أمر صعب لا فسحة فيه ، حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول : عسى الله أن يعفو عني.

وقيل : معنى ذلك أنه يعفو عنه في المستقبل ، كأنه وعدهم غفران ذنوبهم كما قال صلى الله عليه وسلم : « إن الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ».
{ وكان الله عفواً غفوراً } تأكيد في وقع عفوه عن هؤلاء ، وتنبيه على أنّ هذا المترجي هو واقع ، لأنه تعالى لم يزل متصفاً بالعفو والمغفرة.
{ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة } قيل : نزلت في أكتم بن صيفي ، ولما رغّب تعالى في الهجرة ذكر ما يترتب عليها من وجود السعة والمذاهب الكثيرة ، ليذهب عنه ما يتوهم وجوده في الغربة ومفارقة الوطن من الشدة ، وهذا مقرر ما قالته الملائكة : { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها }.
ومعنى مراغماً : متحولاً ومذهباً قاله : ابن عباس ، والضحاك ، والربيع ، وغيرهم.
وقال مجاهد : المزحزح عما يكره.
وقال ابن زيد : المهاجر.
وقال السدي : المبتغى للمعيشة.
وقرأ الجراح ، ونبيح ، والحسن بن عمران : مرغماً على وزن مفعل كمذهب.
قال ابن جني : هو على حذف الزوائد من راغم.
والسعة هنا في الرزق قاله : ابن عباس ، والضحاك ، والربيع ، وغيرهم.
وقال قتادة : سعة من الضلالة إلى الهدى ، ومن القلة إلى الغنى.
وقال مالك : السعة سعة البلاد.
قال ابن عطية : والمشبه لفصاحة العرب أن يريد سعة الأرض وكثرة المعاقل ، وبذلك تكون السعة في الرّزق واتساع الصدر عن همومه وفكره ، وغير ذلك من وجوه الفرح ، ونحو هذا المعنى قول الشاعر :
لكان لي مضطرب واسع . . .
في الأرض ذات الطول والعرش
انتهى.
وقدم مراغمة الأعداء على سعة العيش ، لأن الابتهاج برغم أنوف الأعداء لسوء معاملتهم أشد من الابتهاج بالسعة.
{ ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله } قيل : نزلت في جندب بن ضمرة وتقدمت قصته قبل.
وقيل : في ضمرة بن بغيض.
وقيل : أبو بغيض ضمرة بن زنباع الخزاعي.
وقيل : خالد بن حرام بن خويلد أخو حكيم بن حرام خرج مهاجراً إلى الحبشة ، فمات في الطريق.
وقيل : ضمرة بن ضمرة بن نعيم.
وقيل : ضمرة بن خزاعة.
وقيل : رجل من كنانة هاجر فمات في الطريق ، فسخر منه قومه فقالوا : لا هو بلغ ما يريد ، ولا هو أقام في أهله حتى دفن.
والصحيح : أنه ضمرة بن بغيض ، أو بغيض بن ضمرة بن الزنباع ، لأنّ عكرمة سأل عنه أربع عشرة سنة ، وصححه.
وجواب الشرط فقد وقع أجره على الله ، وهذه مبالغة في ثبوت الأجر ولزومه ، ووصول الثواب إليه فضلاً من الله وتكريماً ، وعبر عن ذلك بالوقوع مبالغة.
وقرأ النخعي وطلحة بن مصرّف : ثم يدركه برفع الكاف.
قال ابن جني : هذا رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي : ثم هو يدركه الموت ، فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على الفعل المجزوم ، وفاعله.

وعلى هذا حمل يونس قول الأعشى :
إن تركبوا فركوب الخير عادتنا . . .
أو تنزلون فإنا معشر نزل
المراد : أو أنتم تنزلون ، وعليه قول الآخر :
إن تذنبوا ثم يأتيني نعيقكم . . .
فما عليّ بذنب عندكم قوت
المعنى : ثم أنتم يأتيني نعيقكم.
وهذا أوجه من أن يحمل على ألم يأتيك انتهى.
وخرج على وجه آخر وهو : أن رفع الكاف منقول من الهاء ، كأنه أراد أن يقف عليها ، ثم نقل حركة الهاء إلى الكاف كقوله :
من عرى سلبي لم أضربه . . .
يريد : لم أضربه ، فنقل حركة الهاء إلى الباء المجزومة.
وقرأ الحسن بن أبي الحسن ، ونبيح ، والجراح : ثم يدركه بنصب الكاف ، وذلك على إضماران كقول الأعشى :
ويأوي إليها المستجير فيعصما . . .
قال ابن جني : هذا ليس بالسهل ، وإنما بابه الشعر لا القرآن وأنشد أبو زيد فيه :
سأترك منزلي لبني تميم . . .
وألحق بالحجاز فأستريحا
والآية أقوى من هذا لتقدم الشرط قبل المعطوف انتهى.
وتقول : أجرى ثم مجرى الواو والفاء ، فكما جاز نصب الفعل بإضمار أنْ بعدهما بين الشرط وجوابه ، كذلك جاز في ثم إجراء لها مجراهما ، وهذا مذهب الكوفيين ، واستدلوا بهذه القراءة.
وقال الشاعر في الفاء :
ومن لا يقدم رجله مطمئنة . . .
فيثبتها في مستوى القاع يزلق
وقال آخر في الواو :
ومن يقترب منا ويخضع نوؤه . . .
ولا يخش ظلماً ما أقام ولا هضما
وقالوا : كل هجرة لغرض ديني من : طلب علم ، أو حج ، أو جهاد ، أو فراء إلى بلد يزداد فيه طاعة ، أو قناعة ، وزهداً في الدنيا ، أو ابتغاء رزق طيب ، فهي هجرة إلى الله ورسوله.
وإنْ أدركه الموت فأجرُه على الله تعالى.
قيل : وفي الآية دليل على أن الغازي إذا خرج إلى الغزو ومات قبل القتال فله سهمه وإن لم يحضر الحرب.
روي ذلك عن أهل المدينة ، وابن المبارك ، وقالوا : إذا لم يحرم الأجر لم يحرم الغنيمة.
ولا تدل هذه الآية على ذلك ، لأن الغنيمة لا تستحق إلا بعد الحيازة ، فالسهم متعلق بالحيازة ، وهذا مات قبل أن يغنم ، ولا حجة في قوله : فقد وقع أجره على الله على ذلك ، لأنه لا خلاف في أنه لو مات في دار الإسلام وقد خرج إلى الغزو وما دخل في دار الحرب ، أنه لا يسهم له ، وقد وقع أجره على الله كما وقع أجر الذي خرج مهاجراً فمات قبل بلوغه دار الهجرة.
{ وكان الله غفوراً رحيماً } أي : غفوراً لما سلف من ذنوبه ، رحيماً بوقوع أجره عليه ومكافأته على هجرته ونيته.
وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من البلاغة والبديع.
منها الاستعارة في قوله : إذا ضربتم في سبيل الله ، استعار الضرب للسعي في قتال الأعداء ، والسبيل لدينه ، وفي : لا يستوي عبَّر به وهو حقيقة في المكان عن التساوي في المنزلة والفضيلة وفي : درجة حقيقتها في المكان فعبر به عن المعنى الذي القتضى التفضيل ، وفي : يدركه استعار الإدراك الذي هو صفة من فيه حياة لحلول الموت ، وفي : فقد وقع استعار الوقوع الذي هو من صفات الإجرام لثبوت الأجر.

والتكرار في : اسم الله تعالى ، وفي : فتبينوا ، وفي : فضل الله المجاهدين على القاعدين.
والتجنيس المماثل في : مغفرة وغفوراً.
والمغاير في : أن يعفو عنهم وعفواً ، وفي : يهاجر ومهاجراً.
وإطلاق الجمع على الواحد في : توفاهم الملائكة على قول من قال أنه ملك الموت وحده.
والاستفهام المراد منه التوبيخ في : فيم كنتم ، وفي : ألم تكن.
والإشارة في كذلك وفي : فأولئك.
والسؤال والجواب في : فيم كنتم وما بعدها.
والحذف في عدة مواضع.

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)

السلاح : معروف وما هو ما يتحصن به الإنسان من سيف ورمح وخنجر ودبوس ونحو ذلك ، وهو مفرد مذكر ، يجمع على أسلحة ، وأفعلة جمع فعال.
المذكر نحو : حمار وأحمرة ، ويجوز تأنيثه.
قال الطرماح :
يهز سلاحاً لم يرثها كلالة . . .
يشك بها منها غموض المغابن
وقال الليث : يقال للسيف وحده سلاح ، وللعصا وحدها سلاح.
وقال ابن دريد : يقال : السلاح ، والسلح ، والمسلح ، والمسلحان ، يعني : على وزن الحمار ، والضلع ، والنعر ، والسلطان.
ويقال : رجل سالح إذا كان معه السلاح.
وقال أبو عبيدة : السلاح ما قوتل به.
{ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } روى مجاهد عن ابن عباس قال : كما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد ، وقال المشركون : لقد أصبنا غرة لو حملنا عليهم وهم في الصلاة ، فنزلت آية القصر فيما بين الظهر والعصر ، الضرب في الأرض.
والظاهر جواز القصر في مطلق السفر ، وبه قال أهل الظاهر.
واختلفت فقهاء الأمصار في حدّ المسافة التي تقصر فيها الصلاة ، فقال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق : تقصر في أربعة برد ، وذلك ثمانية وأربعون ميلاً.
وقال أبو حنيفة والثوري : مسيرة ثلاث.
وقال أبو حنيفة : ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام.
وقال الأوزاعي : مسيرة يوم تام ، وحكاه عن عامة العلماء.
وقال الحسن والزهري : مسيرة يومين.
وروي عن مالك : يوم وليلة.
وقصر أنس في خمسة عشر ميلاً.
والظاهر أنه لا يعتبر نوع سفر ، بل يكفي مطلق السفر ، سواء كان في طاعة أو مباح أو معصية ، وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة.
وروي عن ابن مسعود : أنه لا يقصر إلا في حج أو جهاد.
وقال عطاء : لا تقصر الصلاة إلا في سفر طاعة ، وروي عنه : أنها تقصر في السفر المباح.
وأجمعوا على القصر في سفر الحج والعمرة والجهاد وما ضارعها من صلة رحم ، وإحياء نفس.
والجمهور على أنه لا يجوز في سفر المعصية كالباغي ، وقاطع الطريق ، وما في معناهما.
والظاهر أنه لا يقصر إلا حتى يتصف بالسفر بالفعل ، ولا اعتبار بمسافة معينة ، ولا زمان.
وروي عن الحرث بن أبي ربيعة : أنه أراد سفراً فصلى بهم ركعتين في منزله ، والأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود ، وبه قال عطاء وسليمان بن موسى.
والجمهور على أنه لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية.
وروي عن مجاهد أنه قال : لا يقصر المسافر يومه الأول حتى الليل.
والظاهر من قوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أن القصر مباح.
وقال مالك في المبسوط : سنة.
وقال حماد بن أبي سليمان ، وأبو حنيفة ، ومحمد بن سحنون ، واسماعيل القاضي : فرض ، وروي عن عمر بن عبد العزيز.

والظاهر أن قوله : أن تقصروا ، مطلق في القصر ، ويحتاج إلى مقدار ما ينقص منها.
فذهبت جماعة إلى أنه قصر من أربع إلى اثنين.
وقال قوم : من ركعتين في السفر إلى ركعة ، والركعتان في السفر تمام.
{ إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } ظاهره أنّ إباحة القصر مشروطة بالخوف المذكور ، وإلى ذلك ذهب جماعة.
ومن ذهب إلى أنّ القصر هو من ركعتي السفر إلى ركعة ، شرط الخوف ، وقال : تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها ، ويكون للإمام ركعتان.
وقالت طائفة : لا يراد بالقصر الصلاة هنا القصر من ركعتيها ، وإنما المراد القصر من هيآتها بترك الركوع والسجود في الإيماء ، وترك القيام إلى الركوع ، وروي فعل ذلك عن ابن عباس وطاووس.
وذهب آخرون إلى أنّ الآية مبيحة القصر من حدود الصلاة وهيآتها عند المسايفة واشتعال الحرب ، فأبيح لمن هذه حاله أن يصلي إيماء برأسه ، ويصلي ركعة واحدة حيث توجه إلى ركعتين ، ورجح هذا القول الطبري بقوله : { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة } أي بحدودها وهيآتها الكاملة.
والحديث الصحيح يدلّ على أنّ هذا الشرط لا مفهوم له ، فلا فرق بين الخوف والأمن ، وحديث يعلى في ذلك مشهور صحيح.
والفتنة هنا هي التعرض بما يكره من قتال وغيره.
ولغة الحجاز : فتن ، ولغة تميم وربيعة وقيس : أفتن رباعياً.
وقال أبو زيد : قصر من صلاته قصر ، أنقص من عددها.
وقال الأزهري : قصر وأقصر.
وقرأ ابن عباس : أن تقصروا رباعياً ، وبه قرأ الضبي عن رجاله.
وقرأ الزهري : تقصروا مشدّداً ، ومن للتبعيض.
وقيل : زائدة.
وقيل : الشرط ليس متعلقاً بقصر الصلاة ، بل تم الكلام عند قوله : أن تقصروا من الصلاة ، ثم ابتدأ حكم الخوف.
ويؤيده على قول : أنّ تجاراً قالوا : إنا نضرب في الأرض ، فكيف نصلي؟ فنزلت : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ، ثم انقطع الكلام.
فلما كان بعد ذلك بسنة في غزاة بني أسد حين صليت الظهر قال بعض العدو : هلا شددتم عليهم وقد مكنوكم من ظهورهم؟ فقالوا : إنّ لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأولادهم ، فنزلت : { إِن خفتم } -إِلى قَوله - { عذاباً مهيناً } صلاة الخوف.
ورجح هذا بأنه إذا علق الشرط بما قبله كان جواز القصر مع الأمن مستفاداً من السنة ، ويلزم منه نسخ الكتاب بالسنة.
وعلى تقدير الاستئناف لا يلزم ، ومتى استقام اللفظ وتم المعنى من غير محذور النسخ كان أولى انتهى.
وليس هذا بنسخ ، إنما فيه عدم اعتبار مفهوم الشرط ، وهو كثير في كلام العرب.
ومنه قول الشاعر :
عزيز إذا حلّ الخليقان حوله . . .
بذي لحب لجأته وضواهله
وفي قراءة أبيّ وعبد الله : أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم ، بإسقاط إن خفتم ، وهو مفعول من أجله من حيث المعنى أي : مخافة أن يفتنكم.

وأصل الفتنة الاختبار بالشدائد.
{ إِن الكافرين كانوا لكم عدوّاً مبيناً } عدو : وصف يوصف به الواحد والجمع.
قال : هم العدو ، ومعنى مبيناً : أي مظهراً للعداوة ، بحيث أنّ عداوته ليست مستورة ، ولا هو يخفيها ، فمتى قدر على أذية فعلها.
{ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة } استدل بظاهر الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم من لا يرى صلاة الخوف بعد الرسول حيث شرط كونه فيهم ، وكونه هو المقيم لهم الصلاة.
وهو مذهب : ابن علية ، وأبي يوسف.
لأن الصلاة بإمامته لا عوض عنها ، وغيره من العوض ، فيصلي الناس بإمامين طائفة بعد طائفة.
وقال الجمهور : الخطاب له يتناول الأمراء بعده ، والضمير في : فيهم ، عائد على الخائفين.
وقيل : على الضاربين في الأرض.
والظاهر أنّ صلاة الخوف لا تكون إلا في السفر ، ولا تكون في الحضر ، وإن كان خوف.
وذهب إليه قوم.
وذهب الجمهور إلى أنّ الحضر إذا كان خوف كالسفر.
ومعنى : فأقمت لهم الصلاة ، أقمت حدودها وهيآتها.
والذي يظهر أنّ المعنى فأقمت بهم.
وعبر بالإقامة إذ هي فرض على المصلي في قول : عن ذلك.
ومعنى : فلتقم هو من القيام ، وهو الوقوف.
وقيل : فلتقم بأمر صلاتها حتى تقع على وفق صلاتك ، من قام بالأمر اهتم به وجعله شغله.
والظاهر أنّ الضمير في : وليأخذوا أسلحتهم عائد على طائفة لقربها من الضمير ، ولكونها لها فيما بعدها في قوله : فإذا سجدوا.
وقيل : إن الضمير عائد على غيرهم ، وهي الطائفة الحارسة التي لم تصل.
وقال النحاس : يجوز أن يكون للجميع ، لأنه أهيب للعدو : فإذا سجدوا أي : هذه الطائفة.
ومعنى سجدوا : صلوا.
وفيه دليل على أنّ السجود قد يعبر به عن الصلاة ، ومنه : « إذا جاء أحدكم المسجد فليسجد سجدتين » أي فليصل ركعتين.
{ فليكونوا من ورائكم } : ظاهره أن الضمير في فليكونوا عائد على الساجدين ، والمعنى : أنهم إذا فرغوا من السجود انتقلوا إلى الحراسة فكانوا وراءكم.
وقال الزمخشري : فليكونوا يعني : غير المصلين من ورائكم يحرسونكم ، وجوز الوجهين ابن عطية ، قال : يحتمل أن يكون الذين سجدوا ، ويحتمل أن تكون الطائفة القائمة أولاً بإزاء العدوّ.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق : فلتقم بكسر اللام.
وقرأ أبو حيوة : وليات بياء بثنتين تحتها على تذكير الطائفة ، واختلف عن أبي عمرو ، في إدغام التاء في الطاء.
وفي قوله : فلتأت طائفة ، دليل على أنهم انقسموا طائفتين : طائفة حارسة أولاً ، وطائفة مصلية أولاً معه ، ثم التي صلت أولاً صارت حارسة ، وجاءت الحارسة أولاً فصلت معه.
والظاهر أنّ الأمر بأخذ الأسلحة واجب ، لأنّ فيه اطمئنان المصلي ، وبه قال : الشافعي وأهل الظاهر.
وذهب الأكثرون إلى الاستحباب.
ودلت هذه الكيفية التي ذكرت في هذه الآية على أنّ طائفة صلت مع الرسول صلى الله عليه وسلم بعض صلاة ، ولا دلالة فيها على مقدار ما صلت معه ، ولا كيفية إتمامهم ، وإنما جاء ذلك في السنة.

ونحن نذكر تلك الكيفيات على سبيل الاختصار ، لأنها مبينة ما أجمل في القرآن.
الكيفية الأولى : صلت طائفة معه ، وطائفة وجاه العدو ، وثبتت قائمة حتى تتم صلاتهم ويذهبوا وجاه العدوّ ، وجاءت هذه التي كانت وجاه العدوّ أولاً فصلى بهم الركعة التي بقيت ، ثم ثبت جالساً حتى أتموا لأنفسهم ، ثم سلم بهم ، وهذه كانت بذات الرقاع.
الكيفية الثانية : كالأولى ، إلا أنه حين صلى بالطائفة الأخيرة ركعة سلم ، ثم قضت بعد سلامه.
وهذه مروية في ذات الرقاع أيضاً.
الكيفية الثالثة : صف العسكر خلفه صفين ، ثم كبر وكبروا جميعاً ، وركعوا معه ، ورفعوا من الركوع جميعاً ، ثم سجد هو بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما سجدوا وقاموا سجد الآخرون في مكانهم ، ثم تقدموا إلى مصاف المتقدمين وتأخر المتقدمون الى مصاف المتأخرين ، ثم ركعوا معه جميعاً ، ثم سجد فسجد معه الصف الذي يليه ، فلما صلى سجد الآخرون ، ثم سلم بهم جميعاً.
وهذه صلاته بعسفان والعدو في قبلته.
الكيفية الرابعة : مثل هذا إلا أنه قال : ينكص الصف المتقدم القهقرى حين يرفعون رؤوسهم من السجود ، ويتقدم الآخر فيسجدون في مصاف الأولين.
الكيفية الخامسة : صلى بإحدى الطائفتين ركعة ، والأخرى مواجهة العدوّ ، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدوّ ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ثم سلم ، ثم قضى بهؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة في حين واحد.
الكيفية السادسة : يصلي بطائفة ركعة ثم ينصرفون تجاه العدوّ ، وتأتي الأخرى فيصلي بهم ركعة ثم يسلم ، وتقوم التي معه تقضي ، فإذا فرغوا ساروا تجاه العدوّ ، وقضت الأخرى.
الكيفية السابعة : صلى بكل طائفة ركعة ، ولم يقض أحد من الطائفتين شيئاً زائداً على ركعة واحدة.
الكيفية الثامنة : صلى بكل طائفة ركعتين ركعتين ، فكانت له أربع ، ولكل رجل ركعتان.
الكيفية التاسعة : يصلي بإحدى الطائفتين ركعة إن كانت الصلاة ركعتين ، والأخرى بإزاء العدو ، ثم تقف هذه بإزاء العدوّ وتأتي الأولى فتؤدي الركعة بغير قراءة ، وتتم صلاتها ثم تحرس ، وتأتي الأخرى فتؤدي الركعة بقراءة وتتم صلاتها ، وكذا في المغرب.
إلا أنه يصلي بالأولى ركعتين ، وبالثانية ركعة.
الكيفية العاشرة : قامت معه طائفة ، وطائفة أخرى مقابل العدوّ وظهورهم إلى القبلة ، فكبرت الطائفتان معه ، ثم ركع وركع معه الذين معه وسجدوا كذلك ، ثم قام فصارت التي معه إلى إزاء العدوّ ، وأقبلت التي كانت بإزاء العدوّ فركعوا وسجدوا وهو قائم كما هو ، ثم قاموا فركع ركعة أخرى وركعوا معه وسجدوا معه ، ثم أقبلت التي بإزاء العدوّ فركعوا وسجدوا وهو قاعد ، ثم سلم وسلم الطائفتان معه جميعاً.
وهذه كانت في غزوة نجد.
الكيفية الحادية عشرة : صلى بطائفة ركعتين ثم سلم ، ثم جاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعتين وسلم.

وهذه كانت ببطن نخل.
واختلاف هذه الكيفيات يرد على مجاهد قوله : إنه ما صلى الرسول إلا مرتين : مرة بذات الرقاع من أرض بني سليم ، ومرة بعسفان والمشركون بضخيان بينهم وبين القبلة.
وذكر ابن عباس : أنه كان في غزوة ذي قرد صلاة الخوف.
وقال أبو بكر بن العربي : روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف أربعاً وعشرين مرة ، يعني كيفية.
وقال ابن حنبل : لا نعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت صحيح ، فعلى أي حديث صليت أجزأ.
وكذا قال الطبري.
وجمع في الأخذ بين الحذر والأسلحة ، فإنه جعل الحذر أنه يحترز بها كما يحترز بالأسلحة كما جاء : { تبوؤا الدار والإيمان } جعل الإيمان مستقراً لتمكنهم فيه.
{ ودّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } تقدم الكلام في لو بعدود في قوله : { يود أحدهم لو يعمر } أي : يشدون عليكم شدة واحدة : وقرى : وأمتعاتكم ، وهو شاذ إذ هو جمع الجمع كما قالوا : أشقيات وأعطيات في أشقية وأعطية ، جمع شقاء وعطاء.
وفي هذا الإخبار تنبيه وتحذير من الغفلة ، وأفرد المسألة لأنها أبلغ في الإيصال.
{ ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم } قال ابن عباس : نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف ، كان مريضاً فوضع سلاحه فعنفه بعض الناس.
ولما كانت هاتان الحالتان مما يشق حمل السلاح فيهما ، ورخص في ذلك للمريض لأن حمله السلاح مما يكره به ويزيد في مرضه ، ورخص في ذلك إن كان مطر ، لأن المطر مما يثقل العدوّ ويمنعه من خفة الحركة للقتال.
وقال : إن يتأذوا من مطر إلا لحق الكفار من أذاه ما لحق المسلمين غالباً إن كانا متقاربين في المسافة ومرضاً إما لجراحة سبقت ، أو لضعف بنية ، أو غير ذلك مما يعد مرضاً ، وتكرير الأمر بأخذ الحذر في الصلاة.
وفي هاتين الحالتين مما يدل على توكيد التأهب والاحتراز من العدو ، فإنّ الجيش كثيراً ما يصاب من التفريط في الحذر.
وقال الضحاك في قوله : وخذوا حذركم ، أي : تقلدوا سيوفكم ، فإن ذلك حذر الغزاة.
{ إِن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً } قال الزمخشري : الأمر بالحذر من العدوّ يوهم توقع غلبة واغترار ، فنفى عنهم ذلك الإيهام بإخبارهم أنّ الله يهين عدوهم ، ويخذلهم ، وينصرهم عليه لتقوى قلوبهم ، وليعلموا أنّ الأمر بالحذر ليس لذلك ، وإنما هو تعبد من الله ، كما قال : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.
}

فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)

{ فإذا قضيت الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة } الظاهر : أنّ معنى قضيتم الصلاة أي فرغتم منها ، والصلاة هنا صلاة الخوف ، وإلى ذلك ذهب الجمهور ، وكذا فسره ابن عباس.
والذكر المأمور به هنا هو الذكر باللسان إثر صلاة الخوف على حدّ ما أمروا به عند قضاء المناسك بذكر الله ، فأمروا بذكر الله من : التهليل ، والتكبير ، والتسبيح ، والدعاء بالنصر ، والتأييد في جميع الأحوال فإن ما هم فيه من ارتقاب مقارعة العدو ، حقيق بالذكر ، والالتجاء إلى الله.
أي : فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة أي أتموها.
وذهب قوم إلى أنّ معنى قضيتم الصلاة : تلبستم بالصلاة وشرعتم فيها.
ومعنى الأمر بالذكر أي : صلوها قياماً في حال المسايفة والاختلاط ، وقعوداٍ جاثين على الركب من أنين ، وعلى جنوبكم مثخنين بالجراح ، فهي هيآت لأحوال على حسب تفصيلها.
فإذا اطمأننتم حين تضع الحرب أوزارها وأمنتم ، فأقيموا الصلاة أي : فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي أحوال القلق والانزعاج ، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري وهو خلاف الظاهر.
قال : وهذا ظاهر على مذهب الشافعي في إيجابه الصلاة على المحارب في حال المسايفة ، والمشي والاضطراب في المعركة إذا حضر وقتها ، فإذا اطمأن فعليه القضاء ، وأما عند أبي حنيفة فهو معذور في تركها الى أن يطمئن.
وقيل : قوله : فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا ، أنه أمر بالصلاة حاله إلا من بعد الخوف قياماً للأصحاء ، وقعوداً للعاجزين عن القيام ، وعلى جنوبكم العاجرين عن القعود لزمانة أو جراحة أو مرض لا يستطيع القعود معها ، فإذا اطمأننتم أي : أمنتم من الخوف قاله : قتادة ، والسدي.
فأقيموا الصلاة أي : صلوها لا كصلاة الخوف ، بل كصلاة الأمن في السفر.
وقيل فإذا اطمأننتم أي : فإذا رجعتم من سفركم إلى الحضر فأقيموها تامة أربعاً.
{ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } أي واجبة في أوقات معلومة قاله : ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، وابن قتيبة.
ولم يقل موقوتة ، لأن الكتاب مصدر ، فهو مذكر.
وروي عن ابن عباس : أن المعنى فرضاً مفروضاً ، فهما لفظان بمعنى واحد ، والظاهر الأول أي : فرضاً منجماً في أوقات.
وقال أبو عبد الله الرازي : أجمل هنا تلك الأوقات وفسرها في أوقات خمساً ، وتوقيتها بأوقات خمسة في نهاية الحسن نظراً إلى المعقول ، لأن الحوادث لها مراتب خمس : مرتبة الحدوث ، ومرتبة الوقوف ، ومرتبة الكهولة وفيها نقصان خفي ، ومرتبة الشيخوخة ، والخامسة : أن تبقى آثاره بعد موته مدّة ثم تمحى.
وهذه المراتب حصلت للشمس بحسب طلوعها وغروبها ، فأوجب الله عند كل مرتبة من أحوالها الخمس صلاة انتهى.
ما لخصناه من كلامه وطول هو كثيراً في شيء لا يدل عليه القرآن ، ولا تقتضيه لغة العرب ، ذكر ذلك في تفسيره فمن أراده فليطالعه فيه.

{ ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون } قيل : تزلت في الجهاد مطلقاً.
وقيل : في انصراف الصحابة من أحد ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم باتباع أبي سفيان وأصحابه ، أمر أن لا يخرج إلا مَن كان معه في أحد ، فشكوا بأنّ فيهم جراحات.
وهذه الآية تشير إلى أن القضاء في قوله : { فإذا قضيتم الصلاة } إنما هو قضاء صلاة الخوف.
وقرأ الحسن : تهنوا بفتح الهاء وهي لغة.
فتحت الهاء كما فتحت دال يدع ، لأجل حرف الحلق ، والمعنى : ولا تضعفوا أو تخوروا جبناً في طلب القوم.
وقرأ عبيد بن عمير : ولا تهانوا من الإهانة.
نهوا عن أن يقع منهم ما يترتب عليه إهانتهم من كونهم يجنون على أعدائهم فيهانون كقولهم : « لا أريناك هاهنا » ، ثم شجعهم على طلب القوم وألزمهم الحجة ، فإنّ ما فيهم من الألم مشترك ، وتزيدون عليهم أنكم ترجون من الله الثواب وإظهار دينه بوعده الصادق ، وهم لا يرجونه ، فينبغي أن تكونوا أشجع منهم وأبعد عن الجبن.
وإذا كانوا يصبرون على الآلام والجراحات والقتل ، وهم لا يرجون ثواباً في الآخرة ، فأنتم أحرى أن تصبروا.
ونظير ذكر هذا الأمر المشترك فيه قول الشاعر :
قاتلوا القوم يا خداع ولا . . .
يأخذكم من قتالهم قتل
القوم أمثالكم لهم شعر . . .
في الرأس لا ينشرون أن قتلوا
والرجاء هنا على بابه ، وقيل : معناه الخوف الذي تخافون من عذاب الله ما لا تخافون كقوله : إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ، أي : لم يخف.
وزعم الفراء أنّ الرجاء لا يكون بمعنى الخوف إلا مع النفي ، ولا يقال رجوتك بمعنى خفتك.
وقرأ الأعرج : أن تكونوا بفتح الهمزة على المفعول من أجله.
وقرأ ابن المسيفع : تئلمون بكسر التاء.
وقرأ ابن وثاب ومنصور بن المعتمر : تئلمون بكسر تاء المضارعة فيهما ويائهما ، وهي لغة.
{ وكان الله عليماً حكيماً } أي عليماً بنياتكم حكيماً فيما يأمركم به وينهاكم عنه.
{ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً } طوَّل المفسرون في سبب النزول ، ولخصنا منه انتهاء ما في قول قتادة وغيره.
نزلت في طعمة بن أبيرق ، سرق درعاً في جرب فيه دقيق لقتادة بن النعمان وخبأها عند يهودي ، فحلف طعمة ما لي بها علم ، فاتبعوا أثر الدقيق إلى دار اليهودي ، فقال اليهودي : دفعها إليّ طعمة.
وقيل : استودع يهودي درعاً فخانه ، فلما خاف اطلاعهم عليها ألقاها في دار أبي مليك الأنصاري.
قال السدي : وقيل : السلاح والطعام كان لرفاعة بن زيد عم قتادة ، وأن بني أبريق نقبوا مشربيته وأخذوا ذلك ، وهم بشير بضم الباء ومبشر وبشر ، وأهموا أنَّ فاعل ذلك هو لبيد بن سهل ، فشكاهم قتادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن الرسول همَّ أن يجادل عن طعمه ، أو عن أبيرق ، ويقال فيه : طعيمة.

وقال الكرماني : أجمع المفسرون على أنّ هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق أحمد بني ظفر بن الحرث ، إلا ابن بحر فإنه قال : نزلت في المنافقين ، وهو متصل بقوله : { فما لكم في المنافقين فئتين } انتهى.
وفي هذه الآية تشريف للرسول صلى الله عليه وسلم ، وتفويض الأمور إليه بقوله : لتحكم بين الناس بما أراك الله.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما صرح بأحوال المنافقين ، واتصل بذلك أمر المحاربة وما يتعلق بها من الأحكام الشرعية ، رجع إلى أحوال المنافقين ، فإنهم خانوا الرسول على ما لا ينبغي ، فأطلعه الله على ذلك وأمره أن لا يلتفت إليهم ، وكان بشير منافقاً ويهجو الصحابة وينحل الشعر لغيره ، وأما طعمة فارتد ، وأنه لما بين الأحكام الكثيرة عرف أنّ كلها من الله ، وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلباً لرضا قوم.
أو أنه لما أنه يجاهد الكفار ، أنه لا يجوز إلحاق ما لم يفعلوا بهم ، وأنّ كفره لا يبيح المسامحة في النظر إليه ، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل الله ، ولا يلحق به حيف لأجل أن يرضي المنافق.
والكتاب هنا القرآن.
ومعنى بالحق : أي لا عوج فيه ولا ميل.
والناس هنا عام ، وبما أراك الله بما أعلمك من الوحي.
وقيل : بالنظر الصحيح فإنه محروس في اجتهاده ، معصوم في الأقوال والأفعال.
وقيل : بما ألقاه في قلبك من أنوار المعرفة وصفاء الباطن.
وعن عمر : «لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله ، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه ، لأن الرأي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيباً ، لأن الله تعالى كان يريه إياه ، وهو منا الظن والتكليف دون الإهمال ، أو بماله عاقبة حميدة ، لأن ما ليس كذلك عبث وباطل».
وقال الماتريدي : بالحق أي : موافقاً لما هو الحق على العباد ، ولما لبعضهم على بعض ليعلموا بذلك ، أو بياناً لأمره.
وحق كائن ثابت وهو البعث والقيامة ، ليتزودوا له.
أو بما يحمل عليهم فاعله ، أو بالعدل والصدق على الأمن من التغيير والتبديل.
بما أراك الله : فيه دليل جواز اجتهاده ، واجتهاده كالنص ، لأن الله تعالى أخبر أنه يريه ذلك أو لا يريه غير الصواب انتهى كلامه.
{ ولا تكن للخائنين خصيماً } أي : مخاصماً ، كجليس بمعنى مجالس ، قاله : الزجاج والفارسي وغيرهما.
ويحتمل أن يكون للمبالغة من خصم ، والخائنون جمع.
فإنّ بني أبريق الثلاثة هم الذين نقبوا المشربة ، فظاهر إطلاق الجمع عليهم وإن كان وحده هو الرّجل الذي خان في الدرع أو سرقها ، فجاء الجمع باعتباره واعتبار من شهد له بالبراءة من قومه كأسيد بن عروة ومن تابعه ممن زكاه ، فكانوا شركاء له في الإثم ، خصوصاً من يعلم أنه هو السارق.

أو جاء الجمع ليتناول طعمة وكل من خان خيانته ، فلا يخاصم لخائن قط ، ولا يحاول عنه.
وخصيماً يحتاج متعلقاً محذوفاً أي البراء.
والبريء مختلف فيه حسب الاختلاف في السبب : أهو اليهودي الذي دفع إليه طعمة الدّرع وهو زيد بن السمين ، أو أبو مليك الأنصاري؟ وهو الذي ألقى طعمة الدرع في داره لما خاف الافتضاح ، أو لبيد بن سهل؟ وقال يحيى بن سلام : وكان يهودياً.
وذكر المهدوي أنه كان مسلماً.
وأدخله أبو عمرو بن عبد البر في كتاب الصحابة ، فدل على إسلامه كما ذكر المهدوي.
ولما نزلت هذه الآيات هرب طعمة إلى مكة وارتد ، ونزل على سلافة فرماها حسان به في شعر قاله ومنه :
وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت . . .
ينازعها جلد استها وتنازعه
ظننتم بأن يخفي الذي قد صنعتمو . . .
وفينا نبي عنده الوحي واضعه
فأخرجته ورمت رحله خارج المنزل وقالت : ما كنت تأتيني بخير أهديت لي شعر حسان ، فنزل على الحجاج بن علاط وسرقه فطرده ، ثم نقب بيتاً ليسرق منه فسقط الحائط عليه فمات.
وقيل : اتبع قوماً من العرب فسرقهم فقتلوه.
{ واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً } أي : استغفر لأمتك المذنبين المتخاصمين بالباطل.
قال الزمخشري : واستغفر الله مما هممت به من عقاب اليهودي.
وقال الطبري والزجاج : واستغفر الله أي من ذنبك في خصامك لأجل الخائنين.
قال ابن عطية : وهذا ليس بذنب ، لأنه عليه السلام إنما دافع على الظاهر وهو يعتقد برائتهم انتهى.
وقيل : هو أمر بالاستغفار على سبيل التسبيح من غير ذنب أو قصد توبة ، كما يقول الرجل : استغفر الله.
وقيل : الخطاب صورة للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد بنو أبيرق.
وقيل : المعنى واستغفر الله مما هممت به قبل النبوّة.
{ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } هذا عام يندرج فيه أصحاب النازلة ويتقرر به توبيخهم.
واختيان الأنفس هو مما يعود عليها من العقوبة في الآخرة والدنيا ، كما جاء نسبة ظلمهم لأنفسهم.
والنهي عن الشيء لا يقتضي أن يكون المنهى ملابساً للمنهى عنه.
وروى العوفي عن ابن عباس : أن الرسول صلى الله عليه وسلم خاصم عن طعمة ، وقام يعذر خطيباً.
وروى قتادة وابن جبير : أنه همّ بذلك ولم يفعله.
{ إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً } أتى بصيغة المبالغة في الخيانة والإثم ليخرج منه من وقع منه المرة ، ومن صدرت منه الخيانة على سبيل الغفلة وعدم القصد.
وفي صفتي المبالغة دليل على إفراط طعمة في الخيانة وارتكاب المآثم.
وقيل : إذا عثرت من رجل سيئة فاعلم أنّ لها أخوات.
وعن عمر أنه أمر بقطع يد سارق ، فجاءت أمه تبكي وقالت : هذه أوّل سرقة سرقها فاعف عنه فقال : كذبت إنّ الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة.

وتقدمت صفة الخيانة على صفة المآثم ، لأنها سبب للإثم خان فأثم ، ولتواخي الفواصل.
{ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول } الضمير في يستخفون الظاهر : أنه يعود على الذين يختانون ، وفي ذلك توبيخ عظيم وتقريع ، حيث يرتكبون المعاصي مستترين بها عن الناس إنْ اطلعوا عليها ، ودخل معهم في ذلك من فعل مثل فعلهم.
وقيل : الضمير يعود على الصنف المرتكب للمعاصي ، ويندرج هؤلاء فيهم ، وهم أهل الخيانة المذكورة والمتناصرون لهم.
وقيل : يعود على من باعتبار المعنى ، وتكون الجملة نعتاً.
وهو معهم أي : عالم بهم مطلع عليهم ، لا يخفى عنه تعالى شيء من أسرارهم ، وهي جملة حالية.
قال الزمخشري : وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم عليه من قلة الحياء والخشية من ربهم ، مع علمهم إن كانوا مؤمنين أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة ، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح انتهى.
وهذا كقول الشاعر :
يا للعجاج لمن يعصي ويزعم إذ . . .
قد آمنوا بالذي جاءت به الرسل
أتى بجامع إيمان لمعصية . . .
كلا أماني كذب ساقها الأمل
أي أن المعصية كلا أماني كذب ساقها الأمل الاستخفاء : الاستتار.
وقال ابن عباس : الاستحياء استحى فاستخفى ، إذ يبيتون ما لا يرضى من القول الذي رموا به البريء ، ودافعوا به عن السارق.
والعامل في إذ العامل في معهم ، وتقدّم الكلام في التبييت.
{ وكان الله بما يعملون محيطاً } كناية عن المبالغة في العلم.
ولما كانت قصة طعمة جمعت بين عمل وقول : جاء وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً ، فنبه على أنه عالم بأقوالهم وأعمالهم.
وتضمن ذلك الوعيد الشديد والتقريع البالغ ، إذ كان تعالى محيطاً بجميع الأقوال والأعمال ، فكان ينبغي أن تستر القبائح عنه بعدم ارتكابها.
{ ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أمّن يكون عليهم وكيلاً } تقدم الكلام على ها أنتم هؤلاء ، وعلى الجملة بعدها قراءة وإعراباً في سورة آل عمران والخطاب للذين يتعصبون لأهل الريب والمعاصي ، ويندرج في هذا العموم أهل النازلة.
والأظهر أن يكون ذلك خطاباً للمتعصبين في قصة طعيمة ، ويندرج فيه مَن عمل عملهم.
ويقوي ذلك أنَّ هؤلاء إشارة إلى حاضرين.
وقرأ عبد الله عنه في الموضعين أي : عن طعمة.
وفي قوله : فمن يجادل الله عنهم ، وعيد محض أي : أنّ الله يعلم حقيقة الأمر ، فلا يمكن أن يلبس عليه بجدال ولا غيره.
ومعنى هذا الاستفهام النفي أي : لا أحد يجادل الله عنهم يوم القيامة إذا حل بهم عذابه.

والوكيل : الحافظ المحامي ، والذي يكل الإنسان إليه أموره.
وهذا الاستفهام معناه النفي أيضاً ، كأنه قال : لا أحد يكون وكيلاً عليهم فيدافع عنهم ويحفظهم.
وهاتان الجملتان انتفى في الأولى منهما المجادلة ، وهي المدافعة بالفعل والنصرة بالقوة.
{ ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً } الظاهر أنهما غير أنّ عمل السوء القبيح الذي يسوء غيره ، كما فعل طعمة بقتادة واليهودي.
وظلم النفس ما يختص به كالحلف الكاذب.
وقيل : ومن يعمل سوءاً من ذنب دون الشرك ، أو يظلم نفسه بالشرك انتهى.
وقيل : السوء الذنب الصغير ، وظلم النفس الذنب الكبير.
وقال أبو عبد الله الرازي : وخص ما يبدي إلى الغير باسم السوء ، لأن ذلك يكون في الأكثر لا يكون ضرراً حاضراً ، لأنّ الإنسان لا يوصل الضرر إلى نفسه.
وقيل : السوء هنا السرقة.
وقيل : الشرك.
وقيل : كل ما يأثم به.
وقيل : ظلم النفس هنا رمي البريء بالتهمة.
وقيل : ما دون الشرك من المعاصي.
وقال ابن عطية : هما بمعنى واحد تكرر باختلاف لفظ مبالغة.
والظاهر تعليق الغفران والرحمة للعاصي على مجرد الاستغفار وأنه كاف ، وهذا مقيد بمشيئة الله عند أهل السنة.
وشرط بعضهم مع الاستغفار التوبة ، وخص بعضهم ذلك بأنْ تكون المعصية مما بين العبد وبين ربه ، دون ما بينه وبين العبيد.
وقيل : الاستغفار التوبة.
وفي لفظة : يجد الله غفوراً رحيماً ، مبالغة في الغفران.
كأنّ المغفرة والرحمة معدَّان لطالبهما ، مهيآن له متى طلبهما وجدهما.
وهذه الآية فيها لطف عظيم ووعد كريم للعصاة إذا استغفروا الله ، وفيها تطلب توبة بني أبيرق والذابين عنهم واستدعاؤهم لها.
وعن ابن مسعود : أنها من أرجى الآيات.
{ ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً حكيماً } الإثم : جامع للسوء وظلم النفس السابقين والمعنى : أنّ وبال ذلك لاحق له لا يتعدّاه إلى غيره ، وهو إشارة إلى الجزاء اللاحق له في الآخرة.
وختمها بصفة العلم ، لأنه يعلم جميع ما يكسب ، لا يغيب عنه شيء من ذلك.
ثم بصفة الحكمة لأنه واضع الأشياء مواضعها فيجازى على ذلك الإثم بما تقتضيه حكمته.
فالصفتان أشارتا إلى علمه بذلك الإثم ، وإلى ما يستحق عليه فاعله.
وفي لفظة : على ، دلالة استعلاء الإثم عليه ، واستيلائه وقهره له.
{ ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً } قيل : نزلت في طعمة بن أبيرق حين سرق الدرع ورماها في دار اليهودي.
وروى الضحاك عن ابن عباس : أنها نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول ، إذ رمى عائشة بالإفك.
وظاهر العطف بأو المغايرة ، فقيل : الخطيئة ما كان عن غير عمد.
والإثم : ما كان عن عمد ، والصغيرة والكبيرة ، أو القاصر على فعل والمتعدي إلى غيره.
وقيل : الخطيئة سرقة الدرع ، والإثم يمينه الكاذبة.

وقال ابن السائب : الخطيئة يمين السارق الكاذبة ، والإثم سرقة الدرع ، ورمى اليهودي به.
وقال الطبري : الخطيئة تكون عن عمد وغير عمد ، والإثم لا يكون إلا عن عمد.
وقيل : هما لفظان بمعنى واحد ، كرّرا مبالغة.
والضمير في : به ، عائد على الإثم ، والمعطوف بأو يجوز أن يعود الضمير على المعطوف عليه كقوله : انفضوا إليها وعلى المعطوف كهذا.
وتقدم الكلام في ذلك بأشبع من هذا.
وقيل : يعود على الكسب المفهوم من يكسب.
وقيل : على المكسوب.
وقيل : يعود على أحد المذكورين الدال عليه العطف بأو ، كأنه قيل : ثم يرم بأحد المذكورين.
وقيل : ثم محذوف تقديره : ومن يكسب خطيئة ثم يرم به بريئاً أو إثماً ثم يرم به بريئاً ، وهذه تخاريج من لم يتحقق بشيء من علم النحو.
والبريء المتهم بالذنب ولم يذنب.
ومعنى : فقد احتمل بهتاناً ، أي برميه البريء ، فإنه يبهته بذلك ، وإثماً مبيناً أي : ظاهراً لكسبه الخطيئة أو الإثم.
والمعنى : أنه يستحق عقابين : عقاب الكسب ، وعقاب البهت.
وقدم البهت لقربه من قوله : ثم يرم به بريئاً ، ولأنه ذنب أفظع من كسب الخطيئة أو الإثم.
ولفظ احتمل أبلغ من حمل ، لأنّ افتعل فيه للتسبب كاعتمل.
ويحتمل أن يكون افتعل فيه كالمجرد كما قال : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ } فيكون كقدر واقتدر.
لما كان الوزر يوصف بالفعل ، جاء ذكر الحمل والاحتمال وهو استعارة.
جعل المجني كالجرم المحمول.
ولفظة : ومَن تدل على العموم ، فلا ينبغي أن تخصّ ببني أبيرق ، بل هم مندرجون فيها.
وقرأ معاذ بن جبل : ومن يكِسّب بكسر الكاف وتشديد السين ، وأصله : يكتسب.
وقرأ الزهري : خطية بالتشديد.
{ ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء } الظاهر : أنّ الضمير في منهم عائد على بني ظفر المجادلين والذابين عن بني أبيرق.
أي : فلولا عصمته وإيحاؤه إليك بما كتموه ، لهموا بإضلالك عن القضاء بالحق وتوخي طريق العدل ، مع علمهم بأنّ الجاني هو صاحبهم.
فقد روي أنّ ناساً منهم كانوا يعلمون حقيقة القصة ، هذا فيه بعض كلام الزمخشري ، وهو قول ابن عباس من رواية السائب : أنها متعلقة بقصة طعمة وأصحابه ، حيث لبسوا على الرسول أمر صاحبهم.
وروى الضحاك عن ابن عباس : أنها نزلت في وفد ثقيف قدموا على الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا : جئناك نبايعك على أنْ لا نحشر ولا نعشر ، وعلى أن تمتعنا بالعزى سنة ، فلم يجبهم فنزلت.
وقال ابن عطية : وفق الله نبيه على مقدار عصمته له ، وأنها بفضل من الله ورحمته.
وقوله تعالى : لهمت معناه لجعلته همها وشغلها حتى تنفذه ، وهذا يدل على أنّ الألفاظ عامة في غير أهل النازلة ، وإلا فأهل الغضب لبني أبيرق ، وقد وقع همهم وثبت.
والمعنى : ولولا عصمة الله لك لكان في الناس من يشتغل بإضلالك ويجعله همّ نفسه ، كما فعل هؤلاء ، لكن العصمة تبطل كيد الجمع انتهى.

والظاهر القول الأول كما ذكرنا ، إلا أن الهمّ يحتاج إلى قيد أي : لهمت طائفة منهم هما يؤثر عندك.
ولا بد من هذا القيد ، لأنهم هموا حقيقة أعني : المجادلين عن بني أبيرق ، أو يخصّ الضلال عن الدين فإنّ الهم بذلك أي : لهموا بإضلالك عن شريعتك ودينك ، وعصمة الله إياك منعتهم أن يخطروا ذلك ببالهم.
وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء أي : وبال ما أقدموا عليه من التعاون على الإثم والبهت ، وشهادة الزور ، إنما هو يخصهم.
وما يضرونك من شيء مِن تدل على العموم نصاً أي : لا يضرونك قليلاً ولا كثيراً.
قال القفال : وهذا وعد بالعصمة في المستقبل.
{ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة } الكتاب : هو القرآن.
والحكمة تقدّم تفسيرها والمعنى : إنّ من أنزل الله عليه الكتاب والحكمة وأهله لذلك ، وأمره بتبليغ ذلك ، هو معصوم من الوقوع في الضلال والشبه.
{ وعلمك ما لم تكن تعلم } قال ابن عباس ومقاتل : هو الشرع.
وقال أبو سليمان الدمشقي : أخبار الأولين والآخرين.
وذكر الماوردي : الكتاب والحكمة ، وذكر أيضاً مقدار نفسك النفيسة.
وقيل : خفيات الأمور ، وضمائر الصدور التي لا يطلع عليها إلا بوحي.
وقال القفال : يحتمل وجهين : أحدهما : أن يُراد ما يتعلق بالدين كما قال تعالى : { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } وعلى هذا التقدير : وأطلعك على أسرار الكتاب والحكمة ، وعلى حقائقهما ، مع أنك ما كنت عالماً بشيء ، فكذلك بفعل بك في مستأنف أيامك ، لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك ولا على استزلالك.
الثاني : ما لم تكن تعلم من أخبار القرون السالفة ، فكذلك يعلمك من حيل المنافقين وكيدهم ما لا يقدر على الاحتراز منه انتهى.
وفيه بعض تلخيص.
والظاهر العموم ، فيشمل جميع ما ذكروه.
فالمعنى : الأشياء التي لم تكن تعلمها.
لولا إعلامه إياك إياها.
{ وكان فضل الله عليك عظيماً } قيل : المنة بالإيمان.
وقال أبو سليمان : هو ما خصه به تعالى.
وقال أبو عبدالله الرازي : هذا من أعظم الدلائل على أنّ العلم أشرف الفضائل والمناقب.
وذلك أنّ الله تعالى ما أعطى الخلق من العلم إلا قليلاً ، ونصيب الشخص من علوم الخلائق يكون قليلاً ، ثم إنه سمى ذلك القليل عظيماً.
وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبيان والبديع.
منها الاستعارة في : وإذا ضربتم في الأرض ، وفي : فيميلون استعار الميل للحرب.
والتكرار في : جناح ولا جناح لاختلاف متعلقهما ، وفي : فلتقم طائفة : ولتأت طائفة ، وفي : الحذر والأسلحة ، وفي : الصلاة ، وفي : تألمون ، وفي : اسم الله.
والتجنيس المغاير في : فيميلون ميلة ، وفي : كفروا إن الكافرين ، وفي : تختانون وخواناً ، وفي : يستغفروا غفوراً.
والتجنيس المماثل في : فأقمت فلتقم ، وفي : لم يصلوا فليصلوا ، وفي : يستخفون ولا يستخفون ، وفي : جادلتم فمن يجادل ، وفي : يكسب ويكسب ، وفي : يضلوك وما يضلون ، وفي : وعلمك وتعلم.

قيل : والعام يراد به الخاص في : فإذا قضيتم الصلاة ظاهره العموم ، وأجمعوا على أن المراد بها صلاة الخوف خاصة ، لأن السياق يدل على ذلك ، ولذلك كانت أل فيه للعهد انتهى.
وإذا كانت أل للعهد فليس من باب العام المراد به الخاص ، لأن أل للعموم وأل للعهد فهما قسيمان ، فإذا استعمل لأحد القسيمين فليس موضوعاً للآخر.
والإبهام في قوله : بما أراك الله وفي : ما لم تكن تعلم.
وخطاب عين ويراد به غيره وفي : ولا تكن للخائنين خصيماً فإنه صلى الله عليه وسلم محروس بالعصمة أن يخاصم عن المبطلين.
والتتميم في قوله : وهو معهم للإنكار عليهم والتغليظ لقبح فعلهم لأن حياء الإنسان ممن يصحبه أكثر من حيائه وحده ، وأصل المعية في الإجرام ، والله تعالى منزه عن ذلك ، فهو مع عبده بالعلم والإحاطة.
وإطلاق وصف الإجرام على المعاني فقد احتمل بهتاناً.
والحذف في مواضع.

لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)

النجوى مصدر كالدعوى يقال : نجوت الرجل أنجوه نجوى إذا ناجيته.
قال الواحدي : ولا تكون النجوى إلا بين اثنين.
وقال الزجاج : النجوى ما انفرد به الجماعة ، أو الإثنان سرّاً كان وظاهراً انتهى.
وقال ابن عطية : المسارة ، وتطلق النجوى على القوم المتناجين ، وهو من باب قوم عدل وصف بالمصدر.
وقال الكرماني : نجوى جمع نجي ، وتقدم الكلام في هذه المادة ، وتكرر هنا لخصوصية البنية.
مريد من مرد ، عتا وعلا في الحذاقة ، وتجرد للشر والغواية.
وقال ابن عيسى : وأصله التملس ، ومن شجرة مرداء أي ملساء تناثر ورقها ، وغلام أمرد لا نبات بوجهه ، وصرح ممرد مملس لا يعلق به شيء لملاسته ، والمارد الذي لا يعلق بشيء من الفضائل.
البتك : الشق والقطع ، بتك يبتك ، وبتك للتكثير ، والبتك القطع واحدها بتكة.
قال الشاعر :
حتى إذا ما هوت كف الوليد لها . . .
طارت وفي كفه من ريشها بتك
محيص : مفعل من حاص يحيص ، زاع بنفور ومنه : فحاصوا حيصة حمر الوحش.
وقول الشاعر :
ولم ندر أن حصنا من الموت حيصة . . .
كم العمر باق والمدا متطاول
ويقال جاض بالجيم والضاد المعجمة والمحاص مثل المحيص.
قال الشاعر :
تحيص من حكم المنية جاهداً . . .
ما للرجال عن المنون محاص
وفي المثل : وقعوا في حيص بيص.
وحاص باص إذا وقع فيما لا يقدر على التخلص منه ، ويقال : حاص يحوص حوصاً وحياصاً إذا نفر وزايل المكان الذي فيه.
والحوص في العين ضيق مؤخرها.
الخليل : فعيل من الخلة ، وهي الفاقة والحاجة.
أو من الخلة وهي صفاء المودّة ، أو من الخلل.
قال ثعلب : سمى خليلاً لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللاً إلا ملأته.
وأنشد قول بشار :
قد تخللت مسلك الروح مني . . .
وبه سمي الخليل خليلا
{ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } الضمير في نجواهم عائد على قوم طعمة الذين تقدم ذكرهم قاله : ابن عباس وغيره.
وقال مقاتل : هم قوم من اليهود ناجوا قوم طعمة ، واتفقا معهم على التلبيس على الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر طعمة.
وقال ابن عطية : هو عائد على الناس أجمع.
وجاءت هذه الآيات عامة فاندرج أصحاب النازلة وهم قوم طعمة في ذلك العموم ، وهذا من باب الإيجاز والفصاحة ، لكون الماضي والمغاير تشملهما عبارة واحدة انتهى.
وهذا الاستثناء منقطع إن كان النجوى مصدراً ، ويمكن اتصاله على حذف مضاف أي : إلا نجوى من أمر ، وقاله : أبو عبيدة.
وإن كان النجوى المتناجين قيل : ويجوز في : مِن الخفض من وجهين : أن يكون تابعاً لكثير ، أو تابعاً للنجوى ، كما تقول : لا خير في جماعة من القوم إلا زيد إن شئت اتبعت زيد الجماعة ، وإن شئت اتبعته القوم.

ويجوز أن يكون مِن أمر مجروراً على البدل من كثير ، لأنه في حيز النفي ، أو على الصفة.
وإذا كان منقطعاً فالتقدير : لكن مَن أمر بصدقة فالخير في نجواه.
ومعنى أمر : حث وحض.
والصدقة تشمل الفرض والتطوّع.
والمعروف عام في كل بر.
واختاره جماعة منهم : أبو سليمان الدمشقي ، وابن عطية.
فيندرج تحته الصدقة والاصلاح.
لكنهما جردا منه واختصا بالذكر اهتماماً ، إذ هما عظيما الغذاء في مصالح العباد.
وعطف بأو فجعلا كالقسم المعادل مبالغة في تجريدهما ، حتى صار القسم قسيماً.
وقيل : المعروف الفرض.
روي ذلك عن ابن عباس ومقاتل.
وقيل : إغاثة الملهوف.
قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالصدقة الواجب ، وبالمعروف ما يتصدق به على سبيل التطوع انتهى.
وفي الحديث الصحيح : « كلُّ كلام ابن آدم عليه لا له إلا مَن كان أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو ذكر الله تعالى ».
وحدّث سفيان الثوري بهذا الحديث أقواماً فقال أحدهم : ما أشد هذا الحديث! فقال له : ألم تسمع كل معروف صدقة ، وإنّ من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلقٍ.
وقال الحطيئة :
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه . . .
لا يذهب العرف بين الله والناس
وظاهر قوله : أو إصلاح بين الناس ، أنه في كل شيء يقع فيه اختلاف ونزاع.
وقيل : هو خاص بالإصلاح بين طعمة واليهودي المذكورين.
قال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : ذكر ثلاثة أنواع ، لأن عمل الخير إما أن يكون بدفع المضرة وإليه الإشارة بقوله : أو إصلاح بين الناس.
أو بإيصال المنفعة إما جسمانياً وهو إعطاء المال ، وإليه الإشارة بقوله : بصدقة.
أو روحانياً وهو تكميل القوة النظرية بالعلوم ، أو القوة العملية بالأفعال الحسنة ، ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف ، وإليه الإشارة بقوله : أو معروف.
وقال الراغب : يقال لكل ما يستحسنه العقل ويعرفه معروف ، ولكل ما يستقبحه وينكره منكر.
ووجه ذلك أنه تعالى ركّز في العقول معرفة الخبر والشر ، وإليه أشار بقوله : { صبغة الله } { وفطرة الله } وعلى ذلك ما اطمأنت إليه النفس لمعرفتها به انتهى.
وهذه نزغة اعتزالية في أنّ العقل يحسن ويقبح.
وقيل : هذه الثلاثة تضمنت الأفعال الحسنة ، وبدأ بأكثرها نفعاً وهو إيصال النفع إلى الغير ، ونبه بالمعروف على النوافل التي هي من الإحسان والتفضل ، والإصلاح بين الناس على سياستهم ، وما يؤدي إلى نظم شملهم انتهى.
وقال عليه السلام : « ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة قيل : بلى يا رسول الله ، قال : صلاح ذات البين » وخصّ مَن أمر بهذه الأشياء ، وفي ضمن ذلك أنّ الفاعل أكثر استحقاقاً من الأمر ، وإذا كان الخير في نجوى الأمر به فلا يكون في من يفعله بطريق الأولى.
.
{ ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً } لما ذكر أن الخير في مَن أمر ذكر ثواب من فعل ، ويجوز أن يريد : ومن يأمر بذلك ، فيعبر بالفعل عن الأمر ، كما يعبر به عن سائر الأفعال.

وقرأ أبو عمرو وحمزة : يؤتيه بالياء ، والباقون بالنون على سبيل الالتفات ، ليناسب ما بعده من قوله : { نوله ما تولى ونصله } فيكون إسناد الثواب والعقاب إلى ضمير المتكلم العظيم ، وهو أبلغ من إسناده إلى ضمير الغائب.
ومن قرأ بالياء لحظ الاسم الغائب في قوله : ابتغاء مرضاة الله ، وفي قوله : ابتغاء مرضاة الله دليل على أنه لا يجزي من الأعمال إلا ما كان فيه رضا الله تعالى ، وخلوصه لله دون رياء ولا سمعة.
{ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً } نزلت في طعمة بن أبيرق لما فضحه الله بسرقته ، وبرّأ اليهودي ، ارتد وذهب إلى مكة وتقدّم ذلك موته وسببه.
ومما قيل فيه : إنه ركب في سفينة فسرق منها مالاً فعلم به ، فألقي في البحر.
وقيل : لما سرق الحجاج السلمي استحى الحجاج منه لأنه كان ضيفه فأطلقه ، فلحق بحيرة بني سليم فعبد صنماً لهم ومات على الشرك.
وقيل : نزلت في قوم طعمة قدموا فأسلموا ، ثم ارتدّوا.
وتقدم معنى المشاقة في قوله : { فإنما هم في شقاق } ومن يشاقق : عام فيندرج فيه طعمة وغيره من المشاقين من بعد ما تبين له الهدى : أي اتضح له الحق الذي هو سبب الهداية.
ولو لم يكن إلا إخبار الله نبيه عليه السلام بقصة طعمة وإطلاعه إياه على ما بيتوه وزوّروه ، لكان له في ذلك أعظم وازع وأوضح بيان ، وكان ذنب من يعرف الحق ويزيغ عنه أعظم من ذنب الجاهل ، لأنّ من لا يعرف الحق يستحق العقوبة لترك المعرفة ، لأن العمل لا يلزمه حتى يعرفه ، أو يعرفه من يصدقه.
والعالم يستحق العقوبة بترك استعمال ما يقتضيه معرفته ، فهو أعظم جرماً إذا اطلع على الحق وعمل بخلاف ما يقتضيه على سبيل العناد لله تعالى ، إذ جعل له نور يهتدي به.
وسبيل المؤمنين : هو الدين الحنيفي الذي هم عليه.
وهذه الجملة المعطوفة هي على سبيل التوكيد والتشنيع ، وإلا فمن يشاقق الرسول هو متبع غير سبيل المؤمنين ضرورة ، ولكنه بدأ بالأعظم في الإثم ، وأتبع بلازمه توكيداً.
واستدل الشافعي وغيره بهذه الآية على أن الإجماع حجة.
وقد طول أهل أصول الفقه في تقرير الدلالة منها ، وما يرد على ذلك وذلك مذكور في كتب أصول الفقه.
وقال الزمخشري : هو دليل على أنّ الإجماع حجة لا يجوز مخالفتها ، كما لا يجوز مخالفة الكتاب والسنة ، لأن الله تعالى جمع بين اتباع سبيل غير المؤمنين وبين مشاقة الرسول في الشرط ، وجعل جزاءه الوعيد الشديد ، فكان اتباعهم واجباً كموالاة الرسول انتهى كلامه.

وما ذكره ليس بظاهر الآية المرتب على وصفين اثنين ، لا يلزم منه أن يترتب على كل واحد منهما ، فالوعيد إنما ترتب في الآية على من اتصف بمشاقة الرسول واتباع سبيل غير المؤمنين ، ولذلك كان الفعل معطوفاً على الفعل ، ولم يعد معه اسم شرط.
فلو أعيد اسم الشرط وكان ، يكون ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ، ومن يتبع غير سبيل المؤمنين لكان فيه ظهور مّا على ما ادّعوا ، وهذا كله على تسليم أن يكون قوله : ويتبع غير سبيل المؤمنين مغايراً لقوله : ومن يشاقق الرسول.
وقد قلنا : إنه ليس بمغاير ، بل هو أمر لازم لمشاقة الرسول ، وذلك على سبيل المبالغة والتوكيد وتفظيع الأمر وتشنيعه.
والآية بعد هذا كله هي وعيد الكفار ، فلا دلالة على جزئيات فروع مسائل الفقه.
واستدل بهذه الآية على وجوب عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعلى أن كل مجتهد يسقط عنه الإثم.
ومعنى قوله : ما تولى قال ابن عطية : وعيد بأن يترك مع فاسد اختياره.
وقال الزمخشري : يجعله بالياء ، وما تولى من الضلالة بأن تخذله وتخلى بينه وبين ما اختار انتهى.
وهذا على منزعه الاعتزالي.
وقرىء : وتصله بفتح النون من صلاه.
وقرأ ابن أبي عيلة : يوله ويصله بالياء فيهما جرياً على قوله : فسوف يؤتيه بالياء ، وفي هاء نوله ونصله : الإشباع والاختلاس والإسكان وقرىء بها.
{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالاً بعيداً } تقدّم مثل تفسير هذه الآية ، ونزلت قيل : في طعمة.
وقيل : في نفر من قريش أسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين.
وقيل : في شيخ قال : لم أشرك بالله منذ عرفته ، إلا أنه كان يأتي ذنوباً ، وأنه ندم واستغفر ، إلا أنّ آخر ما تقدّم فقد افترى إثماً عظيماً ، وآخر هذه فقد ضل ضلالاً بعيداً ختمت كل آية بما يناسبها.
فتلك كانت في أهل الكتاب ، وهم مطلعون من كتبهم على ما لا يشكون في صحته من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، ووجوب اتباع شريعته ، ونسخها لجميع الشرائع ، ومع ذلك قد أشركوا بالله مع أن عندهم ما يدل على توحيد الله تعالى والإيمان بما نزل ، فصار ذلك افتراء واختلافاً مبالغاً في العظم والجرأة على الله.
وهذه الآية هي في ناس مشركين ليسوا بأهل كتب ولا علوم ، ومع ذلك فقد جاءهم بالهدى من الله ، وبان لهم طريق الرشد فأشركوا بالله ، فضلوا بذلك ضلالاً يستبعد وقوعه ، أو يبعد عن الصواب.
ولذلك جاء بعده : { إن يدعون من دونه إلا إناثاً } وجاء بعد تلك : { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } وقوله : { انظر كيف يفترون على الله الكذب } ولم يختلف أحد من المتأولين في أنّ المراد بهم اليهود ، وأن كان اللفظ عاماً.

ولما كان الشرك من أعظم الكبائر ، كان الضلال الناشىء عنه بعيداً عن الصواب ، لأن غيره من المعاصي وإن كان ضلالاً لكنه قريب من أن يراجع صاحبه الحق ، لأن له رأس مال يرجع إليه وهو الإيمان ، بخلاف المشرك.
ولذلك قال تعالى : { يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد } وناسب هنا ذكر الضلال لتقدم الهدى قبله { إن يدعون من دونه إلا إناثاً } المعنى : ما يعبدون من دون الله ويتخذونه إلهاً إلا مسميات تسمية الإناث.
وكنى بالدعاء عن العبادة ، لأنّ من عبد شيئاً دعاه عند حوائجه ومصالحه.
وكانوا يحلون الأصنام بأنواع الحلى ، ويسمونها أنثى وإناث ، جمع أنثى كرباب جمع ربى.
قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة : المراد الخشب والحجارة ، فهي مؤنثات لا تعقل ، فيخبر عنها كما يخبر عن المؤنث من الأشياء.
فيجيء قوله : إلا إناثاً ، عبارة عن الجمادات.
وقال أبو مالك والسدي وابن زيد وغيرهم : كانت العرب تسمي أصنامها بأسماء مؤنثة كاللات والعزى ومناة ونايلة.
ويردّ على هذا بأنها كانت تسمى أيضاً بأسماء مذكرة : كهبل ، وذي الخلصة.
وقال الضحاك وغيره : المراد ما كانت العرب تعتقده من تأنيث الملائكة وعبادتهم إياها ، فقيل لهم : هذا على إقامة الحجة من فاسد قولهم.
وقال الحسن : لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه يسمونه أنثى بني فلان ، وفي هذا تعبيرهم بالتأنيث لنقصه وخساسته بالنسبة للتذكير.
وقال الراغب : أكثر ما عبدته العرب من الأصنام كانت أشياء منفعلة غير فاعلة ، فبكتهم الله تعالى أنهم مع كونهم فاعلين من وجه يعبدون ما ليس هو إلا منفعلاً من كل وجه ، وعلى هذا نبه إبراهيم عليه السلام بقوله : { لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } وقرأ أبو رجاء : إنْ تدعون بالتاء على الخطاب ، ورويت عن عاصم.
وفي مصحف عائشة رضي الله عنها : إلا أوثاناً جمع وثن ، وهو الصنم.
وقرأ بذلك أبو السوار والهناي.
وقرأ الحسن : إلا أنثى على التوحيد.
وقرأ ابن عباس ، وأبو حيوة ، والحسن ، وعطاء ، وأبو العالية ، وأبو نهيك ، ومعاذ القاري : أنثاً.
قال الطبري : فيما حكى إناث كثمار وثمر.
وقال غيره : أنث جمع أنيث ، كغرير وغرر.
وقال المغربي : إلا إناثاً إلا ضعافاً عاجزين لا قدرة لهم ، يقال : سيف أنيث وميناثة بالهاء وميناث غير قاطع.
قال الشاعر :
فتخبرني بأن العقل عندي . . .
جراز لا أقل ولا أنيث
أنث في أمره لان ، والأنيث المخنث الضعيف من الرجال.
وقرأ سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء : إلا وثناً بفتح الواو والثاء من غير همزة.
وقرأ ابن المسيب ، ومسلم بن جندب ، ورويت عن ابن عباس ، وابن عمر ، وعطاء : الا أنثا ، يريدون وثناً ، فأبدل الهمزة واواً ، وخرج على أنه جمع جمع إذ أصله وثن ، فجمع على وثان كجمل وجمال ، ثم وثان على وثن كمثال ، ومثل وحمار وحمر.

قال ابن عطية : هذا خطأ ، لأن فعالاً في جمع فعل إنما هو للتكثير ، والجمع الذي هو للتكثير لا يجمع ، وإنما يجمع جموع التقليل ، والصواب أن يقال : وثن جمع وثن دون واسطة ، كأسد وأسد انتهى.
وليس قوله : وإنما يجمع جموع التقليل بصواب ، كامل الجموع مطلقاً لا يجوز أن تجمع بقياس سواء كانت للتكثير أم للتقليل ، نص على ذلك النحويون.
وقرأ أيوب السجستاني : الاوثنا بضم الواو والثاء من غير همزة ، كشقق.
وقرأت فرقة : الاثنا بسكون الثاء ، وأصله وثناً ، فاجتمع في هذا اللفظ ثماني قراءات : إناثاً ، وأنثى ، وأنثا ، وأوثاناً ، ووثناً ، ووثنا ، واثناً ، وأثنا.
{ وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً لعنه الله } المراد به إبليس قاله : الجمهور ، وهو الصواب ، لأن ما قاله بعد ذلك مبين أنه هو.
وقيل : الشيطان المعين بكل صنم : أفرد لفظاً وهو مجموع في المعنى الواحد يدل على الجنس.
قيل؛ كان يدخل في أجواف الأصنام فيكلم داعيها ، ويحتمل أن يكون لعنه الله صفة ، وأن يكون خبراً عنه.
وقيل : هو دعاء ، ولا يتعارض الحصران ، لأن دعاء الأصنام ناشىء عن دعائهم الشيطان ، لما عبدوا الشيطان أغراهم بعبادة الأصنام ، أو لاختلاف الدعاءين ، فالأول عبادة ، والثاني طواعية.
وقال ابن عيسى : هو مثل : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } يعني : أن نسبة دعائهم الأصنام هو على سبيل المجاز.
وأما في الحقيقة فهم يدعون الشيطان.
{ وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً } أي نصيباً واجباً اقتطعته لنفسي من قولهم : فرض له في العطاء ، وفرض الجند رزقهم.
والمعنى : لأستخلصنهم لغوايتي ، ولأخصنهم بإضلالي ، وهم الكفرة والعصاة.
قال ابن عطية : المفروض هنا معناه المنحاز ، وهو مأخوذ من الفرض ، وهو الحز في العود وغيره ، ويحتمل أن يريد واجباً أن اتخذه ، وبعث النار هو نصيب إبليس.
قال الحسن : من كل ألف تسعمائة وتسعون قالوا : ولفظ نصيب يتناول القليل فقط.
والنص إنّ أتباع إبليس هم الكثير بدليل : { لأحتنكن ذريته إلا قليلاً } { فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين } وهذا متعارض.
وأجيب أن التفاوت إنما يحصل في نوع البشر ، أما إذا ضممت أنواع الملائكة مع كثرتهم إلى المؤمنين كانت الكثرة للمؤمنين.
وأيضاً فالمؤمنون وإن كانوا قليلين في العدد ، نصيبهم عظيم عند الله تعالى.
والكفار والفساق وإن كانوا كثيرين فهم كالعدم.
انتهى تلخيص ما أحب به.
والذي أقول : إنّ لفظ نصيب لا يدل على القليل والكثير ، بدليل قوله : { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } الآية.
والواو : قيل عاطفة ، وقيل واو الحال.
{ ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرنَّ خلق الله } هذه خمسة أقسم إبليس عليها : أحدها : اتخاذ نصيب من عباد الله وهو اختياره إياهم.
والثاني : إضلالهم وهو صرفهم عن الهداية وأسبابها.
والثالث : تمنيته لهم وهو التسويل ، ولا ينحصر في نوع واحد ، لأنه يمني كل إنسان بما يناسب حاله من طول عمر وبلوغ وطر وغير ذلك ، وهي كلها أماني كواذب باطلة.

وقيل : الأماني تأخير التوبة.
وقيل : هي اعتقاد أن لا جنة ولا نار ، ولا بعث ولا حساب.
وقال الزمخشري : ولأمنينهم الأماني الباطلة من طول الأعمار ، وبلوغ الآمال ، ورحمة الله تعالى للمجرمين بغير توبة ، والخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة ، ونحو ذلك انتهى.
وهذا على منزعه الاعتزالي وولوعه بتفسير كتاب الله عليه من غير إشعار لفظ القرآن بما يقوله وينحله.
والرابع : أمره إياهم الناشىء عنه تبتيك آذان الأنعام ، وهو فعلهم بالبحائر كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن.
وجاء الخامس ذكرا وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها قاله : عكرمة ، وقتادة ، والسدي.
وقيل : فيه إشارة إلى كل ما جعله الله كاملاً بفطرته ، فجعل الإنسان ناقصاً بسوء تدبيره.
والخامس أمره إياهم الناشىء عنه تغيير خلق الله تعالى.
قال ابن عباس ، وابراهيم ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وغيرهم.
أراد تغيير دين الله ، ذهبوا في ذلك إلى الاحتجاج بقوله : { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } أي لدين الله.
والتبديل يقع موقعه التغيير ، وإن كان التغيير أعم منه.
ولفظ لا تبديل لخلق الله خبر ، ومعناه : النهي.
وقالت فرقة منهم الزجاج : هو جعل الكفار آلهة لهم ما خلق للاعتبار به من الشمس والنار والحجارة ، وغير ذلك مما عبدوه.
وقال ابن مسعود ، والحسن : هو الوشم وما جرى مجراه من التصنع للتحسين ، فمن ذلك الحديث في : « لعن الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات المغيرات خلق الله ولعن الواصلة والمستوصلة » انتهى.
وقال ابن عباس أيضاً وأنس ، وعكرمة ، وأبو صالح ، ومجاهد ، وقتادة أيضاً : هو الخصاء ، وهو في بني آدم محظور.
وكره أنس خصاء الغنم ، وقد رخص جماعة فيه لمنفعة السمن في المأكول ، ورخص عمر بن عبد العزيز في خصاء الخيل.
وقيل للحسن : إن عكرمة قال؛ هو الخصاء قال : كذب عكرمة ، هو دين الله تعالى.
وقيل : التخنث.
وقال الزمخشري : هو فقء عين الحامي وإعفاؤه عن الركوب انتهى.
وناسب هذا أنه ذكر أثر ذلك تبتيك آذان الأنعام ، فناسب أن يكون التغيير هذا.
وقيل : تغيير خلق الله هو أنَّ كل ما يوجده الله لفضيلة فاستعان به في رذيلة فقد غير خلقه.
وقد دخل في عمومه ما جعله الله تعالى للإنسان من شهوة الجماع ليكون سبباً للتناسل على وجه مخصوص ، فاستعان به في السفاح واللواط ، فذلك تغيير خلق الله.
وكذلك المخنث إذا نتف لحيته ، وتقنع تشبهاً بالنساء ، والفتاة إذا ترجلت متشبهة بالفتيان.
وكل ما حلله الله فحرموه ، أو حرمه تعالى فحللوه.
وعلى ذلك : { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاًً } وإلى هذه الجملة أشار المفسرون ، ولهذا قالوا : هو تغيير أحكام الله.

وقيل : هو تغيير الإنسان بالاستلحاق أو النفي.
وقيل : خضاب الشيب بالسواد.
وقيل : معاقبة الولاة بعض الجناة بقطع الآذان ، وشق المناخر ، وكل العيون ، وقطع الأنثيين.
ومن فسر بالوشم أو الخصاء أو غير ذلك مما هو خاص في التغيير ، فإنما ذلك على جهة التمثيل لا الحصر.
وفي حديث عياض المجاشعي : « وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإن الشياطين ألهتهم وأحالتهم عن دينهم ، فحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن لا يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ، وأمرتهم أن لا يغيروا خلقي ».
ومفعول أمر الثاني محذوف أي : ولآمرنهم بالتبتيك فيبتكن ، ولآمرنهم بالتغير فليغيرن.
وحذف لدلالة ما بعده عليه.
وقرأ أبو عمرو : ولآمرنهم بغير ألف ، كذا قاله ابن عطية.
وقرأ أبي : وأضلنهم وأمنينهم وآمرنهم انتهى.
فتكون جملاً مقولة ، لا مقسماً عليها.
وجاء ترتيب هذه الجمل المقسم عليها في غاية من الفصاحة ، بدأ أولاً باستخلاص الشيطان نصيباً منهم واصطفائه إياهم ، ثم ثانياً بإضلالهم وهو عبارة عما يحصل في عقائدهم من الكفر ، ثم ثالثاً بتمنيتهم الأماني الكواذب والإطماعات الفارغة ، ثم رابعاً بتبتيك آذان الأنعام ، هو حكم لم يأذن الله فيه ، ثم خامساً بتغيير خلق الله وهو شامل للتبتيك وغيره من الأحكام التي شرعها لهم.
وإنما بدأ بالأمر بالتبتيك وإن كان مندرجاً تحت عموم التغيير ، ليكون ذلك استدراجاً لما يكون بعده من التغيير العام ، واستيضاحاً من إبليس طواعيتهم في أول شيء يلقيه إليهم ، فيعلم بذلك قبولهم له.
فإذا قبلوا ذلك أمرهم بجميع التغييرات التي يريدها منهم ، كما يفعل الإنسان بمن يقصد خداعه : يأمره أولاً بشيء سهل ، فإذا رآه قد قبل ما ألقاه إليه من ذلك أمره بجميع ما يريد منه.
وإقسام إبليس على هذه الأشياء ليفعلنها يقتضي علم ذلك ، وأنها تقع إمّا لقوله تعالى.
{ لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } أو لكونه علم ذلك من جهة الملائكة ، أو لكونه لما استنزل آدم علم أن ذريته أضعف منه.
{ ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً } أي من يؤثر حظ الشيطان على حظه من الله.
وكأنه لما قال إبليس : لأتخذن من عبادك نصيباً ، فذكر أنه يصطفيهم لنفسه ، أخبر أنهم قبلوا ذلك الاتخاذ وانفعلوا له ، فاتخذوه ولياً من دون الله.
والوليّ هنا قال مقاتل : بمعنى الرب.
وقال أبو سليمان الدمشقي : من الموالاة ، ورتب على هذا الاتخاذ الخسران المبين ، لأن من ترك حظه من الله لحظ الشيطان فقد خسرت صفقته.
وقوله : من دون الله ، قيد لازم.
لأنه لا يمكن أن يتخذ الشيطان ولياً إلا إذا لم يتخذ الله ولياً ، ولا يمكن أن يتخذ الشيطان ولياً ويتخذ الله ولياً ، لأنهما طريقان متباينان ، لا يجتمعان هدى وضلالة.
وهذه الجملة الشرطية محذرة من اتباع الشيطان.
{ يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ } لفظان متقاربان والمعنى : أن الذي أقسم عليه مِن أن يمنيهم وقع بإخبار الله تعالى عنه بذلك ، واكتفى من الإخبار عن وقوع تلك الجمل التي أقسم عليها إبليس بوضوحها وظهورها.

ولما كان الوعد والتمنية من أمور الباطن ، أخبر الله عنه بها.
والمعنى : أنه يعدهم بالأمور الباطلة والزخارف الكاذبة ، وأنه لا ثواب ولا عقاب.
{ وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } قرأ الأعمش : وما يعدهم يسكون الدال ، خفف لتوالي الحركات.
وتقدّم تفسير الغرور ومعناه : هنا الخدع التي تظن نافعة ، ويكشف الغيب أنها ضارة.
واحتمل النصب أن يكون مفعولاً ثانياً ، أو مفعولاً من أجله ، أو مصدراً على غير الصدر لتضمين يعدهم معنى يغرهم ، ويكون ثم وصف محذوف أي : إلا غروراً واضحاً أو نحوه ، أو نعتاً لمصدر محذوف أي : وعداً غروراً.
أي : ذا غرور.
{ أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصاً } أخبر تعالى أنّ المكان الذي يأوون إليه ويستقرون فيه هو جهنم ، وأنهم لا يجدون عنها مراغاً يروغون إليه.
وعنها : لا يجوز أن تتعلق بمحذوف ، لأنها لا تتعدّى بعن ، ولا بمحيصا وإن كان المعنى عليه لأنه مصدر ، فيحتمل أن يكون ذلك تبييناً على إضماراً عني.
وجوزوا أن يكون حالاً من محيص ، فيتعلق بمحيص أي : كائناً عنها ، ولو تأخر لكان صفة.
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً } لما ذكر مأوى الكفار ، ذكر مأوى المؤمنين ، وأسند الفعل إلى نون العظمة ، اعتناء بأنه تعالى هو الذي يتولى إدخالهم الجنة وتشريفاً لهم.
وقرىء : سيدخلهم بالياء.
ولما رتب تعالى مصير مَن كان تابعاً لإبليس إلى النار لإشراكه وكفره وتغيير أحكام الله تعالى ، رتّب هنا دخول الجنة على الإيمان وعمل الصالحات.
{ وَعْدَ الله حَقّا } لما ذكر أنّ وعد الشيطان هو غرور باطل ، ذكر أنّ هذا الوعد منه تعالى هو الحق الذي لا ارتياب فيه ، ولا شك في إنجازه.
والذين مبتدأ ، وسيدخلهم الخبر.
ويجوز أن يكون من باب الاشتغال أي : وسندخل الذين آمنوا سندخلهم.
وانتصب وعد الله حقاً على أنه مصدر مؤكد لغيره ، فوعد الله مؤكداً لقوله : سيدخلهم ، وحقاً مؤكد لوعد الله.
{ ومن أصدق من الله قيلاً } القيل والقول واحد ، أي : لا أحد أصدق قولاً من الله.
وهي جملة مؤكدة أيضاً لما قبلها.
وفائدة هذه التواكيد المبالغة فيما أخبر به تعالى عباده المؤمنين ، بخلاف مواعيد الشيطان وأمانته الكاذبة المخلفة لأمانيه.
{ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } قال ابن عباس ، والضحاك ، وأبو صالح ، ومسروق ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم : الخطاب للأمة.
قال بعضهم : اختلفوا مع قوم من أهل الكتاب فقالوا : ديننا أقدم من دينكم.
وأفضل ، فنبينا قبل نبيكم.
وقال المؤمنون : كتابنا يقضي على الكتب ، ونبينا خاتم الأنبياء ، ونحو هذا من المحاورة فنزلت.
وقال مجاهد وابن زيد : الخطاب لكفار قريش ، وذلك أنهم قالوا : لن نبعث ولن نعذب ، وإنما هي حياتنا لنا فيها النعيم ، ثم لا عذاب.

وقالت اليهود : نحن أبناء الله وأحباؤه.
إلى نحو هذا من الأقوال كقولهم
{ لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } فرد الله تعالى على الفريقين.
وقال الزمخشري في ليس : ضمير وعد الله ، أي : ليس ينال ما وعد الله من الثواب بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب.
والخطاب للمسلمين ، لأنه لا يتمنى وعد الله إلا من آمن به ، ولذلك ذكر أهل الكتاب معهم لمشاركتهم لهم في الإيمان.
وعن الحسن : ليس الإيمان بالتمني ، ولكن ما وقر في القلب ، وصدقه العمل.
إنَّ قوماً ألهتم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم ، وقالوا : نحسن الظن بالله ، وكذبوا لو أحسنوا الظن به لأحسنوا العمل.
ويحتمل أن يكون الخطاب للمشركين لقولهم : إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيراً منهم وأحسن حالاً ، لأوتين مالاً وولداً إن لي عنده للحسنى.
وكان أهل الكتاب يقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ، ويعضده تقدم ذكر أهل الشرك انتهى.
وعلى هذه الأقوال وقع الاختلاف في اسم ليس ، وأقربها أنَّ الذي يعود الضمير عليه هو الوعد من أنه تعالى يدخلهم الجنة ، ويليه أن يعود على الإيمان المفهوم من قوله : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } كما ذهب إليه الحسن ، ثم إنه يعود على ما وقعت فيه محاورة المؤمنين وأهل الكتاب ، أو ما قالته قريش وأهل الكتاب على ما مر ذكره.
وقال الحوفي : اسم ليس مضمر فيها على معنى : ليس الثواب عن الحسنات ولا العقاب على السيئات بأمانيكم ، لأنّ الاستحقاق إنما يكون بالعمل ، لا بالأماني.
وقال أبو البقاء : ليس مضمر فيها ولم يتقدم له ذكر ، وإنما دل عليه سبب الآية ، وذلك أن اليهود والنصارى قالوا : نحن أصحاب الجنة.
وقال المشركون : لا نبعث.
فقال : ليس بأمانيكم أي : ليس ما ادعيتموه بأمانيكم.
وقرأ الحسن ، وأبو جعفر ، وشيبة بن نصاح ، والحكم ، والأعرج : بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ساكنة الياء ، جمع على فعالل ، كما يقال : قراقير وقراقر ، جمع قرقور.
{ من يعمل سوءاً يجز به } قال الجمهور : اللفظ عام ، والكافر والمؤمن مجازيان بالسوء يعملانه.
فمجازاة الكافر النار ، والمؤمن بنكبات الدنيا.
فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : لما نزلت قلت : يا رسول الله ما أشد هذه الآية جاءت قاصمة الظهر ، فقال صلى الله عليه وسلم : « إنما هي المصيبات في الدنيا » وقالت بمثل هذا التأويل عائشة رضي الله عنها.
وقال به : أبي بن كعب ، وسأله الربيع بن زياد عن معنى الآية وكأنه خافها فقال له : أي ما كنت أظنك إلا أفقه مما أرى ، ما يصيب الرجل خدش أو غيره إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر.

وخصص الحسن ، وابن زيد بالكفار يجازون على الصغائر والكبائر.
وقال الضحاك : يعني اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب ، ورأى هؤلاء أن الله تعالى وعد المؤمنين بتكفير السيئات.
وخصص السوء ابن عباس ، وابن جبير بالشرك.
وقيل : السوء عام في الكبائر.
{ ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً } روى ابن بكار عن ابن عامر ولا يجد بالرفع على القطع.
{ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة } مِن الأولى هي للتبعيض ، لأن كل واحد لا يتمكن من عمل كل الصالحات ، وإنما يعمل منها ما هو تكليفه وفي وسعه.
وكم مكلف لا يلزمه زكاة ولا حج ولا جهاد ، وسقطت عنه الصلاة في بعض الأحوال على بعض المذاهب.
وحكى الطبري عن قوم : أنّ من زائدة ، أي : ومن يعمل الصالحات.
وزيادة من في الشرط ضعيف ، ولا سيما وبعدها معرفة.
ومِن الثانية لتبيين الإبهام في : ومن يعمل.
وتقدم الكلام في أوفى قوله : { لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى } وهو مؤمن.
جملة حالية ، وقيد في عمل الإنسان لأنه لو عمل من الأعمال الصالحة ما عمل فلا ينفعه إلا إن كان مؤمناً.
قال الزمخشري : وإذا أبطل الله الأماني وأثبت أن الأمر كله معقود بالعمل الصالح وأن من أصلح عمله فهو الفائز ، ومن أساء عمله فهو الهالك ، تبين الأمر ووضح ، ووجب قطع الأماني وحسم المطامع ، والإقبال على العمل الصالح ، ولكنه نصح لا تعيه الآذان ، ولا تلقى إليه الأذهان انتهى.
والذي تدل عليه الآية أن الإيمان شرط في الانتفاع بالعمل ، لأنّ العمل شرط في صحة الإيمان.
{ ولا يظلمون نقيراً } ظاهره : أنه يعود إلى أقرب مذكور وهم المؤمنون ، ويكون حكم الكفار كذلك.
إذ ذكر أحد الفريقين يدل على الآخر ، أنّ كلاهما يجزى بعمله ، ولأنّ ظلم المسيء أنه يزاد في عقابه.
ومعلوم أنه تعالى لا يزيد في عقاب المجرم ، فكان ذكره مستغنى عنه.
والمحسن له ثواب ، وتوابع للثواب من فضل الله هي في حكم الثواب ، فجاز أن ينقص من الفضل.
فنفي الظلم دلالة على أنه لا يقع نقص في الفضل.
ويحتمل أن يعود الضمير في : ولا يظلمون إلى الفريقين ، عامل السوء ، وعامل الصالحات.
وقرأ : يدخلون مبنياً للمفعول هنا ، وفي مريم ، وأوّلي غافر بن كثير وأبو عمر وأبو بكر.
وقرأ كذلك ابن كثير وأبو بكرفي ثانية غافر.
وقرأ كذلك أبو عمرو في فاطر.
وقرأ الباقون مبنياً للفاعل.
{ ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن } تقدم الكلام على نحوه في قولين من أسلم وجهه لله وهو محسن.
{ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً } تقدم الكلام على ملة إبراهيم حنيفاً في قوله : { قل بل ملة إبراهيم حنيفاً } واتباعه.
قال ابن عباس : في التوحيد.
وقال أبو سليمان الدمشقي : في القيام لله بما فرضه.

وقيل : في جميع شريعته إلا ما نسخ منها.
{ واتخذ الله إبراهيم خليلاً } هذا مجاز عن اصطفائه واختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله.
وتقدم اشتقاق الخليل في المفردات.
والجمهور : على أنها من الخلة وهي المودّة التي ليس فيها خلل.
وقول محمد بن عيسى الهاشمي : إنه إنما سمي خليلاً لأنه تخلى عما سوى خليله.
فإن كان فسر المعنى فيمكن ، وإن كان أراد الاشتقاق فلا يصح لاختلاف المادتين.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يا جبريل بمَ اتخذ الله ابراهيم خليلاً؟ قال : لإطعامه الطعام » والكرامة التي أكرمه الله بها ذكروها في قصة مطولة عن ابن عباس مضمونها : أن الله قلب له غرائر الرمل دقيقاً حواري عجن ، وخبز وأطعم الناس منه.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اتخذ الله ابراهيم خليلاً وموسى نجياً واتخذني حبيباً ثم قال : وعزتي وجلالي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجييّ » لما أثنى على من اتبع ملة ابراهيم أخبر بمزيته عنده واصطفائه ، ليكون ذلك أدعى إلى اتباعه.
لأن من اختصه الله بالخلة جدير بأن يتبع أو ليبين أن تلك الخلة إنما سببها حنيفية ابراهيم عن سائر الأديان إلى دين الحق كقوله : { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً } أي قدوة لإتمامك تلك الكلمات.
ونبه بذلك على أنّ من عمل بشرعه كان له نصيب من مقامه.
وليست هذه الجملة معطوفة على الجملة قبلها ، لأن الجملة قبلها معطوفة على صلة مَن ، ولا تصلح هذه للصلة ، وإنما هي معطوفة على الجملة الاستفهامية التي معناها الخبر ، أي : لا أحد أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله ، نبهت على شرف المنبع وفوز المتبع.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما موقع هذه الجملة؟ ( قلت ) : هي جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم : والحوادث جمة ، وفائدتها تأكيد وجوب اتباع ملته ، لأن من بلغ من الزلفى عند الله أن اتخذه خليلاً كان جديراً بأن تتبع ملته وطريقته انتهى.
فإن عنى بالاعتراض غير المصطلح عليه في الضوء فيمكن أن يصح قوله ، كأنه يقول : اعترضت الكلام.
وإن عنى بالاعتراض المصطلح عليه فليس بصحيح ، إذ لا يعترض إلا بين مفتقرين كصلة وموصول ، وشرط وجزاء ، وقسم ومقسم عليه ، وتابع ومتبوع ، وعامل ومعمول ، وقوله : كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم : والحوادث جمة ، فالذي نحفظه أن مجيء الحوادث جمة إنما هو بين مفتقرين نحو قوله :
وقد أدركتني والحوادث جمة . . .
أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل
ونحو قال الآخر :
ألا هل أتاها والحوادث جمة . . .
بأن أمرأ القيس بن تملك بيقرا
ولا نحفظه جاء آخر كلام.
{ ولله ما في السموات وما في الأرض } لما تقدم ذكر عامل السوء وعامل الصالحات ، أخبر بعظيم ملكه.

وملكه بجميع ما في السموات ، وما في الأرض ، والعالم مملوك له ، وعلى المملوك طاعة مالكه.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لما ذكرناه ، ولما تقدم ذكر الخلة ، فذكر أنه مع الخلة عبد الله ، وأن الخلة ليست لاحتياج ، وإنما هي خلة تشريف منه تعالى لابراهيم عليه السلام مع بقائه على العبودية.
{ وَكَانَ الله بِكُلّ شَىْء مُّحِيطاً } أي : عالماً بكل شيء من الجزئيات والكليات ، فهو يجازيهم على أعمالهم خيرها وشرها ، قليلها وكثيرها.
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع.
منها التجنيس المغاير في : فقد ضل ضلالاً ، وفي : فقد خسر خسراناً ، وفي : ومن أحسن وهو محسن.
والتكرار في : لا يغفر ويغفر ، وفي : يشرك ومن يشرك ، وفي : لآمرنهم ، وفي : اسم الشيطان ، وفي : يعدهم وما يعدهم ، وفي : الجلالة في مواضع ، وفي : بأمانيكم ولا أماني ، وفي : من يعمل ومن يعمل ، وفي : ابراهيم.
والطباق المعنوي في : ومن يشاقق والهدى ، وفي : أن يشرك به ولمن يشاء يعني المؤمن ، وفي : سواء والصالحات.
والاختصاص في : بصدقة أو معروف أو إصلاح ، وفي : وهو مؤمن ، وملة ابراهيم ، وفي : ما في السموات وما في الأرض.
والمقابلة في : من ذكر أو أنثى.
والتأكيد بالمصدر في : وعد الله حقاً.
والاستعارة في : وجهه لله عبر به عن القصد أو الجهة وفي : محيطاً عبر به عن العلم بالشيء من جميع جهاته.
والحذف في عدة مواضع.

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)

الشح : قال ابن فارس البخل مع الحرص.
وتشاح الرجلان في الأمر لا يريدان أن يفوتهما ، وهو بضم الشين وكسرها.
وقال ابن عطية : الشح الضبط على المعتقدات والإرادة ، ففي الهمم والأموال ونحو ذلك مما أفرط فيه ، وفيه بعض المذمة.
وما صار إلى حيز الحقوق الشرعية وما تقتضيه المروءة فهو البخل ، وهو رذيلة.
لكنها قد تكون في المؤمن ومنه الحديث : " قيل : يا رسول الله ، أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال : نعم " وأما الشح ففي كل أحد ، ويدل عليه : { وأحضرت الأنفس الشح } و { من يوق شح نفسه } لكل نفس شحاً وقول النبي عليه السلام : " أن تصدق وأنت صحيح شحيح " ولم يرد به واحداً بعينه ، وليس بحمد أن يقال هنا إن تصدق وأنت صحيح بخيل.
المعلقة : هي التي ليست مطلقة ولا ذات بعل.
قال الرجل : هل هي إلا خطة ، أو تعليق ، أو صلف ، أو بين ذاك تعليق.
وفي حديث أم زرع : زوجي العشنق إن انطق أطلق ، وإن أسكت أعلق» شبهت المرأة بالشيء المعلق من شيء ، لأنه لا على الأرض استقر ، ولا على ما علق منه.
وفي المثل : أرض من المركب بالتعليق.
الخوض : الاقتحام في الشيء تقول : خضت الماء خوضاً وخياضاً ، وخضت الغمرات اقتحمتها ، وخاضه بالسيف حرّك سيفه في المضروب ، وتخاوضوا في الحديث تفاوضوا فيه ، والمخاضة موضع الخوض.
قال الشاعر وهو عبد الله بن شبرمة :
إذا شالت الجوزاء والنجم طالع . . .
فكل مخاضات الفرات معابر
والخوضة بفتح الخاء اللؤلؤة ، واختاض بمعنى خاض وتخوض ، تكلف الخوض.
الاستحواذ : الاستيلاء والتغلب قاله : أبو عبيدة والزجاج.
ويقال : حاذ يحوذ حوذاً وأحاذ ، بمعنى مثل حاذ وأحاذ.
وشدت هذه الكلمة فصحت عينها في النقال ، قاس عليها أبو زيد الأنصاري.
{ ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهنّ } سبب نزولها : أنّ قوماً من الصحابة رضي الله عنهم سألوا عن أمر النساء وأحكامهنّ في المواريث وغير ذلك.
وأما مناسبتها فكذلك على تربيع العرب في كلامها أنها تكون في أمر ثم ، تخرج منه إلى شيء ، ثم تعود إلى ما كانت فيه أولاً.
وهكذا كتاب الله يبين فيه أحكام تكليفه ، ثم يعقب بالوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، ثم يعقب ذلك بذكر المخالفين المعاندين الذين لا يتبعون تلك الأحكام ، ثم بما يدل على كبرياء الله تعالى وجلاله ، ثم يعاد لتبيين ما تعلق بتلك الأحكام السابقة.
وقد عرض هنا في هذه السورة أنْ بدأ بأحكام النساء والمواريث ، وذكر اليتامى ، ثم ثانياً بذكر شيء من ذلك في هذه الآية ، ثم أخيراً بذكر شيء من المواريث أيضاً.
ولما كانت النساء مطرحاً أمرهنّ عند العرب في الميراث وغيره ، وكذلك اليتامى أكد الحديث فيهنّ مراراً ليرجعوا عن أحكام الجاهلية.

والاستفتاء طلب الإفتاء ، وأفتاه إفتاء وفتيا وفتوى ، وأفتيت فلاناً في رؤياه عبرتها له.
ومعنى الإفتاء إظهار المشكل على السائل.
وأصله من الفتى وهو الشاب الذي قوي وكمل ، فالمعنى : كأنه بيان ما أشكل فيثبت ويقوى.
والاستفتاء ليس في ذوات النساء ، وإنما هو عن شيء من أحكامهن ، ولم يبين فهو مجمل.
ومعنى يفتيكم فيهن : يبين لكم حال ما سألتم عنه وحكمه.
{ وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان } ذكروا في موضع ما من الإعراب : الرفع ، والنصب ، والجر ، فالرفع ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون معطوفاً على اسم الله أي : الله يفتيكم ، والمتلو في الكتاب في معنى اليتامى.
قال الزمخشري : يعني قوله : { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى } وهو قوله أعجبني زيد وكرمه انتهى.
والثاني : أن يكون معطوفاً على الضمير المستكن في يفتيكم ، وحسن الفصل بينهما بالمفعول والجار والمجرور.
الثالث : أن يكون ما يتلى مبتدأ ، وفي الكتاب خبره على أنها جملة معترضة.
والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ تعظيماً للمتلو عليهم ، وأن العدل والنصفة في حقوق اليتامى من عظائم الأمور المرفوعة الدرجات عند الله التي يجب مراعاتها والمحافظة عليها ، والمخل ظالم متهاون بما عظمه الله.
ونحوه في تعظيم القرآن وأنه { في أم الكتاب لدينا لعليّ حكيم } وقيل في هذا الوجه : الخبر محذوف ، والتقدير : وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء لكم أو يفتيكم ، وحذف لدلالة ما قبله عليه.
وعلى هذا التقدير يتعلق في الكتاب بقوله : يتلى عليكم ، أو تكون في موضع الحال من الضمير في يتلى ، وفي يتامى بدل من في الكتاب.
وقال أبو البقاء في الثانية : تتعلق بما تعلقت به الأولى ، لأن معناها يختلف ، فالأولى ظرف ، والثانية بمعنى الباء أي : بسبب اليتامى ، كما تقول : جئتك في يوم الجمعة في أمر زيد.
ويجوز أن تتعلق الثانية بالكتاب أي : فيما كتب بحكم اليتامى.
ويجوز أن تكون الثانية حالاً ، فتتعلق بمحذوف.
وأما النصب فعلى التقدير : ويبين لكم ما يتلى ، لأن بفتيكم معناها يبين فدلت عليها.
وأما الجر فمن وجهين : أحدهما : أن تكون الواو للقسم كأنه قال : وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب ، والقسم بمعنى التعظيم ، قاله الزمخشري : والثاني : أن يكون معطوفاً على الضميرالمجرور في فيهن ، قاله محمد بن أبي موسى.
وقال : أفتاهم الله فيما سألوا عنه ، وفي ما لم يسألوا عنه.
قال ابن عطية : ويضعف هذا التأويل ما فيه من العطف على الضمير المخفوض بغير إعادة حرف الخفض.
قال الزمخشري : ليس بسديد أن يعطف على المجرور في فيهن ، لاختلاله من حيث اللفظ والمعنى انتهى.
والذي أختاره هذا الوجه ، وإن كان مشهور مذهب جمهور البصريين أنّ ذلك لا يجوز إلا في الشعر ، لكن قد ذكرت دلائل جواز ذلك في الكلام.

وأمعنتُ في ذكر الدلائل على ذلك في تفسير قوله : { وكفر به } و { المسجد الحرام } وليس مختلاً من حيث اللفظ ، لأنّا قد استدللنا علي جواز ذلك ، ولا من حيث المعنى كما زعم الزمخشري ، بل المعنى عليه ويكون على تقدير حذف أي : يفتيكم في متلوهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب ، من إضافة متلو إلى ضميرهن سائغة ، إذ الإضافة تكون لأدنى ملابسة لما كان متلواً فيهن صحت الإضافة إليهما.
ومن ذلك قول الشاعر :
إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة . . .
وأما قول الزمخشري : لاختلاله في اللفظ والمعنى فهو قول الزجاج بعينه.
قال الزجاج : وهذا بعيد ، لأنه بالنسبة إلى اللفظ وإلى المعنى ، أما اللفظ فإنه يقتضي عطف المظهر على المضمر ، وذلك غير جائز.
كما لم يجز قوله : { تساءلون به والأرحام } وأما المعنى فإنه تعالى أفتى في تلك المسائل ، وتقدير العطف على الضمير يقتضي أنه أفتى فيما يتلى عليكم في الكتاب.
ومعلوم أنه ليس المراد ذلك ، وإنما المراد أنه تعالى يفتي فيما سألوه من المسائل انتهى كلامه.
وقد بينا صحة المعنى على تقدير ذلك المحذوف ، والرفع على العطف على الله ، أو على ضمير يخرجه عن التأسيس.
وعلى الجملة تخرج الجملة بأسرها عن التأسيس ، وكذلك الجر على القسم.
فالنصب بإضمار فعل ، والعطف على الضمير يجعله تأسيساً.
وإذا أراد الأمرين : التأسيس والتأكيد ، كان حمله على التأسيس هو الأولى ، ولا يذهب إلى التأكيد إلا عند اتضاح عدم التأسيس.
وتقدم الكلام في تعلق قوله : { في يتامى النساء }.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : بم تعلق قوله : في يتامى النساء؟ ( قلت ) : في الوجه الأول هو صلة يتلى أي : يتلى عليكم في معناهن : ويجوز أن يكون في يتامى النساء بدلاً من فيهنّ.
وأما في الوجهين الأخيرين فبدل لا غير انتهى كلامه.
ويعني بقوله في الوجه الأول : أن يكون وما يتلى في موضع رفع ، فأما ما أجازه في هذا الوجه من أنه يكون صلة يتلى فلا يتصوّر إلا إن كان في يتامى بدلاً من في الكتاب ، أو تكون في للسبب ، لئلا يتعلق حرفا جر بمعنى واحد بفعل واحد ، فهو لا يجوز إلا إن كان على طريقة البدل أو بالعطف.
وأما ما أجازه في هذا الوجه أيضاً من أن في يتامى بدل من فيهن ، فالظاهر أنه لا يجوز للفصل بين البدل والمبدل منه بالعطف.
ونظير هذا التركيب : زيد يقيم في الدار وعمرو في كسر منها ، ففصلت بين في الدار وبين في كسر منها بالعطف ، والتركيب المعهود : زيد يقيم في الدار في كسر منها.
وعمرو واتفق من وقفنا على كلامه في التفسير على أنّ هذه الآية إشارة إلى ما مضى في صدر هذه السورة وهو قوله تعالى : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } وقوله : { وآتوا اليتامى أموالهم } وقوله : { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء }

قالت عائشة رضي الله عنها : نزلت هذه الآية يعني : وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى أوّلاً ، ثم سأل ناس بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر النساء فنزلت : { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهنّ } وما يتلى عليكم فعلى ما قاله المفسرون وما نقل عن عائشة يكون يفتيكم ويتلى فيه وضع المضارع موضع الماضي ، لأن الإفتاء والتلاوة قد سبقت.
والإضافة في يتامى النساء من باب إضافة الخاص إلى العامّ ، لأن النساء ينقسمن إلى يتامى وغير يتامى.
وقال الكوفيون : هي من إضافة الصفة إلى الموصوف ، وهذا عند البصريين لا يجوز ، وذلك مقرر في علم النحو.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : الإضافة في يتامى النساء ما هي؟ ( قلت ) : إضافة بمعنى من هي إضافة الشيء إلى جنسه ، كقولك : خاتم حديد ، وثوب خز ، وخاتم فضة.
ويجوز الفصل واتباع الجنس لما قبله ونصبه وجره بمن ، والذي يظهر في يتامى النساء وفي سحق عمامة أنها إضافة على معنى اللام ، ومعنى اللام الاختصاص.
وقرأ أبو عبد الله المدني : في يتامى النساء بياءين ، وأخرجه ابن جني على أن الأصل أيامى ، فأبدل من الهمزة ياء ، كما قالوا : باهلة بن يعصر ، وإنما هو أعصر سمي بذلك لقوله :
أثناك أن أباك غير لونه . . .
كر الليالي واختلاف الأعصر
وقالوا في عكس ذلك : قطع الله أيده يريدون يده ، فأبدل من الياء همزة.
وأيامى جمع أيم على وزن فعيل ، وهو مما اختص به المعتل ، وأصله : أيايم كسيايد جمع سيد ، قلبت اللام موضع العين فجاء أيامى ، فأبدل من الكسرة فتحة انقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها.
وقال ابن جني : ولو قال قائل كسر أيم على أيمي على وزن سكرى ، ثم كسر أيمي على أيامى لكان وجهاً حسناً.
ومعنى ما كتب لهنّ قال ابن عباس ، ومجاهد ، وجماعة : هو الميراث.
وقال آخرون : هو الصداق ، والمخاطب بقوله : لا تؤتونهنّ أولياء المرأة كانوا يأخذون صدقات النساء ولا يعطونهن شيئاً.
وقيل : أولياء اليتامى كانوا يزوجون اليتامى اللواتي في حجورهن ولا يعدلون في صدقاتهن.
وقرىء : ما كتب الله لهن.
وقال أبو عبيدة : وترغبون أن تنكحوهن ، هذا اللفظ يحتمل الرغبة والنفرة فالمعنى في الرغبة في أن تنكحوهن لمالهن أو لجمالهن ، والنفرة وترغبون عن أن تنكحوهن لقبحهن فتمسكوهن رغبة في أموالهن.
والأول قول عائشة رضي الله عنها وجماعة انتهى.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ الناس بالدرجة الفضلى في هذا المعنى ، فكان إذا سأل الولي عن وليته فقيل : هي غنية جميلة قال له : اطلب لها من هو خير منك وأعود عليها بالنفع.
وإذا قيل : هي دميمة فقيرة قال له : أنت أولى بها وبالستر عليها من غيرك.
والمستضعفين معطوف على يتامى النساء ، والذي تلي فيهم قوله تعالى :

{ يوصيكم الله في أولادكم } الآية وذلك أن العرب كانت لا تورث الصبية ولا الصبي الصغير ، وكان الكبير ينفرد بالمال ، وكانوا يقولون : إنما يرث من يحمي الحوزة ويرد الغنيمة ، ويقاتل عن الحريم ، ففرض الله تعالى لكل واحد حقه.
ويجوز أن يكون خطاباً للأوصياء كقوله : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } وقيل : المستضعفين هنا العبيد والإماء.
{ وأن تقوموا لليتامى بالقسط } هو في موضع جر عطفاً على ما قبله أي : وفي أن تقوموا.
والذي تلي في هذا المعنى قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } إلى غير ذلك مما ذكر في مال اليتيم.
والقسط : العدل.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون منصوباً بمعنى ويأمركم أن تقوموا.
وهو خطاب للأئمة في أن ينظروا لهم ، ويستوفوا لهم حقوقهم ، ولا يخلوا أحداً يهتضمهم انتهى.
وفي ري الظمآن : ويحتمل أن يرفع ، وأن تقوموا بالابتداء وخبره محذوف أي : خير لكم انتهى.
وإذا أمكن حمله على غير حذف بكونه قد عطف على مجرور كان أولى من إضمار ناصب ، كما ذهب إليه الزمخشري.
ومن كونه مبتدأ قد حذف خبره.
{ وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليماً } لما تقدم ذكر النساء ، ويتامى النساء ، والمستضعفين من الولدان ، والقيام بالقسط ، عقب ذلك بأنه تعالى يعلم ما يفعل من الخير بسبب من ذكر ، فيجازي عليه بالثواب الجزيل.
واقتصر على ذكر فعل الخير لأنه هو الذي رغب فيه ، وإن كان تعالى يعلم ما يفعل من خير ومن شر ، ويجازي على ذلك بثوابه وعقابه.
{ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يُصالحا بينهما صُلحاً } نزلت بسبب ابن بعكك وامرأته قاله : مجاهد.
وبسبب رافع بن خديج وامرأته خولة بنت محمد بن مسلمة ، وكانت قد أسنت فتزوج عليها شابة فآثرها ، فلم تصبر خولة فطلقها ثم راجعها ، وقال : إنما هي واحدة ، فإما أن تقوى على الأثرة وإلا طلقتك ففرت.
قاله : عبيدة ، وسليمان بن يسار ، وابن المسيب.
أو بسبب النبي صلى الله عليه وسلم وسودة بنت زمعة خشيت طلاقها فقالت : لا تطلقني واحبسني مع نسائك ، ولا تقسم لي ، ففعل ، فنزلت قاله : ابن عباس وجماعة.
والخوف هنا على بابه ، لكنه لا يحصل إلا بظهور أمارات ما تدل على وقوع الخوف.
وقيل : معنى خافت علمت.
وقيل : ظنت.
ولا ينبغي أن يخرج عن الظاهر ، إذ المعنى معه يصح.
والنشوز : أن يجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته ، والمودة التي بينهما ، وأن يؤذيها بسبب أو ضرب.
والإعراض : أن يقل محادثتها ومؤانستها لطعن في سن أو دمامة ، أو شين في خلق أو خلق أو ملال ، أو طموح عين إلى أخرى ، أو غير ذلك ، وهو أخف النشوز.
فرفع الجناح بينهما في الصلح بجميع أنواع من بذل من الزوج لها على أن تصبر ، أو بذل منها له على أن يؤثرها وعن أن يؤثر وتتمسك بالعصمة ، أو على صبر على الأثرة ونحو ذلك ، فهذا كله مباح.

ورتب رفع الجناح على توقع الخوف ، وظهور أمارات النشوز والإعراض ، وهو مع وقوع تلك وتحققها أولى.
لأنه إذا أبيح الصلح مع خوف ذلك فهو مع الوقوع أوكد ، إذ في الصلح بقاء الألفة والمودّة.
ومن أنواع الصلح أن تهب يومها لغيرها من نسائه كما فعلت سودة ، وأن ترضى بالقسم لها في مدة طويلة مرة ، أو تهب له المهر أو بعضه ، أو النفقة ، والحق الذي للمرأة على الزوج هو المهر والنفقة ، والقسم هو على إسقاط ذلك أو شيء منه على أن لا يطلقها ، وذلك جائز.
وقرأ الكوفيون : يصلحا من أصلح على وزن أكرم.
وقرأ باقي السبعة : يصالحا ، وأصله يتصالحا ، وأدغمت التاء في الصاد.
وقرأ عبيدة السلماني : يصالحا من المفاعلة.
وقرأ الأعمش : أن أصالحا ، وهي قراءة ابن مسعود ، جعل ماضياً.
وأصله تصالح على وزن تفاعل ، فأدغم التاء في الصاد ، واجتلبت همزة الوصل ، والصلح ليس مصدر الشيء من هذه الأفعال التي قرئت ، فإن كان اسماً لما يصلح به كالعطاء والكرامة مع أعطيت وأكرمت ، فيحتمل أن يكون انتصابه على إسقاط حرف الجرّ أي : يصلح أي بشيء يصطلحان عليه.
ويجوز أن يكون مصدراً لهذه الأفعال على حذف الزوائد.
{ والصلح خير } ظاهره أنّ خيراً أفعل التفضيل ، وأن المفضل عليه هو من النشوز والإعراض ، فحذف لدلالة ما قبله عليه.
وقيل : من الفرقة.
وقيل : من الخصومة ، وتكون الألف واللام في الصلح للعهد ، ويعني به صلحاً السابق كقوله تعالى : { كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول } وقيل : الصلح عام.
وقيل : الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف ، ويندرج تحته صلح الزوجين ، ويكون المعنى : خير من الفرقة والاختلاف.
وقيل : خير هنا ليس أفعل تفضيل ، وإنما معناه خير من الخيور ، كما أن الخصومة شرّ من الشرور.
{ وأحضرت الأنفس الشح } هذا من باب المبالغة جعل الشح كأنه شيء معدّ في مكان.
وأحضرت الأنفس وسيقت إليه ، ولم يأت ، وأحضر الشح الأنفس فيكون مسوقاً إلى الأنفس ، بل الأنفس سيقت إليه لكون الشح مجبولاً عليه الإنسان ، ومركوزاً في طبيعته ، وخص المفسرون هذه اللفظة هنا.
فقال ابن عباس وابن جبير : هو شح المرأة بنصيبها من زوجها ومالها.
وقال الحسن وابن زيد : هو شح كل واحد منهما بحقه.
وقال الماتريدي : ويحتمل أن يراد بالشح الحرص ، وهو أن يحرص كل على حقه يقال : هو شحيح بمودّتك ، أي حريص على بقائها ، ولا يقال في هذا بخيل ، فكان الشح والحرص واحد في المعنى ، وإن كان في أصل الوضع الشح للمنع والحرص للمطلب ، فأطلق على الحرص الشح لأن كل واحد منهما سبب لكون الآخر ، ولأنّ البخل يحمل على الحرص ، والحرص يحمل على البخل انتهى.

وقال الزمخشري : في قوله : والصلح خير ، وهذه الجملة اعتراض وكذلك قوله : وأحضرت الأنفس الشح.
ومعنى إحضار الأنفس الشح : إن الشح جعل حاضراً لها لا يغيب عنها أبداً ولا تنفك عنه ، يعني : أنها مطبوعة عليه.
والغرض أنّ المرأة لا تكاد تسمح بأن يقسم لها ، أو يمسكها إذا رغب عنها وأحب غيرها انتهى.
قوله.
والصلح خبر جملة اعتراضية ، وكذلك وأحضرت الأنفس الشح هو باعتبار أنَّ قوله : { وإن يتفرقا } معطوف على قوله : { فلا جناح عليهما أن يصلحا } وقوله : ومعنى إحضار الأنفس الشح إن الشح جعل حاضراً لا يغيب عنها أبداً ، جعله من باب القلب وليس بجيد ، بل التركيب القرآني يقتضي أنّ الأنفس جعلت حاضرة للشح لا تغيب عنه ، لأنّ الأنفس هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وهي التي كانت فاعلة قبل دخول همزة النقل ، إد الأصل : حضرت الأنفس الشح.
على أنه يجوز عند الجمهور في هذا الباب إقامة المفعول الثاني مقام الفاعل على تفصيل في ذلك؛ وإن كان الأجود عندهم إقامة الأول.
فيحتمل أن تكون الأنفس هي المفعول الثاني ، والشح هو المفعول الأول ، وقام الثاني مقام الفاعل.
والأولى حمل القرآن على الأفصح المتفق عليه.
وقرأ العدوي : الشح بكسر الشين وهي لغة.
{ وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً } ندب تعالى إلى الإحسان في العشرة على النساء وإن كرهن مراعاة لحق الصحبة ، وأمر بالتقوى في حالهن ، لأنّ الزوج قد تحمله الكراهة للزوجة على أذيتها وخصومتها لا سيما وقد ظهرت منه أمارات الكراهة من النشوز والإعراض.
وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم بهنّ « فإنهنّ عوان عند الأزواج ».
وقال الماتريدي : وإنْ تحسنوا في أن تعطوهنّ أكثر من حقهنّ ، وتتقوا في أنْ لا تنقصوا من حقهن شيئاً.
أو أن تحسنوا في إيفاء حقهنّ والتسوية بينهنّ ، وتتقوا الجور والميل وتفضيل بعض على بعض.
أو أن تحسنوا في اتباع ما أمركم الله به من طاعتهنّ ، وتتقوا ما نهاكم عنه عن معصيته انتهى.
وختم آخر هذه بصفة الخبير وهو علم ما يلطف إدراكه ويدق ، لأنه قد يكون بين الزوجين من خفايا الأمور ما لا يطلع عليه إلا الله تعالى ، ولا يظهران ذلك لكل أحد.
وكان عمران بن حطان الخارجي من أدم الناس ، وامرأته من أجملهنّ ، فأجالت في وجهه نظرها ثم تابعت الحمد لله ، فقال : ما لك؟ قالت : حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة قال : كيف؟ قالت : لأنك رزقت مثلي فشكرت ، ورزقت مثلك فصبرت ، وقد وعد الله الجنة الشاكرين والصابرين.
{ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم } قال ابن عطية : روي أنها نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وميله بقلبه إلى عائشة رضي الله عنها انتهى.
ونبه تعالى على انتفاء استطاعة العدل بين النساء والتسوية حتى لا يقع ميل البتة ، ولا زيادة ولا نقصان فيما يجب لهن ، وفي ذلك عذر للرجال فيما يقع من التفاوت في الميل القلبي ، والتعهد ، والنظر ، والتأنيس ، والمفاكهة.

فإن التسوية في ذلك محال خارج عن حد الاستطاعة ، وعلق انتفاء الاستطاعة في التسوية على تقدير وجود الحرص من الانسان على ذلك.
وقيل : معنى أن تعدلوا في المحبة قاله : عمر ، وابن عباس ، والحسن.
وقيل : في التسوية والقسم.
وقيل : في الجماع.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم « أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول : هذه قسمتي فيما أملك ، فلا تؤاخذاني فيما تملك ولا أملك » يعني المحبة ، لأنّ عائشة رضي الله عنها كانت أحب إليه وكان عمر يقول : اللهم قلبي فلا أملكه ، وأما ما سوى ذلك فأرجو أن أعدل فيه.
{ ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة } نهى تعالى عن الجور على المرغوبعنها بمنع قسمتها من غير رضا منها ، واجتناب كل الميل داخل في الوسع ، ولذلك وقع النهي عنه أي : إن وقع منكم التفريط في شيء من المساواة فلا تجوروا كل الجور.
والضمير في فتذروها عائد على الميل عنها المفهوم من قوله : فلا تميلوا كل الميل.
وقرأ أُبيّ : فتذروها كالمسجونة.
وقرأ عبد الله : فتذروها كأنها معلقة.
وتقدم تفسير المعلقة في الكلام على المفردات.
وقال ابن عباس : كالمحبوسة بغير حق.
وقيل : معنى كالمعلقة كالبعيدة عن زوجها.
قيل : أو عن حقها ، ذكره الماوردي مأخوذ من تعليق الشيء لبعده عن قراره.
وتذروها يحتمل أن يكون مجزوماً عطفاً على تميلوا ، ويحتمل أن يكون منصوباً بإضمار أن في جواب النهي.
وكالمعلقة في موضع نصب على الحال ، فتتعلق الكاف بمحذوف.
وفي الحديث : « من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل » والمعنى : يميل مع إحداهما كل الميل ، لا مطلق الميل.
وقد فاضل عمر في عطاء بين أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأبت عائشة وقالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بيننا في القسمة بماله ونفسه ، فساوى عمر بينهن ، وكان لمعاذ امرأتان فإذا كان عند إحداهما لم يتوضأ في بيت الأخرى ، فماتتا في الطاعون فدفنهما في قبر واحد.
{ وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيماً } قال الزمخشري : وإن تصلحوا ما مضى من قبلكم وتتداركوه بالتوبة ، وتتقوا فيما يستقبل ، غفر الله لكم انتهى.
وفي ذلك نزغة الاعتزال.
وقال ابن عطية : وإن تصلحوا ما أفسدتم بسوء العشرة ، وتلزموا ما يلزمكم من العدل فيما تملكون ، فإن الله كان غفوراً لما تملكونه متجاوزاً عنه.
وقال الطبري : غفوراً لما سلف منكم من الميل كل الميل قبل نزول الآية انتهى.
فعلى هذا هي مغفرة مخصصة لقوم بأعيانهم واقعوا المحظور في مدّة النبي صلى الله عليه وسلم ، وختمت تلك بالإحسان ، وهذه بالإصلاح.

لأنّ الأولى في مندوب إليه إذ له أن لا يحسن وإن يشح ويصالح بما يرضيه ، وهذه في لازم ، إذ ليس له إلا أن يصلح ، بل يلزمه العدل فيما يملك.
{ وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته } الضمير في يتفرقا عائد على الزوجين المذكورين في قوله : { وإن امرأة خافت من بعلها } والمعنى : وإن شح كل منهما ولم يصطلحا وتفرّقا بطلاق ، فالله يغني كلاً منهما عن صاحبه بفضله ولطفه في المال والعشرة والسعة.
ووجود المراد والسعة الغنى والمقدرة وهذا وعد بالغنى لكل واحد إذا تفرقا ، وهو معروف بمشيئة الله تعالى.
ونسبة الفعل إليهما يدل على أنّ لكل منهما مدخلاً في التفرق ، وهو التفرق بالأبدان وتراخي المدة بزوال العصمة ، ولا يدل على أنه تفرق بالقول ، وهو طلاق لأنه مختص بالزوج ، ولا نصيب للمرأة في التفرق القولي ، فيسند إليها خلافاً لمن ذهب إلى أنّ التفرق هاهنا هو بالقول وهو الطلاق.
وقرأ زيد بن أفلح : وإن يتفارقا بألف المفاعلة أي : وإن يفارق كل منهما صاحبه.
وهذه الآية نظير قوله تعالى : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } وقول العرب : إن لم يكن وفاق فطلاق.
فنبه تعالى على أنّ لهما أن يتفارقا ، كما أنّ لهما أن يصطلحا.
ودل ذلك على الجواز قالوا : وفي قوله تعالى : يغن الله كلاً من سعته إشارة إلى الغنى بالمال.
وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما فيما رووا طلقة ذوقة فقيل له في ذلك فقال : إني رأيت الله تعالى علق الغنى بأمرين فقال : { وأنكحوا الأيامى } الآية ، وقال : وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته.
{ وكان الله واسعاً حكيماً } ناسب ذلك ذكر السعة ، لأنه تقدّم من سعته.
والواسع عام في الغنى والقدرة والعلم وسائر الكمالات.
وناسب ذكر وصف الحكمة ، وهو وضع الشيء موضع ما يناسب ، لأن السعة ما لم تكن معها الحكمة كانت إلى فساد أقرب منها للصلاح قاله الراغب.
وقال ابن عباس : يريد فيما حكم ووعظ.
وقال الكلبي : فيما حكم على الزوج من إمساكها بمعروف أو تسريح بإحسان.
وقال الماتريدي : أو حيث ندب إلى الفرقة عند اختلافهما ، وعدم التسوية بينهما.
{ ولله ما في السموات وما في الأرض } لما ذكر تعالى سعة رزقه وحكمته ، ذكر أنَّ له ملك ما في السموات وما في الأرض ، فلا يعتاض عليه غنى أحد ، ولا التوسعة عليه ، لأنّ من له ذلك هو الغني المطلق.
{ ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله } وصينا : أمرنا أو عهدنا إليهم وإليكم ، ومن قبلكم : يحتمل أن يتعلق بأوتوا وهو الأقرب ، أو بوصينا.
والمعنى : أن الوصية بالتقوى هي سنة الله مع الأمم الماضية فلستم مخصوصين بهذه الوصية.
وإياكم عطف على الموصول ، وتقدّم الموصول لأن وصيته هي السابقة على وصينا فهو تقدم بالزمان.

ومثل هذا العطف أعني : عطف الضمير المنصوب المنفصل على الظاهر فصيح جاء في القرآن وفي كلام العرب ، ولا يختص بالشعر ، وقد وهم في ذلك بعض أصحابنا وشيوخنا فزعم أنه لا يجوز إلا في الشعر ، لأنك تقدر على أن تأتي به متصلاً فتقول : آتيك وزيداً.
ولا يجوز عنده : رأيت زيداً وإياك إلا في الشعر ، وهذا وهم فاحش ، بل من موجب انفصال الضمير كونه يكون معطوفاً فيجوز قام زيد وأنت ، وخرج بكر وأنا ، لا خلاف في جواز ذلك.
فكذلك ضربت زيداً وإياك.
والذين أوتوا الكتاب هو عام في الكتب الإلهية ، ولا ضرورة تدعو إلى تخصيص الذين أوتوا الكتاب باليهود والنصارى كما ذهب إليه بعض المفسرين ، لأن وصية الله بالتقوى لم تزل مذ أوجد العالم ، فليست مخصوصة باليهود والنصارى.
وإن اتقوا : يحتمل أن تكون مصدرية أي : بأن اتقوا الله ، وأن تكون مفسرة التقدير أي : اتقوا الله لأن وصينا فيه معنى القول.
{ وإن تكفروا } ظاهره الخطاب لمن وقع له الخطاب بقوله : وإياكم ، وهم هذه الأمة ، ويحتمل أن يكون شاملاً للذين أوتوا الكتاب وللمخاطبين ، وغلب الخطاب على ما تقرر في لسان العرب كما تقول : قلت لزيد ذلك لا تضرب عمراً ، وكما تقول : زيد وأنت تخرجان.
{ فإن لله ما في السموات وما في الأرض } أي أنتم من جملة من يملكه تعالى وهو المتصرف فيكم ، إذ هو خالفكم والمنعم عليكم بأصناف النعم وأنتم مملوكون له ، فلا يناسب أن تكفروا من هو مالككم وتخالفون مره ، بل حقه أن يطاع ولا يعصى ، وأن يتقى عقابه ويرجى ثوابه ، ولله ما في سمائه وأرضه من يوحده ويعبده ولا يعصيه.
{ وكان الله غنياً } أي عن خلقه وعن عبادتهم لا تنفعه طاعتهم ، ولا يضره كفرهم.
{ حميداً } أي مستحقاً لأن يحمد لكثرة نعمه وإن كفرتموه أنتم.
{ ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً } الوكيل القائم بالأمور المنفذ فيها ما يراه ، فمن له ملك ما في السموات والأرض فهو كاف فيما يتصرف فيه لا يعتمد على غيره.
وأعاد قوله : ولله ما في السموات وما في الأرض ثلاث مرات بحسب السياق.
فقال ابن عطية : الأول : تنبيه على موضع الرجاء يهدي المتفرقين.
والثاني : تنبيه على استغنائه عن العباد.
والثالث : مقدمة للوعيد.
وقال الزمخشري : وتكرير قوله : { ولله ما في السموات وما في الأرض } تقرير لما هو موجب تقواه ليتقوه ، فيطيعوه ولا يعصوه ، لأن الخشية والتقوى أصل الخير كله.
وقال الراغب : الأول : للتسلية عما فات.
والثاني : أنّ وصيته لرحمته لا لحاجة ، وأنهم إن كفروه لا يضروه شيئاً.
والثالث : دلالته على كونه غنياً.
وقال أبو عبد الله الرّازي : الأول : تقرير كونه واسع الجود.

والثاني : للتنزيه عن طاعة المطيعين.
والثالث : لقدرته على الإفناء والإيجاد ، والغرض منه تقرير كونه قادراً على مدلولات كثيرة فيحسن أن يذكر ذلك الدليل على كل واحد من مدلولاته ، وهذه الإعادة أحسن وأولى من الاكتفاء بذكر الدليل مرة واحدة ، لأنه عنده إعادة ذكر الدليل يحضر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول ، وكان العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجل ، فظهر أنّ هذا التكرار في غاية الكمال.
وقال مكي : نبهنا أولاً على ملكه وسعته.
وثانياً على حاجتنا إليه وغناه ، وثالثاً على حفظه لنا وعلمه بتدبيرنا.
{ إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين } ظاهره أنّ الخطاب لمن تقدم له الخطاب أولاً.
وقال ابن عباس : الخطاب للمشركين والمنافقين ، والمعنى : ويأت بآخرين منكم.
وقريب منه ما نقله الزمخشري : من أنه خطاب لمن كان يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب.
وقال أبو سليمان الدمشقي : الخطاب للكفار وهو تهديد لهم ، كأنه قال : إن يشاء يهلككم كما أهلك من قبلكم إذ كفروا برسله.
وقيل : للمؤمنين ينطلق عليه اسم الناس ، والمعنى : إن شاء يهلككم كما أنشأكم وأنشأ قوماً آخرين يعبدونه.
وقال الطبري : الخطاب للذين شفعوا في طعمة بن أبيرق ، وخاصم وخاصموا عنه في أمر خيانته في الدّرع والدّقيق.
وهذا التأويل بعيد ، وقد يظهر العموم فيكون خطاباً للعالم الحاضر الذي يتوجه إليه الخطاب والنداء.
ويأت بآخرين أي : بناس غيركم ، فالمأتي به من نوع المذهب ، فيكون من جنس المخاطب المنادي وهم الناس.
وروي أنها لما نزلت ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على ظهر سلمان وقال : « إنهم قوم هذا يريد ابن فارس » ، وأجاز الزمخشري وابن عطية وغيرهما أن يكون المراد بآخرين من نوع المخاطبين.
قال الزمخشري : ويأت بآخرين مكانكم أو خلقاً آخرين غير الإنس.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون وعيداً لجميع بني آدم ، ويكون الآخرون من غير نوعهم.
كما أنه قد روي أنه كان في الأرض ملائكة يعبدون الله قبل بني آدم انتهى.
وما جوّزه لا يجوز ، لأنّ مدلول آخر في اللغة هو مدلول غير خاص بجنس ما تقدم ، فلو قلت : جاء زيد وآخر معه ، أو مررت بامرأة وأخرى معها ، أو اشتريت فرساً وآخر ، وسابقت بين حمار وآخر ، لم يكن آخر ولا أخرى مؤنثه ، ولا تثنيته ولا جمعه إلا من جنس ما يكون قبله.
ولو قلت : اشتريت ثوباً وآخر ، ويعني به : غير ثوب لم يجز ، فعلى هذا تجويزهم أن يكون قوله : بآخرين من غير جنس ما تقدم وهم الناس ليس بصحيح ، وهذا هو الفرق بين غير وبين آخر ، لأنّ غيراً تقع على المغاير في جنس أو في صفة ، فتقول : اشتريت ثوباً وغيره ، فيحتمل أن يكون ثوباً ، ويحتمل أن يكون غير ثوب وقلّ من يعرف هذا الفرق.

{ وكان الله على ذلك قديراً } أي على إذهابكم والإتيان بآخرين.
وأتى بصيغة المبالغة في القدرة ، لأنه تعالى لا يمتنع عليه شيء أراده ، وهذا غضب عليهم وتخويف ، وبيان لاقتداره.
{ من كان يريد ثواب الدّنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة } قال ابن عطية ، أي من كان لا رغبة له إلا في ثواب الدنيا ولا يعتقد أنّ ثمّ سواه فليس كما ظن ، بل عند الله ثواب الدّارين.
فمن قصد الآخرة أعطاه من ثواب الدنيا وأعطاه قصده ، ومن قصد الدنيا فقط أعطاه من الدنيا ما قدر له ، وكان له في الآخرة العذاب.
وقال الماتريدي : يحتمل أن يكون المعنى من عبد الأصنام طلباً للعز لا يحصل له ذلك ، ولكن عند الله عز الدنيا والآخرة ، أو للتقريب والشفاعة أي : ليس له ذلك ، ولكن اعبدوا الله فعنده ثواب الدنيا والآخرة ، لا عند من تطلبون.
ويحتمل أن تكون في أهل النفاق الذين يراؤون بأعمالهم الصالحة في الدنيا لثواب الدنيا لا غير.
ومن يحتمل أن تكون موصولة والظاهر أنها شرط وجوابه الجملة المقرونة بفاء الجواب : ولا بد في الجملة الواقعة جواباً لاسم الشرط غير الظرف من ضمير عائد على اسم الشرط حتى يتعلق الجزاء بالشرط ، والتقدير : ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده ، هكذا قدّره الزمخشري وغيره.
والذي يظهر أنّ جواب الشرط محذوف لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : من كان يريد ثواب الدنيا فلا يقتصر عليه ، وليطلب الثوابين ، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة.
وقال الراغب : فعند الله ثواب الدنيا والآخرة تبكيت للإنسان حيث اقتصر على أحد السؤالين مع كون المسؤول مالكاً للثوابين ، وحث على أن يطلب منه تعالى ما هو أكمل وأفضل من مطلوبه ، فمن طلب خسيساً مع أنه يمكنه أن يطلب نفيساً فهو دنيء الهمة.
قيل : والآية وعيد للمنافقين لا يريدون بالجهاد غير الغنيمة.
وقيل : هي حض على الجهاد.
{ وكان الله سميعاً بصيراً } أي سميعاً لأقوالهم ، بصيراً بأعمالهم ونياتهم.
{ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } قال الطبري : هي سبب نازلة بن أبيرق وقيام من قام في أمره بغير القسط.
وقال السدّي : نزلت في اختصام غني وفقير عند النبي صلى الله عليه وسلم.
ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر النساء والنشوز والمصالحة ، أعقبه بالقيام بأداء حقوق الله تعالى ، وفي الشهادة حقوق الله.
أو لأنه لما ذكر تعالى طالب الدنيا وأنه عنده ثواب الدنيا والآخرة ، بيّن أنّ كمال السعادة أن يكون قول الإنسان وفعله الله تعالى ، أو لأنه لما ذكر في هذه السورة { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } والإشهاد عند دفع أموال اليتامى إليهم وأمر ببذل النفس والمال في سبيل الله ، وذكر قصة ابن أبيرق واجتماع قومه على الكذب والشهادة بالباطل ، وندب للمصالحة ، أعقب ذلك بأن أمر عباده المؤمنين بالقيام بالعدل والشهادة لوجه الله سبحانه وتعالى ، وأتى بصيغة المبالغة في قوّامين حتى لا يكون منهم جور مّا ، والقسط العدل.

ومعنى شهداء الله أي : لوجه الله ، لا يراعي في الشهادة إلا جهة الله تعالى.
والظاهر أن معنى قوله : شهداء لله من الشهادة في الحقوق ، ولذلك أتبعه بما بعده من قوله : ولو على أنفسكم ، وهكذا فسره المفسرون.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون قوله : شهداء لله معناه بالوحدانية ، ويتعلق قوله : ولو على أنفسكم ، بقوله : قوّامين بالقسط ، والتأويل الأول أبين انتهى كلامه.
ويضعفه أنه خطاب للمؤمنين وهم شهداء لله بالوحدانية ، إلا إن أريد استمرار الشهادة.
وتقدّمت صفة قوّامين بالقسط على شهداء الله.
لأنّ القيام بالقسط أعم ، والشهادة أخص.
ولأنّ القيام بالقسط فعل وقول ، والشهادة قول فقط.
ومعنى : ولو على أنفسكم ، أي تشهدون على أنفسكم أي تقرّون بالحق وتقيمون القسط عليها.
والظاهر أنه أراد بقوله : ولو على أنفسكم أنفس الشهداء لله تعالى.
وأبعد من جوّز أن يكون المعنى في أنفسكم : الأهل والأقارب ، وأن يكون «أو الوالدين» تفسيراً لأنفسكم ، ويضعفه العطف بأو.
وانتصب شهداء على أنه خبر بعد خبر.
ومن ذهب إلى جعله حالاً من الضمير في قوّامين كأبي البقاء ، فقوله ضعيف.
لأن فيها تقييداً لقيام بالقسط ، سواء كان مثل هذا أم لا.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يشهد لهذا القول الضعيف ، قال ابن عباس : معناه كونوا قوّامين بالعدل في الشهادة على من كان ومجيء لو هنا لاستقصاء جميع ما يمكن فيه الشهادة ، لما كانت الشهادة من الإنسان على نفسه بصدد أن لا يقيمها لما جبل عليه المرء من محاباة نفسه ومراعاتها ، نبّه على هذه الحال ، وجاء هذا الترتيب في الاستقصاء في غاية من الحسن والفصاحة.
فبدأ بقوله : ولو على أنفسكم ، لأنه لا شيء أعز على الإنسان من نفسه ، ثم ذكر الوالدين وهما أقرب إلى الإنسان وسبب نشأته ، وقد أمر ببرهما وتعظيمهما ، والحوطة لهما ، ثم ذكر الأقربين وهم مظنة المحبة والتعصب.
وإذا كان هؤلاء أمر في حقهم بالقسط والشهادة عليهم ، فالأجنبي أحرى بذلك.
والآية تعرضت للشهادة عليهم لا لهم ، فلا دلالة فيها على الشهادة لهم ، كما ذهب إليه بعض المفسرين.
ولو شرطية بمعنى : أنّ وقوله على أنفسكم متعلق بمحذوف ، لأن التقدير : وإن كنتم شهداء على أنفسكم فكونوا شهداء لله ، هذا تقرير الكلام.
وحذف كان بعد لو كثير تقول : ائتني بتمر ولو حشفاً ، أي : وإن كان التمر حشفاً فائتني به.
وقال ابن عطية : ولو على أنفسكم متعلق بشهداء.
فإن عنى شهداء هذا الملفوظ به فلا يصح ذلك ، وإن عنى الذي قدّرناه نحن فيصح.
وقال الزمخشري : ولو على أنفسكم ، ولو كانت الشهادة على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم.

( فإن قلت ) : الشهادة على الوالدين والأقربين أن يقول : أشهدُ أنّ لفلان على والدي كذا وعلى أقاربي ، فما معنى الشهادة على نفسه؟ ( قلت ) : هي الإقرار على نفسه لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق لها ، ويجوز أن يكون المعنى : وإن كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم ، أو على آبائكم وأقاربكم ، وذلك أن يشهد على من توقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره انتهى كلامه.
وتقديره : ولو كانت الشهادة على أنفسكم ، ليس بجيد ، لأن المحذوف إنما يكون من جنس الملفوظ به قبل ليدل عليه.
فإذا قلت : كن محسناً لمن أساء إليك ، فتحذف كان واسمها والخبر ، ويبقى متعلقه لدلالة ما قبله عليه ولا تقدره : ولو كان إحسانك لمن أساء.
فلو قلت : ليكن منك إحسان ولو لمن أساء ، فتقدر : ولو كان الإحسان لمن أساء لدلالة ما قبله عليه ، ولو قدرته.
ولو كنت محسناً لمن أساء إليك لم يكن جيداً ، لأنك تحذف ما لا دلالة عليه بلفظ مطابق.
وقول الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى وإن كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم هذا لا يجوز ، لأن ما تعلق به الظرف كون مقيد ، ولا يجوز حذف الكون المقيد ، لو قلت : كان زيد فيك وأنت تريد محباً فيك لم يجز ، لأنّ محباً مقيداً ، وإنما ذلك جائز في الكون المطلق ، وهو : تقدير كائن أو مستقر.
{ إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما } أي إن يكن المشهود عليه غنياً فلا تمتنع من الشهادة عليه لغناه ، أو فقيراً فلا تمنعها ترحماً عليه وإشفاقاً.
فعلى هذا الجواب محذوف ، لأن العطف هو بأو ، ولا يثني الضمير إذا عطف بها ، بل يفرد.
وتقدير الجواب : فليشهد عليه ولا يراعي الغنيّ لغناه ، ولا لخوف منه ، ولا الفقير لمسكنته وفقره ، ويكون قوله : فالله أولى بهما ليس هو الجواب ، بل لما جرى ذكر الغني والفقير.
عاد الضمير على ما دل عليه ما قبله كأنه قيل : فالله أولى بجنسي الغني والفقير أي : بالأغنياء والفقراء.
وفي قراءة أبيّ : فالله أولى بهم ما يشهد بإرادة الجنس.
وذهب الأخفش وقوم ، إلى أنّ أو في معنى الواو ، فعلى قولهم يكون الجواب : فالله أولى بهما ، أي : حيث شرع الشهادة عليهما ، وهو أنظر لهما منكم.
ولولا أنّ الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها.
وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور : وقد ذكر العطف بالواو وثم وحتى ما نصه تقول : زيد أو عمر ، وقام زيد لا عمرو قام ، وكذلك سائر ما بقي من حروف العطف يعني غير الواو وحتى والفاء وثم ، والذي بقي بل ولكن وأم.
قال : لا تقول قاما لأنّ القائم إنما هو أحدهما لا غير ، ولا يجوز قاما إلا في أو خاصة ، وذلك شذوذ لا يقاس عليه.
قال الله تعالى : إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما ، فأعاد الضمير على الغني والفقير لتفرقهما في الذكر انتهى.

وهذا ليس بسديد.
ولا شذوذ في الآية ، ولا دليل فيها على جواز زيد أو عمرو قاما على جهة الشذوذ ، ولا غيره.
ولأن قوله : فالله أولى بهما ليس بجواب كما قررناه ، والضمير ليس عائداً على الغني والفقير الملفوظ بهما في الآية ، وإنما يعود على ما دل عليه المعنى من جنسي الغني والفقير.
وقرأ عبد الله : إن يكن غني أو فقير على أنّ كان تامة.
{ فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } لما أمر تعالى بالقيام بالعدل وبالشهادة لمرضاة الله نهى عن اتباع الهوى ، وهو ما تميل إليه النفس مما لم يبحه الله تعالى وإن تعدلوا من العدول عن الحق ، أو من العدل وهو القسط.
فعلى الأول يكون التقدير : إرادة أن تجوروا ، أو محبة أن تجوروا.
وعلى الثاني يكون التقدير : كراهة أن تعدلوا بين الناس وتقسطوا.
وعكس ابن عطية هذا التقدير فقال : يحتمل أن يكون معناه مخافة أن تعدلوا ، ويكون العدل بمعنى القسط كأنه قال : انتهوا خوف أن تجوروا ، أو محبة أن تقسطوا.
فإن جعلت العامل تتبعوا فيحتمل أن يكون المعنى : محبة أن تجوروا انتهى كلامه.
وهذا الذي قرره من التقديره يكون العامل في أنّ تعدلوا فعلاً محذوفاً من معنى النهي ، وكان الكلام قد تم عند قوله : فلا تتبعوا الهوى ، ثم أضمر فعلاً وقدره : انتهوا خوف أن تجورا ، أو محبة أن تقسطوا ، ولذلك قال : فإن جعلت العامل تتبعوا.
والذي يدل عليه الظاهر أنّ العامل هو تتبعوا ، ولا حاجة إلى إضمار جملة أخرى ، فيكون فعلها عاملاً في أن تعدلوا.
وإذا كان العامل تتبعوا فيكون التقدير الأول هو المتجه ، وعلى هذه التقادير فإنَّ تعدلوا مفعول من أجله.
وجوّز أبو البقاء وغيره أن يكون التقدير : أن لا تعدلوا ، فحذف لا ، أي : لا تتبعوا الهوى في ترك العدل.
وقيل : المعنى لا تتبعوا الهوى لتعدلوا أي : لتكونوا في اتباعكموه عدولاً ، تنبيهاً أنّ اتباع الهوى وتحري العدالة متنافيان لا يجتمعان.
وقال أبو عبد الله الرازي : المعنى اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفين بصفة العدل ، والعدل عبارة عن ترك متابعة الهوى ، ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر ، فالتقدير : لأجل أن تعدلوا.
{ وأن تلووا أو تعرضوا } الظاهر أنّ الخطاب للمأمورين بالقيام بالقسط ، والشهادة لله ، والمنهيين عن اتباع الهوى.
وقال ابن عباس : هو في ليِّ الحاكم عنقه عن أحد الخصمين.
وقال مجاهد نحوه قال : ليّ الحاكم شدقه لأحد الخصمين ميلاً إليه.
وقال ابن عباس أيضاً ، والضحاك ، والسدي ، وابن زيد ، ومجاهد : هي في الشهود يلوي الشهادة بلسانه فيحرفها ولا يقول الحق فيها ، أو يعرض عن أداء الحق فيها ، ويقول معناه : يدافعوا الشهادة من ليّ الغريم.

وقال الزمخشري : وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق ، أو حكومة العدل ، أو تعرضوا عن الشهادة بما عندكم وتمنعوها.
وقرأ جماعة في الشاذ ، وابن عامر ، وحمزة : وإن تلوا بضم اللام بواو واحدة ، ولحن بعض النحويين قارىء هذه القراءة.
قال : لا معنى للواية هنا ، وهذا لا يجوز لأنها قراءة متواترة في السبع ، ولها معنى صحيح وتخريج حسن.
فنقول : اختلف في قوله : وإن تلووا.
فقيل : هي من الولاية أي : وإن وليتم إقامة الشهادة أو أعرضتم عن إقامتها ، والولاية على الشيء هو الإقبال عليه.
وقيل : هو من اللي واصله : تلووا ، وأبدلت الواو المضمومة همزة ، ثم نقلت حركتها إلى اللام وحذفت.
قال الفراء ، والزجاج ، وأبو علي ، والنحاس ، ونقل عن النحاس أيضاً أنه استثقلت الحركة على الواو فألقيت على اللام ، وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين.
{ فإن الله كان بما تعملون خبيراً } هذا فيه وعيد لمن لوى عن الشهادة أو أعرض عنها.
{ يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل } مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالقيام بالقسط ، والشهادة لله ، بين أنه لا يتصف بذلك إلا مَن كان راسخ القدم في الإيمان بالأشياء المذكورة في هذه الآية فأمر بها.
والظاهر أنه خطاب للمؤمنين.
ومعنى : آمنوا دوموا على الإيمان قاله : الحسن ، وهو أرجح.
لأن لفظ المؤمن متى أطلق لا يتناول إلا المسلم.
وقيل : للمنافقين أي : يا أيها الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم آمِنوا بقلوبكم.
وقيل : لمن آمن بموسى وعيسى عليهما السلام أي : يا من آمن بنبي من الأنبياء آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل : هم جميع الخلق أي : يا أيها الذين آمنوا يوم أخذ الميثاق حين قال : { ألست بربكم قالوا بلى } وقيل : اليهود خاصة.
وقيل : المشركون آمنوا باللات والعزى والأصنام والأوثان.
وقيل : آمنوا على سبيل التقليد ، آمنوا على سبيل الاستدلال.
وقيل : آمنوا في الماضي والحاضر ، آمنوا في المستقبل.
ونظيره : { فاعلم أن لا إله إلا الله } مع أنه كان عالماً بذلك.
وروي أن عبد الله بن سلام ، وسلاماً ابن أخته ، وسلمة بن أخيه ، وأسد وأسيداً ابني كعب ، وثعلبة بن قيس ويامين ، أتوا الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا : نؤمن بك وبكتابك ، وموسى والتوراة ، وعزير ، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل فقال عليه السلام : « بل آمنوا بالله ورسوله وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله » فقالوا : لا نفعل ، فنزلت فآمنوا كلهم.
والكتاب الذي نزل على رسوله هو القرآن بلا خلاف ، والكتاب الذي أنزل من قبلُ المراد به جنس الكتب الإلهية ، ويدل عليه قوله : آخراً.
وكتبه وإنْ كان الخطاب لليهود والنصارى فكيف قيل لهم والكتاب الذي أنزل من قبل وهم مؤمنون بالتوراة والإنجيل.
وأجيب عن ذلك بأنهم كانوا مؤمنين بهما فحسب ، وما كانوا مؤمنين بكلّ ما أنزل من الكتب ، فأمروا أن يؤمنوا بجميع الكتب.

أو لأنّ إيمانهم ببعض لا يصح ، لأن طريق الإيمان بالجميع واحد وهو المعجزة.
وقرأ العربيان وابن كثير : نزل وأنزل بالبناء للمفعول ، والباقون بالبناء للفاعل.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : لم قال نزل على رسوله وأنزل من قبل؟ ( قلت ) : لأن القرآن نزل منجماً مفرقاً في عشرين سنة بخلاف الكتب قبله انتهى.
وهذه التفرقة بين نزل وأنزل لا تصح ، لأن التضعيف في نزل ليس للتكثير والتفريق ، وإنما هو للتعدية ، وهو مرادف للهمزة.
وقد أشبعنا الرد على الزمخشري في دعواه ذلك أول سورة آل عمران.
{ ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً } جواب الشرط ليس مترتباً على الكفر بالمجموع ، بل المعنى : ومن يكفر بشيء من ذلك.
وقرىء : وكتابه على الأفراد ، والمراد جنس الكتب.
ولما كان خير الإيمان علق بثلاثة : بالله ، والرسول ، والكتب ، لأن الإيمان بالكتب تضمن الإيمان بالملائكة واليوم الآخر ، وبولغ في ذلك لأن الملك مغيب عنا ، وكذلك اليوم الآخر لم يقع وهو منتظر ، فنص عليهما على سبيل التوكيد ، ولئلا يتأولهما متأول على خلاف ما هما عليه.
فمن أنكر الملائكة أو القيامة فهو كافر ، وقدّم الكتب على الرسل على الترتيب الوجودي ، لأن الملك ينزل بالكتب والرسل تتلقى الكتب من الملك.
وقدّم في الأمر بالإيمان الموصول على الكتاب ، لأن الرسول أول ما يباشره المؤمن ثم يتلقى الكتاب منه.
فحيث نفى الإيمان كان على الترتيب الوجودي ، وحيث أثبت كان على الترتيب اللقائي ، وهو راجع للوجود في حق المؤمن.
{ إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً } لمّا أمر بالأشياء التي تقدم ذكرها ، وذكر أنّ من كفر بها أو بشيء منها فهو ضال ، أعقب ذلك بفساد ، وطريقة من كفر بعد الإيمان ، وأنه لا يغفر له على ما بين.
والظاهر أنها في المنافقين إذ هم المتلاعبون بالدين ، فحيث لقوا المؤمنين «قالوا آمنا» وإذا لقوا أصحابهم { قالوا إنا مستهزئون } ولذلك جاء بعده بشر المنافقين ، فهم مترددون بين إظهار الإيمان والكفر باعتبار من يلقونه.
ومعنى ازداد كفراً بأن تم على نفاقه حتى مات.
وقيل : ازدياد كفرهم هو اجتماعهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حرب المسلمين ، وإلى هذا ذهب : مجاهد وابن زيد.
وقال الحسن : هي في الطائفة من أهل الكتاب التي قالت : { آمنوا وجه النهار واكفروا آخره } قصدوا تشكيك المسلمين وازدياد كفرهم هو أنهم بلغوا في ذلك إلى حدّ الاستهزاء والسخرية بالإسلام.
قال قتادة وأبو العالية وطائفة ، ورجحه الطبري : هي في اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بموسى والتوراة ثم كفروا ، وآمنت النصارى بعيسى والإنجيل ثم كفروا ، ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وضعف هذا القول ابن عطية قال : يدفعه ألفاظ الآية ، لأنها في طائفة يتصف كل واحد منها بهذه الصفة من المترددين بين الكفر والإيمان ثم يزداد.

وقال بعضهم : هي في اليهود آمنوا بالتوراة وموسى ثم كفرا بعزير ، ثم آمنوا بداود ، ثم كفروا بعيسى ، ثم ازدادوا كفراً عند مقدم محمد صلى الله عليه وسلم.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية في المترددين ، فإن المؤمن إذا ارتد ثم آمن قبلت توبته إلى الثلاث ، ثم لا تقبل ويحكم عليه بالنار.
وقال القفال : ليس المراد بيان هذا العدد ، بل المراد ترددهم كما قال : { مذبذبين بين ذلك } ويدل عليه قوله : { بشر المنافقين }.
وقال الزمخشري : المعنى أنّ الذين تكرر منهم الارتداد وعهد منهم ازدياد الكفر والإصرار عليه يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف من إيمان صحيح ثابت يرضاه الله ، لأن قلوب أولئك الذين هذا ديدنهم قلوب قد ضربت بالكفر ، ومرئت على الردة ، وكان الإيمان أهون شيء عندهم وأدونه حيث يدلونهم فيه كرة بعد أخرى ، وليس المعنى أنهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الردة ونصحت توبتهم لم تقبل منهم ولم يغفر لهم ، لأن ذلك مقبول حيث هو بذل الطاقة واستفراغ الوسع ، ولكنه استبعاد له واستغراب ، وأنه أمر لا يكاد يكون.
وهكذا نرى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع لا يكاد يرجى منه الثبات ، والغالب أنه يموت على شر حال وأقبح صورة انتهى كلامه.
وفي بعضه ألفاظ من ألفاظ الاعتزال.
{ لم يكن الله ليغفر لهم } الجمهور على تقدير محذوف أي : ثم ازدادوا كفراً وماتوا على الكفر ، لأنه معلوم من هذه الشريعة أنه لو آمن وكفر مراراً ثم تاب عن الكفر وآمن ووافى تائباً ، أنه مغفور له ما جناه في كفره السابق وإن تردد فيه مراراً.
وقيل : يحمل على قوم معينين علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر ولا يتوبون عنه ، فيكون قوله : لم يكن الله ليغفر لهم إخباراً عن موتهم على الكفر.
وقيل : الكلام خرج على الغالب المعتاد ، وهو أنّ مَن كان كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر لم يكن للإيمان في قلبه وقع ولا عظم قدر.
والظاهر من حال مثل هذا أنه يموت على الكفر.
وفي قوله : لم يكن الله ليغفر لهم ، دلالة على أنه مختوم عليهم بانتفاء الغفران وهداية السبيل ، وأنهم تقرر عليهم ذلك في الدنيا وهم أحياء ، وهذه فائدة المجيء بلام الجحود ، ففرق بين لم يكن زيد يقوم وبين لم يكن زيد ليقوم.
فالأول ليس فيه إلا انتفاء القيام ، والثاني فيه انتفاء الإرادة والإيتاء للقيام ، ويلزم من انتفاء إرادة القيام نفي القيام ، وقد تقدّم لنا الكلام على ذلك مشبعاً في سورة آل عمران.
وقال الزمخشري : نفي للغفران والهداية ، وهي اللطف على سبيل المبالغة التي توطئها اللام ، والمراد : بنفيهما نفي ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص الثابت انتهى.

وظاهر كلامه أنه يقول بقول الكوفيين ، وهو أنهم يقولون : إذا قلت لم يكن زيد ليقوم ، أنْ خبر لم يكن هو قولك ليقوم ، واللام للتأكيد زيدت في النفي ، والمنفي هو القيام ، وليست أن مضمرة بل اللام هي الناصبة.
والبصريون يقولون : النصب بإضمار أنْ ، وينسبك من أن المضمرة والفعل بعدها مصدر ، وذلك المصدر لا يصح أنْ يكون خبراً ، لأنه معنى والمخبر عنه جثة.
ولكن الخبر محذوف ، واللام تقوية لتعدية ذلك الخبر إلى المصدر لأنه جثة.
وأضمرت أنْ بعدها وصارت اللام كالعوض من أن المحذوفة ، ولذلك لا يجوز حذف هذه اللام ، ولا الجمع بينها وبين أن ظاهرة.
ومعنى قوله : والمراد بنفيهما نفي ما يقتضيهما أن المعنى لم يكونوا ليؤمنوا فيغفر الله لهم ويهديهم.
{ بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً } الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم.
ومعنى : بشر أخبر ، وجاء بلفظ بشر على سبيل التهكم بهم نحو قوله : { فبشرهم بعذاب أليم } أي القائم لهم مقام البشارة ، هو الإخبار بالعذاب كما قال : « تحية بينهم ضرب وجيع ».
وقال ابن عطية : جاءت البشارة هنا مصرحاً بقيدها ، فلذلك حسن استعمالها في المكروه.
ومتى جاءت مطلقة فإنما عرفها في المحبوب.
وفي هذه الآية دليل على أنّ التي قبلها إنما هي في المنافقين.
وقال الماتريدي : بشر المنافقين يدل على أنّ قوله : { يا أيها الذين آمنوا آمنوا } في أهل النفاق والمراءاة ، لأنه لم يسبق ذكر للمنافقين سوى هذه الآية.
ويحتمل أن يكون ابتداء من غير تقدم ذكر المنافقين.
{ الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } أي : اليهود والنصارى ومشركي العرب أولياء أنصاراً ومعينين يوالونهم على الرسول والمؤمنين ، ونص من صفات المنافقين على أشدها ضرراً على المؤمنين وهي : موالاتهم الكفار ، واطراحهم المؤمنين ، ونبه على فساد ذلك ليدعه من عسى أن يقع في نوع منه من المؤمنين غفلة أو جهالة أو مسامحة.
والذين : نعت للمنافقين ، أو نصب على الذم ، أو رفع على خبر المبتدأ.
أي : هم الذين.
{ أيبتغون عندهم العزة } أي : الغلبة والشدّة والمنعة بموالاتهم ، وقول بعضهم لبعض : لا يتم أمر محمد.
وفي هذا الاستفهام تنبيه على أنهم لا عزة لهم فكيف تبتغي منهم؟ وعلى خبث مقصدهم.
وهو طلب العزة بالكفار والاستكثار بهم.
{ فإن العزة لله جميعاً } أي لأوليائه الذين كتب لهم العز والغلبة على اليهود وغيرهم.
قال تعالى : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز } وقال : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون } وقال تعالى : { من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً } والفاء في فإن العزة لله دخلت لما في الكلام من معنى الشرط ، والمعنى : أنْ تبتغوا العزة من هؤلاء فإن العزة ، وانتصب جميعاً على الحال.
{ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره } الخطاب لمن أظهر الإيمان من مخلص ومنافق.

وقيل : للمنافقين الذين تقدّم ذكرهم ، ويكون التفاتاً.
وكانوا يجلسون إلى أحبار اليهود وهم يخوضون في القرآن يسمعون منهم ، فنهوا عن ذلك ، وذكروا بما نزل عليهم بمكة من قوله : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره }.
وقرأ الجمهور : وقد نزل مشدداً مبنياً للمفعول.
وقرأ عاصم : نزل مشدداً مبنياً للفاعل.
وقرأ أبو حيوة وحميد : نزل مخففاً مبنياً للفاعل.
وقرأ النخعي : أنزل بالهمزة مبنياً للمفعول ، ومحل أن رفع أو نصب على حسب العامل ، فنصب على قراءة عاصم ، ورفع على الفاعل على قراءة أبي حيوة وحميد ، وعلى المفعول الذي لم يسم فاعله على قراءة الباقين.
وإنْ هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف وتقديره : ذلك أنه إذا سمعتم.
وما قدره أبو البقاء من قوله : أنكم إذا سمعتم ، ليس بجيد ، لأنها إذا خففت إنْ لم تعمل في ضمير إلا إذا كان ضمير أمر ، وشأن محذوف ، وإعمالها في غيره ضرورة نحو قوله :
فلو أنك في يوم الرخاء سألتني . . .
طلاقك لم أبخل وأنت صديق
وخبر إنْ هي الجملة من إذا وجوابها.
ومثال وقوع جملة الشرط خبراً لأنْ المخففة من الثقيلة قول الشاعر :
فعلمت أن من تتقوه فإنه . . .
جزر لخامعة وفرخ عقاب
ويكفر بها في موضع نصب على الحال ، والضمير في معهم عائد على المحذوف الذي دل عليه قوله : يكفر بها ويستهزأ أي : فلا تقعدوا مع الكافرين المستهزئين ، وحتى غاية لترك القعود معهم.
ومفهوم الغاية أنهم إذا خاضوا في غير الكفر والاستهزاء ارتفع النهي ، فجاز لهم أن يقعدوا معهم.
والضمير عائد على ما دل عليه المعنى أي : في حديث غير حديثهم الذي هو كفر واستهزاء.
ويحتمل أن يفرد الضمير ، وإنْ كان عائداً على الكفر وعلى الاستهزاء المفهومين من قوله : يكفر بها ويستهزأ بها ، لأنهما راجعان إلى معنى واحد ، ولأنه أجرى الضمير مجرى اسم الإشارة في كونه لمفرد ، وإنْ كان المراد به اثنين.
{ إِنكم إذاً مثلهم } حكم تعالى بأنهم إذا قعدوا معهم وهم يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها ، وهم قادرون على الإنكار مثلهم في الكفر ، لأنهم يكونون راضين بالكفر ، والرضا بالكفر كفر.
والخطاب في أنكم على الخلاف السابق أهو للمنافقين؟ أم للمؤمنين؟ ولم يحكم تعالى على المسلمين الذين كانوا يجالسون الخائضين من المشركين بمكة بأنهم مثل المشركين ، لعجز المسلمين إذ ذاك عن الإنكار بخلاف المدينة ، فإن الإسلام كان الغالب فيها والأعلى ، فهم قادرون على الإنكار ، والسامع للذم شريك للقائل ، وما أحسن ما قال الشاعر :
وسمعك صن عن سماع القبيح . . .
كصون اللسان عن النطق به
قال ابن عطية : وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات ، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة كقول الشاعر :

عن المرء لا تسئل وسل عن قرينه . . .
فكل قرين بالمقارن يقتدى
وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ قوماً يشربون الخمر فقيل له عن أحد الحاضرين : إنه صائم فحمل عليه الأدب ، وقرأ : إنكم إذاً مثلهم.
ومَن ذهب إلى أنّ معنى قوله : إنكم إذاً مثلهم ، إنْ خضتم كخوضهم ووافقتموهم على ذلك فأنتم كفار مثلهم ، قوله تنبو عنه دلالة الكلام.
وإنما المعنى ما قدّمناه من أنكم إذا قعدتم معهم مثلهم.
وإذا هنا توسطت بين الاسم والخبر ، وأفرد مثل ، لأن المعنى أنّ عصيانكم مثل عصيانهم ، فالمعنى على المصدر كقوله : { أنؤمن لبشرين مثلنا } وقد جمع في قوله : { ثم لا يكونوا أمثالكم } وفي قوله : { حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون } والإفراد والمطابقة في التثنية أو الجمع جائزان.
وقرىء شاذاً مثلهم بفتح اللام ، فخرجه البصريون على أنه مبني لإضافته إلى مبني كقوله : لحق مثل ما أنكم تنطقون على قراءة من فتح اللام ، والكوفيون يجيزون في مثل أن ينتصب محلاً وهو الظرف ، فيجوز عندهم زيد مثلك بالنصب أي : في مثل حالك.
فعلى قولهم يكون انتصاب مثلهم على المحل ، وهو الظرف.
{ إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً } لما اتخذوهم في الدنيا أولياء جمع بينهم في الآخرة في النار ، والمرء مع من أحب ، وهذا توعد منه تعالى تأكد به التحذير من مجالستهم ومخالطتهم.
{ الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين } المعنى الذين ينتظرون بكم ما يتجدد من الأحوال من ظفر لكم أو بكم ، فإن كان لكم فتح من الله قالوا : ألم نكن معكم مظاهرين.
والمعنى : فاسهموا لنا بحكم إنّنا مؤمنون ، وإن كان للكافرين أي اليهود نصيب ، أي : نيل من المؤمنين قالوا : ألم نستحوذ عليكم ، أي : ألم نغلبكم وننتمكن من قتلكم وأسركم ، وأبقينا عليكم ، ونمنعكم من المؤمنين بأن ثبطناهم عنكم ، فاسهموا لنا بحكم أننا نواليكم فلا نؤذيكم ، ولا نترك أحداً يؤذيكم.
قيل : المعنى أنّ الكفار واليهود هموا بالدخول في الإسلام فحذرهم المنافقون عن ذلك ، وبالغوا في تنفيرهم سيضعف أمر الرسول ، فمنوا عليهم عند حصول نصيب لهم بأنهم قد أرشدوهم لهذه المصالح ، فيكون التقدير : ونمنعكم من اتباع المؤمنين والدخول في دينهم فاسهموا لنا.
وقيل : المعنى ألم نخبركم بأمرِ محمد وأصحابه ونطلعكم على سرهم؟ وعن ابن عباس : ألم نحط من ورائكم؟ والذين يتربصون بدل من الذين يتخذون ، أو صفة للمنافقين ، أو نصب على الذم ، أو رفع على خبر الابتداء محذوف.
وسمى تعالى ظفر المؤمنين فتحاً عظيماً لهم ، وجعل منه تعالى فقال : فتح من الله ، وظفر الكافرين نصيباً ، ولم ينسبه إليه تعالى تحقيراً لهم وتخسيساً لما نالوه من المؤمنين ، لأن ظفر المؤمنين أمر عظيم تفتح له أبواب السماء كما قال أبو تمام في فتح المعتصم عمورية بلاد الروم :

فتح تفتح أبواب السماء له . . .
وتبرز الأرض في أثوابها القشب
وأما ظفر الكافرين فهو حظ دنيوي يصيبونه.
وقرأ ابن أبي عبلة : ونمنعكم بنصب العين بإضمار بعد واو الجمع ، والمعنى : ألم نجمع بين الاستحواذ عليكم ، ومنعكم من المؤمنين؟ ونظيره قول الحطيئة :
ألم أك جاركم ويكون بيني . . .
وبينكم المودة والإخاء
وقال ابن عطية : ونمنعكم بفتح العين على الصرف انتهى.
يعني الصرف عن التشريك لما بعدها في إعراب الفعل الذي قبلها ، وليس النصب على الصرف من اصطلاح البصريين.
وقرأ أُبي : ومنعناكم من المؤمنين ، وهذا معطوف على معنى التقدير : لأن المعنى إما استخوذنا عليكم ومنعناكم كقوله : { ألم نشرح لك صدرك ووضعنا } إذ المعنى : أما شرحنا لك صدرك ووضعنا.
{ فالله يحكم بينكم يوم القيامة } أي وبينهم وينصفكم من جميعهم.
ويحتمل أن لا عطف ، ومعنى بينكم أي : بين الجمع منكم ومنهم ، وغلب الخطاب.
وهذه تسلية للمؤمنين وأنس بما وعدهم به.
{ ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } يعني يوم القيامة قاله : عليّ وابن عباس.
وروي عن سبيع الحضرمي قال : كنت عند عليّ فقال له رجل : يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله تعالى : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } كيف ذلك وهم يقاتلوننا ويظهرون علينا أحياناً؟ فقال عليّ : معنى ذلك يوم القيامة ، يوم الحكم.
قال ابن عطية : وبهذا قال جميع أهل التأويل.
قال ابن العربي : وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه ، وإنْ أوهم صدر الكلام معناه لقوله : فالله يحكم بينكم يوم القيامة.
وقيل : أنه تعالى لا يمحو بالكفر ملة الإسلام ولا يستبيح بيضتهم كما جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان قال : « فإني سألت ربي أن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً ».
وقيل : المعنى أنْ لا يتواصوا بالباطل ، ولا يتناهوا عن المنكر ، ويتقاعدوا عن التوبة ، فيكون تسليط العدو عليهم من قبلهم كما قال تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } قال ابن العربي : وهذا بين جداً ، ويدل عليه قوله في حديث ثوبان : حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً.
وذلك أنّ حتى غاية ، فيقتضي ظاهر الكلام أنه لا يسلط عليهم عدوهم فيستبيحهم إلا إذا كان منهم هلاك بعضهم بعضاً ، وسبي بعضهم لبعض.
وقد وجد ذلك في هذه الأزمان بالفتن الواقعة بين المسلمين ، فغلظت شوكة الكفار ، واستولوا على بلاد المسلمين حتى لم يبق من الإسلام إلا أقله.
وقيل : سبيلاً من جهة الشرع ، فإن وجد فبخلاف الشرع.
وقيل : سبيلاً حجة شرعية ولا عقلية يستظهرون بها إلا أبطلها ودحضت.

وقيل : سبيلاً أي ظهوراً قاله : الكلبي.
ويحمل على الظهور الدائم الكلي ، فيؤول معناه إلى أنهم لا يستبيحون بيضة الإسلام وإلا فقد ظهروا في مواطن كأحد قبل.
وقد تضمنت هذه الآيات من الفصاحة والبديع فنوناً التجنيس المغاير في : أن يصالحا بينهما صلحاً ، وفي : فلا تميلوا كل الميل ، وفي : فقد ضل ضلالاً ، وفي : كفروا وكفروا.
والتجنيس المماثل في : ويستفتونك ويفتيكم ، وفي : صلحاً والصلح ، وفي : جامع وجميعاً.
والتكرار في : لفظ النساء ، وفي لفظ يتامى ، واليتامى ، ورسوله ، ولفظ الكتاب ، وفي آمنوا ثم كفروا ، وفي المنافقين.
والتشبيه في : كالمعلقة.
واللفظ المحتمل للضدين في : ترغبون أن تنكحوهن.
والاستعارة في : نشوزاً ، وفي : وأحضرت الأنفس الشح ، وفي : فلا تميلوا ، وفي : قوامين ، وفي : وإن تلووا أو تعرضوا ، وفي : ازدادوا كفراً ولا ليهديهم سبيلاً ، وفي : يتربصون ، وفي : فتح من الله ، وفي : ألم نستحوذ ، وفي : سبيلاً.
وهذه كلها للأجسام استعيرت للمعاني.
والطباق في : غنياً أو فقيراً ، وفي : فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا واتباع الهوى جور وفي الكافرين والمؤمنين.
والاختصاص في : بما تعملون خبيراً خص العمل.
والالتفات في : وقد نزل عليكم إذا كان الخطاب للمنافقين.
والحذف في مواضع.

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)

الكسل : التثاقل ، والتثبط ، والفتور عن الشيء.
ويقال : أكسل الرجل إذا جامع فأدركه الفتور ولم ينزل.
الذبذبة : الاضطراب بحيث لا يبقى على حال ، قاله : ابن عرفة والتردد بين الأمرين.
وقال النابغة :
ألم تر أن الله أعطاك سورة . . .
ترى كل ملك دونها يتذبذب
وقال آخر :
خيال لأم السلسبيل ودونها . . .
مسيرة شهر للبريد المذبذب
بكسر الثانية.
قال ابن جني : أي القلق الذي لا يثبت.
قيل : وأصله الذب ، وهو ثلاثي الأصل ضعف فقيل : ذبب ، ثم أبدل من أحد المضعفين وهي الباء الثانية ذالاً فقيل ذبذب ، وهذا على أصل الكوفيين.
وأما البصريون فهو عندهم رباعي كدحرج.
{ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } تقدم تفسير يخادعون الله في أوّل البقرة.
ومعنى وهو خادعهم : أي منزل الخداع بهم ، وهذه عبارة عن عقوبة سماها باسم الذنب.
فعقوبتهم في الدنيا ذلهم وخوفهم ، وفي الآخرة عذاب جهنم قاله ابن عطية.
وقال الحسن ، والسدي ، وابن جريج ، وغيرهم من المفسرين : هذا الخداع هو أنه تعالى يعطي هذه الأمّة يوم القيامة نوراً لكل إنسان مؤمن أو منافق ، فيفرح المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا ، فإذا جاؤوا إلى الصراط طفىء نور كل منافق ، ونهض المؤمنون.
وذلك قول المنافقين : انظرونا نقتبس من نوركم وذلك هو الخداع الذي يجري على المنافقين.
وقال الزمخشري : وهو خادعهم ، وهو فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع ، حيث تركهم معصومين الدماء والأموال في الدنيا ، وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة ، ولم يخلهم في العاجل من فضيحة وإحلال بأس ونقمة ورعب دائم.
والخادع من خدعته إذا غلبته ، وكنت أخدع منه انتهى.
وبعضه مسترق من كلام الزجاج.
قال الزجاج : لما أمر بقبول ما أظهروا كان خادعاً لهم بذلك.
وقرأ مسلمة بن عبد الله النحوي : خادعْهم بإسكان العين على التخفيف ، واستثقال الخروج من كسر إلى ضم.
وهذه الجملة معطوفة على خبر إن.
وقال أبو البقاء : هو في موضع الحال.
{ وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } أي متوانين لا نشاط لهم فيها ، لأنهم إنما يصلون تستراً وتكلفاً ، وينبغي للمؤمن أن يتحرز من هذه الخصلة التي ذمّ المنافقون ، وأن يقبل إلى صلاته بنشاط وفرغ قلب وتمهل في فعلها ، ولا يتقاعس عنها فعل المنافق الذي يصلي على كرهٍ لاعن طيب نفس ورغبة.
وما زال في كل عصر منافقون يتسترون بالإسلام ، ويحضرون الصلوات كالمتفلسفين الموجودين في عصرنا هذا ، وقد أشار بعض علمائنا إليهم في شعر قاله وضمن فيه بعض الآية ، فقال في أبي الوليد بن رشد الحفيد وأمثاله من متفلسفة الإسلام :
لأشياع الفلاسفة اعتقاد . . .
يرون به عن الشرح انحلالا
أباحوا كل محظور حرام . . .
وردّوه لأنفسهم حلالا
وما انتسبوا إلى الإسلام إلا . . .
لصون دمائهم أن لا تسالا
فيأتون المناكر في نشاط . . .
ويأتون الصلاة وهم كسالى

وقرأ الجمهور : كسالى بضم الكاف ، وهي لغة أهل الحجاز.
وقرأ الأعرج : كسالى بفتح الكاف وهي لغة تميم وأسد.
وقرأ ابن المسيمفع : كسلى على وزن فعلى ، وصف بما يوصف به المؤنث المفرد على مراعاة الجماعة كقراءة.
{ وترى الناس سكرى } { يراؤُون الناس } أي يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة وأنهم مسلمون.
وهي من باب المفاعلة ، يرى المرائي الناس تجمله بأفعال الطاعة ، وهم يرونه استحسان ذلك العمل.
وقد يكون من باب فاعل بمعنى فعل ، نحو نعمة وناعمة.
وروى أبو زيد : رأت المرأة المرآة إذا أمسكتها لترى وجهها.
وقرىء : يرؤن بهمزة مضمومة مشددة بين الراء والواو.
وقال ابن عطية : وهي أقوى في المعنى من يراؤون ، لأن معناها يحملون الناس على أن يروهم ويتظاهرون لهم بالصلاة وهم يبطنون النفاق.
ونسب الزمخشري هذه القراءة لابن أبي إسحاق إلا أنه قال قرأ : يرؤنهم همزة مشددة مثل : يرعونهم أي يبصرونهم أعمالهم ، ويراؤونهم كذلك.
{ ولا يذكرون الله إلا قليلاً } قال الحسن : قل لأنه كان يعمل لغير الله.
وقال قتادة : ما معناه إنما قل لكونه لم يقبله ، وما رده الله فكثيره قليل ، وما قبله فقليله كثير.
وقال غيره : قل بالنسبة إلى خوضهم في الباطل وقولهم الزور والكفر.
وقال الزمخشري : إلا قليلاً ، لأنهم لا يصلون قط غائبين عن عيون الناس إلا ما يجاهرون به ، وما يجاهرون به قليل ، لأنهم ما وجدوا مندوحة من تكلف ما ليس في قلوبهم لم يتكلفوه ، أولا يذكرون الله بالتسبيح والتهليل إلا ذكراً قليلاً.
ويجوز أن يراد بالقلة العدم انتهى.
ولا يجوز أنْ يراد به العدم ، لأن الاستثناء يأباه ، وقد رددنا هذا القول عليه وعلى ابن عطية في هذه السورة.
وقيل : قل لأنهم قصدوا به الدنيا وزهرتها ، وذلك فإنّ متاع الدنيا قليل ، وقيل في الكلام حذف تقديره : ولا يذكرون عقاب الله وثوابه إلا قليلاً لاستغراقهم في الدنيا ، وغلبة الغفلة على قلوبهم.
والظاهر أنّ الذكر هنا هو باللسان ، وأنهم قلَّ أن يذكروا الله بخلاف المؤمن المخلص ، فإنه يغلب على أحواله ذكر الله تعالى.
{ مذبذبين بين ذلك } أي مقلقين.
قال الزمخشري : ذبذبهم الشيطان والهوى بين الإيمان والكفر يتردّدون بينهما متحيرين ، كأنه يذب عن كلا الجانبين أي يذاد فلا يقر في جانب واحد ، كما يقال : فلان يرمي به الرحوان ، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب ، كان المعنى : كلما مال إلى جانب ذب عنه انتهى.
ونسب الذبذبة إلى الشيطان ، وأهل السنة يقولون : إنّ هذه الحياة والذبذبة إنما حصلت بإيجاد الله.
وفي الحديث : « مثل المنافق مثل الشاة العابر بين الغنيمن » والإشارة بذلك إلى حالتي الكفر والإيمان كما قال تعالى :

{ عوان بين ذلك } أي بين البكر والفارض.
وقال ابن عطية : وأشار إليه وإنْ لم يتقدم ذكر الظهور لضمن الكلام له ، كما جاء : { حتى توارت بالحجاب } و { كل من عليها فان } انتهى وليس كما ذكر ، بل تقدم ما تصح إليه الإشارة من المصدرين اللذين دل عليهما ذكر الكافرين والمؤمنين ، فهو من باب : إذا نهى السفيه جرى إليه.
وقرأ ابن عباس وعمرو بن فائد : مذبذبين بكسر الذال الثانية ، جعلاه اسم فاعل أي مذبذبين أنفسهم أو دينهم ، أو بمعنى متذبذبين كما جاء صلصل وتصلصل بمعنى.
وقرأ أُبي : متذبذبين اسم فاعل من تذبذب أي اضطرب ، وكذا في مصحف عبد الله.
وقرأ الحسن : مذبذبين بفتح الميم والذالين.
قال ابن عطية : وهي قراءة مردودة انتهى.
والحسن البصري من أفصح الناس يحتج بكلامه ، فلا ينبغي أن ترد قراءته ، ولها وجه في العربية ، وهو أنه أتبع حركة الميم بحركة الذال ، وإذا كانوا قد أتبعوا حركة الميم بحركة عين الكلمة في مثل منتن وبينهما حاجز فلان يتبعوا بغير حاجز أولى ، وكذلك اتبعوا حركة عين منفعل بحركة اللام في حالة الرفع فقالوا : منحدر ، وهذا أولى لأن حركة الإعراب ليست ثابتة خلاف حركة الذال ، وهذا كله توجيه شذوذ.
وعلى تقدير صحة النقل عن الحسن أنه قرأ بفتح الميم.
وقرأ أبو جعفر : مدبدبين بالدال غير معجمة ، كأن المعنى : أخذتهم تارة بدبة ، وتارة في دبة ، فليسوا بماضين على دبة واحدة.
والدبة الطريقة ، وهي في حديث ابن عباس : « اتبعوا دبة قريش ، ولا تفارقوا الجماعة » ويقال : دعني ودبتي ، أي طريقتي وسجيتي.
قال الشاعر :
طها هذريان قل تغميض عينه . . .
على دبة مثل الخنيق المرعبل
وانتصاب مذبذبين على الحال من فاعل يراؤون ، أو فاعل ولا يذكرون.
وقال الزمخشري : مذبذبين : إمّا حال من قوله : ولا يذكرون عن واو يراؤونهم ، أي يراؤونهم غير ذاكرين مذبذبين.
أو منصوب على الذم.
{ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } والمراد بأحد المشار إليهم المؤمنون ، وبالآخر الكافرون.
والمعنى : لا يعتقدون الإيمان فيعدوا من المؤمنين ، ولم يقيموا على إظهار الكفر فيعدوا مع الكافرين.
ويتعلق إلى بمحذوف تقديره : ولا منسوبين إلى هؤلاء ، وهو موضع الحال.
{ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً } أي فلن تجد لهدايته سبيلاً ، أو فلن تجد سبيلاً إلى هدايته.
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين } لما كان هذا الوصف من أوصاف المنافقين ، وتقدم ذمهم بذلك ، نهى الله تعالى المؤمنين عن هذا الوصف.
وكان للأنصار في بني قريظة رضاع وحلف ومودة ، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : من نتولى؟ فقال : { المهاجرون }.
وقال القفال : هذا نهي للمؤمنين عن موالاة المنافقين يقول : قد بينت لكم أخلاق هؤلاء المنافقين فلا تتخذوا منهم أولياء انتهى.
فعلى هذا هل الكافرون هنا اليهود أو المنافقون قولان؟ وقال ابن عطية : خطابه للمؤمنين يدخل فيه بحكم الظاهر المنافقون المظهرون للإيمان ، وفي اللفظ رفق بهم وهو المراد بقوله : أتريدون أن هذا التوفيق إنما هو لمن ألمّ بشيء من العقل المؤدّي إلى هذه الحال ، والمؤمنون المخلصون ما ألموا بشيء من ذلك.

ويقوي هذا المنزع قوله تعالى : من دون المؤمنين ، أي : والمؤمنون العارفون المخلصون غيب عن هذه الموالاة ، وهذا لا يقال للمؤمنين المخلصين بل المعنى : يا أيها الذين أظهروا الإيمان والتزموا لوازمه انتهى.
قيل : وفي الآية دليل على أنّ الكافر لا يستحق على المسلم ولاية بوجه ولداً كان أو غيره ، وأن لا يستعان بذمي في أمر يتعلق به نصرة وولاية كقوله تعالى : { لا تتخذوا بطانة من دونكم } وقد كره بعض العلماء توكيله في الشراء والبيع ، وفي دفع المال إليه مضاربة.
{ أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً } أي حجة ظاهرة واضحة بموالاتكم الكافرين أو المنافقين على قول القفال.
والمعنى : أنه يأخذكم إن واليتم الكفار بانتقام منه ، وله عليكم في ذلك الحجة الواضحة ، إذْ قد بين لكم أحوالهم ونهاكم عن موالاتهم.
وقيل : السلطان هنا القهر والقدرة.
والمعنى : أنه يسلط عليكم بسبب اتخاذكم الكفار أولياء والسلطان.
قال الفراء : أنث وذكر ، وبعض العرب يقول : قضت به عليك السلطان ، وقد أخذت فلاناً السلطان ، والتأنيث عند الفصحاء أكثر انتهى.
فمن ذكر ذهب به إلى البرهان والاحتجاج ، ومن أنّث ذهب به إلى الحجة ، وإنما اختير التذكير هنا في الصفة وإن كان التأنيث أكثر ، لأنه وقع الوصف فاصلة ، فهذا هو المرجح للتذكير على التأنيث.
وقال ابن عطية : والتذكير أشهر وهي لغة القرآن حيث وقع ، وهذا مخالف لما قاله الفراء.
وإذا سمي به صاحب الأمر فهو على حذف مضاف والتقدير : ذو السلطان ، أي : ذو الحجة على الناس إذ هو مدبرهم والناظر في مصالحهم ومنافعهم.
وقال الزمخشري : لا تتشبهوا بالمنافقين في اتخاذهم اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام أولياء سلطان حجة بينة يعني : أنّ موالاة الكافرين بينة على المنافقين.
وعن صعصعة بن صرحان أنه قال لابن أخ له خالص المؤمن وخالق الكافر والفاجر : فإنّ الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن ، وإنه يحق عليك أن تخالص المؤمن.
{ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } قال ابن عباس : الدرك لأهل النار كالدرج لأهل الجنة ، إلا أنّ الدرجات بعضها فوق بعض ، والدركات بعضها أسفل من بعض انتهى.
وقال أبو عبيدة : الدركات الطبقات : وأصلها من الإدراك أي : هي متداركة متلاحقة.
وقال ابن مسعود وأبو هريرة : هي من توابيت من حديد متعلقة في قعر جهنم ، والنار سبع دركات ، قيل : أولها جهنم ، ثم لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية.
وقد تسمى جميعها باسم الطبقة الأولى ، وبعض الطبقات باسم بعض ، لأن لفظ النار يجمعها.

وقال ابن عمر : أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون.
وتصديق ذلك في كتاب الله هذه الآية في المنافقين : و { فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين } { وأدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب } وإنما كان المنافق أشدّ عذاباً من غيره من الكفار لأنه مثله في الكفر ، وضم إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وأهله ، والمداجاة واطلاع الكفار على أسرار المسلمين فهو أشد غوائل من الكفار وأشد تمكيناً من أذى المسلمين.
وقرأ الحرميان والعربيان : في الدرك بفتح الراء.
وقرأ حمزة ، والكسائي ، والأعمش ، ويحيى بن وثاب : بسكونها ، واختلف عن عاصم.
وروى الأعمش والبرجمي : الفتح ، وغيرهما الإسكان.
قال أبو علي : وهما لغتان كالشمع والشمع ، واختار بعضهم الفتح لقولهم : في الجمع أدراك كجمل وإجمال يعني : أنه ينقاس في فعل أفعال ، ولا ينقاس في فعل.
وقال عاصم : لو كان بالفتح لقيل : السفلى.
قال بعضهم : ذهب عاصم إلى أنَّ الفتح إنما هو على أنه جمع دركة كبقرة وبقر انتهى.
ولا يلزم ما ذكره من التأنيث ، لأن الجنس المميز مفرده بهاء التأنيث ، يؤنث في لغة الحجاز ، ويذكر في لغة تميم ونجدة ، وقد جاء القرآن بهما ، إلا ما استثني لأنه يتحتم فيه التأنيث أو التذكير ، وليس دركة ودرك من ذلك ، فعلى هذا يجوز تذكير الدرك وتأنيثه.
{ ولن تجد له نصيراً } أي مانعاً من العذاب ولا شافعاً يشفع.
{ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين } أي تابوا من النفاق وأصلحوا أعمالهم ، وتمسكوا بالله وكتابه ، ولم يكن لهم ملجأ ولا ملاذ إلا الله ، وأخلصوا دينهم لله أي : لا يبتغون بعمل الطاعات إلا وجه الله تعالى.
ولما كان المنافق متصفاً بنقائص هذه الأوصاف من الكفر وفساد الأعمال والموالاة للكافرين والاعتزاز بهم والمراءاة للمؤمنين ، شرط في توبتهم ما يناقض تلك الأوصاف وهي التوبة من النفاق ، وهي الوصف المحتوي على بقية الأوصاف من حيث المعنى.
ثم فصل ما أجمل فيها ، وهو الإصلاح للعمل المستأنف المقابل لفساد أعمالهم الماضية ، ثم الاعتصام بالله في المستقبل وهو المقابل لموالاة الكافرين والاعتماد عليهم في الماضي ، ثم الإخلاص لدين الله وهو المقابل للرياء الذي كان لهم في الماضي ، ثم بعد تحصيل هذه الأوصاف جميعها أشار إليهم بأنهم مع المؤمنين ، ولم يحكم عليهم بأنهم المؤمنون ، ولا من المؤمنين ، وإن كانوا قد صاروا مؤمنين تنفيراً مما كانوا عليه من عظم كفر النفاق وتعظيماً لحال من كان متلبساً به.
ومعنى : مع المؤمنين ، رفقاؤهم ومصاحبوهم في الدارين.
والذين تابوا مستثنى من قوله : في الدرك.
وقيل من قوله : فلن تجد لهم.
وقيل : هو مرفوع على الابتداء ، والخبر فأولئك.
وقال الخوفي : ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط المتعلق بالذين.
{ وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً } أتى بسوف ، لأن إيتاء الأجر هو يوم القيامة ، وهو زمان مستقبل ليس قريباً من الزمان الحاضر.

وقد قالوا : إنّ سوف أبلغ في التنفيس من السين ، ولم يعد الضمير عليهم فيقال : وسوف يؤتيهم ، بل أخلص ذلك الأجر للمؤمنين وهم رفقاؤهم ، فيشاركونهم فيه ويساهمونهم.
وكتب يؤت في المصحف بغير ياء ، لمّا حذفت في اللفظ لالتقاء الساكنين حذفت في الخط ، ولهذا نظائر في القرآن.
ووقف يعقوب عليها بالياء ، ووقف السبعة بغير ياء اتباعاً لرسم المصحف.
وقد روى الوقف بالياء عن : حمزة ، والكسائي ، ونافع.
وقال أبو عمرو : ينبغي أن لا يوقف عليها لأنه إن وقف بغير ياء خالف النحويين ، وإن وقف بياء خالف لفظ المصحف.
والأجر العظيم هو الخلود في الجنة.
{ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم } الخطاب قيل : للمؤمنين.
وقيل : للكافرين ، وهو الذي يقتضيه سياق الكلام.
وهذا استفهام معناه النفي أي : ما يعذبكم إنْ شكرتم وآمنتم.
والمعنى : أنه لا منفعة له في ذلك ولا حاجة ، لأن العذاب إنما يكون لشيء يعود نفعه أو يندفع ضره عن المعذب ، والله تعالى منزه عن ذلك ، وإنما عقابه المسيء لأمر قضت به حكمته تعالى ، فمن شكره وآمن به لا يعذبه.
وما استفهام كما ذكرنا في موضع نصب بفعل ، التقدير : أي شيء يفعل الله بعذابكم.
والباء للسبب ، استشفاء أم إدراك ثأر ، أم جلب منفعة ، أم دفع مضرة ، فهو تعالى منزه عن ذلك.
وأجاز أبو البقاء أنْ تكون ما نافية ، قال : والمعنى : ما يعذبكم.
ويلزم على قوله أن تكون الباء زائدة ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي : إن شكرتم وآمنتم فما يفعل بعذابكم.
ذكر عن ابن عباس أنّ المراد بالشكر هنا توحيد الله.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : لم قدم الشكر على الإيمان؟ ( قلت ) : لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع فيشكر شكراً مبهماً ، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المؤمن به المنعم آمن به ، ثم شكر شكراً مفصلاً ، فكان الشكر متقدماً على الإيمان ، وكان أصل التكليف ومداره.
وقال ابن عطية : الشكر على الحقيقة لا يكون إلا مقترناً بالإيمان ، لكنه ذكر الإيمان تأكيداً وتنبيهاً على جلالة موقعه انتهى.
وأبعد من ذهب إلى أنه على التقديم والتأخير أي : إن آمنتم وشكرتم.
{ وكان الله شاكراً عليماً } شاكراً أي : مثيباً موفياً أجوركم.
وأتى بصفة الشكر باسم الفاعل بلا مبالغة ليدل على أنه يتقبل ولو أقل شيء من العمل ، وينميه عليماً بشكركم وإيمانكم فيجازيكم.
وفي قوله : عليماً ، تحذير وندب إلى الإخلاص لله تعالى.
وقيل : الشكر من الله إدامة النعم على الشاكر.
{ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم } قال مجاهد : تضيف رجل قوماً فأساؤا قراه ، فاشتكاهم ، فعوتب ، فنزلت.
وقال مقاتل : نال رجل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه والرسول عليه السلام ، حاضر ، فسكت عنه أبو بكر مراراً ثم رد عليه ، فقام الرسول صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : يا رسول الله شتمني فلم تقل شيئاً ، حتى إذا رددت عليه قمت ، فقال :

« إن ملكاً كان يجيب عنك ، فلما رددت عليه ذهب وجاء الشيطان » فنزلت.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه تعالى لما ذكر من أحوال المنافقين وذمهم وإظهار فضائحهم ما ذكر ، وبين ظلمهم واهتضامهم جانب المؤمنين ، سوّغ هنا للمؤمنين أن يذكروهم بما فيهم من الأوصاف الذميمة.
وقال عليه السلام : « اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس ».
وقرأ الجمهور : إلا من ظلم مبنياً للمفعول.
وقال ابن عباس وغيره : إلا من ظلم ، فإنّ له أن يدعو على من ظلمه ، وكان ذلك رخصة من الله له ، وإن صبر فهو خير له.
وقال الحسن : لا يدعو عليه ، ولكن ليقل : اللهم أعني عليه ، اللهم استخرج حقي ، اللهم حل بينه وبين ما يريد من ظلمي.
وقال ابن جريج : يجازيه بمثل فعله ، ولا يزيد عليه.
وقيل : هو أن يبدأ بالشتم فيردّ على من شتمه ، وتقدم قول مجاهد أنها في الضيف يشكو سوء صنيع المضيف معه ، ونسب إلى الظلم لأنه مخالف للشرع والمروءة.
وقال المنير : معناه إلا مَن أكره على أن يجهر بالسوء كفراً ونحوه فذلك مباح ، والآية في الإكراه ، وهذا الاستثناء متصل على تقدير حذف مضاف أي : الأجهر من ظلم.
وقيل : الاستثناء منقطع والتقدير : لكنّ المظلوم له أن ينتصف من ظالمه بما يوازى ظلامته قاله : السدي ، والحسن ، وغيرهما.
وبالسوء متعلق بالجهر ، وهو مصدر معرّف بالألف واللام ، والفاعل محذوف ، وبالجهر في موضع نصب.
ومن أجاز أن ينوي في المصدر بناؤه للمفعول الذي لم يسم فاعله قدّر أنّ بالسوء في موضع رفع ، التقدير : أن يجهر مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله.
وجوّز بعضهم أن يكون من ظلم بدلاً من ذلك الفاعل المحذوف التقدير : أن أحد إلا المظلوم ، وهذا مذهب الفراء.
أجاز الفراء فيما قام إلا زيد أن يكون زيد بدلاً من أحد.
وأما على مذهب الجمهور فإنه يكون من المستثنى الذي فرغ له العامل ، فيكون مرفوعاً على الفاعلية بالمصدر.
وحسن ذلك كون الجهر في حيز النفي ، وكأنه قيل : لا يجهر بالسوء من القول إلا المظلوم.
وقرأ ابن عباس ، وابن عمر ، وابن جبير ، وعطاء بن السائب ، والضحاك ، وزيد بن أسلم ، وابن أبي إسحاق ، ومسلم بن يسار ، والحسن ، وابن المسيب ، وقتادة ، وأبو رجاء : إلا من ظلم مبنياً للفاعل ، وهو استثناء منقطع.
فقدره الزمخشري : لأن الظالم راكب ما لم يحبه الله فيجهر بالسوء.
وقال ابن زيد : المعنى إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله ، والتوبيخ والرد عليه.

قال : وذلك أنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم في الدرك الأسفل من النار ، كان ذلك خبراً بسوء من القول ثم قال لهم بعد ذلك : { ما يفعل الله بعذابكم } الآية على معنى التأسيس والاستدعاء إلى الشكر والإيمان ، ثم قال للمؤمنين : { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } في إقامته على النفاق ، فإنه يقول له : ألست المنافق الكافر الذي لك في الآخرة الدرك الأسفل؟ ونحو هذا من الأقوال.
وقال قوم : تقديره : لكنّ من ظلم فهو يجهر بالسوء وهو ظالم في ذلك ، فهي ثلاثة تقادير في هذا الاستثناء المنقطع : أحدها : راجع للجملة الأولى وهي لا يحب ، كأنه قيل : لكن الظالم يحب الجهر بالسوء فهو يفعله ، والثاني : راجع إلى فاعل الجهر أي : لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء ، لكنَّ الظالم يجهر بالسوء.
والثالث : راجع إلى متعلق الجهر الفضلة المحذوفة أي : أن يجهر أحدكم لأحد بالسوء ، لكن من ظلم فاجهروا له بالسوء.
قال ابن عطية : وإعراب من يحتمل في بعض هذه التأويلات النصب ، ويحتمل الرفع على البدل من أحد المقدر انتهى.
ويعني بأحد المقدر في المصدر إذ التقدير أن يجهر أحد ، وما ذكره من جواز الرفع على البدل لا يصح ، وذلك أن الاستثناء المنقطع على قسمين : قسم يسوغ فيه البدل وهو ما يمكن توجه العامل عليه نحو : ما في الدار أحد إلا حمار ، فهذا فيه البدل في لغة تميم ، والنصب على الاستثناء المنقطع في لغة الحجاز.
وإنما جاز فيه البدل ، لأنك لو قلت : ما في الدار إلا حمار صح المعنى.
وقسم يتحتم فيه النصب على الاستثناء ولا يسوغ فيه البدل ، وهو مالا يمكن توجه العامل عليه نحو : المال ما زاد إلا النقص.
التقدير : لكن النقص حصل له ، فهذا لا يمكن أن يتوجه زاد على النقص ، لأنك لو قلت : ما زاد إلا النقص لم يصح المعنى ، والآية من هذا القسم ، لأنك لو قلت : لا يحب الله أن يجهر بالسوء إلا الظالم ، فيفرغ أن يجهر لأنّ يعمل في الظالم لم يصح المعنى.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون من مرفوعاً كأنه قيل : لا يحب الجهر بالسوء إلا الظالم ، على لغة من يقول : ما جاءني زيد إلا عمرو ، بمعنى : ما جاءني إلا عمرو.
ومنه { لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } انتهى.
وهذا الذي جوّزه الزمخشري لا يجوز ، لأنه لا يمكن أن يكون الفاعل يذكر لغواً زائداً ، ولا يمكن أن يكون الظالم بدلاً من الله ، ولا عمرو بدلاً من زيد ، لأن البدل في هذا الباب راجع في المعنى إلى كونه بدل بعض من كل ، إما على سبيل الحقيقة نحو : ما قام القوم إلا زيد ، وإما على سبيل المجاز نحو : ما في الدار أحد إلا حمار ، وهذا لا يمكن فيه البدل المذكور لا على سبيل الحقيقة ولا على سبيل المجاز ، لأنّ الله علم وكذا زيد هو علم ، فلا يمكن أن يتخيل فيه عموم ، فيكون الظالم بدلاً من الله ، وعمرو بدلاً من زيد.

وأما ما يجوز فيه البدل من الاستثناء المنقطع فإنه يتخيل فيما قبله عموم ، ولذلك صح البدل منه على طريق المحاز ، وإن لم يكن بعضاً من المستثنى منه حقيقة.
وأما قول الزمخشري : على لغة من يقول ما جاءني زيد إلا عمرو ، فلا نعلم هذه اللغة ، إلا أنّ في كتاب سيبويه بعد أن أنشد أبياتاً من الاستثناء المنقطع آخرها قول الشاعر :
عشية لا تغني الرّماح مكانها . . .
ولا النبل إلا المشرفي المصمم
ما نصه وهذا يقوي : ما أتاني زيد إلا عمرو ، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه ، لأنها معارف ليست الأسماء الآخرة بها ولا منها ، انتهى كلام سيبويه.
ولم يصرح ولا لوح أنّ قوله : ما أتاني زيد إلا عمرو من كلام العرب.
وقيل : من شرح سيبويه ، فهذا يقوي : ما أتاني زيد إلا عمرو ، أي ينبغي أن يثبت هذا من كلامهم ، لأن النبل معرفة ليس بالمشرفي ، كما أنّ زيداً ليس بعمرو ، وكما أن إخوة زيد ليسوا إخوانكم انتهى.
وليس ما أتاني زيد إلا عمرو نظيراً للبيت ، لأنه يتخيل عموم في البيت على سبيل المجاز ، كأنه قيل : لا يغني السلاح مكانها إلا المشرفي ، بخلاف ما أتاني زيد إلا عمرو ، فإنه لا يتخيل في ما أتاني زيد عموم البتة على أنه لو سمع هذا من كلام العرب وجب تأويله حتى يصح البدل ، فكان يصح ما جاءني زيد ولا غيره إلا عمرو.
كأنه يدل على حذف المعطوف وجود هذا الاستثناء ، إما أن يكون على إلغاء هذا الفاعل وزيادته ، أو على كون عمرو بدلاً من زيد ، فإنه لا يجوز لما ذكرناه.
وأما قول الزمخشري : ومنه قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ، فليس من باب ما ذكر ، لأنه يحتمل أن تكون من مفعولة ، والغيب بدلاً من بدل اشتمال أي : لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلا الله ، أي ما يسرونه ويخفونه لا يعلمه إلا الله.
وإنْ سلّمنا أنّ مَن مرفوعة ، فيجوز أن يكون الله بدلاً مِن مَن على سبيل المجاز في مَنْ ، لأن مَن في السموات يتخيل فيه عموم ، كأنه قيل : قل لا يعلم الموجود دون الغيب إلا الله.
أو على سبيل المجاز في الظرفية بالنسبة إلى الله تعالى ، ولذا جاء عنه ذلك في القرآن وفي السنة كقوله تعالى : { وهو الله في السموات وفي الأرض } وقوله تعالى : { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } وفي الحديث أين الله؟ قالت : في السماء ومن كلام العرب : لا ودي.

وفي السماء بيته يعنون الله تعالى.
وإذا احتملت الآية هذه الوجوه لم يتعين حملها على ما ذكر ، وخص الجهر بالذكر إما إخراجاً له مخرج الغائب ، وإمّا اكتفاء بالجهر عن مقابله ، أو لكونه أفحش.
{ وكان الله سميعاً عليماً } أي سميعاً لما يجهر به من السوء ، عليماً بما يسر به منه.
وقيل : سميعاً لكلام المظلوم ، عليماً بالظالم.
وقيل : سميعاً بشكوى المظلوم ، عليماً بعقبى الظالم ، أو عليماً بما في قلب المظلوم ، فليتق الله ولا يقل إلا الحق.
وهذه الجملة خبر ومعناه التهديد والتحذير.
{ إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفواً قديراً } الظاهر أنّ الهاء في تخفوه تعود على الخير.
قال ابن عباس : يريد من أعمال البر كالصيام والصدقة.
وقال بعضهم : في تخفوه عائد على السوء ، والمعنى : أنه تعالى لما أباح الجهر بالسوء لمن كان مظلوماً قال له ولجنسه : إن تبدو خيراً ، بدل من السوء ، أو تخفوا السوء ، أو تعفوا عن سوء.
فالعفو أولى وإن كان غير المعفو مباحاً انتهى.
وذكر إبداء الخير وإخفاءه تسبباً لذلك العفو ، ثم عطفه عليهما تنبيهاً على منزلته واعتداداً به ، وإن كان مندرجاً في إبداء الخير وإخفائه ، فجعله قسماً بالعطف لا قسيماً اعتناء به.
ولذلك أتى سبحانه وتعالى بصفة العفو والقدرة منسوبة له تعالى ليقتدى بسنته ، ويتخلق بشيء من صفاته تعالى.
والمعنى : أنه يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام ، وكان بالصفتين على طريق المبالغة تنبيهاً على أنّ العبد ينبغي أن يكثر منه العفو مع كثرة القدرة على الانتقام.
وفي الحديث الصحيح : « من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً ».
وقال تعالى : { والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس } وقال الحسن : المعنى أنه تعالى يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام فعليكم بالعفو.
وقال الكلبي : معناه أني أقدر على العفو عن ذنوبك منك على عفوك عن صاحبك.
وقيل : عفواً لمن عفى قديراً على إيصال الثواب إليه.
{ إن الذين يكفرون بالله ورسله } قال الحسن ، وقتادة ، والسدي ، وابن جريج : نزلت في اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بموسى والتوراة وكفرت بعيسى ومحمد عليهما السلام ، وآمنت النصارى بعيسى والإنجيل وكفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
وقيل : نزلت في اليهود خاصة ، آمنوا بموسى وعزيراً والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما بين ما عليه المنافقون من سوء الخليقة ومذموم الطريقة ، أخذ في الكلام على اليهود والنصارى ، جعل كفرهم ببعض الرسل كفراً بجميع الرسل ، وكفرهم بالرسل كفراً بالله تعالى.
{ ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله } أي يفرقوا بين الإيمان بالله ورسله ، يقولون نؤمن بالله ولا نؤمن ، بفلان ، وفلان من الأنبياء.
{ ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض } يعني من الأنبياء.

وقيل : هو تصديق اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه نبي ، ولكن ليس إلى بني إسرائيل.
ونحو هذا من تفرّقاتهم التي كانت تعنتاً وروغاناً.
{ ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً } أي طريقاً وسطاً بين الكفر والإيمان ولا واسطة بينهما.
{ أولئك هم الكافرون حقاً } أكد بقوله : هم ، لئلا يتوهم أنّ ذلك الإيمان ينفعهم.
وأكد بقوله : حقاً ، وهو تأكيد لمضمون الجملة الخبرية ، كما تقول : هذا عبد الله حقاً أي حق ذلك حقاً.
أو هو نعت لمصدر محذوف أي : كفراً حقاً أي : ثابتاً يقيناً لا شك فيه.
أو منصوب على الحال على مذهب سيبويه.
وقد تقدم لذلك نظائر ، وقد طعن الواحدي في هذا التوجيه وقال : الكفر لا يكون حقاً بوجه من الوجوه ، ولا يلزم ما قال إنه لا يراد بحقاً الحق الذي هو مقابل للباطل ، وإنما المعنى أنه كفر ثابت متيقن ، وإنما كان التوكيد في ذلك ، لأنّ داعي الإيمان مشترك بين الأنبياء وهو ظهور المعجزات على أيديهم ، فكونهم فرّقوا في الإيمان بينهم دليل على كفرهم بالجميع ، إذ ليس إيمانهم ببعض ناشئاً عن النظر في الدليل ، وإنما هم على سبيل التشهي والتلاعب.
{ وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } هذا وعيد لهم بالإهانة في العذاب.
{ والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم } هؤلاء هم المؤمنون اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، وتقدم الكلام على دخول بين على أحد في البقرة.
في قوله : { لا نفرق بين أحد من رسله } فأغنى عن إعادته هنا.
{ أولئك سوف نؤتيهم أجورهم } صرح تعالى بوعد هؤلاء ، كما صرح بوعيد أولئك.
وقرأ حفص : يؤتيهم بالياء ليعود على اسم الله قبله.
وقرأ الباقون : بالنون على الالتفات ، ومقابله وأعتدنا.
وقول أبي عبد الله الرازي : قراءة النون أولى من وجهين : أحدهما : أنه أنهم والآخر : أنه مشاكل لقوله : وأعتدنا ، ليس بجيد ولا أولوية في ذلك ، لأن القراءتين كلتاهما متواترة ، هكذا نزلت ، وهكذا أنزلت.
{ وكان الله غفوراً رحيماً } لما وعدهم تعالى بالثواب زادهم تبشيراً بالتجاوز عن السيئآت وبرحمته إياهم.
{ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء } قال السدي : قالت اليهود : إن كنت صادقاً فجيء بكتاب من السماء جملة كما جاء موسى بالكتاب.
وقال محمد بن كعب القرظي : قالوا : ائت بألواح فيها كتابك كما أتى موسى بألواح فيها التوراة.
وقال الحسن وقتادة : سألوه أن يأتي بكتاب خاص لليهود يأمرهم بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن جريج : قالوا : لن نتابعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله فلان وإلى فلان إنك رسول الله.
فعلى قول ابن جريج يقتضي أن سؤالهم كان على نحو سؤال عبد الله بن أمية الزهري ، وقيل : كتاباً نعاينه حتى ينزل ، وسمي من سائلي اليهود : كعب بن الأشرف ، وفنحاص بن عازوراء.

وقيل : السائلون هم اليهود والنصارى وسؤالهم إنما هو على سبيل التعنت.
وقال الحسن : لو سألوه لكي يتبين الحق لأعطاهم ، فإن فيما أعطاكم كفاية.
{ فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة } قدروا قبل هذا كلاماً محذوفاً ، فجعله الزمخشري شرطاً هذا جوابه وتقديره : أن استكبرت ما سألوه منك ، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك.
وقدره ابن عطية : فلا تبال يا محمد عن سؤالهم وتشطيطهم ، فإنها عادتهم ، فقد سألوا موسى.
وأسند السؤال إليهم ، وإن كان إنما وقع من آبائهم من نقبائهم السبعين ، لأنهم راضون بفعل آبائهم ومذاهبهم ، ومشابهون لهم في التعنت.
وقرأ الحسن : أكثر بالثاء المثلثة بدل الباء في قراءة الجمهور ، ومعنى جهرة : عياناً رؤية منكشفة بينة.
والجهرة من وصف الرّوية.
واختلف في النقل عن ابن عباس فروى عنه : " أن جهرة من صفة السؤال ، فقد سألوا موسى.
أو حالاً من ضمير سألوا أي : سألوه مجاهرين.
وروى عنه أن التقدير : فقالوا جهرة منه وتصريحاً أرنا الله ، فيكون من صفة القول» ".
{ فأخذتهم الصاعقة بظلمهم } أي : تعنتهم وسؤالهم ما ليس لهم أن يسألوه.
وقال الزمخشري : بظلمهم بسبب سؤالهم الرؤية ، ولو طلبوا أمراً جائزاً لما سموا ظالمين ، ولما أخذتهم الصاعقة.
كما سأل ابراهيم عليه السلام أن يريه إحياء الموتى فلم يسمه ظالماً ، ولا رماه بالصاعقة للمشبهة ورميا بالصواعق انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال في استحالة رؤية الله عندهم.
وأهل السنة يعتقدون أنهم لم يسألوا محالاً عقلاً ، لكنه ممتنع من جهة الشرع ، إذ قد أخبر تعالى على ألسنة أنبيائه أنه لا يرى في هذه الحياة الدنيا ، والرؤية في الآخرة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالتواتر ، وهي جائزة عقلاً ، وتقدّم الكلام في البقرة على الصاعقة.
وقرأ السلميّ والنخعي : فأخذتهم الصعقة ، والجمهور الصاعقة.
{ ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات } ثم : للترتيب في الأخبار لا في نفس الأمر ، ثم قد كان من أمرهم أن اتخذوا العجل : أي آباؤهم ، والذين صعقوا غير الذين اتخذوا العجل.
والبينات : إجازة البحر ، والعصا ، وغرق فرعون ، وغير ذلك.
وقال الحوفي : أعلم نبيه بعنادهم وإصرارهم فالمعنى : أنه لو نزل عليهم الذي سألوا لخالفوا أمر الله كما خالفوه من بعد إحياء الله لهم من صعقتهم ، وعبدوا العجل واتخذوه إلهاً.
{ فعفونا عن ذلك } أي : عن اتخاذهم العجل إلهاً عن جميع ما تقدم من مخالفتهم.
والأوّل أظهر ، لأنه قد صرح في قصة العجل بالتوبة.
ويعني : بما امتحنهم به من القتل لأنفسهم ، ثم وقع العفو عن الباقين منهم.
{ وآتينا موسى سلطاناً مبيناً } أي : حجة وتسلطاً واستيلاء ظاهراً عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم حتى يتاب عليهم فأطاعوه ، واحتبوا بأفتيتهم ، والسيوف تتساقط عليهم ، فيا له من سلطان مبين.

{ ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم } تقدّم ما المعنى بالطور.
وفي الشام جبل عرف بالطور ولزمه هذا الاسم ، وهو طور سيناء.
وليس هو المرفوع على بني إسرائيل ، لأن رفع الجبل كان فيما يلي التيه من جهة ديار مصر وهم ناهضون مع موسى عليه السلام ، وتقدمت قصة رفع الطور في البقرة.
والباء في بميثاقهم للسبب ، وهو العهد الذي أخذه موسى عليهم بعد تصديقهم بالتوراة أن يعملوا بما فيها ، فنقضوا ميثاقهم وعبدوا العجل ، فرفع الله عليهم الطور.
وفي كلام محذوف تقديره : بنقض ميثاقهم.
{ وقلنا لهم ادخلوا الباب سُجَّداً } تقدّم تفسير هذه الجملة في البقرة.
{ وقلنا لهم لا تعدوا في السبت } تقدّم ذكره عند اعتدائهم في قوله : { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } وقرأ ورش لا تعدوا بفتح العين وتشديد الدال ، على أنّ الأصل تعتدوا ، فألقيت حركة التاء على العين ، وأدغمت التاء في الدال.
وقرأ قالون : بإخفاء حركة العين وتشديد الدال ، والنص بالإسكان.
وأصله أيضاً لا تعتدوا.
وقرأ الباقون من السبعة : لا تعدوا بإسكان العين وتخفيف الدال من عدى يعدو.
وقال تعالى : { إذ يعدون في السبت } وقرأ الأعمش والأخفش : لا تعتدوا من اعتدى.
{ وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً } قيل : هو الميثاق الأول في قوله : { بميثاقهم } ووصف بالغلظ للتأكيد ، وهو المأخوذ على لسان موسى وهارون أن يأخذوا التوراة بقوة ، ويعملوا بجميع ما فيها ، ويوصلوه إلى أبنائهم.
وقيل : هذا الميثاق غير الأوّل ، وهو الميثاق الثاني الذي أخذ على أنبيائهم بالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به ، وهو المذكور في قوله : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب } الآية.
{ فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف } قال ابن عطية فيما لخصناه من كلامه ، هذا إخبار عن أشياء واقعوها في الضد مما أخذوا به ، نقضوا الميثاق الذي رفع عليهم الطور بسببه ، وجعلوا بدل الإيمان الذي تضمنه الأمر بدخول الباب سجداً المتضمن التواضع الذي هو ثمرة الإيمان ، كفرهم بآيات الله ، وبذل الطاعة ، وامتثال موافقته ، في أن لا يعدوا في السبت انتهاك أعظم الحرم ، وهو قتل الأنبياء ، وقابلوا أخذ الميثاق الغليظ بتجاهلهم وقولهم : قلوبنا غلف : أي : في حجب ، وغلف : فهي لا تفهم.
وأضرب الله تعالى عن قولهم وكذبهم ، وأخبر تعالى أنه قد طبع عليها بسبب كفرهم انتهى.
والميثاق المنقوض : أهو كتمانهم صفة الرسول وتكذيبه فيما جاء به؟ أو تركهم العمل بما في كتابهم؟ مع أنهم قبلوا والتزموا العمل بها قولان.
وآيات الله التي كفروا بها أهي التي أنزلت عليهم في كتبهم؟ أو جميع كتب الله المنزلة؟ قولان.
وتقدم شرح قلوبنا غلف في البقرة.
{ بل طبع الله عليها بكفرهم } أدغم لام بل في طاء طبع الكسائي وحمزة ، وأظهرها باقي السبعة.
وقال الزجاج : بل طبع الله عليها بكفرهم خبر معناه الذم ، على أنَّ قلوبهم بمنزلة المطبوع عليها التي لا تفهم أبداً ولا تطيع مرسلاً.

وقال الزمخشري : أرادوا بقولهم : قلوبنا غلف ، أي أن الله خلق قلوبنا غلفاً ، أي : في أكنة لا يتوصل إليها بشيء من الذكر والموعظة ، كما حكى الله عن المشركين : { وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم } وتكذيب المجبرة أخزاهم الله فقيل لهم : خذلها الله ومنعها الألطاف بسبب كفرهم ، فصارت كالمطبوع عليها ، لا أن تخلق غلفاً غير قابلة الذكر ، ولا متمكنة من قبوله انتهى.
وهو على مذهبه الاعتزالي.
وأما أهل السنة فيقولون : إن الله طبع عليها حقيقة كما أخبر تعالى إذ لا خالق غيره.
والباء في فبما نقضهم تتعلق بمحذوف قدره الزمخشري : فعلنا بهم ما فعلناه.
وقدره ابن عطية : لعناهم وأذللناهم ، وحتمنا على الوافين منهم الخلود في جهنم.
قال ابن عطية : وحذف جواب هذا الكلام بليغ متروك مع ذهن السامع انتهى.
وتسمية ما يتعلق به المجرور بأنه جواب اصطلاح لم يعهد في علم النحو ، ولا تساعده اللغة ، لأنه ليس بجواب.
وجوزوا أن يتعلق بقوله : { حرمنا عليهم } على أن قوله : { فبظلم من الذين هادوا } بدل من قوله : فبما نقضهم ميثاقهم ، وقاله الزجاج ، وأبو بكر ، والزمخشري ، وغيرهم.
وهذا فيه بعد لكثرة الفواصل بين البدل والمبدل منه ، ولأن المعطوف على السبب سبب ، فيلزم تأخر بعض أجزاء السبب الذي للتحريم في الوقت عن وقت التحريم ، فلا يمكن أن يكون جزء سبب أو مسبباً إلا بتأويل بعيد وبيان ذلك أن قولهم على مريم بهتاناً عظيماً ، وقولهم : إنا قتلنا المسيح ، متأخر في الزمان عن تحريم الطيبات عليهم ، فالأولى أن يكون التقدير : لعناهم ، وقد جاء مصرحاً به في قوله : { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية } { فلا يؤمنون إلا قليلاً } تقدم تفسير هذه الجملة فأغنى عن إعادته.
{ فبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً } الظاهر في قوله : وبكفرهم ، وقولهم أنه معطوف على قوله : فبما نقضهم وما بعده.
على أن الزمخشري أجاز أن يكون قوله : وبكفرهم وقولهم ، معطوفاً على بكفرهم.
وتكرار نسبة الكفر إليهم بحسب متعلقاته ، إذ كفروا بموسى ، ثم بعيسى ، ثم بمحمد عليه السلام ، فعطف بعض كفرهم على بعض.
قال الزمخشري : أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه ، كأنه قيل : فبجمعهم بين نقض الميثاق والكفر بآيات الله وقتلهم الأنبياء وقولهم : { قلوبنا غلف } ، وجمعهم بين كفرهم وبهتهم مريم ، وافتخارهم بقتل عيسى عليه السلام ، عاقبناهم.
أو بل طبع الله عليها وجمعهم بين كفرهم ، وكذا وكذا.
وقال الزمخشري أيضاً : ( فإن قلت ) : هلا زعمت أنّ المحذوف الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قوله : بل طبع الله عليها بكفرهم؟ ( قلت ) : لم يصح هذا التقدير ، لأن قوله : بل طبع الله عليها بكفرهم ، ردّ وإنكار لقولهم : قلوبنا غلف ، فكان متعلقاً به انتهى.
وهو جواب حسن ، ويمتنع من وجه آخر وهو أنّ العطف ببل يكون للإضراب عن الحكم الأول ، وإثباته للثاني على جهة إبطال الأول ، أو الانتقال عاماً في كتاب الله في الإخبار ، فلا يكون إلا للانتقال.

ويستفاد من الجملة الثانية ما لا يستفاد من الجملة الأولى.
والذي قدّره الزمخشري لا يسوغ فيه هذا الذي قرّرناه ، لأن قوله : فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله ، وقولهم : قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم ، فأفادت الجملة الثانية ما أفادت الجملة الأولى وهو لا يجوز.
لو قلت : مر زيد بعمرو ، بل مر زيد بعمرو ، لم يجز.
وقد أجاز ذلك أبو البقاء وهو أن يكون التقدير : فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله ، وكذا طبع على قلوبهم.
وقيل : التقدير فبما نقضهم ميثاقهم لا يؤمنون إلا قليلاً ، والفاء مقحمة.
وما في قوله : فبما نقضهم كهي في قوله : { فبما رحمة } وتقدّم الكلام فيها.
والبهتان العظيم رميهم مريم عليها السلام بالزنا مع رؤيتهم الآية في كلام عيسى عليه السلام في المهد.
قال ابن عطية : وإلا فلولا الآية لكانوا في قولهم جارين على حكم البشر في إنكار حمل من غير ذكر انتهى.
ووصف بالعظم لأنهم تمادوا عليه بعد ظهور الآية وقيام المعجزة بالبراءة ، وقد جاءت تسمية الرمي بذلك بهتاناً عظيماً في قوله : { سبحانك هذا بهتان عظيم } { وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } الظاهر أن رسول الله من قولهم قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء ، كقول فرعون أن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون وقوله : { إنك لأنت الحليم الرشيد } ويجوز أن يكون من كلام الله تعالى وضع الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنه رفعاً لعيسى عليه السلام ، كما كانوا يذكرونه به.
ذكر الوجهين الزمخشري ، ولم يذكر ابن عطية سوى الثاني قال : هو إخبار من الله تعالى بصفة عيسى عليه السلام ، وهي الرسالة على جهة إظهار ذنب هؤلاء المقرين بالقتل ولزمهم الذنب ، وهم لم يقتلوا عيسى ، لأنهم صلبوا ذلك الشخص على أنه عيسى ، وعلى أن عيسى كذاب ليس برسول.
ولكن لزمهم الذنب من حيث اعتقدوا أنّ قتلهم وقع في عيسى ، فكأنهم قتلوه ، وليس يدفع الذنب عنهم اعتقادهم أنه غير رسول.
{ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } هذا إخبار منه تعالى بأنهم ما قتلوا عيسى وما صلبوه.
واختلف الرواة في كيفية القتل والصلب ، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء غير ما دل عليه القرآن.
ومنتهى ما آل إليه أمر عيسى عليه السلام أنه طلبته اليهود فاختفى هو والحواريون في بيت ، فدلوا عليه وحضروا ليلاً وهم ثلاثة عشر ، أو ثمانية عشر ، ففرقهم تلك الليلة ووجههم إلى الآفاق ، وبقي هو ورجل معه ، فرفع عيسى ، وألقى شبهه على الرجل فصلب.
وقيل : هو اليهودي الذي دل عليه.
وقيل : قال لأصحابه : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل ويخلص هؤلاء ، وهو رفيقي في الجنة؟ فقال سرجس : أنا ، فألقي عليه شبه عيسى.

وقيل : ألقي شبهه على الجميع ، فلما أخرجوا نقص واحد من العدّة ، فأخذوا واحداً ممن عليه الشبه فصلب.
وروي أنّ الملك والمتناولين لم يخف عليهم أمر عيسى لما رأوه من نقصان العدة واختلاط الأمر ، فصلب ذلك الشخص ، وأبعد الناس عن خشبته أياماً حتى تغير ، ولم تثبت له صفة ، وحينئذ دنا الناس منه ، ومضى الحواريون يتحدثون في الآفاق أن عيسى صلب.
وقيل : لم يلق شبهه على أحد ، وإنما معنى : ولكن شبه لهم ، أي شبه عليهم الملك المخرق ليستديم بما نقص واحد من العدة ، وكان بادر بصلب واحد وأبعد الناس عنه ، وقال : هذا عيسى ، وهذا القول هو الذي ينبغي أن يعتقد في قوله : ولكن شبه لهم.
أمّا أن يلقى شبهه على شخص ، فلم يصح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعتمد عليه.
وقد اختلف فيمن ألقي عليه الشبه اختلافاً كثيراً.
فقيل : اليهودي الذي دل عليه.
وقيل : خليفة قيصر الذي كان محبوساً عنده.
وقيل : واحد من اليهود.
وقيل : دخل ليقتله.
وقيل : رقيب وكلته به اليهود.
وقيل : ألقى الشبه على كل الحواريين.
وقيل : ألقى الشبه على الوجه دون البدن ، وهذا الوثوق مما يدفع الوثوق بشيء من ذلك.
ولهذا قال بعضهم : إن جاز أن يقال : إنّ الله تعالى يلقي شبه إنسان على إنسان آخر ، فهذا يفتح باب السفسطة.
وقيل : سبب اجتماع اليهود على قتله هو أنّ رهطاً منهم سبوه وسبوا أمّه فدعا عليهم : « اللهم أنت ربي ، وبكلمتك خلقتني ، اللهم العن من سبني وسب والدتي » فمسخ الله من سبهما قردة وخنازير ، فاجتمعت اليهود على قتله.
وشبه مسند إلى الجار والمجرور كقوله : خيل إليه ، ولكن وقع لهم التشبيه.
ويجوز أن يسند إلى ضمير المقتول الدال عليه : إنا قتلنا أي : ولكن شبه لهم من قتلوه.
ولا يجوز أن يكون ضمير المسيح ، لأن المسيح مشبه به لا مشبه.
{ وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن } اختلف فيه اليهود فقال بعضهم : لم يقتل ولم يصلب ، الوجه وجه عيسى ، والجسد جسد غيره.
وقيل : أدخلوا عليه واحداً ليقتله ، فألقى الشبه عليه فصلب ، ونقص من العدد واحد.
وكانوا علموا عدد الحواريين فقالوا : إنْ كان المصلوب صاحبنا فأين عيسى؟ وإن كان عيسى فأين صاحبنا؟ وقيل : قال العوامّ : قتلنا عيسى ، وقال من عاين : رفعه إلى السماء ما قتل ولا صلب.
قال ابن عطية : واليقين الذي صح فيه نقل الكافة عن حواسها هو أنّ شخصاً صلب ، وهل هو عيسى أم لا؟ فليس هو من علم الحواس ، فلذلك لم يقع في ذلك نقل كافة.
والضمير في فيه عائد على القتل معناه : في قتله ، وهذا هو الظاهر الذي يدل عليه ما قبله وما بعده.

وقيل : الضمير في اختلفوا عائد على اليهود أيضاً ، واختلافهم فيه قول بعضهم : إنه إله.
وقول بعضهم : إنه ابن الله تعالى.
وقيل : اختلافهم فيه أن النسطورية قالوا : وقع الصلب على ناسوته دون لاهوته.
وقيل : وقع القتل والصلب عليهما.
وقيل : عائد على اليهود والنصارى ، فإن اليهود قالوا : هو ابن زنا.
وقالت النصارى : هو ابن الله.
وقيل : اختلافهم من جهة أن النصارى قالوا : إن اليهود قتلته وصلبته ، واليهود الذين عاينوا رفعه قالوا : رفع إلى السماء.
والجمهور على أنّ إلا اتباع الظنّ استثناء منقطع ، لأن اتباع الظنّ ليس من جنس العلم.
أي : ولكنّ اتباع الظنّ لهم.
وقال الزمخشري : يعني ولكنهم يتبعون الظنّ ، وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب.
وقال ابن عطية : هو استثناء متصل ، إذ الظنّ والعلم يضمهما أنهما من معتقدات اليقين.
وقد يقول الظان على طريق التجوّز : علمي في هذا الأمر أنه كذا ، وهو يعني ظنه انتهى.
وليس كما ذكر ، لأنّ الظنّ ليس من معتقدات اليقين ، لأنه ترجيح أحد الجائزين ، وما كان ترجيحاً فهو ينافي اليقين ، كما أن اليقين ينافي ترجيح أحد الجائزين.
وعلى تقدير أنّ الظنّ والعلم يضمهما ما ذكر ، فلا يكون أيضاً استثناء متصلاً ، لأنه لم يستثني الظنّ من العلم.
فليست التلاوة ما لهم به من علم إلا الظنّ ، وإنما التلاوة إلا اتباع الظنّ ، والاتباع للظنّ لا يضمه والعلم جنس ما ذكر.
وقال الزمخشري.
( فإن قلت ) : لم وصفوا بالشك والشك أنّ لا يترجح أحد الجائزين؟ ثم وصفوا بالظنّ والظنّ أن يترجح أحدهما ، فكيف يكونون شاكين ظانين؟ قلت : أريد أنهم شاكون ما لهم من علم قط ، ولكن لاحت لهم أمارة فظنوا انتهى.
وهو جواب سؤاله ، ولكن يقال : لا يرد هذا السؤال لأنّ العرب تطلق الشك على ما لم يقع فيه القطع ، واليقين فيدخل فيه كلما يتردّد فيه ، إما على السواء بلا ترجيح ، أو بترجيح أحد الطرفين.
وإذا كان كذلك اندفع السؤال.
{ وما قتلوه يقيناً } قال ابن عباس والسدي وجماعة : الضمير في قتلوه عائد على الظن.
تقول : قتلت هذا الأمر علماً إذا قطعت به وجزمت الجزم الذي لا يخالجه شيء.
فالمعنى : وما صح ظنهم عندهم وما تحققوه يقيناً ، ولا قطعوا الظن باليقين.
وقال الفراء وابن قتيبة؛ الضمير عائد على العلم أي : ما قتلوا العلم يقيناً.
يقال : قتلت العلم والرأي يقيناً ، وقتلته علماً ، لأن القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء ، فكأنه قيل : لم يكن علمهم بقتل المسيح علماً أحيط به ، إنما كان ظناً.
قال الزمخشري : وفيه تهكم ، لأنه إذا نفى عنهم العلم نفياً كلياً بحرف الاستغراق ثم قيل : وما علموه علم يقين ، وإحاطة لم يكن إلا تهكماً انتهى.
والظاهر قول الجمهور : إن الضمير يعود على عيسى بجعل الضمائر كلها كشيء واحد ، فلا تختلف.

والمعنى صحيح بليغ ، وانتصاب يقيناً على أنه مصدر في موضع الحال من فاعل قتلوه أي : متيقنين أنه عيسى كما ادعوا ذلك في قولهم : إنا قتلنا المسيح قاله : السدي.
أو نعت لمصدر محذوف أي : قتلاً يقيناً جوزه الزمخشري.
وقال الحسن : وما قتلوه حقاً انتهى.
فانتصابه على أنه مؤكد لمضمون الجملة المنفية كقولك : وما قتلوه حقاً أي : حق انتفاء قتله حقاً.
وما حكي عن ابن الأنباري أنه في الكلام تقديماً وتأخيراً ، وإن يقيناً منصوب برفعه الله أليه ، والمعنى : بل رفعه الله إليه يقيناً ، فلعله لا يصح عنه.
وقد نص الخليل على أن ذلك خطأ ، لأنه لا يعمل ما بعد بل في ما قبلها.
{ بل رفعه الله إليه } هذا إبطال لما ادعوه من قتله وصلبه ، وهو حي في السماء الثانية على ما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج.
وهو هنالك مقيم حتى ينزله الله إلى الأرض لقتل الدجال ، وليملأها عدلاً كما ملئت جوراً ، ويحيا فيها أربعين سنة ثم يموت كما تموت البشر.
وقال قتادة : رفع الله عيسى إليه فكساه الريش وألبسه النور ، وقطع عنه المطعم والمشرب ، فصار مع الملائكة ، فهو معهم حول العرش ، فصار إنسيًّا ملكياً سماوياً أرضياً.
والضمير في إليه عائد إلى الله تعالى على حذف التقدير إلى سمائه ، وقد جاء { ورافعك إليّ } وقيل : إلى حيث لا حكم فيه إلا له.
ولا يوجه الدعاء إلا نحوه ، وهو راجع إلى الأول.
وقال أبو عبد الله الرازي : أعلم الله تعالى عقيب ذكره أنه وصل إلى عيسى أنواع من البلايا ، أنه رفعه إليه فدل أنّ رفعه إليه أعظم في إيصال الثواب من الجنة ومن كل ما فيها من اللذات الجسمانية ، وهذه الآية تفتح عليك باب معرفة السعادات الروحانية انتهى.
وفيه نحو من كلام المتفلسفة.
{ وكان الله عزيزاً حكيماً } قال أبو عبد الله الرازي : المراد من المعزة كمال القدرة ، ومن الحكمة كمال العلم ، فنبه بهذا على أنّ رفع عيسى عليه السلام من الدنيا إلى السموات وإن كان كالمتعذر على البشر ، لكنْ لا تعذر فيه بالنسبة إلى قدرتي وحكمتي انتهى.
وقال غيره : عزيزاً أي قوياً بالنقمة من اليهود ، فسلط عليهم بطرس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة.
حكيماً حكم عليهم باللعنة والغضب.
وقيل : عزيزاً أي : لا يغالب ، لأن اليهود حاولت بعيسى عليه السلام أمراً وأراد الله خلافه.
حكيماً أي : واضع الأشياء مواضعها.
فمن حكمته تخليصه من اليهود ، ورفعه إلى السماء لما يريد وتقتضيه حكمته تعالى.
وقال وهب بن منبه : أوحى الله تعالى إلى عيسى على رأس ثلاثين سنة ، ثم رفعه وهو ا بن ثلاث وثلاثين سنة ، فكانت نبوته ثلاث سنين.
وقيل : بعث الله جبريل عليه السلام فأدخله خوخة فيها روزنة في سقفها ، فرفعه الله تعالى إلى السماء من تلك الروزنة.

{ وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } إنْ هنا نافية ، والمخبر عنه محذوف قامت صفته مقامه ، التقدير : وما أحد من أهل الكتاب.
كما حذف في قوله : { وإن منكم إلا واردها } والمعنى : وما من اليهود.
وقوله : { وما منا إلا له مقام معلوم } أي : وما أحد منا إلا له مقام ، وما أحد منكم إلا واردها.
قال الزجاج : وحذف أحد لأنه مطلوب في كل نفي يدخله الاستثناء نحو : ما قام إلا زيد ، معناه ما قام أحد إلا زيد.
وقال الزمخشري : ليؤمنن به جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره : وإنْ من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به ونحوه : وما منا إلا له مقام معلوم ، وإن منكم إلا واردها.
والمعنى : وما من اليهود أحد إلا ليؤمنن به انتهى.
وهو غلط فاحش إذ زعم أنّ ليؤمنن به جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف إلى آخره ، وصفة أحد المحذوف إنما هو الجار والمجرور وهو من أهل الكتاب ، والتقدير كما ذكرناه : وإن أحد من أهل الكتاب.
وأما قوله : ليؤمنن به ، فليست صفة لموصوف ، ولا هي جملة قسمية كما زعم ، إنما هي جملة جواب القسم ، والقسم محذوف ، والقسم وجوابه في موضع رفع خبر المبتدأ الذي هو أحد المحذوف ، إذ لا ينتظم من أحد.
والمجرور إسناد لأنه لا يفيد ، وإنما ينتظم الإسناد بالجملة القسمية وجوابها ، فذلك هو محط الفائدة وكذلك أيضاً الخبر هو إلا له مقام ، وكذلك إلا واردها ، إذ لا ينتظم مما قبل إلا تركيب إسنادي.
والظاهر أن الضميرين في : به ، وموته ، عائدان أنّ على عيسى وهو سياق الكلام ، والمعنى : من أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله.
روي أنه ينزل من السماء في آخر الزمان ، فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به ، حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام قاله : ابن عباس ، والحسن ، وأبو مالك.
وقال ابن عباس أيضاً وعكرمة ، والضحاك ، والحسن ، أيضاً ومجاهد ، وغيرهم : الضمير في به لعيسى ، وفي موته لكتابي وقالوا : وليس يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى ويعلم أنه نبي ، ولكن عند المعاينة للموت فهو إيمان لا ينفعه كما لم ينفع فرعون إيمانه وقت المعاينة.
وبدأ بما يشبه هذا لقول الزمخشري.
قال : والمعنى ما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى ، وبأنه عبد الله ورسوله؟ يعني : إذا عاين قبل أن تزهق روحه حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف.
ثم حكى عن شهر بن حوشب والحجاج حكاية فيها طول يمس بالتفسير منها : إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة دبره ووجهه وقالوا : يا عدوّ الله أتاك عيسى نبياً فكذبت به ، فيقول : آمنت أنه نبي.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46