كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

وقيل : هو من التشبيه المفصل المقابل جزءاً بجزء ، وقرروه على تلك الأقوال الثلاثة أي { مثل نوره } في محمد أو في المؤمن أو في القرآن والإيمان { كمشكاة } فالمشكاة هو الرسول أو صدره { والمصباح } هو النبوة وما يتصل بها من علمه وهداه و { الزجاجة } قلبه.
والشجرة المباركة الوحي والملائكة رسل الله إليه ، وشبه الفصل به بالزيت وهو الحجج والبراهين والآيات التي تضمنها الوحي وعلى قول المؤمن فالمشكاة صدره و { المصباح } الأيمان والعلم.
و { الزجاجة } قلبه والشجرة القرآن وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمنها.
قال أبيّ : فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات ، وعلى قول الإيمان والقرآن أي مثل الإيمان والقرآن في صدر المؤمن في قلبه { كمشكاة } وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه كالأولين ، لأن المشكاة ليست تقابل الإيمان.
وقال الزمخشري : أي صفة { نوره } لعجيبة الشأن في الإضاءة { كمشكاة } أي كصفة مشكاة انتهى.
ويظهر لي أن قوله { كمشكاة } هو على حذف مضاف أي { مثل نوره } مثل نور مشكاة وتقدّم في المفردات أن المشكاة هي الكوة غير النافذة ، وهو قول ابن جبير وسعيد بن عياض والجمهور.
وقال أبو موسى : المشكاة الحديدة والرصاصة التي تكون فيها الفتيل في جوف الزجاجة.
وقال مجاهد : المشكاة العمود الذي يكون المصباح على رأسه ، وقال أيضاً الحدائد التي تعلق فيها القناديل.
{ فيها مصباح } أي سراج ضخم ، والظاهر أن { الزجاجة } ظرف للمصباح لقوله { المصباح في زجاجة } وقدره الزمخشري في زجاج شامي ، وكان عنده أصفى الزجاج هو الشامي ولم يقيد في الآية.
وقرأ أبو رجاء ونصر بن عاصم { في زجاجة الزجاجة } بكسر الزاي فيهما ، وابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابن مجاهد بفتحها.
{ كأنها } أي كأن الزجاجة لصفاء جوهرها وذاتها وهو أبلغ في الإنارة ، ولما احتوت عليه من نور المصباح.
{ كوكب دري } قال الضحاك : هو الزهرة شبه الزجاجة في زهرتها بأحد الدراري من الكواكب المشاهير ، وهي المشتري ، والزهرة ، والمريخ ، وسهيل ونحو ذلك.
وقرأ الجمهور من السبعة نافع وابن عامر وحفص وابن كثير { دُرّي } بضم الدال وتشديد الراء والياء ، والظاهر نسبة الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه ، ويحتمل أن يكون أصله الهمز فأبدل وأدغم.
وقرأ قتادة وزيد بن عليّ والضحاك كذلك إلاّ أنهما فتحا الدال.
وروى ذلك عن نصر بن عاصم وأبي رجاء وابن المسيب.
وقرأ الزهري كذلك إلاّ أنه كسر الدال.
وقرأ حمزة كذلك إلاّ أنه همز من الدرء بمعنى الدفع ، أي يدفع بعضها بعضاً ، أو يدفع ضوؤها خفاءها ووزنها فعيل.
قيل : ولا يوجد فعيل إلاّ قولهم مريق للعصفر ودريء في هذه القراءة.

قيل : وسرية إذا قيل إنها مشتقة من السرور ، وأبدل من أحد المضعفات الياء فأدغمت فيها ياء فعيل ، وسمع أيضاً مريخ للذي في داخل القرن اليابس بضم الميم وكسرها.
وقيل : منه عليه.
وقيل : { دري } ووزنه في الأصل فعول كسبوح فاستثقل الضم فرد إلى الكسر ، وكذا قيل في سرته ودرته.
وقرأ أبو عمرو والكسائي كذلك إلاّ أنه كسر الدال وهو بناء كثير في الأسماء نحو سكين وفي الأوصاف سكير.
وقرأ قتادة أيضاً وأبان بن عثمان وابن المسيب وأبو رجاء وعمرو بن فائد والأعمش ونصر بن عاصم كذلك إلاّ أنه بفتح الدال.
قال ابن جني : وهذا عزيز لم يحفظ منه إلاّ السكينة بفتح السين وشدّ الكاف انتهى.
وفي الأبنية حكى الأخفش كوكب دريء من درأته ودرية وعليك بالسكينة والوقار عن أبي زيد.
وحكى الفراء بكسر السين.
وقرأ الأخوان وأبو بكر والحسن وزيد بن عليّ وقتادة وابن وثاب وطلحة وعيسى والأعمش { تُوقد } بضم التاء أي { الزجاجة } مضارع أوقدت مبيناً للمفعول ، ونافع وابن عامر وحفص كذلك إلاّ أنه بالياء أي { المصباح } وابن كثير وأبو عمرو { توقد } بفتح الأربعة فعلاً ماضياً أي { المصباح }.
والحسن والسلمي وقتادة وابن محيصن وسلام ومجاهد وابن أبي إسحاق والمفضل عن عاصم كذلك إلاّ أنه بضم الدال مضارع { توقد } وأصله تتوقد أي { الزجاجة }.
وقرأ عبد الله وقد بغير تاء وشدد القاف جعله فعلاً ماضياً أي وقد المصباح.
وقرأ السلمي وقتادة وسلام أيضاً كذلك إلاّ أنه بالياء من تحت.
وجاء كذلك عن الحسن وابن محيصن ، وأصله يتوقد أي { المصباح } إلاّ أن حذف الياء في يتوقد مقيس لدلالة ما أبقى على ما حذف.
وفي { يوقد } شاذ جدّاً لأن الياء الباقية لا تدل على التاء المحذوفة ، وله وجه من القياس وهو حمله على يعد إذ حمل يعد وتعد وأعد في حذف الواو كذلك هذ لما حذفوا من تتوقد بالتاءين حذفوا التاء مع الياء وإن لم يكن اجتماع التاء والياء مستثقلاً.
{ من شجرة } أي من زيت شجرة ، وهي شجرة الزيتون.
{ مباركة } كثيرة المنافع أو لأنها تنبت في الأرض التي بارك فيها للعالمين.
وقيل : بارك فيها للعالمين.
وقيل : بارك فيها سبعون نبياً منهم إبراهيم عليه السلام ، والزيتون من أعظم الشجر ثمراً ونماء واطراد أفنان ونضارة أفنان.
وقال أبو طالب :
بورك الميت الغريب كما . . .
بورك نضر الرمان والزيتون
{ لا شرقية ولا غربية }.
قال ابن زيد : هي من شجر الشام فهي ليست من شرق الأرض ولا من غربها ، لأن شجر الشام أفضل الشجر.
وقال ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم : هي في منكشف من الأرض تصيبها الشمس طول النهار تستدير عليها ، فليست خالصة للشرق فتسمى { شرقية } ، ولا للغرب فتسمى { غربية } وقال الحسن : هذا مثل وليست من شجر الدنيا إذ لو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية.

وعن ابن عباس : أنها في درجة أحاطت بها فليست منكشفة لا من جهة الشرق ولا من جهة الغرب ، وهذا لا يصح عن ابن عباس لأنها إذا كانت بهذه الصفة فسد جناها.
وقال ابن عطية : إنها في وسط الشجر لا تصيبها الشمس طالعة ولا غاربة ، بل تصيبها بالغداة والعشي.
وقال عكرمة : هي من شجر الجنة.
وقال ابن عمر : الشجرة مثل أي إنها ملة إبراهيم ليست بيهودية ولا نصرانية.
وقيل : ملة الإسلام ليست بشديدة ولا لينة.
وقيل : لا مضحى ولا مفيأة ، ولكن الشمس والظل يتعاقبان عليها ، وذلك أجود لحملها وأصفى لدهنها.
و { زيتونة } بدل من { شجرة } وجوز بعضهم فيه أن يكون عطف بيان ، ولا يجوز على مذهب البصريين لأن عطف البيان عندهم لا يكون إلاّ في المعارف ، وأجاز الكوفيون وتبعهم الفارسي أنه يكون في النكرات.
و { لا شرقية } { ولا } على { غربية } على قراءة الجمهور بالخفض صفة لزيتونة.
وقرأ الضحاك بالرفع أي لا هي شرقية ولا غربية ، والجملة في موضع الصفة.
{ يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار } مبالغة في صفاء الزيت وأنه لإشراقه وجودته يكاد يضيء من غير نار.
والجملة من قوله { ولو لم تمسسه نار } حالية معطوفة على حال محذوفة أي { يكاد زيتها يضيء } في كل حال ولو في هذه الحال التي تقتضي أنه لا يضيء لانتفاء مس النار له ، وتقدم لنا أن هذا العطف إنما يأتي مرتباً لما كان لا ينبغي أن يقع لامتناع الترتيب في العادة وللاستقصاء حتى يدخل ما لا يقدر دخوله فيما قبله نحو : «أعطوا السائل ولو جاء على فرس ، ردوا السائل ولو بظلف محرق».
وقرأ الجمهور : { تمسسه } بالتاء وابن عباس والحسن بالياء من تحت ، وحسنه الفصل وأن تأنيث النار مجازي وهو مؤنث بغير علامة.
{ نور على نور } أي متضاعف تعاون عليه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت ، فلم يبق مما يقوى النور ويزيده إشراقاً شيء لأن المصباح إذا كان في مكان ضيق كان أجمع لنوره بخلاف المكان المتسع ، فإنه ينشر النور ، والقنديل أعون شيء على زيادة النور وكذلك الزيت وصفاؤه ، وهنا تم المثال.
ثم قال { يهدي الله لنوره من يشاء } أي لهداه والإيمان من يشاء هدايته ويصطفيه لها.
ومن فسر { النور } في { مثل نوره } بالنبوة قدر يهدي الله إلى نبوته.
وقيل : إلى الاستدلال بالآيات ، ثم ذكر تعالى أنه يضرب الأمثال للناس ليقع لهم العبرة والنظر المؤدّي إلى الإيمان ، ثم ذكر إحاطة علمه بالأشياء فهو يضع هداه عند من يشاء.
{ في بيوت } متعلق بيوقد قاله الرماني ، أو في موضع الصفة لقوله { كمشكاة } أي كمشكاة في بيوت قاله الحوفي ، وتبعه الزمخشري قال { كمشكاة } في بعض بيوت الله وهي المساجد.

وقال { مثل نوره } كما ترى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت انتهى.
وقوله كأنه إلى آخره تفسير معنى لا تفسير إعراب أو في موضع الصفة لمصباح أي مصباح { في بيوت } قاله بعضهم أو في موضع الصفة لزجاجة قاله بعضهم ، وعلى هذه الأقوال الأربعة لا يوقف على قوله { عليم }.
وقيل : { في بيوت } مستأنف والعامل فيه { يسبح } حكاه أبو حاتم وجوزه الزمخشري.
فقال : وقد ذكر تعلقه بكمشكاة قال : أو بما بعده وهو { يسبح } أي { يسبح له } رجال في بيوت وفيها تكرير كقولك زيد في الدار جالس فيها أو بمحذوف كقوله { في تسع آيات } أي سبحوا في بيوت انتهى.
وعلى هذه الأقوال الثلاثة يوقف على قوله { عليم } والذي اختاره أن يتعلق { في بيوت } بقوله { يسبح } وإن ارتباط هذه بما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر أنه يهدي لنوره من يشاء ذكر حال من حصلت له الهداية لذلك النور وهم المؤمنون ، ثم ذكر أشرف عبادتهم القلبية وهو تنزيههم الله عن النقائص وإظهار ذلك بالتلفظ به في مساجد الجماعات ، ثم ذكر سائر أوصافهم من التزام ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وخوفهم ما يكون في البعث.
ولذلك جاء مقابل المؤمنين وهم الكفار في قوله { والذين كفروا } وكأنه لما ذكرت الهداية للنور جاء في التقسيم لقابل الهداية وعدم قابلها ، فبدىء بالمؤمن وما تأثر به من أنواع الهدى ثم ذكر الكافر.
والظاهر أن قوله { في بيوت } أريد به مدلوله من الجمعية.
وقال الحسن : أريد به بيت المقدس ، وسمى بيوتاً من حيث فيه يتحيز بعضها عن بعض ، ويؤثر أن عادة بني إسرائيل في وقيده في غاية التهمم والزيت مختوم على ظروفه وقد صنع صنعة وقدس حتى لا يجري الوقيد بغيره ، فكان أضوأ بيوت الأرض.
والظاهر أن { في بيوت } مطلق فيصدق على المساجد والبيوت التي تقع فيها الصلاة والعلم.
وقال مجاهد : بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عباس والحسن أيضاً ومجاهد : هي المساجد التي من عادتها أن تنور بذلك النوع من المصابيح.
وقيل : الكعبة وبيت المقدس ومسجد الرسول عليه الصلاة والسلام ومسجد قباء.
وقيل : بيوت الأنبياء.
ويقوي أنها المساجد قوله { يسبح له فيها بالغدو والآصال } وإذنه تعالى وأمره بأن { ترفع } أي يعظم قدرها قاله الحسن والضحاك.
وقال ابن عباس ومجاهد : تبنى وتعلى من قوله { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل } وقيل : { ترفع } تطهر من الأنجاس والمعاصي.
وقيل : { ترفع } أي ترفع فيها الحوائج إلى الله.
وقيل : { ترفع } الأصوات بذكر الله وتلاوة القرآن.
{ ويذكر فيها اسمه } ظاهره مطلق الذكر فيعم كل ذكر عموم البدل.
وعن ابن عباس : توحيده وهو لا إله إلاّ الله.
وعنه : يتلى فيها كتابه.
وقيل : أسماؤه الحسنى.
وقيل : يصلى فيها.

وقرأ الجمهور { يُسبح } بكسر الباء وبالياء من تحت ، وابن وثاب وأبو حيوة كذلك إلاّ أنه بالتاء من فوق ، وابن عامر وأبو بكر والبحتري عن حفص ومحبوب عن أبي عمرو والمهال عن يعقوب والمفضل وأبان بفتحها وبالياء من تحت واحد المجرورات في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله ، والأولى الذي يلي الفعل لأن طلب الفعل للمرفوع أقوى من طلبه للمنصوب الفضلة.
وقرأ أبو جعفر : تسبح بالتاء من فوق وفتح الباء.
وقال الزمخشري : ووجهها أن تسند إلى أوقات الغدو والآصال على زيادة الباء ، وتجعل الأوقات مسبحة.
والمراد بها كصيد عليه يومان والمراد وحشهما انتهى.
ويجوز أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله ضمير التسبيحة الدال عليه { تسبح } أي تسبح له هي أي التسبيحة كما قالوا { ليجزي قوماً } في قراءة من بناه للمفعول أي ليجزي هو أي الجزاء.
وقرأ أبو مجلز : والإيصال وتقدم نظيره وارتفع { رجال } على هاتين القراءتين على الفاعلية بإضمار فعل أي { يسبح } أو يسبح له رجال.
واختلف في اقتياس هذا ، فعلى اقتياسه نحو ضربت هند زيد أي ضربها زيد ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي المسبح رجال.
وتقدم الكلام في تفسير الغدو والآصال والمراد بهما.
ثم ذكر تعالى وصف المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمر الله وطلبهم رضاه لا يشتغلون عن ذكر الله واحتمل قوله { لا تلهيهم تجارة ولا بيع } وجهين : أحدهما : أنهم لا تجارة لهم ولا بيع فيلهيهم عن ذكر الله كقوله :
على لا حب لا يهتدى بمناره . . .
أي لا منار له فيهتدى به.
والثاني : أنهم ذوو تجارة وبيع ولكن لا يشغلهم ذلك عن ذكر الله وعما فرض عليهم ، والظاهر مغايرة التجارة والبيع ، ولذلك عطف فاحتمل أن تكون تجارة من إطلاق العام ويراد به الخاص ، فأراد بالتجارة الشراء ولذلك قابله بالبيع ، أو يراد تجارة الجلب ويقال : تجر فلان في كذا إذا جلبه وبالبيع البيع بالأسواق ، ويحتمل أن يكون { ولا بيع } من ذكر خاص بعد عام ، لأن التجارة هي البيع والشراء طلباً للربح.
ونبه على هذا الخاص لأنه في الإلهاء أدخل من قبل أن التاجر إذا اتجهت له بيعة رابحة وهي طلبته الكلية من صناعته ألهته ما لا يلهيه شيء يتوقع فيه الربح لأن هذا يقين وذاك مطنون.
قال الزمخشري : التاء في إقامة عوض من العين الساقطة للإعلال والأصل أقوام ، فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض فأسقطت ونحوه :
وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا . . .
انتهى.
وهذا الذي ذكر من أن التاء سقطت لأجل الإضافة هو مذهب الفراء ومذهب البصريين ، أن التاء من نحو هذا لا تسقط للإضافة وتقدم لنا الكلام على { وإقام الصلاة } في الأنبياء وصدر البيت الذي أنشد عجزه قوله :
إن الخليط أجدوا البين فانجردوا . . .
وقد تأول خالد بن كلثوم قوله عدا الأمر على أنه جمع عدوة ، والعدوة الناحية كأن الشاعر أراد نواحي الأمر وجوانبه.

{ يخافون يوماً } هو يوم القيامة ، والظاهر أن معنى { تتقلب } تضطرب من هول ذلك اليوم كما قال تعالى { وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر } فتقلبها هو قلقها واضطرابها ، فتتقلب من طمع في النجاة إلى طمع ومن حذر هلاك إلى هلاك.
وهذا المعنى تستعمله العرب في الحروب كقوله :
بل كان قلبك في جناحي طائر . . .
ويبعد قول من قال { تتقلب } على جمر جهنم لأن ذلك ليس في يوم القيامة بل بعده.
وقول من قال إن تقلبها ظهور الحق لها أي فتتقلب عن معتقدات الضلال إلى اعتقاد الحق على وجهه فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعاً عليها ، وتبصر الأبصار بعد أن كانت عمياً والقول الأول أبلغ في التهويل.
وقرأ ابن محيصن : تُقلب بإدغام التاء في التاء.
واللام في { ليجزيهم } متعلقة بمحذوف أي فعلوا ذلك { ليجزيهم } ويجوز أن تتعلق بيسبح وهو الظاهر.
وقال الزمخشري : والمعنى يسبحون ويخافون { ليجزيهم } انتهى.
والظاهر أن قوله { يخافون } صفة لرجال كما أن { لا تلهيهم } كذلك.
{ أحسن } هو على حذف مضاف أي ثواب أحسن ما عملوا ، أو { أحسن } جزاء ما عملوا.
{ ويزيدهم من فضله } على ما تقتضيه أعمالهم ، فأهل الجنة أبداً في مزيد.
وقال الزمخشري : { ليجزيهم } ثوابهم مضاعفاً { ويزيدهم } على الثواب تفضيلاً وكذلك معنى قوله { الحسنى } وزيادة المثوبة الحسنى ، وزيادة عليها من التفضل وعطاء الله عز وجل إما تفضل وإما ثواب وإما عوض.
{ والله يرزق من يشاء } ما يتفضل به { بغير حساب } فأما الثواب فله حسنات لكونه على حسب الاستحقاق انتهى.
وفي قوله على حسب الاستحقاق دسيسة اعتزال.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

لما ذكر تعالى حالة الإيمان والمؤمنين وتنويره قلوبهم ووصفهم بما وصفهم من الأعمال النافعة في الآخرة أعقب ذلك بذكر مقابلهم الكفرة وأعمالهم ، فمثل لهم ولأعمالهم مثلين أحدهما يقتضي بطلان أعمالهم في الآخرة وأنهم لا ينتفعون بها.
والثاني يقتضي حالها في الدنيا من ارتباكها في الضلال والظلمة شبه أولاً أعمالهم في اضمحلالها وفقدان ثمرتها بسراب في مكان منخفض ظنه العطشان ماء فقصده وأتعب نفسه في الوصول إليه.
{ حتى إذا جاءه } أي جاء موضعه الذي تخيله.
فيه { لم يجده شيئاً } أي فقده لأنه مع الدنو لا يرى شيئاً.
كذلك الكافر يظن أن عمله في الدنيا نافعه حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم ينفعه عمله بل صار وبالاً عليه.
وقرأ مسلمة بن محارب : بقيعات بتاء ممطوطة جمع قيعة كديمات وقيمات في ديمة وقيمة ، وعنه أيضاً بتاء شكل الهاء ويقف عليها بالهاء فيحتمل أن يكون جمع قيعة ، ووقف بالهاء على لغة طيء كما قالوا البناه والأخواه في الوقف على البنات والأخوات.
قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يريد قيعة كالعامة أي كالقراءة العامة ، لكنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف مثل مخر نبق لينباع.
وقال الزمخشري : وقد جعل بعضهم بقيعات بتاء ممدودة كرجل عزهاة.
وقال صاحب اللوامح : ويجوز أنه جعله مثل سعلة وسعلاة وليلة وليلاة ، والقيعة مفرد مرادف للقاع أو جمع قاع كنار ونيرة ، فتكون على هذا قراءة قيعات جمع صحة تناول جمع تكسير مثل رجالات قريش وجمالات صفر.
وقرأ شيبة وأبو جعفر ونافع بخلاف عنهما { الظمآن } بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم ، والظاهر أن قوله { يحسبه الظمآن } هو من صفات السراب ولا يعني إلاّ مطلق { الظمآن } لا الكافر { الظمآن } وقال الزمخشري : شبه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان ولا يتبع الحق من الأعمال الصالحة التي يحسبها أن تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه يوم القيامة ، ثم يخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدر بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش يوم القيامة فيحسبه ماء ، فيأتيه فلا يجد ما رجاه ويجد ربانية الله عنده ، يأخذونه ويعتلونه ويسقونه الحميم والغساق وهم الذين قال الله فيهم { عاملة ناصبه } { يحسبون أنهم يحسنون صنعاً } { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } وقيل : نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام انتهى.
فجعل { الظمآن } هو الكافر حتى تطرد الضمائر في { جاءه } و { لم يجده } { ووجد } و { عنده } و { فوفاه } لشخص واحد ، وغيره غاير بين الضمائر فالضمير في { جاءه } و { لم يجده } للظمآن.
وفي { ووجد } للكافر الذي ضرب له مثلاً بالظمآن ، أي ووجد هذا الكافر وعد الله بالجزاء على عمله بالمرصاد { فوفاه حسابه } عمله الذي جازاه عليه.

وهذا معنى قول أبي وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأفرد الضمير في { ووجد } بعد تقدم الجمع حملاً على كل واحد من الكفار.
وقال ابن عطية : يحتمل أن يعود الضمير في { جاءه } على السراب.
ثم في الكلام متروك كثير يدل عليه الظاهر تقديره وكذلك الكافر يوم القيامة يظن عمله نافعاً { حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً } ويحتمل الضمير أن يعود على العمل الذي يدل عليه قوله { أعمالهم } ويكون تمام المثل في قوله { ماء } ويستغني الكلام عن متروك على هذا التأويل ، لكن يكون في المثل إيجاز واقتضاب لوضوح المعنى المراد به.
{ ووجد الله عنده } أي بالمجازاة ، والضمير في { عنده } عائد على العمل انتهى.
والذي يظهر لي أنه تعالى شبه أعمالهم في عدم انتفاعهم بها بسراب صفته كذا ، وأن الضمائر فيما بعد { الظمآن } له.
والمعنى في { ووجد الله عنده } أي { ووجد } مقدور { الله } عليه من هلاك بالظمأ { عنده } أي عند موضع السراب { فوفاه } ما كتب له من ذلك.
وهو المحسوب له ، والله معجل حسابه لا يؤخره عنه فيكون الكلام متناسقاً آخذاً بعضه بعنق بعض.
وذلك باتصال الضمائر لشيء واحد ، ويكون هذا التشبيه مطابقاً لأعمالهم من حيث أنهم اعتقدوها نافعة فلم تنفعهم وحصل لهم الهلاك بأثر ما حوسبوا.
وأما في قول الزمخشري : فإنه وإن جعل الضمائر للظمآن لكنه جعل { الظمآن } هو الكافر وهو تشبيه الشيء بنفسه كما قال.
وشبه الماء بعد الجهد بالماء.
وأما في قول غيره : ففيه تفكيك الكلام إذ غاير بين الضمائر وانقطع ترصيف الكلام بجعل بعضه مفلتاً من بعض.
{ أو كظلمات } هذا التشبيه الثاني لأعمالهم فالأول فيما يؤول إليه أعمالهم في الآخرة ، وهذا الثاني فيما هم عليه في حال الدنيا.
وبدأ بالتشبيه الأول لأنه آكد في الإخبار لما فيه من ذكر ما يؤول إليه أمرهم من العقاب الدائم والعذاب السرمدي.
ثم أتبعه بهذا التمثيل الذي نبههم على ما هي أعمالهم عليه لعلهم يرجعون إلى الإيمان ويفكرون في نور الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، والظاهر أنه تشبيه لأعمالهم وضلالهم بالظلمات المتكاثفة.
وقال أبو علي الفارسي : التقدير أو كذي ظلمات ، قال : ودل على هذا المضاف قوله { إذا أخرج يده } فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف ، فالتشبيه وقع عند أبي عليّ للكافر لا للأعمال وهو خلاف الظاهر ، ويتخيل في تقرير كلامه أن يكون التقدير أو هم كذي ظلمات فيكون التشبيه الأول لأعمالهم.
والثاني لهم في حال ضلالهم.
وقال أبو البقاء : في التقدير وجهان أحدهما : أو كأعمال ذي ظلمات ، فيقدر ذي ظلمات ليعود الضمير من قوله { إذا أخرج يده } إليه ، ويقدر أعمال ليصح تشبيه أعمال الكفار بأعمال صاحب الظلمة إذ لا معنى لتشبيه العمل بصاحب الظلمات.

والثاني : لا حذف فيه ، والمعنى أنه شبه أعمال الكفار بالظلمة في حيلولتها بين القلب وبين ما يهتدى إليه ، فأما الضمير في قوله { إذا أخرج يده } فيعود إلى مذكور حذف اعتماداً على المعنى تقديره إذا أخرج من فيها يده.
وقال الجرجاني : الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار.
والثانية في ذكر كفرهم ونسق الكفر على أعمالهم لأن الكفر أيضاً من أعمالهم ، وقد قال تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور.
من الكفر إلى الإيمان ، فيكون التمثيل قد وقع لأعمالهم بكفر الكافر و { أعمالهم } منها كفرهم ، فيكون قد شبه { أعمالهم } بالظلمات ، والعطف بأو هنا لأنه قصد التنويع والتفصيل لا أن { أَو } للشك.
وقال الكرماني : { أَو } للتخيير على تقدير شبه أعمال الكفار بأيهما شئت.
وقرأ سفيان بن حسين { أو كظلمات } بفتح الواو جعلها واو عطف تقدّمت عليها الهمزة التي لتقرير التشبيه الخالي عن محض الاستفهام.
والظاهر أن الضمير في { يغشاه } عائد على { بحر لجي } أي يغشى ذلك البحر أي يغطي بعضه بعضاً ، بمعنى أن تجيء موجة تتبعها أخرى فهو متلاطم لا يسكن ، وأخوف ما يكون إذا توالت أمواجه ، وفوق هذا الموج { سحاب } وهو أعظم للخوف لإخفائه النجوم التي يهتدى بها ، وللريح والمطر الناشئين مع السحاب.
ومن قدر أو كذي ظلمات أعاد الضمير في { يغشاه } على ذي المحذوف ، أي يغشى صاحب الظلمات.
وقرأ الجمهور { سحاب } بالتنوين { ظلمات } بالرفع على تقدير خبر لمبتدأ محذوف ، أي هذه أو تلك { ظلمات } وأجاز الحوفي أن تكون مبتدأ و { بعضها فوق بعض } مبتدأ وخبره في موضع خبر { ظلمات }.
والظاهر أنه لا يجوز لعدم المسوغ فيه للابتداء بالنكرة إلاّ إن قدرت صفة محذوفة أي ظلمات كثيرة أو عظيمة { بعضها فوق بعض }.
وقرأ البزي { سحاب ظلمات } بالإضافة.
وقرأ قنبل { سحاب } بالتنوين { ظلمات } بالجر بدلاً من { ظلمات } و { بعضها فوق بعض } مبتدأ وخبر في موضع الصفة لكظلمات.
قال الحوفي : ويجوز على رفع { ظلمات } أن يكون { بعضها } بدلاً منها ، وهو لا يجوز من جهة المعنى لأن المراد والله أعلم الأخبار بأنها ظلمات ، وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض أي هي ظلمات متراكمة وليس على الأخبار بأن بعض ظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة ظلمات متراكمة.
وتقدم الكلام في كاد إذا دخل عليها حرف نفي مشبعاً في البقرة في قوله { وما كادوا يفعلون } فأغنى عن إعادته ، والمعنى هنا انتفاء مقاربة الرؤية ، ويلزم من ذلك انتفاء الرؤية ضرورة وقول من اعتقد زيادة يكد أو أنه يراها بعد عسر ليس بصحيح ، والزيادة قول ابن الأنباري وأنه لم يرها إلاّ بعد الجهد قول المبرد والفراء.
وقال ابن عطية ما معناه : إذا كان الفعل بعد كان منفياً دل على ثبوته نحو كاد زيد لا يقوم ، أو مثبتاً دل على نفيه كاد زيد يقوم ، وإذا تقدم النفي على كاد احتمل أن يكون منفياً تقول : المفلوخ لا يكاد يسكن فهذا تضمن نفي السكون.

وتقول : رجل منصرف لا يكاد يسكن فهذا تضمن إيجاب السكون بعد جهد انتهى.
والظاهر أن هذا التشبيه الثاني هو تشبيه أعمال الكفار بهذه الظلمات المتكاثفة من غير مقابلة في المعنى بأجزائه لا جزاء المشبه.
قال الزمخشري : وشبهها يعني أعماله في ظلمتها وسوادها لكونا باطلة ، وفي خلوها عن نور الحق بظلمات متراكمة من لجج البحر والأمواج والسحاب ، ومنهم من لاحظ التقابل فقال : الظلمات الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة.
والبحر اللجيّ صدر الكافر وقلبه ، والموج الضلال والجهالة التي غمرت قلبه والفكر المعوجة والسحاب شهوته في الكفر وإعراضه عن الإيمان.
وقال الفراء : هذا مثل لقلب الكافر أي إنه يعقل ولا يبصر.
وقيل : { الظلمات } أعماله والبحر هواه.
القيعان القريب الغرق فيه الكثير الخطر ، والموج ما يغشى قلبه من جهل وغفلة ، والموج الثاني ما يغشاه من شك وشبهة ، والسحاب ما يغشاه من شرك وحيرة فيمنعه من الاهتداء على عكس ما في مثل نور الدين انتهى.
والتفسير بمقابلة الأجزاء شبيه بتفسير الباطنية ، وعدول عن منهج كلام العرب.
ولما شبه أعمال الكفار بالظلمات المتراكمة وذكر أنه لا يكاد يرى اليد من شدة الظلمة قال { ومن لم يجعل الله له نوراً } أي من لم ينور قلبه بنور الإيمان ويهده إليه فهو في ظلمة ولا نور له ، ولا يهتدي أبداً.
وهذا النور هو في الدنيا.
وقيل : هو في الآخرة أي من لم ينوره الله بعفوه ويرحمه برحمته فلا رحمة له ، وكونه في الدنيا أليق بلفظ الآية وأيضاً فذلك متلازم لأن نور الآخرة هو لمن نور الله قلبه في الدنيا.
وقال الزمخشري : ومن لم يوله نور توفيقه وعصمته ولطفه فهو في ظلمة الباطل لا نور له.
وهذا الكلام مجراه مجرى الكنايات لأن الألطاف إنما تردف الإيمان والعمل الصالح أو كونهما مرتقبين ، ألا ترى إلى قوله { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } وقوله { ويضل الله الظالمين } انتهى.
وهو على طريقة الاعتزال.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)

لما ذكر تعالى مثل المؤمن والكافر وأن الإيمان والضلال أمرهما راجع إليه أعقب بذكر الدلائل على قدرته وتوحيده ، والظاهر حمل التسبيح على حقيقته وتخصيص { من } في قوله ومن في الأرض بالمطيع لله تعالى من الثقلين.
وقيل : { من } عام لكل موجود غلب من يعقل على ما لا يعقل ، فأدرج ما لا يعقل فيه ويكون المراد بالتسبيح دلالته بهده الأشياء على كونه تعالى منزهاً عن النقائص موصوفاً بنعوت الكمال.
وقيل : المراد بالتسبيح التعظيم فمن ذي الدين بالنطق والصلاة ومن غيرهم من مكلف وجماد بالدلالة ، فيكون ذلك قدراً مشتركاً بينهما وهو التعظيم.
وقال سفيان : تسبيح كل شيء بطاعته وانقياده.
{ والطير صافات } أي صفت أجنحتها في الهواء للطيران ، وإنما خص الطير بالذكر لأنها تكون بين السماء والأرض إذا طارت فهي خارجة من جملة { من في السموات والأرض } حالة طيرانها.
وقرأ الجمهور { والطيرُ } مرفوعاً عطفاً على { من } و { وصافات } نصب على الحال.
وقرأ الأعرج { والطير } بالنصب على أنه مفعول معه.
وقرأ الحسن وخارجة عن نافع { والطيرُ صافاتٌ } برفعهما مبتدأ وخبر تقديره يسبحن.
قيل : وتسبيح الطير حقيقي قاله الجمهور.
قال الزمخشري : ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها.
وقال الحسن وغيره : هو تجوّز إنما تسبيحه ظهور الحكمة فيه فهو لذلك يدعو إلى التسبيح.
{ كل } أي كل ممن ذكر ، فيشمل الطير والظاهر أن الفاعل المستكن في { علم } وفي { صلاته وتسبيحه } عائد على { كل } وقاله الحسن قال : فهو مثابر عليهما يؤديهما.
وقال الزجاج : الضمير في { علم } وفي { صلاته وتسبيحه } لكل.
وقيل : الضمير في { علم } لكل وفي { صلاته وتسبيحه } لله أي صلاة الله وتسبيحه اللذين أمر بهما وهدى إليهما ، فهذه إضافة خلق إلى خالق.
وقال مجاهد : الصلاة للبشر والتسبيح لما عداهم.
وقرأ الحسن وعيسى وسلام وهارون عن أبي عمر وتفعلون بتاء الخطاب ، وفيه وعيد وتخويف.
{ ولله ملك السموات والأرض } إخبار بأن جميع المخلوقات تحت ملكه يتصرف فيهم بما يشاء تصرف القاهر الغالب.
وإليه { المصير } أي إلى جزائه من ثواب وعقاب.
وفي ذلك تذكير وتخويف.
ولما ذكر انقياد من في السموات والأرض والطير إليه تعالى وذكر ملكه لهذا العالم وصيرورتهم إليه أكد ذلك بشيء عجيب من أفعاله مشعر بانتقال من حال إلى حال.
وكان عقب قوله وإليه المصير فاعلم بانتقال إلى المعاد فعطف عليه ما يدل على تصرفه في نقل الأشياء من حال إلى حال ومعنى { يزجي } يسوق قليلاً قليلاً ويستعمل في سوق الثقيل برفق كالسحاب والإبل ، والسحاب اسم جنس واحده سحابة ، والمعنى يسوق سحابة إلى سحابة.
{ ثم يؤلف بينه } أي بين أجزائه لأنه سحابة تتصل بسحابة فجعل ذلك ملتئماً بتأليف بعض إلى بعض.

وقرأ ورش يولف بالواو ، وباقي السبعة بالهمز وهو الأصل.
فيجعله { ركاماً } أي متكاثفاً يجعل بعضه إلى بعض ، وانعصاره بذلك { من خلاله } أي فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم والانعصار.
والخلال : قيل مفرد.
وقيل : جمع خلل كجبال وجبل.
وقرأ ابن مسعود وابن عباس والضحاك ومعاذ العنبري عن أبي عمرو والزعفراني من خلله بالإفراد ، والظاهر أن في السماء جبالاً من برد قاله مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين : خلقها الله كما خلق في الأرض جبالاً من حجر.
وقيل : جبال مجاز عن الكثرة لا أن في السماء جبالاً كما تقول : فلان يملك جبالاً من ذهب ، وعنده جبال من العلم يريد الكثرة.
قيل : أو هو على حذف حرف التشبيه.
و { السماء } السحاب أي { من السماء } التي هي جبال أي كجبال كقوله { حتى إذا جعله ناراً } أي كنار قاله الزجاج ، فجعل السماء هو السحاب المرتفع سمي بذلك لسموه وارتفاعه.
وعلى القول الأول المراد بالسماء الجسم الأزرق المخصوص وهو المتبادر للذهن ، ومن استعماله الجبال في الكثرة مجازاً قول ابن مقبل :
إذا مت عن ذكر القوافي فلن . . .
ترى لها شاعراً مني أطلب وأشعرا
وأكثر بيتاً شاعراً ضربت له . . .
بطون جبال الشعر حتى تيسرا
واتفقوا على أن { من } الأولى لابتداء الغاية.
وأما { من جبال }.
فقال الحوفي : هي بدل من { السماء } ثم قال : وهي للتبعيض ، وهذا خطأ لأن الأولى لابتداء الغاية في ما دخلت عليه ، وإذ كانت الثانية بدلاً لزم أن يكون مثلها لابتداء الغاية ، لو قلت : خرجت من بغداد من الكرخ لزم أن يكونا معاً لابتداء الغاية.
وقال الزمخشري وابن عطية : هي للتبعيض فيكون على قولهما في موضع المفعول لينزل.
قال الحوفي والزمخشري : والثانية للبيان انتهى.
فيكون التقدير وينزل من السماء بعض جبال فيها التي هي البرد فالمنزل برد لأن بعض البرد برد فمفعول { ينزل } { من جبال }.
قال الزمخشري : أو الأولان للابتداء والأخيرة للتبعيض ، ومعناه أنه ينزل البرد من السماء من جبال فيها انتهى.
فيكون { من جبال } بدلاً { من السماء }.
وقيل : { من } الثانية والثالثة زائدتان وقاله الأخفش ، وهما في موضع نصب عنده كأنه قال : وينزل من السماء جبالاً فيها أي في السماء برداً وبرداً بدل أي برد جبال.
وقال الفراء : هما زائدتان أي جبالاً فيها برد لا حصى فيها ولا حجر ، أي يجتمع البرد فيصير كالجبال على التهويل فبرد مبتدأ وفيها خبره.
والضمير في { فيها } عائد على { الجبال } أو فاعل بالجار والمجرور لأنه قد اعتمد بكونه في موضع الصفة لجبال.
وقيل : { من } الأولى والثانية لابتداء الغاية ، والثالثة زائدة أي { وينزل من السماء من جبال } السماء برداً.
وقال الزجاج : معناه { وينزل من السماء من جبال } برد فيها كما تقول : هذا خاتم في يدي من حديد ، أي خاتم حديد في يدي ، وإنما جئت في هذا وفي الآية بمن لما فرقت ، ولأنك إذا قلت : هذا خاتم حديد كان المعنى واحداً انتهى.

فعلى هذا يكون { من برد } في موضع الصفة لجبال ، كما كان من في من حديد صفة لخاتم ، فيكون في موضع جر ويكون مفعول { ينزل } هو { من جبال } وإذا كانت الجبال { من برد } لزم أن يكون المنزل برداً.
والظاهر إعادة الضمير في { به } على البرد ، ويحتمل أن يكون أريد به الودق والبرد وجرى في ذلك مجرى اسم الإشارة.
وكأنه قال : فيصيب بذلك والمطر هو أعم وأغلب في الإصابة والصرف أبلغ في المنفعة والامتنان.
وقرأ الجمهور { سنا } مقصوراً { برقه } مفرداً.
وقرأ طلحة بن مصرف سناء ممدوداً { بُرَقه } بضم الباء وفتح الراء جمع برقه بضم الباء ، وهي المقدار من البرق كالغرفة واللقمة ، وعنه بضم الباء والراء اتبع حركة الراء لحركة الباء كما اتبعت في { ظلمات } وأصلها السكون.
والسناء بالمدّ ارتفاع الشأن كأنه شبه المحسوس من البرق لارتفاعه في الهواء بغير المحسوس من الإنسان ، فإن ذلك صيب لا يحس به بصر.
وقرأ الجمهور { يذهب } بفتح الياء والهاء وأبو جعفر { يُذْهِب } بضم الياء وكسر الهاء.
وذهب الأخفش وأبو حاتم إلى تخطئة أبي جعفر في هذه القراءة قالا : لأن الياء تعاقب الهمزة وليس بصواب لأنه لم يكن ليقرأ إلاّ بما روي.
وقد أخذ القراءة عن سادات التابعين الآخذين عن جلة الصحابة أُبيّ وغيره ، ولم ينفرد بها أبو جعفر بل قرأه شيبة كذلك وخرج ذلك على زيادة الباء أي يذهب الأبصار.
وعلى أن الباء بمعنى من والمفعول محذوف تقديره يذهب النور من الأبصار كما قال :
شرب النزيف ببرد ماء الحشرج . . .
يريد من برد.
وتقليب الليل والنهار آيتان أحدهما بعد الآخر أو زيادة هذا وعكسه ، أو يغير النهار بظلمة السحاب مرة وضوء الشمس أخرى ، ويغير الليل باشتداد ظلمته مرة وضوء القمر أخرى ، أو باختلاف ما يقدر فيهما من الخير والنفع والشدة والنعمة والأمن ومقابلاتها ونحو ذلك أقوال أربعة إن في ذلك إشارة إلى ما تقدم من الدلائل الدالة على وحدانيته من تسبيح من ذكر وتسخير السحاب.
وما يحدثه تعالى فيه من أفعاله حتى ينزل المطر فيقسم رحمته بين خلقه وإراءتهم البرق في السحاب الذي يكاد يخطف الأبصار ويقلب الليل والنهار.
{ لعبرة } أي اتّعاظاً.
وخص أولو الأبصار بالاتّعاظ لأن البصر والبصيرة إذا استعملا وصلا إلى إدراك الحق كقوله { إنما يتذكر أولوا الألباب.
} وقرأ الجمهور { خَلقَ } فعلاً ماضياً.
{ كل } نصب.
وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش خالق اسم فاعل مضاف إلى { كل }.
والدابة : ما يحرك أمامه قدماً ويدخل فيه الطير.
قال الشاعر :
دبيب قطا البطحاء في كل منهل . . .
والحوت وفي الحديث :

« دابة من البحر مثل الظرب » واندرج في { كل دابة } المميز وغيره ، فسهل التفصيل بمن التي لمن يعقل وما لا يعقل إذا كان مندرجاً في العام ، فحكم له بحكمه كان الدواب كلهم مميزون.
والظاهر أن { من ماء } متعلق بخلق.
و { من } لابتداء الغاية ، أي ابتدأ خلقها من الماء.
فقيل : لما كان غالب الحيوان مخلوقاً من الماء لتولده من النطفة أو لكونه لا يعيش إلاّ بالماء أطلق لفظ { كل } تنزيلاً للغالب منزلة العام ، ويخرج عما خلق من ماء ما خلق من نور وهم الملائكة ، ومن نار وهم الجنّ ، ومن تراب وهم آدم.
وخلق عيسى من الروح وكثير من الحيوان لا يتولد من نطفة.
وقيل { كل دابة } على العموم في هذه الأشياء كلها وإن أصل جميع المخلوقات الماء ، فروي أن أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماءً ، ثم خلق من ذلك الماء النار والهواء والنور ، ولما كان المقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة وكان الأصل الأول هو الماء قال : { خلق كل دابة من ماء }.
وقال القفال : ليس { من ماء } متعلقاً بخلق وإنما هو في موضع الصفة لكل دابة ، فالمعنى الإخبار أنه تعالى خلق كل دابة متولدة من الماء أي متولدة من الماء مخلوقة لله تعالى.
ونكر الماء هنا وعرف في { وجعلنا من الماء كل شيء حي } لأن المعنى هنا { خلق كل دابة } من نوع من الماء مختص بهذه الدابة ، أو { من ماء } مخصوص وهو النطفة ، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة هوامّ وبهائم وناس كما قال { يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل } وهنا قصد أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس الذي هو جنس الماء ، وذلك أنه هو الأصل وإن تخللت بينها وبينه وسائط كما قيل : إن أصل النور والنار والتراب الماء.
وسمي الزحف على البطن مشياً لمشاكلته ما بعده من ذكر الماشين أو استعارة ، كما قالوا : قد مشى هذا الأمر وما يتمشى لفلان أمر ، كما استعاروا المشفر للشفة والشفة للجحفلة.
والماشي { على بطنه } الحيات والحوت ونحو ذلك من الدود وغيره.
و { على رجلين } الإنسان والطير والأربع لسائر حيوان الأرض من البهائم وغيرها ، فإن وجد من له أكثر من أربع.
فقيل : اعتماده إنما هو على أربع ولا يفتقر في مشيه إلى جميعها وقدم ما هو أعرف في القدرة وأعجب وهو الماشي بغير آلة مشى من له رجل وقوائم ، ثم الماشي على رجلين ثم الماشي على أربع.
وفي مصحف أُبيّ ومنهم من يمشي على أكثر ، فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان لكنه لم يثبت قرآناً ولعله ما أورده مورد قرآن بل تنبيهاً على أن الله خلق من يمشي على أكثر من أربع كالعنكبوت والعقرب والرتيلاء وذي أربع وأربعين رجلاً وتسمى الاذن وهذا النوع لندوره لم يذكر.
{ يخلق الله ما يشاء } إشارة إلى أنه تعالى ما تعلقت به إرادة خلقه أنشأه واخترعه ، وفي ذلك تنبيه على كثرة الحيوان وأنها كما اختلفت بكيفية المشيء اختلفت بأمور أخر.

وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)

نزلت إلى قوله { إلا البلاغ المبين } في المنافقين بسبب منافق اسمه بشر ، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ودعا هو إلى كعب بن الأشرف فنزلت.
ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد أتبع ذلك بذمّ قوم آمنوا بألسنتهم دون عقائدهم.
{ ثم يتولى فريق منهم } عن الإيمان.
{ بعد ذلك } أي بعد قولهم { آمنا } { وما أولئك } إشارة إلى القائلين فينتفي عن جميعهم الإيمان ، أو إلى الفريق المتولي فيكون ما سبق لهم من الإيمان ليس إيماناً إنما كان ادّعاء باللسان من غير مواطأة بالقلب.
وأفرد الضمير في { ليحكم بينهم } وقد تقدم قوله { إلى الله ورسوله } لأن حكم الرسول هو عن الله.
قال الزمخشري : كقولك أعجبني زيد وكرمه يريد كرم زيد ومنه :
ومنهل من الفلافي أوسطه . . .
غلسته قبل القطا وفرطه
أراد قبل فرط القطا انتهى.
أي قبل تقدم القطا إليه.
وقرأ أبو جعفر { ليحكم } في الموضعين مبنياً للمفعول و { إذا } الثانية للفجاءة.
جواب { إذا } الأولى الشرطية ، وهذا أحد الدلائل على أن الجواب لا يعمل في إذا الشرطية خلافاً للأكثرين من النحاة ، لأن إذا الفجائية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها.
وقد أحكم ذلك في علم النحو.
والظاهر أن { إليه } متعلق بيأتوا.
والضمير في { إليه } عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأجاز الزمخشري أن يتعلق { إليه } بمذعنين قال : لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة وهذا أحسن لتقدم صلته ودلالته على الاختصاص.
وقد رددنا عليه ذلك وفي ما رجح تهيئة العامل للعمل وقطعه عن العمل وهو مما يضعف ، والمعنى أنهم لمعرفتهم أنه ليس معه إلا الحق المرّ والعدل البحت يزورون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق لئلا تنزعه منهم بقضائك عليهم لخصومهم ، وإن ثبت لهم الحق على خصم أسرع إليك كلهم ولم يرضوا إلا بحكومتك.
{ أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون } { أم } هنا منقطعة والتقدير : بل ارتابوا بل أيخافون وهو استفهام توقيف وتوبيخ ، ليقروا بأحد هذه الوجوه التي عليهم في الإقرار بها ما عليهم ، وهذا التوقيف يستعمل في الأمور الظاهرة مما يوبخ به ويذم ، أو مما يمدح به وهو بليغ جداً فمن المبالغة في الذم.
قول الشاعر :
ألست من القوم الذين تعاهدوا . . .
على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر
ومن المبالغة في المدح.
قول جرير :
ألستم خير من ركب المطايا . . .
وأندى العالمين بطون راح
وقسم تعالى جهات صدودهم عن حكومته فقال { أفي قلوبهم مرض } أي نفاق وعدم إخلاص { أم ارتابوا } أي عرضت لهم الريبة والشك في نبوته بعد أن كانوا مخلصين { أم يخافون } أي يعرض لهم الخوف من الحيف في الحكومة ، فيكون ذلك ظلماً لهم.

ثم استدرك ببل أنهم { هم الظالمون }.
وقرأ عليّ وابن أبي إسحاق والحسن { إنما كان قول } بالرفع والجمهور بالنصب.
قال الزمخشري : والنصب أقوى لأن أولى الاسمين بكونه اسماً لكان أو غلهما في التعريف و { أن يقولوا } أو غل لأنه لا سبيل عليه للتنكير بخلاف قول المؤمنين.
وكان هذا من قبيل كان في قوله { ما كان لله أن يتخذ من ولد } { ما يكون لنا أن نتكلم بهذا } انتهى.
ونص سيبويه على أن اسم كان وخبرها إذا كانتا معرفتين فأنت بالخيار في جعل ما شئت منهما الاسم والآخر الخبر من غير اعتبار شرط في ذلك ولا اختيار.
وقرأ أبو جعفر والجحدري وخالد بن الياس { ليحكم بينهم } مبنياً للمفعول ، والمفعول الذي لم يسم فاعله هو ضمير المصدر أي { ليحكم } هو أي الحكم ، والمعنى ليفعل الحكم { بينهم } ومثله قولهم : جمع بينهما وألف بينهما وقوله تعالى { وحيل بينهم } قال الزمخشري : ومثله { لقد تقطع بينكم } فيمن قرأ { بينكم } منصوباً أي وقع التقطع بينكم انتهى.
ولا يتعين ما قاله في الآية إذ يجوز أن يكون الفاعل ضميراً يعود على شيء قبله وتقدم الكلام في ذلك في موضعه.
{ أن يقولوا سمعنا } أي قول الرسول { وأطعنا } أي أمره.
وقرىء { ويتقه } بالإشباع والاختلاس والإسكان.
وقرىء { ويتقه } بسكون القاف وكسر الهاء من غير إشباع أجرى خبر كان المنفصل مجرى المتصل ، فكما يسكن علم فيقال علم كذلك سكن ويتقه لأنه تقه كعلم وكما قال السالم :
قالت سليمى اشتر لنا سويقاً . . .
يريد اشتر لنا { ومن يطع الله } في فرائضه { ورسوله } في سننه و { ويخشى الله } على ما مضى من ذنوبه { ويتقه } فيما يستقبل.
وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت له هذه.
ولما بلغ المنافقين ما أنزل تعالى فيهم أتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأقسموا إلى آخره أي { ليخرجن } عن ديارهم وأموالهم ونسائهم و { لئن أمرتهم } بالجهاد { ليخرجن } إليه وتقدم الكلام في { جهد أيمانهم } في الأنعام.
ونهاهم تعالى عن قسمهم لعلمه تعالى أنه ليس حقاً.
{ طاعة معروفة } أي معلومة لا شك فيها ولا يرتاب ، كطاعة الخلص من المؤمنين المطابق باطنهم لظاهرهم ، لا أيمان تقسموا بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها ، أو طاعتكم طاعة معروفة بالقول دون الفعل ، أو طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة قاله الزمخشري.
وقال ابن عطية : يحتمل معاني.
أحدها : النهي عن القسم الكاذب إذ قد عرف أن طاعتهم دغلة رديئة فكأنه يقول : لا تغالطوا فقد عرف ما أنتم عليه.
والثاني : لا تتكلفوا القسم طاعة معروفة متوسطة على قدر الاستطاعة أمثل وأجدى عليكم ، وفي هذا الوجه إبقاء عليهم.
والثالث : لا تقنعوا بالقسم طاعة تعرف منكم وتظهر عليكم هو المطلوب منكم.
والرابع : لا تقنعوا لأنفسكم بإرضائنا بالقسمة طاعة الله معروفة وجهاد عدوه مهيع لائح انتهى.

و { طاعة } مبتدأ و { معروفة } صفة والخبر محذوف ، أي أمثل وأولى أو خبر مبتدأ محذوف أي أمرنا أو المطلوب { طاعة معروفة }.
وقال أبو البقاء : ولو قرىء بالنصب لكان جائزاً في العربية وذلك على المصدر أي أطيعوا طاعة انتهى.
وقدراه بالنصب زيد بن عليّ واليزيدي وتقدير بعضهم الرفع على إضمار ولتكن { طاعة معروفة } ضعيف لأنه لا يحذف الفعل ويبقى الفاعل ، إلاّ إذا كان ثم مشعر به نحو { رجال } بعد { يسبح } مبنياً للمفعول أي يسبحه رجال ، أو يجاب به نفي نحو : بلى زيد لمن قال : ما جاء أحد.
أو استفهام نحو قوله :
ألا هل أتى أم الحويرث مرسل . . .
بلى خالد إن لم تعقه العوائق
أي أتاها خالد.
{ إن الله خبير بما تعملون } أي مطلع على سرائركم ففاضحكم.
والتفت من الغيبة إلى الخطاب لأنه أبلغ في تبكيتهم.
ولما بكتهم بأن مطلع على سرائرهم تلطف بهم فأمرهم بطاعة الله والرسول وهو أمر عام للمنافقين وغيرهم.
{ فإن تولوا } أي فإن تتولوا.
{ فإنما عليه } أي على الرسول { ما حمل } وهو التبليغ ومكافحة الناس بالرسالة وإعمال الجهد في إنذارهم.
{ وعليكم ما حملتم } وهو السمع والطاعة واتّباع الحق.
ثم علق هدايتهم على طاعته فلا يقع إلا بطاعته { وما على الرسول إلاّ البلاغ المبين } تقدم الكلام على مثل هذه الجملة في المائدة.
روي أن بعض الصحابة شكا جهد مكافحة العدو وما كانوا فيه من الخوف وأنهم لا يضعون أسلحتهم فنزل { وعد الله الذين آمنوا منكم }.
وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما قال بعضهم ما أتى علينا يوم نأمن من فيه ونضع السلاح ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تغبرون إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليس معه حديدة » قال ابن عباس : وهذا الوعد وعده الله أمّة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل.
والخطاب في { منكم } للرسول وأتباعه و { من } للبيان أي الذين هم أنتم وعدهم الله أن ينصر الإسلام على الكفر ويورثهم الأرض ويجعلهم خلفاء.
وقوله { في الأرض } هي البلاد التي تجاورهم وهي جزيرة العرب ، ثم افتتحوا بلاد الشرق والغرب ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا.
وفي الصحيح : « زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي عنها » قال بعض العلماء : ولذلك اتسع نطاق الإسلام في الشرق والغرب دون اتساعه في الجنوب والشمال.
قلت : ولا سيما في عصرنا هذا بإسلام معظم العالم في المشرق كقبائل الترك ، وفي المغرب كبلاد السودان التكرور والحبشة وبلاد الهند.
{ كما استخلف الذين من قبلهم } أي بني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد هلاك الجبابرة.

وقيل : هو ما كان في زمان داود وسليمان عليهما السلام ، وكان الغالب على الأرض المؤمنون.
وقرىء { كما استُخْلِفَ } مبنياً للمفعول.
واللام في { ليستخلفنهم } جواب قسم محذوف ، أي وأقسم { ليستخلفنهم } أو أجرى وعد الله لتحققه مجرى القسم فجووب بما يجاوب به القسم.
وعلى التقدير حذف القسم بكون معمول { وعد } محذوفاً تقديره استخلافكم وتمكين دينكم.
ودل عليه جواب القسم المحذوف.
وقال الضحاك : هذه الآية تتضمن خلافه أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ لأنهم أهل الإيمان وعمل الصالحات.
وقال صلى الله عليه وسلم : « الخلافة بعدي ثلاثون » انتهى.
ونيدرج من جرى مجراهم في العدل من استخلف من قريش كعمر بن عبد العزيز من الأمويين ، والمهتدين بالله في العباسيين.
{ وليمكنن لهم دينهم } أي يثبته ويوطده بإظهاره وإعزاز أهله وإذلال الشرك وأهله.
و { الذي ارتضى لهم } صفة مدح جليلة وقد بلغت هذه الأمة في تمكين هذا الدين الغاية القصوى مما أظهر الله على أيديهم من الفتوح والعلوم التي فاقوا فيها جميع العالم من لدن آدم إلى زمان هذه الملة المحمدية.
وقرأ الجمهور { وليبدلنهم } بالتشديد وابن كثير وأبو بكر والحسن وابن محيصن بالتخفيف.
وقال أبو العالية : لما أظهر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم على جزيرة العرب وضعوا السلاح وآمنوا ، ثم قبض الله نبيه عليه السلام فكانوا آمنين كذلك في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا فيه وكفروا بالنعمة ، فأدخل الله عليهم الخوف فغيروا فغير الله ما بهم.
{ يعبدونني } الظاهر أنه مستأنف فلا موضع له من الإعراب كأنه قيل : ما لهم يستخلفون ويؤمنون فقال { يعبدونني } قاله الزمخشري.
وقال ابن عطية : { يعبدونني } فعل مستأنف أي هم { يعبدونني } ويعني بالاستئناف الجملة لا نفس الفعل وحده وقاله الحوفي قال : ويجوز أن يكون مستأنفاً على طريق الثناء عليهم أي هم { يعبدونني }.
وقال الزمخشري : وإن جعلته حالاً عن وعدهم أي وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم فمحله النصب انتهى.
وقال الحوفي قبله.
وقال أبو البقاء : { يعبدونني } حال من { ليستخلفنهم } و { ليبدلنهم } { لا يشركون } بدل من { يعبدونني } أو حال من الفاعل في { يعبدونني } موحدين انتهى.
والظاهر أنه متى أطلق الكفر كان مقابل الإسلام والإيمان وهو ظاهر قول حذيفة قال : كان النفاق على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقد ذهب ولم يبق إلاّ كفر بعد إيمان.
قال ابن عطية : يحتمل أن يريد كفر هذه النعم إذا وقعت ويكون الفسق على هذا غير مخرج عن الملة.
قيل : ظهر في قتلة عثمان.
وقال الزمخشري : { ومن كفر } يريد كفران النعمة كقوله { فكفرت بأنعم الله } { فأولئك هم الفاسقون } أي هم الكاملون في فسقهم حيث كفروا تلك النعمة العظيمة.
والظاهر أن قوله { وأقيموا } التفات من الغيبة إلى الخطاب ويحسنه الخطاب في منكم.

وقال الزمخشري : { وأقيموا الصلاة } معطوف على { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه.
فاصل.
وإن طال لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه وكررت طاعة الرسول توكيداً لوجوبها انتهى.
وقرأ الجمهور { لا تحسبن } بتاء الخطاب والتقدير ، { لا تحسبن } أيها المخاطب ولا يندرج فيه الرسول ، وقالوا : هو خطاب للرسول وليس بجيد لأن مثل هذا الحسبان لا يتصوّر وقوعه فيه عليه السلام.
وقرأ حمزة وابن عامر لا يحسبن بالياء للغيبة ، والتقدير لا يحسبن حاسب ، والرسول لا يندرج في حاسب وقالوا : يكون ضمير الفاعل للرسول لتقدم ذكره في { وأطيعوا الرسول } قاله أبو عليّ والزمخشري وليس بجيد لما ذكرناه في قراءة التاء.
وقال النحاس : ما علمت أحداً من أهل العربية بصرياً ولا كوفياً إلاّ وهو يخطىء قراءة حمزة ، فمنهم من يقول : هي لحن لأنه لم يأت إلاّ بمفعول واحد ليحسبن ، وممن قال هذا أبو حاتم انتهى.
وقال الفرّاء : هو ضعيف وأجازه على حذف المفعول الثاني وهو قول البصريين تقديره أنفسهم.
و { معجزين } المفعول الثاني.
وقال عليّ بن سليمان : { الذين كفروا } في موضع نصب قال : ويكون المعنى ولا يحسبن الكافر { الذين كفروا معجزين في الأرض }.
وقال الكوفيون : { معجزين } المفعول الأول.
و { في الأرض } الثاني قيل : وهو خطأ وذلك لأن ظاهر في { الأرض } تعلقه بمعجزين ، فلا يكون مفعولاً ثانياً.
وخرج الزمخشري ذلك متبعاً قول الكوفيين.
فقال { معجزين في الأرض } هما المفعولان والمعنى لا يحسبن الذين كفروا أحداً يعجز الله في الأرض حتى يطمعوا لهم في مثل ذلك ، وهذا معنى قوي جيد انتهى.
وقال أيضاً : يكون الأصل : لا يحسبنهم { الذين كفروا معجزين } ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول ، وكان الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت كالشيء الواحد اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث انتهى.
وقد رددنا هذا التخريج في آل عمران في قوله { لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا } في قراءة من قرأ بياء الغيبة ، وجعل الفاعل { الذين يفرحون } وملخصه أنه ليس هذا من الضمائر التي يفسرها ما بعدها فلا يتقدر لا يحسبنهم إذ لا يجوز ظنه زيد قائماً على تقدير رفع زيد بظنه.
{ ومأواهم النار } قال الزمخشري : عطف على { لا تحسبن } كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله { ومأواهم النار } والمراد بهم المقسمون جهد أيمانهم انتهى.
وقال صاحب النظام لا يحتمل أن يكون { ومأواهم } متصلاً بقوله { لا تحسن الذين كفروا معجزين في الأرض } بل هم مقهورون { ومأواهم النار } انتهى.
واستبعد العطف من حيث إن { لا تحسبن } نهي { ومأواهم النار } جملة خبرية فلم يناسب عنده أن يعطف الجملة الخبرية على جملة النهي لتباينهما وهذا مذهب قوم.
ولما أحس الزمخشري بهذا قال : كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله فتأول جملة النهي بجملة خبرية حتى تقع المناسبة ، والصحيح أن ذلك لا يشترط بل يجوز عطف الجمل على اختلافها بعضاً على بعض وإن لم تتحد في النوعية وهو مذهب سيبويه.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

روي أن عمر بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً من الأنصار يقال له مدلج ، وكان نائماً فدق عليه الباب ودخل ، فاستيقظ وجلس فانكشف منه شيء فقال عمر : وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلاّ بإذن.
ثم انطلق إلى الرسول فوجد هذه الآية قد نزلت فخرّ ساجداً.
وقيل : نزلت في أسماء بنت أبي مرثد قيل : دخل عليها غلام لها كبير في وقت كرهت دخوله ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا حالاً نكرهها.
{ ليستأذنكم } أمر والظاهر حمله على الوجوب والجمهور على الندب.
وقيل : بنسخ ذلك إذ صار للبيوت أبواب روي ذلك عن ابن عباس وابن المسيب والظاهر عموم { الذين ملكت أيمانكم } في العبيد والإماء وهو قول الجمهور.
وقال ابن عمر وآخرون ، العبيد دون الإماء.
وقال السلمي : الإماء دون العبيد.
{ والذين لم يبلغوا الحلم منكم } عام في الأطفال عبيد كانوا أو أحراراً.
وقرأ الحسن وأبو عمر وفي رواية وطلحة { الحلْم } بسكون اللام وهي لغة تميم.
وقيل { منكم } أي من الأحرار ذكوراً كانوا أو إناثاً.
والظاهر من قوله { ثلاث مرات } ثلاث استئذانات لأنك إذا ضربت ثلاث مرات لا يفهم منه إلاّ ثلاث ضربات ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : « الاستئذان ثلاث » والذي عليه الجمهور أن معنى { ثلاث مرات } ثلاث أوقات وجعلوا ما بعده من ذكر تلك الأوقات تفسيراً لقوله { ثلاث مرات } ولا يتعين ذلك بل تبقى { ثلاث مرات } على مدلولها.
{ من قبل صلاة الفجر } لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة وقد ينكشف النائم.
{ وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة } لأنه وقت وضع الثياب للقائلة لأن النهار إذ ذاك يشتد حره في ذلك الوقت.
و { من } في { من الظهيرة } قال أبو البقاء : لبيان الجنس أي حين ذلك هو الظهيرة ، قال : أو بمعنى من أجل حر الظهيرة و { حين } معطوف على موضع { من قبل } { ومن بعد صلاة العشاء } لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم { ثلاث عورات لكم } سمى كل واحد منها عورة لأن الناس يختل تسترهم وتحفظهم فيها ، والعورة الخلل ومنه أعور الفارس وأعور المكان ، والأعور المختل العين.
وقرأ حمزة والكسائي { ثلاث } بالنصب قالوا : بدل من { ثلاث عورات } وقدره الحوفي والزمخشري وأبو البقاء أوقات { ثلاث عورات } وقال ابن عطية : إنما يصح يعنى البدل بتقدير أوقات { عورات } فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
وقرأ باقي السبعة بالرفع أي هن { ثلاث عورات } وقرأ الأعمش { عَوَرات } بفتح الواو وتقدم أنها لغة هذيل بن مدركة وبني تميم وعلى رفع { ثلاث }.

قال الزمخشري : يكون { ليس عليكم } الجملة في محل رفع على الوصف والمعنى هن { ثلاث عورات } مخصوصة بالاستئذان ، وإذا نصبت لم يكن له محل وكان كلاماً مقرراً بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة.
{ بعدهن } أي بعد استئذانهم فيهن حذف الفاعل وحرف الجر بفي بعد استئذانهن ثم حذف المصدر وقيل { ليس } على العبيد والإماء ومن لم يبلغ الحلم في الدخول { عليكم } بغير استئذان { جناح } بعد هذه الأوقات الثلاث { طوافون } يمضون ويجيؤون وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هم { طوافون } أي المماليك والصغار { طوافون عليكم } أي يدخلون عليكم في المنازل غدوة وعشية بغير إذن إلاّ في تلك الأوقات.
وجوّزوا في { بعضكم على بعض } أن يكون مبتدأ وخبراً لكن الجر قدروه طائف على بعض وهو كون مخصوص فلا يجوز حذفه.
قال الزمخشري : وحذف لأن طوافون يدل عليه وأن يكون مرفوعاً بفعل محذوف تقديره يطوف بعضكم.
وقال ابن عطية { بعضكم } بدل من قوله { طوافون } ولا يصح لأنه إن أراد بدلاً من { طوافون } نفسه فلا يجوز لأنه يصير التقدير هم { بعضكم على بعض } وهذا معنى لا يصح.
وإن جعلته بدلاً من الضمير في { طوافون } فلا يصح أيضاً إن قدر الضمير ضمير غيبة لتقدير المبتدأ هم لأنه يصير التقدير هم يطوف { بعضكم على بعض } وهو لا يصح.
فإن جعلت التقدير أنتم يطوف { عليكم بعضكم على بعض } فيدفعه أن قوله { عليكم } بدل على أنهم هم المطوف عليهم ، وأنتم طوافون ، يدل على أنهم طائفون فتعارضا.
وقرأ ابن أبي عبلة طوافين بالنصب على الحال من ضمير { عليهم }.
وقال الحسن : إذا بات الرجل خادمه معه فلا استئذان عليه ولا في هذه الأوقات الثلاثة.
{ وإذا بلغ الأطفال } أي من أولادكم وأقربائكم { فليستأذنوا } أي في كل الأوقات فإنهم قبل البلوغ كانوا يستأذنون في ثلاث الأوقات.
{ كما استأذن الذين من قبلهم } يعني البالغين.
وقيل : الكبار من أولاد الرجل وأقربائه.
ودل ذلك على أن الابن والأخ البالغين كالأجنبي في ذلك وتكلموا هنا فيما به البلوغ وهي مسألة تذكر في الفقه.
كذلك الإشارة إلى ما تقدم ذكره من استئذان المماليك وغير البلغ.
ولما أمر تعالى النساء بالتحفظ من الرجال ومن الأطفال غير البلغ في الأوقات التي هي مظنة كشف عورتهن استثنى { القواعد من النساء } اللاتي كبرن وقعدن عن الميل إليهن والافتتان بهن فقال { والقواعد } وهو جمع قاعد من صفات الإناث.
وقال ابن السكيت : امرأة قاعد قعدت عن الحيض.
وقال ابن قتيبة : سُميِّن بذلك لأنهن بعد الكبر يكثرن القعود.
وقال ربيعة لقعودهن عن الاستمتاع بهن فأيسن ولم يبق لهن طمع في الأزواج.
وقيل قعدن عن الحيض والحبل.
و { ثيابهن } الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار والملاء الذي فوق الثياب أو الخمر أو الرداء والخمار أقوال ، ويقال للمرأة إذا كبرت امرأة واضع أي وضعت خمارها.

{ غير متبرجات بزينة } أي غير متظاهرات بالزينة لينظر إليهن ، وحقيقة التبرج إظهار ما يجب إخفاؤه أو غير قاصدات التبرج بالوضع ، ورب عجوز يبدو منها الحرص على أن يظهر بها جمال.
{ وأن يستعففن } عن وضع الثياب ويتسترن كالشباب أفضل لهن.
{ والله سميع } لما يقول كل قائل { عليم } بالمقاصد.
وفي ذكر هاتين الصفتين توعد وتحذير.
عن ابن عباس لما نزل { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } تحرج المسلمون عن مواكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج لأنه لا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام فأنزل الله هذه الآية قيل : وتحرجوا عن أكل طعام القرابات فنزلت مبيحة جميع هذه المطاعم ومبينة أن تلك إنما هي في التعدي والقمار وما يأكله المؤمن من مال من يكره أهله أو بصفقة فاسدة ونحوه.
وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وابن المسيب كانوا إذا نهضوا إلى الغزو وخلفوا أهل العذر في منازلهم وأموالهم تحرجوا من أكل مال الغائب فنزلت مبيحة لهم ما تمس إليه حاجتهم من مال الغائب إذا كان الغائب قد بنى على ذلك.
وقال مجاهد : كان الرجل إذا ذهب بأهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئاً ذهب بهم إلى بيوت قراباته فتحرج أهل الأعذار من ذلك فنزلت.
وقيل : كانت العرب ومن بالمدينة قبل البعث تجتنب الأكل مع أهل هذه الأعذار فبعضهم تقذراً لمكان جولان يد الأعمى ، ولانبساط الجلسة مع الأعرج ، ولرائحة المريض وهي أخلاق جاهلية وكبر.
فنزلت واستبعد هذا لأنه لو كان هذا السبب لكان التركيب ليس عليكم حرج أن تأكلوا معهم ولم يكن { ليس على الأعمى حرج } وأجاب بعضهم : بأن { على } في معنى أي في مواكلة الأعمى وهذا بعيد جداً.
وفي كتاب الزهراوي عن ابن عباس أن أهل هذه الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس من أجل عذرهم فنزلت.
وعلى هذه الأقوال كلها يكون نفي الحرج عن أهل العذر ومن بعدهم في المطاعم.
وقال الحسن وعبد الرحمن بن زيد الحرج المنفي عن أهل العذر هو في القعود عن الجهاد وغيره مما رخص لهم فيه ، والحرج المنفي عمن بعدهم في الأكل مما ذكر وهو مقطوع مما قبله إذ متعلق الحرجين مختلف.
وإن كان قد اجتمعا في انتفاء الحرج.
وهذا القول هو الظاهر.
ولم يذكر بيوت الأولاد اكتفاء بذكر بيوتكم لأن ولد الرجل بعضه وحكمه حكم نفسه ، وبيته بيته.
وفي الحديث « إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه ».
ومعنى { من بيوتكم }.
من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم ، والولد أقرب من عدد من القرابات فإذا كان سبب الرخصة هو القرابة كان الذي هو أقرب منهم أولى.

وقرأ طلحة إمهاتكم بكسر الهمزة.
{ أو ما ملكتم مفاتحه }.
قال ابن عباس : هو وكيل الرجل أن يتناول من التمر ويشرب من اللبن.
وقال قتادة : العبد لأن ماله لك.
وقال مجاهد والضحاك : خزائن بيوتكم إذا ملكتم مفاتيحها.
وقال ابن جرير : الزمنى ملكوا التصرف في البيوت التي سلمت إليهم مفاتيحها.
وقيل : ولي اليتيم يتناول من ماله بقدر مّا قال تعالى { ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف } ومفاتحه بيده.
وقرأ الجمهور { ملكتم } بفتح الميم واللام خفيفة.
وقرأ ابن جبير بضم الميم وكسر اللام مشددة ، والجمهور { مفاتحه } جمع مفتح وابن جبير مفاتيحه جمع مفتاح ، وقتادة وهارون عن أبي عمرو مفتاحه مفرداً.
{ أو صديقكم } قرىء بكسر الصاد إتباعاً لحركة الدال حكاه حميد الخزاز ، قرن الله الصديق بالقرابة المحضة.
قيل لبعضهم : من أحب إليك أخوك أم صديقك؟ فقال : لا أحب أخي إلاّ إذا كان صديقي.
وقال معمر : قلت لقتادة ألا أشرب من هذا الحب؟ قال : أنت لي صديق فما هذا الاستئذان.
وقال ابن عباس : الصديق أوكد من القرابة ألا ترى استغاثة الجهنميين { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم } ولم يستغيثوا بالآباء والأمهات ومعنى { أو صديقكم } أو بيوت أصدقائكم ، والصديق يكون للواحد والجمع كالخليط والقطين ، وقد أكل جماعة من أصحاب الحسن من بيته وهو غائب فجاء فسر بذلك وقال : هكذا وجدناهم يعني كبراء الصحابة ، وكان الرجل يدخل بيت صديقه فيأخذ من كيسه فيعتق جاريته التي مكنته من ذلك.
وعن جعفر الصادق : من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الأنس والثقة والانبساط وترك الحشمة بمنزلة النفس والأب والابن والأخ.
وقال هشام بن عبد الملك : نلت ما نلت حتى الخلافة وأعوزني صديق لا أحتشم منه.
وقال أهل العلم : إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح.
وانتصب { جميعاً أو أشتاتاً } على الحال أي مجتمعين أو متفرقين.
قال الضحاك وقتادة : نزلت في حي من كنانة تحرجوا أن يأكل الرجل وحده فربما قعدوا لطعام بين يديه لا يجد من يؤاكله حتى يمسي فيضطر إلى الأكل وحده.
وقال بعض الشعراء :
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له . . .
أكيلاً فإني لست آكله وحدي
وقال عكرمة في قوم من الأنصار : إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلاّ معه.
وقيل في قوم : تحرجوا أن يأكلوا جميعاً مخافة أن يزيد أحدهم على الآخرة في الأكل.
وقيل { أو صديقكم } هو إذا دعاك إلى وليمة فحسب.
وقيل : هذه الآية منسوخة بقوله عليه السلام « ألا إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام » وبقوله عليه السلام من حديث ابن عمر : « لا يحلبن أحد ماشية أحد إلاّ بإذنه » وبقوله تعالى { لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا } الآية.
{ فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم }.

قال ابن عباس والنخعي : المساجد فسلموا على من فيها فإن لم يكن فيها أحد قال السلام على رسول الله.
وقيل : يقول السلام عليكم يعني الملائكة ، ثم يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وقال جابر وابن عباس وعطاء : البيوت المسكونة وقالوا يدخل فيها غير المسكونة ، فيقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وقال ابن عمر : بيوتاً خالية.
وقال السدّي { على أنفسكم } على أهل دينكم.
وقال قتادة : على أهاليكم في بيوت أنفسكم.
وقيل : بيوت الكفار { فسلموا على أنفسكم } وقال الزمخشري { فإذا دخلتم بيوتاً } من هذه البيوت لتأكلوا ، فابدؤوا بالسلام على أهلها الذين هم فيها منكم ديناً وقرابة.
و { تحية من عند الله } أي ثابتة بأمره مشروعة من لدنه ، أو لأن التسليم والتحية طلب للسلامة وحياة للمسلم عليه ووصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة وطيب الرزق انتهى.
وقال مقاتل : مباركة بالأجر.
وقيل : بورك فيها بالثواب.
وقال الضحاك : في السلام عشر حسنات ، ومع الرحمة عشرون ، ومع البركات ثلاثون.
وانتصب { تحية } بقوله { فسلموا } لأن معناه فحيوا كقولك : قعدت جلوساً.

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)

لما افتتح السورة بقوله { سورة أنزلناها } وذكر أنواعاً من الأوامر والحدود مما أنزله على الرسول عليه السلام اختتمها بما يجب له عليه السلام على أمته من التتابع والتشايع على ما فيه مصلحة الإسلام ومن طلب استئذانه إن عرض لأحد منهم عارض ، ومن توقيره في دعائهم إياه.
وقال الزمخشري : أراد عز وجل أن يريهم عظيم الجناية في ذهاب الذاهب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه.
{ إذا كانوا معه على أمر جامع } فجعل ترك ذهابهم { حتى تستأذنوه } ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم ، وجعلهما كالتسبيب له والنشاط لذكره.
وذلك مع تصدير الجملة بإنما وارتفاع المؤمنين مبتدأ ومخبر عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين ، ثم عقبه بما يزيده توكيداً وتسديداً بحيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله { إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله } وضمنه شيئاً آخر وهو أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين ، وعرّض بحال الماضين وتسللهم لو إذاً.
ومعنى قوله { لم يذهبوا حتى يستأذنوه } لم يذهبوا حتى يستأذنوه وبأذن لهم ، ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استصوب أن يأذن له ، والأمر الجامع الذي يجمع له الناس ، فوصف بالجمع على المجاز وذلك نحو مقابلة عدو وتشاور في أمرهم أو تضام لإرهاب مخالف ، أو ما ينتج في حلف وغير ذلك.
والأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه وفي قوله { وإذا كانوا معه على أمر جامع } أنه خطب جليل لا بد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه من ذوي رأي وقوة يظاهرونه عليه ويعاونونه ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم في كفاءته ، فمفارقة أحدهم في مثل هذه الحالة مما يشق على قلبه ويشعث عليه رأيه.
فمن ثم غلظ عليهم وضيق الأمر في الاستئذان مع العذر المبسوط ومساس الحاجة إليه واعتراض ما يهمهم ويعينهم ، وذلك قوله { لبعض شأنهم } وذكر الاستغفار للمستأذنين دليل على أن الأحسن الأفضل أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ولا يستأذنوا فيه.
وقيل : نزلت في حفر الخندق وكان قوم يتسللون بغير إذن لذلك ينبغي أن يكون الناس مع أئمتهم ومقدميهم في الدين والعلم يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلة من النوازل ، ولا يتفرقون عنهم ، والأمر في الإذن مفوض إلى الإمام إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن على حسب ما اقتضاه رأيه انتهى.
وهو تفسير حسن ويجري هذا المجرى إمام الأمرة إذا كان الناس معه مجتمعين لمراعاة مصلحة دينية فلا يذهب أحد منهم عن المجمع إلاّ بإذن منه إذ قد يكون له رأي في حضور ذلك الذاهب.
وقال مكحول والزهري : الجمعة من الأمر الجامع ، فإذا عرض للحاضر ما يمنعه الحضور من سبق رعاف فليستأذن حتى يذهب عنه سوء الظن به.

وقال ابن سيرين : كانوا يستأذنون الإمام على المنبر ، فلما كثر ذلك قال زياد : من جعل يده على أنفه فليخرج دون إذن وقد كان هذا بالمدينة حتى إنّ سهيل بن أبي صالح رعف يوم الجمعة فاستأذن الإمام.
وقال ابن سلام : هو كل صلاة فيها خطبة كالجمعة والعيدين والاستسقاء.
وقال ابن زيد : في الجهاد.
وقال مجاهد : الاجتماع في طاعة الله.
قيل : في قوله { فائذن لمن شئت منهم } أريد بذلك عمر بن الخطاب.
وقرأ اليماني على أمر جميع.
{ لا تجعلوا } خطاب لمعاصري الرسول عليه السلام لما كان التداعي بالأسماء على عادة البداوة ، أمروا بتوقير رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحسن ما يدعى به نحو : يا رسول الله ، يا نبي الله ، ألا ترى إلى بعض جفاة من أسلم كان يقول : يا محمد وفي قوله { كدعاء بعضكم بعضاً } إشارة إلى جواز ذلك مع بضعهم لبعض إذ لم يؤمر بالتوقير والتعظيم في دعائه عليه السلام إلاّ من دعاه لا من دعا غيره.
وكانوا يقولون : يا أبا القاسم يا محمد فنهوا عن ذلك.
وقيل : نهاهم عن الإبطاء والتأخر إذا دعاهم ، واختارهم المبرد والقفال ويدل عليه { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } وهذا القول موافق لمساق الآية ونظمها.
وقال الزمخشري : إذا احتاج إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تتفرّقوا عنه إلاّ بإذنه ، ولا تقيسوا دعاءه على دعاء بعضكم بعضاً ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي انتهى.
وهو قريب مما قبله.
وقال أيضاً : ويحتمل { لا تجعلوا } دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم كبيركم وفقيركم غنيكم ، يسأله حاجة فربما أجابه وربما رده ، وإن دعوات رسول الله صلى الله عليه وسلم مسموعة مستجابة انتهى.
وقال ابن عباس : إنما هو لا تحسبوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض أي دعاؤه عليكم مجاب فاحذروه.
قال ابن عطية : ولفظ الآية يدفع هذا المعنى انتهى.
وقرأ الحسن ويعقوب في رواية نبيكم بنون مفتوحة وباء مكسورة وياء مشددة بدل قوله { بينكم } ظرفاً قراءة الجمهور.
قال صاحب اللوامح : وهو النبيّ عليه السلام على البدل من { الرسول } فإنما صار بدلاً لاختلاف تعريفهما باللام مع الإضافة ، يعني أن الرسول معرفة باللام ونبيكم معرفة بالإضافة إلى الضمير فهو في رتبة العلم ، فهو أكثر تعريفاً من ذي اللام فلا يصح النعت به على المذهب المشهور ، لأن النعت يكون دون المنعوت أو مساوياً له في التعريف.
ثم قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون نعتاً لكونهما معرفتين انتهى.
وكأنه مناقض لما قرر من اختياره البدل وينبغي أن يجوز النعت لأن الرسول قد صار علماً بالغلبة كالبيت للكعبة إذ ما جاء في القرآن والسنة من لفظ الرسول إنما يفهم منه أنه محمد صلى الله عليه وسلم ، فإاذ كان كذلك فقد تساويا في التعريف.

ومعنى { يتسللون } ينصرفون قليلاً قليلاً عن الجماعة في خفية ، ولواذ بعضهم ببعض أي هذا يلوذ بهذا وهذا بذاك بحيث يدور معه حيث دار استتاراً من الرسول.
وقال الحسن { لواذاً } فراراً من الجهاد.
وقيل : في حفر الخندق ينصرف المنافقون بغير إذن ويستأذن المؤمنون إذا عرضت لهم حاجة.
وقال مجاهد لوذاً خلافاً.
وقال أيضاً { يتسللون } من الصف في القتال وقيل : { يتسللون } على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى كتابه وعلى ذكره.
وانتصب { لواذاً } على أنه مصدر في موضع الحال أي متلاوذين ، و { لواذاً } مصدر لاوذ صحت العين في الفعل فصحت في المصدر ، ولو كان مصدر لاذ لكان لياذاً كقام قياماً.
وقرأ يزيد بن قطيب { لواذاً } بفتح اللام ، فاحتمل أن يكون مصدر لاذ ولم يقبل لأنه لا كسرة قبل الواو فهو كطاف طوافاً.
واحتمل أن يكون مصدر لاوذ وكانت فتحة اللام لأجل فتحة الواو وخالف يتعدى بنفسه تقول : خالفت أمر زيد وبالي تقول : خالفت إلى كذا فقوله { عن أمره } ضمن خالف معنى صدّ وأعرض فعداه بعن.
وقال ابن عطية : معناه يقع خلافهم بعد أمره كما تقول كان المطر عن ريح و { عن } هي لما عدا الشيء.
وقال أبو عبيدة والأخفش { عن } زائدة أي { أمره } والظاهر أن الأمر بالحذر للوجوب وهو قول الجمهور ، وأن الضمير في { أمره } عائد على الله.
وقيل على الرسول.
وقرىء يخلفّون بالتشديد أي يخلفون أنفسهم بعد أمره ، والفتنة القتل قاله ابن عباس أيضاً أو بلاء قاله مجاهد ، أو كفر قاله السدي ومقاتل ، أو إسباغ النعم استدراجاً قاله الجراح ، أو قسوة القلب عن معرفة المعروف والمنكر قاله الجنيد ، أو طبع على القلوب قاله بعضهم.
وهذه الأقوال خرجت مخرج التمثيل لا الحصر وهي في الدنيا.
أو { عذاب أليم }.
قيل : عذاب الآخرة.
وقيل : هو القتل في الدنيا.
{ ألا إن لله ما في السموات والأرض } هذا كالدلالة على قدرته تعالى عليهما وعلى المكلف فيما يعامله به من المجازاة من ثوابه وعقابه.
{ قد يعلم ما أنتم عليه } أي من مخالفة أمر الله وأمر رسوله وفيه تهديد ووعيد ، والظاهر أنه خطاب للمنافقين.
وقال الزمخشري : ادخل { قد } ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق ، ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد وذلك أن قد إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى ربما ، فوافقت ربما في خروجها إلى معنى التنكير في نحو قوله :
فإن يمس مهجور الفناء فربما . . .
أقام به بعد الوفود وفود
ونحو من ذلك قول زهير :
أخي ثقة لا يهلك الخمر ماله . . .
ولكنه قد يهلك المال نائله
انتهى.
وكون قد إذا دخلت على المضارع أفادت التكثير قول بعض النحاة وليس بصحيح ، وإنما التكثير مفهوم من سياقة الكلام في المدح والصحيح في رب إنها لتقليل الشيء أو تقليل نظيره فإن فهم تكثير فليس ذلك من رب.

ولا قد إنما هو من سياقه الكلام ، وقد بين ذلك في علم النحو.
وقرأ الجمهور { يُرجعون } مبنياً للمفعول.
وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق وأبو عمرو مبنياً للفاعل.
والتفت من ضمير الخطاب في { أنتم } إلى ضمير الغيبة في { يرجعون } ويجوز أن يكون { ما أنتم عليه } خطاباً عاماً ويكون { يرجعون } للمنافقين.
والظاهر عطف { ويوم } على { ما أنتم عليه } فنصبه نصب المفعول.
قال ابن عطية : ويجوز أن يكون التقديم والعلم الظاهر لكم أو نحو هذا يوم فيكون النصب على الظرف.
مفردات سورة الفرقان
الهباء قال أبو عبيدة والزجاج : مثل الغبار يدخل الكوة مع ضوء الشمس.
وقال ابن عرفة : الهبوة والهباء التراب الدقيق.
وقال الجوهري يقال منه إذا ارتفع هبا يهبو هبواً ، وأهبيتُه أنا إهباءً.
وقيل : هو الشرر الطائر من النار إذا أضرمت.
النثر : التفريق.
العض : وقع الأسنان على المعضوض بقوة وفعله على وزن فعل بكسر العين ، وحكى الكسائي عضضت بفتح عين الكلمة.
فلان كناية عن علم من يعقل.
الجملة من الكلام هو المجتمع غير المفرق.
الترتيل سرد اللفظ بعد اللفظ يتخلل بينهما زمن يسير من قولهم : ثغر مرتل أي مفلج الأسنان.
السبات : الراحة ، ومنه يوم السبت لما جرت العادة من الاستراحة فيه ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة مسبوت قاله أبو مسلم.
وقال الزمخشري : السبات الموت والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة.
مرج : قال ابن عرفة خلط ومرج الأمر اختلط واضطرب.
وقيل : مرج وأمرج أجرى ، ومرج لغة الحجاز وأمرج لغة نجد.
العذب : الحلو.
والفرات البالغ في الحلاوة.
الملح : المالح.
والأجاج البالغ في الملوحة.
وقيل : المر.
وقيل : الحار.
الصهر ، قال الخليل : لا يقال لأهل بيت المرأة إلاّ أصهار ، ولأهل بيت الرجل إلاّ أختان ، ومن العرب من يجعلهم أصهاراً كلهم.
السراج : الشمس.
الهون : الرفق واللين.
الغرفة : العلية وكل بناء عال فهو غرفة.
عباءً من العبء وهو الثقيل ، يقال : عبأت الجيش بالتخفيف والتثقيل هيأته للقتال ، ويقال : ما عبأت به أي ما اعتددت به كقولك : ما اكترثت به.

تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)

هذه السورة مكية في قول الجمهور.
وقال ابن عباس وقتادة : إلاّ ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } إلى قوله { وكان الله غفوراً رحيماً } وقال الضحاك مدنية إلا من أولها إلى قوله { ولا نشوراً } فهو مكي.
ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه لما ذكر وجوب مبايعة المؤمنين للرسول وأنهم إذا كانوا معه في أمر مهم توقف انفصال واحد منهم على إذنه وحذر من يخالف أمره وذكر أن له ملك السموات والأرض وأنه تعالى عالم بما هم عليه ومجازيهم على ذلك ، فكان ذلك غاية في التحذير والإنذار ناسب أن يفتتح هذه السورة بأنه تعالى منزه في صفاته عن النقائص كثير الخير ، ومن خيره أنه { نزل الفرقان } على رسوله منذراً لهم فكان في ذلك اطماع في خيره وتحذير من عقابه.
و { تبارك } تفاعل مطاوع بارك وهو فعل لا يتصرف ولم يستعمل في غيره تعالى فلا يجيء منه مضارع ولا اسم فاعل ولا مصدر.
وقال الطرماح :
تباركت لا معط لشيء منعته . . .
وليس لما أعطيت يا رب مانع
قال ابن عباس : لم يزل ولا يزول.
وقال الخليل : تمجد.
وقال الضحاك : تعظم.
وحكى الأصمعي تبارك عليكم من قول عربي صعد رابية فقال لأصحابه ذلك ، أي تعاليت وارتفعت.
ففي هذه الأقوال تكون صفة ذات.
وقال ابن عباس أيضاً والحسن والنخعي : هو من البركة وهي التزايد في الخير من قبله ، فالمعنى زاد خيره وعطاؤه وكثر ، وعلى هذا يكون صفة فعل وجاء الفعل مسنداً إلى { الذي } وهم وإن كانوا لا يقرون بأنه تعالى هو الذي نزل الفرقان فقد قام الدليل على إعجازه فصارت الصلة معلومة بحسب الدليل ، وإن كانوا منكرين لذلك.
وتقدّم في آل عمران لمَ سمي القرآن فرقاناً.
وقرأ الجمهور { على عبده } وهو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
وقرأ ابن الزبير على عباده أي الرسول وأمته كما قال { لقد أنزلنا إليكم } { وما أنزل إلينا } ويبعد أن يراد بالقرآن الكتب المنزلة ، وبعبده من نزلت عليهم فيكون اسم جنس كقوله { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } والضمير في { ليكون }.
قال ابن زيد : عائد على { عبده } ويترجح بأنه العمدة المسند إليه الفعل وهو من وصفه تعالى كقوله { إنّا كنا منذرين } والظاهر أن { نذيراً } بمعن منذر.
وجوز أن يكون مصدراً بمعنى لإنذر كالنكير بمعنى الإنكار ، ومنه { فكيف كان عذابي ونذر } و { للعالمين } عام للإنس والجن ، ممن عاصره أو جاء بعده وهذا معلوم من الحديث المتواتر وظواهر الآيات.
وقرأ ابن الزبير { للعالمين } للجن والإنس وهو تفسير { للعالمين }.
ولما سبق في أواخر السورة ألا إن لله ما في السموات والأرض فكان إخباراً بأن ما فيهما ملك له ، أخبر هنا أنه له ملكهما أي قهرهما وقهر ما فيهما ، فاجتمع له الملك والملك لهما.

ولما فيهما ، والذي مقطوع للمدح رفعاً أو نصباً أو نعت أو بد من { الذي نزل } وما بعد { نزل } من تمام الصلة ومتعلق به فلا يعد فاصلاً بين النعت أو البدل ومتبوعه.
{ ولم يتخذ ولداً } الظاهر نفي الاتخاذ أي لم ينزل أحداً منزلة الولد.
وقيل : المعنى لم يكن له ولد بمعنى قوله لم يلد لأن التوالد مستحيل عليه.
وفي ذلك رد على مشركي قريش وعلى النصارى واليهود الناسبين لله الولد.
{ ولم يكن له شريك في الملك } تأكيد لقوله { له ملك السموات والأرض } ورد على من جعل لله شريكاً.
{ وخلق كل شيء } عام في خلق الذوات وأفعالها.
قيل : وفي الكلام حذف تقديره { وخلق كل شيء } مما يصح خلقه لتخرج عنه ذاته وصفاته القديمة انتهى.
ولا يحتاج إلى هذا المحذوف لأن من قال : أكرمت كل رجل لا يدخل هو في العموم فكذلك لم يدخل في عموم { وخلق كل شيء } ذاته تعالى ولا صفاته القديمة.
{ فقدره تقديراً } إن كان الخلق بمعنى التقدير ، فكيف جاء { فقدره } إذ يصير المعنى وقدر كل شيء يقدره { تقديراً }.
فقال الزمخشري : المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثاً مراعى فيه التقدير والتسوية فقدره وهيأه لما يصلح له ، أو سمي إحداث الله خلقاً لأنه لا يحدث شيئاً لحكمته إلاّ على وجه التقدير من غير تفاوت.
فإذا قيل : خلق الله كذا فهو بمنزلة إحداث الله وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق ، فكأنه قيل : وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده متفاوتاً.
وقيل : فجعل له غاية ومنتهى ، ومعناه { فقدره } للبقاء إلى أمد معلوم.
وقال ابن عطية : تقدير الأشياء هو حدها بالأمكنة والأزمان والمقادير والمصلحة والاتقان انتهى.
{ واتخذوا من دونه آلهة } الضمير في { واتخذوا } عائد على ما يفهم من سياق الكلام لأن في قوله { ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك } دلالة على ذلك لم ينف إلاّ وقد قيل به.
وقال الكرماني : الواو ضمير للكفار وهم مندرجون في قوله { للعالمين }.
وقيل : لفظ { نذيراً } ينبىء عنهم لأنهم المنذرون ويندرج في { واتخذوا } كل من ادعى إلهاً غير الله ، ولا يختص ذلك بعباد الأوثان وعباد الكواكب.
وقال القاضي : يبعد أن يدخل فيه النصارى لأنهم لم يتخذوا من دون الله آلهة على الجمع.
والأقرب أن المراد به عبَدة الأصنام ، ويجوز أن يدخل فيه من عبد الملائكة لأن لعبادها كثرة انتهى.
ولا يلزم ما قال لأن { واتخذوا } جمع و { آلهة } جمع ، وإذا قوبل الجمع بالجمع تقابل الفرد بالفرد ، ولا يلزم أن يقابل الجمع بالجمع فيندرج معبود النصارى في لفظ { آلهة }.
ثم وصف الآلهة بانتفاء إنشائهم شيئاً من الأشياء إشارة إلى انتفاء القدرة بالكلية ، ثم بأنهم مخلوقون لله ذاتاً أو مصنوعون بالنحت والتصوير على شكل مخصوص ، وهذا أبلغ في الخساسة ونسبة الخلق للبشر تجوز.

ومنه قول زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبعض . . .
القوم يخلق ثم لا يفري
وقال الزمخشري : الخلق بمعنى الافتعال كما في قوله { وتخلقون إفكاً } والمعنى أنهم آثروا على عبادته عبادة آلهة لا عجز أبَيْنَ من عجزهم ، لا يقدرون على شيء من أفعال الله ولا أفعال العباد حيث لا يفتعلون شيئاً وهم يفتعلون لأن عبدتهم يصنعونهم بالنحت والتصوير { ولا يملكون لأنفسهم } دفع ضرر عنها ولا جلب نفع إليها ، وهم يستطيعون وإذا عجزوا عن الافتعال ودفع الضرر وجلب النفع الذي يقدر عليه العباد كانوا عن الموت والحياة والنشور التي لا يقدر عليها إلاّ الله أعجز.
{ وقال الذين كفروا }.
قال ابن عباس : هو النضر بن الحارث وأتباعه ، والإفك أسوأ لكذب.
{ وأعانه عليه قوم آخرون } ، قال مجاهد : قوم من اليهود ألقوا أخبار الأمم إليه.
وقيل : عداس مولى حويطب بن عبد العزّى ، ويسار مولى العلاء بن الحضرمي ، وجبر مولى عامر وكانوا كتابيين يقرؤون التوراة أسلموا وكان الرسول يتعهدهم.
وقال ابن عباس : أشاروا إلى قوم عبيد كانوا للعرب من الفرس أبو فكيهة مولى الحضرميين.
وجبر ويسار وعداس وغيرهم.
وقال الضحاك : عنوا أبا فكيهة الرومي.
وقال المبرد : عنوا بقوم آخرين المؤمنين لأن آخر لا يكون إلاّ من جنس الأول انتهى.
وما قاله لا يلزم للاشتراك في جنس الإنسان ، ولا يلزم الاشتراك في الوصف.
ألا ترى إلى قوله { فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة } فقد اشتركتا في مطلق الفئة ، واختلفتا في الوصف.
والظاهر أن الضمير في { فقد جاؤوا } عائد على { الذين كفروا } والمعنى أن هؤلاء الكفار وردوا ظلماً كما تقول : جئت المكان فيكون جاء متعدياً بنفسه قاله الكسائي ، ويجوز أن يحذف الجار أي بظلم وزور ويصل الفعل بنفسه.
وقال الزجاج : إذا جاء يستعمل بهذين الاستعمالين وظلمهم أن جعلوا العربي يتلقن من العجمي كلاماً عربياً أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب ، والزور إن بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه.
وقيل : الضمير عائد على قوم آخرين وهو من كلام الكفار ، والضمير في { وقالوا } للكفار وتقدم الكلام على { أساطير الأولين } { اكتتبها } أي جمعها من قولهم كتب الشيء أي جمعه أو من الكتابة أي كتبها بيده ، فيكون ذلك من جملة كذبهم عليه وهم يعلمون أنه لا يكتب ويكون كاستكب الماء واصطبه أي سكبه وصبه.
ويكون لفظ افتعل مشعراً بالتكلف والاعتمال أو بمعنى أمر أن يكتب كقولهم احتجم وافتصد إذا أمر بذلك.
{ فهي تُملى عليه } أي تلقى عليه ليحفظها لأن صورة الإلقاء على المتحفظ كصورة الإملاء على الكاتب.
و { أساطير الأولين } خبر مبتدأ محذوف أي هو أو هذه { أساطير } و { اكتتبها } خبر ثان ، ويجوز أن يكون { أساطير } مبتدأ و { اكتتبها } الخبر.

وقرأ الجمهور { اكتتبها } مبنياً للفاعل.
وقراءة طلحة مبنياً للمفعول والمعنى { اكتتبها } كاتب له لأنه كان أمّياً لا يكتب بيده وذلك من تمام إعجازه ، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير فصار { اكتتبها } إياه كاتب كقوله { واختارموسى قومه } ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان بارزاً منصوباً وبقي ضمير الأساطير على حاله ، فصار { اكتتبها } كما ترى انتهى.
وهو من كلام الزمخشري ولا يصح ذلك على مذهب جمهور البصريين لأن { اكتتبها } له كاتب وصل فيه اكتتب لمفعولين أحدهما مسرح وهو ضمير الأساطير ، والآخر مقيد وهو ضميره عليه السلام.
وثم اتسع في الفعل فحذف حرف الجر فصار { اكتتبها } إياه كاتب فإذا بني هذا الفعل للمفعول إنما ينوب عن الفاعل المفعول المسرح لفظاً وتقديراً لا المسرح لفظاً المقيد تقديراً ، فعلى هذا كان يكون التركيب اكتتبته لا { اكتتبها } وعلى هذا الذي قلناه جاء السماع عن العرب في هذا النوع الذي أحد المفعولين فيه مسرح لفظاً وتقديراً والآخر مسرح لفظاً لا تقديراً.
قال الشاعر وهو الفرزدق :
ومنا الذي اختير الرجال سماحة . . .
وجوداً إذا هب الرياح الزعازع
ولو جاء على ما قرره الزمخشري لجاء التركيب ومنا الذي اختيره الرجال لأن اختار تعدى إلى الرجال على إسقاط حرف الجر إذ تقديره اختير من الرجال.
والظاهر أن قوله { اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً } من تمام قول الكفار.
وعن الحسن أنه قول الله سبحانه بكذبهم وإنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة في { اكتتبها } للاستفهام الذي في معنى الإنكار ، ووجهه أن يكون نحو قوله :
أفرح إن أرزأ الكرام وإن . . .
آخذ ذوداً شصايصاً نبلا
وحق للحسن أن يقف على الأولين.
والظهر تقييد الإملاء بوقت انتشار الناس وحين الإيواء إلى مساكنهم وهما البكرة والأصيل ، أو يكونان عبارة عن الديمومة.
وقرأ طلحة وعيسى فهي تتلى بالتاء بدل الميم.
{ قل أنزله الذي يعلم السر } أي كل سر خفي ، ورد عليهم بهذا وهو وصفه تعالى بالعلم لأن هذا القرآن لم يكن ليصدر إلاّ من علام بكل المعلومات لما احتوى عليه من إعجاز التركيب الذي لا يمكن صدوره من أحد ، ولو استعان بالعالم كلهم ولاشتماله على مصالح العالم وعلى أنواع العلوم واكتفى بعلم السر لأن ما سواه أولى أن يتعلق علمه به ، أو { يعلم } ما تسرون من الكيد لرسوله مع علمكم ببطل ما تقولون فهو مجازيكم { إنه كان غفوراً رحيماً } إطماع في أنهم إذا تابوا غفر لهم ما فرط من كفرهم ورخمهم.
أو { غفوراً رحيماً } في كونه أمهلكم ولم يعاجلكم على ما استوجبتموه من العقاب بسبب مكابرتكم ، أو لما تقدم ما يدل على العقاب أعقبه بما يدل على القدرة عليه لأن المتصف بالغفران والرحمة قادر على أن يعاقب.

{ وقالوا } الضمير لكفار قريش ، وكانوا قد جمعهم والرسول مجلس مشهور ذكره ابن إسحاق في السير فقال عتبة وغيره : إن كنت تحب الرئاسة ولَّيناك علينا أو المال جمعنا لك ، فلما أبي عليهم اجتمعوا عليه فقالوا : مالك وأنت رسول من الله تأكل الطعام وتقف بالأسواق لالتماس الرزق سل ربك أن ينزل معك ملكاً ينذر معك ، أو يلقي إليك كنزاً تنفق منه ، أو يرد لك جبال مكة ذهباً وتزال الجبال ، ويكون مكانها جنات تطرد فيها المياه وأشاعوا هذه المحاجة فنزلت الآية.
وكتب في المصحف لام الجر مفصولة من { هذا } و { هذا } استفهام يصحبه استهزاء أي { مال هذا } الذي يزعم أنه رسول أنكروا عليه ما هو عادة للرسل كما قال { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلاّ أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } أي حاله كحالنا أي كان يجب أن يكون مستغنياً عن الأكل والتعيش ، ثم قالوا : وهب أنه بشر فهلا أرفد بملك ينذر معه أو يلقى إليه كنز من السماء يستظهر به ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش.
ثم اقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل منه ويرتزق كالمياسير.
وقرىء فتكون بالرفع حكاه أبو معاذ عطفاً على { أنزل } لأن { أنزل } في موضع رفع وهو ماض وقع موقع المضارع ، أي هلا ينزل إليه ملك أو هو جواب التحضيض على إضمار هو ، أي فهو يكون.
وقراءة الجمهور بالنصب على جواب التحضيض.
وقوله { أو يلقى } { أو } يكون عطف على { أنزل } أي لولا ينزل فيكون المطلوب أحد هذه الأمور أو مجموعها باعتبار اختلاف القائلين ، ولا يجوز النصب في { أو يلقى } ولا في { أو تكون } عطفاً على { فيكون } لأنهما في حكم المطلوب بالتحضيض لا في حكم الجواب لقوله { لولا أنزل }.
وقرأ قتادة والأعمش : أو يكون بالياء من تحت.
وقرأ { يأكل } بياء الغيبة أي الرسول ، وزيد بن عليّ وحمزة والكسائي وابن وثاب وطلحة والأعمش بنون الجمع أي يأكلون هم من ذلك البستان فينتفعون به في دنياهم ومعاشهم.
{ وقال الظالمون } أي للمؤمنين.
قال الزمخشري : وأراد بالظالمين إياهم بأعيانهم وضع الظاهر موضع المضمر ليسجل عليهم بالظلم فيما قالوه انتهى.
وتركيبه وأراد بالظالمين إياهم بأعيانهم ليس تركيباً سائغاً بل التركيب العربي أن يقول : وأرادهم بأعيانهم بالظالمين { مسحوراً } غلب على عقله السحر وهذا أظهر ، أو ذا سحر وهو الرئة ، أو يسحر بالطعام وبالشراب أي يُغذي ، أو أصيب سحره كما تقول رأسته أصبت رأسه.
وقيل { مسحوراً } ساحراً عنوا به أنه بشر مثلهم لا ملك.
وتقدم تفسيره في الإسراء وبهذين القولين قيل : والقائلون ذلك النضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد ومن تابعهم.
{ انظر كيف ضربوا لك الأمثال } أي قالوا فيك تلك الأقوال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال النادرة من نبوة مشتركة بين إنسان وملك وإلقاء كنز عليك وغير ذلك فبقوا متحيرين ضلالاً لا يجدون قولاً يستقرون عليه ، أي فضلوا عن الحق فلا يجدون طريقاً له.

وقيل : { ضربوا لك الأمثال } بالمسحور والكاهن والشاعر وغيره { فضلوا } أخطؤوا الطريق فلا يجدون سبيل هداية ولا يطيقونه لالتباسهم بضده من الضلال.
وقيل { فلا يستطيعون سبيلاً } إلى حجة وبرهان على ما يقولون ، فمرة يقولون هو بليغ فصيح يتقول القرآن من نفسه ويفتريه ومرة مجنون ومرة ساحر ومرة مسحور.
وقال ابن عباس : شبه لك هؤلاء المشركون الأشباه بقولهم هو مسحور فضلوا بذلك عن قصد السبيل ، فلا يجدون طريقاً إلى الحق الذي بعثك به.
وقال مجاهد : لا يجدون مخرجاً يخرجهم عن الأمثال التي { ضربوا لك }.
ومعناه أنهم { ضربوا لك } هذه ليتوصلوا بها إلى تكذيبك { فضلوا } عن سبيل الحق وعن بلوغ ما أرادوا.
وقال أبو عبد الله الرازي؛ { انظر كيف } اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال التي لا فائدة فيها لأجل أنهم لما ضلوا وأرادوا القدح في نبوتك ، لم يجدوا إلى القدح سبيلاً إذا لطعن عليه إنما يكون فيما يقدح في المعجزات التي ادعاها لا بهذا الجنس من القول.
وقال الفراء : لا يستطيعون في أمرك حيلة.
وقال السدي { سبيلاً } إلى الطعن.
ولما قال المشركون ما قالوا قيل : فيما يروى إن شئت أن نعطيك خزائن الدنيا ومفاتيحها ، ولم يعط ذلك أحد قبلك ولا يعطاه أحد بعدك وليس ذلك بناقصك في الآخرة شيئاً ، وإن شئت جمعناه لك في الآخرة فقال : يجمع لي ذلك في الآخرة فنزل { تبارك الذي }.
وعن ابن عباس عنه عليه السلام قال : عرض على جبريل عليه السلام بطحاء مكة ذهباً فقلت : بل شبعة وثلاث جوعات ، وذلك أكثر لذكري ومسألتي.
قال الزمخشري في { تبارك } أي تكاثر خيراً { الذي إن شاء } وهب لك في الدنيا { خيراً } مما قالوا وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور انتهى.
والإشارة بذلك الظاهر أنه إلى ما ذكره الكفار من الجنة والكنز في الدنيا قاله مجاهد.
ويبعد تأويل ابن عباس أنه إشارة إلى أكله الطعام ومشيه في الأسواق والظاهر أن هذا الجعل كان يكون في الدنيا لو شاءه الله.
وقيل : في الآخرة ودخلت إن على المشيئة تنبيهاً أنه لا ينال ذلك إلاّ برحمته وأنه معلق على محض مشيئته ليس لأحد من العباد على الله حق لا في الدنيا ولا في الآخرة.
والأول أبلغ في تبكيت الكفار والرد عليهم.
قال ابن عطية : ويرده قوله بعد ذلك { بل كذبوا بالساعة } انتهى.
ولا يرده لأن المعنى به متمكن وهو عطف على ما حكى عنهم يقول : بل أتى بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة.
وقرأ الجمهور { ويجعل } بالجزم قالوا عطفاً على موضع جعل لأن التقدير إن يشأ يجعل ويجوز أن يكون مرفوعاً أدغمت لامه في لام { لك } لكن ذلك لا يعرف إلاّ من مذهب أبي عمرو والذي قرأ بالجزم من السبعة نافع وحمزة والكسائي وأبو عمرو ، وليس من مذهب الثلاثة إدغام المثلين إذا تحرك أولهما إنما هو من مذهب أبي عمر وكما ذكرنا.

وقرأ مجاهد وابن عامر وابن كثير وحميد وأبو بكر ومحبوب عن أبي عمرو بالرفع.
قال ابن عطية : والاستئناف ووجهه العطف على المعنى في قوله { جعل } لأن جواب الشرط هو موضع استئناف.
ألا ترى أن الجمل من الابتداء والخبر قد تقع موقع جواب الشرط؟ وقال الحوفي من رفع جعله مستأنفاً منقطعاً مما قبله انتهى.
وقال أبو البقاء وبالرفع على الاستئناف.
وقال الزمخشري : وقرىء { ويجعل } بالرفع عطفاً على { جعل } لأن الشرط إذا وقع ماضياً جاز في جوابه الجزم والرفع كقوله :
وإن أتاه خليل يوم مسألة . . .
يقول لا غائب مالي ولا حرم
انتهى.
وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري من أنه إذا كان فعل الشرط ماضياً جاز في جوابه الرفع ليس مذهب سيبويه ، إذ مذهب سيبويه أن الجواب محذوف وأن هذا المضارع المرفوع النية به التقديم ، ولكون الجواب محذوفاً لا يكون فعل الشرط إلاّ بصيغة الماضي.
وذهب الكوفيون والمبرد إلى أنه هو الجواب وأنه على حذف الفاء ، وذهب غير هؤلاء إلى أنه هو الجواب وليس على حذف الفاء ولا على التقديم ، ولما لم يظهر لأداة الشرط تأثير في فعل الشرط لكونه ماضي اللفظ ضعف عن العمل في فعل الجواب فلم تعمل فيه ، وبقي مرفوعاً وذهب الجمهور إلى أن هذا التركيب فصيح وأنه جائز في الكلام.
وقال بعض أصحابنا : هو ضرورة إذ لم يجىء إلاّ في الشعر وهو على إضمار الفاء والكلام على هذه المذاهب مذكور في علم النحو.
وقرأ عبيد الله بن موسى وطلحة بن سليمان { ويجعل } بالنصب على إضمار أن.
وقال أبو الفتح هي على جواب الشرط بالواو ، وهي قراءة ضعيفة انتهى.
ونظير هذه القراءات الثلاث قول النابغة :
فإن يهلك أبو قابوس يهلك . . .
ربيع الناس والشهر الحرام
ونأخذ بعده بذناب عيش . . .
أجب الظهر ليس له سنام
يروى بجرم نأخذ ورفعه ونصبه.
{ بل كذبوا بالساعة } قال الكرماني : المعنى ما منعهم من الإيمان أكلك الطعام ولا مشيك في السوق ، بل منعهم تكذيبهم بالساعة.
وقيل : ليس ما تعلقوا به شبهة بل الحامل على تكذبيك تكذبيهم بالساعة استثقالاً للاستعداد لها.
وقيل : يجوز أن يكون متصلاً بما يليه كأنه قال { بل كذبوا بالساعة } فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب ، وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة وهم لا يؤمنون بالآخرة انتهى.
وبل لترك اللفظ المتقدم من غير إبطال لمعناه.
وأخذ في لفظ آخر { واعتدنا } جعلناه معداً.

{ سعيراً } ناراً كبيرة الإيقاد.
وعن الحسن : اسم من أسماء جهنم.
{ إذا رأتهم } قيل هو حقيقة وإن لجهنم عينين وروي في ذلك أثر فإن صح كان هو القول الصحيح.
وإلاّ كان مجازاً ، أي صارت منهم بقدر ما يرى الرائي من البعد كقولهم : دورهم تتراءى أي تتناظر وتتقابل ، ومنه : لا تتراءى ناراهما.
وقال قوم : النار اسم لحيوان ناري يتكلم ويرى ويسمع ويتغير ويزفر حكاه الكرماني ، وقيل : هو على حذف مضاف أي رأتهم خزنتها من مكان بعيد ، قيل : مسيرة خمسمائة عام.
وقيل : مائة سنة.
وقيل : سنة { سمعوا لها } صوت تغيظ لأن التغيظ لا يسمع ، وإذا كان على حذف المضاف كان المعنى تغيظوا وزفروا غضباً على الكفار وشهوة للانتقام منهم.
وقيل { سمعوا } صوت لهيبها واشتعالها وقيل هو مثل قول الشاعر :
فيا ليت زوجك قد غدا . . .
متقلداً سيفاً ورمحاً
وهذا مخرج على تخريجين أحدهما الحذف أي ومعتقلاً رمحاً.
والثاني تضمين ضمن متقلداً معنى متسلحاً فكذلك الآية أي { سمعوا لها } ورأوا { تغيظاً وزفيراً } وعاد كل واحد إلى ما يناسبه.
أو ضمن { سمعوا } معنى أدركوا فيشمل التغيظ والزفير.
وانتصب { مكاناً } على الظرف أي في مكان ضيق.
وعن ابن عباس : تضيق عليهم ضيق الزج في الرمح مقرنين قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل.
وقيل : يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة وفي أرجلهم الأصفاد.
وقرأ ابن كثير وعبيد عن أبي عمر وضيقاً.
قال ابن عطية : وقرأ أبو شيبة صاحب معاذ بن جبل مقرنون بالواو وهي قراءة شاذة ، والوجه قراءة الناس ونسبها ابن خالويه إلى معاذ بن جبل ووجهها أن يرتفع على البدل من ضمير { ألقوا } بدل نكرة من معرفة ونصب على الحال ، والظاهر دعاء الثبور وهي الهلاك فيقولون : واثبوراه أي يقال يا ثبور فهذا أوانك.
وقيل : المدعو محذوف تقديره دعوا من لا يجيبهم قائلين ثبرنا ثبوراً.
والثبور قال ابن عباس : هو الويل ، وقال الضحاك : هو الهلاك ومنه قول ابن الزبعري :
إذ يجاري الشيطان في سنن الغي . . .
ومن مال ميله مثبور
{ لا تدعوا اليوم } يقول لهم { لا تدعوا } أو هم أحق أن يقال لهم ذلك وإن لم يكن هناك قول ، أي لا تقتصروا على حزن واحد بل احزنوا حزناً كثيراً وكثرته إما لديمومة العذاب فهو متجدداً دائماً ، وإما لأنه أنواع وكل نوع يكون منه ثبور لشدته وفظاعته.
وقرأ عمرو بن محمد { ثبوراً } بفتح الثاء في ثلاثتها وفعول بفتح الواو في المصادر قليل نحو البتول.
وحكى عليّ بن عيسى : ما ثبرك عن هذا الأمر أي ما صرفك.
كأنهم دعوا بما فعلوا فقالوا : واصرفاه عن طاعة الله كما تقول : واندامتاه.
روي أن أول ما ينادي بذلك إبليس يقول : واثبوراه حتى يكسى حلة من جهنم يضعها على جبينه ويسحبها من خلفه ، ثم يتبعه في القول أتباعه فيقول لهم خزان جهنم { لا تدعوا } الآية.

وقيل : نزلت في ابن خطل وأصحابه.
والظاهر أن الإشارة بذلك إلى النار وأحوال أهلها.
وقيل إلى الجنة والكنز في قولهم.
وقيل إلى الجنة والقصور المجعولة في الدنيا على تقدير المشيئة و { خير } هنا ليست تدل على الأفضلية بل هي على ما جرت عادة العرب في بيان فضل الشيء وخصوصيته بالفضل دون مقابله كقوله :
فشركما لخيركما الفداء . . .
وكقول العرب : الشقاء أحب إليك أم السعادة.
وكقوله { السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه } وهذا الاستفهام على سبيل التوقيف والتوبيخ.
قال ابن عطية : ومن حيث كان الكلام استفهاماً جاز فيه مجيء لفظه للتفضيل بين الجنة والنار في الخير لأن الموقف جائز له أن يوقف محاوره على ما شاء ليرى هل يجيبه بالصواب أو بالخطأ ، وإنما منع سيبويه وغيره من التفضيل إذا كان الكلام خبراً لأن فيه مخالفة ، وأما إذا كان استفهاماً فذلك سائغ انتهى.
وما ذكره يخالفه قوله :
فشركما لخيركما الفداء . . .
وقوله { السجن أحب إليّ } فإن هذا خبر.
وكذلك قولهم : العسل أحلى من الخل إلاّ إن تقيد الخبر بأنه إذا كان واضحاً الحكم فيه للسامع بحيث لا يختلج في ذهنه ولا يتردد أيهما أفضل فإنه يجوز.
وضمير { التي } محذوف أي وعدها وضمير { ما يشاؤون } كذلك أي ما يشاؤونه وفي قوله ما يشاؤونه دليل على أن حصول المرادات بأسرها لا تكون ألاّ في الجنة.
وشمل قوله { جزاءً ومصيراً } الثواب ومحله كما قال { نعم الثواب وحسنت مرتفقاً } وفي ضده { بئس الشراب وساءت مرتفقاً } لأنه بطيب المكان يتضاعف النعيم ، كما أنه برداءته يتضاعف العذاب { وعداً } أي موعوداً { مسؤولاً } سألته الملائكة في قولهم { ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم } قاله محمد بن كعب والناس في قولهم { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة } وقال معناه ابن عباس وابن زيد.
وقال الفراء : { وعداً مسؤولاً } أي واجباً يقال لأعطينك ألفاً وعداً مسؤولاً أي واجباً ، وإن لم يسأل.
قيل : وما قاله الفراء محال انتهى.
وليس محالاً إذ يكون المعنى أنه ينبغي أن يسأل هذا الوعد الذي وعدته أو بصدد أن يسأل أي من حقه أن يكون مسؤولاً.
و { على ربك } أي بسبب الوعد صار لا بد منه.
وقال الزمخشري : كان ذلك موعوداً واجباً على ربك انجازه حقيقاً أن يسأل.
ويطلب لأنه جزاء وأجر مستحق ، وهذا على مذهب المعتزلة.

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)

قرأ أبو جعفر والأعرج وابن كثير وحفص { يحشرهم } و { فيقول } بالياء فيهما.
وقرأ الحسن وطلحة وابن عامر بالنون فيهما.
وقرأ باقي السبعة في نحشرهم بالنون وفي { فيقول } بالياء.
وقرأ الأعرج { يحشرهم } بكسر الشين.
قال صاحب اللوامح في كل القرآن وهو القياس في الأفعال المتعدية الثلاثية لأن يفعل بضم العين قد يكون من اللازم الذي هو فعل بضمها في الماضي.
وقال ابن عطية : وهي قليلة في الاستعمال قوية في القياس لأن يفعل بكسر العين المتعدي أقيس من يفعل بضم العين انتهى.
وهذا ليس كما ذكر ابل فعل المتعدي الصحيح جميع حروفه إذا لم يكن للمبالغة ولا حلقى عين ولا لام فإنه جاء على يفعل ويفعل كثيراً ، فإن شهر أحد الاستعمالين اتبع وإلاّ فالخيار حتى أن بعض أصحابنا خير فيهما سمعاً للكلمة أو لم يسمعا.
{ وما يعبدون } قال الضحاك وعكرمة : الأصنام التي لا تعقل يقدرها الله على هذه المقالة من الجواب.
وقال الكلبي : يحيي الله الأصنام يومئذ لتكذيب عابديها.
وقال الجمهور : من عبد ممن يعقل ممن لم يأمر بعبادته كالملائكة وعيسى وعزير وهو الأظهر كقوله { أأنتم أضللتم } وما بعده من المحاورة التي ظاهرها أنها لا تصدر إلاّ من العقلاء ، وجاء ما يشبه ذلك منصوصاً في قوله { ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } وسؤاله تعالى وهو عالم بالمسؤول عنه ليجيبوا بما أجابوا به فيبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم فيزيد حسرتهم ويسر المؤمنون بحالهم ونجاتهم من فضيحة أولئك ، وليكون حكاية ذلك في القرآن لطفاً للمكلفين.
وجاء الاستفهام مقدماً فيه الاسم على الفعل ولم يأت التركيب { أأضللتم } ولا أضلوا لأن كلاً من الإضلال والضلال واقع والسؤال إنما هو من فاعله.
وتقدم نظير هذا في { أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم } وقال الزمخشري : وفيه كسر بيِّن لقول من يزعم أن الله يضل عباده على الحقيقة حيث يقول للمعبودين من دونه { أأنتم أضللتم } أم ضلوا بأنفسهم فيتبرؤون من ضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين ويقولون : بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم ، فجعلوا الرحمة التي حقها أن تكون سبب الشكر سبب الكفر ونسيان الذكر وكان ذلك سبب هلاكهم فإذا تبرأت الملائكة والرسل أنفسهم من نسبة الضلال الذي هو عمل الشياطين إليهم واستعاذوا منهم فهم لربهم الغنى العدل أشد تبرئة وتنزيهاً منه ، ولقد نزهوه حين أضافوا إليه التفضل بالنعمة والتمتيع بها.
وأسندوا نسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة فشرحا الإضلال المجازي الذي أسنده الله إلى ذاته في قوله { يضل من يشاء } ولو كان هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا بل أنت أضللتم انتهى.

وهو على طريقة المعتزلة.
والمعنى { أأنتم } أوقعتم هؤلاء ونسبتم لهم في إضلالهم عن الحق ، أم { ضلوا } بأنفسهم عنه.
ضل أصله أن يتعدى بعن كقوله { من يضل عن سبيله } ثم أتسع فحذف ، وأضله عن السبيل كما أن هدى يتعدى بإلى ثم يحذف ويضل مطاوع أضل كما تقول : أقعدته فقعد.
و { سبحانك } تنزيه لله تعالى أن يشرك معه في العبادة أحد أو يفرد بعبادة فأنّى لهم أن يقع منهم إضلال أحدوهم المنزهون المقدسون ، أن يكون أحد منهم نداً وهو المنزه عن الند والنظير.
وقال الزمخشري : { سبحانك } تعجب منهم مما قيل لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه انتهى.
وقرأ علقمة ما ينبغي بسقوط كان وقراءة الجمهور بثبوتها أمكن في المعنى لأنهم أخبروا عن حال كانت في الدنيا ووقت الإخبار لا عمل فيه.
وقرأ أبو عيسى الأسود القاري { يُنْبَغي لنا } مبنياً للمفعول.
وقال ابن خالويه : زعم سيبويه أن ينبغي لغة.
وقرأ الجمهور : { أن نتخذ } مبنياً للفاعل و { من أولياء } مفعول على زيادة { من } وحسن زيادتها انسحاب النفي على { نتخذ } لأنه معمول لينبغي.
وإذا انتفى الابتغاء لزم منه انتفاء متعلقة وهو اتخاذ وليّ من دون الله.
ونظيره { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير } أي خير والمعنى ما كان يصح لنا ولا يستقيم ونحن معصومون أن نتولى أحداً دونك ، فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك.
وقال أبو مسلم { ما كان ينبغي لنا } أن نكون أمثال الشياطين نريد الكفر فنتولى الكفار قال { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } وقرأ أبو الدرداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء ونصر بن علقمة وزيد بن عليّ وأخوه الباقر ومكحول والحسن وأبو جعفر وحفص بن عبيد والنخعي والسلمي وشيبة وأبو بشر والزعفراني أن يُتخذ مبنياً للمفعول واتخذ مما يتعدى تارة لواحد كقوله { أم اتخذوا آلهة من الأرض } وعليه قراءة الجمهور وتارة إلى اثنين كقوله { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } فقيل : هذه القراءة منه فالأول الضمير في { نتخذ } والثاني { من أولياء } و { من } للتبعيض أي لا يتخذ بعض أولياء وهذا قول الزمخشري.
وقال ابن عطية : ويضعف هذه القراءة دخول { من } في قوله { من أولياء } اعترض بذلك سعيد بن جبير وغيره.
وقال أبو الفتح { من أولياء } في موضع الحال ودخلت { من } زيادة لمكان النفي المتقدم كما تقول : ما اتخذت زيداً من وكيل.
وقيل { من أولياء } هو الثاني على زيادة { من } وهذا لا يجوز عند أكثر النحويين إنما يجوز دخولها زائدة على المفعول الأول بشرطه.
وقرأ الحجاج أن نتخذ من دونك أولياء فبلغ عاصماً فقال : مقت المخدّج أو ما علم أن فيها { من } ولما تضمن قولهم { ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء } أنّا لم نضلهم ولم نحملهم على الامتناع من الإيمان صلح أن يستدرك بلكن ، والمعنى لكن أكثرت عليهم وعلى آبائهم النعم وأطلت أعمارهم وكان يجب عليهم شكرها والإيمان بما جاءت به الرسل ، فكان ذلك سبباً للإعراض عن ذكر الله.

قيل : ولكن متعتهم كالرمز إلى ما صرح به موسى من قوله { إن هي إلاّ فتنتك } أي أنت الذي أعطيتهم مطالبهم من الدنيا حتى صاروا غرقى في بحر الشهوات فكان صارفاً لهم عن التوجه إلى طاعتك والاشتغال بخدمتك و { الذكر } ما ذكر به الناس على ألسنة الأنبياء أو الكتب المنزلة أو القرآن.
والبور : قيل مصدر يوصف به الواحد والجمع.
وقيل : جمع بائر كعائذ وعوذ.
قيل : معناه هلكى.
وقيل : فسدى وهي لغة الأزد يقولون : أمر بائر أي فاسد ، وبارت البضاعة : فسدت.
وقال الحسن : لا خير فيهم من قولهم أرض بور أي معطلة لا نبات فيها.
وقيل { بوراً } عمياً عن الحق.
{ فقد كذبوكم } هذا من قول الله بلا خلاف وهي مفاجأة ، فالاحتجاج والإلزام حسنة رابعة وخاصة إذا انضم إليها الالتفات وهو على إضمار القول كقوله { يا أهل الكتاب } إلى قوله { فقد جاءكم } أي فقلنا قد جاءكم.
وقول الشاعر :
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا . . .
ثم القفول فقد جئنا خراسانا
أي فقلنا قد جئنا وكذلك هذا أي فقلنا قد كذبوكم ، فإن كان المجيب الأصنام فالخطاب للكفار أي قد كذبتكم معبوداتكم من الأصنام بقولهم { ما كان ينبغي لنا } وإن كان الخطاب للمعبودين من العقلاء عيسى والملائكة وعزير عليهم السلام ، وهو الظاهر لتناسق الخطاب مع قوله { أأنتم أضللتم } أي كذبكم المعبودون { بما تقولون } أي بقولهم أنكم أضللتموهم ، وزعمهم أنكم أولياؤهم من دون الله.
ومن قرأ { بما تقولون } بتاء الخطاب فالمعنى فيما تقولون أي { سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء }.
وقيل : الخطاب للكفار العابدين أي كذبكم المعبودون بما تقولون من الجواب.
{ سبحانك ما كان ينبغي لنا } أو فيما تقولون أنتم من الافتراء عليهم خوطبوا على جهة التوبيخ والتقريع.
وقيل : هو خطاب للمؤمنين في الدنيا أي قد كذبكم أيها المؤمنون الكفار في الدنيا فيما تقولونه من التوحيد والشرع.
وقرأ الجمهور { بما تقولون } بالتاء من فوق.
وأبو حيوة وابن الصلت عن قنبل بالياء من تحت.
وقرأ حفص وأبو حيوة والأعمش وطلحة { فما تستطيعون } بتاء الخطاب ، ويؤيد هذه القراءة أن الخطاب في { كذبوكم } للكفار العابدين.
وذكر عن ابن كثير وأبي بكر أنهما قرآ بما يقولون فما يستطيعون بالياء فيهما أي هم.
{ صرفاً } أي صرف العذاب أو توبة أو حيلة من قولهم إنه ليتصرف أي يحتال ، هذا إن كان الخطاب في { كذبوكم } للكفار فالتاء جارية على ذلك ، والياء التفات وإن كان للمعبودين فالتاء التفات.
والياء جارية على ضمير { كذبوكم } المرفوع وإن كان الخطاب للمؤمنين أمّة الرسول عليه السلام في قوله { فقد كذبوكم } فالمعنى أنهم شديدو الشكيمة في التكذيب { فما تستطيعون } أنتم صرفهم عما هم عليه من ذلك.

وبالياء فما يستطيعون { صرفاً } لأنفسهم عما هم عليه.
أو ما يستطيعون صرفكم عن الحق الذي أنتم عليه.
{ ولا نصراً } لأنفسهم من البلاء الذي استوجبوه بتكذبيهم.
{ ومن يظلم منكم } الظاهر أنه عام.
وقيل : خطاب للمؤمنين.
وقيل : خطاب للكافرين.
والظلم هنا الشرك قاله ابن عباس والحسن وابن جريج ، ويحتمل دخول المعاصي غير الشرك في الظلم.
وقال الزمخشري : العذاب الكبير لاحق لكل من ظلم والكافر ظالم لقوله { إن الشرك لظلم عظيم } والفاسق ظالم لقوله { ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } انتهى وفيه دسيسة الاعتزال.
وقرىء : يذقه بياء الغيبة أي الله وهو الظاهر.
وقيل : هو أي الظلم وهو المصدر المفهوم من قوله { يظلم } أي يذقه الظلم.
ولما تقدم الطعن على الرسول بأكل الطعام والمشي في الأسواق أخبر تعالى أنها عادة مستمرة في كل رسالة ومفعول { أرسلنا } عند الزجاج والزمخشري ومن تبعهما محذوف تقديره أحداً.
وقدره ابن عطية رجالاً أو رسلاً.
وعاد الضمير في { إنهم } على ذلك المحذوف كقوله { وما منا إلاّ له مقام } أي وما منا أحد والجملة عند هؤلاء صفة أعني قوله { إلاّ إنهم } كأنه قال إلاّ آكلين وماشين.
وعند الفراء المفعول محذوف وهو موصول مقدر بعد إلاّ أي إلاّ من.
{ إنهم } والضمير عائد على { من } على معناها فيكون استثناء مفرغاً وقيل : إنهم قبله قول محذوف أي { إلاّ } قيل { إنهم } وهذان القولان مرجوحان في العربية.
وقال ابن الأنباري : التقدير إلاّ وإنهم يعنى أن الجملة حالية وهذا هو المختار.
قد ردّ على من قال إن ما بعد إلاّ قد يجيء صفة وإما حذف الموصول فضعيف وقد ذهب إلى حكاية الحال أيضاً أبو البقاء قال : وقيل لو لم تكن اللام لكسرت لأن الجملة حالية إذ المعنى إلاّ وهم يأكلون.
وقرىء { أنهم } بالفتح على زيادة اللام وإن مصدرية التقدير إلاّ أنهم يأكلون أي ما جعلناهم رسلاً إلى الناس إلاّ لكونهم مثلهم.
وقرأ الجمهور : { ويمشون } مضارع مشى خفيفاً.
وقرأ عليّ وابن مسعود وعبد الرحمن بن عبد الله { يمشّون } مشدداً مبنياً للمفعول ، أي يمشيهم حوائجهم والناس.
قال الزمخشري : ولو قريء { يمشون } لكان أوجَه لولا الرواية انتهى.
وقد قرأ كذلك أبو عبد الرحمن السلمي مشدد مبنياً للفاعل ، وهي بمعنى { يمشون } قراءة الجمهور.
قال الشاعر :
ومشى بأعطان المباءة وابتغى . . .
قلائص منها صعبة وركوب
{ وجعلنا بعضكم }.
قال ابن عطية : هو عام للمؤمن والكافر ، فالصحيح فتنة للمريض ، والغني فتنة للفقير ، والفقير الشاكر فتنة للغني ، والرسول المخصوص بكرامة النبوّة فتنة لأشراف الناس الكفار في عصره ، وكذلك العلماء وحكام العدل.
وقد تلا ابن القاسم هذه الآية حين رأى أشهب انتهى.
وروي قريب من هذه عن ابن عباس والحسن.

قال ابن عطية : والتوقيف بأتصبرون خاص للمؤمنين المحقين فهو لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم ، كأنه جعل إمهال الكفار فتنة للمؤمنين أي اختباراً ثم وقفهم.
هل تصبرون أم لا؟ ثم أعرب قوله { وكان ربك بصيراً } عن الوعد للصابرين والوعيد للعاصين.
وقال الزمخشري : { فتنة } أي محنة وبلاء ، وهذا تصبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه واستبعدوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعدما احتج عليهم بسائر الرسل يقول : جرت عادتي وموجب حكمتي على ابتلاء بعضكم أيها الناس ببعض.
والمعنى أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم ومناصبتهم لهم العداوة وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف وأنواع أذاهم ، وطلب منهم الصبر الجميل ونحوه { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً } الآية وموقع { أتصبرون } بعد ذكر الفتنة موقع { أيكم } بعد الابتلاء في قوله { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } { بصيراً } عالماً بالصواب فيما يبتلى به وبغيره فلا يضيقن صدرك ولا تستخفنك أقاويلهم فإن في صبرك عليهم سعادة ، وفوزك في الدارين.
وقيل : هو تسلية عما عيروه به من الفقر حين قالوا { أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة } وأنه جعل الأغنياء فتنة للفقراء لينظر هل تصبرون وأنها حكمته ومشيئته يغني من يشاء ويفقر من يشاء.
وقيل : جعلنا فتنة لهم لأنك لو كنت غنياً صاحب كنوز وجنات لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا أو ممزوجة بالدنيا ، وإنما بعثناك فقيراً لتكون طاعة من يطيعك منهم خالصة لوجه الله من غير طمع دنيوي.
وقيل : كان أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل ومن في طبقتهم يقولون إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار وصهيب وبلال وفلان وفلان فرفعوا علينا إدلالاً بالسابقة فهو افتتان بعضهم ببعض انتهى.
وفيه تكثير وهذا القول الأخير قول الكلبي والفراء والزجاج.
والأولى أن قوله { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة } يشمل معاني هذه الألفاظ كلها لأن بين الجميع قدراً مشتركاً.
وقيل : في قوله { أتصبرون } أنه استفهام بمعنى الأمر أي اصبروا ، والظاهر حمل الرجاء على المشهور من استعماله والمعنى لا يأملون لقاءنا بالخير وثوابنا على الطاعة لتكذيبهم بالبعث لكفرهم بما جئت به.
وقال أبو عبيدة وقوم : معناه لا يخافون.
وقال الفراء : لا يرجون نشوراً لا يخافون ، وهذه الكلمة تهامية وهي أيضاً من لغة هذيل إذا كان مع الرجاء جحد ذهبوا به إلى معنى الخوف.
فتقول : فلان لا يرجو ربه يريدون لا يخاف ربه ، ومن ذلك { ما لكم لا ترجون لله وقاراً } أي لا تخافون لله عظمة وإذا قالوا : فلان يرجو ربه فهذا معنى الرجاء لا على الخوف.
وقال الشاعر :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها . . .
وحالفها في بيت نوب عوامل
وقال آخر :
لا ترجى حين تلاقي الذائذا . . .
أسبعة لاقت معاً أم واحدا
انتهى.
ومن لازم الرجاء للثواب الخوف من العقاب ، ومن كان مكذباً بالبعث لا يرجو ثواباً ولا يخاف عقاباً ومن تأول لم يرج لسعها على معنى لم يرج دفعها ولا الانفكاك عنها.

فهو لذلك يوطن على الصبر ويجد في شغله فتأويله ممكن لكن الفراء وغيره نقلوا ذلك لغة لهذيل في النفي والشاعر هذلي ، فينبغي أن لا يتكلف للتأويل وأن يحمل على لغته.
{ لولا أنزل علينا الملائكة } فتخبرنا أنك رسول حقاً { أو نرى ربنا } فيخبرنا بذلك قاله ابن جريج وغيره.
وهذه كما قالت اليهود { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } وكقولهم أعني المشركين { أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً } وهذا كله في سبيل التعنت ، وإلاّ فما جاءهم به من المعجزات كاف لو وفقوا.
{ لقد استكبروا } أي تكبروا { في أنفسهم } أي عظموا أنفسهم بسؤال رؤية الله ، وهم ليسوا بأهل لها.
والمعنى أن سؤال ذلك إنما هو لما أضمروا في أنفسهم من الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد الكامن في قلوبهم الظاهر عنه ما لا يقع لهم كما قال { إن في صدورهم إلاّ كبر ما هم ببالغيه } واللام في لقد جواب قسم محذوف و { عتوا } تجاوزوا الحد في الظلم ووصفه بكبير مبالغة في إفراطه أي لم يجسروا على هذا القول العظيم إلاّ لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو.
وجاء هنا { عتواً } على الأصل وفي مريم { عتياً } على استثقال اجتماع الواوين والقلب لمناسبة الفواصل.
قال ابن عباس { عتوا } كفروا أشد الكفر وأفحشوا.
وقال عكرمة : تجبروا.
وقال ابن سلام : عصوا.
وقال ابن عيسى : أسرفوا.
قال الزمخشري : هذه الجملة في حسن استيفائها غاية في أسلوبها.
ونحوه قول القائل :
وجارة جساس أبأنا بنابها . . .
كليباً غلت ناب كليب بواؤها
في نحو هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ تعجب ، ألا ترى أن المعنى ما أشدّ استكبارهم وما أكثر عتوهم وما أغلى نابا بواؤها كليب.
{ يوم يرون الملائكة } { يوم } منصوب باذكر وهو أقرب أو بفعل يدل عليه { لا بشرى } أي يمنعون البشرى ولا يعمل فيه { لا بشرى } لأنه مصدر ولأنه منفي بلا التي لنفي الجنس لأنه لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وكذا الداخلة على الأسماء عاملة عمل ليس ، ودخول { لا } على { بشرى } لانتفاء أنواع البشرى وهذا اليوم الظاهر أنه يوم القيامة لقوله بعد { وقدمن إلى ما عملوا } وعن ابن عباس : عند الموت والمعنى أن هؤلاء الذين اقترحوا نزول الملائكة لا يعرفون ما يكون لهم إذا رأوهم من الشر وانتفاء البشارة وحصول الخسار والمكروه.
واحتمل { بشرى } أن يكون مبنياً مع { لا } واحتمل أن يكون في نية التنوين منصوب اللفظ ، ومنع من الصرف للتأنيث اللازم فإن كان مبنياً مع { لا } احتمل أن يكون الخبر { يومئذ وللمجرمين } خبر بعد خبر أو نعت لبشرى ، أو متعلق بما تعلق به الخبر ، وأن يكون { يومئذ } صفة لبشرى ، والخبر { للمجرمين } ويجيء خلاف سيبويه والأخفش هل الخبر لنفس { لا } أو الخبر للمبتدأ الذي هو مجموع { لا } وما بني معها؟ وإن كان في نية التنوين وهو معرب جاز أن يكون { يومئذ } معمولاً لبشرى ، وأن يكون صفة ، والخبر من الخبر.

وأجاز أن يكون { يومئذ } و { للمجرمين } خبر وجاز أن يكون { يومئذ } خبراً و { للمجرمين } صفة ، والخبر إذا كان الاسم ليس مبنياً لنفس لا بإجماع.
وقال الزمخشري : و { يومئذ } للتكرير وتبعه أبو البقاء ، ولا يجوز أن يكون تكريراً سواء أريد به التوكيد اللفظي أم أريد به البلد ، لأن { يوم } منصوب بما تقدم ذكره من اذكر أو من يعدمون البشرى وما بعد { لا } العاملة في الاسم لا يعمل فيه ما قبلها وعلى تقديره يكون العامل فيه ما قبل إلاّ والظاهر عموم المجرمين فيندرج هؤلاء القائلون فيهم.
قيل : ويجوز أن يكون من وضع الظاهر موضع الضمير ، والظاهر أن الضمير في { ويقولون } عائد على القائلين لأن المحدث عنهم كانوا يطلبون نزول الملائكة ، ثم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لأنهم لا يلقونهم إلاّ بما يكرهون فقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو ونزول الشدة وقال معناه مجاهد قال { حجراً } عواذاً يستعيذون من الملائكة.
وقال مجاهد وابن جريج : كانت العرب إذا كرهت شيئاً قالوا حجراً.
وقال أبو عبيدة : هاتان اللفظتان عوذة للعرب يقولهما من خاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة انتهى.
ومنه قول المتلمس :
حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها . . .
حجر حرام ألا تلك الدهاليس
أي هذا الذي حننت إليه هو ممنوع ، وذكر سيبويه { حجراً } في المصادر المنصوبة غير المتصرفة.
وقال بعض الرجاز :
قالت وفيها حيرة وذعر . . .
عوذ يرى منكم وحجر
وأنه واجب إضمار ناصبها.
قال سيبويه : ويقول الرجل للرجل أتفعل كذا؟ فيقول حجراً وهي من حجره إذا منعه لأن المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه لا يلحقه.
وقرأ أبو رجاء والحسن والضحاك { حجراً } بضم الحاء.
وقيل : الضمير في { ويقولون } عائد على الملائكة أي تقول الملائكة للمجرمين { حجراً محجوراً } عليكم البشرى و { محجوراً } صفة يؤكد معنى { حجراً } كما قالوا : موت مائت ، وذيل ذائل ، والقدوم الحقيقي مستحيل في حق الله تعالى فهو عبارة عن حكمه بذلك وإنفاذه.
قيل : أو على حذف مضاف أي قدمت ملائكتنا وأسند ذلك إليه لأنه عن أمره ، وحسنت لفظة { قدمنا } لأن القادم على شيء مكروه لم يقرره ولا أمر به مغير له ومذهب ، فمثلت حال هؤلاء وأعمالهم التي عملوها في كفرهم من صلة رحم وإغاثة ملهوف وقرى ضيف ، ومنّ علي أسير.
وغير ذلك من مكارمهم بحال قوم خالفوا سلطانهم فقصد إلى ما تحت أيديهم فمزقها بحيث لم يترك لها أثراً ، وفي أمثالهم أقل من الهباء و { منثوراً } صفة للهباء شبهه بالهباء لقلته وأنه لا ينتفع به ، ثم وصفه بمنثوراً لأن الهباء تراه منتظماً مع الضوء فإذا حركته الريح رأيته قد تناثر وذهب.

وقال الزمخشري : أو جعله يعني { منثوراً } مفعولاً ثالثاً لجعلناه أي { فجعلناه } جامعاً لحقارة الهباء والتناثر.
كقوله { كونوا قردة خاسئين } أي جامعين للمسخ والخسء انتهى.
وخالف ابن درستويه فخالف النحويين في منعه أن يكون لكان خبران وأزيد.
وقياس قوله في جعل أن يمنع أن يكون لها خبر ثالث.
وقال ابن عباس : الهباء المنثور ما تسفي به الرياح وتبثه.
وعنه أيضاً : الهباء الماء المهراق والمستقر مكان الاستقرار في أكثر الأوقات.
والمقيل المكان الذي يأوون إليه في الاسترواح إلى الأزواج والتمتع ، ولا نوم في الجنة فسمي مكان استرواحهم إلى الحور { مقيلاً } على طريق التشبيه إذ المكان المتخير للقيلولة يكون أطيب المواضع.
وفي لفظ { أحسن } رمز إلى ما يتزين به مقيلهم من حسن الوجوه وملاحة الصور إلى غير ذلك من التحاسين.
و { خير } قيل : ليست على بابها من استعمالها دلالة على الأفضلية فيلزم من ذلك خير في مستقر أهل النار ، ويمكن إبقاؤها على بابها ويكون التفضيل وقع بين المستقرين والمقيلين باعتبار الزمان الواقع ذلك فيه.
فالمعنى { خير مستقراً } في الآخرة من الكفار المترفين في الدنيا { وأحسن مقيلاً } في الآخرة من أولئك في الدنيا.
وقيل : { خير مستقراً } منهم لو كان لهم مستقر ، فيكون التقدير وجود مستقر لهم فيه خير.
وعن ابن مسعود وابن عباس والنخعي وابن جبير وابن جريج ومقاتل : إن الحساب يكمل في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا ، ويقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.

وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)

قرأ الحرميان وابن عامر { تشقق } بإدغام التاء من تتشقق في الشين هنا.
وفي ق وباقي السبعة بحذف تلك التاء ويعني يوم القيامة كقوله { السماء منفطر به } وقرأ الجمهور : { ونُزِّل } ماضياً مشدداً مبنياً للمفعول ، وابن مسعود وأبو رجاء { ونزل } ماضياً مبنياً للفاعل.
وعنه أيضاً وأنزل مبنياً للفاعل وجاء مصدره { تنزيلاً } وقياسه إنزالاً إلاّ أنه لما كان معنى أنزل ونزَّل واحداً جاز مجيء مصدر أحدما للآخر كما قال الشاعر :
حتى تطوّيت انطواء الخصب . . .
كأنه قال : حتى انطويت.
وقرأ الأعمش وعبد الله في نقل ابن عطية وأنزل ماضياً رباعياً مبنياً للمفعول مضارعه ينزل.
وقرأ جناح بن حبيش والخفاف عن أبي عمرو { ونزل } ثلاثياً مخففاً مبنياً للفاعل ، وهارون عن أبي عمرو وتنزل بالتاء من فوق مضارع نزل مشدداً مبنياً للفاعل ، وأبو معاذ وخارجة عن أبي عمرو { ونزل الملائكة } بضم النون وشد الزاي ، أسقط النون من وننزل وفي بعض المصاحف وننزل بالنون مضارع نزل مشدداً مبنياً للفاعل.
ونسبها ابن عطية لابن كثير وحده قال : وهي قراءة أهل مكة ورويت عن أبي عمرو.
وعن أبيّ أيضاً وتنزلت.
وقرأ أُبيّ ونزلت ماضياً مشدداً مبنياً للمفعول بتاء التأنيث.
وقال صاحب اللوامح عن الخفاف عن أبي عمرو : { ونُزَل } مخففاً مبنياً للمفعول { الملائكة } رفعاً ، فإن صحت القراءة فإنه حذف منها المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وتقديره : ونزل نزول الملائكة فحذف النزول ونقل إعرابه إلى { الملائكة } بمعنى نزول نازل الملائكة لأن المصدر يكون بمعنى الاسم ، وهذا مما يجيء على مذهب سيبويه في ترتيب اللازم للمفعول به لأن الفعل يدل على مصدره انتهى.
وقال أبو الفتح : وهذا غير معروف لأن { نزل } لا يتعدى إلى مفعول فيبني هنا للملائكة ، ووجهه أن يكون مثل زكم الرجل وجن فإنه لا يقال إلاّ أزكمه الله وأجنه.
وهذا باب سماع لا قياس انتهى.
فهذه إحدى عشرة قراءة.
والظاهر أن الغمام هو السحاب المعهود.
وقيل هو الله في قوله { في ظلل من الغمام } وقال ابن جريج : الغمام الذي يأتي الله فيه في الجنة زعموا.
وقال الحسن : سترة بين السماء والأرض تعرج الملائكة فيه تنسخ أعمال بني آدم ليحاسبوا.
وقيل : غمام أبيض رقيق مثل الضبابة ولم يكن لبني إسرائيل في تيههم ، والظاهر أن { السماء } هي المظلة لنا.
وقيل : تتشقق سماء سماء قاله مقاتل.
والباء باء الحال أي متغيمة أو باء السبب أي بسبب طلوع الغمام منه كأنه الذي تتشقق به السماء كما تقول : شق السنام بالشفرة وانشق بها ونظيره قوله { السماء منفطر به } أو بمعنى عن أقوال ثلاثة.
والفرق بين الباء السببية وعن أن انشق عن كذا تفتح عنه وانشق بكذا أنه هو الشاق له.

{ ونزل الملائكة } أي إلى الأرض لوقوع الجزاء والحساب.
و { الحق } صفة للملك أي الثابت لأن كل ملك يومئذ يبطل ، ولا يبقى إلاّ ملكه تعالى وخبر { الملك } { يومئذ }.
و { الرحمن } متعلق بالحق أو للبيان أعني { للرحمن }.
وقيل : الخبر { للرحمن } و { يومئذ } معمول للملك.
وقيل : الخبر { الحق } و { للرحمن } متعلق به أو للبيان ، وعسر ذلك اليوم على الكافرين بدخولهم النار وما في خلال ذلك من المخاوف.
ودل قوله { على الكافرين } على تيسيره على المؤمنين ففي الحديث أنه يهون حتى يكون على المؤمن أخف عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا والظاهر عموم الظالم إذ اللام فيه للجنس قاله مجاهد وأبو رجاء ، وقالا : فلان هو كناية عن الشيطان.
وقال ابن عباس وجماعة : { الظالم } هنا عقبة بن أبي معيط إذ كان جنح إلى الإسلام وأُبيّ بن خلف هو المكني عنه بفلان ، وكان بينهما مخالة فنهاه عن الإسلام فقبل منه.
وعن ابن عباس أيضاً.
عكس هذا القول.
قيل وسبب نزولها هو عقبة وأُبي.
وقيل : كان عقبة خليلاً لأمية فأسلم عقبة فقال أمية : وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمداً فكفر وارتد لرضا أمية فنزلت قاله الشعبي.
وذكر من إساءة عقبة على الرسول ما كان سبب أن قال له الرسول عليه السلام : « لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوت رأسك بالسيف » فقتل عقبة يوم بدر صبراً أمر علياً فضرب عنقه ، وقتل أبيّ بن خلف يوم أحد في المبارزة.
والمقصود ذكر هول يوم القيامة بتندم الظالم وتمنيه أنه لم يكن أطاع خليله الذي كان يأمره بالظلم وما من ظالم إلا وله في الغالب خليل خاص به يعبر عنه بفلان.
والظاهر أن { الظالم } { يعض على يديه } فعل النادم المتفجع.
وقال الضحاك : يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت ، ولا يزال كذلك كلما أكلها نبتت.
وقيل : هو مجاز عبر به عن التحير والغم والندم والتفجع ونقل أئمة اللغة أن المتأسف المتحزن المتندم يعض على إبهامه ندماً وقال الشاعر :
لطمت خدها بحمر لطاف . . .
نلن منها عذاب بيض عذاب
فتشكى العناب نور إقاح . . .
واشتكى الورد ناضر العناب
وفي المثل : يأكل يديه ندماً ويسيل دمعه دماً.
وقال الزمخشري : عض الأنامل واليدين والسقوط في اليد وأكل البنان وحرق الأسنان والإرم وفروعها كنايات عن الغيظ والحسرة لأنها من روادفها فتذكر الرادفة.
ويدل بها على المردوف فيرتفع الكلام به في طبقة الفصاحة ، ويجد السامع عنده في نفسه من الروعة والاستحسان ما لا يجد عند لفظ المكنى عنه انتهى.
وقال الشاعر في حرق الناب :
أبى الضيم والنعمان يحرق نابه . . .
عليه فأفضى والسيوف معاقله
{ يقول } في موضع الحال أي قائلاً { يا ليتني } فان كانت اللام للعهد فالمعنى أنه تمنى عقبة أن لو صحب النبيّ صلى الله عليه وسلم وسلك طريق الحق ، وإن كانت اللام للجنس فالمعنى أنه تمنى.

سلوك طريق الرسول وهو الإيمان ، ويكون الرسول للجنس لأن كل ظالم قد كلف اتّباع ما جاء به رسول من الله إلى أن جاءت الملة المحمدية فنسخت جميع الملل ، فلا يقبل بعد مجيئه دين غير الذي جاء به.
ثم ينادي بالويل والحسرة يقول { يا ويلتي } أي يا هلكاه كقوله { يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله } وقرأ الحسن وابن قطيب { يا ليتني } بكسر التاء والياء ياء الإضافة وهو الأصل لأن الرجل ينادي ويلته وهي هلكته يقول لها تعالي فهذا أوانك.
وقرأت فرقة بالإمالة.
قال أبو علي : وترك الإمالة أحسن لأن هذه اللفظة الياء فبدلت الكسرة فتحة والياء ألفاً فراراً من الياء فمن أمال رجع إلى الذي عنه فر أولاً.
وفلان كناية عن العلم وهو متصرف.
وقل كناية عن نكرة الإنسان نحو : يا رجل وهو مختص بالنداء ، وفلة بمعنى يا امرأة كذلك ولام فل ياء أو واو وليس مرخماً من فلان خلافاً للفراء.
ووهم ابن عصفور وابن مالك وصاحب البسيط في قولهم فل كناية عن العلم كفلان.
وفي كتاب سيبويه ما قلناه بالنقل عن العرب.
و { الذكر } ذكر الله أو القرآن أو الموعظة ، والظاهر حمل الشيطان على ظاهره لأنه هو الذي وسوس إليه في مخالة من أضله سماه شيطاناً لأنه يضل كما يضل الشيطان ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة.
وتحتمل هذه الجملة أن تكون من تمام كلام الظالم ، ويحتمل أن تكون إخباراً من كلام الله على جهة الدلالة على وجه ضلالهم والتحذير من الشيطان الذي بلغهم ذلك المبلغ.
وفي الحديث الصحيح تمثيل الجليس الصالح بالمسك والجليس السوء بنافخ الكير.
والظاهر أن دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه وإخباره بهجر قومه قريش القرآن هو مما جرى له في الدنيا بدليل إقباله عليه مسلياً مؤانساً بقوله { وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدواً من المجرمين } وأنه هو الكافي في هدايته ونصره فهو وعد منه بالنصر وهذا القول من الرسول وشكايته فيه تخويف لقومه.
وقالت فرقة منهم أبو مسلم إنه قوله عليه السلام في الآخرة كقوله { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } والظاهر أن { مهجوراً } بمعنى متروكاً من الإيمان به مبعداً مقصياً من الهجر بفتح الهاء.
وقاله مجاهد والنخعي وأتباعه.
وقيل : من الهجر والتقدير { مهجوراً } فيه بمعنى أنه باطل.
وأساطير الأولين أنهم إذا سمعوه هجروا فيه كقوله { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المهجور بمعنى الهجر كالملحود والمعقول ، والمعنى اتخذوه هجراً والعدو يجوز أن يكون واحداً وجمعاً انتهى.
وانتصب { هادياً } و { نصيراً } على الحال أو على التمييز.

وقالوا أي الكفار على سبيل الاقتراح والاعتراض الدال على نفورهم عن الحق.
قال الزمخشري : { نزل } ههنا بمعنى أنزل لا غير كخبر بمعنى أخبر وإلاّ كان متدافعاً انتهى.
وإنما قال أن { نزل } بمعنى أنزل لأن نزل عنده أصلها أن تكون للتفريق ، فلو أقره على أصله عنده من الدلالة على التفريق تدافع هو.
وقوله { جملة واحدة } وقد قررنا أنا { نزل } لا تقتضي التفريق لأن التضعيف فيه عندنا مرادف للهمزة.
وقد بيّنا ذلك في أول آل عمران وقائل ذلك كفار قريش قالوا : لو كان هذا من عند الله لنزل جملة كما نزلت التوراة والإنجيل.
وقيل : قائلو ذلك اليهود وهذا قول لا طائل تحته لأن أمر الاحتجاج به والإعجاز لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو مفرقاً بل الإعجاز في نزوله مفرقاً أظهر إذ يطالبون بمعارضة سورة منه ، فلو نزل جملة واحدة وطولبوا بمعارضته مثل ما نزل لكانوا أعجز منهم حين طولبوا بمعارضة سورة منه فعجزوا والمشار إليه غير مذكور.
فقيل : هو من كلام الكفار وأشاروا إلى التوراة والإنجيل أي تنزيلاً مثل تنزيل تلك الكتب الإلهية جملة واحدة ويبقى { لنثبت به فؤادك } تعليلاً لمحذوف أي فرقناه في أوقات { لنثبت به فؤادك }.
وقيل : هو مستأنف من كلام الله تعالى لا من كلامهم ، ولما تضمن كلامهم معنى لمَ أُنْزِلَ مفرقاً أشير بقوله كذلك إلى التفريق أي { كذلك } أنزل مفرقاً.
قال الزمخشري : والحكمة فيه أن نقوي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئاً بعد شيء ، وجزأ عقيب جزء ، ولو ألقي عليه جملة واحدة لكان يعيا في حفظه والرسول عليه السلام فارقت حاله حال داود وموسى وعيسى عليهم السلام حيث كان أمياً لا يكتب وهم كانوا قارئين كاتبين ، فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ فأنزل عليه منجماً في عشرين سنة.
وقيل : في ثلاث وعشرين سنة وأيضاً فكان ينزل على حسب الحوادث وجواب السائلين ، ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ ، ولا يتأتى ذلك إلاّ فيما أنزل مفرقاً انتهى.
واللام في { لنثبت به } لام العلة.
وقال أبو حاتم : هي لام القسم والتقدير والله ليثبتن فحذفت النون وكسرت اللام انتهى.
وهذا قول في غاية الضعف وكان ينحو إلى مذهب الأخفش أن جواب القسم يتلقى بلام كي وجعل منه ولتصغي إليه أفئدة وهو مذهب مرجوح.
وقرأ عبد الله ليثبت بالياء أي ليثبت الله { ورتلناه } أي فصلناه.
وقيل : بيناه.
وقيل : فسرناه.
{ ولا يأتونك بمثل } يضربونه على جهة المعارضة منهم كتمثيلهم في هذه بالتوراة والإنجيل الإحاء القرآن بالحق في ذلك ثم هو أوضح بياناً وتفصيلاً.
وقال الزمخشري : { ولا يأتونك بمثل } بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة كأنه مثل في البطلان إلاّ أتيناك نحن بالجواب الحق الذي لا محيد عنه وبما هو أحسن معنى ومؤدى من سؤالهم.

ولما كان التفسير هو الكشف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه فقالوا : تفسير هذا الكلام كيت وكيت ، كما قيل معناه كذا أو { ولا يأتونك } بحال وصفة عجيبة يقولون هلا كانت هذه صفتك وحالك نحو إن يقرن بك ملك ينذر معك أو يلقى إليك كنز أو تكون لك جنة أو ينزل عليك القرآن جملة إلاّ أعطيناك ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه وما هو أحسن تكشيفاً لما بعثت عليه ودلالة على صحته انتهى.
وقيل : { ولا يأتونك } بشبهة في إبطال أمرك إلاّ جئناك بالحق الذي يدحض شبهة أهل الجهل ويبطل كلام أهل الزيغ ، والمفضل عليه محذوف أي { وأحسن تفسيراً } من مثلهم ومثلهم قولهم { لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة }.
و { الذين يحشرون }.
قال الكرماني : متصل بقوله { أصحاب الجنة يومئذ } الآية.
قيل : ويجوز أن يكون متصلاً بقوله { وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين } انتهى.
والذي يظهر أنهم لم اعترضوا في حديث القرآن وإنزاله مفرقاً كان في ضمن كلامهم أنهم ذوو رشد وخير ، وأنهم على طريق مستقيم ولذلك اعترضوا فأخبر تعالى بحالهم وما يؤول إليه أمرهم في الآخرة بكونهم { شر مكاناً وأضل سبيلاً } والظاهر أنه يحشر الكافر على وجهه بأن يسحب على وجهه.
وفي الحديث « إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم » وهذا قول الجمهور.
وقيل : هو مجاز للذلة المفرطة والهوان والخزي.
وقيل : هو من قول العرب مر فلان على وجهه إذا لم يدر أين ذهب.
ويقال : مضى على وجهه إذا أسرع متوجهاً لقصده و { شر } و { أضل } ليسا على بابهما من الدلالة على التفضيل.
وقوله { شر مكاناً } أي مستقراً وهو مقابل لقوله { خير مستقراً } ويحتمل أن يراد بالمكان المكانة والشرف لا المستقر.
وأعربوا { الذين } مبتدأ والجملة من { أولئك } في موضع الخبر ويجوز عندي أن يكون { الذين } خبر مبتدأ محذوف لما تقدم ذكر الكافرين وما قالوا قال إبعاداً لهم وتسميعاً بما يؤول إليه حالهم هم { الذين يحشرون } ثم استأنف إخباراً أخبر عنهم فقال { أولئك شر مكاناً }

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)

لما تقدم تكذيب قريش والكفار لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر تعالى ما فيه تسلية للرسول وإرهاب للمكذبين وتذكير لهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة من هلاك الاستئصال لما كذبوا رسلهم ، فناسب أن ذكر أولاً من نزل عليه كتابه جملة واحدة ومع ذلك كفروا وكذبوا به فكذلك هؤلاء لو نزل عليه القرآن دفعة لكذبوا وكفروا كما كذب قوم موسى.
و { الكتاب } هنا التوراة و { هارون } بدل أو عطف بيان ، واحتمل أن يكون معه المفعول الثاني لجعلنا.
وأن يكون { وزيراً } والوزارة لا تنافي النبوة فقد كان في الزمان الواحد أنبياء يوازر بعضهم بعضاً ، والمذهوب إليهم القبط وفرعون.
وفي الكلام حذف أي فذهبا وأديا الرسالة فكذبوهما { فدمرناهم } والتدمير أشد الإهلاك وأصله كسر الشيء على وجه لا يمكن إصلاحه.
وقصة موسى ومن أرسل إليه ذكرت منتهية في غير ما موضع وهنا اختصرت فأوجز بذكر أولها وآخرها لأنه بذلك يلزم الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم.
وقرأ عليّ والحسن ومسلمة بن محارب : فدمراهم على الأمر لموسى وهارون ، وعن عليّ أيضاً : كذلك إلاّ أنه مؤكد بالنون الشديدة.
وعنه أيضاً فدمرا أمراً لهما بهم بباء الجر ، ومعنى الأمر كوناً سبب تدميرهم.
وانتصب { وقوم نوح } على الاشتغال وكان النصب أرجح لتقدم الجمل الفعلية قبل ذلك ، ويكون { لما } في هذا الإعراب ظرفاً على مذهب الفارسي.
وأما إن كانت حرف وجوب لوجوب فالظاهر أن { أغرقناهم } جواب لما فلا يفسر ناصباً لقوم فيكون معطوفاً على المفعول في { فدمرناهم } أو منصوباً على مضمر تقديره اذكر.
وقد جوز الوجوه الثلاثة الحوفي.
{ لما كذبوا الرسل } كذبوا نوحاً ومن قبله أو جعل تكذيبهم لنوح تكذيباً للجميع ، أو لم يروا بعثه الرسل كالبراهمة والظاهر عطف { وعاداً } على و { قوم }.
وقال أبو إسحاق : يكون معطوفاً على الهاء والميم في { وجعلناهم للناس آية }.
قال : ويجوز أن يكون معطوفاً على { الظالمين } لأن التأويل وعدنا الظالمين بالعذاب ووعدنا { عاداً وثموداً }.
وقرأ عبد الله وعمرو بن ميمون والحسن وعيسى وثمود غير مصروف.
{ وأصحاب الرس }.
قال ابن عباس : هم قوم ثمود ويبعده عطفه على ثمود لأن العطف يقتضي التغاير.
وقال قتادة : أهل قرية من اليمامة يقال لها الرس والفلج.
قيل : قتلوا نبيهم فهلكوا وهم بقية ثمود وقوم صالح.
وقال كعب ومقاتل والسدّي بئر بإنطاكية الشام قتل فيها صاحب ياسين وهو حبيب النجار.
وقيل : قتلوا نبيهم ورسوه في بئر أي دسوه فيه.
وقال وهب والكلبي { أصحاب الرس } وأصحاب الأيكة قومان أرسل إليهما شعيب أرسل إلى أصحاب الرس وكانوا قوماً من عبَدة الأصنام وأصحاب آبار ومواش ، فدعاهم إلى الإسلام فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه فبينما هم حول الرس وهي البئر غير المطوية.

وعن أبي عبيدة انهارت بهم فخسف بهم وبدارهم.
وقال عليّ فيما نقله الثعلبي : قوم عبدوا شجرة صنوبر يقال لها شاه درخت رسوا نبيهم في بئر حفروه له في حديث طويل.
وقيل : هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حنظلة بن صفوان كانوا مبتلين بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطير ، سميت بذلك لطول عنقها وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فج وهي تنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا.
وقيل : هم أصحاب الأخدود والرس هو الأخدود.
وقال ابن عباس : الرس بئر أذربيجان.
وقيل : الرس ما بين نجران إلى اليمن ألى حضرموت.
وقيل : قوم بعث الله إليهم أنبياء فقتلوهم ورسوا عظامهم في بئر.
وقيل : قوم بعث إليهم نبيّ فأكلوه.
وقيل : قوم نساؤهم سواحق.
وقيل : الرس ماء ونخل لبني أسد.
وقيل : الرس نهر من بلاد المشرق بعث الله إليهم نبياً من أولاد يهوذا ابن يعقوب فكذبوه فلبث فيهم زماناً فشكا إلى الله منهم فحفروا له بئراً وأرسلوه فيها ، وقالوا : نرجو أن يرضى عنا إلهنا فكانوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيهم ، فدعا بتعجيل قبض روحه فمات وأضلتهم سحابة سوداء أذابتهم كما يذوب الرصاص.
وروى عكرمة ومحمد بن كعب القرظي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم « أن أهل الرس أخذوا نبيهم فرسّوه في بئر وأطبقوا عليه صخرة فكان عبد أسود آمن به يجيء بطعام إلى تلك البئر فيعينه الله على تلك الصخرة فيقلها فيعطيه ما يغذيه به.
ثم يرد الصخرة ، إلى أن ضرب الله يوماً على أذن ذلك الأسود بالنوم أربع عشرة سنة وأخرج أهل القرية نبيهم فآمنوا به » في حديث طويل.
قال الطبري : فيمكن أنهم كفروا بعد ذلك فذكرهم الله في هذه الآية وكثر الاختلاف في أصحاب الرس ، فلو صح ما نقله عكرمة ومحمد بن كعب كان هو القول الذي لا يمكن خلافه وملخص هذه الأقوال أنهم قوم أهلكهم الله بتكذيب من أرسل إليهم.
{ وقروناً بين ذلك } هذا إبهام لا يعلم حقيقة ذلك إلاّ الله { ذلك } إشارة إلى أولئك المتقدمي الذكر فلذلك حسن دخول { بين } عليه من غير أن يعطف عليه شيء كأنه قيل بين المذكورين وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة.
ثم يشير إليها.
وانتصب { كلاً } الأول على الاشتغال أي وأنذرنا كلاً أو حذرنا كلاً والثاني على أنه مفعول بتبرنا لأنه لم يأخذ مفعولاً وهذا من واضح الإعراب.
ومعنى ضرب الأمثال أي بيّن لهم القصص العجيبة من قصص الأولين ووصفنا لهم ما أدى إليه تكذيبهم بأنبيائهم من عذاب الله وتدميره إياهم ليهتدوا بضرب الأمثال فلم يهتدوا وأبعد من جعل الضمير في { له } لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال : والمعنى وكل الأمثال ضربنا للرسول وعلى هذا و { كلاً } منصوب بضربنا و { الأمثال } بدل من { كلاً } والضمير في { ولقد أتوا } لقريش كانوا يمرون على سدوم من قرى قوم لوط في متاجرهم إلى الشام وكانت قرى خمسة أهلك الله منها أربعاً وبقيت واحدة وهي زغر لم يكن أهلها يعملون ذلك العمل قاله ابن عباس و { مطر السوء } الحجارة التي أمطرت عليهم من السماء فهلكوا.

وكان إبراهيم عليه السلام ينادي نصيحة لكم : يا سدوم يوم لكم من الله عز وجل أنهاكم أن تتعرضوا للعقوبة من الله ، ومعنى { أتوا } مروا فلذلك عداه بعلى.
وأفرد لفظ القرية وإن كانت قرى لأن سدوم هي أم تلك القرى وأعظمها.
وقال مكي : الضمير في { أتوا } عائد على الذين اتخذوا القرآن مهجوراً انتهى.
وهم قريش وانتصب { مطر } على أنه مفعول ثان لأمطرت على معنى أوليت ، أو على أنه مصدر محذوف الزوائد أي إمطار السوء.
{ أفلم يكونوا يرونها } أن ينظرون إلى ما فيها من العبر والآثار الدالة على ما حل بها من النقم كما قال { وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل } وقال { وإنهما لبإمام مبين } وهو استفهام معناه التعجب ومع ذلك فلم يعتبروا برؤيتها أن يحل بهم في الدنيا ما حل بأولئك ، بل كانوا كفرة لا يؤمنون بالبعث فلم يتوقعوا عذاب الآخرة وضع الرجاء موضع التوقع لأنه إنما بتوقع العاقبة من يؤمن ، فمن ثم لم ينظروا ولم يتفكروا ومروا بها كما مرت ركابهم ، أو لا يأملون { نشوراً } كما يأمله المؤمنون لطمعهم إلى ثواب أعمالهم أو لا يخافون على اللغة التهامية.
وقرأ زيد بن عليّ مطرت ثلاثي مبنياً للمفعول ومطر متعد.
قال الشاعر :
كمن بواديه بعد المحل ممطور . . .
وقرأ أبو السماك { مطر السوء } بضم السين.
{ وإذا رأوك أن يتخذونك إلاّ هزوا } لم يقتصر المشركون على إنكار نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وترك الإيمان به ، بل زادوا على ذلك بالاستهزاء والاحتقار.
حتى يقول بعضهم لبعض { أهذا الذي بعث الله رسولاً } و { أن } نافية جواب { إذا } وانفردت { إذا } بأنه إذا كان جوابها منفياً بما أو بلا لا تدخله الفاء بخلاف أدوات الشرط غيرها فلا بد من الفاء مع ما ومع لا إذا ارتفع المضارع ، فلو وقعت إن النافية في جواب غير إذا فلا بد من الفاء كما النافية ومعنى { هزؤاً } موضع هزء أو مهزواً به { أهذا } قبله قول محذوف أي يقولون وقال : جواب { إذا } ما أضمر من القول أي { وإذا رأوك } قالوا { أهذا الذي بعث الله رسولاً } و { أن يتخذونك } جملة اعتراضية بين { إذا } وجوابها.
قيل : ونزلت في أبي جهل كان إذا رأى الرسول عليه الصلاة والسلام قال : { أهذا الذي بعث الله رسولاً } ؟ وأخبر بلفظ الجمع تعظيماً لقبح صنعه أو لكون جماعة معه قالوا ذلك : والظاهر أن قائل ذلك جماعة كثيرة وهذا الاستفهام استصغار واحتقار منهم أخرجوه بقولهم بعث الله رسولاً في معرض التسليم والإقرار وهم على غاية الجحود والإنكار سخرية واستهزاء ، ولو لم يستهزئوا لقالوا هذا زعم أو ادعى أنه مبعوث من عند الله رسولاً.

وقولهم { إن كاد ليضلنا } دليل على فرط مجاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوتهم ، وبذله قصارى الوسع والطاقة في استعطافهم مع عرض الآيات والمعجزات حتى شارفوا بزعمهم أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام لولا فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم.
و { لولا } في مثل هذا الكلام جار من حيث المعنى لا من حيث اللفظ مجرى التقييد للحكم المطلق قاله الزمخشري.
وقال أبو عبد الله الرازي : الاستهزاء إما بالصورة فكان أحسن منهم خلقة أو بالصفة فلا يمكن لأن الصفة التي تميز بها عنهم ظهور المعجز عليه دونهم ، وما قدروا على القدح في حجته ففي الحقيقة هم الذين يستحقون أن يهزأ بهم ثم لوقاحتهم قلبوا القصة واستهزؤوا بالرسول عليه الصلاة والسلام انتهى.
قيل : وتدل الآية على أنهم صاروا في ظهور حجته عليه الصلاة والسلام عليهم كالمجانين استهزوؤا به أولاً ثم إنهم وصفوه بأنه { كاد ليضلنا } عن مذهبنا { لولا } أنا قابلناه بالجمود والإصرار فهذا يدل على أنهم سلموا له قوة الحجة وكمال العقل ، فكونهم جمعوا بين الاستهزاء وبين هذه الكيد ودة دل على أنهم كانوا كالمتحيرين في أمره تارة يستهزئون منه وتارة يصفونه بما لا يليق إلاّ بالعالم الكامل.
{ وسوف يعلمون } وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدة الإمهال فلا بد للوعيد أن يلحقهم فلا يغرنهم التأخير ، ولما قالوا { إن كاد ليضلنا } جاء قوله { من أضل سبيلاً } أي سيظهر لهم من المضل ومن الضال بمشاهدة العذاب الذي لا مخلص لهم منه.
والظاهر أن من استفهامية وأضل خبره والجملة في موضع مفعول { يعلمون } إن كانت متعدية إلى واحد أو في موضع مفعولين إن كانت تعدت إلى اثنين ، ويجوز أن تكون { من } موصولة مفعولة بيعلمون و { أضل } خبر مبتدأ محذوف أي هو أضل ، وصار حذف هذا المضمر للاستطالة التي حصلت في قول العرب ما أنا بالذي قائل لك سواء.
{ أرأيت من اتخذ إلهه هواه } هذا يأس عن إيمانهم وإشارة إليه عليه السلام أن لا يتأسف عليهم ، وإعلام أنهم في الجهل بالمنافع وقلة النظر في العواقب مثل البهائم ثم ذكر أنهم { أضل سبيلاً } من الأنعام من حيث لهم فهم وتركوا استعماله فيما يخلصهم من عذاب الله.
والأنعام لا سبيل لها إلى فهم المصالح.
و { أرأيت } استفهام تعجب من جهل من هذه الحالة و { إلهه } المفعول الأول لاتخذ ، و { هواه } الثاني أي أقام مقام الإله الذي يعبده هواه فهو جار على ما يكون في { هواه } والمعنى أنه لم يتخذ إلهاً إلا هواه وادعاء القلب ليس بجيد إذ يقدره من اتخذ هواه إلهه والبيت من ضرائر الشعر ونادر الكلام فينزه كلام الله عنه كان الرجل يعبد الصنم فإذا رأى أحسن منه رماه وأخذ الأحسن.

قيل : نزلت في الحارث بن قيس السهمي ، كان إذا هوى شيئاً عبده ، والهوى ميل القلب إلى الشيء أفأنت تجبره على ترك هواه ، أو أفأنت تحفظه من عظيم جهله.
وقرأ بعض أهل المدينة من اتخذ آلهةً منونة على الجمع ، وفيه تقديم جعل هواه أنواعاً أسماء لأجناس مختلفة فجعل كل جنس من هواه إلهاً آخر.
وقرأ ابن هرمز : إلاهة على وزن فعالة وفيه أيضاً تقديم أي هواه إلاهة بمعنى معبود لأنها بمعنى المألوهة.
فالهاء فيها للمبالغة فلذلك صرفت.
وقيل : بل الإلاهة الشمس ويقال لها أُلاهة بضم الهمزة وهي غير مصروفة للعلمية والتأنيث لكنها لما كانت مما يدخلها لام المعرفة في بعض اللغات صارت بمنزلة ما كان فيه اللام ثم نزعت فلذلك صرفت وصارت بمنزلة النعوت فتنكرت قاله صاحب اللوامح.
ومفعول { أرأيت } الأول هو { من } والجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني.
وتقدم الكلام في { أرأيت } في أوائل الأنعام ومعنى { وكيلاً } أي هل تستطيع أن تدعو إلى الهدى فتتوكل عليه وتجبره على الإسلام.
و { أم } منقطعة تتقدّر ببل والهمزة على المذهب الصحيح كأنه قال : بل أتحسب كان هذه المذمّة أشد من التي تقدمتها حتى حفت بالإضراب عنها إليها وهو كونها مسلوبي الأسماع والعقول لأنهم لا يلقون إلى استماع الحق أذناً إلى تدبره عقلاً ، ومشبهين بالأنعام التي هي مثل في الغفلة والضلالة ، ونفى ذلك عن أكثرهم لأن فيهم من سبقت له السعادة فأسلم ، وجعلوا أضل من الأنعام لأنها تنقاد لأربابها وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها وتطلب منفعتها وتتجنب مضرّتها وتهتدي إلى مراعيها ومشاربها ، وهم لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم ولا يرغبون في الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار ولا يهتدون للحق.

أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)

لما بيِّن تعالى جهل المعترضين على دلائل الصانع وفساد طريقتهم ذكر أنواعاً من الدلائل الواضحة التي تدل على قدرته التامة لعلهم يتدبرونها ويؤمنون بمن هذه قدرته وتصرفه في عالمه ، فبدأ بحال الظل في زيادته ونقصانه وتغيره من حال إلى حال وأن ذلك جار على مشيئته.
وتقدم الكلام على { ألم تر } في البقرة في قصة الذي حاجّ إبراهيم.
والمعنى { ألم تر إلى } صنع { ربك } وقدرته.
و { كيف } سؤال عن حال في موضع نصب بمد.
والجملة في موضع متعلق { ألم تر } لأن { تر } معلقة والجملة الاستفهامية التي هي معلق عنها فعل القلب ليس باقي على حقيقة الاستفهام.
فالمعنى ألم تر إلى مدّ ربك الظل.
وقال الجمهور : { الظل } هنا من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس مثل ظل الجنة ظل ممدود لا شمس فيه ولا ظلمة.
واعترض بأنه في غير النهار بل في بقايا الليل ولا يسمى ظلاً.
وقيل : { الظل } الليل لا ظل الأرض وهو يغمر الدنيا كلها.
وقيل : من غيبوبة الشمس إلى طلوعها وهذا هو القول الذي قبله ولكن أورده كذا.
وقيل : ظلال الأشياء كلها كقوله { أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله } وقال أبو عبيدة : { الظل } بالغداة والفيء بالعشي.
وقال ابن السكيت : { الظل } ما نسخته الشمس والفيء ما نسخ الشمس.
وقيل : ما لم تكن عليه الشمس ظل وما كانت عليه فزالت فيء.
{ ولو شاء لجعله ساكناً } قال ابن عباس وقتادة وابن زيد : كظل الجنة الذي لا شمس تذهبه.
وقال مجاهد : لا تصيبه ولا تزول.
وقال الحسن : { لو شاء } لتركه ظلاً كما هو.
وقيل : لأدامه أبداً بمنع طلوع الشمس بعد غيبوبتها ، فلما طلعت الشمس دلت على زوال الظل وبدا فيه النقصان فبطلوع الشمس يبدو النقصان في الظل ، وبغروبها تبدو الزيادة في الظل فبالشمس استدل أهل الأرض على الظل وزيادته ونقصه ، وكلما علت الشمس نقص الظل ، وكلما دنت للغروب زاد وهو قوله { ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً } يعني في وقت علو الشمس بالنهار ينقص الظل نقصاناً يسيراً بعد يسير وكذلك زيادته بعد نصف النهار يزيد يسيراً بعد يسير حتى يعم الأرض.
كلها فأما زوال الظل كله فإنما يكون في البلدان المتوسطة في وقت.
وقال الزمخشري : ومعنى { مد الظل } أن جعله يمتد وينبسط فينتفع به الناس.
{ ولو شاء لجعله ساكناً } أي لاصقاً بأصل كل مظل من جبل وبناء وشجر وغير منبسط فلم ينتفع به أحد ، سمي انبساط الظل وامتداده تحركاً منه وعدم ذلك سكوناً ومعنى كون الشمس دليلاً أن الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في مسيرها على أحوال الظل من كونه ثابتاً في مكان وزائلاً ومتسعاً ومتقلصاً فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه على حسب ذلك.

وقبضه إليه أن ينسخه بظل الشمس { يسيراً } أي على مهل وفي هذا القبض اليسير شيئاً بعد شيء من المنافع ما لا يعد ولا يحصى ، ولو قبض دفعة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعاً فإن قلت : ثم في هذين الموضعين كيف موقعها؟ قلت : موقعها البيان تفاضل الأمور الثلاثة كأن الثاني أعظم من الأول ، والثالث أعظم من الثاني تشبيهاً لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت.
ووجه آخر وهو أنه بنى الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة ودحا الأرض تحتها فألقت القبة ظلها على الأرض لعدم النير.
{ ولو شاء الله لجعله ساكناً } مستقراً على تلك الحالة ثم خلق الشمس وجعله على ذلك الظل سلطها عليه وجعلها دليلاً متبوعاً لهم كما يتبع الدليل في الطريق فهو يزيد بها وينقص ويمتد ويقلص ، ثم نسخه بها قبضه قبضاً سهلاً يسيراً غير عسير ، ويحتمل أن يريد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تلقي الظل فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه ، كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه وقوله { قبضناه إلينا } يدل عليه وكذلك قوله { يسيراً } كما قال { ذلك حشر علينا يسير } انتهى وقوله : سمى انبساط الظل وامتداده تحركاً منه لم يسم الله ذلك إنما قال كيف مد الظل وقوله : ويحتمل أن يريد قبضه عند قيامه الساعة فهذا يبعد احتماله لأنه إنما ذكر آثار صنعته وقدرته لتشاهد ثم قال { مد الظل } وعطف عليه ماضياً مثله فيبعد أن يكون التقدير ثم قبضه عند قيام الساعة مع ظهور كونه ماضياً مستداماً أمثاله.
وقال ابن عطية : { ولو شاء لجعله ساكناً } أي ثابتاً غير متحرك ولا منسوخ ، لكنه جعل الشمس ونسخها إياه بطردها له من موضع إلى موضع دليلاً عليه مبيناً لوجوده ولوجه العبرة فيه.
وحكى الطبري : أنه لولا الشمس لم يعلم أن الظل شيء إذ الأشياء إنما تعرف بأضدادها.
وقال ابن عباس : { يسيراً } معجلاً.
وقال مجاهد لطيفاً أي شيئاً بعد شيء ، ويحتمل أن يريد سهلاً قريب التناول.
وقال أبو عبد الله الرازي : أكثر الناس في تأويل هذه الآية ويرفع الكلام فيها إلى وجهين.
الأول : أن الظل لا ضوء خالص ولا ظلمة خالصة ، وهو ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وكذلك الكيفيات الحاصلة داخل السقف وأبنية الجدارات ، وهي أطيب الأحوال لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس والضوء الخالص يحير الحس البصري ويحدث السخونة القوية وهي مؤذية ، ولهذا قيل في الجنة { وظل ممدود } والناظر إلى الجسم الملون كأنه يشاهد بالظل شيئاً سوى الجسم وسوى اللون والظل ليس أمراً ثالثاً ولا معرفة به إلاّ إذا طلعت الشمس ووقع ضوءها على الجسم ثم مال عرف للظل وجود وماهية ، ولولاها ما عرف لأن الأشياء تدرك بأضدادها ، فظهر للعقل أن الظل كيفية زائدة على الجسم واللون ولذلك قال { ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً } أي جعلنا الظل أولاً بما فيه من المنافع واللذات ، ثم هدينا العقول إلى معرفة وجوده بأن أطلعنا الشمس فكانت دليلاً على وجود الظل.

{ ثم قبضناه } أي أزلناه لا دفعة بل { يسيراً } يسيراً كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظل من جانب المغرب ، ولما كانت الحركات المكانية لا توجد دفعة بل يسيراً يسيراً كان زوال الأظلال كذلك.
والثاني : أنه لما خلق السماء والأرض وقع السماء على الأرض فجعل الشمس دليلاً لأنه بحسب حركات الأضواء تتحرك الأظلال فهما متعاقبان متلازمان لا واسطة بينهما ، فبمقدار ما يزداد أحدهما ينقص الآخر ، فكما أن المهتدي يقتدي بالهادي والدليل ويلازمه فكذلك الأظلال ملازمة للأضواء ، ولذلك جعل الشمس دليلاً عليه انتهى.
ملخصاً وهو مأخوذ من كلام الزمخشري ، ومحسن بعض تحسين.
والآية في غاية الظهور ولا تحتاج إلى هذا التكثير.
وقال أيضاً : { الظل } ليس عدماً محضاً بل هو أضواء مخلوطة بظلام ، فهو أمر وجودي وفي تحقيقه دقيق يرجع فيه إلى الكتب العقلية انتهى.
والآية في غاية الوضوح ولا تحتاج إلى هذا التكثير وقد تركت أشياء من كلام المفسرين مما لا تمس إليه الحاجة.
{ جعل الليل لباساً } تشبيهاً بالثوب الذي يغطي البدن ويستره من حيث الليل يستر الأشياء.
والسبات : ضرب من الإغماء يعتري اليقظان مرضاً فشبه النوم به ، والسبت الإقامة في المكان فكان السبات سكوناً تاماً والنشور هنا الإحياء شبه اليقظة به ليتطابق الإحياء مع الإماتة اللذين يتضمنهما النوم والسبات انتهى.
ومن كلام ابن عطية وقال غيره : السبات الراحة جعل { النوم سباتاً } أي سبب راحة.
وقال الزمخشري : السبات الموت وهو كقوله { وهو الذي يتوفاكم بالليل } فإن قلت : هلا فسرته بالراحة؟ قلت : النشور في مقابلته يأباه انتهى.
ولا يأباه إلاّ لو تعين تفسير النشور بالحياة.
وقال أبو مسلم { نشوراً } هو بمعنى الانتشار والحركة.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بالنشور وقت انتشار وتفرق لطلب المعاش وابتغاء فضل الله.
و { النهار نشوراً } وما قبله من باب ليل نائم ونهار صائم ، وهذه الآية مع دلالتها على قدرة الخالق فيها إظهار لنعمته على خلقه ، لأن الاحتجاب بستر الليل كم فيه لكثير من الناس فوائد دينية ودنيوية.
وقال الشاعر :
وكم لظلام الليل عندي من يد . . .
تخبر أن المانوية تكذب
والنوم واليقظة وشبههما بالموت والحياة أي عبرة فيهما لمن اعتبر.
وعن لقمان أنه قال لابنه : يا بني كما تنام فتوقظ فكذلك تموت فتنشر.
وتقدم الخلاف في قراءة الريح بالإفراد والجمع في البقرة.
قال ابن عطية : وقراءة الجمع أوجه لأن عرف الريح متى وردت في القرآن مفردة فإنما هي للعذاب ، ومتى كانت للمطر والرحمة فإنما هي رياح لأن ريح المطر تتشعب وتتداءب وتتفرّق وتأتي لينة ومن ههنا وههنا وشيئاً اثر شيء ، وريح العذاب خرجت لاتتداءب وإنما تأتي جسداً واحداً.

ألا ترى أنها تحطم ما تجد وتهدمه.
قال الرماني : جمعت رياح الرحمة لأنها ثلاثة لواقح : الجنوب ، والصبا ، والشمال.
وأفردت ريح العذاب لأنها واحدة لا تلقح وهي الدبور.
قال أي ابن عطية : يرد هذا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : إذا هبت الريح : « اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً » انتهى.
ولا يسوغ أن يقال : هذه القراءة أوجه لأنه كلاً من القراءتين متواتر والألف واللام في الريح للجنس فتعم ، وما ذكر من أن قول الرماني يرده الحديث فلا يظهر لأنه يجوز أن يريد بقوله عليه السلام : « رياحاً » الثلاثة اللواقح وبقوله « ولا تجعلها ريحاً » الدبور.
فيكون ما قاله الرماني مطابقاً للحديث على هذا المفهوم.
وتقدم الخلاف في قراءة { نشراً } وفي مدلوله في الأعراف { بين يدي رحمته } استعارة حسنة أي قدام المطر لأنه يجيء معلماً به.
والطهور فعول إما للمبالغة كنؤوم فهو معدول عن طاهر ، وإما أن يكون اسماً لما يتطهر به كالسحور والفطور ، وإما مصدر لتطهر جاء على غير المصدر حكاه سيبويه.
والظاهر في قوله { ماء طهوراً } أن يكون للمبالغة في طهارته وجهة المبالغة كونه لم يشبه شيء بخلاف ما نبع من الأرض ونحوه فإنه تشوبه أجزاء أرضية من مقره أو ممره أو مما يطرح فيه ، ويجوز أن يوصف بالاسم وبالمصدر.
وقال ثعلب : هو ما كان طاهراً في نفسه مطهراً لغيره ، فإن كان ما قاله شرحاً لمبالغته في الطهارة كان سديداً ويعضده { وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به } وإلاّ ففعول لا يكون بمعنى مفعل ، ومن استعمال طهور للمبالغة قوله تعالى { وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } وقال الشاعر :
إلى رحج الأكفال غيد من الظبا . . .
عذاب الثنايا ريقهنّ طهور
وقرأ عيسى وأبو جعفر { ميِّتاً } بالتشديد ووصف بلده بصفة المذكر لأن البلدة تكون في معنى البلد في قوله { فسقناه إلى بلد ميت } ورجح الجمهور التخفيف لأنه يماثل فعلاً من المصادر ، فكما وصف المذكر والمؤنث بالمصدر فكذلك بما أشبهه بخلاف المشدد فإنه يماثل فاعلاً من حيث قبوله للثاء إلاّ فيما خص المؤنث نحو طامث.
وقرأ عبد الله وأبو حيوة وابن أبي عبلة والأعمش وعاصم وأبو عمرو في رواية عنهما { ونَسقيه } بفتح النون ورويت عن عمر بن الخطاب.
وقرأ يحيى بن الحارث الذماري { وأناسي } بتخفيف الياء.
ورويت عن الكسائي { وأناسي } جمع إنسان في مذهب سيبويه.
وجمع أنسي في مذهب الفراء والمبرد والزجاج ، والقياس أناسيه كما قالوا في مهلبي مهالبة.
وحكي أناسين في جمع إنسان كسرحان وسراحين ، ووصف الماء بالطهارة وعلل إنزاله بالإحياء والسقي لأنه لما كان الأناسي من جملة ما أنزل له الماء وصف بالطهور وإكراماً له وتتميماً للنعمة عليه ، والتعليل يقتضي أن الطهارة شرط في صحة ذلك كما تقول : حملني الأمير على فرس جواد لأصيد عليه الوحش.

وقدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي لأن حياتهم بحياة أرضهم وحياة أنعامهم ، فقدم ما هو السبب في ذلك ولأنهم إذا وجدوا ما يسقي أرضهم ومواشيهم وجدوا سقياهم.
ونكر الأنعام والأناسي ووصفا بالكثرة لأن كثيراً منهم لا يعيشهم إلا ما أنزل الله من المطر ، وكذلك { لنحيي به بلدة ميتاً } يريد بعض بلاد هؤلاء المتباعدين عن مظانّ الماء بخلاف سكان المدن فإنهم قريبون من الأودية والأنهار والعيون فهم غنيون غالباً عن سقي ماء المطر ، وخص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان الشارب لأن الطيور والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام فإنها قنية الأناسي ومنافعهم متعلقة بها فكان الإنعام عليهم بسقي أنعامهم كالإنعام بسقيهم.
والضمير في { صرفناه } عائد على الماء المنزل من السماء ، أي جعلنا إنزال الماء تذكرة بأن يصرفه عن بعض المواضع إلى بعض وهو في كل عام بمقدار واحد قاله الجمهور منهم ابن مسعود وابن عباس ومجاهد ، فعلى هذا التأويل { إلا كفوراً } هو قولهم بالأنواء والكواكب قاله عكرمة.
وقيل { كفوراً } على الإطلاق لما تركوا التذكر.
وقال ابن عباس أيضاً : عائد على القرآن وإن لم يتقدم له ذكر لوضوح الأمر ويعضده { وجاهدهم به } لتوافق الضمائر ، وعلى أنه للمطر يكون به للقرآن.
وقال أبو مسلم : راجع إلى المطر والرياح والسحاب وسائر ما ذكر فيه من الأدلة.
وقال الزمخشري : صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل ، وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا ، فأبى أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها وقلة الأكتراث بها.
وقيل : صرّفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصفات المتفاوتة من وابل وطل وجود ورذاذ وديمة ورهام فأبوا إلا الكفور.
وأن يقولوا مطرنا بنوء كذا ولا يذكروا رحمته وصنعته.
وعن ابن عباس : ما من عام أقل مطراً من عام ، ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما يشاء وتلا هذه الآية.
ويروى أن الملائكة يعرفون عدد المطر ومقداره في كل عام لأنه لا يختلف ، ولكن يختلف في البلاد وينتزع من ههنا جواب في تنكير البلدة والأنعام والأناسي كأنه قال : ليحيي به بعض البلاد الميتة ، ونسقيه بعض الأنعام والأناسي وذلك البعض كثير انتهى.
وقرأ عكرمة { صرَفناه } بتخفيف الراء.
{ ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً } لما علم تعالى ما كابده الرسول من أذى قومه أعلمه أنه تعالى لو أراد لبعث في كل قرية نذيراً فيخفف عنك الأمر ولكنه أعظم أجرك وأجلك إذ جعل إنذارك عاماً للناس كلهم ، وخصك بذلك ليكثر ثوابك لأنه على كثرة المجاهدة يكون الثواب ، وليجمع لك حسنات من آمن بك إذ أنت مؤسسها.

{ فلا تطع الكافرين } يعني كفار قريش فإنهم كانوا استمعوا إليه ورغبوا أن يرجع إلى دين آبائهم ويملكونه عليهم ويجمعون له مالاً عظيماً فنهاه تعالى عن طاعتهم حتى يظهر لهم أنه لا رغبة له في شيء من ذلك ، لكن رغبته في الدعاء إلى الله والإيمان به.
{ وجاهدهم به } أي القرآن أو بالإسلام أو بالسيف أو بترك طاعتهم و { جهاداً } مصدر وصف بكبيراً لأنه يلزمه عليه السلام مجاهدة جميع العالم فهو جهاد كبير.
و { مرج } خلط بينهما أو أفاض أحدهما في الآخر أو أجراهما أقوال ، والظاهر أنه يراد بالبحرين الماء الكثير العذب والماء الكثير الملح.
وقيل : بحران معينان.
فقيل : بحر فارس ، وبحر الروم.
وقيل : بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان في كل عام قاله ابن عباس.
وقال مجاهد : مياه الأنهار الواقعة في البحر الأجاج وهذا قريب من القول الأول.
قال ابن عطية : والمقصد بالآية التنبيه على قدرة الله وإتقان خلقه للأشياء في أن بث في الأرض مياهاً عذبة كثيرة من الأنهار والعيون والآبار وجعلها خلال الأجاج ، وجعل الأجاج خلالها فترى البحر قد اكتنفته المياه العذبة في ضفتيه ويلقى الماء البحر في الجزائر ونحوها قد اكتنفه الماء الأجاج ، والبرزخ والحجر ما حجز بينهما من الأرض والسد قاله الحسن.
ويتمشى هذا على قول من قال أن { مرج } بمعنى أجرى.
وقيل : البرزخ البلاد والقفار فلا يختلفان إلاّ بزوال الحاجز يوم القيامة.
قال الأكثرون : الحاجز مانع من قدرة الله.
قال الزجاج : فهما مختلطان في مرائي العين منفصلان بقدرة الله ، وسواد البصرة ينحدر الماء العذب منه في دجلة نحو البحر ، ويأتي المد من البحر فيلتقيان من غير اختلاط فماء البحر إلى الخضرة الشديدة ، وماء دجلة إلى الحمرة ، فالمستقي يغرف من ماء دجلة عندنا لا يخالطه شيء ونيل مصر في فيضه يشق البحر المالح شقاً بحيث يبقى نهراً جارياً أحمر في وسط المالح ليستقي الناس منه ، وترى المياه قطعاً في وسط البحر المالح فيقولون : هذا ماء ثلج فيسقون منه من وسط البحر.
وقرأ طلحة وقتيبة عن الكسائي { ملح } بفتح الميم وكسر اللام وكذا في فاطر.
قال أبو حاتم وهذا منكر في القراءة.
وقال أبو الفتح أراد مالحاً وحذف الألف كما حذفت من برد أي بارد.
وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح : هي لغة شاذة قليلة.
وقيل : أراد مالح فقصره بحذف الألف فالمالح جائز في صفة الماء لأن الماء يوجد في الضفيان بأن يكون مملوحاً من جهة غيره ، ومالحاً لغيره وإن كان من صفته أن يقال : ماء ملح موصوف بالمصدر أي ماء ذو ملح ، فالوصف بذلك مثل حلف ونضو من الصفات.

قال الزمخشري : فإن قلت : { حجراً محجوراً } ما معناه؟ قلت : هي الكلمة التي يقولها المتعوذ وقد فسرناها وهي ههنا واقعة على سبيل المجاز ، كان كل واحد من البحرين متعوذ من صاحبه ويقول له { حجراً محجوراً } كما قال { لا يبغيان } أي لا يبغي أحدهما على صاحبه بالممازجة ، فانتفاء البغي ثم كالتعوذ ههنا جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه فهو يتعوذ منه وهي من أحسن الاستعارات وأشهدها على البلاغة انتهى.
والظاهر أن { حجراً محجوراً } معطوف على { برزخاً } عطف المفعول على المفعول وكذا أعربه الحوفي ، وعلى ما ذكره الزمخشري يكون ذلك على إضمار القول المجازي أي ، ويقولان أي كل واحد منهما لصاحبه { حجراً محجوراً }.
والظاهر عموم البشر وهم بنو آدم والبشر ينطلق على الواحد والجمع.
وقيل : المراد بالنسب آدم وبالصهر حواء.
وقيل : النسب البنون والصهر البنات و { من الماء } إما النطفة ، وإما أنه أصل خلقة كل حي ، والنسب والصهر يعمان كل قربى بين آدميين ، فالنسب أن يجتمع مع آخر في أب وأم قرب ذلك أو بعد ، والصهر هو نواشج المناكحة.
وقال عليّ بن أبي طالب النسب ما لا يحل نكاحه والصهر قرابة الرضاع.
وعن طاوس : الرضاعة من الصهر.
وعن عليّ : الصهر ما يحل نكاحه والنسب ما لا يحل نكاحه.
وقال الضحاك : الصهر قرابة الرضاع.
وقال ابن سيرين : نزلت في النبيّ صلى الله عليه وسلم وعليّ لأنه جمعه معه نسب وصهر.
قال ابن عطية : فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة.
{ وكان ربك قديراً } حيث خلق من النطفة الواحدة بشراً نوعين ذكراً وأنثى.
ولما ذكر دلائل قدرته وما امتن به على عباده من غرائب مصنوعاته ثبت بذلك أنه المستحق للعبادة لنفعه وضره بين فساد عقول المشركين حيث يعبدون الأصنام.
والظاهر أن { الكافر } اسم جنس فيعم.
وقيل : هو أبو جهل والآية نزلت فيه.
وقال عكرمة { الكافر } هنا إبليس والظهير والمظاهر كالمعين والمعاون قاله مجاهد والحسن وابن زيد ، وفعيل بمعنى مفاعل كثير والمعنى أن { الكافر } يعاون الشيطان على ربه بالعداوة والشريك.
وقيل : معناه وكان الذي يفعل هذا الفعل وهو عبادة ما لا ينفع ولا يضر على ربه هيناً مهيناً من قولهم : ظهرت به إذا خلفته خلف ظهرك لا يلتفت إليه ، وهذا نحو قوله { أولئك لا خلاق لهم } الآية قاله الطبري.
وقيل : { على ربه } أي معيناً على أولياء الله.
وقيل : معيناً للمشركين على أن لا يوحد الله.
{ وما أرسلناك إلاّ مبشراً ونذيراً } سلّي نبيه بذلك أي لا تهتم بهم ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ، وإنما أنت رسول تبشر المؤمنين بالجنة وتنذر الكفرة بالنار ، ولست بمطلوب بإيمانهم أجمعين.
ثم أمره تعالى أن يحتج عليهم مزيلاً لوجوه التهم بقوله { قل لا أسألكم عليه من أجر } أي لا أطلب مالاً ولا نفعاً يختص بي.

والضمير في { عليه } عائد على التبشير والإنذار ، أو على القرآن ، أو على إبلاغ الرسالة أقوال.
والظاهر في { إلاّ من شاء } أنه استثناء منقطع وقاله الجمهور.
فعلى هذا قيل بعباده { لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً } فليفعل.
وقيل : لكن من أنفق في سبيل الله ومجاهدة أعدائه فهو مسؤولي.
وقيل : هو متصل على حذف مضاف تقديره : إلاّ أجر من اتخذ إلى ربه سبيلاً أي إلاّ أجر من آمن أي الأجر الحاصل لي على دعائه إلى الإيمان وقبوله ، لأنه تعالى يأجرني على ذلك.
وقيل : إلاّ أجر من آمن من يعني بالأجرة الإنفاق في سبيل الله أي لا أسألكم أجراً إلاّ الإنفاق في سبيل الله ، فجعل الإنفاق أجراً.
ولما أخبر أنه فطم نفسه عن سؤالهم شيئاً أمره تعالى تفويض أمره إليه وثقته به واعتماده عليه فهو المتكفل بنصره وإظهار دينه.
ووصف تعالى نفسه بالصفة التي تقتضي التوكل في قوله { الحي الذي لا يموت } لأن هذا المعنى يختص به تعالى دون كل حي كما قال { كل شيء هالك إلاّ وجهه } وقرأ بعض السلف هذه الآية فقال : لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق ، ثم أمره بتنزيهه وتمجيده مقروناً بالثناء عليه لأن التنزيه محله اعتقاد القلب والمدح محله اللسان الموافق للأعتقاد.
وفي الحديث : « من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر.
وهي الكلمتان الخفيفتان على اللسان الثقيلتان في الميزان ».
{ وكفى به بذنوب عباده خبيراً } أراد أنه ليس إليه من أمور عباده شيء آمنوا أم كفروا ، وأنه خبير بأحوالهم كاف في جزاء أعمالهم.
وفي هذه الجملة تسلية للرسول ووعيد للكافر.
وفي بعض الأخبار كفى بك ظَفراً أن يكون عدوك عاصياً وهي كلمة يراد بها المبالغة تقول : كفى بالعلم جمالاً.
وكفى بالأدب مالاً ، أي حسبك لا تحتاج معه إلى غيره لأنه خبير بأحوالهم قادر على مكافأتهم.
ولما أمره بالتوكل والتسبيح وذكر صفة الحياة الدائمة ذكر ما دل على القدرة التامة وهو إيجاد هذا العالم.
وتقدم الكلام في نظير هذا الكلام واحتمل { الذي } أن يكون صفة للحي الذي لا يموت.
ويتعين على قراءة زيد بن عليّ { الرحمن } بالجر وأما على قراءة الجمهور { الرحمن } بالرفع فإنه يحتمل أن يكون { الذي } صفة للحي و { الرحمن } خبر مبتدأ محذوف.
ويحتمل أن يكون { الذي } مبتدأ و { الرحمن } خبره.
وأن يكون { الذي } خبر مبتدأ محذوف ، و { الرحمن } صفة له.
أو يكون { الذي } منصوباً على إضمار أعني ويجوز على مذهب الأخفش أن يكون { الرحمن } مبتدأ.
و { فاسأل } خبره تخريجه على حد قول الشاعر :
وقائلة خولان فانكح فتاتهم . . .
وجوزوا أيضاً في { الرحمن } أن يكون بدلاً من الضمير المستكن في { استوى }.

والظاهر تعلق به بقوله { فاسال } وبقاء الباء غير مضمنة معنى عن.
و { خبيراً } من صفات الله كما تقول : لقيت بزيد أسداً ولقيت بزيد البحر ، تريد أنه هو الأسد شجاعة ، والبحر كرماً.
والمعنى أنه تعالى اللطيف العالم الخبير والمعنى { فاسأل } الله الخبير بالأشياء العالم بحقائقها.
وقال ابن عطية : و { خبيراً } على هذا منصوب إما بوقوع السؤال ، وإما على الحال المؤكدة.
كما قال { وهو الحق مصدقاً } وليست هذه الحال منتقلة إذا الصفة العلية لا تتغير انتهى.
وبني هذا الإعراب على أنه كما تقول : لو لقيت فلاناً للقيت به البحر كرماً أي لقيت منه.
والمعنى { فاسأل الله } عن كل أمر وكونه منصوباً على الحال المؤكدة على هذا التقدير لا يصح إنما يصح أن يكون مفعولاً به ، ويجوز أن تكون الباء بمعنى عن ، أي { فاسأل } عنه { خبيراً } كما قال الشاعر :
فإن تسألوني بالنساء فإنني . . .
بصير بأدواء النساء طبيب
وهو قول الأخفش والزجاج.
ويكون { خبيراً } ليس من صفات الله هنا ، كأنه قيل : اسأل عن الرحمن الخبراء جبريل والعلماء وأهل الكتب المنزلة ، وإن جعلت { به } متعلقاً بخبيراً كان المعنى { فاسأل } عن الله الخبراء به.
وقال الكلبي معناه { فاسأل } خبيراً به و { به } يعود إلى ما ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش ، وذلك الخبير هو الله تعالى لأنه لا دليل في العقل على كيفية خلق ذلك فلا يعلمها إلاّ الله.
وعن ابن عباس : الخبير جبريل وقدم لرؤوس الآي.
وقال الزمخشري : الباء في { به } صلة سل كقوله { سأل سائل بعذاب } كما يكون عن صلته في نحو { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } أو صلة { خبيراً } به فتجعل { خبيراً } مفعولاً أي ، فسل عنه رجلاً عارفاً يخبرك برحمته ، أو فسل رجلاً خبيراً به وبرحمته ، أو فسل بسؤاله خبيراً.
كقولك ، رأيت به أسداً أي رأيت برؤيته ، والمعنى إن سألته وجدته خبيراً بجعله حالاً عن به تريد فسل عنه عالماً بكل شيء.
وقيل : { الرحمن } اسم من أسماء الله مذكور في الكتب المتقدمة ولم يكونوا يعرفونه.
فقيل : فسل بهذا الاسم من يخبرك من أهل الكتاب حتى يعرف من ينكره ومن ثم كانوا يقولون : ما نعرف الرحمن إلاّ الذي في اليمامة يعنون مسيلمة ، وكان يقال له رحمن اليمامة انتهى.
{ وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن } وكانت قريش لا تعرف هذا في أسماء الله غالطت قريش بذلك فقالت : إن محمداً يأمرنا بعبادة رحمن اليمامة نزلت { وإذا قيل لهم } و { ما } سؤال عن المجهول ، فيجوز أن يكون سؤالاً عن المسمى به لأنهم ما كانوا يعرفونه بهذا الاسم ، ويجوز أن يكون سؤالاً عن معناه لأنه لم يكن مستعملاً في كلامهم كما يستعمل الرحيم والرحوم والراحم ، أو لأنهم أنكروا إطلاقه على الله قاله الزمخشري.
والذي يظهر أنهم لما قيل لهم { اسجدوا للرحمن } فذكرت الصفة المقتضية للمبالغة في الرحمة والكلمة عربية لا ينكر وضعها ، أظهروا التجاهل بهذه الصفة التي لله مغالطة منهم ووقاحة فقالوا : { وما الرحمن } وهم عارفون به وبصفته الرحمانية ، وهذا كما قال فروعون

{ وما رب العالمين } حين قال له موسى : { إني رسول من رب العالمين } على سبيل المناكرة وهو عالم برب العالمين.
كما قال موسى { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلاّ رب السموات والأرض بصائر } فكذلك كفار قريش استفهموا عن { الرحمن } استفهام من يجهله وهم عالمون به ، فعلى قول من قال : لم يكونوا يعرفون { الرحمن } إلاّ مسيلمة وعلى قول من قال : من لا يعرفون الرحمن إلاّ مسيلمة.
فالمعنى أنسجد لمسيلمة وعلى قول من قال : لا يعرفون { الرحمن } بالكلية فالمعنى { أنسجد لما تأمرنا } من غير علم ببيانه.
والقائل { اسجدوا } الرسول أو الله على لسان رسوله.
وقرأ ابن مسعود والأسود بن يزيد وحمزة والكسائي يأمر بالياء من تحت أي يأمرنا محمد ، والكناية عنه أو المسمى { الرحمن } ولا نعرفه.
وقرأ باقي السبعة بالتاء خطاباً للرسول.
ومفعول { تأمرنا } الثاني محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره يأمرنا سجوده نحو قولهم : أمرتك الخير.
{ وزادهم } أي هذا القول وهو الأمر بالسجود للرحمن { زادهم } ضلالاً يختص به مع ضلالهم السابق ، وكان حقه أن يكون باعثاً على فعلي السجود والقبول.
وقال الضحاك : سجد أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وعثمان بن مظعون وعمرو ابن غلسة ، فرآهم المشركون فأخذوا في ناحية المسجد يستهزئون ، فهذا المراد بقوله { وزادهم نفوراً } ومعنى { نفوراً } فراراً.

تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)

لما جعلت قريش سؤالها عن اسمه الذي هو الرحمن سؤالاً عن مجهول نزلت هذه الآية مصرحة بصفاته التي تعرف به وتوجب الإقرار بألوهيته.
ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنه خلق السموات والأرض وما بينهما ، ووصف نفسه بالرحمن ، وسألوا هم فيه عما وضع في السماء من النيرات وما صرف من حال الليل والنهار لبادروا بالسجود والعبادة للرحمن ، ثم نبههم على مالهم به اعتناء تام من رصد الكواكب وأحوالها ووضع أسماء لها.
والظاهر أن المراد بالبروج المعروفة عند العرب وهي منازل الكواكب السيارة وهي الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت.
سميت بذلك لشبهها بما شبهت به.
وسميت بالبروج التي هي القصور العالية لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها واشتقاق البرج من التبرج لظهوره.
وقيل : البروج هنا القصور في الجنة.
قال الأعمش.
وكان أصحاب عبد الله يقرؤونها { في السماء } قصوراً.
وقال أبو صالح : البروج هنا الكواكب العظام.
قال ابن عطية : والقول بأنها قصور في الجنة تحط من غرض الآية في التنبيه على أشياء مدركات تقوم بها الحجة على كل منكر لله أو جاهل.
والضمير في { فيها } الظاهر أنه عائد على { السماء }.
وقيل : على البروج ، فالمعنى وجعل في جملتها { سراجاً }.
وقرأ الجمهور { سراجاً } على الإفراد وهو الشمس.
وقرأ عبد الله وعلقمة والأعمش والأخوان سُرُجاً بالجمع مضموم الراء وهو يجمع الأنوار ، فيكون خص القمر بالذكر تشريفاً.
وقرأ الأعمش أيضاً والنخعي وابن وثاب كذلك بسكون الراء.
وقرأ الحسن والأعمش والنخعي وعصمة عن عاصم { وقُمراً } بضم القاء وسكون الميم فالظاهر أنه لغة في القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب.
وقيل : جمع قمراء أي ليلة قمراء كأنه قال : وذا قمر منير لأن الليلة تكون قمراء بالقمر ، فأضافه إليها ونظيره في بقاء حكم المضاف بعد سقوطه وقيام المضاف إليه مقامه قول حسان :
بردى يصفق بالرحيق السلسل . . .
يريد ماء بردى.
فمنيراً وصف لذلك المحذوف كما قال يصفق بالياء من تحت ، ولو لم يراع المضاف لقال : تصفق بالتاء وقال { منيراً } أي مضيئاً ولم يجعله { سراجاً } كالشمس لأنه لا توقد له.
وانتصب { خلفة } على الحال.
فقيل : هو مصدر خلف خلفة.
وقيل : هو اسم هيئة كالركبة ووقع حالاً اسم الهيئة في قولهم : مررت بماء قعدة رجل ، وهي الحالة التي يخلف عليها الليل والنهار كل واحد منهما الآخر.
والمعنى جعلهما ذوي خلفة أي ذوي عقبة يعقب هذا ذاك وذاك هذا ، ويقال الليل والنهار يختلفان كما يقال يعتقبان ومنه قوله { واختلاف الليل والنهار } ويقال : بفلان خلفة واختلاف إذا اختلف كثيراً إلى متبرزه ومن هذا المعنى قول زهير :
بها العيس والآرام يمشين خلفة . . .
وقول الآخر

يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأباً :
ولها بالما طرون إذا . . .
أكل النمل الذي جمعا
خلفة حتى إذا ارتفعت . . .
سكنت من جلق بيعا
في بيوت وسط دسكرة . . .
حولها الزيتون قد ينعا
وقيل { خلفة } في الزيادة والنقصان.
وقال مجاهد وقتادة والكسائي : هذا أسود وهذا أبيض وهذا طويل وهذا قصير.
{ لمن أراد أن يذكر }.
قال عمر وابن عباس والحسن : معناه { لمن أراد أن يذكر } ما فاته من الخير والصلاة ونحوه في أحدهما فيستدركه في الذي يليه.
وقال مجاهد وغيره : أي يعتبر بالمصنوعات ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم.
وقال الزمخشري : وعن أُبي بن كعب يتذكر والمعنى.
لينظر في اختلافهما الناظر فيعلم أن لا بد لانتقالهما من حال إلى حال وتغيرهما من نافل ومغير ، ويستدل بذلك على عظم قدرته ويشكر الشاكر على النعمة من السكون بالليل والتصرف بالنهار كما قال تعالى : { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله } وليكونا وقتين للمتذكر والشاكر من فاته في أحدهما ورده من العبادة أتى به في الآخر.
وقرأ النخعي وابن وثاب وزيد بن عليّ وطلحة وحمزة تذكر مضارع ذكر خفيفاً.
ولما تقدم ذكر الكفار وذمهم جاء { لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً } ذكر أحوال المؤمنين المتذكرين الشاكرين فقال : { وعباد الرحمن } وهذه إضافة تشريف وتفضل ، وهو جمع عبد.
وقال ابن بحر : جمع عابد كصاحب وصحاب ، وتاجر وتجار ، وراجل ورجال ، أي الذين يعبدونه حق عبادته.
والظاهر أن { وعباد } مبتدأ و { الذين يمشون } الخبر.
وقيل : أولئك الخبر و { الذين } صفة ، وقوم من عبد القيس يسمون العباد لأن كسرى ملكهم دون العرب.
وقيل : لأنهم تألهوا مع نصارى الحيرة فصاروا عباد الله.
وقرأ اليماني : وعباد جمع عابد كضارب وضراب.
وقرأ الحسن : وعُبَدُ بضم العين والباء.
وقرأ السلمي واليماني { يُمشّون } مبنياً للمفعول مشدداً.
والهون : الرفق واللين.
وانتصب { هوناً } على أنه نعت لمصدر محذوف أي مشياً هوناً أو على الحال ، أي يشمون هينين في تؤدة وسكينة وحسن سمت لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشراً وبطراً ، ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق.
وقال مجاهد : بالحلم والوقار.
وقال ابن عباس : بالطاعة والعفاف والتواضع.
وقال الحسن : حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا.
وقال ابن عطية { هوناً } عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم ، فذكر من ذلك المعظم لا سيما وفي الانتقال في الأرض هي معاشرة الناس وخلطتهم ثم قال { هوناً } بمعنى أمره هون أي ليس بخشن ، وذهبت فرقة إلى أن { هوناً } مرتبط بقوله { يمشون على الأرض } أي إن المشي هو الهون ، ويشبه أن يتأول هذا على أن يكون أخلاق ذلك الماشي { هوناً } مناسبة لمشيه فيرجع القول إلى نحو ما بينّا ، وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل ، لأن رب ماش { هوناً } رويداً وهو ذنب أطلس.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفأ في مشيه كأنما يمشي في صبب.
وهو عليه السلام الصدر في هذه الآية وقوله عليه السلام : « من مشى منكم في طمع فليمش رويداً » أراد في عمر نفسه ولم يرد المشي وحده ألا ترى أن المبطلين المتحلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط حتى قال فيهم الشاعر :
كلهم يمشي رويدا . . .
كلهم يطلب صيدا
وقال الزهري : سرعة المشي تذهب ببهاء الوجه ، يريد الإسراع الخفيف لأنه يخل بالوقار والخير في التوسط.
وقال زيد بن أسلم : أنه رأى في النوم من فسر له { الذين يمشون على الأرض هوناً } بأنهم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض.
وقال عياض بن موسى : كان عليه السلام يرفع في مشيه رجليه بسرعة وعَدْوِ خطوة خلاف مشية المختال ، ويقصد سمته وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة كما قال : « إنما ينحط من صبب » وكان عمر يسرع جبلة لا تكلفاً.
{ وإذا خاطبهم الجاهلون } أي مما لا يسوغ الخطاب به { قالوا سلاماً } أي سلام توديع لا تحية كقول إبراهيم عليه السلام لأبيه { سلام عليك } قاله الأصم.
وقال مجاهد : قولاً سديداً فهو منصوب بقالوا.
وقيل : هو على إضمار فعل تقديره سلمنا { سلاماً } فهو جزء من متعلق الجملة المحكية.
قال ابن عطية : والذي أقوله أن { قالوا } هو العامل في { سلاماً } لأن المعنى قالوا هذا اللفظ.
وقال الزمخشري : تسلماً منكم فأقيم السلام مقام التسليم.
وقيل : قالوا سداداً من القول يسلمون فيه من الأذى والإثم والمراد بالجهل السفه وقلة الأدب وسوء الرغبة من قوله :
ألا لا يجهلن أحد علينا . . .
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
انتهى.
وقال الكلبي : وأبو العالية نسختها آية القتال.
وقال ابن عطية : وهذه الآية كانت قبل آية السيف فنسخ منها ما يخص الكفرة وبقي حكمها في المسلمين إلى يوم القيامة ، وذكره سيبويه في هذه الآية في كتابه وما تكلم على نسخ سواه.
ورجح به أنه المراد السلامة لا التسليم لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالسلام على الكفرة ، والآية مكية فنسختها آية السيف.
وفي التاريخ ما معناه أن إبراهيم بن المهدي كان منحرفاً عن عليّ بن أبي طالب فرآه في النوم قد تقدمه إلى عبور قنطرة ، فقال له : إنما تَدَّعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك ، وكان حكى ذلك للمأمون قال : فما رأيت له بلاغة في الجواب كما يذكر عنه فقال له المأمون : فما أجابك به؟ قال : كان يقول لي سلاماً سلاماً ، فنبهه المأمون على هذه الآية وقال : يا عم قد أجابك بأبلغ جواب.
فخزي إبراهيم واستحيا ، وكان إبراهيم لم يحفظ الآية أو ذهب عنه حالة الحكاية.

والبيتوتة هو أن يدرك الليل نمت أو لم تنم ، وهو خلاف الظلول وبجيلة وأزد السراة يقولون : بيات وسائر العرب يقولون : يبيت ، ولما ذكر حالهم بالنهار بأنهم يتصرفون أحسن تصرف ذكر حالهم بالليل والظاهر أنه يعنى إحياء الليل بالصلاة أو أكثره.
وقيل : من قرأ شيئاً من القرآن بالليل في صلاة فقد بات ساجداً وقائماً.
وقيل : هما الركعتان بعد المغرب ، والركعتان بعد العشاء.
وقيل : من شفع وأوتر بعد أن صلى العشاء فقد دخل في هذه الآية.
وفي هذه الآية حض على قيام الليل في الصلاة.
وقدم السجود وإن كان متأخراً في الفعل لأجل الفواصل ، ولفضل السجود فإنها حالة أقرب ما يكون العبد فيها من الله.
وقرأ أبو البرهثيم : سجوداً على وزن قعوداً.
ومدحهم تعالى بدعائه أن يصرف عنهم عذاب جهنم وفيه تحقيق إيمانهم بالبعث والجزاء.
قال ابن عباس : { غراماً } فظيعاً وجيعاً.
وقال الخدري : لازماً ملحّاً دائماً.
قال الحسن : كل غريم يفارق غريمه إلاّ غريم جهنّم.
وقال السدّي : شديداً.
وأنشدوا على أن { غراماً } لازماً قوله الشاعر وهو بشر بن أبي حاتم :
ويوم اليسار ويوم الجفار . . .
كانا عذاباً وكانا غراماً
وقال الأعشى :
إن يعاقب يكن غراماً . . .
وإن يعط جزيلاً فإنه لا يبالي
وصفهم بإحياء الليل ساجدين ثم عقبه بذكر دعائهم هذا إيذاناً بأنهم مع اجتهادهم خائفون يبتهلون إلى الله في صرف العذاب عنهم.
و { ساءت } احتمل أن يكون بمعنى بئست.
والمخصوص بالذم محذوف وفي { ساءت } ضمير مبهم ويتعين أن يكون { مستقراً ومقاماً } تمييز.
والتقدير { ساءت مستقراً ومقاماً } هي وهذا المخصوص بالذم هو رابط الجملة الواقعة خبراً لأن.
ويجوز أن يكون { ساءت } بمعن أحزنت فيكون المفعول محذوفاً أي ساءتهم.
والفاعل ضمير جهنم وجاز في { مستقراً ومقاماً } أن يكونا تمييزين وأن يكونا حالين قد عطف أحدهما على الآخر.
والظاهر أن التعليلين غير مترادفين ذكر أولاً لزوم عذابها ، وثانياً مساءة مكانها وهما متغايران وإن كان يلزم من لزوم العذاب في مكان دم ذلك المكان.
وقيل : هما مترادفان ، والظاهر أنه من كلام الداعين وحكاية لقولهم.
وقيل : هو من كلام الله ، ويظهر أن قوله { ومقاماً } معطوف على سبيل التوكيد لأن الاستقرار والإقامة كأنهما مترادفان.
وقيل : المستقر للعصاة من أهل الإيمان فإنهم يستقرون فيها ولا يقيمون ، والإقامة للكفار.
وقرأت فرقة { ومَقاماً } بفتح الميم أي مكان قيام ، والجمهور بالضم أي مكان إقامة.
{ لم يسرفوا } ولم يقتروا.
قال أبو عبد الرحمن الجيلي : الإنفاق في غير طاعة إسراف ، والإمساك عن طاعة إقتار.
وقال معناه ابن عباس ومجاهد وابن زيد.
وسمع رجل رجلاً يقول : لا خير في الإسراف فقال : لا إسراف في الخير.
وقال عون بن عبد الله بن عتبة : الإسراف أن تنفق مال غيرك.
وقال النخعي : هو الذي لا يجيع ولا يُعَرِّي ولا ينفق نفقة يقول : الناس قد أسرف.

وقال يزيد بن أبي حبيب : هم الذين لا يلبسون الثياب للجمال ولا يأكلون طعاماً للّذة وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة : ما نفقتك؟ قال له عمر : الحسنة بين السيئتين.
ثم تلا الآية.
والإسراف مجاوزة الحد في النفقة والقتر التضييق الذي هو نقيض الإسراف.
وعن أنس في سنن ابن ماجة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن من السرف أن تأكل ما اشتهيته » وقال الشاعر :
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد . . .
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال آخر
إذا المرء أعطى نفسه كلما اشتهت . . .
ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار بالذي . . .
دعته إليه من حلاوة عاجل
وقال حاتم
إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله . . .
وفرج نالا منتهى الذم أجمعا
وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وعاصم : يقترون بفتح الياء وضم التاء ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء وكسر التاء ونافع ، وابن عامر بضم الياء وكسر التاء مشددة وكلها لغات في التضييق.
وأنكر أبو حاتم لغة أقتر رباعياً هنا.
وقال أقتر إذا افتقر.
ومنه { وعلى المقتر قدره } وغاب عنه ما حكاه الأصمعي وغيره : من اقتر بمعنى ضيق ، والقوام الاعتدال بين الحالتين.
وقرأ حسان بن عبد الرحمن { قواماً } بالكسر.
فقيل : هما لغتان بمعنى واحد.
وقيل : بالكسر ما يقام به الشيء يقال : أنت قوامنا بمعنى ما تقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص.
وقيل : { قواماً } بالكسر مبلغاً وسداداً وملاك حال ، و { وبين ذلك } و { قواماً } يصح أن يكونا خبرين عند من يجيز تعداد خبر { كان } وأن يكون { بين } هو الخبر و { قواماً } حال مؤكدة ، وأن يكون { قواماً } خبراً و { بين ذلك } إما معمول لكان على مذهب من يرى أن كان الناقصة تعمل في الظرف ، وأن يكون حالاً من { قواماً } لأنه لو تأخر لكان صفة ، وأجاز الفراء أن يكون { بين ذلك } اسم { كان } وبُني لإضافته إلى مبني كقوله { ومن خزي يومئذ } في قراءة من فتح الميم و { قواماً } الخبر.
قال الزمخشري : وهو من جهة الإعراب لا بأس به ، ولكن المعنى ليس بقوي لأن ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة انتهى.
وصفهم تعالى بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير ، وبمثله خوطب الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله { ولا تجعل يدك مغلولة } الآية.
{ والذين لا يدعون } الآية سأل ابن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ فقال : « أن تجعل لله نداً وهو خلقك » قال : ثم أي؟ قال : « أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك » قال : ثم أي؟ قال :

« أن تزاني حليلة جارك » فأنزل الله تصديقها { والذين لا يدعون } الآية.
وقيل : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركون قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ، فقالوا : إن الذين تقول وتدعو إليه لحسن ، أو تخبرنا أن لما علمنا كفارة فنزلت إلى { غفوراً رحيماً }.
وقيل : نزولها قصة وحشي في إسلامه في حديث طويل.
قال الزمخشري : نفي هذه التقبيحات العظام عن الموصوفين بتلك الخلال العظيمة في الدين للتعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين من قريش وغيرهم ، كأنه قيل : والذين برأهم الله وطهرهم مما أنتم عليه.
وقال ابن عطية : إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرة في عبادتهم الأوثان وقتلهم النفس بوأد البنات وغير ذلك من الظلم والاغتيال والغارات وبالزنا الذي كان عندهم مباحاً انتهى.
وتقدم تفسير نظير { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلاّ بالحق } في سورة الأنعام.
وقرىء { يُلق } بضم الياء وفتح اللام والقاف مشددة وابن مسعود وأبو رجاء يلقى بألف ، كان نوى حذف الضمة المقدرة على الألف فأقر الألف.
والآثام في اللغة العقاب وهو جزاء الإثم.
قال الشاعر :
جزى الله ابن عروة حيث أمسى . . .
عقوق والعقوق له آثام
أي حد وعقوبة وبه فسره قتادة وابن زيد.
وقال عبد الله بن عمرو ومجاهد وعكرمة وابن جبير : آثام واد في جهنم هذا اسمه جعله الله عقاباً للكفرة.
وقال أبو مسلم : الآثام الإثم ، ومعناه { يلق } جزاء آثام ، فأطلق اسم الشيء على جزائه.
وقال الحسن : الآثام اسم من أسماء جهنم.
وقيل : بئر فيها.
وقيل : جبل.
وقرأ ابن مسعود : يلق أياماً جمع يوم يعني شدائد.
يقال : يوم ذو أيام لليوم العصيب.
وذلك في قوله { ومن يفعل ذلك } يظهر أنه إشارة إلى المجموع من دعاء إله وقتل النفس بغير حق والزنا ، فيكون التضعيف مرتباً على مجموع هذه المعاصي ، ولا يلزم ذلك التضعيف على كل واحد منها.
ولا شك أن عذاب الكفار يتفاوت بحسب جرائمهم.
وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي { يُضاعف له العذاب } مبنياً للمفعول وبألف { ويخلد } مبنياً للفاعل.
والحسن وأبو جعفر وابن كثير كذلك إلاّ أنهم شددوا العين وطرحوا الألف.
وقرأ أبو جعفر أيضاً وشيبة وطلحة بن سليمان نضعف بالنون مضمومة وكسر العين مشددة { العذاب } نصب.
وطلحة بن مصرف { يضاعف } بالياء مبنياً للفاعل { العذاب } نصب.
وقرأ طلحة بن سليمان وتخلد بتاء الخطاب على الالتفات مرفوعاً أي وتخلد أيها الكافر.
وقرأ أبو حيوة { ويُخلد } مبنياً للمفعول مشدد اللام مجزوماً.
ورويت عن أبي عمرو وعنه كذلك مخففاً.
وقرأ أبو بكر عن عاصم { يضاعف } { ويخلد } بالرفع عنهما وكذا ابن عامر والمفضل عن عاصم { يضاعف } { ويخلد } مبنياً للمفعول مرفوعاً مخففاً.
والأعمش بضم الياء مبنياً للمفعول مرفوعاً مخففاً.
والأعمش بضم الياء مبنياً للمفعول مشدداً مرفوعاً فالرفع على الاستئناف أو الحال والجزم على البدل من { يلق }.

كما قال الشاعر :
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا . . .
تجد حطباً جزلاً وناراً تأججاً
والضمير في { فيه } عائد على العذاب ، والظاهر أن توبة المسلم القاتل النفس بغير حق مقبولة خلافاً لابن عباس ، وتقدم ذلك في النساء وتبديل سيئاتهم حسنات هو جعل أعمالهم بدل معاصيهم الأول طاعة ويكون ذلك سبب رحمة الله إياهم قاله ابن عباس.
وابن جبير والحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد وردوا على من قال هو في يوم القيامة.
وقال الزجاج : السيئة بعينها لا تصير حسنة ، ولكن السيئة تُمْحَى بالتوبة وتكتب الحسنة مع التوبة ، والكافر يحبط عملة وتثبت عليه السيئات.
وتأول ابن مسيب ومكحول أن ذلك يوم القيامة وهو بمعنى كرم العفو.
وفي كتاب مسلم إن الله يبدل يوم القيامة لمن يريد المغفرة له من الموحدين بدل سيئات حسنات.
وقالا تُمحى السيئة ويثبت بدلها حسنة.
وقال القفال والقاضي : يبدل العقاب بالثواب فذكرهما وأراد ما يستحق بهما.
{ إلاّ من تاب } استثناء متصل من الجنس ، ولا يظهر لأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه { يضاعف له العذاب } فيصير التقدير { إلاّ من تاب وعمل عملاً صالحاً } فلا يضاعف له العذاب.
ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف فالأولى عندي أن يكون استثناء منقطعاً أي لكن من تاب وآمن عمل صالحاً { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } وإذا كان كذلك فلا يلقى عذاباً ألبتة و { سيئاتهم } هو المفعول الثاني ، وهو أصله أن يكون مقيداً بحرف الجر أي بسيئاتهم.
و { حسنات } هو المفعول الأول وهو المصرح كما قال تعالى { وبدلناهم بجنتيهم جنتين } وقال الشاعر :
تضحك مني أخت ذات النحيين . . .
أبدلك لله بلون لونين
سواد وجه وبياض عينين . . .
الظاهر أن { ومن تاب } أي أنشأ التوبة فإنه يتوب إلى الله أي يرجع إلى ثوابه وإحسانه.
قال ابن عطية { ومن تاب } فإنه قد تمسك بأمر وئيق.
كما تقول لمن يستحسن قوله في أمر : لقد قلت يا فلان قولاً فكذلك الآية معناها مدح المتاب ، كأنه قال : فإنه يجد الفرج والمغفرة عظيماً.
وقال الزمخشري : ومن يترك المعاصي ويندم عليها ويدخل في العمل الصالح فإن بذلك تائب إلى الله الذي يعرف حق التائبين ، ويفعل بهم ما يستوجبون ، والله يحب التوّابين ويحب المتطهرين.
وقيل : من عزم على التوبة فإنه يتوب إلى الله فليبادر إليها ويتوجه بها إلى الله.
وقيل { من تاب } من ذنوبه فإنه يتوب إلى من يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.
وقيل : { ومن تاب } استقام على التوبة فإنه يتوب إلى الله أي فهو التائب حقاً عند الله.
{ والذين لا يشهدون الزور } عاد إلى ذكر أوصاف { عباد الرحمن } والظاهر أن المعنى لا يشهدون بالزور أو شهادة الزور ، قاله عليّ والباقر فهو من الشهادة.
وقيل : المعنى لا يحضرون من المشاهدة والزور الشرك والصنم أو الكذب أو آلة الغناء أو أعياد النصارى.

أو لعبة كانت في الجاهلية أو النوح أو مجالس يعاب فيها الصالحون ، أقوال.
فالشرك قاله الضحاك وابن زيد ، والغناء قاله مجاهد ، والكذب قاله ابن جريج.
وفي الكشاف عن قتادة مجالس الباطل.
وعن ابن الحنفية : اللهو والغناء.
وعن مجاهد : أعياد المشركين و { اللغو } كل ما ينبغي أن يُلغى ويُطرح.
والمعنى { وإذا مروا } بأهل اللغو { مروا } معرضين عنهم مكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم.
والخوض معهم لقوله { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه } انتهى.
{ بآيات ربهم } هي القرآن.
{ لم يخروا عليها صماً وعمياناً } النفي متوجه إلى القيد الذي هو صم وعميان لا للخرور الداخل عليه ، وهذا الأكثر في لسان العرب أن النفي يتسلط على القيد ، والمعنى أنهم إذا ذكروا بها أَكَبّوا عليها حرصاً على استماعها ، وأقبلوا على المذكر بها بآذان واعية وأعين راعية ، بخلاف غيرهم من المنافقين وأشباههم ، فإنهم إذا ذكروا بها كانوا مكبين عليها مقبلين على من يذكر بها في ظاهر الأمر ، وكانوا { صماً وعمياناً } حيث لا يعونها ولا يتبصرون ما فيها.
قال ابن عطية : بل يكون خرورهم سجَّداً وبكياً كما تقول : لم يخرج زيد إلى الحرب جزعاً أي إنما خرج جريئاً معدماً ، وكان المسمع المذكر قائم القناة قويم الأمر فإذا أعرض كان ذلك خروراً وهو السقوط على غير نظام وترتيب ، وإن كان قد أشبه الذي يَخّر ساجداً لكن أصله أنه على غير ترتيب انتهى.
وقال السدّي { لم يخروا } { صماً وعمياناً } هي صفة للكفار ، وهي عبارة عن إعراضهم وجهدهم في ذلك.
وقرن ذلك بقولك : قعد فلان يتمنى ، وقام فلان يبكي ، وأنت لم تقصد الإخبار بقعود ولا قيام وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة.
{ قرة أعين } كناية عن السرور والفرح ، وهو مأخوذ من القر وهو البرد.
يقال : دمع السرور بارد ، ودمع الحزن سخن ، ويقال : أقر الله عينك ، وأسخن الله عين العدو.
وقال أبو تمام :
فأما عيون العاشقين فأسخنت . . .
وأما عيون الشامتين فقرت
وقيل : مأخوذ من القرار أي يقر النظر به ولا ينظر إلى غيره.
وقال أبو عمرو : وقرة العين النوم أي آمناً لأن الأمن لا يأتي مع الخوف حكاه القفال ، وقرة العين فيمن ذكروا رؤيتهم مطيعين لله قاله ابن عباس والحسن وحضرمي كانوا في أول الإسلام يهتدي الأب والابن كافر والزوج والزوجة كافرة ، وكانت قرة عيونهم في إيمان أحبابهم.
وقال ابن عباس : قرة عين الولدان تراه يكتب الفقه والظاهر أنهم دعوا بذلك ليجابوا في الدنيا فيسروا بهم.
وقيل : سألوا أن يلحق الله بهم أولئك في الجنة ليتم لهم سرورهم انتهى.
ويتضمن هذا القول الأول الذي هو في الدنيا لأن ذلك نتيجة إيمانهم في الدنيا.
ومن الظاهر أنها لابتداء الغاية أي { هب لنا } من جهتهم ما تقربه عيوننا من طاعة وصلاح ، وجوز أن تكون للبيان قاله الزمخشري قال : كأنه قيل { هب لنا } { قرة أعين } ثم بينت القرة وفسرت بقوله { من أزواجنا وذريتنا } ومعناه أن يجعلهم الله لهم قرة أعين من قولك : رأيت منك أسداً أي أنت أسد انتهى.

وتقدم لنا أن { من } التي لبيان الجنس لا بد أن تتقدم المبين.
ثم يأتي بمن البيانية وهذا على مذهب من أثبت أنها تكون لبيان الجنس.
والصحيح أن هذا المعنى ليس بثابت لمن.
وقرأ ابن عامر والحرميان وحفص وذرياتنا على الجمع وباقي السبعة وطلحة على الإفراد.
وقرأ عبد الله وأبو الدرداء وأبو هريرة قرات على الجمع ، والجمهور على الإفراد.
ونكرت القرة لتنكير الأعين كأنه قال هب لنا منهم سروراً وفرحاً وجاء { أعين } بصيغة جمع القلة دون عيون الذي هو صيغة جمع الكثرة لأنه أريد أعين المتقين وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم قاله الزمخشري.
وليس بجيد لأن أعين تنطلق على العشرة فما دونه من الجمع ، والمتقون ليست أعينهم عشرة بل هي عيون كثيرة جداً وإن كانت عيونهم قليلة بالنسبة إلي عيون غيرهم فهي من الكثرة بحيث تفوت العد.
وأفرد { إماماً } إما اكتفاء بالواحد عن الجمع ، وحسنه كونه فاصلة ويدل على الجنس ولا لبس ، وأما لأن المعنى واجعل كل واحد { إماماً } وإما أن يكون جمع آمّ كحال وحلال ، وإما لاتحادهم واتفاق كلمتهم قالوا : واجعلنا إماماً واحداً دعوا الله أن يكونوا قدوة في الدين ولم يطلبوا الرئاسة قاله النخعي.
وقيل : في الآية ما يدل على أن الرئاسة في الدين يجب أن تطلب.
ونزلت في العشرة المبشَّرين بالجنة.
{ أولئك } إشارة إلى الموصوفين بهذه الصفات العشرة.
و { الغرفة } اسم معرف بأل فيعم أي الغرف كما جاء { وهم في الغرفات آمنون } وهي العلالي.
قال ابن عباس : وهي بيوت من زبرجد ودر وياقوت.
وقيل { الغرفة } من أسماء الجنة.
وقيل : السماء السابعة غرفة.
وقيل : هي أعلى منازل الجنة.
وقيل : المراد العلو في الدرجات والباء في { بما صبروا } للسبب.
وقيل : للبدل أي بدل صبرهم كما قال :
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا . . .
أي فليت لي بدلهم قوماً ولم يذكر متعلق الصبر مخصصاً ليعم جميع متعلقاته.
وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر والحرميان وأبو عمرو وأبو بكر { ويُلَقّون } بضم الياء وفتح اللام والقاف مشددة.
وقرأ طلحة ومحمد اليماني وباقي السبعة بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف.
والتحية دعاء بالتعمير والسلام دعاء بالسلامة ، أي تحييهم الملائكة أو يحيي بعضهم بعضاً.
وقيل : يحيون بالتحف جمع لهم بينهم المنافع والتعظيم.
{ حسنت مستقراً ومقاماً } معادل لقوله في جهنم { ساءت مستقراً ومقاماً }.
ولما وصف عباده العباد وعدد ما لهم من صالح الأعمال أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصرح للناس بأن لا اكتراث لهم عند ربهم إنما هو العبادة والدعاء في قوله { لولا دعاؤكم } هو العبادة والظاهر أن { ما } نفي أي ليس { يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم } ويجوز أن تكون استفهامية فيها معنى النفي أي ، أي عبء يعبأ بكم ، و { دعاؤكم } مصدر أضيف إلى الفاعل أي لولا عبادتكم إياه أي لولا دعاؤكم وتضرعكم إليه أو ما يعبأ بتعذيبكم لولا دعاؤكم الأصنام آلهة.

وقيل : أضيف إلى المفعول أي لولا دعاؤه إياكم إلى طاعته.
والذي يظهر أن قوله { قل ما يعبأ بكم } خطاب لكفار قريش القائلين نسجد لما تأمرنا أي لا يحفل بكم ربي لولا تضرعكم إليه واستغاثتكم إياه في الشدائد.
{ فقد كذبتم } بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فتستحقون العقاب { فسوف يكون } العقاب وهو ما أنتجه تكذبيكم ونفس لهم في حلوله بلفظة { فسوف يكون لزاماً } أي لازماً لهم لا ينفكون منه.
وقرأ عبد الله وابن عباس وابن الزبير : فقد كذب الكافرون وهو محمول على أنه تفسير لا قرآن ، والأكثرون على أن اللزام هنا هو يوم بدر وهو قول ابن مسعود وأُبَيّ.
وقيل : عذاب الآخرة.
وقيل : الموت ولا يحمل على الموت المعتاد بل القتل ببدر.
وقيل : التقدير { فسوف يكون } هو أي العذاب وقد صرح به من قرأ { فسوف يكون } العذاب { لزاماً } والوجه أن يترك اسم كان غير منطوق به بعدما علم أنه مما توعد به لأجل الإبهام وتناول ما لا يكتنهه الوصف.
وعن ابن عباس { فسوف يكون } هو أي التكذيب { لزاماً } أي لازماً لكم لا تعطون توبة ذكره الزهراوي.
قال الزمخشري : والخطاب إلى الناس على الإطلاق ومنهم مؤمنون عابدون ومكذبون عاصون ، فخوطبوا بما وجد في جنسهم من العبادة والتكذيب { فقد كذبتم } يقول إذا أعلمتكم أن حكمي أني لا أعتد إلاّ بعبادتهم ، فقد خالفتم بتكذيبكم حكمي فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم حتى يكبكم في النار.
ونظيره في الكلام أن يقول الملك لمن عصى عليه : إن من عادتي أن أحسن إلى من يطيعني ويتبع أمري ، فقد عصيت فسوف ترى ما أحل بك بسبب عصيانك.
وقرأ ابن جريج : فسوف تكون بتاء التأنيث أي فسوف تكون العاقبة ، وقرأ الجمهور { لزاماً } بكسر اللام.
وقرأ المنهال وأبان بن ثعلب وأبو السمال بفتحها مصدر يقول لزم لزوماً ولزاماً ، مثل ثبت ثبوتاً وثباتاً.
وأنشد أبو عبيدة عليّ كسر اللام لصخر الغي :
فإما ينج من حتف أرض . . .
فقد لقيا حتوفهما لزاماً
ونقل ابن خالويه عن أبي السمال أنه قرأ لزام على وزن حذام جعله مصدراً معدولاً عن اللزمة كفجار معدول عن الفجرة.

طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)

هذه السورة كلها مكية في قول الجمهور إلا أربع آيات من : { والشعراء يتبعهم الغاوون } إلى آخر السورة ، وقاله ابن عباس وعطاء وقتادة.
وقال مقاتل : { أول لم يكن لهم آية } ، الآية مدنية.
ومناسبة أولها لآخر ما قبلها أنه قال تعالى : { فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً } ذكر تلهف رسول الله صلى الله عليه وسلم على كونهم لم يؤمنوا ، وكونهم كذبوا بالحق ، لما جاءهم.
ولما أوعدهم في آخر السورة بقوله : { فسوف يكون لزاماً } أوعدهم في أول هذه فقال في إثر إخباره بتكذيبهم فسوف يأتيهم { أنباء ما كانوا به يستهزءون }.
وتلك إشارة إلى آيات السورة ، أو آيات القرآن.
وأمال فتحة الطاء حمزة والكسائي ، وأبو بكر وباقي السبعة : بالفتح؛ وحمزة بإظهار نون سين ، وباقي السبعة بإدغامها؛ وعيسى بكسر الميم من طسم هنا وفي القصص ، وجاء كذلك عن نافع.
وفي مصحف عبد الله ط س م مقطوع ، وهي قراءة أبي جعفر.
وتكلموا على هذه الحروف بما يشبه اللغز والأحاجي ، فتركت نقله ، إذ لا دليل على شيء مما قالوه.
{ والكتاب المبين } : هو القرآن ، هو بين في نفسه ومبين غيره من الأحكام والشرائع وسائر ما اشتمل عليه ، أو مبين إعجازه وصحة أنه من عند الله.
وتقدم تفسير { باخع نفسك } في أول الكهف.
{ ألا يكونوا } : أي لئلا يؤمنوا ، أو خيفة أن لا يؤمنوا.
وقرأ قتادة وزيد بن علي : باخع نفسك على الإضافة.
{ إن نشأ ننزل } ، دخلت إن على نشأ وإن للممكن ، أو المحقق المنبهم زمانه.
قال ابن عطية : ما في الشرط من الإبهام هو في هذه الآية في حيزنا ، وأما الله تعالى فقد علم أنه لا ينزل عليهم آية اضطرار ، وإنما جعل الله آيات الأنبياء والآيات الدالة عليه معرضة للنظر والفكر ، ليهتدي من سبق في علمه هداه ، ويضل من سبق ضلاله ، وليكون للنظرة كسب به يتعلق الثواب والعقاب ، وآية الاضطرار تدفع جميع هذا إن لو كانت. انتهى.
ومعنى آية : أي ملجئة إلى الإيمان يقهر عليه.
وقرأ أبو عمرو في رواية هرون عنه : إن يشأ ينزل على الغيبة ، أي إن يشأ الله ينزل ، وفي بعض المصاحف : لو شئنا لأنزلنا.
وقرأ الجمهور : فظلت ، ماضياً بمعنى المستقبل ، لأنه معطوف على ينزل.
وقرأ طلحة : فتظلل ، وأعناقهم.
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف صح مجيء خاضعين خبراً عن الأعناق؟ قلت : أصل الكلام : فظلوا لها خاضعين ، فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخشوع ، وترك الكلام على أصله كقولهم : ذهبت أهل اليمامة ، كان الأهل غير مذكور. انتهى.
وقال مجاهد ، وابن زيد ، والأخفش : جماعاتهم ، يقال : جاءني عنق من الناس ، أي جماعة ، ومنه قول الشاعر :
إن العراق وأهله عنق إليك فهيت هيتا . . .
وقيل : أعناق الناس : رؤساؤهم ، ومقدموهم شبهوا بالأعناق ، كما قيل :

لهم الرؤوس والنواصي والصدور . . .
قال الشاعر :
في مجفل من نواصي الخيل مشهود . . .
وقيل : أريد الجارحة.
فقال ابن عبسى : هو على حذف مضاف ، أي أصحاب الأعناق.
وروعي هذا المحذوف في قوله : { خاضعين } ، حيث جاء جمعاً للمذكر العاقل ، أولاً حذف ، ولكنه اكتسى من إضافته للمذكر العاقل وصفه ، فأخبر عنه إخباره ، كما يكتسي المذكر التأنيث من إضافته إلى المؤنث في نحو :
كما شرقت صدر القناة من الدم . . .
أولاً حذف ، ولكنه لما وضعت لفعل لا يكون إلا مقصوداً للعاقل وهو الخضوع ، جمعت جمعه كما جاء : { أتينا طائعين } وقرأ عيسى ، وابن أبي عبلة : خاضعة.
وعن ابن عباس : نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية ، ستكون لنا عليهم الدولة ، فتذل أعناقهم بعد معاوية ، ويلحقهم هوان بعد عز.
{ وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث }.
تقدم تفسيره في الأنبياء.
{ إلا كانوا } : جملة حالية ، أي إلا يكونوا عنها.
وكان يدل ذلك أن ديدنهم وعادتهم الإعراض عن ذكر الله.
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف خولف بين الألفاظ والغرض واحد ، وهو الإعراض؟ قلت : كان قبل حين أعرضوا عن الذكر ، فقد كذبوا به ، وحين كذبوا به ، فقد خف عليهم قدره وصار عرضه الاستهزاء بالسخرية ، لأن من كان قابلاً للحق مقبلاً عليه ، كان مصدقاً به لا محالة ، ولم يظن به التكذيب.
ومن كان مصدقاً به ، كان موقراً له. انتهى.
{ فسيأتيهم } : وعيد بعذاب الدنيا ، كيوم بدر ، وعذاب الآخرة.
ولما كان إعراضهم عن النظر في صانع الوجود ، وتكذيب ما جاءتهم به رسله من أعظم الكفر ، وكانوا يجعلون الأصنام آلهة ، نبه تعالى على قدرته ، وأنه الخالق المنشيء الذي يستحق العبادة بقوله : { أو لم يروا إلى الأرض } ؟ والزوج : النوع.
وقيل : الشيء وشكله.
وقيل : أبيض وأسود وأحمر وأصفر وحلو وحامض.
وقال الفراء : الزوج : اللون.
والكريم : الحسن ، قاله مجاهد وقتادة.
وقيل : ما يأكله الناس والبهائم.
وقيل : الكثير المنفعة.
وقيل : الكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد.
وجه كريم : مرضي في حسنه وجماله؛ وكتاب كريم : مرضي في معانيه وفوائده.
وقال : حتى يشق الصفوف من كرمه ، أي من كونه مرضياً في شجاعته وبأسه ، ويراد الأشياء التي بها قوام الأمور ، والأغذية والنباتات ، ويدخل في ذلك الحيوان لأنه عن اثنين.
قال تعالى : { والله أنبتكم من الأرض نباتاً } قال الشعبي : الناس من نبات الأرض ، فمن صار إلى الجنة فهو كريم ، ومن صار إلى النار فبضد ذلك.
قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى الجمع بين كم وكل؟ ولو قيل : { أنبتنا فيها من كل زوج كريم } قلت : دل كل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل ، وكم على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة؟ فهذا معنى الجمع ، وبه نبه على كمال قدرته. انتهى.
وأفرد { لآية } ، وإن كان قد سبق ما دل على الكثرة في الأزواج ، وهو كم ، وعلى الإحاطة بالعموم في الأزواج ، لأن المشار إليه واحد ، وهو الإنبات ، وإن اختلفت متعلقاته ، أو أريد أن في كل واحد من تلك الأزواج لآية.

{ وما كان أكثرهم مؤمنين } : تسجيل على أكثرهم بالكفر.
{ وإن ربك لهو العزيز الرحيم } : أي الغالب القاهر.
ولما كان الموضع موضع بيان القدرة ، قدم صفة العزة على صفة الرحمة.
فالرحمة إذا كانت عن قدرة ، كانت أعظم وقعاً ، والمعنى : أنه عز في نقمته من الكفار ورحم مؤمني كل أمة.
ولما ذكر تكذيب قريش بما جاءهم من الحق وإعراضهم عنه ، ذكر قصة موسى عليه السلام ، وما قاسى مع فرعون وقومه ، ليكون ذلك مسلاة لما كان يلقاه عليه الصلاة والسلام من كفار قريش.
إذ ، كانت قريش قد اتخذت آلهة من دون الله ، وكان قوم فرعون قد اتخذوه إلهاً ، وكان أتباع ملة موسى عليه السلام هم المجاورون من آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم ، بدأ بقصة موسى ، ثم ذكر بعد ذلك ما يأتي ذكره من القصص.
والعامل في إذ ، قال الزجاج ، اتل مضمرة ، أي اتل هذه القصة فيما يتلوا إذ نادى ، ودليل ذلك { واتل عليهم نبأ إبراهيم } إذ.
وقيل : العامل اذكر ، وهو مثل واتل ، ومعنى نادى : دعا.
وقيل : أمر.
وأن : يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون تفسيرية ، وسجل عليهم بالظلم ، لظلم أنفسهم بالكفر ، وظلم بني إسرائيل بالاستعباد ، وذبح الأولاد ، و { قوم فرعون } ، وقيل : بدل من { القوم الظالمين } ، والأجود أن يكون عطف بيان لأنهما عبارتان يعتقبان على مدلول واحد ، إذ كل واحد عطف البيان ، وسوغه مستقل بالإسناد.
ولما كان القوم الظالمين يوهم الاشتراك ، أتى عطف البيان بإزالته ، إذ هو أشهر.
وقرأ الجمهور : ألا يتقون ، بالياء على الغيبة.
وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار ، وشقيق بن سلمة ، وحماد بن سلمة ، وأبو قلابة : بتاء الخطاب ، على طريقة الالتفات إليهم إنكاراً وغضباً عليهم ، وإن لم يكونوا حاضرين ، لأنه مبلغهم ذلك ومكافحهم.
قال ابن عطية : معناه قل لهم ، فجمع في هذه العبارة من المعاني نفي التقوى عنهم وأمرهم بالتقوى.
وقال الزمخشري : فإن قلت : بم تعلق قوله : { ألا يتقون } ؟ قلت : هو كلام مستأنف اتبعه عز وجل إرساله إليهم للإنذار والتسجيل عليهم بالظلم تعجيباً لموسى عليه السلام من حالهم التي سعت في الظلم والعسف ، ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم وحذرهم من أيام الله.
ويحتمل أن يكون ألا يتقون حالاً من الضمير في الظالمين ، أي يظلمون غير متقين الله وعقابه ، فأدخلت همزة الإنكار على الحال. انتهى.
وهذا الاحتمال الذي أورده خطأ فاحش لأنه جعله حالاً من الضمير في الظالمين ، وقد أعرب هو { قوم فرعون } عطف بيان ، فصار فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي بينهما ، لأن قوم فرعون معمول لقوله : { ائت } والذي زعم أنه حال معمول لقوله الظالمين ، وذلك لا يجوز أيضاً لو لم يفصل بينهما بقوله : قوم فرعون.

لم يجز أن تكون الجملة حالاً ، لأن ما بعد الهمزة يمتنع أن يكون معمولاً لما قبلها.
وقولك : جئت أمسرعاً؟ على أن يكون أمسرعاً حالاً من الضمير في جئت لا يجوز ، فلو أضمرت عاملاً بعد الهمزة جاز.
وقرىء : بفتح النون وكسرها ، التقدير : أفلا يتقونني؟ فحذفت نون الرفع لالتقاء الساكنين ، وياء المتكلم اكتفاء بالكسرة.
وقال الزمخشري : في ألا يتقون بالياء وكسر النون وجه آخر ، وهو أن يكون المعنى : ألا يا ناس اتقون ، كقوله : { ألا يسجدوا } انتهى.
يعني : وحذف ألف ياخطاً ونطقاً لالتقاء الساكنين ، وهذا تخريج بعيد.
والظاهر أن ألا للعرض المضمن الحض على التقوى ، وقول من قال إنها للتنبيه لا يصح ، وكذلك قول الزمخشري : إنها للنفي دخلت عليها همزة الإنكار.
ولما كان فرعون عظيم النخوة حتى ادعى الإلهية ، كثير المهابة ، قد أشربت القلوب الخوف منه خصوصاً من كان من بني إسرائيل ، قال موسى عليه السلام : { إني أخاف أن يكذبون }.
وقرأ الجمهور : { ويضيق } { ولا ينطلق } ، بالرفع فيهما عطفاً على أخاف.
فالمعنى : إنه يفيد ثلاث علل : خوف التكذيب ، وضيق الصدر ، وامتناع انطلاق اللسان.
وقرأ الأعرج ، وطلحة ، وعيسى ، وزيد بن عليّ ، وأبو حيوة ، وزائدة ، عن الأعمش ، ويعقوب : بالنصب فيهما عطفاً على يكذبون ، فيكون التكذيب وما بعده يتعلق بالخوف.
وحكى أبو عمرو الداني ، عن الأعرج : أنه قرأ بنصب : ويضيق ، ورفع : ولا ينطلق ، وعدم انطلاق اللسان هو بما يحصل من الخوف وضيق الصدر ، لأن اللسان إذ ذاك يتلجلج ولا يكاد يبين عن مقصود الإنسان.
وقال ابن عطية : وقد يكون عدم انطلاق اللسان بالقول لغموض المعاني التي تطلب لها ألفاظ محررة ، فإذا كان هذا في وقت ضيق الصدر ، لم ينطلق اللسان.
{ فأرسل إلى هارون } : معناه يعينني ويؤازرني ، وكان هارون عليه السلام فصيحاً واسع الصدر ، فحذف بعض المراد من القول ، إذ باقية دال عليه. انتهى.
وقال الزمخشري : ومعنى { فأرسل إلى هارون } : أرسل إليه جبريل عليه السلام ، واجعله نبياً ، وأزرني به ، واشدد به عضدي؛ وهذا كلام مختصر ، وقد أحسن في الاختصار حيث قال : { فأرسل إلى هارون } ، فجاء بما يتضمن معنى الاستثناء.
وقوله : { إني أخاف } إلى آخره ، بعد أن أمره الله بأن يأتي القوم الظالمين ، ليس توقفاً فيما أمره الله تعالى به ، ولكنه طلب من الله أن يعضده بأخيه ، حتى يتعاونا على إنفاذ أمره تعالى ، وتبليغ رسالته ، مهد قبل طلب ذلك عذره ثم طلب.
وطلب العون دليل على القبول لا على التوقف والتعلل ، ومفعول أرسل محذوف.
فقيل جبريل ، كما تقدم ذكره ، وفي الخبر أن الله أرسل موسى إلى هارون ، وكان هارون بمصر حين بعث الله موسى نبياً بالشام.
قال السدي : سار بأهله إلى مصر ، فالتقى بهارون وهو لا يعرفه فقال : أنا موسى ، فتعارفا؛ وأمرهما أن ينطلقا إلى فرعون لأداء الرسالة ، فصاحت أمهما لخوفها عليهما ، فذهبا إليه.

{ ولهم عليّ ذنب } : أي قبلي قود ذنب ، أو عقوبة ، وهو قتله القبطي الكافر خباز فرعون بالوكزة التي وكزها ، أو سمى تبعة الذنب ذنباً ، كما سمى جزاء السيئة سيئة.
وليس قول موسى ذلك تلكأ في أداء الرسالة ، بل قال ذلك استدفاعاً لما يتوقعه منهم من القتل ، وخاف أن يقتل قبل أداء الرسالة ، ويدل على ذلك قوله : { كلا } ، وهي كلمة الردع ، ثم وعده تعالى بالكلاءة والدفع.
وكلا رد لقوله : { إني أخاف } ، أي لا تخف ذلك ، فإني قضيت بنصرك وظهورك.
وقوله : { فاذهبا } ، أمر لهما بخطاب لموسى فقط ، لأن هارون ليس بمكلم بإجماع ، ولكنه قال لموسى : { اذهب أنت وأخوك } قال الزمخشري : جمع الله له الاستجابتين معاً في قوله : { كلا فاذهبا } ، لأنه استدفعه بلاءهم ، فوعده الدفع بردعه عن الخوف ، والتمس المؤازرة بأخيه ، فأجابه بقوله : اذهب ، أي اذهب أنت والذي طلبته هارون.
فإن قلت : علام عطف قوله اذهبا؟ قلت : على الفعل الذي يدل عليه كلا ، كأنه قيل : ارتدع يا موسى عما تظن ، فاذهب أنت وهارون بآياتنا ، يعم جميع ما بعثهما الله به ، وأعظم ذلك العصا ، وبها وقع العجز.
قال ابن عطية : ولا خلاف أن موسى هو الذي حمله الله أمر النبوة وكلفها ، وأن هارون كان نبياً رسولاً معيناً له ووزيراً. انتهى.
ومعكم ، قيل : من وضع الجمع موضع المثنى ، أي معكما.
وقيل : هو على ظاهره من الجمع ، والمراد موسى وهارون ومن أرسلا إليه.
وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يرجح أن يكون أريد بصورة الجمع المثنى ، والخطاب لموسى وهارون فقط ، قال : لأن لفظة مع تباين من يكون كافراً ، فإنه لا يقال الله معه.
وعلى أنه أريد بالجمع التثنية ، حمله سيبويه رحمه الله وكأنهما لشرفهما عند الله ، عاملهما في الخطاب معاملة الجمع ، إذ كان ذلك جائزاً أن يعامل به الواحد لشرفه وعظمته.
قال ابن عطية : { مستمعون } اهتبالاً ، ليس في صيغة سامعون ، وإلا فليس يوصف الله تعالى بطلب الاستماع ، وإنما القصد إظهار التهمم ليعظم أنس موسى ، أو يكون الملائكة بأمر الله إياها تستمع.
وقال الزمخشري : { معكم مستمعون } من مجاز الكلام ، يريد أنا لكما ولعدوكما كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضر واستمع ما يجري بينكما وبينه ، فأظهركما وغلبكما وكسر شوكته عنكما ونكسه. انتهى.
ويجوز أن يكون معه متعلقاً بمستمعون ، وأن يكون خبراً ، ومستمعون خبر ثان.
والمعية هنا مجاز ، وكذلك الاستماع ، لأنه بمعنى الإصغاء ، ولا يلزم من الاستماع السماع ، تقول : أسمع إليه ، فما سمع واستمع إليه ، فسمع كما قال : { استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا } وأفرد رسول هنا ولم يثن ، كما في قوله : { إنا رسولا ربك } إما لأنه مصدر بمعنى الرسالة ، فجاز أن يقع مفرداً خبر المفرد فما فوقه ، وإما لكونهما ذوي شريعة واحدة ، فكأنهما رسول واحد.
وأريد بقوله : أنا أو كل واحد منا رسول.
{ ورسول رب العالمين } فيه رد عليه ، وأنه مربوب لله تعالى ، بادهه بنقض ما كان أبرمه من ادعاء الألوهية ، ولذلك أنكر فقال : وما رب العالمين والمعنى إليك ، { وأن أرسل } : يجوز أن تكون تفسيرية لما في رسول من معنى القول ، وأن تكون مصدرية ، وأرسل بمعنى أطلق وسرح ، كما تقول : أرسلت الحجر من يدي ، وأرسلت الصقر.
وكان موسى مبعوثاً إلى فرعون في أمرين : إرسال بني إسرائيل ليزول عنهم العبودية ، والإيمان بالله وبعث بالعبادات والشرع إلى بني إسرائيل وإرسالهم معهما كان إلى فلسطين ، وكانت مسكن موسى وهارون.

قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)

ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون ، ولم يؤذن لهما سنة ، حتى قال البواب : إن هنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين ، فقال له : ائذن له لعلنا نضحك منه.
فأديا إليه الرسالة ، فعرف موسى فقال له : { ألم نر بك فينا وليداً } وفي الكلام حذف يدل عليه المعنى تقديره : فأتيا فرعون ، فقالا له ذلك.
ولما بادهه موسى بأنه رسول رب العالمين ، وأمره بإرسال بني إسرائيل معه ، أخذ يستحقره ويضرب عن المرسل وعما جاء به من عنده ، ويذكره بحالة الصغر والمنّ عليه بالتربية.
والوليد الصبي ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، أطلق ذلك عليه لقربه من الولادة.
وقرأ أبو عمرو في رواية : من عمرك ، بإسكان الميم ، وتقدم ذكر الخلاف في كمية هذه السنين في طه.
وقرأ الجمهور : فعلتك ، بفتح الفاء ، إذ كانت وكزة واحدة ، والشعبي : بكسر الفاء ، يريد الهيئة ، لأن الوكزة نوع من القتل.
عدد عليه نعمة التربية ومبلغه عنده مبلغ الرجال ، حيث كان يقتل نظراءه من بني إسرائيل ، وذكره ما جرى على يده من قتل القبطي ، وعظم ذلك بقوله : { وفعلت فعلتك التي فعلت } ، لأن هذا الإبهام ، بكونه لم يصرح أنها القتل ، تهويل للواقعة وتعظيم شأن.
{ وأنت من الكافرين } : يجوز أن يكون حالاً ، أي قتلته وأنت إذ ذاك من الكافرين ، فافترى فرعون بنسبة هذه الحال إليه إذ ذاك ، والأنبياء عليهم السلام معصومون.
ويجوز أن يكون إخباراً مستأنفاً من فرعون ، حكم عليه بأنه من الكافرين بالنعمة التي لي عليك من التربية والإحسان ، قاله ابن زيد؛ أو من الكافرين بي في أنني إلهك ، قاله الحسن؛ أو من الكافرين بالله لأنك كنت معنا على ديننا هذا الذي تعيبه الآن ، قاله السدي.
{ قال فعلتها إذاً } : إجابة موسى عن كلامه الأخير المتضمن للقتل ، إذ كان الاعتذار فيه أهم من الجواب في ذكر النعمة بالتربية ، لأنه فيه إزهاق النفس.
قال ابن عطية : إذن صلة في الكلام وكأنها بمعنى حينئذ. انتهى.
وليس بصلة ، بل هي حرف معنى.
وقوله وكأنها بمعنى حينئذ ، ينبغي أن يجعل قوله تفسير معنى ، إذ لا يذهب أحد إلى أن إذن ترادف من حيث الإعراب حينئذ.
وقال الزمخشري : فإن قلت : إذاً جواب وجزاء معاً ، والكلام وقع جواباً لفرعون ، فكيف وقع جزاء؟ قلت : قول فرعون : { وفعلت فعلتك } فيه معنى : إنك جازيت نعمتي بما فعلت؛ فقال له موسى : نعم فعلتها ، مجازياً لك تسليماً لقوله ، كأن نعمته كانت عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء. انتهى.
وهذا الذي ذكره من أن إذاً جواب وجزاء معاً ، هو قول سيبويه ، لكن الشراح فهموا أنها قد تكون جواباً وجزاء معاً ، وقد تكون جواباً فقط دون جزاء.
فالمعنى اللازم لها هو الجواب ، وقد يكون مع ذلك جزاء.

وحملوا قوله : { فعلتها إذاً } من المواضع التي جاءت فيها جواباً لآخر ، على أن بعض أئمتنا تكلف هنا كونها جزاء وجواباً ، وهذا كله محرر فيما كتبناه في إذن في شرح التسهيل ، وإنما أردنا أن نذكر أن ما قاله الزمخشري ليس هو الصحيح ، ولا قول الأكثرين.
{ وأنا من الضالين } ، قال ابن زيد : معناه من الجاهلين ، بأن وكزتي إياه تأتي على نفسه.
وقال أبو عبيدة : من الناسين ، ونزع لقوله : { أن تضل إحداهما } وفي قراءة عبد الله ، وابن عباس : وأنا من الجاهلين ، ويظهر أنه تفسير للضالين ، لا قراءة مروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال الزمخشري : من الفاعلين فعل أولي الجهل ، كما قال يوسف لإخوته : { إذ أنتم جاهلون } أو المخلصين ، كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل ، أو الذاهبين عن تلك الصفة. انتهى.
وقيل : من الضالين ، يعني عن النبوة ، ولم يأتني عن الله فيه شيء ، فليس عليّ فيما فعلته في تلك الحالة توبيخ.
ومن غريب ما شرح به أن معنى { وأنا من الضالين } ، أي من المحبين لله ، وما قتلت القبطي إلا غيرة لله.
قيل : والضلال يطلق ويراد به المحبة ، كما في قوله : { إنك لفي ضلالك القديم } أي في محبتك القديمة.
وجمع ضمير الخطاب في منكم وخفتكم بأن كان قد أفرد في : تمنها وعبدت ، لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ، وإنما منه ومن ملئه المذكورين قبل { أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون } ، وهم كانوا قوماً يأتمرون لقتله.
ألا ترى إلى قوله : { إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج } وقرأ الجمهور : لما حرف وجوب لوجوب ، على قول سيبويه ، وظرفاً بمعنى حين ، على مذهب الفارسي.
وقرأ حمزة في رواية : لما بكسر اللام وتخفيف الميم ، أي يخوفكم.
وقرأ عيسى : حكماً بضم الكاف؛ والجمهور : بالإسكان.
والحكم : النبوة.
{ وجعلني من المرسلين } : درجة ثانية للنبوة ، فرب نبي ليس برسول.
وقيل : الحكم : العلم والفهم.
{ وتلك نعمة تمنها عليّ } : وتلك إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله : { ألم نر بك فينا وليداً } ؛ وذكر بهذا آخراً على ما بدأ به فرعون في قوله : { ألم نر بك }.
والظاهر أن هذا الكلام إقرار من موسى عليه السلام بالنعمة ، كأنه يقول : وتربيتك لي نعمة عليّ من حيث عبدت غيري وتركتني واتخذتني ولداً ، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي.
وإلى هذا التأويل ذهب السدّي والطبري.
وقال قتادة : هذا منه على جهة الإنكار عليه أن تكون نعمة ، كأنه يقول : أو يصح لك أن تعتد على نعمة ترك قتلي من أجل أنك ظلمت بني إسرائيل وقتلتهم؟ أي ليست بنعمة ، لأن الواجب كان أن لا تقتلني ولا تقتلهم ولا تستعبدهم بالقتل والخدمة وغير ذلك.
وقرأ الضحاك : وتلك نعمة ما لك أن تمنها ، وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل ، وهذا التأويل فيه مخالفة لفرعون ونقض كلامه كله.

والقول الأول فيه إنصاف واعتراف.
وقال الأخفش : والفراء : قبل الواو همزة استفهام يراد به الإنكار ، وحذفت لدلالة المعنى عليها ، ورده النحاس بأنها لا تحذف ، لأنها حرف يحدث معها معنى ، إلا إن كان في الكلام أم لا خلاف في ذلك إلا شيئاً ، قاله الفراء من أنه يجوز حذفها مع أفعال الشك ، وحكى : ترى زيداً منطلقاً ، بمعنى : ألا ترى؟ وكان الأخفش الأصغر يقول : أخذه من ألفاظ العامة.
وقال الضحاك : الكلام إذا خرج مخرج التبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام ، والمعنى : لو لم يقتل بني إسرائيل لرباني أبواي ، فأي نعمة لك علي فأنت تمنّ علي بما لا يجب أن تمنّ به.
وقيل : اتخاذك بني إسرائيل عبيداً أحبط نعمتك التي تمنّ بها.
وقال الزمخشري : وأبي ، يعني موسى عليه السلام ، أن يسمي نعمته أن لا نعمة ، حيث بين أن حقيقة إنعامه تعبد بني إسرائيل ، لأن تعبدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته ، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه إذا حققت.
وتعبيدهم : تذليلهم واتخاذهم عبيداً ، يقال : عبدت الرجل وأعبدته ، إذا اتخذته عبداً ، قال الشاعر :
علام يعبدني قومي وقد كثرت . . .
فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان
فإن قلت : وتلك إشارة إلى ماذا؟ وأن عبدت ما محلها من الإعراب؟ قلت : تلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة ، لا يدري ما هي إلا بتفسيرها؛ ومحل أن عبدت الرفع ، عطف بيان لتلك ، ونظيره قوله تعالى : { وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين } والمعنى : تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها عليّ.
وقال الزجاج : يجوز أن يكون في موضع نصب ، المعنى أنها صارت نعمة عليّ ، لأن عبدت بني إسرائيل ، أي لو لم تفعل لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم. انتهى.
وقال الحوفي : { أن عبدت بني إسرائيل } في موضع نصب مفعول من أجله.
وقال أبو البقاء : بدل ، ولما أخبر موسى فرعون بأنه رسول رب العالمين ، لم يسأل إذ ذاك فيقول : { وما رب العالمين } ؟ بل أخذ في المداهاة وتذكار التربية والتقبيح لما فعله من قتل القبطي.
فلما أجابه عن ذلك انقطعت حجته في التربية والقتل ، وكان في قوله : { رسول رب العالمين } دعاء إلى الإقرار بربوبية الله ، وإلى طاعة رب العالم ، فأخذ فرعون يستفهم عن الذي ذكر موسى أنه رسول من عنده.
والظاهر أن سؤاله إنما كان على سبيل المباهتة والمكابرة والمرادّة ، وكان عالماً بالله.
ويدل عليه : { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر } ولكنه تعامى عن ذلك طلباً للرياسة ودعوى الإلهية ، واستفهم بما استفهاماً عن مجهول من الأشياء.
قال مكي : كما يستفهم عن الأجناس ، وقد ورد له استفهام بمن في موضع آخر ، ويشبه أنها مواطن. انتهى.
والموضع الآخر قوله : { فمن ربكما يا موسى } ولما سأله فرعون ، وكان السؤال بما التي هي من سؤال عن الماهية ، ولم يمكن الجواب بالماهية ، أجاب بالصفات التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها ، وهي ربوبية السموات والأرض وما بينهما.

وقال الزمخشري : وهذا السؤال لا يخلو أن يريد به أي شيء من الأشياء التي شوهدت وعرفت أجناسها ، فأجاب بما يستدل عليه من أفعاله الخاصة ، ليعرفه أنه ليس مما شوهد وعرف من الأجرام والأعراض ، وأنه شيء مخالف لجميع الأشياء ، { ليس كمثله شيء } وأما أن يريد أنه شيء على الإطلاق تفتيشاً عن حقيقة الخاصة ما هي ، فأجاب بأن الذي سألت عنه ليس إليه سبيل ، وهو الكافي في معرفته معرفة بيانه بصفاته استدلالاً بأفعاله الخاصة على ذلك؛ وأما التفتيش عن حقيقة الخاصة التي هي فوق فطر العقول ، فتفتيش عما لا سبيل إليه ، والسائل عنه متعنت غير طالب للحق.
والذي يليق بحال فرعون ، ويدل عليه الكلام ، أن كون سؤاله إنكاراً لأن يكون للعالمين رب سواه ، ألا ترى أنه يعلم حدوثه بعد العدم؟ وأنه محل للحوادث؟ وأنه لم يدعّ الإلهية إلا في محل ملكه مصر؟ وأنه لم يكن ملك الأرض؟ بل كان فيها ملوك غيره ، وأنبياء في ذلك الزمان يدعون إلى الله كشعيب عليه السلام؟ وأنه كان مقراً بالله تعالى في باطن أمره؟ وجاء قوله : { وما بينهما } على التثنية ، والعائد عليه الضمير مجموع اعتباراً للجنسين : جنس السماء ، وجنس الأرض؛ كما ثنى المظهر في قوله :
بين رماحي مالك ونهشل . . .
اعتباراً للجنسين : وقال أبو عبد الله الرازي يحتمل أن يقال : كان عالماً بالله ولكنه قال ما قال طلباً للملك والرياسة.
وقد ذكر تعالى في كتابه ما يدل على أنه كان عارفاً بالله ، وهو قوله : { لقد علمت ما أنزل هؤلاء } الآية.
ويحتمل أنه كان على مذهب الدهرية من أن الأفلاك واجبة الوجود لذواتها ، وأن حركاتها أسباب لحصول الحوادث بالفاعل المختار ، ثم اعتقد أنه بمنزلة إله لأهل إقليمه من حيث استعبدهم وملك زمام أمرهم.
ويحتمل أن يقال : كان على مذهب الحلولية القائلين : بأن ذات الإله تقرر بجسد إنسان معين حتى يكون الإله سبحانه بمنزلة روح كل إنسان بالنسبة إلى جسده ، وبهذه التقديرات كان يسمي نفسه إلهاً. انتهى.
ومعنى : { إن كنتم موقنين } : إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إلى النظر الصحيح ، نفعكم هذا الجواب ، وإلا لم ينفعكم؛ أو إن كنتم موقنين بشيء قط ، فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وإنارة دليله.
وهذه المحاورة من فرعون تدل على أن موسى عليه السلام دعاه إلى التوحيد.
{ قال لمن حوله } : هم أشراف قومه.
قيل : كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور ، وكانت للملوك خاصة.
{ ألا تستمعون } : أي ألا تصغون إلى هذه المقالة إغراء به وتعجباً ، إذ كانت عقيدتهم أن فرعون ربهم ومعبودهم.
قال ابن عطية : والفراعنة قبله كذلك ، وهذه ضلالة منها في مصر وديارنا إلى اليوم بقية.

انتهى.
يشير إلى ما أدركه في عصره من ملوك العبيديين الذين كان أتباعهم تدعى فيهم الإلهية ، وأقاموا ملوكاً بمصر ، من زمان المعز إلى زمان العاضد ، إلى أن محى الله دولتهم بظهور الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاري رضي الله عنه ، فلقد كانت له مآثر في الإسلام منها : فتح بيت المقدس وبلاد كثيرة من سواحل الشام ، كان النصارى مستولين عليها ، فاستنقذها منهم.
{ قال ربكم ورب آبائكم الأولين } : نبههم على منشئهم ومنشىء آبائهم ، وجاء في قوله : الأولين ، دلالة على إماتتهم بعد إيجادهم.
وانتقل من الاستدلال بالعام إلى ما يخصهم ، ليكون أوضح لهم في بيان بطل دعوى فرعون الإلهية ، إذ كان آباؤهم الأولون تقدموا فرعون في الوجود ، فمحال أن يكون وهو في العدم إلهاً لهم.
{ قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون }.
قال أبو عبد الله الرازي : التعريف بهذا الأثر أظهر ، فلهذا عدل موسى عليه السلام من الكلام الأول إليه ، إذ كان لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وفي آبائه كونهم واجبي الوجود لذواتهم ، لأن المشاهدة دلت على وجودهم بعد عدمهم ، وعدمهم بعد وجودهم ، فعند ذلك قال فرعون : ما قال يعني أن المقصود من سؤال ما طلبت الماهية وخصوصية الحقيقة.
والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا تفيد تلك الخصوصية ، فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه ، فقال موسى عليه السلام : { رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } : فعدل إلى طريق أوضح من الثاني ، وذلك أنه أراد بالمشرق : طلوع الشمس وظهور النهار ، وأراد بالمغرب : غروب الشمس وزوال النهار.
وهذا التقدير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر ، وهذا بعينه طريقة إبراهيم عليه السلام مع نمروذ ، فإنه استدل أولاً بالإحياء والإماتة ، وهو الذي ذكره موسى عليه السلام هنا بقوله : { ربكم ورب آبائكم الأولين } ، فأجابه نمروذ بقوله : { أنا أحيي وأميت } فقال : { فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر } وهو الذي ذكره موسى عليه السلام هنا بقوله : { رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } : أي إن كنتم من العقلاء ، عرفتم أن لا جواب عن السؤال إلا ما ذكرت.
انتهى ، وفيه بعض تلخيص.
وقال ابن عطية : زاده موسى عليه السلام في بيان الصفات التي تظهر نقص فرعون ، وتبين أنه في غاية البعد عن القدرة عليها ، وهي ربوبية المشرق والمغرب ، ولم يكن لفرعون إلا ملك مصر من البحر إلى أسوان وأرض الإسكندرية.
وقرأ مجاهد ، وحميد ، والأعرج : أرسل إليكم ، على بناء الفاعل ، أي أرسله ربه إليكم.
وقرأ عبد الله ، وأصحابه ، والأعمش : رب المشارق والمغارب ، على الجمع فيهما.
ولما انقطع فرعون في باب الاحتجاج ، رجع إلى الاستعلاء والغلب ، وهذا أبين علامات الانقطاع ، فتوعد موسى بالسجن حين أعياه خطابه : { قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين }.

وقال الزمخشري : لما أجاب موسى بما أجاب ، عجب قومه من جوابه ، حيث نسب الربوبية إلى غيره ، فلما ثنى بتقرير قوله ، جننه إلى قومه وظنن به ، حيث سماه رسولهم ، فلما ثلث احتد واحتدم ، وقال : { لئن اتخذت إلهاً غيري }.
فإن قلت : كيف قال : أولاً : { إن كنتم موقنين } ، وآخراً : { إن كنتم تعقلون } ؟ قلت : لأين أولاً ، فلما رأى شدة الشكيمة في العناد وقلة الإصغاء إلى عرض الحجج ، خاشن وعارض إن رسولكم لمجنون بقوله : { إن كنتم تعقلون }.
فإن قلت : ألم يكن لأسجننك أخصر من { لأجعلنك من المسجونين } ومؤدّياً مؤدّاه؟ قلت : أما أخصر فنعم ، وأما مؤدّياً مؤدّاه فلا ، لأن معناه : لأجعلنك واحداً ممن عرفت حالهم في سجوني.
وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فرداً ، لا يبصر فيها ولا يسمع ، فكان ذلك أشد من القتل. انتهى.
ولما كان عند موسى عليه السلام من أمر فرعون ما لا يروعه معه توعد فرعون ، قال له على جهة اللطف به والطمع في إيمانه : { أو لو جئتك بشيء مبين } ، أي يوضح لك صدقي ، أفكنت تسجنني؟ قال الزمخشري : أو لو جئتك ، واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام ، معناه : أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين؟ انتهى.
وتقدّم لنا الكلام على هذه الواو ، والداخلة على لو في مثل هذا السياق في قوله : { أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون } فأغنى عن إعادته.
وقال الحوفي : واو العطف دخلت عليها همزة الاستفهام للتقرير ، والمعنى : أتسجنني حتى في هذه الحالة التي لا تناسب أن أسجن وأنا متلبس بها؟.
ولما سمع فرعون هذا من موسى طمع أن يجده موضع معارضة فقال له : { فأت به إن كنت من الصادقين } ، إن لك رباً بعثك رسولاً إلينا.
قال الزمخشري : وفي قوله : { إن كنت من الصادقين } دليل على أنه لا يأتي بالمعجزة إلا الصادق في دعواه ، لأن المعجزة تصديق من الله لمدعي النبوة ، والحكيم لا يصدق الكاذب.
ومن العجب أن مثل فرعون لم يخف عليه مثل هذا ، وخفي على ناس من أهل القبلة ، حيث جوزوا القبيح على الله حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات. انتهى.
وتقديره : إن كنت من الصادقين فأت به ، حذف الجزاء ، لأن الأمر بالإتيان يدل عليه.
وقدره الزمخشري : إن كنت من الصادقين في دعواك أتيت به.
جعل الجواب المحذوف فعلاً ماضياً ، ولا يقدر إلا من جنس الدليل بقولهم : أنت ظالم إن فعلت ، تقديره : أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم.
وقال الحوفي : إن حرف شرط يجوز أن يكون ما تقدم جوابه ، وجاز تقديم الجواب ، لأن حذف الشرط لم يعمل في اللفظ شيئاً.
ويجوز أن يكون الجواب محذوفاً تقديره فأت به.

وقول الزمخشري : حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات ، إشارة إلى إنكار الكرامات التي ذهب أهل السنة إلى إثباتها.
والمعجز عندهم هو ما كان خارقاً للعادة ، ولا يكون إلا لنبي أو في زمان نبي ، إن جرى على يد غيره فتكون معجزة لذلك النبي ، أو على سبيل الإرهاص لنبي.
{ فألقى عصاه } : رماها من يده ، وتقدم الكلام على عصا موسى عليه السلام.
والثعبان : أعظم ما يكون من الحيات.
ومعنى { مبين } : ظاهر الثعبانية ، ليست من الأشياء التي تزوّر بالشعبذة والسحر.
{ ونزع يده } من جيبه ، { فإذا هي } تلألأ كأنها قطعة من الشمس.
ومعنى { للناظرين } : أي بياضها يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة ، وكان بياضاً نورانياً.
روي أنه لما أبصر أمر العصا قال : فهل غيرها؟ فأخرج يده ، فقال : ما هذه؟ قال : يدك ، فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق.

قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)

قال ابن عطية : وانتصب حوله على الظرف ، وهو في موضع الحال ، أي كائنين حوله ، فالعامل فيه محذوف ، والعامل فيه هو الحال حقيقة والناصب له ، قال : لأنه هو العامل في ذي الحال بواسطة لام الجر ، نحو : مررت بهند ضاحكة.
والكوفيون يجعلون الملأ موصولاً ، فكأنه قيل : قال للذي حوله ، فلا موضع للعامل في الظرف ، لأنه وقع صلة.
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما العامل في حوله؟ قلت : هو منصوب نصبين : نصب في اللفظ ، ونصب في المحل.
فالعامل في النصب اللفظي ما يقدر في الظرف ، وذلك استقروا حوله ، وهذا يقدر في جميع الظروف ، والعامل في النصب المحلي ، وهو النصب على الحال. انتهى.
وهو تكثير وشقشقة كلام في أمر واضح من أوائل علم العربية.
ولما رأى فرعون أمر العصا واليد ، وما ظهر فيهما من الآيات ، هاله ذلك ولم يكن له فيه مدفع فزع إلى رميه بالسحر.
وطمع لغلبة علم السحر في ذلك الزمان أن يكون ثَمّ من يقاومه ، أو كان علم صحة المعجزة.
وعمى تلك الحجة على قومه ، برميه بالسحر ، وبأنه { يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره } ، ليقوي تنفيرهم عنه ، وابتغاؤهم الغوائل له ، وأن لا يقبلوا قوله؛ إذ من أصعب الأشياء على النفوس مفارقة الوطن الذي نشأوا فيه ، ثم استأمرهم فيما يفعل معه ، وذلك لما حل به من التحير والدهش وانحطاطه عن مرتبة ألوهيته إلى أن صار يستشيرهم في أمره ، فيأمرونه بما يظهر لهم فيه ، فصار مأموراً بعد أن كان آمراً.
وتقدم الكلام في { ماذا تأمرون } وفي الألفاظ التي وافقت ما في سورة الأعراف ، فأغنى عن إعادته.
ولما قال : { إن هذا لساحر عليم } ، عارضوا بقوله : { بكل سحار } ، فجاءوا بكلمة الاستغراق والبناء الذي للمبالغة ، لينفسوا عنه بعض ما لحقه من الكرب.
وقرأ الأعمش ، وعاصم في رواية : بكل ساحر.
واليوم المعلوم : يوم الزينة ، وتقدم الكلام عليه في سورة طه.
وقوله : { هل أنتم مجتمعون } ، استبطاء لهم في الاجتماع ، والمراد منه استعجالهم ، كما يقول الرجل لغلامه : هل أنت منطلق؟ إذا أراد أن يحرك منه ويحثه على الانطلاق ، كما يخيل إليه أن الناس قد انطلقوا وهو واقف ، ومنه قول تأبط شراً :
هل أنت باعث ديناراً لحاجتنا . . .
أو عند رب أخا عون بن مخراق
يريد : ابعثه إلينا سريعاً ولا تبطىء به.
وترجوا اتباع السحرة ، أي في دينهم ، إن غلبوا موسى عليه السلام ، ولا يتبعون موسى في دينه.
وساقوا الكلام سياق الكناية ، لأنهم إذا اتبعوهم لم يتعبوا موسى عليه السلام.
ودخلت إذا هنا بين اسم إن وخبرها ، وهي جواب وجزاء.
{ وبعزة فرعون } : الظاهر أن الباء للقسم ، والذي تتعلق به الباء محذوف ، وعدلوا عن الخطاب إلى اسم الغيبة تعظيماً ، كما يقال للملوك : أمروا رضي الله عنهم بكذا ، فيخبر عنه إخبار الغائب ، وهذا من نوع إيمان الجاهلية.

وقد سلك كثير من المسلمين في الإيمان ما هو أشنع من إيمان الجاهلية ، لا يرضون بالقسم بالله ، ولا يعتدون به حتى يحلف أحدهم بنعمة السلطان وبرأس المحلف ، فحينذ يستوثق منه.
وقال ابن عطية : بعد أن ذكر أنه قسم قال : والأجر أن يكون على جهة التعظيم والتبرك باسمه ، إذ كانوا يعبدونه؛ كما تقول إذا ابتدأت بعمل شيء : بسم الله ، وعلى بركة الله ، ونحو هذا.
وبين قوله : { قال لهم موسى } ، وقوله : { لمن المقربين } ، كلام محذوف ، وهو ما ثبت في الأعراف من تخييرهم إياه في البداءة من يلقى.
قال الزمخشري : فإن قلت : فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به؟ قلت : هو الله عز وجل ، بما خوّلهم من التوفيق وإيمانهم ، أو بما عاينوا من المعجزة الباهرة ، ولك أن لا تقدر فاعلاً ، لأن ألقوا بمعنى خروا وسقطوا. انتهى.
وهذا القول الآخر ليس بشيء.
لا يمكن أن يبني الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله إلا وقد حذف الفاعل فناب ذلك عنه ، أما أنه لا يقدر فاعل ، فقول ذاهب عن الصواب.
وقال ابن عطية : قرأ البزي ، وابن فليح ، عن ابن كثير : بشد التاء وفتح اللام وشد القاف ، ويلزم على هذه القراءة إذا ابتدأ أن يحذف همزة الوصل ، وهمزة الوصل لا تدخل على الأفعال المضارعة ، كما لا تدخل على أسماء الفاعلين. انتهى.
كأنه يخيل أنه لا يمكن الابتداء بالكلمة إلا باجتلاب همزة الوصل ، وليس ذلك بلازم كثيراً ما يكون الوصل مخالفاً للوقف ، والوقف مخالفاً للوصل ، ومن له تمرن في القراآت عرف ذلك.
{ قالوا : لا ضير } : أي لا ضرر علينا في وقوع ما وعدتنا به من قطع الأيدي والأرجل والتصليب ، بل لنا فيه المنفعة التامة بالصبر عليه.
يقال : ضاره يضيره ضيراً ، وضاره يضوره ضوراً.
{ إنا إلى ربنا } : أي إلى عظيم ثوابه ، أو : لا ضير علينا ، إذ انقلابنا إلى الله بسبب من أسباب الموت والقتل أهون أسبابه.
وقال أبو عبد الله الرازي : لما آمنوا بأجمعهم ، لم يأمن فرعون أن يقول قومه لم تؤمن السحرة على كثرتهم إلا عن معرفة بصحة أمر موسى فيؤمنون ، فبالغ في التنفير من جهة قوله : { آمنتم له قبل أن آذن لكم } موهماً أن مسارعتهم للإيمان دليل على ميلهم إليه قبل.
وبقوله : { إنه لكبيركم } ، صرح بما رمزه أولاً من مواطأتهم وتقصيرهم ليظهر أمر كبيرهم ، وبقوله : { فلسوف تعلمون } ، حيث أوعدهم وعيداً مطلقاً ، وبتصريحه بما هددهم به من العذاب ، فأجابوا بأن ذلك إن وقع ، لن يضير ، وفي قولهم : { إنا إلى ربك منقلبون } ، نكتة شريفة ، وهو أنهم آمنوا لا رغبة ولا رهبة ، إنما قصدوا محض الوصول إلى مرضات الله والاستغراق في أنوار معرفته.

انتهى ملخصاً.
ويدفع هذا الأخير قولهم : { إنا نطمع } إلى آخره ، ولا يكون ذلك إلا من خوف تبعات الخطايا.
والظاهر بقاء الطمع على بابه كقوله : { ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين } وقيل : يحتمل اليقين.
قيل : كقول إبراهيم عليه السلام : { والذي أطمع }.
وقرأ الجمهور : { أن كنا } ، بفتح الهمزة ، وفيه الجزم بإيمانهم.
وقرأ أبان بن تغلب ، وأبو معاذ : إن كنا ، بكسر الهمزة.
قال صاحب اللوامح على الشرط : وجاز حذف الفاء من الجواب ، لأنه متقدم ، وتقديره : { إن كنا أول المؤمنين } فإنا نطمع ، وحسن الشرط لأنهم لم يتحققوا ما لهم عند الله من قبول الإيمان. انتهى.
وهذا التخريج على مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد ، حيث يجيزون تقديم جواب الشرط عليه ، ومذهب جمهور البصريين أن ذلك لا يجوز ، وجواب مثل هذا الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه.
وقال الزمخشري : هو من الشرط الذي يجيء به المدلول بأمره المتحقق لصحته ، وهم كانوا متحققين أنهم أول المؤمنين.
ونظيره قول العامل لمن يؤخر.
جعله إن كنت عملت فوفني حقي ، ومنه قوله تعالى : { إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي } مع علمه أنهم لم يخرجوا إلا لذلك.
وقال ابن عطية بمعنى : أن طمعهم إنما هو بهذا الشرط. انتهى.
ويحتمل أن تكون إن هي المخففة من الثقيلة ، وجاز حذف اللام الفارقة لدلالة الكلام على أنهم مؤمنون ، فلا يحتمل النفي ، والتقدير : إن كنا لأول المؤمنين.
وجاء في الحديث : « إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العسل » ، أي ليحب.
وقال الشاعر :
ونحن أباة الضيم من آل مالك . . .
وإن مالك كانت كرام المعادن
أي : وإن مالك لكانت كرام المعادن ، وأول يعني أول المؤمنين من القبط ، أو أول المؤمنين من حاضري ذلك المجمع.
وقال الزمخشري : وكانوا أول جماعة مؤمنين من أهل زمانهم ، وهذا لا يصح لأن بني إسرائيل كانوا مؤمنين قبل إيمان السحرة.

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)

تقدم الخلاف في { أسر } ، وأنه قرىء بوصل الهمزة وبقطعها في سورة هود.
وقرأ اليماني : أن سر ، أمر من سار يسير.
أمر الله موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً من مصر إلى تجاه البحر ، وأخبره أنهم سيتبعون.
فخرج سحراً ، جاعلاً طريق الشام على يساره ، وتوجه نحو البحر ، فيقال له في ترك الطريق ، فيقول : هكذا أمرت.
فلما أصبح ، علم فرعون بسري موسى ببني إسرائيل ، فخرج في أثرهم ، وبعث إلى مدائن مصر ليحلقه العساكر.
وذكروا أعداداً في أتباع فرعون وفي بني إسرائيل ، الله أعلم بصحة ذلك.
{ إن هؤلاء لشرذمة } : أي قال إن هؤلاء وصفهم بالقلة ، ثم جمع القليل فجعل كل حزب قليلاً ، جمع السلامة الذي هو للقلة ، وقد يجمع القليل على أقلة وقلل ، والظاهر تقليل العدد.
قال الزمخشري : ويجوز أن يريد بالقلة : الذلة والقماءة ، ولا يريد قلة العدد ، والمعنى : أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا تتوقع غفلتهم ، ولكنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا ، ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور ، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم يساره ، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن ، لئلا يظن به ما يكسر من قهره وسلطانه. انتهى.
قال أبو حاتم : وقرأ من لا يؤخذ عنه : { لشرذمة قليلون } ، وليست هذه موقوفة. انتهى.
يعني أن هذه القراءة ليست موقوفة على أحد رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل : { لغائظون } : أي بخلافهم وأخذهم الأموال حين استعاروها ولم يردوها ، وخرجوا هاربين.
وقرأ الكوفيون ، وابن ذكوان ، وزيد بن علي : { حاذرون } ، بالألف ، وهو الذي قد أخذ يحذر ويجدد حذره ، وحذر متعد.
قال تعالى : { يحذر الآخرة } وقال العباس بن مرداس :
وإني حاذر أنمي سلاحي . . .
إلى أوصال ذيال صنيع
وقرأ باقي السبعة : بغير ألف وهو المتيقظ.
وقال الزجاج : مؤدون ، أي ذوو أدوات وسلاح ، أي متسلحين.
وقيل : حذرون في الحال ، وحاذرون في المآل.
وقال الفراء : الحاذر : الخائف ما يرى ، والحذر : المخلوق حذراً.
وقال أبو عبيدة : رجل حذر وحذر وحاذر بمعنى واحد.
وذهب سيبويه إلى أن حذراً يكون للمبالغة ، وأنه يعمل كما يعمل حاذر ، فينصب المفعول به ، وأنشد :
حذر أموراً لا تضير وآمن . . .
ما ليس منجيه من الأقدار
وقد نوزع في ذلك بما هو مذكور في كتب النحو.
وعن الفراء أيضاً ، والكسائي : رجل حذر ، إذا كان الحذر في خلقته ، فهو متيقظ منتبه.
وقرأ سميط بن عجلان ، وابن أبي عمار ، وابن السميفع : حاذرون ، بالدال المهملة من قولهم : عين حدرة ، أي عظيمة ، والحادر : المتورم.
قال ابن عطية : فالمعنى ممتلئون غيظاً وأنفة.
وقال ابن خالوية : الحادر : السمين القوي الشديد ، يقال غلام حدر بدر.

وقال صاحب اللوامح : حدر الرجل : قوي بأسه ، يقال : منه رجل حدر بدر ، إذا كان شديد البأس في الحرب ، ويقال : رجل حدر ، بضم الدال للمبالغة ، مثل يقظ.
وقال الشاعر :
أحب الصبي السوء من أجل أمّة . . .
وأبغضه من بغضها وهو حادر
أي سمين قوي.
وقيل : مدجّجون في السلام.
{ فأخرجناهم } : الضمير عائد على القبط.
{ من جنات وعيون } : بحافتي النيل من أسوان إلى رشيد ، قاله ابن عمر وغيره ، والجمهور : على أنها عيون الماء.
وقال ابن جبير : المراد عيون الذهب.
{ وكنوز } : هي الأموال التي خربوها.
قال مجاهد : سماها كنوزاً لأنه لم ينفق في طاعة الله قط.
وقال الضحاك : الكنوز : الأنهار.
قال صاحب التحبير : وهذا فيه نظر ، لأن العيون تشملهما.
وقيل : هي كنوز المقطم ومطالبه.
قال ابن عطية : هي باقية إلى اليوم. انتهى.
وأهل مصر في زماننا في غاية الطلب لهذه الكنوز التي زعموا أنها مدفونة في المقطم ، فينفقون على حفر هذه المواضع في المقطم الأموال الجزيلة ، ويبلغون في العمق إلى أقصى غاية ، ولا يظهر لهم إلا التراب أو حجر الكذان الذي المقطم مخلوق منه ، وأي مغربي يرد عليهم سألوه عن علم المطالب.
فكثير منهم يضع في ذلك أوراقاً ليأكلوا أموال المصريين بالباطل ، ولا يزال الرجل منهم يذهب ماله في ذلك حتى يفتقر ، وهو لا يزداد إلا طلباً لذلك حتى يموت.
وقد أقمت بين ظهرانيهم إلى حين كتابة هذه الأسطر ، نحواً من خمسة وأربعين عاماً ، فلم أعلم أن أحداً منهم حصل على شيء غير الفقر؛ وكذلك رأيهم في تغوير الماء.
يزعمون أن ثم آباراً ، وأنه يكتب أسماء في شقفة ، فتلقى في البئر ، فيغور الماء وينزل إلى باب في البئر ، يدخل منه إلى قاعة مملوءة ذهباً وفضة وجوهراً وياقوتاً.
فهم دائماً يسألون من يرد من المغاربة عمن يحفظ تلك الأسماء التي تكتب في الشقفة ، فيأخذ شياطين المغاربة منهم مالاً جزيلاً ، ويستأكلونهم ، ولا يحصلون على شيء غير ذهاب أموالهم ، ولهم أشياء من نحو هذه الخرافات ، يركنون إليها ويقولون بها ، وإنما أطلت في هذا على سبيل التحذير لمن يعقل.
وقوله تعالى : { ومقام كريم }.
قال ابن لهيعة : هو الفيوم.
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك : هو المنابر للخطباء.
وقيل : الأسرة في الكلل.
وقيل : مجالس الأمراء والأشراف والحكام.
وقال النقاش : المساكن الحسان.
وقيل : مرابط الخيل ، حكاه الماوردي.
وقرأ قتادة ، والأعرج : ومقام ، بضم الميم من أقام كذلك.
قال الزمخشري : يحتمل ثلاثة أوجه : النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه ، والجر على أنه وصف لمقام ، أي ومقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم ، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي الأمر كذلك. انتهى.
فالوجه الأول لا يسوغ ، لأنه يؤول إلى تشبيه الشيء بنفسه ، وكذلك الوجه الثاني ، لأن المقام الذي كان لهم هو المقام الكريم ، ولا يشبه الشيء بنفسه.

والظاهر أن قوله : { وأورثناها بني إسرائيل } ، أنهم ملكوا ديار مصر بعد غرق فرعون وقومه ، لأنه اعتقب قوله : { وأورثناها } : قوله : { وأخرجناهم } ، وقاله الحسن؛ قال : كما عبروا النهر ، رجعوا وورثوا ديارهم وأموالهم.
وقيل : ذهبوا إلى الشام وملكوا مصر زمن سليمان.
وقرأ الجمهور : { فاتبعوهم } : أي فلحقوهم.
وقرأ الحسن ، والذماري : فاتبعوهم ، بوصل الألف وشد التاء.
{ مشرقين } : داخلين في وقت الشروق ، من شرقت الشمس شروقاً ، إذا طلعت ، كأصبح : دخل في وقت الصباح ، وأمسى : دخل في وقت المساء.
وقال أبو عبيدة : فاتبعوهم نحو الشرق ، كأنجد : إذا قصد نحو نجد.
والظاهر أن مشرقين حال من الفاعل.
وقيل : مشرقين : أي في ضياء ، وكان فرعون وقومه في ضباب وظلمة ، تحيروا فيها حتى جاوز بنو إسرائيل البحر ، فعلى هذا يكون مشرقين حالاً من المفعول.
{ فلما تراءى الجمعان } : أي رأى أحدهما الآخر ، { قال أصحاب موسى إنا لمدركون } : أي ملحقون ، قالوا ذلك حين رأوا العدوّ القوي وراءهم والبحر أمامهم ، وساءت ظنونهم.
وقرأ الأعمش : وابن وثاب : تراي الجمعان ، بغير همز ، على مذهب التخفيف بين بين ، ولا يصح القلب لوقوع الهمزة بين ألفين ، إحداهما ألف تفاعل الزائدة بعد الفاء ، والثانية اللام المعتلة من الفعل.
فلو خففت بالقلب لاجتمع ثلاث ألفات متسقة ، وذلك مما لا يكون أبداً ، قاله أبو الفضل الرازي.
وقال ابن عطية : وقرأ حمزة : تريء ، بكسر الراء ويمد ثم يهمز؛ وروى مثله عن عاصم ، وروي عنه أيضاً مفتوحاً ممدود ، أو الجمهور يقرؤونه مثل تراعى ، وهذا هو الصواب ، لأنه تفاعل.
وقال أبو حاتم : وقراءة حمزة هذا الحرف محال ، وحمل عليه ، قال : وما روي عن ابن وثاب والأعمش خطأ. انتهى.
وقال الأستاذ أبو جعفر أحمد ابن الأستاذ أبي الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري ، هو ابن الباذش ، في كتاب الإقناع من تأليفه : تراءى الجمعان في الشعراء.
إذا وقف عليها حمزة والكسائي ، أما لا الألف المنقلبة عن لام الفعل ، وحمزة يميل ألف تفاعل وصلاً ووقفاً لإمالة الألف المنقلبة؛ ففي قراءته إمالة الإمالة.
وفي هذا الفعل ، وفي راءى ، إذا استقبله ألف وصل لمن أمال للإمالة ، حذف السبب وإبقاء المسبب ، كما قالوا : صعقى في النسب إلى الصعق.
وقرأ الجمهور : لمدركون ، بإسكان الدال؛ والأعرج ، وعبيد بن عمير : بفتح الدال مشددة وكسر الراء ، على وزن مفتعلون ، وهو لازم ، بمعنى الفناء والاضمحلال.
يقال : منه ادّرك الشيء بنفسه ، إذا فني تتابعاً ، ولذلك كسرت الراء على هذه القراءة ، نص على كسرها أبو الفضل الرازي في ( كتاب اللوامح ) ، والزمخشري في ( كشافه ) وغيرهما.
وقال أبو الفضل الرازي : وقد يكون ادّرك على افتعل بمعنى أفعل متعدياً ، فلو كانت القراءة من ذلك ، لوجب فتح الراء ، ولم يبلغني ذلك عنهما ، يعني عن الأعرج وعبيد بن عمير.
قال الزمخشري : المعنى إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد ، ومنه بيت الحماسة :

أبعد بني أمي الذين تتابعوا . . .
أرجى الحياة أم من الموت أجزع
{ قال كلا إن معي ربي سيهدين } : زجرهم وردعهم بحرف الردع وهو كلا ، والمعنى : لن يدركوكم لأن الله وعدكم بالنصر والخلاص منهم ، إن معي ربي سيهدين عن قريب إلى طريق النجاة ويعرفنيه.
وقيل : سيكفيني أمرهم.
ولما انتهى موسى إلى البحر ، قال له مؤمن آل فرعون ، وكان بين يدي موسى : أين أمرت ، وهذا البحر أمامك وقد غشيتك آل فرعون؟ قال : أمرت بالبحر ، ولا يدري موسى ما يصنع.
ورويت هذه المقالة عن يوشع ، قالها لموسى عليه السلام ، فأوحى الله إليه { أن اضرب بعصاك البحر } ، فخاض يوشع الماء.
وضرب موسى بعصاه ، فصار فيه اثنا عشر طريقاً ، لكل سبط طريق.
أراد تعالى أن يجعل هذه الآية متصلة بموسى ومتعلقة بفعل فعله ، ولكنه بقدرة الله إذ ضرب البحر بالعصا لا يوجب انفلاق البحر بذاته ، ولو شاء تعالى لفلقه دون ضربه بالعصا ، وتقدّم الخلاف في مكان هذا البحر.
{ فانفلق } : ثم محذوف تقديره : فضرب فانفلق.
وزعم ابن عصفور في مثل هذا التركيب أن المحذوف هو ضرب ، وفاء انفلق.
والفاء في انفلق هي فاء ضرب ، فأبقى من كل ما يدل على المحذوف ، أبقيت الفاء من فضرب واتصلت بانفلق ، ليدل على ضرب المحذوفة ، وأبقى انفلق ليدل على الفاء المحذوفة منه.
وهذا قول شبيه بقول صاحب البرسام ، ويحتاج إلى وحي بسفر عن هذا القول.
وإذا نظرت القرآن وجدت جملاً كثيرة محذوفة ، وفيها الفاء نحو قوله : { فأرسلون ، يوسف أيها } أي فأرسلوه ، فقال يوسف أيها الصديق ، والفرق الجزء المفصل.
والطود : الجبل العظيم المنطاد في السماء.
وحكى يعقوب عن بعض القراء ، أنه قرأ كل فلق باللام عوض الراء.
{ وأزلفنا } : أي قربنا ، { ثم } : أي هناك ، وثم ظرف مكان للبعد.
{ الآخرين } : أي قوم فرعون ، أي قربناهم ، ولم يذكر من قربوا منه ، فاحتمل أن يكون المعنى : قربناهم حيث انفلق البحر من بني إسرائيل ، أو قربنا بعضهم من بعض حتى لا ينجو أحد ، أو قربناهم من البحر.
وقرأ الحسن ، وأبو حيوة : وزلفنا بغير ألف.
وقرأ أبي ، وابن عباس ، وعبد الله بن الحارث : وأزلقنا بالقاف عوض الفاء ، أي أزللنا ، قاله صاحب اللوامح.
قيل : من قرأ بالقاف صار الآخرين فرعون وقومه ، ومن قرأ بالعامة يعني بالقراءة العامة ، فالآخرون هم موسى وأصحابه ، أي جمعنا شملهم وقربناهم بالنجاة.
انتهى ، وفي الكلام حذف تقديره : ودخل موسى وبنو إسرائيل البحر وأنجينا.
قيل : دخلوا البحر بالطول ، وخرجوا في الصفة التي دخلوا منها بعد مسافة ، وكان بين موضع الدخول وموضع الخروج أوعار وجبال لا تسلك.
{ إن في ذلك لآية } : أي لعلامة واضحة عاينها الناس وشاع أمرها.
قال الزمخشري : { وما كان أكثرهم مؤمنين } : أي ما تنبه أكثرهم عليها ولا آمنوا.
وبنو إسرائيل ، الذين كانوا أصحاب موسى المخصوصين بالإنجاء ، قد سألوه بقرة يعبدونها ، واتخذوا العجل ، وطلبوا رؤية الله جهرة. انتهى.
والذي يظهر أن قوله : { وما كان أكثرهم مؤمنين } : أي أكثر قوم فرعون ، وهم القبط ، إذ قد آمن السحرة ، وآمنت آسية امرأة فرعون ، ومؤمن آل فرعون ، وعجوز اسمها مريم ، دلت موسى على قبر يوسف عليه السلام ، واستخرجوه وحملوه معهم حين خرجوا من مصر.

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)

لما كانت العرب لها خصوصية بإبراهيم عليه السلام ، أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلو عليهم قصصه ، وما جرى له مع قومه.
ولم يأت في قصة من قصص هذه السورة أمره عليه السلام بتلاوة قصة إلا في هذه ، وإذ : العامل فيه.
قال الحوفي : أتل ، ولا يتصور ما قال إلا بإخراجه عن الظرفية وجعله بدلاً من نبأ ، واعتقاد أن العامل في البدل والمبدل منه واحد.
وقال أبو البقاء : العامل في إذ نبأ.
والظاهر أن الضمير في { وقومه } عائد على إبراهيم.
وقيل : على أبيه ، أي وقوم أبيه ، كما قال : { إني أراك وقومك في ضلال مبين } وما : استفهام بمعنى التحقير والتقرير.
وقد كان إبراهيم عليه السلام يعلم أنهم عبدة أصنام ، ولكن سألهم ليريهم أن ما كانوا يعبدونه ليس مستحقاً للعبادة ، لما ترتب على جوابهم من أوصاف معبوداتهم التي هي منافية للعبادة.
ولما سألهم عن الذي يعبدونه ، ولم يقتصروا على ذكره فقط ، بل أجابوا بالفعل ومتعلقه وما عطف عليه من تمام صفتهم مع معبودهم ، فقالوا : { نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين } : على سبيل الابتهاج والافتخار ، فأتوا بقصتهم معهم كاملة ، ولم يقتصروا على أن يجيبوا بقولهم : أصناماً ، كما جاء : { ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً } { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } ولذلك عطفوا على ذلك الفعل قولهم : { فنظل }.
قال : كما تقول لرئيس : ما تلبس؟ فقال : ألبس مطرف الخز فأجر ذيوله ، يريد الجواب : وحاله مع ملبوسه.
وقالوا : فنظل ، لأنهم كانو يعبدونهم بالنهار دون الليل.
ولما أجابوا إبراهيم ، أخذ يوقفهم على قلة عقولهم ، باستفهامه عن أوصاف مسلوبة عنهم لا يكون ثبوتها إلا لله تعالى.
وقرأ الجمهور : { يسمعونكم } ، من سمع؛ وسمع إن دخلت على مسموع تعدّت إلى واحد ، نحو : سمعت كلام زيد ، وإن دخلت على غير مسموع ، فمذهب الفارسي أنها تتعدى إلى اثنين ، وشرط الثاني منهما أن يكون مما يسمع ، نحو : سمعت زيداً يقرأ.
والصحيح أنها تتعدى إلى واحد ، وذلك الفعل في موضع الحال ، والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو.
وهنا لم تدخل إلا على واحد ، ولكنه بمسموع ، فتأولوه على حذف مضاف تقديره : هل يسمعونكم ، تدعون؟ وقيل : { هل يسمعونكم } بمعنى : يجيبونكم.
وقرأ قتادة ، ويحيى بن يعمر : بضم الياء وكسر الميم من أسمع ، والمفعول الثاني محذوف تقديره : الجواب ، أو الكلام.
وإذ : ظرف لما مضى ، فإما أن يتجاوز فيه فيكون بمعنى إذا ، وإما أن يتجاوز في المضارع فيكون قد وقع موقع الماضي ، فيكون التقدير : هل سمعوكم إذ دعوتم؟ وقد ذكر أصحابنا أن من قرائن صرف المضارع إلى الماضي إضافة إذ إلى جملة مصدرة بالمضارع ، ومثلوا بقوله : { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } أي وإذ قلت.
وقال الزمخشري : وجاء مضارعاً مع إيقاعه في إذ على حكاية الحال الماضية التي كنتم تدعونها فيها ، وقولوا : هل سمعوا ، أو اسمعوا قط؟ وهذا أبلغ في التبكيت.

انتهى.
وقرىء : بإظهار ذال إذ وبإدغامها في تاء تدعون.
قال ابن عطية : ويجوز فيه قياس مذكر ، ولم يقرأ به أحد؛ والقياس أن يكون اللفظ به ، إذ ددعون.
فالذي منع من هذا اللفظ اتصال الدال الأصلية في الفعل ، فكثرة المتماثلات. انتهى.
وهذا الذي ذكر أنه يجوز فيه قياس مذكر لا يجوز ، لأن ذلك الإبدال ، وهو إبدال التاء دالاً ، لا يكون إلا في افتعل ، مما فاؤه ذال أو زاي أو دال ، نحو : إذدكر ، وازدجر ، وادهن ، أصله : اذتكر ، وازتجر ، وادتهن؛ أو جيم شذوذ ، قالوا : اجد مع في اجتمع ، ومن تاء الضمير بعد الزاي والدال ، ومثلوا بتاء الضمير للمتكلم فقالوا في فزت : فزد ، وفي جلدت : جلدّ ، ومن تاء تولج شذوذاً قالوا : دولج ، وتاء المضارعة ليست شيئاً مما ذكرنا ، فلا تبدل تاءه.
وقول ابن عطية : والذي منع من هذا اللفظ إلى آخره ، يدل على أنه لولا ذلك لجاز إبدال تاء ، المضارعة دالاً وإدغام الذال فيها ، فكنت تقول : إذ تخرج : ادّخرج ، وذلك لا يقوله أحد ، بل إذا أدغم مثل هذا أبدل من الذال تاء وأدغم في التاء ، فتقول : اتخرج.
{ أو ينفعونكم بتقربكم إليهم ودعائكم إياهم.
أو يضرون } بترك عبادتكم إياهم ، فإذا لم ينفعوا ولم يضروا ، فما معنى عبادتكم لها؟ { قالوا بل وجدنا } هذه حيدة عن جواب الاستفهام ، لأنهم لو قالوا : يسمعوننا وينفعوننا ويضروننا ، فضحوا أنفسهم بالكذب الذي لا يمتري فيه ، ولو قالوا : يسمعوننا ولا يضروننا ، أسجلوا على أنفسهم بالخطأ المحض ، فعدلوا إلى التقليد البحث لآبائهم في عبادتها من غير برهان ولا حجة.
والكاف في موضع نصب بيفعلون ، أي يفعلون في عبادتهم تلك الأصنام مثل ذلك الفعل الذي يفعله ، وهو عبادتهم؛ والحيدة عن الجواب من علامات انقطاع الحجة.
وبل هنا إضراب عن جوابه لما سأل وأخذ في شيء آخر لم يسألهم عنه انقطاعاً وإقراراً بالعجز.
{ وآباؤكم الأقدمون } : وصفهم بالأقدمين دلالة على ما تقادم عبادة الأصنام فيهم ، وإذ كانوا قد عبدوها في زمان نوح عليه السلام ، فزمان من بعده؟ وعدو : يكون للمفرد والجمع ، كما قال : { هم العدو فاحذرهم } قيل : شبه بالمصدر ، كالقبول والولوع.
قال الزمخشري : وإنما قال : { عدو لي } ، تصوراً للمسألة في نفسه على معنى : أي فكرت في أمري ، فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو ، فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه ، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أولاً ، وبنى عليها تدبير أمره ، لينظروا ويقولوا : ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه ، وما أراد لنا إلا ما أراد لروحه ، ليكون أدنى لهم إلى القبول ، وأبعث على الاستماع منه.
ولو قال : فإنه عدو لكم ، لم يكن بتلك المثابة ، ولأنه دخل في باب من التعريض ، وقد يبلغ التعريض للمنصوح.

ما لا يبلغ التصريح ، لأنه ربما يتأمل فيه ، فربما قاده التأميل إلى التقبل.
ومنه ما يحكى عن الشافعي رضي الله عنه ، أن رجلاً واجهه بشيء فقال : لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب؛ وسمع رجل ناساً يتحدثون عن الحجر فقال : ما هو بيتي ولا بيتكم. انتهى.
وهو كلام فيه تكثير على عادته ، وذهاب من ذهب إلى أن قوله : { فإنهم عدو لي } ، من المقلوب والأصل : فإني عدو لهم ، لأن الأصنام لا تعادي لكونها جماداً ، وإنما هو عاداها ليس بشيء ولا ضرورة تدعو إلى ذلك.
ألا ترى إلى قوله : { كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً } ، فهذا معنى العداوة ، ولأن المغري على عداوتها عدو الإنسان ، وهو الشيطان.
وقيل : لأنه تعالى يحيي ما عبدوه من الأصنام حتى يبترؤوا من عبدتهم ويوبخوهم.
وقيل : هو على حذف ، أي : فإن عبادهم عدو لي.
والظاهر إقرار الاستثناء في موضعه من غير تقديم ولا تأخير.
وقال الجرجاني : تقديره : أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين ، فإنهم عدو لي ، وإلا : بمعنى دون وسوى. انتهى.
فجعله مستثنى مما بعد كنتم تعبدون ، ولا حاجة إلى هذا التقدير لصحة أن يكون مستثنى من قوله : { فإنهم عدو لي }.
وجعله جماعة منهم الفراء ، واتبعه الزمخشري استثناء منقطعاً ، أي لكن رب العالمين ، لأنهم فهموا من قوله : ما كنتم تعبدون أنهم الأصنام.
وأجاز الزجاج أن يكون استثناء متصلاً على أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه الأصنام ، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله ، وأجازوا في { الذي خلقني } النصب على الصفة لرب العالمين ، أو بإضمار ، أعني : والرفع خبر مبتدأ محذوف ، أي هو الذي.
وقال الحوفي : ويجوز أن يكون { الذي خلقني } رفعاً بالابتداء ، { فهو يهدين } : ابتداء وخبر في موضع الخبر عن الذي ، ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط. انتهى.
وليس الذي هنا فيه معنى اسم الشرط لأنه خاص ، ولا يتخيل فيه العموم ، فليس نظير : الذي يأتيني فله درهم ، وأيضاً ليس الفعل الذي هو خلق لا يمكن فيه تحدد بالنسبة إلى إبراهيم.
وتابع أبو البقاء الحوفي في إعرابه هذا ، لكنه لم يقل : ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط.
فإن كان أراد ذلك ، فليس بجيد لما ذكرناه ، وإن لم يرده ، فلا يجوز ذلك إلا على زيادة الفاء ، على مذهب الأخفش في نحو : زيد فاضربه؛ الذي خلقني بقدرته فهو يهدين إلى طاعته.
وقيل : إلى جنته.
وقال الزمخشري : فهو يهدين ، يريد أنه حين أتم خلقه ، ونفخ فيه الروح عقب هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى ما يصلحه ويعينه ، وإلا فمن هداه إلى أن يغتذي بالدم في البطن امتصاصاً؟ ومن هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة؟ وإلى معرفة مكانه؟ ومن هداه لكيفية الإرتضاع؟ إلى غير ذلك من هدايات المعاش والمعاد.

انتهى.
والظاهر أن قوله : { يطعمني ويسقين } : الطعام المعروف المعهود ، والسقي المعهود ، وفيه تعديد نعمة الرزق.
وقال أبو بكر الوراق : يطعمني بلا طعام ، ويسقيني بلا شراب ، كما جاء أني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ولما كان الخلق لا يمكن أن يدعيه أحد لم يؤكد فيه بهو ، فلم يكن التركيب الذي هو خلقني ، ولما كانت الهداية قد يمكن ادعاؤها.
والإطعام والسقي كذلك أكد بهو في قوله : { فهو يهدين والذي هو يطعمني } ، وذكر بعد نعمة الخلق والهداية ما تدوم به الحياة ويستمر به نظام الخلق ، وهو الغذاء والشرب.
ولما كان ذلك سبباً لغلبة إحدى الكيفيات على الأخرى بزيادة الغذاء أو نقصانه ، فيحدث بذلك مرض ذكر نعمته ، بإزالة ما حدث من السقم ، وأضاف المرض إلى نفسه ، ولم يأت التركيب : وإذا أمرضني ، وإن كان تعالى هو الفاعل لذلك وإبراهيم عليه السلام عدد نعم الله تعالى عليه والشفاء محبوب والمرض مكروه.
ولما لم يكن المرض منها ، لم يضفه إلى الله.
وعن جعفر الصادق ، ولعله لا يصح : وإذا مرضت بالذنوب شفاني بالتوبة.
وقال الزمخشري : وإنما قال : مرضت دون أمرضني ، لأن كثيراً من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك.
ومن ثم قال الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى : ما سبب آجالكم؟ لقالوا : التخم ، ولما كان الشفاء قد يعزى إلى الطيب ، وإلى الدواء على سبيل المجاز؛ كما قال : { فيه شفاء للناس } أكد بقوله : { فهو يشفين } : أي الذي هو يهدين ويطعمني ويسقين هو الله لا غيره.
ولما كانت الإماتة بعد البعث ، لا يمكن إسنادها إلا إلى الله ، لم يحتج إلى توكيد ودعوى نمروذ الإماتة والإحياء هي منه على سبيل المخرفة والقحة ، وكذلك لم يحتج إلى تأكيد في : { والذي أطمع }.
وأثبت ابن أبي إسحاق ياء المتكلم في يهديني وما بعده ، وهي رواية عن نافع.
والطمع عبارة عن الرجاء ، وإبراهيم عليه السلام كان جازماً بالمغفرة.
فقال الزمخشري : لم يجزم القول بالمغفرة ، وفيه تعليم لأممهم ، وليكون لطفاً بهم في اجتناب المعاصي والحذر منها ، وطلب المغفرة مما يفرط منهم. انتهى.
ورده الرازي قال : لأن حاصله يرجع إلى أنه ، ونطق بكلمة لا أذكرها ، وبعدها على نفسه لأجل تعليم الأمة ، وهو باطل قطعاً.
وقال الجبائي : أراد به سائر المؤمنين ، لأنهم الذين يطمعون ولا يقطعون.
ورده الرازي بأن جعل كلام الواحد من كلام غيره ، مما يبطل نظم الكلام.
وقال الحسن : المراد بالطمع اليقين.
وقال الرازي : لا يستقيم هذا إلا على مذهبنا ، حيث قلنا : إنه لا يجب على الله شيء ، وإنه يحسن منه كل شيء ، ولا اعتراض لأحد عليه في فعله.
وقال ابن عطية : أوقف عليه الصلاة والسلام نفسه على الطمع في المغفرة ، وهذا دليل على شدة خوفه مع منزلته وخلته.

وقرأ الجمهور : { خطيئتي } على الإفراد ، والحسن : خطاياي على الجمع ، وذهب الأكثرون إلى أنها قوله : { إني سقيم } و { بل فعله كبيرهم } وهي أختي في سارة.
وقالت فرقة : أراد بالخطيئة اسم الجنس ، قدرها في كل أمره من غير تعيين.
قال ابن عطية : وهذا أظهر عندي ، لأن تلك الثلاث قد خرجها كثير من العلماء على المعاريض.
وقال الزمخشري : المراد ما يندر منه في بعض الصغائر ، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون مختارون على العالمين ، وهي قوله وذكر الثلاثة ثم قال وما هي إلا معاريض ، كلام وتخيلات للكفرة ، وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار.
فإن قلت : إذا لم يندر منهم إلا الصغائر ، وهي تقع مكفرة ، فما له أثبت لنفسه خطيئة أو خطايا ، وطمع أن يغفر له؟ قلت : الجواب ما سبق ، أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم وهضم لأنفسهم ، ويدل عليه قوله : اطمع ، ولم يجزم القول. انتهى.
و { يوم الدين } : ظرف ، والعامل فيه يغفر ، والغفران ، وإن كان في الدنيا ، فأثره لا يتبين إلا يوم الجزاء ، وهو في الدنيا لا يعلم إلا بإعلام الله تعالى.
وضعف أبو عبد الله الرازي حمل الخطيئة على تلك الثلاث ، لأن نسبة ما لا يطابق إلى إبراهيم غير جائز ، وحمله على سبيل التواضع قال : لأنه إن طابق في هذا الموضع زال الإشكال ، وإن لم يطابق رجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به ، لأجل تنزيهه عن المعصية.
قال : والجواب الصحيح أن يحمل ذلك على ترك الأولى ، وقد يسمى خطأ.
فإن من باع جوهرة تساوي ألفاً بدينار ، قيل : أخطأ ، وترك الأولى على الأنبياء جائز.
انتهى ، وفيه بعض تلخيص وتبديل ألفاظ للأدب بما يناسب مقام النبوة.
وقدم إبراهيم عليه السلام الثناء على الله تعالى ، وذكره بالأوصاف الحسنة بين يدي طلبته ومسألته ، ثم سأله تعالى فقال : { رب هب لي حكماً } ، فدل على أن تقديم الثناء على المسألة من المهمات.
والظاهر أن الحكم هو الفصل بين الناس بالحق.
وقيل : الحكم : الحكمة والنبوة ، لأنها حاصلة تلو طلب النبوة ، لأن النبي ذو حكمة وذو حكم بين الناس.
وقال أبو عبد الله الرازي : لا يجوز تفسير الحكم بالنبوة لأنها حاصلة ، فلو طلب النبوة لكانت مطلوبة ، إما عين الحاصلة أو غيرها.
والأول محال ، لأن تحصيل الحاصل محال ، والثاني محال ، لأنه يمنع أن يكون الشخص الواحد نبياً مرتين ، بل المراد من الحكم ما هو كمال النبوة العملية ، وذلك بأن يكون عالماً بالخير لأجل العمل به. انتهى.
وقال ابن عطية : وقد فسر الحكم بالحكمة والنبوة ، قال : ودعاؤه عليه السلام في مثل هذا هو في التثبت والدوام.
وإلحاقه بالصالحين : توفيقه لعمل ينتظمه في جملتهم ، أو يجمع بينه وبينهم في الجنة.
وقد أجابه تعالى حيث قال : { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } قال أبو عبد الله الرازي : وإنما قدّم قوله : { هب لي حكماً } على قوله : { وألحقني بالصالحين } ، لأن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية ، لأنه يمكنه أن يعلم الحق ، وإن لم يعمل به ، وعكسه غير ممكن ، لأن العلم صفة الروح ، والعمل صفة البدن ، وكما أن الروح أشرف من البدن ، كذلك العلم أفضل من الإصلاح.

انتهى.
ولسان الصدق ، قال ابن عطية : هو الثناء وتخليد المكانة بإجماع من المفسرين.
وكذلك أجاب الله دعوته ، فكل ملة تتمسك به وتعظمه ، وهو على الحنيفية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم.
قال مكي : وقيل معنى سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق ، فأجيبت الدعوة في محمد عليه السلام ، وهذا معنى حسن ، إلا أن لفظ الآية لا يعطيه إلا بتحكم على اللفظ. انتهى.
ولما طلب سعادة الدنيا ، طلب سعادة الآخرة ، وهي جنة النعيم ، وشبهها بما يورث ، لأنه الذي يقسم في الدنيا شبه غنيمة الدنيا بغنيمة الآخرة ، وقال تعالى : { تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً } ولما فرغ من مطالب الدنيا والآخرة لنفسه ، طلب لأشد الناس التصاقاً به ، وهو أصله الذي كان ناشئاً عنه ، وهو أبوه ، فقال : { واغفر لأبي } ، وطلبه المغفرة مشروط بالإسلام ، وطلب المشروط يتضمن طلب الشرط ، فحاصله أنه دعا بالإسلام.
وكان وعده ذلك يوضحه قوله : { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو الله } أي الموافاة على الكفر تبرأ منه.
وقيل : كان قال له إنه على دينه باطناً وعلى دين نمروذ ظاهراً ، تقية وخوفاً ، فدعا له لاعتقاده أن الأمر كذلك ، فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه ، ولذلك قال في دعائه : { واغفر لأبي إنه كان من الصالحين }.
فلولا اعتقاده أنه في الحال ليس بضال ما قال ذلك.
{ ولا تخزني } : إما من الخزي ، وهو الهوان ، وإما من الخزاية ، وهي الحياء.
والضمير في { يبعثون } ضمير العباد ، لأنه معلوم ، أو ضمير { الضالين } ، ويكون من جملة الاستغفار ، لأنه يكون المعنى : يوم يبعث الضالون.
وأتى فيهم : { يوم لا ينفع } بدل من : { يوم يبعثون }.
{ مال ولا بنون } : أي كما ينفع في الدنيا يفديه ماله ويذب عنه بنوه.
وقيل : المراد بالبنين جميع الأعوان.
وقيل : المعنى يوم لا ينفع إعلاق بالدنيا ومحاسنها ، فقصد من ذلك الذكر العظيم والأكثر ، لأن المال والبنين هي زينة الحياة الدنيا.
والظاهر أن الاستثناء منقطع ، أي لكن من أتى الله بقلب سليم ينفعه سلامة قلبه.
قال الزمخشري : ولك أن تجعل الاستثناء منقطعاً ، ولا بد لك مع ذلك من تقدير المضاف ، وهو الحال المراد بها السلامة ، وليست من جنس المال والبنين حتى يؤول المعنى إلى أن المال والبنين لا ينفعان ، وإنما ينفع سلامة القلب ، ولو لم يقدر المضاف لم يتحصل للاستثناء معنى. انتهى.

ولا ضرورة تدعو إلى حذف مضاف ، كما ذكر ، إذ قدرناه ، لكن { من أتى الله بقلب سليم } ينفعه ذلك ، وقد جعله الزمخشري في أول توجيهه متصلاً بتأويل قال : إلا من أتى الله : لا حال من أتى الله بقلب سليم ، وهو من قوله :
تحية بينهم ضرب وجيع . . .
وما ثوابه إلا السيف ، ومثاله أن يقال : هل لزيد مال وبنون؟ فيقول : ماله وبنوه سلامة قلبه ، تريد نفي المال والبنين عنه ، وإثبات سلامة القلب له بدلاً عن ذلك.
وإن شئت حملت الكلام على المعنى ، وجعلت المال والبنين في معنى الغنى ، كأنه قيل : يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم ، لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه ، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه. انتهى.
وجعله بعضهم استثناء مفرغاً ، فمن مفعول ، والتقدير : لا ينفع مال ولا بنون أحداً إلا من أتى الله بقلب سليم ، فإنه ينفعه ماله المصروف في وجوه البر ، وبنوه الصلحاء ، إذ كان أنفقه في طاعة الله ، وأرشد بنيه إلى الدين ، وعلمهم الشرائع وسلامة القلب ، خلوصه من الشرك والمعاصي ، وعلق الدنيا المتروكة وإن كانت مباحة كالمال والبنين.
وقال سفيان : هو الذي يلقى ربه وليس في قلبه شيء غيره ، وهذا يقتضي عمومه اللفظ ، ولكن السليم من الشرك هو الأعم.
وقال الجنيد : بقلب لديغ من خشية الله ، والسليم : اللديغ.
وقال الزمخشري : هو من بدع التفاسير وصدق.
{ وأزلفت الجنة } : قربت لينظروا إليها ويغتبطوا بحشرهم إليها.
{ وبرزت الحجيم } : أظهرت وكشفت بحيث كانت بمرأى منهم كقوله : { فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله } وذلك على سبيل التوبيخ.
هل ينفعونكم بنصرهم إياكم ، أو ينتصرون هم فينفعون أنفسهم بحمايتها ، إذ هم وأنتم وقود النار؟ وقرأ الأعمش : فبرزت بالفاء ، جعل تبريز الجحيم بعد تقريب الجنة يعقبه ، وذلك لأن الواو للجمع ، فيمكن أن يكون كل واحد منهما ظهوره قبل الآخر ، وهو من تقديم الرحمة على العذاب ، وهو حسن ، لولا أن رسم المصحف بالواو.
وقرأ مالك بن دينار : { وبرزت } بالفتح والتخفيف؛ { الجحيم } بالرفع ، بإسناد الفعل إليها اتساعاً.
ولما وبخهم وقرعهم ، أخبر عن حال يوم القيامة ، وجيء في ذلك كله بلفظ الماضي في أتى وأزلفت وبرزت.
وقيل : { فكبكبوا } ، لتحقق وقوع ذلك ، وإن كان لم يقع.
والضمير في : فكبكبوا عائد على الأصنام ، أجريت مجرى من يعقل.
قال الكرماني : فكبكبوا : قذفوا فيها.
وقيل : جمعوا.
وقيل : هدروا.
وقيل : نكسوا على رؤوسهم يموج بعضهم في بعض.
وقيل : ألقوا في جهنم ينكبون مرة بعد مرة حتى يستقروا في قعرها.
{ والغاوون } : هم الكفرة الذين شملتهم الغواية.
وقيل : الضمير يعود على الكفار ، والغاوون : الشياطين.
{ وجنود إبليس } : قبيلة ، وكل من تبعه فهو جند له وعون.
وقال السدّي : هم مشركو العرب ، والغاوون : سائر المشركين.

وقيل : هم القادة والسفلة ، قالوا : أي عباد الأصنام ، والجملة بعده حال ، والمقول جملة القسم ومتعلقه ، والخطاب في { نسويكم } للأصنام على جهة الإقرار والاعتراف بالحق.
قال ابن عطية : أقسموا بالله إن كنا إلا ضالين في أن نعبدكم ونجعلكم سواء مع الله تعالى ، الذي هو رب العالمين وخالقهم ومالكهم. انتهى.
وقوله : إن كنا إلا ضالين ، إن أراد تفسير المعنى فهو صحيح ، وإن أراد أن إن هنا نافية ، واللام في لفي بمعنى إلا ، فليس مذهب البصريين ، وإنما هو مذهب الكوفيين.
ومذهب البصريين في مثل هذا أن إن هي المخففة من الثقيلة ، وأن اللام هي الداخلة للفرق بين إن النافية وإن التي هي لتأكيد مضمون الجملة.
{ وما أضلنا إلا المجرمون } : أي أصحاب الجرائم والمعاصي العظام والجرأة ، وهم ساداتهم ذوو المكانة في الدنيا والاستتباع كقولهم : { أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا } وقال السدي : هم الأولون الذين اقتدوا بهم.
وقيل : المجرمون : الشياطين ، وقيل : من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس.
وقال ابن جريج : إبليس وابن آدم القاتل ، لأنه أول من سن القتل وأنواع المعاصي.
وحين رأوا شفاعة الملائكة والأنبياء والعلماء نافعة في أهل الإيمان ، وشفاعة الصديق في صديقه خاصة ، قالوا على جهة التلهف والتأسف ، { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم }.
وقال ابن جريج : شافعين من الملائكة وصديق من الناس.
ولفظة الشفيع تقتضي رفعة مكانة عند المشفوع عنده ، ولفظة الصديق تقتضي شدة مساهمة ونصرة ، وهو فعيل من صدق الود من أبنية المبالغة ونفي الشفعاء.
والصديق يحتمل أن يكون نفياً لوجودهم إذ ذاك ، وهم موجودون للمؤمنين ، إذ تشفع الملائكة وتتصادق المؤمنون ، كما قال : الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين ، أو ذلك على حسب اعتقادهم في معبوداتهم أنهم شفعاؤهم عند الله ، وأن لهم أصدقاء من الإنس والشياطين ، فقصدوا بنفيهم نفي ما يتعلق بهم من النفع ، لأن ما لا ينفع ، حكمه حكم المعدوم ، فصار المعنى : فما لنا من نفع من كنا نعتقد أنهم شفعاء وأصدقاء ، وجمع الشفعاء لكثرتهم في العادة.
ألا ترى أنه يشفع فيمن وقع في ورطة من لا يعرفه ، وأفرد الصديق لقلته ، وأريد به الجمع؟ إذ يقال : هم صديق ، أي أصدقاء ، كما يقال : هم عدو ، أي أعداء.
والظاهر أن لو هنا أشربت معنى التمني ، وفنكون الجواب ، كأنه قيل : يا ليت لنا كرة فنكون.
وقيل : هي الخالصة للدلالة لما كان سيقع لوقوع غيره ، فيكون قوله : { فنكون } معطوفاً على كرة ، أي فكونا من المؤمنين ، وجواب لو محذوف ، أي لكان لنا شفعاء وأصدقاء ، أو لخلصنا من العذاب.
والظاهر أن هذه الجمل كلها متعلقة بقول إبراهيم ، أخبر بما أعلمه الله من أحوال يوم القيامة ، وما يكون فيها من حال قومه.
وقال ابن عطية : وهذه الآيات من قوله : { يوم لا ينفع مال ولا بنون } هي عندي منقطعة من كلام إبراهيم عليه السلام ، وهي إخبار من الله عز وجل ، تعلق بصفة ذلك اليوم الذي وقف إبراهيم عليه السلام عنده في دعائه أن لا يخزي فيه.

انتهى.
وكان ابن عطية قد أعرب { يوم لا ينفع } بدلاً من { يوم يبعثون } ، وعلى هذا لا يتأتى هذا الذي ذكره من تفكيك الكلام ، وجعل بعضه من كلام إبراهيم ، وبعضه من كلام الله ، لأن العامل في البدل على مذهب الجمهور فعل آخر من لفظ الأول ، أو الأول.
وعلى كلا التقديرين ، لا يصح أن يكون من كلام الله ، إذ يصير التقدير : ولا تخزني يوم لا ينفع مال ولا بنون.
والإشارة بقوله { إن في ذلك لآية } إلى قصة إبراهيم عليه السلام ومحاورته لقومه.
{ وما كان أكثرهم } : أي أكثر قوم إبراهيم.
بين تعالى أن أكثر قومه لم يؤمنوا مع ظهور هذه الدلائل التي استدل بها إبراهيم عليه السلام ، وفي ذلك مسلاة للرسول صلى الله عليه وسلم في تكذيب قومه إياه عليه السلام.

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)

المشحون : المملوء بما ينبغي له من قدر ما يحمل ، يقال : شحنها عليهم خيلاً ورجالاً ، الريع : بكسر الراء وفتحها : جمع ريعة ، وهو المكان المرتفع.
قال ذو الرمة :
طراق الخوافي مشرق فوق ريعه . . .
بذي ليلة في ريشه يترقرق
وقال أبو عبيدة : الريع : الطريق.
قال ابن المسيب بن علس يصف ظعناً :
في الآل يخفضها ويرفعها . . .
ريع يلوح كأنه سحل
الطلع : الكفري ، وهو عنقود التمر قبل أن يخرج من الكم في أول نباته.
وقال الزمخشري : الطلعة : هي التي تطلع من النخلة ، كنصل السيف في جوفه.
شماريخ القنو ، والقنو : اسم للخارج من الجذع ، كما هو بعرجونه.
الفراهة : جودة منظر الشيء وقوته وكماله في نوعه.
وقيل : الكيس والنشاط.
القالي : المبغض ، قلى يقلي ويقلى ، ومجيئه على يفعل بفتح العين شاذ.
الجبلة : الخلق المتجسد الغليظ ، مأخوذ من الجبل.
قال الشاعر :
والموت أعظم حادث . . .
مما يمر على الجبله
ويقال : بسكون الباء مثلث الجيم.
وقال الهروي : الجبل والجبل والجبل ، لغات ، وهو الجمع الكثير العدد من الناس. انتهى.
هام : ذهب على وجهه ، قاله الكسائي.
وقال أبو عبيدة : حاد عن القصد.
{ كذبت قوم نوح المرسلين ، إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون ، إني لكم رسول أمين ، فاتقوا الله وأطيعون ، وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ، فاتقوا الله وأطيعون ، قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ، قال وما علمي بما كانوا يعملون ، إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون ، وما أنا بطارد المؤمنين ، إن أنا إلا نذير مبين ، قالوا لئن لم تنته ينوح لتكونن من المرجومين ، قال رب إن قومي كذبون ، فافتح بيني وبينهم فتحاً ونجني ومن معي من المؤمنين ، فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ، ثم أغرقنا بعد الباقين ، إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ، وإن ربك لهو العزيز الرحيم }.
القوم : مؤنث مجازي التأنيث ، ويصغر قويمة ، فلذلك جاء : { كذبت قوم نوح }.
ولما كان مدلوله أفراداً ذكوراً عقلاء ، عاد الضمير عليه ، كما يعود على جمع المذكر العاقل.
وقيل : قوم مذكر ، وأنث لأنه في معنى الأمة والجماعة ، وتقدم معنى تكذيب قوم نوح المرسلين ، وإن كان المرسل إليهم واحداً في الفرقان في قوله : { وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم } وإخوة نوح قيل : في النسب.
وقيل : في المجانسة ، كقوله :
يا أخا تميم تريد يا واحد أمته . . .
وقال الشاعر :
لا يسألون أخاهم حين يندبهم . . .
في النائبات على ما قال برهانا
ومتعلق التقوى محذوف ، فقيل : ألا تتقون عذاب الله وعقابه على شرككم؟ وقيل : ألا تتقون مخالفة أمر الله فتتركوا عبادتكم للأصنام وأمانته ، كونه مشهوراً في قومه بذلك ، أو مؤتمناً على أداء رسالة الله؟ ولما عرض عليهم برفق تقوى الله فقال : { ألا تتقون } ، انتقل من العرض إلى الأمر فقال : { فاتقوا الله وأطيعون } في نصحي لكم ، وفيما دعوتكم إليه من توحيد الله وإفراده بالعبادة.

{ وما أسئلكم عليه } : أي على دعائي إلى الله والأمر بتقواه.
وقيل : الضمير في عليه يعود على النصح ، أو على التبليغ ، والمعنى : لا أسئلكم عليه شيئاً من أموالكم.
وقدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته ، لأن تقوى الله سبب لطاعة نوح عليه السلام.
ثم كرر الأمر بالتقوى والطاعة ، ليؤكد عليهم ويقرر ذلك في نفوسهم ، وإن اختلف التعليل ، جعل الأول معلولاً لأمانته ، والثاني لانتفاء أخذ الأجر.
ثم لم ينظروا في أمر رسالته ، ولا تفكروا فيما أمرهم به ، لما جبلوا عليه ونشؤوا من حب الرئاسة ، وهي التي تطبع على قلوبهم.
فشرع أشرافهم في تنقيص متبعيه ، وأن الحامل على انتفاء إيمانهم له ، كونه اتبعه الأرذلون.
وقوله : { واتبعك الأرذلون } ، جملة حالية ، أي كيف نؤمن وقد اتبعك أراذلنا ، فنتساوى معهم في اتباعك؟ وكذا فعلت قريش في شأن عمار وصهيب.
والضعفاء أكثر استجابة من الرؤساء ، لأن أذهانهم ليست مملوءة بزخارف الدنيا ، فهم أدرك للحق وأقبل له من الرؤساء.
وقرأ الجمهور : واتبعك فعلاً ماضياً.
وقرأ عبد الله ، وابن عباس ، والأعمش ، وأبو حيوة ، والضحاك ، وابن السميفع ، وسعيد بن أبي سعد الأنصاري ، وطلحة ، ويعقوب : واتباعك جمع تابع ، كصاحب وأصحاب.
وقيل : جمع تبيع ، كشريف وأشراف.
وقيل : جمع تبع ، كبرم وإبرام ، والواو في هذه القراءة للحال.
وقيل : للعطف على الضمير الذي في قوله : { أنؤمن لك } ، وحسن ذلك للفصل بلك ، قاله أبو الفضل الرازي وابن عطية وأبو البقاء.
وعن اليماني : واتباعك بالجر عطفاً على الضمير في لك ، وهو قليل ، وقاسه الكوفيون.
والأرذلون : رفع بإضمارهم.
قيل : والذين آمنوا به بنوه ونساؤه وكنانة وبنو بنيه ، فعلى هذا لا تكون الرذالة دناءة المكاسب؛ وتقدم الكلام في الرذالة في هود في قوله : { إلا الذين هم أراذلنا } وأرادوا بذلك تنقيص نوح عليه السلام ، إذ لم يعلموا أن ضعفاء الناس هم أتباع الرسل ، كما ورد في حديث هرقل.
وهذا الذي أجابوا به في غاية السخافة ، إذ هو مبعوث إلى الخلق كافة ، فلا يختلف الحال بسبب الفقر والغنى ، ولا شرف المكاسب ودناءتها.
وقال ابن عطية : ويظهر من الآية أن مراد قوم نوح نسبة الرذيلة إلى المؤمنين ، بتهجين أفعالهم لا النظر إلى صنائعهم ، يدل على ذلك قول نوح : { وما علمي } الآية ، لأن معنى كلامه ليس في نظري ، وعلمي بأعمالهم ومعتقداتهم فائدة ، فإنما أقنع بظاهرهم وأجتزىء به ، ثم حسابهم على الله تعالى ، وهذا نحو ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله » ، الحديث بجملته انتهى.
وقال الكرماني : لا أطلب العلم بما عملوه ، إنما على أن أدعوهم.

وقال الزمخشري : وما علمي ، وأي شيء علمي ، والمراد انتفاء علمه بإخلاص أعمالهم واطلاعه على سرائرهم؛ وإنما قال هذا لأنهم قد طعنوا في استرذالهم في إيمانهم ، وأنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة ، وإنما آمنوا هوى وبديهة ، كما حكى الله عنهم في قوله : { الذين هم أراذلنا } بادىء الرأي.
ويجوز أن يتعالى لهم نوح عليه السلام ، فيفسر قولهم : الأرذلون ، بما هو الرذالة عنده من سوء الأعمال وفساد العقائد ، ولا يلتفت إلى ما هو الرذالة عندهم.
ثم بنى جوابه على ذلك فيقول : ما عليّ إلا اعتبار الظواهر ، دون التفتيش على أسرارهم والشق عن قلوبهم ، وإن كان لهم شيء ، فالله محاسبهم ومجازيهم ، وما أنا إلا منذر لا محاسب ، ولا مجاز ، لو تشعرون ذلك ، ولكنكم تجهلون ، فتنساقون مع الجهل حيث سيركم.
وقصد بذلك رد اعتقادكم ، وإنكار أن يسمى المؤمن رذلاً ، وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسباً.
فإن الغنى غنى الدين ، والنسب نسب التقوى. انتهى.
وهو تكثير.
وقال الحوفي : وما علمي ما نافيه ، والباء متعلقة بعلمي. انتهى.
وهذا التخريج يحتاج فيه إلى إضمار خبر حتى تصير جملة ولما كانوا لا يصدقون بالحساب ولا بالبعث ، أردفه بقوله : { لو تشعرون } ، أي بأن المعاد حق ، والحساب حق.
وقرأ الجمهور : تشعرون بتاء الخطاب.
وقرأ الأعرج ، وأبو زرعة ، وعيسى بن عمر الهمداني : بياء الغيبة.
{ وما أنا بطارد المؤمنين } : هذا مشعر بأنهم طلبوا منه ذلك فأجابهم بذلك ، كما طلب رؤساء قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرد من آمن من الضعفاء ، فنزلت : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم } الآية ، أي لا أطردهم عني لاتباع شهواتكم والطمع في إيمانكم.
{ إن أنا إلا نذير مبين } ، ما جئت به بالبرهان الصحيح الذي يميز به الحق من الباطل.
ولما اعتلوا في ترك إيمانهم بإيمان من هو دونهم ، دل ذلك على أنهم لم تثلج صدورهم للإيمان ، إذ اتباع الحق لا يأنف منه أحد لوجود الشركة فيه ، أخذوا في التهديد والوعيد.
{ قالوا لئن لم تنته يا نوح } عن تقبيح ما نحن عليه ، وادعائك الرسالة من الله ، { لتكونن من المرجومين } ، أي بالحجارة ، وقيل : بالشتم.
وأيس إذ ذاك من فلاحهم ، فنادى ربه وهو أعلم بحاله : { إن قومي كذبون } ، فدعائي ليس لأجل أنهم آذوني ، ولكن لأجل دينك.
{ فافتح } ، أي فاحكم.
ودعا لنفسه ولمن آمن به بالنجاة ، وفي ذلك إشعار بحلول العذاب بقومه ، أي : { ونجني } مما يحل بهم.
وقيل : ونجني من عملهم لأنه سبب العقوبة.
والفلك واحد وجمع ، وغالب استعماله جمعاً لقوله : { وترى الفلك مواخر فيه } { والفلك التي تجري في البحر } فحيث أتى في غير فاصلة ، استعمل جمعاً ، وحيث كان فاصلة ، استعمل مفرداً لمراعاة الفواصل ، كهذا الموضع.
والذي في سورة يس ، وتقدّم الخلاف إذا كان مدلوله جمعاً ، أهو جمع تكسير ، أم اسم جمع؟ والمشحون ، قال ابن عباس : الموقر ، وقال عطاء : المثقل.
{ ثم أغرقنا بعد } : أي بعد نجاة نوح والمؤمنين.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46