كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)

وتقدم الكلام في تسبيح الجمادات التي يشملها العموم المدلول عليه بما ، { من أهل الكتاب } : هم قريظة ، وكانت قبيلة عظيمة توازن في القدر والمنزلة بني النضير ، ويقال لهما الكاهنان ، لأنهما من ولد الكاهن بن هارون ، نزلوا قريباً من المدينة في فتن بني إسرائيل ، انتظاراً لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فكان من أمرهم ما قصه الله تعالى في كتابه.
{ من ديارهم } : يتعلق بأخرج ، و { من أهل الكتاب } يتعلق بمحذوف ، أي كائنين من أهل الكتاب.
وصحت الإضافة إليهم لأنهم كانوا ببرية لا عمران فيها ، فبنوا فيها وأنشأوا.
واللام في { لأول الحشر } تتعلق بأخرج ، وهي لام التوقيت ، كقوله : { لدلوك الشمس } والمعنى : عند أول الحشر ، والحشر : الجمع للتوجيه إلى ناحية مّا.
والجمهور : إلى أن هؤلاء الذين أخرجوا هم بنو النضير.
وقال الحسن : هم بنو قريظة؛ ورد هذا بأن بني قريظة ما حشروا ولا أجلوا وإنما قتلوا ، وهذا الحشر هو بالنسبة لإخراج بني النضير.
وقيل الحشر هو حشر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتائب لقتالهم ، وهو أول حشر منه لهم ، وأول قتال قاتلهم.
وأول يقتضي ثانياً ، فقيل : الأول حشرهم للجلاء ، والثاني حشر عمر لأهل خيبر وجلاؤهم.
وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بجلاء أهل خيبر بقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يبقين دينان في جزيرة » وقال الحسن : أراد حشر القيامة ، أي هذا أوله ، والقيام من القبور آخره.
وقال عكرمة والزهري : المعنى : الأول موضع الحشر ، وهو الشام.
وفي الحديث ، أنه عليه الصلاة والسلام قال لبني النضير : « اخرجوا ، قالوا : إلى أين؟ قال : إلى أرض المحشر » وقيل : الثاني نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وهذا الجلاء كان في ابتداء الإسلام ، وأما الآن فقد نسخ ، فلا بد من القتل والسبي أو ضرب الجزية.
{ ما ظننتم أن يخرجوا } ، لعظم أمرهم ومنعتهم وقوتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعددهم.
{ وظنوا أنهم } تمنعهم حصونهم من حرب الله وبأسه.
ولما كان ظن المؤمنين منفياً هنا ، أجري مجرى نفي الرجاء والطمع ، فتسلط على أن الناصبة للفعل ، كما يتسلط الرجاء والطمع.
ولما كان ظن اليهود قوياً جداً يكاد أن يلحق بالعلم تسلط على أن المشددة ، وهي التي يصحبها غالباً فعل التحقيق ، كعلمت وتحققت وأيقنت ، وحصونهم الوصم والميضاة والسلاليم والكثيبة.
وقال الزمخشري : فإن قلت : أي فرق بين قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم ، وبين النظم الذي جاء عليه؟ قلت : في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم ، وفي تصيير ضميرهم اسماً لأن وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في انفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم ، وليس ذلك في قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم.

انتهى ، يعني أن حصونهم هو المبتدأ ، ومانعتهم الخبر ، ولا يتعين هذا ، بل الراجح أن يكون حصونهم فاعلة بمانعتهم ، لأن في توجيهه تقديماً وتأخيراً ، وفي إجازة مثله من نحو : قائم زيد ، على الابتداء ، والخبر خلاف؛ ومذهب أهل الكوفة منعه.
{ فأتاهم الله } : أي بأسه ، { من حيث لم يحتسبوا } : أي لم يكن في حسابهم ، وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف ، قاله السدي وأبو صالح وابن جريج ، وذلك مما أضعف قوتهم.
{ وقذف في قلوبهم الرعب } ، فسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة حتى نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } ، قال قتادة : خرب المؤمنون من خارج ليدخلوا ، وخربوا هم من داخل ونحوه.
قال الضحاك والزجاج وغيرهما : كانوا كلما خرب المسلمون من حصونهم ، هدموا هم من البيوت ، خربوا الحصن.
وقال الزهري وغيره : كانوا ، لما أبيح لهم ما تستقل به الإبل ، لا يدعون خشبة حسنة ولا سارية إلا قلعوها وخربوا البيوت عنها ، فيكون قوله : { وأيدي المؤمنين } إسناد التخريب إليها من حيث كان المؤمنون محاصرتهم إياهم داعية إلى ذلك.
وقيل : شحوا على بقائها سليمة ، فخربوها إفساداً.
وقرأ قتادة والجحدري ومجاهد وأبو حيوة وعيسى وأبو عمر : ويخربون مشدّداً؛ وباقي السبعة مخففاً ، والقراءتان بمعنى واحد عدى خرب اللازم بالتضعيف وبالهمزة.
وقال صاحب الكامل في القراءات؛ التشديد الاختيار على التكثير.
وقال أبو عمرو بن العلاء : خرب بمعنى هدم وأفسد ، وأخرب : ترك الموضع خراباً وذهب عنه.
{ فاعتبروا } : تفطنوا لما دبر الله من إخراجهم بتسليط المؤمنين عليهم من غير قتال.
وقيل : وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يورثهم الله أرضهم وأموالهم بغير قتال ، فقال : فكان كما قال؛ { ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا } : أي لولا أنه تعالى قضى أنه سيجليهم من ديارهم ويبقون مدة يؤمن بعضهم ويولد لبعضهم من يؤمن ، لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي ، كما فعل بإخوانهم بني قريظة.
وكان بنو النضير من الجيش الذين عصوا موسى في كونهم لم يقتلوا الغلام ابن ملك العماليق ، تركوه لجماله وعقله.
وقال موسى عليه السلام : لا تستحيوا منهم أحداً.
فلما رجعوا إلى الشام ، وجدوا موسى عليه السلام قد مات.
فقال لهم بنو إسرائيل : أننم عصاة ، والله لا دخلتم علينا بلادنا ، فانصرفوا إلى الحجاز ، فكانوا فيه ، فلم يجر عليهم الجلاء الذي أجلاه بخت نصر على أهل الشام.
وكان الله قد كتب على بني إسرائيل جلاء ، فنالهم هذا الجلاء على يد محمد صلى الله عليه وسلم ، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالسيف والقتل ، كأهل بدر وغيرهم.
ويقال : جلا القوم عن منازلهم وأجلاهم غيرهم.
قيل : والفرق بين الجلاء والإخراج : أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد ، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.

وقال الماوردي : الجلاء لا يكون إلا لجماعة ، والإخراج قد يكون لواحد وجماعة.
وقرأ الجمهور : الجلاء ممدوداً؛ والحسن بن صالح وأخوه علي بن صالح : مقصوراً؛ وطلحة : مهموزاً من غير ألف كالبنأ.
{ ولهم في الآخرة عذاب النار } : أي إن نجوا من عذاب الدنيا ، لم ينجوا في الآخرة.
وقرأ طلحة : ومن يشاقق بالإظهار ، كالمتفق عليه في الأنفال؛ والجمهور؛ بالإدغام.
كان بعض الصحابة قد شرع في بعض نخل بني النضير يقطع ويحرق ، وذلك في صدر الحرب ، فقالوا : ما هذا الإفساد يا محمد وأنت تنهى عن الإفساد؟ فكفوا عن ذلك ، ونزل : { ما قطعتم من لينة } الآية رداً على بني النضير ، وإخباراً أن ذلك بتسويغ الله وتمكينه ليخربكم به ويذلكم.
واللينة والنخلة اسمان بمعنى واحد ، قاله الحسن ومجاهد وابن زيد وعمرو بن ميمون.
وقال الشاعر :
كان قيودي فوقها عش طائر . . .
على لينة سوقاً يهفو حيونها
وقال آخر :
طراق الحوامي واقع فوق لينة . . .
يدي ليلة في ولشه يترقرق
وقال ابن عباس وجماعة من أهل اللغة : هي النخلة ما لم تكن عجوة.
وقال الثوري : الكريمة من النخل.
وقال أبو عبيدة وسفيان : ما ثمرها لون ، وهو نوع من التمر يقال له اللون.
قال سفيان : هو شديد الصفرة يشف عن نواه فيرى من خارج.
وقال أيضاً أبو عبيدة : اللين : ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا برني.
وقال جعفر بن محمد : هي العجوة ، وقيل : هي السيلان ، وأنشد فيه :
غرسوا لينة بمجرى معين . . .
ثم حف النخيل بالآجام
وقيل : هي أغصان الأشجار للينها ، فعلى هذا لا يكون أصل الياء الواو.
وقيل : هي النخلة القصيرة.
وقال الأصمعي : هي الدفل ، وما شرطية منصوبة بقطعتم ، ومن لينة تبيين لإبهام ما ، وجواب الشرط { فبإذن الله } : أي فقطعها أو تركها بإذن الله.
وقرأ الجمهور؛ { قائمة } ، أنث قائمة ، والضمير في { تركتموها } على معنى ما.
وقرأ عبد الله والأعمش وزيد بن علي : قوماً على وزن فعل ، كضرب جمع قائم.
وقرىء : قائماً اسم فاعل ، فذكر على لفظ ما ، وأنث في على أصولها.
وقرىء : أصلها بغير واو.
ولما جلا بنو النضير عن أوطانهم وتركوا رباعهم وأموالهم ، طلب المسلمون تخميسها كغنائم بدر ، فنزلت : { ما أفاء الله على رسوله } : بين أن أموالهم فيء ، لم يوجف عليها خيل ولا ركاب ولا قطعت مسافة ، إنما كانوا ميلين من المدينة مشوا مشياً ، ولم يركب إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عمر بن الخطاب : كانت أموال بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، ينفق منها على أهله نفقة سنته ، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله تعالى.
وقال الضحاك : كانت له عليه الصلاة والسلام ، فآثر بها المهاجرين وقسمها عليهم ، ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلا أبا دجانة وسهل بن حنيف والحرث بن الصمة ، أعطاهم لفقرهم.

وما في قوله : { وما أفاء الله على رسوله } شرطية أو موصولة ، وأفاء بمعنى : يفيء ، ولا يكون ماضياً في اللفظ والمعنى ، ولذلك صلة ما الموصولة إذا كانت الباء في خبرها ، لأنها إذ ذاك شبهت باسم الشرط.
فإن كانت الآية نزلت قبل جلائهم ، كانت مخبرة بغيب ، فوقع كما أخبرت؛ وإن كانت نزلت بعد حصول أموالهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، كان ذلك بياناً لما يستقبل ، وحكم الماضي المتقدم حكمه.
ومن في : { من خيل } زائدة في المفعول يدل عليه الاستغراق ، والركاب : الإبل ، سلط الله رسوله عليهم وعلى ما في أيديهم ، كما كان يسلط رسله على من يشاء من أعدائهم.
وقال بعض العلماء : كل ما وقع على الأئمة مما لم يوجف عليه فهو لهم خاصة.
{ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } ، قال الزمخشري : لم يدخل العاطف على هذه الجملة ، لأنها بيان للأولى ، فهي منها غير أجنبية عنها.
بين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصنع بما أفاء الله عليه ، وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوم على الأقسام الخمسة. انتهى.
وقال ابن عطية : أهل القرى المذكورون في هذه الآية هم أهل الصفراء وينبع ووادي القرى وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عرينة ، وحكمها مخالف لبني النضير ، ولم يحبس من هذه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه شيئاً ، بل أمضاها لغيره ، وذلك أنها في ذلك الوقت فتحت. انتهى.
وقيل : إن الآية الأولى خاصة في بني النضير ، وهذه الآية عامة.
وقرأ الجمهور : { كي لا يكون } بالياء؛ وعبد الله وأبو جعفر وهشام : بالتاء.
والجمهور : { دولة } بضم الدال ونصب التاء؛ وأبو جعفر وأبو حيوة وهشام : بضمها؛ وعلي والسلمي : بفتحها.
قال عيسى بن عمر : هما بمعنى واحد.
وقال الكسائي وحذاق البصرة : الفتح في الملك بضم الميم لأنها الفعلة في الدهر ، والضم في الملك بكسر الميم.
والضمير في تكون بالتأنيث عائد على معنى ما ، إذ المراد به الأموال والمغانم ، وذلك الضمير هو اسم { يكون }.
وكذلك من قرأ بالياء ، أعاد الضمير على لفظ ما ، أي يكون الفيء ، وانتصب دولة على الخبر.
ومن رفع دولة فتكون تامة ، ودولة فاعل ، وكيلا يكون تعليل لقوله : { فلله وللرسول } ، أي فالفيء وحكمه لله وللرسول ، يقسمه على ما أمره الله تعالى ، كي لا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى للفقراء بلغة يعيشون بها متداولاً بين الأغنياء يتكاثرون به ، أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم ، كما كان رؤساؤهم يستأثرون بالغنائم ويقولون : من عز بزّ ، والمعنى : كي لا يكون أخذه غلبة وأثرة جاهلية.
وروي أن قوماً من الأنصار تكلموا في هذه القرى المفتتحة وقالوا : لنا منها سهمنا ، فنزل : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }.

وعن الكلبي : أن رؤوساً من المسلمين قالوا له : يا رسول الله ، خذ صفيك والربع ودعنا والباقي ، فهكذا كنا نفعل في الجاهلية ، فنزل : { وما آتاكم الرسول فخذوه } الآية ، وهذا عام يدخل فيه قسمة ما أفاء الله والغنائم وغيرها؛ حتى أنه قد استدل بهذا العموم على تحريم الخمر ، وحكم الواشمة والمستوشمة ، وتحريم المخيط للمحرم.
ومن غريب الحكايات في الاستنباط : أن الشافعي ، رحمه الله تعالى ، قال : سلوني عما شئتم أخبركم به من كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال له عبد الله بن محمد بن هارون : ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال : قال الله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }.
وحدثنا سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن ربعي بن خراش ، عن حذيفة بن اليمان ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر » وحدثنا سفيان بن عيينة ، عن مسعر بن كدام ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب ، أنه أمر بقتل الزنبور. انتهى.
ويعني في الإحرام.
بين أنه يقتدي بعمر ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء به ، وأن الله تعالى أمر بقبول ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)

{ للفقراء } ، قال الزمخشري : بدل من قوله : { ولذي القربى } ، والمعطوف عليه والذي منع الإبدال من { لله وللرسول } ، والمعطوف عليهما ، وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الله عز وجل أخرج رسوله من الفقراء في قوله : { وينصرون الله ورسوله } ، وأنه يترفع برسول الله صلى الله عليه وسلم عن التسمية بالفقير ، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وعلا. انتهى.
وإنما جعله الزمخشري بدلاً من قوله : { ولذي القربى } ، لأنه مذهب أبي حنيفة ، والمعنى إنما يستحق ذو القربى الفقير.
فالفقر شرط فيه على مذهب أبي حنيفة ، ففسره الزمخشري على مذهبه.
وأما الشافعي ، فيرى أن سبب الاستحقاق هو القرابة ، فيأخذ ذو القربى الغني لقرابته.
وقال ابن عطية : { للفقراء المهاجرين } بيان لقوله : { والمساكين وابن السبيل } ، وكررت لام الجر لما كانت الأولى مجرورة باللام ، ليبين بين الأغنياء منكم ، أي ولكن يكون للفقراء. انتهى.
ثم وصف تعالى المهاجرين بما يقتضي فقرهم ويوجب الإشفاق عليهم.
{ أولئك هم الصادقون } : أي في إيمانهم وجهادهم قولاً وفعلاً.
والظاهر أن قوله : { والذين تبوؤا } معطوف على المهاجرين ، وهم الأنصار ، فيكون قد وقع بينهم الاشتراك فيما يقسم من الأموال.
وقيل : هو مستأنف مرفوع بالابتداء ، والخبر { يحبون }.
أثنى الله تعالى بهذه الخصال الجليلة ، كما أنثى على المهاجرين بقوله : { يبتغون فضلاً } الخ ، والإيمان معطوف على الدار ، وهي المدينة ، والإيمان ليس مكاناً فيتبوأ.
فقيل : هو من عطف الجمل ، أي واعتقدوا الإيمان وأخلصوا فيه ، قاله أبو عليّ ، فيكون كقوله :
علفتها تبناً وماء بارداً . . .
أو يكون ضمن { تبوؤا } معنى لزموا ، واللزوم قدر مشترك في الدار والإيمان ، فيصح العطف.
أو لما كان الإيمان قد شملهم ، صار كالمكان الذي يقيمون فيه ، لكن يكون ذلك جمعاً بين الحقيقة والمجاز.
قال الزمخشري : أو أراد دار الهجرة ودار الإيمان ، فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه؛ أو سمى المدينة ، لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان بالإيمان.
وقال ابن عطية : والمعنى تبوؤا الدار مع الإيمان معاً ، وبهذا الاقتران يصح معنى قوله : { من قبلهم } فتأمله. انتهى.
ومعنى { من قبلهم } : من قبل هجرتهم ، { حاجة } : أي حسداً ، { مما أوتوا } : أي مما أعطي المهاجرون ، ونعم الحاجة ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في إعطاء المهاجرين من أموال بني النضير والقرى.
{ ويؤثرون على أنفسهم } : من ذلك قصة الأنصاري مع ضيف الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث لم يكن لهم إلا ما يأكل الصبية ، فأوهمهم أنه يأكل حتى أكل الضيف ، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام : « عجب الله من فعلكما البارحة » ، فالآية مشيرة إلى ذلك.

وروي غير ذلك في إيثارهم.
والخصاصة : الفاقة ، مأخوذة من خصاص البيت ، وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج : والفتوح ، فكأن حال الفقير هي كذلك ، يتخللها النقص والاحتياج.
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة : شح بكسر الشين.
والجمهور : بإسكان الواو وتخفيف القاف وضم الشين ، والشح : اللؤم ، وهو كزازة النفس على ما عندها ، والحرص على المنع.
قال الشاعر :
يمارس نفساً بين جنبيه كزة . . .
إذا همّ بالمعروف قالت له مهلاً
وأضيف الشح إلى النفس لأنه غريزة فيها.
وقال تعالى : { وأحضرت الأنفس الشح } وفي الحديث : « من أدّى الزكاة المفروضة وقرى الضيف وأعطى في النائبة فقد برىء من الشح » { والذين جاءوا من بعدهم } : الظاهر أنه معطوف على ما قبله من المعطوف على المهاجرين.
فقال الفراء : هم الفرقة الثالثة من الصحابة ، وهو من آمن أو كفر في آخر مدّة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الجمهور : أراد من يجيء من التابعين ، فعلى القول الأول : يكون معنى { من بعدهم } : أي من بعد المهاجرين والأنصار السابقين بالإيمان ، وهؤلاء تأخر إيمانهم ، أو سبق إيمانه وتأخرت وفاته حتى انقرض معظم المهاجرين والأنصار.
وعلى القول الثاني : يكون معنى { من بعدهم } : أي من بعد ممات المهاجرين ، مهاجريهم وأنصارهم.
وإذا كان { والذين } معطوفاً على المجرور قبله ، فالظاهر أنهم مشاركو من تقدّم في حكم الفيء.
وقال مالك بن أوس : قرأ عمر { إنما الصدقات للفقراء } الآية ، فقال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { واعلموا أنما غنمتم } فقال : وهذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { ما أفاء الله على رسوله } حتى بلغ { للفقراء المهاجرين } إلى { والذين جاءوا من بعدهم }.
ثم قال : لئن عشت لنؤتين الراعي ، وهو يسير نصيبه منها.
وعنه أيضاً : أنه استشار المهاجرين والأنصار فيما فتح الله عليه من ذلك في كلام كثير آخره أنه تلا : { ما أفاء الله على رسوله } الآية ، فلما بلغ { أولئك هم الصادقون } قال : هي لهؤلاء فقط ، وتلا : { والذين جاءوا من بعدهم } الآية ، إلى قوله : { رءوف رحيم } ؛ ثم قال : ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك.
وقال عمر رضي الله تعالى عنه : لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها ، كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر.
وقيل : { والذين جاءوا من بعدهم } مقطوع مما قبله ، معطوف عطف الجمل ، لا عطف المفردات؛ فإعرابه : { والذين } مبتدأ ، ندبوا بالدعاء للأولين ، والثناء عليهم ، وهم من يجيء بعد الصحابة إلى يوم القيامة ، والخبر { يقولون } ، أخبر تعالى عنهم بأنهم لإيمانهم ومحبة أسلافهم { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا } ، وعلى القول الأول يكون { يقولون } استئناف إخبار ، قيل : أو حال.
{ ألم تر إلى الذين نافقوا } الآية : نزلت في عبد الله بن أبيّ ، ورفاعة بن التابوت ، وقوم من منافقي الأنصار ، كانوا بعثوا إلى بني النضير بما تضمنته الجمل المحكية بقوله : { يقولون } ، واللام في { لإخوانهم } للتبليغ ، والإخوة بينهم إخوة الكفر وموالاتهم ، { ولا نطيع فيكم } : أي في قتالكم ، { أحداً } : من الرسول والمؤمنين؛ أو { لا نطيع فيكم } : أي في خذلانكم وإخلاف ما وعدناكم من النصرة ، و { لننصرنكم } : جواب قسم محذوف قبل أن الشرطية ، وجواب أن محذوف ، والكثير في كلام العرب إثبات اللام المؤذنة بالقسم قبل أداة الشرط ، ومن حذفها قوله :

{ وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين } التقدير : ولئن لم ينتهوا لكاذبون ، أي في مواعيدهم لليهود ، وفي ذلك دليل على صحة النبوة لأنه إخبار بالغيب ، ولذلك لم يخرجوا حين أخرج بنو النضير ، بل أقاموا في ديارهم ، وهذا إذا كان قوله : { لإخوانهم } أنهم بنو النضير.
وقيل : هم يهود المدينة ، والضمائر على هذين القولين.
وقيل : فيها اختلاف ، أي لئن أخرج اليهود لا يخرج المنافقون ، ولئن قوتل اليهود لا ينصرهم المنافقون ، ولئن نصر اليهود المنافقين ليولي اليهود الأدبار ، وكأن صاحب هذا القول نظر إلى قوله : { ولئن قوتلوا لا ينصرونهم } ، فقد أخبر أنهم لا ينصرونهم ، فكيف يأتي { ولئن نصروهم } ؟ فأخرجه في حيز الإمكان ، وقد أخبر أنهم لا ينصرونهم ، فلا يمكن نصرهم إياهم بعد إخباره تعالى أنه لا يقع.
وإذا كانت الضمائر متفقة ، فقال الزمخشري : معناه ولئن نصروهم على الفرض ، والتقدير كقوله : { لئن أشركت ليحبطن عملك } وكما يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون.
وقال ابن عطية : معناه : ولئن خالفوا ذلك فإنهم ينهزمون. انتهى.
والظاهر أن الضمير في { ليولن الأدبار } ، وفي { ثم لا ينصرون } عائد على المفروض أنهم ينصرونهم ، أي ولئن نصرهم المنافقون ليولن المنافقون الأدبار ، ثم لا ينصر المنافقون.
وقيل : الضمير في التولي عائد على اليهود ، وكذا في { لا ينصرون }.
قال ابن عطية : وجاءت الأفعال غير مجزومة في قوله : { لا يخرجون } و { لا ينصرون } لأنها راجعة على حكم القسم ، لا على حكم الشرط ، وفي هذا نظر. انتهى.
وأي نظر في هذا؟ وهذا جاء على القاعدة المتفق عليها من أنه إذا تقدم القسم على الشرط كان الجواب للقسم وحذف جواب الشرط ، وكان فعله بصيغة المضي ، أو مجزوماً بلم ، وله شرط ، وهو أن لا يتقدمه طالب خبر.
واللام في { لئن } مؤذنة بقسم محذوف قبله ، فالجواب له.
وقد أجاز الفراء أن يجاب الشرط ، وأن تقدم القسم ، ورده عليه البصريون.
ثم خاطب المؤمنين بأن هؤلاء يخافونكم أشد خيفة من الله تعالى ، لأنهم يتوقعون عاجل شركم ، ولعدم إيمانهم لا يتوقعون أجل عذاب الله ، وذلك لقلة فهمهم ، ورهبة : مصدر رهب المبني للمفعول ، كأنه قيل : أشد مرهوبية ، فالرهبة واقعة منهم لا من المخاطبين ، والمخاطبون مرهوبون ، وهذا كما قال :
فلهو أخوف عندي إذ أكلمه . . .
وقيل إنك مأسور ومقتول
من ضيغم بثراء الأرض مخدره . . .
ببطن عثر غيل دونه غيل
فالمخبر عنه مخوف لا خائف ، والضمير في { صدورهم }.

قيل : لليهود ، وقيل : للمنافقين ، وقيل : للفريقين.
وجعل المصدر مقراً للرهبة دليل على تمكنها منهم بحيث صارت الصدور مقراً لها ، والمعنى : رهبتهم منكم أشد من رهبتهم من الله عز وجل.
{ لا يقاتلونكم } : أي بنو النضير وجميع اليهود.
وقيل : اليهود والمنافقون { جميعاً } : أي مجتمعين متساندين يعضد بعضهم بعضاً ، { إلا في قرى محصنة } : لا في الصحراء لخوفهم منكم ، وتحصينها بالدروب والخنادق ، أو من وراء جدار يتسترون به من أن تصيبوهم.
وقرأ الجمهور : { جدر } بضمتين ، جمع جدار؛ وأبو رجاء والحسن وابن وثاب : بإسكان الدال تخفيفاً ، ورويت عن ابن كثير وعاصم والأعمش.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير وكثير من المكيين : جدار بالألف وكسر الجيم.
وقرأ كثير من المكيين ، وهارون عن ابن كثير : جدر بفتح الجيم وسكون الدال.
قال صاحب اللوامح : وهو واخذ بلغة اليمن.
وقال ابن عطية : ومعناه أصل بنيان كالسور ونحوه.
قال : ويحتمل أن يكون من جدر النخل ، أي من وراء نخلهم ، إذ هي مما يتقى به عند المصافة.
{ بأسهم بينهم شديد } : أي إذا اقتتلوا بعضهم مع بعض.
كان بأسهم شديداً؛ أما إذا قاتلوكم ، فلا يبقى لهم بأس ، لأن من حارب أولياء الله خذل.
{ تحسبهم جميعاً } : أي مجتمعين ، ذوي ألفة واتحاد.
{ وقلوبهم شتى } : أي وأهواؤهم متفرقة ، وكذا حال المخذولين ، لا تستقر أهواؤهم على شيء واحد ، وموجب ذلك الشتات هو انتفاء عقولهم ، فهم كالبهائم لا تتفق على حالة.
وقرأ الجمهور : { شتى } بألف التأنيث؛ ومبشر بن عبيد : منوناً ، جعلها ألف الإلحاق؛ وعبد الله : وقلوبهم أشت : أي أشد تفرقاً ، ومن كلام العرب : شتى تؤوب الحلبة.
قال الشاعر :
إلى الله أشكوا فتية شقت العصا . . .
هي اليوم شتى وهي أمس جميع

كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)

{ كمثل } : خبر مبتدأ محذوف ، أي مثلهم ، أي بني النضير { كمثل الذين من قبلهم قريباً } : وهم بنو قينقاع ، أجلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة قبل بني النضير فكانوا مثلاً لهم ، قاله ابن عباس؛ أو أهل بدر الكفار ، فإنه عليه الصلاة والسلام قتلهم ، فهم مثلهم في أن غلبوا وقهروا.
وقيل : الضمير في { من قبلهم } للمنافقين ، و { الذين من قبلهم } : منافقو الأمم الماضية ، غلبوا ودلوا على وجه الدهر ، فهؤلاء مثلهم.
ويبعد هذا التأويل لفظة { قريباً } أن جعلته متعلقاً بما قبله ، وقريباً ظرف زمان وإن جعلته معمولاً لذاقوا ، أي ذاقوا وبال أمرهم قريباً من عصيانهم ، أي لم تتأخر عقوبتهم في الدنيا ، كما لم تتأخر عقوبة هؤلاء.
{ ولهم عذاب أليم } في الآخرة.
{ كمثل الشيطان } : لما مثلهم بمن قبلهم ، ذكر مثلهم مع المنافقين ، فالمنافقون كالشيطان ، وبنو النضير كالإنسان ، والجمهور : على أن الشيطان والإنسان اسما جنس يورطه في المعصية ثم يفر منه.
كذلك أغوى المنافقون بني النضير ، وحرضوهم على الثبات ، ووعدوهم النصر.
فلما نشب بنو النضير ، خذلهم المنافقون وتركوهم في أسوأ حال.
وقيل : المراد استغواء الشيطان قريشاً يوم بدر.
وقوله لهم : { لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم } إلى قوله : { إني بريء منكم } وقيل : التمثيل بشيطان مخصوص مع عابد مخصوص استودع امرأة ، فوقع عليها فحملت ، فخشي الفضيحة ، فقتلها ودفنها.
سول له الشيطان ذلك ، ثم شهره ، فاستخرجت فوجدت مقتولة؛ وكان قال إنها ماتت ودفنتها ، فعلموا بذلك ، فتعرض له الشيطان وقال : اكفر واسجد لي وأنا أنجيك ، ففعل وتركه عند ذلك وقال : أنا بريء منك.
وقول الشيطان : { إني أخاف الله } رياء ، ولا يمنعه الخوف عن سوء يوقع ابن آدم فيه.
وقرأ الجمهور : { عاقبتهما } بنصب التاء؛ والحسن وعمرو بن عبيد وسليم بن أرقم : برفعهما.
والجمهور : { خالدين } بالياء حالاً ، و { في النار } خبر أن؛ وعبد الله وزيد بن علي والأعمش وابن عبلة : بالألف ، فجاز أن يكون خبر أن ، والظرف ملغى وإن كان قد أكد بقوله : { فيها } ، وذلك جائز على مذهب سيبويه ، ومنع ذلك أهل الكوفة ، لأنه إذا أكد عندهم لا يلغى.
ويجوز أن يكون في النار خبراً ، لأن { خالدين } خبر ثان ، فلا يكون فيه حجة على مذهب سيبويه.
ولما انقضى في هذه السورة ، وصف المنافقون واليهود.
وعظ المؤمنين ، لأن الموعظة بعد ذكر المصيبة لها موقع في النفس لرقة القلوب والحذر مما يوجب العذاب ، وكرر الأمر بالتقوى على سبيل التوكيد ، أو لإختلاف متعلق بالتقوى.
فالأولى في أداء الفرائض ، لأنه مقترن بالعمل؛ والثانية في ترك المعاصي ، لأنه مقترن بالتهديد والوعيد.
وقرأ الجمهور : { ولتنظر } : أمراً ، واللام ساكنة؛ وأبو حيوة ويحيى بن الحارث : بكسرها.
وروي ذلك عن حفص ، عن عاصم والحسن : بكسرها وفتح الراء ، جعلها لام كي.

ولما كان أمر القيامة كائناً لا محالة ، عبر عنه بالغد ، وهو اليوم الذي يلي يومك على سبيل التقريب.
وقال الحسن وقتادة : لم يزل يقر به حتى جعله كالغد ، ونحوه : كأن لم تغن بالأمس ، يريد تقريب الزمان الماضي.
وقيل : عبر عن الآخرة بالغد ، كأن الدنيا والآخرة نهاران ، يوم وغد.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بقوله : { لغد } : ليوم الموت ، لأنه لكل إنسان كغده.
وقال مجاهد وابن زيد : بالأمس الدنيا وغد الآخرة.
وقال الزمخشري : أما تنكير النفس فاستقلال للأنفس النواظر فيما قدمن للآخرة ، كأنه : قيل لغد لا يعرف كنهه لعظمه. انتهى.
وقرأ الجمهور : { لا تكونوا } بتاء الخطاب؛ وأبو حيوة : بياء الغيبة ، على سبيل الالتفات.
وقال ابن عطية : كناية عن نفس التي هي اسم الجنس؛ { كالذين نسوا } : هم الكفار ، وتركوا عبادة الله وامتثال ما أمر واجتناب ما نهى ، وهذا تنبيه على فرط غفلتهم واتباع شهواتهم؛ { فأنساهم أنفسهم } ، حيث لم يسعوا إليها في الخلاص من العذاب ، وهذا من المجازاة على الذنب بالذنب.
عوقبوا على نسيان جهة الله تعالى بأن أنساهم أنفسهم.
قال سفيان : المعنى حظ أنفسهم ، ثم ذكر مباينة الفريقين : أصحاب النار في الجحيم ، وأصحاب الجنة في النعيم ، كما قال : { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون } وقال تعالى : { أم نجعل المتقين كالفجار } { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل } : هذا من باب التخييل والتمثيل ، كما مر في قوله تعالى : { إنا عرضنا الأمانة على السماوات } ودل على ذلك : { وتلك الأمثال نضربها للناس } والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه ، وعدم تأثره لهذا الذي لو أنزل على الجبل لتخشع وتصدع.
وإذا كان الجبل على عظمه وتصلبه يعرض له الخشوع والتصدع ، فابن آدم كان أولى بذلك ، لكنه على حقارته وضعفه لا يتأثر.
وقرأ طلحة : مصدعاً ، بإدغام التاء في الصاد؛ وأبو السمال وأبو دينار الأعرابي : القدوس بفتح القاف؛ والجمهور : بالفك والضم.
وقرأ الجمهور : المؤمن بكسر الميم ، اسم فاعل من آمن بمعنى أمن.
وقال ثعلب : المصدق المؤمنين في أنهم آمنوا.
وقال النحاس : أو في شهادتهم على الناس يوم القيامة.
وقيل : المصدق نفسه في أقواله الأزلية.
وقرأ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ، وقيل ، أبو جعفر المدني : المؤمن بفتح الميم.
قال أبو حاتم : لا يجوز ذلك ، لأنه لو كان كذلك لكان المؤمن به وكان جائزاً ، لكن المؤمن المطلق بلا حرف جر يكون من كان خائفاً فأومن.
وقال الزمخشري : يعني المؤمن به على حذف حرف الجر ، كما تقول في قوم موسى من قوله : { واختار موسى قومه } المختارون.
{ المهيمن } : تقدم شرحه.
{ الجبار } : القهار الذي جبر خلقه على ما أراد.
وقيل : الجبار : الذي لا يدانيه شيء ولا يلحق ، ومنه نخلة جبارة إذا لم تلحق ، وقال امرؤ القيس :

سوابق جبار أتيت فروعه . . .
وعالين قنواناً من البسر أحمرا
وقال ابن عباس : هو العظيم ، وجبروته : عظمته.
وقيل : هو من الجبر ، وهو الإصلاح.
جبرت العظم : أصلحته بعد الكسر.
وقال الفراء : من أجبره على الأمر : قهره ، قال : ولم أسمع فعالاً من أفعل إلا في جبار ودراك.
انتهى ، وسمع أسار فهو أسار.
{ المتكبر } : المبالغ في الكبرياء والعظمة.
وقيل : المتكبر عن ظلم عباده ، { الخالق } : المقدر لما يوجده.
{ البارىء } : المميز بعضه من بعض بالأشكال المختلفة ، { المصور } : الممثل.
وقرأ عليّ وحاطب بن أبي بلتعة والحسن وابن السميقع : المصور بفتح الواو والراء ، وانتصب مفعولاً بالباري ، وأراد به جنس المصور.
وعن علي؛ فتح الواو وكسر الراء على إضافة اسم الفاعل إلى المفعول ، نحو : الضارب الغلام.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)

ومناسبة هذه السورة لما قبلها : أنه لما ذكر فيما قبلها حالة المنافقين والكفار ، افتتح هذه بالنهي عن موالاة الكفار والتودّد إليهم ، وأضاف في قوله : { عدوي } تغليظاً ، لجرمهم وإعلاماً بحلول عقاب الله بهم.
والعدو ينطلق على الواحد وعلى الجمع ، وأولياء مفعول ثان لتتخذوا.
{ تلقون } : بيان لموالاتهم ، فلا موضع له من الإعراب ، أو استئناف إخبار.
وقال الحوفي والزمخشري : حال من الضمير في { لا تتخذوا } ، أو صفة لأولياء ، وهذا تقدّمه إليه الفراء ، قال : { تلقون إليهم بالمودة } من صلة { أولياء }. انتهى.
وعندهم أن النكرة توصل ، وعند البصريين لا توصل بل توصف ، والحال والصفة قيد وهم قد نهوا عن اتخاذهم أولياء مطلقاً ، والتقييد يدل على أنه يجوز أن يتخذوا أولياء إذا لم يكونوا في حال إلقاء المودة ، أو إذا لم يكن الأولياء متصفين بهذا الوصف ، وقد قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } فدل على أنه لا يقتصر على تلك الحال ولا ذلك الوصف.
والأولياء عبارة عن الإفضاء بالمودة ، ومفعول { تلقون } محذوف ، أي تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسراره.
والباء في { بالمودة } للسبب ، أي بسبب المودة التي بينهم.
وقال الكوفيون : الباء زائدة ، كما قيل : في : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } : أي أيديكم.
قال الحوفي : وقال البصريون هي متعلقة بالمصدر الذي دل عليه الفعل ، وكذلك قوله { بإلحاد بظلم } أي إرادته بإلحاد. انتهى.
فعلى هذا يكون { بالمودة } متعلقاً بالمصدر ، أي إلقاؤهم بالمودّة ، وهذا ليس بجيد ، لأن فيه حذف المصدر ، وهو موصول ، وحذف الخبر ، إذ إلقاؤهم مبتدأ وبما يتعلق به ، { وقد كفروا } جملة حالية ، وذو الحال الضمير في { تلقون } : أي توادونهم ، وهذه حالهم ، وهي الكفر بالله ، ولا يناسب الكافر بالله أن يودّ.
وأجاز الزمخشري أن يكون حالاً من فاعل { لا تتخذوا }.
وقرأ الجمهور : { بما جاءكم } ، والجحدري والمعلى عن عاصم : لما باللام مكان الباء ، أي لأجل ما جاءكم.
{ يخرجون الرسول } : استئناف ، كالتفسير لكفرهم ، أو حال من ضمير { كفروا } ، { وإياكم } : معطوف على الرسول.
وقدّم على إياكم الرسول لشرفه ، ولأنه الأصل للمؤمنين به.
ولو تقدّم الضمير لكان جائزاً في العربية ، خلافاً لمن خص ذلك بالضرورة ، قال : لأنك قادر على أن تأتي به متصلاً ، فلا تفصل إلا في الضرورة ، وهو محجوج بهذه الآية وبقوله تعالى : { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } وإياكم أن اتقوا الله ، وقدّم الموصول هنا على المخاطبين للسبق في الزمان وبغير ذلك من كلام العرب.
و { أن تؤمنوا } مفعول من أجله ، أي يخرجون لإيمانكم أو كراهة إيمانكم ، { إن كنتم خرجتم } : شرط جوابه محذوف لدلالة ما تقدّم عليه ، وهو قوله : { لا تتخذوا عدوي } ، ونصب جهاداً وابتغاء على المصدر في موضع الحال ، أي مجاهدين ومبتغين ، أو على أنه مفعول من أجله.

{ تسرون } : استئناف ، أي تسرون وقد علمتم أني أعلم الإخفاء والإعلان ، وأطلع الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فلا طائل في فعلكم هذا.
وقال ابن عطية : { تسرون } بدل من { تلقون }.
انتهى ، وهو شبيه ببدل الاشتمال ، لأن الإلقاء يكون سراً وجهراً ، فهو ينقسم إلى هذين النوعين.
وأجاز أيضاً أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : أنتم تسرون.
والظاهر أن { أعلم } أفعل تفضيل ، ولذلك عداه بالباء.
وأجاز ابن عطية أن يكون مضارعاً عدى بالباء قال : لأنك تقول علمت بكذا.
{ وأنا أعلم } : جملة حالية ، والضمير في { ومن يفعله منكم } ، الظاهر أنه إلى أقرب مذكور ، أي ومن يفعل الأسرار.
وقال ابن عطية : يعود على الاتخاذ ، وانتصب سواء على المفعول به على تقدير تعدى ضل ، أو على الظرف على تقدير اللزوم ، والسواء : الوسط.
ولما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء ، وشرح ما به الولاية من الإلقاء بالمودة بينهم ، وذكر ما صنع الكفار بهم أولاً من إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، ذكر صنيعهم آخراً لو قدروا عليه من أنه إن تمكنوا منكم تظهر عداوتهم لكم ، ويبسطوا أيديهم بالقتل والتعذيب ، وألسنتهم بالسب؛ وودوا لو ارتددتم عن دينكم الذي هو أحب الأشياء إليكم ، وهو سبب إخراجهم إياكم.
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف أورد جواب الشرط مضارعاً مثله ، ثم قال { وودوا } بلفظ الماضي؟ قلت : الماضي ، وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب ، فإنه فيه نكتة كأنه قيل : وودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم ، يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعاً. انتهى.
وكأن الزمخشري فهم من قوله : { وودوا } أنه معطوف على جواب الشرط ، فجعل ذلك سؤالاً وجواباً.
والذي يظهر أن قوله : { وودوا } ليس على جواب الشرط ، لأن ودادتهم كفرهم ليست مترتبة على الظفر بهم والتسلط عليهم ، بل هم وادون كفرهم على كل حال ، سواء أظفروا بهم أم لم يظفروا ، وإنما هو معطوف على جملة الشرط والجزاء ، أخبر تعالى بخبرين : أحدهما اتضاح عداوتهم والبسط إليهم ما ذكر على تقدير الظفر بهم ، والآخر ودادتهم كفرهم ، لا على تقدير الظفر بهم.
ولما كان حاطب قد اعتذر بأن له بمكة قرابة ، فكتب إلى أهلها بما كتب ليرعوه في قرابته ، قال تعالى : { لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم } : أي قراباتكم الذين توالون الكفار من أجلهم ، وتتقربون إليهم محاماة عليهم.
ويوم معمول لينفعكم أو ليفصل.
وقرأ الجمهور؛ { يفصل } بالياء مخففاً مبنياً للمفعول.
وقرأ الأعرج وعيسى وابن عامر : كذلك إلا أنه مشدد ، والمرفوع ، إما { بينكم } ، وهو مبني على الفتح لإضافته إلى مبني ، وإما ضمير المصدر المفهوم من يفصل ، أي يفصل هو ، أي الفصل.
وقرأ عاصم والحسن والأعمش : يفصل بالياء مخففاً مبنياً للفاعل؛ وحمزة والكسائي وابن وثاب : مبنياً للفاعل بالياء مضمومة مشدداً؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة : كذلك إلا أنه بالنون مشدداً؛ وهما أيضاً وزيد بن علي : بالنون مفتوحة مخففاً مبنياً للفاعل؛ وأبو حيوة أيضاً : بالنون مضمومة ، فهذا ثماني قراءات.

ولما نهى عن موالاة الكفار ، ذكر قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وأن من سيرته التبرؤ من الكفار ليقتدوا به في ذلك ويتأسوا.
وقرأ الجمهور : إسوة بكسر الهمزة ، وعاصم بضمها ، وهما لغتان.
{ والذين معه } ، قيل : من آمن به.
وقال الطبري وغيره : الأنبياء معاصروه ، أو كانوا قريباً من عصره ، لأنه لم يرو أنه كان له أتباع مؤمنون في مكافحته لهم ولنمروذ.
ألا تراه قال لسارة حين رحل إلى الشام مهاجراً من بلد نمروذ : ما على الأرض من يعبد الله غيري وغيرك؟ والتأسي بإبراهيم عليه السلام هو في التبرؤ من الشرك ، وهو في كل ملة وبرسولنا عليه الصلاة والسلام على الإطلاق في العقائد وأحكام الشرع.
وقرأ الجمهور؛ { برآء } جمع بريء ، كظريف وظرفاء؛ وعيسى : براء جمع بريء أيضاً ، كظريف وظراف؛ وأبو جعفر : بضم الباء ، كتؤام وظؤار ، وهم اسم جمع الواحد بريء وتوأم وظئر ، ورويت عن عيسى.
قال أبو حاتم : زعموا أن عيسى الهمداني رووا عنه براء على فعال ، كالذي في قوله تعالى : { إنني برآء مما تعبدون } في الزخرف ، وهو مصدر على فعال يوصف به المفرد والجمع.
وقال الزمخشري : وبراء على إبدال الضم من الكسر ، كرخال ورباب. انتهى.
فالضمة في ذلك ليست بدلاً من كسرة ، بل هي ضمة أصلية ، وهو قريب من أوزان أسماء الجموع ، وليس جمع تكسير ، فتكون الضمة بدلاً من الكسرة ، إلا قول إبراهيم استثناء من قوله : { أسوة حسنة } ، قاله قتادة والزمخشري.
قال مجاهد وقتادة وعطاء الخراساني وغيرهم : المعنى أن الأسوة لكم في هذا الوجه لا في الوجه الآخر ، لأنه كان لعلمه ليست في نازلتكم.
وقال الزمخشري : فإن قلت : فإن كان قوله : { لأستغفرن لك } مستثنى من القول الذي هو { أسوة حسنة } ، فما بال قوله : { فما أملك لك من الله من شيء } ، وهو غير حقيق بالاستثناء؟ ألا ترى إلى قوله : { فمن يملك لكم من الله شيئاً } ؟ قلت : أراد استثناء جملة قوله لأبيه ، والقصد إلى موعد الاستغفار له وما بعده مبني عليه وتابع له ، كأنه قال : أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار. انتهى.
وقال الزمخشري : أولاً بعد أن ذكر أن الاستثناء هو من قوله : { أسوة حسنة } في مقالات قال : لأنه أراد بالأسوة الحسنة ، فهو الذي حق عليهم أن يأتسوا به ويتخذوه سنة يستنون بها. انتهى.
والذين يظهر أنه مستثنى من مضاف لإبراهيم تقديره : أسوة حسنة في مقالات إبراهيم ومحاوراته لقومه إلا قول إبراهيم لأبيه { لأستغفرن لك } ، فليس فيه أسوة حسنة ، فيكون على هذا استثناء متصلاً.

وأما أن يكون قول إبراهيم مندرجاً في أسوة حسنة ، لأن معنى الأسوة هو الاقتداء والتأسي ، فالقول ليس مندرجاً تحته ، لكنه مندرج تحت مقالات إبراهيم عليه السلام.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الاستثناء من التبري والقطيعة التي ذكرت ، لم تبق جملة إلا كذا. انتهى.
وقيل : هو استثناء منقطع المعنى ، لكن قول إبراهيم لأبيه { لأستغفرن لك } ، فلا تأسوا به فيه فتستغفروا وتفدوا آباءكم الكفار بالاستغفار.
{ ربنا عليك توكلنا } وما بعده ، الظاهر أنه من تمام قول إبراهيم متصلاً بما قبل الاستثناء ، وهو من جملة ما يتأسى به فيه ، وفصل بينهما بالاستثناء اعتناء بالاستثناء ولقربه من المستثنى منه ، ويجوز أن يكون أمراً من الله للمؤمنين ، أي قولوا ربنا عليك توكلنا ، علمهم بذلك قطع العلائق التي بينهم وبين الكفار.
{ ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } ، قال ابن عباس : لا تسلطهم علينا فيسبوننا ويعذبوننا.
وقال مجاهد : لا تعذبنا بأيديهم أو بعذاب من عندك ، فيظنوا أنهم محقون وأنا مبطلون ، فيفتنوا لذلك.
وقال قريباً منه قتادة وأبو مجلز ، وقول ابن عباس أرجح لأنه دعاء لأنفسهم ، وعلى قول غيره دعاء للكافرين ، والضمير في فيهم عائد على إبراهيم والذين معه ، وكررت الأسوة تأكيداً ، وأكد ذلك بالقسم أيضاً ، ولمن يرجو بدل من ضمير الخطاب ، بدل بعض من كل.
وروي أنه لما نزلت هذه الآية ، عزم المسلمون على إظهار عداوات أقربائهم الكفار ، ولحقهم هم لكونهم لم يؤمنوا حتى يتوادوا ، فنزل { عسى الله } الآية مؤنسة ومرجئة ، فأسلم الجميع عام الفتح وصاروا إخواناً.
ومن ذكر أن هذه المودة هي تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأنها كانت بعد الفتح فقد أخطأ ، لأن تزويجها كان وقت هجرة الحبشة ، وهذه الآيات سنة ست من الهجرة ، ولا يصح ذلك عن ابن عباس إلا أن يسوقه مثالاً ، وإن كان متقدماً لهذه الآية ، لأنه استمر بعد الفتح كسائر ما نشأ من المودات ، قاله ابن عطية.
وعسى من الله تعالى واجبة الوقوع ، { والله قدير } على تقليب القلوب وتيسير العسير ، { والله غفور } لمن أسلم من المشركين.
{ لا ينهاكم الله } الآية ، قال مجاهد : نزلت في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا ، فكانوا في رتبة سوء لتركهم فرض الهجرة.
وقيل : في مؤمنين من أهل مكة وغيرها تركوا الهجرة.
وقال الحسن وأبو صالح : في خزاعة وبين الحارث بن كعب وكنانة ومزينة وقبائل من العرب ، كانوا مظاهرين للرسول محبين فيه وفي ظهوره.
وقيل : فيمن لم يقاتل ، ولا أخرج ولا أظهر سوأ من كفار قريش.
وقال قرة الهمداني وعطية العوفي : في قوم من بني هاشم منهم العباس.
وقال عبد الله بن الزبير : في النساء والصبيان من الكفرة.
وقال النحاس والثعلبي : أراد المستضعفين من المؤمنين الذين لم يستطيعوا الهجرة.

وقيل : قدمت على أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنه أمّها نفيلة بنت عبد العزى ، وهي مشركة ، بهدايا ، فلم تقبلها ولم تأذن لها بالدخول ، فنزلت الآية ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخلها منزلها وتقبل منها وتكفيها وتحسن إليها.
قال ابن عطية : وكانت المرأة فيما روي خالتها فسمتها أمّاً؛ وفي التحرير : أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه طلق امرأته نفيلة في الجاهلية ، وهي أم أسماء بنت أبي بكر ، فقدمت في المدة التي فيها الهدنة وأهدت إلى أسماء قرطاً وأشياء ، فكرهت أن تقبل منها ، فنزلت الآية.
و { أن تبروهم } ، و { أن تولوهم } بدلان مما قبلهما ، بدل اشتمال.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)

كان صلح الحديبية قد تضمن أن من أتى أهل مكة من المسلمين لم يرد إليهم ، ومن أتى المسلمين من أهل مكة رد إليهم ، فجاءت أم كلثوم ، وهي بنت عقبة بن أبي معيط ، وهي أول امرأة هاجرت بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية ، فخرج في أثرها أخواها عمارة والوليد ، فقالا : يا محمد أوف لنا بشرطنا ، فقالت : يا رسول الله حال النساء إلى الضعف ، كما قد علمت ، فتردني إلى الكفار يفتنوني عن ديني ولا صبر لي ، فنقض الله العهد في النساء ، وأنزل فيهن الآية ، وحكم بحكم رضوه كلهم.
وقيل : سبب نزولها سبيعة بنت الحارث الأسلمية ، جاءت الحديبية مسلمة ، فأقبل زوجها مسافر المخدومي.
وقيل : صيفي بن الراهب ، فقال : يا محمد اردد علي امرأتي ، فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا ، وهذه طينة الكتاب لم تجف ، فنزلت بياناً أن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء.
وذكر أبو نعيم الأصبهاني أن سبب نزولها أميمة بنت بشر بن عمرو بن عوف ، امرأة حسان بن الدحداحة ، وسماهن تعالى مؤمنات قبل أن يمتحن ، وذلك لنطقهن بكلمة الشهادة ، ولم يظهر منهن ما ينافي ذلك ، أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان.
وقرىء : مهاجرات بالرفع على البدل من المؤمنات ، وامتحانهن ، قالت عائشة : بآية المبايعة.
وقيل : بأن بشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وقال ابن عباس : بالحلف إنها ما خرجت إلا حباً لله ورسوله ورغبة في دين الإسلام.
وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة وعكرمة : كانت تستحلف أنها ما هاجرت لبغض في زوجها ، ولا لجريرة جرتها ، ولا لسبب من أغراض الدنيا سوى حب الله ورسوله والدار الآخرة.
{ الله أعلم بإيمانهن } : لأنه تعالى هو المطلع على أسرار القلوب ومخبآت العقائد ، { فإن علمتموهن } : أطلق العلم على الظن الغالب بالحلف وظهور الإمارات بالخروج من الوطن ، والحلول في قوم ليسوا من قومها ، وبين انتفاء رجعهن إلى الكفار أزواجهن ، وذلك هو التحريم بين المسلمة والكافر.
وقرأ طلحة : لا هن يحلان لهم ، وانعقد التحريم بهذه الجملة ، وجاء قوله : { ولا هم يحلون لهن } على سبيل التأكيد وتشديد الحرمة ، لأنه إذا لم تحل المؤمنة للكافر ، علم أنه لا حل بينهما البتة.
وقيل : أفاد قوله : { ولا هم يحلون لهن } استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل ، كما هو في الحال ما داموا على الإشراك وهن على الإيمان.
{ وآتوهم ما أنفقوا } : أمر أن يعطي الزوج الكافر ما أنفق على زوجته إذا أسلمت ، فلا يجمع عليه خسران الزوجية والمالية.
قال ابن عباس : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد إمتحانها زوجها الكافر ، ما أنفق عليها ، فتزوجها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وكان إذا امتحنهن ، أعطى أزواجهن مهورهن.

وقال قتادة : الحكم في رد الصداق إنما كان في نساء أهل العهد ، فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين ، فلا يرد عليه الصداق ، والأمر كما قال قتادة ، ثم نفى الحرج في نكاح المؤمنين اياهن إذا آتوهن مهورهن ، ثم أمر تعالى المؤمنين بفراق نسائهن الكوافر عوابد الأوثان.
وقرأ الجمهور : { تمسكوا } مضارع أمسك ، كأكرم؛ وأبو عمرو ومجاهد : بخلاف عنه؛ وابن جبير والحسن والأعرج : مضارع مسك مشدّداً؛ والحسن أيضاً وابن أبي ليلى وابن عامر في رواية عبد الحميد وأبو عمرو في رواية معاذ : تمسكوا بفتح الثلاثة ، مضارع تمسك محذوف الثاني بتمسكوا؛ والحسن أيضاً : تمسكوا بكسر السين ، مضارع مسك ثلاثياً.
وقال الكرخي : { الكوافر } ، يشمل الرجال والنساء ، فقال له أبو علي الفارسي : النحويون لا يرون هذا إلا في النساء ، جمع كافرة ، وقال : أليس يقال : طائفة كافرة وفرقة كافرة؟ قال أبو علي : فبهت فقلت : هذا تأييد. انتهى.
وهذا الكرخي معتزلي فقيه ، وأبو علي معتزلي ، فأعجبه هذا التخريج ، وليس بشيء لأنه لا يقال كافرة في وصف الرجال إلا تابعاً لموصوفها ، أو يكون محذوفاً مراداً ، أما بغير ذلك فلا يجمع فاعلة على فواعل إلا ويكون للمؤنث.
والعصم جمع عصمة ، وهي سبب البقاء في الزوجية.
{ واسألوا ما أنفقتم } : أي واسألوا الكافرين ما أنفقتم على أزواجكم إذا فروا إليهم ، { وليسألوا } : أي الكفار ما أنفقوا على أزواجهم إذ فروا إلى المؤمنين.
ولما تقرر هذا الحكم ، قالت قريش ، فيما روي : لا نرضى هذا الحكم ولا نلتزمه ولا ندفع لأحد صداقاً ، فنزلت بسبب ذلك هذه الآية الأخرى : { وإن فاتكم } ، فأمر تعالى المؤمنين أن يدفعوا من فرت زوجته من المسلمين ، ففاتت بنفسها إلى الكفار وانقلبت من الإسلام ، ما كان مهرها.
قال الزمخشري : فإن قلت : هل لإيقاع شيء في هذا الموضوع فائدة؟ قلت : نعم ، الفائدة فيه أن لا يغادر شيء من هذا الجنس ، وإن قل وحقر ، غير معوض منه تغليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه. انتهى.
واللاتي ارتددن من نساء المهاجرين ولحقن بالكفار : أم الحكم بنت أبي سفيان ، زوج عياض بن شداد الفهري؛ وأخت أم سلمة فاطمة بنت أبي أمية ، زوج عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه؛ وعبدة بنت عبد العزى ، زوج هشام بن العاصي؛ وأم كلثوم بنت جرول ، زوج عمر أيضاً.
وذكر الزمخشري أنهن ست ، فذكر : أم الحكم ، وفاطمة بنت أبي أمية زوج عمر بن الخطاب ، وعبدة وذكر أن زوجها عمرو بن ود ، وكلثوم ، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان ، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاصي ، أعطى أزواجهن رسول الله صلى الله عليه وسلم مهورهن من الغنيمة.
وقرأ الجمهور { فعاقبتم } بألف؛ ومجاهد والزهري والأعرج وعكرمة وحميد وأبو حيوة والزعفراني : بشد القاف؛ والنخعي والأعرج أيضاً وأبو حيوة أيضاً والزهري أيضاً وابن وثاب : بخلاف عنه بخف القاف مفتوحة؛ ومسروق والنخعي أيضاً والزهري أيضاً : بكسرها؛ ومجاهد أيضاً : فاعقبتم على وزن افعل ، يقال : عاقب الرجل صاحبه في كذا ، أي جاء فعل كل واحد منهما يعقب فعل الآخر ، ويقال : أعقب ، قال :

وحادرت البلد الحلاد ولم يكن . . .
لعقبة قدر المستعيرين يعقب
وعقب : أصاب عقبى ، والتعقيب : غزو إثر غزو ، وعقب بفتح القاف وكسرها مخففاً.
وقال الزمخشري : فعاقبتم من العقبة ، وهي النوبة.
شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة ، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى ، بأمر يتعاقبون فيه ، كما يتعاقب في الركوب وغيره ، ومعناه : فجاءت عقبتكم من أداء المهر.
{ فآتوا } من فاتته امرأته إلى الكفار مثل مهرها من مهر المهاجرة ، ولا يؤتوه زوجها الكافر ، وهكذا عن الزهري ، يعطي من صداق من لحق بهم.
ومعنى أعقبتم : دخلتم في العقبة ، وعقبتم من عقبه إذا قفاه ، لأن كل واحد من المتعاقبين يقفي صاحبه ، وكذلك عقبتم بالتخفيف ، يقال : عقبه يعقبه. انتهى.
وقال الزجاج : فعاقبتم : قاضيتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم ، وفسر غيرها من القراءات : لكانت العقبى لكم : أي كانت الغلبة لكم حتى غنمتم والكفار من قوله : { إلى الكفار } ، ظاهره العموم في جميع الكفار ، قاله قتادة ومجاهد.
قال قتادة : ثم نسخ هذا الحكم.
وقال ابن عباس : يعطى من الغنيمة قبل أن تخمس.
وقال الزهري : من مال الفيء؛ وعنه : من صداق من لحق بنا.
وقيل : الكفار مخصوص بأهل العهد.
وقال الزهري : اقتطع هذا يوم الفتح.
وقال الثوري : لا يعمل به اليوم.
وقال مقاتل : كان في عهد الرسول فنسخ.
وقال ابن عطية : هذه الآية كلها قد ارتفع حكمها.
وقال أبو بكر بن العربي القاضي : كان هذا حكم الله مخصوصاً بذلك الزمان في تلك النازلة بإجماع الأمة.
وقال القشيري : قال قوم هو ثابت الحكم إلى الآن.
{ يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } : كانت بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على جبل الصفاء ، بعدما فرغ من بيعة الرجال ، وهو على الصفا وعمر أسفل منه يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه ، وما مست يده عليه الصلاة والسلام يد امرأة أجنبية قط.
وقالت أسماء بنت يزيد بن السكن : " كنت في النسوة المبايعات ، فقلت : يا رسول الله ابسط يدك نبايعك ، فقال لي عليه الصلاة والسلام : «إني لا أصافح النساء لكن آخذ عليهن ما أخذ الله عليهن» وكانت هند بنت عتبة في النساء ، فقرأ عليهن الآية.
فلما قررهن على أن لا يشركن بالله شيئاً ، قالت هند : وكيف نطمع أن تقبل منا ما لم تقبله من الرجال؟ تعني أن هذا بين لزومه.
فلما وقف على السرقة قالت : والله إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان ، لا أدري أيحل لي ذلك؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما عبر فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها ، فقال لها : «وإنك لهند بنت عتبة» قالت : نعم ، فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك.
فقال : { ولا يزنين } ، فقالت : أوتزني الحرة؟ قال : { ولا يقتلن أولادهن } ، فقالت : ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً ، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر ، فضحك عمر رضي الله تعالى عنه حتى استلقى ، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : { ولا يأتين ببهتان } ، فقالت : والله إن البهتان لأمر قبيح ، ولا يأمر الله إلا بالرشد ومكارم الأخلاق.
فقال : { ولا يعصينك في معروف } ، فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء "

ومعنى قول هند : أو تزني الحرة أنه كان في قريش في الإماء غالباً ، وإلا فالبغايا ذوات الربات قد كن حرائر.
وقرأعليّ والحسن والسلمي : ولا يقتلن مشدداً ، وقتلهن من أجل الفقر والفاقة ، وكانت العرب تفعل ذلك.
والبهتان ، قال الأكثرون : أن تنسب إلى زوجها ولداً ليس منه ، وكانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها : هو ولدي منك.
{ بين أيديهن وأرجلهن } : لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين ، وفرجها الذي تلده به بين الرجلين.
وروى الضحاك : البهتان : العضة ، لأنها إذا قذفت المرأة غيرها ، فقد بهتت ما بين يدي المقذوفة ورجليها ، إذ نفت عنها ولداً قد ولدته ، أو ألحقت بها ولداً لم تلده.
وقيل : البهتان : السحر.
وقيل : بين أيديهن ألسنتهن بالنميمة ، وأرجلهن؛ فروجهن.
وقيل : بين أيديهن قبله أو جسة ، وأرجلهن الجماع.
ومن البهتان الفرية بالقول على أحد من الناس ، والكذب فيما اؤتمنّ عليه من حمل وحيض ، والمعروف الذي نهى عن العصيان فيه ، قال ابن عباس وأنس وزيد بن أسلم : هو النوح وشق الجيوب ووشم الوجوه ووصل الشعر ، وغير ذلك من أوامر الشريعة فرضها وندبها.
وروي أن قوماً من فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم ، فقيل لهم : لا تتولوا قوماً مغضوباً عليهم وعلى أنهم اليهود ، فسرهم الحسن وابن زيد ومنذر بن سعيد ، لأن غضب الله قد صار عرفاً لهم.
وقال ابن عباس : كفار قريش ، لأن كل كافر عليه غضب من الله.
وقيل : اليهود والنصارى.
{ قد يئسوا من الآخرة } ، قال ابن عباس : من خيرها وثوابها.
والظاهر أن من في { من أصحاب القبور } لابتداء الغاية ، أي لقاء أصحاب القبور.
فمن الثانية كالأولى من الآخرة.
فالمعنى أنهم لا يلقونهم في دار الدنيا بعد موتهم.
وقال ابن عرفة : هم الذين قالوا : ما يهلكنا إلا الدهر. انتهى.
والكفار على هذا كفار مكة ، لأنهم إذا مات لهم حميم قالوا : هذا آخر العهد به ، لن يبعث أبداً ، وهذا تأويل ابن عباس وقتادة والحسن.

وقيل : من لبيان الجنس ، أي الكفار الذين هم أصحاب القبور ، والمأيوس منه محذوف ، أي كما يئس الكفار المقبورون من رحمة الله ، لأنه إذا كان حياً لم يقبر ، كان يرجى له أن لا ييأس من رحمة الله ، إذ هو متوقع إيمانه ، وهذا تأويل مجاهد وابن جبير وابن زيد.
وقال ابن عطية : وبيان الجنس أظهر. انتهى.
وقد ذكرنا أن الظاهر كون من لابتداء الغاية ، إذ لا يحتاج الكلام إلى تقدير محذوف.
وقرأ ابن أبي الزناد : كما يئس الكافر على الإفراد.
والجمهور : على الجمع.
ولما فتح هذه السورة بالنهي عن اتخاذ الكفار أولياء ، ختمها بمثل ذلك تأكيداً لترك موالاتهم وتنفير المسلمين عن توليهم وإلقاء المودّة إليهم.

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)

النداء ب { يا أيها الذين آمنوا } ، إن كان للمؤمنين حقيقة ، فالاستفهام يراد به التلطف في العتب ، وإن كان للمنافقين ، فالمعنى { يا أيها الذين آمنوا } : أي بألسنتهم ، والاستفهام يراد به الإنكار والتوبيخ وتهكم بهم في إسناد الإيمان إليهم ، ولم يتعلق بالفعل وحده.
ووقف عليه بالهاء أو بسكون الميم ، ومن سكن في الوقف فلإجرائه مجرى الوقف ، والظاهر انتصاب { مقتاً } على التمييز ، وفاعل { كبر } : أن { تقولوا } ، وهو من التمييز المنقول من الفاعل ، والتقدير : كبر مقت قولكم ما لا تفعلون.
ويجوز أن يكون من باب نعم وبئس ، فيكون في كبر ضمير مبهم مفسر بالتمييز ، وأن تقولوا هو المخصوص بالذم ، أي بئس مقتاً قولكم كذا ، والخلاف الجاري في المرفوع في : بئس رجلاً زيد ، جار في { أن تقولوا } هنا ، ويجوز أن يكون في كبر ضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله : { لم تقولون } ، أي كبر هو ، أي القول مقتاً ، ومثله كبرت كلمة ، أي ما أكبرها كلمة ، وأن تقولوا بدل من المضمر ، أو خبر ابتداء مضمر.
وقيل : هو من أبنية التعجب ، أي ما أكبره مقتاً.
وقال الزمخشري : قصد في كبر التعجب من غير لفظه كقوله :
غلت ناب كليب بواؤها . . .
ومعنى التعجب : تعظيم الأمر في قلوب السامعين ، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظرائه وأشكاله ، وأسند إلى { أن تقولوا } ونصب { مقتاً } على تفسيره ، دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه لفرط تمكن المقت منه ، واختير لفظ المقت لأنه أشدّ البغض ، ولم يقتصر على أن جعل البغض كثيراً حتى جعل أشدّه وأفحشه ، وعند الله أبلغ من ذلك ، لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله فقد تم كبره وشدته. انتهى.
وقال ابن عطية : والمقت : البغض من أجل ذنب أو ريبة أو دناءة يصنعها الممقوت. انتهى.
وقال المبرد : رجل ممقوت ومقيت ، إذا كان يبغضه كل أحد. انتهى.
وقرأ زيد بن عليّ : يقاتلون بفتح التاء.
وقيل : قرىء يقتلون ، وانتصب صفاً على الحال ، أي صافين أنفسهم أو مصفوفين ، كأنهم فيء في تراصهم من غير فرجة ولا خلل ، بنيان رص بعضه إلى بعض.
والظاهر تشبيه الذوات في التحام بعضهم ببعض بالبنيان المرصوص.
وقيل : المراد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص.
قيل : وفيه دليل على فضل القتال راجلاً ، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة؛ وصفاً وكأنهم ، قال الزمخشري : حالان متداخلان.
وقال الحوفي : كأنهم في موضع النعت لصفاً. انتهى.
ويجوز أن يكونا حالين من ضمير يقاتلون.
ولما كان في المؤمنين من يقول ما لا يفعل ، وهو راجع إلى الكذب ، فإن ذلك في معنى الإذاية للرسول عليه الصلاة والسلام ، إذ كان في أتباعه من عانى الكذب ، فناسب ذكر قصة موسى وقوله لقومه : { لم تؤذونني } ، وإذايتهم له كان بانتقاصه في نفسه وجحود آيات الله تعالى واقتراحاتهم عليه ما ليس لهم اقتراحه ، { وقد تعلمون } : جملة حالية تقتضي تعظيمه وتكريمه ، فرتبوا على علمهم أنه رسول الله ما لا يناسب العلم وهو الإذاية ، وقد تدل على التحقق في الماضي والتوقع في المضارع ، والمضارع هنا معناه المضي ، أي وقد علمتم ، كقوله :

{ قد يعلم ما أنتم عليه } أي قد علم ، { قد نرى تقلب } وعبر عنه بالمضارع ليدل على استصحاب الفعل ، { فلما زاغوا } عن الحق ، { أزاغ الله قلوبهم }.
قال الزمخشري : بأن منع ألطافه ، { والله لا يهدي القوم الفاسقين } : لا يلطف بهم ، لأنهم ليسوا من أهل اللطف.
وقال غيره : أسند الزيغ إليهم ، ثم قال : { أزاغ الله } كقوله تعالى : { نسوا الله فأنساهم أنفسهم } وهو من العقوبة على الذنب بالذنب ، بخلاف قوله : { ثم تاب عليهم ليتوبوا } ولما ذكر شيئاً من قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل ، ذكر أيضاً شيئاً من قصة عيسى عليه السلام.
وهناك قال : { يا قوم } لأنه من بني إسرائيل ، وهنا قال عيسى : { يا بني إسرائيل } من حيث لم يكن له فيهم أب ، وإن كانت أمه منهم.
ومصدقاً ومبشراً : حالان ، والعامل رسول ، أي مرسل ، ويأتي واسمه جملتان في موضع الصفة لرسول أخبر أنه مصدق لما تقدم من كتب الله الإلهية ، ولمن تأخر من النبي المذكور ، لأن التبشير بأنه رسول تصديق لرسالته.
وروي أن الحواريين قالوا : يا رسول الله هل بعدنا من أمة؟ قال : « نعم ، أمة أحمد صلى الله عليه وسلم ، حكماء علماء أبرار أتقياء ، كأنهم من الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ، ويرضى الله منهم بالقليل من العمل » وأحمد علم منقول من المضارع للمتكلم ، أو من أحمد أفعل التفضيل ، وقال حسان :
صلى الإله ومن يحف بعرشه . . .
والطيبون على المبارك أحمد
وقال القشيري : بشر كل نبي قومه بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، والله أفرد عيسى بالذكر في هذا الموضع لأنه آخر نبي قبل نبينا صلى الله عليه وسلم ، فبين أن البشارة به عمت جميع الأنبياء واحداً بعد واحد حتى انتهت إلى عيسى عليه السلام.
والظاهر أن الضمير المرفوع في { جاءهم } يعود على عيسى لأنه المحدث عنه.
وقيل : يعود على أحمد.
لما فرغ من كلام عيسى ، تطرق إلى الإخبار عن أحمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك على سبيل الإخبار للمؤمنين ، أي فلما جاء المبشر به هؤلاء الكفار بالمعجزات الواضحة قالوا : { هذا سحر مبين }.
وقرأ الجمهور : سحر ، أي ما جاء به من البينات.
وقرأ عبد الله وطلحة والأعمش وابن وثاب : ساحر ، أي هذا الحال ساحر.
وقرأ الجمهور : يدعى مبنياً للمفعول؛ وطلحة : يدعى مضارع ادعى مبنياً للفاعل ، وادعى يتعدى بنفسه إلى المفعول به ، لكنه لما ضمن معنى الانتماء والانتساب عدى بإلى.

وقال الزمخشري : أيضاً ، وقرأ طلحة بن مصرف : وهو يدعى بشد الدال ، بمعنى يدعى دعاه وادعاه ، نحو لمسه والتمسه.
{ يريدون } الآية : تقدم تفسير نظيرها في سورة التوبة.
وقال الزمخشري : أصله : { يريدون أن يطفئوا } كما جاء في سورة براءة ، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة تأكيداً له لما فيها من معنى الإرادة في قولك : جئتك لأكرمك ، كما زيدت اللام في : لا أبا لك ، تأكيداً لمعنى الإضافة في : لا أبا لك. انتهى.
وقال نحوه ابن عطية ، قال : واللام في قوله : { يطفئوا } لام مؤكدة ، دخلت على المفعول لأن التقدير : يريدون أن يطفؤا ، وأكثر ما تلزم هذه اللام المفعول إذا تقدم ، تقول : لزيد ضربت ، ولرؤيتك قصرت. انتهى.
وما ذكره ابن عطية من أن هذه اللام أكثر ما تلزم المفعول إذا تقدم ليس بأكثر ، بل الأكثر : زيداً ضربت ، من : لزيد ضربت.
وأما قولهما إن اللام للتأكيد ، وإن التقدير أن يطفؤا ، فالإطفاء مفعول { يريدون } ، فليس بمذهب سيبويه والجمهور.
وقال ابن عباس وابن زيد : هنا يريدون إبطال القرآن وتكذيبه بالقول.
وقال السدي : يريدون دفع الإسلام بالكلام.
وقال الضحاك : هلاك الرسول صلى الله عليه وسلم بالأراجيف.
وقال ابن بحر : إبطال حجج الله بتكذيبهم.
وعن ابن عباس : سبب نزولها أن الوحي أبطأ أربعين يوماً ، فقال كعب بن الأشرف : يا معشر يهود أبشروا ، اطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه وما كان ليتم نوره ، فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فنزلت واتصل الوحي.
وقرأ العربيان ونافع وأبو بكر والحسن وطلحة والأعرج وابن محيصن : { متم } بالتنوين ، { نوره } بالنصب؛ وباقي السبعة والأعمش : بالإضافة.
وقرأ الجمهور : { تنجيكم } مخففاً؛ والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر : مشدداً.
والجمهور : { تؤمنون } ، { وتجاهدون } ؛ وعبد الله : آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا أمرين؛ وزيد بن علي بالتاء ، فيهما محذوف النون فيهما.
فأما توجيه قراءة الجمهور ، فقال المبرد : هو بمعنى آمنوا على الأمر ، ولذلك جاء يغفر مجزوماً.
انتهى ، فصورته صورة الخبر ، ومعناه الأمر ، ويدل عليه قراءة عبد الله ، ونظيره قوله : اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه ، أي ليتق الله ، وجيء به على صورة الخبر.
قال الزمخشري : للإيذان بوجوب الامتثال وكأنه امتثل ، فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين ، ونظيره قول الداعي : غفر الله لك ويغفر الله لك ، جعلت المغفرة لقوة الرجاء ، كأنها كانت ووجدت. انتهى.
وقال الأخفش : هو عطف بيان على تجارة ، وهذا لا يتخيل إلا على تقدير أن يكون الأصل أن تؤمنوا حتى يتقدر بمصدر ، ثم حذف أن فارتفع الفعل كقوله :
ألا أيهذا الزاجري احضر الوغا . . .
يريد : أن احضر ، فلما حذف أن ارتفع الفعل ، فكان تقدير الآية { هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } : إيمان بالله ورسوله وجهاد.

وقال ابن عطية : { تؤمنون } فعل مرفوع تقديره ذلك أنه تؤمنون.
انتهى ، وهذا ليس بشيء ، لأن فيه حذف المبتدأ وحذف أنه وإبقاء الخبر ، وذلك لا يجوز.
وقال الزمخشري : وتؤمنون استئناف ، كأنهم قالوا : كيف نعمل؟ فقال : تؤمنون ، ثم اتبع المبرد فقال : هو خبر في معنى الأمر ، وبهذا أجيب بقوله : { يغفر لكم }. انتهى.
وأما قراءة عبد الله فظاهرة المعنى وجواب الأمر يغفر ، وأما قراءة زيد فتتوجه على حذف لام الأمر ، التقدير : لتؤمنوا ، كقول الشاعر :
قلت لبواب على بابها . . .
تأذن لي أني من أحمائها
يريد : لتأذن ، ويغفر مجزوم على جواب الأمر في قراءة عبد الله وقراءة زيد ، وعلي تقدير المبرد.
وقال الفراء : هو مجزوم على جواب الاستفهام ، وهو قوله : { هل أدلكم } ، واستبعد هذا التخريج.
قال الزجاج : ليسوا إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم ، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا.
وقال المهدوي : إنما يصح حملاً على المعنى ، وهو أن يكون تؤمنون وتجاهدون عطف بيان على قوله : { هل أدلكم } ، كأن التجارة لم يدر ما هي ، فبينت بالإيمان والجهاد ، فهي هما في المعنى ، فكأنه قال : هل تؤمنون وتجاهدون؟ قال : فإن لم تقدر هذا التقدير لم يصح ، لأنه يصير : إن دللتم يغفر لكم ، والغفران إنما يجب بالقبول والإيمان لا بالدلالة.
وقال الزمخشري نحوه ، قال : وجهه أن متعلق الدلالة هو التجارة ، والتجارة مفسرة بالإيمان والجهاد ، فكأنه قال : هل تتحرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم؟ انتهى ، وتقدم شرح بقية الآية.
ولما ذكر تعالى ما يمنعهم من الثواب في الآخرة ، ذكر ما يسرهم في العاجلة ، وهي ما يفتح عليهم من البلاد.
{ وأخرى } : صفة لمحذوف ، أي ولكم مثوية أخرى ، أو نعمة أخرى عاجلة إلى هذه النعمة الآجلة.
فأخرى مبتدأ وخبره المقدر لكم ، وهو قول الفراء ، ويرجحه البدل منه بقوله : { نصر من الله } ، و { تحبونها } صفة ، أي محبوبة إليكم.
وقال قوم : وأخرى في موضع نصب بإضمار فعل ، أي ويمنحكم أخرى؛ ونصر خبر مبتدأ ، أي ذلك ، أو هو نصر.
وقال الأخفش : وأخرى في موضع جر عطفاً على تجارة ، وضعف هذا القول لأن هذه الأخرى ليست مما دل عليه ، إنما هي من الثواب الذي يعطيهم الله على الإيمان والجهاد بالنفس والمال.
وقرأ الجمهور : { نصر } بالرفع ، وكذا { وفتح قريب } ؛ وابن أبي عبلة : بالنصب فيها ثلاثتها ، ووصف أخرى بتحبونها ، لأن النفس قد وكلت بحب العاجل ، وفي ذلك تحريض على ما يحصل ذلك ، وهو الإيمان والجهاد.
وقال الزمخشري : وفي تحبونها شيء من التوبيخ على محبة العاجل ، قال : فإن قلت : لم نصب من قرأ نصراً من الله وفتحاً قريباً؟ قلت : يجوز أن ينصب على الاختصاص ، أو على ينصرون نصراً ويفتح لكم فتحاً ، أو على { يغفر لكم } و { لهم جنات } ويؤتكم أخرى نصراً وفتحاً قريباً.

فإن قلت علام عطف قوله : { وبشر المؤمنين } ؟ قلت : على { تؤمنون } ، لأنه في معنى الأمر ، كأنه قيل : آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم ، وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك. انتهى.
{ كونوا أنصار الله } : ندب المؤمنين إلى النصرة ووضع لهم هذا الاسم ، وإن كان قد صار عرفاً للأوس والخزرج ، وسماهم الله به.
وقرأ الأعرج وعيسى وأبو عمرو والحرميان : أنصاراً لله بالتنوين؛ والحسن والجحدري وباقي السبعة : بالإضافة إلى الله ، والظاهر أن كما في موضع نصب على إضمار ، أي قلنا لكم ذلك كما قال عيسى.
وقال مكي : نعت لمصدر محذوف ، والتقدير : كونوا كوناً.
وقيل : نعت لأنصاراً ، أي كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال : { من أنصاري إلى الله }. انتهى.
والحواريون اثنا عشر رجلاً ، وهم أول من آمن بعيسى ، بثهم عيسى في الآفاق ، بعث بطرس وبولس إلى رومية ، وأندارس ومتى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس ، وبوقاس إلى أرض بابل ، وفيليس إلى قرطاجنة وهي إفريقية ، ويحنس إلى أقسوس قرية أصحاب الكهف ، ويعقوبين إلى بيت المقدس ، وابن بليمن إلى أرض الحجاز وتستمر إلى أرض البربر وما حولها ، وفي بعض أسمائهم إشكال من جهة الضبط ، فليلتمس ذلك من مظانه.
{ فأيدنا الذين آمنوا بعيسى على عدوّهم } : وهم الذين كفروا بعيسى ، { فأصبحوا ظاهرين } : أي قاهرين لهم مستولين عليهم.
وقال زيد بن عليّ وقتادة : ظاهرين : غالبين بالحجة والبرهان.
وقيل : أيدنا المسلمين على الفرقتين الضالتين ، والله أعلم.

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

وقرأ الجمهور : { الملك } بجرّه وجر ما بعده؛ وأبو وائل ومسلمة بن محارب ورؤبة وأبو الدّينار الأعرابي : بالرفع على إضمار هو ، وحسنه الفصل الذي فيه طول بين الموصوف والصفة ، وكذلك جاء عن يعقوب.
وقرأ أبو الدينار وزيد بن عليّ : القدوس بفتح القاف؛ والجمهور : بالضم.
{ هو الذي بعث } الآية : تقدم الكلام في نظيرها في آل عمران وفي نسبة الأمّي.
{ وآخرين } : الظاهر أنه معطوف على { الأمّيين } ، أي وفي آخرين من الأمّيين لم يلحقوا بهم بعد ، وسيلحقون.
وقيل : { وآخرين } منصوب معطوف على الضمير في { ويعلمهم } ، أسند تعليم الآخرين إليه عليه الصلاة والسلام مجازاً لما تناسق التعليم إلى آخر الزمان وتلا بعضه بعضاً ، فكأنه عليه الصلاة والسلام وجد منه.
وقال أبو هريرة وغيره : وآخرين هم فارس ، وجاء نصاً عنه في صحيح البخاري ومسلم ، ولو فهم منه الحصر في فارس لم يجز أن يفسر به الآية ، ولكن فهم المفسرون منه أنه تمثيل.
فقال مجاهد وابن جبير : الروم والعجم.
وقال مجاهد أيضاً وعكرمة ومقاتل : التابعين من أبناء العرب لقوله : { منهم } ، أي في النسب.
وقال مجاهد أيضاً والضحاك وابن حبان : طوائف من الناس.
وقال ابن عمر : أهل اليمن.
وعن مجاهد أيضاً : أبناء الأعاجم؛ وعن ابن زيد أيضاً : هم التابعون؛ وعن الضحاك أيضاً : العجم؛ وعن أبي روق : الصغار بعد الكبار ، وينبغي أن تحمل هذه الأقوال على التمثيل ، كما حملوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في فارس : { وهو العزيز الحكيم } في تمكينه رجلاً أمّياً من ذلك الأمر العظيم ، وتأييده واختياره من سائر البشر.
{ ذلك فضل الله } : أي إيتاء النبوة وجعله خير خلقه واسطة بينه وبين خلقه.
{ مثل الذين حملوا التوراة } : هم اليهود المعاصرون للرسول صلى الله عليه وسلم ، كلفوا القيام بأوامرها ونواهيها ، ولم يطيقوا القيام بها حين كذّبوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي ناطقة بنبوته.
وقرأ الجمهور : حملوا مشدداً مبنياً للمفعول؛ ويحيى بن يعمر وزيد بن عليّ : مخففاً مبنياً للفاعل.
شبه صفتهم بصفة الحمار الذي يحمل كتباً ، فهو لا يدري ما عليه ، أكتب هي أم صخر وغير ذلك؟ وإنما يدرك من ذلك ما يلحقه من التعب بحملها.
وقال الشاعر في نحو ذلك :
زوامل للأشعار لا علم عندهم . . .
بجيدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدى . . .
بأوساقه أو راح ما في الغرائر
وقرأ عبد الله : حمار منكراً؛ والمأمون بن هارون : يحمل بشد الميم مبنياً للمفعول.
والجمهور : الحمار معرفاً ، ويحمل مخففاً مبنياً للفاعل ، ويحمل في موضع نصب على الحال.
قال الزمخشري : أو الجر على الوصف ، لأن الحمار كاللئيم في قوله :
ولقد أمر على اللئيم يسبني . . .
انتهى.
وهذا الذي قاله قد ذهب إليه بعض النحويين ، وهو أن مثل هذا من المعارف يوصف بالجمل ، وحملوا عليه

{ وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } وهذا وأمثاله عند المحققين في موضع الحال ، لا في موضع الصفة.
ووصفه بالمعرفة ذي اللام دليل على تعريفه مع ما في ذلك المذهب من هدم ما ذكره المتقدمون من أن المعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة ، والجمل نكرات.
{ بئس مثل القوم }.
قال الزمخشري : بئس مثلاً مثل القوم. انتهى.
فخرجه على أن يكون التمييز محذوفاً ، وفي بئس ضمير يفسره مثلاً الذي ادعى حذفه.
وقد نص سيبويه على أن التمييز الذي يفسره الضمير المستكن في نعم وبئس وما أجري مجراهما لا يجوز حذفه.
وقال ابن عطية : والتقدير بئس المثل مثل القوم. انتهى.
وهذا ليس بشيء ، لأن فيه حذف الفاعل ، وهو لا يجوز.
والظاهر أن { مثل القوم } فاعل { بئس } ، والذين كفروا هو المخصوص بالذم على حذف مضاف ، أي مثل الذين كذبوا بآيات الله ، وهم اليهود ، أو يكون { الذين كذبوا } صفة للقوم ، والمخصوص بالدم محذوف ، التقدير : بئس مثل القوم المكذبين مثلهم ، أي مثل هؤلاء الذين حملوا التوراة.
روي أنه لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كتبت يهود المدينة ليهود خيبر : إن اتبعتموه أطعناكم ، وإن خالفتموه خالفناه ، فقالوا لهم : نحن أبناء خليل الرحمن ، ومنا عزير بن الله والأنبياء ، ومتى كانت النبوة في العرب نحن أحق بها من محمد ، ولا سبيل إلى اتباعه ، فنزلت : { قل يا أيها الذين هادوا } ، وكانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه ، وإن كان قولكم حقاً فتمنوا أن تنقلوا سريعاً إلى دار كرامته المعدة لأوليائه ، وتقدم تفسير نظير بقية الآية في سورة البقرة.
وقرأ الجمهور : { فتمنوا الموت } ، بضم الواو؛ وابن يعمر وابن أبي إسحاق وابن السميفع : بكسرها؛ وعن ابن السميفع أيضاً : فتحها.
وحكى الكسائي عن بعض الأعراب أنه قرأ بالهمز مضمومة بدل الواو ، وهذا كقراءة من قرأ : تلؤون بالهمز بدل الواو.
قال الزمخشري : ولا فرق بين لا ولن في أن كل واحد منهما نفي للمستقبل ، إلا أن في لن تأكيداً وتشديداً ليس في لا ، فأتى مرة بلفظ التأكيد : { ولن يتمنوه } ومرة بغير لفظه : { ولا يتمنونه } ، وهذا منه رجوع عن مذهبه في أن لن تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة في أنها لا تقتضيه ، وأما قوله : إلا أن في لن تأكيداً وتشديداً ليس في لا ، فيحتاج ذلك إلى نقل عن مستقري اللسان.
وقرأ الجمهور : { فإنه } ، والفاء دخلت في خبر إن إذا جرى مجرى صفته ، فكان إن باشرت الذي ، وفي الذي معنى الشرط ، فدخلت الفاء في الخبر ، وقد منع هذا قوم ، منهم الفراء ، وجعلوا الفاء زائدة.
وقرأ زيد بن علي : إنه بغير فاء ، وخرجه الزمخشري على الاستئناف ، وخبر إن هو الذي ، كأنه قال : قل إن الموت هو الذي تفرون منه.

انتهى.
ويحتمل أن يكون خبر أن هو قوله : أنه ملاقيكم ، فالجملة خبر إن ، ويحتمل أن يكون إنه توكيداً ، لأن الموت وملاقيكم خبر إن.
لما طال الكلام ، أكد الحرف مصحوباً بضمير الاسم الذي لإن.
{ إذا نودي } : أي إذا أذن ، وكان الأذان عند قعود الإمام على المنبر.
وكذا كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، كان إذا صعد على المنبر أذن على باب المسجد ، فإذا نزل بعد الخطبة أقيمت الصلاة.
وكذا كان في عهد أبي بكر وعمر إلى زمان عثمان ، كثر الناس وتباعدت المنازل ، فزاد مؤذناً آخر على داره التي تسمى الزوراء ، فإذا جلس على المنبر أذن الثاني ، فإذا نزل من المنبر أقيمت الصلاة ، ولم يعب ذلك أحد على عثمان رضى الله عنه.
فإن قلت : من في قوله : { من يوم الجمعة } ما هي؟ قلت : هي بيان لإذا وتفسير له. انتهى.
وقرأ الجمهور : الجمعة بضم الميم؛ وابن الزبير وأبو حيوة وابن أبي عبلة ، ورواية عن أبي عمرو وزيد بن علي والأعمش : بسكونها ، وهي لغة تميم ، ولغة بفتحها لم يقرأ بها ، وكان هذا اليوم يسمى عروبة ، ويقال : العروبة.
قيل : أول من سماه الجمعة كعب بن لؤي ، وأول جمعة صليت جمعة سعد بن أبي زرارة ، صلى بهم ركعتين وذكرهم ، فسموهم يوم الجمعة لاجتماعهم فيه ، فأنزل الله آية الجمعة ، فهي أول جمعة جمعت في الإسلام.
وأما أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لما قدم المدينة ، نزل بقباء على بني عمرو بن عوف ، وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وأسس مسجدهم ، ثم خرج يوم الجمعة عامداً المدينة ، فأدرك صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف ، في بطن واد لهم ، فخطب وصلى الجمعة.
والظاهر وجوب السعي لقوله تعالى : { فاسعوا إلى ذكر الله } ، وأنه يكون في المشي خفة وبدار.
وقال الحسن وقتادة ومالك وغيرهم : إنما تؤتى الصلاة بالسكينة ، والسعي هو بالنية والإرادة والعمل ، وليس الإسراع في المشي ، كالسعي بين الصفا والمروة؛ وإنما هو بمعنى قوله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } فالقيام والوضوء ولبس الثوب والمشي كله سعي.
والظاهر أن الخطاب بالأمر بالسعي للمؤمنين عموماً ، وأنهما فرض على الأعيان.
وعن بعض الشافعية ، أنها فرض كفاية ، وعن مالك رواية شاذة : أنها سنة.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي : ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الرواح إلى الجمعة واجب على كل مسلم » وقالوا : المأمور بالسعي المؤمن الصحيح الحر الذكر المقيم.
فلو حضر غيره أجزأتهم. انتهى.
والمسافة التي يسعى منها إلى صلاة الجمعة لم تتعرض الآية لها ، واختلف الفقهاء في ذلك.
فقال ابن عمرو وأبو هريرة وأنس والزهري : ستة أميال.
وقيل : خمسة.

وقال ربيعة : أربعة أميال.
وروي ذلك عن الزهري وابن المنكدر.
وقال مالك والليث : ثلاثة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه : على من في المصر ، سمع النداء أو لم يسمع ، لا على من هو خارج المصر ، وإن سمع النداء.
وعن ابن عمر وابن المسيب والزهري وأحمد وإسحاق : على من سمع النداء.
وعن ربيعة : على من إذا سمع النداء وخرج من بيته ماشياً أدرك الصلاة.
وقرأ كبراء من الصحابة والتابعين : فامضوا بدل { فاسعوا } ، وينبغي أن يحمل على التفسير من حيث أنه لا يراد بالسعي هنا الإسراع في المشي ، ففسروه بالمضي ، ولا يكون قرآناً لمخالفته سواد ما أجمع عليه المسلمون.
وذكر الله هنا الخطبة ، قاله ابن المسيب ، وهي شرط في انعقاد الجمعة عند الجمهور.
وقال الحسن : هي مستحبة ، والظاهر أنه يجزىء من ذكر الله تعالى ما يسمى ذكراً.
قال أبو حنيفة : لو قال الحمد لله أو سبحان الله واقتصر عليه جاز ، وقال غيره : لا بد من كلام يسمى خطبة ، وهو قول الشافعي وأبي سفيان ومحمد بن الحسن ، والظاهر تحريم البيع ، وأنه لا يصح.
وقال ابن العربي : يفسخ ، وهو الصحيح.
وقال الشافعي : ينعقد ولا يفسخ ، وكلما يشغل من العقود كلها فهو حرام شرعاً ، مفسوخ ورعاً. انتهى.
وإنما ذكر البيع من بين سائر المحرمات ، لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق ، إذ يكثر الوافدون الأمصار من القرى ويجتمعون للتجارة إذا تعالى النهار ، فأمروا بالبدار إلى تجارة الآخرة ، ونهوا عن تجارة الدنيا ، ووقت التحريم من الزوال إلى الفراغ من الصلاة ، قاله الضحاك والحسن وعطاء.
وقال ناس غيرهم : من وقت أذان الخطبة إلى الفراغ ، والإشارة بذلكم إلى السعي وترك البيع ، والأمر بالانتشار والابتغاء أمر إباحة ، وفضل الله هو ما يلبسه في حالة حسنة ، كعيادة المريض ، وصلة صديق ، واتباع جنازة ، وأخذ في بيع وشراء ، وتصرفات دينية ودنيوية؛ فأمر مع ذلك بإكثار ذكر الله.
وقال مكحول والحسن وابن المسيب : الفضل : المأمور بابتغائه هو العلم.
وقال جعفر الصادق : ينبغي أن يكون فجر صبح يوم السبت ، ويعني أن يكون بقية يوم الجمعة في عبادة.
وروي أنه كان أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر ، فقدم دحية بعير تحمل ميرة.
قال مجاهد : وكان من عرفهم أن يدخل بالطبل والمعازف من درابها ، فدخلت بها ، فانفضوا إلى رؤية ذلك وسماعه ، وتركوه صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر في اثني عشر رجلاً.
قال جابر : أنا أحدهم.
قال أبو بكر غالب بن عطية : هم العشرة المشهود لهم بالجنة ، والحادي عشر قيل : عمار.
وقيل : ابن مسعود.
وقيل : ثمانية ، قالوا : فنزلت : { وإذا رأوا تجارة }.
وقرأ الجمهور : { إليها } بضمير التجارة؛ وابن أبي عبلة : إليه بضمير اللهو ، وكلاهما جائز ، نص عليه الأخفش عن العرب.
وقال ابن عطية : وقال إليها ولم يقل إليهما تهمماً بالأهم ، إذ كانت سبب اللهو ، ولم يكن اللهو سببها.

وتأمّل أن قدّمت التجارة على اللهو في الرؤية لأنها أهم ، وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولاً على الأبين. انتهى.
وفي قوله : { قائماً } دلالة على مشروعية القيام في الخطبة.
وأول من استراح في الخطبة عثمان ، وأول من خطب جالساً معاوية.
وقرىء : إليهما بالتثنية للضمير ، كقوله تعالى : { إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما } وتخريجه على أن يتجوّز بأو ، فتكون بمعنى الواو ، وقد تقدّم غير هذا التخريج في قوله : { فالله أولى بهما } في موضعه في سورة النساء.
وناسب ختمها بقوله : { والله خير الرازقين } ، لأنهم كانوا قد مسهم شيء من غلاء الأسعار ، كما تقدم في سبب النزول ، وقد ملأ المفسرون كثيراً من أوراقهم بأحكام وخلاف في مسائل الجمعة مما لا تعلق لها بلفظ القرآن.

إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)

{ قالوا نشهد } : يجري مجرى اليمين ، ولذلك تلقى بما يتلقى به القسم ، وكذا فعل اليقين.
والعلم يجري مجرى القسم بقوله : { إنك لرسول الله } وأصل الشهادة أن يواطىء اللسان القلب هذا بالنطق ، وذلك بالاعتقاد؛ فأكذبهم الله وفضحهم بقوله : { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } : أي لم تواطىء قلوبهم ألسنتهم على تصديقك ، واعتقادهم أنك غير رسول ، فهم كاذبون عند الله وعند من خبر حالهم ، أو كاذبون عند أنفسهم ، إذ كانوا يعتقدون أن قولهم : { إنك لرسول الله } كذب.
وجاء بين شهادتهم وتكذيبهم قوله تعالى : { والله يعلم إنك لرسوله } ، إيذاناً أن الأمر كما لفظوا به من كونه رسول الله حقاً.
ولم تأت هذه الجملة لتوهم أن قولهم هذا كذب ، فوسطت الأمر بينهما ليزول ذلك التوهم.
{ اتخذوا أيمانهم } : سمى شهادتهم تلك أيماناً.
وقرأ الجمهور : أيمانهم ، بفتح الهمزة جمع يمين؛ والحسن : بكسرها ، مصدر آمن.
ولما ذكر أنهم كاذبون ، أتبعهم بموجب كفرهم ، وهو اتخاذ أيمانهم جنة يستترون بها ، ويذبون بها عن أنفسهم وأموالهم ، كما قال بعض الشعراء :
وما انتسبوا إلى الإسلام إلا . . .
لصون دمائهم أن لا تسالا
ومن أيمانهم أيمان عبد الله ، ومن حلف معه من قومه أنه ما قال ما نقله زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جعلوا تلك الأيمان جنة تقي من القتل ، وقال أعشى همدان :
إذا أنت لم تجعل لعرضك جنة . . .
من المال سار القوم كل مسير
وقال الضحاك : اتخذوا حلفهم بالله أنهم لمنكم.
وقال قتادة : كلما ظهر شيء منهم يوجب مؤاخذتهم ، حلفوا كاذبين عصمة لأموالهم ودمائهم.
وقال السدي : { جنة } من ترك الصلاة عليهم إذا ماتوا ، { فصدوا } : أي أعرضوا وصدوا اليهود والمشركين عن الدخول في الإسلام ، { ذلك } أي ذلك الحلف الكاذب والصد المقتضيان لهم سوء العمل بسبب أيمانهم ثم كفرهم.
وقال ابن عطية : ذلك إشارة إلى فعل الله بهم في فضيحتهم وتوبيخهم ، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى سوء ما عملوا ، فالمعنى : ساء عملهم بأن كفروا.
وقال الزمخشري : ذلك القول الشاهد عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالاً بسبب أنهم آمنوا ثم كفروا ، أو إلى ما وصف من حالهم في النفاق والكذب والاستخفاف بالإيمان ، أي ذلك كله بسبب أنهم آمنوا ثم كفروا.
وقرأ الجمهور : { فطبع } مبنياً للمفعول؛ وزيد بن علي : مبنياً للفاعل : أي فطبع الله؛ وكذا قراءة الأعمش وزيد في رواية مصرحاً بالله.
ويحتمل على قراءة زيد الأولى أن يكون الفاعل ضميراً يعود على المصدر المفهوم من ما قبله ، أي فطبع هو ، أي بلعبهم بالدين.
ومعنى { آمنوا } : نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل المسلمون ، { ثم كفروا } : أي ظهر كفرهم بما نطقوا به من قولهم : لئن كان محمد ما يقوله حقاً فنحن شر من الحمير ، وقولهم : أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر؟ هيهات ، أو نطقوا بالإيمان عند المؤمنين وبالكفر عند شياطينهم ، أو ذلك فيمن آمن ثم ارتد.

{ وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم } : الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو للسامع : أي لحسنها ونضارتها وجهارة أصواتهم ، فكان منظرهم يروق ، ومنطقهم يحلو.
وقرأ الجمهور : { تسمع } بتاء الخطاب؛ وعكرمة وعطية العوفي : يسمع بالياء مبنياً للمفعول ، و { لقولهم } : الجار والمجرور هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وليست اللام زائدة ، بل ضمن يسمع معنى يصغ ويمل ، تعدى باللام وليست زائدة ، فيكون قولهم هو المسموع.
وشبهوا بالخشب لعزوب أفهامهم وفراغ قلوبهم من الإيمان ، ولم يكن حتى جعلها مسندة إلى الحائط ، لا انتفاع بها لأنها إذا كانت في سقف أو مكان ينتفع بها ، وأما إذا كانت غير منتفع بها فإنها تكون مهملة مسندة إلى الحيطان أو ملقاة على الأرض قد صففت ، أو شهوة بالخشب التي هي الأصنام وقد أسندت إلى الحيطان ، والجملة التشبيهية مستأنفة ، أو على إضمارهم.
وقرأ الجمهور : { خشب } بضم الخاء والشين؛ والبراء بن عازب والنحويان وابن كثير : بإسكان الشين ، تخفيف خشب المضموم.
وقيل : جمع خشباء ، كحمر جمع حمراء ، وهي الخشبة التي نخر جوفها ، شبهوا بها في فساد بواطنهم.
وقرأ ابن المسيب وابن جبير : خشب بفتحتين ، اسم جنس ، الواحد خشبة ، وأنث وصفه كقوله : { أعجاز نخل خاوية } أشباح بلا أرواح ، وأجسام بلا أحلام.
وذكر ممن كان ذا بهاء وفصاحة عبد الله بن أبيّ ، والجد بن قيس ، ومعتب بن قشير.
قال الشاعر في مثل هؤلاء :
لا تخدعنك اللحى ولا الصور . . .
تسعة أعشار من ترى بقر
تراهم كالسحاب منتشرا . . .
وليس فيها لطالب مطر
في شجر السرو منهم شبه . . .
له رواء وما له ثمر
وقيل : الجملة التشبيهية وصف لهم بالجبن والخور ، ويدل عليه : { يحسبون كل صيحة عليهم } في موضع المفعول الثاني ليحسبون ، أي واقعة عليهم ، وذلك لجبنهم وما في قلوبهم من الرعب.
قال مقاتل : كانوا متى سمعوا بنشدان ضالة أو صياحاً بأي وجه كان ، أو أخبروا بنزول وحي ، طارت عقولهم حتى يسكن ذلك ويكون في غير شأنهم ، وكانوا يخافون أن ينزل الله تعالى فيهم ما تباح به دماؤهم وأموالهم ، ونحو هذا قول الشاعر :
يروعه السرار بكل أرض . . .
مخافة أن يكون به السرار
وقال جرير :
ما زلت تحسب كل شيء بعدهم . . .
خيلاً تكر عليهم ورجالا
أنشده ابن عطية لجرير ، ونسب هذا البيت الزمخشري للأخطل.
قال : ويجوز أن يكون { هم العدو } المفعول الثاني كما لو طرحت الضمير.
فإن قلت : فحقه أن يقول : هي العدو.
قلت : منظور فيه إلى الخبر ، كما ذكر في هذا ربي ، وأن يقدر مضاف محذوف على يحسبون كل أهل صيحة.

انتهى.
وتخريج { هم العدو } على أنه مفعول ثان ليحسبون تخريج متكلف بعيد عن الفصاحة ، بل المتبادر إلى الذهن السليم أن يكون { هم العدو } إخباراً منه تعالى بأنهم ، وإن أظهروا الإسلام وأتباعهم ، هم المبالغون في عداوتك؛ ولذلك جاء بعده أمره تعالى إياه بحذرهم فقال : { فاحذرهم } ، فالأمر بالحذر متسبب عن إخباره بأنهم هم العدو.
و { قاتلهم الله } : دعاء يتضمن إبعادهم ، وأن يدعو عليهم المؤمنون بذلك.
{ أنى يؤفكون } : أي كيف يصرفون عن الحق ، وفيه تعجب من ضلالهم وجهلهم.
ولما أخبره تعالى بعداوتهم ، أمره بحذرهم ، فلا يثق بإظهار مودتهم ، ولا بلين كلامهم.
و { قاتلهم الله } : كلمة ذم وتوبيخ ، وقالت العرب : قاتله الله ما أشعره.
يضعونه موضع التعجب ، ومن قاتله الله فهو مغلوب ، لأنه تعالى هو القاهر لكل معاند.
وكيف استفهام ، أي كيف يصرفون عن الحق ولا يرون رشد أنفسهم؟ قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون أنى ظرفاً لقاتلهم ، كأنه قال : قاتلهم الله كيف انصرفوا أو صرفوا ، فلا يكون في هذا القول استفهام على هذا. انتهى.
ولا يصح أن يكون أنى لمجرد الظرف ، بل لا بد يكون ظرفاً استفهاماً ، إما بمعنى أين ، أو بمعنى متى ، أو بمعنى كيف ، أو شرطاً بمعنى أين.
وعلى هذه التقادير لا يعمل فيها ما قبلها ، ولا تتجرد لمطلق الظرفية بحال من غير اعتبار ما ذكرناه ، فالقول بذلك باطل.
ولما صدق الله زيد بن أرقم فيما أخبر به عن ابن سلول ، مقت الناس ابن سلول ولامه المؤمنون من قومه ، وقال له بعضهم : امض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف بذنبك يستغفر لك ، فلوّى رأسه إنكاراً لهذا الرأي ، وقال لهم : لقد أشرتم عليّ بالإيمان فآمنت ، وأشرتم عليّ بأن أعطي زكاة مالي ففعلت ، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد ويستغفر مجزوم على جواب الأمر ، ورسول الله يطلب عاملان ، أحدهما { يستغفر } ، والآخر { تعالوا } ؛ فأعمل الثاني على المختار عند أهل البصرة ، ولو أعمل الأول لكان التركيب : تعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقرأ مجاهد ونافع وأهل المدينة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والمفضل وأبان عن عاصم والحسن ويعقوب ، بخلاف عنهما : { لووا } ، بفتح الواو؛ وأبو جعفر والأعمش وطلحة وعيسى وأبو رجاء والأعرج وباقي السبعة : بشدها للتكثير.
وليّ رءوسهم ، على سبيل الاستهزاء واستغفار الرسول لهم ، هو استتابتهم من النفاق ، فيستغفر لهم ، إذ كان استغفاره متسبباً عن استتابتهم ، فيتوبون وهم يصدون عن المجيء واستغفار الرسول.
وقرىء : يصدون ويصدون ، جملة حالية ، وأتت بالمضارع ليدل على استمرارهم ، { وهم مستكبرون } : جملة حالية أيضاً.
ولما سبق في علمه تعالى أنهم لا يؤمنون البتة ، سوى بين استغفاره لهم وعدمه.
وحكى مكي أنه عليه الصلاة والسلام كان استغفر لهم لأنهم أظهروا له الإسلام.

وقال ابن عباس : نزلت هذه بعد قوله تعالى في براءة أن تستغفر لهم سبعين مرة ، وقوله عليه الصلاة والسلام : « سوف أستغفر لهم زيادة على السبعين » ، فنزلت هذه الآية ، فلم يبق للاستغفار وجه.
وقرأ الجمهور : { أستغفرت } بهمزة التسوية التي أصلها همزة الاستفهام ، وطرح ألف الوصل؛ وأبو جعفر : بمدة على الهمزة.
قيل : هي عوض من همزة الوصل ، وهي مثل المدة في قوله : { قل آلذكرين حرم } لكن هذه المدة في الاسم لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر ، ولا يحتاج ذلك في الفعل ، لأن همزة الوصل فيه مكسورة.
وعن أبي جعفر أيضاً : ضم ميم عليهم ، إذ أصلها الضم ، ووصل الهمزة.
وروى معاذ بن معاذ العنبري ، عن أبي عمرو : كسر الميم على أصل التقاء الساكنين ، ووصل الهمزة ، فتسقط في القراءتين ، واللفظ خبر ، والمعنى على الاستفهام ، والمراد التسوية ، وجاز حذف الهمزة لدلالة أم عليها ، كما دلت على حذفها في قوله :
بسبع رمينا الجمر أم بثمان . . .
يريد : أبسبع.
وقال الزمخشري : وقرأ أبو جعفر : آستغفرت ، إشباعاً لهمزة الاستفهام للإظهار والبيان ، لا قلب همزة الوصل ألفاً كما في : آلسحر ، وآلله.
وقال ابن عطية : وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : آستغفرت ، بمدة على الهمزة ، وهي ألف التسوية.
وقرأ أيضاً : بوصل الألف دون همز على الخبر ، وفي هذا كله ضعف ، لأنه في الأولى أثبت همزة الوصل وقد أغنت عنها همزة الاستفهام ، وفي الثانية حذف همزة الاستفهام وهو يريدها ، وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر.
{ هم الذين يقولون } : إشارة إلى ابن سلول ومن وافقه من قومه ، سفه أحلامهم في أنهم ظنوا أن رزق المهاجرين بأيديهم ، وما علموا أن ذلك بيد الله تعالى.
{ لا تنفقوا على من عند رسول الله } : إن كان الله تعالى حكى نص كلامهم ، فقولهم : { على من عند رسول الله } هو على سبيل الهزء ، كقولهم : { يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } أو لكونه جرى عندهم مجرى اللعب ، أي هو معروف بإطلاق هذا اللفظ عليه ، إذ لو كانوا مقرين برسالته ما صدر منهم ما صدر.
فالظاهر أنهم لم ينطقوا بنفس ذلك اللفظ ، ولكنه تعالى عبر بذلك عن رسوله صلى الله عليه وسلم ، إكراماً له وإجلالاً.
وقرأ الجمهور : { ينفضوا } : أي يتفرقوا عن الرسول؛ والفضل بن عيسى : ينفضوا ، من انفض القوم : فني طعامهم ، فنفض الرجل وعاءه ، والفعل من باب ما يعدى بغير الهمزة ، وبالهمزة لا يتعدى.
قال الزمخشري : وحقيقته حان لهم أن ينفضوا مزاودهم.
وقرأ الجمهور : { ليخرجن الأعز منها الأذل } : فالأعز فاعل ، والأذل مفعول ، وهو من كلام ابن سلول ، كما تقدم.
ويعني بالأعز : نفسه وأصحابه ، وبالأذل : المؤمنين.
والحسن وابن أبي عبلة والسبي في اختياره : لنخرجن بالنون ، ونصب الأعز والأذل ، فالأعز مفعول ، والأذل حال.
وقرأ الحسن ، فيما ذكر أبو عمر والداني : لنخرجن ، بنون الجماعة مفتوحة وضم الراء ، ونصب الأعز على الاختصاص ، كما قال : نحن العرب أقرى الناس للضيف؛ ونصب الأذل على الحال ، وحكى هذه القراءة أبو حاتم.

وحكى الكسائي والفراء أن قوماً قرأوا : ليخرجن بالياء مفتوحة وضم الراء ، فالفاعل الأعز ، ونصب الأذل على الحال.
وقرىء : مبنياً للمفعول وبالياء ، الأعز مرفوع به ، الأذل نصباً على الحال.
ومجيء الحال بصورة المعرفة متأول عند البصريين ، فما كان منها بأل فعلى زيادتها ، لا أنها معرفة.
ولما سمع عبد الله ، ولد عبد الله بن أبي هذه الآية ، جاء إلى أبيه فقال : أنت والله يا أبت الذليل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز.
فلما دنا من المدينة ، جرد السيف عليه ومنعه الدخول حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان فيما قال له : وراءك لا تدخلها حتى تقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنا الأذل ، فلم يزل حبيساً في يده حتى أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخليته.
وفي هذا الحديث أنه قال لأبيه : لئن لم تشهد لله ولرسوله بالعزة لأضربن عنقك ، قال : أفاعل أنت؟ قال : نعم ، فقال : أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
وقيل للحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما : أن فيك تيهاً ، فقال : ليس بتيه ولكنه عزة ، وتلا هذه الآية.
{ لا تلهكم أموالكم } بالسعي في نمائها والتلذذ بجمعها ، { ولا أولادكم } بسروركم بهم وبالنظر في مصالحهم في حياتكم وبعد مماتكم ، { عن ذكر الله } : هو عام في الصلاة والثناء على الله تعالى بالتسبيح والتحميد وغير ذلك والدعاء.
وقال نحواً منه الحسن وجماعة.
وقال الضحاك وعطاء : أكد هنا الصلاة المكتوبة.
وقال الحسن أيضاً : جميع الفرائض.
وقال الكلبي : الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل : القرآن.
{ ومن يفعل ذلك } : أي الشغل عن ذكر الله بالمال والولد ، { فأولئك هم الخاسرون } ، حيث آثروا العاجل على الآجل ، والفاني على الباقي.
{ وأنفقوا مما رزقناكم } ، قال الجمهور : المراد الزكاة.
وقيل : عام في المفروض والمندوب.
وعن ابن عباس : نزلت في مانعي الزكاة ، والله لو رأى خيراً ما سأل الرجعة ، فقيل له : أما تتقي الله؟ يسأل المؤمنون الكرة ، قال : نعم أنا أقرأ عليكم به قرآناً ، يعني أنها نزلت في المؤمنين ، وهم المخاطبون بها.
{ لولا أخرتني } : أي هلا أخرت موتي إلى زمان قليل؟ وقرأ الجمهور : فأصّدّق ، وهو منصوب على جواب الرغبة؛ وأبي وعبد الله وابن جبير : فأتصدق على الأصل.
وقرأ جمهور السبعة : { وأكن } مجزوماً.
قال الزمخشري : { وأكن } بالجزم عطفاً على محل { فأصدق } ، كأنه قيل : إن أخرتني أصدق وأكن. انتهى.
وقال ابن عطية : عطفاً على الموضع ، لأن التقدير : إن تؤخرني أصدق وأكن ، هذا مذهب أبي علي الفارسي.
فأما ما حكاه سيبويه عن الخليل فهو غير هذا ، وهو أنه جزم وأكن على توهم الشرط الذي يدل عليه بالتمني ، ولا موضع هنا ، لأن الشرط ليس بظاهر ، وإنما يعطف على الموضع ، حيث يظهر الشرط كقوله تعالى :

{ من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم } فمن قرأ بالجزم عطف على موضع { فلا هادي له } ، لأنه لو وقع هنالك فعل كان مجزوماً. انتهى.
والفرق بين العطف على الموضع والعطف على التوهم : أن العامل في العطف على الموضع موجود دون مؤثره ، والعامل في العطف على التوهم مفقود وأثره موجود.
وقرأ الحسن وابن جبير وأبو رجاء وابن أبي إسحاق ومالك بن دينار والأعمش وابن محيصن وعبد الله بن الحسن العنبري وأبو عمرو : وأكون بالنصب ، عطفاً على { فأصدق } ، وكذا في مصحف عبد الله وأبي.
وقرأ عبيد بن عمير : وأكون بضم النون على الاستئناف ، أي وأنا أكون ، وهو وعد الصلاح.
{ ولن يؤخر الله نفساً } : فيه تحريض على المبادرة بأعمال الطاعات حذاراً أن يجيء الأجل ، وقد فرط ولم يستعد للقاء الله.
وقرأ الجمهور : { تعملون } بتاء الخطاب ، للناس كلهم؛ وأبو بكر : بالياء ، خص الكفار بالوعيد ، ويحتمل العموم.

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)

ومناسبة هذه السورة لما قبلها : أن ما قبلها مشتمل على حال المنافقين ، وفي آخرها خطاب المؤمنين ، فأتبعه بما يناسبه من قوله : { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } ، هذا تقسيم في الإيمان والكفر بالنظر إلى الاكتساب عند جماعة من المتأولين لقوله : كل مولود يولد على الفطرة ، وقوله تعالى : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } وقيل : ذانك في أصل الخلقة ، بدليل ما في حديث النطفة من قول الملك : أشقيّ أم سعيد؟ والغلام الذي قتله الخضر عليه السلام أنه طبع يوم طبع كافراً.
وما روى ابن مسعود أنه عليه الصلاة والسلام قال : « خلق الله فرعون في البطن كافراً » وحكى يحيى بن زكريا : في البطن مؤمناً.
وعن عطاء بن أبي رباح : { فمنكم كافر } بالله ، { مؤمن } بالكواكب؛ ومؤمن بالله وكافر بالكوكب.
وقدّم الكافر لكثرته.
ألا ترى إلى قوله تعالى : { وقليل من عبادي الشكور } وحين ذكر الصالحين قال : { وقليل ما هم } وقال الزمخشري : فمنكم آت بالكفر وفاعل له ، ومنكم آت بالإيمان وفاعل له ، كقوله تعالى : { وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون } والدليل عليه قوله تعالى : { والله بما تعملون بصير } : أي عالم بكفركم وإيمانكم اللذين هما من قبلكم ، والمعنى : الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد عن العدم ، فكان يجب أن تنظروا النظر الصحيح ، وتكونوا بأجمعكم عباداً شاكرين.
انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال.
وقال أيضاً : وقيل : { هو الذي خلقكم فمنكم كافر } بالخلق : هم الدهرية ، { ومنكم مؤمن } به.
وعن الحسن : في الكلام حذف دل عليه تقديره : ومنكم فاسق ، وكأنه من كذب المعتزلة على الحسن.
وتقدم الجار والمجرور في قوله : { له الملك وله الحمد } ، قال الزمخشري : ليدل بتقدمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله عز وجل ، وذلك لأن الملك على الحقيقة له ، لأنه مبدىء كل شيء ومبدعه ، والقائم به المهيمن عليه؛ وكذلك الحمد ، لأن أصول النعم وفروعها منه.
وأما ملك غيره فتسليط منه ، وحمده اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده.
وقرأ الجمهور : { صوركم } بضم الصاد؛ وزيد بن عليّ وأبو رزين : بكسرها ، والقياس الضم ، وهذا تعديد للنعمة في حسن الخلقة ، لأن أعضاء بني آدم متصرّفة بجميع ما تتصرّف فيه أعضاء الحيوان ، وبزيادة كثيرة فضل بها.
ثم هو مفضل بحسن الوجه وجمال الجوارح ، كما قال تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } وقيل : النعمة هنا إنما هي صورة الإنسان من حيث هو إنسان مدرك عاقل ، فهذا هو الذي حسن له حتى لحقته كمالات كثيرة ، وتكاد العرب لا تعرف الصورة إلا الشكل ، لا المعنى القائم بالصورة.
ونبه تعالى بعلمه بما في السموات والأرض ، ثم بعلمه بما يسر العباد وما يعلنونه ، ثم بعلمه بما أكنته الصدور على أنه تعالى لا يغيب عن علمه شيء ، لا من الكليات ولا من الجزئيات ، فابتدأ بالعلم الشامل للعالم كله ، ثم بخاص العباد من سرّهم وإعلانهم ، ثم ما خص منه ، وهو ما تنطوي عليه صدورهم من خفي الأشياء وكامنها ، وهذا كله في معنى الوعيد ، إذ هو تعالى المجازي على جميع ذلك بالثواب والعقاب.

وقرأ الجمهور : { ما تسرون وما تعلنون } بتاء الخطاب؛ وعبيد عن أبي عمرو ، وأبان عن عاصم : بالياء.
{ ألم يأتكم } : الخطاب لقريش ، ذكروا بما حل بالكفار قبلهم عاد وثمود وقوم إبراهيم وغيرهم ممن صرح بذكرهم في سورة براءة وغيرها ، وقد سمعت قريش أخبارهم ، { فذاقوا وبال أمرِهم } : أي مكروههم وما يسوؤهم منه.
{ ذلك } : أي الوبال ، { بأنه } : أي بأن الشأن والحديث استبعدوا أن يبعث الله تعالى من البشر رسولاً ، كما استبعدت قريش ، فقالوا على سبيل الاستغراب : { أبشر يهدوننا } ، وذلك أنهم يقولون : نحن متساوون في البشرية ، فأنى يكون لهؤلاء تمييز علينا بحيث يصيرون هداة لنا؟ وارتفع { أبشر } عند الجوفي وابن عطية على الابتداء ، والخبر { يهدوننا } ، والأحسن أن يكون مرفوعاً على الفاعلية ، لأن همزة الاستفهام تطلب الفعل ، فالمسألة من باب الاشتغال.
{ فكفروا } : العطف بالفاء يدل على تعقب كفرهم مجيء الرسل بالبينات ، أي لم ينظروا في تلك البينات ولا تأمّلوها ، بل عقبوا مجيئها بالكفر ، { واستغنى الله } : استفعل بمعنى الفعل المجرد ، وغناه تعالى أزلي ، فالمعنى : أنه ظهر تعالى غناه عنهم إذ أهلكهم ، وليست استفعل هنا للطلب.
وقال الزمخشري : معناه : وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ، ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك.
انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال.
والزعم : تقدم تفسيره ، والذين كفروا : أهل مكة ، وبلى : إثبات لما بعد حرف النفي ، { وذلك على الله يسير } : أي لا يصرفه عنه صارف.
{ فآمنوا بالله ورسوله } : وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، { والنور الذي أنزلنا } : هو القرآن ، وانتصب { يوم يجمعكم } بقوله : { لتنبؤن } ، أو بخبير ، بما فيه من معنى الوعيد والجزاء ، أو باذكر مضمرة ، قاله الزمخشري؛ والأول عن النحاس ، والثاني عن الحوفي.
وقرأ الجمهور : يجمعكم بالياء وضم العين؛ وروي عنه سكونها وإشمامها الضم؛ وسلام ويعقوب وزيد بن علي والشعبي : بالنون.
{ ليوم الجمع } : يجمع فيه الأولون والآخرون ، وذلك أن كل واحد يبعث طامعاً في الخلاص ورفع المنزلة.
{ ذلك يوم التغابن } : مستعار من تغابن القوم في التجارة ، وهو أن يغبن بعضهم بعضاً ، لأن السعداء نزلوا منازل الأشقياء لو كانوا سعداء ، ونزل الأشقياء منازل السعداء لو كانوا أشقياء ، وفي الحديث : « ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً ، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة » ، وذلك معنى يوم التغابن.
وعن مجاهد وغيره : إذا وقع الجزاء ، غبن المؤمنون الكافرين لأنهم يجوزون الجنة وتحصل الكفار في النار.
وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر وطلحة ونافع وابن عامر والمفضل عن عاصم وزيد بن عليّ والحسن بخلاف عنه : نكفر وندخله بالنون فيهما؛ والأعمش وعيسى والحسن وباقي السبعة : بالياء فيهما.

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

الظاهر إطلاق المصيبة على الرزية وما يسوء العبد ، أي في نفس أو مال أو ولد أو قول أو فعل ، وخصت بالذكر ، وإن كان جميع الحوادث لا تصيب إلا بإذن الله.
وقيل : ويحتمل أن يريد بالمصيبة الحادثة من خير وشر ، إذ الحكمة في كونها بأذن الله.
وما نافية ، ومفعول أصاب محذوف ، أي ما أصاب أحداً ، والفاعل من مصيبة ، ومن زائدة ، ولم تلحق التاء أصاب ، وإن كان الفاعل مؤنثاً ، وهو فصيح ، والتأنيث لقوله تعالى : { ما تسبق من أمة أجلها } وقوله : { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } أي بإرادته وعلمه وتمكينه.
{ ومن يؤمن بالله } : أي يصدق بوجوده ويعلم أن كل حادثة بقضائه وقدره ، { يهد قلبه } على طريق الخير والهداية.
وقرأ الجمهور : يهد بالياء ، مضارعاً لهدى ، مجزوماً على جواب الشرط.
وقرأ ابن جبير وطلحة وابن هرمز والأزرق عن حمزة : بالنون؛ والسلمي والضحاك وأبو جعفر : يهد مبنياً للمفعول ، قلبه : رفع؛ وعكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن دينار : يهدأ بهمزة ساكنة ، قلبه بالرفع : يطمئن قلبه ويسكن بإيمانه ولا يكون فيه اضطراب.
وعمرو بن فايد : يهدا بألف بدلاً من الهمزة الساكنة؛ وعكرمة ومالك بن دينار أيضاً : يهد بحذف الألف بعد إبدالها من الهمزة الساكنة وإبدال الهمزة ألفاً في مثل يهدأ ويقرأ ، ليس بقياس خلافاً لمن أجاز ذلك قياساً ، وبنى عليه جواز حذف تلك الألف للجازم ، وخرج عليه قول زهير بن أبي سلمى :
جزى متى يظلم يعاقب بظلمه . . .
سريعاً وإن لا يبد بالظلم يظلم
أصله : يبدأ ، ثم أبدل من الهمزة ألفاً ، ثم حذفها للجازم تشبيهاً بألف يخشى إذا دخل الجازم.
ولما قال تعالى : { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله } ، ثم أمر بطاعة الله وطاعة رسوله ، وحذر مما يلحق الرجل من امرأته وولده بسبب ما يصدر من بعضهم من العداوة ، ولا أعدى على الرجل من زوجته وولده إذا كانا عدوين ، وذلك في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فبإذهاب ماله وعرضه ، وأما في الآخرة فبما يسعى في اكتسابه من الحرام لهما ، وبما يكسبانه منه بسبب جاهه.
وكم من امرأة قتلت زوجها وجذمت وأفسدت عقله ، وكم من ولد قتل أباه.
وفي التواريخ وفيما شاهدناه من ذلك كثير.
وعن عطاء بن أبي رباح : أن عوف بن مالك الأشجعي أراد الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فاجتمع أهله وولده ، فثبطوه وشكوا إليه فراقة ، فرق ولم يغز؛ إنه ندم بمعاقبتهم ، فنزلت : { يا أيها الذين آمنوا } الآية.
وقيل : آمن قوم بالله ، وثبطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة ، ولم يهاجروا إلا بعد مدة ، فوجدوا غيرهم قد تفقه في الدين ، فندموا وأسفوا وهموا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم ، فنزلت.

وقيل : قالوا لهم : أين تذهبون وتدعون بلدكم وعشيرتكم وأموالكم؟ فغضبوا عليهم وقالوا : لئن جمعنا الله في دار الهجرة لم نصبكم بخير.
فلما هاجروا ، منعوهم الخير ، فحبوا أن يعفوا عنهم ويردوا إليهم البر والصلة.
ومن في { من أزواجكم وأولادكم } للتبعيض ، وقد توجد زوجة تسر زوجها وتعينه على مقاصده في دينه ودنياه ، وكذلك الولد.
وقال الشعب العبسي يمدح ولده رباطاً :
إذا كان أولاد الرجال حزازة . . .
فأنت الحلال الحلو والبارد العذب
لنا جانب منه دميث وجانب . . .
إذا رامه الأعداء مركبه صعب
وتأخذه عند المكارم هزة . . .
كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب
وقال قرمان بن الأعرف في ابنه منازل ، وكان عاقاً له ، قصيدة فيها بعض طول منها :
وربيته حتى إذا ما تركته . . .
أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه
فلما رآني أحسب الشخص أشخصاً . . .
بعيداً وذا الشخص البعيد أقاربه
تعمد حقي ظالماً ولوى يدي . . .
لوى يده الله الذي هو غالبه
{ إنما أموالكم وأولادكم فتنة } : أي بلاء ومحنة ، لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة ، ولا بلاء أعظم منهما.
وفي باب العداوة جاء بمن التي تقتضي التبعيض ، وفي الفتنة حكم بها على الأموال والأولاد على بعضها ، وذلك لغلبة الفتنة بهما ، وكفى بالمال فتنة قصة ثعلبة بن حاطب ، أحد من نزل فيه ، ومنهم من عاهد الله : { لئن آتانا من فضله } الآيات.
وقد شاهدنا من ذكر أنه يشغله الكسب والتجارة في أمواله حتى يصلي كثيراً من الصلوات الخمس فائتة.
وقد شاهدنا من كان موصوفاً عند الناس بالديانة والورع ، فحين لاح له منصب وتولاه ، استناب من يلوذ به من أولاده وأقاربه ، وإن كان بعض من استنابه صغير السن قليل العلم سيىء الطريقة ، ونعوذ بالله من الفتن.
وقدمت الأموال على الأولاد لأنها أعظم فتنة ، { كلا إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى } شغلتنا أموالنا وأهلونا.
{ والله عنده أجر عظيم } : تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة.
والأجر العظيم : الجنة.
{ فاتقوا الله ما استطعتم } ، قال أبو العالية : جهدكم.
وقال مجاهد : هو أن يطاع فلا يعصى ، { واسمعوا } ما توعظون به ، { وأطيعوا } فيما أمرتم به ونهيتم عنه ، { وأنفقوا } فيما وجب عليكم.
و { خيراً } منصوب بفعل محذوف تقديره : وأتوا خيراً ، أو على إضمار يكن فيكون خبراً ، أو على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي إنفاقاً خيراً ، أو على أنه حال ، أو على أنه مفعول ب : وأنفقوا خيراً ، أي مالاً ، أقوال ، الأول عن سيبويه.
ولما أمر بالإنفاق ، أكده بقوله : { إن تقرضوا الله قرضاً حسناً } ، ورتب عليه تضعيف القرض وغفران الذنوب.
وفي لفظ القرض تلطف في الاستدعاء ، وفي لفظ المضاعفة تأكيد للبذل لوجه الله تعالى.
ثم اتبع جوابي الشرط بوصفين : أحدهما عائد إلى المضاعفة ، إذ شكره تعالى مقابل للمضاعفة ، وحلمه مقابل للغفران.
قيل : وهذا الحض هو في الزكاة المفروضة ، وقيل ، هو في المندوب إليه.
وتقدم الخلاف في القراءة في { يوق } وفي { شح } وفي { يضاعفه }.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)

{ يا أيها النبي } : نداء للنبي صلى الله عليه وسلم ، وخطاب على سبيل التكريم والتنبيه ، { إذا طلقتم } : خطاب له عليه الصلاة والسلام مخاطبة الجمع على سبيل التعظيم ، أو لأمته على سبيل تلوين الخطاب ، أقبل عليه السلام أولاً ، ثم رجع إليهم بالخطاب ، أو على إضمار القول ، أي قل لأمتك إذا طلقتم ، أو له ولأمته ، وكأنه ثم محذوف تقديره : يا أيها النبي وأمة النبي إذا طلقتم ، فالخطاب له ولهم ، أي أنت وأمتك ، أقوال.
وقال الزمخشري : خص النبي صلى الله عليه وسلم ، وعمّ بالخطاب ، لأن النبي إمام إمته وقدوتهم.
كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت ، إظهاراً لتقدمه واعتباراً لترؤسه ، وأنه مدره قومه ولسانهم ، والذي يصدرون عن رأيه ولا يستبدون بأمر دونه ، فكان هو وحده في حكم كلهم ، وساداً مسد جميعهم.
انتهى ، وهو كلام حسن.
ومعنى { إذا طلقتم } : أي إذا أردتم تطليقهن ، والنساء يعني : المدخول بهن ، وطلقوهن : أي أوقعوا الطلاق ، { لعدتهن } : هو على حذف مضاف ، أي لاستقبال عدّتهن ، واللام للتوقيت ، نحو : كتبته لليلة بقيت من شهر كذا ، وتقدير الزمخشري هنا حالاً محذوفة يدل عليها المعنى يتعلق بها المجرور ، أي مستقبلات لعدتهن ، ليس بجيد ، لأنه قدر عاملاً خاصاً ، ولا يحذف العامل في الظرف والجار والمجرور إذا كان خاصاً ، بل إذا كان كوناً مطلقاً.
لو قلت : زيد عندك أو في الدار ، تريد : ضاحكا عندك أو ضاحكا في الدار ، لم يجز.
فتعليق اللام بقوله : { فطلقوهن } ، ويجعل على حذف مضاف هو الصحيح.
وما روي عن جماعة من الصحابة والتابعين ، رضي الله تعالى عنهم ، من أنهم قرأوا : فطلقوهن في قبل عدتهن؛ وعن بعضهم : في قبل عدّتهن؛ وعن عبد الله : لقبل طهرهن ، هو على سبيل التفسير ، لا على أنه قرآن ، لخلافه سواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون شرقاً وغرباً ، وهل تعتبر العدة بالنسبة إلى الأطهار أو الحيض؟ تقدم ذلك في البقرة في قوله : { ثلاثة قروء } والمراد : أن يطلقهن في طهر لم يجامعهن فيه ، ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن ، فإن شاء ردها ، وإن شاء أعرض عنها لتكون مهيأة للزوج؛ وهذا الطلاق أدخل في السنة.
وقال مالك : لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة ، وكره الثلاث مجموعة أو مفرقة.
وأبو حنيفة كره ما زاد على الواحدة في طهر واحد ، فأما مفرقاً في الأطهار فلا.
وقال الشافعي : لا بأس بإرسال الطلاق الثلاث ، ولا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح ، راعى في السنة الوقت فقط ، وأبو حنيفة التفريق والوقت.
وقوله : { فطلقوهن } مطلق ، لا تعرض فيه لعدد ولا لوصف من تفريق أو جمع؛ والجمهور : على أنه لو طلق لغير السنة وقع.
وعن ابن المسيب وجماعة من التابعين : أنه لو طلق في حيض أو ثلاث ، لم يقع.

والظاهر أن الخطاب في { وأحصوا العدّة } للأزواج : أي اضبطوا بالحفظ ، وفي الإحصاء فوائد مراعاة الرجعة وزمان النفقة والسكنى وتوزيع الطلاق على الأقراء.
وإذا أراد أن يطلق ثلاثاً ، والعلم بأنها قد بانت ، فيتزوج بأختها وبأربع سواها.
ونهى تعالى عن إخراجهنّ من مساكنهنّ حتى تنقضي العدّة ، ونهاهنّ أيضاً عن خروجهنّ ، وأضاف البيوت إليهنّ لما كان سكناهنّ فيها ، ونهيهنّ عن الخروج لا يبيحه إذن الأزواج ، إذ لا أثر لإذنهم.
والإسكان على الزوج ، فإن كان ملكه أو بكراء فذاك ، أو ملكها فلها عليه أجرته ، وسواء في ذلك الرجعية والمبتوبة ، وسنة ذلك أن لا تبيت عن بيتها ولا تخرج عنه نهاراً إلا لضرورة ، وذلك لحفظ النسب والاحتفاظ بالنساء.
{ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } : وهي الزنا ، عند قتادة ومجاهد والحسن والشعبي وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة وحماد والليث ، ورواه مجاهد عن ابن عباس ، فيخرجن للحد.
وعن ابن عباس : البذاء على الاحماء ، فتخرج ويسقط حقها في السكنى ، وتلزم الإقامة في مسكن تتخذه حفظاً للنسب.
وعنده أيضاً : جميع المعاصي ، من سرقة ، أو قذف ، أو زنا ، أو غير ذلك ، واختاره الطبري ، فيسقط حقها في السكنى.
وعند ابن عمر والسدي وابن السائب : هي خروجها من بيتها خروج انتقال ، فيسقط حقها في السكنى.
وعند قتادة أيضاً : نشوزها عن الزوج ، فتطلق بسبب ذلك ، فلا يكون عليه سكنى؛ وإذا سقط حقها من السكنى أتمت العدّة.
{ لا تدري } أيها السامع ، { لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } ، قال المفسرون : الأمر هنا الرغبة في ارتجاعها ، والميل إليها بعد انحرافه عنها؛ أو ظهور حمل فيراجعها من أجله.
ونصب لا تدري على جملة الترجى ، فلا تدري معلقة عن العمل ، وقد تقدم لنا الكلام على قوله : { وإن أدري لعله فتنة لكم } وذكرنا أنه ينبغي أن يزاد في المعلقات لعل ، فالجملة المترجاة في موضع نصب بلا تدري.
{ فإذا بلغن أجلهن } : أي أشرفن على انقضاء العدّة ، { فأمسكوهنّ } : أي راجعوهنّ ، { بمعروف } : أي بغير ضرار ، { أو فارقوهنّ بمعروف } : أي سرحوهنّ بإحسان ، والمعنى : اتركوهنّ حتى تنقضي عدّتهنّ ، فيملكن أنفسهنّ.
وقرأ الجمهور : { أجلهن } على الإفراد؛ والضحاك وابن سيرين : آجالهنّ على الجمع.
والإمساك بمعروف : هو حسن العشرة فيما للزوجة على الزوج ، والمفارقة بمعروف : هو أداء المهر والتمتيع والحقوق الواجبة والوفاء بالشرط.
{ وأشهدوا } : الظاهر وجوب الإشهاد على ما يقع من الإمساك وهو الرجعة ، أو المفارقة وهي الطلاق.
وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة ، كقوله : { وأشهدوا إذا تبايعتم } وعند الشافعية واجب في الرجعة ، مندوب إليه في الفرقة.
وقيل : { وأشهدوا } : يريد على الرجعة فقط ، والإشهاد شرط في صحتها ، فلها منفعة من نفسها حتى يشهد.
وقال ابن عباس : الإشهاد على الرجعة وعلى الطلاق يرفع عن النوازل أشكالاً كثيرة ، ويفسد تاريخ الإشهاد من الإشهاد.

قيل : وفائدة الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد ، وأن لا يتهم في إمساكها ، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الثاني ثبوت الزوجية ليرث. انتهى.
ومعنى منكم ، قال الحسن : من المسلمين.
وقال قتادة : من الأحرار.
{ وأقيموا الشهادة لله } : هذا أمر للشهود ، أي لوجه الله خالصاً ، لا لمراعاة مشهود له ، ولا مشهود عليه لا يلحظ سوى إقامة الحق.
{ ذلكم } : إشارة إلى إقامة الشهادة ، إذ نوازل الأشياء تدور عليها ، وما يتميز المبطل من المحق.
{ ومن يتق الله } ، قال علي بن أبي طالب وجماعة : هي في معنى الطلاق ، أي ومن لا يتعدى طلاق السنة إلى طلاق الثلاث وغير ذلك ، يجعل الله له مخرجاً إن ندم بالرجعة ، { ويرزقه } ما يطعم أهله. انتهى.
ومفهوم الشرط أنه إن لم يتق الله ، فبت الطلاق وندم ، لم يكن له مخرج ، وزال عنه رزق زوجته.
وقال ابن عباس : للمطلق ثلاثاً : إنك لم تتق الله ، بانت منك امرأتك ، ولا أرى لك مخرجاً.
وقال : { يجعل له مخرجاً } : يخلصه من كذب الدنيا والآخرة.
والظاهر أن قوله : { ومن يتق الله } متعلق بأمر ما سبق من أحكام الطلاق.
وروي أنها في غير هذا المعنى ، وهو أن أسر ابن يسمى سالماً لخوف بن مالك الأشجعي ، فشكا ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم ، وأمره بالتقوى فقبل ، ثم لم يلبث أن تفلت ولده واستاق مائة من الإبل ، كذا في الكشاف.
وفي الوجيز : قطيعاً من الغنم كانت للذين أسروه ، وجاء أباه فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيطيب له؟ فقال : «نعم» ، فنزلت الآية.
وقال الضحاك : من حيث لا يحتسب امرأة أخرى.
وقيل : ومن يتق الحرام يجعل له مخرجاً إلى الحلال.
وقيل : مخرجاً من الشدة إلى الرخاء.
وقيل : من النار إلى الجنة.
وقيل : من العقوبة ، ويرزقه من حيث لا يحتسب من الثواب.
وقال الكلبي : ومن يتق الله عند المصيبة يجعل له مخرجاً إلى الجنة.
{ ومن يتوكل على الله } : أي يفوض أمره إليه ، { فهو حسبه } : أي كافيه.
{ إن الله بالغ أمره } ، قال مسروق : أي لا بد من نفوذ أمر الله ، توكلت أم لم تتوكل.
وقرأ الجمهور : بالغ بالتنوين ، أمره بالنصب؛ وحفص والمفضل وأبان وجبلة وابن أبي عبلة وجماعة عن أبي عمرو ويعقوب وابن مصرف وزيد بن علي : بالإضافة؛ وابن أبي عبلة أيضاً وداود بن أبي هند وعصمة عن أبي عمرو : بالغ أمره ، رفع : أي نافذ أمره.
والمفضل أيضاً : بالغاً بالنصب ، أمره بالرفع ، فخرجه الزمخشري على أن بالغاً حال ، وخبر إن هو قوله تعالى : { قد جعل الله } ، ويجوز أن تخرج هذه القراءة على قول من ينصب بأن الجزأين ، كقوله :
إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن . . .
خطاك خفافاً أن حراسنا أسدا
ومن رفع أمره ، فمفعول بالغ محذوف تقديره : بالغ أمره ما شاء.
{ قد جعل الله لكل شيء قدراً } : أي تقديراً وميقاتاً لا يتعداه ، وهذه الجمل تحض على التوكل.
وقرأ جناح بن حبيش : قدراً بفتح الدال ، والجمهور بإسكانها.

وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)

وروي أن قوماً ، منهم أبيّ بن كعب وخلاد بن النعمان ، لما سمعوا قوله : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } قالوا : يا رسول الله ، فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر؟ فنزلت هذه الآية ، فقال قائل : فما عدة الحامل؟ فنزلت { أولات الأحمال }.
وقرأ الجمهور : { يئسن } فعلاً ماضياً.
وقرىء : بياءين مضارعاً ، ومعنى { إن ارتبتم } في أنها يئست أم لا ، لأجل مكان ظهور الحمل ، وإن كان انقطع دمها.
وقيل : إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس ، أهو دم حيض أو استحاضة؟ وإذا كانت هذه عدة المرتاب بها ، فغير المرتاب بها أولى بذلك.
وقدر بعضهم مبلغ اليأس بستين سنة ، وبعضهم بخمس وخمسين.
وقيل : غالب سن يأس عشيرة المرأة.
وقيل : أقصى عادة امرأة في العالم.
وقال مجاهد : الآية واردة في المستحاضة أطبق بها الدم ، لا ندري أهو دم حيض أو دم علة.
وقيل : { إن ارتبتم } : شككتم في حالهن وحكمهن فلم تدروا ما حكمهن ، فالحكم أن عدتهن ثلاثة أشهر.
واختار الطبري أن معنى { إن ارتبتم } : شككتم فلم تدروا ما الحكم ، فقيل : { إن ارتبتم } : أي إن تيقنتم إياسهن ، وهو من الأضداد.
وقال الزجاج : المعنى إن ارتبتم في حيضها ، وقد انقطع عنها الدم ، وكانت مما يحيض مثلها.
وقال مجاهد أيضاً : { إن ارتبتم } هو للمخاطبين ، أي إن لم تعلموا عدة الآيسة ، { واللائي لم يحضن } ، فالعدة هذه ، فتلخص في قوله : { إن ارتبتم } قولان : أحدهما ، أنه على ظاهر مفهوم اللغة فيه ، وهو حصول الشك؛ والآخر ، أن معناه التيقن للإياس؛ والقول الأول معناه : إن ارتبتم في دمها ، أهو دم حيض أو دم علة؟ أو إن ارتبتم في علوق بحمل أم لا؛ أو إن ارتبتم : أي جهلتم عدتهن ، أقوال.
والظاهر أن قوله : { واللائي لم يحضن } يشمل من لم يحض لصغر ، ومن لا يكون لها حيض البتة ، وهو موجود في النساء ، وهو أنها تعيش إلى أن تموت ولا تحيض.
ومن أتى عليها زمان الحيض وما بلغت به ولم تحض فقيل : هذه تعتد سنة.
{ واللائي لم يحضن } معطوف على { واللائي يئسن } ، فإعرابه مبتدأ كإعراب { واللائي يئسن } ، وقدروا خبره جملة من جنس خبر الأول ، أي عدتهن ثلاثة أشهر ، والأولى أن يقدر مثل أولئك أو كذلك ، فيكون المقدر مفرداً جملة.
{ وأولات الأحمال } عام في المطلقة وفي المتوفي عنها زوجها ، وهو قول عمر وابن مسعود وأبي مسعود البدري وأبي هريرة وفقهاء الأمصار.
وقال علي وابن عباس : { وأولات الأحمال } في المطلقات ، وأما المتوفي عنها فعدتها أقصى الأجلين ، فلو وضعت قبل أربعة أشهر وعشر صبرت إلى آخرها ، والحجة عليها حديث سبيعة.
وقال ابن مسعود : من شاء لاعنته ، ما نزلت { وأولات الأحمال } إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها.

وقرأ الجمهور : { حملهن } مفرداً؛ والضحاك : أحمالهن جمعاً.
{ ذلك أمر الله } : يريد ما علم من حكم المعتدات.
وقرأ الجمهور : { ويعظم } بالياء مضارع أعظم؛ والأعمش : نعظم بالنون ، خروجاً من الغيبة للتكلم؛ وابن مقسم : بالياء والتشديد مضارع عظم مشدداً.
ولما كان الكلام في أمر المطلقات وأحكامهن من العدد وغيرها ، وكن لا يطلقهن أزواجهن إلا عن بغض لهن وكراهة ، جاء عقيب بعض الجمل الأمر بالتقوى من حيث المعنى ، مبرزاً في صورة شرط وجزاء في قوله : { ومن يتق الله } ، إذ الزوج المطلق قد ينسب إلى مطلقته بعض ما يشينها به وينفر الخطاب عنها ، ويوهم أنه إنما فارقها لأمر ظهر له منها ، فلذلك تكرر قوله : { ومن يتق الله } في العمل بما أنزله من هذه الأحكام ، وحافظ على الحقوق الواجبة عليه من ترك الضرار والنفقة على المعتدات وغير ذلك مما يلزمه ، يرتب له تكفير السيئات وإعظام الأجر.
ومن في { من حيث سكنتم } للتبعيض : أي بعض مكان سكناكم.
وقال قتادة : إن لم يكن له إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه ، قاله الزمخشري.
وقال الحوفي : من لابتداء الغاية ، وكذا قال أبو البقاء.
و { من وجدكم }.
قال الزمخشري : فإن قلت : فقوله : { من وجدكم }.
قلت : هو عطف بيان ، كقوله : { من حيث سكنتم } وتفسير له ، كأنه قيل : أسكنوهن مكاناً من مسكنكم مما تطيقونه ، والوجد : الوسع والطاقة. انتهى.
ولا نعرف عطف بيان يعاد فيه العامل ، إنما هذا طريقة البدل مع حرف الجر ، ولذلك أعربه أبو البقاء بدلاً من قوله : { من حيث سكنتم }.
وقرأ الجمهور : { من وجدكم } بضم الواو؛ والحسن والأعرج وابن أبي عبلة وأبو حيوة : بفتحها؛ والفياض بن غزوان وعمرو بن ميمون ويعقوب : بكسرها ، وذكرها المهدوي عن الأعرج ، وهي لغات ثلاثة بمعنى : الوسع.
والوجد بالفتح ، يستعمل في الحزن والغضب والحب ، ويقال : وجدت في المال ، ووجدت على الرجل وجداً وموجدة ، ووجدت الضالة وجداناً والوجد بالضم : الغنى والقدرة ، يقال : افتقر الرجل بعد وجد.
وأمر تعالى بإسكان المطلقات ، ولا خلاف في ذلك في التي لم تبت.
وأما المبتوتة ، فقال ابن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء والشعبي والحسن ومالك والأوزاعي وابن أبي ليلى والشافعي وأبو عبيد : لها السكنى ، ولا نفقة لها.
وقال الثوري وأبو حنيفة : لها السكنى والنفقة.
وقال الحسن وحماد وأحمد وإسحاق وأبو ثور : لا سكنى لها ولا نفقة.
{ ولا تضاروهن } : ولا تستعملوا معهن الضرار ، { لتضيقوا عليهن } في المسكن ببعض الأسباب من إنزال من لا يوافقهن ، أو يشغل مكانهن ، أو غير ذلك حتى تضطروهن إلى الخروج.
وقيل : هذه المضارة مراجعتها إذا بقي من عدتها قليل ، ثم يطلقها فيطول حبسها في عدته الثانية.
وقيل : إلجاؤها إلى أن تفتدي منه.
{ وإن كن أولات حمل } : لا خلاف في وجوب سكناها ونفقتها ، بتت أو لم تبت.

فإن كانت متوفى عنها ، فأكثر العلماء على أنها لا نفقة لها؛ وعن علي وابن مسعود : تجب نفقتها في التركة.
{ فإن أرضعن لكم } : أي ولدن وأرضعن المولود وجب لها النفقة ، وهي الأجر والكسوة وسائر المؤن على ما قرر في كتب الفقه ، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد بينهن ما لم يبن ، ويجوز عند الشافعي.
وفي تعميم المطلقات بالسكنى ، وتخصيص أولات الأحمال بالنفقة دليل على أن غيرها من المطلقات لا يشاركها في النفقة ، وتشاركهن في السكنى.
{ وائتمروا } : افتعلوا من الأمر ، يقال : ائتمر القوم وتأمروا ، إذا أمر بعضهم بعضاً؛ والخطاب للآباء والأمهات ، أي وليأمر بعضكم بعضاً { بمعروف } : أي في الأجرة والإرضاع ، والمعروف : الجميل بأن تسامح الأم ، ولا يماكس الأب لأنه ولدهما معاً ، وهما شريكان فيه ، وفي وجوب الإشفاق عليه.
وقال الكسائي : { وائتمروا } : تشاوروا ، ومنه قوله تعالى : { إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك } وقول امرىء القيس :
ويعدو على المرء ما يأتمر . . .
وقيل : المعروف : الكسوة والدثار.
{ وإن تعاسرتم } : أي تضايقتم وتشاكستم ، فلم ترض إلا بما ترضى به الأجنبية ، وأبي الزوج الزيادة ، أو إن أبى الزوج الإرضاع إلا مجاناً ، وأبت هي إلا بعوض ، { فسترضع له أخرى } : أي يستأجر غيرها ، وليس له إكراهها.
فإن لم يقبل إلا ثدي أمه ، أجبرت على الإرضاع بأجرة مثلها ، ولا يختص هذا الحكم من وجوب أجرة الرضاع بالمطلقة ، بل المنكوحة في معناها.
وقيل : فسترضع خبر في معنى الأمر ، أي فلترضع له أخرى.
وفي قوله : { فسترضع له أخرى } يسير معاتبة للأم إذا تعاسرت ، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى : سيقضيها غيرك ، تريد : لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم.
والضمير في له عائد على الأب ، كما تعدى في قوله : { فإن أرضعن لكم } : أي للأزواج.
{ لينفق } الموسر والمقدور عليه ما بلغه وسعه ، أي على المطلقات والمرضعات ، ولا يكلف ما لا يطيقه.
والظاهر أن المأمور بالإنفاق الأزواج ، وهذا أصل في وجوب نفقة الولد على الوالد دون الأم.
وقال محمد بن المواز : إنها على الأبوين على قدر الميراث.
وفي الحديث : « يقول لك ابنك انفق عليّ إلى من تكلني » ، ذكره في صحيح البخاري.
وقرأ الجمهور : { لينفق } بلام الأمر ، وحكى أبو معاذ : لينفق بلام كي ونصب القاف ، ويتعلق بمحذوف تقديره : شرعنا ذلك لينفق.
وقرأ الجمهور : { قدر } مخففاً؛ وابن أبي عبلة : مشدد الدال ، سيجعل الله وعد لمن قدر عليه رزقه ، يفتح له أبواب الرزق.
ولا يختص هذا الوعد بفقراء ذلك الوقت ، ولا بفقراء الأزواج مطلقاً ، بل من أنفق ما قدر عليه ولم يقصر ، ولو عجز عن نفقة امرأته.
فقال أبو هريرة والحسن وابن المسيب ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق : يفرق بينهما.
وقال عمر بن عبد العزيز وجماعة : لا يفرق بينهما.

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)

تقدم الكلام على كأين في آل عمران ، وعلى نكراً في الكهف.
{ عتت } : أعرضت ، { عن أمر ربها } ، على سبيل العناد والتكبر.
والظاهر في { فحاسبناها } الجمل الأربعة ، إن ذلك في الدنيا لقوله بعدها : { أعد الله لهم عذاباً شديداً } ، وظاهره أن المعد عذاب الآخرة ، والحساب الشديد هو الاستقصاء والمناقشة ، فلم تغتفر لهم زلة ، بل أخذوا بالدقائق من الذنوب.
وقيل : الجمل الأربعة من الحساب والعذاب والذوق والخسر في الآخرة ، وجيء به على لفظ الماضي ، كقوله : { ونادى أصحاب الجنة } ويكون قوله : { أعد الله لهم } تكريراً للوعيد وبياناً لكونه مترقباً ، كأنه قال : أعد الله لهم هذا العذاب.
وقال الكلبي : الحساب في الآخرة ، والعذاب النكير في الدنيا بالجوع والقحط والسيف.
ولما ذكر ما حل بهذه القرية العاتية ، أمر المؤمنين بتقوى الله تحذيراً من عقابه ، ونبه على ما يحض على التقوى ، وهو إنزال الذكر.
والظاهر أن الذكر هو القرآن ، وأن الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم.
فإما أن يجعل نفس الذكر مجازاً لكثرة يقدر منه الذكر ، فكأنه هو الذكر ، أو يكون بدلاً على حذف مضاف ، أي ذكر رسول.
وقيل : { رسولاً } نعت على حذف مضاف ، أي ذكراً ، ذا رسول.
وقيل : المضاف محذوف من الأول ، أي ذا ذكر رسولاً ، فيكون رسولاً نعتاً لذلك المحذوف أو بدلاً.
وقيل : رسول بمعنى رسالة ، فيكون بدلاً من ذكر ، أو يبعده قوله بعده { يتلو عليكم } ، والرسالة لا تسند التلاوة إليها إلا مجازاً.
وقيل : الذكر أساس أسماء النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل : الذكر : الشرف لقوله : { وإنه لذكر لك ولقومك } فيكون رسولاً بدلاً منه وبياناً له.
وقال الكلبي : الرسول هنا جبريل عليه السلام ، وتبعه الزمخشري فقال : رسولاً هو جبريل صلوات الله وسلامه عليه ، أبدل من ذكراً لأنه وصف بتلاوة آيات الله ، فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر ، فصح إبداله منه. انتهى.
ولا يصح لتباين المدلولين بالحقيقة ، ولكونه لا يكون بدل بعض ولا بدل اشتمال ، وهذه الأعاريب على أن يكون ذكراً ورسولاً لشيء واحد.
وقيل : رسولاً منصوب بفعل محذوف ، أي بعث رسولاً ، أو أرسل رسولاً ، وحذف لدلالة أنزل عليه ، ونحا إلى هذا السدي ، واختاره ابن عطية.
وقال الزجاج وأبو علي الفارسي : يجوز أن يكون رسولاً معمولاً للمصدر الذي هو الذكر. انتهى.
فيكون المصدر مقدراً بأن ، والقول تقديره : إن ذكر رسولاً وعمل منوناً كما عمل ، أو { إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً } كما قال الشاعر :
بضرب بالسيوف رءوس قوم . . .
أزلنا هامهن عن المقيل
وقرىء : رسول بالرفع على إضمار هو ليخرج ، يصح أن يتعلق بيتلو وبأنزل.
{ الذين آمنوا } : أي الذين قضى وقدر وأراد إيمانهم ، أو أطلق عليهم آمنوا باعتبار ما آل أمرهم إليه.

وقال الزمخشري : ليحصل لهم ما هم عليه الساعة من الإيمان والعمل الصالح ، لأنهم كانوا وقت إنزاله غير مؤمنين ، وإنما آمنوا بعد الإنزال والتبليغ. انتهى.
والضمير في { ليخرج } عائد على الله تعالى ، أو على الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو على الذكر.
{ ومن يؤمن } : راعى اللفظ أولاً في من الشرطية ، فأفرد الضمير في { يؤمن } ، { ويعمل } ، و { يدخله } ، ثم راعى المعنى في { خالدين } ، ثم راعى اللفظ في { قد أحسن الله له } فأفرد.
واستدل النحويون بهذه الآية على مراعاة اللفظ أولاً ، ثم مراعاة المعنى ، ثم مراعاة اللفظ.
وأورد بعضهم أن هذا ليس كما ذكروا ، لأن الضمير في { خالدين } ليس عائداً على من ، بخلاف الضمير في { يؤمن } ، { ويعمل } ، و { يدخله } ، وإنما هو عائد على مفعول { يدخله } ، و { خالدين } حال منه ، والعامل فيها { يدخله } لا فعل الشرط.
{ الله الذي خلق سبع سماواتٍ } : لا خلاف أن السموات سبع بنص القرآن والحديث ، كما جاء في حديث الإسراء ، ولقوله صلى الله عليه وسلم لسعد : « حكمت بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة » ، وغيره من نصوص الشريعة.
وقرأ الجمهور : { مثلهن } بالنصب؛ والمفضل عن عاصم ، وعصمة عن أبي بكر : مثلُهن بالرفع فالنصب ، قال الزمخشري : عطفاً على { سبع سماواتٍ }.
انتهى ، وفيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف ، وهو الواو ، والمعطوف؛ وهو مختص بالضرورة عند أبي عليّ الفارسي ، وأضمر بعضهم العامل بعد الواو لدلالة ما قبله عليه ، أي وخلق من الأرض مثلهن ، فمثلهن مفعول للفعل المضمر لا معطوف ، وصار ذلك من عطف الجمل والرفع على الابتداء ، { ومن الأرض } الخبر ، والمثلية تصدق بالاشتراك في بعض الأوصاف.
فقال الجمهور : المثلية في العدد : أي مثلهن في كونها سبع أرضين.
وفي الحديث : « طوقه من سبع أرضين ورب الأرضين السبع وما أقللن » ، فقيل : سبع طباق من غير فتوق.
وقيل : بين كل طبقة وطبقة مسافة.
قيل : وفيها سكان من خلق الله.
قيل : ملائكة وجن.
وعن ابن عباس ، من رواية الواقدي الكذاب ، قال : في كل أرض آدم كآدم ، ونوح كنوح ، ونبي كنبيكم ، وإبراهيم كإبراهيمكم ، وعيسى كعيسى ، وهذا حديث لا شك في وضعه.
وقال أبو صالح : إنها سبع أرضين منبسطة ، ليس بعضها فوق بعض ، تفرق بينها البحار ، وتظل جميعها السماء.
{ يتنزل الأمر بينهن } : من السموات السبع إلى الأرضين السبع.
وقال مقاتل وغيره : الأمر هنا الوحي ، فبينهن إشارة إلى بين هذه الأرض التي هي أدناها وبين السماء السابعة.
وقال الأكثرون : الأمر : القضاء ، فبينهن إشارة إلى بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها.
وقيل : { يتنزل الأمر بينهن } بحياة وموت وغنى وفقر.
وقيل : هو ما يدبر فيهن من عجيب تدبير.
وقرأ الجمهور : { يتنزل } مضارع تنزل.
وقرأ عيسى وأبو عمر ، وفي رواية : ينزل مضارع نزل مشدّداً ، الأمر بالنصب؛ والجمهور : { لتعلموا } بتاء الخطاب.
وقرىء : بياء الغيبة ، والله تعالى أعلم.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)

{ يا أيها النبي } : نداء إقبال وتشريف وتنبيه بالصفة على عصمته مما يقع فيه من ليس بمعصوم؛ { لم تحرم } : سؤال تلطف ، ولذلك قدم قبله { يا أيها النبي } ، كما جاء في قوله تعالى : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } ومعنى { تحرم } : تمنع ، وليس التحريم المشروع بوحي من الله ، وإنما هو امتناع لتطييب خاطر بعض من يحسن معه العشرة.
{ ما أحل الله لك } : هو مباشرة مارية جاريته ، وكان صلى الله عليه وسلم ألمّ بها في بيت بعض نسائه ، فغارت من ذلك صاحبة البيت ، فطيب خاطرها بامتناعه منها ، واستكتمها ذلك ، فأفشته إلى بعض نسائه.
وقيل : هو عسل كان يشربه عند بعض نسائه ، فكان ينتاب بيتها لذلك ، فغار بعضهن من دخوله بيت التي عندها العسل ، وتواصين على أن يذكرن له على أن رائحة ذلك العسل ليس بطيب ، فقال : «لا أشربه».
وللزمخشري هنا كلام أضربت عنه صفحاً ، كما ضربت عن كلامه في قوله : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } وكلامه هذا ونحوه محقق قوي فيه ، ويعزو إلى المعصوم ما ليس لائقاً.
فلو حرم الإنسان على نفسه شيئاً أحله الله ، كشرب عسل ، أو وطء سرية؛ واختلفوا إذا قال لزوجته : أنت عليّ حرام ، أو الحلال على حرام ، ولا يستثني زوجته؛ فقال جماعة ، منهم الشعبي ومسروق وربيعة وأبو سلمة وأصبغ : هو كتحريم الماء والطعام.
وقال تعالى : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } والزوجة من الطيبات ومما أحله الله.
وقال أبو بكر وعمر وزيد وابن عباس وابن مسعود وعائشة وابن المسيب وعطاء وطاووس وسليمان بن يسار وابن جبير وقتادة والحسن والأوزاعي وأبو ثور وجماعة : هو يمين يكفرها.
وقال ابن مسعود وابن عباس أيضاً في إحدى روايتيه ، والشافعي في أحد قوليه : فيه تكفير يمين وليس بيمين.
وقال أبو حنيفة وسفيان والكوفيون : هذا ما أراد من الطلاق ، فإن لم يرد طلاقها فهو لا شيء.
وقال آخرون : كذلك ، فإن لم يرد فهو يمين.
وفي التحرير ، قال أبو حنيفة وأصحابه : إن نوى الطلاق فواحدة بائنة ، أو اثنين فواحدة ، أو ثلاثاً فثلاث ، أو لم ينو شيئاً فيمين وهو مول ، أو الظهار فظهار.
وقال ابن القاسم : لا تنفعه نية الظهار ويكون طلاقاً.
وقال يحيى بن عمر : يكون ، فإن ارتجعها ، فلا يجوز له وطئها حتى يكفر كفارة الظهار فما زاد من أعداده ، فإن نوى واحدة فرجعية ، وهو قول الشافعي.
وقال الأوزاعي وسفيان وأبو ثور : أي أي شيء نوى به من الطلاق وقع وإن لم ينو شيئاً ، فقال سفيان : لا شيء عليه.
وقال الأوزاعي وأبو ثور : تقع واحدة.
وقال الزهري : له نيته ولا يكون أقل من واحدة ، فإن لم ينو فلا شيء.

وقال ابن جبير : عليه عتق رقبة وإن لم يكن ظهاراً.
وقال أبو قلابة وعثمان وأحمد وإسحاق : التحريم ظهار ، ففيه كفارة.
وقال الشافعي : إن نوى أنها محرمة كظهر أمه ، فظهار أو تحريم عينها بغير طلاق ، أو لم ينو فكفارة يمين.
وقال مالك : هي ثلاث في المدخول بها ، وينوى في غير المدخول بها ، فهو ما أراد من واحدة أو اثنتين أو ثلاث.
وقاله علي وزيد وأبو هريرة.
وقيل : في المدخول بها ثلاث ، قاله عليّ أيضاً وزيد بن أسلم والحكم.
وقال ابن أبي ليلى وعبد الملك بن الماجشون : هي ثلاث في الوجهين ، ولا ينوي في شيء.
وروى ابن خويز منداد عن مالك ، وقاله زيد وحماد بن أبي سليمان : إنها واحدة بائنة في المدخول بها وغير المدخول بها.
وقال الزهري وعبد العزيز بن الماجشون : هي واحدة رجعية.
وقال أبو مصعب ومحمد بن الحكم : هي في التي لم يدخل بها واحدة ، وفي المدخول بها ثلاث.
وفي الكشاف لا يراه الشافعي يميناً ، ولكن سبباً في الكفارة في النساء وحدهن ، وإن نوى الطلاق فهو رجعي.
وعن عمر : إذا نوى الطلاق فرجعي.
وعن علي : ثلاث؛ وعن زيد : واحدة؛ وعن عثمان : ظهاراً. انتهى.
وقال أيضاً : ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله : «هو حرام علي» ، وإنما امتنع من مارية ليمين تقدّمت منه ، وهو قوله : " والله لا أقربها بعد اليوم " ، فقيل له : { لم تحرم ما أحل الله لك } : أي لم تمتنع منه بسبب اليمين؟ يعني أقدم على ما حلفت عليه وكفر ، ونحو قوله تعالى : { وحرمنا عليه المراضع } أي منعناه منها. انتهى.
و { تبتغي } : في موضع الحال.
وقال الزمخشري تفسير لتحرم ، أو استئناف ، { مرضات } : رضا أزواجك ، أي بالامتناع مما أحله الله لك.
{ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } : الظاهر أنه كان حلف على أنه يمتنع من وطء مارية ، أو من شرب ذلك العسل ، على الخلاف في السبب ، وفرض إحالة على آية العقود ، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان.
وتحلة : مصدر حلل ، كتكرمة من كرم ، وليس مصدراً مقيساً ، والمقيس : التحليل والتكريم ، لأن قياس فعل الصحيح العين غير المهموز هو التفعيل ، وأصل هذا تحللة فأدغم.
وعن مقاتل : أعتق رقبة في تحريم مارية.
وعن الحسن : لم يكفر. انتهى.
فدل على أنه لم يكن ثم يمين.
و { بعض أزواجه } : حفصة ، والحديث هو بسبب مارية.
{ فلما نبأت به } : أي أخبرت عائشة.
وقيل : الحديث إنما هو : «شربت عسلاً».
وقال ميمون بن مهران : هو إسراره إلى حفصة أن أبا بكر وعمر يملكان إمرتي من بعدي خلافه.
وقرأ الجمهور : { فلما نبأت به } ؛ وطلحة : أنبأت ، والعامل في إذا : اذكر ، وذكر ذلك على سبيل التأنيب لمن أسرّ له فأفشاه.
ونبأ وأنبأ ، الأصل أن يتعديا إلى واحد بأنفسهما ، وإلى ثان بحرف الجر ، ويجوز حذفه فتقول : نبأت به ، المفعول الأول محذوف ، أي غيرها.

و { من أنبأك هذا } : أي بهذا ، { قال نبأني } أي نبأني به أو نبأنيه ، فإذا ضمنت معنى أعلم ، تعدت إلى ثلاثة مفاعيل ، نحو قول الشاعر :
نبئت زرعة والسفاهة كاسمها . . .
تهدي إليّ غرائب الأشعار
{ وأظهره الله عليه } : أي أطلعه ، أي على إفشائه ، وكان قد تكوتم فيه ، وذلك بإخبار جبريل عليه السلام.
وجاءت الكناية هنا عن التفشية والحذف للمفشى إليها بالسر ، حياطة وصوناً عن التصريح بالاسم ، إذ لا يتعلق بالتصريح بالاسم غرض.
وقرأ الجمهور : { عرّف } بشد الرّاء ، والمعنى : أعلم به وأنب عليه.
وقرأ السلمي والحسن وقتادة وطلحة والكسائي وأبو عمرو في رواية هارون عنه : بخف الراء ، أي جازى بالعتب واللوم ، كما تقول لمن يؤذيك : لأعرفن لك ذلك ، أي لأجازينك.
وقيل : إنه طلق حفصة وأمر بمراجعتها.
وقيل : عاتبها ولم يطلقها.
وقرأ ابن المسيب وعكرمة : عراف بألف بعد الراء ، وهي إشباع.
وقال ابن خالويه : ويقال إنها لغة يمانية ، ومثالها قوله :
أعوذ بالله من العقراب . . .
الشائلات عقد الأذناب
يريد : من العقرب.
{ وأعرض عن بعض } : أي تكرماً وحياء وحسن عشرة.
قال الحسن : ما استقصى كريم قط.
وقال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام ، ومفعول عرّف المشدد محذوف ، أي عرّفها بعضه ، أي أعلم ببعض الحديث.
وقيل : المعرّف خلافة الشيخين ، والذي أعرض عنه حديث مارية.
ولما أفشت حفصة الحديث لعائشة واكتتمتها إياه ، ونبأها الرسول الله صلى الله عليه وسلم به ، ظنت أن عائشة فضحتها فقالت : { من أنبأك هذا } على سبيل التثبت ، فأخبرها أن الله هو الذي نبأه به ، فسكنت وسلمت.
{ إن تتوبا إلى الله } : انتقال من غيبة إلى خطاب ، ويسمى الالتفات والخطاب لحفصة وعائشة.
{ فقد صغت } : مالت عن الصواب ، وفي حرف عبد الله : راغت ، وأتى بالجمع في قوله : { قلوبكما } ، وحسن ذلك إضافته إلى مثنى ، وهو ضميراهما ، والجمع في مثل هذا أكثر استعمالاً من المثنى ، والتثنية دون الجمع ، كما قال الشاعر :
فتخالسا نفسيهما بنوافذ . . .
كنوافذ العبط التي لا ترفع
وهذا كان القياس ، وذلك أن يعبر بالمثنى عن المثنى ، لكن كرهوا اجتماع تثنيتين فعدلوا إلى الجمع ، لأن التثنية جمع في المعنى ، والإفراد لا يجوز عند أصحابنا إلا في الشعر ، كقوله :
حمامة بطن الواديين ترنمي . . .
يريد : بطني.
وغلط ابن مالك فقال في كتاب التسهيل : ونختار لفظ الإفراد على لفظ التثنية.
وقرأ الجمهور : تظاهرا بشد الظاء ، وأصله تتظاهرا ، وأدغمت التاء في الظاء ، وبالأصل قرأ عكرمة ، وبتخفيف الظاء قرأ أبو رجاء والحسن وطلحة وعاصم ونافع في رواية ، وبشد الظاء والهاء دون ألف قرأ أبو عمرو في رواية ، والمعنى : وأن تتعاونا عليه في إفشاء سره والإفراط في الغيرة ، { فإن الله هو مولاه } : أي مظاهره ومعينه ، والأحسن الوقف على قوله : { مولاه }.

ويكون { وجبريل } مبتدأ ، وما بعده معطوف عليه ، والخبر { ظهير }.
فيكون ابتداء الجملة بجبريل ، وهو أمين وحي الله واختتامه بالملائكة.
وبدىء بجبريل ، وأفرد بالذكر تعظيماً له وإظهاراً لمكانته عند الله.
ويكون قد ذكر مرتين ، مرة بالنص ومرة في العموم.
واكتنف صالح المؤمنين جبريل تشريفاً لهم واعتناء بهم ، إذ جعلهم بين الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون.
فعلى هذا جبريل داخل في الظهراء لا في الولاية ، ويختص الرسول بأن الله هو مولاه.
وجوزوا أن يكون { وجبريل وصالح المؤمنين } عطفاً على اسم الله ، فيدخلان في الولاية ، ويكون { والملائكة } مبتدأ ، والخبر { ظهير } ، فيكون جبريل داخلاً في الولاية بالنص ، وفي الظهراء بالعموم ، والظاهر عموم وصالح المؤمنين فيشمل كل صالح.
وقال قتادة والعلاء بن العلاء بن زيد : هم الأنبياء ، وتكون مظاهرتهم له كونهم قدوة ، فهم ظهراء بهذا المعنى.
وقال عكرمة والضحاك وابن جبير ومجاهد : المراد أبو بكر وعمر ، وزاد مجاهد : وعلي بن أبي طالب.
وقيل : الصحابة.
وقيل : الخلفاء.
وعن ابن جبير : من يرىء من النفاق ، وصالح يحتمل أن يراد به الجمع ، وإن كان مفرداً فيكون كالسامر في قوله : { مستكبرين به سامراً } أي سماراً.
ويحتمل أن يكون جمعاً حذفت منه الواو خطأ لحذفها لفظاً ، كقوله : { سندع الزبانية } وأفرد الظهير لأن المراد فوج ظهير ، وكثيراً ما يأتي فعيل نحو : هذا للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ المفرد ، كأنهم في الظاهرة يد واحدة على من يعاديه ، فما قد تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه ، وذلك إشارة إلى تظاهرهما ، أو إلى الولاية.
وفي الحديث أن عمر قال : يا رسول الله لا تكترث بأمر نسائك ، والله معك ، وجبريل معك ، وأبو بكر وأنا معك ، فنزلت.
وروي عنه أنه قال لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم : { عسى ربه إن طلقكن } الآية ، فنزلت.
وقرأ الجمهور : طلقكن بفتح القاف ، وأبو عمرو في رواية ابن عباس : بإدغامها في الكاف ، وتقدم ذكر الخلاف في { أن يبدله } في سورة الكهف ، والمتبدل به محذوف لدلالة المعنى عليه ، تقديره : أن يبدله خيراً منكن ، لأنهن إذا طلقهن كان طلاقهن لسوء عشرتهن ، واللواتي يبدلهن بهذه الأوصاف يكن خيراً منهن.
وبدأ في وصفهن بالإسلام ، وهو الانقياد؛ ثم بالإيمان ، وهو التصديق؛ ثم بالقنوت ، وهو الطواعية؛ ثم بالتوبة ، وهي الإقلاع عن الذنب؛ ثم بالعبادة ، وهي التلذذ؛ ثم بالسياحة ، وهي كناية عن الصوم ، قاله أبو هريرة وابن عباس وقتادة والضحاك.
وقيل : إن الرسول صلى الله عليه وسلم فسره بذلك ، قاله أيضاً الحسن وابن جبير وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن.
قال الفراء والقتيبي : سمي الصائم سائحاً لأن السائح لا زاد معه ، وإنما يأكل من حيث يجد الطعام.
وقال زيد بن أسلم ويمان : مهاجرات.
وقال ابن زيد : ليس في الإسلام سياحة إلا الهجرة.
وقيل : ذاهبات في طاعة الله.

وقرأ الجمهور : سائحات ، وعمرو بن فائد : سيحات ، وهذه الصفات تجتمع ، وأما الثيوبة والبكارة فلا يجتمعان ، فلذلك عطف أحدهما على الآخر ، ولو لم يأت بالواو لاختل المعنى.
وذكر الجنسين لأن في أزواجه صلى الله عليه وسلم من تزوجها بكراً ، والثيب : الراجع بعد زوال العذرة ، يقال : ثابت تثوب ثووباً ، ووزنه فعيل كسيد.
ولما وعظ أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم موعظة خاصة ، أتبع ذلك بموعظة عامة للمؤمنين وأهليهم ، وعطف { وأهليكم } على { أنفسكم } ، لأن رب المنزل راع وهو مسؤول عن أهله.
ومعنى وقايتهم : حملهم على طاعته وإلزامهم أداء ما فرض عليهم.
قال عمر : يا رسول الله ، نقي أنفسنا ، فكيف لنا بأهلينا؟ قال : « تنهونهن عما نهاكم الله تعالى عنه ، وتأمرونهن بما أمركم الله به ، فتكون ذلك وقاية بينهن وبين النار » ، ودخل الأولاد في { وأهليكم }.
وقيل : دخلوا في { أنفسكم } لأن الولد بعض من أبيه ، فيعلمه الحلال والحرام ويجنبه المعاصي.
وقرىء : وأهلوكم بالواو ، وهو معطوف على الضمير في { قوا } وحسن العطف للفصل بالمفعول.
وقال الزمخشري : فإن قلت : أليس التقدير قوا أنفسكم وليق أهلوكم أنفسهم؟ قلت : لا ، ولكن المعطوف مقارن في التقدير للواو وأنفسكم واقع بعده ، فكأنه قيل : قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم.
لما جمعت مع المخاطب الغائب غلبته عليه.
فجعلت ضميرهما معاً على لفظ المخاطب. انتهى.
وناقض في قوله هذا لأنه قدر وليق أهلوكم فجعله من عطف الجمل ، لأن أهلوكم اسم ظاهرة لا يمكن عنده أن يرتفع بفعل الآمر الذي للمخاطب ، وكذا في قوله : { اسكن أنت وزوجك الجنة } ثم قال : ولكن المعطوف مقارن في التقدير للواو ، فناقض لأنه في هذا جعله مقارناً في التقدير للواو ، وفيما قبله رفعه بفعل آخر غير الرافع للواو وهو وليق ، وتقدم الخلاف في فتح الواو في قوله : { وقودها } وضمها في البقرة.
وتفسير { وقودها الناس والحجارة } في البقرة { عليها ملائكة } : هي الزبانية التسعة عشر وأعوانهم.
ووصفهم بالغلظ ، إما لشدة أجسامهم وقوتها ، وإما لفظاظتهم لقوله : { ولو كنت فظاً غليظ القلب } أي ليس فيهم رقة ولا حنة على العصاة.
وانتصب { ما أمرهم } على البدل ، أي لا يعصون أمره لقوله تعالى : { أفعصيت أمري } أو على إسقاط حرف الجر.
أي فيما أمرهم { ويفعلون ما يؤمرون }.
قيل : كرر المعنى توكيداً.
وقال الزمخشري : فإن قلت : أليس الجملتان في معنى واحد؟ قلت : لا فإن معنى الأولى : أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها ، ومعنى الثانية : أنهم يودون ما يؤمرون ، لا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه.
{ لا تعتذروا } : خطاب لهم عند دخولهم المنار ، لأنهم لا ينفعهم الاعتذار ، فلا فائدة فيه.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)

ذكروا في النصوح أربعة وعشرين قولاً.
وروي عن عمر وعبد الله وأبي ومعاذ أنها التي لا عودة بعدها ، كما لا يعود اللبن إلى الضرع ، ورفعه معاذ إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقرأ الجمهور : { نصوحاً } بفتح النون ، وصفاً لتوبة ، وهو من أمثلة المبالغة ، كضروب وقتول.
وقرأ الحسن والأعرج وعيسى وأبو بكر عن عاصم ، وخارجة عن نافع : بضمها ، هو مصدر وصف به ، ووصفها بالنصح على سبيل المجاز ، إذ النصح صفة التائب ، وهو أن ينصح نفسه بالتوبة ، فيأتي بها على طريقها ، وهي خلوصها من جميع الشوائب المفسدة لها ، من قولهم : عسل ناصح ، أي خالص من الشمع ، أو من النصاحة وهي الخياطة ، أي قد أحكمها وأوثقها ، كما يحكم الخياط الثوب بخياطته وتوثيقه.
وسمع عليّ أعرابياً يقول : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك ، فقال : يا هذا إن سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذابين ، قال : وما التوبة؟ قال : يجمعها ستة أشياء : على الماضي من الذنوب الندامة ، وعلى الفرائض الإعادة ، ورد المظالم واستحلال الخصوم ، وأن يعزم على أن لا يعودوا ، وأن تدئب نفسك في طاعة الله كما أدأبتها في المعصية ، وأن تذيقها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعاصي.
وعن حذيفة : بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه. انتهى.
ونصوحاً من نصح ، فاحتمل وهو الظاهر أن تكون التوبة تنصح نفس التائب ، واحتمل أن يكون متعلق النصح الناس ، أي يدعوهم إلى مثلها لظهور أمرها على صاحبها.
وقرأ زيد بن علي : توباً بغير تاء ، ومن قرأ بالضم جاز أن يكون مصدراً وصف كما قدمناه ، وجاز أن يكون مفعولاً له ، أي توبوا لنصح أنفسكم.
وقرأ الجمهور : { ويدخلكم } عطفاً على { أن يكفر }.
وقال الزمخشري : عطفاً على محل عسى أن يكفر ، كأنه قيل : توبوا يوجب تكفير سيآتكم ويدخلكم. انتهى.
والأولى أن يكون حذف الحركة تخفيفاً وتشبيهاً لما هو من كلمتين بالكلمة الواحدة ، تقول في قمع ونطع : قمع ونطع.
{ يوم لا يخزي } منصوب بيدخلكم ، ولا يخزي تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر ، والنبي هو محمد رسول صلى الله عليه وسلم ، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم تضرع إلى الله عز وجل في أمر أمته ، فأوحى الله تعالى إليه : إن شئت جعلت حسابهم إليك ، فقال : « يا رب أنت أرحم بهم » ، فقال تعالى : إذاً لا أخزيك فيهم.
وجاز أن يكون : { والذين } معطوفاً على { النبي } ، فيدخلون في انتفاء الخزي.
وجاز أن يكون مبتدأ ، والخبر { نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم }.
وقرأ سهل بن شعيب وأبو حيوة : وبإيمانهم بكسر الهمزة ، وتقدم في الحديث.
{ يقولون ربنا أتمم لنا نورنا }.
قال ابن عباس والحسن : يقولون ذلك إذا طفىء نور المنافقين.

وقال الحسن أيضاً : يدعونه تقرباً إليه ، كقوله : { واستغفر لذنبِك } وهو مغفور له.
وقيل : يقوله من يمر على الصراط زحفاً وحبوا.
وقيل : يقوله من يعطى من النور مقدار ما يبصر به موضع قدميه.
{ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين } : تقدم نظير هذه الآية في التوبة.
{ ضرب الله مثلاً للذين كفروا } : ضرب تعالى المثل لهم بامرأة نوح وامرأة لوط في أنهم لا ينفعهم في كفرهم لحمة نسب ولا وصلة صهر ، إذ الكفر قاطع العلائق بين الكافر والمؤمن ، وإن كان المؤمن في أقصى درجات العلا.
ألا ترى إلى قوله تعالى : { إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح } كما لم ينفع تينك المرأتين كونهما زوجتي نبيين.
وجاءت الكناية عن اسمهما العلمين بقوله : { عبدين من عبادنا } ، لما في ذلك من التشريف بالإضافة إليه تعالى.
ولم يأت التركيب بالضمير عنهما ، فيكون تحتهما لما قصد من ذكر وصفهما بقوله : { صالحين } ، لأن الصلاح هو الوصف الذي يمتاز به من اصطفاه الله تعالى بقوله في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } وفي قول يوسف عليه السلام : { وألحقني بالصالحين } وقول سليمان عليه الصلاة والسلام : { وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } { فخانتاهما } ، وذلك بكفرهما وقول امرأة نوح عليه السلام : هو مجنون ، ونميمة امرأة لوط عليه السلام بمن ورد عليه من الأضياف ، قاله ابن عباس.
وقال : لم تزن امرأة نبي قط ، ولا ابتلي في نسائه بالزنا.
قال في التحرير : وهذا إجماع من المفسرين ، وفي كتاب ابن عطية.
وقال الحسن في كتاب النقاش : فخانتاهما بالكفر والزنا وغيره.
وقال الزمخشري : ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور ، لأنه سمج في الطباع نقيصة عند كل أحد ، بخلاف الكفر ، فإن الكفر يستسمجونه ويسمونه حقاً.
وقال الضحاك : خانتاهما بالنميمة ، كان إذا أوحى إليه بشيء أفشتاه للمشركين ، وقيل : خانتاهما بنفاقهما.
قال مقاتل : اسم امرأة نوح والهة ، واسم امرأة لوط والعة.
{ فلم يغنيا } بياء الغيبة ، والألف ضمير نوح ولوط : أي على قربهما منهما فرق بينهما الخيانة.
{ وقيل ادخلا النار } : أي وقت موتهما ، أو يوم القيامة؛ { مع الداخلين } : الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أو مع من دخلها من إخوانكما من قوم نوح وقوم لوط.
وقرأ مبشر بن عبيد : تغنيا بالتاء ، والألف ضمير المرأتين ، ومعنى { عنهما } : عن أنفسهما ، ولا بد من هذا المضاف إلا أن يجعل عن اسما ، كهي في : دع عنك ، لأنها إن كانت حرفاً ، كان في ذلك تعدية الفعل الرافع للضمير المتصل إلى ضمير المجرور ، وهو يجري مجرى المنصوب المتصل ، وذلك لا يجوز.
{ وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون } : مثل تعالى حال المؤمنين في أن وصلة الكفار لا تضرهم ولا تنقص من ثوابهم بحال امرأة فرعون ، واسمها آسية بنت مزاحم ، ولم يضرها كونها كانت تحت فرعون عدوّ الله تعالى والمدعي الإلهية ، بل نجاها منه إيمانها؛ وبحال مريم ، إذ أوتيت من كرامة الله تعالى في الدنيا والآخرة ، والاصطفاء على نساء العالمين ، مع أن قومها كانوا كفاراً.

{ إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة } : هذا يدل على إيمانها وتصديقها بالبعث.
قيل : كانت عمة موسى عليه السلام ، وآمنت حين سمعت بتلقف عصاه ما أفك السحرة.
طلبت من ربها القرب من رحمته ، وكان ذلك أهم عندها ، فقدمت الظرف ، وهو { عندك بيتاً } ، ثم بينت مكان القرب فقالت : { في الجنة }.
وقال بعض الظرفاء : وقد سئل : اين في القرآن مثل قولهم : الجار قبل الدار؟ قال : قوله تعالى { ابن لي عندك بيتاً في الجنة } ، فعندك هو المجاورة ، وبيتاً في الجنة هو الدار ، وقد تقدم { عندك } على قوله : { بيتًا }.
{ ونجني من فرعون } ، قيل : دعت بهذه الدعوات حين أمر فرعون بتعذيبها لما عرف إيمانها بموسى عليه السلام.
وذكر المفسرون أنواعاً مضطربة في تعذيبها ، وليس في القرآن نصاً أنها عذبت.
وقال الحسن : لما دعت بالنجاة ، نجاها الله تعالى أكرم نجاة ، فرفعها إلى الجنة تأكل وتشرب وتتنعم.
وقيل : لما قالت : { ابن لي عندك بيتاً في الجنة } ، أريت بيتها في الجنة يبنى ، { وعمله } ، قيل : كفره.
وقيل : عذابه وظلمه وشماتته.
وقال ابن عباس : الجماع.
{ ونجني من القوم الظالمين } ، قال : أهل مصر ، وقال مقاتل : القبط ، وفي هذا دليل على الالتجاء إلى الله تعالى عند المحن وسؤال الخلاص منها ، وإن ذلك من سنن الصالحين والأنبياء.
{ ومريم } : معطوف على امرأة فرعون ، { ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا } : تقدم تفسير نظير هذه في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وقرأ الجمهور : ابنت بفتح التاء؛ وأيوب السختياني : ابنه بسكون الهاء وصلاً أجراه مجرى الوقف.
وقرأ الجمهور : { فنفخنا فيه } : أي في الفرج؛ وعبد الله : فيها ، كما في سورة الأنبياء ، أي في الجملة.
وجمع تعالى في التمثيل بين التي لها زوج والتي لا زوج لها تسلية للأرامل وتطييباً لقلوبهن.
وقرأ الجمهور : { وصدقت } بشد الدال؛ ويعقوب وأبو مجلز وقتادة وعصمة عن عاصم : بخفها ، أي كانت صادقة بما أخبرت به من أمر عيسى عليه السلام ، وما أظهر الله له من الكرامات.
وقرأ الجمهور : وكلماته جمعاً ، فاحتمل أن تكون الصحف المنزلة على إدريس عليه السلام وغيره ، وسماها كلمات لقصرها ، ويكون المراد بكتبه : الكتب الأربعة.
واحتمل أن تكون الكلمات : ما كلم الله تعالى به ملائكته وغيرهم ، وبكتبه : جميع ما يكتب في اللوح وغيره.
واحتمل أن تكون الكلمات : ما صدر في أمر عيسى عليه السلام.
وقرأ الحسن ومجاهد والجحدري : بكلمة على التوحيد ، فاحتمل أن يكون اسم جنس ، واحتمل أن يكون كناية عن عيسى ، لأنه قد أطلق عليه أنه كلمة الله ألقاها إلى مريم.

وقرأ أبو عمرو وحفص : وكتبه جمعاً ، ورواه كذلك خارجة عن نافع.
وقرأ باقي السبعة : وكتابه على الإفراد ، فاحتمل أن يراد به الجنس ، وأن يراد به الإنجيل لا سيما إن فسرت الكلمة بعيسى.
وقرأ أبو رجاء : وكتبه.
قال ابن عطية : بسكون التاء وكتبه ، وذلك كله مراد به التوراة والإنجيل.
وقال صاحب اللوامح أبو رجاء : وكتبه بفتح الكاف ، وهو مصدر أقيم مقام الاسم.
قال سهل : وكتبه أجمع من كتابه ، لأن فيه وضع المضاف موضع الجنس ، فالكتب عام ، والكتاب هو الإنجيل فقط. انتهى.
{ وكانت من القانتين } : غلب الذكورية على التأنيث ، والقانتين شامل للذكور والإناث ، ومن للتبعيض.
وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون لابتداء الغاية على أنها ولدت من القانتين ، لأنها من أعقاب هارون أخي موسى ، صلوات الله وسلامه عليهما ، وقال يحيى بن سلام : مثل ضربه الله يحذر به عائشة وحفصة من المخالفة حين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ضرب لهما مثلاً بامرأة فرعون ومريم ابنت عمران ترغيباً في التمسك بالطاعات والثبات على الدّين. انتهى.
وأخذ الزمخشري كلام ابن سلام هذا وحسنه وزمكه بفصاحة فقال : وفي طيّ هذين التمثيلين تعريض بأمّي المؤمنين المذكورتين في أول السورة ، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كرهه ، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشدّه لما في التمثيل من ذكر الكفر ونحوه.
ومن التغليظ قوله : { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } وإشارة إلى أن من حقهما أن يكونا في الإخلاص والكتمان فيه كمثل هاتين المؤمنتين ، وأن لا يشكلا على أنهما زوجتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن ذلك الفضل لا ينقصهما إلا مع كونهما مخلصين.
والتعريض بحفصة أرج ، لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدّاً يدق عن تفطن العالم ويزل عن تبصره. انتهى.
وقال ابن عطية : وقال بعض الناس : إن في المثلين عبرة لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم حين تقدم عتابهن ، وفي هذا بعد ، لأن النص أنه للكفار يبعد هذا ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)

قال : { تبارك } : أي تعالى وتعاظم ، { الذي بيده الملك } : وهو كناية عن الإحاطة والقهر ، وكثيراً ما جاء نسبة اليد إليه تعالى كقوله : { فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء } { بيدك الخير } وذلك في حقه تعالى استعارة لتحقيق الملك ، إذ كانت في عرف الآدميين آلة للتملك ، والملك هنا هو على الإطلاق لا يبيد ولا يختل.
وعن ابن عباس : ملك الملوك لقوله تعالى : { قل اللهم مالك الملك } وناسب الملك ذكر وصف القدرة والحياة ما يصح بوجوده الإحساس.
ومعنى { خلق الموت } : إيجاد ذلك المصحح وإعدامه ، والمعنى : خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون ، وسمى علم الواقع منهم باختيارهم بلوى وهي الحيرة ، استعارة من فعل المختبر.
وفي الحديث أنه فسر { أيكم أحسن عملاً } : أي أحسن عقلاً وأشدّكم خوفاً وأحسنكم في أمره ونهيه نظراً ، وإن كان أقلكم تطوعاً.
وعن ابن عباس والحسن والثوري : أزهدكم في الدنيا.
وقيل : كنى بالموت عن الدنيا ، إذ هو واقع فيها ، وعن الآخرة بالحياة من حيث لا موت فيها ، فكأنه قال : هو الذي خلق الدنيا والآخرة ، وصفهما بالمصدرين ، وقدّم الموت لأنه أهيب في النفوس.
وليبلوكم متعلق بخلق.
{ وإيكم أحسن عملاً } مبتدأ وخبر ، فقدر الحوفي قبلها فعلاً تكون الجملة في موضع معموله ، وهو معلق عنها تقديره : فينظر ، وقدّر ابن عطية فينظر أو فيعلم.
وقال الزمخشري : فإن قلت : من أين تعلق قوله : { أيكم أحسن عملاً } بفعل البلوى؟ قلت : من حيث أنه تضمن معنى العلم ، فكأنه قيل : ليعلمكم أيكم أحسن عملاً ، وإذا قلت : علمته أزيد أحسن عملاً أم هو؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه ، كما تقول : علمته هو أحسن عملاً.
فإن قلت : أيسمى هذا تعليقاً؟ قلت : لا ، إنما التعليق أن توقع بعده ما يسد مسدّ المفعولين جميعاً ، كقولك : علمت أيهما عمرو ، وعلمت أزيد منطلق.
ألا ترى أنه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدّراً بحرف الاستفهام وغير مصدّر به؟ ولو كان تعليقاً لافترقت الحالتان ، كما افترقتا في قولك : علمت أزيد منطلق ، وعلمت زيداً منطلقاً. انتهى.
وأصحابنا يسمون ما منعه الزمخشري تعليقاً ، فيقولون في الفعل إذا عدى إلى اثنين ونصب الأول ، وجاءت بعده جملة استفهامية ، أو بلام الابتداء ، أو بحرف نفي ، كانت الجملة معلقاً عنها الفعل ، وكانت في موضع نصب ، كما لو وقعت في موضع المفعولين وفيها ما يعلق الفعل عن العمل.
وقد تقدّم الكلام على مثل هذه الجملة في الكهف في قوله تعالى : { لنبلوهم أيهم أحسن عملاً } ، وانتصب { طباقاً } على الوصف السبع ، فإما أن يكون مصدر طابق مطابقة وطباقاً لقولهم : النعل خصفها طبقاً على طبق ، وصف به على سبيل المبالغة ، أو على حذف مضاف ، أي ذا طباق؛ وإما جمع طبق كجمل وجمال ، أو جمع طبقة كرحبة ورحاب ، والمعنى : بعضها فوق بعض.

وما ذكر من مواد هذه السموات.
فالأولى من موج مكفوف ، والثانية من درّة بيضاء ، والثالثة من حديد ، والرابعة من نحاس ، والخامسة من فضة ، والسادسة من ذهب ، والسابعة من زمردة بيضاء يحتاج إلى نقل صحيح ، وقد كان بعض من ينتمي إلى الصلاح ، وكان أعمى لا يبصر موضع قدمه ، يخبر أنه يشاهد السموات على بعض أوصاف مما ذكرنا.
{ من تفاوت } ، قال ابن عباس : من تفرّق.
وقال السدّي : من عيب.
وقال عطاء بن يسار : من عدم استواء.
وقال ثعلب : أصله من الفوت ، وهو أن يفوت شيء شيئاً من الخلل.
وقيل : من اضطراب.
وقيل : من اعوجاج.
وقيل : من تناقض.
وقيل : من اختلاف.
وقيل : من عدم التناسب والتفاوت ، تجاوز الحد الذي تجب له زيادة أو نقص.
قال بعض الأدباء :
تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى . . .
بهن اختلافاً بل أتين على قدر
وقرأ الجمهور : { من تفاوت } ، بألف مصدر تفاوت؛ وعبد الله وعلقمة والأسود وابن جبير وطلحة والأعمش : بشدّ الواو ، مصدر تفوّت.
وحكى أبو زيد عن العربي : تفاوتاً بضم الواو وفتحها وكسرها ، والفتح والكسر شاذان.
والظاهر عموم خلق الرحمن من الأفلاك وغيرها ، فإنه لا تفوت فيه ولا فطور ، بل كل جار على الإتقان.
وقيل : المراد في { خلق الرحمن } السموات فقط ، والظاهر أن قوله تعالى : { ما ترى } استئناف أنه لا يدرك في خلقه تعالى تفاوت ، وجعل الزمخشري هذه الجملة صفة متابعة لقوله : { طباقاً } ، أصلها ما ترى فيهن من تفاوت ، فوضع مكان الضمير قوله : { خلق الرحمن } تعظيماً لخلقهن وتنبيهاً على سبب سلامتهن من التفاوت ، وهو أنه خلق الرحمن ، وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المناسب. انتهى.
والخطاب في ترى لكل مخاطب ، أو للرسول صلى الله عليه وسلم.
ولما أخبر تعالى أنه لا تفاوت في خلقه ، أمر بترديد البصر في الخلق المناسب فقال : { فارجع } ، ففي الفاء معنى التسبب ، والمعنى : أن العيان يطابق الخبر.
و { الفطور } ، قال مجاهد : الشقوق ، فطر ناب البعير : شق اللحم وظهر ، قال الشاعر :
بنى لكم بلا عمد سماء . . .
وسوّاها فما فيها فطور
وقال أبو عبيدة : صدوع ، وأنشد قول عبيد بن مسعود :
شققت القلب ثم رددت فيه . . .
هواك فليط فالتأم الفطور
وقال السدي : خروق.
وقال قتادة : خلل ، ومنه التفطير والانفطار.
وقال ابن عباس : وهن وهذه تفاسير متقاربة ، والجملة من قوله : { هل ترى من فطور } في موضع نصب بفعل معلق محذوف ، أي فانظر هل ترى ، أو ضمن معنى { فارجع البصر } معنى فانظر ببصرك هل ترى؟ فيكون معلقاً.
{ ثم ارجع البصر } : أي ردده كرتين هي تثنية لا شفع الواحد ، بل يراد بها التكرار ، كأنه قال : كرة بعد كرة ، أي كرات كثيرة ، كقوله : لبيك ، يريد إجابات كثيرة بعضها في إثر بعض ، وأريد بالتنثية التكثير ، كما أريد بما هو أصل لها التكثير ، وهو مفرد عطف على مفرد ، نحو قوله :

لو عدّ قبر وقبر كان أكرمهم . . .
بيتاً وأبعدهم عن منزل الزام
يريد : لوعدت قبور كثيرة.
وقال ابن عطية وغيره : { كرتين } معناه مرتين ونصبها على المصدر.
وقيل : أمر برجع البصر إلى السماء مرتين ، غلط في الأولى ، فيستدرك بالثانية.
وقيل : الأولى ليرى حسنها واستواءها ، والثانية ليبصر كواكبها في سيرها وانتهائها.
وقرأ الجمهور : { ينقلب } جزماً على جواب الأمر؛ والخوارزمي عن الكسائي : يرفع الباء ، أي فينقلب على حذف الفاء ، أو على أنه موضع حال مقدرة ، أي إن رجعت البصر وكررت النظر لتطلب فطور شقوق أو خللاً أو عيباً ، رجع إليك مبعداً عما طلبته لانتفاء ذلك عنها ، وهو كالّ من كثرة النظر ، وكلاله يدل على أن المراد بالكرتين ليس شفع الواحد ، لأنه لا يكل البصر بالنظر مرتين اثنتين.
والحسير : الكال ، قال الشاعر :
لهن الوجى لم كر عوناً على النوى . . .
ولا زال منها ظالع وحسير
يقال : حسر بعيره يحسر حسوراً : أي كلّ وانقطع فهو حسير ومحسور ، قال الشاعر يصف ناقة :
فشطرها نظر العينين محسور . . .
أي : ونحرها ، وقد جمع حسير بمعنى أعيا وكل ، قال الشاعر :
بها جيف الحسرى فأما عظامها . . .
البيت.
{ السماء الدنيا } : هي التي نشاهدها ، والدنو أمر نسبي وإلا فليست قريبة ، { بمصابيح } : أي بنجوم مضيئة كالمصابيح ، ومصابيح مطلق الأعلام ، فلا يدل على أن غير سماء الدنيا ليست فيها مصابيح.
{ وجعلناها رجوماً للشياطين } : أي جعلنا منها ، لأن السماء ذاتها ليست يرجم بها الرجوم هذا إن عاد الضمير في قوله : { وجعلناها } على السماء.
والظاهر عوده على مصابيح.
ونسب الرجم إليها ، لأن الشهاب المتبع للمسترق منفصل من نارها ، والكواكب قارّ في ملكه على حاله.
فالشهاب كقبس يؤخذ من النار ، والنار باقية لا تنقص.
والظاهر أن الشياطين هم مسترقو السمع ، وأن الرجم هو حقيقة يرمون بالشهب ، كما تقدم في سورة الحجر وسورة والصافات.
وقيل : معنى رجوماً : ظنوناً لشياطين الإنس ، وهم المنجمون ينسبون إلى النجوم أشياء على جهة الظن من جهالهم ، والتمويه والاختلاق من أزكيائهم ، ولهم في ذلك تصانيف تشتمل على خرافات يموهون بها على الملوك وضعفاء العقول ، ويعملون موالد يحكمون فيها بالأشياء لا يصح منها شيء.
وقد وقفنا على أشياء من كذبهم في تلك الموالد ، وما يحكونه عن أبي معشر وغيره من شيوخ السوء كذب يغرون به الناس الجهال.
وقال قتادة : خلق الله تعالى النجوم زينة للسماء ورجوماً للشياطين ، وليهتدي بها في البر والبحر؛ فمن قال غير هذه الخصال الثلاث فقد تكلف وأذهب حظه من الآخرة.
والضمير في لهم عائد على الشياطين.
وقرأ الجمهور : { عذاب جهنم } برفع الباء؛ والضحاك والأعرج وأسيد بن أسيد المزني والحسن في رواية هارون عنه : بالنصب عطفاً على { عذاب السعير } ، أي وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم.

{ إذا ألقوا فيها } : أي طرحوا ، كما يطرح الحطب في النار العظيمة ويرمى به ، ومثله حصب جهنم ، { سمعوا لها } : أي لجهنم ، { شهيقاً } : أي صوتاً منكراً كصوت الحمار ، تصوت مثل ذلك لشدة توقدها وغليانها.
ويحتمل أن يكون على حذف مضاف ، أي سمعوا لأهلها ، كما قال تعالى : { لهم فيها زفير وشهيق } { وهي تفور } : تغلي بهم غلي المرجل.
{ تكاد تميز } : أي ينفصل بعضها من بعض لشدة اضطرابها ، ويقال : فلان يتميز من الغيظ إذا وصفوه بالإفراط في الغضب.
وقرأ الجمهور : { تميز } بتاء واحدة خفيفة ، والبزي يشدّدها ، وطلحة : بتاءين ، وأبو عمرو : بإدغام الدال في التاء ، والضحاك : تمايز على وزن تفاعل ، وأصله تتمايز بتاءين؛ وزيد بن علي وابن أبي عبلة : تميز من ماز من الغيظ على الكفرة ، جعلت كالمغتاظة عليهم لشدة غليانها بهم ، ومثل هذا في التجوز قول الشاعر :
في كلب يشتد في جريه . . .
يكاد أن يخرج من إهابه
وقولهم : غضب فلان ، فطارت منه شقة في الأرض وشقة في السماء إذا أفرط في الغضب.
ويجوز أن يراد من غيظ الزبانية.
{ كلما ألقي فيها فوج } : أي فريق من الكفار ، { سألهم خزنتها } : سؤال توبيخ وتقريع ، وهو مما يزيدهم عذاباً إلى عذابهم ، وخزنتها : مالك وأعوانها ، { ألم يأتكم نذير } : ينذركم بهذا اليوم ، { قالوا بلى } : اعتراف بمجيء النذر إليهم.
قال الزمخشري : اعتراف منهم بعدل الله ، وإقرار بأنه عز وعلا أزاح عللهم ببعثة الرسل وإنذارهم فيما وقعوا فيه ، وأنهم لم يؤتوا من قدره كما تزعم المجبرة ، وإنما أتوا من قبل أنفسهم واختيارهم ، خلاف ما اختار الله وأمر به وأوعد على ضده.
انتهى ، وهو على طريق المعتزلة.
والظاهر أن قوله : { إن أنتم إلا في ضلال كبير } ، من قول الكفار للرسل الذين جاءوا نذراً إليهم ، أنكروا أولاً أن الله نزل شيئاً ، واستجهلوا ثانياً من أخبر بأنه تعالى أرسل إليهم الرسل ، وأن قائل ذلك في حيرة عظيمة.
ويجوز أن يكون من قول الخزنة للكفار إخباراً لهم وتقريعاً بما كانوا عليه في الدنيا.
أرادوا بالضلال الهلاك الذي هم فيه ، أوسموا عقاب الضلال ضلالاً لما كان ناشئاً عن الضلال.
وقال الزمخشري : أو من كلام الرسل لهم حكوه للخزنة ، أي قالوا لنا هذا فلم نقبله. انتهى.
فإن كان الخطاب في { إن أنتم } للرسل ، فقد يراد به الجنس ، ولذلك جاء الخطاب بالجمع.
{ وقالوا } : أي للخزنة حين حاوروهم ، { لو كنا نسمع } سماع طالب للحق ، { أو نعقل }.
عقل متأمل له ، لم نستوجب الخلود في النار.
{ فاعترفوا بذنبهم } : أي بتكذيب الرسل ، { فسحقاً } : أي فبعداً لهم ، وهو دعاء عليهم ، والسحق : البعد ، وانتصابه على المصدر : أي سحقهم الله سحقاً ، قال الشاعر :
يجول بأطراف البلاد مغرباً . . .
وتسحقه ريح الصبا كل مسحق

والفعل منه ثلاثي.
وقال الزجاج : أي أسحقهم الله سحقاً ، أي باعدهم بعداً.
وقال أبو علي الفارسي : القياس إسحاقاً ، فجاء المصدر على الحذف ، كما قيل :
وإن أهلك فذلك كان قدري . . .
أي تقديري.
انتهى ، ولا يحتاج إلى ادعاء الحذف في المصدر لأن فعله قد جاء ثلاثياً ، كما أنشد :
وتسحقه ريح الصبا كل مسحق . . .
وقرأ الجمهور : بسكون الحاء؛ وعلي وأبو جعفر والكسائي ، بخلاف عن أبي الحرث عنه : بضمها.
قال ابن عطية : { فسحقاً } : نصباً على جهة الدعاء عليهم ، وجاز ذلك فيه ، وهو من قبل الله تعالى من حيث هذا القول فيهم مستقر أولاً ، ووجوده لم يقع إلا في الآخرة ، فكأنه لذلك في حيز المتوقع الذي يدعى به ، كما تقول : سحقاً لزيد وبعداً ، والنصب في هذا كله بإضمار فعل ، وإن وقع وثبت ، فالوجه فيه الرفع ، كما قال تعالى : { ويل للمطففين } و { سلام عليكم } وغير هذا من الأمثلة. انتهى.
{ يخشون ربهم بالغيب } : أي الذي أخبروا به من أمر المعاد وأحواله ، أو غائبين عن أعين الناس ، أي في خلواتهم ، كقوله : ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه.
{ وأسروا قولكم } : خطاب لجميع الخلق.
قال ابن عباس : وسببه أن بعض المشركين قال لبعض : أسروا قولكم لا يسمعكم إله محمد.
{ ألا يعلم من خلق } : الهمزة للاستفهام ولا للنفي ، والظاهر أن من مفعول ، والمعنى : أينتفي علمه بمن خلق ، وهو الذي لطف علمه ودق وأحاط بخفيات الأمور وجلياتها؟ وأجاز بعض النحاة أن يكون من فاعلاً والمفعول محذوف ، كأنه قال : ألا يعلم الخالق سركم وجهركم؟ وهو استفهام معناه الإنكار ، أي كيف لا يعلم ما تكلم به من خلق الأشياء وأوجدها من العدم الصرف وحاله أنه اللطيف الخبير المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن؟
{ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً } : منة منه تعالى بذلك ، والذلول فعول للمبالغة ، من ذلك تقول : دابة ذلول : بينة الذل ، ورجل ذليل : بين الذل.
وقال ابن عطية : والذلول فعول بمعنى مفعول ، أي مذلولة ، فهي كركوب وحلوب. انتهى.
وليس بمعنى مفعول لأن فعله قاصر ، وإنما تعدى بالهمزة كقوله : { وتذل من تشاء } وأما بالتضعيف لقوله : { وذللناها لهم } وقوله : أي مذلولة يظهر أنه خطأ.
{ فامشوا في مناكبها } : أمر بالتصرف فيها والاكتساب؛ ومناكبها ، قال ابن عباس وقتادة وبشر بن كعب : أطرافها ، وهي الجبال.
وقال الفراء والكلبي ومنذر بن سعيد : جوانبها ، ومنكبا الرجل : جانباه.
وقال الحسن والسدي : طرفها وفجاجها.
قال الزمخشري : والمشي في مناكبها مثل لفرط التذليل ومجازوته الغاية ، لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وأنبأه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه ، فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم ينزل. انتهى.
وقال الزجاج : سهل لكم السلوك في جبالها فهو أبلغ التذليل.
{ وإليه النشور } : أي البعث ، فسألكم عن شكر هذه النعمة عليكم.

أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)

قرأ نافع وأبو عمرو والبزي : { أأمنتم } بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية ، وأدخل أبو عمرو وقالون بينهما ألفاً ، وقنبل : بإبدال الأولى واواً لضمة ما قبلها ، وعنه وعن ورش أوجه غير هذه؛ والكوفيون وابن عامر بتحقيقهما.
{ من في السماء } : هذا مجاز ، وقد قام البرهان العقلي على أن تعالى ليس بمتحيز في جهة ، ومجازه أن ملكوته في السماء لأن في السماء هو صلة من ، ففيه الضمير الذي كان في العامل فيه ، وهو استقر ، أي من في السماء هو ، أي ملكوته ، فهو على حذف مضاف ، وملكوته في كل شيء.
لكن خص السماء بالذكر لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ ، ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأمره ونهيه ، أو جاء هذا على طريق اعتقادهم ، إذ كانوا مشبهة ، فيكون المعنى : أأمنتم من تزعمون أنه في السماء؟ وهو المتعالي عن المكان.
وقيل : من على حذف مضاف ، أي خالق من في السماء.
وقيل : من هم الملائكة.
وقيل : جبريل ، وهو الملك الموكل بالخسف وغيره.
وقيل : من بمعنى على ، ويراد بالعلو القهر والقدرة لا بالمكان ، وفي التحرير : الاجماع منعقد على أنه ليس في السماء بمعنى الاستقرار ، لأن من قال من المشبهة والمجسمة أنه على العرش لا يقول بأنه في السماء.
{ أن يخسف بكم الأرض } وهو ذهابها سفلاً ، { فإذا هي تمور } : أي تذهب أو تتموج ، كما يذهب التراب في الريح.
وقد تقدم شرح الحاصب في سورة الإسراء ، والنذير والنكير مصدران بمعنى الإنذار والإنكار ، وقال حسان بن ثابت :
فأنذر مثلها نصحاً قريشا . . .
من الرحمن إن قبلت نذيرا
وأثبت ورش ياء نذيري ونكيري ، وحذفها باقي السبعة.
ولما حذرهم ما يمكن إحلاله بهم من الخسف وإرسال الحاصب ، نبههم على الاعتبار بالطير وما أحكم من خلقها ، وعن عجز آلهتهم عن شيء من ذلك ، وناسب ذلك الاعتبار بالطير ، إذ قد تقدمه ذكر الحاصب ، وقد أهلك الله أصحاب الفيل بالطير والحاصب الذي رمتهم به ، ففيه إذكار قريش بهذه القصة ، وأنه تعالى لو شاء لأهلكهم بحاصب ترمي به الطير ، كما فعل بأصحاب الفيل.
{ صافات } : باسطة أجنحتها صافتها حتى كأنها ساكنة ، { ويقبضن } : ويضممن الأجنحة إلى جوانبهن ، وهاتان حالتان للطائر يستريح من إحداهما إلى الأخرى.
وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه ، ومثله قوله تعالى : { فالمغيرات صبحاً فأثرن } عطف الفعل على الاسم لما كان المعنى : فاللاتي أغرن صبحاً فأثرن ، ومثل هذا العطف فصيح ، وعكسه أيضاً جائز إلا عند السهيلي فإنه قبيح ، نحو قوله :
بات يغشيها بغضب باتر . . .
يقصد في أسوقها وجائر
أي : قاصد في أسوقها وجائر.
وقال الزمخشري : { صافات } : باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها ، لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفاً ، { ويقبضن } : ويضمنها إذا ضربن بها جنوبهن.

فإن قلت : لم قيل { ويقبضن } ، ولم يقل : وقابضات؟ قلت : أصل الطيران هو صف الأجنحة ، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها.
وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك ، فجيء بما هو طارىء غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة ، كما يكون من السابح. انتهى.
وملخصه أن الغالب هو البسط ، فكأنه هو الثابت ، فعبر عنه بالاسم.
والقبض متجدد ، فعبر عنه بالفعل ب { ما يمسكهن إلا الرحمن } : أي بقدرته.
قال الزمخشري : وبما دبر لهن من القوادم والخوافي ، وبنى الأجسام على شكل وخصائص قد يأتي منها الجري في الجو { إنه بكل شيء بصير } : يعلم كيف يخلق وكيف يدبر العجائب.
انتهى ، وفيه نزوع إلى قول أهل الطبيعة.
ونحن نقول : إن أثقل الأشياء إذا أراد إمساكها في الهواء واستعلاءها إلى العرش كان ذلك ، وإذا أراد إنزال ما هو أخف سفلاً إلى منتهى ما ينزل كان ، وليس ذلك معذوقاً بشكل ، لا من ثقل ولا خفة.
وقرأ الجمهور : ما يمسكهن مخففاً.
والزهري مشدداً.
وقرأ الجمهور : { من } ، بإدغام ميم أم في ميم من ، إذ الأصل أم من ، وأم هنا بمعنى بل خاصة لأن الذي بعدها هو اسم استفهام في موضع رفع على الابتداء ، وهذا خبر ، والمعنى : من هو ناصركم إن ابتلاكم بعذابه؛ وكذلك من هو رازقكم أن أمسك رزقه ، والمعنى : لا أحد ينصركم ولا يرزقكم.
وقرأ طلحة : أمن بتخفيف الميم ونقلها إلى الثانية كالجماعة.
قال صاحب اللوامح : ومعناه : أهذا الذي هو جند لكم ينصركم ، أم الذي يرزقكم؟ فلفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه التقريع والتوبيخ. انتهى.
{ بل لجوا } : تمادوا ، { في عتو } : في تكبر وعناد ، { ونفور } : شراد عن الحق لثقله عليهم.
وقيل : هذا إشارة إلى أصنامهم.
{ أفمن يمشي مكباً على وجهه } ، قال قتادة نزلت مخبرة عن حال القيامة ، وأن الكفار يمشون فيها على وجوههم ، والمؤمنون يمشون على استقامة.
وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم : كيف يمشى الكافر على وجهه؟ فقال : « إن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر أن يمشيه في الآخرة على وجهه » فالمشي على قول قتادة حقيقة.
وقيل : هو مجاز ، ضرب مثلاً للكافر والمؤمن في الدنيا.
فقيل : عام ، وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك ، نزلت فيهما.
وقال ابن عباس أيضاً : نزلت في أبي جهل والرسول عليه الصلاة والسلام.
وقيل : في أبي جهل وحمزة ، والمعنى أن الكافر في اضطرابه وتعسفه في عقيدته وتشابه الأمر عليه ، كالماضي في انخفاض وارتفاع ، كالأعمى يتعثر كل ساعة فيخر لوجهه.
وأما المؤمن ، فإنه لطمأنينة قلبه بالإيمان ، وكونه قد وضح له الحق ، كالماشي صحيح البصر مستوياً لا ينحرف على طريق واضح الاستقامة لا حزون فيها ، فآلة نظره صحيحة ومسلكه لا صعوبة فيه.

و { مكباً } : حال من أكب ، وهو لا يتعدى ، وكب متعد ، قال تعالى : { فكبت وجوههم في النار } والهمزة فيه للدخول في الشيء أو للصيرورة ، ومطاوع كب انكب ، تقول : كببته فانكب.
وقال الزمخشري : ولا شيء من بناء افعل مطوعاً ، ولا يتقن نحو هذا إلا حملة كتاب سيبويه ، وهذا الرجل كثير التبجح بكتاب سيبويه ، وكم من نص في كتاب سيبويه عمى بصره وبصيرته حتى أن الإمام أبا الحجاج يوسف بن معزوز صنف كتاباً يذكر فيه ما غلط فيه الزمخشري وما جهله من نصوص كتاب سيبويه.
وأهدي : افعل تفضيل من الهدى في الظاهر ، وهو نظير : العسل أحلى أم الخل؟ وهذا الاستفهام لا تراد حقيقته ، بل المراد منه أن كل سامع يجيب بأن الماشي سوياً على صراط مستقيم أهدى.
وانتصب { قليلاً } على أنه نعت لمصدر محذوف ، وما زائدة ، وتشكرون مستأنف أو حال مقدرة ، أي تشكرون شكراً قليلاً.
وقال ابن عطية : ظاهر أنهم يشكرون قليلاً ، وما عسى أن يكون للكافرين شكر ، وهو قليل غير نافع.
وأما أن يريد به نفي الشكر جملة فعبر بالقلة ، كما تقول العرب : هذه أرض قلّ ما تنبت كذا ، وهي لا تنبته ألبتة. انتهى.
وتقدم نظير قوله والرد عليه في ذلك.
{ ذرأكم } : بثكم ، والحشر : البعث ، والوعد المشار إليه هو وعد يوم القيامة ، أي متى إنجاز هذا الوعد؟.
{ فلما رأوه زلفة } : أي رأوا العذاب وهو الموعود به ، { زلفة } : أي قرباً ، أي ذا قرب.
وقال الحسن : عياناً.
وقال ابن زيد : حاضراً.
وقيل : التقدير مكاناً ذا زلفة ، فانتصب على الظرف.
{ سيئت } : أي ساءت رؤيته وجوههم ، وظهر فيها السوء والكآبة ، وغشيها السواد كمن يساق إلى القتل.
وأخلص الجمهور كسرة السين ، وأشمها الضم أبو جعفر والحسن وأبو رجاء وشيبة وابن وثاب وطلحة وابن عامر ونافع والكسائي.
{ وقيل } لهم ، أي تقول لهم الزبانية ومن يوبخهم.
وقرأ الجمهور : { تدعون } بشد الدال مفتوحة ، فقيل : من الدعوى.
قال الحسن : تدعون أنه لا جنة ولا نار.
وقيل : تطلبون وتستعجلون ، وهو من الدعاء ، ويقوي هذا القول قراءة أبي رجاء والضحاك والحسن وقتادة وابن يسار عبد الله بن مسلم وسلام ويعقوب : تدعون بسكون الدال ، وهي قراءة ابن أبي عبلة وأبي زيد وعصمة عن أبي بكر والأصمعي عن نافع.
روي أن الكفار كانوا يدعون على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالهلاك.
وقيل : كانوا يتآمرون بينهم بأن يهلكوهم بالقتل ونحوه ، فأمر أن يقول : { إن أهلكني الله } كما تريدون ، { أو رحمنا } بالنصر عليكم ، فمن يحميكم من العذاب الذي سببه كفركم؟ ولما قال : { أو رحمنا } قال : { هو الرحمن } ، ثم ذكر ما به النجاة وهو الإيمان والتفويض إلى الله تعالى.
وقرأ الجمهور : { فستعلمون } بتاء الخطاب ، والكسائي : بياء الغيبة نظراً إلى قوله : { فمن يجير الكافرين } ولما ذكر العذاب ، وهو مطلق ، ذكر فقد ما به حياة النفوس وهو الماء ، وهو عذاب مخصوص.
والغور مشروح في الكهف ، والمعين في قد أفلح ، وجواب { إن أهلكني } : { فمن يجير } ، وجواب { إن أصبح } : { فمن يأتيكم } ، وتليت هذه الآية عند بعض المستهزئين فقال : تجيء به الفوس والمعاويل ، فذهب ماء عينيه.

ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)

{ ن } : حرف من حروف المعجم ، نحو ص وق ، وهو غير معرب كبعض الحروف التي جاءت مع غيرها مهملة من العوامل والحكم على موضعها بالإعراب تخرص.
وما يروى عن ابن عباس ومجاهد : أنه اسم الحوت الأعظم الذي عليه الأرضون السبع.
وعن ابن عباس أيضاً والحسن وقتادة والضحاك : أنه اسم الدواة.
وعن معاوية بن قرة : يرفعه أنه لوح من نور.
وعن ابن عباس أيضاً : أنه آخر حرف من حروف الرحمن.
وعن جعفر الصادق : أنه نهر من أنهار الجنة ، لعله لا يصح شيء من ذلك.
وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري في تفسيره : ن حرف من حروف المعجم ، فلو كان كلمة تامة أعرب كما أعرب القلم ، فهو إذن حرف هجاء كما في سائر مفاتيح السور. انتهى.
ومن قال إنه اسم الدواة أو الحوت وزعم أنه مقسم به كالقلم ، فإن كان علماً فينبغي أن يجر ، فإن كان مؤنثاً منع الصرف ، أو مذكراً صرف ، وإن كان جنساً أعرب ، ونون وليس فيه شيء من ذلك فضعف القول به.
وقال ابن عطية : إذا كان اسماً للدواة ، فإما أن يكون لغة لبعض العرب ، أو لفظة أعجمية عربت ، قال الشاعر :
إذا ما الشوق برّح بي إليهم . . .
ألقت النون بالدمع السجوم
فمن جعله البهموت ، جعل القلم هو الذي خلقه الله وأمره بكتب الكائنات ، وجعل الضمير في { يسطرون } للملائكة.
ومن قال : هو اسم ، جعله القلم المتعارف بأيدي الناس؛ نص على ذلك ابن عباس وجعل الضمير في { يسطرون } للناس ، فجاء القسم على هذا المجموع أمر الكتاب الذي هو قوام للعلوم وأمور الدنيا والآخرة ، فإن القلم أخو اللسان ونعمة من الله عامة. انتهى.
وقرأ الجمهور : { ن } بسكون النون وإدغامها في واو { والقلم } بغنة وقوم بغير غنة ، وأظهرها حمزة وأبو عمرو وابن كثير وقالون وحفص.
وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق والحسن وأبو السمال : بكسر النون لالتقاء الساكنين؛ وسعيد بن جبير وعيسى : بخلاف عنه بفتحها ، فاحتمل أن تكون حركة إعراب ، وهو اسم للسورة أقسم به وحذف حرف الجر ، فانتصب ومنع الصرف للعلمية والتأنيث ، ويكون { والقلم } معطوفاً عليه.
واحتمل أن يكون لالتقاء الساكنين ، وأوثر الفتح تخفيفاً كأين ، وما يحتمل أن تكون موصولة ومصدرية ، والضمير في { يسطرون } عائد على الكتاب لدلالة القلم عليهم ، فإما أن يراد بهم الحفظة ، وإما أن يراد كل كاتب.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه ، فيكون الضمير في { يسطرون } لهم ، كأنه قيل : وأصحاب القلم ومسطوراتهم أو وتسطيرهم. انتهى.
فيكون كقوله : { كظلمات في بحر لجي } أي وكذي ظلمات ، ولهذا عاد عليه الضمير في قوله : { يغشاه موج } وجواب القسم : { ما أنت بنعمة ربك بمجنون }.
ويظهر أن { بنعمة ربك } قسم اعترض به بين المحكوم عليه والحكم على سبيل التوكيد والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم عنه صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن عطية : { بنعمة ربك } اعتراض ، كما تقول للإنسان : أنت بحمد الله فاضل. انتهى.
ولم يبين ما تتعلق به الباء في { بنعمة }.
وقال الزمخشري : يتعلق { بمجنون } منفياً ، كما يتعلق بعاقل مثبتاً في قولك : أنت بنعمة الله عاقل ، مستوياً في ذلك النفي والإثبات استواءهما في قولك : ضرب زيد عمراً ، وما ضرب زيد عمراً تعمل الفعل مثبتاً ومنفياً إعمالاً واحداً ، ومحله النصب على الحال ، كأنه قال : ما أنت بمجنون منعماً عليك بذلك ، ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله لأنها زائدة لتأكيد النفي ، والمعنى : استبعاد ما كان ينسبه إليه كفار مكة عداوة وحسداً ، وأنه من إنعام الله تعالى عليه بحصافة العقل والشهامة التي يقتضيها التأهيل للنبوة بمنزلة. انتهى.
وما ذهب إليه الزمخشري من أن { بنعمة ربك } متعلق { بمجنون } ، وأنه في موضع الحال ، يحتاج إلى تأمل ، وذلك أنه إذا تسلط النفي على محكوم به ، وذلك له معمول ، ففي ذلك طريقان : أحدهما : أن النفي يتسلط على ذلك المعمول فقط ، والآخر : أن يتسلط النفي على المحكوم به فينتفي معموله لانتفائه بيان ذلك ، تقول : ما زيد قائم مسرعاً ، فالمتبادر إلى الذهن أنه منتف إسراعه دون قيامه ، فيكون قد قام غير مسرع.
والوجه الآخر أنه انتفى قيامه فانتفى إسراعه ، أي لا قيام فلا إسراع ، وهذا الذي قررناه لا يتأتى معه قول الزمخشري بوجه ، بل يؤدي إلى مالا يجوز أن ينطق به في حق المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وقيل معناه : ما أنت بمجنون والنعمة بربك لقولهم : سبحانك اللهم وبحمدك ، أي والحمد لله ، ومنه قول لبيد :
وأفردت في الدنيا بفقد عشيرتي . . .
وفارقني جار بأربد نافع
أي : وهو أربد. انتهى.
وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب.
وفي المنتخب ما ملخصه المعنى : انتفى عنك الجنون بنعمة ربك ، أي حصول الصفة المحمودة ، وزال عنك الصفة المذمومة بواسطة إنعام ربك.
ثم قرر بهذه الدعوى ما هو كالدليل القاطع على صحتها ، لأن نعمه كانت ظاهرة في حقه من كمال الفصاحة والعقل والسيرة المرضية والبراءة من كل عيب والاتصاف بكل مكرمة ، فحصول ذلك وظهوره جار مجرى اليقين في كونهم كاذبين في قولهم : إنه مجنون.
{ وإن لك لأجراً } في احتمال طعنهم وفي دعاء الخلق إلى الله ، فلا يمنعك ما قالوا عن الدعاء إلى الله.
{ وإنك لعلى خلق عظيم } : هذا كالتفسير لما تقدم من قوله : { بنعمة ربك } ، وتعريف لمن رماه بالجنون أنه كذب وأخطأ ، وأن من كان بتلك الأخلاق المرضية لا يضاف الجنون إليه ، ولفظه يدل على الاستعلاء والاستيلاء. انتهى.
{ وإن لك لأجراً } : أي على ما تحملت من أثقال النبوة ومن أذاهم مما ينسبون إليك مما أنت لا تلتبس به من المعائب ، { غير ممنون } : أي غير مقطوع ، مننت الحبل : قطعته ، وقال الشاعر :

عبساً كواسب لا يمن طعامها . . .
أي لا يقطع.
وقال مجاهد : غير محسوب.
وقال الحسن : غير مكدر بالمن.
وقال الضحاك : بغير عمل.
وقيل : غير مقدر ، وهو معنى قول مجاهد.
وقال الزمخشري : أو غير ممنون عليك ، لأن ثواب تستوجبه على عملك وليس بتفضل ابتداء ، وإنما تمن الفواصل لا الأجور على الأعمال.
انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال.
{ وإنك لعلى خلق عظيم } ، قال ابن عباس ومجاهد : دين عظيم ليس دين أحب إلى الله تعالى منه.
وقالت عائشة : إن خلقه كان القرآن.
وقال علي : هو أدب القرآن.
وقال قتادة : ما كان يأتمر به من أمر الله تعالى.
وقيل : سمي عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه ، من كرم السجية ، ونزاهة القريحة ، والملكة الجميلة ، وجودة الضرائب؛ ما دعاه أحد إلا قال لبيك ، وقال : « إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق » ، ووصى أبا ذر فقال : « وخالق الناس بخلق حسن » وعنه صلى الله عليه وسلم : « ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من خلق حسن » وقال : « أحبكم إلى الله تعالى أحسنكم أخلاقاً » والظاهر تعلق { بأيكم المفتون } بما قبله.
وقال عثمان المازني : تم الكلام في قوله { ويبصرون } ، ثم استأنف قوله : { بأيكم المفتون }. انتهى.
فيكون قوله : { بأيكم المفتون } استفهاماً يراد به الترداد بين أمرين ، ومعلوم نفي الحكم عن أحدهما ، ويعينه الوجود ، وهو المؤمن ، ليس بمفتون ولا به فتون.
وإذا كان متعلقاً بما قبله ، وهو قول الجمهور ، فقال قتادة وأبو عبيدة معمر : الباء زائدة ، والمعنى : أيكم المفتون؟ وزيدت الباء في المبتدأ ، كما زيدت فيه في قوله : بحسبك درهم ، أي حسبك.
وقال الحسن والضحاك والأخفش : الباء ليست بزائدة ، والمفتون بمعنى الفتنة ، أي بأيكم هي الفتنة والفساد الذي سموه جنوناً؟ وقال الأخفش أيضاً : بأيكم فتن المفتون ، حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
ففي قوله الأول جعل المفتون مصدراً ، وهنا أبقاه اسم مفعول وتأوله على حذف مضاف.
وقال مجاهد والفراء : الباء بمعنى في ، أي في أيّ فريق منكم النوع المفتون؟ انتهى.
فالباء ظرفية ، نحو : زيد بالبصرة ، أي في البصرة ، فيظهر من هذا القول أن الباء في القول قبله ليست ظرفية ، بل هي سببية.
وقال الزمخشري : المفتون : المجنون لأنه فتن ، أي محن بالجنون ، أو لأن العرب يزعمون أنه من تخييل الجن ، وهم الفتان للفتاك منهم. انتهى.
وقرأ ابن أبي عبلة : في أيكم المفتون.
{ إن ربك هو أعلم } : وعيد للضال ، وهم المجانين على الحقيقة ، حيث كانت لهم عقول لم ينتفعوا بها ، ولا استعملوها فيما جاءت به الرسل ، أو يكون أعلم كناية عن جزاء الفريقين.
{ فلا تطع المكذبين } : أي الذين كذبوا بما أنزل الله عليك من الوحي ، وهذا نهي عن طواعيتهم في شيء مما دعوه إليه من تعظيم آلهتهم.

{ ودوا لو تدهن } : لو هنا على رأي البصريين مصدرية بمعنى أن ، أي ودوا ادهانكم ، وتقدم الكلام في ذلك في قوله تعالى : { يود أحدهم لو يعمر ألف سنة } ومذهب الجمهور أن معمول ود محذوف ، أي ودوا ادهانكم ، وحذف لدلالة ما بعده عليه ، ولو باقية على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابها محذوف تقديره لسروا بذلك.
وقال ابن عباس والضحاك وعطية والسدي : لو تدهن : لو تكفر ، فيتمادون على كفرهم.
وعن ابن عباس أيضاً : لو ترخص لهم فيرخصون لك.
وقال قتادة : لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك.
وقال الحسن : لو تصانعهم في دينك فيصانعوك في دينهم.
وقال زيد بن أسلم : لو تنافق وترائي فينافقونك ويراؤونك.
وقال الربيع بن أنس : لو تكذب فيكذبون.
وقال أبو جعفر : لو تضعف فيضعفون.
وقال الكلبي والفراء : لو تلين فيلينون.
وقال أبان بن ثعلب : لو تحابي فيحابون ، وقالوا غير هذه الأقوال.
وقال الفراء : الدهان : التليين.
وقال المفضل : النفاق وترك المناصحة ، وهذا نقل أهل اللغة ، وما قالوه لا يخرج عن ذلك لأن ما خالف ذلك هو تفسير باللازم ، وفيدهنون عطف على تدهن.
وقال الزمخشري : عدل به إلى طريق آخر ، وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف ، أي فهم يدهنون كقوله : { فمن يؤمن بربه فلا يخاف } بمعنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ ، أو ودوا ادهانك فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك. انتهى.
وجمهور المصاحف على إثبات النون.
وقال هارون : إنه في بعض المصاحف فيدهنوا ، ولنصبه وجهان : أحدهما أنه جواب ودوا لتضمنه معنى ليت؛ والثاني أنه على توهم أنه نطق بأن ، أي ودوا أن تدهن فيدهنوا ، فيكون عطفاً على التوهم ، ولا يجيء هذا الوجه إلا على قول من جعل لو مصدرية بمعنى أن.
{ ولا تطع كل حلاف مهين } : تقدّم تفسير مهين وما بعده في المفردات ، وجاءت هذه الصفات صفات مبالغة ، ونوسب فيها فجاء { حلاف } وبعده { مهين } ، لأن النون فيها مع الميم تواخ.
ثم جاء : { هماز مشاء بنميم } بصفتي المبالغة ، ثم جاء : { مناع للخير معتد أثيم } ، فمناع وأثيم صفتا مبالغة ، والظاهر أن الخير هنا يراد به العموم فيما يطلق عليه خير.
وقيل : الخير هنا المال ، يريد مناع للمال عبر به عن الشح ، معناه : متجاوز الحد في الظلم.
وفي حديث شداد بن أوس قلت : يعني لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وما العتل الزنيم؟ قال : الرحيب الجوف ، الوتير الخلق ، الأكول الشروب ، الغشوم الظلوم.
وقرأ الحسن : عتل برفع اللام ، والجمهور : بجرها بعد ذلك.
وقال الزمخشري : جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه ، لأنه إذا جفا وغلظ طبعه قسا قلبه واجترأ على كل معصية ، ولأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الناشىء منها ، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده » ، وبعد ذلك نظير ثم في قوله : { ثم كان من الذين آمنوا } وقرأ الحسن : عتل رفعاً على الذم ، وهذه القراءة تقوية لما يدل عليه بعد ذلك. انتهى.
وقال ابن عطية : { بعد ذلك } : أي بعد أن وصفناه به ، فهذا الترتيب إنما هو في قول الواصف لا في حصول تلك الصفات في الموصوف ، وإلا فكونه عتلاً هو قبل كونه صاحب خبر يمنعه. انتهى.
والزنيم : الملصق في القوم وليس منهم ، قاله ابن عباس وغيره.
وقيل : الزنيم : المريب القبيح الأفعال ، وعن ابن عباس أيضاً : الزنيم : الذي له زنمة في عنقه كزنمة الشاة ، وما كنا نعرف المشار إليه حتى نزلت فعرفناه بزنمته. انتهى.
وروي أن الأخفش بن شريف كان بهذه الصفة ، كان له زنمة.
وروى ابن جبير عن ابن عباس أن الزنيم هو الذي يعرف بالشر ، كما تعرف الشاة بالزنمة.
وعنه أيضاً : أنه المعروف بالابنة.
وعنه أيضاً : أنه الظلوم.
وعن عكرمة : هو اللئيم.
وعن مجاهد وعكرمة وابن المسيب : أنه ولد الزنا الملحق في النسب بالقوم ، وكان الوليد دعيا في قريش ليس من منحهم ، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده.
وقال مجاهد : كانت له ستة أصابع في يده ، في كل إبهام أصبع زائدة ، والذي يظهر أن هذه الأوصاف ليست لمعين.
ألا ترى إلى قوله : { كل حلاف } ، وقوله : { إنا بلوناهم } ؟ فإنما وقع النهي عن طواعية من هو بهذه الصفات.
قال ابن عطية ما ملخصه ، قرأ النحويان والحرميان وحفص وأهل المدينة : { إن كان } على الخبر؛ وباقي السبعة والحسن وابن أبي إسحاق وأبو جعفر : على الاستفهام؛ وحقق الهمزتين حمزة ، وسهل الثانية باقيهم.
فأما على الخبر ، فقال أبو علي الفارسي : يجوز أن يعمل فيها عتل وأن كان قد وصف.
انتهى ، وهذا قول كوفي ، ولا يجوز ذلك عند البصريين.
وقيل : { زنيم } لا سيما على قول من فسره بالقبيح الأفعال.
وقال الزمخشري : متعلق بقوله : { ولا تطع } ، يعنى ولا تطعه مع هذه المثالب ، ل { أن كان ذا مال } : أي ليساره وحظه من الدنيا ، ويجوز أن يتعلق بما بعده على معنى لكونه متمولاً مستظهراً بالبنين ، كذب آياتنا ولا يعمل فيه ، قال الذي هو جواب إذا ، لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله ، ولكن ما دلت عليه الجملة من معنى التكذيب. انتهى.
وأما على الاستفهام ، فيحتمل أن يفسر عامل يدل عليه ما قبله ، أي أيكون طواعية لأن كان؟ وقدره الزمخشري : أتطيعه لأن كان؟ أو عامل يدل عليه ما قبله ، أي أكذب أو جحد لأن كان؟ وقرأ نافع في رواية اليزيدي عنه : إن كان بكسر الهمزة.
قال الزمخشري : والشرط للمخاطب ، أي لا تطع كل حلاف شارطاً يساره ، لأنه إذا أطاع الكافر لغناه ، فكأنه اشترط في الطاعة الغنى ، ونحو صرف الشرط إلى المخاطب صرف الرجاء إليه في قوله : « لعله يذكر ».

انتهى.
وأقوال : إن كان شرط ، وإذا تتلى شرط ، فهو مما اجتمع فيه شرطان ، وليسا من الشروط المترتبة الوقوع ، فالمتأخر لفظاً هو المتقدم ، والمتقدم لفظاً هو شرط في الثاني ، كقوله :
فإن عثرت بعدها إن والت . . .
نفسي من هاء تاء فقولا لها لها
لأن الحامل على ترك تدبر آيات الله كونه ذا مال وبنين ، فهو مشغول القلب ، فذلك غافل عن النظر والفكر ، قد استولت عليه الدنيا وأبطرته.
وقرأ الحسن : أئذا على الاستفهام ، وهو استفهام تقريع وتوبيخ على قوله القرآن أساطير الأولين لما تليت عليه آياته الله.
ولما ذكر قبائح أفعاله وأقواله ، ذكر ما يفعل به على سبيل التوعد فقال : { سنسمه على الخرطوم } ، والسمة : العلامة.
ولما كان الوجه أشرف ما في الإنسان ، والأنف أكرم ما في الوجه لتقدمه ، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية ، واشتقوا منه الأنفة وقالوا : حميّ الأنف شامخ العرنين.
وقالوا في الذليل : جدع أنفه ، ورغم أنفه.
وكان أيضاً مما تظهر السمات فيه لعلو ، قال : { سنسمه على الخرطوم } ، وهو غاية الإذلال والإهانة والاستبلاد ، إذ صار كالبهيمة لا يملك الدفع عن وسمه في الأنف ، وإذا كان الوسم في الوجه شيناً ، فكيف به على أكرم عضو فيه؟ وقد قيل : الجمال في الأنف ، وقال بعض الأدباء :
وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل . . .
فكيف إذا ما الخال كان له حليا
وسنسمه فعل مستقبل لم يتعين زمانه.
وقال ابن عباس : هو الضرب بالسيف ، أي يضرب به وجهه وعلى أنفه ، فيجيء ذلك كالوسم على الانف ، وحل به ذلك يوم بدر.
وقال المبرد : ذلك في عذاب الآخرة في جهنم ، وهو تعذيب بنار على أنوفهم.
وقال آخرون : ذلك يوم القيامة ، أي نوسم على أنفه بسمة يعرف بها كفره وانحطاط قدره.
وقال قتادة وغيره : معناه سنفعل به في الدنيا من الذم والمقت والاشتهار بالشر ما يبقى فيه ولا يخفى به ، فيكون ذلك كالوسم على الأنف ثابتاً بيناً ، كما تقول : سأطوقك طوق الحمامة : أي أثبت لك الأمر بيناً فيك ، ونحو هذا أراد جرير بقوله :
لما وضعت على الفرزدق ميسمي . . .
وفي الوسم على الأنف تشويه ، فجاءت استعارته في المذمات بليغة جدّاً.
قال ابن عطية : وإذا تأملت حال أبي جهل ونظرائه ، وما ثبت لهم في الدنيا من سوء الأخروية ، رأيت أنهم قد وسموا على الخراطيم. انتهى.
وقال أبو العالية ومقاتل ، واختاره الفراء : يسود وجهه قبل دخول النار ، وذكر الخرطوم ، والمراد الوجه ، لأن بعض الوجه يؤدي عن بعض.
وقال أبو عبد الله الرازي : إنما بالغ الكافر في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب الأنفة والحمية ، فلما كان شاهد الإنكار هو الأنفة والحمية ، عبر عن هذا الاختصاص بقوله : { سنسمه على الخرطوم }.

انتهى كلامه.
وفي استعارة الخرطوم مكان الأنف استهانة واستخفاف ، لأن حقيقة الخرطوم هو للسباع.
وتلخص من هذا أن قوله : { سنسمه على الخرطوم } ، أهو حقيقة أم مجاز؟ وإذا كان حقيقة ، فهل ذلك في الدنيا أو في الآخرة؟ وأبعد النضر بن شميل في تفسيره الخرطوم بالخمر ، وأن معناه سنحده على شربها.
ولما ذكر المتصف بتلك الأوصاف الذميمة ، وهم كفار قريش ، أخبر تعالى بما حل بهم من الابتلاء بالقحط والجوع بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف » الحديث ، كما بلونا أصحاب الجنة المعروف خبرها عندهم.
كانت بأرض اليمين بالقرب منهم قريباً من صنعاء لرجل كان يؤدي حق الله منها ، فمات فصارت إلى ولده ، فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله تعالى ، فأهلكها الله تعالى من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بهم.
وقيل : كانت بصوران على فراسخ من صنعاء لناس بعد رفع عيسى عليه السلام ، وكان صاحبها ينزل للمساكنين ما أخطأه المنجل وما في أسفل الأكراس وما أخطاه القطاف من العنب وما بقي على السباط تحت النخلة إذا صرمت ، فكان يجتمع لهم شيء كثير.
فلما مات قال بنوه : إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال ، فحلفوا { ليصرِمنها مصبحين } في السدف خفية من المساكين ، ولم يستثنوا في يمينهم؛ والكاف في { كما بلونا } في موضع نصب ، وما مصدرية.
وقيل : بمعنى الذي ، وإذ معمول لبلوناهم ليصرمنها جواب القسم لا على منطوقهم ، إذ لو كان على منطوقهم لكان لنصرمنها بنون المتكلمين ، والمعنى : ليجدن ثمرها إذا دخلوا في الصباح قبل خروج المساكين إلى عادتهم مع أبيهم.
{ ولا يستثنون } : أي ولا ينثنون عن ما عزموا عليه من منع المساكين.
وقال مجاهد : معناه : لا يقولون إن شاء الله ، بل عزموا على ذلك عزم من يملك أمره.
وقال الزمخشري ، متبعاً قول مجاهد : ولا يقولون إن شاء الله.
فإن قلت : لم سمي استثناء ، وإنما هو شرط؟ قلت : لأنه يؤدي مؤدّى الاستثناء من حيث أن معنى قولك : لأخرجن إن شاء الله ، ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد. انتهى.
{ فطاف عليها طائف } ، قرأ النخعي : طيف.
قال الفراء : والطائف : الأمر الذي يأتي بالليل ، ورد عليه بقوله : { إذا مسهم طائف من الشيطان } فلم يتخصص بالليل ، وطائف مبهم.
فقيل : هو جبريل عليه السلام ، اقتلعها وطاف بها حول البيت ، ثم وضعها حيث مدينة الطائف اليوم ، ولذلك سميت بالطائف ، وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الماء والشجر والأعناب غيرها.
وقال ابن عباس : طائف من أمر ربك.
وقال قتادة : عذاب من ربك.
وقال ابن جرير : عنق خرج من وادي جهنم.

{ فأصبحت كالصريم } ، قال ابن عباس : كالرماد الأسود ، والصريم : الرماد الأسود بلغة خزيمة ، وعنه أيضاً : الصريم رملة باليمن معروفة لا تنبت ، فشبه جنتهم بها.
وقال الحسن : صرم عنها الخير ، أي قطع.
فالصريم بمعنى مصروم.
وقال الثوري : كالصبح من حيث ابيضت كالزرع المحصود.
وقال مورج : كالرملة انصرمت من معظم الرمل ، والرملة لا تنبت شيئاً ينفع.
وقال الأخفش : كالصبح انصرم من الليل.
وقال المبرد : كالنهار فلا شيء فيها.
وقال شمر : الصريم : الليل ، والصريم : النهار ، أي ينصرم هذا عن ذاك ، وذاك عن هذا.
وقال الفراء والقاضي منذر بن سعيد وجماعة : الصريم : الليل من حيث اسودت جنتهم.
{ فتنادوا } : دعا بعضهم بعضاً إلى المضي إلى ميعادهم ، { أن اغدوا على حرثكم }.
قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل { اغدوا إلى حرثكم } ، وما معنى على؟ قلت : لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه كان غدواً عليه ، كما تقول : غدا عليهم العدو.
ويجوز أن يضمن الغد ومعنى الإقبال ، كقولهم : يغدي عليه بالجفنة ويراح ، أي فاقبلوا على حرثكم باكرين. انتهى.
واستسلف الزمخشري أن غداً يتعدى بإلى ، ويحتاج ذلك إلى نقل بحيث يكثر ذلك فيصير أصلاً فيه ويتأول ما خالفه ، والذي في حفظي أنه معدى بعلى ، كقول الشاعر :
بكرت عليه غدوة فرأيته . . .
قعوداً عليه بالصريم عوادله
{ إن كنتم صارمين } : الظاهر أنه من صرام النحل.
قيل : ويحتمل أن يريد : إن كنتم أهل عزم وإقدام على رأيكم ، من قولك : سيف صارم.
{ يتخافتون } : يخفون كلامهم خوفاً من أن يشعر بهم المساكين.
{ أن لا يدخلنها } : أي يتخافتون بهذا الكلام وهو لا يدخلنها ، وأن مصدرية ، ويجوز أن تكون تفسيرية.
وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة : لا يدخلنها ، بإسقاط أن على إضمار يقولون ، أو على إجراء يتخافتون مجرى القول ، إذ معناه : يسارون القول والنهي عن الدخول.
نهى عن التمكين منه ، أي لا تمكنوهم من الدخول فيدخلوا.
{ وغدوا على حرد قادرين } : أي على قصد وقدوة في أنفسهم ، يظنون أنهم تمكنوا من مرادهم.
قال معناه ابن عباس ، أي قاصدين إلى جنتهم بسرعة ، قادرين عند أنفسهم على صرامها.
قال أبو عبيدة والقتبي : { على حرد } : على منع ، أي قادرين في أنفسهم على منع المساكين من خيرها ، فجزاهم الله بأن منعهم خيراً.
وقال الحسن : { على حرد } ، أي حاجة وفاقة.
وقال السدي وسفيان : { على حرد } : على غضب ، أي لم يقدروا إلا على حنق وغضب بعضهم على بعض.
وقيل : { على حرد } : على انفراد ، أي انفردوا دون المساكين.
وقال الأزهري : حرد اسم قريتهم.
وقال السدي : اسم جنتهم ، أي غدوا على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم ، أو مقدرين أن يتم لهم مرادهم من الصرام.
قيل : ويحتمل أن يكون من التقدير بمعنى التضييق لقوله تعالى : { ومن قدر عليه رزقه } أي مضيقين على المساكين ، إذ حرموهم ما كان أبوهم ينيلهم منها.

{ فلما رأوها } : أي على الحالة التي كانوا غدوها عليها ، من هلاكها وذهاب ما فيها من الخير ، { قَالوا إنا لضالون } : أي عن الطريق إليها ، قاله قتادة.
وذلك في أول وصولهم أنكروا أنها هي ، واعتقدوا أنهم أخطأوا الطريق إليها ، ثم وضح لهم أنها هي ، وأنه أصابها من عذاب الله ما أذهب خيرها.
وقيل : لضالون عن الصواب في غدونا على نية منع المساكين ، فقالوا : { بل نحن محرومون } خيرها بخيانتنا على أنفسنا.
{ قال أوسطهم } : أي أفضلهم وأرجحهم عقلاً ، { ألم أقل لكم لولا تسبحون } : أنبهم ووبخهم على تركهم ما حضهم عليه من تسبيح الله ، أي ذكره وتنزيهه عن السوء ، ولو ذكروا الله وإحسانه إليهم لامتثلوا ما أمر به من مواساة المساكين واقتفوا سنة أبيهم في ذلك.
فلما غفلوا عن ذكر الله تعالى وعزموا على منع المساكين ، ابتلاهم الله ، وهذا يدل على أن أوسطهم كان قد تقدم إليهم وحرضهم على ذكر الله تعالى.
وقال مجاهد وأبو صالح : كان استثناؤهم سبحان الله.
قال النحاس : جعل مجاهد التسبيح موضع إن شاء الله ، لأن المعنى تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته.
وقال الزمخشري : لالتقائهما في معنى التعظيم لله ، لأن الاستثناء تفويض إليه ، والتسبيح تنزيه له ، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم له.
وقيل : { لولا تسبحون } : تستغفرون.
ولما انبهم ، رجعوا إلى ذكر الله تعالى ، واعترفوا على أنفسهم بالظلم ، وبادروا إلى تسبح الله تعالى فقالوا : { سبحان ربنا }.
قال ابن عباس : أي نستغفر الله من ذنبنا.
ولما أقروا بظلمهم ، لام بعضهم بعضاً ، وجعل اللوم في حيز غيره ، إذ كان منهم من زين ، ومنهم من قبل ، ومنهم من أمر بالكف ، ومنهم من عصى الأمر.
ومنهم من سكت على رضا منه.
ثم اعترفوا بأنهم طغوا ، وترجوا انتظار الفرج في أن يبدلهم خيراً من تلك الجنة ، { عسى ربنا أن يبدلنا } : أي بهذه الجنة ، { خير منها } : وتقدم الكلام في الكهف ، والخلاف في تخفيف يبدلنا ، وتثقيلها منسوباً إلى القراء.
{ إنا إلى ربنا راغبون } : أي طالبون إيصال الخير إلينا منه.
والظاهر أن أصحاب هذه الجنة كانوا مؤمنين أصابوا معصية وتابوا.
وقيل : كانوا من أهل الكتاب.
وقال عبد الله بن مسعود : بلغني أن القوم دعوا الله وأخلصوا ، وعلم الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة ، وكل عنقود منها كالرجل الأسود القائم.
وعن مجاهد : تابوا فأبدوا خيراً منها.
وقال القشيري : المعظم يقولون أنهم تابوا وأخلصوا. انتهى.
وتوقف الحسن في كونهم مؤمنين وقال : أكان قولهم : { إنا إلى ربنا راغبون } إيماناً ، أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة؟.
{ كذلك العذاب } : هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم في أمر قريش.
قال ابن عطية : والإشارة بذلك إلى العذاب الذي نزل بالجنة ، أي { كذلك العذاب } : أي الذي نزل بقريش بغتة ، ثم عذاب الآخرة بعد ذلك أشد عليهم من عذاب الدنيا.

وقال كثير من المفسرين : العذاب النازل بقريش الممائل لأمر الجنة هو الجدب الذي أصابهم سبع سنين حتى رأوا الدخان وأكلوا الجلود. انتهى.
وقال الزمخشري : مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة عذاب الدنيا.
{ ولعذاب الآخرة } أشد وأعظم منه. انتهى.
وتشبيه بلاء قريش ببلاء أصحاب الجنة هو أن أصحاب الجنة عزموا على الانتفاع بثمرها وحرمان المساكين ، فقلب الله تعالى عليهم وحرمهم.
وأن قريشاً حين خرجوا إلى بدر حلفوا على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فإذا فعلوا ذلك رجعوا إلى مكة وطافوا بالكعبة وشربوا الخمور ، فقلب الله عليهم بأن قتلوا وأسروا.
ولما عذبهم بذلك في الدنيا قال : { ولعذاب الآخرة أكبر }.

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)

لما ذكر تعالى أنه بلا كفار قريش وشبه بلاءهم ببلاء أصحاب الجنة ، أخبر بحال أضدادهم وهم المتقون ، فقال : { إن للمتقين } : أي الكفر ، { جنات النعيم } : أضافها إلى النعيم ، لأن النعيم لا يفارقها ، إذ ليس فيها إلا هو ، فلا يشوبه كدر كما يشوب جنات الدنيا.
وروي أنه لما نزلت هذه الآية قالت قريش : إن كان ثم جنة فلنا فيها أكثر الحظ ، فنزلت : { أفنجعل المسلمين كالمجرمين }.
وقال مقاتل : قالوا فضلنا الله عليكم في الدنيا ، فهو يفضلنا عليكم في الآخرة ، وإلا فالمشاركة ، فأجاب تعالى : { أفنجعل } : أي لا يتساوى المطيع والعاصي ، هو استفهام فيه توقيف على خطأ ما قالوا وتوبيخ.
ثم التفت إليهم فقال : { ما لكم } ، أي : أي شيء لكم فيما تزعمون؟ وهو استفهام إنكار عليهم.
ثم قال : { كيف تحكمون } ، وهو استفهام ثالث على سبيل الإنكار عليهم ، استفهم عن هيئة حكمهم.
ففي قوله : { ما لكم } استفهام عن كينونة مبهمة ، وفي { كيف تحكمون } استفهام عن هيئة حكمهم.
ثم أضرب عن هذا إضراب انتقال لشيء آخر لا إبطال لما قبله فقال : { أم لكم } ، أي : بل ألكم؟ { كتاب } ، أي من عند الله ، { تدرسون } أن ما تختارونه يكون لكم.
وقرأ الجمهور : { إن لكم } بكسر الهمزة ، فقيل هو استئناف قول على معنى : إن لكم كتاب فلكم فيه متخير.
وقيل : أن معمولة لتدرسون ، أي تدرسون في الكتاب أن لكم ، { لما تخيرون } : أي تختارون من النعيم ، وكسرت الهمزة من أن لدخول اللام في الخبر ، وهي بمعنى أن بفتح الهمزة ، قاله الزمخشري وبدأ به وقال : ويجوز أن تكون حكاية للمدروس كما هو ، كقوله : { وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح } انتهى.
وقرأ طلحة والضحاك : أن لكم بفتح الهمزة ، واللام في لما زائدة كهي في قراءة من قرأ الا أنهم ليأكلون الطعام بفتح همزة أنهم.
وقرأ الأعرج : أإن لكم على الاستفهام.
{ أم لكم أيمان } : أي أقسام علينا ، { بالغة } : أي متناهية في التوكيد.
يقال : لفلان عليّ يمين إذا حلفت له على الوفاء بما حلفت عليه ، وإلى يوم القيامة متعلق بما تعلق به الخبر وهو لكم ، أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة ، أو ببالغة : أي تبلغ إلى ذلك اليوم وتنتهي إليه.
وقرأ الجمهور : { بالغة } بالرفع على الصفة ، والحسن وزيد بن علي : بالنصب على الحال من الضمير المستكن في علينا.
وقال ابن عطية : حال من نكرة لأنها مخصصة تغليباً.
{ إن لكم لما تحكمون } : جواب القسم ، لأن معنى { أم لكم أيمان علينا } : أم أقسمنا لكم ، قاله الزمخشري.
وقرأ الأعرج : أإن لكم عليّ ، كالتي قبلها على الاستفهام.
{ سلهم أيهم بذلك زعيم } : أي ضامن بما يقولونه ويدعون صحته ، وسل معلقة عن مطلوبها الثاني ، لما كان السؤال سبباً لحصول العلم جاز تعليقه كالعلم ، ومطلوبها الثاني أصله أن يعدى بعن أو بالباء ، كما قال تعالى :

{ يسئلونك عن الشهر الحرام } وقال الشاعر :
فإن تسألوني بالنساء فإنني . . .
عليم بأدواء النساء طبيب
ولو كان غير اسم استفهام لتعدى إليه بعن أو بالباء ، كما تقول : سل زيداً عن من ينظر في كذا ، ولكنه علق سلهم ، فالجملة في موضع نصب.
وقرأ الجمهور : { أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم } ؛ وعبد الله وابن أبي عبلة : فليأتوا بشركهم ، قيل : والمراد في القراءتين الأصنام أو ناس يشاركونهم في قولهم ويوافقونهم فيه ، أي لا أحد يقول بقولهم ، كما أنه لا كتاب لهم ، ولا عهد من الله ، ولا زعيم بذلك ، { فليأتوا بشركائهم } : هذا استدعاء وتوقيف.
قيل : في الدنيا أي ليحضروهم حتى ترى هل هم بحال من يضر وينفع أم لا.
وقيل : في الآخرة ، على أن يأتوا بهم.
{ يوم يكشف عن ساق } : وعلى هذا القول الناصب ليوم فليأتوا.
وقيل : اذكر ، وقيل التقدير : يوم يكشف عن ساق كان كيت وكيت ، وحذف للتهويل العظيم بما يكون فيه من الحوادث؛ والظاهر وقول الجمهور : إن هذا اليوم هو يوم القيامة.
وقال أبو مسلم : هذا اليوم هو في الدنيا لأنه قال : { ويدعون إلى السجود } ، ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف ، بل المراد منه إما آخر أيام الرجل في دنياه لقوله : { يوم يرون الملائكة لا بشرى } ثم يرى الناس يدعون إلى الصلاة إذا حضرت أوقاتها ، فلا يستطيع الصلاة لأنه الوقت الذي لا ينفع فيه نفساً إيمانها؛ وإما حال المرض والهرم والمعجزة.
{ وقد كانوا } قبل ذلك اليوم ، { يدعون إلى السجود وهم سالمون } مما بهم الآن.
فذلك إما لشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت ، وإما من العجز والهرم.
وأجيب بأن الدعاء إلى السجود ليس على سبيل التكليف ، بل على سبيل التقريع والتخجيل.
وعند ما يدعون إلى السجود ، سلبوا القدرة عليه ، وحيل بينهم وبين الاستطاعة حتى يزداد حزنهم وندامتهم على ما فرطوا فيه حين دعوا إليه وهم سالمون الأطراف والمفاصل.
وقرأ الجمهور : { يكشف } بالياء مبنياً للمفعول.
وقرأ عبد الله بن أبي عبلة : بفتح الياء مبنياً للفاعل؛ وابن عباس وابن مسعود أيضاً وابن هرمز : بالنون؛ وابن عباس : يكشف بفتح الياء منبياً للفاعل؛ وعنه أيضاً بالياء مضمومة مبنياً للمفعول.
وقرىء : يكشف بالياء المضمومة وكسر الشين ، من أكشف إذا دخل في الكشف ، ومنه أكشف الرجل : انقلبت شفته العليا ، وكشف الساق كناية عن شدة الأمر وتفاقمه.
قال مجاهد : هي أول ساعة من يوم القيامة وهي أفظعها.
ومما جاء في الحديث من قوله : « فيكشف لهم عن ساق » ، محمول أيضاً على الشدة في ذلك اليوم ، وهو مجاز شائع في لسان العرب.
قال حاتم :
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها . . .
وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا

وقال الراجز :
عجبت من نفسي ومن إشفاقها . . .
ومن طرادي الخيل عن أرزاقها
في سنة قد كشفت عن ساقها . . .
حمراء تبري اللحم عن عراقها
وقال الراجز :
قد شمرت عن ساقها فشدوا . . .
وجدّت الحرب بكم فجدوا
وقال آخر :
صبراً امام إن شرباق . . .
وقامت الحرب بنا على ساق
وقال الشاعر :
كشفت لهم عن ساقها . . .
وبدا من الشر البوا
ويروى : الصداخ.
وقال ابن عباس : يوم يكشف عن شدة.
وقال أبو عبيدة : هذه كلمة تستعمل في الشدة ، يقال : كشف عن ساقه إذا تشمر.
قال : ومن هذا تقول العرب لسنة الجدب : كشفت ساقها ، ونكر ساق للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة ، خارج عن المألوف ، كقوله تعالى : { يوم يدعو الداع إلى شيء نكر } ، فكأنه قيل : يوم يقع أمر فظيع هائل.
{ ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } : ظاهره أنهم يدعون ، وتقدم أن ذلك على سبيل التوبيخ لا على سبيل التكليف.
وقيل : الداعي ما يرونه من سجود المؤمنين ، فيريدون هم السجود فلا يستطيعونه ، كما ورد في الحديث الذي حاورهم فيه الله تعالى أنهم يقولون : أنت ربنا ، ويخرون للسجود ، فيسجد كل مؤمن وتصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظماً واحداً ، فلا يستطيعون سجوداً. انتهى.
ونفي الاستطاعة للسجود في الآخرة لا يدل على أن لهم استطاعة في الدنيا ، كما ذهب إليه الجبائي.
و { خاشعة } : حال ، وذو الحال الضمير في { يدعون } ، وخص الأبصار بالخشوع ، وإن كانت الجوارح كلها خاشعة ، لأنه أبين فيه منه في كل جارحة ، { ترهقهم } : تغشاهم ، { ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود }.
قيل : هو عبارة عن جميع الطاعات ، وخص بالذكر من حيث هو أعظم الطاعات ، ومن حيث امتحنوا به في الآخرة.
وقال النخعي والشعبي : أراد بالسجود : الصلوات المكتوبة.
وقال ابن جبير : كانوا يسمعون النداء للصلاة وحي على الفلاح فلا يجيبون.
{ فذرني ومن يكذب بهذا الحديث } ، المعنى : خل بيني وبينه ، فإني سأجازيه وليس ثم مانع.
وهذا وعيد شديد لمن يكذب بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الآخرة وغيره ، وكان تعالى قدم أشياء من أحوال السعداء والأشقياء.
ومن في موضع نصب ، إما عطفاً على الضمير في ذرني ، وإما على أنه مفعول معه.
{ سنستدرجهم } إلى قوله : { متين } : تكلم عليه في الأعراف.
{ أم تسئلهم أجراً } إلى : { يكتبون } : تكلم عليه في الطور.
روي أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يدعو على الذين انهزموا بأحُد حين اشتد بالمسلمين الأمر.
وقيل : حين أراد أن يدعو على ثقيف ، فنزلت : { فاصبر لحكم ربك } : وهو إمهالهم وتأخير نصرك عليهم ، وامض لما أمرت به من التبليغ واحتمال الأذى ، { ولا تكن كصاحب الحوت } : هو يونس عليه السلام ، { إذ نادى } : أي في بطن الحوت ، وهو قوله :

{ أن لا إله إلا أنت سبحانك } وليس النهي منصباً على الذوات ، إنما المعنى : لا يكن حالك مثل حاله.
{ إذ نادى } : فالعامل في إذ هو المحذوف المضاف ، أي كحال أو كقصة صاحب الحوت ، { إذ نادى وهو مكظوم } : مملوء غيظاً على قومه ، إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإيمان ، وأحوجوه إلى استعجال مفارقته إياهم.
وقال ذو الرمة :
وأنت من حب ميّ مضمر حزنا . . .
عانى الفؤاد قريح القلب مكظوم
وتقدمت مادة كظم في قوله : { والكاظمين الغيظ } وقرأ الجمهور : { تداركه } ماضياً ، ولم تلحقه علامة التأنيث لتحسين الفصل.
وقرأ عبد الله وابن عباس : تداركته بتاء التأنيث؛ وابن هرمز والحسن والأعمش : بشد الدال.
قال أبو حاتم : ولا يجوز ذلك ، والأصل في ذلك تتداركه ، لأنه مستقبل انتصب بأن الخفيفة قبله.
وقال بعض المتأخرين : هذا لا يجوز على حكاية الحال الماضية المقتضية ، أي لولا أن كان يقال تتداركه ، ومعناه : لولا هذه الحال الموجودة كانت له من نعم الله { لنبذ بالعراء } ، ونحوه قوله : { فوجد فيها رجلين يقتتلان } وجواب { لولا } قوله : { لنبذ بالعراء وهو مذموم } ، أي لكنه نبذه وهو غير مذموم ، كما قال : { فنبذناه بالعراء } والمعتمد فيه على الحال لا على النبذ مطلقاً ، بل بقيد الحال.
وقيل : لنبذ بعراء القيامة مذموماً ، ويدل عليه { فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } ثم أخبر تعالى أنه { اجتباه } : أي اصطفاه ، { ونبيا من الصالحين } : أي الأنبياء.
وعن ابن عباس : رد الله إليه الوحي وشفعة في قومه.
ولما أمره تعالى بالصبر لما أراده تعالى ونهاه عن ما نهاه ، أخبره بشدة عداوتهم ليتلقى ذلك بالصبر فقال : { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك } : أي ليزلقون قومك بنظرهم الحاد الدال على العداوة المفرطة ، أو ليهلكونك من قولهم : نظر إليّ نظراً يكاد يصرعني ويكاد يأكلني ، أي لو أمكنه بنظره الصرع والأكل لفعله.
وقال الشاعر :
يتعارضون إذا التقوا في موطن . . .
نظراً يزل مواطن الأقدام
وقال الكلبي : ليزلقونك : ليصرفونك.
وقرأ الجمهور : { ليزلقونك } بضم الياء من أزلق؛ ونافع : بفتحها من زلقت الرجل ، عدى بالفتحة من زلق الرجل بالكسر ، نحو شترت عينه بالكسر ، وشترها الله بالفتح.
وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش وعيسى : ليزهقونك.
وقيل : معنى { ليزلقونك بأبصارهم } : ليأخذونك بالعين ، وذكر أن اللفع بالعين كان في بني أسد.
قال ابن الكلبي : كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل ، ثم يرفع جانب خبائه فيقول : لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه ، فما تذهب إلا قليلاً ثم تسقط طائفة أو عدة منها.
قال الكفار لهذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأجابهم ، وأنشد :
قد كان قومك يحسبونك سيداً . . .
وأخال أنك سيد معيون
أي : مصاب بالعين ، فعصم الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأنزل عليه هذه الآية.

قال قتادة : نزلت لدفع العين حين أرادوا أن يعينوه عليه الصلاة والسلام.
وقال الحسن : دواء من أصابته العين أن يقرأ هذه الآية.
وقال القشيري : الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان ، لا مع الكراهة والبغض ، وقال : { ويقولون إنه لمجنون }.
وقال القرطبي : ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة له حتى يهلك. انتهى.
وقد يكون في المعين ، وإن كان مبغضاً عند العائن صفة يستحسنها العائن ، فيعينه من تلك الصفة ، لا سيما من تكون فيه صفات كمال.
{ لما سمعوا الذكر } : من يقول لما ظرف يكون العامل فيه { ليزلقونك } ، وإن كان حرف وجوب لوجوب ، وهو الصحيح ، كان الجواب محذوفاً لدلالة ما قبله عليه ، أي لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك ، والذكر : القرآن.
{ ويقولون إنه لمجنون } تنفيراً عنه ، وقد علموا أنه صلى الله عليه وسلم أتمهم فضلاً وأرجحهم عقلاً.
{ وما هو } : أي القرآن ، { إلا ذكر } : عظة وعبرة ، { للعالمين } : أي للجن والإنس ، فكيف ينسبون إلى الجن من جاء به؟.

الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)

{ الحاقة } : المراد بها القيامة والبعث ، قاله ابن عباس وغيره ، لأنها حقت لكل عامل عمله.
وقال ابن عباس وغيره : لأنها تبدي حقائق الأشياء.
وقيل : سميت بذلك لأن الأمر يحق فيها ، فهي من باب ليل نائم.
والحاقة اسم فاعل من حق الشيء إذا ثبت ولم يشك في صحته.
وقال الأزهري : حاققته فحققته أحقه : أي غالبته فغلبته.
فالقيامة حاقة لأنها تحقق كل محاق في دين الله بالباطل ، أي كل مخاصم فتغلبه.
وقيل : الحاقة مصدر كالعاقبة والعافية ، والحاقة مبتدأ ، وما مبتدأ ثان ، والحاقة خبره ، والجملة خبر عن الحاقة ، والرابط تكرار المبتدأ بلفظه نحو : زيد ما زيد ، وما استفهام لا يراد حقيقته بل التعظيم ، وأكثر ما يربط بتكرار المبتدأ إذا أريد ، يعني التعظيم والتهويل.
{ وما أدراك ما الحاقة } : مبالغة في التهويل ، والمعنى أن فيها ما لم يدر ولم يحط به وصف من أمورها الشاقة وتفصيل أوصافها.
وما استفهام أيضاً مبتدأ ، و { أدراك } الخبر ، والعائد على ما ضمير الرفع في { وما أدراك } ، وما مبتدأ ، والحاقة خبر ، والجملة في موضع نصب بأدراك ، وأدراك معلقة.
وأصل درى أن يعدى بالباء ، وقد تحذف على قلة ، فإذا دخلت همزة النقل تعدى إلى واحد بنفسه وإلى الآخر بحرف الجر ، فقوله : { ما الحاقة } بعد أدراك في موضع نصب بعد إسقاط حرف الجر.
والقارعة من أسماء القيامة ، لأنها تقرع القلوب بصدمتها.
وقال الزمخشري : تقرع الناس بالأقراع والأهوال ، والسماء بالانشقاق والانفطار ، والأرض والجبال بالدك والنسف ، والنجوم بالطمس والانكدار؛ فوضع الضمير ليدل على معنى القرع في الحاقة زيادة في وصف شدّتها.
ولما ذكرها وفخمها ، أتبع ذلك ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب ، تذكيراً لأهل مكة وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم. انتهى.
وقرأ الجمهور : { فأهلكوا } : رباعياً مبنياً للمفعول؛ وزيد بن عليّ : فهلكوا مبنياً للفاعل.
قال قتادة : بالطاغية : بالصيحة التي خرجت عن حد كل صيحة.
وقال مجاهد وابن زيد : بسبب الفعلة الطاغية التي فعلوها.
وقال ابن عباس وابن زيد أيضاً وأبو عبيدة ما معناه : الطاغية مصدر كالعاقبة ، فكأنه قال : بطغيانهم ، ويدل عليه { كذبت ثمود بطغواها } وقيل : الطاغية : عاقر الناقة ، والهاء فيه للمبالغة ، كرجل راوية ، وأهلكوا كلهم لرضاهم بفعله.
وقيل : بسبب الفئة الطاغية.
واختار الطبري وغيره أن الطاغية هي الصيحة ، وترجيح ذلك مقابله سبب الهلاك في ثمود بسبب الهلاك في عاد ، وهو قوله : { بريح صرصر } ، وتقدّم القول في { صرصر } في سورة القمر ، { عاتية } : عتت على خزانها فخرجت بغير مقدار ، أو على عاد فما قدروا على أن يتستروا منها ، أو وصفت بذلك استعارة لشدّة عصفها ، والتسخير هو استعمال الشيء باقتدار عليه.
فمعنى { سخرها عليهم } : أي أقامها وأدامها ، { سبع ليال } : بدت عليهم صبح الأربعاء لثمان بقين من شوّال إلى آخر الأربعاء تمام الشهر ، { حسوماً } ، قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وأبو عبيدة : تباعاً لم يتخللها انقطاع.

وقال الخليل : شؤماً ونحساً.
وقال ابن زيد : { حسوماً } جمع حاسم ، أي تلك الأيام قطعتهم بالإهلاك ، ومنه حسم العلل والحسام.
وقال الزمخشري : وإن كان مصدراً ، فإما أن ينتصب بفعل مضمر ، أي تحسم حسوماً بمعنى تستأصل استئصالاً ، أو تكون صفة ، كقولك : ذات حسوم ، أو تكون مفعولاً له ، أي سخرها عليهم للاستئصال.
وقرأ السدّي : حسوماً بالفتح : حالاً من الريح ، أي سخرها عليهم مستأصلة.
وقيل : هي أيام العجز ، وهي آخر الشتاء.
وأسماؤها : الصين والصنبر والوبر والآمر والمؤتمر والمعلل ومصفى الجمر.
وقيل : مكفى الطعن.
{ فترى القوم فيها } : أي في الليالي والأيام ، أو في ديارهم ، أو في مهاب الريح؛ احتمالات أظهرها الأول لأنه أقرب ومصرح به.
وقرأ أبو نهيك : أعجز ، على وزن أفعل ، كضبع وأضبع.
وحكى الأخفش أنه قرىء : نخيل خاوية خلت أعجازها بلى وفساداً.
وقال ابن شجرة : كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحسو من أدبارهم ، فصاروا كالنخل الخاوية.
وقال يحيى بن سلام : خلت أبدانهم من أرواحهم.
وقال ابن جريج : كانوا في سبعة أيام في عذاب ، ثم في الثامن ماتوا وألقتهم الريح في البحر ، فذلك قوله : { فهل ترى لهم من باقية }.
وقال ابن الأنباري : { من باقية } : أي من باق ، والهاء للمبالغة.
وقال أيضاً : من فئة باقية.
وقيل : { من باقية } : من بقاء مصدر جاء على فاعلة كالعاقبة.
وقرأ أبو رجاء وطلحة والجحدري والحسن بخلاف عنه؛ وعاصم في رواية أبان ، والنحويان : ومن قبله ، بكسر القاف وفتح الباء : أي أجناده وأهل طاعته ، وتقول : زيد قبلك : أي فيما يليك من المكان.
وكثر استعمال قبلك حتى صار بمنزلة عندك وفي جهتك وما يليك بأي وجه ولي.
وقرأ باقي السبعة وأبو جعفر وشيبة والسلمي : { ومن قبله } ، ظرف زمان : أي الأمم الكافرة التي كانت قبله ، كقوم نوح ، وقد أشار إلى شيء من حديثه بعد هذا.
{ والمؤتفكات } : قرى قوم لوط.
وقرأ الحسن هنا : والمؤتفكة على الإفراد ، { بالخاطئة } : أي بالفعلة أو الفعلات الخاطئة ، قاله مجاهد؛ أو بالخطأ ، فيكون مصدراً جاء على فاعلة كالعاقبة ، قاله الجرجاني.
{ فعصوا رسول ربهم } : رسول جنس ، وهو من جاءهم من عند الله تعالى ، كموسى ولوط عليهما السلام.
وقيل : لوط عليه السلام ، أعاده على أقرب مذكور ، وهو رسول المؤتفكات.
وقال الكلبي : موسى عليه السلام ، أعاده على الأسبق وهو رسول فرعون.
وقيل : رسول بمعنى رسالة ، { رابية } : أي نامية.
قال مجاهد : شديدة ، يريد أنها زادت على غيرها من الأخذات ، وهي الغرق وقلب المدائن.
{ إنا لما طغى الماء } : أي زاد وعلا على أعلى جبل في الدنيا خمس عشرة ذراعاً.
قال ابن جبير : طغى على الخزان ، كما طغت الريح على خزانها ، { حملناكم } : أي في أصلاب آبائكم ، { في الجارية } : هي سفينة نوح عليه السلام ، وكثر استعمال الجارية في السفينة ، ومنه قوله تعالى :

{ ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام } وقال الشاعر :
تسعون جارية في بطن جارية . . .
وقال المهدوي : المعنى في السفن الجارية يعني أن ذلك هو على سبيل الامتنان ، والمحمولون هم المخاطبون.
{ لنجعلها } : أي سفينة نوح عليه السلام ، { لكم تذكرة } بما جرى لقومه الهالكين وقومه الناجين فيها وعظة.
قال قتادة : أدركها أوائل هذه الأمة.
وقال ابن جريج : كانت ألواحها على الجودي.
وقيل : لنجعل تلك الجملة في سفينة نوح عليه السلام لكم موعظة تذكرون بها نجاة آبائكم وإغراق مكذبي نوح عليه السلام ، { وتعيها } : أي تحفظ قصتها ، { أذن } من شأنها أن تعي المواعظ ، يقال : وعيت لما حفظ في النفس ، وأوعيت لما حفظ في غير النفس من الأوعية.
وقال قتادة : الواعية هي التي عقلت عن الله وانتفعت بما سمعت من كتاب الله؛ وفي الحديث ، أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي : « إني دعوت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي » قال علي رضي الله تعالى عنه : فما سمعت بعد ذلك شيئاً فنسيته ، وقرأها : وتعيها ، بكسر العين وتخفيف الياء العامة؛ وابن مصرف وأبو عمرو في رواية هارون وخارجة عنه؛ وقنبل بخلاف عنه : بإسكانها؛ وحمزة : بإخفاء الحركة ، ووجه الإسكان التشبيه في الفعل بما كان على وزن فعل في الاسم والفعل.
نحو : كبد وعلم.
وتعي ليس على وزن فعل ، بل هو مضارع وعي ، فصار إلى فعل وأصله حذفت واوه.
وروي عن عاصم عصمة وحمزة الأزرق : وتعيها بتشديد الياء ، قيل : وهو خطأ وينبغي أن يتأول على أنه أريد به شدة بيان الياء إحترازاً ممن سكنها ، لا إدغام حرف في حرف ، ولا ينبغي أن يجعل ذلك من باب التضعيف في الوقف ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، وإن كان قد ذهب إلى ذلك بعضهم.
وروي عن حمزة وعن موسى بن عبد الله العنسي : وتعيها بإسكان الياء ، فاحتمل الاستئناف وهو الظاهر ، واحتمل أن يكون مثل قراءة من أوسط ما تطعمون أهاليكم بسكون الياء.
وقال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل { أذن واعية } على التوحيد والتنكير؟ قلت : للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم ، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله تعالى فهي السواد الأعظم عند الله تعالى ، وأن ما سواها لا يبالي بالة وإن ملأوا ما بين الخافقين.
انتهى ، وفيه تكثير.
ولما ذكر تعالى ما فعل بمكذبي الرسل من العذاب في الدنيا ، ذكر أمر الآخرة وما يعرض فيها لأهل السعادة وأهل الشقاوة ، وبدأ بإعلام يوم القيامة فقال : { فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة } ، وهذه النفخة نفخة الفزع.
قال ابن عباس : وهي النفخة الأولى التي حصل عنها خراب العالم ، ويؤيد ذلك قوله : { وحملت الأرض والجبال }.

وقال ابن المسيب ومقاتل : هي النفخة الآخرة ، وعلى هذا لا يكون الدك بعد النفخ ، والواو لا ترتب.
وروي ذلك عن ابن عباس أيضاً ، ولما كانت مرة أكدت بقوله : { واحدة }.
وقرأ الجمهور : نفخة واحدة ، برفعهما ، ولم تلحق التاء نفخ ، لأن تأنيث النفخة مجازى ووقع الفصل.
وقال ابن عطية : لما نعت صح رفعه. انتهى.
ولو لم ينعت لصح ، لأن نفخة مصدر محدود ونعته ليس بنعت تخصيص ، إنما هو نعت توكيد.
وقرأ أبو السمال : بنصبهما ، أقام الجار والمجرور مقام الفاعل.
وقرأ الجمهور : { وحملت } بتخفيف الميم؛ وابن أبي عبلة وابن مقسم والأعمش وابن عامر في رواية يحيى : بتشديدها ، فالتخفيف على أن تكون { الأرض والجبال } حملتها الريح العاصف أو الملائكة أو القدرة من غير واسطة مخلوق.
ويبعد قوله من قال : إنها الزلزلة ، لأن الزلزلة ليس فيها حمل ، إنما هي اضطراب.
والتشديد على أن تكون للتكثير ، أو يكون التضعيف للنقل ، فجاز أن تكون { الأرض والجبال } المفعول الأول أقيم مقام الفاعل ، والثاني محذوف ، أي ريحاً تفتتها أو ملائكة أو قدرة.
وجاز أن يكون الثاني أقيم مقام الفاعل ، والأول محذوف ، وهو واحد من الثلاثة المقدرة.
وثني الضمير في { فدكتا } ، وإن كان قد تقدمه ما يعود عليه ضمير الجمع ، لأن المراد جملة الأرض وجملة الجبال ، أي ضرب بعضها ببعض حتى تفتتت ، وترجع كما قال تعالى : { كثيباً مهيلاً } والدك فيه تفرق الأجزاء لقوله : { هباء } والدق فيه اختلاف الأجزاء.
وقيل : تبسط فتصير أرضاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ، وهو من قولهم : بعير أدك وناقة دكاء إذا ضعفا ، فلم يرتفع سنامهما واستوت عراجينهما مع ظهريهما.
{ فيومئذ } معطوف على { فإذا نفخ في الصور } ، وهو منصوب بوقعت ، كما أن إذا منصوب بنفخ على ما اخترناه وقررناه واستدللنا له في أن العامل في إذا هو الفعل الذي يليهما لا الجواب ، وإن كان مخالفاً لقول الجمهور.
والتنوين في إذ للعوض من الجملة المحذوفة ، وهي في التقدير : فيوم إذ نفخ في الصور وجرى كيت وكيت ، والواقعة هي القيامة ، وقد تقدم في { إذا وقعت الواقعة } أن بعضهم قال : هي صخرة بيت المقدس.
{ وانشقت السماء } : أي انفطرت وتميز بعضها من بعض ، { فهي يومئذ إذٍ } انشقت ، { واهية } : ضعيفة لتشققها بعد أن كانت شديدة ، { أأنتم أشد خلقاً أم السماء } أو منخرقة ، كما يقال : وهي السقاء انخرق.
وقيل انشقاقها لنزول الملائكة ، قال تعالى : { ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً } وقيل : انشقاقها لهول يوم القيامة.
{ والملك على أرجائها } ، قال ابن عباس : على حافاتها حين تنشق ، والظاهر أن الضمير في حافاتها عائد على السماء.
وقال ابن جبير والضحاك : على حافات الأرض ، ينزلون إليها يحفظون أطرافها ، وإن لم يجر لها ذكر قريب.
كما روي أن الله تعالى يأمر ملائكة سماء الدنيا فيقفون صفاً على حافات الأرض ، ثم ملائكة الثانية فيصفون حولهم ، ثم ملائكة كل سماء ، فكلما ندّ أحد من الجن والإنس وجد الأرض أحيط بها.

{ والملك } : اسم جنس يراد به الملائكة.
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما الفرق بين قولك : { والملك } ، وبين أن يقال : والملائكة؟ قلت : الملك أعم من الملائكة.
ألا ترى أن قولك : ما من ملك إلا وهو شاهد ، أعم من قولك : ما من ملائكة؟ انتهى.
ولا يظهر أن الملك أعم من الملائكة ، لأن المفرد المحلى بالألف واللام الجنسية قصاراه أن يراد به الجمع المحلى بهما ، ولذلك صح الاستثناء منه ، فقصاراه أن يكون كالجمع المحلى بهما.
وأما دعواه أنه أعم منه بقوله : ألا ترى الخ ، فليس دليلاً على دعواه ، لأن من ملك نكرة مفردة في سياق النفي قد دخلت عليها من المخلصة للاستغراق ، فشملت كل ملك فاندرج تحتها الجمع لوجود الفرد فيه فانتفى كل فرد فرد ، بخلاف من ملائكة ، فإن من دخلت على جمع منكر ، فعم كل جمع جمع من الملائكة ، ولا يلزم من ذلك انتفاء كل فرد فرد من الملائكة.
لو قلت : ما في الدار من رجال ، جاز أن يكون فيها واحد ، لأن النفي إنما انسحب على جمع ، ولا يلزم من انتفاء الجمع أن ينتفي المفرد.
والملك في الآية ليس في سياق نفي دخلت عليه من فيكون أعم من جمع دخلت عليه من ، وإنما جيء به مفرداً لأنه أخف ، ولأن قوله : { على أرجائها } يدل على الجمع ، لأن الواحد بما هو واحد لا يمكن أن يكون على أرجائها في وقت واحد ، بل في أوقات.
والمراد ، والله تعالى أعلم ، أن الملائكة على أرجائها ، لا أنه ملك واحد ينتقل على أرجائها في أوقات.
وقال الزمخشري : يعني أنها تنشق ، وهي مسكن الملائكة ، فينضوون إلى أطرافها وما حولها من حافاتها. انتهى.
والضمير في فوقهم عائد على الملك ضمير جمع على المعنى ، لأنه يراد به الجنس ، قال معناه الزمخشري.
وقيل : يعود على الملائكة الحاملين ، أي فوق رؤوسهم.
وقيل : على العالم كلهم.
والظاهر أن التمييز المحذوف في قوله : { ثمانية } أملاك ، أي ثمانية أشخاص من الملائكة؛ وعن الضحاك : ثمانية صفوف؛ وعن الحسن ، الله أعلم كم هم ، أثمانية صفوف أم ثمانية أشخاص؟ وذكروا في صفات هؤلاء الثمانية أشكالاً متكاذبة ضربنا عن ذكرها صفحاً.
{ يومئذ } : أي يوم إذٍ كان ما ذكر ، { تعرضون } : أي للحساب ، وتعرضون هو جواب قوله : { فإذا نفخ }.
فإن كانت النفخة هي الأولى ، فجاز ذلك لأنه اتسع في اليوم فجعل ظرفاً للنفخ ووقوع الواقعة وجميع الكائنات بعدها؛ وإن كانت النفخة هي الثانية ، فلا يحتاج إلى اتساع لأن قوله : { فيومئذ } معطوف على فإذا ، و { يومئذ تعرضون } بدل من { فيومئذ } ، وما بعد هذه الظروف واقع في يوم القيامة.
والخطاب في { تعرضون } لجميع العالم المحاسبين.
وعن عبد الله : رأى موسى في القيامة عرضتان فيهما معاذير وتوقيف وخصومات ، وثالثة تتطاير فيها الصحف للإيمان والشمائل.
وقرأ الجمهور : { لا تخفى } بتاء التأنيث؛ وعلي وابن وثاب وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وابن مقسم عن عاصم وابن سعدان : بالياء ، { خافية } : سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا.

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)

أما : حرف تفصيل فصل بها ما وقع في يوم العرض.
ويظهر أن من قضى عليه دخول النار من الموحدين ، أنه في يوم العرض يأخذ كتابه بيمينه مع الناجين من النار ، ويكون ذلك يأنس به مدة العذاب.
وقيل : لا يأخذه حتى يخرج من النار ، وإيمانه أنيسه مدة العذاب.
قيل : وهذا يظهر لأن من يسار به إلى النار كيف يقول : { هاؤم اقرؤا كتابيه } ؟ وهل هذا إلا استبشار وسرور؟ فلا يناسب دخول النار.
وهاؤم إن كان مدلولها خذ ، فهي متسلطة على كتابيه بغير واسطة ، وإن كان مدلولها تعالوا ، فهي متعدية إليه بواسطة إلى ، وكتابيه يطلبه هاؤم واقرؤا.
فالبصريون يعملون اقرؤا ، والكوفيون يعملون هاؤم ، وفي ذلك دليل على جواز التنازع بين اسم الفعل والقسم.
وقرأ الجمهور : { كتابيه } ، و { حسابيه } في موضعيهما و { ماليه } و { سلطانيه } ، وفي القارعة : { ماهيه } بإثبات هاء السكت وقفاً ووصلاً لمراعاة خط المصحف.
وقرأ ابن محيصن : بحذفها وصلاً ووقفاً وإسكان الياء ، وذلك كتابي وحسابي ومالي وسلطاني ، ولم ينقل ذلك فيما وقفت عليه في { ماهيه } في القارعة؛ وابن أبي إسحاق والأعمش : بطرح الهاء فيهما في الوصل لا في الوقف ، وطرحهما حمزة في مالي وسلطاني وما هي في الوصل لا في الوقف ، وفتح الياء فيهن.
وما قاله الزهراوي من أن إثبات الهاء في الوصل لحن لا يجوز عند أحد علمته ليس كما قال ، بل ذلك منقول نقل التواتر فوجب قبوله.
{ إني ظننت } : أي أيقنت ، ولو كان ظناً فيه تجويز لكان كفراً.
{ فهو في عيشة راضية } : ذات رضا.
وقال أبو عبيدة والفراء : راضية مرضية كقوله : { من ماء دافق } أي مدفوق.
{ في جنة عالية } : أي مكاناً وقدراً.
{ قطوفها } : أي ما يجني منها ، { دانية } : أي قريبة التناول يدركها القائم والقاعد والمضطجع بفيه من شجرتها.
{ كلوا واشربوا } : أي يقال ، و { هنيئاً } ، تقدم الكلام عليه في أول النساء.
وقال الزمخشري : هنيئاً أكلاً وشرباً هنيئاً ، أو هنيتم هنيئاً على المصدر.
انتهى فقوله : أكلاً وشرباً هنيئاً يظهر منه جعل هنيئاً صفة لمصدرين ، ولا يجوز ذلك إلا على تقدير الإضمار عند من يجيز ذلك ، أي أكلاً هنيئاً وشرباً هنيئاً.
{ بما أسلفتم } : أي قدمتم من العمل الصالح ، { في الأيام الخالية } : يعني أيام الدنيا.
وقال مجاهد وابن جبير ووكيع وعبد العزيز بن رفيع : أيام الصوم ، أي بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله تعالى.
والظاهر العموم في قوله : { بما أسلفتم } : أي من الأعمال الصالحة.
{ يا ليتني لم أوت كتابيه } : لما رأى فيه قبائح أفعاله وما يصير أمره إليه ، تمنى أنه لم يعطه ، وتمنى أنه لم يدر حسابه ، فإنه انجلى عنه حسابه عن ما يسوءه فيه ، إذ كان عليه لا له.

{ يا ليتها } : أي الموتة التي متها في الدنيا ، { كانت القاضية } : أي القاطعة لأمري ، فلم أبعث ولم أعذب؛ أو يا ليت الحالة التي انتهيت إليها الآن كانت الموتة التي منها في الدنيا ، حيث رأى أن حالته التي هو فيها أمر مما ذاقه من الموتة ، وكيف لا وأمره آل إلى عذاب لا ينقطع؟ { ما أغنى عني ماليه } : يجوز أمن يكون نفياً محضاً ، أخبر بذلك متأسفاً على ماله حيث لم ينفعه؛ ويجوز أن يكون استفهاماً وبخ به نفسه وقررها عليه.
{ هلك عني سلطانيه } : أي حجتي ، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وعكرمة والسدي.
وقال ابن زيد : يقول ذلك ملوك الدنيا.
وكان عضد الدولة ابن نوية لما تسمى بملك الأملاك غلاب القدر لم يفلح وجن ، فكان لا ينطلق لسانه إلا بقوله : { هلك عني سلطانيه }.
{ خذوه } : أي يقال للزبانية { خذوه فغلوه } : أي اجعلوا في عنقه غلاًّ ، { ثم الجحيم صلوه } ، قال الزمخشري : ثم لا تصلوه إلا الجحيم ، وهي النار العظمى ، لأنه كان سلطاناً يتعظم على الناس.
يقال : صلى النار وصلاه النار.
انتهى ، وإنما قدره لا تصلوه إلا الجحيم ، لأنه يزعم أن تقديم المفعول يدل على الحصر.
وقد تكلمنا معه في ذلك عند قوله : { إياك نعبد } وليس ما قاله مذهباً لسيبويه ولا لحذاق النحاة.
وأما قوله : لأنه كان سلطاناً يتعظم على الناس ، فهذا قول ابن زيد وهو مرجوح ، والراجح قول ابن عباس ومن ذكر معه : أن السلطان هنا هو الحجة التي كان يحتج بها في الدنيا ، لأن من أوتي كتابه بشماله ليس مختصاً بالملوك ، بل هو عام في جميع أهل الشقاوة.
{ ثم في سلسلة ذرعها } : أي قياسها ومقدار طولها ، { سبعون ذراعاً } : يجوز أن يراد ظاهره من العدد ، ويجوز أن يراد المبالغة في طولها وإن لم يبلغ هذا العدد.
قال ابن عباس وابن جريج ومحمد بن المنكدر : بذراع الملك.
وقال نوف البكالي وغيره : الذراع سبعون باعاً ، في كل باع كما بين مكة والكوفة ، وهذا يحتاج إلى نقل صحيح.
وقال الحسن : الله أعلم بأي ذراع هي.
وقيل : بالذراع المعروف ، وإنما خاطبنا تعالى بما نعرفه ونحصله.
وقال ابن عباس : لو وضع منها حلقة على جبل لذاب كالرصاص.
{ فاسلكوه } : أي ادخلوه ، كقوله : { فسلكه ينابيع } والظاهر أنه يدخله في السلسلة ، ولطولها تلتوي عليه من جميع جهاته فيبقى داخلاً فيها مضغوطاً حتى تعمه.
وقيل : في الكلام قلب ، والسلسلة تدخل في فمه وتخرج من دبره ، فهي في الحقيقة التي تسلك فيه ، ولا ضرورة تدعو إلى إخراج الكلام عن ظاهره ، إلا إن دل الدليل الصحيح على خلافه.
وقال الزمخشري : والمعنى في تقديم السلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التصلية ، أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة ، كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم.

ومعنى ثم : الدلالة على تفاوت ما بين الغل والتصلية بالجحيم ، وما بينها وبين السلك في السلسلة ، لا على تراخي المدة. انتهى.
وقد تقدم أن من مذهبه الحصر في تقديم المعمول ، وأما ثم فيمكن بقاؤها على موضوعها من المهلة الزمانية ، وأنه أولاً يؤخذ فيغل.
ولما لم يعذب بالعجلة ، صارت له استراحة ، ثم جاء تصلية الجحيم ، فكان ذلك أبلغ في عذابه ، إذ جاءه ذلك وقد سكنت نفسه قليلاً ، ثم جاء سلكه بعد ذلك بعد كونه مغلولاً معذباً في النار ، لكنه كان له انتقال من مكان إلى مكان ، فيجد بذلك بعض تنفس.
فلما سلك في السلسلة كان ذلك أشد ما عليه من العذاب ، حيث صار لا حراك له ولا انتقال ، وأنه يضيق عليه غاية ، فهذا يصح فيه أن تكون ثم على موضوعها من المهلة الزمانية.
{ إنه كان لا يؤمن } : بدأ بأقوى أسباب تعذيبه وهو كفره بالله ، وإنه تعليل مستأنف ، كأن قائلاً قال : لم يعذب هذا العذاب البليغ.
وقيل : { إنه كان لا يؤمن } ، وعطف { ولا يحض } على { لا يؤمن } داخل في العلة ، وذلك يدل على عظم ذنب من لا يحض على إطعام المسكين ، إذ جعل قرين الكفر ، وهذا حكم ترك الحض ، فكيف يكون ترك الإطعام؟ والتقدير على إطعام طعام المسكين.
وأضاف الطعام إلى المسكين من حيث لم ينسبه إليه ، إذ يستحق المسكين حقاً في مال الغني الموسر ولو بأدنى يسار؛ وللعرب في مكارمهم وإيثارهم آثار عجيبة غريبة بحيث لا توجد في غيرهم ، وما أحسن ما قيل فيهم :
على مكثريهم رزق من يعتريهم . . .
وعند المقلين السماحة والبذل
وكان أبو الدرداء يحض امرأته على تكثير الرزق لأجل المساكين ويقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان ، أفلا نخلع نصفها الآخر؟ وقيل : هو منع الكفار.
وقولهم : { أنطعم من لو يشاء الله أطعمه } يعني أنه إذا نفي الحض انتفى الإطعام بجهة الأولى ، كما صرح به في قوله تعالى : { لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين } { فليس له اليوم هاهنا حميم } : أي صديق ملاطف وادّ ، { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو } وقيل : قريب يدفع عنه.
{ ولا طعام إلا من غسلين } ، قال ابن عباس : هو صديد أهل النار.
وقال قتادة وابن زيد : هو والزقوم أخبث شيء وأبشعه.
وقال الضحاك والربيع : هو شجر يأكله أهل النار.
وقيل : هو شيء يجري من أهل النار ، يدل على هذا قوله في الغاشية : { ليس لهم طعام إلا من ضريع } فهما شيء واحد أو متداخلان.
قيل : ويجوز أن يكونا متباينين ، وأخبر بكل واحد منهما عن طائفة غير الطائفة التي الآخر طعامها ، وله خبر ليس.
وقال المهدوي : ولا يصح أن يكون هاهنا ، ولم يبين ما المانع من ذلك.
وتبعه القرطبي في ذلك وقال : لأن المعنى يصير ليس هاهنا طعام إلا من غسلين ، ولا يصح ذلك لأن ثم طعاماً غيره ، وهاهنا متعلق بما في له من معنى الفعل.

انتهى.
وإذا كان ثم غيره من الطعام ، وكان الأكل غير أكل آخر ، صح الحصر بالنسبة إلى اختلاف الأكلين.
وأما إن كان الضريع هو الغسلين ، كما قال بعضهم ، فلا تناقض ، إذ المحصور في الآيتين هو شيء واحد ، وإنما يمتنع ذلك من وجه غير ما ذكره ، وهو أنه إذا جعلنا الخبر هاهنا ، كان له واليوم متعلقين بما تعلق به الخبر ، وهو العامل في ههنا ، وهو عامل معنوي ، فلا يتقدم معموله عليه.
فلو كان العامل لفظياً جاز ، كقوله تعالى : { ولم يكن له كفواً أحد } فله متعلق بكفواً وهو خبر ليكن.
وقرأ الجمهور : { الخاطئون } ، اسم فاعل من خطىء ، وهو الذي يفعل ضد الصواب متعمداً لذلك ، والمخطىء الذي يفعله غير متعمد.
وقرأ الحسن والزهري والعتكي وطلحة في نقل : بياء مضمومة بدلاً من الهمزة.
وقرأ أبو جعفر وشيبة وطلحة ونافع : بخلاف عنه ، بضم الطاء دون همز ، فالظاهر اسم فاعل من خطىء كقراءة من همز.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد : الذين يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله. انتهى.
فيكون اسم فاعل من خطا يخطو ، كقوله تعالى : { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } { ومن يتبع خطوات الشيطان } خطا إلى المعاصي.

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

تقدم الكلام في لا قبل القسم في قوله : { فلا أقسم بمواقع النجوم } وقراءة الحسن : لأقسم بجعلها لا ما دخلت على أقسم.
وقيل : لا هنا نفي للقسم ، أي لا يحتاج في هذا إلى قسم لوضوح الحق في ذلك ، وعلى هذا فجوابه جواب القسم.
قال مقاتل : سبب ذلك أن الوليد قال : إن محمداً ساحر ، وقال أبو جهل : شاعر ، وقال : كاهن.
فردّ الله عليهم بقوله : { فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون } ، عام في جميع مخلوقاته.
وقال عطاء : ما تبصرون من آثار القدرة ، وما لا تبصرون من أسرار القدرة.
وقيل : { وما لا تبصرون } : الملائكة.
وقيل : الأجساد والأرواح.
{ أنه } : أي إن القرآن ، { لقول رسول كريم } : هو محمد صلى الله عليه وسلم في قول الأكثرين ، ويؤيده : { وما هو بقول شاعر } وما بعده ، ونسب القول إليه لأنه هو مبلغه والعامل به.
وقال ابن السائب ومقاتل وابن قتيبة : هو جبريل عليه السلام ، إذ هو الرسول عن الله.
ونفى تعالى أن يكون قول شاعر لمباينته لضروب الشعر؛ ولا قول كاهن لأنه ورد بسبب الشياطين.
وانتصب { قليلاً } على أنه صفة لمصدر محذوف أو لزمان محذوف ، أي تؤمنون إيماناً قليلاً أو زماناً قليلاً.
وكذا التقدير في : { قليلاً ما تذكرون } ، والقلة هو إقرارهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا الله.
وقال ابن عطية : ونصب { قليلاً } بفعل مضمر يدل عليه { تؤمنون } ، وما تحتمل أن تكون نافية فينتفي إيمانهم البتة.
ويحتمل أن تكون ما مصدرية ، والمتصف بالقلة هو الإيمان اللغوي ، لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئاً ، إذ كانوا يصدقون أن الخير والصلة والعفاف الذي كان يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو حق صواب. انتهى.
أمّا قوله : ونصب قليلاً بفعل مضمر يدل عليه تؤمنون فلا يصح ، لأن ذلك الفعل الدال عليه { تؤمنون } إما أن تكون ما نافية أو مصدرية ، كما ذهب إليه.
فإن كانت نافية ، فذلك الفعل المضمر الدال عليه تؤمنون المنفي بما يكون منفياً ، فيكون التقدير : ما تؤمنون قليلاً ما تؤمنون ، والفعل المنفي بما لا يجوز حذفه ولا حذف ما لا يجوز زيداً ما أضربه ، على تقدير ما أضرب زيداً ما أضربه ، وإن كانت مصدرية كانت ما في موضع رفع على الفاعلية بقليلاً ، أي قليلاً إيمانكم ، ويبقى قليلاً لا يتقدمه ما يعتمد عليه حتى يعمل ولا ناصب له؛ وإما في موضع رفع على الابتداء ، فيكون مبتدأ لا خبر له ، لأن ما قبله منصوب لا مرفوع.
وقال الزمخشري : والقلة في معنى العدم ، أي لا تؤمنون ولا تذكرون البتة ، والمعنى : ما أكفركم وما أغفلكم. انتهى.
ولا يراد بقليلاً هنا النفي المحض ، كما زعم ، وذلك لا يكون إلا في أقل نحو : أقل رجل يقول ذلك إلا زيد ، وفي قل نحو : قلّ رجل يقول ذلك إلا زيد.

وقد تستعمل في قليل وقليلة إذا كانا مرفوعين ، نحو ما جوزوا في قوله :
قليل بها الأصوات إلا بغاتها . . .
أما إذا كان منصوباً نحو : قليلا ضربت ، أو قليلاً ما ضربت ، على أن تكون ما مصدرية ، فإن ذلك لا يجور ، لأنه في : قليلاً ضربت منصوب بضربت ، ولم تستعمل العرب قليلاً إذا انتصب بالفعل نفياً ، بل مقابلاً لكثير.
وأمّا في قليلاً ما ضربت على أن تكون ما مصدرية ، فتحتاج إلى رفع قليل ، لأن ما المصدرية في موضع رفع على الابتداء.
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بخلاف عنهما؛ والجحدري والحسن : يؤمنون ، يذكرون : بالياء فيهما؛ وباقي السبعة : بتاء الخطاب؛ وأبيّ : بياءين.
وقرأ الجمهور : { تنزيل } بالرفع؛ وأبو السمال : تنزيلاً بالنصب.
وقرأ الجمهور : { ولو تقول } ، والتقول أن يقول الإنسان عن آخر إنه قال شيئاً لو يقله.
وقرأ ذكوان وابنه محمد : يقول مضارع قال ، وهذه القراءة معترضة بما صرحت به قراءة الجمهور.
وقرىء : ولو تقول مبنياً للمفعول ، وحذف الفاعل وقام المفعول مقامه ، وهو بعض ، إن كان قرىء مرفوعاً؛ وإن كان قرىء منصوباً بعلينا قام مقام الفاعل ، والمعنى : ولو تقول علينا متقول.
ولا يكون الضمير في تقول عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم لاستحالة وقوع ذلك منه ، فنحن نمنع أن يكون ذلك على سبيل الفرض في حقه عليه الصلاة والسلام.
والأقاويل جمع الجمع ، وهو أقوال كبيت وأبيات ، قال الزمخشري : وسمى الأقوال المنقولة أقاويل تصغيراً لها وتحقيراً ، كقولك : الأعاجيب والأضاحيك ، كأنها جمع أفعولة من القول.
والظاهر أن قوله : { باليمين } المراد به الجارحة.
فقال الحسن : المعنى قطعناه عبرة ونكالاً ، والباء على هذا زائدة.
وقيل : الأخذ على ظاهرة.
قال الزمخشري : والمعنى : ولو ادعى مدع علينا شيئاً لم نقله لقتلناه صبراً ، كما تفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معاجلة بالسخط والانتقام ، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول ، وهو أن يؤخذ بيده وتضرب رقبته ، وخص اليمين على اليسار لأن القتال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره ، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يلحفه بالسيف ، وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف ، أخذ بيمينه.
ومعنى { لاخذنا منه باليمين } : لأخذنا بيمينه ، كما أن قوله تعالى { لقَطعنا منه الوتين } : لقطعنا وتينة.
انتهى ، وهو قول للمتقدّمين حسنه الزمخشري بتكثير ألفاظه ومصاغها قالوا : المعنى لأخذنا بيده التي هي اليمين على جهة الإذلال والصغار ، كما يقول السلطان إذا أراد عقوبة رجل : يا غلام خذ بيده وافعل كذا ، قاله أو قريباً منه الطبري.
وقيل : اليمين هنا مجاز.
فقال ابن عباس : باليمين : بالقوّة ، معناه لنلنا منه عقابه بقوّة منا.
وقال مجاهد : بالقدرة.
وقال السدّي : عاقبناه بالحق ومن على هذا صلة.

وقال نفطويه : لقبضنا بيمينه عن التصرّف.
وقيل : لنزعنا منه قوّته.
وقيل : لأذللناه وأعجزناه.
{ ثم لقطعنا منه الوتين } ، قال ابن عباس : وهو نياط القلب.
وقال مجاهد : حبل القلب الذي في الظهر وهو النخاع.
والموتون الذي قطع وتينه ، والمعنى : لو تقول علينا لأذهبنا حياته معجلاً ، والضمير في عنه الظاهر أنه يعود على الذي تقول ، ويجوز أن يعود على القتل ، أي لا يقدر أحد منكم أن يحجزه عن ذلك ويدفعه عنه ، والخطاب في منكم للناس ، والظاهر في { حاجزين } أن يكون خبراً لما على لغة الحجاز ، لأن حاجزين هو محط الفائدة ، ويكون منكم لو تأخر لكان صفة لأحد ، فلما تقدّم صار حالاً ، وفي جواز هذا نظر.
أو يكون للبيان ، أو تتعلق بحاجزين ، كما تقول : ما فيك زيد راغباً ، ولا يمنع هذا الفصل من انتصاب خبر ما.
وقال الحوفي والزمخشري : حاجزين نعت لأحد على اللفظ ، وجمع على المعنى لأنه في معنى الجماعة يقع في النفي العام للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، ومنه : { لا نفرق بين أحد من رسله } وقوله : { لستن كأحد من النساء } مثل بهما الزمخشري ، وقد تكلمنا على ذينك في موضعيهما.
وفي الحديث : « لم تحل لأحد سود الرؤوس قبلكم » وإذا كان حاجزين نعتاً فمن أحد مبتدأ والخبر منكم ، ويضعف هذا القول ، لأن النفي يتسلط على الخبر وهو كينونته منكم ، فلا يتسلط على الحجز.
وإذا كان حاجزين خبراً.
تسلط النفي عليه وصار المعنى : ما أحد منكم يحجزه عن ما يريد به من ذلك.
{ وإنه لتذكرة } : أي وإن القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم.
{ وإنا لنعلم أن منكم مكذبين } : وعيد ، أي مكذبين بالقرآن أو بالرسول صلى الله عليه وسلم.
{ وإنه لحسرة } : أي القرآن من حيث كفروا به ، ويرون من آمن به ينعم وهم معذبون.
وقال مقاتل : وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم ، عاد الضمير على المصدر المفهوم من قوله : { مكذبين } ، كقوله :
إذا نهى السفيه جرى إليه . . .
أي للسفه.
{ وأنه } : أي وإن القرآن ، { لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم } : وسبق الكلام على إضافة حق إلى اليقين في آخر الواقعة.

سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)

وقرأ الجمهور : { سأل } بالهمز : أي دعا داع ، من قولهم : دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه ، فالباء على أصلها.
وقيل : المعنى بحث باحث واستفهم.
قيل : فالباء بمعنى عن.
وقرأ نافع وابن عامر : سال بألف ، فيجوز أن يكون قد أبدلت همزته ألفاً ، وهو بدل على غير قياس ، وإنما قياس هذا بين بين ، ويجوز أن يكون على لغة من قال : سلت أسأل ، حكاها سيبويه.
وقال الزمخشري : هي لغة قريش ، يقولون : سلت تسال وهما يتسايلان. انتهى.
وينبغي أن يتثبت في قوله إنها لغة قريش.
لأن ما جاء في القرآن من باب السؤال هو مهموز أو أصله الهمز ، كقراءة من قرأ : وسلوا الله من فضله ، إذ لا يجوز أن يكون من سال التي عينها واو ، إذ كان يكون ذلك وسلوا الله مثل خافوا الأمر ، فيبعد أن يجيء ذلك كله على لغة غير قريش ، وهم الذين نزل القرآن بلغتهم إلا يسيراً فيه لغة غيرهم.
ثم جاء في كلام الزمخشري : وهما يتسايلان بالياء ، وأظنه من الناسخ ، وإنما هو يتساولان بالواو.
فإن توافقت النسخ بالياء ، فيكون التحريف من الزمخشري؛ وعلى تقدير أنه من السؤال ، فسائل اسم فاعل منه ، وتقدم ذكر الخلاف في السائل من هو.
وقيل : سال من السيلان ، ويؤيده قراءة ابن عباس : سال سايل.
وقال زيد بن ثابت : في جهنم واد يسمى سايلاً وأخبر هنا عنه.
قال ابن عطية : ويحتمل إن لم يصح أمر الوادي أن يكون الإخبار عن نفوذ القدر بذلك العذاب قد استعير له السيل لما عهد من نفوذ السيل وتصميمه.
وقال الزمخشري : والسيل مصدر في معنى السايل ، كالغور بمعنى الغاير ، والمعنى : اندفع عليهم وادي عذاب ، فذهب بهم وأهلكهم. انتهى.
وإذا كان السائل هم الكفار ، فسؤالهم إنما كان على أنه كذب عندهم ، فأخبر تعالى أنه واقع وعيداً لهم.
وقرأ أبي وعبد الله : سال سال مثل مال بإلقاء صورة الهمزة وهي الياء من الخط تخفيفاً.
قيل : والمراد سائل. انتهى.
ولم يحك هل قرأ بالهمز أو بإسقاطها ألبتة.
فإن قرأ بالهمز فظاهر ، وإن قرأ بحذفها فهو مثل شاك شايك ، حذفت عينه واللام جرى فيها الإعراب ، والظاهر تعلق بعذاب بسال.
وقال أبو عبد الله الرازي : يتعلق بمصدر دل عليه فعله ، كأنه قيل : ما سؤاله؟ فقيل : سؤاله بعذاب ، والظاهر اتصال الكافرين بواقع فيكون متعلقاً به ، واللام للعلة ، أي نازل بهم لأجلهم ، أي لأجل كفرهم ، أو على أن اللام بمعنى على ، قاله بعض النحاة ، ويؤيده قراءة أبيّ : على الكافرين ، أو على أنه في موضع ، أي واقع كائن للكافرين.
وقال قتادة والحسن : المعنى : كأن قائلاً قال : لمن هذا العذاب الواقع؟ فقيل : للكافرين.
وقال الزمخشري : أو بالفعل ، أي دعاء للكافرين ، ثم قال : وعلى الثاني ، وهو ثاني ما ذكر من توجيهه في الكافرين.

قال هو كلام مبتدأ جواب للسائل ، أي هو للكافرين ، وكان قد قرر أن سال ضمن معنى دعا ، فعدى تعديته كأنه قال : دعا داع بعذاب من قولك : دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه ، ومنه قوله تعالى : { يدعون فيها بكل فاكهة آمنين } انتهى.
فعلى ما قرره أنه متعلق بدعا ، يعني بسال ، فكيف يكون كلاماً مبتدأ جواباً للسائل أي هو للكافرين؟ هذا لا يصح.
فقد أخذ قول قتادة والحسن وأفسده ، والأجود أن يكون من الله متعلقاً بقوله : { واقع }.
و { ليس له دافع } : جملة اعتراض بين العامل والمعمول.
وقيل : يتعلق بدافع ، أي من جهته إذا جاء وقته.
{ ذي المعارج } : المعارج لغة الدرج وهنا استعارة ، قال ابن عباس وقتادة : في الرتب والفواضل والصفات الحميدة.
وقال ابن عباس أيضاً : المعارج : السموات تعرج فيها الملائكة من سماء إلى سماء.
وقال الحسن : هي المراقي إلى السماء ، وقيل : المعارج : الغرف ، أي جعلها لأوليائه في الجنة تعرج ، قراءة الجمهور بالتاء على التأنيث ، وعبد الله والكسائي وابن مقسم وزائدة عن الأعمش بالياء.
{ والروح } ، قال الجمهور؛ هو جبريل ، خص بالذكر تشريفاً ، وأخر هنا بعد الملائكة ، وقدم في قوله : { يوم يقوم الروح والملائكة صفاً } وقال مجاهد : ملائكة حفظة للملائكة الحافظين لبني آدم ، لا تراهم الحفظة كما لا نرى نحن حفظتنا.
وقيل : الروح ملك غير جبريل عظيم الخلقة.
وقال أبو صالح : خلق كهيئة الناس وليسوا بالناس.
وقال قبيصة بن ذؤيب : روح الميت حين تقبض إليه ، الضمير عائد على الله تعالى ، أي إلى عرشه وحيث يهبط منه أمره تعالى.
وقيل : إليه ، أي إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء لأنها محل بره وكرامته ، والظاهر أن المعنى : أنها تعرج في يوم من أيامكم هذه ، ومقدار المسافة أن لو عرجها آدمي خمسون ألف سنة ، قاله ابن عباس وابن إسحاق وجماعة من الحذاق منهم القاضي منذر بن سعيد.
فإن كان العارج ملكاً ، فقال مجاهد : المسافة هي من قعر الأرض السابعة إلى العرش؛ ومن جعل الروح جنس أنواع الحيوان ، قال وهب : المسافة من وجه الأرض إلى منتهى العرش.
وقال عكرمة والحكم : أراد مدة الدنيا ، فإنها خمسون ألف سنة لا يدري أحد ما مضى منها وما بقي ، أي تعرج في مدة الدنيا وبقاء هذه البنية.
وقال ابن عباس أيضاً : هو يوم القيامة.
وقيل : طوله ذلك العدد ، وهذا ظاهر ما جاء في الحديث في مانع الزكاة فإنه قال : { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة }.
وقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري : قدره في رزاياه وهوله وشدته للكفار ذلك العدد.
وفي الحديث : « يخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة » وقال عكرمة مقدار : ما ينقضي فيه من الحساب قدر ما يقضي بالعدل في خمسين ألف سنة من أيام الدنيا.

وقال الحسن : نحوه.
وقيل : لا يراد حقيقة العدد ، إنما أريد به طول الموقف يوم القيامة وما فيه من الشدائد ، والعرب تصف أيام الشدة بالطول وأيام الفرح بالقصر.
قال الشاعر يصف أيام الفرح والسرور :
ويوم كظل الرمح قصر طوله . . .
دم الزق عنا واصطفاق المزاهر
والظاهر أن قوله : { في يوم } متعلق بتعرج.
وقيل : بدافع ، والجملة من قوله : { تعرج } اعتراض.
ولما كانوا قد سألوا استعجال العذاب ، وكان السؤال على سبيل الاستهزاء والتكذيب ، وكانوا قد وعدوا به ، أمره تعالى بالصبر ، ومن جعله من السيلان فالمعنى : أنه أشرف على الوقوع ، والضمير في { يرونه } عائد على العذاب أو على اليوم ، إذا أريد به يوم القيامة ، وهذا الاستبعاد هو على سبيل الإحالة منهم.
{ ونراه قريباً } : أي هيناً في قدرتنا ، غير بعيد علينا ولا متعذر ، وكل ما هو آت قريب ، والبعد والقرب في الإمكان لا في المسافة.
{ يوم تكون } : منصوب بإضمار فعل ، أي يقع يوم تكون ، أو { يوم تكون السماء كالمهل } كان كيت وكيت ، أو بقريباً ، أو بدل من ضمير نراه إذا كان عائداً على يوم القيامة.
وقال الزمخشري : أو هو بدل من { في يوم } فيمن علقه بواقع. انتهى.
ولا يجوز هذا ، لأن { في يوم } وإن كان في موضع نصب لا يبدل منه منصوب لأن مثل هذا ليس من المواضع التي تراعي في التوابع ، لأن حرف الجر فيها ليس بزائد ولا محكوم له بحكم الزائد كرب ، وإنما يجوز مراعاة المواضع في حرف الجر الزائد كقوله :
يا بني لبينى لستما بيد . . .
إلا يداً ليست لها عضد
ولذلك لا يجوز : مررت بزيد الخياط ، على مراعاة موضع بزيد ، ولا مررت بزيد وعمراً ، ولا غضبت على زيد وجعفراً ، ولا مررت بعمرو أخاك على مراعاة الموضع.
فإن قلت : الحركة في يوم تكون حركة بناء لا حركة إعراب ، فهو مجرور مثل { في يوم }.
قلت : لا يجوز بناؤه على مذهب البصريين لأنه أضيف إلى معرب ، لكنه يجوز على مذهب الكوفيين ، فيتمشى كلام الزمخشري على مذهبهم إن كان استحضره وقصده.
{ كالمهل } : تقدم الكلام عليه في سورة الدخان ، { وتكون الجبال كالعهن المنفوش } ، كما في القارعة ، لما نسفت طارت في الجو كالصوف المنفوش إذا طيرته الريح.
قال الحسن : تسير الجبال مع الرياح ، ثم تنهد ، ثم تصير كالعهن ، ثم تنسف فتصير هباء.
وقرأ الجمهور : { ولا يسئل } مبيناً للفاعل ، أي لا يسأله نصرة ولا منفعة لعلمه أنه لا يجد ذلك عنده.
وقال قتادة : لا يسأله عن حاله لأنها ظاهرة.
وقيل : لا يسأله أن يحمل عنه من أوزاره شيئاً ليأسه عن ذلك.
وقيل : شفاعة.
وقيل : حميماً منصوب على إسقاط عن ، أي عن حميم ، لشغله بما هو فيه.

وقرأ أبو حيوة وشيبة وأبو جعفر والبزي : بخلاف عن ثلاثتهم مبنياً للمفعول ، أي لا يسأل إحضاره كل من المؤمن والكافر له سيما يعرف بها.
وقيل : عن ذنوب حميمه ليؤخذ بها.
{ يبصرونهم } : استئناف كلام.
قال ابن عباس : في المحشر يبصر الحميم حميمه ، ثم يفرّ عنه لشغله بنفسه.
وقيل : يبصرونهم في النار.
وقيل : يبصرونهم فلا يحتاجون إلى السؤال والطلب.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون يبصرونهم صفة ، أي حميماً مبصرين مصرفين إياهم. انتهى.
و { حميم حميماً } : نكرتان في سياق النفي فيعمان ، ولذلك جمع الضمير.
وقرأ قتادة : يبصرونهم مخففاً مع كسر الصاد ، أي يبصر المؤمن الكافر في النار ، قاله مجاهد.
وقال ابن زيد : يبصر الكافر من أضله في النار عبرة وانتقاماً وحزناً.
{ يود المجرم } : أي الكافر ، وقد يندرج فيه المؤمن العاصي الذي يعذب.
وقرأ الجمهور : { من عذاب } مضافاً؛ وأبو حيوة بفتحها.
{ وصاحبته } : زوجته ، { وفصيلته } : أقرباؤه الأدنون ، { تؤويه } : تضمه انتماء إليها ، أو لياذاً بها في النوائب.
{ ثم ينجيه } : عطف على { يفتدي } : أي ينجيه بالافتداء ، أو من تقدم ذكرهم.
وقرأ الزهري : تؤويه وتنجيه بضم الهاءين.
{ كلا } : ردع لودادتهم الافتداء وتنبيه على أنه لا ينفع.
{ أنها } : الضمير للقصة ، و { لظى نزاعة } : تفسير لها أو للنار الدال عليها ، { عذاب يومئذ } و { لظى } بدل من الضمير ، و { نزاعة } خبر إن أو خبر مبتدأ ، و { لظى } خبر إن : أي هي نزاعة ، أو بدل من { لظى } ، أو خبر بعد خبر.
كل هذا ذكروه ، وذلك على قراءة الجمهور برفع نزاعة.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً ترجم عنه الخبر. انتهى.
ولا أدري ما هذا المضمر الذي ترجم عنه الخبر وليس هذا من المواضع التي يفسر فيها المفرد الضمير ، ولولا أنه ذكر بعد هذا أو ضمير القصة ، لحملت كلامه عليه.
وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة والزعفراني وابن مقسم وحفص واليزيدي : في اختياره نزاعة بالنصب ، فتعين أن يكون لظى خبراً لأن ، والضمير في إنها عائد على النار الدال عليها عذاب ، وانتصب نزاعة على الحال المؤكدة أو المبينة ، والعامل فيها لظى ، وإن كان عاملاً لما فيه من معنى التلظي ، كما عمل العلم في الظرف في قوله :
أنا أبو المنهال بعض الأحيان . . .
أي : المشهور بعض الاحيان ، أو على الاختصاص للتهويل ، قاله الزمخشري ، وكأنه يعني القطع.
فالنصب فيها كالرفع فيها ، إذا أضمرت هو فتضمر هنا ، أعني تدعو ، أي حقيقة يخلق الله فيها الكلام كما يخلقه في الأعضاء ، قاله ابن عباس وغيره ، تدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم.
وقال الزمخشري : وكما خلقه في الشجرة.
انتهى ، فلم يترك مذهب الاعتزال.
وقال الخليل : مجاز عن استدنائها منهم وما توقعه بهم من عذابها.
وقال ثعلب : يهلك ، تقول العرب : دعا الله ، أي أهلكك ، وحكاه الخليل عن العرب ، قال الشاعر :
ليالي يدعوني الهوى فأجيبه . . .
وأعين من أهوى إليّ رواني

وقال آخر :
ترفع للعيان وكل فج . . .
طباه الدعى منه والخلاء
يصف ظليماً وطباه : أي دعاه والهوى ، والدعى لا يدعوان حقيقة ، ولكنه لما كان فيهما ما يجذب صاراً داعيين مجازاً.
وقيل : تدعو ، أي خزنة جهنم ، أضيف دعاؤهم إليها ، { من أدبر } عن الحق ، { وتولى وجمع فأوعى } : أي وجمع المال ، فجعله في وعاء وكنزه ولم يؤد حق الله فيه ، وهذه إشارة إلى كفار أغنياء.
وقال الحكيم : كان عبد الله بن حكيم لا يربط كيسه ويقول : سمعت الله يقول : { وجمع فأوعى إن الإنسان } جنس ، ولذلك استثنى منه { إلا المصلين }.
وقيل : الإشارة إلى الكفار.
وقال ثعلب : قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر : ما الهلع؟ فقلت : قد فسره الله تعالى ، ولا يكون تفسير أبين من تفسيره ، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع ، وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس. انتهى.
ولما كان شدة الجزع والمنع متمكنة في الإنسان ، جعل كأنه خلق محمولاً عليهما كقوله : { خلق الإنسان من عجل } والخير المال.
{ إلا المصلين } : استثناء كما قلنا من الإنسان ، ولذلك وصفهم بما وصفهم به من الصبر على المكاره والصفات الجميلة التي حاوروها.
وقرأ الجمهور : { على صلاتهم } بالإفراد؛ والحسن جمعاً؛ وديمومتها ، قال الجمهور : المواظبة عليها.
وقال ابن مسعود : صلاتها لوقتها.
وقال عقبة بن عامر : يقرون فيها ولا يلتفتون يميناً ولا شمالاً ، ومنه المال الدائم.
وقال الزمخشري : دوامهم عليها أن يواظبوا على أدائها ولا يشتغلون عنها بشيء ، ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها ويقيموا أركانها ويكملوها بسننها وأدائها ويحفظونها من الإحباط باقتران المآثم ، والدوام يرجع إلى أنفس الصلوات والمحافظة على أحوالها.
انتهى ، وهو جوابه لسؤاله : فإن قلت : كيف قال : { على صلاتهم دائمون } ، ثم قال : { على صلاتهم يحافظون }.
وأقول : إن الديمومة على الشيء والمحافظة عليه شيء واحد ، لكنه لما كانت الصلاة هي عمود الإسلام بولغ في التوكيد فيها ، فذكرت أول خصال الإسلام المذكورة في هذه السورة وآخرها ، ليعلم مرتبتها في الأركان التي بني الإسلام عليها ، والصفات التي بعد هذه تقدم تفسيرها ، ومعظمها في سورة قد أفلح المؤمنون.
وقرأ الجمهور : بشهادتهم على الإفراد؛ والسلمي وأبو عمر وحفص : على الجمع.

فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة ويقرأ القرآن ، فكانوا يحتفون به حلقاً حلقاً يسمعون ويستهزؤون بكلامه ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنة ، كما يقول محمد ، فلندخلنها قبلهم ، فنزلت.
وتقدم شرح { مهطعين } في سورة إبراهيم عليه السلام ، ومعنى { قبلك } : أي في الجهة التي تليك ، { عن اليمين وعن الشمال } : أي عن يمينك وشمالك.
وقيل : نزلت في المستهزئين الخمسة.
وقرأ الجمهور : { أن يدخل } مبنياً للمفعول؛ وابن يعمر والحسن وأبو رجاء وزيد بن عليّ وطلحة والمفضل عن عاصم : مبنياً للفاعل.
{ كلا } : ردّ وردع لطماعيتهم ، إذ أظهروا ذلك ، وإن كانوا لا يعتقدون صحة البعث ، ولا أن ثم جنة ولا ناراً.
{ إنا خلقناهم مما يعلمون } : أي أنشأناهم من نطفة مذرة ، فنحن قادرون على إعادتهم وبعثهم يوم القيامة ، وعلى الاستبدال بهم خيراً منهم ، قيل : بنفس الخلق؛ ومنته عليهم بذلك يعطي الجنة ، بل بالإيمان والعمل الصالح.
وقال قتادة في تفسيرها : إنما خلقت من قذر يا ابن آدم.
وقال أنس : كان أبو بكر إذا خطبنا ذكر مناتن ابن آدم ومروره في مجرى البول مرتين ، وكذلك نطفة في الرحم ، ثم علقة ، ثم مضغة إلى أن يخرج فيتلوث في نجاسته طفلاً.
فلا يقلع أبو بكر حتى يقذر أحدنا نفسه ، فكأنه قيل : إذا كان خلقكم من نطفة مذرة ، فمن أين تتشرّفون وتدعون دخول الجنة قبل المؤمنين؟ وأبهم في قوله : { مما يعلمون } ، وإن كان قد صرّح به في عدّة مواضع إحالة على تلك المواضع.
ورأى مطرف بن عبد الله بن الشخير المهلب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خز وجبة خز ، فقال له : يا عبد الله ، ما هذه المشية التي يبغضها الله تعالى؟ فقال له : أتعرفني؟ قال : نعم ، أوّلك نطفة مذرة ، وآخرك جيفة قذرة ، وأنت تحمل عذرة.
فمضى المهلب وترك مشيته.
وقرأ الجمهور : { فلا أقسم برب المشارق والمغارب } ، لا نفياً وجمعهما وقوم بلام دون ألف؛ وعبد الله بن مسلم وابن محيصن والجحدري : المشرق والمغرب مفردين.
أقسم تعالى بمخلوقاته على إيجاب قدرته ، على أن يبدل خيراً منهم ، وأنه لا يسبقه شيء إلى ما يريد.
{ فذرهم يخوضوا ويلعبوا } : وعيد ، وما فيه من معنى المهادنة هو منسوخ بآية السيف.
وقرأ أبو جعفر وابن محيصن : يلقوا مضارع لقى ، والجمهور : { يلاقوا } مضارع لاقى؛ والجمهور : { يخرجون } مبنياً للفاعل.
قال ابن عطية : وروى أبو بكر عن عاصم مبنياً للمفعول ، و { يوم } بدل من { يومهم }.
وقرأ الجمهور : نصب بفتح النون وسكون الصاد؛ وأبو عمران الجوني ومجاهد : بفتحهما؛ وابن عامر وحفص : بضمهما؛ والحسن وقتادة : بضم النون وسكون الصاد.
والنصب : ما نصب للإنسان ، فهو يقصده مسرعاً إليه من علم أو بناء أو صنم ، وغلب في الأصنام حتى قيل الأنصاب.

وقال أبو عمرو : هو شبكة يقع فيها الصيد ، فيسارع إليها صاحبها مخافة أن يتفلت الصيد منها.
وقال مجاهد : نصب علم ، ومن قرأ بضمهما ، قال ابن زيد : أي أصنام منصوبة كانوا يعبدونها.
وقال الأخفش : هو جمع نصب ، كرهن ورهن ، والأنصاب جمع الجمع.
يوفضون : يسرعون.
وقال أبو العالية : يستبقون إلى غايات.
قال الشاعر :
فوارس ذنيان تحت الحديد . . .
كالجن يوفضن من عبقر
وقال آخر في معنى الإسراع :
لأنعتنّ نعامة ميفاضا . . .
حرجاء ظلت تطلب الاضاضا
وقال ابن عباس وقتادة : يسعون ، وقال الضحاك : ينطلقون ، وقال الحسن : يبتدرون.
وقرأ الجمهور : { ذلة } منوناً.
{ ذلك اليوم } : برفع الميم مبتدأ وخبر.
وقرأ عبد الرحمن بن خلاد ، عن داود بن سالم ، عن يعقوب والحسن بن عبد الرحمن ، عن التمار : ذلة بغير تنوين مضافاً إلى ذلك ، واليوم بخفض الميم.

إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)

{ أن أنذر قومك } : يجوز أن تكون أن مصدرية وأن تكون تفسيرية.
{ عذاب أليم } ، قال أبو عباس : عذاب النار في الآخرة.
وقال الكلبي : ما حل بهم من الطوفان.
{ من ذنوبكم } : من للتبعيض ، لأن الإيمان إنما يجب ما قبله من الذنوب لا ما بعده.
وقيل : لابتداء الغاية.
وقيل : زائدة ، وهو مذهب ، قال ابن عطية : كوفي ، وأقول : أخفشي لا كوفي ، لأنهم يشترطون أن تكون بعد من نكرة ، ولا يبالون بما قبلها من واجب أو غيره ، والأخفش يجيز مع الواجب وغيره.
وقيل : النكرة والمعرفة.
وقيل : لبيان الجنس ، ورد بأنه ليس قبلها ما تبينه.
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف قال : { ويؤخركم } مع إخباره بامتناع تأخير الأجل؟ وهل هذا إلا تنافض؟ قلت : قضى الله مثلاً أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة ، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة ، فقيل لهم : آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى : أي إلى وقت سماه الله تعالى وضربه أمداً تنتهون إليه لا تتجاوزونه ، وهو الوقت الأطول تمام الألف.
ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل الأمد ، لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت ، ولم تكن لكم حيلة ، فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير. انتهى.
وقال ابن عطية : { ويؤخركم إلى أجل مسمى } مما تعلقت المعتزلة به في قولهم أن للإنسان أجلين ، قالوا : لو كان واحداً محدداً لما صح التأخير ، إن كان الحد قد بلغ ، ولا المعاجلة إن كان لم يبلغ ، قال : وليس لهم في الآية تعلق ، لأن المعنى : أن نوحاً عليه الصلاة والسلام لم يعلم هل هم ممن يؤخر أو ممن يعاجل ، ولا قال لهم إنكم تؤخرون عن أجل قد حان لكم ، لكن قد سبق في الأزل أنهم ، إما ممن قضى له بالإيمان والتأخير ، وإما ممن قضى له بالكفر والمعاجلة.
ثم تشدد هذا المعنى ولاح بقوله : { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر } ، وجواب لو محذوف تقديره : لو كنتم تعلمون ، لبادرتم إلى عبادته وتقواه وطاعتي فيما جئتكم به منه تعالى.
ولما لم يجيبوه وآذوه ، شكا إلى ربه شكوى من يعلم أن الله تعالى عالم بحالة مع قومه لما أمر بالإنذار فلم يجد فيهم.
{ قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً } : أي جميع الأوقات من غير فتور ولا تعطيل في وقت.
ولما ازدادوا إعراضاً ونفاراً عن الحق ، جعل الدعاء هو الذي زادهم ، إذ كان سبب الزيادة ، ومثله : { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } { وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم } : أي ليتوبوا فتغفر لهم ، ذكر المسبب الذي هو حظهم خالصاً ليكون أقبح في إعراضهم عنه ، { جعلوا أصابعهم في آذانهم } : الظاهر أنه حقيقة ، سدوا مسامعهم حتى لا يسمعوا ما دعاهم إليه ، وتغطوا بثيابهم حتى لا ينظروا إليه كراهة وبغضاً من سماع النصح ورؤية الناصح.

ويجوز أن يكون كناية عن المبالغة في إعراضهم عن ما دعاهم إليه ، فهم بمنزلة من سد سمعه ومنع بصره ، ثم كرر صفة دعائه بياناً وتوكيداً.
لما ذكر دعاءه عموم الأوقات ، ذكر عموم حالات الدعاء.
و { كلما دعوتهم } : يدل على تكرر الدعوات ، فلم يبين حالة دعائه أولاً ، وظاهرة أن يكون دعاؤه إسراراً ، لأنه يكون ألطف بهم.
ولعلهم يقبلون منه كحال من ينصح في السر فإنه جدير أن يقبل منه ، فلما لم يجد له الإسرار ، انتقل إلى أشد منه وهو دعاؤهم جهاراً صلتاً بالدعاء إلى الله لا يحاشي أحداً ، فلما لم يجد عاد إلى الإعلان وإلى الأسرار.
قال الزمخشري : ومعنى ثم الدلالة على تباعد الأحوال ، لأن الجهار أغلظ من الإسرار ، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما. انتهى.
وكثيراً كرر الزمخشري أن ثم للاستبعاد ، ولا نعلمه من كلام غيره ، وانتصب جهاراً بدعوتهم ، وهو أحد نوعي الدعاء ، ويجيء فيه من الخلاف ما جاء في نصب هو يمشي الخوزلى.
قال الزمخشري : أو لأنه أراد بدعوتهم : جاهرتهم ، ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا بمعنى دعاء جهاراً : أي مجاهراً به ، أو مصدراً في موضع الحال ، أي مجاهراً.
ثم أخبر أنه أمرهم بالاستغفار ، وأنهم إذا استغفروا در لهم الرزق في الدنيا ، فقدم ما يسرهم وما هو أحب إليهم ، إذ النفس متشوفة إلى الحصول على العاجل ، كما قال تعالى : { وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب } { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل } { وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم } قال قتادة : كانوا أهل حب للدنيا ، فاستدعاهم إلى الآخرة من الطريق التي يحبونها.
وقيل : لما كذبوه بعد طول تكرار الدعاء قحطوا وأعقم نساؤهم ، فبدأهم في وعده بالمطر ، ثم ثنى بالأموال والبنين.
و { مدراراً } : من الدر ، وهو صفة يستوي فيها المذكر والمؤنث ، ومفعال لا تلحقه التاء إلا نادراً ، فيشترك فيه المذكر والمؤنث.
تقول : رجل محدامة ومطرابة ، وامرأة محدابة ومطرابة ، والسماء المطلة ، قيل : لأن المطر ينزل منها إلى السحاب ، ويجوز أن يراد السحاب والمطر كقوله :
إذا نزل السماء بأرض قوم . . .
البيت ، الرجاء بمعنى الخوف ، وبمعنى الأمل.
فقال أبو عبيدة وغيره : { لا ترجون } : لا تخافون ، قالوا : والوقار بمعنى العظمة والسلطان ، والكلام على هذا وعيد وتخويف.
وقيل : لا تأملون له توقيراً : أي تعظيماً.
قال الزمخشري : والمعنى : ما لكم لا تكونون على حال ما يكون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب ، ولله بيان للموقر ، ولو تأخر لكان صلة ، أو لا تخافون الله حلماً وترك معاجلة بالعقاب فتؤمنوا.
وقيل : ما لكم لا تخافون لله عظمة.
وعن ابن عباس : لا تخافون لله عاقبة ، لأن العاقبة حال استقرار الأمور وثبات الثواب والعقاب منه وقر إذا ثبت واستقر.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46