كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

ثم ذكر تعالى أنه له غيب السموات والأرض ، وهو ما غاب عن العباد وخفي فيهما عنهم علمه.
والظاهر اتصاله بقوله : { إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون } أخبر باستئثاره بعلم غيب السموات والأرض ، بكمال قدرته على الإتيان بالساعة التي تنكرونها في لمحة البصر أو أقرب ، والمعنى بهذا الإخبار : أنّ الآلهة التي تعبدونها منتف عنها هذان الوصفان اللذان للإله وهما : العلم المحيط بالمغيبات ، والقدرة البالغة التامّة.
ومن ذكر أنّ قوله : ومن يأمر بالعدل هو الله تعالى ، ذكر ارتباط هذه الجملة بما قبلها بأنّ من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم هو الكامل في العلم والقدرة ، فبين ذلك بهذه الجملة.
قيل : والغيب هنا ما لا يدرك بالحس ، ولا يفهم بالعقل.
وقال المفضل : ما غاب عن الخلق هو في قبضته لا يعزب عنه.
وقيل : هو ما في قوله : { إن الله عنده علم الساعة } وقال الزمخشري : أو أراد بغيب السموات والأرض يوم القيامة ، على أن علمه غائب عن أهل السموات والأرض لم يطلع عليه أحد منهم.
قيل : لما كانت الساعة آتية ولا بد ، جعلت من القرب كلمح البصر.
وقال الزجاج : لم يرد أنّ الساعة تأتي في لمح البصر ، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها أي : يقول للشيء كن فيكون.
وقيل : هذا تمثيل للقرب كما تقول : ما السنة إلا لحظة.
وقال الزمخشري : هو عند الله وإن تراخى ، كما يقولون أنتم في الشيء التي تستقربونه : كلمح البصر ، أو هو أقرب إذا بالغتم في استقرابه ونحوه قوله : { ويستعجلونك بالعذاب } { ولن يخلف الله وعده } { وأن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدُّون } أي هو عنده دان ، وهو عندكم بعيد.
وقيل : المعنى أنّ إقامة الساعة وإماتة الأحياء ، وإحياء الأموات من الأولين والآخرين ، يكون في أقرب وقت أوحاه.
أنّ الله على كل شيء قدير ، فهو يقدر على أنْ يقيم الساعة ، ويبعث الخلق ، لأنه بعض المقدورات.
وقال ابن عطية : والمعنى على ما قال قتادة وغيره ، وما تكون الساعة وإقامتها في قدرة الله تعالى إلا أن يقول لها : كن فلو اتفق أن يقف على ذلك شخص من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هي كلمح البصر؟ أو هي أقرب من ذلك؟ فأو على هذا على بابها في الشك.
وقيل : هي للتخيير انتهى.
والشك والتخيير بعيدان ، لأنّ هذا إخبار من الله تعالى عن أمر الساعة ، فالشك مستحيل عليه.
ولأنّ التخيير إنما يكون في المحظورات كقولهم : خذ من مالي ديناراً أو درهماً ، أو في التكليفات كآية الكفارات : { والذين يظاهرون } وأو هنا للإبهام على المخاطب كقوله : { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } وقوله : { أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً } وهو تعالى قد علم عددهم ، ومتى يأتيها أمره ، كما علم أمر الساعة ، لكنه أبهم على المخاطب.
وكون أو هنا للإبهام ذكره الزجاج هنا.

وقال القاضي : هذا لا يصح ، لأنّ إقامة الساعة ليست حال تكليف حتى يقال : إنه تعالى يأتي بها في زمان يعني القاضي فيكون الإبهام على المخاطب في ذلك الزمان ، وليس زمان تكليف.
والذي نقوله : إن الإبهام وقع وقت الخطاب المتقدم على أمر الساعة ، لا وقت الإتيان بها.
وليس من شرط الإبهام على المخاطب في الإخبار عن شيء اتحاد زمان الإخبار وزمان وقوع ذلك الشيء ، ألا ترى في قوله تعالى : { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } كيف تأمر زمان الإخبار عن زمان وقوع ذلك الإرسال ، ووجودهم مائة ألف أو يزيدون.
وقال أبو عبد الله الرازي : لمح البصر انتقال الجسم بالطرف من أعلى الحدقة ، وهي مؤلفة من أجزاء وتلك الأجزاء كثيرة ، والزمان الذي يحصل فيه للمح مركب من آناء متعاقبة ، والله تعالى قادر على إقامة القيامة في آن واحد من تلك الآناء ، فلذلك قال : { أو هو أقرب } ولما كان أسرع الأحوال والحوادث في عقولنا هو لمح البصر ذكره ، ثم قال : أو هو أقرب تنبيهاً على ما ذكرناه ، وليس المراد طريقة الشك ، والمراد بل هو أقرب انتهى.
وفيه بعض تلخيص.
وما ذكره من أنّ أو بمعنى بل ، هو قول الفراء ، ولا يصح لأنّ الإضراب على قسمين كلاهما لا يصح هنا.
أما أحدهما : فإن يكون إبطالاً للإسناد السابق ، وأنه ليس هو المراد ، وهذا مستحيل هنا ، لأنه يؤول إلى إسناد غير مطابق.
والثاني : أن يكون انتقالاً من شيء إلى شيء من غير إبطال لذلك الشيء السابق ، وهذا مستحيل هنا للتنافي الذي بين الإخبار بكونه مثل لمح البصر في السرعة ، والإخبار بالأقربية ، فلا يمكن صدقهما معاً.
وقال صاحب الغنيان : وهذا وإن كان يعتبر إدراكه حقيقة ، إلا أن المقصود المبالغة على مذهب العرب وأرباب النظم.
وما أحسن قول الأبله الشاعر في المعنى :
قال له البرق وقالت له الريح . . .
جميعاً وهما ما هما
أأنت تجري معنا قال إن . . .
نشطت أضحكتكما منكما
أنا ارتداد الطرف قد فته . . .
إلى المدى سبقاً فمن أنتما
ولما ذكر تعالى أمر الساعة وأنها كائنة لا محالة ، فكان في ذلك دلالة على النشأة الآخرة.
وتقدم وصفهم بانتفاء العلم ، ذكر تعالى النشأة الأولى وهي إخراجهم من بطون أمهاتهم غير عالمين شيئاً ، تنبيهاً على وقوع النشأة الآخرة.
ثم ذكر تعالى امتنانه عليهم بجعل الحواس التي هي سبب لإدراك الأشياء والعلم ، ولما كانت النشأة الأولى ، وجعل ما يعلمون به لهم من أعظم النعم عليهم قال : لعلكم تشكرون ، وتقدّم الكلام في أمهات في النساء.
وقرأ حمزة : بكسر الهمزة ، والميم هنا وفي النور ، والزمر ، والنجم ، والكسائي بكسر الهمزة فيهن ، والأعمش بحذف الهمزة وكسر الميم ، وابن أبي ليلى بحذفها وفتح الميم.
قال أبو حاتم : حذف الهمزة رديء ، ولكنّ قراءة ابن أبيّ أصوب انتهى.

وإنما كانت أصوب لأنّ كسر الميم إنما هو لاتباعها حركة الهمزة ، فإذا كانت الهمزة محذوفة زال الاتباع ، بخلاف قراءة ابن أبي ليلى فإنه أقرّ الميم على حركتها.
ولا تعلمون جملة حالية أي : غير عالمين.
وقالوا : لا تعلمون شيئاً مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم ، أو شيئاً مما قضى عليكم من السعادة أو الشقاوة ، أو شيئاً من منافعكم.
والأولى عموم لفظ شيء ، ولا سيما في سياق النفي.
وقال وهب : يولد المولود حذراً إلى سبعة أيام لا يدرك راحة ولا ألماً.
ويحتمل وجعل أن يكون معطوفاً على أخرجكم ، فيكون واحداً في حيز خبر المبتدأ ، ويحتمل أن يكون استئناف إخبار معطوفاً على الجملة الابتدائية كاستئنافها.
والمراد بالسمع والأبصار والأفئدة إحساسها وإدراكها ، فعبر عن ذلك بالآية.
وقال أبو عبد الله الرازي ما معناه : إنما جمع الفؤاد جمع قلة ، لأنه إنما خلق للمعارف الحقيقية اليقينية ، وأكثر الخلق مشغولون بالأفعال البهيمية ، فكان فؤادهم ليس بفؤاد ، فلذلك ذكر في جمعه جمع القلة انتهى ملخصاً.
وهو قول هذياني ، ولولا جلاله قائله وتسطيره في الكتب ما ذكرته ، وإنما يقال في هذا ما قاله الزمخشري : أنه من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة والقلة ، إذا لم يرد في السماع غيرها كما جاء : شسوع في جمع شسع لا غير ، فجرى ذلك المجرى انتهى.
إلا أنّ دعوى الزمخشري أنه لم يجيء في جمع شسع إلا شسع لا غير ، ليس بصحيح ، بل جاء فيه جمع القلة قالوا : أشساع ، فكان ينبغي له أن يقول : غلب شسوع.
وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وطلحة ، والأعمش ، وابن هرمز : ألم تروا بتاء الخطاب ، وباقي السبعة بالياء.
قال ابن عطية : واختلف عن الحسن ، وعيسى الثقفي ، وعاصم ، وأبي عمرو.
ولما ذكر تعالى مدارك العلم الثلاثة : السمع ، والنظر ، والعقل ، والأوّلان مدرك المحسوس ، والثالث مدرك المعقول ، اكتفى من ذكر مدرك المحسوس بذكر النظر ، فإنه أغرب لما يشاهد به من عظيم المخلوقات على بعدها المتفاوت ، كمشاهدته النيرات التي في الأفلاك.
وجعل هنا موضع الاعتبار والتعجب الحيوان الطائر ، فإنّ طيرانه في الهواء مع ثقل جسمه مما يعجب منه ويعتبر به.
وتضمنت الآية أيضاً ذكر مدرك العقل في كونه لا يسقط ، إذ ليس تحته ما يدعمه ، ولا فوقه ما يتعلق به ، فيعلم بالعقل أنه له ممسك قادر على إمساكه وهو الله تعالى ، كما قال تعالى : { أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير } فانتظم في الآية ذكر مدرك الحس ومدرك العقل.
ومعنى مسخرات : مذللات ، وبني للمفعول دلالة على أن له مسخراً.
وقال أبو عبد الله الرازي : هذا دليل على كمال قدرة الله وحكمته ، فإنه تعالى خلق الطائر خلقه معها يمكنه الطيران ، أعطاه جناحاً يبسطه مرة ، ويكنه أخرى مثل ما يعمل السابح في الماء ، وخلق الجو خلقه معها يمكن الطيران خلقه خلقة لطيفة ، يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه ، ولولا ذلك لما كان الطيران ممكناً انتهى.

وكلامه منتزع من كلام القاضي قال : إنما أضاف الإمساك إلى نفسه ، لأنه تعالى هو الذي أعطى الآلات لأجلها تمكن الطائر من تلك الأفعال ، فلما كان هو المتسبب لذلك صحت هذه الإضافة انتهى.
والذي نقوله : إنه كان يمكنه أن يطير ولو لم يخلق له جناح ، وأنه كان يمكنه خرق الشيء الكثيف وذلك بقدرة الله تعالى ، وأن الممسك له في جو السماء هو الله تعالى.
وقد قام الدليل على أنّ جميع الأفعال كلها مخلوقة لله ، وقام الدليل على أنه تعالى هو الفاعل المختار ، فلا نقول : إنه لولا الجناح ولطف الجو ما أمكن الطيران ، ولا لولا الآلات ما أمكن.
وقال الزمخشري : ما يوافق كلامهما قال : مسخرات ، مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة ، والأسباب المواتية لذلك.
ثم أحسن أخيراً في قوله : ما يمسكهن في قبضهن وبسطهن ووقوفهن إلا الله بقدرته انتهى.
لآيات : جمع ولم يفرد ، لما في ذلك من الآيات خفة الطائر التي جعلها الله فيه لأن يرتفع بها ، وثقله الذي جعله فيه لأن ينزل ، والفضاء الذي بين السماء والأرض ، والإمساك الذي لله تعالى ، أو جمع باعتبار ما في هذه الآية والتي قبلها وقال : لقوم يؤمنون ، فإنهم هم الذين ينتفعون بالاعتبار ، ولتضمن الآية أن المسخر والممسك لها هو الله ، فهو إخبار منه تعالى ما يصدق به إلا المؤمن.

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)

الظعن : سير البادية في الانتجاع والتحول من موضع إلى موضع ، والظعن الهودج أيضاً.
الصوف للضأن ، والوبر للإبل ، والشعر للمعز ، قاله أهل اللغة في قوله : ومن أصوافها الآية.
الأثاث : قال المفضل متاع البيت كالفرش والأكسية ، وقال الفراء : لا واحد له من لفظه ، كما أنّ المتاع لا واحد له من لفظه ، ولو جمعت لقلت : أأثثة في القليل ، وأثث في الكثير.
وقال أبو زيد : واحده أثاثه ، وقال الخليل : أصله من قولهم أثث النبات والشعر ، فهو أثيث إذا كثر.
قال امرؤ القيس :
وفرع يزين المتن أسود فاحم . . .
أثيت كقنو النخلة المتعثكل
الكن ما حفظ ، ومنع من الريح والمطر وغير ذلك ، ومن الجبال الغار.
{ والله جعل لكم من بيوتكم سكناً وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكناناً وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون } : لما ذكر تعالى ما منَّ به عليهم من خلقهم ، وما خلق لهم من مدارك العلم ، ذكر ما امتن به عليهم مما ينتفعون به في حياتهم من الأمور الخارجية عن دوابهم من البيوت التي يسكنونها ، من الحجر والمدر والأخشاب وغيرها.
والسكن فعل بمعنى مفعول ، كالقنص ، والنفص.
وأنشد الفراء :
جاء الشتاء ولما أتخذ سكناً . . .
يا ويح نفسي من حفر القراميص
وليس السكن بمصدر كما ذهب إليه ابن عطية ، وكأنه تعالى ذكر أولاً ما غالب البيوت عليه من كونها لا تنقل ، بل ينتقل الناس إليها.
ثم ذكر ثانياً ما منّ به علينا من المتخذ من جلود الأنعام ، وهو ما ينتقل من القباب والخيام والفساطيط التي من الأدم ، أو ذكر أولاً البيوت على طريق العموم ، ثم ذكر بيوت الجلود خصوصاً تنبيهاً على حال أكثر العرب ، فإنهم لانتجاعهم إنما بيوتهم من الجلود ، والظاهر أنه لا يندرج في البيوت التي من جلود الأنعام بيوت الشعر ، وبيوت الصوف والوبر.
وقال ابن سلام : تندرج لأنها ثابتة فيها ، فهي منها.
ومعنى تستخفونها : تجدونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل.
يوم ظعنكم : يوم ترحلون خف عليكم حملها ونقلها ، ويوم تنزلون وتقيمون في مكان لم يثقل عليكم ضربها.
وقد يراد بالاستخفاف في وقتي السفر والحضر أي : مدة النجعة والإقامة.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو : ظعنكم بفتح العين ، وباقي السبعة بسكونها ، وهما لغتان.
وليس السكون بتخفيف كما جاء في نحو الشعر والشعر لمكان حرف الخلق ، والظاهر أنّ أثاثاً مفعول ، والتقدير : وجعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً.

وقيل : أثاثاً منصوب على الحال على أنّ المعنى : جعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها بيوتاً ، فيكون ذلك معطوفاً على من جلود الأنعام ، كما تقول : جعلت لك من الماء شراباً ومن اللبن ، وفي التقدير الأول يكون قد عطف مجروراً على مجرور ، ومنصوباً على منصوب كما تقول : ضربت في الدار زيداً وفي القصر عمراً ، ولما لم تكن بلادهم بلاد قطن وكتان وحرير اقتصر على هذه الثلاثة هنا ، واندرجت في قوله سرابيل تقيكم الحر.
والمتاع : ما يتمتع به أي : ينتفع به.
وقال ابن عباس : الزينة.
وقال المفضل : المتجر والمعاش.
وقال الخليل : الأثاث والمتاع واحد وجمع بينهما لاختلاف اللفظين كقوله : وألفى قولها كذباً وميناً.
وغياً؛ تعالى ذلك بقوله : إلى حين ، فقال ابن عباس : إلى الموت.
وقال مقاتل : إلى بلى ذلك الشيء.
وقيل : إلى انقضاء حاجتكم منه.
ولما ذكر تعالى ما منّ به عليهم ما سبق ذكره ، وكانت بلادهم غالباً عليها الحر ، ذكر امتنانه عليهم بما يقيهم الحر من خلق الأجرام التي لها ظل كالشجر وغيره مما يمنع من أذى الشمس.
وقال ابن عباس ومجاهد : ظلال الغمام.
وقال ابن السائب : ظلال البيوت.
وقال قتادة ، والزجاج : ظلال الشجر.
وقال ابن قتيبة : ظلال الشجر والجبال والأكنان من الجبال هي الغيران ، والكهوف ، والبيوت المنحوتة منها.
والسربال ما لبس على البدن من : قميص ، وقرقل ، ومجول ، ودرع ، وجوشن ، ونحو ذلك من صوف وكتان وقطن وغيرها.
واقتصر على ذكر الحر إما لأن ما يقي الحر يقي البرد قاله الزجاج ، أو حذف البرد لدلالة ضده عليه قاله المبرد ، أو لأنه أمس في تلك البلاد والبرد فيها معدوم في الأكثر.
وإذا جاء توقى بالأثاث فيخلص السربال لتوقي الحر فقط ، قاله عطاء الخراساني.
وهذا في بلاد الحجاز ، وأما غيرها من بلاد العرب فيوجد فيها البرد الشديد كما قال متمم :
إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا . . .
وقال آخر :
في ليلة من جمادى ذات أندية . . .
والسرابيل التي تقي الناس هي الدروع.
قال كعب بن زهير :
شم العرانين أبطال لبوسهم . . .
من نسج داود في الهيجا سرابيل
والسربال عام ، يقع على ما كان من حديد وغيره.
والبأس في أصل اللغة الشدة ، وهنا الحرب.
وفي الحديث : «كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم »والمعنى : تقيكم أذى الحرب وهو ما يعرض فيها من الجراح الناشئة من ضرب السيف ، والدبوس ، والرمح ، والسهم ، وغير ذلك مما يعد للحديث.
كذلك أي مثل ذلك الإتمام للنعمة فيما سبق ، يتم نعمته في المستقبل.
وقرأ ابن عباس : تتم بتاء مفتوحة نعمته بالرفع ، أسند التمام إليها اتساعاً ، وعنه نعمه جمعاً.
وقرأ : لعلكم تسلمون بفتح التاء ، واللام من السلامة والخلاص ، فكأنه تعليل لوقاية السرابيل من أذى الحرب ، أو تسلمون من الشرك.
وأما تسلمون في قراءة الجمهور فالمعنى : تؤمنون ، أو تنقادون إلى النظر في نعم الله تعالى مفض إلى الإيمان والانقياد.

روي أن أعرابياً سمع قوله تعالى : والله جعل لكم من بيوتكم سكناً إلى آخر الآيتين فقال : عند كل نعمة اللهم نعم ، فلما سمع : لعلكم تسلمون ، قال : اللهم هذا فلا ، فنزلت.
فإن تولوا ، يحتمل أن يكون ماضياً أي : فإن أعرضوا عن الإسلام.
ويحتمل أن يكون مضارعاً أي : فإن تتولوا ، وحذفت التاء ، ويكون جارياً على الخطاب السابق والماضي على الالتفات ، والفاء وما بعدها جواب الشرط صورة ، والجواب حقيقة محذوف أي : فأنت معذور إذ أدّيت ما وجب عليك ، فأقيم سبب العذر وهو البلاغ مقام المسبب لدلالته عليه.
وقال ابن عطية : المعنى إن أعرضوا فلست بقادر على حق الإيمان في قلوبهم ، فإنما عليك أن تبين وتبلغ أمر الله ونهيه انتهى.
ثم أخبر عنهم على سبيل التقريع والتوبيخ بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ، وعرفانهم للنعم التي عدت عليهم حيث يعترفون بها ، وأنها منه تعالى ، وإنكارهم لها حيث يعبدون غير الله ، وجعل ذلك إنكاراً على سبيل المجاز ، إذ لم يرتبوا على معرفة نعمه تعالى مقتضاها من عبادته ، وإفراده بالعبادة دون ما نسبوا إليه من الشركاء ، قال قريباً من هذا المعنى مجاهد.
وقال السدّي : النعمة هنا محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : يعرفون بمعجزاته وآيات نبوته ، وينكرون ذلك بالتكذيب ، ورجحه الطبري.
وعن مجاهد أيضاً : إنكارهم قولهم ورثناها من آبائنا.
وعن ابن عون : إضافتها إلى الأسباب لا إلى مسببها ، وحكى صاحب الغنيان : يعرفونها في الشدة ، ثم ينكرونها في الرخاء.
وقيل : إنكارهم هي بشفاعة آلهتهم عند الله.
وقيل : يعرفونها بقلوبهم ثم ينكرونها بألسنتهم.
والظاهر أنّ المراد مِن وأكثرهم موضوعه الأصلي.
وقال الحسن : وكلهم : ما من أحد يقوم بواجب حق الشكر ، فجعله من كفران النعمة.
وظاهر أن الكفر هنا هو مقابل الإيمان.
وقيل : أكثر أهل مكة ، لأنّ منهم من أبى.
وقيل : معنى الكافرون الجاحدون المعاندون ، لأنّ فيهم من كان جاهلاً لم يعرف فيعاند.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما معنى ثم؟ ( قلت ) : الدلالة على أنّ إنكارهم مستبعد بعد حصول المعرفة ، لأنّ حق من عرف النعمة أنْ يعترف لا أنْ ينكر.

وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)

استعتبت الرجل بمعنى أعتبته أي : أزلت عنه ما يعتب عليه ويلام ، والاسم العتبى ، وجاءت استفعل بمعنى أفعل نحو استدينته وأدينته.
{ ويوم نبعث من كل أمة شهيداً ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } : لما ذكر إنكارهم لنعمة الله تعالى ، ذكر حال يوم القيامة حيث لا ينفع فيه الإنكار على سبيل الوعيد لهم بذلك اليوم.
وانتصب يوم بإضمار اذكر قاله : الحوفي ، والزمخشري ، وابن عطية ، وأبو البقاء.
وقال الزمخشري : أو يوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه.
وقال الطبري : هو معطوف على ظرف محذوف العامل فيه : ثم ينكرونها ، أي ينكرونها اليوم.
ويوم نبعث أي : ينكرون كفرهم ، فيكذبهم الشهيد ، والشهيد نبي تلك الأمة يشهد عليهم بإيمانهم وبكفرهم ، ومتعلق الأذن محذوف.
فقيل : في الرجوع إلى دار الدنيا.
وقيل : في الكلام والاعتذار كما قال : { هذا يوم لا ينطقون.
ولا يؤذن لهم } فيعتذرون أي بعد شهادة أنبيائهم عليهم ، وإلا فقبل ذلك تجادل كل أمة عن نفسه.
وجاء كلامهم في ذلك ، ولكنها مواطن يتكلمون في بعضها ولا ينطقون في بعضها ولا هم يستعتبون أي : مزال عنهم العتب.
وقال قوم : معناه لا يسألون أن يرجعوا عن ما كانوا عليه في الدنيا ، فهذا استعتاب معناه طلب عتباهم ، ونحوه قول من قال : ولا هم يسترضون أي : لا يقال لهم ارضوا ربكم ، لأنّ الآخرة ليست بدار عمل قاله الزمخشري.
وقال الطبري : معناه يعطون الرجوع إلى الدنيا فيقع منهم توبة وعمل.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فما معنى ثم هذه؟ ( قلت ) : معناها انهم يمنون بعد شهادة الأنبياء بما هو أطم منه ، وأنهم يمنعون الكلام فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ، ولا إدلاء بحجة انتهى.
ولما كانت حالة العذاب في الدنيا مخالفة لحال الآخرة إذ من رأى العذاب في الدنيا رجا أن يؤخر عنه ، وإن وقع فيه أن يخفف عنه ، أخبر تعالى أن عذاب الآخرة لا يكون فيه تخفيف ولا نظرة.
والظاهر أنّ جواب إذا قوله فلا يخفف ، وهو على إضمار هو أي : فهو لا يخفف ، لأنه لولا تقدير الإضمار لم تدخل الفاء ، لأن جواب إذا إذا كان مضارعاً لا يحتاج إلى دخول الفاء ، سواء كان موجباً أم منفياً ، كما قال تعالى :

{ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر } وتقول : إذا جاء زيد لا يجيء عمرو.
قال الحوفي : فلا يخفف جواب إذا ، وهو العامل في إذا ، وقد تقدم لنا أنّ ما تقدم فاء الجواب في غير أما لا تعمل فيما قبله ، وبينا أنّ العامل في إذا الفعل الذي يليها كسائر أدوات الشرط ، وإن كان ليس قول الجمهور.
وجعل الزمخشري جواب إذا محذوفاً فقال : وقد قدر العامل في يوم نبعث مجزوماً قال : ويوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه ، وكذلك وإذا رأوا العذاب بغتهم وثقل عليهم فلا يخفف ولا هم ينظرون كقوله : { بل تأتيهم بغتة } فتبهتهم الآية انتهى.
والظاهر أن قوله : شركاءهم ، عام في كل من اتخذوه شريكاً لله من صنم ووثن وآدمي وشيطان وملك ، فيكذبهم من له منهم عقل ، فيكون : فألقوا عائداً على من له الكلام ، ويجوز أن يكون عاماً ينطق الله تعالى بقدرته الأوثان والأصنام.
وإضافة الشركاء إليهم على هذا القول لكونهم هم الذين جعلوهم شركاء لله.
وقال الحسن : شركاؤهم الشياطين ، شركوهم في الأموال والأولاد كقوله تعالى : { وشاركهم في الأموال والأولاد } وقيل : شركاؤهم في الكفر.
وعلى القول الأول شركاؤهم في أنْ اتخذوهم آلهة مع الله وعبدوهم ، أو شركاؤهم في أنْ جعلوا لهم نصيباً من أموالهم وأنعامهم ، والظاهر أنّ القول منسوب إليهم حقيقة.
وقيل : منسوب إلى جوارحهم ، لأنهم لما أنكروا الإشراك بقولهم : { إلا أن قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين } أصمت الله ألسنتهم وأنطق جوارحهم.
ومعنى : تدعو ، ونعبد قالوا ذلك رجاء أن يشركوا معهم في العذاب ، إذ يحصل التأسي ، أو اعتذاراً عن كفرهم إذ زين لهم الشيطان ذلك وحملهم عليه ، إن كان الشركاء هم الشياطين.
وقال أبو مسلم الأصبهاني.
قالوا : ذلك إحالة هذا الذنب على تلك الأصنام ، وظناً أن ذلك ينجيهم من عذاب الله أو من عذابهم ، فعند ذلك تكذيبهم تلك الأصنام.
وقال القاضي : هذا بعيد ، لأنّ الكفار يعلمون علماً ضرورياً في الآخرة أن العذاب سينزل بهم ، ولا نصرة ، ولا فدية ، ولا شفاعة.
وتقدم الإخبار بأنهم شركاء ، والإخبار أنهم كانوا يدعونهم : أي يعبدونهم ، فاحتمل التذكيب أن يكون عائداً للإخبار الأول أي : لسنا شركاء لله في العبادة ، ولا آلهة نزهوا الله تعالى عن أن يكونوا شركاء له.
واحتمل أن يكون عائداً على الإخبار الثاني وهو العبادة ، لما لم يكونوا راضين بالعبادة جعلوا عبادتهم كلا عبادة ، أو لما لم يدعوهم إلى العبادة.
ألا ترى أنّ الأصنام والأوثان لا شعور لها بالعبادة ، فضلاً عن أن يدعو وإن من عبد من صالحي المؤمنين والملائكة ، لم يدع إلى عبادته.
وإن كان الشركاء الشياطين جاز أن يكونوا كاذبين في إخبارهم بكذب من عبدهم ، كما كذب إبليس في قوله :

{ إني كفرت بما اشركتمون من قبل } والضمير في فألقوا إلى الله فألقوا عائد على الذين أشركوا ، قاله الأكثرون.
والسلم : الاستسلام والانقياد لحكم الله بعد الإباء والاستكبار في الدنيا ، فلم يكن لهم إذ ذاك حيلة ولا دفع.
وروى يعقوب عن أبي عمرو : السلم بإسكان اللام.
وقرأ مجاهد : بضم السين واللام.
وقيل : الضمير عائد على الذين أشركوا ، وشركائهم كلهم.
قال الكلبي : استسلموا منقادين لحكمه ، والضمير في وضلوا عائد على الذين أشركوا خاصة أي : وبطل عنهم ما كانوا يفترون من أنّ لله شركاء وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين كذبوهم وتبرأوا منهم ، والظاهر أنّ الذين مبتدأ وزدناهم الخبر.
وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون قوله : الذين ، بدلاً من الضمير في يفترون.
وزدناهم فعل مستأنف إخباره.
وصدوا عن سبيل الله أي : غيرهم زدناهم عذاباً بسبب الصد فوق العذاب ، أي : الذي ترتب لهم على الكفر ضاعفوا كفرهم ، فضاعف الله عقابهم.
وهذا المزيد عن ابن مسعود عقارب كأمثال النخل الطوال ، وعنه : حيات كأمثال الفيلة ، وعقارب كأمثال البغال.
وعن ابن عباس : أنها من صفر مذاب تسيل من تحت العرش يعذبون بها ، وعن الزجاج : يخرجون من حر النار إلى الزمهرير ، فيبادرون من شدة برده إلى النار ، وعلل تلك الزيادة بكونهم مفسدين غيرهم ، وحاملين على الكفر.
وفي كل أمة فيها منها حذف في السابق من أنفسهم وأثبته هنا وحذف هناك في وأثبته هنا ، والمعنى في كليهما : أنه يبعث الله أنبياء الأمم فيهم منهم ، والخطاب في ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم ، والإشارة بهؤلاء إلى أمته.
وقال ابن عطية : ويجوز أن يبعث الله شهداء من الصالحين مع الرسل.
وقد قال بعض الصحابة : إذا رأيت أحداً على معصية فانهه ، فإنْ أطاعك وإلا كنت عليه شهيداً يوم القيامة انتهى.
وكان الشهيد من أنفسهم ، لأنه كان كذلك حين أرسل إليهم في الدنيا من أنفسهم.
وقال الأصم أبو بكر المراد الشهيد هو أنه تعالى ينطق عشرة من أجزاء الإنسان حتى تشهد عليه ، لأنه قال في صفة الشهيد من أنفسهم ، وهذا بعيد لمقابلته بقوله : وجئنا بك شهيداً على هؤلاء ، فيقتضي المقابلة أنّ الشهداء على الأمم أنبياؤهم كرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونزلنا استئناف إخبار ، وليس داخلاً مع ما قبله لاختلاف الزمانين.
لما ذكر ما شرفه الله به من الشهادة على أمته ، ذكر ما أنزل عليه مما فيه بيان كل شيء من أمور الدين ، ليزيح بذلك علتهم فيما كلفوا ، فلا حجة لهم ولا معذرة.
والظاهر أنّ تبياناً مصدر جاء على تفعال ، وإن كان باب المصادر أن يجيء على تفعال بالفتح كالترداد والتطواف ، ونظير تبيان في كسر تائه تلقاء.
وقد جوّز الزجاج فتحه في غير القرآن.
وقال ابن عطية : تبياناً اسم وليس بمصدر ، وهو قول أكثر النحاة.

وروى ثعلب عن الكوفيين ، والمبرد عن البصريين : أنه مصدر ولم يجيء على تفعال من المصادر إلا ضربان : تبيان وتلقاء.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف كان القرآن تبياناً لكل شيء؟ ( قلت ) : المعنى أنه بين كل شيء من أمور الدين حيث كان نصاً على بعضها وإحالة على السنة ، حيث أمر فيه باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته.
وقيل : { وما ينطق عن الهوى } وحثاً على الإجماع في قوله { ويتبع غير سبيل المؤمنين } وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته اتباع أصحابه ، والاقتداء بآثارهم في قوله : « أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم » وقد اجتهدوا ، وقاسوا ، ووطئوا طرق القياس والاجتهاد ، فكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد مستندة إلى تبيين الكتاب ، فمن ثم كان تبياناً لكل شيء.
وقوله : وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله : اهتديتم ، لم يقل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو حديث موضوع لا يصح بوجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن حزم في رسالته في إبطال الرأي ، والقياس ، والاستحسان ، والتعليل ، والقليد ما نصه : وهذا خبر مكذوب موضوع باطل لم يصلح قط ، وذكر إسناده إلى البزار صاحب المسند قال : سألتم عما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما في أيدي العامة ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنما مثل أصحابي كمثل النجوم أو كالنجوم ، بأيها اقتدوا اهتدوا.
وهذا كلام لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، رواه عبد الرحيم بن زيد العمي ، عن أبيه ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وإنما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم ، لأن أهل العلم سكتوا عن الرواية لحديثه.
والكلام أيضاً منكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت ، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يبيح الاختلاف بعده من أصحابه ، هذا نص كلام البزار.
قال ابن معين : عبد الرحيم بن زيد كذاب خبيث ليس بشيء.
وقال البخاري : هو متروك ، رواه أيضاً حمزة الجزري ، وحمزة هذا ساقط متروك.
ونصبوا تبياناً على الحال.
ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله.
وللمسلمين متعلق ببشرى ومن حيث المعنى هو متعلق بهدى ورحمة.

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)

النقض ضد الإبرام ، وفي الجرم فك أجزائه بعضها من بعض.
التوكيد : التثبيت ويقال : توكيد ، وتأكيد ، وهما لغتان.
وزعم الزجاج أنّ الهمزة بدل من الواو ، ولبس بجيد.
لأن التصريف جاء في التركيبين فدل على أنهما أصلان.
الغزل : معروف ، وفعله غزل يغزل بكسر الزاي غزلاً ، وأطلق المصدر على المغزول.
{ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون } : عن ابن عباس في حديث فيه طول منه : أن عثمان بن مظعون كان جليس النبي صلى الله عليه وسلم وقتاً فقال له : عثمان ما رأيتك تفعل فعلتك الغداة؟ قال : «وما رأيتني فعلت؟» قال : شخص بصرك إلى السماء ثم وضعته على يمينك فتحرفت عني إليه وتركتني ، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئاً يقال لك قال : أو فطنت لذلك؟ أتاني رسول الله آنفاً وأنت جالس قال : فماذا قال لك : قال لي : { إن الله يأمر بالعدل } : الآية.
قال عثمان : فذلك حين استقر الإيمان في قلبي ، فأحببت محمداً صلى الله عليه وسلم لما ذكر الله تعالى.
ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ، وصل به ما يقتضي التكاليف فرضاً ونفلاً وأخلاقاً وآداباً.
والعدل فعل كل مفروض من عقائد ، وشرائع ، وسير مع الناس في أداء الأمانات ، وترك الظلم والإنصاف ، وإعطاء الحق والإحسان فعل كل مندوب إليه قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري : العدل هو الواجب ، لأن الله عز وجل عدل فيه على عباده ، فجعل ما فرضه عليهم واقعاً تحت طاقتهم.
والإحسان الندب ، وإنما علق أمره بهم جميعاً ، لأنّ الفرض لا بد أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب انتهى.
وفي قوله : تحت طاقتهم ، نزغة الاعتزال.
وعن ابن عباس : العدل لا إله إلا الله ، والإحسان أداء الفرائض.
وعنه أيضاً أنّ العدل هو الحق.
وعن سفيان بن عيينة : أنه أسوأ السريرة والعلانية في العمل.
وذكر الماوردي أنه القضاء بالحق قال تعالى : { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } وقال أبو سليمان : العدل في لسان العرب الانصاف.
وقيل : خلع الأنداد.
وقيل : العدل في الأفعال والإحسان في الأقوال.
وإيتاء ذي القربى : هو صلة الرحم ، وهو مندرج تحت الإحسان ، لكنه نبه عليه اهتماماً به وحضاً على الإحسان إليه.
والفحشاء : الزنا ، أو ما شنعته ظاهرة من المعاصي.
وفاعلها أبداً مستتر بها ، أو القبيح من فعل أو قول ، أو البخل ، أو موجب الحد في الدنيا والعذاب في الآخرة ، أو مجاوزة حدود الله أقوال ، أولها لابن عباس.

والمنكر : الشرك عن مقاتل ، أو ما وعد عليه بالنار عن ابن السائب ، أو مخالفة السريرة للعلانية عن ابن عيينة ، أو ما لا يوجب الحد في الدنيا لكن العذاب في الآخرة.
أو ما تنكره العقول أقوال ، ويظهر أنه أعم من الفحشاء لاشتماله على المعاصي والرذائل والبغي : التطاول بالظلم والسعاية فيه ، وهو داخل في المنكر ، ونبه عليه اهتماماً باجتنابه.
وجمع في المأمور به والمنهي عنه بين ما يجب ويندب ، وما يحرم ويكره ، لاشتراك ذلك في قدر مشترك وهو الطلب في الأمر ، والترك في النهي.
وقال أبو عبد الله الرازي : أمر بثلاثة ، ونهى عن ثلاثة.
فالعدل التوسط بين الإفراط والتفريط ، وذلك في العقائد وأعمال الرعاة.
فقال ابن عباس : العدل لا إله إلا الله ، وهو إثبات الإله الواحد ، فليس تعطيلاً محضاً ولا إثبات أكثر من إله.
وإثبات كونه عالماً قادراً واجب الصفات فليس نفياً للصفات ، ولا إثبات صفة حادثة متغيرة.
وكون فعل العبد بواسطة قدرته تعالى ، والداعية التي جعلها فيه فليس جبراً محضاً ، ولا استقلالاً بالفعل.
وكونه تعالى يخرج من النار من دخلها من أهل التوحيد ، فليس إرجاء ولا تخليداً بالمعصية.
وأما أعمال الرعاة فالتكاليف اللازمة لهم ، فليس قولاً بأنه لا تكليف ، ولا قولاً بتعذيب النفس واجتناب ما يميل الطبع إليه من : أكل الطيب ، والتزوج ، ورمي نفسه من شاهق ، والقصاص ، أو الدية ، أو العفو ، فليس تشديداً في تعيين القصاص كشريعة موسى عليه السلام ، ولا عفواً حتماً كشريعة عيسى عليه السلام ، وتجنب الحائض في اجتناب وطئها فقط فليس اجتناباً مطلقاً كشريعة موسى عليه السلام ، ولا حل وطئها حالة الحيض كشريعة عيسى عليه السلام ، والاختتان فليس إبقاء للقلفة ولا قطعاً للآلة كما ذهب إليه المانوية.
وقال تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } { والذين إذا أنفقوا } ولا تجعل الآيتين.
ومن المشهور قولهم بالعدل : قامت السموات والأرض ، ومعناه : إن مقادير العناصر لو لم تكن متعادلة ، وكان بعضها أزيد ، لغلب الازدياد وانقلبت الطبائع.
فالشمس لو قربت من العالم لعظمت السخونة واحترق ما فيه ، ولو زاد بعدها لاستوى الحر والبرد.
وكذا مقادير حركات الكواكب ، ومراتب سرعتها ، وبطئها.
والإحسان : الزيادة على الواجب من الطاعات بحسب الكمية والكيفية ، والدواعي ، والصوارف ، والاستغراق في شهود مقامات العبودية والربوبية.
ومن الإحسان الشفقة على الخلق ، وأصلها صلة الرحم ، والمنهي عنه ثلاثة.
وذلك أنه أودع في النفس البشرية قوى أربعة : الشهوانية وهي تحصيل اللذات ، والغضبية وهي : إيصال الشر ، ووهمية : وهي شيطانية تسعى في الترفع والتراوس على الناس.
فالفحشاء ما نشأ عن القوّة الشهوانية الخارجة عن أدب الشريعة ، والمنكر ما نشأ عن الغضبية ، والبغي ما نشأ عن الوهمية انتهى ما تخلص من كلامه عفا الله عنه.

ولما أمر تعالى بتلك الثلاث ، ونهى عن تلك الثلاث قال : يعظكم به ، أي بما ذكر تعالى من أمر ونهي ، والمعنى : ينبهكم أحسن تنبيه لعلكم تذكرون أي : تتنبهون لما أمرتم به ونهيتم عنه ، وعقد الله علم لما عقده الإنسان والتزمه مما يوافق الشريعة.
وقال الزمخشري : هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } وكأنه لحظ ما قيل أنها نزلت في الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، رواه عن بريدة.
وقال قتادة ومجاهد : فيما كان من تحالف الجاهلية في أمر بمعروف أو نهي عن منكر.
وقال ميمون بن مهران : الوفاء لمن عاهدته مسلماً كان أو كافراً ، فإنما العهد لله.
وقال الأصم : الجهاد وما فرض في الأموال من حق.
وقيل : اليمين بالله ، ولا تنقضوا العهود الموثقة بالإيمان ، نهى عن نقضها تهمماً بها بعد توكيدها أي : توثيقها باسم الله وكفالة الله وشهادته ، ومراقبته ، لأن الكفيل مراع لحال المكفول به.
ولا تكونوا أي : في نقض العهد بعد توكيده بالله كالمرأة الورهاء تبرم فتل غزلها ثم تنقضه نكثاً ، وهو ما يحل فتله.
والتشبيه لا يقتضي تعيين المشبه به.
وقال السدي ، وعبد الله بن كثير : هي امرأة حمقاء كانت بمكة.
وعن الكلبي ومقاتل : هي من قريش خرقاء اسمها ريطة بنت سعد بن تيم ، تلقب بجفراء ، اتخذت مغزلاً قدر ذراع ، وصنارة مثل أصبع ، وفلكة عظيمة على قدرها ، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ، ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن.
وعن مجاهد : هذا فعل نساء أهل نجد ، تنقض إحداهن غزلها ثم تنفشه ، وتخلطه بالصوف فتغزله.
وقال ابن الأنباري : ريطة بنت عمرو المرية ، ولقبها الجفراء من أهل مكة ، وكانت معروفة عند المخاطبين.
والظاهر أنّ المراد بقوله : من بعد قوّة أي : شدة حدثت من تركيب قوى الغزل.
ولو قدرناها واحدة القوى لم تكن تنتقض أنكاثاً.
والنكث في اللغة الحبل إذا انتقضت قواه.
وقال مجاهد : المعنى من بعد إمرار قوة.
والدخل : الفساد والدغل ، جعلوا الإيمان ذريعة إلى الخدع والغدر ، وذلك أن المحلوف له مطمئن ، فيمكن الحالف ضره بما يريده.
قالوا : نزلت في العرب كانوا إذا حالفوا قبيلة فجاء أكثر منها عدداً حالفوه وغدروا بالتي كانت أقل.
وقيل : أن تكونوا أنتم أزيد خبراً ، فأسند إلى أمة ، والمراد المخاطبون.
وقال ابن بحر : الدخل والداخل في الشيء لم تكن منه ، ودخلاً مفعول ثان.
وقيل : مفعول من أجله ، وأن تكون أي : بسبب أن تكون وهي أربى مبتدأ وخبر.
وأجاز الكوفيون أن تكون هي عماداً يعنون فضلاً ، فيكون أربى في موضع نصب ، ولا يجوز ذلك عند البصريين لتنكير أمة.
والضمير في به عائد على المصدر المنسبك من أن تكون أي : بسبب كون أمة أربى من أمة يختبركم بذلك.
قال الزمخشري : لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله ، وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوتهم وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم وليبينن لكم : إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام انتهى.
وقيل : يعود على الوفاء بالعهد.
وقال ابن جبير ، وابن السائب ، ومقاتل : يعود على الكثرة.
قال ابن الأنباري : لما كان تأنيثها غير حقيقي حمل على معنى التذكير ، كما حملت الصيحة على الصياح.

وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)

نفذ الشيء ينفذ فنى.
{ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } : هذه المشيئة مشيئة اختيار على مذهب أهل السنة ، ابتلى الناس بالأمر والنهي ليذهب كل إلى ما يسر له ، وذلك لحق الملك لا يسأل عما يفعل.
ولو شاء لكانوا كلهم على طريق واحدة ، إما هدى ، وإما ضلالة ، ولكنه فرق ، فناس للسعادة ، وناس للشقاوة.
فخلق الهدى والضلال ، وتوعد بالسؤال عن العمل ، وهو سؤال توبيخ لا سؤال تفهم ، وسؤال التفهم هو المنفى في آيات.
ومذهب المعتزلة أن هذه المشيئة مشيئة قهر.
قال العسكري : المراد أنه قادر على أن يجمعكم على الإسلام قهراً ، فلم يفعل ذلك ، وخلقكم ليعذب من يشاء على معصيته ، ويثيب من يشاء على طاعته ، ولا يشاء شيئاً من ذلك إلا أن يستحقه.
ويجوز أن يكون المعنى : أنه لو شاء خلقكم في الجنة ، ولكن لم يفعل ذلك ليثيب المطيعين منكم ، ويعذب العصاة.
ثم قال : ولتسألن عما كنتم تعملون يعني : سؤال المحاسبة والمجازاة.
وفيه دليل على أنّ الإضلال في الآية العقاب ، ولو كان الإضلال عن الدين لم يكن لسؤاله إياهم معنى.
وقال الزمخشري : أمة واحدة حنيفة مسلمة على طريق الإلجاء والاضطرار ، وهو قادر على ذلك ، ولكن الحكمة اقتضت أن يضل من يشاء ، وهو أن يخذل من علم أنه يختار الكفر ويصمم عليه ، ويهدي من يشاء وهو أنْ يلطف بمن علم الله أنه يختار الإيمان ، يعني : أنه بنى الأمر على الاختيار ، وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان والثواب والعقاب ، ولم ينبه على الإجبار الذي لا يستحق به شيء من ذلك ، وحققه بقوله : ولتسألن عما كنتم تعملون.
ولو كان هذا المضطر إلى الضلال والاهتداء ، لما أثبت لهم عملاً يسألون عنه انتهى.
قالوا : كرر النهي عن اتخاذ الأيمان دخلاً تهمماً بذلك ، ومبالغة في النهي عنه لعظم موقعه في الدين.
قال ابن عطية : وتردده في معاملات الناس.
وقال الزمخشري : تأكيداً عليهم ، وإظهار العظم ما يرتكب منه انتهى.
وقيل : إنما كرر لاختلاف المعنيين : لأن الأول نهى فيه عن الدخول في الحلف ونقض العهد بالقلة والكثرة ، وهنا نهي عن الدخل في الإيمان التي يراد بها اقتطاع حقوق ، فكأنه قال : دخلاً بينكم لتتوصلوا بها إلى قطع أموال المسلمين ، وأقول : لم يتكرر النهي عن اتخاذ الأيمان دخلاً ، وإنما سبق إخبار بأنهم اتخذوا أيمانهم دخلاً معللاً بشيء خاص وهو : أن تكون أمة هي أربى من أمة.

وجاء النهي بقوله : ولا تتخذوا ، استئناف إنشاء عن اتخاذ الإيمان دخلاً على العموم ، فيشمل جميع الصور من الحلف في المبايعة ، وقطع الحقوق المالية ، وغير ذلك.
وانتصب فتزل على جواب النهي ، وهو استعارة لمن كان مستقيماً ووقع في أمر عظيم وسقط ، لأنّ القدم إذا زلت تقلب الإنسان من حال خير إلى حال شر.
وقال كثير : فلما توافينا ثبت وزلت.
قال الزمخشري : فنزل أقدامكم عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها.
( فإن قلت ) : لم وجدت القدم ونكرت؟ ( قلت ) : لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن ثبتت عليه ، فكيف بأقدام كثيرة انتهى؟ ونقول : الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع ، وتارة يلحظ فيه اعتبار كل فرد فرد ، فإذا لوحظ فيه المجموع كان الإسناد معتبراً فيه الجمعية ، وإذا لوحظ كل فرد فرد كان الإسناد مطابقاً للفظ الجمع كثيراً ، فيجمع ما أسند إليه ، ومطابقاً لكل فرد فرد فيفرد كقوله : { وأعتدت لهن متكأ } أفرد متكأ لما كان لوحظ في قوله لهن معنى لكل واحدة ، ولو جاء مراداً به الجمعية أو على الكثير في الوجه الثاني لجمع المتكأ ، وعلى هذا المعنى ينبغي أن يحمل قول الشاعر :
فإني وجدت الضامرين متاعهم . . .
يموت ويفنى فارضخي من وعائيا
أي : رأيت كل ضامر.
ولذلك أفرد الضمير في يموت ويفنى.
ولما كان المعنى هنا : لا يتخذ كل واحد منكم ، جاء فنزل قدم مراعاة لهذا المعنى ثم قال : وتذوقوا ، مراعاة للمجموع ، أو للفظ الجمع على الوجه الكثير.
إذا قلنا : إن الإسناد لكل فرد فرد ، فتكون الآية قد تعرضت للنهي عن اتخاذ الأيمان دخلاً باعتبار المجموع وباعتبار كل فرد فرد ، ودل على ذلك بإفراد قدم وبجمع الضمير في : وتذوقوا.
وما مصدرية في بما صددتم ، أي : بصدودكم أو بصدكم غيركم ، لأنهم لو نقضوا الأيمان وارتدوا لاتخذ نقضها سنة لغيرهم فيسبون بها ، وذوق السوء في الدنيا.
ولكم عذاب عظيم أي : في الآخرة.
والسوء : ما يسوءهم من قتل ، ونهب ، وأسر ، وجلاء ، وغير ذلك مما يسوء.
قال ابن عطية : وقوله صددتم عن سبيل الله ، يدل على أنّ الآية فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا فسر الزمخشري قال : لأنهم قد نقضوا أيمان البيعة.
ولا يدل على ذلك لخصوصه ، بل نقض الأيمان في البيعة مندرج في العموم.
ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً ، هذا نهي عن نقض ما بين الله تعالى والعبد لأخذ حطام من عرض الدنيا.
قال الزمخشري : كان قوم ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين وإيذائهم لهم ، ولما كانوا يعدونهم إنْ رجعوا من المواعيد أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبتهم الله.

ولا تشتروا : ولا تستبدلوا بعهد الله وبيعة رسول الله ثمناً قليلاً عرضاً من الدنيا يسيراً ، وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنونهم إن رجعوا أنّ ما عند الله من إظهاركم وتغنيمكم ومن ثواب الآخرة خير لكم.
وقال ابن عطية : هذه آية نهي عن الرشا وأخذ الأموال على ترك ما يجب على الآخذ فعله ، أو فعل ما يجب عليه تركه ، فإن هذه هي التي عهد الله إلى عباده فيها وبين تعالى الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة ، بأنّ هذه تنفد وتنقضي عن الإنسان ، وينقضي عنها ، والتي في الآخرة باقية دائمة.
ودل قوله : وما عند الله باق ، على أن نعيم الجنة لا ينقطع ، وفي ذلك حجة على جهم بن صفوان إذ زعم أن نعيم الجنة منقطع.
وقرأ عاصم ، وابن كثير : ولنجزين بالنون ، وباقي السبعة بالياء.
وصبروا : أي جاهدوا أنفسهم على ميثاق الإسلام وأذى الكفار ، وترك المعاصي ، وكسب المال بالوجه الذي لا يحل بأحسن ما كانوا يعملون.
قيل : من التنفل بالطاعات ، وكانت أحسن لأنها لم يحتم فعلها ، فكان الإنسان يأتي بالتنفلات مختاراً غير ملزوم بها.
وقيل : ذكر الأحسن ترغيباً في عمله ، وإن كانت المجازاة على الحسن والأحسن.
وقيل : الأحسن هنا بمعنى الحسن ، فليس أفعل التي للتفضيل.
والذي يظهر أنّ المراد بالأحسن هنا الصبر أي : وليجزين الذين صبروا بصبرهم أي : بجزاء صبرهم ، وجعل الصبر أحسن الأعمال لاحتياج جميع التكاليف إليه ، فالصبر هو رأسها ، فكان الأحسن لذلك.
ومن صالحة للمفرد والمذكر وفروعهما.
لكن يتبادر إلى الذهن الإفراد والتذكير ، فبين بالنوعين ليعم الوعد كليهما.
وهو مؤمن : جملة حالية ، والإيمان شرط في العمل الصالح مخصص لقوله : { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره } أو يراد بمثقال ذرة من إيمان ، كما جاء في من يخرج من النار من عصاة المؤمنين ، والظاهر من قوله تعالى : فلنحيينه حياة طيبة ، أنّ ذلك في الدنيا وهو قول الجمهور؛ ويدل عليه قوله : ولنجزينهم أجرهم يعني في الآخرة ، وقال الحسن ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، وابن زيد : ذلك في الجنة.
وقال شريك : في القبر.
وقال عليّ ، ووهب بن منبه ، وابن عباس ، والحسن في رواية عنهما هي : القناعة ، وعن ابن عباس والضحاك : الرزق الحلال ، وعنه أيضاً : السعادة.
وقال عكرمة : الطاعة.
وقال قتادة : الرزق في يوم بيوم ، وقال إسماعيل بن إبي خالد : الرزق الطيب والعمل الصالح ، وقال أبو بكر الورّاق : حلاوة الطاعة ، وقيل : العافية والكفاية ، وقيل : الرضا بالقضاء ، ذكرهما الماوردي.
وقال الزمخشري : المؤمن مع العمل الصالح إنْ كان موسراً فلا مقال فيه ، وإن كان معسراً فمعه ما يطيب عيشه ، وهو القناعة والرضا بقسمة الله تعالى.

والفاجر إن كان معسراً فلا إشكال في أمره ، وإن كان موسراً فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه.
وقال ابن عطية : طيب الحياة للصالحين بانبساط نفوسهم ونيلها وقوة رجائهم ، والرجاء للنفس أمر ملذ ، وبأنهم احتقروا الدنيا فزالت همومها عنهم ، فإن انضاف إلى هذا مال حلال وصحة وقناعة فذاك كمال ، وإلا فالطيب فيما ذكرنا راتب.
وعاد الضمير في فلنحيينه على لفظه من مفرداً ، وفي ولنجزينهم على معناها من الجمع ، فجمع.
وروي عن نافع : وليجزينهم بالياء بدل النون ، التفت من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة.
وينبغي أن يكون على تقدير قسم ثان لا معطوفاً على فلنحيينه ، فيكون من عطف جملة قسمية على جملة قسمية ، وكلتاهما محذوفتان.
ولا يكون من عطف جواب على جواب ، لتغاير الإسناد ، وإفضاء الثاني إلى إخبار المتكلم عن نفسه بإخبار الغائب ، وذلك لا يجوز.
فعلى هذا لا يجوز : زيد قلت والله لأضربن هنداً ولينفينها ، يريد ولينفيها زيد.
فإنْ جعلته على إضمار قسم ثان جاز أي : وقال زيد لينفينها لأن ، لك في هذا التركيب أن تحكى لفظه ، وأن تحكى على المعنى.
فمن الأول : { وليحلفن بالله إن أردنا إلا الحسنى } ومن الثاني : { يحلفون بالله ما قالوا } ولو جاء على اللفظ لكان ما قلنا.

فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)

لما ذكر تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } وذكر أشياء مما بين في الكتاب ، ثم ذكر قوله : { من عمل صالحاً } ذكر ما يصون به القارىء قراءته من وسوسة الشيطان ونزغه ، فخاطب السامع بالاستعادة منه إذا أخذ في القراءة.
فإن كان الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم لفظاً فالمراد أمته ، إذ كانت قراءة القرآن من أجل الأعمال الصالحة كما ورد في الحديث : " إن ثواب قراءة كل حرف عشر حسنات " والظاهر بعقب الاستعاذة.
وقد روى ذلك بعض الرواة عن حمزة ، وروي عن ابن سيرين أنه قال : كلما قرأت الفاتحة حين تقول : آمين ، فاستعذ.
وروي عن أبي هريرة ، ومالك ، وداود.
تعقبها القراءة كما روي عن حمزة والجمهور : على ترك هذا الظاهر وتأويله بمعنى : فإذا أردت القراءة.
قال الزمخشري : لأنّ الفعل يوجد عند القصد والإرادة بغير فاصل وعلى حسبه ، فكان بسبب قوى وملابسة ظاهرة كقوله : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } وكقوله : «إذا أكلت فسم الله» وقال ابن عطية : فإذا وصلة بين الكلامين والعرب تستعملها في مثل هذا ، وتقدير الآية : فإذا أخذت في قراءة القرآن فاستعذ ، أمر بالاستعاذة.
فالجمهور على الندب ، وعن عطاء الوجوب.
والظاهر : طلب الاستعاذة عند القراءة مطلقاً ، والظاهر : أنّ الشيطان المراد به إبليس وأعوانه.
وقيل : عام في كل متمرد عاتٍ من جن وإنس ، كما قال شياطين الإنس والجن.
واختلف في كيفية الاستعاذة ، والذي صار إليه الجمهور من القراء وغيرهم واختاروه : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، لما روى عبد الله بن مسعود ، وأبو هريرة ، وجبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم : «نه استعاذ عند القراءة بهذا اللفظ بعينه» ونفى تعالى سلطان الشيطان عن المؤمنين.
والسلطان هنا التسليط والولاية ، والمعنى : أنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته كما قال تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } وكما أخبر تعالى عنه فقال في قصة أوليائه : { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي } وقيل : المراد بالسلطان الحجة ، وظاهر الإخبار انتفاء سلطنته على المؤمنين مطلقاً.
وقيل : ليس له عليهم سلطان لاستعاذتهم منه.
وقيل : ليس له قدرة أن يحملهم على ذنب ، والضمير في به عائد على بهم ، وقيل : على الشيطان ، وهو الظاهر لاتفاق الضمائر والمعنى : والذين هم بإشراكهم إبليس مشركون بالله ، أو تكون الباء للسبية ، والأمر بالاستعاذة يقتضي أنها تصرف كيد الشيطان ، كأنها متضمنة التوكل على الله والانقطاع إليه.
ولما ذكر تعالى إنزال الكتاب تبييناً لكل شيء ، وأمر بالاستعاذة ند قراءته ، ذكر تعالى نتيجة ولاية الشيطان لأوليائه المشركين ، وما يلقيه إليهم من الأباطيل ، فألقى أليهم إنكار النسخ لما رأوا تبديل آية مكان آية.

وتقدم الكلام في النسخ في البقرة.
والظاهر أنّ هذا التبديل رفع آية لفظاً ومعنى ، ويجوز أن يكون التبديل لحكم المعنى وإبقاء اللفظ.
ووجد الكفار بذلك طعناً في الدين ، وما علموا أنّ المصالح تختلف باختلاف الأوقات والأشخاص ، وكما وقع نسخ شريعة بشريعة يقع في شريعة واحدة.
وأخبر تعالى أنه العالم بما ينزل لا أنتم ، وما ينزل مما يقره وما يرفعه ، فمرجع علم ذلك إليه ، وهو على حسب الحوادث والمصالح ، وهذه حكمة إنزاله شيئاً فشيئاً ، وهذه الجملة اعتراض بين الشرط وجوابه.
قيل : ويحتمل أن يكون حالاً.
وبالغوا في نسبة الافتراء للرسول بلفظ إنما ، وبمواجهة الخطاب ، وباسم الفاعل الدال على الثبوت ، وقال : بل أكثرهم ، لأن بعضهم يعلم ويكفر عناداً.
ومفعول لا يعلمون محذوف لدلالة المعنى عليه أي : لا يعلمون أنّ الشرائع حكم ومصالح.
هذه الآية دلت على وقوع نسخ القرآن بالقرآن.
وروح القدس : هنا هو جبريل عليه السلام بلا خلاف ، وتقدم لم سمي روح القدس.
وأضاف الرب إلى كاف الخطاب تشريفاً للرسول صلى الله عليه وسلم باختصاص الإضافة ، وإعراضاً عنهم ، إذ لم يضف إليهم.
وبالحق حال أي : ملتبساً بالحق سواء كان ناسخاً أو منسوخاً ، فكله مصحوب بالحق لا يعتريه شيء من الباطل.
وليثبت معناه أنهم لا يضطربون في شيء منه لكونه نسخ ، بل النسخ مثبت لهم على إيمانهم ، لعلمهم أنه جميعه من عند الله ، لصحة إيمانهم واطمئنان قلوبهم يعلمون أنه حكيم ، وأنّ أفعاله كلها صادرة عن حكمة ، فهي صواب كلها.
ودل اختصاص التعليل بالمسلمين على اتصاف الكفار بضده من لحاق الاضطراب لهم وتزلزل عقائدهم وضلالهم.
وقرىء : ليثبت مخففاً من أثبت.
قال الزمخشري : وهدى وبشرى مفعول لهما معطوفان على محل ليثبت انتهى.
وتقدم الرد عليه في نحو هذا ، وهو قوله : { لتبين لهم الذي اختلفوا فيه } وهدى ورحمة في هذه السورة.
ولا يمتنع عطفه على المصدر المنسبك من أن والفعل ، لأنه مجرور ، فيكون وهدى وبشرى مجرورين كما تقول : جئت لأحسن إلى زيد وإكرام لخالد ، إذ التقدير : لإحسان إلى زيد.
وأجاز أبو البقاء أن يكون ارتفاع هدى وبشرى على إضمار مبتدأ أي : وهو هدى وبشرى.
ولما نسبوه عليه السلام للافتراء وهو الكذب على الله ، لم يكتفوا بذلك حتى جعلوا ذلك الافتراء الذي نسبوه هو من تعليم بشر إياه ، فليس هو المختلق بل المختلق غيره ، وهو ناقل عنه.
وظاهر قولهم : إنما أنت مفتر.
إنّ معناه : مختلق الكذب ، وهو ينافي التعلم من البشر ، فيحتمل أن يكون قوله : مفتر ، في نسبة ذلك إلى الله ، ويحتمل أن يكونوا فيه طائفتين : طائفة ذهبت إلى أنه هو المفتري ، وطائفة أنه يتعلم من البشر.
ويعلم مضارع اللفظ ومعناه : المضي أي : ولقد علمنا ، وجاء إسناد التعليم إلى مبهم لم يعين.
فقيل : هو حبر غلام ورمى كان لعامر بن الحضرمي ، وقيل : عائش أو يعيش ، وكان صاحب كتب مولى حويطب بن عبد العزى وكان قد أسلم فحسن إسلامه قاله : الفراء ، والزجاج.

وقيل : أبو فكيهة أعجمي مولى لمرأة بمكة.
قيل : واسمه يسار وكان يهودياً قاله : مقاتل ، وابن جبير ، إلا أنه لم يقل كان يهودياً.
وقال ابن زيد : كان رجلاً حداداً نصرانياً اسمه عنس.
وقال حصين بن عبد الله بن مسلم : كان لنا غلامان نصرانيان من أهل عين التمر ، يسار وحبر ، كانا يقرآن كتباً لهما بلسانهم ، وكان صلى الله عليه وسلم يمر بهما فيسمع قراءتهما.
قيل : وكانا حدادين يصنعان السيوف ، فقال المشركون : يتعلم منهما فقيل لأحدهما ذلك فقال : بل هو يعلمني ، فقال ابن عباس : كان في مكة غلام أعجمي لبعض قريش يقال له : بلعام ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه الإسلام فقالت قريش : هذا يعلم محمداً من جهة الأعاجم.
وقال الضحاك : الإشارة إلى سلمان الفارسي ، وضعف هذا من جهة أنّ سلمان إنما أسلم بعد الهجرة ، وهذا السورة مكية إلا ما نبه عليه أنه مدني.
واللسان : هنا اللغة.
وقرأ الحسن : اللسان الذي بتعريف اللسان بأل ، والذي صفته.
وقرأ حمزة والكسائي : يلحدون من لحد ثلاثياً ، وهي قراءة عبد الله بن طلحة ، والسلمي ، والأعمش ، ومجاهد ، وقرأ باقي السبعة ، وابن القعقاع : بضم الياء وكسر الحاء من ألحد رباعياً وهما بمعنى واحد.
قال الزمخشري : يقال ألحد القبر ولحده ، فهو ملحد وملحوداً ذا أمال حفره عن الاستقامة فحفر في شق منه ، ثم استعير لكل إمالة عن استقامة فقالوا : ألحد فلان في قوله : وألحد في دينه لأنه أمال دينه عن الأديان كلها ، لم يمله من دين إلى دين.
والمعنى : لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان أعجمي غير بين ، وهذا القرآن لسان عربي مبين ذو بيان وفصاحة ، ردّاً لقولهم وإبطالاً لطعنهم انتهى.
وظاهر قول الزمخشري : إن اللسان في الموضعين اللغة.
وقال ابن عطية : وهذا على أن يجعل اللسان هنا الجارحة.
واللسان في كلام العرب اللغة ، ويحتمل أن يراد وهذا على أن يجعل اللسان هنا الجارة.
واللسان في كلام العرب اللغة ، ويجتمل أن يراد في هذه الآية.
وقال الكرماني : المعنى أنتم أفصح وأبلغهم وأقدرهم على الكلام نظماً ونثراً ، وقد عجزتم وعجز جميع العرب ، فكيف تنسبونه إلى أعجمي ألكن؟
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : الجملة التي هي قوله لبيان الذي يلحدون إليه أعجمي ، ما محلها؟ ( قلت ) : لا محل لها ، لأنها مستأنفة جواب لقولهم ، ومثله قول الله : أعلم ، حيث يجعل رسالاته بعد قوله : { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } انتهى.
ويجوز عندي أن تكون جملة حالية فموضعها نصب وذلك أبلغ في الإنكار عليهم أي : يقولون ذلك والحالة هذه أي : علمهم بأعجمية هذا البشر وإبانة عربية هذا القرآن كان يمنعهم من تلك المقالة ، كما تقول : تشتم فلاناً وهو قد أحسن إليك أي : علمك بإحسانه لك كان يقتضي منعك من شتمه.

وإنما ذهب الزمخشري إلى الاستئناف ولم يذهب إلى الحال ، لأن من مذهبه أن مجيء الجملة الحالية الاسمية بغير واو شاذ ، وهو مذهب مرجوح جداً ، ومجيء ذلك بغير واو لا يكاد ينحصر كثرة في كلام العرب ، وهو مذهب تبع فيه الفراء ، وأما الله أعلم فظاهر قوله فيها ، لأنها جملة خالية من ضمير يعود على ذي الحال ، لأن ذا الحال هو ضمير قالوا ، وفي هذه الآية ذو الحال ضمير يقولون ، والضمير الذي في جملة الحال هو ضمير الفاعل في يلحدون ، فالجملة وإن عريت عن الواو ففيها ضمير ذي الحال.

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)

لما ذكر تعالى نسبتهم إلى الافتراء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأنّ ما أتى به من عند الله إنما يعلمه إياه بشر ، كان ذلك تسجيلاً عليهم بانتفاء الإيمان ، فأخبر تعالى عنهم أنهم لا يهديهم الله أبداً إذ كانوا جاحدين آيات الله ، وهو ما أتى به الرسول من المعجزات وخصوصاً القرآن ، فمن بالغ في جحد آيات الله سد الله عليه باب الهداية.
وذكر تعالى وعيده بالعذاب الأليم لهم ، ومعنى لا يهديهم : لا يخلق الإيمان في قلوبهم.
وهذا عام مخصوص ، فقد اهتدى قوم كفروا بآيات الله تعالى.
وقال الزمخشري : لا يهديهم الله لا يلطف بهم ، لأنهم من أهل الخذلان في الدنيا والعذاب في الآخرة ، لا من أهل اللطف والثواب انتهى.
وهو على طريقة الاعتزال.
وقال ابن عطية : المفهوم من الوجود أنّ الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بآياته ، ولكنه قدم في هذا الترتيب وأخبرتهما بتقبيح فعلهم والتشنيع بخطئهم ، وذلك كقوله : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } والمراد ما ذكرناه ، فكأنه قال : إن الذين لم يؤمنوا لم يهدهم الله انتهى.
وقال القاضي : أقوى ما قيل في ذلك لا يهديهم إلى طريق الجنة ، ولذلك قال بعده : ولهم عذاب أليم ، والمراد أنهم لما تركوا الإيمان بالله لا يهديهم الله إلى الجنة بل يسوقهم إلى النار.
وقال العسكري : يجوز أن يكون المعنى أنهم إن لم يؤمنوا بهذه الآيات لم يهتدوا ، والمراد بقوله : لا يهديهم الله أي لا يهتدون ، وإنما يقال : هدى الله فلاناً على الإطلاق إذا اهتدى هو ، وأما من لم يقبل الهدى فإنه يقال : إن الله هداه فلم يهتد ، كما قال : { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } ثم ردّ تعالى قولهم : { إنما أنت مفتر } بقوله : إنما يفتري الكذب ، أي إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن ، لأنه يترقب عقاباً عليه.
ولما كان في كلامهم إنما وهو يقتضي الحصر عند بعضهم ، جاء الرد عليهم بإنما أيضاً ، وجاء بلفظ يفتري الذي يقتضي التجدد ، ثم علق الحكم على الوصف المقتضي للافتراء وهو : انتفاء الإيمان ، وختم بقوله : وأولئك هم الكاذبون.
فاقتضى التوكيد البالغ والحصر بلفظ الإشارة ، والتأكيد بلفظ هم ، وإدخال أل على الكاذبون ، وبكونه اسم فاعل يقتضي الثبوت والدوام ، فجاء يفتري يقتضي التجدد ، وجاء الكاذبون يقتضي الثبوت والدوام.
وقال الزمخشري : وأولئك إشارة إلى قريش هم الكاذبون ، هم الذين لا يؤمنون فهم الكاذبون.
أو إلى الذين لا يؤمنون أي : وأولئك هم الكاذبون على الحقيقة الكاملون في الكذب ، لأن تكذيب آيات الله أعظم الكذب.
أو أولئك هم الكاذبون عادتهم الكذب لا يبالون به في كل شيء ، لا يحجبهم عنه مروءة ولا دين.
أو أولئك هم الكاذبون في قولهم : إنما أنت مفتر انتهى.

والوجه الذي بدأ به بعيد ، وهو أن وأولئك إشارة إلى قريش.
والظاهر أن من شرطية في موضع رفع على الابتداء ، وهو استئناف إخبار لا تعلق له بما قبله من جهة الإعراب.
ولما كان الكفر يكون باللفظ وبالاعتقاد ، استثنى من الكافرين من كفر باللفظ وقلبه مطمئن بالإيمان ، ورخص له في النطق بكلمة الكفر إذ كان قلبه مؤمناً ، وذلك مع الإكراه.
والمعنى : إلا من أكره على الكفر ، تلفظ بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان.
وجواب الشرط محذوف لدلالة ما بعده عليه تقديره : الكافرون بعد الإيمان غير المكرهين ، فعليهم غضب.
ويصح أن يكون الاستثناء من ما تضمنه جواب الشرط المحذوف أي : فعليهم غضب ، إلا من أكره فلا غضب عليه ولا عذاب ، ولكنْ من شرح وكذا قدره الزمخشري أعني الجواب قبل الاستثناء في قول مَن جعل مَن شرطاً.
وقال ابن عطية : وقالت فرقة مَن في قوله مَن كفر ابتداء ، وقوله : من شرح تخصيص منه ، ودخل الاستثناء لإخراج عمار وشبهه.
ودنا من الاستثناء الأول الاستدراك بلكن وقوله : فعليهم ، خبر عن مَن الأولى والثانية ، إذ هو واحد بالمعنى لأن الإخبار في قوله : من كفر ، إنما قصد به الصنف الشارح بالكفر انتهى.
وهذا وإن كان كما ذكر فهاتان جملتان شرطيتان ، وقد فصل بينهما بأداة الاستدراك ، فلا بد لكل واحدة منهما من جواب على انفراده لا يشتركان فيه ، فتقدير الحذف أحرى على صناعة الإعراب.
وقد ضعفوا مذهب أبي الحسن في ادعائه أن قوله : { فسلام لك من أصحاب اليمين } وقوله : { فروح وريحان } جواب لأما ، ولأنّ هذا وهما أداتا شرط ، إحداهما تلي الأخرى ، وعلى كون مَن في موضع رفع على الابتداء ، يجوز أن تكون شرطية كما ذكرنا ، ويجوز أن تكون موصولة وما بعدها صلتها ، والخبر محذوف لدلالة ما بعده عليه ، كما ذكرنا في حذف جواب الشرط.
إلا أنْ من الثانية لا يجوز أنْ تكون شرطاً حتى يقدر قبلها مبتدأ لأنّ من وليت لكنْ فيتعين إذ ذاك أن تكون مَن موصولة ، فإن قدر مبتدأ بعد لكن جاز أن تكون شرطية في موضع خبر ذلك المبتدأ المقدر كقوله :
ولكن متى يسترقد القوم أرفد . . .
أي : ولكن أنا متى يسترقد القوم أرقد.
وكذلك تقدر هنا ، ولكن هم من شرح بالكفر صدراً أي : منهم.
وأجاز الحوفي والزمخشري : أن تكون بدلاً من الذين لا يؤمنون ، ومن الكاذبون.
ولم يجز الزجاج إلا أن يكون بدلاً من الكاذبون ، لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام ، فعلقه بما قبله.
وأجاز الزمخشري أن يكون بدلاً من أولئك ، فإذا كان بدلاً من الذين لا يؤمنون فيكون قوله : وأولئك هم الكاذبون ، جملة اعتراض بين البدل والمبدل منه ، والمعنى : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء.

وإذا كان بدلاً من الكاذبون فالتقدير : وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه ، وإذا كان بدلاً من أولئك فالتقدير : ومَن كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون.
وهذه الأوجه الثلاثة عندي ضعيفة.
لأنّ الأول يقتضي أنه لا يفتري الكذب إلا من كفر بالله من بعد إيمانه ، والوجود يقتضي أنّ من يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن ، وسواء كان ممن كفر بعد الإيمان أنه كان ممن لم يؤمن قط ، بل من لم يؤمن قط هم الأكثرون المفترون الكذب.
وأما الثاني فيؤول المعنى إلى ذلك ، إذ التقدير : وأولئك أي الذين لا يؤمنون هم من كفر بالله من بعد إيمانه ، والذين لا يؤمنون هم المفترون.
وأما الثالث فكذلك.
إذ التقدير : أن المشار إليهم هم من كفر بالله من بعد إيمانه ، مخبر عنهم بأنهم الكاذبون.
وقال الزمخشري : ويجوز أن ينتصب على الذم انتهى.
وهذا أيضاً بعيد ، والذي تقتضيه فصاحة الكلام جعل الجمل كلها مستقلة لا ترتبط بما قبلها من حيث الإعراب ، بل من حيث المعنى.
والمناسبة وفي قوله : إلا من أكره دليل على أنّ من فعل المكره لا يترتب عليه شيء ، وإذا كان قد سومح لكلمة الكفر أو فعل ما يؤدي إليه ، فالمسامحة بغيره من المعاصي أولى.
وقد تكلموا في كيفية الإكراه المبيح لذلك ، وفي تفصيل الأشياء التي يقع الإكراه فيها ، وذلك كله مذكور في كتب الفقه.
والمكرهون على الكفر المعذبون على الإسلام : خباب ، وصهيب ، وبلال ، وعمار ، وأبواه ياسر وسمية ، وسالم ، وحبر ، عذبوا فأجابهم عمار وحبر باللفظ فخلى سبيلهما ، وتمادى الباقون على الإسلام فقتل ياسر وسمية ، وهما أول قتيل في الإسلام ، وعذب بلال وهو يقول : ( أحد أحد ) وعذب خباب بالنار فما أطفأها إلا ودك ظهره.
وجمع الضمير في فعليهم على معنى من ، وأفرد في شرح على لفظها.
والظاهر أنّ ذلك إشارة إلى ما استحقوه من الغضب والعذاب أي : كائن لهم بسبب استحبابهم الدنيا على الآخرة.
وقال الزمخشري : واستحقاقهم خذلان الله بكفرهم انتهى.
وهي نزغة اعتزالية.
والضمير في بأنهم عائد على من في من شرح : ولما فعلوا فعل من استحب ، ألزموا ذلك وإن كانوا غيره مصدقين بآخره ، لكن من حيث أعرضوا عن النظر فيه كانوا كمن استحب غيره.
وقوله : استحبوا ، هو تكسب منهم علق به العقاب ، وأنّ الله لا يهدي إشارة إلى اختراع الله الكفر في قلوبهم ، فجمعت الآية بين الكسب والاختراع ، وهذا عقيدة أهل السنة.
وقيل : ذلك إشارة إلى الارتداد والإقدام على الكفر ، لأجل أنهم رجحوا الدنيا على الآخرة ، ولأنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان.
وتقدم الكلام على الطبع على القلوب والسمع والأبصار والختم عليها.
وأولئك هم الغافلون : قال ابن عباس : عن ما يراد منهم في الآخرة.
وقال الزمخشري : الكاملون في الغفلة الذين لا أحد أغفل منهم ، لأن الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها.

ولما كان الإسناد ليكتسب بالطاعات سعادة الآخر ، فعمل على عكس ذلك من المعاصي الكفر وغيره عظم خسرانه فقيل فيهم : هم الخاسرون ولا غيرهم.
ومن أخسر ممن اتصف بتلك الأوصاف السابقة من كينونة غضب الله عليهم ، والعذاب الأليم ، واستحباب الدنيا ، وانتفاء هدايتهم ، والإخبار بالطبع وبغفلتهم.
ولما ذكر تعالى حال من كفر بعد الإيمان ، وحال من أكره ، ذكر حال من هاجر بعد ما فتن.
قال ابن عطية : وهذه الآية مدنية ، ولا أعلم في ذلك خلافاً.
وقال ابن عباس : نزلت فكتب بها المسلمون إلى من كان أسلم بمكة أنّ الله قد جعل لكم مخرجاً ، فخرجوا ، فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل ، فعلى هذا السبب يكون جهادهم مع الرسول على الإسلام.
وروي أنهم خرجوا واتبعوا وجاهدوا متبعيهم ، فقتل من قتل ، ونجا من نجا ، فنزلت حينئذ ، فعنى بالجهاد جهادهم لمتبعيهم.
وقال ابن إسحاق : نزلت في عمار ، وعياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد.
قال ابن عطية : وذكر عمار في هذا غير قويم ، فإنه أرفع من طبقة هؤلاء ، وإنما هؤلاء من باب ممن شرح بالكفر صدراً أفتح الله لهم باب التوبة في آخر الآية.
وقال عكرمة والحسن : نزلت في شأن عبد الله بن أبي سرح وأشباهه ، فكأنه يقول : من بعد ما فتنهم الشيطان.
وقال الزمخشري : ثم إن ربك دلالة على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك ، وهم عمار وأصحابه.
وللذين عند الزمخشري في موضع خبران قال : ومعنى إن ربك لهم إنه لهم لا عليهم ، بمعنى أنه وليهم وناصرهم ، لا عدوهم وخاذلهم كما يكون الملك للرجل : لا عليه ، فيكون محمياً منفوعاً غير مضرور انتهى.
وقوله : منفوعاً اسم مفعول من نفع ، وهو قياسه لأنه متعد ثلاثي.
وزعم الأهوازي النحوي أنه لا يستعمل من نفع اسم مفعول ، فلا يقال منفوع وقفت له عليه في شرحه موجز الرماني.
وقال أبو البقاء : خبر إن الأولى قوله : إن ربك لغفور ، وأن الثانية واسمها تكرير للتوكيد انتهى.
وإذا كانت أنّ الثانية واسمها تكريراً للتوكيد كما ذكر ، فالذي يقتضيه صناعة العربية أن يكون خبر إنّ الأولى هو قوله : لغفور ، ويكون للذين متعلقاً بقوله : لغفور ، أو برحيم على الأعمال ، لأنّ إن ربك الثانية لا يكون لها طلب لما بعدها من حيث الإعراب.
كما أنك إذا قلت : قام قام زيد ، فزيد إنما هو مرفوع بقام الأولى ، لأن الثانية ذكرت على سبيل التوكيد للأولى.
وقيل : لا خبر لأن الأولى في اللفظ لأن خبر الثانية أغنى عنه انتهى.
وهذا ليس بجيد ، لأنه ألغى حكم الأولى وجعل الحكم للثانية ، وهو عكس ما تقدم ، ولا يجوز.
وقيل : للذين متعلق بمحذوف على جهة البيان كأنه قيل : أعني للذين ، أي الغفران للذين.

وقرأ الجمهور : فتنوا مبنياً للمفعول أي : بالعذاب والإكراه على كلمة الكفر.
وقرأ ابن عامر : فتنوا مبنياً للفاعل ، والظاهر أن الضمير عائد على الذين هاجروا ، فالمعنى : فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول كما فعل عمار.
أو لما كانوا صابرين على الإسلام وعذبوا بسبب ذلك صاروا كأنهم هم المعذبون أنفسهم ، ويجوز أن يكون عائداً على المشركين أي : من بعد ما عذبوا المؤمنين كالحضرمي وأشباهه.
والضمير في مَن بعدها عائد على المصادر المفهومة من الأفعال السابقة أي : من بعد الفتنة والهجرة والجهاد والصبر.
وقال ابن عطية : والضمير في بعدها عائد على الفتنة ، أو الهجرة ، أو التوبة ، والكلام يعطيها وإن لم يجر لها ذكر صريح.

يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)

يوم منصوب على الظرف ، وناصبه رحيم ، أو على المفعول به ، وناصبه اذكر.
والظاهر عموم كل نفس ، فيجادل المؤمن والكافر ، وجداله بالكذب والجحد ، فيشهد عليهم الرسل والجوارح ، فحينئذ لا ينطقون.
وقالت فرقة : الجدال قول كل أحد من الأنبياء وغيرهم : نفسي نفسي.
قال ابن عطية : وهذا ليس بجدال ولا احتجاج ، إنما هو مجرد رغبة.
واختار الزمخشري هذا القول ، وركب معه ما قبله فقال : كأنه قيل يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره ، كل يقول : نفسي نفسي.
ومعنى المجادلة الاعتذار عنها كقولهم : { هؤلاء أضلونا ما كنا مشركين } { ما كنا مشركين } ونحو ذلك.
وقال : يقال لعين الشيء وذاته نفسه ، وفي نقيضه غيره ، والنفس الجملة كما هي ، فالنفس الأولى هي الجملة ، والثانية عينها وذاتها.
وقال ابن عطية : أي كل ذي نفس ، ثم أجرى الفعل على المضاف إليه المذكور ، فأثبت العلامة.
ونفس الأولى هي النفس المعروفة ، والثانية هي بمعنى البدن كما تقول : نفس الشيء وعينه أي ذاته.
وقال العسكري : الإنسان يسمي نفساً تقول العرب : ما جاءني إلا نفس واحدة أي : إنسان واحد.
والنفس في الحقيقة لا تأتي ، لأنها هي الشيء الذي يعيش به الإنسان انتهى.
( فإن قلت ) : لِمَ لم يتعد الفعل إلى الضمير ، لا إلى لفظ النفس؟ ( قلت ) : منع من ذلك أنّ الفعل إذا لم يكن من باب ظن ، وفقد لا يتعدى فعل ظاهر فاعله ، ولا مضمره إلى مضمره المتصل ، فلذلك لم يجيء التركيب تجادل عنها ، ولذلك لا يجوز : ضربتها هند ولا هند ضربتها ، وإنما تقول : ضربت نفسها هند ، وضربت هند نفسها ، ما عملت أي : جزاء ما عملت من إحسان أو إساءة ، وأنث الفعل في تأتي ، والضمير في تجادل وفي عن نفسها ، وفي توفي ، وفي عملت ، حملاً على معنى كل ، ولو روعي اللفظ لذكر.
وقال الشاعر :
جادت عليها كل عين ثرة . . .
فتركن كل حديقة كالدرهم
فأنث على المعنى.
وما ذكر عن ابن عباس : أنّ الجدال هنا هو جدال الجسد للروح ، والروح للجسد لا يظهر قال : يقول الجسد : رب جاء الروح بأمرك به نطق لساني وأبصرت عيني ومشت رجلي ، فتقول الرّوح : أنت كسبت وعصيت لا أنا ، وأنت كنت الحامل وأنا المحمول ، فيقول الله عز وجل : أضرب لكما مثل أعمى حمل مقعداً إلى بستان فأصابا من ثماره ، فالعذاب عليكما.
وعن ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد ، وقتادة : أن القرية المضروب بها المثل مكة ، كانت لا تغزي ولا يغار عليها ، والأرزاق تجلب إليها ، وأنعم الله عليها بالرسول صلى الله عليه وسلم فكفرت ، فأصابها السنون والخوف.
وسرايا الرسول وغزواته ضربت مثلاً لغيرها مما يأتي بعدها.
وهذا وإن كانت الآية مدنية ، وإن كانت مكية فجوع السنين وخوف العذاب بسبب التكذيب.

ويؤيد كونها مكية قوله : ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه ، ويجوز أن يكون قرية من قرى الأولين.
وعن حفصة : أنها المدينة.
وقال ابن عطية : يتوجه عندي أنها قصد بها قرية غير معينة ، جعلت مثلاً لمكة على معنى التحذير لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة.
وقال الزمخشري : يجوز أن يراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، وأن يكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها ، فضربها الله مثلاً لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها انتهى.
ولا يجوز أنْ يراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، بل لا بد من وجودها لقوله : ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون.
كانت آمنة ابتدأ بصفة الأمن ، لأنه لا يقيم لخائف.
والاطمئنان زيادة في الأمن ، فلا يزعجها خوف.
يأتيها رزقها أقواتها واسعة من جميع جهاتها ، لا يتعذر منها جهة.
وأنعم جمع نعمة ، كشدّة وأشد.
وقال قطرب : جمع نعم بمعنى النعيم ، يقال : هذه أيام طعم ونعم انتهى.
فيكون كبؤس وأبؤس.
وقال الزمخشري : جمع نعمة على ترك التاء ، والاعتداد بالتاء كدرع وأدرع.
وقال العقلاء : ثلاثة ليس لها نهاية : الأمن ، والصحة والكفاية.
قال أبو عبد الله الرازي : أمنة إشارة إلى الأمن ، مطمئنة إشارة إلى الصحة ، لأن هواء ذلك لما كان ملازماً لأمزجتهم اطمأنوا إليها واستقروا ، يأتيها رزقها السبب في ذلك دعوة إبراهيم عليه السلام : { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات } و قال : الأنعم جمع نعمة وجمع قلة ، ولم يأت بنعم الله وذلك أنه قصد التنبيه بالأدنى على الأعلى بمعنى أنّ كفران النعم القليلة أوجب العذاب ، فكفران الكثيرة أولى بإيجابه.
قال ابن عطية : لما باشرهم ذلك صار كاللباس ، وهذا كقول الأعشى :
إذا ما الضجيع ثنى جيدها . . .
تثنت فكانت عليه لباسا
ونحو قوله تعالى : { هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهن } ومنه قول الشاعر :
وقد لبست بعد الزبير مجاشع . . .
ثياب التي حاضت ولم تغسل الدما
كأن العار لما باشرهم ولصق بهم جعلهم لبسوه.
وقوله : فأذاقها الله ، نظير قوله : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } ونظير قول الشاعر :
دونك ما جنيته فاحس وذق . . .
وقال الزمخشري : الإذاقة واللباس استعارتان ، فما وجه صحتهما؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس فما وجه صحة إيقاعها؟ ( قلت ) : أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر ، وإذاقة العذاب شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر والبشع.
وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث.
وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف فلأنه لما وقع عبارة : عما يغشى منهما ويلابس ، فكأنه قيل : فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف ، ولهم في نحو هذا طريقان : أحدهما : أن ينظروا فيه إلى المستعار له ، كما نظر إليه ههنا ، ونحوه قول كثير :

غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً . . .
غلقت لضحكته رقاب المال
استعار الرداء للمعروف ، لأنه يصون عرض صاحبه ، صون الرداء لما يلقى عليه.
ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال ، لا صفة الرداء ، نظراً إلى المستعار له.
والثاني : أن ينظروا فيه إلى المستعار كقوله :
ينازعني ردائي عبد عمرو . . .
رويدك يا أخا عمرو بن بكر
لي الشطر الذي ملكت يميني . . .
ودونك فاعتجر منه بشطر
أراد بردائه سيفه ثم قال : فاعتجر منه بشطر ، فنظر إلى المستعار في لفظ : الاعتجار ، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقيل : فكساهم لبس الجوع والخوف ، ولقال كثير : ضافي الرداء إذا تبسم ضاحكاً انتهى.
وهو كلام حسن.
ولما تقدم ذكر الأمن وإتيان الرزق ، قابلهما بالجوع الناشىء عن انقطاع الرزق وبالخوف.
وقدم الجوع ليلى المتأخر وهو إتيان الرزق كقوله : { يوم تبيضّ وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم } وأما قوله : { فمنهم شقي وسعيد } فأما الذين شقوا ففي النار فقدم ما بدىء به وهما طريقان.
وقرأ الجمهور : والخوف بالجرّ عطفاً على الجوع.
وروي العباس عن أبي عمرو : والخوف بالنصب عطفاً على لباس.
قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل.
وقال الزمخشري : يجوز أن يكون على تقدير حذف المضاب وإقامة المضاف إليه مقامه ، أصله ولباس الخوف.
وقرأ عبد الله فأذاقها الله الخوف والجوع ، ولا يذكر لباس.
والذي أقوله : إنّ هذا تفسير المعنى لا قراءة ، لأن المنقول عنه مستفيضاً مثل ما في سواد المصحف.
وفي مصحف أبي بن كعب لباس الخوف والجوع ، بدأ بمقابل ما بدأ به في قوله : كانت آمنة ، وهذا عندي إنما كان في مصحفه قبل أن يجمعوا ما في سواد المصحف الموجود الآن شرقاً وغرباً ، ولذلك المستفيض عن أبي في القراءة إنما هو كقراءة الجماعة بما كانوا يصنعون من كفران نعم الله ، ومنها تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاءهم.
والضمير في بما كانوا يصنعون عائد على المحذوف في قوله : وضرب الله مثلاً قرية ، أي : قصة أهل قرية ، أعاد الضمير أولاً على لفظ قرية ، ثم على المضاف المحذوف كقوله : { فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون } والظاهر أن الضمير في ولقد جاءهم ، عائد على ما عاد عليه في قوله : بما كانوا يصنعون.
وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون الضمير في جاءهم لأهل تلك المدينة ، يكون هذا بما جرى فيها كمدينة شعيب عليه السلام وغيره ، ويحتمل أن يكون لأهل مكة.
وقال أبو عبد الله الرازي : لما ذكر المثل قال : ولقد جاءهم يعني أهل مكة رسول منهم يعني من أنفسهم يعرفونه بأصله ونسبه ، ولما وعظ تعالى بضرب ذلك المثل وصل هذا الأمر للمؤمنين بالفاء ، فأمر المؤمنين بأكل ما رزقهم وشكر نعمته ليباينوا تلك القرية التي كفرت بنعم الله.
ولما تقدم فكفرت بأنعم الله جاء هنا : واشكروا نعمة الله.
وفي البقرة جاء : { يا أيها الذين آمنوا كلوا مما رزقناكم } لم يذكر من كفر نعمته فقال : { واشكروا الله } ولما أمرهم بالأكل مما رزقهم ، عدد عليهم محرماته تعالى ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم دون اتباع ما شرع الله على لسان أنبيائه.
وكذا جاء في البقرة ذكر ما حرم إثر قوله : كلوا مما رزقناكم.
وقوله : إنما حرم الآية تقدّم تفسير مثلها في البقرة.

وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)

لما بين تعالى ما حرم ، بالغ في تأكيد ذلك بالنهي عن الزيادة فيما حرم كالبحيرة ، والسائبة ، وفيما أحل كالميتة والدم ، وذكر تعالى تحريم هؤلاء الأربع في سورة الأنعام.
وهذه السورة وهما مكيتان بأداة الحصر ، ثم كذلك في سورة البقرة والمائدة بقوله : { أحلت لكم } الآية وأجمعوا على أن المراد : { مما يتلى عليكم } هو قوله : { حرمت عليكم } الآية وهما مدنيتان فكان هذا التحريم لهذه الأربع مشرعاً ثانياً في أول مكة وآخرها ، وأول المدينة وآخرها.
فنهى تعالى أن يحرموا ويحلوا من عند أنفسهم ، ويفترون بذلك على الله حيث ينسبون ذلك إليه.
وقرأ الجمهور الكذب بفتح الكاف والباء وكسر الذال ، وجوزوا في ما في هذه القراءة أن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوف تقديره : للذي تصفه ألسنتكم.
وانتصب الكذب على أنه معمول لتقولوا أي : ولا تقولوا الكذب للذي تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة ، من غير استناد ذلك الوصف إلى الوحي.
وهذا حلال وهذا حرام بدل من الكذب ، أو على إضمار فعل أي : فتقولوا هذا حلال وهذا حرام.
وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يكون انتصاب الكذب على أنه بدل من الضمير المحذوف العائد على ما ، كما تقول : جاءني الذي ضربت أخاك ، أي ضربته أخاك.
وأجاز أبو البقاء أن يكون منصوباً بإضمار أعني.
وقال الكسائي والزجاج : ما مصدرية ، وانتصب الكذب على المفعول به أي : لوصف ألسنتكم الكذب.
ومعمول : ولا تقولوا ، الجملة من قوله : هذا حلال وهذا حرام ، والمعنى : ولا تحللوا ولا تحرموا لأجل قول تنطق به ألسنتكم كذباً ، لا بحجة وبينة.
وهذا معنى بديع ، جعل قولهم : كأنه عين الكذب ومحضه ، فإذا نطقت به ألسنتهم فقد جلت الكذب بحليته وصورته بصورته كقولهم : وجهه يصف الجمال ، وعينها تصف السحر.
وقرأ الحسن ، وابن يعمر ، وطلحة ، والأعرج ، وابن أبي إسحاق ، وابن عبيد ، ونعيم بن ميسرة : بكسر الباء ، وخرج على أن يكون بدلاً من ما ، والمعنى الذي : تصفه ألسنتكم الكذب.
وأجاز الزمخشري وغيره أن يكون الكذب بالجر صفة لما المصدرية.
قال الزمخشري : كأنه قيل : لوصفها الكذب بمعنى الكاذب كقوله تعالى : { بدم كذب } والمراد بالوصف وصفها البهائم بالحل والحرمة انتهى.
وهذا عندي لا يجوز ، وذلك أنهم نصوا على أنّ أنْ المصدرية لا ينعت المصدر المنسبك منها ومن الفعل ، ولا يوجد من كلامهم : يعجبني أنْ قمت السريع ، يريد قيامك السريع ، ولا عجبت من أنْ تخرج السريع أي : من خروجك السريع.
وحكم باقي الحروف المصدرية حكم أنّ فلا يوجد من كلامهم وصف المصدر المنسبك من أنْ ولا ، من ما ولا ، من كي ، بخلاف صريح المصدر فإنه يجوز أن ينعت ، وليس لكل مقدر حكم المنطوق به وإنما يتبع في ذلك ما تكلمت به العرب.

وقرأ معاذ ، وابن أبي عبلة ، وبعض أهل الشام : الكذب بضم الثلاثة صفة للألسنة ، جمع كذوب.
قال صاحب اللوامح : أو جمع كاذب أو كذاب انتهى.
فيكون كشارف وشرف ، أو مثل كتاب وكتب ، ونسب هذه القراءة صاحب اللوامح لمسلمة بن محارب.
وقال ابن عطية : وقرأ مسلمة بن محارب الكذب بفتح الياء على أنه جمع كذاب ، ككتب في جمع كتاب.
وقال صاحب اللوامح : وجاء عن يعقوب الكذب بضمتين والنصب ، فأما الضمتان فلأنه جمع كذاب وهو مصدر ، ومثله كتاب وكتب.
وقال الزمخشري : بالنصب على الشتم ، أو بمعنى الكلم الكواذب ، أو هو جمع الكذاب من قولك : كذب كذاباً ذكره ابن جني انتهى.
والخطاب على قول الجمهور بقوله : ولا تقولوا ، للكفار في شأن ما أحلوا وما حرموا من أمور الجاهلية ، وعلى ذلك الزمخشري وابن عطية.
وقال العسكري : الخطاب للمكلفين كلهم أي : لا تسموا ما لم يأتكم حظره ولا إباحته عن الله ورسوله حلالاً ولا حراماً ، فتكونوا كاذبين على الله في إخباركم بأنه حلله وحرمه انتهى.
وهذا هو الظاهر ، لأنه خطاب معطوف على خطاب وهو : فكلوا إنما حرم عليكم ، فهو شامل لجميع المكلفين.
واللام في لتفتروا لام التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض ، قاله الزمخشري ، وهي التي تسمى لام العاقبة ولام الصيرورة.
قيل : ذلك الافتراء ما كان غرضاً لهم ، والظاهر أنها لام التعليل وأنهم قصدوا الافتراء كما قالوا : { وجدنا عليها آباءنا } والله أمرنا بها ، ولا يكون ذلك على سبيل التوكيد لما تقدم لتضمنه الكذب ، لأنّ هذا التعليل فيه التنبيه على من افتروه عليه ، وهو الله تعالى.
وقال الواحدي : لتفتروا على الله الكذب يدل من قوله : لما تصف ألسنتكم الكذب ، لأنّ وصفهم الكذب هو افتراء على الله ، ففسر وصفهم بالافتراء على الله انتهى.
وهو على تقدير ما مصدرية ، وأما إذا كانت بمعنى الذي فاللام في لما ليست للتعليل ، فيبدل منها ما يقتضي التعليل ، بل اللام متعلقة بلا تقولوا على حد تعلقها في قولك : لا تقولوا ، لما أحل الله هذا حرام أي : لا تسموا الحلال حراماً ، وكما تقول لزيد عمرو أي لا تطلق على زيد هذا الاسم.
والظاهر أنهم افتروا على الله حقيقة ، وهو ظاهر الافتراء الوارد في آي القرآن.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد أنه كان شرعهم لاتباعهم سنناً لا يرضاها الله افتراء عليه ، لأنّ من شرع أمراً فكأنه قال لتابعه : هذا هو الحق ، وهذا مراد الله.
ثم أخبر تعالى عن الذين يفترون على الله الكذب بانتفاء الفلاح.
والفلاح : الظفر بما يؤمل ، فتارة يكون في البقاء كما قال الشاعر :
والمسى والصبح لا فلاح معه . . .
وتارة في نجح المساعي كما قال عبيد بن الأبرص :
أفلح بما شئت فقد يب . . .
لغ بالضعف وقد يخدع الأريب
وارتفاع متاع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، فقدر الزمخشري منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة وعقابها عظيم.

وقال ابن عطية : عيشهم في الدنيا.
وقال العسكري : يجوز أن يكون المتاع هنا ما حللوه لأنفسهم مما حرمه الله تعالى.
وقال أبو البقاء : بقاؤهم متاع قليل.
وقال الحوفي : متاع قليل ابتداء وخبر انتهى.
ولا يصح إلا بتقدير الإضافة أي : متاعهم قليل.
ولما بيّن تعالى ما يحل وما يحرم لأهل الإسلام ، أتبعه بما كان خص به اليهود محالاً على ما تقدم ذكره في سورة الأنعام ، وهذا يدل على أنّ سورة الأنعام نزلت قبل هذه السورة ، إذ لا تصح الحوالة إلا بذلك.
ويتعلق من قبل بقصصنا ، وهو الظاهر.
وقيل : بحرمنا ، والمحذوف الذي في من قبل تقديره من قبل تحريمنا على أهل ملتك.
والسوء هنا قال ابن عباس : الشرك قبل المعرفة بالله انتهى.
ما يسوء صاحبه من كفر ومعصية غيره.
والكلام في للذين عملوا وما يتعلق به تقدم نظيره في قوله : { ثم إن ربك للذين هاجروا } فأغنى عن إعادته.
وقال قوم : بجهالة تعمد.
وقال ابن عطية : ليست هنا ضد العلم ، بل تعدى الطور وركوب الرأس منه : أو أجهل أو يُجهل عليّ.
وقول الشاعر :
ألا لا يجهلنَّ أحد علينا . . .
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
والتي هي ضد العلم ، تصحب هذه كثيراً ، ولكن يخرج منها المتعمد وهو الأكثر.
وقلّ ما يوجد في العصاة من لم يتقدم له علم بخطر المعصية التي يواقع انتهى.
ملخصاً.
وقال الزمخشري : بجهالة في موضع الحال أي : عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه ، أو غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم.
وقال سفيان : جهالته أن يلتذ بهواه ، ولا يبالي بمعصية مولاه.
وقال الضحاك : باغترار الحال عن المآل.
وقال العسكري : ليس المعنى أنه يغفر لمن يعمل السوء بجهالة ، ولا يغفر لمن عمله بغير جهالة ، بل المراد أن جميع من تاب فهذا سبيله ، وإنما خص من يعمل السوء بجهالة ، لأنّ أكثر من يأتي الذنوب يأتيها بقلة فكر في عاقبة ، أو عند غلبة شهوة ، أو في جهالة شباب ، فذكر الأكثر على عادة العرب في مثل ذلك.
والإشارة بذلك إلى عمل السوء ، وأصلحوا : استمروا على الإقلاع عن تلك المعصية.
وقيل : أصلحوا آمنوا وأطاعوا ، والضمير في من بعدها عائد على المصادر المفهومة من الأفعال السابقة أي : من بعد عمل السوء والتوبة والإصلاح.
وقيل : يعود على الجهالة.
وقيل : على السوء على معنى المعصية.

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)

لما أبطل تعالى مذاهب المشركين في هذه السورة من إثبات الشركاء لله ، والطعن في نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتحليل ما حرّم ، وتحريم ما أحل ، وكانوا مفتخرين بجدهم إبراهيم عليه السلام مقرين بحسن طريقته ووجوب الاقتداء به ، ذكره في آخر السورة وأوضح منهاجه ، وما كان عليه من توحيد الله تعالى ورفض الأصنام ، ليكون ذلك حاملاً لهم على الاقتداء به.
وأيضاً فلما جرى ذكر اليهود بيَّن طريقة إبراهيم ليظهر الفرق بين حاله وحالهم ، وحال قريش.
وقال مجاهد : سمي أمّة لانفراده بالإيمان في وقته مدّة ما.
وفي البخاري أنه قال لسارة : ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك.
والأمة لفظ مشترك بين معان منها : الجمع الكثير من الناس ، ثم يشبه به الرجل الصائم ، أو الملك ، أو المنفرد بطريقة وحده عن الناس فسمي أمة ، وقاله ابن مسعود والفراء وابن قتيبة.
وقال ابن عباس : كان عنده من الخير ما كان عنده أمة ، ومن هنا أخذ الحسن بن هانىء قوله :
وليس على الله بمستنكر . . .
أن يجمع العالم في واحد
وعن ابن مسعود : إنه معلم الخير ، وأطلق هو وعمر ذلك على معاذ فقال : كان أمة قانتاً.
وقال ابن الأنباري : هذا مثل قول العرب : فلان رحمة ، وعلامة ، ونسابة ، يقصدون بالتأنيث التناهي في المعنى الموصوف به.
وقيل : الأمة الإمام الذي يقتدي به من أم يؤم ، والمفعول قد يبنى للكثرة على فعلة وتقدم تفسير القانت ، والحنيف : شاكراً لأنعمة.
روي أنه كان لا يتغدى إلا مع ضيف ، فلم يجد ذات يوم ضيفاً فأخر غداه ، فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر ، فدعاهم إلى الطعام ، فخيلوا أنَّ بهم جذاماً فقال : الآن وجبت مؤاكلتكم ، شكر الله على أنه عافاني وابتلاكم.
ورتيناه في الدنيا حسنة ، قال قتادة : حببه الله تعالى إلى كل الخلق ، فكل أهل الأديان يتولونه اليهود والنصارى والمسلمون ، وخصوصاً كفار قريش ، فإنّ فخرهم إنما هو به ، وذلك بإجابة دعوته.
{ واجعل لي لسان صدق في الآخرين } وقيل : الحسنة قول المصلي منا : كما صليت على إبراهيم.
وقال ابن عباس : الذكر الحسن.
وقال الحسن : النبوة.
وقال مجاهد : لسان صدق.
وقال قتادة : القبول ، وعنه تنويه الله بذكره.
وقيل : الأولاد الأبرار على الكبر.
وقيل : المال يصرفه في الخير والبر.
{ وإنه لمن الصالحين } ، تقدم الكلام على هذه الجملة في البقرة ، ولما وصف إبراهيم عليه السلام بتلك الأوصاف الشريفة أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملته ، وهذا الأمر من جملة الحسنة التي آتاها الله إبراهيم في الدنيا.
قال ابن فورك : وأمر الفاضل باتباع المفضول ، لما كان سابقاً إلى قول الصواب والعمل به.
وقال الزمخشري : ثم أوحينا في ثم هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإجلال محله ، والإيذان بأنّ أشرف ما أوتي يخليل الله إبراهيم عليه السلام من الكرامة ، وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته ، من قبل أنها على تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليها بها انتهى.

وأنْ تفسيرية ، أو في موضع المفعول.
واتباع ملته قال قتادة : في الإسلام ، وعنه أيضاً : جميع ملته إلا ما أمر بتركه.
وعن عمرو بن العاص : مناسك الحج.
وقال القرطبي : الصحيح عقائد الشرع دون الفروع لقوله : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } وقيل : في التبري من الأوثان.
وقال قوم كان على شريعة ابراهيم ، وليس له شرع ينفرد به ، وإنما المقصود من بعثته إحياء شرع ابراهيم عليه السلام.
قال أبو عبد الله الرازي : وهذا القول ضعيف ، لأنه وصف إبراهيم في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين ، فلما قال : اتبع ملة ابراهيم ، كان المراد ذلك.
فإن قيل : النبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية ، وإذا كان كذلك لم يكن متابعاً له ، فيمتنع حمل قوله : أن اتبع ، على هذا المعنى ، فوجب حمله على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها.
( قلت ) : يحتمل أن يكون المراد متابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد ، وهي أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة ، وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن انتهى.
ولا يحتاج إلى هذا ، لأنّ المعتقد الذي تقتضيه دلائل العقول لا يمتنع أنْ يوحي لتظافر المعقول والمنقول على اعتقاده.
ألا ترى إلى قوله تعالى : { قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد } فليس اعتقاد الوحدانية بمجرد الوحي فقط ، وإنما تظافر المنقول عن الله في ذلك مع دليل العقل.
وكذلك هنا أخبر تعالى أنّ ابراهيم لم يكن مشركاً ، وأمر الرسول باتباعه في ذلك ، وإن كان انتفاء الشرك ليس مستنده مجرد الوحي ، بل الدليل العقلي والدليل الشرعي تظافراً على ذلك.
وقال ابن عطية : قال مكي : ولا يكون يعني حنيفاً حالاً من ابراهيم لأنه مضاف إليه ، وليس كما قال لأنّ الحال قد تعمل فيها حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال كقولك : مررت بزيد قائماً انتهى.
أما ما حكى عن مكي وتعليله امتناع ذلك بكونه مضافاً إليه ، فليس على إطلاق هذا التعليل لأنه إذا كان المضاف إليه في محل رفع أو نصب ، جازت الحال منه نحو : يعجبني قيام زيد مسرعاً ، وشرب السويق ملتوتاً.
وقال بعض النحاة : ويجوز أيضاً ذلك إذا كان المضاف جزءاً من المضاف إليه كقوله : { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً } أو كالجزء منه كقوله : { ملة إبراهيم حنيفاً }

وقد بينا الصحيح في ذلك فيما كتبناه على التسهيل ، وعلى الألفية لابن مالك.
وأما قول ابن عطية في رده على مكي بقوله : وليس كما قال ، لأنّ الحال إلى آخره فقول بعيد عن قول أهل الصنعة ، لأن الباء في بزيد ليست هي العاملة في قائماً ، وإنما العامل في الحال مررت ، والباء وإن عملت الجر في زيد فإنّ زيداً في موضع نصب بمررت ، وكذلك إذا حذف حرف الجر حيث يجوز حذفه نصب الفعل ذلك الاسم الذي كان مجروراً بالحرف.
ولما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم باتباع ملة ابراهيم عليه السلام ، وكان الرسول قد اختار يوم الجمعة ، فدل ذلك على أنه كان في شرع ابراهيم ، بين أنّ يوم السبت لم يكن تعظيمه ، واتخاذه للعبادة من شرع ابراهيم ولا دينه ، والسبت مصدر ، وبه سمي اليوم.
وتقدم الكلام في هذا اللفظ في الأعراف.
قال الزمخشري : سبتت اليهود إذا عظمت سبتها والمعنى : إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه ، واختلافهم فيه : أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة ، وكان الواجب عليهم أنْ يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة بعدما حتم الله عليهم الصبر عن الصيد فيه ، والمعنى في ذكر ذلك نحو المعنى في ضرب القرية التي كفرت بأنعم الله مثلاً ، وغير ما ذكر وهو الإنذار من سخط الله على العصاة والمخالفين لأوامره والخالعين ربقة طاعته.
( فإن قلت ) : فما معنى الحكم بينهم إذا كانوا جميعاً محلين أو محرمين؟ ( قلت ) : معناه أنه يجازيهم جزاء اختلاف فعلهم في كونهم محلين تارة ومحرمين أخرى ، ووجه آخر وهو أنّ موسى عليه السلام أمرهم أنْ يجعلوا في الأسبوع يوماً للعبادة ، وأن يكون يوم الجمعة ، فأبوا عليه وقالوا : نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السموات والأرض وهو السبت ، إلا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة ، فهذا اختلافهم في السبت ، لأنّ بعضهم اختاره ، وبعضهم اختار عليه الجمعة ، فأذن الله لهم في السبت ، وابتلاهم بتحريم الصيد فيه ، فأطاع أمر الله الراضون بالجمعة فكانوا لا يصيدون ، وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله دون أولئك.
وهو يحكم بينهم يوم القيامة ، فيجازي كل واحد من الفريقين بما يستوجبه.
ومعنى جعل السبت : فرض عليهم تعظيمه ، وترك الاصطياد فيه انتهى.
وهو كلام ملفق من كلام المفسرين قبله.
وقال الكرماني : عدي جعل بعلى ، لأن اليوم صار عليهم لا لهم ، لارتكابهم المعاصي فيه انتهى.
ولهذا قدره الزمخشري : إنما جعل وبال السبت.
وقال الحسن : جعل السبت لعنة عليهم بأن جعل منهم القردة.
وقال ابن عباس : إن الله سبحانه قال : ذروا الأعمال في يوم الجمعة وتفرغوا فيه لعبادتي ، فقالوا : نريد السبت ، لأن الله تعالى فرغ فيه من خلق السموات والأرض ، فهو أولى بالراحة.
وقرأ أبو حيوة : جعل بفتح الجيم والعين مبنياً للفاعل ، وعن ابن مسعود والأعمش : أنهما قرآ إنما أنزلنا السبت ، وهي تفسير معنى لا قراءة ، لأنها مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه ، ولما استفاض عن الأعمش وابن مسعود أنهما قرآ كالجماعة.

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)

أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ، وهو أن يسمع المدعو حكمة ، وهو الكلام الصواب القريب الواقع من النفس أجمل موقع.
وعن ابن عباس : أنّ الحكمة القرآن ، وعنه : الفقه.
وقيل : النبوّة.
وقيل : ما يمنع من الفساد من آيات ربك المرغبة والمرهبة.
والموعظة الحسنة مواعظ القرآن عن ابن عباس ، وعنه أيضاً : الأدب الجميل الذي يعرفونه.
وقال ابن جرير : هي العبر المعدودة في هذه السورة.
وقال ابن عيسى : الحكمة المعروفة بمراتب الأفعال والموعظة الحسنة أن تختلط الرغبة بالرهبة ، والإنذار بالبشارة.
وقال الزمخشري : إلى سبيل ربك الإسلام ، بالحكمة بالمقالة المحكمة الصحيحة ، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة ، والموعظة الحسنة وهي التي لا تخفى عليهم إنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها ، ويجوز أن يريد القرآن أي : ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة ، وجادلهم بالتي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف.
وقال ابن عطية : الموعظة الحسنة التخويف والترجئة والتلطف بالإنسان بأن تجله وتنشطه ، وتجعله بصورة من قبل الفضائل ونحو هذا.
وقالت فرقة : هذه الآية منسوخة بآية القتال ، وقالت فرقة : هي محكمة.
وإن عاقبتم أطبق أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة وغيره في يوم أحد ، ووقع ذلك في صحيح البخاري ، وفي كتاب السير.
وذهب النحاس إلى أنها مكية ، والمعنى متصل بما قبلها اتصالاً حسناً ، لأنها تتدرج الذنب من الذي يدعي ، وتوعظ إلى الذي يجادل ، إلى الذي يجازى على فعله ، ولكن ما روى الجمهور أثبت انتهى.
وذهبت فرقة منهم ابن سيرين ومجاهد : إلى أنها نزلت فيمن أصيب بظلامة أنْ لا ينال من ظالمه إذا تمكن الأمثل ظلامته لا يتعداها إلى غيرها ، وسمى المجازاة على الذنب معاقبة لأجل المقابلة ، والمعنى : قابلوا من صنع بكم صنيع سوء بمثله ، وهو عكس : { ومكروا ومكر الله } المجاز في الثاني وفي : وإنْ عاقبتم في الأول.
وقرأ ابن سيرين : وإنْ عقبتم فعقبوا بتشديد القافين أي : وإنْ قفيتم بالانتصار فقفوا بمثل ما فعل بكم.
والظاهر عود الضمير إلى المصدر الدال عليه الفعل مبتدأ بالإضافة إليهم أي : لصبركم وللصابرين أي : لكم أيها المخاطبون ، فوضع الصابرين موضع الضمير ثناء من الله عليهم بصبرهم على الشدائد ، وبصبرهم على المعاقبة.
وقيل : يعود إلى جنس الصبر ، ويراد بالصابرين جنسهم ، فكأنه قيل : والصبر خير للصابرين ، فيندرج صبر المخاطبين في الصبر ، ويندرجون هم في الصابرين.
ونحوه : { فمن عفا وأصلح } { وأن تعفوا أقرب للتقوى } ولما خير المخاطبون في المعاقبة والصبر عنها عزم على الرسول صلى الله عليه وسلم في الذي هو خير وهو الصبر ، فأمر هو وحده بالصبر.

ومعنى بالله : بتوفيقه وتيسيره وإرادته.
والضمير في عليهم يعود على الكفار ، وكذلك في يمكرون كما قال : { فلا تأس على القوم الكافرين } وقيل : يعود على القتلى الممثل بهم حمزة ، ومن مثل به يوم أحد.
وقرأ الجمهور : في ضيق بفتح الضاد.
وقرأ ابن كثير : بكسرها ، ورويت عن نافع ، ولا يصح عنه ، وهما مصدران كالقيل والقول عند بعض اللغويين.
وقال أبو عبيدة : بفتح الضاد مخفف من ضيق أي : ولا تك في أمر ضيق كلين في لين.
وقال أبو علي : الصواب أن يكون الضيق لغة في المصدر ، لأنه إنْ كان مخففاً من ضيق لزم أن تقام الصفة مقام الموصوف إذا تخصص الموصوف ، وليس هذا موضع ذلك ، والصفة إنما تقوم مقام الموصوف إذا تخصص الموصوف من نفس الصفة كما تقول : رأيت ضاحكاً ، فإنما تخصص الإنسان.
ولو قلت : رأيت بارداً لم يحسن ، وببارد مثل سيبويه وضيق لا يخصص الموصوف.
وقال ابن عباس ، وابن زيد : إنّ ما في هذه الآيات من الأمر بالصبر منسوخ ، ومعنى المعية هنا بالنصرة والتأييد والإعانة

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)

سبب نزول { سبحان الذي أسرى بعبده } ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش الإسراء به وتكذبيهم له ، فأنز الله ذلك تصديقاً له ، وهذه السورة مكية قال صاحب الغنيان بإجماع وقيل : إلا آيتين { وإن كادوا ليفتنونك } { وإن كادوا ليستفزونك } وقيل : إلا أربع هاتان وقوله : { وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس } وقوله { وقل رب أدخلني مدخل صدق } ، وزاد مقاتل قوله تعالى : { إن الذين أوتوا العلم من قبله } الآية وقال قتادة إلا ثماني آيات أنزلت بالمدينة وهي من قوله : { وإن كادوا ليفتنونك } إلى آخرهن.
ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه تعالى لما أمره بالصبر ونهاه عن الحزن عليهم وأن يضيق صدره من مكرهم ، وكان من مكرهم نسبته إلى الكذب والسحر والسعر وغير ذلك مما رموه به ، أعقب تعالى ذلك بذكر شرفه وفضله واحتفائه به وعلو منزلته عنده ، وتقدّم الكلام على سبحان في البقرة.
وزعم الزمخشري أنه علم للتسبيح كعثمان للرجل.
وقال ابن عطية : ولم ينصرف لأن في آخره زائدتين وهو معرفة بالعلمية وإضافته لا تزيده تعريفاً انتهى.
ويعنيان والله أعلم أنه إذا لم يضف كقوله :
سبحان من علقمة الفاخر . . .
وأما إذا أضيف فلو فرضنا أنه علم لنوي تنكيره ثم يضاف وصار إذ ذاك تعريفه بالإضافة لا بالعلمية.
و { أسرى } بمعنى سرى وليست الهمزة فيه للتعدية وعدّيا بالباء ولا يلزم من تعديته بالباء المشاركة في الفعل ، بل المعنى جعله يسرى لأن السرى يدل على الانتقال كمشى وجرى وهو مستحيل على الله تعالى ، فهو كقوله : { لذهب بسمعهم } أي لأذهب سمعهم ، فأسرى وسرى على هذا كسقى وأسقى إذا كانا بمعنى واحد ، ولذلك قال المفسرون معناه سرى بعبده.
وقال ابن عطية : ويظهر أن { أسرى } معداة بالهمزة إلى مفعول محذوف تقديره أسرى الملائكة بعبده لأنه يقلق أن يسند أسرى وهو بمعنى سرى إلى الله تعالى إذ هو فعل يعطي النقلة كمشى وجرى وأحضر وانتقل ، فلا يحسن إسناد شيء من هذا ونحن نجد مندوحة فإذا صرحت الشريعة بشيء من هذا النحو كقوله في الحديث : « أتيته سعياً وأتيته هرولة » حمل ذلك بالتأويل على الوجه المخلص من نفي الحوادث ، و { أسرى } في هذه الآية تخرج فصيحة كما ذكرنا ولا يحتاج إلى تجوز قلق في مثل هذه اللفظة فإنه ألزم للنقلة من أتيته وأتى الله بنيانهم انتهى.
وإنما احتاج ابن عطية إلى هذه الدعوى اعتقاد أنه إذا كان أسرى بمعنى سرى لزم من كون الباء للتعدية مشاركة الفاعل للمفعول وهذا شيء ذهب إليه المبرد ، فإذا قلت : قمت بزيد لزم منه قيامك وقيام زيد عنده وهذا ليس كذلك ، التبست عنده باء التعدية بباء الحال ، فباء الحال يلزم فيه المشاركة إذ المعنى قمت ملتبساً بزيد وباء التعدية مرادفة للهمزة ، فقمت بزيد والباء للتعدية كقولك أقمت زيداً ولا يلزم من إقامتكه أن تقوم أنت.

قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون أسرى بمعنى سرى على حذف مضاف كنحو قوله تعالى : { ذهب الله بنورهم } يعني أن يكون التقدير لسرت ملائكته بعبده ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وهذا مبني على اعتقاد أنه يلزم المشاركة والباء للتعدية وأيضاً فموارد القرآن في فأسر بقطع الهمزة ووصلها يقتضي أنهما بمعنى واحد ، ألا ترى أن قوله : { فأسر بأهلك } { وان أسْرِ بعبادي } قرىء بالقطع والوصل ، ويبعد مع القطع تقدير مفعول محذوف إذ لم يصرح به في موضع ، فيستدل بالمصرح على المحذوف.
والظاهر أن هذا الإسراء كان بشخصه ولذلك كذبت قريش به وشنعت عليه ، وحين قص ذلك على أم هانىء قالت : لا تحدث الناس بها فيكذبوك ولو كان مناماً استنكر ذلك وهو قول جمهور أهل العلم ، وهو الذي ينبغي أن يعتقد.
وحديث الإسراء مروي في المسانيد عن الصحابة في كل أقطار الإسلام ، وذكر أنه رواه عشرون من الصحابة.
قيل وما روي عن عائشة ومعاوية أنه كان مناماً فلعله لا يصح عنهما ، ولو صح لم يكن في ذلك حجة لأنهما لم يشاهدا ذلك لصغر عائشة وكفر معاوية إذ ذاك ، ولأنهما لم يسندا ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولا حدّثا به عنه.
وعن الحسن كان في المنام رؤيا رآها وقوله : { بعبده } هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو القاسم سليمان الأنصاري : لما وصل محمد صلى الله عليه وسلم إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في المعارج أوحى الله إليه : يا محمد بمَ أشرِّفك؟ قال : يا رب بنسبتي إليك بالعبودية ، فأنزل فيه { سبحان الذي أسرى بعبده } الآية انتهى.
وعنه قالوا : عبد الله ورسوله ، وعنه إنما أنا عبد وهذه إضافة تشريف واختصاص.
وقال الشاعر :
لا تدعني إلا بيا عبدها . . .
لأنه أشرف أسمائي
وقال العلماء : لو كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة.
وانتصب { ليلاً } على الظرف ، ومعلوم أن السُّرَى لا يكون في اللغة إلا بالليل ، ولكنه ذكر على سبيل التوكيد.
وقيل : يعني في جوف الليل فلم يكن إدلاجاً ولا ادّلاجاً.
وقال الزمخشري : أراد بقوله : { ليلاً } بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء ، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة ، وذلك أن التنكير فيه قد دلّ على معنى البعضية ، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة من الليل أي بعض الليل كقوله : { ومن الليل فتهجّدْ به } على الأمر بالقيام في بعض الليل انتهى.
والظاهر أن قوله : { من المسجد الحرام } هو المسجد المحيط بالكعبة بعينه ، وهو قول أنس.
وقيل من الحجر.
وقيل من بين زمزم والمقام.

وقيل من شعب أبي طالب.
وقيل من بيت أم هانىء.
وقيل من سقف بيته عليه السلام ، وعلى هذه الأقوال الثلاثة يكون أطلق المسجد الحرام على مكة.
وقال قتادة ومقاتل : قبل الهجرة بعام.
وقالت عائشة بعام ونصف في رجب.
وقيل في سبع عشرة من ربيع الأول والرسول عليه السلام ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوماً.
وعن ابن شهاب بعد المبعث بسبعة أعوام.
وعن الحربي ليلة سبع وعشرين من ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة ، والمتحقق أن ذلك كان بعد شق الصحيفة وقبل بيعة العقبة ، ووقع لشريك بن أبي نمر في الصحيح أن ذلك كان قبل أن يوحى إليه ، ولا خلاف بين المحدثين أن ذلك وهم من شريك.
وحكى الزمخشري عن أنس والحسن أنه كان قبل المبعث.
وقال أبو بكر محمد بن عليّ بن القاسم الرعيني في تاريخه : أسري به من مكة إلى بيت المقدس وعُرِّج به إلى السماء قبل مبعثه بثمانية عشر شهراً ، " ويروى أنه كان نائماً في بيت أم هانىء بعد صلاة العشاء ، فأسري به ورجع من ليلته وقص القصة على أم هانىء وقال : «مثل لي النبيون فصليت بهم».
وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانىء بثوبه فقال : «ما لك»؟ قالت : أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم ، قال : «وإن كذبوني» فخرج فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث الإسراء.
فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤي هلم فحدثهم فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً ، وارتد ناس ممن كان آمن به وسعى رجال إلى أبي بكر فقال : إن كان قال ذلك لقد صدق ، قالوا : أتصدقه على ذلك؟ قال : إني لأصدقه على أبعد من ذلك ، فسمي الصدِّيق رضي الله تعالى عنه.
ومنهم من سافر إلى المسجد الأقصى فاستنعتوه ، فجلى له بيت المقدس فطفق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا : أما النعت فقد أصاب فقالوا : أخبرنا عن عيرنا ، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال : «تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق» فخرجوا يشتدّون ذلك اليوم نحو الثنية.
فقال قائل منهم : والله هذه الشمس قد شرقت.
وقال آخر : وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد ثم لم يؤمنوا وقالوا : ما هذا إلاّ سحر بيِّن " ، وقد عرج به إلى السماء في تلك الليلة وكان العروج به من بيت المقدس ، وأخبر قريشاً أيضاً بما رأى في السماء من العجائب ، وأنه لقي الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى.
وهذا على قول من قال : أن هذه الليلة هي ليلة المعراج وهو قول ابن مسعود وجماعة.
وذهب بعضهم إلى أن ليلة المعراج هي غير ليلة الإسراء.
و { المسجد الأقصى } مسجد بيت المقدس وسمي الأقصى لأنه كان في ذلك الوقت أقصى بيوت الله الفاضلة من الكعبة.

قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بالأقصى البعيد دون مفاضلة بينه وبين سواه ، ويكون المقصد إظهار العجب في الإسراء إلى هذا البعد في ليلة انتهى.
ولفظه : { إِلى } تقتضي أنه انتهى الإسراء به إلى حدّ ذلك المسجد ولا يدل من حيث الوضع على دخوله.
و { الذي باركنا حوله } صفة مدح لإزالة اشتراط عارض وبركته بما خص به من الخيرات الدينية كالنبوّة والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر ونواحيه ونواديه ، والدنياوية من كثرة الأشجار والأنهار وطيب الأرض.
وفي الحديث « أنه تعالى بارك فيما بين العريش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس »
وقرأ الجمهور { لنريه } بالنون وهو التفات من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم ، وقراءة الحسن ليريه بالياء فيكون الالتفات في آياتنا وهذه رؤيا عين والآيات التي أريها هي العجائب التي أخبر بها الناس وإسراؤه من مكة وعروجه إلى السماء ووصفه الأنبياء واحداً واحداً حسبما ثبت في الصحيح.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد ليرى محمداً للناس آية ، أي يكون النبي صلى الله عليه وسلم آية في أن يصنع الله ببشر هذا الصنع فتكون الرؤية على هذا رؤية القلب.
قال الزمخشري : { إنه هو السميع } لأقوال محمد { البصير } بأفعاله العالم بتهذيبها وخلوصها فيكرمه ويقربه على حسب ذلك.
وقال ابن عطية : وعيد من الله للكفار على تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم في أمر الإسراء ، فهي إشارة لطيفة بليغة إلى ذلك أي هو السميع لما تقولون البصير بأفعالكم انتهى.
ولما ذكر تشريف الرسول صلى الله عليه وسلم بالإسراء وإراءته الآيات ذكر تشريف موسى بإيتائه التوراة { وآتينا } معطوف على الجملة السابقة من تنزيه الله تعالى وبراءته من السوء ، ولا يلزم من عطف الجمل المشاركة في الخبر أو غيره.
وقال ابن عطية : عطف قوله وآتينا على ما في قوله أسرى بعبده من تقدير الخبر كأنه قال : أسرينا بعبدنا وأريناه آياتنا وآتينا.
وقال العكبري وآتينا معطوف على أسرى انتهى.
وفيه بعد و { الكتاب } هنا التوراة ، والظاهر عود الضمير من وجعلناه على الكتاب ، ويحتمل أن يعود على موسى ، ويجوز أن تكون أن تفسيرية ولا نهي وأن تكون مصدرية تعليلاً أي لأن لا يتخذوا ولا نفي ، ولا يجوز أن تكون أن زائدة ويكون لا تتخذوا معمولاً لقول محذوف خلافاً لمجوز ذلك إذ ليس من مواضع زيادة أن.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وقتادة وعيسى وأبو رجاء وأبو عمرو من السبعة : يتخذوا بالياء على الغيبة وباقي السبعة بتاء الخطاب ، والوكيل فعيل من التوكل أي متوكلاً عليه.
وقال الزمخشري رباً تكلون إليه أموركم.
وقال ابن جرير : حفيظاً لكم سواي.
وقال أبو الفرج بن الجوزي : قيل للرب وكيل لكفايته وقيامه بشؤون عباده ، لا على معنى ارتفاع منزلة الموكل وانحطاط أمر الوكيل انتهى.

وانتصب { ذرية } على النداء أي يا ذرّية أو على البدل من وكيلاً ، أو على المفعول الثاني ليتخذوا ووكيلاً وفي معنى الجمع أي لا يتخذوا وكلاء ذرية ، أو على إضمار أعني.
وقرأت فرقة ذرية بالرفع وخرج على أن يكون بدلاً من الضمير في يتخذوا على قراءة من قرأ بياء الغيبة.
وقال ابن عطية : ولا يجوز في القراءة بالتاء لأنك لا تبدل من ضمير مخاطب لو قلت ضربتك زيداً على البدل لم يجز انتهى.
وما ذكره من إطلاق إنك لا تبدل من ضمير مخاطب يحتاج إلى تفصيل ، وذلك أنه إن كان في بدل بعض من كل وبدل اشتمال جاز بلا خلاف ، وإن كان في بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة وإن كان يفيد التوكيد جاز بلا خلاف ، نحو : مررت بكم صغيركم وكبيركم وإن لم يفد التوكيد ، فمذهب جمهور البصريين المنع ومذهب الأخفش والكوفيين الجواز وهو الصحيح لوجود ذلك في كلام العرب ، وقد استدللنا على صحة ذلك في شرح كتاب التسهيل ، وذكر من حملنا مع نوح تنبيهاً على النعمة التي نجاهم بها من الغرق.
وقرأ زيد بن ثابت وأبان بن عثمان وزيد بن عليّ ومجاهد في رواية بكسر ذال ذرية.
وقرأ مجاهد أيضاً بفتحها.
وعن زيد بن ثابت ذرية بفتح الذال وتخفيف الراء وتشديد الياء على وزن فعليه كمطيه.
والظاهر أن الضمير في أنه عائد على نوح.
قال سلمان الفارسي : كان يحمد الله على طعامه.
وقال إبراهيم شكره إذا أكلَّ قال : بسم الله ، فإذا فرغ قال : الحمد لله.
وقال قتادة : كان إذا لبس ثوباً قال : بسم الله ، وإذا نزعه قال : الحمد لله.
وقيل : الضمير في أنه عائد إلى موسى انتهى.
ونبه على الشكر لأنه يستلزم التوحيد إذ النعم التي يجب الشكر عليها هي من عنده تعالى ، فكأنه قيل كونوا موحدين شاكرين لنعم الله مقتدين بنوح الذي أنتم ذرية من حمل معه.

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)

جاسَ يَجُوسُ جوساً وَجَوَساناً تردد في الغارة قاله الليث.
وقال أبو عبيدة : جاسوا فتشوا هل بقي ممن لم يقتل.
وقال الفراء : قيلوا.
قال حسان :
ومنا الذي لاقى لسيف محمد . . .
فجاس به الأعداء عرض العساكر
وقال قطرب : نزلوا ، قال الشاعر :
فجسنا ديارهم عنوة . . .
وأبناء ساداتهم موثقينا
وقيل : داسوا ، ومنه :
إليك جسنا الليل بالمطي . . .
وقال أبو زيد : الجوس والحوس والعوس والهوس الطواف بالليل.
فالجوس والحوس طلب الشي باستقصاء.
حظرت الشيء منعته.
{ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرتين ولتعلنّ علواً كبيراً فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً ثم رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا }.
{ قَضى } يتعدّى بنفسه إلى مفعول كقوله : { فلما قضى موسى الأجل } ولما ضمن هنا معنى الإيحاء أو الإنفاذ تعدّى بإلى أي وأوحينا أو أنفذنا إلى بني إسرائيل في القضاء المحتوم المبتوت.
وعن ابن عباس معناه أعلمناهم ، وعنه أيضاً قضينا عليهم ، وعنه أيضاً كتبنا.
واللام في { لتفسدن } جواب قسم ، فإما أن يقدر محذوفاً ويكون متعلق القضاء محذوفاً تقديره وقضينا إلى بني إسرائيل بفسادهم في الأرض وعلوهم ، ثم أقسم على وقوع ذلك وأنه كائن لا محالة ، فحذف متعلق قضينا وأبقى منصوب القسم المحذوف.
ويجوز أن يكون قضينا أجري مجرى القسم ولتفسدنّ جوابه ، كقولهم قضاء الله لأقومنّ.
وقرأ أبو العالية وابن جبير في الكتب على الجمع والجمهور على الإفراد فاحتمل أن يريد به الجنس ، والظاهر أن يراد التوراة.
وقرأ ابن عباس ونصر بن عليّ وجابر بن زيد لتفسدنّ بضم التاء وفتح السين مبنياً للمفعول أي يفسدكم غيركم.
فقيل من الإضلال.
وقيل من الغلبة.
وقرأ عيسى لتفسدنّ بفتح التاء وضم السين أي فسدتم بأنفسكم بارتكاب المعاصي مرتين أولاهما قتل زكرياء عليه السلام قاله السدّي عن أشياخه ، وقاله ابن مسعود وابن عباس ، وذلك أنه لما مات صديقة ملكهم تنافسوا على المُلك وقتل بعضهم بعضاً ولا يسمعون من زكريا.
فقال الله له : قم في قومك أوح على لسانك ، فلما فرغ مما أوحى الله إليه عدواً عليه ليقتلوه فهرب فانفلقت له شجرة فدخل فيها ، وأدركه الشيطان فأخذ هدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها حتى قطعوه في وسطها.
وقيل : سبب قتل زكريا أنهم اتهموه بمريم قيل قالوا حين حملت مريم : ضيع بنت سيدنا حتى زنت ، فقطعوه بالمنشار في الشجرة.

وقيل شعياء قاله ابن إسحاق وإن كان زكرياء مات موتاً ولم يقتل وإن الذي دخل الشجرة وقطع نصفين بالمنشار في وسطها هو شعياء ، وكان قبل زكرياء وحبس أرمياء حين أنذرهم سخط الله والآخرة قبل يحيى بن زكرياء وقصد قتل عيسى ابن مريم أعلم الله بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وكفر لنعم الله تعالى في الرسل وفي الكتب وغير ذلك ، وأنه سيرسل عليهم أمّة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم ثم يرحمهم بعد ذلك ويجعل لهم الكرة ويردهم إلى حالهم الأولى من الظهور فتقع منهم المعاصي وكفر النعم والظلم والقتل والكفر بالله من بعضهم ، فيبعث الله عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم وتجليهم جلاء مبرحاً ودل الوجود بعد ذلك على هذا الأمر كله ، قيل وكان بين آخر الأولى والثانية مائتا سنة وعشر سنين ملكاً مؤيداً ثابتاً.
وقيل سبعون سنة.
وقال الكلبي لتعصنّ في الأرض المقدسة ولتعلنّ أي تطغون وتعظمون.
وقرأ زيد بن علي علياً كبيراً في الموضعين بكسر اللام والياء المشدّدة.
وقراءة الجمهور { علواً } والصحيح في فعول المصدر أكثر كقوله : { وعتوا عتواً كبيراً } بخلاف الجمع ، فإن الإعلال فيه هو المقيس وشذ التصحيح نحو نهو ونهوّ خلافاً للفراء إذ جعل ذلك قياساً { فإذا جاء وعد أولاهما } أي موعد أولاهما لأن الوعد قد سبق ذلك والموعود هو العقاب.
وقال الزمخشري : معناه وعد عقاب أولاهما.
وقيل : الوعد بمعنى الوعيد.
وقيل : بمعنى الموعد الذي يراد به الوقت ، والضمير في أولاهما عائد على المرتين.
وقرأ الجمهور { عباداً } وقرأ الحسن وزيد بن علي عبيداً.
قال ابن عباس : غزاهم وقتادة جالوت من أهل الجزيرة.
وقال ابن جبير وابن إسحاق غزاهم سنجاريب وجنوده ملك بابل.
وقيل بخت نصر ، وروي أنه دخل قبل في جيش من الفرس وهو حامل يسير في مطبخ الملك ، فاطلع من جور بني إسرائيل على ما لم يعلمه الفرس لأنه كان يداخلهم ، فلما انصرف الجيش ذكر ذلك للملك الأعظم ، فلما كان بعد مدة جعله الملك رئيس جيش وبعثه وخرب بيت المقدس وقتلهم وجلاهم ثم انصرف فوجد الملك قد مات فملك موضعه ، واستمرت حاله حتى ملك الأرض بعد ذلك.
وقيل هم العمالقة وكانوا كفاراً.
وقيل : كان المبعوثون قوماً مؤمنين بعثهم الله وأمرهم بغزو بني إسرائيل والبعث هنا الإرسال والتسليط.
وقال الزمخشري : معناه خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم على أن الله عز وعلا أسند بعث الكفرة إلى نفسه فهو كقوله : { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون } وكقول الداعي : وخالف بين كلمتهم وأسند الجوس وهو التردّد خلال الديار بالفساد إليهم ، فتخريب المسجد وإحراق التوراة من جملة الجوس المسند إليهم انتهى.
وفي قوله خلينا بينهم وبين ما فعلوا دسيسة الاعتزال.
وقال ابن عطية : { بعثنا } يحتمل أن يكون الله أرسل إلى ملك تلك الأمة رسولاً بأمره بغزو بني إسرائيل فتكون البعثة بأمر ، ويحتمل أن يكون عبر بالبعث عما ألقى في نفس الملك أي غزاهم انتهى.

{ أولي بأس شديد } أي قتال وحرب شديد لقوتهم ونجدتهم وكثرة عددهم وعُددهم.
وقرأ الجمهور { فجاسوا } بالجيم.
وقرأ أبو السمال وطلحة فحاسوا بالحاء المهملة.
وقرىء فتجوسوا على وزن تكسروا بالجيم.
وقرأ الحسن { خلال الديار } واحداً ويجمع على خلل كجبل وجبال ، ويجوز أن يكون خلال مفرداً كالخلل وهو وسط الديار وما بينها ، والجمهور على أنه في هذه البعثة الأولى خرّب بيت المقدس ووقع القتل فيهم والجلاء والأسر.
وعن ابن عباس ومجاهد : أنه حين غزوا جاس الغازون خلال الديار ولم يكن قتل ولا قتال في بني إسرائيل ، وانصرفت عنهم الجيوش.
والضمير في { وكان } عائداً على وعد أولاهما.
قال الزمخشري : وكان وعد العقاب وعداً لا بد أن يفعل انتهى.
وقيل يعود على الجيوش { ثم رددنا لكم الكرة عليهم } هذا إخبار من الله لبني إسرائيل في التوراة ، وجعل { رددنا } موضع نرد إذ وقت إخبارهم لم يقع الأمر بعد لكنه لما كان وعد الله في غاية الثقة أنه يقع عبر عن مستقبله بالماضي ، والكرة الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليهم حتى تابوا ورجعوا عن الفساد ملكوا بيت المقدس قبل الكرة قبل بخت نصر واستبقاء بني إسرائيل أسراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم ، وذكر في سبب ذلك أن ملكاً غزا أهل بابل وكان بخت نصر قد قتل من بني إسرائيل أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة وبقي بقيته عندهم ببابل في الدل ، فلما غزاهم ذلك الملك وغلب على بابل تزوج امرأة من بني إسرائيل فطلبت منه أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل ، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء فرجعوا إلى أحسن ما كانوا.
وقيل : الكرة تقوية طالوت حتى حارب جالوت ونصر داود على قتل جالوت.
وقال قتادة : كانوا أكثر شراً في زمان داود عليه السلام.
وانتصب { نفيراً } على التمييز.
فقيل : النفير والنافر واحد وأصله من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته قاله أبو مسلم.
وقال الزجاج : يجوز أن يكون جمع نفر ككلب وكليب وعبد وعبيد ، وهم المجتمعون للمصير إلى الأعداء.
وقيل : النفير مصدر أي أكثر خروجاً إلى الغزو كما في قول الشاعر :
فأكرم بقحطان من والد . . .
وحمير أكرم بقوم نفيرا
ويروى بالحميريين أكرم نفيراً ، والمفضل عليه محذوف قدره الزمخشري وأكثر نفيراً مما كنتم وقدره غيره ، وأكثر نفيراً من الأعداء.
{ إن أحسنتم } أي أطعتم الله كان ثواب الطاعة لأنفسكم ، { وإن أسأتم } بمعصيته كان عقاب الإساءة لأنفسكم لا يتعدّى الإحسان والإساءة إلى غيركم ، وجواب وإن أسأتم قوله : { فلها } على حذف مبتدأ محذوف ولها خبره تقديره فالإساءة لها.
قال الكرماني : جاء فلها باللام ازدواجاً انتهى.

يعني أنه قابل قوله لأنفسكم بقوله فلها.
وقال الطبري : اللام بمعنى إلى أي فإليها ترجع الإساءة.
وقيل اللام بمعنى على أي فعليها كما في قوله :
فخر صريعاً لليدين وللقم . . .
{ فإذا جاء وعد الآخرة } أي المرة الآخرة في إفسادكم وعلوكم ، وجواب إذا محذوف يدل عليه جواب إذا الأولى تقديره بعثناهم عليكم وإفسادهم في ذلك بقتل يحيى بن زكريا عليهما السلام.
وسبب قتله فيما روي عن ابن عباس وغيره : أن ملكاً أراد أن يتزوج من لا يجوز له نكاحها ، فنهاه يحيى بن زكريا وكان لتلك المرأة حاجة كل يوم عند الملك تقضيها ، فألقت أمها إليها أن تسأله عن ذبح يحيى بن زكريا بسبب ما كان منعه من تزويج ابنتها فسألته ذلك ، فدافعها فألحق عليه فدعا بطست فذبحه فندرت قطرة على الأرض فلم تزل تغلي حتى بعث الله عليهم بخت نصر وألقى في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن ، فقتل عليه منهم سبعين ألفاً.
وقال السهيلي : لا يصح أن يكون المبعوث في المرة الآخرة بخت نصر لأن قتل بحيى بعد رفع عيسى ، وبخت نصر كان قبل عيسى بزمن طويل.
وقيل : المبعوث عليهم الإسكندر وبين الإسكندر وعيسى نحو ثلاثمائة سنة ، ولكنه إن أريد بالمرة الأخرى حين قتلوا شعياء فكان بختنصر إذ ذاك حياً فهو الذي قتلهم وخرب بيت المقدس وأتبعهم إلى مصر وأخرجهم منها.
وروي عن عبد الله بن الزبير أن الذي غزاهم آخراً ملك اسمه خردوس وتولى قتلهم على دم يحيى بن زكرياء قائد له فسكن الدم.
وقيل قتله ملك من ملوك بني إسرائيل يقال له لا حب.
وقال الربيع بن أنس : كان يحيى قد أعطي حسناً وجمالاً فراودته امرأة الملك عن نفسه فأبى ، فقالت لابنتها : سلي أباك رأس يحيى فأعطاها ما سألت.
وقرأ الجمهور { ليسوءوا } بلام كي وياء الغيبة وضمير الجمع الغائب العائد على المبعوثين.
وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر ليسوء بالياء وهمزة مفتوحة على الإفراد والفاعل المضمر عائد على الله تعالى أو على الوعد أو على البعث الدال عليه جملة الجزاء المحذوفة.
وقرأ عليّ بن أبي طالب وزيد بن عليّ والكسائي لنسوء بالنون التي للعظمة وفيها ضمير يعود على الله.
وقرأ أبيّ لنسوءن بلام الأمر والنون التي للعظمة ونون التوكيد الخفيفة آخراً.
وعن عليّ أيضاً لنسوءنَّ وليسوءنَّ بالنون والياء ونون التوكيد الشديدة وهي لام القسم ، ودخلت لام الأمر في قراءة أبيّ على المتكلم كقوله : { ولنحمل خطاياكم } وجواب إذا هو الجملة الأمرية على تقدير الفاء.
وفي مصحف أبيّ ليسيء بياء مضمومة بغير واو.
وفي مصحف أنس ليسوء وجهكم على الإفراد ، والظاهر أنه أريد بالوجوه الحقيقة لأن آثار الأعراض النفسانية في القلب تظهر على الوجه ، ففي الفرح يظهر الإسفار والإشراق ، وفي الحزن يظهر الكلوح والغبرة ، ويحتمل أن يعبر عن الجملة بالوجه فإنهم ساؤهم بالقتل والنهب والسبي فحصلت الإساءة للذوات كلها أو عن ساداتهم وكبرائهم بالوجوه ، ومنه قولهم في الخطاب يا وجه العرب.

واللام في { وليدخلوا } لام كي معطوفاً على ما قبلها من لام كي ، ومن قرأ بلام الأمر أو بلام القسم جاز أن يكون وليدخلوا وما بعدها أمراً ، وجاز أن تكون لام كي أي وبعثناهم ليدخلوا.
و { المسجد } مسجد بيت المقدس ومعنى كما دخلوه أول مرة أي بالسيف والقهر والغلبة والإذلال ، وهذا يبعد قول من ذهب إلى أن أولى المرتين لم يكن فيها قتل ولا قتال ولا نهب ، وتقدّم الكلام في أول مرة في سورة التوبة.
{ وليتبروا } يهلكوا.
وقال قطرب : يهدموا.
قال الشاعر :
فما الناس إلاّ عاملان فعامل . . .
يتبر ما يبني وآخر رافع
والظاهر أن { ما } مفعولة بيتبروا أي يهلكوا ما غلبوا عليه من الأقطار ، ويحتمل أن تكون ما ظرفية أي مدة استيلائهم عسى ربكم أن يرحمكم بعد المرة الثانية إن تبتم وانزجرتم عن المعاصي ، وهذه الترجئة ليست لرجوع دولة وإنما هي من باب ترحم المطيع منهم ، وكان من الطاعة أن يتبعوا عيسى ومحمداً عليهما السلام فلم يفعلوا.
{ وإن عدتم } إلى المعصية مرة ثالثة عدنا إلى العقوبة وقد عادوا فأعاد الله عليهم النقمة بتسليط الأكاسرة وضرب الأتاوة عليهم.
وعن الحسن عادوا فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.
وعن قتادة : ثم كان آخر ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحي من العرب فهم منه في عذاب إلى يوم القيامة انتهى.
ومعنى { عدنا } أي في الدنيا إلى العقوبة.
وقال تعالى : { وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب } ثم ذكر ما أعدّ لهم في الآخرة وهو جعل جهنم لهم { حصيرا } والحصير السجن.
قال لبيد :
ومقامه غلب الرجال كأنهم . . .
جن لدى باب الحصير قيام
وقال الحسن : يعني فراشاً ، وعنه أيضاً هو مأخوذ من الحصر والذي يظهر أنها حاصرة لهم محيطة بهم من جميع جهاتهم ، فحصير معناه ذات حصر إذ لو كان للمبالغة لزمته التاء لجريانه على مؤنث كما تقول : رحيمة وعليمة ، ولكنه على معنى النسب كقوله السماء منفطر به أي ذات انفطار.

إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)

لما ذكر تعالى من اختصه بالإسراء وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن آتاه التوراة وهو موسى عليه السلام وأنها هدى لبني إسرائيل ، وذكر ما قضى عليهم فيها من التسليط عليهم بذنوبهم ، كان ذلك رادعاً من عقل عن معاصي الله فذكر ما شرف الله به رسوله من القرآن الناسخ لحكم التوراة وكل كتاب إلهي ، وأنه يهدي للطريقة أو الحالة التي هي أقوم.
وقال الضحاك والكلبي والفراء { التي هي أقوم } هي شهادة التوحيد.
وقال مقاتل : للأوامر والنواهي و { أقوم } هنا أفعل التفضيل على قول الزجاج إذ قدر أقوم الحالات وقدره غيره أقوم مما عداها أو من كل حال ، والذي يظهر من حيث المعنى أن { أقوم } هنا لا يراد بها التفضيل إذ لا مشاركة بين الطريقة التي يرشد إليها القرآن وطريقة غيرها ، وفضلت هذه عليها وإنما المعنى التي هي قيمة أي مستقيمة كما قال : { وذلك دين القيمة } و { فيها كتب قيمة } أي مستقيمة الطريقة ، قائمة بما يحتاج إليه من أمر الدين.
وقال الزمخشري : { التي هي أقوم } للحالة التي هي أقوم الحالات وأشدّها أو للملة أو للطريقة ، وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف لما في إبهام الموصوف لحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه انتهى.
{ ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات } قيد في الإيمان الكامل إذ العمل هو كمال الإيمان ، نبه على الحالة الكاملة ليتحلى بها المؤمن ، والمؤمن المفرط في عمله له بإيمانه حظ في عمل الصالحات والأجر الكبير الجنة.
وقال الزمخشري : فإن قلت كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة؟ قلت : كان الناس حينئذ إما مؤمن تقي ، وإما مشرك ، وإنما حدث أصحاب المنزلة بين المنزلتين بعد ذلك انتهى.
وهذا مكابرة بل وقع في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم من بعض المؤمنين هنات وسقطات بعضها مذكور في القرآن ، وبعضها مذكور في الحديث الصحيح الثابت.
{ وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة } عطف على قوله : { أن لهم أجراً كبيراً } بشروا بفوزهم بالجنة وبكينونة العذاب الأليم لأعدائهم الكفار ، إذ في علم المؤمنين بذلك وتبشيرهم به مسرة لهم ، فهما بشارتان وفيه وعيد للكفار.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد ويخبر بأن الذين لا يؤمنون انتهى.
فلا يكون إذ ذاك داخلاً تحت البشارة.
وفي قوله : { وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة } دليل على أن من آمن بالآخرة لا يعدّ له عذاب أليم ، وأنه ليس عمل الصالحات شرطاً في نجاته من العذاب.
وقرأ الجمهور { ويبشر } مشدّداً مضارع بشر المشدّد.
وقرأ عبد الله وطلحة وابن وثاب والإخوان { ويبشر } مضارع بشر المخفف ومعنى { أعتدنا } أعددنا وهيأنا ، وهذه الآية جاءت عقب ذكر أحوال اليهود ، واندرجوا فيمن لا يؤمن بالآخرة لأن أكثرهم لا يقول بالثواب والعقاب الجسماني وبعضهم قال :

{ لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } فلم يؤمنوا بالآخرة حقيقة الإيمان بها.
{ ويدع الإنسان } قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : نزلت ذامّة لما يفعله الناس من الدعاء على أموالهم وأبنائهم في أوقات الغضب والضجر ، ومناسبتها لما قبلها أن بعض من لا يؤمن بالآخرة كان يدعو على نفسه بتعجيل ما وعد به من الشر في الآخرة ، كقول النضر : { فأمطر علينا حجارةً } الآية.
وكتب { ويدع } بغير واو على حسب السمع والإنسان هنا ليس واحداً معيناً ، والمعنى أن في طباع الإنسان أنه إذا ضجر وغضب دعا على نفسه وأهله وماله بالشر أن يصيبه كما يدعو بالخير أن يصيبه ، ثم ذكر تعالى أن ذلك من عدم تثبته وقلة صبره.
وعن سلمان الفارسي وابن عباس : أشار به إلى آدم لما نفخ الروح في رأسه عطس وأبصر ، فلما مشى الروح في بدنه قبل ساقه أعجبته نفسه فذهب يمشي مستعجلاً فلم يقدر ، أو المعنى ذو عجلة موروثة من أبيكم انتهى.
وهذا القول تنبو عنه ألفاظ الآية.
وقالت فرقة : هذه الآية ذم لقريش الذين قالوا : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } الآية.
وكان الأولى أن يقولوا : فاهدنا إليه وارحمنا.
وقالت فرقة : هي معاتبة للناس على أنهم إذا نالهم شر وضر دعوا وألحوا في الدعاء واستعجلوا الفرج ، مثل الدعاء الذي كان يجب أن يدعوه في حالة الخير انتهى.
والباء في { بالشر } و { بالخير } على هذا بمعنى في ، والمدعوّ به ليس الشر ولا الخير ، ويراد على هذا أن تكون حالتاه في الشر والخير متساويتين في الدعاء والتضرّع لله والرغبة والذكر ، وينبو عن هذا المعنى قوله : { دعاءه } إذ هو مصدر تشبيهي يقتضي وجوده ، وفي هذا القول شبه { دعاءه } في حالة الشر بدعاء مقصود كان ينبغي أن يوجد في حالة الخير.
وقيل : المعنى { ويدع الإنسان } في طلب المحرم كما يدعو في طلب المباح { وجعلنا الليل والنهار آيتين } لما ذكر تعالى القرآن وأنه هاد إلى الطريقة المستقيمة ذكر ما أنعم به مما لم يكمل الانتفاع إلاّ به ، وما دل على توحيده من عجائب العالم العلوي ، وأيضاً لما ذكر عجلة الإنسان وانتقاله من حال إلى حال ذكر أن كل هذا العالم كذلك في الانتقال لا يثبت على حال ، فنور عقب ظلمة وبالعكس ، وازدياد نور وانتقاص.
والظاهر أن { الليل والنهار } مفعول أول لجعل بمعنى صير ، و { آيتين } ثاني المفعولين ويكونان في أنفسهما آيتين لأنهما علامتان للنظر والعبرة ، وتكون الإضافة في { آية الليل وآية النهار } للتبيين كإضافة العدد إلى المعدود ، أي { فمحونا } الآية التي هي الليل ، وجعلنا الآية التي هي النار مبصرة.
وقيل : هو على حذف مضاف فقدره بعضهم وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين ، وقدّره بعضهم و : جعلنا ذوي الليل والنهار أي صاحبي الليل والنهار ، وعلى كلا التقديرين يراد به الشمس والقمر ، ويظهر أن { آيتين } هو المفعول الأول ، و { الليل والنهار } ظرفان في موضع المفعول الثاني ، أي وجعلنا في الليل والنهار آيتين.

وقال الكرماني : ليس جعل هنا بمعنى صير لأن ذلك يقتضي حالة تقدّمت نقل الشيء عنها إلى حالة أخرى ، ولا بمعنى سمى وحكم ، والآية فيها إقبال كل واحد منهما وإدباره من حيث لا يعلم ، ونقصان أحدهما بزيادة الآخر ، وضوء النهار وظلمة الليل { فمحونا آية الليل } إذا قلنا أنّ الليل والنهار هما المجعولان آيتين فمحو آية الليل عبارة عن السواد الذي فيه ، بل خلق أسود أول حاله ولا تقتضي الفاء تعقيباً وهذا كما يقول بنيت داري فبدأت بالأس.
وإذا قلنا أن الآيتين هما الشمس والقمر ، فقيل : محو القمر كونه لم يجعل له نوراً.
وقيل : محوه طلوعه صغيراً ثم ينمو ثم ينقص حتى يستر.
وقيل : محوه نقصه عما كان خلق عليه من الإضاءة ، وأنه جعل نور الشمس سبعين جزءاً ونور القمر كذلك ، فمحا من نور القمر حتى صار على جزء واحد ، وجعل ما محا منه زائداً في نور الشمس ، وهذا مروي عن عليّ وابن عباس.
وقال ابن عيسى : جعلناها لا تبصر المرئيات فيها كما لا يبصر ما محي من الكتاب.
قال : وهذا من البلاغة الحسنة جداً.
وقال الزمخشري : { فمحونا آية الليل } أي جعلنا الليل ممحواً لضوء مطموسه ، مظلماً لا يستبان منه شيء كما لا يستبان ما في اللوح الممحو ، وجعلنا النهار مبصراً أي يبصر فيه الأشياء وتستبان ، أو { فمحونا آية الليل } التي هي القمر حيث لم يخلق له شعاع كشعاع الشمس فترى به الأشياء رؤية بينة ، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء انتهى.
ونسب الإبصار إلى { آية النهار } على سبيل المجاز كما تقول : ليل قائم ونائم ، أي يقام فيه وينام فيه.
فالمعنى يبصر فيها.
وقيل : معنى { مبصرة } مضيئة.
وقيل : هو من باب أفعل ، والمراد به غير من أسند أفعل إليه كقولهم : أجبن الرجل إذا كان أهله جبناء ، وأضعف إذا كان دوابه ضعافاً فأبصرت الآية إذا كان أصحابها بصراء.
وقرأ قتادة وعليّ بن الحسين { مبصرة } بفتح الميم ، والصاد وهو مصدر أقيم مقام الاسم ، وكثر مثل ذلك في صفات الأمكنة كقولهم : أرض مسبعة ومكان مضبة ، وعلل المحو والإبصار بابتغاء الفضل وعلم عدد السنين والحساب ، وولى التعليل بالابتغاء ما وليه من آية النهار وتأخر التعليل بالعلم عن آية الليل.
وجاء في قوله : { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ، ولتبتغوا من فضله } البداءة بتعليل المتقدم ثم تعليل المتأخر بالعلة المتأخرة ، وهما طريقان تقدم الكلام عليهما.
ومعنى { لتبتغوا } لتتوصلوا إلى استبانة أعمالكم وتصرفكم في معايشكم { والحساب } للشهور والأيام والساعات ، ومعرفة ذلك في الشرع إنما هو من جهة آية الليل لا من جهة آية النهار { وكل شيء } مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم { فصلناه } بيناه تبيينا غير ملتبس ، والظاهر أن نصب { وكل شيء } على الاشتغال ، وكان ذلك أرجح من الرفع لسبق الجملة الفعلية في قوله : { وجعلنا الليل والنهار } وأبعد من ذهب إلى أن { وكل شيء } معطوف على قوله : { والحساب } والطائر.

قال ابن عباس : ما قدّر له وعليه ، وخاطب الله العرب في هذه الآية بما تعرف إذ كان من عادتها التيمُّن والتشاؤم بالطير في كونها سانحة وبارحة وكثر ذلك حتى فعلته بالظباء وحيوان الفلاة ، وسمي ذلك كله تطيراً.
وكانت تعتقد أن تلك الطيرة قاضية بما يلقى الإنسان من خير وشر ، فأخبرهم الله تعالى في أوجز لفظ وأبلغ إشارة أن جميع ما يلقى الإنسان من خير وشر فقد سبق به القضاء وألزم حظه وعمله ومكسبه في عنقه ، فعبر عن الحظ والعمل إذ هما متلازمان بالطائر قاله مجاهد وقتادة بحسب معتقد العرب في التطير ، وقولهم في الأمور على الطائر الميمون وبأسعد طائر ، ومنه ما طار في المحاصة والسهم ، ومنه فطار لنا من القادمين عثمان بن مظعون أي كان ذلك حظنا.
وعن ابن عباس : { طائره } عمله ، وعن السدّي كتابه الذي يطير إليه.
وعن أبي عبيدة : الطائر عند العرب الحظ وهو الذي تسميه البخت.
وعن الحسن : يا ابن آدم بسطت لك صحيفة إذا بعثت قلدتها في عنقك ، وخص العنق لأنه محل الزينة والشين فإن كان خيراً زانه كما يزين الطوق والحلي ، وإن كان شراً شأنه كالغل في الرقبة.
وقرأ مجاهد والحسن وأبو جاء طيره.
وقرىء : { في عنقه } بسكون النون.
وقرأ الجمهور ومنهم أبو جعفر : { ونخرج } بنون مضارع أخرج.
{ كتاباً } بالنصب.
وعن أبي جعفر أيضاً ويخرج بالياء مبنياً للمفعول { كتاباً } أي ويخرج الطائر كتاباً.
وعنه أيضاً كتاب بالرفع على أنه مفعول ما لم يسم فاعله.
وقرأ الحسن وابن محيصن ومجاهد : ويخرج بفتح الياء وضم الراء أي طائره كتاباً إلا الحسن فقرأ : كتاب على أنه فاعل يخرج.
وقرأت فرقة : ويخرج بضم الياء وكسر الراء أي ويخرج الله.
وقرأ الجمهور { يلقاه } بفتح الياء وسكون اللام.
وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والحجدري والحسن بخلاف عنه { يلقاه } بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف.
{ منشوراً } غير مطوي ليمكنه قراءته ، و { يلقاه } و { منشوراً } صفتان لكتاب ، ويجوز أن يكون { منشوراً } حالاً من مفعول يلقاه { اقرأ كتابك } معمول لقول محذوف أي يقال له : { اقرأ كتابك }.
وقال قتادة : يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئاً.
وقال الزمخشري وغيره.
و { بنفسك } فاعل { كفى } انتهى.
وهذا مذهب الجمهور والباء زائدة على سبيل الجواز لا اللزوم ، ويدل عليه أنه إذا حذفت ارتفع ذلك الاسم بكفى.
قال الشاعر :
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً . . .

وقال آخر :
ويخبرني عن غائب المرء هديه . . .
كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا
وقيل : فاعل { كفى } ضمير يعود على الاكتفاء ، أي كفى هو أي الاكتفاء بنفسك.
وقيل : { كفى } اسم فعل بمعنى اكتف ، والفاعل مضمر يعود على المخاطب ، وعلى هذين القولين لا تكون الباء زائدة.
وإذا فرعنا على قول الجمهور أن { بنفسك } هو فاعل { كفى } فكان القياس أن تدخل تاء التأنيث لتأنيث الفاعل ، فكان يكون التركيب كفت بنفسك كما تلحق مع زيادة من في الفاعل إذا كان مؤنثاً ، كقوله تعالى : { ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها } وقوله : { وما تأتيهم من آية } ولا نحفظه جاء التأنيث في كفى إذا كان الفاعل مؤنثاً مجروراً بالباء ، والظاهر أن المراد { بنفسك } ذاتك أي { كفى } بك.
وقال مقاتل : يريد بنفسه جوارحه تشهد عليه إذا أنكر.
وقال أبو عبيدة أي ما أشد كفاية ما علمت بما علمت.
{ واليوم } منصوب بكفى و { عليك } متعلق بحسيباً.
ومعنى { حسيباً } حاكماً عليك بعملك قاله الحسن.
قال : يا ابن آدم لقد أنصفك الله وجعلك حسيب نفسك.
وقال الكلبي : محاسباً يعني فعيلاً بمعنى مفاعل كجليس وخليط.
وقيل : حاسباً كضريب القداح أي ضاربها ، وصريم بمعنى صارم يعني أنه بناء مبالغة كرحيم وحفيظ ، وذكر { حسيباً } لأنه بمنزلة الشهيد والقاضي والأمير ، لأن الغالب أن هذه الأمور يتولاها الرجل ، وكأنه قيل : كفى بنفسك رجلاً حسيباً.
وقال الأنباري : وإنما قال { حسيباً } والنفس مؤنثة لأنه يعني بالنفس الشخص ، أو لأنه لا علامة للتأنيث في لفظ النفس ، فشبهت بالسماء والأرض قال تعالى : { السماء منفطر به } وقال الشاعر :
ولا أرض أبقل ابقالها . . .
{ من اهتدى } الآية قالت فرقة : نزلت الإشارة في الهدى إلى أبي سلمة بن عبد الأسود ، وفي الضلال إلى الوليد بن المغيرة.
وقيل : نزلت في الوليد هذا قال : يا أهل مكة اكفروا بمحمد وإثمكم عليّ ، وتقدم تفسير { ولا تزر وازرة وزر أخرى } في آخر الأنعام { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } انتفاء التعذيب ببعثة الرسول عليه السلام ، والمعنى حتى يبعث رسولاً فيكذب ولا يؤمن بما جاء به من عند الله ، وانتفاء التعذيب أعم من أن يكون في الدنيا بالهلاك وغيره من العذاب أو في الآخرة بالنار فهو يشملهما ، ويدل على الشمول قوله في الهلاك في الدنيا بعد هذه الآية { وإذا أردنا } وفي الآخرة { فحق عليها القول فدمرناها تدميراً } وآي كثيرة نص فيها على الهلاك في الدنيا بأنواع من العذاب حين كذبت الرسل.
وقوله في عذاب الآخرة كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها : ألم يأتكم نذير؟ وقالوا : بلى قد جاءنا نذير ، وكلما تدل على عموم أزمان الإلقاء فتعم الملقين.
وقوله : { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } وذهب الجمهور إلى أن هذا في حكم الدنيا ، أي إن الله لا يهلك أمّة بعذاب إلا من بعد الرسالة إليهم والإنذار.

قال الزمخشري : فإن قلت الحجة لازمة لهم قبل بعثة الرسول لأن معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون منه ، واستيجابهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم ركونهم لذلك الإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف والعمل بها لا يصح إلا بعد الإيمان.
قلت : بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة لئلا يقولوا كنا غافلين ، فلولا بعثت إلينا رسولاً ينبهنا علي النظر في أدلة العقل انتهى.
وقال مقاتل : المعنى وما كنا مستأصلين في الدنيا لما اقتضته الحكمة الإلهية حتى يبعث رسولاً إقامة للحجة عليهم وقطعاً للعذر عنهم ، كما فعلنا بعاد وثمود والمؤتفكات وغيرها.

وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)

لما ذكر تعالى أنه لا يعذب أحداً حتى يبعث إليه رسولاً بين بعد ذلك علة إهلاكهم وهي مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم والتمادي على الفساد.
وقال الزمخشري : { وإذا أردنا } وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إهلاكهم إلاّ قليل انتهى.
فتؤول { أردنا } على معنى دنا وقت إهلاكهم وذلك على مذهب الاعتزال.
وقرأ الجمهور أمرنا ، وفي هذه القراءة قولان :
أحدهما : وهو الظاهر أنه من الأمر الذي هو ضد النهي ، واختلف في متعلقه فذهب الأكثرون منهم ابن عباس وابن جبير إلى أن التقدير أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا.
وذهب الزمخشري إلى أن التقدير أمرناهم بالفسق ففسقوا ورد على من قال أمرناهم بالطاعة فقال : أي أمرناهم بالفسق ففعلوا ، والأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا وهذا لا يكون ، فبقي أن يكون مجازاً ، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صباً فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات ، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه ، وإنما خوَّلهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الإحسان والبر كما خلقهم أصحاء أقوياء وأقدرهم على الخير والشر ، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية ، وآثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليهم القول ، وهي كلمة العذاب فدمرهم.
فإن قلت : هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟ قلت : لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف يحذف ما الدليل قائم على نفيضه.
وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه وهو كلام مستفيض.
يقال : أمرته فقام وأمرته فقرأ ، لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة ، ولو ذهبت تقدر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب ولا يلزم هذا قولهم أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري لأن ذلك مناف للأمر مناقض له ، ولا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به ، فكان محالاً أن يقصد أصلاً حتى يجعل دالاً على المأمور به ، فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي ، لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأموراً به وكأنه يقول : كان مني أمر فلم يكن منه طاعة كما أن من يقول : فلان يعطي ويمنع ويأمر وينهى غير قاصد إلى مفعول.
فإن قلت : هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقسط والخير دليلاً على أن المراد أمرناهم بالخير { ففسقوا } ؟ قلت : لا يصح ذلك لأن قوله { ففسقوا } يدافعه فكأنك أظهرت شيئاً وأنت تدّعي إضمار خلافه ، فكان صرف الأمر إلى المجاز هو الوجه.
ونظير أمر شاء في أن مفعوله استفاض فيه الحذف لدلالة ما بعده عليه تقول : لو شاء لأحسن إليك ، ولو شاء لأساء إليك ، تريد لو شاء الإحسان ولو شاء الإساءة فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت وقلت : قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان أو من أهل الإساءة فاترك الظاهر المنطوق به وأضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة لم يكن على سداد انتهى.

أما ما ارتكبه من المجاز وهو أن { أمرنا مترفيها } صببنا عليهم النعمة صباً فيبعد جداً.
وأما قوله وأقدرهم على الخير والشر إلى آخره فمذهب الاعتزال ، وقوله لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز تعليل لا يصح فيما نحن بسبيله ، بل ثم ما يدل على حذفه.
وقوله فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه إلى قوله علم الغيب ، فنقول : حذف الشيء تارة يكون لدلالة موافقه عليه ، ومنه ما مثل به في قوله أمرته فقام وأمرته فقرأ ، وتارة يكون لدلالة خلافه أو ضده أو نقيضه فمن ذلك قوله تعالى : { وله ما سكن في الليل والنهار } قالوا : تقديره ما سكن وما تحرك.
وقوله تعالى { سرابيل تقيكم الحر } قالوا : الحر والبرد.
وقول الشاعر :
وما أدري إذا يممت أرضاً . . .
أريد الخير أيهما يليني
أالخير الذي أنا أبتغيه . . .
أم الشر الذي هو يبتغيني
تقديره : أريد الخير وأجتنب الشر ، وتقول : أمرته فلم يحسن فليس المعنى أمرته بعدم الإحسان فلم يحسن ، بل المعنى أمرته بالإحسان فلم يحسن ، وهذه الآية من هذا القبيل يستدل على حذف النقيض بإثبات نقيضه ، ودلالة النقيض على النقيض كدلالة النظير على النظير ، وكذلك أمرته فأساء إليّ ليس المعنى أمرته بالإساءة فأساء إليّ ، إنما يفهم منه أمرته بالإحسان فأساء إليّ.
وقوله ولا يلزم هذا قولهم أمرته فعصاني.
نقول : بل يلزم ، وقوله لأن ذلك مناف أي لأن العصيان مناف وهو كلام صحيح.
وقوله : فكان المأمور به غير مدلول عليه ولا منوي هذا لا يسلم بل هو مدلول عليه ومنوي لا دلالة الموافق بل دلالة المناقض كما بينا.
وأما قوله : لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأموراً به هذا أيضاً لا يسلم.
وقوله في جواب السؤال لأن قوله { ففسقوا } يدافعه ، فكأنك أظهرت شيئاً وأنت تدّعي إضمار خلافه.
قلنا : نعم يدعي إضمار خلافه ودل على ذلك نقيضه.
وقوله : ونظير أمر شاء في أن مفعوله استفاض فيه الحذف.
قلت : ليس نظيره لأن مفعول أمر لم يستفض فيه الحذف لدلالة ما بعده عليه ، بل لا يكاد يستعمل مثل شاء محذوفاً مفعوله لدلالة ما بعده عليه ، وأكثر استعماله مثبت المفعول لانتفاء الدلالة على حذفه.
قال تعالى : { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } { أمر أن لا تعبدوا إلا أيّاه } { أم تأمرهم أحلامهم بهذا } { قل أمر ربي بالقسط } { أنسجد لما تأمرنا } أي به ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة.
وقال الشاعر :
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به . . .
وقال أبو عبد الله الرازي : ولقائل أن يقول كما أن قوله أمرته فعصاني يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به ، فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به ، أن كونه معصية ينافي كونها مأموراً بها ، فوجب أن يدل هذا اللفظ على أن المأمور به ليس بفسق.

هذا الكلام في غاية الظهور فلا أدري لم أصرّ صاحب الكشاف على قوله مع ظهور فساده فثبت أن الحق ما ذكروه ، وهو أن المعنى أمرناهم بالأعمال الصالحة وهي الإيمان والطاعة والقوم خالفوا ذلك عناداً وأقدموا على الفسق انتهى.
القول الثاني : أن معنى { أمرنا } كثرنا أي كثرنا { مترفيها } يقال : أمر الله القوم أي كثرهم حكاه أبو حاتم عن أبي زيد.
وقال الواحدي : العرب تقول : أمر القوم إذا كثروا وأمرهم الله إذا كثرهم انتهى.
وقال أبو علي الفارسي : الجيد في أمرنا أن يكون بمعنى كثرنا ، واستدل أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بما جاء في الحديث : « خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة » أي كثيرة النسل ، يقال : أمر الله المهرة أي كثر ولدها ، ومن أنكر أمر الله القوم بمعنى كثرهم لم يلتفت إليه لثبوت ذلك لغة ويكون من باب ما لزم وعدّي بالحركة المختلفة ، إذ يقال : أمر القوم كثروا وأمرهم الله كثرهم ، وهو من باب المطاوعة أمرهم الله فأمروا كقولك شتر الله عينه فشترت ، وجدع أنفه وثلم سنه فثلمت.
وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمة.
{ أمرنا } بكسر الميم ، وحكاها النحاس وصاحب اللوامح عن ابن عباس ، وردّ الفراء هذه القراءة لا يلتفت إليه إذ نقل أنها لغة كفتح الميم ومعناها كثرنا.
حكى أبو حاتم عن أبي زيد يقال : أمر الله ماله وأمره أي كثره بكسر الميم وفتحها.
وقرأ عليّ بن أبي طالب ، وابن أبي إسحاق ، وأبو رجاء ، وعيسى بن عمر ، وسلام ، وعبد الله بن أبي يزيد ، والكلبي : آمرنا بالمد وجاء كذلك عن ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وأبي العالية ، وابن هرمز ، وعاصم ، وابن كثير ، وأبي عمرو ، ونافع ، وهو اختيار يعقوب ومعناه كثرنا.
يقال أمر الله القوم وآمرهم فتعدى بالهمزة.
وقرأ ابن عباس وأبو عثمان النهدي والسدّي وزيد بن عليّ وأبو العالية : { أمرنا } بتشديد الميم وروي ذلك عن عليّ والحسن والباقر وعاصم وأبي عمر وعدي أمر بالتضعيف ، والمعنى أيضاً كثرنا وقد يكون { أمرنا } بالتشديد بمعنى وليناهم وصيرناهم أمراء ، واللازم من ذلك أمر فلان إذا صار أميراً أي ولي الأمر.
وقال أبو عليّ الفارسي : لا وجه لكون { أمرنا } من الإمارة لأن رياستهم لا تكون إلاّ لواحد بعد واحد والإهلاك إنما يكون في مدة واحد منهم ، وما قاله أبو عليّ لا يلزم لأنا لا نسلم أن الأمير هو الملك بل كونه ممن يأمر ويؤتمر به ، والعرب تسمي أميراً من يؤتمر به وإن لم يكن ملكاً.

ولئن سلمنا أنه أريد به الملك فلا يلزم ما قال لأن القرية إذا ملك عليها مترف ثم فسق ثم آخر ففسق ثم كذلك كثر الفساد وتوالى الكفر ونزل بهم على الآخر من ملوكهم ، ورأيت في النوم أني قرأت وقرىء بحضرتي { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها } الآية بتشديد الميم.
فأقول في النوم : ما أفصح هذه القراءة ، والقول الذي حق عليهم هو وعيد الله الذي قاله رسولهم.
وقيل : { القول } لأملان وهؤلاء في النار ولا أبالي.
والتدمير الإهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء.
{ وكم } في موضع نصب على المفعول بأهلكنا أي كثيراً من القرون { أهلكنا ومن القرون } بيان لكم وتمييز له كما يميز العدد بالجنس ، والقرون عاد وثمود وغيرهم ويعني بالإهلاك هنا الإهلاك بالعذاب ، وفي ذلك تهديد ووعيد لمشركي مكة وقال : { من بعد نوح } ولم يقل من بعد آدم لأن نوحاً أول نبي بالغ قومه في تكذيبه ، وقومه أول من حلت بهم العقوبة بالعظمى وهي الاستئصال بالطوفان.
وتقدّم القول في عمر القرن و { من } الأولى للتبيين والثانية لابتداء الغاية وتعلقا بأهلكنا لاختلاف معنييهما.
وقال الحوفي : { من بعد نوح } من الثانية بدل من الأولى انتهى.
وهذا ليس بجيد.
وقال ابن عطية : هذه الباء يعني في { وكفى بربك } إنما تجيء في الأغلب في مدح أو ذم انتهى.
و { بذنوب عباده } تنبيه على أن الذنوب هي أسباب الهلكة ، و { خبيراً بصيراً } لتنبيه على أنه عالم بها فيعاقب عليها ويتعلق بذنوب بخبيراً أو ببصيراً.
وقال الحوفي : تتعلق بكفى انتهى.
وهذا وهم و { العاجلة } هي الدنيا ومعنى إرادتها إيثارها على الآخرة ، ولا بد من تقدير حذف دل عليه المقابل في قوله : { من أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن } فالتقدير : من كان يريد العاجلة وسعى لها سعيها وهو كافر.
وقيل : المراد { من كان يريد العاجلة } بعمل الآخرة كالمنافق والمرائي والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة والذكر كما قال عليه السلام : « ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه » وقال عليه الصلاة والسلام : « من طلب الدنيا بعمل الآخرة فما له في الآخرة من نصيب »
وقيل : نزلت في المنافقين وكانوا يغزون مع المسلمين للغنيمة لا للثواب ، و { من } شرط وجوابه { عجلنا له فيها ما نشاء } فقيد المعجل بمشيئته أي ما يشاء تعجيله.
و { لمن نريد } بدل من قوله : { له } بدل بعض من كل لأن الضمير في { له } عائد على من الشرطية ، وهي في معنى الجمع ، ولكن جاءت الضمائر هنا على اللفظ لا على المعنى ، فقيد المعجل بإرادته فليس من يريد العاجلة يحصل له ما يريده ، ألا ترى أن كثيراً من الناس يختارون الدنيا ولا يحصل لهم منها إلاّ ما قسمه الله لهم ، وكثيراً منهم يتمنون النزر اليسير فلا يحصل لهم ، ويجمع لهم شقاوة الدنيا وشقاوة الآخرة.

وقرأ الجمهور { ما نشاء } بالنون وروي عن نافع ما يشاء بالياء.
فقيل الضمير في يشاء يعود على الله ، وهو من باب الالتفات فقراءة النون والياء سواء.
وقيل يجوز أن يعود على من العائد عليها الضمير في { له } وليس ذلك عاماً بل لا يكون له ما يشاء إلاّ آحاد أراد الله لهم ذلك ، والظاهر أن الضمير في { لمن نريد } يقدر مع تقديره مضاف محذوف يدل عليه ما قبله ، أي لمن نريد تعجيله له أي تعجيل ما نشاء.
وقال أبو إسحاق الفزاري المعنى لمن نريد هلكته وما قاله لا يدل عليه لفظ في الآية.
و { جعلنا } بمعنى صيرنا ، والمفعول الأول { جهنم } والثاني له لأنه ينعقد منهما مبتدأ وخبر ، فنقول : جهنم للكافرين كما قال هؤلاء للنار وهؤلاء للجنة و { يصلاها } حال من جهنم.
وقال أبو البقاء : أو من الضمير الذي في { له }.
وقال صاحب الغنيان : مفعول { جعلنا } الثاني محذوف تقديره مصيراً أو جزاءً انتهى.
{ مذموماً } إشارة إلى الإهانة.
{ مدحوراً } إشارة إلى البعد والطرد من رحمة الله { ومن أراد الآخرة } أي ثواب الآخرة بأن يؤثرها على الدنيا ، ويعقد إرادته بها { وسعى } فيما كلف من الأعمال والأقوال { سعيها } أي السعي المعد للنجاة فيها.
{ وهو مؤمن } هو الشرط الأعظم في النجاة فلا تنفع إرادة ولا سعي إلا بحصوله.
وفي الحقيقة هو الناشىء عنه إرادة الآخرة والسعي للنجاة فيها وحصول الثواب ، وعن بعض المتقدّمين من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله : إيمان ثابت ، ونية صادقة ، وعمل مصيب ، وتلا هذه الآية { فأولئك } إشارة إلى من اتصف بهذه الأوصاف وراعى معنى من فلذلك كان بلفظ الجمع ، والله تعالى يشكرهم على طاعتهم وهو تعالى المشكور على ما أعطى من العقل وإنزال الكتب وإيضاح الدلائل ، وهو المستحق للشكر حقيقة ومعنى شكرة تعالى المطيع الإثناء عليه وثوابه على طاعته.
وانتصب { كلا } بنمد والإمداد المواصلة بالشيء ، والمعنى كل واحد من الفريقين { نمد } كذا قدره الزمخشري : وأعربوا { هؤلاء } بدلاً من { كلا } ولا يصح أن يكون بدلاً من كل على تقدير كل واحد لأنه يكون إذ ذاك بدل كل من بعض ، فينبغي أن يكون التقدير كل الفريقين فيكون بدل كل من كل على جهة التفصيل.
والظاهر أن هذا الإمداد هو في الرزق في الدنيا وهو تأويل الحسن وقتادة ، أي إن الله يرزق في الدنيا مريدي العاجلة الكافرين ، ومريدي الآخرة المؤمنين ويمد الجميع بالرزق ، وإنما يقع التفاوت في الآخرة ويدل على هذا التأويل { وما كان عطاء ربك محظوراً } أي إن رزقه لا يضيق عن مؤمن ولا كافر.
وعن ابن عباس أن معنى { من عطاء ربك } من الطاعات لمريد الآخرة والمعاصي لمريد العاجلة ، فيكون العطاء عبارة عما قسم الله للعبد من خير أو شر ، وينبوا لفظ العطاء على الإمداد بالمعاصي.

والظاهر أن { انظر } بصرية لأن التفاوت في الدنيا مشاهد و { كيف } في موضع نصب بعد حذف حرف الجر ، لأن نظر يتعدى به ، فانظر هنا معلقة.
ولما كان النظر مفضياً وسبباً إلى العلم جاز أن يعلق ، ويجوز أن يكون { انظر } من نظر الفكر فلا كلام في تعليقه إذ هو فعل قلبي.
والتفضيل هنا عبارة عن الطاعات المؤدّية إلى الجنة ، والمفضل عليهم الكفار كأنه قيل : انظر في تفضيل فريق على فريق ، وعلى التأويل الأول كأنه قيل في تفضيل شخص على شخص من المؤمنين والكافرين ، والمفضول في قوله : { أكبر درجات وأكبر تفضيلاً } محذوف تقديره من درجات الدنيا ومن تفضيل الدنيا.
وروي أن قوماً من الأشراف ومن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضي الله عنه ، فخرج الإذن لبلال وصهيب فشق على أبي سفيان فقال سهيل بن عمر : وإنما أتينا من قبلنا أنهم دعوا ودعينا ، يعني إلى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا ، وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة ، ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله لهم في الجنة أكثر.
وقرىء أكثر بالثاء المثلثة.
وقال ابن عطية : وقوله : { أكبر درجات } ليس في اللفظ من أي شيء لكنه في المعنى ، ولا بد { أكبر درجات } من كل ما يضاف بالوجود أو بالفرض ، ورأى بعض العلماء أن هذه الدرجات والتفضيل إنما هو فيما بين المؤمنين.
وأسند الطبري في ذلك حديثاً « أن أنزل أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها وقد أرضى الله الجميع فما يغبط أحد أحداً » والخطاب في { لا تجعل } للسامع غير الرسول.
وقال الطبري وغيره : الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم ، والمراد لجميع الخلق.
{ فتقعد } قال الزمخشري : من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة ، بمعنى صارت.
يعني فتصير جامعاً على نفسك الذم وما يتبعه من الهلاك من الذل والخذلان والعجز عن النصرة ممن جعلته شريكاً له انتهى.
وما ذهب إليه من استعمال { فتقعد } بمعنى فتصير لا يجوز عند أصحابنا ، وقعد عندهم بمعنى صار مقصورة على المثل ، وذهب الفراء إلى أنه يطرد جعل قعد بمعنى صار ، وجعل من ذلك قول الراجز :
لا يقنع الجارية الخضاب . . .
ولا الوشاحان ولا الجلباب
من دون أن تلتقي الأركاب . . .
ويقعد الأير له لعاب
وحكى الكسائي : قعد لا يسأل حاجة إلاّ قضاها بمعنى صار ، فالزمخشري أخذ في الآية بقول الفراء ، والقعود هنا عبارة عن المكث أي فيمكث في الناس { مذموماً مخذولاً } كما تقول لمن سأل عن حال شخص هو قاعد في أسوأ حال ، ومعناه ماكث ومقيم ، وسواء كان قائماً أم جالساً ، وقد يراد القعود حقيقة لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائراً متفكراً ، وعبر بغالب حاله وهي القعود.

وقيل : معنى { فتقعد } فتعجز ، والعرب تقول : ما أقعدك عن المكارم والذمّ هنا لا حق من الله تعالى ، ومن ذوي العقول في أن يكون الإنسان يجعل عوداً أو حجراً أفضل من نفسه ويخصه بالكرامة وينسب إليه الألوهية ويشركه مع الله الذي خلقه ورزقه وأنعم عليه ، والخذلان في هذا يكون بإسلام الله ولا يكفل له بنصر ، والمخذول الذي لا ينصره من يحب أن ينصره.
وانتصب { مذموماً مخذولاً } على الحال ، وعند الفراء والزمخشري على أنه خبر لتقعد كلا لمذكرين مثنى معنى اتفاقاً مفرداً لفظاً عند البصريين على وزن فعل كمعي فلامه ألف منقلبة عن واو عند الأكثر ، مثنى لفظاً عند الكوفيين ، وتبعهم السهيلي فألفه للتثنية لا أصل ولامه لام محذوفة عند السهيلي ولا نص عن الكوفيين فيها ، ويحتمل أن تكون موضوعة على حرفين على أصل مذهبهم ، ولا تنفك عن الإضافة وإن أضيف إلى مظهر فألفه ثابتة مطلقاً في مشهور اللغات ، وكنانة تجعله كمشهور المثنى أو إلى مضمر ، فالمشهور قلب ألفه ياء نصباً وجراً ، والذي يضاف إليه مثنى أو ما في معناه.
وجاء التفريق في الشعر مضافاً فالظاهر وحفظ الكوفيون كلاي وكلاك قاما ويستعمل تابعاً توكيداً ومبتدأ ومنصوباً ومجروراً ، ويخبر عنه إخبار المفرد فصيحاً ، وربما وجب ، وإخبار المثنى قليلاً وربما وجب.

وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)

{ أف } اسم فعل بمعنى أتضجر ولم يأت اسم فعل بمعنى المضارع إلاّ قليلاً نحو : أف وأوه بمعنى أتوجع ، وكان قياسه أن لا يبنى لأنه لم يقع موقع المبني.
وذكر الزناتي في كتاب الحلل له : إن في أف لغات تقارب الأربعين ونحن نسردها مضبوطة كما رأيناها وهي : أف أفِ أفُ أفَّ أفِّ أفُّ أفا أفّ أفّ أفا أفٍ أفٌ أف أفء أفيّ بغير إمالة أفيّ بالإمالة المحضة أفي بالإمالة بين بين أفيْ أفوْ أفّهْ أفّهْ أفّه فهذا اثنان وعشرون مع الهمزة المضمومة إفْ أفّ إف إفٍ إفٍّ إفا إفٌّ إفُّ إفا إفيِّ بالإمالة إفيْ فهذه إحدى عشرة مع الهمزة المكسورة أفْ أفّ آفّ آفٍّ أفيّ.
وذكر ابن عطية أفاه بهاء السكت وهي تمام الأربعين.
النهر الزجر بصياح وإغلاظ.
قال العسكريّ : وأصله الظهور ، ومنه النهر والانتهار ، وأنهر الدم أظهره وأساله ، وانتهر الرجل أظهر له الإهانة بقبح الزجر والطرد.
وقال ابن عطية : الانتهار إظهار الغضب في الصوت واللفظ.
وقال الزمخشري : النهي والنهر والنهم أخوات.
التبذير الإسراف قاله أبو عبيدة يعني في النفقة ، وأصله التفريق ومنه سمي البذر بذراً لأنه يفرق في المزرعة.
وقال الشاعر :
ترائب يستضيء الحلي فيها . . .
كجمر النار بذر بالظلام
ويروى بدد أي فرق.
المحسور قال الفراء : تقول العرب بعير محسور إذا انقطع سيره ، وحسرت الدابة حتى انقطع سيرها ، ويقال حسير فعيل بمعنى مفعول ويجمع على حسرى.
قال الشاعر :
بها جيف الحسرى فأما عظامها . . .
فبيض وأما جلدها فصليب
القسطاس بضم القاف وكسرها وبالسين الأولى والصاد.
قال مؤرج السدوسي : هي الميزان بلغة الروم وتأتي أقوال المفسرين فيه.
المرح شدّة الفرح ، يقال : مرح يمرح مرحاً.
الطول ضد القصر ، ومنه الطول خلاف العرض.
الحجاب ما ستر الشيء عن الوصول إليه.
الرفات قال الفراء : التراب.
وقيل : الذي بولغ في دقه حتى تفتت ، ويقال : رفت الشيء كسره يرفته بالكسر والرفات الأجزاء المتفتتة من كل شيء مكسر ، وفعال بناء لهذا المعنى كالحطام والفتات والرضاض والدقاق.
{ وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوّابين غفوراً }.
قرأ الجمهور { وقضى } فعلاً ماضياً من القضاء.
وقرأ بعض ولد معاذ بن جبل : وقضاء ربك مصدر { قضى } مرفوعاً على الابتداء و { أن لا تعبدوا } الخبر.
وفي مصحف ابن مسعود وأصحابه وابن عباس وابن جبير والنخعي وميمون بن مهران من التوصية.
وقرأ بعضهم : وأوصى من الإيصاء ، وينبغي أن يحمل ذلك التفسير لأنها قراءة مخالفة لسواد المصحف والمتواتر هو { وقضى } وهو المستفيض عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهم في أسانيد القراء السبعة.

{ وقضى } هنا قال ابن عباس والحسن وقتادة بمعنى أمر.
وقال ابن مسعود وأصحابه : بمعنى وصى.
وقيل : أوجب وألزم وحكم.
وقيل : بمعنى أحكم.
وقال ابن عطية : وأقول أن المعنى { وقضى ربك } أمره { أن لا تعبدوا إلا إياه } وليس في هذه الألفاظ إلاّ أمر بالاقتصار على عبادة الله ، فذلك هو المقضي لا نفس العبادة ، والمقضي هنا هو الأمر انتهى.
كأنه رام أن يترك قضى على مشهور موضوعها بمعنى قدر ، فجعل متعلقه الأمر بالعبادة لا العبادة لأنه لا يستقيم أن يقضي شيئاً بمعنى أن يقدر إلاّ ويقع ، والذي فهم المفسرون غيره أن متعلق قضى هو { أن لا تعبدوا } وسواء كانت { أن } تفسيرية أم مصدرية.
وقال أبو البقاء : ويجوز أن تكون في موضع نصب أي ألزم ربك عبادته و { لا } زائدة انتهى.
وهذا وهم لدخول { إلا } على مفعول { تعبدوا } فلزم أن يكون منفياً أو منهياً والخطاب بقوله { لا تعبدوا } عامّ للخلق.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون { قضى } على مشهورها في الكلام ويكون الضمير في { تعبدوا } للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة انتهى.
قال الحوفي : الباء متعلقة بقضى ، ويجوز أن تكون متعلقة بفعل محذوف تقديره وأوصى { بالوالدين إحساناً } و { إحساناً } مصدر أي تحسنوا إحساناً.
وقال ابن عطية : قوله { وبالوالدين إحساناً } عطف على أن الأولى أي أمر الله { أن لا تعبدوا إلا أياه } وأن تحسنوا { بالوالدين إحساناً } وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرناه يكون قوله : { وبالوالدين إحساناً } مقطوعاً من الأول كأنه أخبرهم بقضاء الله ، ثم أمرهم بالإحسان إلى الوالدين.
وقال الزمخشري : لا يجوز أن تتعلق الباء في { بالوالدين } بالإحسان لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته.
وقال الواحدي في البسيط : الباء في قوله { بالوالدين } من صلة الإحسان ، وقدمت عليه كما تقول : بزيد فامرر ، انتهى.
وأحسن وأساء يتعدى بإلى وبالباء قال تعالى : { وقد أحسن بي } وقال الشاعر :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة . . .
وكأنه تضمن أحسن معنى لطف ، فعدّي بالباء و { إحساناً } إن كان مصدراً ينحل لأن والفعل فلا يجوز تقديم متعلقه به ، وإن كان بمعنى أحسنوا فيكون بدلاً من اللفظ بالفعل نحو ضربا زيداً ، فيجوز تقديم معموله عليه ، والذي نختاره أن تكون { أن } حرف تفسير و { لا تعبدوا } نهي و { إحساناً } مصدر بمعنى الأمر عطف ما معناه أمر على نهي كما عطف في :
يقولون لا تهلك أسى وتجملِ . . .
وقد اعتنى بالأمر بالإحسان إلى الوالدين حيث قرن بقوله : { لا تعبدوا } وتقديمهما اعتناء بهما على قوله : { إحساناً } ومناسبة اقتران برّ الوالدين بإفراد الله بالعبادة من حيث إنه تعالى هو الموجد حقيقة ، والوالدان وساطة في إنشائه ، وهو تعالى المنعم بإيجاده ورزقه ، وهما ساعيان في مصالحه.

وقال الزمخشري : { إما } هي الشرطية زيدت عليها ما توكيداً لها ، ولذلك دخلت النون المؤكدة في الفعل ، ولو أفردت لم يصح دخولها لا تقول أن تكرمنّ زيداً يكرمك ، ولكن إما تكرمنَّه انتهى.
وهذا الذي ذكره مخالف لمذهب سيبويه لأن مذهبه أنه يجوز أن يجمع بين إما ونون التوكيد ، وأن يأتي بأن وحدها ونون التوكيد ، وأن يأتي بإما وحدها دون نون التوكيد.
وقال سيبويه في هذه المسألة : وإن شئت لم تقحم النون كما أنك إن شئت لم تجيء بما يعني مع النون وعدمها ، وعندك ظرف معمول ليبلغن ، ومعنى العندية هنا أنهما يكونان عنده في بيته وفي كنفه لا كافل لهما غيره لكبرهما وعجزهما ، ولكونهما كلاً عليه وأحدهما فاعل { يبلغن } و { أو كلاهما } معطوف على { أحدهما }.
وقرأ الجمهور { يبلغن } بنون التوكيد الشديدة والفعل مسند إلى { أحدهما }.
وروي عن ابن ذكوان بالنون الخفيفة.
وقرأ الأخوان : إما يبلغان بألف التثنية ونون التوكيد المشدّدة وهي قراءة السلمي وابن وثاب وطلحة والأعمش والجحدري.
فقيل الألف علامة تثنية لا ضمير على لغة أكلوني البراغيث ، وأحدهما فاعل و { أو كلاهما } عطف عليه ، وهذا لا يجوز لأن شرط الفاعل في الفعل الذي لحقته علامة التثنية أن يكون مسند المثنى أو معرف بالعطف بالواو ، ونحو قاما أخواك أو قاما زيد وعمرو على خلاف في هذا الأخير هل يجوز أو لا يجوز ، والصحيح جوازه و { أحدهما } ليس مثنى ولا هو معرف بالعطف بالواو مع مفرد.
وقيل : الألف ضمير الوالدين و { أحدهما } بدل من الضمير و { كلاهما } عطف على { أحدهما } والمعطوف على البدل بدل.
وقال الزمخشري.
فإن قلت : لو قيل إما يبلغان { كلاهما } كان { كلاهما } توكيداً لا بدلاً ، فمالك زعمت أنه بدل؟ قلت : لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيداً للاثنين فانتظم في حكمه فوجب أن يكون مثله.
فإن قلت : ما ضرك لو جعلته توكيداً مع كون المعطوف عليه بدلاً وعطفت التوكيد على البدل؟ قلت : لو أريد توكيد التثنية لقيل { كلاهما } فحسب فلما قيل { أحدهما أو كلاهما } علم أن التوكيد غير مراد فكان بدلاً مثل الأول.
وقال ابن عطية : وعلى هذه القراءة الثالثة يعني يبلغانّ يكون قوله { أحدهما } بدلاً من الضمير في يبلغان وهو بدل مقسم كقول الشاعر :
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة . . .
وأخرى رمى فيها الزمان فشُلَّتِ
انتهى.
ويلزم من قوله أن يكون { كلاهما } معطوفاً على { أحدهما } وهو بدل ، والمعطوف على البدل بدل ، والبدل مشكل لأنه يلزم منه أن يكون المعطوف عليه بدلاً ، وإذا جعلت { أحدهما } بدلاً من الضمير فلا يكون إلاّ بدل بعض من كل ، وإذا عطفت عليه { كلاهما } فلا جائز أن يكون بدل بعض من كل ، لأن { كلاهما } مرادف للضمير من حيث التثنية ، فلا يكون بدل بعض من كل ، ولا جائز أن يكون بدل كل من كل لأن المستفاد من الضمير التثنية وهو المستفاد من { كلاهما } فلم يفد البدل زيادة على المبدل منه.

وأما قول ابن عطية وهو بدل مقسم كقول الشاعر : وكنت كذي رجلين.
البيت.
فليس من بدل التقسيم لأن شرط ذلك العطف بالواو ، وأيضاً فالبدل المقسم لا يصدق المبدل فيه على أحد قسميه ، و { كلاهما } يصدق عليه الضمير وهو المبدل منه ، فليس من المقسم.
ونقل عن أبي علي أن { كلاهما } توكيد وهذا لا يتم إلاّ بأن يعرب { أحدهما } بدل بعض من كل ، ويضمر بعده فعل رافع الضمير ، ويكون { كلاهما } توكيداً لذلك الضمير ، والتقدير أو يبلغا { كلاهما } وفيه حذف المؤكد.
وقد أجازه سيبويه والخليل قال : مررت بزيد وإياي أخوه أنفسهما بالرفع والنصب ، الرفع على تقديرهما صاحباي أنفسهما ، والنصف على تقدير أعينهما أنفسهما ، إلاّ أن المنقول عن أبي علي وابن جنيّ والأخفش قبلهما أنه لا يجوز حذف المؤكد وإقامة المؤكد مقامه ، والذي نختاره أن يكون { أحدهما } بدلاً من الضمير و { كلاهما } مرفوع بفعل محذوف تقديره أو يبلغ { كلاهما } فيكون من عطف الجمل لا من عطف المفردات ، وصار المعنى أن يبلغ أحد الوالدين أو يبلغ { كلاهما } { عندك الكبر }.
وجواب الشرط { فلا تقل لهما أف } وتقدم مدلول لفظ أف في المفردات واللغات التي فيها ، وإذا كان قد نهى أن يستقبلهما بهذه اللفظة الدالة على الضجر والتبرم بهما فالنهي عما هو أشدّ كالشتم والضرب هو بجهة الأولى ، وليست دلالة أف على أنواع الإيذاء دلالة لفظية خلافاً لمن ذهب إلى ذلك.
وقال ابن عباس : { أف } كلمة كراهة بالغ تعالى في الوصية بالوالدين ، واستعمال وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال حتى لا نقول لهما عند الضجر هذه الكلمة فضلاً عما يزيد عليها.
قال القرطبي : قال علماؤنا : وإنما صار قول { أف } للوالدين أردأ شيء لأن رفضهما رفض كفر النعمة ، وجحد التربية ، وردّ وصية الله.
و { أف } كلمة منقولة لكل شيء مرفوض ولذلك قال إبراهيم عليه السلام : { أف لكم ولما تعبدون من دون الله } أي رفض لكم ولهذه الأصنام معكم انتهى.
وقرأ الحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى ونافع وحفص { أف } بالكسر والتشديد مع التنوين.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر كذلك بغير تنوين.
وقرأ ابن كثير وابن عامر بفتحها مشدّدة من غير تنوين.
وحكى هارون قراءة بالرفع والتنوين.
وقرأ أبو السمال { أف } بضم الفاء من غير تنوين.
وقرأ زيد بن عليّ أفاً بالنصب والتشديد والتنوين.
وقرأ ابن عباس { أف } خفيفة فهذه سبع قراءات من اللغات التي حكيت في { أف }.
وقال مجاهد : إن معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ الغائط والبول اللذين رأيا منك في حال الصغر فلا تقذِّرهما وتقول { أف } انتهى.
والآية أعم من ذلك.
ولما نهاه تعالى أن يقول لهما ما مدلوله أتضجر منكما ارتقى إلى النهي عما هو من حيث الوضع أشد من { أف } وهو نهرهما ، وإن كان النهي عن نهرهما يدل عليه النهي عن قول { أف } لأنه إذا نهى عن الأدنى كان ذلك نهياً عن الأعلى بجهة الأولى ، والمعنى ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك { وقل لهما } بدل قول أف ونهرهما { قولاً كريماً } أي جامعاً للمحاسن من البر وجودة اللفظ.

قال ابن المسيب : قول العبد المذنب للسيد اللفظ.
وقيل : { قولاً كريماً } أي جميلاً كما يقتضيه حسن الأدب.
وقال عمر : أن تقول يا أبتاه يا أمّاه انتهى.
كما خاطب إبراهيم لأبيه يا أبت مع كفره ، ولا تدعوهما بأسمائهما لأنه من الجفاء وسوء الأدب ولا بأس به في غير وجهه كما قالت عائشة نحلني أبو بكر كذا.
ولما نهاه تعالى عن القول المؤذي وكان لا يستلزم ذلك الأمر بالقول الطيب أمره تعالى بأن يقول لهما القول الطيب السار الحسن ، وأن يكون قوله دالاً على التعظيم لهما والتبجيل.
وقال عطاء : تتكلم معهما بشرط أن لا ترفع إليهما بصرك ولا تشد إليهما نظرك لأن ذلك ينافي القول الكريم.
وقال الزجاج قولاً سهلاً سلساً لا شراسة فيه ، ثم أمره تعالى بالمبالغة في التواضع معهما بقوله : { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة }.
وقال القفال في تقريره وجهان.
أحدهما : أن الطائر إذا ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه ، فخفض الجناح كناية عن حسن التدبير وكأنه قيل للولد اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك حال صغرك.
الثاني : أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه ، وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه.
وقال ابن عطية : استعارة أي اقطِعهما جانب الذل منك ودمث لهما نفسك وخلقك ، وبولغ بذكر الذل هنا ولم يذكر في قوله : { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } وذلك بسبب عظم الحق انتهى.
وبسبب شرف المأمور فإنه لا يناسب نسبة الذل إليه.
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى { جناح الذل } ؟ قلت : فيه وجهان.
أحدهما : أن يكون المعنى واخفض لهما جناحك كما قال : { واخفض جناحك للمؤمنين } فاضافه إلى الذل أو الذل كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى واخفض لهما جناحك الذليل أو الذلول.
والثاني : أن يجعل لذله أو لذله جناحاً خفيضاً كما جعل لبيد للشمال يداً ، وللقرة زماناً مبالغة في التذلل والتواضع لهما انتهى.
والمعنى أنه جعل اللين ذلاً واستعار له جناحاً ثم رشح هذا المجاز بأن أمر بخفضه.
وحكي أن أبا تمام لما نظم قوله :
لا تسقني ماء الملام فإنني . . .
صب قد استعذبت ماء بكائيا
جاءه رجل بقصعة وقال له اعطني شيئاً من ماء الملام ، فقال له : حتى تأتيني بريشة من جناح الذل.

وجناحا الإنسان جانباه ، فالمعنى واخفض لهما جانبك ولا ترفعه فعل المتكبر عليهما.
وقال بعض المتأخرين فأحسن :
أراشوا جناحي ثم بلوه بالندى . . .
فلم أستطع من أرضهم طيرانا
وقرأ الجمهور { من الذل } بضم الذال.
وقرأ ابن عباس وعروة بن جبير والجحدري وابن وثاب بكسر الذال وذلك على الاستعارة في الناس لأن ذلك يستعمل في الدواب في ضد الصعوبة ، كما أن الذل بالضم في ضد الغير من الناس ، ومن الظاهر أنها للسبب أي الحامل لك على خفض الجناح هو رحمتك لهما إذ صارا مفتقرين لك حالة الكبر كما كنت مفتقراً إليهما حالة الصغر.
قال أبو البقاء : { من الرحمة } أي من أجل الرحمة ، أي من أجل رفقك بهما فمن متعلقة باخفض ، ويجوز أن يكون حالاً من جناح.
وقال ابن عطية : من الرحمة هنا لبيان الجنس أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس لا بأن يكون ذلك استعمالاً ، ويصح أن يكون ذلك لابتداء الغاية انتهى.
ثم أمره تعالى بأن يدعو الله بأن يرحمهما رحمته الباقية إذ رحمته عليهما لا بقاء لها.
ثم نبَّه على العلة الموجبة للإحسان إليهما والبر بهما واسترحام الله لهما وهي تربيتهما له صغيراً ، وتلك الحالة مما تزيده إشفاقاً ورحمة لهما إذ هي تذكير لحالة إحسانهما إليه وقت أن لا يقدر على الإحسان لنفسه.
وقال قتادة : نسخ الله من هذه الآية هذا اللفظ يعني { وقل ربِّ ارحمهما } بقوله تعالى : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } وقيل : هي مخصوصة في حق المشركين.
وقيل لا نسخ ولا تخصيص لأن له أن يدعو الله لوالديه الكافرين بالهداية والإرشاد وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان ، والظاهر أن الكاف في { كما } للتعليل أي { رب ارحمهما } لتربيتهما لي وجزاء على إحسانهما إليّ حالة الصغر والافتقار.
وقال الحوفي : الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف تقديره رحمة مثل تربيتي صغيراً.
وقال أبو البقاء : { كما } نعت لمصدر محذوف أي رحمة مثل رحمتهما.
وسرد الزمخشري وغيره أحاديث وآثاراً كثيرة في بر الوالدين يوقف عليها في كتبهم.
ولما نهى تعالى عن عبادة غيره وأمر بالإحسان إلى الوالدين ولا سيما عند الكبر وكان الإنسان ربما تظاهر بعبادة وإحسان إلى والديه دون عقد ضمير على ذلك رياء وسمعة ، أخبر تعالى أنه أعلم بما انطوت عليه الضمائر من دون قصد عبادة الله والبر بالوالدين.
ثم قال : { إن تكونوا صالحين } أي ذوي صلاح ثم فرط منكم تقصير في عبادة أو بر وأبتم إلى الخير فإنه غفور لما فرط من هِناتكم.
والظاهر أن هذا عام لكل من فرطت منه جناية ثم تاب منها ، ويندرج فيه من جنى على أبويه ثم تاب من جنايته.
وقال ابن جبير : هي في المبارزة تكون من الرجل إلى أبيه لا يريد بذلك إلاّ الخير.

وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)

لما أمر تعالى ببر الوالدين أمر بصلة القرابة.
قال الحسن : نزلت في قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والظاهر أنه خطاب لمن خوطب بقوله { إمّا يبلغنّ عندك الكبر } وألحق هنا ما يتعين له من صلة الرحم ، وسد الخلة ، والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه.
قال نحوه ابن عباس وعكرمة والحسن وغيرهم.
وقال عليّ بن الحسين فيها : هم قرابة الرسول عليه السلام ، أمر بإعطائهم حقوقهم من بيت المال ، والظاهر أن الحق هنا مجمل وأن { ذا القربى } عام في ذي القرابة فيرجع في تعيين الحق وفي تخصيص ذي القرابة إلى السنة.
وعن أبي حنيفة : إن القرابة إذا كانوا محارم فقراء عاجزين عن التكسب وهو موسر حقهم أن ينفق عليهم.
وعند الشافعي : ينفق على الولد والوالدين فحسب على ما تقرر في كتب الفقه.
ونهى تعالى عن التبذير وكانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها وتبذر أموالها في الفخر والسمعة وتذكر ذلك في أشعارها ، فنهى الله تعالى عن النفقة في غير وجوه البر وما يقرب منه تعالى.
وعن ابن مسعود وابن عباس : التبذير إنفاق المال في غير حق.
وقال مجاهد : لو أنفق ماله كله في حق ما كان مبذراً.
وذكر الماوردي أنه الإسراف المتلف للمال ، وقد احتج بهذه الآية على الحجر على المبذر ، فيجب على الإمام منعه منه بالحَجْر والحيلولة بينه وبين ماله إلاّ بمقدار نفقة مثله ، وأبو حنيفة لا يرى الحجر للتبذير وإن كان منهياً عنه.
وقال القرطبي : يحجر عليه إن بذله في الشهوات وخيف عليه النفاد ، فإن أنفق وحفظ الأصل فليس بمبذر وإخوة الشياطين كونهم قرناءهم في الدنيا وفي النار في الآخرة ، وتدل هذه الأخوة على أن التبذير هو في معصية الله أو كونهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف في الدنيا.
وقرأ الحسن والضحاك إخوان الشيطان على الإفراد وكذا ثبت في مصحف أنس ، وذكر كفر الشيطان لربه ليحذر ولا يطاع لأنه لا يدعو إلى خيركما قال إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير.
{ وإما تعرضنّ }.
قيل : " نزلت في ناس من مزينة استحملوا الرسول فقال : «لا أجد ما أحملكم عليه».
فبكوا " وقيل في بلال وصهيب وسالم وخباب : سألوه ما لا يجد فأعرض عنهم.
وروي أنه عليه السلام كان بعد نزول هذه الآية إذا لم يكن عنده ما يعطي وسئل قال : " يرزقنا الله وإياكم من فضله " فالرحمة على هذا الرزق المنتظر وهو قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة.
وقال ابن زيد : الرحمة الأجر والثواب وإنما نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأبى أن يعطيهم لأنه كان يعلم منهم نفقة المال في فساد ، فكان يعرض عنهم وعنه في الأجر في منعهم لئلا يعينهم على فسادهم ، فأمره الله تعالى أن يقول لهم : { قولاً ميسوراً } يتضمن الدعاء في الفتح لهم والإصلاح انتهى من كلام ابن عطية.

وقال الزمخشري : وإن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد { فقل لهم قولاً ميسوراً } ولا تتركهم غير مجابين إذا سألوك ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئل شيئاً وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياء ، ويجوز أن يكون معنى { وإما تعرضنّ عنهم } وإن لم تنفعهم وترفع خصاصتهم لعدم الاستطاعة ، ولا يريد الإعراض بالوجه كناية بالإعراض عن ذلك لأن من أبى أن يعطي أعرض بوجهه انتهى.
والذي يظهر أنه تعالى لما أمر بإيتاء ذي القربى حقه ومن ذكر معه ونهاه عن التبذير ، قال : وإن لم يكن منك إعراض عنهم فالضمير عائد عليهم ، وعلل الإعراض بطلب الرحمة وهي كناية عن الرزق والتوسعة وطلب ذلك ناشىء عن فقدان ما يجود به ويؤتيه من سأله ، وكأن المعنى وإن تعرض عنهم لإعسارك فوضع المسبب وهو ابتغاء الرحمة موضع السبب وهو الإعسار.
وأجاز الزمخشري أن يكون { ابتغاء رحمة من ربك } علة لجواب الشرط فهو يتعلق به ، وقدم عليه أي فقل لهم قولاً سهلاً ليناً وعدهم وعداً جميلاً رحمة لهم وتطييباً لقلوبهم ابتغاء رحمة من ربك ، أي ابتغِ رحمة الله التي ترجوها برحمتك عليهم انتهى.
وما أجازه لا يجوز لأن ما بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبله لا يجوز في قولك أن يقم فاضرب خالداً أن تقول : إن يقم خالداً فاضرب ، وهذا منصوص عليه فإن حذفت الفاء في مثل إن يقم يضرب خالداً فمذهب سيبويه والكسائي الجواز ، فتقول : إن يقم خالداً نضرب ، ومذهب الفراء المنع فإن كان معمول الفعل مرفوعاً نحو إن تفعل يفعل زيد فلا يجوز تقديم زيد على أن يكون مرفوعاً بيفعل ، هذا وأجاز سيبويه أن يكون مرفوعاً بفعل يفسره يفعل كأنك قلت : إن تفعل يفعل زيد يفعل ، ومنع ذلك الكسائي والفراء.
وقال ابن جبير : الضمير في { عنهم } عائد على المشركين ، والمعنى { وإما تعرضنّ عنهم } لتكذيبهم إياك ابتغاء رحمة أي نصر لك عليهم أو هداية من الله لهم ، وعلى هذا القول الميسور المداراة لهم باللسان قاله أبو سليمان الدمشقي ويسر يكون لازماً ومتعدّياً فميسور من المتعدّي تقول : يسرت لك كذا إذا أعددته.
قال الزمخشري : يقال يسر الأمر وعسر مثل سعد ونحس فهو مفعول انتهى.
ولمعنى هذه الآية أشار الشاعر في القصيدة التي تسمى باليتيمة في قوله :
ليكن لديك لسائلِ فرجٌ . . .
إن لم يكن فليحسن الردّ
وقال آخر
إن لم يكن ورق يوماً أجود به . . .
للسائلين فإني لين العود
لا يعدم السائلون الخير من خلقي . . .
إما نوَالي وإما حسن مردودي

{ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عقنك } الآية.
قيل : نزلت في إعطائه صلى الله عليه وسلم قميصه ولم يكن له غيره وبقي عرياناً.
وقيل : أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل ، وعيينة مثل ذلك ، والعباس بن مرداس خمسين ثم كملها مائة فنزلت ، وهذه استعارة استعير فيها المحسوس للمعقول ، وذلك أن البخل معنى قائم بالإنسان يمنعه من التصرف في ماله فاستعير له الغل الذي هو ضم اليد إلى العنق فامتنع من تصرف يده وإجالتها حيث تريد ، وذكر اليد لأن بها الأخذ والإعطاء ، واستعير بسط اليد لإذهاب المال وذلك أن قبض اليد يحبس ما فيها ، وبسطها يذهب ما فيها ، وطابق في الاستعارة بين بسط اليد وقبضها من حيث المعنى لأن جعل اليد مغلولة هو قبضها ، وغلها أبلغ في القبض وقد طابق بينهما أبو تمام.
فقال في المعتصم :
تعوّد بسط الكف حتى لوانّه . . .
ثناها لقبضٍ لم تجبه أنامله
وقال الزمخشري : هذا تمثيل لمنع الشحيح وإعطاء المسرف ، أمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والإقتار انتهى.
والظاهر أنه مراد بالخطاب أمة الرسول صلى الله عليه وسلم وإلاّ فهو صلى الله عليه وسلم كان لا يدّخر شيئاً لغد ، وكذلك من كان واثقاً بالله حق الوثوق كأبي بكر حين تصدّق بجميع ماله.
وقال ابن جريج وغيره : المعنى لا تمسك عن النفقة فيما أمرتك به من الحق { ولا تبسطها } فيما نهيتك عنه وروي عن قالون : كل البصط بالصاد فتقعد جواب للهيئتين باعتبار الحالين ، فالملوم راجع لقوله : { ولا تجعل يدك }.
كما قال الشاعر :
إن البخيل ملوم حيث كان . . .
ولكن الجواد على علاتّه هرم
والمحسور راجع لنوله { ولا تبسطها } وكأنه قيل فتلام وتحسر ، ثم سلاه تعالى عما كان يلحقه من الإضافة بأن ذلك ليس بهوان منك عليه ولا لبخل به عليك ، ولكن لأن بسط الرزق وتضييقه إنما ذلك بمشيئته وإرادته لما يعلم في ذلك من المصلحة لعباده ، أو يكون المعنى القبض والبسط من مشيئة الله ، وأما أنتم فعليكم الاقتصاد وختم ذلك بقوله { خبيراً } وهو العلم بخفيات الأمور و { بصيراً } أي بمصالح عباده حيث يبسط لقوم ويضيق على قوم.

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)

لما بيَّن تعالى أنه هو المتكفل بأرزاق العباد حيث قال { إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } أتبعه بالنهي عن قتل الأولاد ، وتقدم تفسير نظير هذه الآية ، والفرق بين { خشية إملاق } ومن إملاق وبين قوله : { نرزقهم } ونرزقكم.
وقرأ الأعمش وابن وثاب : { ولا تقتلوا } بالتضعيف.
وقرىء { خشية } بكسر الخاء ، وقرأ الجمهور { خطأً } بكسر الخاء وسكون الطاء.
وقرأ ابن كثير بكسرها وفتح الطاء والمدّ ، وهي قراءة طلحة وشبل والأعمش ويحيى وخالد بن إلياس وقتادة والحسن والأعرج بخلاف عنهما.
وقال النحاس : لا أعرف لهذه القراءة وجهاً ولذلك جعلها أبو حاتم غلطاً.
وقال الفارسي : هي مصدر من خاطأ يخاطىء وإن كنا لم نجد خاطأ ولكن وجدنا تخاطأ وهو مطاوع خاطأ ، فدلنا عليه فمنه قول الشاعر :
تخاطأت النبل أخشاه . . .
وأخر يومي فلم يعجل
وقول الآخر في كمأة
تخاطأه القناص حتى وجدته . . .
وخرطومه في منقع الماء راسب
فكان هؤلاء الذين يقتلون أولادهم يخاطئون الحق والعدل.
وقرأ ابن ذكوان { خطأ } على وزن نبأ.
وقرأ الحسن خطاء بفتحهما والمد جعله اسم مصدر من أخطأ كالعطاء من أعطى قاله ابن جنيّ.
وقال أبو حاتم : هي غلط غير جائز ولا يعرف هذا في اللغة ، وعنه أيضاً خطى كهوى خفف الهمزة فانقلبت ألفاً وذهبت لالتقائهما.
وقرأ أبو رجاء والزهري كذلك إلاّ أنهما كسرا الخاء فصار مثل ربا وكلاهما من خطىء في الدين وأخطأ في الرأي ، لكنه قد يقام كل واحد منهما مقام الآخر وجاء عن ابن عامر { خطأ } بالفتح والقصر مع إسكان الطاء وهو مصدر ثالث من خطىء بالكسر.

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)

لما نهى تعالى عن قتل الأولاد نهى عن التسبب في إيجاده من الطريق غير المشروعة ، فنهى عن قربان الزنا واستلزم ذلك النهي عن الزنا ، والزنا الأكثر فيه القصر ويمد لغة لا ضرورة ، هكذا نقل اللغويون.
ومن المدّ قول الشاعر وهو الفرزدق :
أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه . . .
ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا
ويروى أبا خالد.
وقال آخر :
كانت فريضة ما تقول كما . . .
كان الزناء فريضة الرجم
وكان المعنى لم يزل أي لم يزل { فاحشة } أي معصية فاحشة أي قبيحة زائدة في القبح { وساء سبيلاً } أي وبئس طريقاً طريقه لأنها سبيل تؤدّي إلى النار.
وقال ابن عطية : و { سبيلاً } نصب على التمييز التقدير ، وساء سبيله انتهى.
وإذا كان { سبيلاً } نصباً على التمييز فإنما هو تمييز للمضمر المستكن في { ساء } ، وهو من المضمر الذي يفسره ما بعده ، والمخصوص بالذم محذوف ، وإذا كان كذلك فلا يكون تقديره وساء سبيله سبيلاً لأنه إذ ذاك لا يكون فاعله ضميراً يراد به الجنس مفسراً بالتمييز ، ويبقى التقدير أيضاً عارياً عن المخصوص بالذم ، وتقدّم تفسير قوله تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلاّ بالحق } في أواخر الأنعام قال الضحاك : هذه أول ما نزل من القرآن في شأن القتل انتهى.
ولما نهى عن قتل الأولاد وعن إيجادهم من الطريق غير المشروعة نهى عن قتل النفس فانتقل من الخاص إلى العام ، والظاهر أن هذه كلها منهيات مستقلة ليست مندرجة تحت قوله : { وقضى ربك } كاندراج { أن لا تعبدوا } وانتصب { مظلوماً } على الحال من الضمير المستكن في { قتل } والمعنى أنه قتل بغير حق ، { فقد جعلنا لوليه } وهو الطالب بدمه شرعاً ، وعند أبي حنيفة وأصحابه اندراج من يرث من الرجال والنساء والصبيان في الولي على قدر مواريثهم ، لأن الولي عندهم هو الوارث هنا.
وقال مالك : ليس للنساء شيء من القصاص ، وإنما القصاص للرجال.
وعن ابن المسيب والحسن وقتادة والحكم : ليس إلى النساء شيء من العفو والدم وللسلطان التسلط على القاتل في الاقتصاص منه أو حجة يثبت بها عليه قاله الزمخشري.
وقال ابن عطية : والسلطان الحجة والملك الذي جعل إليه من التخيير في قبول الدم أو العفو قاله ابن عباس والضحاك.
وقال قتادة : السلطان القود وفي كتاب التحرير السلطان القوة والولاية.
وقال ابن عباس : البيِّنة في طلب القود.
وقال الحسن القود.
وقال مجاهد الحجة.
وقال ابن زيد : الوالي أي والياً ينصفه في حقه ، والظاهر عود الضمير في { فلا يسرف } على الولي ، والإسراف المنهي عنه أن يقتل غير القاتل قاله ابن عباس والحسن ، أو يقتل اثنين بواحد قاله ابن جبير ، أو أشرف من الذي قتل قاله ابن زيد ، أو يمثل قاله قتادة ، أو يتولى القاتل دون السلطان ذكره الزجاج.

وقال أبو عبد الله الرازي : السلطنة مجملة يفسرها { كتب عليكم القصاص } الآية ويدل عليه أنه مخير بين القصاص والدية وقوله عليه السلام يوم الفتح : « من قتل قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية » فمعنى { فلا يسرف في القتل } لا يقدم على استيفاء القتل ، ويكتفي بأخذ الدية أو يميل إلى العفو ولفظة في محمولة على الباء أي فلا يصير مسرفاً بسبب إقدامه على القتل ، ويكون معناه الترغيب في العفو كما قال { وأن تعفوا أقرب للتقوى } انتهى ملخصاً.
ولو سلم أن { في } بمعنى الباء لم يكن صحيح المعنى ، لأن من قتل بحق قاتل موليه لا يصير مسرقاً بقتله ، وإنما الظاهر والله أعلم النهي عما كانت الجاهلية تفعله من قتل الجماعة بالواحد ، وقتل غير القاتل والمثلة ومكافأة الذي يقتل من قتله.
وقال مهلهل حين قتل بجير بن الحارث بن عباد : بؤ بشسع نعل كليب.
وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في { فلا يسرف } ليس عائداً على الولي ، وإنما يعود على العامل الدال عليه ، ومن قتل أي { لا يسرف } في القتل تعدياً وظلماً فيقتل من ليس له قتله.
وقرأ الجمهور { فلا يسرف } بياء الغيبة.
وقرأ الإخوان وزيد بن عليّ وحذيفة وابن وثاب والأعمش ومجاهد بخلاف وجماعة ، وفي نسخة من تفسير ابن عطية وابن عامر وهو وهم بتاء الخطاب والظاهر أنه على خطاب الولي فالضمير له.
وقال الطبري : الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والأئمة من بعده أي فلا تقتلوا غير القاتل انتهى.
قال ابن عطية : وقرأ أبو مسلم السرّاج صاحب الدعوة العباسية.
وقال الزمخشري قرأ أبو مسلم صاحب الدولة.
وقال صاحب كتاب اللوامح أو مسلم العجلي مولى صاحب الدولة : { فلا يسرف } بضم الفاء على الخبر ، ومعناه النهي وقد يأتي الأمر والنهي بلفظ الخبر.
وقال ابن عطية في الاحتجاج بأبي مسلم في القراءة نظر ، وفي قراءة أبيّ فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصوراً انتهى.
رده على ولا تقتلوا والأولى حمل قوله إن ولي المقتول على التفسير لا على القراءة لمخالفته السواد ، ولأن المستفيض عنه { إنه كان منصوراً } كقراءة الجماعة والضمير في { أنه } عائد على الولي لتناسق الضمائر ونصره إياه بأن أوجب له القصاص ، فلا يستزاد على ذلك أو نصره بمعونة السلطان وبإظهار المؤمنين على استيفاء الحق.
وقيل : يعود الضمير على المقتول نصره الله حيث أوجب القصاص بقتله في الدنيا ، ونصره بالثواب في الآخرة.
قال ابن عطية : وهو أرجح لأنه المظلوم ، ولفظة النصر تقارن الظلم كقوله عليه السلام : « ونصر المظلوم وإبرار القسم » وكقوله : « انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً » إلى كثير من الأمثلة.

وقيل : على القتل.
وقال أبو عبيد : على القاتل لأنه إذا قتل في الدنيا وخلص بذلك من عذاب الآخرة فقد نصر ، وهذا ضعيف بعيد القصد.
وقال الزمخشري : وإنما يعني أن يكون الضمير في أنه الذي بقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله فإنه منصور بإيجاب القصاص على المسرف انتهى.
وهذا بعيد جداً.
{ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدَّه } لما نهى عن إتلاف النفوس نهى عن أخذ الأموال كما قال : « فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم » لما كان اليتيم ضعيفاً عن أن يدفع عن ماله لصغره نص على النهي عن قربان ماله ، وتقدم تفسير هذه الآية في أواخر الأنعام.
{ وأوفوا بالعهد } عام فيما عقده الإنساب بينه وبين ربه ، أو بينه وبين ربه ، أو بينه وبين آدمي في طاعة { إن العهد كان مسؤولاً } ظاهره أن العهد هو المسؤول من المعاهد أن يفى به ولا يضيعه أو يكون من باب التخييل ، كأنه يقال للعهد : لم نكثت ، فمثل كأنه ذات من الذوات تسأل لم نكثت دلالة على المطاوعة بنكثه وإلزام ما يترتب على نكثه ، كما جاء { وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت } فيمن قرأ بسكون اللام وكسر التاء التي للخطاب.
وقيل : هو على حذف مضاف أي إن ذا العهد كان مسؤولاً عنه إن لم يف به.
ثم أمر تعالى بإيفاء الكيل وبالوزن المستقيم ، وذلك مما يرجع إلى المعاملة بالأموال.
وفي قوله { وأوفوا الكيل } دلالة على أن الكيل هو على البائع لأنه لا يقال ذلك للمشتري.
وقال الحسن : { القسطاس } القبان وهو القلسطون ويقال القرسطون.
وقال مجاهد : { القسطاس } العدل لا أنه آلة.
وقرأ الإخوان وحفص بكسر القاف ، وباقي السبعة بضمها وهما لغتان.
وقرأت فرقة بالإبدال من السين الأولى صاداً.
قال ابن عطية : واللفظية للمبالغة من القسط انتهى.
ولا يجوز أن يكون من القسط لاختلاف المادتين لأن القسط مادته ق س ط ، وذلك مادته ق س ط س إلاّ إن اعتقد زيادة السين آخراً كسين قدموس وضغيوس وعرفاس ، فيمكن لكنه ليس من مواضع زيادة السين المقيسة والتقييد بقوله : { إذا كلتم } أي وقت كيلكم على سبيل التأكيد ، وأن لا يتأخر الإيفاء بأن يكيل به بنقصان مّا ثم يوفيه بعد فلا يتأخر الإيفاء عن وقت الكيل.
{ ذلك خير } أي الإيفاء والوزن لأن فيه تطييب النفوس بالاتسام بالعدل والإيصال للحق { وأحسن تأويلاً } أي عاقبة ، إذ لا يبقى على الموفى والوازن تبعة لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وهو من المآل وهو المرجع كما قال : خير مرداً ، خير عقباً ، خير أملاً وإنما كانت عاقبته أحسن لأنه اشتهر بالاحتراز عن التطفيف ، فعوِّل عليه في المعاملات ومالت القلوب إليه.

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)

لما أمر تعالى بثلاثة أشياء ، الإيفاء بالعهد ، والإيفاء بالكيل ، والوزن بالقسطاس المستقيم أتبع ذلك بثلاثة أمّناه : { ولا تقف } { ولا تمش } { ولا تجعل }.
ومعنى { ولا تقف } لا تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل ، نهى أن نقول ما لا نعلم وأن نعمل بما لا نعلم ، ويدخل فيه النهي عن اتباع التقليد لأنه اتباع بما لا يعلم صحته.
وقال ابن عباس : معناه لا ترم أحداً بما لا تعلم.
وقال قتادة لا تقل رأيت ولم تره وسمعت ولم تسمعه وعلمت ولم تعلمه.
وقال محمد بن الحنيفة : لا تشهد بالزور.
وقال ابن عطية : ولا تقل لكنها كلمة تستعمل في القذف والعضة انتهى.
وفي الحديث : « من قفا مؤمناً بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتي يأتى بالمخرج » وقال في الحديث أيضاً : « نحن بنو النضر بن كنانة لا تقفو منا ولا ننتفي من أبينا » ومنه قول النابغة الجعدي :
ومثل الدمى شم العرانين ساكن . . .
بهنّ الحيا لا يتبعن التقافيا
وقال الكميت
فلا أرمي البريء بغير ذنب . . .
ولا أقفو الحواضن إن قفينا
وحاصل هذا أنه نهى عن اتباع ما لا يكون معلوماً ، وهذه قضية كلية تندرج تحتها أنواع.
فكل من القائلين حمل على واحد من تلك الأنواع.
قال الزمخشري : وقد استدل به مبطل الاجتهاد ولم يصح لأن ذلك نوع من العلم ، وقد أقام الشرع غالب الظنّ مقام العلم وأمر بالعمل به انتهى.
وقرأ الجمهور : { ولا تقف } بحذف الواو للجزم مضارع قفا.
وقرأ زيد بن عليّ ولا تقفو بإثبات الواو.
كما قال الشاعر :
هجوت زبان ثم جئت معتذراً . . .
من هجو زبان لم تهجو ولم تدع
وإثبات الواو والياء والألف مع الجازم لغة لبعض العرب وضرورة لغيرهم.
وقرأ معاذ القارىء : { ولا تقف } مثل تقل ، من قاف يقوف تقول العرب : قفت أثره وقفوت أثره وهما لغتان لوجود التصاريف فيهما كجبذ وجذب ، وقاع الجمل الناقة وقعاها إذا ركبها ، وليس قاف مقلوباً من قفا كما جوّزه صاحب اللوامح.
وقرأ الجرّاح العقيلي : { والفؤاد } بفتح الفاء والواو قلبت الهمزة واواً بعد الضمة في الفؤاد ثم استصحب القلب مع الفتح وهي لغة في { الفؤاد } وأنكرها أبو حاتم وغيره وبه لا تتعلق بعلم لأنه يتقدّم معموله عليه.
قال الحوفي : يتعلق بما تعلق به { لك } وهو الاستقرار وهو لا يظهر وفي قوله : { إن السمع والبصر والفؤاد } دليل على أن العلوم مستفادة من الحواس ومن العقول ، وجاء هذا على الترتيب القرآني في البداءة بالسمع ، ثم يليه البصر ، ثم يليه الفؤاد.
و { أولئك } إشارة إلى { السمع والبصر والفؤاد } وهو اسم إشارة للجمع المذكر والمؤنث العاقل وغيره.

وتخيل ابن عطية أنه يختص بالعاقل.
فقال : وعبر عن { السمع والبصر والفؤاد } بأولئك لأنها حواس لها إدراك ، وجعلها في هذه الآية مسؤولة فهي حالة من يعقل ، ولذلك عبر عنها بأولئك.
وقد قال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى : { رأيتهم لي ساجدين } إنما قال : رأيتهم في نجوم لأنه إنما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل عبر عنها بكناية من يعقل.
وحكى الزجّاج أن العرب تعبر عمن يعقل وعما لا يعقل بأولئك ، وأنشد هو والطبري :
ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى . . .
والعيش بعد أولئك الأيام
وأما حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده ، وأما البيت فالرواية فيه الأقوام انتهى.
وليس ما تخيله صحيحاً ، والنحاة ينشدونه بعد أولئك الأيام ولم يكونوا لينشدوا إلاّ ما روي ، وإطلاق أولاء وأولاك وأولئك وأولالك على ما لا يعقل لا نعلم خلافاً فيه ، و { كل } مبتدأ والجملة خبره ، واسم { كان } عائد على { كل } وكذا الضمير في { مسؤولاً }.
والضمير في { عنه } عائد على ما من قوله { ما ليس لك به علم } فيكون المعنى أن كل واحد من { السمع والبصر والفؤاد } يسأل عما لا علم له به أي عن انتفاء ما لا علم له به.
وهذا الظاهر.
وقال الزجاج : يستشهد بها كما قال { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم } وقال القرطبي في أحكامه : يسأل الفؤاد عما اعتقده ، والسمع عما سمع ، والبصر عما رأى.
وقال ابن عطية : إن الله تعالى يسأل سمع الإنسان وبصره وفؤاده عما قال مما لا علم له به ، فيقع تكذيبه من جوارحه وتلك غاية الخزي.
وقيل : الضمير في { كان } و { مسؤولاً } عائدان على القائف ما ليس له به علم ، والضمير في { عنه } عائد على { كل } فيكون ذلك من الالتفات إذ لو كان على الخطاب لكان التركيب كل أولئك كنت عنه مسؤولاً.
وقال الزمخشري : و { عنه } في موضع الرفع بالفاعلية ، أي كل واحد منها كان مسؤولاً عنه ، فمسؤول مسند إلى الجار والمجرور كالمغضوب في قوله { غير المغضوب عليهم } يقال للإنسان : لم سمعت ما لا يحل لك سماعه؟ ولم نظرت ما لم يحل لك النظر إليه؟ ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه؟ انتهى.
وهذا الذي ذهب إليه من أن { عنه } في موضع الرفع بالفاعلية ، ويعني به أنه مفعول لم يسم فاعله لا يجوز لأن الجار والمجرور وما يقام مقام الفاعل من مفعول به ومصدر وظرف بشروطهما جار مجرى الفاعل ، فكما أن الفاعل لا يجوز تقديمه فكذلك ما جرى مجراه وأقيم مقامه ، فإذا قلت غضب على زيد فلا يجوز على زيد غضب بخلاف غضبت على زيد فيجوز على زيد غضبت.
وقد حكي الاتفاق من النحويين على أنه لا يجوز تقديم الجار والمجرور الذي يقام مقام الفاعل على الفعل أبو جعفر النحاس ذكر ذلك في المقنع من تأليفه ، فليس { عنه مسؤولاً } كالمغضوب عليهم لتقدّم الجار والمجرور في { عنه مسؤولاً } وتأخيره في { المغضوب عليهم } وقول الزمخشري : ولم نظرت ما لم يحل لك أسقط إلى ، وهو لا يجوز إلاّ إن جاء في ضرورة شعر لأن نظر يتعدّى بإلى فكان التركيب ، ولم نظرت إلى ما لم يحل لك كما قال النظر إليه فعداه بإلى.

وانتصب { مرَحاً } على الحال أي { مرَحاً } كما تقول : جاء زيد ركضاً أي راكضاً أو على حذف مضاف أي ذا مرح ، وأجاز بعضهم أن يكون مفعولاً من أجله أي { ولا تمش في الأرض } للمرح ولا يظهر ذلك ، وتقدم أن المرح هو السرور والاغتباط بالراحة والفرح وكأنه ضمن معنى الاختيال لأن غلبة السرور والفرح يصحبها التكبر والاختيال ، ولذلك بقوله علل { إنك لن تخرق الأرض }.
وقرأت فرقة فيما حكي يعقوب : { مرحاً } بكسر الراء وهو حال أي لا تمش متكبراً مختالاً.
قال مجاهد : لن تخرق بمشيك على عقبيك كبراً وتنعماً ، { ولن تبلغ الجبال } بالمشي على صدور قدميك تفاخراً و { طولاً } والتأويل أن قدرتك لا تبلغ هذا المبلغ فيكون ذلك وصلة إلى الاختيال.
وقال الزجاج : { لا تمش في الأرض } مختالاً فخوراً ، ونظيره : { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً } و { اقصد في مشيك ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور } وقال الزمخشري : { لن تخرق الأرض } لن تجعل فيها خرقاً بدوسك لها وشدّة وطئك ، { ولن تبلغ الجبال طولاً } بتطاولك وهو تهكُّم بالمختال.
وقرأ الجراح الأعرابي : { لن تخرق } بضم الراء.
قال أبو حاتم : لا تعرف هذه اللغة.
وقيل : أشير بذلك إلى أن الإنسان محصور بين جمادين ضعيف عن التأثير فيهما بالخرق وبلوغ الطول ومن كان بهذه المثابة لا يليق به التكبر.
وقال الشاعر :
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا . . .
فكم تحتها قوم هم منك أرفع
والأجود انتصاب قوله { طولاً } على التمييز ، أي لن يبلغ طولك الجبال.
وقال الحوفي : { طولاً } نصب على الحال ، والعامل في الحال { تبلغ } ويجوز أن يكون العامل تخرق ، و { طولاً } بمعنى متطاول انتهى.
وقال أبو البقاء : { طولاً } مصدر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول ، ويجوز أن يكون تمييزاً ومفعولاً له ومصدراً من معنى تبلغ انتهى.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأبو جعفر والأعرج سيئة بالنصب والتأنيث.
وقرأ باقي السبعة والحسن ومسروق { سيئة } بضم الهمزة مضافاً لهاء المذكر الغائب.
وقرأ عبد الله سيئاته بالجمع مضافاً للهاء ، وعنه أيضاً سيئات بغيرها ، وعنه أيضاً كان خبيثه.
فأما القراءة الأولى فالظاهر أن ذلك إشارة إلى مصدري النهيين السابقين ، وهما قفو ما ليس له به علم ، والمشي في الأرض مرحاً.
وقيل : إشارة إلى جميع المناهي المذكورة فيما تقدم في هذه السورة ، وسيئة خبر كان وأنت ثم قال مكروهاً فذكر.

قال الزمخشري : السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب ، والاسم زال عنه حكم الصفات فلا اعتبار بتأنيثه ، ولا فرق بين من قرأ سيئة ومن قرأ سيئاً ، ألا تراك تقول : الزنا سيئة كما تقول السرقة سيئة ، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث انتهى.
وهو تخريج حسن.
وقيل : ذكر { مكروهاً } على لفظ { كل } وجوزوا في { مكروهاً } أن يكون خبراً ثانياً لكان على مذهب من يجيز تعداد الأخبار لكان ، وأن يكون بدلاً من سيئة والبدل بالمشتق ضعيف ، وأن يكون حالاً من الضمير المستكن في الظرف قبله والظرف في موضع الصفة.
قيل : ويجوز أن يكون نعتاً لسيئة لما كان تأنيثها مجازياً جاز أن توصف بمذكر ، وضعف هذا بأن جواز ذلك إنما هو في الإسناد إلى المؤنث المجازي إذا تقدم ، أما إذا تأخر وأسند إلى ضميرها فهو قبيح ، تقول : أبقل الأرض إبقالها فصيحاً والأرض أبقل قبيح ، وأما من قرأ { سيئة } بالتذكير والإضافة فسيئة اسم { كان } و { مكروهاً } الخبر ، ولما تقدم من الخصال ما هو سيء وما هو حسن أشير بذلك إلى المجموع وأفرد سيئة وهو المنهي عنه ، فالحكم عليه بالكراهة من قوله لا تجعل إلى آخر المنهيات.
وأما قراءة عبد الله فتخرج على أن يكون مما أخبر فيه عن الجمع إخبار الواحد المذكر وهو قليل نحو قوله :
فإن الحوادث أودى بها . . .
لصلاحية الحدثان مكان الحوادث وكذلك هذا أيضاً كان ما يسوء مكان سيئاته ذلك إشارة إلى جميع أنواع التكاليف من قوله { لا تجعل مع الله إلها آخر } إِلَى قَوله { ولا تمش في الأرض مرحاً } وهي أربعة وعشرون نوعاً من التكاليف بعضها أمر وبعضها نهي بدأها بقوله { لا تجعل }.
واختتم الآيات بقوله { ولا تجعل } وقال : مما أوحى لأن ذلك بعض مما أوحي إليه إذا أوحى إليه بتكاليف أخر ، و { مما أوحى } خبر عن ذلك ، و { من الحكمة } يجوز أن يكون متعلقاً بأوحى وأن يكون بدلاً من ما ، وأن يكون حالاً من الضمير المنصوب المحذوف العائد على ما وكانت هذه التكاليف حكمة لأن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة ، والعقول تدل على صحتها وهي شرائع في جميع الأديان لا تقبل النسخ.
وعن ابن عباس : إن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه السلام ، أولها { لا تجعل مع الله إلهاً آخر } قال تعالى : { وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء } وكرر تعالى النهي عن الشرك ، ففي النهي الأول.
{ فتقعد مذموماً مخذولاً } وفي الثاني { فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً } والفرق بين مذموم وملوم أن كونه مذموماً أن يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح منكر ، وكونه ملوماً أن يقال له بعد الفعل وذمّه لم فعلت كذا وما حملك عليه وما استفذت منه إلاّ إلحاق الضرر بنفسك ، فأول الأمر الذم وآخره اللوم ، والفرق بين مخذول ومدحور أن المخذول هو المتروك إعانته ونصره والمفوض إلى نفسه ، والمدحور المطرود المبعد على سبيل الإهانة له والاستخفاف به ، فأول الأمر الخذلان وآخره الطرد مهاناً.

وكان وصف الذم والخذلان يكون في الدنيا ووصف اللوم والدحور يكون في الآخرة ، ولذلك جاء { فتلقى في جهنم } والخطاب بالنهي في هذه الآيات للسامع غير الرسول.
وقال الزمخشري : ولقد جعل الله عز وعلا فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها ، ومن عدِمَه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذَّ فيها الحكماء وحك بيافوخه السماء ، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عن دين الله أضل من النعم.

أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)

لما نبه تعالى على فساد من أثبت لله شريكاً ونظيراً أتبعه بفساد طريقة من أثبت لله ولداً ، والاستفهام معناه الإنكار والتوبيخ والخطاب لمن اعتقد أن الملائكة بنات الله ومعنى { أفأصفاكم } آثركم وخصكم وهذا كما قال : أله البنات ولكم البنون { ألكم الذكر وله الأنثى } وهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم ، فإن العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها من الشوب ويكون أردؤها وأدونها للسادات.
ومعنى { عظيماً } مبالغاً في المنكر والقبح حيث أضفتم إليه الأولاد ثم حيث فضلتم عليه تعالى أنفسكم فجعلتم له ما تكرهون ، ثم نسبة الملائكة الذين هم من شريف ما خلق إلى الأنوثة.
ومعنى { صرّفنا } نوَّعنا من جهة إلى جهة ومن مثال إلى مثال ، والتصريف لغة صرف الشيء من جهة إلى جهة ثم صار كناية عن التبيين.
وقرأ الجمهور { وصرّفنا } بتشديد الراء.
فقال : لم نجعله نوعاً واحداً بل وعداً ووعيداً ، ومحكماً ومتشابهاً ، وأمراً ونهياً ، وناسخاً ومنسوخاً ، وأخباراً وأمثالاً مثل تصريف الرياح من صبا ودبور وجنوب وشمال ، ومفعول { صرّفنا } على هذا المعنى محذوف وهي هذه الأشياء أي : صرّفنا الأمثال والعبر والحكم والأحكام والأعلام.
وقيل : المعنى لم ننزله مرة واحدة بل نجوماً ومعناه أكثرنا صرف جبريل إليك والمفعول محذوف أي { صرّفنا } جبريل.
وقيل : { في } زائدة أي { صرّفنا } { هذا القرآن } كما قال { وأصلح لي في ذريتي } وهذا ضعيف لأن في لا تزاد.
وقال الزمخشري : يجوز أن يريد بهذا القرآن إبطال إضافتهم إلى الله البنات لأنه مما صرفه وكرر ذكره ، والمعنى ولقد { صرّفنا } القول في هذا المعنى ، وأوقعنا التصريف فيه وجعلناه مكاناً للتكرير ، ويجوز أن يشير بهذا { القرآن } إلى التنزيل ، ويريد ولقد صرفناه يعني هذا المعنى في مواضع من التنزيل ، فترك الضمير لأنه معلوم انتهى.
فجعل التصريف خاصاً بما دلت عليه الآية قبله وجعل مفعول { صرفنا } أما القول في هذا المعنى أو المعنى وهو الضمير الذي قدره في صرفناه وغيره جعل التصريف عامّاً في أشياء فقدر ما يشمل ما سيق له ما قبله وغيره.
وقرأ الحسن بتخفيف الراء.
فقال صاحب اللوامح : هو بمعنى العامة يعني بالعامة قراءة الجمهور ، قال : لأن فعل وفعل ربما تعاقبا على معنى واحد.
وقال ابن عطية : على معنى صرفنا فيه الناس إلى الهدى بالدعاء إلى الله.
وقرأ الجمهور { ليذّكروا } أي ليتذكروا من التذكير ، أدغمت التاء في الذال.
وقرأ الأخوان وطلحة وابن وثاب والأعمش ليذكروا بسكون الذال وضم الكاف من الذكر أو الذكر ، أي ليتعظوا ويعتبروا وينظروا فيما يحتج به عليهم ويطمئنوا إليه { وما يزيدهم } أي التصريف { إلاّ نفوراً } أي بعداً وفراراً عن الحق كما قال : { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } وقال : { فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمُر مستنفرة }

والنفور من أوصاف الدواب الشديدة الشماس ، ولما ذكر تعالى نسبة الولد إليهم ورد عليهم في ذلك ذكر قولهم إنه تعالى معه آلهة وردَّ عليهم.
وقرأ ابن كثير وحفص { كما يقولون } بالياء من تحت ، والجمهور بالتاء.
ومعنى { لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً } إلى مغالبته وإفساد ملكه لأنهم شركاؤه كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض.
وقال هذا المعنى أو مثله ابن جبير وأبو عليّ الفارسي والنقاش والمتكلمون أبو منصور وغيره ، وعلى هذا تكون الآية بياناً للتمانع كما في قوله { لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا } ويأتي تفسيرها إن شاء الله تعالى.
وقال قتادة ما معناه : لابتغوا إلى التقرب إلى ذي العرش والزلفى لديه ، وكانوا يقولون : إن الأصنام تقربهم إلى الله فإذا علموا أنها تحتاج إلى الله فقد بطل كونها آلهة ، ويكون كقوله { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة } أيهم أقرب ، والكاف من { كما } في موضع نصب.
وقال الحوفي : متعلقة بما تعلقت به مع وهو الاستقرار و { معه } خبر كان.
وقال أبو البقاء : كوناً لقولكم.
وقال الزمخشري : و { إذاً } دالة على أن ما بعدها وهو { لابتغوا } جواب عن مقالة المشركين وجزاء للو انتهى.
وعطف { وتعالى } على قوله { سبحانه } لأنه اسم قام مقام المصدر الذي هو في معنى الفعل ، أي براءة الله وقدر تنزه وتعالى يتعلق به على سبيل الأعمال إذ يصح لسبحان أن يتعلق به عن كما في قوله { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } والتعالي في حقه تعالى هو بالمكانة لا بالمكان.
وقرأ الإخوان : عما تقولون بالتاء من فوق وباقي السبعة بالياء.
وانتصب { علوّاً } على أنه مصدر على غير الصدر أي تعالياً ووصف تكبيراً مبالغة في معنى البراءة والبعد عما وصفوه به لأن المنافاة بين الواجب لذاته والممكن لذاته ، وبين القديم والمحدث ، وبين الغني والمحتاج منافاة لا تقبل الزيادة ، ونسبة التسبيح للسموات والأرض ومن فيهن من ملك وإنس وجن حمله بعضهم على النطق بالتسبيح حقيقة ، وأن ما لا حياة فيه ولا نمو يحدث الله له نطقاً وهذا هو ظاهر اللفظ ، ولذلك جاء { ولكن لا تفقهون تسبيحهم }.
وقال بعضهم : ما كان من نام حيوان وغيره يسبح حقيقة ، وبه قال عكرمة قال : الشجرة تسبّح والأسطوانة لا تسبّح.
وسئل الحسن عن الخوان أيسبّح؟ فقال : قد كان تسبّح مرة يشير إلى أنه حين كان شجرة كان يسبّح ، وحين صار خواناً مدهوناً صار جماداً لا يسبّح.
وقيل : التسبيح المنسوب لما لا يعقل مجاز ومعناه أنها تسبّح بلسان الحال حيث يدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته وكماله ، فكأنها تنطق بذلك وكأنها تنزه الله عما لا يجوز عليه من الشركاء وغيرها.
ويكون قوله : { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } خطاباً للمشركين ، وهم وإن كانوا معترفين بالخالق أنه الله لكنهم لما جعلوا معه آلهة لم ينظروا ولم يقروا لأن نتيجة النظر الصحيح والإقرار الثابت خلاف ما كانوا عليه ، فإذا لم يفقهوا التسبيح ولم يستوضحوا الدلالة على الخالق فيكون التسبيح المسند إلى السموات والأرض ومن فيهن على سبيل المجاز قدراً مشتركاً بين الجميع ، وإن كان يصدر التسبيح حقيقة ممن فيهن من ملك وإنس وجان ولا يحمل نسبته إلى السموات والأرض على المجاز ، ونسبته إلى الملائكة والثقلين على الحقيقة لئلا يكون جمعاً بين المجاز والحقيقة بلفظ واحد.

وقال ابن عطية ثم أعاد على السموات والأرض ضمير من يعقل لما أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح انتهى.
ويعنى بالضمير في قوله { ومن فيهن } وكأنه تخيل أن هن لا يكون إلاّ لمن يعقل من المؤنثات وليس كما تخيل بل هن يكون ضمير الجمع المؤنث مطلقاً.
وقرأ النحويان وحزة وحفص : تسبّح بالتاء من فوق وباقي السبعة بالياء ، وفي بعض المصاحف سبّحت له السموات بلفظ الماضي وتاء التأنيث وهي قراءة عبد الله والأعمش وطلحة بن مصرف.
{ إنه كان حليماً } حيث لا يعاجلكم بالعقوبة على سوء نظركم { غفوراً } إن رجعتم ووحدتم الله تعالى.

وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)

نزلت { وإذا قرأت القرآن } في أبي سفيان والنضر وأبي جهل وأم جميل امرأة أبي لهب ، كانوا يؤذون الرسول إذا قرأ القرآن ، فحجب الله أبصارهم إذا قرأ فكانوا يمرون به ولا يرونه قاله الكلبي : " وعن ابن عباس نزلت في امرأة أبي لهب ، دخلت منزل أبي بكر وبيدها فهر والرسول صلى الله عليه وسلم عنده ، فقالت : هجاني صاحبك ، قال : ما هو بشاعر ، قالت : قال { في جيدها حبل من مسد } وما يدريه ما في جيدي؟ فقال لأبي بكر : «سلها هل ترى غيرك فإن ملكاً لم يزل يسترني عنها» فسألها فقالت : أتهزأ بي ما أرى غيرك؟ فانصرفت ولم تر الرسول صلى الله عليه وسلم " وقيل : نزلت في قوم من بني عبد الدار كانوا يؤذونه في الليل إذا صلى وجهر بالقراءة ، فحال الله بينهم وبين أذاه.
ولما تقدّم الكلام في تقرير الإلهية جاء بعده تقرير النبوة وذكر شيء من أحوال الكفرة في إنكارها وإنكار المعاد ، والمعنى وإذا شرعت في القراءة وليس المعنى على الفراغ من القراءة بل المعنى على أنك إذا التبست بقراءة القرآن ولا يراد بالقرآن جميعه بل ما ينطلق عليه الاسم ، فإنك تقول لمن يقرأ شيئاً من القرآن هذا يقرأ القرآن ، والظاهر أن القرآن هنا هو ما قرىء من القرآن أي شيء كان منه.
وقيل : ثلاث آيات منه معينة وهي في النحل { أولئك الذين طبع } إِلى { الغافلون } وفي الكهف { ومن أظلم } إِلى { إذا أبدا } وفي الجاثية { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } إِلى { أفلا تتذكرون } وعن كعب أن الرسول كان يستتر بهذه الآيات ، وعن ابن سيرين أنه عينها له هاتف من جانب البيت ، وعن بعضهم أنه أسر زماناً ثم اهتدى قراءتها فخرج لا يبصره الكفار وهم يتطلبونه تمس ثيابهم ثيابه.
قال القرطبي : ويزاد إلى هذه الآي أول يس إلى { فهم لا يبصرون } ففي السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين نام على فراشه خرج ينثر التراب على رؤوس الكفار فلا يرونه وهو يتلو هذه الآيات من يس ، ولم يبق أحد منهم إلاّ وضع على رأسه تراباً.
والظاهر أن المعنى جعلنا بين رؤيتك وبين أبصار الذين لا يؤمنون بالآخرة كما ورد في سبب النزول.
وقال قتادة والزجّاج وجماعة ما معناه : { جعلنا } بين فهم ما تقرأ وبينهم { حجاباً } فلا يقرون بنبوتك ولا بالبعث ، فالمعنى قريب من الآية بعدها ، والظاهر إقرار { مستوراً } على موضوعه من كونه اسم مفعول أي { مستوراً } عن أعين الكفار فلا يرونه ، أو { مستوراً } به الرسول عن رؤيتهم.
ونسب الستر إليه لما كان مستوراً به قاله المبرد ، ويؤول معناه إلى أنه ذو ستر كما جاء في صيغة لابن وتامر أي ذو لبن وذو تمر.
وقالوا : رجل مرطوب أي ذو رطبة ولا يقال رطبته ، ومكان مهول أي ذو هول ، وجارية مغنوجة ولا يقال هلت المكان ولا غنجت الجارية.

وقال الأخفش وجماعة { مستوراً } ساتراً واسم الفاعل قد يجيء بلفظ المفعول كما قالوا مشؤوم وميمون يريدون شائم ويامن.
وقيل : مستور وصف على جهة المبالغة كما قالوا شعر شاعر ، وردّ بأن المبالغة إنما تكون باسم الفاعل ومن لفظ الأول { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً } تقدم تفسيره في أوائل الأنعام { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده }.
قيل : " دخل ملأ قريش على أبي طالب يزورونه ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ ومر بالتوحيد ، ثم قال : «يا معشر قريش قولوا لا إله إلاّ الله تملكون بها العرب وتدين لكم العجم» فولوا وأنفروا " فنزلت هذه الآية.
والظاهر أن الآية في حال الفارّين عند وقت قراءته ومروره بتوحيد الله ، والمعنى إذا جاءت مواضع التوحيد فرّ الكفار إنكاراً له واستبشاعاً لرفض آلهتهم واطّراحها.
وقال الزمخشري : وحد يحد وحداً وحدة نحو وعد يعد وعداً وعدة و { وحده } من باب رجع عوده على بدئه وافعله جهدك وطاقتك في أنه مصدر ساد مسدّ الحال ، أصله يحد وحده بمعنى واحداً انتهى.
وما ذهب إليه من أن { وحده } مصدر ساد مسد الحال خلاف مذهب سيبويه و { وحده } عند سيبويه ليس مصدراً بل هو اسم وضع موضع المصدر الموضوع موضع الحال ، فوحده عنده موضوع موضع إيحاد ، وإيحاد موضوع موضع موحد.
وذهب يونس إلى أن { وحده } منصوب على الظرف ، وذهب قوم إلى أنه مصدر لا فعل له ، وقوم إلى أنه مصدر لأوحد على حذف الزيادة ، وقوم إلى أنه مصدر لوحد كما ذهب إليه الزمخشري وحجج هذه الأقوال مذكورة في كتب النحو.
وإذا ذكرت { وحده } بعد فاعل ومفعول نحو ضربت زيداً فمذهب سيبويه أنه حال من الفاعل ، أي موحداً له بالضرب ، ومذهب المبرد أنه يجوز أن يكون حالاً من المفعول فعلى مذهب سيبويه يكون التقدير { وإذا ذكرت ربك } موحداً له بالذكر وعلى مذهب أبي العباس يجوز أن يكون التقدير موحداً بالذكر.
و { نفوراً } حال جمع نافر كقاعد وقعود ، أو مصدر على غير المصدر لأن معنى { ولوا } نفروا ، والظاهر عود الضمير في { ولوا } على الكفار المتقدم ذكرهم.
وقالت فرقة : هو ضمير الشياطين لأنهم يفرون من القرآن دل على ذلك المعنى وإن لم يجر لهم ذكر.
وقال أبو الحوراء أوس بن عبد الله : ليس شيء أطرد للشيطان من القلب من لا إله إلاّ الله ثم تلا { وإذا ذكرت } الآية.
وقال علي بن الحسين : هو البسملة { نحن أعلم بما يستمعون به } أي بالاستخفاف الذي يستمعون به والهزء بك واللغو ، كان إذا قرأ صلى الله عليه وسلم قام رجلان من بني عبد الله عن يمينه ورجلان منهم عن يساره ، فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار.

وبما متعلق بأعلم ، وما كان في معنى العلم والجهل وإن كان متعدياً لمفعول بنفسه فإنه إذا كان في باب أفعل في التعجب ، وفي أفعل التفضيل تعدى بالباء تقول : ما أعلم زيداً بكذا وما أجهله بكذا ، وهو أعلم بكذا وأجهل بكذا بخلاف سائر الأفعال المتعدية لمفعول بنفسه ، فإنه يتعدى في أفعل في التعجب وأفعل التفضيل باللام ، تقول : ما أضرب زيداً لعمرو وزيد أضرب لعمرو من بكر.
وبه قال الزمخشري في موضع الحال كما تقول : يستمعون بالهزء أي هازئين { وإذ يستمعون } نصب بأعلم أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون وبما به يتناجون ، إذ هم ذوو نجوى { إذ يقول } بدل من { إذ هم } انتهى.
وقال الحوفي : لم يقل يستمعونه ولا يستمعونك لما كان الغرض ليس الإخبار عن الاستماع فقط ، وكان مضمناً أن الاستماع كان على طريق الهزء بأن يقولوا : مجنون أو مسحور ، جاء الاستماع بالباء وإلى ليعلم أن الاستماع ليس المراد به تفهم المسموع دون هذا المقصد { إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى } فإذا الأولى تتعلق بيستمعون به وكذا { وإذ هم نجوى } لأن المعنى نحن أعلم بالذي يستمعون به إليك وإلى قراءتك وكلامك إنما يستمعون لسقطك وتتبع عيبك والتماس ما يطعنون به عليك ، يعني في زعمهم ولهذا ذكر تعديته بالباء وإلى انتهى.
وقال أبو البقاء : يستمعون به.
قيل : الباء بمعنى اللام ، لا وإذ ظرف ليستمعون الأولى ، والنجوى مصدر ، ويجوز أن يكون جمع نجى كقتيل وقتلى ، وإذ بدل من { إذ } الأولى.
وقيل : التقدير اذكر إذ تقول.
وقال ابن عطية : الضمير في به عائد على ما هو بمعنى الذي ، والمراد الاستخفاف والإعراض فكأنه قال : نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به أي هو ملازمهم ، ففضح الله بهذه الآية سرهم والعامل في { إذ } الأولى وفي المعطوف { يستمعون } الأولى انتهى.
تناجوا فقال النضر : ما أفهم ما تقول ، وقال أبو سفيان : أرى بعضه حقاً ، وقال أبو جهل : مجنون ، وقال أبو لهب : كاهن ، وقال حويطب : شاعر ، وقال بعضهم : أساطير الأولين ، وبعضهم إنما يعلمه بشر ، وروي أن تناجيهم كان عند عتبة دعا أشراف قريش إلى طعام فدخل عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله.
فتناجوا يقولون ساحر مجنون ، والظاهر أن { مسحوراً } من السحر أي خبل عقله السحر.
وقال مجاهد : مخدوعاً نحو { فأنى تسحرون } أي تخدعون.
وقال أبو عبيدة : { مسحوراً } معناه أن له سحراً أي رئة فهو لا يستغني عن الطعام والشراب فهو مثلكم وليس بملك ، وتقول العرب للجبان : قد انتفخ سحره ولكل من أكل أو شرب من آدمي وغيره مسحور.
قال :
أرانا موضعين لأمر غيب . . .
ونسحر بالطعام والشراب
أي نغذى ونعلل ونسحر.
قال لبيد :
فإن تسألينا فيم نحن فإننا . . .
عصافير من هذا الأنام المسحر

قال ابن قتيبة : لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة.
وقال ابن عطية : الآية التي بعد هذا تقوي أن اللفظة من السحر بكسر السين لأن في قولهم ضرب مثل ، وأما على أنها من السحر الذي هو الرئة ومن التغذي وأن تكون الإشارة إلى أنه بشر فلم يضرب له في ذلك مثل بل هي صفة حقيقة له ، و { الأمثال } تقدم ما قالوه في تناجيهم وكان ذلك منهم على جهة التسلية والتلبيس ، ثم رأى الوليد بن المغيرة أن أقربها لتخييل الطارئين عليهم هو أنه ساحر فضلوا في جميع ذلك ضلال من يطلب فيه طريقاً يسلكه فلا يقدر عليه ، فهو متحير في أمره عليهم فلا يستطيعون سبيلاً إلى الهدى والنظر المؤدي إلى الإيمان ، أو سبيلاً إلى إفساد أمرك وإطفاء نور الله بضربهم الأمثال واتّباعهم كل حيلة في جهتك.
وحكى الطبري أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه { وقالوا : أئذا كنا } هذا استفهام تعجب وإنكار واستبعاد لما ضربوا له الأمثال وقالوا عنه إنه مسحور ذكروا ما استدلوا به على زعمهم على اتصافه بما نسبوا إليه ، واستبعدوا أنه بعدما يصير الإنسان رفاتاً يحييه الله ويعيده ، وقد رد عليهم ذلك بأنه تعالى هو الذي فطرهم بعد العدم الصرف على ما يأتي شرحه في الآية بعد هذا ، ومن قرأ من القراء إذاً وإنّا معاً أو إحداهما على صورة الخبر فلا يريد الخبر حقيقة لأن ذلك كان يكون تصديقاً بالبعث والنشأة الآخرة ، ولكنه حذف همزة الاستفهام لدلالة المعنى.
وفي الكلام حذف تقديره إذا كنا تراباً وعظاماً نبعث أو نعاد ، وحذف لدلالة ما بعده عليه وهذا المحذوف هو جواب الشرط عند سيبويه ، والذي تعلق به الاستفهام وانصب عليه عند يونس وخلقاً حال وهو في الأصل مصدر أطلق على المفعول أي مخلوقاً.

قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)

الجديد معروف.
نغضت سنه : تحركت قال.
ونغضت من هرم أسنانها.
تنغض وتنغض نغضاً ونغوضاً ، وأنغض رأسه حركه برفع وخفض.
قال :
لما رأتني انغضت لي الرأسا . . .
وقال الآخر :
أنغض نحوي رأسه وأقنعا . . .
كأنه يطلب شيئاً أطعما
وقال الفراء : أنغض رأسه حركه إلى فوق وإلى أسفل.
وقال أبو الهيثم : إذا أخبر بشيء فحرك رأسه إنكاراً له فقد أنغض رأسه.
وقال ذو الرمّة :
ظعائن لم يسكنّ أكناف قرية . . .
بسيف ولم ينغض بهن القناطر
{ قل كونوا حجارة أو حديداً أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً }.
قال الزمخشري : لما قالوا { أئذا كنا عظاماً } قيل لهم { كونوا حجارة أو حديداً } فردّ قوله { كونوا } على قولهم { كنا } كأنه قيل { كونوا حجارة أو حديداً } ولا تكونوا عظاماً فإنه يقدر على إحيائكم.
والمعنى أنكم تستبعدون أن يجدد الله خلقكم ويرده إلى حال الحياة وإلى رطوبة الحي وغضاضته بعدما كنتم عظاماً يابسة ، مع أن العظام بعض أجزاء الحي بل هي عمود خلقه الذي يبنى عليه سائره ، فليس ببدع أن يردها الله بقدرته إلى حالتها الأولى ، ولكن لو كنتم أبعد شيء من الحياة ورطوبة الحي ومن جنس ما ركب به البشر ، وهو أن تكونوا { حجارة } يابسة { أو حديداً } مع أن طباعها القساوة والصلابة لكان قادراً على أن يردكم إلى حال الحياة { أو خلقاً مما يكبر } عندكم عن قبول الحياة ، ويعظم في زعمكم على الخالق احياؤه فإنه يحييه.
وقال ابن عطية : كونوا إن استطعتم هذه الأشياء الصعبة الممتنعة التأتي لا بد من بعثكم.
وقوله { كونوا } هو الذي يسميه المتكلمون التعجيز من أنواع أفعل ، وبهذه الآية مثل بعضهم وفي هذا عندي نظر وإنما التعجيز حيث يقتضي بالأمر فعل ما لا يقدر عليه المخاطب كقوله تعالى : { فادرؤوا عن أنفسكم الموت } ونحوه.
وأما هذه الآية فمعناها كونوا بالتوهم والتقدير كذا وكذا { الذي فطركم } كذلك هو يعيدكم انتهى.
وقال مجاهد : المعنى { كونوا } ما شئتم فستعادون.
وقال النحاس : هذا قول حسن لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة وإنما المعنى أنهم قد أقروا بخالقهم وأنكروا البعث فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم ، فلو كنتم { حجارة أو حديداً } لبعثتم كما خلقتم أول مرة انتهى.
{ أو خلقا مما يكبر في صدوركم } صلابته وزيادته على قوة الحديد وصلابته ، ولم يعينه ترك ذلك إلى أفكارهم وجولانها فيما هو أصلب من الحديد ، فبدأ أولاً بالصلب ثم ذكر على سبيل الترقي الأصلب منه ثم الأصلب من الحديد ، أي افرضوا ذواتكم شيئاً من هذه فإنه لا بد لكم من البعث على أي حال كنتم.

وقال ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمر والحسن وابن جبير والضحاك الذي يكبر الموت ، أي لو كنتم الموت لأماتكم ثم أحياكم.
وهذا التفسير لا يتم إلاّ إذا أريد المبالغة لا نفس الأمر ، لأن البدن جسم والموت عرض ولا ينقلب الجسم عرضاً ولو فرض انقلابه عرضاً لم يكن ليقبل الحياة لأجل الضدية.
وقال مجاهد : الذي يكبر السموات والأرض والجبال ولما ذكر أنهم لو كانوا أصلب شيء وأبعده من حلول الحياة به كان خلق الحياة فيه ممكناً.
قالوا : من الذي هو قادر على صيرورة الحياة فينا وإعادتنا فنبههم على ما يقتضي الإعادة ، وهو أن الذي أنشأكم واخترعكم أول مرة هو الذي يعيدكم و { الذي } مبتدأ وخبره محذوف التقدير { الذي فطركم أول مرة } يعيدكم فيطابق الجواب السؤال ، ويجوز أن يكون فاعلاً أي يعيدكم الذي فطركم ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ ، أي معيدكم الذي فطركم و { أول مرة } ظرف العامل فيه { فطركم } قاله الحوفي.
{ فسينغضون } أي يحركونها على سبيل التكذيب والاستبعاد ، ويقولون : متى هو؟ أي متى العود؟ ولم يقولوا ذلك على سبيل التسليم للعود.
ولكن حيدة وانتقالاً لما لا يسأل عنه لأن ما يثبت إمكانه بالدليل العقلي لا يسأل عن تعيين وقوعه ، ولكن أجابهم عن سؤالهم بقرب وقوعه لا بتعيين زمانه لأن ذلك مما استأثر الله تعالى بعلمه ، واحتمل أن يكون في { عسى } إضمار أي { عسى } هو أي العود ، واحتمل أن يكون مرفوعها { أن يكون } فتكون تامة.
و { قريباً } يحتمل أن يكون خبر كان على أنه يكون العود متصفاً بالقرب ، ويحتمل أن يكون ظرفاً أي زماناً قريباً وعلى هذا التقدير يوم ندعوكم بدلاً من قريباً.
وقال أبو البقاء : { يوم يدعوكم } ظرف ليكون ، ولا يجوز أن يكون ظرفاً لاسم كان وإن كان ضمير المصدر لأن الضمير لا يعمل انتهى.
أما كونه ظرفاً ليكون فهذا مبنيّ على جواز عمل كان الناقصة في الظرف وفيه خلاف.
وأما قوله لأن الضمير لا يعمل فهو مذهب البصريين ، وأما الكوفيون فيجيزون أن يعمل نحو مروري بزيد حسن وهو بعمرو قبيح ، يعلقون بعمرو بلفظ هو أي ومروري بعمرو قبيح.
والظاهر أن الدعاء حقيقة أي { يدعوكم } بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة كما قال { يوم ينادي المناد من مكان قريب } الآية ويقال : إن إسرافيل عليه السلام ينادي أيتها الأجسام البالية والعظام النخِرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت.
وروي في الحديث أنه قال صلى الله عليه وسلم : « إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم ، فأحسنوا أسماءكم » ومعنى { فتستجيبون } توافقون الداعي فيما دعاكم إليه.
وقال الزمخشري : الدعاء والاستجابة كلاهما مجاز ، والمعنى يوم يبعثكم فتنبعثون مطاوعين منقادين لا تمتنعون انتهى.
والظاهر أن الخطاب للكفار إذ الكلام قبل ذلك معهم فالضمير لهم و { بحمده } حال منهم.

قال الزمخشري : وهي مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيتأبى ويمتنع ستركبه وأنت حامد شاكر ، يعني أنك تحمل عليه وتقسر قسراً حتى أنك تلين لين المسمح الراغب فيه الحامد عليه.
وعن سعيد بن جبير ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون : سبحانك اللهم وبحمدك انتهى.
وذلك لما ظهر لهم من قدرته.
وقيل : معنى { بحمده } أن الرسول قائل ذلك لا أنهم يكون بحمده حالاً منهم فكأنه قال : عسى أن تكون الساعة قريبة يوم يدعوكم فتقومون بخلاف ما تعتقدون الآن ، وذلك بحمد الله على صدق خبري كما تقول لرجل خصمته أو حاورته في علم : قد أخطأت بحمد الله فبحمد الله ليس حالاً من فاعل أخطأت ، بل المعنى أخطأت والحمد لله.
وهذا معنى متكلف نحا إليه الطبري وكان { بحمده } يكون اعتراضاً إذ معناه والحمد لله.
ونظيره قول الشاعر :
فإني بحمد الله لا ثوبَ فاجرٍ . . .
لبست ولا من غدرةٍ أتقنع
أي فإني والحمد لله فهذا اعتراض بين اسم إن وخبرها ، كما أن { بحمده } اعتراض بين المتعاطفين ووقع في لفظ ابن عطية حين قرر هذا المعنى قوله : عسى أن الساعة قريبة وهو تركيب لا يجوز ، لا تقول عسى أن زيداً قائم بخلاف عسى أن يقوم زيد ، وعلى أن يكون { بحمده } حالاً من ضمير { فتستجيبون }.
قال المفسرون : حمدوا حين لا ينفعهم الحمد.
وقال قتادة : معناه بمعرفته وطاعته { وتظنون إن لبثتم إلاّ قليلاً }.
قال ابن عباس : بين النفختين الأولى والثانية فإنه يزال عنهم العذاب في ذلك الوقت ، ويدل عليه من بعثنا من مرقدنا هذا فهذا عائد إلى { لبثهم } فيما بين النفختين.
وقال الحسن : تقريب وقت البعث فكأنك بالدنيا ولم تكن وبالآخرة لم تزل فهذا يرجع إلى استقلال مدة اللبث في الدنيا.
وقال الزمخشري : { وتظنون } وترون الهول فعنده تستقصرون مدة لبثكم في الدنيا وتحسبونها يوماً أو بعض يوم ، وعن قتادة تحاقرت الدنيا في أنفسهم حين عاينوا الآخرة انتهى.
وقيل : استقلوا لبثهم في عرصة القيامة لأنه لما كانت عاقبة أمرهم الدخول إلى النار استقصروا مدة لبثهم في برزخ القيامة.
وقيل : تم الكلام عند قوله { قل عسى أن يكون قريباً }.
و { يوم يدعوكم } خطاب مع المؤمنين لا مع الكافرين لأنهم يستجيبون لله { بحمده } يحمدونه على إحسانه إليهم فلا يليق هذا إلاّ بهم.
وقيل : يحمده المؤمن اختياراً والكافر اضطراراً ، وهذا يدل على أن الخطاب للكافر والمؤمن وهو الذي يدل عليه ما روي عن ابن جبير ، وإذا كان الخطاب للكفار وهو الظاهر فيحمل أن يكون الظن على بابه فيكون لما رجعوا إلى حالة الحياة وقع لهم الظن أنهم لم ينفصلوا عن الدنيا إلاّ في زمن قليل إذ كانوا في ظنهم نائمين ، ويحتمل أن يكون بمعنى اليقين من حيث علموا أن ذلك منقض متصرم.
والظاهر أن { وتظنون } معطوف على تستجيبون وقاله الحوفي.
وقال أبو البقاء : أي وأنتم { تظنون } والجملة حال انتهى.
وأن هنا نافية ، { وتظنون } معلق عن العمل فالجملة بعده في موضع نصب ، وقلما ذكر النحويون في أدوات التعليق أن النافية ، ويظهر أن انتصاب قليلاً على أنه نعت لزمان محذوف أي إلاّ زمن قليلاً.
كقوله { قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم } ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أي لبثاً قليلاً ودلالة الفعل على مصدره دلالة قوية.

وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)

قيل : سبب نزولها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شتمه بعض الكفرة ، فسبه عمر وهم بقتله فكاد يثير فتنة فنزلت الآية وهي منسوخة بآية السيف ، وارتباطها بما قبلها أنه لما تقدم ما نسب الكفار لله تعالى من الولد ، ونفورهم عن كتاب الله إذا سمعوه ، وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم ونسبته إلى أنه مسحور ، وإنكار البعث كان ذلك مدعاة لإيذاء المؤمنين ومجلبة لبغض المؤمنين إياهم ومعاملتهم بما عاملوهم ، فأمر الله تعالى نبيه أن يوصي المؤمنين بالرفق بالكفار واللطف بهم في القول ، وأن لا يعاملوهم ، بمثل أفعالهم وأقوالهم ، فعلى هذا يكون المعنى { قل لعبادي } المؤمنين { يقولوا } للمشركين الكلم { التي هي أحسن }.
وقيل : المعنى { يقولوا } أي يقول بعض المؤمنين لبعض الكلم التي هي أحسن أي يجل بعضهم بعضاً ويعظمه ، ولا يصدر منه إلاَّ الكلام الطيب والقول الجميل ، فيكونوا مثل المشركين في معاملة بعضهم بعضاً بالتهاجي والسباب والحروب والنهب للأموال والسبي للنساء والذراري.
وقيل : عبادي هنا المشركون إذا المقصود هنا الدعاء إلى الإسلام ، فخوطبوا بالخطاب الحسن ليكون ذلك سبباً إلى قبول الدين فكأنه قيل : قل للذين أقروا أنهم عباد لي يقولوا { التي هي أحسن } وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن الولد واتخاذ الملائكة بنات فإن ذلك من نزغ الشيطان ووسوسته وتحسينه.
وقيل : عبادي شامل للفريقين المؤمنين والكافرين على ما يأتي تفسير { التي هي أحسن } والذي يظهر أن لفظة عبادي مضافة إليه تعالى كثر استعمالها في المؤمنين في القرآن كقوله { فبشر عبادي الذين يستمعون القول } { فادخلي في عبادي } عيناً { يشرب بها عباد الله }
و { قل } خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو أمر ، ومعمول القول محذوف تقديره قولوا { التي هي أحسن } وانجزم { يقولوا } على أنه جواب للأمر الذي هو قل قاله الأخفش ، وهو صحيح المعنى على تقدير أن يكون عبادي يراد به المؤمنون لأنهم لمسارعتهم لامتثال أمر الله تعالى بنفس ما يقول لهم ذلك قالوا { التي هي أحسن }.
وعن سيبويه إنه انجزم على جواب لشرط محذوف ، أي إن يقل لهم { يقولوا } فيكون في قوله حذف معمول القول وحذف الشرط الذي { يقولوا } جوابه.
وقال المبرد : انجزم جواباً للأمر الذي هو معمول { قل } أي قولوا { التي هي أحسن } { يقولوا }.
وقيل معمول { قل } مذكور لا محذوف وهو { يقولوا } على تقدير لام الأمر وهو مجزوم بها قاله الزجّاج.
وقيل : { يقولوا } مبني وهو مضارع حل محل المبني الذي هو فعل الأمر فبني ، والمعنى { قل لعبادي } قولوا قاله المازني ، وهذه الأقوال جرت في قوله { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة } وترجيح ما ينبغي أن يرجح مذكور في علم النحو.
و { التي هي أحسن } قالت فرقة منهم ابن عباس هي قول لا إله إلاّ الله.

قال ابن عطية : ويلزم على هذا أن يكون قوله { لعبادي } يريد به جميع الخلق لأن جميعهم مدعو إلى لا إله إلاّ الله.
ويجيء قوله بعد ذلك { إن الشيطان ينزغ بينهم } غير مناسب للمعنى إلاّ على تكبره بأن يجعل بينهم بمعنى خلالهم وأثناءهم ويجعل النزغ بمعنى الوسوسة والإملال.
وقال الحسن يرحمك الله يغفر الله لك ، وعنه أيضاً الأمر بامتثال الأوامر واجتناب المناهي.
وقيل القول للمؤمن يرحمك الله وللكافر هداك الله.
وقال الجمهور : وهي المحاورة الحسنى بحسب معنى معنى.
وقال الزمخشري : فسر { التي هي أحسن } بقوله : { ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم } يعني يقول لهم هذه الكلمة ونحوها ولا تقولوا لهم أنكم من أهل النار وأنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر.
وقوله : { إن الشيطان ينزغ بينهم } اعتراض بمعنى يلقي بينهم الفساد ويغري بعضهم على بعض ليقع بينهم المشارّة والمشاقة.
وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : إذا أردتم الحجة على المخالف فاذكروها بالطريق الأحسن وهو أن لا يخلط بالسب كقوله { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، وجادلهم بالتي هي أحسن } { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن } وخلط الحجة بالسب سبب للمقابلة بمثله ، وتنفير عن حصول المقصود من إظهار الحجة وتأثيرها ، ثم نبه على هذا الطريق بقوله : { إن الشيطان ينزغ بينهم } جامعاً للفريقين أي متى امتزجت الحجة بالإيذاء كانت الفتنة انتهى.
وقرأ طلحة { ينزغ } بكسر الزاي.
قال أبو حاتم : لعلها لغة والقراءة بالفتح.
وقال صاحب اللوامح : هي لغة.
وقال الزمخشري : هما لغتان نحو يعرشون ويعرشون انتهى.
ولو مثل بينطح وينطح كان أنسب وبين تعالى سبب النزغ وهي العداوة القائمة لأبيهم آدم قبلهم وقوله { ثم لآتينهم من بين أيديهم } الآية وغيرها من الآيات الدالة على تسلطه على الإنسان وابتغاء الغوائل المهلكة له.
والخطاب بقوله { ربكم } إن كان للمؤمنين فالرحمة الإنجاء من كفار مكة وأذاهم والتعذيب تسليطهم عليهم.
{ وما أرسلناك عليهم } أي على الكفار حافظاً وكفيلاً فاشتغل أنت بالدعوة وإنما هدايتهم إلى الله.
وقيل : { يرحمكم } بالهداية إلى التوفيق والأعمال الصالحة ، وإن شاء عذبكم بالخذلان وإن كان الخطاب للكفار فقال يقابل يرحمكم الله بالهداية إلى الإيمان ويعذبكم يميتكم على الكفر.
وذكر أبو سليمان الدمشقي لما نزل القحط بالمشركين قالوا { ربنا اكشف عنا العذاب إنّا مؤمنون } فقال الله { ربكم أعلم بكم } بالذي يؤمن من الذي لا يؤمن { إن يشأ يرحمكم } فيكشف القحط عنكم { أو إن يشأ يعذبكم } فيتركه عليكم.
وقال ابن عطية : هذه الآية تقوي أن الآية التي قبلها هي ما بين العباد المؤمنين وكفار مكة ، وذلك أن قوله { ربكم أعلم بكم } مخاطبة لكفار مكة بدليل قوله { وما أرسلناك عليهم وكيلاً } فكأنه أمر المؤمنين أن لا يخاشنوا الكفار في الدين ثم قال إنه أعلم بهم ورجاهم وخوّفهم ، ومعنى { يرحمكم } بالتوبة عليكم قاله ابن جريج وغيره انتهى.

وتقدم من قول الزمخشري أن قوله { ربكم أعلم بكم } هي من قول المؤمنين للكفار وأنه تفسير لقوله { التي هي أحسن }.
وقال ابن الأنباري : { أو } دخلت هنا لسعة الأمرين عند الله ولا يرد عنهما ، فكانت ملحقة بأو المبيحة في قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين يعنون قد وسعنا لك الأمر.
وقال الكرماني : { أو } للإضراب ولهذا كرر { إن } ولما ذكر تعالى أنه أعلم بمن خاطبهم بقوله : { ربكم أعلم بكم } انتقل من الخصوص إلى العموم فقال مخاطباً لرسوله صلى الله عليه وسلم : { وربك أعلم بمن في السموات والأرض } ليبين أن علمه غير مقصور عليكم بل علمه متعلق بجميع من في السموات والأرض ، بأحوالهم ومقاديرهم وما يستأهل كل واحد منهم ، و { بمن } متعلق بأعلم كما تعلق بكم قبله بأعلم ولا يدل تعلقه به على اختصاص أعلميته تعالى بما تعلق به كقولك : زيد أعلم بالنحو لا يدل هذا على أنه ليس أعلم بغير النحو من العلوم.
وقال أبو عليّ : الباء تتعلق بفعل تقديره علم { بمن } قال لأنه لو علقها بأعلم لاقتضى أنه ليس بأعلم بغير ذلك وهذا لا يلزم ، وأيضاً فإن علم لا يتعدى بالباء إنما يتعدّى لواحد بنفسه لا بواسطة حرف الجر أو لا يبين على ما تقرر في علم النحو.
ولما كان الكفار قد استبعدوا تنبئة البشر إذ فيه تفضيل الأنبياء على غيرهم أخبر تعالى بتفضيل الأنبياء على بعض إشارة إلى أنه لا يستبعد تفضيل الأنبياء على غيرهم إذ وقع التفضيل في هذا الجنس المفضل على الناس والله تعالى أعلم بما خص كل واحد من المزايا فهو يفضل من شاء منهم على من شاء إذ هو الحكيم فلا يصدر شيء إلاّ عن حكمته.
وفيه إشارة إلى أنه لا يستنكر تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء وخص { داود } بالذكر هنا لأنه تعالى ذكر في الزبور أن محمداً خاتم الأنبياء وأن أمته خير الأمم.
وقال تعالى { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } وهم محمد وأمته ، وكانت قريش ترجع إلى اليهود كثيراً فيما يخبرون به مما في كتبهم ، فنبه على أن زبور داود تضمن البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وفي ذلك إشارة رد على مكابري اليهود حيث قالوا : لا نبيّ بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة ، ونص تعالى هنا على إيتاء داود الزبور وإن كان قد آتاه مع ذلك الملك إشارة إلى أن التفضيل المحض هو بالعلم الذي آتاه ، والكتاب الذي أنزل عليه كما فضل محمد صلى الله عليه وسلم بما آتاه من العلم والقرآن الذي خصه به.
وتقدم تفسير { وآتينا داود زبوراً } في أواخر النساء وذكر الخلاف في ضم الزاي وفتحها.
وقال الزمخشري هنا : فإن قلت : هلا عرّف الزبور كما عرف في { ولقد كتبنا في الزبور } قلت : يجوز أن يكون الزبور وزبور كالعباس وعباس والفضل وفضل ، وأن يريد { وآتينا داود } بعض الزبور وهي الكتب وأن يريد ما ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الزبور ، فسُميِّ ذلك { زبوراً } لأنه بعض الزبور كما سُمي بعض القرآن قرآناً.

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)

قال ابن مسعود : نزلت في عَبدةَ الشياطين وهم خزاعة أسلمت الشياطين وبقوا يعبدونهم.
وقال ابن عباس في عزير والمسيح وأمه ، وعنه أيضاً وعن ابن مسعود وابن زيد والحسن في عبدة الملائكة وعن ابن عباس في عبدة الشمس والقمر والكواكب وعزير والمسيح وأمه انتهى.
ويكون { الذين زعمتم من دونه } عاماً غلب فيه من يعقل على ما لا يعقل ، والمعنى أدعوهم فلا يستطيعون أن يكشفوا عنكم.
الضر من مرض أو فقر أو عذاب ولا أن يحوّلوه من واحد إلى آخر أو يبدلوه.
وقرأ الجمهور : { يدعون } بياء الغيبة وابن مسعود وقتادة بتاء الخطاب ، وزيد بن عليّ بياء الغيبة مبنياً للمفعول ، والمعنى يدعونهم آلهة أو يدعونهم لكشف ما حل بكم من الضر كما حذف من قوله { قل ادعوا } أي ادعوهم لكشف الضر.
وفي قوله : { زعمتم } ضمير محذوف عائد على { الذين } وهو المفعول الأول والثاني محذوف تقديره زعمتموهم آلهة من دون الله ، و { أولئك } مبتدأ و { الذين } صفته ، والخبر { يبتغون }.
و { الوسيلة } القرب إلى الله تعالى ، والظاهر أن { أولئك } إشارة إلى المعبودين والواو في { يدعون } للعابدين ، والعائد على { الذين } منصوب محذوف أي يدعونهم.
وقال ابن فورك : الإشارة بقوله بأولئك إلى النبيين الذين تقدّم ذكرهم ، والضمير المرفوع في { يدعون } و { يبتغون } عائد عليهم ، والمعنى يدعون الناس إلى دين الله ، والمعنى على هذا أن الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء لا يعبدون إلاّ الله ولا يبتغون الوسيلة إلاّ إليه ، فهم أحق بالاقتداء بهم فلا يعبدوا غير الله.
وقرأ الجمهور : { إلى ربهم } بضمير الجمع الغائب.
وقرأ ابن مسعود إلى ربك بالكاف خطاباً للرسول ، واختلفوا في إعراب { أيهم أقرب } وتقديره.
فقال الحوفي : { أيهم أقرب } ابتداء وخبر ، والمعنى ينظرون { أيهم أقرب } فيتوسلون به ويجوز أن يكون { أيهم أقرب } بدلاً من الواو في { يبتغون } انتهى.
ففي الوجه الأول أضمر فعل التعليق ، و { أيهم أقرب } في موضع نصب على إسقاط حرف الجر لأن نظر إن كان بمعنى الفكر تعدّى بفي ، وإن كانت بصرية تعدّت بإلى ، فالجملة المعلق عنها الفعل على كلا التقديرين تكون في موضع نصب على إسقاط حرف الجر كقوله { فلينظر أيها أزكى طعاماً } وفي إضمار الفعل المعلق نظر ، والوجه الثاني قاله الزمخشري قال : وتكون أي موصولة ، أي يبتغى من هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب انتهى.
فعلى الوجه يكون { أقرب } خبر مبتدأ محذوف ، واحتمل { أيهم } أن يكون معرباً وهو الوجه ، وأن يكون مبنياً لوجود مسوغ البناء.
قال الزمخشري : أو ضمن { يبتغون } { الوسيلة } معنى يحرصون فكأنه قيل يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله ، وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح ، فيكون قد ضمن { يبتغون } معنى فعل قلبي وهو يحرصون حتى يصح التعليق ، وتكون الجملة الابتدائية في موضع نصب على إسقاط حرف الجر لأن حرص يتعدى بعلى ، كقوله

{ إن تحرص على هداهم } وقال ابن عطية : و { أيهم } ابتدأ و { أقرب } خبره ، والتقدير نظرهم وددكهم { أيهم أقرب } وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : فبات الناس يدوكون أيهم يعطاها ، أي يتبارون في طلب القرب.
فجعل المحذوف نظرهم وودكهم وهذا مبتدأ فإن جعلت { أيهم أقرب } في موضع نصب بنظرهم المحذوف بقي المبتدأ الذي هو نظرهم بغير خبر محتاج إلى إضمار الخبر ، وإن جعلت { أيهم أقرب } هو الخبر فلا يصح لأن نظرهم ليس هو { أيهم أقرب } وإن جعلت التقدير نظرهم في { أيهم أقرب } أي كائن أو حاصل فلا يصح ذلك لأن كائناً وحاصلاً ليس مما تعلق.
وقال أبو البقاء : { أيهم } مبتدأ و { أقرب } خبره ، وهو استفهام في موضع نصب بيدعون ، ويجوز أن يكون { أيهم } بمعنى الذي وهو بدل من الضمير في { يدعون } والتقدير الذي هو أقرب انتهى.
ففي الوجه الأولى علق { يدعون } وهو ليس فعلاً قلبياً ، وفي الثاني فصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحالية ، ولا يضر ذلك لأنها معمولة للصلة { ويرجون رحمته ويخافون عذابه } كغيرهم من عباد الله ، فكيف يزعمون أنهم آلهة { إن عذاب ربك كان محذوراً } يحذره كل أحد.
و { إن من قرية } { إن } نافية و { من } زائدة في المبتدأ تدل على استغراق الجنس ، والجملة بعد { إلاّ } خبر المبتدأ.
وقيل : المراد الخصوص والتقدير وإن من قرية ظالمة.
وقال ابن عطية : ومن لبيان الجنس انتهى.
والتي لبيان الجنس على قول من يثبت لها هذا المعنى هو أن يتقدم قبل ذلك ما يفهم منه إبهام ما فتأتي { من } لبيان ما أريد بذلك الذي فيه إبهام ما.
كقوله { ما يفتح الله للناس من رحمة } وهنا لم يتقدم شيء مبهم تكون من فيه بياناً له ، ولعل قوله لبيان الجنس من الناسخ ويكون هو قد قال لاستغراق الجنس ألا ترى أنه قال بعد ذلك.
وقيل : المراد الخصوص انتهى.
والظاهر أن جميع القرى تهلك قبل يوم القيامة وإهلاكها تخريبها وفناؤها ، ويتضمن تخريبها هلاك أهلها بالاستئصال أو شيئاً فشيئاً أو تعذب والمعنى أهلها بالقتل وأنواع العذاب.
وقيل : الهلاك للصالحة والعذاب للطالحة.
وقال مقاتل : وجدت في كتب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها : أما مكة فتخربها الحبشة ، وتهلك المدينة بالجوع ، والبصرة بالغرق ، والكوفة بالترك ، والجبال بالصواعق.
والرواجف ، وأما خراسان فعذابها ضروب ثم ذكرها بلداً بلداً ونحو ذلك عن وهب بن منبه فذكر فيه أن هلاك الأندلس وخرابها يكون بسنابك الخيل واختلاف الجيوش.
{ كان ذلك في الكتاب مسطوراً } أي في سابق القضاء أو في اللوح المحفوظ أي مكتوباً أسطاراً { وما منعنا أن نرسل } بالآيات عن ابن عباس : " أن أهل مكة سألوا أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعون ، اقترحوا ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم فأوحى الله إليه إن شئت أن أفعل ذلك لهم فإن تأخروا عاجلتهم بالعقوبة ، وإن شئت استأنيت بهم عسى أن أجتبي منهم مؤمنين فقال : «بل تستأني بهم يا رب» "

فنزلت ، واستعير المنع للترك أي ما تركنا إرسال الآيات المقترحة إلاّ لتكذيب الأولين بها ، وتكذيب الأولين ليس علة في إرسال الآيات لقريش ، فالمعنى إلاّ ابتاعهم طريقة تكذيب الأولين بها ، فتكذيب الأولين فاعل على حذف المضاف فإذا كذبوا بها كما كذب الأولون عاجلتهم بعذاب الاستئصال وقد اقتضت الحكمة أن لا أستأصلهم.
وقال الزمخشري : فالمعنى وما صرفنا عن إرسال ما تقترحونه من الآيات إلاّ أن كذب بها الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود ، وإنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك وقالوا هذا سحر مبين كما يقولون في غيرها ، واستوجبوا العذاب المستأصل وقد عزمنا أن نؤخر أمر من بعثت إليهم إلى يوم القيامة ، ثم ذكر من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت إليهم فأهلكوا واحدة وهي ناقة صالح لأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم انتهى.
وقرأ الجمهور { ثمود } ممنوع الصرف.
وقال هارون : أهل الكوفة ينونون { ثمود } في كل وجه.
وقال أبو حاتم : لا تنون العامة والعلماء بالقرآن { ثمود } في وجه من الوجوه ، وفي أربعة مواطن ألف مكتوبة ونحن نقرؤها بغير ألف انتهى.
وانتصب { مبصرة } على الحال وهي قراءة الجمهور.
وقرأ زيد بن عليّ { مبصرة } بالرفع على إضمار مبتدأ أي هي مبصرة ، وأضاف الإبصار إليها على سبيل المجاز لما كانت يبصرها الناس ، والتقدير آية مبصرة.
وقرأ قوم : بفتح الصاد اسم مفعول أي يبصرها الناس ويشاهدونها.
وقرأ قتادة بفتح الميم والصاد مفعلة من البصر أي محل إبصار كقوله :
والكفر مخبثة لنفس النعم . . .
أجراها مجرى صفات الأمكنة نحو أرض مسبعة ومكان مضبة ، وقالوا : الولد مبخلة مجبنة { فظلموا بها } أي بعقرها بعد قوله { فذروها تأكل في أرض الله } الآية.
وقيل : المعنى أنهم جحدوا كونها من عند الله.
وقيل : جعلوا التكذيب بها موضع التصديق وهو معنى القول قبله ، والظاهر أن الآيات الأخيرة غير الآيات الأولى ، لوحظ في ذلك وصف الاقتراح وفي هذه وصف غير المقترحة وهي آيات معها إمهال لا معاجلة كالكسوف والرعد والزلزلة.
وقال الحسن : والموت الذريع ، وفي حديث الكسوف : « فافزعوا إلى الصلاة » قال ابن عطية : وآيات الله المعتبر بها ثلاثة أقسام قسم عام في كل شيء إذ حيث ما وضعت نظرك وجدت آية.
وهنا فكرة العلماء ، وقسم معتاد كالرعد والكسوف ونحوه وهنا فكرة الجهلة فقط ، وقسم خارق للعادة وقد انقضى بانقضاء النبوة وإنما يعتبر توهماً لما سلف منه انتهى.
وهذا القسم الأخير قال فيه وقد انقضى بانقضاء النبوة وكثير من الناس يثبت هذا القسم لغير الأنبياء ويسميه كرامة.

وقال الزمخشري : إن أراد بالآيات المقترحة فالمعنى لا نرسلها { إلاّ تخويفاً } من نزول العذاب العاجل كالطليعة والمقدمة له ، فإن لم يخافوا وقع عليهم ، وإن أراد غيرها فالمعنى { وما نرسل } ما نرسل من الآيات كآيات القرآن وغيرها { إلاّ تخويفاً } وإنذاراً بعذاب الآخرة.
وقيل : الآيات التي جعلها الله تخويفاً لعباده سماوية كسوف الشمس ، وخسوف القمر ، والرعد ، والبرق ، والصواعق ، والرجوم وما يجري مجرى ذلك.
وأرضية زلازل ، وخسف ، ومحول ونيران تظهر في بعض البلاد ، وغور ماء العيون وزيادتها على الحد حتى تغرق بعض الأرضين ، ولا سماوية ولا أرضية الرياح العواصف وما يحدث عنها من قلع الأشجار وتدمير الديار وما تسوقه من السواقي والرياح السموم.

وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)

لما طلبوا الرسول بالآيات المقترحة وأخبر الله بالمصلحة في عدم المجيء بها طعن الكفار فيه ، وقالوا : لو كان رسولاً حقاً لأتى بالآيات المقترحة فبين الله أنه ينصره ويؤيده وأنه { أحاط بالناس }.
فقيل بعلمه فلا يخرج شيء عن علمه.
وقيل : بقدرته فقدرته غالبة كل شيء.
وقيل : الإحاطة هنا الإهلاك كقوله { وأحيط بثمره } والظاهر أن الناس عام.
وقيل : أهل مكة بشره الله تعالى أنه يغلبهم ويظهر عليهم ، و { أحاط } بمعنى يحيط عبر عن المستقبل بالماضي لأنه واقع لا محالة ، والوقت الذي وقعت فيه الإحاطة بهم.
قيل يوم بدر.
وقال العسكري : هذا خبر غيب قدمه قبل وقته ، ويجوز أن يكون ذلك في أمر الخندق ومجيء الأحزاب يطلبون ثأرهم ببدر فصرفهم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً.
وقيل : يوم بدر ويوم الفتح.
وقيل : الأشبه أنه يوم الفتح فإنه اليوم الذي أحاط أمر الله بإهلاك أهل مكة فيه وأمكن منهم.
وقال الطبري : { أحاط بالناس } في منعك يا محمد وحياطتك وحفظك ، فالآية إخبار له أنه محفوظ من الكفرة أمن أن يقتل وينال بمكروه عظيم ، أي فلتبلغ رسالة ربك ولا تتهيب أحداً من المخلوقين.
قال ابن عطية : وهذا تأويل بين جار مع اللفظ.
وقد روي نحوه عن الحسن والسدّي إلاّ أنه لا يناسب ما بعده مناسبة شديدة ، ويحتمل أن يجعل الكلام مناسباً لما بعده توطئة له.
فأقول : اختلف الناس في { الرؤيا }.
فقال الجمهور هي رؤيا عين ويقظة وهي ما رأى في ليلة الإسراء من العجائب قال الكفار : إن هذا لعجب نخبّ إلى بيت المقدس شهرين إقبالاً وإدباراً ويقول محمد جاءه من ليلته وانصرف منه ، فافتتن بهذا التلبيس قوم من ضعفاء المسلمين فارتدوا وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ، فعلى هذا يحسن أن يكون معنى قوله { وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس } أي في إضلالهم وهدايتهم ، وإن كل واحد ميسر لما خلق له أي فلا تهتم أنت بكفر من كفر ولا تحزن عليهم فقد قيل لك إن الله محيط بهم مالك لأمرهم وهو جعل رؤياك هذه فتنة ليكفر من سبق عليه الكفر ، وسميت الرؤية في هذا التأويل رؤياً إذ هما مصدران من رأى.
وقال النقاش : جاء ذلك من اعتقاد من اعتقد أنها منامية وإن كانت الحقيقة غير ذلك انتهى.
وعن ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم : هو قصة الإسراء والمعراج عياناً آمن به الموفقون وكفر به المخذولون ، وسماه رؤيا لوقوعه في الليل وسرعة تقضيه كأنه منام.
وعن ابن عباس أيضاً هو رؤياه أنه يدخل مكة فعجل في سنته الحديبية ورد فافتتن الناس ، وهذا مناسب لصدر الآية فإن الإحاطة بمكة أكثر ما كانت.

وعن سهل بن سعد : هي رؤياه بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فاهتم لذلك وما استجمع ضاحكاً من يومئذ حتى مات ، فنزلت الآية مخبرة أن ذلك من ملكهم وصعودهم المنابر إنما يجعلها الله فتنة للناس.
ويجيء قوله { أحاط بالناس } أي بأقداره وإن كان ما قدّره الله فلا تهتم بما يكون بعدك من ذلك.
وقال الحسن بن عليّ في خطبته في شأن بيعته لمعاوية : وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين.
وقالت عائشة : { الرؤيا } رؤيا منام.
قال ابن عطية : وهذه الآية تقضي بفساده ، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها وما كان أحد لينكرها انتهى.
ولبس كما قال ابن عطية : فإن رؤيا الأنبياء حق ويخبر النبيّ بوقوع ذلك لا محالة فيصير إخباره بذلك فتنة لمن يريد الله به ذلك.
وقال صاحب التحرير : سألت أبا العباس القرطبي عن هذه الآية فقال : ذهب المفسرون فيها إلى أمر غير ملائم في سياق أول الآية ، والصحيح أنها رؤية عين يقظة لما آتاه بدراً أراه جبريل عليه السلام مصارع القوم فأراها الناس ، وكانت فتنة لقريش فإنهم لما سمعوا أخذوا في الهزء والسخرية بالرسول صلى الله عليه وسلم.
{ والشجرة الملعونة } هنا هي أبو جهل انتهى.
وقال الزمخشري : ولعل الله تعالى أراه مصارعهم في منامه فقد كان يقول حين ورد ماء بدر : «والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم» وهو يرمىء إلى الأرض ويقول : «هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان».
فتسامعت قريش بما أُوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر بدر وما أُرِي في منامه من مصارعهم ، فكانوا يضحكون ويستسخرون به استهزاء.
وقيل : رأى في المنام أن ولد الحكم يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة انتهى.
والظاهر أنه أريد بالشجرة حقيقتها.
فقال ابن عباس : هي الكشوث المذكورة في قوله { كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار } وعنه أيضاً : هي { الشجرة } التي تلتوي على الشجرة فتفسدها.
قال : والفتنة قولهم ما بال الحشائش تذكر في القرآن.
وقال الجمهور : هي شجرة الزقوم لما نزل أمرها في الصافات وغيرها.
قال أبو جهل وغيره : هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم أنها تنبت الشجر والنار تأكل الشجر وما نعرف الزقوم إلاّ التمر بالزبد ، ثم أمر أبو جهل جارية له فأحضرت تمراً وزبداً وقال لأصحابه : «تزقموا» فافتتن أيضاً بهذه المقالة بعض الضعفاء.
قال الزمخشري : وما أنكروا أن يجعل الله { الشجرة } من جنس لا تأكله النار ، فهذا وبر السمندل وهو دويبة ببلاد الترك يتخذ منها مناديل إذا اتسخت طرحت في النار فيذهب الوسخ وبقي المنديل سالماً لا تعمل فيه النار ، وترى النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد الحمر كالجمر بإحماء النار فلا يضرها ثم أقرب من ذلك أنه خلق في كل شجرة ناراً فلا تحرقها فما أنكروا أن يخلق في النار شجرة لا تحرقها.

والمعنى أن الآيات إنما نرسل بها تخويفاً للعباد ، وهؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر فما كان ما أريناك منه في منامك بعد الوحي إليك إلاّ فتنة لهم حيث اتخذوه سخرياً وخوفوا بعذاب الآخرة وبشجرة الزقوم فما أثر فيهم ثم قال { ونخوفهم } أي بمخاوف الدنيا والآخرة { فما يزيدهم } التخويف { إلاّ طغياناً كبيراً } فكيف يخاف قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات انتهى.
وقوله بعد الوحي إليك هو قوله { سيهزم الجمع ويولون الدبر } وقوله { قل للذين كفروا ستغلبون } والظاهر إسناد اللعنة إلى { الشجرة } واللعن الإبعاد من الرحمة وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة.
وقيل تقول العرب لكل طعام مكروه ضار ملعون.
قال الزمخشري : وسألت بعضهم فقال نعم الطعام الملعون القشب الممحون.
وقال ابن عباس : { الملعونة } يريد آكلها ، ونمقه الزمخشري فقال : لعنت حيث لعن طاعموها من الكفرة والظلمة لأن الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن على الحقيقة وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز انتهى.
وقيل لما شبه طلعها برؤوس الشياطين ، والشيطان ملعون نسبت اللعنة إليها.
وقال قوم { الشجرة } هنا مجاز عن واحد وهو أبو جهل.
وقيل هو الشيطان.
وقيل مجاز عن جماعة وهم اليهود الذين تظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعنهم الله تعالى وفتنتهم أنهم كانوا ينتظرون بعثة الرسول عليه السلام ، فلما بعثه الله كفروا به وقالوا : ليس هو الذي كنا ننتظره فثبطوا كثيراً من الناس بمقالتهم عن الإسلام.
وقيل بنو أمية حتى إن من المفسرين من لا يعبر عنهم إلاّ بالشجرة الملعونة لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة وأخذ الأموال من غير حلها وتغيير قواعد الدين وتبديل الأحكام ، ولعنها في القرآن { ألا لعنة الله على الظالمين } إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة.
وقرأ الجمهور : { الشجرة الملعونة } عطفاً على { الرؤيا } فهي مندرجة في الحصر ، أي { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك } { والشجرة الملعونة } في القرآن { إلاّ فتنة للناس }.
وقرأ زيد بن عليّ برفع { والشجرة الملعونة } على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره كذلك أي فتنة ، والضمير في { ونخوفهم } لكفار مكة.
وقيل لملوك بني أمية بعد الخلافة التي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « الخلافة بعدي ثلاثون ثم تكون ملكاً عضوضاً » والأول أصوب.
وقرأ الأعمش : ويخوفهم بياء الغيبة والجمهور بنون العظمة.

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)

حنك الدابة واحتنكها : جعل في حنكها الأسفل حبلاً يقودها به ، واحتنك الجراد الأرض أكلت نباتها.
قال :
نشكوا إليك سنة قد أجحفت . . .
جهداً إلى جهد بنا فأضعفت
واحتنكت أموالنا وحنفت ، ومنه ما ذكر سيبويه من قولهم : أحنك الشاتين أي آكلَهما.
استفز الرجل : استخفه ، والفز الخفيف وأصله القطع ومنه تفزز الثوب انقطع ، واستفزني فلان خدعني حتى وقعت في أمر أراده.
وقيل لولد البقرة فز لخفته.
قال الشاعر :
كما استغاث بشيء فز غيطلة . . .
خاف العيون فلم ينظرنه الحشك
الجلبة الصياح قاله أبو عبيدة والفراء.
وقال أبو عبيدة : جلب وأجلب.
وقال الزجاج : أجلب على العدوّ وجمع عليه الخيل.
وقال ابن السكيت : جلب عليه أعان عليه.
وقال ابن الأعرابي : أجلب على الرجل إذا توعده الشر ، وجمع عليه الجمع.
الصوت معروف.
{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً قال أرأيتك هذا الذي كرّمت عليّ لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلاّ قليلاً قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفوراً واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلاً }.
مناسبة هذه الآية لما قبلها من وجهين.
أحدهما أنه لما نازعوا الرسول عليه السلام في النبوّة واقترحوا عليه الآيات كان ذلك لكبرهم وحسدهم للرسول صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من النبوّة والدرجة الرفيعة ، فناسب ذكر قصة آدم عليه السلام وإبليس حيث حمله الكبر والحسد على الامتناع من السجود.
والثاني أنه لما قال { فما يزيدهم إلاّ طغياناً كبيراً } بين ما سبب هذا الطغيان وهو قول إبليس { لأحتنكنّ ذريته إلا قليلاً } وانتصب { طيناً } على الحال قاله الزجاج وتبعه الحوفي ، فقال : من الهاء في خلقته المحذوفة ، والعامل { خلقت } والزمخشري فقال { طيناً } أما من الموصول والعامل فيه { أأسجد } على آسجد له وهو طين أي أصله طين ، أو من الراجع إليه من الصلة على آسجد لمن كان في وقت خلقه { طيناً } انتهى.
وهذا تفسير معنى.
وقال أبو البقاء : والعامل فيه { خلقت } يعني إذا كان حالاً من العائد المحذوف وأجاز الحوفي أن يكون نصباً على حذف من التقدير من طين كما صرح به في قوله { وخلقته من طين } وأجاز الزجّاج أيضاً وتبعه ابن عطية أن يكون تمييزاً ولا يظهر كونه تمييزاً وقوله { أأسجد } استفهام إنكار وتعجب.
وبين قوله { آأسجد } وما قبله كلام محذوف ، وكأن تقديره قال : لم لم تسجد لأدم قال : { أأسجد } وبين قوله { أرأيتك } وقال آسجد جمل قد ذكرت حيث طولت قصته ، والكاف في { أرأيتك } للخطاب وتقدّم الكلام عليها في سورة الأنعام ولا يلحق كاف الخطاب هذه إلاّ إذا كانت بمعنى أخبرني ، وبهذا المعنى قدرها الحوفي وتبعة الزمخشري وهو قول سيبويه فيها والزجّاج.

قال الحوفي : و { أرأيتك } بمعنى عرفني وأخبرني ، وهذا منصوب بأرأيتك ، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ لم كرّمته عليّ وقد خلقتني من نار وخلقته من طين ، وحذف هذا لما في الكلام من الدليل عليه.
وقال الزمخشري : الكاف للخطاب و { هذا } مفعول به ، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ أي فضلته لم كرمته عليّ وأنا خير منه ، فاختصر الكلام بحذف ذلك ثم ابتدأ فقال : { لئن أخرتن }.
وقال ابن عطية : والكاف في { أرأيتك } حرف خطاب ومبالغة في التنبيه لا موضع لها من الإعراب فهي زائدة ، ومعنى أرأيت أتأملت ونحوه كان المخاطب بها ينبه المخاطب ليستجمع لما ينصه عليه بعد.
وقال سيبويه : هي بمعنى أخبرني ومثل بقوله { أرأيتك } زيداً أيؤمن هو.
وقاله الزجاج ولم يمثل ، وقول سيبويه صحيح حيث يكون بعدها استفهام كمثاله ، وأما في هذه الآية فهي كما قلت وليست التي ذكر سيبويه رحمه الله انتهى.
وما ذهب إليه الحوفي والزمخشري في { أرأيتك } هنا هو الصحيح ، ولذلك قدر الاستفهام وهو لم كرمته عليّ فقد انعقد من قوله { هذا الذي كرّمت عليّ } لم كرمته عليّ جملة من مبتدأ وخبر ، وصار مثل : زيد أيؤمن هو دخلت عليه { أرأيتك } فعملت في الأول ، والجملة الاستفهامية في موضع الثاني والمستقر في أرأيت بمعنى أخبرني أن تدخل على جملة ابتدائية يكون الخبر استفهاماً ، فإن صرح به فذلك واضح وإلاّ قدر.
وقد أشبعنا الكلام في الأنعام وفي شرح التسهيل.
وقال الفراء : هنا للكاف محمل من الإعراب وهو النصب أي أرأيت نفسك قال : وهذا كما تقول أتدبرت آخر أمرك.
فإني صانع فيه كذا ، ثم ابتدأ { هذا الذي كرمت عليّ } انتهى.
والرد عليه مذكور في علم النحو ، ولو ذهب ذاهب إلى أن هذا مفعول أول لقوله : { أرأيتك } بمعنى أخبرني والثاني الجملة القسمية بعده لانعقادهما مبتدأ وخبراً قبل دخول { أرأيتك } لذهب مذهباً حسناً ، إذ لا يكون في الكلام إضمار ، وتلخص من هذا كله الكاف إما في موضع نصب وهذا مبتدأ ، وإما حرف خطاب وهذا مفعول بأرأيت بمعنى محذوف ، وهو الجملة الاستفهامية أو مذكور وهو الجملة القسمية ، ومعنى { لئن أخرتن } أي أخرت مماتي وأبقيتني حياً.
وقال ابن عباس : { لأحتنكنّ } لأستولين عليهم وقاله الفراء.
وقال ابن زيد لأضلنهم.
وقال الطبري : لأستأصلن وكفر إبليس بجهله صفة العدل من الله حين لحقته الأنفة والكبر ، وظهر ذلك في قوله { أرأيتك هذا الذي كرمت عليّ } إذ نص على أنه لا ينبغي أن يكرم بالسجود مني من أنا خير منه ، وأقسم إبليس على أنه يحتنك ذرية آدم وعلم ذلك إما بسماعه من الملائكة ، وقد أخبرهم الله به أو استدل على ذلك بقولهم :

{ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } أو نظر إليه فتوسم في مخايله أنه ذو شهوة وعوارض كالغضب ونحوه ، ورأى خلقته مجوفة مختلفة الأجزاء ، وقال الحسن : ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عزما فظن ذلك بذريته وهذا ليس بظاهر لأن قول ذلك كان قبل وسوسته لآدم في أكل الشجرة ، واستثنى القليل لأنه علم أنه يكون في ذرية آدم من لا يتسلط عليه كما قال { لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } والأمر بالذهاب ليس على حقيقته من نقيض المجيء ولكن المعنى اذهب لشأنك الذي اخترته ، وعقبه بذكر ما جرّه سوء فعله من جزائه وجزاء اتباعه جهنم ، ولما تقدم اسم غائب وضمير خطاب غلب الخطاب فقال : { جزاؤكم } ويجوز أن يكون ضمير من على سبيل الالتفات والموفور المكمل ووفر متعد كقوله :
ومن يجعل المعروف من دون عرضه . . .
يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
ولازم تقول وفر المال يفر وفوراً ، وانتصب { جزاءً } على المصدر والعامل فيه { جزاؤكم } أو يجاوز مضمره أو على الحال الموطئة.
وقيل : تمييز ولا يتعقل { واستفزز } معطوف على فاذهب وعطف عليه ما بعده من الأمر وكلها بمعنى التهديد كقوله { اعملوا ما شئتم } ومن في { من استطعت } موصولة مفعولة باستفزز.
وقال أبو البقاء : { من استطعت } من استفهام في موضع نصب باستطعت ، وهذا ليس بظاهر لأن { استفزز } ومفعول { استطعت } محذوف تقديره { من استطعت } أن تستفزه والصوت هنا الدعاء إلى معصية الله.
وقال مجاهد : الغناء والمزامير واللهو.
وقال الضحاك : صوت المزمار وذكر الغزنوي أن آدم أسكن ولد هابيل أعلى الجبل وولد قابيل أسفله.
وفيهم بنات حسان ، فزمر الشيطان فلم يتمالكوا أن انحدروا واقترنوا.
وقيل : الصوت هنا الوسوسة.
وقرأ الحسن { واجلب عليهم } بوصل الألف وضم اللام من جلب ثلاثياً ، والظاهر أن إبليس له خيل ورجالة من الجن جنسه قاله قتادة ، والخيل تطلق على الأفراس حقيقة وعلى أصحابها مجازاً وهم الفرسان ، ومنه : يا خيل الله اركبي ، والباء في { بخيلك } قيل زائدة.
وقيل : من الآدميين أضيفوا إليه لانخراطهم في طاعته وكونهم أعوانهم على غيرهم قاله مجاهد.
وقال ابن عطية : وقوله { بخيلك ورجلك }.
وقيل : هذا مجاز واستعارة بمعنى اسع سعيك وابلغ جهدك انتهى.
وقال أبو علي ليس للشيطان خيل ولا رجل ولا هو مأمور إنما هذا زجر واستخفاف به كما تقول لمن تهدده اذهب فاصنع ما شئت واستعن بما شئت.
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله؟ قلت : هو كلام وارد مورد التمثيل مثلت حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم فصوت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم ، واجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم انتهى.
وقرأ الجمهور : { ورجلك } بفتح الراء وسكون الجيم وهو اسم جمع واحده راجل كركب وراكب ، وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية وحفص بكسر الجيم.

قال صاحب اللوامح بمعنى الرجال.
وقال ابن عطية هي صفة يقال فلان يمشي رَجِلاً أي غير راكب ومنه قول الشاعر :
رجلاً إلاّ بأصحاب . . .
وقال الزمخشري : وقرىء { ورجلك } على أن فعلاً بمعنى فاعل نحو تعب وتاعب ، ومعناه وجمعك الرجل وتضم جيمه أيضاً فيكون مثل حدث وحدثُ وندس وندس وأخوات لهما انتهى.
وقرأ قتادة وعكرمة ورجالك.
وقرىء : ورجل لك بضم الراء وتشديد الجيم والمشاركة في الأموال.
قال الضحاك : ما يذبحون لآلهتهم وقتادة البحيرة والسائبة.
وقيل : ما أصيب من مال وحرام.
وقيل : ما جعلوه من أموالهم لغير الله.
وقيل : ما صرف في الزنا والأولى ما أخذ من غير حقه وما وضع في غير حقه والمشاركة في الأولاد.
قال ابن عباس : تسميتهم عبد العزّى وعبد اللات وعبد الشمس وعبد الحارث ، وعنه أيضاً ترغيبهم في الأديان الباطلة كاليهودية والنصرانية.
وعنه أيضاً إقدامهم على قتل الأولاد قال الحسن وقتادة.
ما مجّسوه وهوّدوه ونصروه وصبغوهم غير صبغة الإسلام.
وقال مجاهد : عدم التسمية عند الجماع فالجان ينطوي إذ ذاك على إحليله فيجامع معه.
وقيل ترغيبهم في القتال والقتل وحفظ الشعر المشتمل على الفحش ، والأولى أنه كل تصرّف في الولد يؤدي إلى ارتكاب منكر وقبيح ، وأما وعده فهو الوعد الكاذب كوعدهم أن لا بعث وهذه مشاركة في النفوس.
وقال الزمخشري : { وعدهم } المواعيد الكاذبة من شفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة ، وتسويف التوبة ومغفرة الذنوب بدونها ، والاتكال على الرحمة وشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكبائر والخروج من النار بعد أن يصيروا حميماً ، وإيثار العاجل على الآجل انتهى.
وهو جار على مذهب المعتزلة في أنه لا تغفر الذنوب بدون التوبة ، وبأنه لا شفاعة في الكبائر ، وبأنه لا يخرج من النار أبداً من دخلها من فاسق مؤمن.
وانتصب { غروراً } وهو مصدر على أنه وصف لمصدر محذوف أي وعداً غروراً على الوجوه التي في رجل صوم ، ويحتمل أن يكون مفعولاً من أجله أي { وما يعدكم } ويمنيكم ما لا يتم ولا يقع إلاّ لأن يغركم ، والإضافة إليه تعالى في { إن عبادي } إضافة تشريف ، والمعنى المختصين بكونهم { عبادي } لا يضافون إلى غيري كما قال في مقابلهم أولياؤهم الطاغوت وأولياء الشيطان.
وقيل : ثم صفة محذوفة أي { إن عبادي } الصالحين ، ونفى السلطان وهو الحجة والاقتدار على إغوائهم عن الإيمان ويدل على لحظ الصفة قوله { إنما سلطانه على الذين يتولونه } وقال الجبائي : { عبادي } عام في المكلفين ، ولذلك استثنى منه في أي من اتبعه في قوله { إلا من اتبعك من الغاوين } واستدل بهذا على أنه لا سبيل له ولا قدرة على تخليط العقل وإنما قدرته على الوسوسة ، ولو كان له قدرة على ذلك لخبط العلماء ليكون ضرره أتم ، ومعنى { وكيلاً } حافظاً لعباده الذين ليس له عليهم سلطان من إغواء الشيطان أو { وكيلاً } يكلون أمورهم إليه فهو حافظهم بتوكلهم عليه.

رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)

الحاصب الريح ترمي بالحصباء قاله الفراء ، والحصب الرمي بالحصباء وهي الحجارة الصغار.
وقال الفرزذق :
مستقبلين شمال الشام نضربهم . . .
بحاصب كنديف القطن منثور
والحاصب العارض الرامي بالبرد والحجارة.
تارة مرة وتجمع على تير وتارات.
قال الشاعر :
وإنسان عيني يحسر الماء تارة . . .
فيبدوا وتارات يجم فيغرق
القاصف الذي يكسر كل ما يلقى ، ويقال قصف الشجر يقصفه قصفاً كسره.
وقال أبو تمام :
إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت . . .
عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم
وقيل : القاصف الريح التي لها قصيف وهو الصوت الشديد كأنها تتقصف أي تتكسر.
{ ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيماً وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلاّ إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصباً ثم لا تجدوا لكم وكيلاً أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفاً من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً }.
لما ذكر تعالى وصف المشركين في اعتقادهم آلهتهم وأنها تضر وتنفع ، وأتبع ذلك بقصة إبليس مع آدم ، وتمكينه من وسوسة ذريته وتسويله ذكر ما يدل من أفعاله على وحدانيته ، وأنه هو النافع الضار المتصرف في خلقه بما يشاء ، فذكر إحسانه إليهم بحراً وبراً ، وأنه تعالى متمكن بقدرته مما يريده.
وإزجاء الفلك سوقها من مكان إلى مكان بالريح اللينة والمجاديف ، وذلك من رحمته بعباده وابتغاء الفضل طلب التجارة أو الحج فيه أو الغزو.
والضر في البحر الخوف من الغرق باضطرابه وعصف الريح ، ومعنى { ضل } ذهب عن أوهامكم من تدعونه إلهاً فيشفع أو ينفع ، أو { ضل } من تعبدونه إلاّ الله وحده فتفردونه إذ ذاك بالالتجاء إليه والاعتقاد أنه لا يكشف الضر إلاّ هو ولا يرجون لكشف الضر غيره.
ثم ذكر حالهم إذ كشف عنهم من إعراضهم عنه وكفرانهم نعمة إنجائهم من الغرق ، وجاءت صفة { كفوراً } دلالة على المبالغة ، ثم لم يخاطبهم بذلك بل أسند ذلك إلى الإنسان لطفاً بهم وإحالة على الجنس إذ كل أحد لا يكاد يؤدّي شكر نعم الله.
وقال الزجاج : المراد بالإنسان الكفار ، والظاهر أن { إلاّ إياه } استثناء منقطع لأنه لم يندرج في قوله { من تدعون } إذ المعنى ضلت آلهتهم أي معبوداتهم وهم لا يعبدون الله.
وقيل : هو استثناء متصل وهذا على معنى ضل من يلجؤون إليه وهم كانوا يلجؤون في بعض أمورهم إلى معبوداتهم ، وفي هذه الحالة لا يلجؤون إلاّ إلى الله والهمزة في { أفأمنتم } للإنكار.
قال الزمخشري : والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم انتهى.
وتقدم لنا الكلام معه في دعواه أن الفاء والواو في مثل هذا التركيب للعطف على محذوف بين الهمزة وحرف العطف ، وأن مذهب الجماعة أن لا محذوف هناك ، وأن الفاء والواو للعطف على ما قبلها وأنه اعتنى بهمزة الاستفهام لكونها لها صدر الكلام فقدمت والنية التأخير ، وأن التقدير فأمنتم.

وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة والخطاب للسابق ذكرهم أي { أفأمنتم } أيها الناجون المعرضون عن صنع الله الذي نجاكم ، وانتصب { جانب } على المفعول به بنخسف كقوله { فخسفنا به وبداره الأرض } والمعنى أن نغيره بكم فتهلكون بذلك.
وقال الزمخشري : أن نقلبه وأنتم عليه.
وقال الحوفي : { جانب البر } منصوب على الظرف ، ولما كان الخسف تغييباً في التراب قال : { جانب البر } و { بكم } حال أي نخسف { جانب البر } مصحوباً بكم.
وقيل : الباء للسبب أي بسببكم ، ويكون المعنى { جانب البر } الذي أنتم فيه ، فيحصل بخسفه إهلاكهم وإلاّ فلا يلزم من خسف { جانب البر } بسببهم إهلاكهم.
قال قتادة : الحاصب الحجارة.
وقال السدّي : رام يرميكم بحجارة من سجيل ، والمعنى أن قدرته تعالى بالغة فإن كان نجاكم من الغرق وكفرتم نعمته فلا تأمنوا إهلاكه إياكم وأنتم في البر ، إما بأمر يكون من تحتكم وهو تغوير الأرض بكم ، أو من فوقكم بإرسال حاصب عليكم ، وهذه الغاية في تمكن القدرة ثم { لا تجدوا } عند حلول أحد هذين بكم من تكلون أموركم إليه فيتوكل في صرف ذلك عنكم.
و { أم } في { أم أمنتم } منقطعة تقدر ببل ، والهمزة أي بل { أمنتم } والضمير في { فيه } عائد على البحر ، وانتصب تارة على الظرف أي وقتاً غير الوقت الأول ، والباء في { بما كفرتم } سببية وما مصدرية ، أي بسبب كفركم السابق منكم ، والوقت الأول الذي نجاكم فيه أو بسبب كفركم الذي هو دأبكم دائماً.
والضمير في { به } عائد على المصدر الدال عليه فنغرقكم ، إذ هو أقرب مذكور وهو نتيجة الإرسال.
وقيل عائد على الإرسال.
وقيل : عليهما فيكون كاسم الإشارة والمعنى بما وقع من الإرسال والإغراق.
والتبيع قال ابن عباس : النصير ، وقال الفراء : طالب الثأر.
وقال أبو عبيدة : المطالب.
وقال الزجّاج : من يتبع بالإنكار ما نزل بكم ، ونظيره قوله تعالى { فسواها ولا يخاف عقباها } وفي الحديث : « إذا اتّبع أحدكم على ملىء فليتبع » وقال الشماخ :
كما لاذ الغريم من التبيع . . .
ويقال : فلان على فلان تبيع ، أي مسيطر بحقه مطالب به.
وأنشد ابن عطية :
غدوا وغدت غزلانهم فكأنها . . .
ضوامن غرم لدهن تبيع
أي مطالب بحقه.
وقرأ ابن كثير وأبو عمر : ونخسف وأو نرسل وأن نعيدكم وفنرسل وفنغرقكم خمستها بالنون ، وباقي القراء بياء الغيبة ومجاهد وأبو جعفر فتغرقكم بناء الخطاب مسنداً إلى الريح والحسن وأبو رجاء { فيغرقكم } بياء الغيبة وفتح الغين وشد الراء ، عدّاه بالتضعيف ، والمقري لأبي جعفر كذلك إلاّ أنه بتاء الخطاب ، وحميد بالنون وإسكان الغين وإدغام القاف في الكاف ، ورويت عن أبي عمرو وابن محيصن.
وقرأ الجمهور : { من الريح } بالإفراد وأبو جعفر من الرياح جمعاً.

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)

لما ذكر تعالى ما امتّن به عليهم من إزجاء الفلك في البحر ومن تنجيتهم من الغرق ، تمم ذكر المنة بذكر تكرمتهم ورزقهم وتفضيلهم ، أو لما هددهم بما هدد من الخسف والغرق وأنهم كافرو نعمته ذكر ما أنعم به عليهم ليتذكروا فيشكروا نعمه ويقلعوا عن ما كانوا فيه من الكفر ويطيعوه تعالى ، وفي ذكر النعم وتعدادها هز لشكرها وكرم معدى بالتضعيف من كرم أي جعلناهم ذوي كرم بمعنى الشرف والمحاسن الجمة ، كما تقول : ثوب كريم وفر كريم أي جامع للمحاسن.
وليس من كرم المال.
وما جاء عن أهل التفسير من تكريمهم وتفضيلهم بأشياء ذكرها هو على سبيل التمثيل لا على الحصر في ذلك كما روي عن ابن عباس أن التفضيل بالعقل وعن الضحاك بالنطق.
وعن عطاء بتعديل القامة وامتدادها ، وعن زيد بن أسلم بالمطاعم واللذات ، وعن يمان بحسن الصورة ، وعن محمد بن كعب بجعل محمد عليه الصلاة والسلام منهم.
وعن ابن جرير بالتسليط على غيره من الخلق وتسخيره له.
وقيل : بالخط.
وقيل : باللحية للرجل والذؤابة للمرأة.
وعن ابن عباس : بأكله بيده وغيره بفمه.
وقيل : بتدبير المعاش والمعاد.
وقيل : بخلق الله آدم بيده.
قال ابن عطية : وقد ذكر أن من الحيوان ما يفضل بنوع ما ابن آدم كجري الفرس وسمعه وإبصاره ، وقوة الفيل ، وشجاعة الأسد ، وكرم الديك.
قال : وإنما التكريم والتفضيل بالعقل الذي يملك به الحيوان كله وبه يعرف الله ويفهم كلامه ويوصل إلى نعيمه انتهى.
{ وحملناهم في البر والبحر } وهذا أيضاً من تكريمهم.
قال ابن عباس : في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل ، وفي البحر على السفن.
وقال غيره : على أكباد رطبة وأعواد يابسة.
{ والطيبات } كما تقدم الحلال أو المستلذ ولا يتسع غيره من الحيوان في الرزق اتساعه لأنه يكتسب المال ويلبس الثياب ويأكل المركب من الأطعمة بخلاف الحيوان ، فإنه لا يكتسب ولا يلبس ولا يأكل غالباً إلا لحماً نيئاً وطعاماً غير مركب ، والظاهر أن كثيراً باق على حقيقته ، فقالت طائفة : فضلوا على الخلائق كلهم غير جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وأشباههم وهذا عن ابن عباس.
وعنه إن الإنسان ليس أفضل من الملك وهو اختيار الزجّاج.
وقال ابن عطية : والحيوان والجن هو الكثير المفضول والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول.
وقالت فرقة : الآية تقضي بفضل الملائكة على الإنس من حيث هم المستثنون ، وقد قال تعالى { ولا الملائكة المقربون } وهذا غير لازم من الآية ، بل التفضيل بين الإنس والجن لم تعن له الآية بل يحتمل أن الملائكة أفضل ويحتمل التساوي ، وإنما يصح تفضيل الملائكة من مواضع أخر من الشرع انتهى.
وقال الزمخشري : { على كثير ممن خلقنا } هو ما سوى الملائكة عليهم الصلاة والسلام ، وحسب بني آدم { تفضيلاً } أن ترفع عليهم الملائكة وهم هم ومنزلتهم عند الله منزلتهم ، والعجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شيء وكابروا حتى جسرتهم المكابرة على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان على الملك ، ثم ذكر تشنيعاً أقذع فيه يوقف عليه من كتابه.

وقيل : { وفضلناهم على كثير } بالغلبة والاستيلاء.
وقيل : بالثواب والجزاء يوم القيامة ، وعلى هذين القولين لم تتعرض الآية للتفضيل المختلف فيه بين الإنس والملائكة.
وقيل : المراد بكثير مجازه وهو إطلاقه على الجميع ، والعرب تفعل ذلك وهذا القول لا ينبغي أن يقال هنا لأنك لو جعلت جميعاً كان بكثير ، فقلت على جميع ممن خلقنا لكان نائياً عن الفصاحة ، ولا يليق أن يحمل كلام الله تعالى الذي هو أفصح الكلام عليه ، ولأبي عبد الله الرازي كلام في تكريم ابن آدم وتفضيله مستمد من كلام الذين يسمونهم حكماء يوقف عليه في تفسيره إذ هو جار على غير طريقة العرب في كلامها.
ولما ذكر تعالى أنواعاً من كرامات الإنسان في الدنيا ذكر شيئاً من أحوال الآخرة فقال : { يوم ندعو كل إناس بإمامهم } واختلفوا في العامل في { يوم }.
فقيل : العامل فيه ما دل عليه قوله متى هو.
وقيل : فتستجيبون.
وقيل : هو بدل من يوم يدعوكم وهذه أقوال في غاية الضعف ، ولولا أنهم ذكروها لضربت عن ذكرها صفحاً وهو في هذه الأقوال ظرف.
وقال الحوفي وابن عطية انتصب على الظرف والعامل فيه اذكر وعلى تقدير اذكر لا يكون ظرفاً بل هو مفعول.
وقال ابن عطية أيضاً بعد قوله هو ظرف : والعامل فيه أذكر أو فعل يدل عليه قوله { ولا يظلمون } ، وحكاه أبو البقاء وقدره { ولا يظلمون } يوم ندعو.
وقال ابن عطية أيضاً : ويصح أن يعمل فيه { وفضلناهم } وذلك أن فضل البشر يوم القيامة على سائر الحيوان بيِّن لأنهم المنعمون المكلفون المحاسبون الذين لهم القدر إلاّ أن هذا يرده أن الكفار يومئذ أخسر من كل حيوان ، إذ يقول الكافر : يا ليتني كنت تراباً.
وقال ابن عطية أيضاً : ويصح أن يكون { يوم } منصوباً على البناء لما أضيف إلى غير متمكن ، ويكون موضعه رفعاً بالابتداء ، والخبر في التقسيم الذي أتى بعد في قوله { فمن أوتي كتابه } إلى قوله { ومن كان } انتهى.
وقوله منصوباً على البناء كان ينبغي أن يقول مبنياً على الفتح ، وقوله : لما أضيف إلى غير متمكن ليس بجيد لأن الذي ينقسم إلى متمكن وغير متمكن هو الاسم لا الفعل ، وهذا أضيف إلى فعل مضارع ومذهب البصريين أنه إذا أضيف إلى فعل مضارع معرب لا يجوز بناؤه ، وهذا الوجه الذي ذكره هو على رأي الكوفيين.
وأما قوله : والخبر في التقسيم فالتقسيم عار من رابط لهذه الجملة التقسيمية بالمبتدأ لا أن قدر محذوفاً ، فقد يمكن أي ممن { أوتي كتابه } فيه { بيمينه } وهو بعد ذلك التخريج تخريج متكلف.

وقال بعض النحاة : العامل فيه { وفضلناهم } على تقدير { وفضلناهم } بالثواب ، وهذا القول قريب من قول ابن عطية الذي ذكرناه عنه قبل.
وقال الزجاج : هو ظرف لقوله ثم لا تجد.
وقال الفراء : هو معمول لقوله نعيدكم مضمرة أي نعيدكم { يوم ندعو } والأقرب من هذه الأقوال أن يكون منصوباً على المفعول به بأذكر مضمرة.
وقرأ الجمهور : { ندعو } بنون العظمة ، ومجاهد يدعو بياء الغيبة أي يدعو الله ، والحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني يُدعى مبنياً للمفعول { كل } مرفوع به ، وفيما ذكر غيره يدعو بالواو وخرج على إبدال الألف واواً على لغة من يقول : أفعو في الوقف على أفعى ، وإجراء الوصل مجرى الوقف وكل مرفوع به ، وعلى أن تكون الواو ضميراً مفعولاً لم يسم فاعله ، وأصله يدعون فحذفت النون كما حذفت في قوله :
أبيت أسري وتبيتي تدلكي . . .
وجهك بالعنبر والمسك الزكي
أي تبيتين تدلكين وكل بدل من واو الضمير.
{ وأناس } اسم جمع لا واحد له من لفظه ، والباء في { بإمامهم } الظاهر أنها تتعلق بندعو ، أي باسم إمامهم.
وقيل : هي باء الحال أي مصحوبين { بإمامهم }.
والإمام هنا قال ابن عباس والحسن وأبو العالية والربيع كتابهم الذي فيه أعمالهم.
وقال الضحاك وابن زيد : كتابهم الذي نزل عليهم.
وقال مجاهد وقتادة : نبيهم.
قال ابن عطية : والإمام يعم هذا كله لأنه مما يؤتم به.
وقال الزمخشري : إمامهم من ائتموا به من نبيّ أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين ، فيقال : يا أهل دين كذا وكتاب كذا.
وقيل : بكتاب أعمالهم يا أصحاب كتاب الخير ويا أصحاب كتاب الشر.
وفي قراءة الحسن بكتابهم ومن بدع التفسير أن الإمام جمع أُم وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم ، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق عيسى وشرف الحسن والحسين.
وأن لا يفتضح أولاد الزنا وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بهاء حكمته انتهى.
وإيتاء الكتاب دليل على ما تقرر في الشريعة من الصحف التي يؤتاها المؤمن والكافر ، وإيتاؤه باليمين دليل على نجاة الطائع وخلاص الفاسق من النار إن دخلها وبشارته أنه لا يخلد فيها { فأولئك } جاء جمعاً على معنى من إذ قد حمل على اللفظ أولاً فأفرد في قوله { أوتي كتابه بيمينه } وقراءتهم كتبهم هو على سبيل التلذذ بالاطّلاع على ما تضمنتها من البشارة ، وإلاَّ فقد علموا من حيث إيتاؤهم إياها باليمين أنهم من أهل السعادة ومن فرحهم بذلك يقول الباري لأهل المحشر : { هاؤم اقرؤوا كتابيه } ولم يأت هنا قسيم من { أوتي كتابه بيمينه } وهو من يؤتي كتابه بشماله ، وإن كان قد أتى في غير هذه الآية بل جاء قسيمه قوله.
{ ومن كان في هذه أعمى } وذلك من حيث المعنى مقابله لأن من { أوتي كتابه بيمينه } هم أهل السعادة { ومن كان في هذه أعمى } هم أهل الشقاوة { ولا يظلمون فتيلاً } أي لا ينقصون أدنى شيء وتقدم شرح الفتيل في سورة النساء.

والظاهر أن الإشارة بقوله : { في هذه } إلى الدنيا وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد أي : من كان في هذه الدار أعمى عن النظر في آيات الله وعبره والإيمان بأنبيائه ، فهو في الآخرة أعمى إما أن يكون على حذف مضاف أي في شأن الآخرة ، وإما أن يكون فهو يوم القيامة أعمى معنى أنه خبر إن لا يتوجه له صواب ولا يلوح له نجح.
وقال مجاهد : هو أعمى في الآخرة عن حججه.
وقال ابن عباس أيضاً : { ومن كان في هذه } النعم يشير إلى نعم التكريم والتفضيل فهو في الآخرة التي لم تر ولم تعاين { أعمى }.
وقيل : ومن كان في الدنيا ضالاً كافراً فهو في الآخرة أعمى { وأضل سبيلاً } لأنه في الدنيا تقبل توبته ، وفي الآخرة لا تقبل وفي الدنيا يهتدي إلى التخلص من الآفات ، وفي الآخرة لا يهتدي إلى ذلك البتة.
وقيل : فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنة.
وقيل : أعمى البصر كما قال { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً } وقوله : { ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً } وقيل : من كان في الدنيا أعمى عن إبصار الحق والاعتبار فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار.
وقال ابن عطية : والظاهر عندي أن الإشارة بهذه إلى الدنيا { أي من كان } في دنياه { هذه } وقت إدراكه وفهمه { أعمى } عن النظر في آيات الله فهو في يوم القيامة أشدّ حيرة وعمى لأنه قد باشر الخيبة ورأى مخائل العذاب ، وبهذا التأويل تكون معادلة التي قبلها من ذكر من يؤتى كتابه بيمينه.
وإذا جعلنا قوله { في الآخرة } بمعنى في شأن الآخرة لم تطرد المعادلة بين الآيتين.
وقال الزمخشري : والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة ، أما في الدنيا فلفقد النظر ، وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه وقد جوّزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل.
ومن ثم قرأ أبو عمر الأول مما لا والثاني مفخماً لأن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام كقوله { أعمالكم } وأما الأول فلم يتعلق به شيء فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة انتهى.
وتعليله ترك إمالة أعمى الثاني أخذه الزمخشري من أبي عليّ قال أبو عليّ : لأن الإمالة إنما تحسن في الأواخر ، و { أعمى } ليس كذلك لأن تقديره { أعمى } من كذا فليس يتم إلا في قولنا من كذا فهو إذن ليس بآخر ، ويقوي هذا التأويل عطف { وأضل سبيلاً } لأن الإنسان في الدنيا يمكن أن يؤمن فينجو وهو في الآخرة لا يمكنه ذلك فهو { أضل سبيلاً } وأشدّ حيرة وأقرب إلى العذاب ، و { أعمى } هنا من عمى القلب لا من عمى البصر لأن ذلك يقع فيه التفاضل لا هذا.

وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)

الضمير في { وإن كادوا } قيل لقريش.
وقيل لثقيف ، وذكروا أسباب نزول مختلفة وفي بعضها ما لا يصح نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويوقف على ذلك في تفسير ابن عطية والزمخشري والتحرير وغير ذلك ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما عدد نعمه على بني آدم ثم ذكر حالهم في الآخرة من إيتاء الكتاب باليمين لأهل السعادة ، ومن عمى أهل الشقاوة أتبع ذلك بما يهم به الأشقياء في الدنيا من المكر والخداع والتلبيس على سيد أهل السعادة المقطوع له بالعصمة ، ومعنى { ليفتنونك } ليخدعونك وذلك في ظنهم لا أنهم قاربوا ذلك إذ هو معصوم عليه السلام أن يقاربوا فتنته عما أوحى الله إليه ، وتلك المقاربة في زعمهم سببها رجاؤهم أن يفتري على الله غير ما أوحى الله إليه من تبديل الوعد وعيداً أو الوعيد وعداً ، وما اقترحته ثقيف من أن يضيف إلى الله ما لم ينزل عليه و { إن } هذه هي المخففة من الثقيلة ، وليتها الجملة الفعلية وهي { كادوا } لأنها من أفعال المقاربة وإنما تدخل على مذهب البصريين من الأفعال على النواسخ التي للإثبات على ما تقرر في علم النحو ، واللام في { ليفتنونك } هي الفارقة بين أن هذه وأن النافية { وإذاً } حرف جواب وجزاء ، ويقدر قسم هنا تكون { لاتخذوك } جواباً له ، والتقدير والله { إذاً } أي إن افتتنت وافتريت { لاتخذوك } جواباً له ، والتقدير والله { إذاً } أي إن افتتنت وافتريت { لاتخذوك } ولا اتخذوك فى معنى ليتخذونك كقوله { ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا } أي ليظلنّ لأن { إذاً } تقتضي الاستقبال لأنها من حيث المعنى جزءاً فيقدر موضعها بأداة الشرط.
وقال الزمخشري : { وإذاً لاتخذوك } أي ولو اتبعت مرادهم { لاتخذوك خليلاً } ولكنت لهم ولياً ، ولخرجت من ولايتي انتهى.
وهو تفسير معنى لا إن { لاتخذوك } جواب لو محذوفة.
قال الزمخشري : { ولولا أن ثبتناك } ولولا تثبيتنا لك وعصمتنا لقد كدت تركن إليهم لقاربت أن تميل إلى خدعهم ومكرهم ، وهذا تهييج من الله له وفضل تثبيت ، وفي ذلك لطف للمؤمنين إذن لو قاربت تركن إليهم أدنى ركنة { لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات } أي { لأذقناك } عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين.
فإن قلت : كيف حقيقة هذا الكلام؟ قلت : أصله { لأذقناك } عذاب الحياة وعذاب الممات لأن العذاب عذابان ، عذاب في الممات وهو عذاب القبر ، وعذاب في حياة الآخرة وهو عذاب النار ، والضعف يوصف به نحو قوله تعالى : { فآتهم عذاباً ضعفاً من النار } يعني مضاعفاً ، فكان أصل الكلام { لأذقناك } عذاباً ضعفاً في الحياة ، وعذاباً ضعفاً في الممات ، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وهو الضعف ، ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف ، فقيل { ضعف الحياة وضعف الممات } كما لو قيل { لأذقناك } أليم الحياة وأليم الممات ، ويجوز أن يراد بضعف الحياة عذاب الحياة الدنيا ، وبضعف الممات ما يعقب الموت من عذاب القبر وعذاب النار والمعنى لضاعفنا لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا.

وما نؤخره لما بعد الموت انتهى.
وجواب { لولا } يقتضي إذا كان مثبتاً امتناعه لوجود ما قبله ، فمقاربة الركون لم تقع منه فضلاً عن الركون والمانع من ذلك هو وجود تثبيت الله.
وقرأ قتادة وابن أبي إسحاق وابن مصرف : { تركن } بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وانتصب { شيئاً } على المصدر.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : يريد ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات على معنى أن ما يستحقه من أذنب من عقوبتنا في الدنيا والآخرة كنا نضعفه.
وذهب ابن الأنباري إلى أن المعنى لقد كاد أن يخبروا عنك أنك ركنت إلى قولهم بسبب فعلهم إليه مجازاً واتساعاً كما تقول للرّجل : كدت تقتل نفسك أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت.
وقال ابن عباس : كان الرسول صلى الله عليه وسلم معصوماً ، ولكن هذا تعريف للأمة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله تعالى وشرائعه انتهى.
واللام في { لأذقناك } جواب قسم محذوف قبل { إذاً } أي والله إن حصل ركون ليكونن كذا ، والقول في { لأذقناك } كالقول في { لاتخذوك } من وقوع الماضي موضع المضارع الداخل عليه اللام والنون ، وممن نص على أن اللام في { لاتخذوك } و { لأذقناك } هي لام القسم الحوفي.
وقال الزمخشري : وفي ذكر الكيدودة وتعليلها مع اتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين دليل بيِّن على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته انتهى.
ومن ذلك { يا نساء النبيّ من يأت منكن بفاحشة مبينة } الآية.
قال الزمخشري : وفيه أدنى مداهنة للغواة مضادة لله وخروج عن ولايته ، وسبب موجب لغضبه ونكاله انتهى.
وروي أنه لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين » قال حضرمي : الضمير في { وإن كادوا } ليهود المدينة وناحيتها كحيي بن أخطب وغيره ، وذلك أنهم ذهبوا إلى المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء ، وإنما أرض الأنبياء الشام ، ولكنك تخاف الروم فإن كنت نبياً فاخرج إليها فإن الله سيحميك كما حمى غيرك من الأنبياء فنزلت ، وأخبر تعالى أنه لو خرج لم يلبثهم بعد { إلاّ قليلاً }.
وحكى النقاش أنه خرج بسبب قولهم وعسكر بذي الحليفة وأقام ينتظر أصحابه فنزلت ورجع.
قال ابن عطية : وهذا ضعيف لم يقع في سيرة ولا في كتاب يعتمد عليه ، وذو الحليفة ليس في طريق الشام من المدينة انتهى.
وقالت فرقة : الضمير لقريش قاله ابن عباس وقتادة ، واستفزازهم هو ما ذهبوا إليه من إخراجه من مكة كما ذهبوا إلى حصره في الشعب ، ووقع استفزازهم هذا بعد نزول الآية وضيقوا عليه حتى خرج واتبعوه إلى الغار ونفذ عليهم الوعيد في أن لم يلبثوا خلفه { إلاّ قليلاً } يوم بدر.

وقال الزجّاج حاكياً أن استفزازهم ما أجمعوا عليه في دار الندوة من قتله والأرض على هذا الدنيا.
وقال مجاهد : ذهبت قريش إلى هذا ولكنه لم يقع منها لأنه لما أراد تعالى استبقاء قريش وأن لا يستأصلهما أذن لرسوله في الهجرة فخرج بإذنه لا بقهر قريش ، واستبقيت قريش ليسلم منها ومن أعقابها من أسلم قال : ولو أخرجته قريش لعذبوا.
ذهب مجاهد إلى أن الضمير في { يلبثون } لجميعهم.
وقال الحسن : { ليستفزونك } ليفتنونك عن رأيك.
وقال ابن عيسى : ليزعجونك ويستخفونك.
وأنشد :
يطيع سفيه القوم إذ يستفزه . . .
ويعصي حليماً شيبته الهزاهز
والظاهر أن الآية تدل على مقاربة استفزازه لأن يخرجوه ، فما وقع الاستفزاز ولا إخراجهم إياه المعلل به الاستفزاز ، ثم جاء في القرآن { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك } أي أخرجك أهلها.
وفي الحديث : « يا ليتني كنت فيها جذعاً إذ يخرجك قومك قال : أو مخرجي هم » الحديث فدل ذلك على أنهم أخرجوه.
لكن الإخراج الذي هو علة للاستفزاز لم يقع فلا تعارض بين الآيتين والحديث.
وقال أبو عبد الله الرازي : ما خرج بسبب إخراجهم وإنما خرج بأمر الله فزال التناقض انتهى.
{ ولا يلبثون } جواب قسم محذوف أي والله إن استفزوك فخرجت { لا يلبثون } ولذلك لم تعمل { إذاً } لأنها توسطت بين قسم مقدر ، والفعل فلا يلبثون ليست منصبة عليه من جهة الإعراب ، ويحتمل أن تكون { لا يلبثون } خبراً لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى تقديره ، وهم { إذاً لا يلبثون } فوقعت إذاً بين المبتدأ وخبره فألغيت.
وقرأ أُبيّ وإذا لا يلبثوا بحذف النون أعمل إذاً فنصب بها على قول الجمهور ، وبأن مضمرة بعدها على قول بعضهم وكذا هي في مصحف عبد الله محذوفة النون.
قال الزمخشري : فإن قلت : ما وجه القراءتين؟ قلت : أما الشائعة فقد عطف فيها الفعل على الفعل وهو مرفوع لوقوعه خبر كاد ، والفعل في خبر كاد واقع موقع الاسم.
وأما قراءة أُبيّ ففيها الجملة برأسها التي هي وإذاً لا يلبثوا عطف على جملة قوله { وإن كادوا ليستفزونك } انتهى.
وقرأ عطاء { لا يلبثون } بضم الياء وفتح اللام والباء مشددة.
وقرأ يعقوب كذلك إلاّ أنه كسر الباء.
وقرأ الأخوان وابن عامر وحفص { خلافك } وباقي السبعة خلفك والمعنى واحد.
قال الشاعر :
عفت الديار خلافهم فكأنما . . .
بسط الشواطب بينهن حصيرا
وهذا كقوله { فرح المخلفون بمقعدهم } خلاف رسول الله أي خلف رسول الله في أحد التأويلات.
وقرأ عطاء بن أبي رباح : بعدك مكان خلفك ، والأحسن أن يجعل تفسيراً لخلفك لا قراءة لأنها لا تخالف سواد المصحف ، فأراد أن يبين أن خلفك هنا ليست ظرف مكان وإنما تجوز فيها فاستعملت ظرف زمان بمعنى بعدك.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46