كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

وأما من جعله حالاً من الجميع ، على ما ذكر ، فرد بأنه لو جاز ذلك لجاز : جاء القوم راكباً ، أي : كل واحد منهم.
وهذا لا تقوله العرب.
وأما انتصابه على المدح ، فقال الزمخشري : فإن قلت أليس من حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة ، كقولك : الحمد لله الحميد ، « إنا معشر الأنبياء لا نورث »
إنا بني نهشل لا ندعى لأب؟ . . .
قلت : قد جاء نكرة في قول الهذلي :
ويأوي إلى نسوة عطل . . .
وشعثاً مراضيع مثل السعالي
انتهى سؤاله وجوابه.
وفي ذلك تخليط ، وذلك أنه لم يفرّق بين المنصوب على المدح أو الذم أو الترحم ، وبين المنصوب على الاختصاص ، وجعل حكمهما واحداً ، وأورد مثالاً من المنصوب على المدح وهو : الحمد لله الحميد ، ومثالين في المنصوب على الاختصاص وهما : « إنا معشر الأنبياء لا نورث »
إنا بني نهشل لا ندعى لأب . . .
والذي ذكر النحويون أن المنصوب على المدح أو الذم أو الترحم قد يكون معرفة ، وقبله معرفة يصلح أن يكون تابعاً لها ، وقد لا يصلح ، وقد يكون نكرة كذلك ، وقد يكون نكرة وقبلها معرفة ، فلا يصلح أن يكون نعتاً لها نحو قول النابغة :
أقارعُ عوفٍ لا أحاولُ غيرَها . . .
وجوهَ قرودٍ يبتغي من يخادعُ
فانتصب : وجوهَ قرودٍ ، على الذم.
وقبله معرفة وهو قوله : أقارع عوف.
وأما المنصوب على الاختصاص فنصبوا على أنه لا يكون نكرة ولا مبهماً ، ولا يكون إلاَّ معرفاً بالألف واللام ، أو بالإِضافة ، أو بالعلمية ، أو بأي ، ولا يكون إلاَّ بعد ضمير متكلم مختص به ، أو مشارك فيه ، وربما أتى بعد ضمير مخاطب.
وأما انتصابه على أنه صفة للمنفي فقال الزمخشري.
فإن قلت : هل يجوز أن يكون صفة للمنفي كأنه قيل : لا إله قائماً بالقسط إلا هو؟
قلت : لا يبعد ، فقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف ، ثم قال : وهو أوجه من انتصابه عن فاعل : شهد ، وكذلك انتصابه على المدح. انتهى.
وكان قد مثل في الفصل بين الصفة والموصوف بقوله : لا رجل إلاَّ عبد الله شجاعاً.
ويعني أن انتصاب : قائماً ، على أنه صفة لقوله : إله ، أو لكونه انتصب على المدح أوجه من انتصابه على الحال من فاعل : شهد ، وهو الله.
وهذا الذي ذكره لا يجوز ، لأنه فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي ، وهو المعطوفان اللذان هما : الملائكة وأولو العلم ، وليسا معمولين من جملة { لا إله إلا الله } بل هما معمولان : لشهد ، وهو نظير : عرف زيد أن هنداً خارجة وعمرو وجعفر التميمية.
فيفصل بين هنداً والتميمية بأجنبي ليس داخلاً فيما عمل فيها ، وفي خبرها بأجنبي وهما : عمرو وجعفر ، المرفوعان بعرف ، المعطوفان على زيد.
وأما المثال الذي مثل به وهو : لا رجل إلاَّ عبد الله شجاعاً ، فليس نظير تخريجه في الآية ، لأن قولك : إلاَّ عبد الله ، يدل على الموضع من : لا رجل ، فهو تابع على الموضع ، فليس بأجنبي.

على أن في جواز هذا التركيب نظراً ، لأنه بدل ، و : شجاعاً ، وصف ، والقاعدة أنه : إذا اجتمع البدل والوصف قدم الوصف على البدل ، وسبب ذلك أنه على نية تكرار العامل على المذهب الصحيح ، فصار من جملة أخرى على المذهب.
وأما انتصابه على القطع فلا يجيء إلاَّ على مذهب الكوفيين ، وقد أبطله البصريون.
والأولى من هذه الأقوال كلها أن يكون منصوباً على الحال من اسم الله ، والعامل فيه : شهد ، وهو قول الجمهور.
وأما قراءة عبد الله : القائم بالقسط ، فرفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو القائم بالقسط.
قال الزمخشري وغيره : إنه بدل من : هو ، ولا يجوز ذلك ، لأن فيه فصلاً بين البدل والمبدل منه بأجنبي.
وهو المعطوفان ، لأنهما معمولان لغير العامل في المبدل منه ، ولو كان العامل في المعطوف هو العامل في المبدل منه لم يجز ذلك أيضاً ، لأنه إذا اجتمع العطف والبدل قدم البدل على العطف ، لو قلت جاء زيد وعائشة أخوك ، لم يجز.
إنما الكلام : جاء زيد أخوك وعائشة.
وقال الزمخشري فإن قلت : لم جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه ، ولو قلت : جاءني زيد وعمر وراكباً لم يجز؟
قلت : إنما جاز هذا لعدم الإلباس ، كما جاز في قوله : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة } إن انتصب : نافلة ، حالاً عن : يعقوب ، ولو قلت : جاءني زيد وهند راكباً ، جاز لتميزه بالذكورة.
انتهى كلامه.
وما ذكر من قوله في : جاءني زيد وعمرو راكباً ، أنه لا يجوز ليس كما ذكر ، بل هذا جائز ، لأن الحال قيد فيمن وقع منه أو به الفعل ، أو ما أشبه ذلك ، وإذا كان قيداً فإنه يحمل على أقرب مذكور ، ويكون راكباً حالاً مما يليه ، ولا فرق في ذلك بين الحال والصفة ، لو قلت : جاءني زيد وعمرو الطويل.
لكان : الطويل ، صفة : لعمرو ، ولا تقول : لا تجوز هذه المسألة ، لأنه يلبس بل لا لبس في هذا ، وهو جائز فكذلك الحال.
وأما قوله : في : نافلة ، إنه انتصب حالاً عن : يعقوب ، فلا يتعين أن يكون حالاً عن : يعقوب ، إذ يحتمل أن يكون : نافلة ، مصدراً كالعافية والعاقبة.
ومعناه : زيادة ، فيكون ذلك شاملاً لإسحاق ويعقوب ، لأنهما زيدا لإبراهيم بعد ابنه إسماعيل وغيره ، إذ كان إنما جاء له إسحاق على الكبر ، وبعد أن عجزت سارة وأيست من الولادة ، وأولاد إبراهيم غير إسماعيل وإسحاق مديان ، ويقال : مدين ، ويشناق ، وشواح ، وهو خاضع ، ورمران وهو محدان ، ومدن ، ويقشان وهو مصعب ، فهؤلاء ولد إبراهيم لصلبه.
والعقب الباقي منهم لإسماعيل وإسحاق لا غير.
قال الزمخشري : فإن قلت : ما المراد بأولي العلم ، الذين عظمهم هذا التعظيم حيث جمعهم معه ومع الملائكة في الشهادة على وحدانيته وعدله؟
قلت : هم الذين يثبتون وحدانيته وعدله بالحجج القاطعة ، والبراهين الساطعة ، وهم علماء العدل والتوحيد.

انتهى.
ويعني بعلماء العدل والتوحيد : المعتزلة ، وهم يسمون أنفسهم بهذا الاسم كما أنشدنا شيخنا الإمام الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي رحمه الله بقراءتي عليه قال : أنشدنا الصاحب أبو حامد عبد الحميد بن هبة بن محمد بن أبي الحديد المعتزلي ببغداد لنفسه :
لولا ثلاث لم أخف صرعتي . . .
ليست كما قال فتى العبد
أن أنصر التوحيد والعدل في . . .
كل مقام باذلاً جهدي
وأن أناجي الله مستمتعاً . . .
بخلوة أحلى من الشهد
وأن أتيه الدهر كبراً على . . .
كل لئيم أصعر الخدّ
لذاك أهوى لا فتاة ولا . . .
خمر ولا ذي ميعة نهد
{ لا إله إلا هو العزيز الحكيم } كرر التهليل توكيداً وقيل : الأول شهادة الله ، والثاني شهادة الملائكة وأولي العلم ، وهذا بعيد جدّاً لأنه يؤدّي إلى قطع الملائكة عن العطف على الله تعالى ، وعلى إضمار فعل رافع ، أو على جعلهم مبتدأ ، وعلى الفصل بين ما يتعلق بهم وبين التهليل بأجنبي ، وهو قوله : { قائماً بالقسط }.
وقيل : الأول جار مجرى الشهادة ، والثاني جار مجرى الحكم وقيل : هذا الكلام ينطوي على مقدّمتين ، وهذا هو نتيجتهما ، فكأنه قال : شهد الله والملائكة وأولو العلم وما شهدوا به حق فلا إله إلا هو حق ، فحذف إحدى المقدّمتين للدّلالة عليها ، وهذا التقدير كله لا يساعد عليه اللفظ.
وقال الراغب : إنما كرر { لا إله إلا هو } لأن صفات التنزيه أشرف من صفات التمجيد لأن أكثرها مشارك في ألفاظها العبيد ، فيصح وصفهم بها ، وكذلك وردت ألفاظ التنزيه في حقه أكثر ، وأبلغ ما وصف به من التنزيه : لا إله إلا الله ، فتكريره هنا لأمرين : أحدهما : لكون الثاني قطعاً للحكم ، كقولك : أشهد أن زيداً خارج ، وهو خارج.
والثاني : لئلا يسبق بذكر العزيز الحكيم إلى قلب السامع تشبيه ، إذ قد يوصف بهما المخلوق انتهى.
وقال الزمخشري : صفتان مقرّرتان لما وصف به ذاته من الوحدانية والعدل ، يعني أنه العزيز الذي لا يغالبه إله آخر ، الحكيم الذي لا يعدل عن العدل في أفعاله. انتهى.
وهو تحويم على مذهب المعتزلة.
وارتفع : العزيز ، على أنه خبر مبتدأ محذوف أي : والعزيز ، على الاستئناف قيل : وليس بوصف ، لأن الضمير لا يوصف ، وليس هذا بالجمع عليه ، بل ذهب الكسائي إلى أن ضمير الغائب كهذا يوصف.
وجوّزوا في إعراب : العزيز ، أن يكون بدلاً من : هو.
وروي في حديث عن الأعمش أنه قام يتهجد ، فقرأ هذه الآية ، ثم قال : وأنا أشهد بما شهد الله به ، وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة ، إن الدين عند الله الإسلام قالها مراراً ، فسئل ، فقال : حدّثني أبو وائل ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله : عبدي عهد إليّ وأنا أحق من وفى ، أدخِلوا عبدي الجنة »
وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي : العزيز ، إشارة إلى كمال القدرة ، و : الحكيم ، إشار ، إلى كمال العلم ، وهما الصفتان اللتان يمتنع حصول الإلهية إلاَّ معهما ، لأن كونه { قائماً بالقسط } لا يتم إلاَّ إذا كان عالماً بمقادير الحاجات ، فكان قادراً على تحصيل المهمات ، وقدم العزيز في الذكر لأن العلم بكونه تعالى قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً في طريق المعرفة الاستدلالية ، وهذا الخطاب مع المستدل.
انتهى كلامه.

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)

{ إن الدين عند الله الإسلام } أي الملة والشرع ، والمعنى : إن الدين المقبول أو النافع أو المقرر.
قرأ الجمهور : إن ، بكسر الهمزة وقرأ ابن عباس ، والكسائي ، ومحمد بن عيسى الأصبهاني : أن ، بالفتح ، وتقدّمت قراءة ابن عباس : شهد الله إنه ، بكسر الهمزة ، فأما قراءة الجمهور فعلى الاستئناف ، وهي مؤكدة للجملة الأولى.
قال الزمخشري : فان قلت : ما فائدة هذا التوكيد؟
قلت : فائدته أن قوله : لا إله إلاَّ هو توحيد ، وقوله : قائماً بالقسط ، تعديل ، فإذا أردفه قوله : إن الدين عند الله الإسلام ، فقد آذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد ، وهو الدين عند الله ، وما عداه فليس عنده بشيء من الدين ، وفيه أن من ذهب إلى تشبيه ، أو ما يؤدّي إليه ، كإجازة الرؤية ، أو ذهب إلى الجبر الذي هو محض الجور ، لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام ، وهذا بيِّن جلي كما ترى.
انتهى كلامه.
وهو على طريقة المعتزلة من إنكار الرؤية ، وقولهم : إن أفعال العبد مخلوقة له لا لله تعالى.
وأما قراءة الكسائي ومن وافقه في نصب : أنه ، وأن ، فقال أبو علي الفارسي : إن شئت جعلته من بدل الشيء من الشيء وهو هو ، ألا ترى أن الدين الذي هو الإسلام يتضمن التوحيد والعدل وهو هو في المعنى؟ وإن شئت جعلته من بدل الاشتمال ، لأن الإسلام يشتمل على التوحيد والعدل.
وقال : وإن شئت جعلته بدلاً من القسط ، لأن الدين الذي هو الإسلام قسط وعدل ، فيكون أيضاً من بدل الشيء من الشيء ، وهما لعين واحدة.
انتهت تخريجات أبي علي ، وهو معتزلي ، فلذلك يشتمل كلامه على لفظ المعتزلة من التوحيد والعدل ، وعلى البدل من أنه لا إله إلاَّ هو ، خرجه غيره أيضاً وليس بجيد ، لأنه يؤدي إلى تركيب بعيدٌ أن يأتي مثله في كلام العرب ، وهو : عرف زيد أنه لا شجاع إلاَّ هو ، و : بنو تميم ، وبنو دارم ملاقياً للحروب لا شجاع إلا هو البطل المحامي ، إن الخصلة الحميدة هي البسالة.
وتقريب هذا المثال : ضرب زيد عائشة ، والعمران حنقاً أختك.
فحنقاً : حال من زيد ، وأختك بدل من عائشة ، ففصل بين البدل والمبدل منه بالعطف ، وهو لا يجوز.
وبالحال لغير المبدل منه ، وهو لا يجوز ، لأنه فصل بأجنبي بين المبدل منه والبدل.
وخرجها الطبري على حذف حرف العطف ، التقدير : وأن الدين.
قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، ولم يبين وجه ضعفه ، ووجه ضعفه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف ، فيفصل بين المتعاطفين المرفوعين بالمنصوب المفعول ، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية ، وبجملتي الاعتراض ، وصار في التركيب دون مراعاة الفصل ، نحو : أكل زيد خبزاً وعمرو وسمكاً.
وأصل التركيب : أكل زيد وعمرو خبراً وسمكاً.

فإن فصلنا بين قولك : وعمرو ، وبين قولك : وسمكاً ، يحصل شنع التركيب.
وإضمار حرف العطف لا يجوز على الأصح.
وقال الزمخشري : وقرئتا مفتوحتين على أن الثاني بدل من الأول ، كأنه قيل : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ، والبدل هو المبدل منه في المعنى ، فكان بياناً صريحاً ، لأن دين الإسلام هو التوحيد والعدل. انتهى.
وهذا نقل كلام أبي علي دون استيفاء.
وأما قراءة ابن عباس فخرج على { أن الدين عند الله الإسلام } هو معمول : شهد ، ويكون في الكلام اعتراضان : أحدهما : بين المعطوف عليه والمعطوف وهو { أنه لا إله إلا هو } والثاني : بين المعطوف والحال وبين المفعول لشهد وهو { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } وإذا أعربنا : العزيز ، خبر مبتدأ محذوف ، كان ذلك ثلاث اعتراضات ، فانظر إلى هذه التوجيهات البعيدة التي لا يقدر أحد على أن يأتي لها بنظير من كلام العرب ، وإنما حمل على ذلك العجمة ، وعدم الإمعان في تراكيب كلام العرب ، وحفظ أشعارها.
وكما أشرنا إليه في خطبة هذا الكتاب : أنه لا يكفي النحو وحده في علم الفصيح من كلام العرب ، بل لا بدّ من الأطلاع على كلام العرب ، والتطبع بطباعها ، والاستكثار من ذلك ، والذي خرجت عليه قراءة : أن الدّين ، بالفتح هو أن يكون الكلام في موضع المعمول : للحكيم ، على إسقاط حرف الجر ، أي : بأن ، لأن الحكيم فعيل للمبالغة : كالعليم والسميع والخبير ، كما قال تعالى { من لدن حكيم خبير } وقال { من لدن حكيم عليم } والتقدير : لا إله إلا هو العزيز الحاكم أن الدّين عند الله الإسلام.
ولما شهد تعالى لنفسه بالوحدانية ، وشهد له بذلك الملائكة وأولو العلم ، حكم أن الدّين المقبول عند الله هو الإسلام ، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عنه { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } وعدل من صيغة الحاكم إلى الحكيم لأجل المبالغة ، ولمناسبة العزيز ، ومعنى المبالغة تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع أن الدين عنده هو الإسلام ، إذ حكم في كل شريعة بذلك.
فإن قلت : لم حملت الحكيم على أنه محول من فاعل إلى فعيل للمبالغة ، وهلا جعلته فعيلاً بمعنى مفعل ، فيكون معناه المحكم ، كما قالوا في : أليم ، إنه بمعنى مؤلم ، وفي سميع من قول الشاعر :
أمن ريحانة الداعي السميع . . .
أي المسمع؟
فالجواب : إنا لا نسلم أن فعيلاً يأتي بمعنى مفعل ، وقد يؤوّل : أليم وسميع ، على غير مفعل ، ولئن سلمنا ذلك فهو من الندور والشذوذ والقلة بحيث لا ينقاس ، وأما فعيل المحوّل من فاعل للمبالغة فهو منقاس كثير جداً ، خارج عن الحصر : كعليم وسميع قدير وخبير وحفيظ ، في ألفاظ لا تحصى ، وأيضاً فإن العربي القح الباقي على سليقته لم يفهم من حكيم إلاَّ أنه محوّل للمبالغة من حاكم ، ألا ترى أنه لما سمع قارئاً يقرأ { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا.

نكالاً من الله والله غفور رحيم } أنكر أن تكون فاصلة هذا التركيب السابق : والله غفور رحيم فقيل له التلاوة : { والله عزيز حكيم } فقال : هكذا يكون عز فحكم ، ففهم من حكم أنه محول للمبالغة من حالكم ، وفهم هذا العربي حجة قاطعة بما قلناه ، وهذا تخريج سهل سائغ جداً ، يزيل تلك التكلفات والتركيبات المعقدة التي ينزه كتاب الله عنها.
وأما على قراءة ابن عباس فكذلك نقول ، ولا نجعل : أن الدين معمولاً : لشهد ، كما فهموا ، وأن : أنه لا إله إلاَّ هو ، اعتراض ، وأنه بين المعطوف والحال وبين : أن الدين ، اعتراض آخر ، أو اعتراضان ، بل نقول : معمول : شهد ، إنه بالكسر على تخريج من خرج أن شهد ، لما كان بمعنى القول كسر ما بعدها إجراءً لها مجرى القول ، أو نقول : إنه معمولها ، وعلقت ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي بخلاف أن لو كان مثبتاً ، فإنك تقول : شهدت إن زيداً ألمنطلق ، فيعلق بأن مع وجود اللام لأنه لو لم تكن اللام لفتحت أن فقلت : شهدت أن زيداً منطلق ، فمن قرأ بفتح : أنه ، فإنه لم ينو التعليق ، ومن كسر فإنه نوى التعليق.
ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي كما ذكرنا.
والإسلام : هنا الإيمان والطاعات ، قاله أبو العالية ، وعليه جمهور المتكلمين ، وعبر عنه قتادة ، ومحمد بن جعفر بن الزبير بالإيمان ومرادهما أنه مع الأعمال.
وقرأ عبد الله : إن الدين عند الله الحنيفية.
قال ابن الإنباري : ولا يخفي على ذي تمييز أن هذا كلام من النبي صلى الله عليه وسلم على جهة التفسير ، أدخله بعض من ينقل الحديث في القراءات ، وقد تقدّم الكلام في الإسلام والإيمان : أهما شيء واحد أم هما مختلفان؟ والفرق ظاهر في حديث سؤال جبريل.
{ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } أي : اليهود والنصارى ، أو هما والمجوس ، أقوال ثلاثة :
فعلى أنهم اليهود ، وهو قول الربيع بن أنس ، الذين اختلفوا فيه التوراة.
قال : لما حضرت موسى عليه السلام الوفاة ، استودع سبعين من أحبار بني إسرائيل التوراة عند كل حبر جزء ، واستخلف يوشع ، فلما مضى ثلاثة قرون وقعت الفرقة بينهم.
وقيل : الذين اختلفوا فيه نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : بعث إلى العرب خاصة ، وقال بعضهم : ليس بالنبي المبعوث لأن ذلك حقق في بني إسحاق.
وعلى أنهم النصارى ، وهو قول محمد بن جعفر بن الزبير ، فالذي اختلفوا فيه : دينهم ، أو أمر عيسى ، أو دين الإسلام.
ثلاثة أقوال.
وقال الزمخشري : هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، واختلفوا أنهم تركوا الإسلام وهو التوحيد والعدل من بعد ما جاءهم العلم أنه الحق الذي لا محيد عنه ، فثلثت النصارى { وقالت اليهود عزير بن الله } ، وقالوا : كنا أحق بأن تكون النبوة فينا من قريش لأنهم أمّيون ، ونحن أهل كتاب ، وهذا تجوير لله تعالى.

انتهى.
ثم قال : وقيل : اختلافهم في نبوة محمد عليه السلام ، حيث آمن به بعض وكفر بعض ، وقيل : اختلافهم في الإيمان بالأنبياء فمنهم من آمن بموسى ، ومنهم من آمن بعيسى. انتهى.
والذي يظهر أن اللفظ عام في { الذين أوتوا الكتاب } وأن المختلف فيه هو : الإسلام ، لأنه تعالى قرر أن الدين هو الإسلام ، ثم قال : { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } أي : في الإسلام حتى تنكبوه إلى غيره من الأديان.
{ إلا من بعد ما جآءهم العلم } الذي هو سبب لاتباع الإسلام ، والاتفاق على اعتقاده ، والعمل به ، لكن عموا عن طريق العلم وسلوكه بالبغي الواقع بينهم من الحسد ، والاسئثار بالرياسة ، وذهاب كل منهم مذهباً يخالف الإسلام حتى يصير رأساً يتبع فيه ، فكانوا ممن ضل على علم.
وقد تقدّم ما يشبه هذا من قوله { وما اختلف فيه الا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات }
{ بغياً بينهم } وإعراب : بغياً ، فإنه أتى بعد إلاَّ شيئان ظاهرهما أنهما مستثنيان ، وتخريج ذلك : فأغنى عن إعادته هنا.
{ ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب } هذا عام في كل كافر بآيات الله ، فلا يخص بالمختلفين من أهل الكتاب ، وإن جاءت الجملة الشرطية بعد ذكرهم.
وآياته ، هنا قيل : حججه ، وقيل : التوراة والإنجيل وما فيهما من وصف نبينا صلى الله عليه وسلم.
وقيل : القرآن ، وقال الماتريدي : أي من المختلفين.
وتقدّم تفسير : سريع الحساب ، فأغنى عن إعادته ، وهذه الجملة جواب الشرط والعائد منها على إسم الشرط محذوف تقديره : سريع الحساب له.
{ فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله } الضمير في : حاجوك ، الظاهر أنه يعود على { الذين أوتوا الكتاب } وقال أبو مسلم : يعود على جميع الناس ، لقوله بعد { وقل للذين أوتوا الكتاب والأمّيين } وقيل : يعود على نصارى نجران ، قدموا المدينة للمحاجة.
وظاهر المحاج فيه أنه دين الإسلام ، لأنه السابق.
وجواب الشرط هو : { فقل أسلمت وجهي لله } والمعنى : انقدت وأطعت وخضعت لله وحده ، وعبر : بالوجه ، عن جميع ذاته ، لأن الوجه أشرف الأعضاء ، وإذا خضع الوجه فما سواه أخضع وقال المروزي ، وسبقه الفراء إلى معناه : معنى أسلمت وجهي ، أي : ديني ، لأن الإيمان كالوجه بين الأعمال إذ هو الأصل ، وجاء في التفسير أقوال لكم ، كما قال ابن نعيم : وقد أجمعتم على أنه محق { قَال : ياقوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين }
وقال الزمخشري : وأسلمت وجهي ، أي : أخلصت نفسي وعملي لله وحده ، لم أجعل له شريكاً بأن أعبده وأدعوا إلها معه ، يعني : أن ديني التوحيد ، وهو الدين القديم الذي ثبت عندكم صحته ، كما ثبت عندي.
وما جئت بشيء بديع حتى تجادلوني فيه ، ونحوه { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة } الآية ، فهو دفع للمجادلة. انتهى.
وفي تفسيره أطلق الوجه على النفس والعمل معاً ، إلاَّ إن كان أراد تفسير المعنى لا تفسير اللفظ ، فيسوغ له ذلك.

وقال الرازي : في كيفية إيراد هذا الكلام طريقان :
الأول : أنه إعراض عن المحاجة ، إذ قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية ، فإن هذه السورة مدنية ، وذلك بإظهار المعجزات بالقرآن وغيره ، وقد ذكر قبل هذه الآية الحجة بقوله : { الحيّ القيوم } على فساد قول النصارى في إلهية عيسى ، وبقوله { نزل عليك الكتاب } على صحة نبوّته ، وذكر شُبَهَ القوم وأجاب عنها ، وذكر معجزات أخرى ، وهي ما شاهدوه يوم بدر ، بين القول بالتوحيد بقوله : شهد الله.
والطريق الثاني : أنه إظهار للدليل ، وذلك أنهم كانوا مقرين بالصانع واستحقاقه للعبادة فكأنه قال : أنا متمسك بهذا القدر المتفق عليه ، والخلف فيما وراءه ، وعلى المدعي الإثبات.
وأيضاً كانوا معظمين إبراهيم عليه السلام وأنه كان محقاً ، وقد أمر أن يتبع ملته ، وهنا أمر أن يقول كقوله ، فيكون هذا من باب الإلزام ، أي : أنا متمسك بطريق من هو عندكم محق ، وهذا قاله أبو مسلم ، وأيضاً لما تقدّم أن الدين هو الإسلام ، قيل له : إن نازعوك فقل : الدليل عليه أني أسلمت وجهي لله ، فهذا تمام الوفاء بلزوم الربوبية والعبودية ، فصح أن الدين الكامل الإسلام ، وأيضاً فالآية مناسبة لقول إبراهيم { لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } أي : لا تجوز العبادة إلاَّ لمن يكون نافعاً وضاراً وقادراً على جميع الأشياء ، وعيسى ليس كذلك ، وأيضاً فهذه إشارة إلى طريقة إبراهيم عليه السلام { إذ قال له ربه : أسلم قال أسلمت لرب العالمين } وروي هذا عن ابن عباس.
انتهى ما لخص من كلام الرازي.
وليس أواخر كلامه بظاهرة من مراد الآية ومدلولها.
وفتح الياء : من : وجهي ، هنا ، وفي الأنعام نافع ، وابن عامر ، وحفص ، وسكنها الباقون.
{ ومن اتبعن } قيل : من ، في موضع رفع ، وقيل : في موضع نصب على أنه مفعول معه ، وقيل : في موضع خفض عطفاً على اسم الله.
ومعناه : جعلت مقصدي بالإيمان به ، والطاعة له ، ولمن اتبعني بالحفظ له ، والتحفي بتعلمه ، وصحته.
فأما الرفع فعطفاً على الفاعل في : أسلمت ، قاله الزمخشري ، وبدأ به قال : وحسن للفاصل ، يعنى أنه عطف على الضمير المتصل ، ولا يجوز العطف على الضمير المتصل المرفوع إلاَّ في الشعر ، على رأي البصريين.
إلاَّ أنه فصل بين الضمير والمعطوف ، فيحسن.
وقاله ابن عطية أيضاً ، وبدأ به.
ولا يمكن حمله على ظاهره لأنه إذا عطف على الضمير في نحو : أكلت رغيفاً وزيد ، لزم من ذلك أن يكونا شريكين في أكل الرغيف ، وهنا لا يسوغ ذلك ، لأن المعنى ليس على أنهم أسلموا هم وهو صلى الله عليه وسلم وجهه لله ، وإنما المعنى : أنه صلى الله عليه وسلم أسلم وجهه لله ، وهم أسلموا وجوههم لله ، فالذي يقوى في الإعراب أنه معطوف على ضمير محذوف منه المفعول ، لا مشارك في مفعول : أسلمت ، التقدير : ومن اتبعني وجهه.

أو أنه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة المعنى عليه ، ومن اتبعني كذلك ، أي : أسلموا وجوههم لله ، كما تقول : قضى زيد نحبه وعمرو ، أي : وعمرو كذلك.
أي : قضى نحبه.
ومن الجهة التي امتنع عطف.
ومن ، على الضمير إذا حمل الكلام على ظاهره دون تأويل ، يمتنع كون : من ، منصوباً على أنه مفعول معه ، لأنك إذا قلت : أكلت رغيفاً وعمراً ، أي : مع عمرو ، دل ذلك على أنه مشارك لك في أكل الرغيف ، وقد أجاز هذا الوجه الزمخشري ، وهو لا يجوز لما ذكرنا على كل حال ، لأنه لا يمكن تأويل حذف المفعول مع كون الواو واو المعية.
وأثبت ياء : اتبعني ، في الوصل أبو عمرو ، ونافع ، وحذفها الباقون ، وحذفها أحسن لموافقة خط المصحف ، ولأنها رأس آية كقوله : أكرمن وأهانن ، فتشبه قوافي الشعر كقول الشاعر :
وهل يمنعنّي ارتيادُ البلا . . .
د من حذر الموت أن يأتيَنْ
{ وقل للذين أوتوا الكتاب } هم : اليهود والنصارى باتفاق { والأمّيين } هم مشركو العرب ، ودخل في ذلك كل من لا كتاب له { أأسلمتم } تقدير في ضمنه الأمر.
وقال الزجاج : تهدّد.
قال ابن عطية : وهذا حسن ، لأن المعنى : أأسلمتم له أم لا؟ وقال الزمخشري : يعني أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضى حصوله لا محالة ، فهل أسلمتم أم أنتم على كفركم؟ وهذا كقولكم لمن لخصت له المسألة ، ولم تبقِ من طرق البيان والكشف طريقاً إلاَّ سلكته ، هل فهمتها لا أمّ لك؟ ومنه قوله عز وعلا : { فهل أنتم منتهون } بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر ، وفي هذا الاستفهام استقصار وتغيير بالمعاندة وقلة الإنصاف ، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة ولم يتوقف إذعانه للحق ، وللمعاند بعد تجلي الحجة ما يضرب أسداداً بينه وبين الإذعان ، وكذلك في : هل فهمتها؟ توبيخ بالبلادة وكله القريحة ، وفي { فهل أنتم منتهون } بالتقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهي عنه.
انتهى كلامه.
وهو حسن ، وأكثره من باب الخطابة.
{ فإن أسلموا فقد اهتدوا } أي إن دخلوا في الإسلام فقد حصلت لهم الهداية ، وعبر بصيغة الماضي المصحوب بقد الدالة على التحقيق مبالغة في الإخبار بوقوع الهدى ، ومن الظلمة إلى النور. انتهى.
{ وإن تولوا فإنما عليك البلاغ } أي : هم لا يضرونك بتوليهم ، وما عليك أنت إلاَّ تنبيههم بما تبلغه إليهم من طلب إسلامهم وانتظامهم في عبادة الله وحده ، وقيل : إنها آية مواعدة منسوخة بآية السيف ، ولا نحتاج إلى معرفة تاريخ النزول ، وإذا نظرت إلى سبب نزول هذه الآيات ، وهو وفود وفد نجران ، فيكون المعنى : فإنما عليك البلاغ بقتالٍ وغيره.
{ والله بصير بالعباد }.
وفيه وعيد وتهديد شديد لمن تولى عن الإسلام ، ووعد بالخير لمن أسلم ، إذ معناه : إن الله مطلع على أحوال عبيده فيجازيهم بما تقتضي حكمته.

{ إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين } الآية هي في اليهود والنصارى ، قاله محمد بن جعفر بن الزبير وغيره ، وصف من تولى عن الإسلام وكفر بثلاث صفات :
إحداهما : كفره بآيات الله وهم مقرون بالصانع ، جعل كفرهم ببعض مثل كفرهم بالجميع ، أو يجعل : بآيات الله ، مخصوصاً بما يسبق إليه الفهم من القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم.
الثانية : قتلهم الأنبياء ، وقد تقدّمت كيفية قتلهم في البقرة في قوله { ويقتلون النبيين بغير الحق } والألف واللام في : النبيين ، للعهد.
والثالثة : قتل من أمر بالعدل.
فهذه ثلاثة أوصاف بدىء فيها بالأعظم فالأعظم ، وبما هو سبب للآخر : فأولها : الكفر بآيات الله ، وهو أقوى الأسباب في عدم المبالاة بما يقع من الأفعال القبيحة ، وثانيها : قتل من أظهر آيات الله واستدل بها.
والثالث : قتل أتباعهم ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
وهذه الآية جاءت وعيداً لمن كان في زمانه صلى الله عليه وسلم ، ولذلك جاءت الصلة بالمستقبل ، ودخلت الفاء في خبر : أن ، لأن الموصول ضمن معنى اسم الشرط ، ولما كانوا على طريقة أسلافهم في ذلك ، نسب إليهم ذلك ، ولأنهم أرادوا قتله صلى الله عليه وسلم ، فقتل أتباعه ، فأطلق ذلك عليهم مجازاً أي : من شأنهم وإرادتهم ذلك.
ويحتمل أن تكون الفاء زائدة على مذهب من يرى ذلك ، وتكون هذه الجملة حكاية عن حال آبائهم وما فعلوه في غابر الدهر من هذه الأوصاف القبيحة ، ويكون في ذلك إرذال لمن انتصب لعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ هم سالكون في ذلك طريقة آبائهم.
والمعنى : إن آباءكم الذين أنتم مستمسكون بدينهم كانوا على الحالة التي أنتم عالمون بها من الاتصاف بهذه الأوصاف ، فينبغي لكم أن تسلكوا غير طريقهم ، فإنهم لم يكونوا على حق.
فذكر تقبيح الأوصاف ، والتوعد عليها بالعقاب ، مما ينفر عنها ، ويحمل على التحلي بنقائضها من الإيمان بآيات الله وإجلال رسله وأتباعهم.
وقرأ الحسن : ويقتلون النبيين ، بالتشديد ، والتشديد هنا للتكثير بحسب المحل وقرأ حمزة ، وجماعة من غير السبعة : ويقاتلون الثاني.
وقرأها الأعمش : وقاتلوا الذين ، وكذا هي في مصحف عبد الله وقرأ أبيّ : يقتلون النبيين والذين يأمرون ، ومن غاير بين الفعلين فمعناه واضح إذا لم يذكر أحدهما على سبيل التوكيد ، ومن حذف اكتفى بذكر فعل واحد لأشتراكهم في القتل ، ومن كرر الفعل فذلك على سبيل عطف الجمل وابراز كل جملة في صورة التشنيع والتفظيع ، لأن كل جملة مستقلة بنفسها ، أو لاختلاف ترتب العذاب بالنسبة على من وقع به الفعل ، فقتل الأنبياء أعظم من قتل من يأمر بالمعروف من غير الأنبياء ، فجعل القتل بسبب اختلاف مرتبته كأنهما فعلان مختلفان.
وقيل : يحتمل أن يراد بأحد القتلين تفويت الرّوح ، وبالآخر الإهانة وإماتة الذكر ، فيكونان إذ ذاك مختلفين.
وجاء في هذه السورة { بغير حق } بصيغة التنكير ، وفي البقرة { بغير الحق } بصيغة التعريف ، لأن الجملة هنا أخرجت مخرج الشرط ، وهو عام لا يتخصص ، فناسب أن يكون المنفي بصيغة التنكير حتى يكون عاماً ، وفي البقرة جاء ذلك في صورة الخبر عن ناس معهودين ، وذلك قوله

{ ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق } فناسب أن يأتي بصيغة التعريف ، لأن الحق الذي كان يستباح به قتل الأنفس عندهم كان معروفاً ، كقوله { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } فالحق هنا الذي تقتل به الأنفس معهود معروف ، بخلاف ما في هذه السورة.
وقد تقدّم في البقرة أن قوله : { بغير الحق } هي حال مؤكدة ، إذ لا يقع قتل نبي إلاَّ بغير الحق ، وأوضحنا لك ذلك.
فأغنى عن إعادته وإيضاحه هنا.
ومعنى : من الناس ، أي : غير الأنبياء ، إذ لو قال : ويقتلون الذين يأمرون بالقسط ، لكان مندرجاً في ذلك الأنبياء لصدق اللفظ عليهم ، فجاء من الناس بمعنى : من غير الأنبياء.
قال الحسن : تدل الآية على أن القائم بالأمر بالمعروف تلي منزلته في العظم منزلة الأنبياء.
وعن أبيه عبيدة بن الجراح ، قلت يا رسول الله : أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ قال : « رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بمعروف ونهى عن منكر» ، ثم قرأها.
ثم قال : « يا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل ، فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار »
{ فبشرهم بعذاب أليم } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يدل على أن المراد معاصروه لا آباؤهم ، فيكون إطلاق قتل الأنبياء مجازاً لأنهم لم يقتلوا أنبياء لكهنم رضوا ذلك وراموه.
وهذه الجملة هي خبر : إن ، ودخلت الفاء لما يتضمن الموصول من معنى اسم الشرط كما قدّمناه ، ولم يعب بهذا الناسخ لأنه لم يغير معنى الابتداء ، أعني : إن.
ومع ذلك في المسألة خلاف : الصحيح جواز دخول الفاء في خبر : إن ، إذا كان اسمها مضمناً معنى الشرط ، وقد تقدّمت شروط جواز دخول الفاء في خبر المبتدأ ، وتلك الشروط معتبرة هنا ، ونظير هذه الآية في دخول الفاء { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم } { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم } { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم }
ومن منع ذلك جعل الفاء زائدة ، ولم يقس زيادتها.
وتقدم أن البشارة هي أول خبر سار ، فإذا استعملت مع ما ليس بسار ، فقيل : ذلك هو على سبيل التهكم والاستهزاء كقوله :
تحية بينهم ضرب وجيع . . .
أي : القائم لهم مقام الخبر السار هو العذاب الأليم وقيل : هو على معنى تأثر البشرة من ذلك ، فلم يؤخذ فيه قيد السرور ، بل لوحظ معنى الاشتقاق.

{ أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة }.
تقدم تفسير هذه الجملة عند قوله ومن { يرتدد منكم عن دينه } فأغنى عن إعادته.
وقرأ ابن عباس ، وأبو السمال : حبطت ، بفتح الباء وهي لغة.
{ وما لهم من ناصرين } مجيء الجمع هنا أحسن من مجيء الإفراد ، لأنه رأس آية ، ولأنه بإزاء من للمؤمنين من الشفعاء الذين هم الملائكة والأنبياء وصالحو المؤمنين ، أي : ليس لهم كأمثال هؤلاء ، والمعنى : بانتفاء الناصرين انتفاء ما يترتب على النصر من المنافع والفوائد ، وإذا انتفت من جمع فانتفاؤها من واحد أَولى ، وإذا كان جمع لا ينصر فأحرى أن لا ينصر واحد ، ولما تقدم ذكر معصيتهم بثلاثة أوصاف ناسب أن يكون جزاؤهم بثلاثة ، ليقابل كل وصف بمناسبه ، ولما كان الكفر بآيات الله أعظم ، كان التبشير بالعذاب الأليم أعظم ، وقابل قتل الأنبياء بحبوط العمل في الدنيا والأخرة ، ففي الدنيا بالقتل والسبي وأخذ المال والاسترقاق ، وفي الآخرة بالعقاب الدائم ، وقابل قتل الآمرين بالقسط ، بانتفاء الناصرين عنهم إذا حل بهم العذاب ، كما لم يكن للآمرين بالقسط من ينصرهم حين حل بهم قتل المعتدين ، كذلك المعتدون لا ناصر لهم إذا حل بهم العذاب.
وفي قوله : أولئك ، إشارة إلى من تقدم موصوفاً بتلك الأوصاف الذميمة ، وأخبر عنه : بالذين ، إذ هو أبلغ من الخبر بالفعل ، ولأن فيه نوع انحصار ، ولأن جعل الفعل صلة يدل على كونها معلومة للسامع ، معهودة عنده ، فإذا أخبرت بالموصول عن اسم استفاد المخاطب أن ذلك الفعل المعهود المعلوم عنده المعهود هو منسوب للمخبر عنه بالموصول ، بخلاف الإخبار بالفعل ، فإنك تخبر المخاطب بصدوده عن من أخبرت به عنه ، ولا يكون ذلك الفعل معلوماً عنده ، فإن كان معلوماً عنده جعلته صلة ، وأخبرت بالموصول عن الأسم.
قيل وجمعت هذه الآيات ضروباً من الفصاحة والبلاغة.
أحدهما : التقديم والتأخير في : { إن الدين عند الله الإسلام } قال ابن عباس التقدير : شهد الله أن الدين عند الله الاسلام ، أنه لا إله إلا هو ، ولذلك قرأ إنه ، بالكسر : وأن الدين ، بالفتح.
وأطلق اسم السبب على المسبب في قوله { من بعد ما جاءهم العلم } عبر بالعلم عن التوراة والإنجيل أو النبي صلى الله عليه وسلم ، على الخلاف الذي سبق.
وإسناد الفعل إلى غير فاعله في : { حبطت أعمالهم } وأصحاب النار.
والإيماء في قوله : { بغياً بينهم } فيه إيماء إلى أن النفي دائر شائع فيهم ، وكل فرقة منهم تجاذب طرفاً منه.
والتعبير ببعض عن كل في : { أسلمت وجهي }.
والاستفهام الذي يراد به التقرير أو التوبيخ والتقريع في قوله { أأسلمتم }.
والطباق المقدر في قوله : { فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ } ووجهه : أن الإسلام الانقياد إلى الإسلام ، والإقبال عليه ، والتولي ضد الإقبال.
والتقدير : وإن تولوا فقد ضلوا ، والضلالة ضد الهداية.
والحشو الحسن في قوله { بغير حق } فإنه لم يقتل قط نبي بحق ، وإنما أتى بهذه الحشوة ليتأكد قبح قتل الأنبياء ، ويعظم أمره في قلب العازم عليه.
والتكرار في { ويقتلون الذين } تأكيداً لقبح ذلك الفعل.
والزيادة في { فبشرهم } زاد الفاء إيذاناً بأن الموصول ضمن معنى الشرط.
والحذف في مواضع قد تكلمنا عليها فيما سبق.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)

غَر ، يغر ، غروراً : خدع والغِر : الصغير ، والغريرة : الصغيرة ، سميا بذلك لأنهما ينخدعان بالعجلة ، والغِرة منه يقال : أخذه على غرة ، أي : تغفل وخداع ، والغُرة : بياض في الوجه ، يقال منه : وجه أغر ، ورجل أغر ، وامرأة غراء.
والجمع على القياس فيهما غُر.
قالوا : وليس بقياس : وغران.
قال الشاعر :
ثياب بني عوف طهارى نقية . . .
وأوجههم عند المشاهد غران
نزع ينزع : جذب ، وتنازعنا الحديث تجاذبناه ، ومنه : نزاع الميت ، ونزع إلى كذا : مال إليه وانجذب ، ثم يعبر به عن الزوال ، يقال : نزع الله عنه الشر : أزاله.
ولج يلج ولوجاً ولجة وولجاً ، وولج تولجاً وأتلج إتلاجاً قال الشاعر :
فإن القوافي يتَّلجْن موالجاً . . .
تضايق عنها أن تولجها الإبر
الامد : غاية الشيء ، ومنتهاه ، وجمعه آماد.
اللهم : هو الله إلاَّ أنه مختص بالنداء فلا يستعمل في غيره ، وهذه الميم التي لحقته عند البصريين هي عوض من حرف النداء ، ولذلك لا تدخل عليه إلاَّ في الضرورة.
وعند الفراء : هي من قوله : يا الله أمنا بخير ، وقد أبطلوا هذا النصب في علم النحو ، وكبرت هذه اللفظة حتى حذفوا منها : أل ، فقالوا : لا همّ ، بمعنى : اللهمّ.
قال الزاجر :
لا هم إني عامر بن جهم . . .
أحرم حجاً في ثياب دسم
وخففت ميمها في بعض اللغات قال :
كَحَلْفَة من أبي رياح . . .
يسمعها اللَّهُمَ الكُبار
الصدر : معروف ، وجمعه : صدور.
{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } قال السدّي : « دعا النبي صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام ، فقال له النعمان بن أبي أوفى : هلم نخاصمك إلى الأحبار.
فقال : » بل إلى كتاب الله «.
فقال : بل إلى الأحبار.
فنزلت ».
وقال ابن عباس : « دخل صلى الله عليه وسلم إلى المدارس على اليهود ، فدعاهم إلى الله ، فقال نعيم بن عمرو ، والحارث بن زيد : على أي دين أنت يا محمد؟ فقال : » على ملة إبراهيم «.
قالا : إن إبراهيم كان يهودياً.
فقال صلى الله عليه وسلم : » فهلموا إلى التوراة «.
فأبيا عليه ، فنزلت.
» وقالَ الكلبي : زنى رجل منهم بامرأة ولم يكن بعد في ديننا الرجم ، فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تخفيفاً للزانيين لشرفهما ، فقال صلى الله عليه وسلم : « إنما أحكم بكتابكم » فأنكروا الرجم ، فجيء بالتوراة ، فوضع حبرهم ، ابن صوريا ، يده على آية الرجم ، فقال عبد الله بن سلام : جاوزها يا رسول الله ، فأظهرها فرُجما.
وقال النقاش : « نزلت في جماعة من اليهود أنكروا نبوّته ، فقال لهم : » هلموا إلى التوراة ففيها صفتي « وقال مقاتل : دعا جماعة من اليهود إلى الإسلام ، فقالوا : نحن أحق بالهدى منك ، وما أرسل الله نبياً إلا من بين إسرائيل ، قال :

« فأخرجوا التوراة فإني مكتوب فيها أني نبي » فأبوا ، فنزلت { والذين أوتوا نصيباً من الكتاب } هم : اليهود ، والكتاب : التوراة.
وقال مكي وغيره : اللوح المحفوظ ، وقيل : { من الكتاب } جنس للكتب المنزلة ، قاله ابن عطية ، وبدأ به الزمخشري و : من ، تبعيض.
وفي قوله : نصيباً ، أي : طرفاً ، وظاهر بعض الكتاب ، وفي ذلك إذ هم لم يحفظوه ولم يعلموا جميع ما فيه.
{ يدعون إلى كتاب الله } هو : التوراة ، وقال الحسن ، وقتادة ، وابن جريح : القرآن.
و : يدعون ، في موضع الحال من الذين ، والعامل : تر ، والمعنى : ألا تعجب من هؤلاء مدعوين إلى كتاب الله؟ أي : في حال أن يدعوا إلى كتاب الله { ليحكم بينهم } أي : ليحكم الكتاب.
وقرأ الحسن ، وأبو جعفر ، وعاصم الجحدري : ليُحكم ، مبيناً للمفعول والمحكوم فيه هو ما ذكر في سبب النزول.
{ ثم يتولى فريق منهم } هذا استبعاد لتوليهم بعد علمهم بأن الرجوع إلى كتاب الله واجب ، ونسب التولي إلى فريق منهم لا إلى جميع المبعدين ، لأن منهم من أسلم ولم يتول كابن سلام وغيره.
{ وهم معرضون } جملة حالية مؤكدة لأن التولي هو الإعراض ، أو مبينة لكون التولي عن الداعي ، والإعراض عما دعا إليه ، فيكون المتعلق مختلفاً ، أو لكون التولي بالبدن والإعراض بالقلب ، أو لكون التولي من علمائهم والإعراض من أتباعهم ، قاله ابن الأنباري.
أو جملة مستأنفة أخبر عنهم قوم لا يزال الإعراض عن الحق وأتباعه من شأنهم وعادتهم ، وفي قوله : { بينهم } دليل على أن المتنازع فيه كان بينهم واقعاً لا بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو خلاف ما ذكر في أسباب النزول ، فإن صح سبب منها كان المعنى : ليحكم بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يصح حمل على الاختلاف الواقع بين من أسلم من أحبارهم وبين من لم يسلم ، فدعوا إلى التوراة التي لا اختلاف في صحتها عندكم ، ليحكم بين المحق والمبطل ، فتولى من لم يسلم.
قيل وفي هذه الآية دليل على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم ولولا علمهم بما ادّعاه في كتبهم من نعته وصحة نبوته ، لما أعرضوا وتسارعوا إلى موافقة ما في كتبهم ، حتى ينبئوا عن بطلان دعواه.
وفيها دليل على أن من دعاه خصمه إلى الحكم الحق لزمته إجابته لأنه دعاه إلى كتاب الله ، ويعضده : { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون }
قال القرطبي : وإذا دعي إلى كتاب الله وخالف تعين زجره بالأدب على قدر المخالِف ، والمخالَف.
وهذا الحكم جارٍ عندنا بالأندلس وبلاد المغرب ، وليس بالديار المصرية.
قال ابن خويزمنداد المالكي : واجب على من دعي إلى مجلس الحكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق.
{ ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات } الإشارة بذلك إلى التولي ، أي : ذلك التولي بسبب هذه الأقوال الباطلة ، وتسهيلهم على أنفسهم العذاب ، وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل.

وقال الزمخشري : كما طمعت الجبرية والحشوية.
{ وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون } من أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، كما غرى أولئك بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كبائرهم.
انتهى كلامه.
وهو على عادته من اللهج بسب أهل السنة والجماعة ، ورميهم بالتشبيه ، والخروج إلى الطعن عليهم بأي طريق أمكنه.
وتقدّم تفسير هذه : الأيام المعدودات ، في سورة البقرة فأغنى عن إعادته هنا ، إلاَّ أنه جاء هناك : معدودة ، وهنا : معدودات ، وهما طريقان فصيحان تقول : جبال شامخة ، وجبال شامخات.
فتجعل صفة جمع التكسير للمذكر الذي لا يعقل تارة لصفة الواحدة المؤنثة ، وتارة لصفة المؤنثات.
فكما تقول : نساء قائمات ، كذلك تقول : جبال راسيات ، وذلك مقيس مطرد فيه.
{ وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون } قال مجاهد : الذي افتروه هو قولهم : { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات } وقال قتادة : بقولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه.
وقيل : { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } وقيل : مجموع هذه الأقوال.
وارتفع : ذلك ، بالابتداء ، و : بأنهم ، هو الخبر ، أي : ذلك الإعراض والتولي كائن لهم وحاصل بسبب هذا القول ، وهو قولهم : إنهم لا تمسهم النار إلاَّ أياماً قلائل ، يحصرها العدد.
وقيل : خبر مبتدأ محذوف ، أي : شأنهم ذلك ، أي التولي والإعراض ، قاله الزجاج.
وعلى هذا يكون : بأنهم ، في موضع الحال ، أي : مصحوباً بهذا القول ، و : ما في : ما كانوا ، موصولة ، أو مصدرية.
{ فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه } هذا تعجيب من حالهم ، واستعظام لعظم مقالتهم حين اختلفت مطامعهم ، وظهر كذب دعواهم ، إذ صاروا إلى عذاب ما لهم حيلة في دفعه ، كما قال تعالى : { تلك أمانيهم } هذا الكلام يقال عند التعظيم لحال الشيء ، فكيف إذا توفتهم الملائكة؟ وقال الشاعر :
فكيف بنفس ، كلما قلت : أشرفت . . .
على البرء من دهماء ، هيض اندمالها
وقال :
فكيف؟ وكلٌّ ليس يعدو حمامه . . .
وما لامرىء عما قضى الله مرحلُ
وانتصاب : فكيف ، قيل على الحال ، والتقدير : كيف يصنعون؟ وقدره الحوفي : كيف يكون حالهم؟ فإن أراد كان التامة كانت في موضع نصب على الحال ، وإن كانت الناقصة كانت في موضع نصب على خبر كان ، والأجود أن تكون في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى : التقدير : كيف حالهم؟ والعامل في : إذا ، ذلك الفعل الذي قدره ، والعامل في : كيف ، إذا كانت خبراً عن المبتدأ إن قلنا إن انتصابها انتصاب الظروف ، وإن قلنا إنها اسم غير ظرف ، فيكون العامل في : إذا ، المبتدأ الذي قدرناه ، أي : فكيف حالهم في ذلك الوقت؟ وهذا الاستفهام لا يحتاج إلى جواب ، وكذا أكثر استفهامات القرآن ، لأنها من عالم الشهادة ، وإنما استفهامه تعالى تقريع.
واللام ، تتعلق : بجمعناهم ، والمعنى : لقضاء يوم وجزائه كقوله :

{ إنك جامع الناس ليوم } قال النقاش : اليوم ، هنا الوقت ، وكذلك : { أياماً معدودات } و { في يومين } و { في أربعة أيام } إنما هي عبارة عن أوقات ، فإنما الأيام والليالي عندنا في الدنيا.
وقال ابن عطية : الصحيح في يوم القيامة أنه يوم ، لأنه قبله ليلة وفيه شمس.
ومعنى : { لا ريب فيه } أي في نفس الأمر ، أو عند المؤمن ، أو عند المخبر عنه ، أو حين يجمعهم فيه ، أو معناه : الأمر خمسة أقوال.
{ ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } تقدم تفسير مثل هذا في البقرة ، آخر آيات الربا.
{ قل اللهم مالك الملك } قال الكلبي : ظهرت صخرة في الخندق ، فضربها صلى الله عليه وسلم ، فبرق برق فكبر ، وكذا في الثانية والثالثة ، فقال صلى الله عليه وسلم : « في الأولى : قصور العجم ، وفي الثاني : قصور الروم.
وفي الثالثة : قصور اليمن فأخبرني جبريل عليه السلام : أن أمتي ظاهرة على الكل » فعيره المنافقون بأنه يضرب المعول ويحفر الخندق فرقاً ، ويتمنى ملك فارس والروم ، فنزلت.
اختصره السجاوندي هكذا ، وهو سبب مطول جداً.
وقال ابن عباس : لما فتحت مكة ، كبر على المشركين وخافوا فتح العجم ، فقال عبد الله بن أبي : هم أعز وأمنع ، فنزلت.
وقال ابن عباس ، وأنس : لما فتح صلى الله عليه وسلم مكة ، وعد أمته ملك فارس والروم ، فنزلت.
وقيل : بلغ ذلك اليهود فقالو : هيهات! هيهات! فنزلت ، فذلوا وطلبوا المواصمة.
وقال الحسن : سأل صلى الله عليه وسلم ملك فارس والروم لأمته ، فنزلت على لفظ النهي.
وروي نحوه عن قتادة أنه ذكر له ذلك.
وقال أبو مسلم الدمشقي : قالت اليهود : والله لا نطيع رجلاً جاء بنقل النبوّة من بني إسرائيل إلى غيرهم ، فنزلت.
وقيل : نزلت رداً على نصارى نجران في قولهم : إن عيسى هو الله ، وليس فيه شيء من هذه الأوصاف.
والملك هنا ظاهره السلطان والغلبة ، وعلى هذا التفسير جاءت أسباب النزول.
وقال مجاهد : الملك النبوّة ، وهذا يتنزل على نقل أبي مسلم في سبب النزول.
وقيل : المال والعبيد ، وقيل : الدنيا والآخرة.
وقال الزجاج : مالك العباد وما ملكوا.
وقال الزمخشري : أي تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون.
وقال معناه ابن عطية ، وقد تكلم في لفظة : اللهم ، من جهة النحو ، فقال : أجمعوا على أنها مضمومة الهاء مشدّدة الميم المفتوحة ، وأنها منادى. انتهى.
وما ذكر من الإجماع على تشديد الميم قد نقل الفراء تخفيف ميمها في بعض اللغات ، قال : وأنشد بعضهم :
كَحْلَفةٍ من أبي رِيَاح . . .
يسمعها اللَّهم الكبار
قال الراد عليه : تخفيف الميم خطأ فاحش خصوصاً عند الفراء ، لأن عنده هي التي في أمّنا ، إذ لا يحتمل التخفيف أن تكون الميم فيه بقية أمّنا.
قال : والرواية الصحيحة يسمعها لاهه الكبار. انتهى.
وإن صح هذا البيت عن العرب كان فيه شذوذ آخر من حيث استعماله في غير النداء ، ألا ترى أنه جعله في هذا البيت فاعلاً بالفعل الذي قبله؟ قال أبو رجاء العطاردي : هذه الميم تجمع سبعين اسماً من اسمائه وقال النضر بن شميل : من قال اللهم فقد دعا الله بجميع أسمائه كلها.

وقال الحسن : اللهم مجمع الدعاء.
ومعنى قول النضر : إن اللهم هو الله زيدت فيه الميم ، فهو الأسم العلم المتضمن لجميع أوصاف الذات ، لأنك إذا قلت : جاء زيد ، فقد ذكرت الأسم الخاص ، فهو متضمن جميع أوصافه التي هي فيه من شهلة أو طول أو جود أو شجاعة ، أو اضدادها وما أشبه ذلك.
وانتصاب : مالك الملك ، على أنه منادى ثانٍ أي : يا مالك الملك ، ولا يوصف اللهم عند سيبويه ، وأجاز أبو العباس وأبو إسحاق وصفه ، فهو عندهما صفة للاهم ، وهي مسألة خلافية يبحث عنها في علم النحو.
{ تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } الظاهر أن الملك هو السلطان والغلبة ، كما أن ظاهر الملك الأوّل كذلك ، فيكون الأوّل عاماً ، وهذان خاصين.
والمعنى : إنك تعطي من شئت قسماً من الملك ، وتنزع ممن شئت قسماً من الملك وقد فسر الملك هنا بالنبوّة أيضاً ، ولا يتأتى هذا التفسير في : تنزع الملك ، لأن الله لم يؤت النبوّة لأحد ثم نزعها منه إلاَّ أن يكون تنزع مجازاً بمعنى : تمنع النبوّة ممن تشاء ، فيمكن.
وقال أبو بكر الوراق : هو ملك النفس ومنعها من اتباع الهوى.
وقيل : العافية ، وقيل : القناعة.
وقيل : الغلبة بالدين والطاعة.
وقيل : قيام الليل.
وقال الشبلي : هو الاستغناء بالمكون عن الكونين.
وقال عبد العزيز بن يحيى : هو قهر إبليس كما كان يفرّ من ظل عمر ، وعكسه من كان يجري الشيطان منه مجرى الدم.
وقيل : ملك المعرفة بلا علة ، كما أتى سحرة فرعون ، ونزع من بلعام.
وقال أبو عثمان : هو توفيق الإيمان.
وإذا حملناه على الأظهر : وهو السلطنة والغلبة ، وكون المؤتَى هو الآمر المتبع ، فالذي آتاه الملك هو محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، والمنزوع منهم فارس والروم.
وقيل : المنزوع منه أبو جهل وصناديد قريش.
وقيل : العرب وخلفاء الإسلام وملوكه ، والمنزوع فارس والروم.
وقال السدي : الأنبياء أمر الناس بطاعتهم ، والمنزوع منه الجبارون أمر الناس بخلافهم.
وقيل : آدم وولده ، والمنزوع منه إبليس وجنوده.
وقيل : داود عليه السلام ، والمنزوع منه طالوت.
وقيل : صخر ، والمنزوع منه سليمان أيام محنته.
وقيل : المعنى تؤتي الملك في الجنة من تشاء وتنزع الملك من ملوك الدنيا في الآخرة ممن تشاء.
وقيل : الملك العزلة والانقطاع ، وسموه الملك المجهول.
وهذه أقوال مضطربة ، وتخصيصات ليس في الكلام ما يدل عليها ، والأولى أن يحمل على جهة التمثيل لا الحصر في المراد.
{ وتعز من تشاء وتذل من تشاء } قيل : محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حين دخلوا مكة في اثني عشر ألفاً ظاهرين عليها ، وأذل أبا جهل وصناديد قريش حتى حزت رؤوسهم وألقوا في القليب.

وقيل : بالتوفيق والعرفان ، وتدل بالخذلان.
وقال عطاء : المهاجرين والأنصار وتذل فارس والروم.
وقيل : بالطاعة وتذل بالمعصية.
وقيل : بالظفر والغنيمة وتذل بالقتل والجزية.
وقيل : بالإخلاص وتذل بالرياء.
وقيل بالغنى وتذل بالفقر.
وقيل : بالجنة والرؤية وتذل بالحجاب والنار ، قاله الحسن بن الفضل.
وقيل : بقهر النفس وتذل باتباع الخزي ، قاله الوراق.
وقيل : بقهر الشيطان وتذل بقهر الشيطان اياه ، قاله الكتاني.
وقيل : بالقناعة والرضا وتذل بالحرص والطمع.
وينبغي حمل هذه الأقاويل على التمثيل لأنه لا مخصص في الآية ، بل الذي يقع به العز والذل مسكوت عنه ، وللمعتزلة هنا كلام مخالف لكلام أهل السنة ، قال الكعبي : تؤتى الملك على سبيل الاستحقاق من يقوم به ، ولا تنزعه إلاَّ ممن فسق ، يدل عليه { لا ينال عهدي الظالمين } { إن الله اصطفاه عليكم } جعل الاصطفاء سبباً للملك ، فلا يجوز أن يكون ملك الظالمين بإيتائه وقد يكون ، وقد ألزمهم أن لا يتملكوه ، فصح أن الملوك العادلين هم المخصوصون بايتاء الله الملك ، وأما الظالمون فلا.
أما النزع فبخلافه ، فكما ينزعه من العادل لمصلحة ، فقد ينزعه من الظالم.
وقال القاضي عبد الجبار : الإعزاز المضاف إليه تعالى يكون في الدين بالإمداد بالألطاف ومدحهم وتغلبهم على الأعداء ، ويكون في الدنيا بالمال وإعطاء الهيبة.
وأشرف أنواع العزة في الدين هو الإيمان ، وأذل الأشياء الموجبة للذلة هو الكفر ، فلو كان حصول الإيمان والكفر من العبد لكان إعزاز العبد نفسه بالإيمان وإذلاله نفسه بالكفر أعظم من إعزاز الله إياه وإذلاله ، ولو كان كذلك كان حظه من هذا الوصف أتم من حظه سبحانه ، وهو باطل قطعاً.
وقال الجبائي : يذل أعداءه في الدنيا والآخرة ، ولا يذل أولياءه وإن أفقرهم وأمرضهم وأخافهم وأحوجهم إلى غير ذلك ، لأن ذلك لعزهم في الآخرة بالثواب أو العوض فصار كالفصد يؤلم في الحال ويعقب نفعاً.
قال : ووصف الفقر بكونه ذلاً مجازاً ، كقوله { أذلة على المؤمنين } وإذلال الله المبطل بوجوه بالذم واللعن ، وخذلانهم بالحجة والنصرة ، وبجعلهم لأهل دينه غنيمة ، وبعقوبتهم في الآخرة.
{ بيدك الخير } أي : بقدرتك وتصديقك وقع الخير ، ويستحيل وجود اليد بمعنى الجارحه لله تعالى.
قيل : المعنى والشر ، نحو : تقيكم الحرّ ، أي والبرد.
وحذف المعطوف جائز لفهم المعنى ، إذ أحد الضدين يفهم منه الآخر ، وهو تعالى قد ذكر إيتاء الملك ونزعه ، والإعزاز والإذلال ، وذلك خير لناس وشر لآخرين ، فلذلك كان التقدير : بيدك الخير والشر ، ثم ختمها بقوله { إنك على كل شيء قدير } فجاء بهذا العام المندرج تحته الأوصاف السابقة ، وجمع الخيور والشرور ، وفي الاقتصار على ذكر الخير تعليم لنا كيف نمدح بأن نذكر أفضل الخصال.
وقال الزمخشري.
فإن قلت : كيف قال { بيدك الخير } فذكر الخير دون الشر؟
قلت لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين ، وهو الذي أنكرته الكفرة ، فقال : { بيدك الخير } تؤتيه أولياءك على رغم أعدائك ، ولأن كل أفعال الله من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله.

انتهى كلامه ، وهو يدافع آخرهُ أولَه ، لأنه ذكر في السؤال؛ لم اقتصر على ذكر الخير دون الشر؟
وأجاب بالجواب الأول ، وذلك يدل على أن بيده تعالى الخير والشر ، وإنما كان اقتصاره على الخير لأن الكلام إنما وقع فيما يسوقه تعالى من الخير للمؤمنين ، فناسب الاقتصار على ذكر الخير فقط.
وأجاب بالجواب الثاني : وذلك يدل على أنه تعالى جميع أفعاله خير ليس فيها شر ، وهذا الجواب يناقض الأول.
وقال ابن عطية : خص الخير بالذكر ، وهو تعالى بيده كل شيء ، إذ الآية في معنى دعاء ورغبة ، فكان المعنى : { بيدك الخير } فأجزل حظي منه.
وقال الراغب : لما كانت في الحمد والشكر لا للحكم ، ذكر الخير إذ هو المشكور عليه.
وقال الرازي : الخير فيه الألف واللام الدالة على العموم ، وتقديم : بيدك ، يدل على الحصر ، فدل على أن لا خير إلاَّ بيده ، وأفضل الخيرات الإيمان ، فوجب أن يكون بخلق الله.
ولأن فاعل الأشرف أشرف ، والإيمان أشرف.
{ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل } قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد : المعنى ما ينتقص من النهار يزيد في الليل ، وما ينتقص من الليل يزيد في النهار ، دأباً كل فصل من السنة ، قيل : حتى يصير الناقص تسع ساعات ، والزائد خمس عشرة ساعة.
وذكر بعض معاصرينا : أجمع أرباب علم الهيئة على أن الذي تحصل به الزيادة من الليل والنهار يأخذ كل واحد منهما من صاحبه ثلاثين درجة ، فتنتهي زيادة الليل على النهار إلى أربع عشرة ساعة ، وكذلك العكس.
وذكر الماوردي : أن المعنى في الولوج هنا تغطية الليل بالنهار إذا أقبل ، وتغطية النهار بالليل ، إذا أقبل ، فصيرورة كل واحد منهما في زمان الآخر كالولوج فيه ، وأورد هذا القول احتمالاً ابن عطية ، فقال : ويحتمل لفظ الآية أن يدخل فيها تعاقب الليل والنهار ، وكان زوال أحدهما ولوج الآخر.
{ وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي } معنى الإخراج التكوين هنا ، والإخراج حقيقة هو إخراج الشيء من الظرف قال ابن مسعود ، وابن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، وإبراهيم ، والسدي ، وإسماعيل بن أبي خالة إبراهيم ، وعبد الرحمن بن زيد.
تخرج الحيوان من النطفة وهي ميتة إذا انفصلت النطفة من الحيوان ، وتخرج النطفة وهي ميتة من الرجل وهو حي ، فعلى هذا يكون الموت مجازاً إذ النطفة لم يسبق لها حياة ، ويكون المعنى : وتخرج الحي من ما لا تحله الحياة وتخرج ما لا تحله الحياة من الحي ، والإخراج عبارة عن تغير الحال.
وقال عكرمة ، والكلبي : أي الفرخ من البيضة ، والبيضة من الطير ، والموت أيضاً هنا مجاز والإخراج حقيقة.
وقال أبو مالك : النخلة من النواة ، والسنبلة من الحبة ، والنواة من النخلة ، والحبة من السنبلة ، والموت والحياة في هذا مجاز.

وقال الحسن ، وروى نحوه عن سلمان الفارسي : تخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، وهما أيضاً مجاز.
وفي الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « سبحان الله الذي يخرج الحيّ من الميت » وقد رأى امرأة صالحة مات أبوها كافراً وهي خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث.
وقال الزجاج : يخرج النبات الغض الطري من الحب ، ويخرج الحب اليابس من النبات الحيّ.
وقيل : الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب وقال الماوردي : ويحتمل يخرج الجلد الفطن من البليد العاجز ، والعكس ، لأن الفطنة حياة الحس والبلادة موته.
وقيل : يخرج الحكمة من قلب الفاجر لأنها لا تستقر فيه ، والسقطة من لسان العارف وهذه كلها مجازات بعيدة.
والأظهر في قوله { الحي من الميت } تصور اثنين وقيل : عنى بذلك شيئاً واحداً يتغير به الحال ، فيكون ميتاً ثم يحيا ، وحياً ثم يموت.
نحو قولك : جاء من فلان أسد وقال ابن عطية : ذهب جمهور من العلماء إلى أن الحياة والموت هنا حقيقتان لا استعارة فيهما ، ثم اختلفوا في المثل الذي فسروا به ، وذكر قول ابن مسعود وقول عكرمة المتقدمين ، ولا يمكن الحمل إذ ذاك على الحقيقة أصلاً ، وكذلك في الموت ، وشدّد حفص ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي : الميِّت ، في هذه الآية.
وفي الأنعام ، والأعراف ، ويونس ، والروم ، وفاطر زاد نافع تشديد الياء في : { أو من كان ميِّتاً فأحييناه } وفي الأنعام و { الأرض الميتة } في يس و { لحم أخيه ميتاً } في الحجرات.
وقرأ الباقون بتخفيف ذلك ، ولا فرق بين التشديد والتخفيف في الاستعمال ، كما تقول : لين وليّن وهين وهيّن.
ومن زعم أن المخفف لما قد مات ، والمشدّد لما قد مات ولما لم يمت فيحتاج إلى دليل.
{ وترزق من تشاء بغير حساب } تقدّم تفسير نظيره في قوله { والله يرزق من يشاء بغير حساب كان الناس أمة واحدة } فأغنى ذلك عن اعادته هنا وقال الزمخشري : ذكر قدرته الباهرة ، فذكر حال الليل والنهار في المعاقبة بينهما ، وحال الحي والميت في إخراج أحدهما من الآخر ، وعطف عليه رزقه بغير حساب دلالة على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام ، ثم قدر أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده ، فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ، ويؤتيه العرب ويعزهم. انتهى.
وهو حسن.
قيل : وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من : الفصاحة ، والبلاغة ، والبديع.
الاستفهام الذي معناه التعجب في { ألم تر إلى الذين }.
والإشارة في { نصيباً من الكتاب } فإدخال : من ، يدل على أنهم لم يحيطوا بالتوراة علماً ولا حفظاً ، وذلك إشارة إلى الإزراء بهم ، وتنقيص قدرهم وذمهم ، اذ يزعمون أنهم أخيار وهم بخلاف ذلك ، وفي قوله { ذلك بأنهم } إشارة إلى توليهم وإعراضهم اللذين سببهما افتراؤهم ، وفي { ووفيت كل نفس } إشارة إلى أن جزاء أعمالهم لا ينقص منه شيء.

والتكرار في { نصيباً من الكتاب } { يدعون إلى كتاب الله } إما في اللفظ والمعنى إن كان المدلول واحداً ، وإما في اللفظ إن كان مختلفاً.
وفي التولي والإعراض إن كانا بمعنى واحد.
وفي : { مالك الملك } { تؤتي الملك } { وتنزع الملك } وتكراره في جمل للتفخيم والتعظيم إن كان المراد واحداً ، وإن اختلف كان من تكرار اللفظ فقط ، وتكرار { من تشاء } وفي { تولج } وفي { تخرج } وفي متعلقيهما.
والاتساع في جعل : في ، بمعنى : على ، على قول من زعم ذلك في قوله { تولج الليل في النهار } أي على النهار ، { وتولج النهار في الليل } أي على الليل.
وعبر بالإيلاج عن العلو والتغشية.
والنفي المتضمن الأمر في { لا ريب فيه } على قول الزجاج ، أي لا ترتابوا فيه ، والتجنيس المماثل في { مالك الملك } والطباق : في : تؤتي وتنزع ، وتعز وتذل ، وفي الليل والنهار ، وفي الحي والميت.
ورد العجز على الصدر في : تولج ، وما بعده ، والحذف وهو في مواضع مما يتوقف فهم الكلام على تقديرها.
كقوله { تؤتي الملك من تشاء } أي من تشاء أن تؤتيه.
والإسناد المجازي في { ليحكم بينهم } أسند الحكم إلى الكتاب لأنه يبين الأحكام فهو سبب الحكم وروي في الحديث : « إن من أراد قضاء دينه قرأ كل يوم : قل اللهم مالك الملك إلى بغير حساب.
ويقول رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، تعطي منهما من تشاء إقض عني ديني.
فلو كان ملء الأرض ذهباً لأداه الله »
{ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } قيل : نزلت في عبادة بن الصامت ، كان له حلفاء من اليهود فأراد أن يستظهر بهم على العدو وقيل : في عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتوالون اليهود وقيل : في قوم من اليهود ، وهم : الحجاح بن عمر ، وكهمس بن أبي الحقيق ، وقيس بن يزيد ، كانوا يباطنون نفراً من الأنصار يفتنونهم عن دينهم فنهاهم قوم من المسلمين وقالوا : اجتنبوا هؤلاء اليهود ، فأبوا ، فنزلت هذه الأقوال مروية عن ابن عباس.
وقيل : في حاطب بن بلتعة ، وغيره كانوا يظهرون المودة لكفار قريش ، فنزلت.
ومعنى : اتخاذهم أولياء : اللطف بهم في المعاشرة ، وذلك لقرابة أو صداقة.
قبل الإسلام ، أو يد سابقة أو غير ذلك ، وهذا فيما يظهر نهوا عن ذلك ، وأما أن يتخذ ذلك بقلبه ونيته فلا يفعل ذلك مؤمن ، والمنهيون هنا قد قرر لهم الإيمان ، فالنهي هنا إنما معناه النهي عن اللطف بهم والميل إليهم ، واللطف عام في جميع الأعصار ، وقد تكرر هذا في القرآن.
ويكفيك من ذلك قوله تعالى : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } الآية ، والمحبة في الله والبغض في الله أصل عظيم من أصول الدين.
وقرأ الجمهور : لا يتخذ ، على النهي وقرأ الضبي برفع الذال على النفي ، والمراد به النهي ، وقد أجاز الكسائي فيه الرفع كقراءة الضبي.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه من تعظيم الله تعالى والثناء عليه بالأفعال التي يختص بها ، ذكر ما يجب على المؤمن من معاملة الخلق ، وكان الآيات السابقة في الكفار فنهوا عن موالاتهم وأمروا بالرغبة فيما عنده وعند أوليائه دون أعدائه إذ هو تعالى مالك الملك.
وظاهر الآية تقتضي النهي عن موالاتهم إلاَّ ما فسح لنا فيه من اتخاذهم عبيداً ، والاستعانة بهم استعانه العزيز بالذليل ، والأرفع بالأوضع ، والنكاح فيهم.
فهذا كله ضرب من الموالاة أذن لنا فيه ، ولسنا ممنوعين منه ، فالنهي ليس على عمومه.
{ من دون المؤمنين } تقدم تفسير : من دون ، في قوله { وادعوا شهداءكم من دون الله } فأغنى عن إعادته.
و : يتخذ ، هنا متعدية إلى اثنين ، و : من دون ، متعلقة بقوله : لا يتخذ ، و : من ، لابتداء الغاية قال علي بن عيسى : أي لا تجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون مكان المؤمنين.
{ ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } ذلك إشارة إلى اتخاذهم أولياء ، وهذا يدل على المبالغة في ترك الموالاة ، إذ نفي عن متوليهم أن يكون في شيء من الله ، وفي الكلام مضاف محذوف أي : فليس من ولاية الله في شيء وقيل : من دينه وقيل : من عبادته وقيل : من حزبه.
وخبر : ليس ، هو ما استقلت به الفائدة ، وهي : في شيء ، و : من الله ، في موضع نصب على الحال ، لأنه لو تأخر لكان صفة لشيء ، والتقدير : فليس في شيء من ولاية الله.
و : من ، تبعيضية نفي ولاية الله عن من اتخذ عدوه ولياً ، لأن الولايتين متنافيتان ، قال :
تود عدوي ثم تزعم أنني . . .
صديقك ، ليس النَّوْكُ عنك بعازب
وتشبيه من شبه الآية ببيت النابغة :
إذا حاولت في أسد فجورا . . .
فإني لست منك ولست مني
ليس بجيد ، لأن : منك ومني ، خبر ليس ، وتستقل به الفائدة.
وفي الآية الخبر قوله : في شيء ، فليس البيت كالآية.
قال ابن عطية { فليس من الله في شيء } معناه في شيء مرضي على الكمال والصواب ، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من غشنا فليس منا » وفي الكلام حذف مضاف تقديره : فليس من التقرب إلى الله والتزلف.
ونحو هذا مقوله : في شيء ، هو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في قوله : { ليس من الله في شيء }.
انتهى كلامه.
وهو كلام مضطرب ، لأن تقديره : فليس من التقرب إلى الله ، يقتضي أن لا يكون من الله خبراً لليس ، إذ لا يستقل.
فقوله : في شيء ، هو في موضع نصب على الحال يقتضي أن لا يكون خبراً ، فيبقى : ليس ، على قوله لا يكون لها خبر ، وذلك لا يجوز.

وتشبيهه بقوله عليه السلام : « من غشنا فليس منا » ليس بجيد لما بيناه من الفرق في بيت النابغة بينه وبين الآية.
{ إلاَّ أن تتقوا منهم تقاة } هذا استثناء مفرع من المفعول له ، والمعنى لا يتخذوا كافراً ولياً لشيء من الأشياء إلاَّ لسبب التقية ، فيجوز إظهار الموالاة باللفظ والفعل دون ما ينعقد عليه القلب والضمير ، ولذلك قال ابن عباس : التقية المشار إليها مداراة ظاهرة وقال : يكون مع الكفار أو بين أظهرهم ، فيتقيهم بلسانه ، ولا مودة لهم في قلبه.
وقال قتادة : إذا كان الكفار غالبين ، أو يكون المؤمنون في قوم كفار فيخافونهم ، فلهم أن يحالفوهم ويداروهم دفعاً للشر وقلبهم مطمئن بالإيمان.
وقال ابن مسعود : خالطوا الناس وزايلوهم وعاملوهم بما يشتهون ، ودينكم فلا تثلموه.
وقال صعصعة بن صوحان لأسامة بن زيد : خالص المؤمن وخالق الكافر ، إن الكافر يرضى منك بالخلق الحسن.
وقال الصادق : التقية واجبة ، إني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فاستتر منه بالسارية لئلا يراني وقال : الرياء مع المؤمن شرك ، ومع المنافق عبادة.
وقال معاذ بن جبل ، ومجاهد : كانت التقية في جدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين ، فأما اليوم فقد أعز الله المسلمين أن يتقوهم بأن يتقوا من عدوهم.
وقال الحسن : التقية جائزة إلى يوم القيامة ، ولا تقية في القتل وقال مجاهد : إلا أن تتقوا قطيعة الرحم فخالطوهم في الدنيا.
وفي قوله { إِلا أَن تتقوا } التفات ، لأنه خرج من الغيبة إلى الخطاب ، ولو جاء على نظم الأول لكان : إلا أن يتقوا ، بالياء المعجمة من أسفل ، وهذا النوع في غاية الفصاحة ، لأنه لما كان المؤمنون نهوا عن فعل ما لا يجوز ، جعل ذلك في اسم غائب ، فلم يواجهوا بالنهي ، ولما وقعت المسامحة والإذن في بعض ذلك ووجهوا بذلك إيذاناً بلطف الله بهم ، وتشريفاً بخطابه إياهم.
وقرأ الجمهور : تقاة ، وأصله : وقية ، فأبدلت الواو تاء ، كما أبدلوها في : تجاه وتكاه ، وانقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وهو مصدر على فعلة : كالتؤدة والتخمة ، والمصدر على فعل أو فعلة جاء قليلاً.
وجاء مصدراً على غير الصدر ، إذ لو جاء على المقيس لكان : اتقاء ونظير وقوله تعالى : { وتبتل إليه تبتيلا } وقول الشاعر :
ولاح بجانب الجبلين منه . . .
ركام يحفر الأرض احتفاراً
والمعنى : إلاَّ أن تخافوا منهم خوفاً.
وأمال الكسائي : تقاة ، وحق تقاته ، ووافقه حمزة هنا وقرأ ورش بين اللفظين ، وفتح الباقون.
وقال الزمخشري : إلاَّ أن تخافوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه وقرىء : تقية.
وقيل : للمتقي تقاة وتقية ، كقولهم : ضرب الأمير لمضروبه.
انتهى فجعل : تقاة ، مصدراً في موضع اسم المفعول ، فانتصابه على أنه مفعول به لا على أنه مصدر ، ولذلك قدره إلاَّ أن تخافوا أمراً.
وقال أبو عليّ : يجوز أن يكون : تقاة ، مثل : رماة ، حالاً من : تتقوا ، وهو جمع فاعل ، وإن كان لم يستعمل منه فاعل ، ويجوز أن يكون جمع تقي.

انتهى كلامه.
وتكون الحال مؤكدة لأنه قد فهم معناها من قوله { إلا أن تتقوا منهم } وتجويز كونه جمعاً ضعيف جدّاً ، ولو كان جمع : تقي ، لكان أتقياء ، كغني وأغنياء ، وقولهم : كمي وكماة ، شاذ فلا يخرّج عليه ، والذي يدل على تحقيق المصدرية فيه قوله تعالى : { اتقوا الله حق تقاته } المعنى حق اتقائه ، وحسن مجيء المصدر هكذا ثلاثياً أنهم قد حذفوا : اتقى ، حتى صار : تقي يتقي ، تق الله فصار كأنه مصدر لثلاثي.
وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، وقتادة ، والضحاك ، وأبو حيوة ، ويعقوب ، وسهل ، وحميد بن قيس ، والمفضل عن عاصم : تقية على وزن مطية وجنية ، وهو مصدر على وزن : فعيلة ، وهو قليل نحو : النميمة.
وكونه من افتعل نادر.
وظاهر الآية يقتضى جواز موالاتهم عند الخوف منهم ، وقد تكلم المفسرون هنا في التقية ، إذ لها تعلق بالآية ، فقالو : أما الموالاة بالقلب فلا خلاف بين المسلمين في تحريمها ، وكذلك الموالاة بالقول والفعل من غير تقية ، ونصوص القرآن والسنة تدل على ذلك ، والنظر في التقية يكون فيمن يتقى منه؟ وفيما يبيحها؟ وبأي شيء تكون من الأقوال والأفعال؟ فأما من يتقى منه فكل قادر غالب يكره بجور منه ، فيدخل في ذلك : الكفار ، وجورة الرؤساء ، والسلابة ، وأهل الجاه في الحواضر.
قال مالك : وزوج المرأة قد يكره؛ وأما ما يببحها : فالقتل ، والخوف على الجوارح ، والضرب بالسوط ، والوعيد ، وعداوة أهل الجاه الجورة.
وأما بأي شيء تكون من الأقوال؟ فبالكفر فما دونه من : بيع ، وهبة ، وغير ذلك.
وأما من الأفعال : فكل محرم.
وقال مسروق : إن لم يفعل حتى مات دخل النار ، وهذا شاذ.
وقال جماعة من أهل العلم : التقية تكون في الأقوال دون الأفعال ، روي ذلك عن ابن عباس ، والربيع ، والضحاك.
وقال أصحاب أبي حنيفة : التقية رخصة من الله تعالى ، وتركها أفضل ، فلو أكره على الكفر فلم يفعل حتى قتل فهو أفضل ممن أظهر ، وكذلك كل أمر فيه إعزاز الدين فالإقدام عليه حتى يقتل أفضل من الأخذ بالرخصة.
قال أحمد بن حنبل ، وقد قيل له : إن عرضت على السيف تجيب؟ قال : لا.
وقال : إذا أجاب العالم تقية ، والجاهل يجهل ، فمتى يتبين الحق؟ والذي نقل إلينا خلفاً عن سلف أن الصحابة ، وتابعيهم ، بذلوا أنفسهم في ذات الله.
وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم ولا سطوة جبار ظالم.
وقال الرازي : إنما تجوز التقية فيما يتعلق بإظهار الحق والدين ، وأما ما يرجع ضرورة إلى الغير : كالقتل ، والزنا ، وغصب الأموال ، والشهادة بالزور ، وقذف المحصنات ، وإطلاع الكفار على عورات المسلمين فغير جائز البتة.
وظاهر الآية يدل على أنها مع الكفار الغالبين ، إلاَّ أن مذهب الشافعي : أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحال بين المشركين جازت التقية محاماة عن النفس ، وهي جائزة لصون النفس والمال.

انتهى.
قيل : وفي الآية دلالة على أنه لا ولاية لكافر على مسلم في شيء ، فإذا كان له ابن صغير مسلم بإسلام أمه فلا ولايه له عليه في تصرف ولا تزوّج ولا غيره.
قيل : وفيها دلالة على أن الذمي لا يعقل جناية المسلم ، وكذلك المسلم لا يعقل جنايته ، لأن ذلك من الموالاة والنصرة والمعونة.
{ ويحذركم الله نفسه } قال ابن عباس : بطشه ، وقال الزجاج : نفسه أي : إياه تعالى ، كما قال الأعشى :
يوماً بأجود نائلاً منه إذا . . .
نفس الجبان تجهمت سؤَّالها
أراد إذا البخيل تجهم سؤاله.
قال ابن عطية : وهذه مخاطبة على معهود ما يفهمه البشر ، والنفس في مثل هذا راجع إلى الذات.
وفي الكلام حذف مضاف لأن التحذير إنما هو من عقاب وتنكيل ونحوه.
فقال ابن عباس ، والحسن : ويحذركم الله عقابه.
انتهى كلامه.
ولما نهاهم تعالى عن اتخاذ الكافرين أولياء ، حذرهم من مخالفته بموالاة أعدائه قال : { وإلى الله المصير } أي : صيرورتكم ورجوعكم ، فيجازيكم إن ارتكبتم موالاتهم بعد النهي.
وفي ذلك تهديد ووعيد شديد.
{ قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله } تقدّم تفسير نظير هذه الآية في أواخر آي البقرة ، وهناك قدّم الإبداء على الإخفاء ، وهنا قدم الإخفاء على الإبداء ، وجعل محلهما ما في الصدور ، وأتى جواب الشرط قوله : { يعلمه الله } وذلك من التفنن في الفصاحة.
والمفهوم أن الباري تعالى مطلع على ما في الضمائر ، لا يتفاوت علمه تعالى بخفاياها ، وهو مرتب على ما فيها الثواب والعقاب إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر.
وفي ذلك تأكيد لعدم الموالاة ، وتحذير من ذلك.
{ ويعلم ما في السموات وما في الأرض } هذا دليل على سعة علمه ، وذكر عموم بعد خصوص ، فصار علمه بما في صدورهم مذكوراً مرتين على سبيل التوكيد ، أحدهما : بالخصوص ، والآخر : بالعموم ، إذ هم ممن في الأرض.
{ والله على كل شيء قدير } فيه تحذير مما يترتب على علمه تعالى بأحوالهم من المجازاة على ما أكنته صدروهم.
وقال الزمخشري : وهذا بيان لقوله { ويحذركم الله نفسه } لأن نفسه ، وهي ذاته المتميزة من سائر الذوات ، متصفة بعلم ذاتي لا يختص بمعلوم دون معلوم ، فهي متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور ، فهي قادرة على المقدورات كلها ، فكان حقها أن تحذر وتتقى ، فلا يجسر أحد على قبيح ، ولا يقصر عن واجب ، فإن ذلك مطلع عليه لا محالة ، فلا حق به العذاب. انتهى.
وهو كلام حسن ، وفيه التصريح بإثبات صفة العلم ، والقدرة لله تعالى ، وهو خلاف ما عليه أشياخه من المعتزلة ، وموافقة لأهل السنة في إثبات الصفات.
{ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا } اختلف في العامل في : يوم ، فقال الزجاج : العامل فيه : ويحذركم ، ورجحه.

وقال أيضاً : العامل فيه : المصير.
وقال مكي بن أبي طالب : العامل فيه : قدير ، وقال أيضاً : فيه مضمر تقديره اذكر.
وقال ابن جرير : تقديره : اتقوا ، ويضعف نصبه بقوله : ويحذركم ، لطول الفصل.
هذا من جهة اللفظ ، وأما من جهة المعنى فلأن التحذير موجود ، واليوم موعود ، فلا يصح له العمل فيه ، ويضعف انتصابه : بالمصير ، للفصل بين المصدر ومعموله ، ويضعف نصبه : بقدير ، لأن قدرته على كل شيء لا تختص بيوم دون يوم ، بل هو تعالى متصف بالقدرة دائماً.
وأما نصبه باضمار فعل ، فالإضمار على خلاف الأصل.
وقال الزمخشري : { يوم تجد } منصوب : بتود ، والضمير في : بينه ، ليوم القيامة ، حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين تتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمداً بعيداً.
انتهى هذا التخريج.
والظاهر في بادىء النظر حسنه وترجيحه ، إذ يظهر أنه ليس فيه شيء من مضعفات الأقوال السابقة ، لكن في جواز هذه المسألة ونظائرها خلاف بين النحويين ، وهي : إذا كان الفاعل ضميراً عائداً على شيء اتصل بالمعمول للفعل ، نحو : غلام هند ضربت ، وثوبي أخويك يلبسان ، ومال زيد أخذ ، فذهب الكسائي ، وهشام ، وجمهور البصريين : إلى جواز هذه المسائل.
ومنها الآية على تخريج الزمخشري ، لأن الفاعل : بتودّ ، هو ضمير عائد على شيء اتصل بمعمول : تودّ ، وهو : يوم ، لأن : يوم ، مضاف إلى : تجد كل نفس ، والتقدير : يوم وجدان كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تودّ.
وذهب الفراء ، وأبو الحسن الأخفش ، وغيره من البصريين إلى أن هذه المسائل وأمثالها لا تجوز ، لأن هذا المعمول فضلة ، فيجوز الاستغناء عنه ، وعود الضمير على ما اتصل به في هذه المسائل يخرجه عن ذلك ، لأنه يلزم ذكر المعمول ليعود الضمير الفاعل على ما اتصل به ، ولهذه العلة امتنع : زيداً ضرب ، وزيداً ظنّ قائماً.
والصحيح جواز ذلك قال الشاعر :
أجل المرء يستحث ولا يد . . .
ري إذا يبتغي حصول الأماني
أي : المرء في وقت ابتغائه حصول الأماني يستحث أجله ولا يشعر.
و : تجد ، الظاهر أنها متعدّية إلى واحد وهو : ما عملت ، فيكون بمعنى نصيب ، ويكون : محضراً ، منصوباً على الحال.
وقيل : تجد ، هنا بمعنى : تعلم ، فتتعدّى إلى اثنين ، وينتصب : محضراً على أنه مفعول ثان لها ، وما ، في : ما عملت ، موصولة ، والعائد عليها من الصلة محذوف ، ويجوز أن تكون مصدرية أي : عملها ، ويراد به إذ ذاك اسم المفعول ، أي : معمولها ، فقوله : ما عملت ، هو على حذف مضاف أي : جزاء ما عملت وثوابه.
قيل : ومعنى : محضراً على هذا موفراً غير مبخوس.
وقيل : ترى ما عملت مكتوباً في الصحف محضراً إليها تبشيراً لها ، ليكون الثواب بعد مشاهدة العمل.
وقرأ الجمهور : محضراً ، بفتح الضاد ، اسم مفعول.
وقرأ عبيد بن عمير : محضرا بكسر الضاد ، أي محضراً الجنة أو محضراً مسرعاً به إلى الجنة من قولهم : أحضر الفرس ، إذا جرى وأسرع.

و : ما عملت من سوء ، يجوز أن تكون في موضع نصب ، معطوفاً على : ما عملت من خير ، فيكون المفعول الثاني إن كان : تجد ، متعدّية إليهما ، أو الحال إن كان يتعدّى إلى واحد محذوفاً ، أي : وما عملت من سوء محضراً.
وذلك نحو : ظننت زيداً قائماً وعمراً ، إذا أردت : وعمراً قائماً ، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون : تودّ ، مستأنفاً.
ويجوز أن يكون : تود ، في موضع الحال أي : وادة تباعد ما بينها وبين ما عملت من سوء ، فيكون الضمير في بينه عائداً على ما عملت من سوء ، وأبعد الزمخشري في عوده على اليوم ، لأن أحد القسمين اللذين أحضر له في ذلك اليوم هو : الخير الذي عمله ، ولا يطلب تباعد وقت إحضار الخير إلاَّ بتجوّز إذا كان يشتمل على إحضار الخير والشر ، فتودّ تباعده لتسلم من الشر ، ودعه لا يحصل له الخير.
والأولى : عوده على : ما عملت من السوء ، لأنه أقرب مذكور ، لأن المعنى : أن السوء يتمنى في ذلك اليوم التباعد منه ، وإلى عطف : ما عملت من سوء ، على : ما عملت من خير ، وكون ، تودّ ، في موضع الحال ذهب إليه الطبري ، ويجوز أن يكون : وما عملت من سوء ، موصولة في موضع رفع بالابتداء و : تودّ ، جملة في موضع الخبر : لما ، التقدير : والذي عملته من سوء تودّ هي لو تباعد ما بينها وبينه ، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري وثنى به ابن عطية ، واتفقا على أنه لا يجوز أن يكون : وما عملت من سوء ، شرطاً.
قال الزمخشري : لارتفاع : تودّ.
وقال ابن عطية : لأن الفعل مستقبل مرفوع يقتضى جزمه ، اللهم إلاَّ أن يقدر في الكلام محذوف ، أي : فهي تودّ ، وفي ذلك ضعف.
انتهى كلامه.
وظهر من كلاميهما امتناع الشرط لأجل رفع : تودّ ، وهذه المسألة كان سألني عنها قاضي القضاة أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي ، رحمه الله ، واستشكل قول الزمخشري.
وقال : ينبغي أن يجوز غاية ما في هذا أن يكون مثل قول زهير :
وإن أتاه خليل يوم مسألة . . .
يقول : لا غائب مالي ولا حرم
وكتبت جواب ما سألني عنه في كتابي الكبير المسمى : ( بالتذكرة ) ، ونذكر هنا ما تمس إليه الحاجة من ذلك ، بعد أن نقدّم ما ينبغي تقديمه في هذه المسألة ، فنقول : إذا كان فعل الشرط ماضياً ، وما بعده مضارع تتم به جملة الشرط والجزاء ، جاز في ذلك المضارع الجزم ، وجاز فيه الرفع ، مثال ذلك : إن قام زيد يقوم عمرو ، وان قام زيد يقم عمرو.
فاما الجزم فعلى أنه جواب الشرط ، ولا تعلم في جواز ذلك خلافاً ، وأنه فصيح ، إلاَّ ما ذكره صاحب كتاب ( الإعراب ) عن بعض النحويين أنه : لا يجيء في الكلام الفصيح ، وإنما يجيء مع : كان ، لقوله تعالى

{ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها } لأنها أصل الأفعال ، ولا يجوز ذلك مع غيرها.
وظاهر كلام سيبويه ، ونص الجماعة ، أنه لا يختص ذلك بكان ، بل سائر الأفعال في ذلك مثل كان ، وأنشد سيبويه للفرزدق :
دسَّت رسولاً بأن القوم إن قدروا . . .
عليك يشفوا صدوراً ذات توغير
وقال أيضاً :
تعال فإن عاهدتني لا تخونني . . .
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
وأما الرفع فإنه مسموع من لسان العرب كثير.
وقال بعض أصحابنا : وهو أحسن من الجزم ، ومنه بين زهير السابق إنشاده ، وهو قوله أيضاً :
وإن سل ريعان الجميع مخافة . . .
يقول جهاراً : ويلكم لا تنفروا
وقال أبو صخر :
ولا بالذي إن بان عنه حبيبه . . .
يقول ويخفي الصبر : إني لجازع
وقال الآخر :
وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه . . .
تشوّف أهل الغائب بالمتنظِّر
وقال الآخر :
وإن كان لا يرضيك حتى تردّني . . .
إلى قطري لا إخالك راضياً
وقال الآخر :
إن يسألوا الخير يعطوه ، وإن خبروا . . .
في الجهد أدرك منهم طيب إخبار
فهذا الرفع ، كما رأيت كثير ، ونصوص الأمة على جوازه في الكلام ، وإن اختلفت تأويلاتهم كما سنذكره.
وقال صاحبنا أبو جعفر أحمد بن رشيد المالقي ، وهو مصنف ( رصف المباني ) رحمه الله : لا أعلم منه شيئاً جاء في الكلام ، وإذا جاء فقياسه الجزم لأنه أصل العمل في المضارع ، تقدّم الماضي أو تأخر ، وتأوّل هذا المسموع على إضمار الفاء ، وجعله مثل قول الشاعر :
إنك إن يصرع أخوك تصرع . . .
.
على مذهب من جعل الفاء منه محذوفة.
وأما المقدّمون فاختلفوا في تخريج الرفع ، فذهب سيبويه إلى أن ذلك على سبيل التقديم.
وأما جواب الشرط فهو محذوف عنده.
وذهب الكوفيون ، وأبو العباس إلى أنه هو الجواب حذفت منه الفاء ، وذهب غيرهما إلى أنه لما لم يظهر لأداة الشرط تأثير في فعل الشرط ، لكونه ماضياً ، ضعف عن العمل في فعل الجواب ، وهو عنده جواب لا على إضمار الفاء ، ولا على نية التقديم ، وهذا والمذهب الذي قبله ضعيفان.
وتلخص من هذا الذي قلناه : أن رفع المضارع لا يمنع أن يكون ما قبله شرطاً ، لكن امتنع أن يكون : وما عملت ، شرطاً لعلة أخرى ، لا لكون : تود ، مرفوعاً ، وذلك على ما نقرره على مذهب سيبويه من أن النية بالمرفوع التقديم ، ويكون إذ ذاك دليلاً على الجواب لا نفس الجواب ، فنقول : إذا كان : تود ، منوياً به كالتقديم أدّى إلى تقدّم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناة في العربية.
ألا ترى أن الضمير في قوله : وبينه ، عائد على اسم الشرط الذي هو : ما ، فيصير التقدير : تود كل نفس لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ما عملت من سوء؟ فيلزم من هذا التقدير تقدّم المضمر على الظاهر ، وذلك لا يجوز.

فإن قلت : لم لا يجوز ذلك والضمير قد تأخر عن اسم الشرط؟ فإن كان نيته التقديم فقد حصل عود الضمير على الاسم الظاهر قبله ، وذلك نظير : ضرب زيداً غلامه ، فالفاعل رتبته التقديم ووجب تأخيره لصحة عود الضمير.
فالجواب : إن اشتمال الدليل على ضمير اسم الشرط يوجب تأخيره عنه لعود الضمير ، فيلزم من ذلك اقتضاء جملة الشرط لجملة الدليل ، وجملة الشرط إنما تقتضي جملة الجزاء لا جملة دليله ، ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل ، بل إنما تعمل في جملة الجزاء وجملة الدليل لا موضع لها من الإعراب.
وإذا كان كذلك تدافع الأمر ، لأنها من حيث هي جملة دليل لا يقتضيها فعل الشرط ، ومن حيث عود الضمير على اسم الشرط اقتضتها ، فتدافعا.
وهذا بخلاف : ضرب زيداً غلامه ، هي جملة واحدة ، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معاً ، وكل واحد منهما يقتضي صاحبه ، ولذلك جاز عند بعضهم : ضرب غلامها هنداً ، لاشتراك الفاعل المضاف للضمير والمفعول الذي عاد عليه الضمير في العامل ، وامتنع : ضرب غلامها جار هند ، لعدم الاشتراك في العامل ، فهذا فرق ما بين المسألتين.
ولا يحفظ من لسان العرب : أودَّ لو أني أكرمه أياً ضربت هند ، لأنه يلزم منه تقديم المضمر على مفسره في غير المواضع التي ذكرها النحويون ، فلذلك لا يجوز تأخيره.
وقرأ عبد الله ، وابن أبي عبلة : من سوء ودّت لو أن ، وعلى هذه القراءة يجوز أن تكون : ما ، شرطية في موضع نصب ، فعملت.
أو في موضع رفع على إضمار الهاء في : عملت ، على مذهب الفراء ، إذ يجيز ذلك في اسم الشرط في فصيح الكلام ، وتكون : ودّت ، جزاء الشرط.
قال الزمخشري : لكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع في المعنى ، لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم ، وأثبت لموافقة قراءة العامة. انتهى.
و : لو ، هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابها محذوف ، ومفعول : تود ، محذوف ، والتقدير : تود تباعد ما بينهما لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً لسرت بذلك ، وهذا الإعراب والتقدير هو على المشهور في : لو ، و : أن ، وما بعدها في موضع مبتداً على مذهب سيبويه ، وفي موضع فاعل على مذهب أبي العباس.
وأمّا على قول من يذهب إلى أن : لو ، بمعنى : أن ، وأنها مصدرية فهو بعيد هنا لولايتها أن وأن مصدرية ، ولا يباشر حرف مصدري حرفاً مصدرياً إلاَّ قليلاً ، كقوله تعالى { مثل ما أنكم تنطقون } والذي يقتضيه المعنى أن : لو أن ، وما يليها هو معمول : لتودّ ، في موضع المفعول به.
قال الحسن : يسر أحدهم أن لا يلقى عمله ذلك أبداً ، ذلك معناه.
ومعنى أمداً بعيداً : غاية طويلة ، وقيل : مقدار أجله ، وقيل : قدر ما بين المشرق والمغرب.
{ ويحذركم الله نفسه }.
كرر التحذير للتوكيد والتحريض على الخوف من الله بحيث يكونون ممتثلي أمره ونهيه.

{ والله رؤوف بالعباد } لما ذكر صفة التخويف وكررها ، كان ذلك مزعجاً للقلوب ، ومنبهاً على إيقاع المحذور مع ما قرن بذلك من اطلاعه على خفايا الأعمال واحضاره لها يوم الحساب ، وهذا هو الاتصاف بالعلم والقدرة اللذين يجب أن يحذر لأجلهما ، فذكر صفة الرحمة ليطمع في إحسانه ، وليبسط الرجاء في أفضاله ، فيكون ذلك من باب ما إذا ذكر ما يدل على شدّة الأمر ، ذكر ما يدل على سعة الرحمة ، كقوله تعالى : { إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم } وتكون هذه الجملة أبلغ في الوصف من جملة التخويف ، لأن جملة التخويف جاءت بالفعل الذي يقتضي المطلق ولم يتكرر فيها اسم الله ، وجاء المحذر مخصوصاً بالمخاطب فقط ، وهذه الجملة جاءت إسمية ، فتكرر فيها اسم الله ، إذ الوصف محتمل ضميره تعالى ، وجاء المحكوم به على وزن فعول المقتضي للمبالغة والتكثير ، وجاء بأخص ألفاظ الرحمة وهو : رؤوف ، وجاء متعلقه عاماً ليشمل المخاطب وغيره ، وبلفظ العباد ليدل على الإحسان التام ، لأن المالك محسن لعبده وناظر له أحسن نظر ، إذ هو ملكه.
قالوا : ويحتمل أن يكون إشارة إلى التحذير ، أي : إن تحذيره نفسه وتعريفه حالها من العلم والقدرة من الرأفة العظيمة بالعباد ، لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة وحذروا دعاهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه.
وعن الحسن : من رأفته بهم أن حذرهم نفسه ، وقال الحوفي : جعل تحذيرهم نفسه إياه ، وتخويفهم عقابه رأفة بهم ، ولم يجعلهم في عمىً من أمرهم.
وروي عن ابن عباس هذا المعنى أيضاً ، والكلام محتمل لذلك ، لكن الأظهر الأول ، وهو أن يكون ابتداء إعلامه بهذه الصفة على سبيل التأنيس والإطماع لئلا يفرط الوعيد على قلب المؤمن.
{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم }.
نزلت في اليهود ، قالوا : { نحن أبناء الله وأحباؤه } أو : في قول المشركين { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } قالوا ذلك ، وقد نصبت قريش أصنامها يسجدون لها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا معشر قريش لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم » وكلا هذين القولين عن ابن عباس.
وقال الحسن ، وابن جريج : في قوم قالوا : إنا لنحب ربنا حباً شديداً.
وقال محمد بن جعفر بن الزبير : في وفد نجران حيث قالوا : إنا نعظم المسيح حباً لله. انتهى.
ولفظ الآية يعم كل من ادّعى محبة الله ، فمحبة العبد لله عبارة عن ميل قلبه إلى ما حدّه له تعالى وأمره به ، والعمل به واختصاصه إياه بالعبادة ، ومحبته تعالى للعبد تقدّم الكلام عليها ، وهل هي من صفات الذات أم من صفات الفعل ، فأغنى عن إعادته.
رتب تعالى على محتبهم له اتباع رسوله محبته لهم ، وذلك أن الطريق الموصل إلى رضاه تعالى إنما هو مستفاد من نبيه ، فإنه هو المبين عن الله ، إذ لا يهتدي العقل إلى معرفة أحكام الله في العبادات ولا في غيرها ، بل رسوله صلى الله عليه وسلم هو الموضح لذلك ، فكان اتباعه فيما أتى به احتماء لمن يحب أن يعمل بطاعة الله تعالى.

وقرأ الجمهور : تحبون ، ويحببكم ، من أحب.
وقرأ أبو رجاء العطاردي : تحبون ويحببكم ، بفتح التاء والياء من حب ، وهما لغتان وقد تقدّم ذكرهما.
وذكر الزمخشري أنه قرىء : يحبكم ، بفتح الياء والإدغام.
وقرأ الزهري : فاتبعوني ، بتشديد النون ، ألحق فعل الأمر نون التوكيد وأدغمها في نون الوقاية ، ولم يحذف الواو شبهاً : بأتحاجوني ، وهذا توجيه شذوذ.
قال الزمخشري : أراد أن يجعل لقولهم تصديقاً من عمل ، فمن أدّعى محبته وخالف سنة رسوله فهو كذاب ، وكتاب الله يكذبه.
ثم ذكر من يذكر محبة الله ، ويصفق بيديه مع ذكرها ، ويطرب وينعر ويصفق ، وقبح من فعله هذا ، وزرى على فاعل ذلك بما يوقف عليه في كتابه.
وروي عن أبي عمر إدغام : راء ، و : يغفر لكم ، في لام : لكم ، وذكر ابن عطية عن الزجاج أن ذلك خطأ وغلط ممن رواها عن أبي عمرو ، وقد تقدّم لنا الكلام على ذلك ، وذكرنا أن رؤساء الكوفة : أبا جعفر الرؤاسي ، والكسائي ، والفراء رووا ذلك عن العرب ، ورأسان من البصريين وهما : أبو عمرو ، ويعقوب قرآ بذلك وروياه ، فلا التفات لمن خالف في ذلك.
{ قل أطيعوا الله والرسول } هذا توكيد لقوله : فاتبعوني ، وروي عن ابن عباس أنه لما نزل { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } قال عبد الله بن أبي لاصحابه : إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله ، ويأمر بأن نحبه كما أحبت النصارى عيسى بن مريم ، فنزل { قل أطيعوا الله }.
{ فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين } يحتمل أن يكون : تولوا ، ماضياً.
ويحتمل أن يكون مضارعاً حذفت منه التاء ، أي : فإن تتولوا ، والمعنى : فإن تولوا عما أمروا به من اتباعه وطاعته فإن الله لا يحب من كان كافراً.
وجعل من لم يتبعه ولم يطعه كافراً ، وتقييد انتفاء محبة الله بهذا الوصف الذي هو الكفر مشعر بالعلية ، فالمؤمن العاصي لا يندرج في ذلك.
قيل : وفي هذه الآيات من ضروب الفصاحة وفنون البلاغة الخطاب العام الذي سببه خاص.
وفي قوله { لا يتخذ المؤمنون الكافرين } والتكرار ، في قوله : المؤمنون من دون المؤمنين ، وفي قوله : من الله ، ويحذركم الله نفسه ، وإلى الله ، وفي : يعلمه الله ، ويعلم ، وفي قوله : يعلمه الله ، والله على ، وفي قوله : ما عملت ، وما عملت ، وفي قوله : الله نفسه ، والله ، وفي قوله : ويحذركم الله ، والله روؤف ، وفي قوله : تحبون الله ، يحببكم الله ، والله غفور ، قل أطيعوا الله ، فإن الله.
والتجنيس المماثل في : تحبون ويحببكم ، والتجنيس المغاير ، في : تتقوا منهم تقاه ، وفي يغفر لكم وغفور.
والطباق في : تخفوا وتبدوه ، وفي : من خير ومن سوء ، وفي : محضراً وبعيداً.
والتعبير بالمحل عن الشيء في قوله : ما في صدوركم ، عبر بها عن القلوب ، قال تعالى : { فإنها لا تعمى الأبصار } الآية.
والإشارة في قوله : ومن يفعل ذلك ، الآية.
أشار إلى انسلاخهم من ولاية الله.
والاختصاص في قوله : ما في صدوركم ، وفي قوله : ما في السموات وما في الأرض.
والتأنيس بعد الإيحاش في قوله : والله رؤوف بالعباد ، والحذف في عدة مواضع تقدم ذكرها في التفسير.

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)

نوح : اسم أعجمي مصروف عند الجمهور وإن كان فيه ما كان يقتضي منع صرفه وهو : العلمية والعجمة الشخصية ، وذلك لخفة البناء بكونه ثلاثياً ساكن الوسط لم يضف إليه سبب آخر ، ومن جوز فيه الوجهين فبالقياس على هذا لا بالسماع ، ومن ذهب إلى أنه مشتق من النواح فقوله ضعيف ، لأن العجمة لا يدخل فيها الاشتقاق العربي إلاَّ إِنْ ادعى أنه مما اتفقت فيه لغة العرب ولغة العجم ، فيمكن ذلك.
ويسمى : آدم الثاني واسمه السكن ، قاله غير واحد ، وهو ابن لملك بن متوشلخ بن اخنوخ بن سارد بن مهلابيل بن قينان بن انوش بن شيث بن آدم.
عمران : اسم أعجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة ، ولو كان عربياً لامتنع أيضاً للعلمية ، وزيادة الألف والنون إذ كان يكون اشتقاقه من العمر واضحاً.
محرراً : اسم مفعول من حرر ، ويأتي اختلاف المفسرين في مدلوله في الآية ، والتحرير : العتق ، وهو تصيير المملوك حراً.
الوضع : الحط والإلقاء ، تقول : وضع يضع وضعاً وضعة ، ومنه الموضع.
الأنثى والذكر : معروفان ، وألف أنثى للتأنيث ، وجمعت على إناث ، كربى ورباب ، وقياس الجمع : أناثى ، كحبلى وحبالى.
وجمع الذكر : ذكور وذكران.
مريم : اسم عبراني ، وقيل عربي جاء شاذاً : كمدين ، وقياسه : مرام كمنال ، ومعناه في العربية التي تغازل الفتيان ، قال الراجز :.
قلت لزيد لم تصله مريمه . . .
عاذ بكذا : اعتصم به ، عوذاً وعياذاً ومعاذاً ومعاذة ومعناه : التجأ واعتصم وقيل : اشتقاقه من العوذ وهو : عوذ يلجأ إليه الحشيش في مهب الريح.
رجم : رمى وقذف ، ومنه { رجماً بالغيب } أي : رمياً به من غير تيقن ، والحديث المرجم هو : المظنون ليس فيه يقين.
والرجيم : يحتمل أن يكون للمبالغة من فاعل ، أي إنه يرمي ويقذف بالشر والعصيان في قلب ابن آدم ، ويحتمل أن يكون بمعنى : مرجوم ، أي يُرجم بالشهب أو يبعد ويطرد.
الكفالة : الضمان ، يقال : كفل يكفل فهو كافل وكفيل ، هذا أصله ثم يستعار للضم والقيام على الشيء.
زكريا : أعجمي شبه بما فيه الألف الممدودة والألف المقصورة فهو ممدود ومقصور ، ولذلك يمتنع صرفه نكرة ، وهاتان اللغتان فيه عند أهل الحجاز ، ولو كان امتناعه للعلمية والعجمة انصرف نكرة.
وقد ذهب إلى ذلك أبو حاتم ، وهو غلط منه ، ويقال : ذكرى بحذف الألف ، وفي آخره ياء كياء بحتى ، منونة فهو منصرف ، وهي لغة نجد ، ووجهه فيما قال أبو علي؛ إنه حذف ياءي الممدود والمقصور ، وألحقه ياءي النسب يدل على ذلك صرفه ، ولو كانت الياآن هما اللتين كانتا في زكريا لوجب أن لا يصرف للعجمة والتعريف.
انتهى كلامه.
وقد حكي : ذكر على وزن : عمر ، وحكاها الأخفش.
المحراب : قال أبو عبيدة : سيد المجالس وأشرفها ومقدمها ، وكذلك هو من المسجد ، وقال الاصمعي : الغرفة وقال :

وماذا عليه إن ذكرت أوانساً . . .
كغزلان رمل في محاريب أقيالِ
شرحه الشراح في غرف أقيال وقال الزجاج : الموضع العالي الشريف وقال أبو عمرو بن العلاء : القصر ، لشرفه وعلوه وقيل : المسجد وقيل : محرابه المعهود سمي بذلك لتحارب الناس عليه وتنافسهم فيه ، وهو مقام الإمام من المسجد.
هنا : اسم إشارة للمكان القريب ، والتزم فيه الظرفية إلاَّ أنه يجر بحرف الجر ، فإن ألحقته كاف الخطاب دل على المكان البعيد.
وبنو تميم تقول : هناك ، ويصح دخول حرف التنبيه عليه إذا لم تكن فيه اللام ، وقد يراد بها ظرف الزمان.
النداء : رفع الصوت ، وفلان أندى صوتاً ، أي أرفع ، ودار الندوة لأنهم كانوا ترتفع أصواتهم بها ، والمنتدى والنادي مجتمع القوم منه ، ويقال : نادى مناداة ونِداء ونُداء ، بكسر النون وضمها قيل : فبالكسر المصدر ، وبالضم اسم ، وأكثر ما جاءت الأصوات على الضم : كالدُعاء والرُغاء والصُراخ وقال يعقوب : يمد مع كسر النون ، ويقصر مع ضمها.
والندى : المطر ، يقال منه ندى يندى ندى.
يحيي : اسم أعجمي امتنع الصرف للعجمة والعلمية ، وقيل : هو عربي ، وهو فعل مضارع من : حيى ، سمي به فامتنع الصرف للعلمية ووزن الفعل ، وعلى القولين يجمع على : يحيون ، بحذف الألف وفتح ما قبلها على مذهب الخليل ، وسيبويه ونقل عن الكوفيين : إن كان عربياً فتحت الياء ، وإن كان أعجمياً ضمت الياء.
سيد : فيعل من : ساد ، أي : فاق في الشرف ، وتقدم الكلام في نظير هذا ، وجمعه على : فعلة ، فقالوا : سادة ، شاذ وقال الراغب : هو السايس بسواد الناس ، أي : معظمهم ، ولهذا يقال : سيد العبد ، ولا يقال سيد الثوب. انتهى.
الحصور : فعول من الحصر ، وهو للمبالغة من حاصر وقيل : فعول بمعنى مفعول ، أي محصور ، وهو في الآية بمعنى الذي لا يأتي النساء.
الغلام : الشاب من الناس ، وهو الذي طرّ شاربه ، ويطلق على الطفل على سبيل التفاؤل ، وعلى الكهل ومنه قول ليلى الأخيلية :
شفاها من الداء العضال الذي بها . . .
غلام إذا هز القناة سقاها
تسمية بما كان عليه قبل الكهولة ، وهو من الغلمة والاغتلام ، وذلك شدة طلب النكاح.
ويقال : اغتلم الفحل : هاج من شدة شهوة الضراب ، واغتلم البحر : هاج وتلاطمت أمواجه ، وجمعه على ، غلمة ، شاذ وقياسه في القلة : أغلمة ، وجمع في الكثرة على : غلمان ، وهو قياسه : الكبر ، مصدر : كبر يكبر من السن قال :
صغيرين نرعى البهم يا ليت إننا . . .
إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهمُ
العاقر : من لا يولد له من رجل أو امرأة ، وفعله لازم ، والعاقر اسم فاعل من عقر أي : قتل ، وهو متعد.
الرمز : الإشارة باليد أو بالرأس أو بغيرهما وأصله التحرك يقال ارتمز تحرك ومنه قيل للبحر الراموز.
العشي : مفرد عشية ، كركيّ.
وركية والعشية : أواخر النهار ، ولامها واو ، فهي كمطي.
الإبكار : مصدر أبكر ، يقال أبكر : خرج بكرة.

{ إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين } قال ابن عباس : قالت اليهود : نحن أبناء إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب.
ونحن على دينهم ، فنزلت.
وقيل : في نصارى نجران لما غلوا في عيسى ، وجعلوه ، ابن الله تعالى ، واتخذوه إلهاً ، نزلت رداً عليهم ، وإعلاماً أن عيسى من ذرية البشر المتنقلين في الأطوار المستحيلة على الإله ، واستطرد من ذلك إلى ولادة أمه ، ثم إلى ولادته هو ، وهذه مناسبة هذه الآيات لما قبلها.
وأيضاً.
لما قدم قبل : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } ووليه { قل أطيعوا الله والرسول } وختمها بأنه { لا يحب الكافرين } ذكر المصطفين الذين يحب اتباعهم ، فبدأ أولاً بأولهم وجوداً وأصلهم ، وثنى بنوح عليه السلام إذ هو آدم الأصغر ليس أحد على وجه الأرض إلاَّ من نسله ، ثم أتى ثالثاً بآل إبراهيم ، فاندرج فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المأمور باتباعه وطاعته ، وموسى عليه السلام ، ثم أتى رابعاً بآل عمران ، فاندرج في آله مريم وعيسى عليهما السلام ، ونص على آل إبراهيم لخصوصية اليهود بهم ، وعلى آل عمران لخصوصية النصارى بهم ، فذكر تعالى جعلَ هؤلاءِ صفوة ، أي مختارين نقاوة.
والمعنى أنه نقاهم من الكدر.
وهذا من تمثيل المعلوم بالمحسوس.
واصطفاء آدم بوجوه.
منها خلقة أول هذا الجنس الشريف ، وجعله خليفة في الأرض ، وإسجاد الملائكة له ، واسكانه جنته ، إلى غير ذلك مما شرّفه به.
واصطفاء نوح عليه السلام بأشياء ، منها : أنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض بتحريم : البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر ذوي المحارم ، وأنه أب الناس بعد آدم وغير ذلك ، واصطفاء آل إبراهيم عليه السلام بأن جعل فيهم النبوّة والكتاب.
قال ابن عباس ، والحسن : آل إبراهيم من كان على دينه.
وقال مقاتل : آله اسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط.
وقيل : المراد بآل إبراهيم إبراهيم نفسه.
وتقدّم لناشىء من الكلام على ذلك في قوله : { وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون }
وعمران هذا المضاف إليه : آل ، قيل هو : عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود ، وهو أبو مريم البتول أم عيسى عليه السلام ، قاله : الحسن ووهب.
وقيل : هو عمران أبو موسى وهارون ، وهو عمران بن نصير قاله مقاتل.
فعلى الأول آله عيسى ، قاله الحسن وعلى الثاني آله موسى وهارون ، قاله مقاتل.
وقيل : المراد بآل عمران عمران نفسه ، والظاهر في عمران أنه أبو مريم لقوله بعد { إذ قالت امرأة عمران } فذكر قصة مريم وابنها عيسى ، ونص على أن الله اصطفاها بقوله { إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك } فقوله : { إذ قالت امرأة عمران } كالشرح لكيفية الاصطفاء ، لقوله : وآل عمران ، وصار نظير تكرار الاسم في جملتين ، فيسبق الذهن إلى أن الثاني هو الأول ، نحو : أكرم زيداً رجل صالح.
وإذا كان المراد بالثاني غير الأول ، كان في ذلك إلباس على السامع.

وقد رجح القول الآخر بأن موسى يقرن بإبراهيم كثيراً في الذكر ، ولا يتطرق الفهم إلى أن عمران الثاني هو أبو موسى وهارون ، وإن كانت له بنت تسمى مريم ، وكانت أكبر من موسى وهارون سناً ، للنص على أن مريم بنت عمران بن ماثان ولدت عيسى ، وأن زكريا كفل مريم أم عيسى ، وكان زكريا قد تزوج أخت مريم إمشاع ابنة عمران بن ماثان فكان يحيى وعيسى ابني خالة ، وبين العمرانين والمريمين أعصار كثيرة.
قيل : بين العمرانين ألف سنة وثمانمائة سنة.
والظاهر أن الآل من يؤول إلى الشخص في قرابة أو مذهب ، والظاهر أنه نص على هؤلاء هنا في الاصطفاء للمزايا التي جعلها الله تعالى فيهم.
وذهب قاضي القضاة بالأندلس : أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي ، رحمه الله ورضي عنه ، إلى أن ذكر آدم ونوح تضمن الإشارة إلى المؤمنين من بينهما ، وأن الآل الأتباع ، فالمعنى أن الله اصطفى المؤمنين على الكافرين ، وخص هؤلاء بالذكر تشريفاً لهم ، ولأن الكلام في قصة بعضهم.
انتهى ما قال ملخصاً ، وقوله شبيه في المعنى بقول من تأول قوله آدم وما بعده على حذف مضاف ، أي : أن الله اصطفى دين آدم.
وروي معناه عن ابن عباس ، قال : المراد اصطفى دينهم على سائر الأديان ، واختاره الفراء.
وقال التبريزي : هذا ضعيف ، لأنه لو كان ثَمَّ مضاف محذوف لكان : ونوح مجروراً ، لأن آدم محله الجر بالإضافة ، وهذا الذي قاله التبريزي ليس بشيء ، ولولا تسطيره في الكتب ما ذكرته.
لأنه لا يلزم أن يجر المضاف إليه إذا حذف المضاف ، فيلزم جر ما عطف عليه ، بل يعرب المضاف إليه بإعراب المضاف المحذوف.
ألا ترى إلى قوله { واسأل القرية } وأما إقراره مجروراً فلا يجوز إلا بشرط ذكر في علم النحو.
{ على العالمين } متعلق باصطفى ، ضمنه معنى فضل ، فعداه بعلى.
ولو لم يضمنه معنى فضل لعدى بمن.
قيل : والمعنى على عالمي زمانهم ، واللفظ عام ، والمراد به الخصوص كما قال جرير :
ويضحى العالمون له عيالاً . . .
وقال الحطيئة :
أراح الله منك العالمينا . . .
وكما تؤول في { وأني فضلتكم على العالمين }
وقال القتبي : لكل دهر عالم ، ويمكن أين يخص بمن سوى هؤلاء ، ويكون قد اندرج في قوله : وآل إبراهيم محمد صلى الله عليه وسلم ، فيكون المعنى : إن هؤلاء فضلوا على من سواهم من العالمين.
واشتراكهم في القدر المشترك من التفضيل لا يدل على التساوي في مراتب التفضيل ، كما تقول : زيد وعمر وخال أغنياء ، فاشتراكهم في القدر المشترك من الغنى لا يدل على التساوي في مراتب الغنى ، وإذا حملنا : العالمين ، على من سوى هؤلاء ، كان في ذلك دلالة على تفضيل البشر على الملائكة ، لأنهم من سوى هؤلاء الصطفين ، وقد استدل بالآية على ذلك.
ولا يمكن حمل : العالمين ، على عمومه لأجل التناقض ، لأن الجمع الكثير إذا وصفوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين ، يلزم كل واحد منهم أن يكون أفضل من الآخر ، وهو محال.

وقرأ عبد الله : وآل محمد على العالمين.
{ ذرية بعضها من بعض } أجازوا في نصب : ذرية ، وجهين :.
أحدهما : أن يكون بدلاً.
قال الزمخشري { من آل إبراهيم وآل عمران } يعني أن الآلين ذرية واحدة ، وقال غيره بدل من نوح ومن عطف عليه من الأسماء.
قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون بدلاً من آدم لأنه ليس بذرية انتهى.
وقال ابن عطية : لا يسوغ أن تقول في والد هذا ذرية لولده.
وقال الراغب : الذرية يقال للواحد والجمع والأصل والنسل.
كقوله : { حملنا ذريتهم } أي آباءهم ، ويقال للنساء : الذراري.
وقال صاحب النظم : الآية توجب أن تكون الآباء ذرية للأبناء ، والابناء ذرية للآباء ، وجاز ذلك لأنه من ذرأ الله الخلق ، فالأب ذرىء منه الولد ، والولد ذرىء من الأب.
وقال معناه النقاش فعلى قول الراغب وصاحب النظم ، يجوز أن يكون : ذرية ، بدلاً من : آدم ، ومن عطف عليه.
وأجازوا أيضاً نصب : ذرية ، على الحال ، وهو الوجه الثاني من الوجهين ، ولم يذكره الزمخشري ، وذكره ابن عطية.
وقال : وهو أظهر من البدل.
وتقدّم الكلام على ذرية دلالةً واشتقاقاً ووزناً ، فأغنى عن إعادته.
وقرأ زيد بن ثابت والضحاك : ذِرية ، بكسر الذال ، والجمهور بالضم.
{ بعضها من بعض } جملة في موضع الصفة لذرية و : من ، للتبعيض حقيقة أي : متشعبة بعضها من بعض في التناسل ، فإن فسر عمران بوالد موسى وهارون فهما منه ، وهو من يصهر ، ويصهر من قاهث ، وقاهث من لاوي ، ولاوى من يعقوب ، ويعقوب من إسحاق ، وإسحاق من إبراهيم عليهم السلام.
وإن فسر عمران بوالد مريم أم عيسى ، فعيسى من مريم ، ومريم من عمران بن ماثان ، وهو من ولد سليمان بن داود ، وسليمان من ولد يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وقد دخل في آل إبراهيم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل : من ، للتبعيض مجازاً أي : من بعض في الإيمان والطاعة والإنعام عليهم بالنبوّة ، وإلى نحو من هذا ذهب الحسن ، قال : من بعض في تناصر الدين ، وقال أبوروت : بعضها على دين بعض.
وقال قتادة : في النية والعمل والإخلاص والتوحيد.
{ والله سميع عليم } أي سميع لما يقوله الخلق ، عليم بما بضمرونه.
أو : سميع لما تقوله امرأة عمران ، عليم بما تقصد.
أو : سميع لما تقوله الذرية ، عليم بما تضمره.
ثلاثة أقوال.
وقال الزمشخري : عليم بمن يصلح للاصطفاء ، أو : يعلم أن بعضهم من بعض في الدين. انتهى.
والذي يظهر أن ختم هذه الآية بقوله { والله سميع عليم } مناسب لقوله { آل إبراهيم وآل عمران } لأن إبراهيم عليه السلام دعا لآله في قوله : { ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع } بقوله : { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات }

وحمد ربه تعالى فقال : { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق } وقال مخبراً عن ربه : { إن ربي لسميع الدعاء } ثم دعا ربه بأن يجعله مقيم الصلاة وذريته ، وقال حين بنى هو واسماعيل الكعبة { ربنا تقبل منا } إلى سائر ما دعا به حتى قوله : { وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك } ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنا دعوة إبراهيم » فلما تقدمت من إبراهيم تضرعات وأدعية لربه تعالى في آله وذريته ، ناسب أن يختم بقوله : { والله سميع عليم } وكذلك آل عمران ، دعت امرأة عمران بقبول ما كانت نذرته لله تعالى ، فناسب أيضاً ذكر الوصفين ، ولذلك حين ذكرت النذر ودعت بتقبله ، أخبرت عن ربها بأنه { السميع العليم } أي : السميع لدعائها ، العليم بصدق نيتها بنذرها ما في بطنها الله تعالى.
{ إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك } الآية ، لما ذكر أنه تعالى اصطفى آل عمران ، وكان معظم صدر هذه السورة في أمر النصارى وفد نجران ، ذكر ابتداء حال آل عمران ، وامرأة عمران اسمها : حنة ، بالحاء المهملة والنون المشدّدة مفتوحتين وآخرها تاء تأنيث ، وهو اسم عبراني ، وهي حنة بنت فاقود ، ودير حنة بالشام معروف ، وثم دير آخر يعرف بدير حنة ، وقد ذكر أبو نواس دير حنة في شعره فقال :
يا دير حنة من ذات الاكيداح . . .
من يصح عنك فاني لست بالصاح
وقبر حنة ، جدّة عيسى ، بظاهر دمشق.
وقال القرطبي : لا يعرف في العربي اسم امرأة حنة ، وذكر عبد الغني بن سعيد الحافظ : حنة أم عمر ويروي حديثها ابن جريج.
ويستفاد حنة مع : حبة ، بالحاء المهملة وباء بواحدة من أسفل ، و : حية ، بالحاء المهملة وياء باثنتين من أسفل ، وهما اسمان لناس ، ومع : خبة ، بالخاء المعجمة والباء بواحدة من أسفل ، وهي خبة بنت يحيى بن أكثم القاضي ، أم محمد بن نصر ، ومع : جنة بجيم ونون وهو أبو جنة خال ذي الرمة الشاعر ، لا نعرف سواه.
ولم تكتف حنة بنية النذر حتى أظهرته باللفظ ، وخاطبت به الله تعالى ، وقدّمت قبل التلفظ بذلك نداء ها له تعالى بلفظ الرب.
الذي هو مالكها ومالك كل شيء ، وتقدّم معنى النذر وهو استدفاع المخوف بما يعقده الإنسان على نفسه من أعمال البر.
وقيل : ما أوجبه الإنسان على نفسه بشريطة وبغير شريطة.
قال الشاعر :
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي . . .
وهموا بقتلي يا بثين لفوني
و : لك ، اللام فيه لام السبب ، وهو على حذف التقدير : لخدمة بيتك ، أو للاحتباس على طاعتك.
{ ما في بطني } جزمت النذر على تقدير أن يكون ذكراً ، أو لرجاء منها أن يكون ذكراً.
{ محرراً } معناه عتيقاً من كل شغل من أشغال الدنيا ، فهو من لفظ الحرية.
قال محمد بن جعفر بن الزبير : أو خادماً للبيعة.

قاله مجاهد ، أو : مخلصاً للعبادة ، قاله الشعبي.
ورواه خصيف عن عكرمة ، ومجاهد ، وأتى بلفظ : ما ، دون : من ، لأن الحمل إذ ذاك لم يتصف بالعقل ، أو لأن : ما ، مبهمة تقع على كل شيء ، فيجوز أن تقع موقع : من.
ونسب هذا إلى سيبويه.
{ فتقبل مني } دعت الله تعالى بأن يقبل منها ما نذرته له ، والتقبل أخذ الشيء على الرضا به ، وأصله المقابلة بالجزاء ، و : تقبل ، هنا بمعنى : قبل ، فهو مما تفعل فيه بمعنى الفعل المجرد ، كقولهم : تعدى الشيء وعدّاه ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها تفعل.
{ إنك أنت السميع العليم } ختمت بهذين الوصفين لأنها اعتقدت النذر ، وعقدته بنيتها ، وتلفظت به ، ودعت بقبوله.
فناسب ذلك ذكر هذين الوصفين.
والعامل في : إذ ، مضمر تقديره : أذكر ، قاله الأخفش ، والمبرد ، أو معنى الاصطفاء ، التقدير : واصطفى آل عمران.
قاله الزجاج ، وعلى هذا يجعل { وآل عمران } من باب عطف الجمل لا من باب عطف المفردات ، لأنه إن جعل من باب عطف المفردات لزم أن يكون العامل فيه اصطفى آدم ، ولا يسوغ ذلك لتغاير زمان هذا الاصطفاء ، وزمان قول امرأة عمران ، فلا يصح عمله فيه.
وقال الطبري ما معناه : إن العامل فيه : سميع ، وهو ظاهر قول الزمخشري ، أو : سميع عليم ، لقول امرأة عمران ونيتها ، و : إذ ، منصوب به. انتهى.
ولا يصح ذلك لأن قوله : عليم ، إما ان يكون خبراً بعد خبر ، أو وصفاً لقوله : سميع ، فإن كان خبراً فلا يجوز الفصل به بين العامل والمعمول لأنه أجنبي منهما ، وإن كان وصفاً فلا يجوز أن يعمل : سميع ، في الظرف ، لأنه قد وصف.
اسم الفاعل وما جرى مجراه إذا وصف قبل أخذ معموله لا يجوز له إذ ذاك أن يعمل على خلاف لبعض الكوفيين في ذلك ، ولأن اتصافه تعالى : بسميع عليم ، لا يتقيد بذلك الوقت.
وذهب أبو عبيدة إلى أن إذ زائدة ، المعنى : قالت امرأة عمران.
وتقدّم له نظير هذا القول في : مواضع ، وكان أبو عبيدة يضعف في النحو.
وانتصب محرراً ، على الحال.
قيل : من ما ، فالعامل : نذرات وقيل من الضمير الذي في : استقر ، العامل في الجار والمجرور ، فالعامل في هذا : استقر ، وقال مكي فمن نصبه على النعت لمفعول محذوف يقدّره : غلاماً محرراً.
وقال ابن عطية : وفي هذا نظر ، يعني أن : نذر ، قد أخذ مفعوله ، وهو : ما في بطني ، فلا يتعدّى إلى آخره ، ويحتمل أن ينتصب : محرراً ، على أن يكون مصدراً في معنى : تحريراً ، لأن المصدر يجوز أن يكون على زنة المفعول من كل فعل زائد على الثلاثة ، كما قال الشاعر :
ألم تعلم مسرحي القوافي . . .
فلا عياً بهنّ ولا اجتلابا
التقدير : تسريحي القوافي ، ويكون إذ ذاك على حذف مضاف ، أي : نذر تحرير ، أو على أنه مصدر من معنى : نذرت ، لأن معنى : { نذرت لك ما في بطني } حررت لك بالنذر ما في بطني.

والظاهر القول الأول ، وهو أن يكون حالاً من : ما ، ويكون ، إذ ذاك حالاً مقدّرة إن كان المراد بقوله : محرراً ، خادماً للكنيسة ، وحالاً مصاحبة إن كان المراد عتيقاً ، لأن عتق ما في البطن يجوز.
وكتبوا : امرأة عمران ، بالتاء لا بالهاء ، وكذلك امرأة العزيز في موضعين ، وامرأة نوح ، وامرأة لوط ، وامرأة فرعون.
سبعة مواضع ، فأهل المدينة يقفون بالتاء اتباعاً لرسم المصحف مع أنها لغة لبعض العرب يقفون على طلحة طلحت ، بالتاء.
ووقف أبو عمرو ، والكسائي : بالهاء ولم يتبعوا رسم المصحف في ذلك ، وهي لغة أكثر العرب ، وذكر المفسرون سبب هذا الحمل الذي اتفق لامرأة عمران فروي أنها كانت عاقراً ، وكانوا أهل بيت لهم عند الله مكانة ، فبينا هي يوماً في ظل شجرة نظرت إلى طائر يذق فرخاً له ، فتحركت به نفسها للولد ، فدعت الله تعالى أن يهب لها ولداً.
فحملت.
ومات عمران زوجها وهي حامل ، فحسبت الحمل ولداً فنذرته لله حبيساً لخدمة الكنيسة أو بيت المقدس ، وكان من عادتهم التقرب بهبة أولادهم لبيوت عباداتهم ، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم وأحبارهم ، ولم يكن أحد منهم إلاَّ ومن نسله محرر لبيت المقدس من الغلمان ، وكانت الجارية لا تصلح لذلك ، وكان جائزاً في شريعتهم ، وكان على أولادهم أن يطيعوهم ، فإذا حرر خدم الكنيسة بالكنس والإسراج حتى يبلغ ، فيخير ، فإن أحب أن يقيم في الكنيسة أقام فيها ، وليس له الخروج بعد ذلك ، وإن أحب أن يذهب ذهب حيث شاء ، ولم يكن أحد من الأنبياء والعلماء إلاَّ ومن نسله محرر لبيت المقدس.
{ فلما وضعتها قالت ربّ إني وضعتها أنثى } أنث الضمير في وضعتها حملاً على المعنى في : ما ، لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله تعالى وقال ابن عطية : حملاً على الموجدة ، ورفعاً للفظ : ما ، في قولها : ما في بطني.
وقال الزمخشري : أو على تأويل الجبلة ، أو النفس ، أو النسمة.
جواب : لما ، هو : قالت وخاطبت ربها على سبيل التحسر على ما فاتها من رجائها ، وخلاف ما قدّرت لأنها كانت ترجو أن تلد ذكراً يصلح للخدمة ، ولذلك نذرته محرراً.
وجاء في قوله : { إني وضعتها } الضمير مؤنثاً ، فإن كان على معنى النسمة أو النفس فظاهر ، إذ تكون الحال في قوله : أنثى ، مبينة إذا النسمة والنفس تنطلق على المذكر والؤنث.
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز انتصاب أنثى حالاً من الضمير في وضعتها؛ وهو كقولك : وضعت الأنثى أنثى؟.
قلت : الأصل وضعته أنثى ، وإنما أنث لتأنيث الحال لأن الحال ، وذا الحال شيء واحد ، كما أنث الأسم في من كانت أمّك لتأنيث الخبر ، ونظيره قوله تعالى : { فإن كانتا اثنتين } انتهى.
وآل قوله إلى أن : أنثى ، تكون حالاً مؤكدة ، لا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال من أن يكون الحال مؤكدة.

وأما تشبيهه ذلك بقوله : من كانت أمّك ، حيث عاد الضمير على معنى : من ، فليس ذلك نظير : وضعتها أنثى ، لأن ذلك حمل على معنى : من ، إذ المعنى : أية امرأة ، كانت امّك ، أي : كانت هي أيّ المرأة أمّك ، فالتأنيث ليس لتأنيث الخبر ، وإنما هو من باب الحمل على معنى : من ، ولو فرضنا أنه تأنيث للأسم لتأنيث الخبر لم يكن نظير : وضعتها أنثى ، لأن الخبر مخصص بالإضافة إلى الضمير ، فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم بخلاف أنثى ، فإنه لمجرد التأكيد.
وأما تنظيره بقوله : { فإن كانتا اثنتين } فيعنى أنه ثنى بالأسم لتثنية الخبر ، والكلام عليه يأتي في مكانه ، فإنه من المشكلات ، فالأحسن أن يجعل الضمير في : وضعتها أنثى ، عائداً على النسمة ، أو النفس ، فتكون الحال مبنية لا مؤكدة.
وقيل : خاطبت الله تعالى بذلك على سبيل الاعتذار ، والتنصل من نذر ما لا يصلح لسدانة البيت ، إذ كانت الأنثى لا تصلح لذلك في شريعتهم.
وقيل : كانت مريم أجمل نساء زمانها وأكملهنّ.
{ والله أعلم بما وضعت } قرأ ابن عامر ، وأبو بكر ، ويعقوب : بضم التاء ، ويكون ذلك وما بعده من كلام أمّ مريم ، وكأنها خاطبت نفسها بقولها : والله أعلم.
ولم تأت على لفظ : رب ، إذ لو أتت على لفظه لقالت : وأنت أعلم بما وضعت.
ولكن خاطبت نفسها على سبيل التسلية عن الذكر ، وأن علم الله وسابق قدرته وحكمته يحمل ذلك على عدم التحسر والتحذر على ما فاتنى من المقصد ، إذ مراده ينبغي أن يكون المراد ، وليس الذكر الذي طلبته ورجوته مثل الأنثى التي علمها وأرادها وقضى بها.
ولعل هذه الأنثى تكون خيراً من الذكر ، إذ أرادها الله ، سلت بذلك نفسها.
وتكون : الألف واللام في : الذكر ، للعهد فيكون مقصودها ترجيح هذه الأنثى التي هي موهوبة الله على ما كان قد رجت من أنه يكون ذكراً ، ويحتمل أن يكون مقصودها أنه ليس كالأنثى في الفضل والدرجة والمزية ، لأن الذكر يصلح للتحرير ، والاستمرار على خدمة موضع العبادة ، ولأنه أقوى على الخدمة ، ولا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس ولا تهمة.
قال ابن عطية : كالانثى ، في امتناع نذره إذا الأنثى تحيض ولا تصلح لصحبة الرهبان؟ قاله قتادة ، والربيع ، والسدّي ، وعكرمة ، وغيرهم.
وبدأت بذكر الأهمّ في نفسها ، وإلاَّ فسياق الكلام أن تقول : وليست الانثى كالذكر ، فتضع حرف النفي مع الشيء الذي عندها ، وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المراد. انتهى.
وعلى هذا الاحتمال تكون الألف واللام في : الذكر ، للجنس.
وقرأ باقي السبعة : بما وضعت ، بتاء التأنيث الساكنة على أنه إخبار من الله بأنه أعلم بالذي وضعته.
أي : بحاله ، وما يؤول إليه أمر هذه الأنثى ، فإن قولها : وضعتها أنثى ، يدل على أنها لم تعلم من حالها إلاَّ على هذا القدر من كون هذه النسمة جاءت أنثى لا تصلح للتحرير ، فأخبر تعالى أنه أعلم بهذه الموضوعة ، فأتى بصيغة التفضيل المقتضية للعلم بتفاصيل الأحوال ، وذلك على سبيل التعظيم لهذه الموضوعة ، والإعلام بما علق بها وبابنها من عظيم الأمور ، إذ جعلها وابنها آية للعالمين.

ووالدتها جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً.
وقرأ ابن عباس : بما وضعت ، بكسر تاء الخطاب ، خاطبها الله بذلك أي : إنك لا تعلمين قدر هذه الموهوبة ، وما علمه الله تعالى من عظم شأنها وعلوّ قدرها.
و : ما ، موصولة بمعنى : الذي ، أو : التي ، وأتى بلفظ : ما ، كما في قوله : { نذرت لك ما في بطني } والعائد عليها محذوف على كل قراءة.
{ وإني سميتها مريم } مريم في لغتهم معناه : العابدة ، أرادت بهذه التسمية التفاؤل لها بالخير ، والتقرب إلى الله تعالى ، والتضرّع إليه بأن يكون فعلها مطابقاً لاسمها ، وأن تصدّق فيها ظنها بها.
ألا ترى إلى إعاذتها بالله وإعاذة ذريتها من الشيطان؟ وخاطبت الله بهذا الكلام لترتب لاستعاذة عليه ، واستبدادها بالتسمية يدل على أن أباها عمران كان قد مات ، كما نقل أنه مات وهي حامل ، على أنه يحتمل من حيث هي أنثى أن تستبدّ الأمّ بالتسمية لكراهة الرجال البنات ، وفي الآية تسمية الطفل قرب الولادة ، وفي الحديث : « ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم » وفي الحديث أنه : « يعق عن المولود في السابع ويسمى »
وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها من كلامها ، وهي كلها داخله تحت القول على قراءة من قرأ : بما وضعت ، بضم التاء.
وأما من قرأ : بما وضعت ، بسكون التاء أو بالكسر.
فقال الزمخشري : هي معطوفة على : إني وضعتها أنثى ، وما بينهما جملتان معترضان ، كقوله : { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } انتهى كلامه.
ولا يتعين ما ذكر من أنهما جملتان معترضتان ، لأنه يحتمل أن يكونه { وليس الذكر كالأنثى } في هذه القراءة من كلامها ، ويكون المعترض جملة واحدة ، كما كان من كلامها في قراءة من قرأ : وضعت ، بضم التاء ، بل ينبغي أن يكون هذا المتعين لثبوت كونه من كلامها في هذه القراءة ، لأن في اعتراض جملتين خلافاً مذهب أبي علي : أنه لا يعترض جملتان وقد تقدّم لنا الكلام على ذلك.
وأيضاً تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما بين المعطوف والمعطوف عليه على زعمه بقوله : { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } ليس تشبيهاً مطابقاً للآية ، لأنه لم يعترض جملتان بين طالب ومطلوب ، بل اعترض بين القسم الذي هو : { فلا أقسم بمواقع النجوم } وجوابه الذي هو : { إنه لقرآن كريم } بجملة واحدة وهي قوله : { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } لكنه جاء في جملة الاعتراض بين بعض أجزائه وبعض ، اعتراض بجملة وهي قوله : { لو تعلمون } اعترض به بين المنعوت الذي هو : لقسم ، وبين نعته الذي هو : عظيم ، فهذا اعتراض في اعتراض ، فليس فصلاً بجملتي اعتراض لقوله : { والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى } وسمي من الأفعال التي تتعدى إلى واحد بنفسها ، وإلى آخر بحرف الجر ، ويجوز حذفه واثباته هو الأصل ، يقول سميت ابني بزيد ، وسميته زيداً.

قال :
وسميت كعباً بشر العظام . . .
وكان أبوك يسمى الجعل
أي : وسميت بكعب ، ويسمى : بالجعل ، وهو باب مقصور على السماع ، وفيه خلاف عن الأخفش الصغير ، وتحرير ذلك في علم النحو.
{ وإني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم } أتى خبر : إن ، مضارعاً وهو : أعيذها ، لأن مقصودها ديمومة الإستعاذة ، والتكرار بخلاف : وضعتها ، وسميتها ، فإنهما ماضيان قد انقطعا ، وقدّمت ذكر المعاذ به على المعطوف على الضمير للأهتمام به ، ثم استدركت بعد ذلك الذكر ذريتها ، ومناجاتها الله بالخطاب السابق إنما هو وسيلة إلى هذة الاستعاذة ، كما يقدّم الانسان بين يدى مقصوده ما يستنزل به إحسان من يقصده ، ثم يأتي بعد ذلك بالمقصود ، وورد في الحديث ، من رواية أبي هريرة : « كل مولولد من بني آدم له طعنة من الشيطان ، وبها يستهل الصبي ، إلاَّ ما كان من مريم ابنة عمران وابنها ، فإن أمّها قالت حين وضعتها : واني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم.
فضرب بينهما حجاب فطعن الشيطان في الحجاب »
وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث من طرق ، والمعنى واحد.
وطعن القاضي عبد الجبار في هذا الحديث ، قال : لأنه خبر واحد على خلاف الدليل ، فوجب رده ، وإنما كان على خلاف الدليل لأن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الشر والخير ، والصبي ليس كذلك ، ولأنه لو تمكن من هذا المس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وغير ذلك ، لأنه خص فيه مريم وابنها عيسى دون سائر الأنبياء ، ولأنه لو وجد المس لنفي أثره ، ولو نفي لدام الصراخ والبكاء ، فلما لم يكن كذلك علمنا بطلان هذا الحديث.
وقال الزمخشري : وما يروي في الحديث : « ما من مولولد يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلاَّ مريم وابنها » فالله أعلم بصحته ، فإن صح فمعناه : أن كل مولود يطمع الشيطان في اغوائه إلاَّ مريم وابنها ، فإنهما كانا معصومين.
وكذلك كل من كان صفتهما لقوله : { لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } واستهلاله صارخاً من مسه ، تخييل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول : هذا ممن أغويه ، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي :
لما تؤذن الدنيا به من صروفها . . .
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا ، ولو سلط إبليس على الناس بنخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً وعياطاً مما يبلونا به من نخسه.
انتهى كلامه.
وهو جار على طريقة أهل الاعتزال ، وقد مر لنا شيء من الكلام على هذا في قوله :

{ كالذي يتخبطه الشيطان من المس }
{ فتقبلها ربها بقبول حسن } قال الزجاج : الأصل فتقبلها بتقبل حسن ، ولكن قبول محمول على : قبلها قبولاً ، يقال : قبل الشيء قبولاً والقياس فيه الضم : كالدخول والخروج ، ولكنه جاء بالفتح ، وأجاز الفراء والزجاج ضم القاف ، ونقلها ابن الأعرابي فقال : قبلته قَبولاً وقُبولاً.
وقال ابن عباس : معناه سلك بها طريق السعداء وقال قوم : تكفل بتربيتها والقيام بشأنها.
وقال الحسن : معناه لم يعذيها ساعة قط من ليل ولا نهار وعلى هذه الأقوال يكون تقبل بمعنى استقبل ، فيكون تفعل بمعنى استفعل ، أي : استقبلها ربها ، نحو : تعجلت الشيء فاستعجلته ، وتقصيت الشيء واستقصيته ، من قولهم : استقبل الأمر أي أخذه بأوله.
قال :
وخير الأمر ما استقبلت منه . . .
وليس ببأن تتبعه اتباعاً
أي فأخذها في أول أمرها حين ولدت.
وقيل : المعنى فقبلها أي : رضى بها في النذر مكان الذكر في النذر كما نذرت أمها وسنى لها الأمل في ذلك ، وقبل دعاءها في قولها : فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ، ولم تقبل أنثى قبل مريم في ذلك ، ويكون : تفعل ، بمعنى الفعل المجرد نحو : تعجب وعجب ، وتبرأ وبريء.
والباء في : بقبول ، قيل : زائدة ، ويكون إذ ذاك ينتصب انتصاب المصدر على غير الصدر ، وقيل : ليست بزائدة.
والقبول اسم لما يقبل به الشيء : كالسعوط واللدود لما يسعط به ويلد ، وهو اختصاصه لها باقامتها مقام الذكر في النذر ، أو : مصدر على تقدير حذف مضاف أي : بذي قبول حسن ، أي : بأمر ذي قبول حسن ، وهو الاختصاص.
{ وأنبتها نباتاً حسناً } عبارة عن حسن النشأة والجودة في خلق وخلق ، فأنشأها على الطاعة والعبادة.
قال ابن عباس : لما بلغت تسع سنين صامت من النهار وقامت الليل حتى أربت على الأحبار.
وقيل : لم تجر عليها خطيئة.
قال قتادة : حُدِّثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب كما يصيب بنو آدم.
وقيل : معنى { وأنبتها نباتاً حسناً } أي : جعل ثمرتها مثل عيسى.
وانتصب : نباتاً ، على أنه مصدر على غير الصدر ، أو مصدر لفعل محذوف أي : فنبتت نباتاً حسناً ، ويقال : القبول الحسن تربيتها على نعت العصمة حتى قالت : { أعوذ بالرحمن منك ان كنت تقيا } والنبات الحسن الاستقامة على الطاعة وإيثار رضا الله في جميع الأوقات.
{ وكفلها زكريا } قال قتادة : ضمها إليه.
وقال أبو عبيدة : ضمن القيام بها ، ومن القبول الحسن والنبات الحسن أن جعل تعالى كافلها والقيم بأمرها وحفظها نبياً.
أوحى الله إلى داود عليه السلام : إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً.
وقرأ الكوفيون : وكفلها ، بتشديد الفاء ، وباقي السبعة بتخفيفها.
وأبيّ : وأكفلها ، ومجاهد : فتقبلها بسكون اللام ربها ، بالنصب على النداء ، و : أبنتها ، بكسر الباء وسكون التاء ، و : كفلها ، بكسر الفاء مشدّدة وسكون اللام على الدعاء من أم مريم لمريم.
وقرأ عبد الله المزني : وكفلها ، بكسر الفاء وهي لغة يقال : كفل يكفِل وكفل يكفَل ، كعلم يعلم.

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص : زكريا ، مقصوراً وباقي السبعة ممدوداً.
وتقدم ذكر اللغات فيه.
روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون ، وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة ، فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة! فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم ، وصاحب قربانهم ، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم ، فقال لهم زكريا : أنا أحق بها ، عندي خالتها.
فقالوا : لا ، حتى نقترع عليها.
فانطلقوا ، وكانوا سبعة وعشرين ، إلى نهر.
قيل : هو نهر الأردن وهو قول الجمهور.
وقيل : في عين ماء كانت هناك ، فألقوا فيه أقلامهم ، فارتفع قلم زكريا ورسبت أقلامهم فتكفلها.
قيل : واسترضع لها.
وقال الحسن : لم تلتقم ثدياً قط.
وقال عكرمة : ألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا عكس جرية الماء.
وقيل : عامت مع الماء معروضة ، وبقي قلم زكريا واقفاً كأنما ركز في طين ، قال ابن إسحاق : إن زكريا كان تزوّج خالتها لأنه وعمران كانا سلفين على أختين ، ولدت امرأة زكريا يحيى ، وولدت امرأة عمران مريم.
وقال السدّي ، وغيره : كان زكريا تزوّج ابنة أخرى لعمران.
ويعضد هذا القول قول صلى الله عليه وسلم في يحيى وعيسى : ابنا الخالة.
وقيل : إنما كفلها لأن أمّها هلكت ، وكان أبوها قد هلك وهي في بطن أمّها.
وقيل : كان زكريا ابن عمها وكانت أختها تحته.
وقال ابن إسحاق : ترعرعت وأصاب بني إسرائيل مجاعة ، فقال لهم زكريا : أني قد عجزت عن إنفاق مريم ، فاقترعوا على من يكفلها ، ففعلوا ، فخرج إليهم رجل يقال له جريج ، فجعل ينفق عليها ، وهذا استهام غير الأول ، هذا المراد منه دفعها للإنفاق عليها ، والأول المراد منه : أخذها ، فعلى هذا القول يكون زكريا قد كفلها من لدن الطفولة دون استهام ، والذي عليه الناس أن زكريا إنما كفلها بالاستهام ، ولم يدل القرآن على أن غير زكريا كفلها ، وكان زكريا أولى بكفالتها ، لأنه من أقربائها من جهة أبيها ، ولأن خالتها أو أختها تحته ، على اختلاف القولين ، ولأنه كان نبياً ، فهو أولى بها لعصمته.
وزكريا هو ابن أذن بن مسلم من ولد سليمان بن داود عليهم السلام وذكر النقيب أبو البركات الجواني النسابة : أن يحيى بن زكريا ، واليسع ، والياس ، والعزير من ولد هارون أخي موسى ، فلا يكون على هذا زكريا من ولد سليمان ، ولا يكون ابن عم مريم ، لأن مريم من ذرية سليمان عليه السلام ، وسليمان من يهوذا بن يعقوب ، وموسى وهارون بن لاوي بن يعقوب.
قال ابن إسحاق : ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محراباً في المسجد ، وجعل بابه في وسطه لا يرقى إليه إلاَّ بسلم ، مثل باب الكعبة ، ولا يصعد إليها غيره.

وقيل : كان يغلق عليها سبعة أبواب إذا خرج قال مقاتل : كان يغلق عليها الباب ومعه المفتاح لا يأمن عليه أحداً ، فإذا حاضت أخرجها إلى منزله تكون مع خالتها أم يحيى أو أختها ، فإذا طهرت ردها إلى بيت المقدس وقيل : كانت مطهرة من الحيض.
{ كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً }.
قال مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي : وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء.
وقال الحسن : تكلمت في المهد ولم تلقم ثدياً قط ، وإنما كانت يأتيها رزقها من الجنة.
والذي ورد في الصحيح أن الذي تكلم في المهد ثلاثة : عيسى ، وصاحب جريج ، وابن المرأة وورد من طريق شاذ : صاحب الأخدود.
والأغرب أن مريم منهم.
وقيل : كان جريج النجار ، واسمه يوسف بن يعقوب ، وكان ابن عم مريم حين كفلها بالقرعة وقد ضعف زكريا عن القيام بها ، يأتيها من كسبه بشيء لطيف على قدر وسعه ، فيزكو ذلك الطعام ويكثر ، فيدخل زكريا عليها فيتحقق أنه ليس من وسع جريج ، فيسألها.
وهذا يدل على أن ذلك كان بعد أن كبرت وهو الأقرب للصواب.
وقيل : كانت ترزق من غير رزق بلادهم.
قال ابن عباس : كان عنباً في مكتل ولم يكن في تلك البلاد عنب ، وقاله ابن جبير ، ومجاهد وقيل : كان بعض الصالحين يأتيها بالرزق.
والذي يدل عليه ظاهر الآية أن الذي كفلها بالتربية هو زكريا لا غيره ، فإن الله تعالى كفاه لما كفلها مؤونة رزقها ، ووضع عنه بحسن التكفل مشقة التكلف.
و : كلما ، تقتضي التكرار ، فيدل على كثرة تعهده وتفقده لأحوالها.
ودلت الآية على وجود الرزق عندها كل وقت يدخل عليها ، والمعنى : أنه غذاء يتغذى به لم يعهده عندها ، ولم يوجهه هو.
وأَبْعَدَ من فسر الرزق هنا بأنه فيض كان يأتيها من الله من العلم والحكمة من غير تعليم آدمي ، فسماه رزقاً قال الراغب : واللفظ محتمل ، انتهى ، وهذا شبيه بتفسير الباطنية.
{ قال يا مريم أنَّى لك هذا قالت هو من عند الله } استغرب زكريا وجود الرزق عندها وهو لم يكن أتى به ، وتكرر وجوده عندها كلما دخل عليها ، فسأل على سبيل التعجب من وصول الرزق إليها ، وكيف أتى هذا الرزق؟ و : أنَّى ، سؤال عن الكيفية وعن المكان وعن الزمان ، والأظهر أنه سؤال عن الجهة ، فكأنه قال : من أي جهة لك هذا الرزق؟ ولذلك قال أبو عبيدة : معناه من أين؟ ولا يبعد أن يكون سؤالاً عن الكيفية ، أي كيف تهيأ وصول هذا الرزق إليك؟ وقال الكميت :
أنَّى ومن أين أتاك الطرب . . .
من حيث لا صبوة ولا طرب
وجوابها سؤاله بأنه { من عند الله } ظاهره أنه لم : يأت به آدمي ألبتة ، بل هو رزق يتعهدني به الله تعالى.
وظاهره أنه كان يسأل كلما وجد عندها رزقاً ، لأن من الجائز في الفعل أن يكون هذا الثاني من جهة غير الجهة التي تقدّمت ، فتجيبه بأنه من عند الله ، وتحيله على مسبب الأسباب ، ومبرز الأشياء من العدم الصرف إلى الوجود المحض ، فعند ذلك يستريح قلب زكريا بكونه لم يسبقه أحد إلى تعهد مريم ، وبكونه يشهد مقاماً شريفاً ، واعتناءً لطيفاً بمن اختارها الله تعالى بأن جعلها في كفالته.

وهذا الخارق العظيم قيل : هو بدعوة زكريا لها بالرزق ، فيكون من خصائص زكريا وقيل : كان تأسيساً لنبوّة ولدها عيسى.
وهذان القولان شبيهان بأقوال المعتزلة حيث ينفون وجود الخارق على غير النبي ، إلا إن كان ذلك في زمان نبي ، فيكون ذلك معجزة لذلك النبي.
والظاهر أنها كرامة خص الله بها مريم ، ولو كان خارقاً لأجل زكريا لم يسأل عنه زكريا ، وأما كون ذلك لأجل نبوة عيسى ، فهو كان لم يخلق بعد.
قال الزجاج : وهذا الخارق من الآية التي قال تعالى : { وجعلناها وابنها آية للعالمين } وقال الجبائي : يجوز أن يكون من معجزات زكريا ، دعا لها على الإجمال.
لأن يوصل لها رزقها ، وربما غفل عن تفاصيل ذلك ، فلما رأى شيئاً معيناً في وقت معين ، سأل عنه ، فعلم أنه معجزة ، فدعا به أو سأل عن ذلك خشية أن يكون الآتي به إنساناً ، فأخبرته أنه { من عند الله } ويحتمل أن يكون على أيدي المؤمنين ، وسأل لئلا يكون على وجه لا ينبغي.
{ إن الله يزرق من يشاء بغير حساب } تقدّم تفسير هذه الجملة ، والظاهر أنها من كلام مريم وقال الطبري : ليس من كلام مريم ، وأنه خبر من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم.
.
وروى جابر حديثاً مطولاً فيه تكثير الخبز واللحم على سبيل خرق العادة لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألها : من أين لك هذا؟ فقالت : هو من عند الله.
فحمد الله ، وقال : الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل.
قيل : وفي هذه الآيات أنواع من الفصاحة.
العموم الذي يراد به الخصوص في قوله : على العالمين ، والإختصاص في قوله : آدم ، ونوحاً ، وآل إبراهيم ، وآل عمران.
وإطلاق اسم الفرع على الأصل.
والمسبب على السبب ، في قوله : ذرية ، فيمن قال المراد الأباء ، والإبهام في قوله : ما في بطني ، لما تعذر عليها الإطلاع على ما في بطنها أتت بلفظ : ما ، الذي يصدق على الذكر والأنثى ، والتأكيد في قوله : { إنك أنت السميع العليم } والخبر الذي يراد به الاعتذار في قولها : وضعتها أنثى ، والاعتراض في قوله : { والله أعلم بما وضعت } ، في قراءة من سكن التاء أو كسرها وتلوين الخطاب ومعدوله في قوله : والله أعلم بما وضعت ، في قراءة من كسر التاء ، خرج من خطاب الغيبة في قولها : فلما وضعتها ، إلى خطاب المواجهة في قوله : بما وضعت والتكرار في : وأنى ، وفي : زكريا ، وزكريا ، وفي : من عند الله ، إن الله والتجنيس المغاير في : فتقبلها ربها بقبول ، وأنبتها نباتاً ، وفي : رزقاً ويرزق والإشارة ، وهو أن يعبر باللفظ الظاهر عن المعنى الخفي ، في قوله : هو من عند الله ، أي هو رزق لا يقدر على الإتيان به في ذلك الوقت إلاَّ الله.

وفي قوله : رزقاً ، أتى به منكّراً مشيراً إلى أنه ليس من جنس واحد ، بل من أجناس كثيرة ، لأن النكرة تقتضي الشيوع والكثرة.
والحذف في عدة مواضع لا يصح المعنى إلا باعتبارها.
{ هنالك دعا زكريا ربه } أصل : هنالك ، أن يكون إشارة للمكان ، وقد يستعمل للزمان وقيل بهما في هذه الآية ، أي في ذلك المكان دعا زكريا ، أو : في ذلك الوقت لما رأى هذا الخارق العظيم لمريم ، وأنها ممن اصطفاها الله ، ارتاح إلى طلب الولد واحتاج إليه لكبر سنه ، ولأن يرث منه ومن آل يعقوب ، كما قصه تعالى في سورة مريم ، ولم يمنعه من طلب كون امرأته عاقراً ، إذ رأى من حال مريم أمراً خارجاً عن العادة ، فلا يبعد أن يرزقه الله ولداً مع كون امرأته كانت عاقراً ، إذ كانت حنة قد رزقت مريم بعدما أيست من الولد.
وانتصاب : هنالك ، بقوله : دعا ، ووقع في تفسير السجاوندي : أن هناك في المكان ، وهنالك في الزمان ، وهو وهم ، بل الأصل أن يكون للمكان سواء اتصلت به اللام والكاف أو الكاف فقط أو لم يتصلا.
وقد يتجوز بها عن المكان إلى الزمان ، كما أن أصل : عند ، أن يكون للمكان ، ثم يتجوز بها للزمان ، كما تقول : آتيك عند طلوع الشمس.
قيل : واللام في : هنالك ، دلالة على بعد المسافة بين الدعاء والإجابة ، فإنه نقل المفسرون أنه كان بين دعائه وإجابته أربعون سنة.
وقيل : دخلت اللام لبعد منال هذا الأمر لكونه خارقاً للعادة ، كما أدخل اللام في قوله : { ذلك الكتاب } لبعد مناله وعظم ارتفاعه وشرفه.
وقال الماتريدي : كانت نفسه تحدثه بأن يهب الله له ولداً يبقى به الذكر إلى يوم القيامة ، لكنه لم يكن يدعو مراعاة للأدب ، إذ الأدب أن لا يدعو لمراد إلاَّ فيما هو معتاد الوجود وإن كان الله قادراً على كل شيء ، فلما رأى عندها ما هو ناقض للعادة حمله ذلك على الدعاء في طلب الولد غير المعتاد. انتهى.
وقوله : كانت تحدثه نفسه بذلك ، يحتاج إلى نقل.
وفي قوله : { هنالك دعا } دلالة على أن يتوخى العبد بدعائه الأمكنة المباركة والأزمنة المشرفة.
{ قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } هذه الجملة شرح للدعاء وتفسير له ، وناداه بلفظ : رب ، إذ هو مربيه ومصلح حاله ، وجاء الطلب بلفظ : هب ، لأن الهبة إحسان محض ليس في مقابلتها شيء يكون عوضاً للواهب ، ولما كان ذلك يكاد يكون على سبيل ما لا تسبب فيه : لا من الوالد لكبر سنه ، ولا من الوالدة لكونها عاقراً لا تلد ، فكان وجوده كالوجود بغير سبب ، أتى هبة محضة منسوبة إلى الله تعالى بقوله : من لدنك ، أي من جهة محض قدرتك من غير توسط سبب.

وتقدّم أن : لدن ، لما قرب ، و : عند ، لما قرب ولما بعد ، وهي أقل إبهاماً من : لدن ، ألا ترى أن : عند ، تقع جواباً لأين ، ولا تقع له جواباً : لدن؟.
{ ومن لدنك } متعلق : بهب ، وقيل : في موضع الحال من : ذرية ، لأنه لو تأخر لكان صفة ، فعلى هذا تتعلق بمحذوف ، والذرية جنس يقع على واحد ، فأكثر.
وقال الطبري : أراد بالذرية هنا واحداً دليل ذلك طلبه : ولياً ، ولم يطلب : أولياء.
قال ابن عطية : وفيما قاله الطبري تعقب ، وإنما الذرية والولي اسما جنس يقعان للواحد فما زاد ، وهكذا كان طلب زكريا. انتهى.
وفسر : طيبة ، بأن تكون سليمة في الخلق وفي الدين تقية.
وقال الراغب : صالحة ، واستعمال الصالح في الطيب كاستعمال الخبيث في ضده ، على أن في الطيب زيادة معنى على الصالح.
وقيل : أراد : بطيبة ، أنها تبلغ في الدين رتبة النبوّة ، فإن كان أراد بالذرية مدلولها من كونها اسم جنس ، ولم يقيد بالوحدة ، فوصفها : بطيبة ، واضح! وإن كان أراد ذكراً واحداً ، فأنث لتأنيث اللفظ ، كما قال :
أبوك خليفة ولدته أخرى . . .
سكات إذا ما عَضّ ليس بأدْرَدَا
وكما قال :
أبوك خليفة ولدته أخرى . . .
وأنت خليفة ذاك الكمال
وفي قوله : { هب لي } دلالة على طلب الولد الصالح ، والدعاء بحصوله وهي سنة المرسلين والصديقين والصالحين.
{ إنك سميع الدعاء } لما دعا ربه بأنه يهب له ولداً صالحاً ، أخبر بأنه تعالى مجيب الدعاء.
وليس المعنى على السماع المعهود ، بل مثل قوله : سمع الله لمن حمده.
عبر بالسماع عن الإجابة إلى المقصد ، واقتفى في ذلك جده الأعلى إبراهيم عليه السلام إذ قال : { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء } فأجاب الله دعاءه ورزقه على الكبر كما رزق إبراهيم على الكبر ، وكان قد تعود من الله إجابة دعائه.
ألا ترى إلى قوله : { ولم أكن بدعائك رب شقياً } ؟.
قيل : وذكر تعالى في كيفية دعائه ثلاث صيغ : أحدها : هذا ، والثاني : { إني وهن العظم مني } إلى آخره.
والثالث : { رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين } فدل على أن الدعاء تكرر منه ثلاث مرات بهذه الثلاث الصيغ ، ودل على أن بين الدعاء والإجابة زماناً. انتهى.
ولا يدل على ذلك تكرير الدعاء ، كما قيل : لأنه حالة الحكاية قد يكون حكي في قوله { رب لا تذرني فرداً } على سبيل الإيجاز ، وفي سورة مريم على سبيل الإسهاب ، وفي هذه السورة على سبيل التوسط.
وهذه الحكاية في هذه الصيغ إنما هي بالمعنى ، إذ لم يكن لسانهم عربياً ، ويدل على أنه دعاء واحد متعقب بالتبشير العطف بالفاء في قوله : { فنادته الملائكة } وفي قوله :

{ فاستجبنا له ووهبنا له يحيى } وظاهر قوله في مريم : { يا زكريا إنا نبشرك } اعتقاب التبشير الدعاء لا تأخره عنه.
.
{ فنادته الملائكة } قيل : النداء يستعمل في التبشير وفيما ينبغي أن يسرع به وينهى إلى نفس السامع ليسر به ، فلم يكن هذا إخباراً من الملائكة على عرف الوحي ، بل نداءً كما نادى الرجل الأنصاري : كعب بن مالك ، من أعلى الجبل.
قاله ابن عطية ، وغيره.
ولا يظهر ذلك ، بل المناداة تكون لتبشير ولتحزين ولغير ذلك ، كما جاء.
« يا أهل النار خلود بلا موت » وجاء : { يا هامان ابن لي صرحاً } وإنما فهمت البشارة في الآية من قولهم { إن الله يبشرك } لا إن لفظ نادته يدل على ذلك ، لا بالوضع ولا بالاستعمال.
ويحتمل أن يكون نداؤهم إياه على سبيل الوحي ، أي : أوحي إليهم بأن ينادوه ، أو يكون نادوه من تلقاء أنفسهم ، كما يقال لك : بلغ زيداً كذا وكذا ، فتقول له : يا زيد جرى كذا وكذا.
وهما قولان للمفسرين.
وفي الكلام حذف تقديره : فتقبل الله دعاءه ، ووهب له يحيى ، وبعث إليه الملائكة بذلك ، فنادته.
وذكر أنه كان بين دعائه والإستجابة له أربعون سنة ، والظاهر خلاف ذلك.
والظاهر أن مناديه جماعة من الملائكة لصيغة اللفظ ، وقد بعث تعالى ملائكة إلى قوم لوط وإلى إبراهيم وفي غير ما قصة.
وذكر الجمهور أن المنادي هو جبريل وحده ، ويؤيده قراءة عبد الله ومصحفه : فناداه جبريل وهو قائم.
وقال الزمخشري : وإنما قيل الملائكة على قولهم : فلان يركب الخيل ، يعني : إن الذي ناداه هو من جنس الملائكة ، لا يريد خصوصية الجمع ، كما أن قولهم : فلان يركب الخيل لا يريد خصوصية الجمع ، إنما يريد مركوبه من هذا الجنس.
وخرج عليه الذين قال لهم الناس ، وهو نعيم بن مسعود.
وقال الفضل : الرئيس يخبر عنه أخبار الجمع لاجتماع أصحابه معه ، أو لاجتماع الصفات الجميلة فيه ، المتفرقة في غيره.
فعبر عنه بالكثرة لذلك.
قيل : وجبريل رئيس الملائكة.
وقرأ حمزة ، والكسائي : فناداه ، ممالة وباقي السبعة : فنادته ، بتاء التأنيث و : الملائكة ، جمع تكسير ، فيجوز أن يلحق العلامة ، وإن لا يلحق.
تقول : قام الرجال ، وقامت الرجال.
وإلحاق العلامة قيل.
أحسن ، ألا ترى : إذ قالت الملائكة؟ ولما جاءت رسلنا؟ ومحسِّن الحذف هنا الفصل بالمفعول.
{ وهو قائم يصلي في المحراب } ذكر البغوي أن زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان ، ويفتح باب المذبح ، فلا يدخلون حتى يؤذن.
فبينما هو قائم يصلي في المحراب ، يعنى المسجد عند المذبح ، والناس ينتظرون أن يؤذن لهم في الدخول ، إذا هو برجل عليه ثياب بيض ، ففزع منه ، فناداه ، وهو جبريل : يا زكريا! إن الله يبشرك.
وقيل : المحراب موقف الإمام من المسجد ، وهو قول جمهور المفسرين.
وقيل : القبلة.
والظاهر أن المحراب هو المحراب الذي قبله في قوله : { كلما دخل عليها زكريا المحراب } ففي المكان الذي رأى فيه خرق العادة ، فيه دعا ، وفيه جاءته البشارة.

وهذا يدل على مشروعية الصلاة في شريعتهم.
وقيل : الصلاة هنا الدعاء ، وفي الآية دليل على جواز نداء المتلبس بالصلاة وتكليمه ، وإن كان في ذلك شغل له عن صلاته.
وهذه الجملة في موضع نصب على الحال من ضمير المفعول ، أو من الملائكة ، و : يصلي ، يحتمل أن يكون صفة : لقائم ، ويحتمل أن يكون حالاً من الضمير المستكن في : قائم ، أو : من ضمير المفعول ، على مذهب من جوّز حالين من ذي حال واحد ، ويحتمل أن يكون خبراً ثانياً : لهو ، على مذهب من يجيز تعداد الأخبار لمبتدأ واحد ، وإن لم تكن في معنى خبر واحد.
ويتعلق : في المحراب ، بقوله : يصلي ، ولا يجوز أن يتعلق : بقائم ، في وجه من احتمالات إعراب : يصلي ، إلا في وجه واحد ، وهو أن يكون : يصلي ، حالاً من الضمير الذي استكن في : قائم ، فيجوز.
لأنه إذ ذاك يتحد العامل فيه وفي : يصلى ، وهو : قائم ، لأن العامل إذ ذاك في الحال هو : قائم ، إذ هو العامل في ذي الحال ، وبه يتعلق المجرور.
وفي قوله : { قائم يصلي في المحراب } قالوا : دلالة على جواز قيام الإمام في محرابه ، وقد كرهه أبو حنيفة ، وقال : كان ذلك شرعاً لمن قبلنا.
ورقق وَرش راء : المحراب ، وأمال الراء ابن ذكوان إذا كان : المحراب ، مجروراً ونسب ذلك أبو علي إلى ابن عامر.
ولم يقيد بالجر.
{ ان الله يبشرك بيحيى } قرأ ابن عامر ، وحمزة : إن الله ، بكسر الهمزة.
فعند البصريين الكسر على إضمار القول ، أي : وقالت.
وعند الكوفيين لا إضمار ، لأن غير القول مما هو في معناه : كالنداء والدعاء ، يجري مجرى القول في الحكاية ، فكسرت بنادته ، لأن معناه قالت له.
وقرأ الباقون بفتح الهمزة ، وهو معمول لباء محذوفة في الأصل ، أي بتبشير :
وحين حذفت فالموضع نصب بالفعل أو جر بالباء المحذوفة ، قولان قد تقدما في غير ما موضع من هذا الكتاب.
وقرأ عبد الله : يا زكريا إن الله.
فقوله : يا زكرياء ، هو معمول النداء.
فهو في موضع نصب ، ولا يجوز فتح : إن ، على هذه القراءة ، لأن الفعل قد استوفى مفعوليه ، وهما : الضمير والمنادى.
وتبليغ البشارة على لسان الرسول إلى المرسل إليه ليست بشارة من الرسول ، بل من المرسل.
ألا ترى إضافة ذلك إليه في قوله : يبشرك؟ وقد قال في سورة مريم : { يا زكريا إنا نبشرك } فأسند ذلك إليه تعالى.
وقرأ حمزة ، والكسائي : يبشرك ، في الموضعين في قصة زكريا وقصة مريم ، وفي الإسراء ، وفي الكهف ، وفي الشورى ، من : بشر ، مخففاً.
وافقهما ابن كثير ، وأبو عمرو في الشورى ، زاد حمزة في الحجر : ألا فبم تبشرون ، ومريم وقرأ الباقون : يبشر ، من بشر المضعف العين وقرأ عبد الله يبشر في جميع القرآن من أبشر ، وهي لغىً ثلاث ذكرها غير واحد من اللغويين وقال الشاعر :

بَشَرْتُ عِيالي إِذ رأيتُ صحيفة . . .
أتتك من الحجاج يتُلى كتابها
وقال الآخر :
يا بشر حق لوجهك التَّبشير . . .
هلا غضبت لنا وأنت أمير
بيحيى ، متعلق بقوله : نبشرك ، والمعنى : بولادة يحيى منك ومن امرأتك ، فإن كان أعجمياً فمنع صرفه للعلمية والعجمة ، وإن كان عربياً فللعلمية ووزن الفعل ، كيعمر.
وقد ذكرنا هذا.
وهذا الذي عليه كثير من المفسرين لاحظوا فيه معنى الاشتقاق من الحياة.
قال قتادة : سماه الله يحيى لأنه أحياه بالإيمان.
وقال الحسن بن المفضل : حيي بالعصمة والطاعة وقال أبو القاسم بن حبيب : سمي يحيى لأنه استشهد ، والشهداء أحياء روي في الحديث : « من هوان الدنيا على الله أن يحيى بن زكريا قتلته امرأة » وقال مقاتل : سمي يحيى لأنه أحياه بين شيخ وعجوز وقال الزجاج : حي بالعلم والحكمة التي أوتيها وقال ابن عباس : ان الله أحيا به عقر أمّه وقيل : معناه يموت فسمي يحيى تفاؤلاً ، كالمفازة والسليم وقيل : لأن الله أحيا به الناس بالهدى.
{ مصدقا بكلمة من الله } الجمهور على أن الكلمة هو عيسى ، وسيأتي لم سمي كلمة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والسدّي وغيرهم.
قال الربيع ، وغيره : كان يحيى أوّل من صدق بعيسى وشهد أنه كلمة من الله ، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر ، قاله الأكثرون وقيل : بثلاث سنين ، وقتل قبل رفع عيسى ، وكانت أمّ يحيى تقول لمريم : إني لأجد الذي في بطني يتحرك ، وفي رواية : يسجد ، وفي رواية : يومي برأسه لما في بطنك ، فذلك تصديقه ، وهو أول التصديق.
وقال أبو عبيدة ، وغيره { بكلمة من الله } أي : بكتاب من الله التوراة والإنجيل وغيرهما ، أوقع المفرد موقع الجمع ، فالكلمة اسم جنس ، وقد سمت العرب القصيدة كلمة روي أن الحويدرة ذكر لحسان ، فقال : لعن الله كلمته ، أي قصيدته.
وفي الحديث : « أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل . . .
وكل نعيم لا محالة زائل »
وقيل معنى : { بكلمة من الله } هنا أي : بوعد من الله ، وقرأ أبو السمال العدوي : بكلمة ، بكسر الكاف وسكون اللام في جميع القرآن ، وهي لغة فصيحة مثل : كتف وكتف ، ووجهه أنه أتبع فاء الكلمة لعينها ، فيقل اجتماع كسرتين ، فسكن العين.
ومنهم من يسكنها مع فتح الفاء استثقالاً للكسرة في العين.
وانتصب : مصدّقاً ، على الحال قال ابن عطية : وهي حال مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
{ وسيدا } قال ابن عباس : السيد الكريم وقال قتادة : الحليم ، ومنه قول الشاعر :
سيد لا تحل حبوته . . .
بوادر الجاهلين إن جهلوا
وقال عكرمة : من لا يغلبه الغضب وقال الضحاك : الحسن الخلق وقال سالم : التقي وقال ابن زيد : الشريف وقال ابن المسيب : الفقيه العالم وقال أحمد بن عاصم : الراضي بقضاء الله وقال الخليل : المطاع الفائق أقرانه.

وقال أبو بكر الورّاق : المتوكل وقال الترمذي : العظيم الهمة وقال الثوري : السيد مَن لا يحسد من قولهم : الحسود لا يسود وقال أبو إسحاق : السيد الذي يفوق في الخير قومه.
وقال بعض أهل اللغة : السيد المالك الذي تجب طاعته.
ولهذا قيل للزوج : سيد وقيل : سيد الغلام ، وقال سلمة عن الفراء : السيد المالك ، والسيد الرئيس ، والسيد الحكيم ، والسيد السخي.
وجاء في الحديث : « السيد من أعطى مالاً ورزق سماحاً ، فأدنى الفقراء ، وقلت شكايته في الناس » وفي معناه : من بذل معروفه وكف أذاه وقال في الحديث بني سلمة وقد سألهم من سيدكم فقالوا الجدّ بن قيس على بخله فقال عليه السلام : « وأي داء أدوى من البخل؟ سيدكم عمرو بن الجموح » وسمى أيضاً سعد بن معاذ سيداً في قوله : « قوموا إلى سيدكم ».
أي رئيسكم والمطاع فيكم.
« وسمي الحسن بن علي : سيداً.
في قوله : » إن ابني هذا سيد ، ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين «
وقال الزمخشري : السيد الذي يسود قومه أي يفوقها في الشرف.
وكان يحيى قائماً لقومه ، قائماً للناس كلهم في أنه لم يرتكب سيئة قط ، ويا لها من سيادة؟! انتهى كلامه.
وقال ابن عطية ما ملخصه : خصه الله بذكر السؤدد ، وهو الاعتمال في رضا الناس على أشرف الوجوه دون أن يوقع في باطل ، وتفضيله : بذل الندى وهو الكرم ، وكف الأذى وهي العفة في الفرج واليد واللسان ، واحتمال العظائم وهنا هو الحلم من تحمل الغرامات وجبر الكسير والإنقاذ من الهلكات.
وقد يوجد من الثقاة العلماء من لا يبرز في هذه الخصال ، وقد يوجد من يبرز فيها ، فيسمى سيداً وإن قصر في مندوب ، ومكافحة في حق وقلة مبالاة باللائمة.
وقال ابن عمر : ما رأيت أسود من معاوية؟ قيل له : وأبو بكر وعمر؟ قال : هما خير منه ، ومعاوية أسود منهما! انتهى كلامه.
وهذه الأقوال التي ذكرت في تفسير السيد كلها يصلح أن يكون تفسيراً في وصف يحيى عليه السلام ، وأحق الناس بصفات الكمال هم النبيون.
وفي قوله : وسيداً ، دلالة على إطلاق هذا الاسم على من فيه سيادة ، وهو من أوصاف المدح.
ولا يقال ذلك للظالم والمنافق والكافر.
وورد النهي : » لا تقولوا للمنافق سيداً « ، وما جاء من قوله { أطعنا سادتنا } فعلى ما في اعتقادهم وزعمهم.
قيل : وما جاء في حديث وفد بني عامر من قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت سيدنا وذو الطول علينا ، فقال صلى الله عليه وسلم : » السيد هو الله ، تكلموا بكلامكم « ، فمحمول على أنه رآهم متكلفين لذلك ، أو كان ذلك قبل أن يعلم أنه سيد البشر ، وقد سمى هو الحسن بن علي سيداً ، وكذلك سعد بن معاذ ، وعمرو بن الجموح.

{ وحصوراً } هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، وعطاء ، وأبو الشعثاء ، والحسن ، والسدي ، وابن زيد ، قال الشاعر :
وحصوراً لا يريد نكاحا . . .
لا ولا يبتغي النساء الصِّباحا
وقد روي أنه تزوج مع ذلك ليكون أغض لبصره وقيل : الحاصر نفسه عن الشهوات وقيل : عن معاصي الله وقيل : الحصور الهيوب وقال ابن مسعود أيضاً ، وابن عباس أيضاً ، والضحاك ، والمسيب : هو العنين الذي لا ذكر له يتأتى به النكاح ولا ينزل.
وإيراد الحصور وصفاً في معرض الثناء الجميل إنما يكون عن الفعل المكتسب دون الجبلة في الغالب ، والذي يقتضيه مقام يحيى عليه السلام أنه كان يمنع نفسه من شهوات الدنيا من النساء وغيرهن ، ولعل ترك النساء زهادة فيهن كان شرعهم إذ ذاك.
قال مجاهد : كان طعام يحيي العشب ، وكان يبكي من خشية الله حتى لو كان القار على عينيه لخرقه ، وكان الدمع اتخذ مجرىً في وجهه.
قيل : ومن هذا حاله فهو في شغل عن النساء وغيرهن من شهوات الدنيا.
وقيل : الحصور الذي لا يدخل مع القوم في الميسر.
قال الأخطل :
وشارب مربح بالكأس نادمني . . .
لا بالحصور ولا فيها بسآر
فاستعير لمن لا يدخل في اللعب واللهو.
وقد روي أنه : مر وهو طفل بصبيان فدعوه إلى اللعب ، فقال : ما للعب خلقت.
والحصور والحصِر كما تم السر قال جرير :
ولقد تشاقطني الوشاة فصادفوا . . .
حَصِراً بسرك يا أميم ضنينا
وجاء في الحديث عن ابن العاصي ، ما معناه : أن يحيى لم يكن له ما للرجل إلاَّ مثل هذا العود ، يشير إلى عويد صغير.
وفي رواية أبي هريرة : كان ذكره مثل هذه القذاة ، يشير إلى قذاة من الأرض أخذها.
وقد استدل بقوله { وحصوراً } من ذهب إلى أن التبتل لنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح ، وهو مذهب الجمهور خلافاً لمذهب أبي حنيفة ، فإنه بالعكس.
{ ونبياً } هذا الوصف الأشرف ، وهو أعلى الأوصاف ، فذكر أولاً الوصف الذي تبنى عليه الأوصاف بعده ، وهو : التصديق الذي هو الإيمان ، ثم ذكر السيادة وهي الوصف يفوق به قومه ، ثم ذكر الزهادة وخصوصاً فيما لا يكاد يزهد فيه وذلك النساء ، ثم ذكر الرتبة العليا وهي : رتبة النبوّة.
وفي هذه الأوصاف تشابه من أوصاف.
مريم عليها السلام ، وذلك أن زكريا لما رأى ما اشتملت عليه مريم من الأوصاف الجميلة ، وما خصها الله تعالى به من الخوارق للعادة ، دعا ربه أن يهب له ذرية طيبة ، فأجابة إلى ذلك ، ووهب له يحيى على وفق ما طلب ، فالتصديق مشترك بين مريم ويحيى ، وكانت مريم سيدة بني إسرائيل بنص الرسول في حديث فاطمة ، وكان يحيى سيداً ، فاشتركا في هذا الوصف.

وكانت مريم عذراء بتولاً لم يمسسها بشر وكان يحيى لا يقرب النساء.
وكانت مريم أتاها الملك رسولاً من عند الله وحاورها عن الله بمحاورات حتى زعم قوم أنها كانت نبية ، وكان يحيى نبياً ، وحقيقة النبوّة هو أن يوحي الله إليه ، فقد اشتركا في هذا الوصف.
{ من الصالحين } يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون المعنى من أصلاب الأنبياء ، كما قال : { ذرية بعضها من بعض } ويحتمل أن يكون المعنى : وصالحاً من جملة الصالحين.
كما قال تعالى في وصف إبراهيم { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } قال ابن الأنباري : معناه من صالحي الحال عند الله قال الكرماني : خص الأنبياء بذكر الصلاح لأنه لا يتخلل صلاحهم خلاف ذلك وقال الزجاج : الصالح هو الذي يؤدي ما افترض عليه وإلى الناس حقوقهم. انتهى.
وقد قال سليمان بعد حصول النبوّة له { وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } قيل : وتحقيق ذلك أن للأنبياء قدراً من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوّة ، ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر ، فمن كان أكثر نصيباً من الصلاح كان أعلى قدراً.
وقال الماتريدي : الصلاح يتحقق في كل نبي من جميع الوجوه ، وفي غيرهم لا يتحقق إلاَّ بعضها ، وإن كان الاسم ينطلق على الكل لكن سبب استحقاق الاسم في الأنبياء هو تحقيق الصلاح من جميع الوجوه ، وفي غيرهم من بعضها ، فخصه بالذكر حتى ينقطع احتمال جواز النبوّة في مطلق المؤمنين ، فكان تقييده باسم الصلاح مفيداً.
وقيل : من الصالحين في الدنيا والآخرة ، فيكون إشارة إلى الدوام على الإيمان ، والأمن من خوف الخاتمة.
{ قال رب أنَّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر } كان قد تقدّم سؤاله به : { رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } فلا شك في إمكانية ذلك ، وجوازه : وإذا كان ذلك ممكناً وبشرته به الملائكة ، فما وجه هذا الاستفهام؟.
وأجيب بوجوه :.
أحدهما : أنه سؤال عن الكيفية ، والمعنى : أيولد لي على سن الشيخوخة وكون امرأتي عاقراً؟ أي بلغت سن من لا تلد ، وكان قد بلغ تسعاً وتسعين سنة ، وامرأته بلغت ثمانياً وتسعين سنة وقال ابن عباس : كان يوم بشر ابن عشرين ومائة سنة وقال الكلبي : ابن اثنتين وتسعين سنة.
أم أُعاد أنا وامرأتي إلى سن الشبيبة وهيئة من يولد له؟ فأجيب : بأنه يولد له على هذه الحال.
قال معناه : الحسن ، والأصم.
الثاني : أنه لما بشر بالولد استعلم : أيكون ذلك الولد من صلبه نفسه أم من بنيه؟.
الثالث : أنه كان نسي السؤال ، وكان بين السؤال والتبشير أربعون سنة ونقل عن سفيان أنه كان بينهما ستون سنة.
الرابع : أن هذا الاستعلام هو على سبيل الاستعظام لقدرة الله تعالى ، يحدث ذلك عند معاينة الآيات وهو يرجع معناه إلى ما قاله بعضهم : إن ذلك من شدّة الفرح ، لكونه كالمدهوش عند حصول ما كان مستعبداً له عادة.

الخامس : إنما سأل لأنه كان عاجزاً عن الجماع لكبر سنه ، فسأل ربه : هل يقويه على الجماع وامرأته على القبول على حال الكبر؟
السادس : سأل هل يرزق الولد من امرأته العاقر أم من غيرها.
السابع : أنه لما بشر بالولد أتاه الشيطان ليكدر عليه نعمة ربه ، فقال له : هل تدري من ناداك؟ قال : ملائكة ربي! قال له : بل ذلك الشيطان ، ولو كان هذا من عند ربك لأخفاه لك كما أخفيت نداءك ، فخالطت قلبه وسوسة ، فقال : { أنى يكون لي غلام } ليبين الله له من الوحي ، قاله عكرمة ، والسدي.
قال القاضي : لو اشتبه على الرسل كلام الملك بكلام الشيطان لم يبق الوثوق بجميع الشرائع.
وأجيب : بأن ما قاله لا يلزم لاحتمال أن تقوم المعجزة على الوحي بما بتعلق بالدين ، وأما ما يتعلق بمصالح الدنيا فربما لا يؤكد بالمعجزة ، فيبقى الاحتمال ، فيطلب زواله.
وقال الزمخشري : استبعاد من حيث العادة.
كما قالت مريم. انتهى.
وعلى ما قاله : لو كان استبعاداً لما سأله بقوله : { هب لي من لدنك ذرية طيبة } لأنه لا يسأل إلاَّ ما كان ممكناً لا سيما الأنبياء ، لأن خرق العادة في حقهم كثير الوقوع.
و : يكون ، يجوز أن تكون تامّة وفاعلها غلام ، أي : أنَّي يحدث لي غلام؟ ويجوز أن تكون ناقصة ، ولا يتعين إذ ذاك تقديم الخبر على الأسم ، لأنه قيل : دخول كان مصحح لجواز الإبتداء بالنكرة ، إذ تقدّم أداة الإستفهام مسوغ لجواز الإبتداء بالنكرة ، والجملتان بعد كل منهما حال ، والعامل فيهما : يكون ، إن كانت تامة ، أو العامل في : لي ، إن كانت ناقصة.
وقيل : { وامرأتي عاقر } حال من المفعول في : بلغني ، والعامل بلغني ، وكانت الجملة الأولى فعلية لأن الكبر يتجدّد شيئاً فشيئاً ، فلم يكن وصفاً لازماً ، وكانت الثانية اسمية والخبر : عاقر ، لأنه كونها عاقراً أمر لازم لها لم يكن وصفاً طارئاً عليها ، فناسب لذلك أن تكون الأولى جملة فعلية ، وناسب أن تكون الثانية جملة اسمية ، ومعنى : بلغني الكبر ، أثر فيّ : وحقيقة البلوغ في الإجرام ، وهو أن ينتقل البالغ إلى المبلوغ إليه.
وأسند البلوغ إلى الكبر توسعاً في الكلام ، كأن الكبر طالب له ، لأن الحوادث طارئة على الإنسان ، فكأنهما طالبة له وهو المطلوب ، وقيل : هو من المقلوب ، كما جاء : { وقد بلغت من الكبر عتياً } وكما قال :
مثل القنافذ هدّاجون قد بلغت . . .
نجران أو بلغت سوآتهم هجر
وقال الراغب : إذا بلغت الكبر فقد بلغك الكبر. انتهى.
وهنا قدّم حال نفسه وأخر حال امرأته ، وفي مريم عكس ، فقال الماتريدي : لا تراعى الألفاظ في الحكاية إنما تراعى المعاني المدرجة في الألفاظ.
وقال غيره : صدر الآيات في مريم مطابق لهذا الترتيب هنا ، لأنه قدم : أنه وهن العظم منه ،

{ واشتعل الرأس شيباً } وقال : { وإني خفت الموالي من ورائي ، وكانت امرأتي عاقراً } ، فلما أعاد ذكرها في الاستعلام أخر ذكر الكبر ليوافق عتياً روؤس الآي ، وهو باب مقصود في الفصاحة يترجح إذا لم يخل بالمعنى ، والعطف هنا بالواو ، فليس التقديم والتأخير مشعراً بتقدم زمان ، وإنما هذا من باب تقديم المناسب في فصاحة الكلام.
{ قال كذلك الله يفعل ما يشاء } الكاف : للتشبيه ، وذلك : إشارة إلى الفعل ، أي : مثل ذلك الفعل ، وهو تكوّن الولد بين الفاني والعاقر ، يفعل الله ما يشاء من الأفعال الغريبة فيكون إخباراً من الله أنه يفعل الأشياء التي تتعلق بها مشيئته فعلاً ، مثل ذلك الفعل لا يعجزه شيء ، بل سبب إيجاده هو تعلق الإرادة : سواء كان من الأفعال الجارية على العادة أم من التي لا تجري على العادة؟ وإذا كان تعالى يوجد الأشياء من العدم الصرف بلا مادة ولا سبب ، فكيف بالأشياء التي لها مادة وسبب وإن كان ذلك على خلاف العادة؟ وتكون الكاف على هذا الوجه في موضع نصب على أنها صفة لمصدر محذوف ، أي : فعلاً مثل ذلك الفعل ، أو على انها في موضع الحال من ضمير المصدر المحذوف : من يفعل ، وذلك على مذهب سيبويه ، وقد تقدّم لنا مثل هذا ، ويحتمل أن يكون كذلك الله مبتدأ وخبراً ، وذلك على حذف مضاف ، أي صنع الله الغريب مثل ذلك الصنع ، ويكون { يفعل ما يشاء } شرحاً للإبهام الذي في اسم الإشارة ، وقدره الزمخشري على نحو هذه الصفة : الله ، قال : { ويفعل ما يشاء } بيان له ، أي يفعل ما يشاء من الأفاعيل الخارقة للعادات. انتهى.
وقال ابن عطية : أي : كهذه القدرة المسغربة هي قدرة الله. انتهى.
وعلى هذا الاحتمال ، تكون الكاف في موضع رفع ، لأن الجار والمجرور في موضع خبر المبتدأ والكلام جملتان ، وعلى التفسير الأول الكلام جملة واحدة.
قال ابن عطية وغيره : واللفظ لابن عطية : ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكريا وحال امرأته ، كأنه قال : رب على أي وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا؟ فقال له : كما أنتما يكون لكما الغلام.
والكلام تام على هذا التأويل.
في قوله : كذلك وقوله : الله يفعل ما يشاء.
جملة مبينة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب.
انتهى كلامه.
فيكون : كذلك ، متعلقاً بمحذوف وشرح الراغب المعنى فقال : يهب لك الولد وأنت بحالتك.
والظاهر من هذه الأقوال الثلاثة هو الأول.
{ قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً } قال الربيع ، والسدي ، وغيرهما : إن زكريا قال : يا رب إن كان ذلك الكلام من قبلك ، والبشارة حق ، فاجعل لي آية ، علامة أعرف بها صحة ذلك! فعوقب على هذا الشك في أمر الله بأن منع الكلام ثلاثة أيام مع الناس.

وقالت فرقة من المفسرين : لم يشك قط زكريا ، وإنما سأل عن الجهة التي بها يكون الولد ، وتتم به البشارة ، فلما قيل له :.
{ كذلك الله يفعل ما يشاء } سأل علامة على وقت الحمل ليعرف متى يكون العلوق بيحيى.
واختلفوا في منعه الكلام : هل كان لآفة نزلت به أم لغير آفة؟ فقال جبير بن نفير : ربا لسانه في فيه حتى ملأه ، ثم أطلقه الله بعد ثلاث.
وقال الربيع ، وغيره : أخذ الله عليه لسانه فجعل لا يقدر على الكلام معاقبة على سؤال آية بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة.
وقالت طائفة : لم تكن آفة ، ولكنه منع مجاورة الناس ، فلم يقدر عليها ، وكان يقدر على ذكر الله.
قاله الطبري ، وذكر نحوه عن محمد بن كعب ، وكانت الآية حبس اللسان لتخلص المدة لذكر الله لا يشغل لسانه بغيره توفراً منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها ، وكأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له : آيتك أن يحبس لسانك إلاَّ عن الشكر.
وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقاً من السؤال ، ومنتزعاً منه وكان الإعجاز في هذه الآية من جهة قدرته على ذكر الله ، وعجزه عن تكليم الناس ، مع سلامة البنية واعتدال المزاج ، ومنه جهة وقوع العلوق وحصوله على وفق الاخبار.
وقيل : أمر أن يصوم ثلاثة أيام ، وكانوا لا يتكلمون في صومهم.
وقال أبو مسلم : يحتمل أن يكون معناه : آيتك أن تصير مأموراً بأن لا تكلم الخلق ، وأن تشتغل بالذكر شكراً على إعطاء هذه الموهبة ، وإذا أمرت بذلك فقد حصل المطلوب.
قيل : فسأل الله أن يفرض عليه فرضاً يجعله شكراً لذلك.
والذي يدل عليه ظاهر الآية أنه سأل آية تدل على أنه يولد له ، فأجابه بأن آيته انتفاء الكلام منه مع الناس ثلاثة أيام إلاَّ رمزاً ، وأمر بالذكر والتسبيح وانتفاء الكلام قد يكون لمتكلف به ، أو بملزومه في شريعتهم ، وهو الصوم ، وقد يكون لمنع قهري مدّة معينة لآفة تعرض في الجارحة ، أو لغير آفة ، قالوا : مع قدرته على الكلام بذكر الله.
قال الزمخشري : ولذلك قال : { واذكر ربك } إلى آخره يعني في أيام عجزك عن تكليم الناس ، وهي من الآيات الباهرة. انتهى.
ولا يتعين ما قاله لما ذكرناه من احتمالات وجوه الإنتفاء ، ولأن الأمر بالذكر والتسبيح ليس مقيداً بالزمان الذي لا يكلم الناس ، وعلى تقدير تقييد ذلك لا يتعين أن يكون الذكر والتسبيح بالنطق بالكلام ، وظاهر : إجعل ، هنا أنها بمعنى صيِّر ، فتتعدّى لمفعولين : الأول آية ، والثاني المجرور ، قبله وهو : لي ، وهو يتعين تقديمه ، لأنه قبل دخول : إجعل ، هو مصحح لجواز الابتداء بالنكرة.
وقرأ ابن أبي عبلة : أن لا تكلم ، برفع الميم على أن : أن ، هي المخففة من الثقيلة ، أي أنه لا تكلم ، واسمها محذوف ضمير الشأن ، أو على إجراء : أن ، مجرى : ما المصدرية ، وانتصاب : ثلاثة أيام ، على الظرف خلافاً للكوفيين ، إذ زعموا أنه كان اسم الزمان يستغرقه الفعل ، فليس بظرف ، وإنما ينتصب انتصاب المفعول به نحو : صمت يوماً ، فانتصاب ثلاثة أيام عندهم على أنه مفعول به ، لأن انتفاء الكلام منه للناس كان واقعاً في جميع الثلاثة ، لم يخل جزء منها من انتفاء فيه.

والمراد : ثلاثة أيام بلياليها ، يدل على ذلك قوله في سورة مريم : { قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً } وهذا يضعف تأويل من قال : أمر بالصوم ثلاثة أيام ، وكانوا لا يتكلمون في صومهم ، والليالي تبعد مشروعية صومها ، ولم يعين ابتداء ثلاثة أيام ، بل أطلق فقال : ثلاثة أيام ، فإن كان ذلك بتكليف فيمكن أن يكون ذلك موكولاً إلى اختياره ، يمتنع من تكليم الناس ثلاثة أيام متى شاء ، ويمكن أن يكون ذلك من حين الخطاب ، وإن كان بمنع قهري فيظهر أنه من حين الخطاب.
قيل : وفي ذلك دلالة على نسخ القرآن بالسنة ، وهذا على تقدير قدرة زكريا على الكلام في تلك الأيام الثلاثة ، وأن شرعه مشرع لنا وإن نسخه قوله صلى الله عليه وسلم : « لا صمت يوم إلى الليل »
وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن معناه : لا صمت يوم ، أي عن ذكر الله ، وأما الصمت عما لا منفعة فيه ، فحسن.
واستثناء الرمز ، قيل : هو استثناء منقطع ، إذا الرمز لا يدخل تحت التكليم ، من أطلق الكلام في اللغة على الإشارة الدالة على ما في نفس المشير ، فلا يبعد أن يكون هذا استثناء متصلاً على مذهبه.
ولذلك أنشد النحويون :
أرادت كلاماً فاتقت من رقيبها . . .
فلم يك إلاَّ ومؤها بالحواجب
وقال :
إذا كلمتني بالعيون الفواتر . . .
رددت عليها بالدموع البوادر
واستعمل المولدون هذا المعنى.
قال حبيب :
كلمته بجفون غير ناطقة . . .
فكان من ردّه ما قال حاجبه
وكونه استثناءً متصلاً بدأ به الزمخشري.
قال : لما أدّى مؤدّي الكلام ، وفهم منه ما يفهم منه ، سمي كلاماً.
وأما ابن عطية فاختار أن يكون منقطعاً.
قال : والكلام المراد به في الآية إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس ، فحقيقة هذا الاستثناء أنه منقطع ، وبدأ به أوّلاً ، فقال استثناء الرمز وهو استثناء منقطع ، ثم قال : وذهب الفقهاء في الإشارة ونحوها إلى أنها في حكم الكلام في الإيمان ونحوها ، فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلاً ، والرمز هنا : تحريك بالشفتين ، قاله مجاهد.
أو : إشارة باليد والرأس ، قاله الضحاك ، والسدّي ، وعبد الله بن كثير.
أو : إشارة باليد ، قاله الحسن.
أو : إيماء ، قاله قتادة.
فالإيماء هو الإشارة لكنه لم يعين بماذا أشار.
وروي عن قتادة : إشارة باليد أو اشارة بالعين ، روي ذلك عن الحسن.
وقيل : رمزه الكتابة على الأرض.
وقيل : الإشارة بالأصبع المسبحة.
وقيل : باللسان.

ومنه قول الشاعر :
ظل أياماً له من دهره . . .
يرمز الأقوال من غير خرس
وقيل : الرمز الصوت الخفي.
وقرأ علقمة بن قيس ، ويحيى بن وثاب : رمزاً ، بضم الراء والميم ، وخرج على أنه جمع رموز ، كرسل ورسول ، وعلى أنه مصدر كرمز جاء على فعل ، وأتبعت العين الفاء كاليسر واليسر.
وقرأ الأعمش : رمزاً ، بفتح الراء والميم ، وخرج على أنه جمع رامز ، كخادم وخدم ، وانتصابه إذا كان جمعاً على الحال من الفاعل ، وهو الضمير في تكلم ، ومن المفعول وهو : الناس.
كما قال الشاعر :
فلئن لقيتك خاليين لتعلمن . . .
أيىّ وأيّك فارس الأحزاب
أي : إلاَّ مترامزين كما يكلم الأخرس الناس ويكلمونه.
وفي قوله : { إلا رمزاً } دلالة على أن الإشارة تتنزل منزلة الكلام ، وذلك موجود في كثير من السنة.
وفي الحديث : « » أين الله «.
فأشارت برأسها إلى السماء ، فقال : » أعتقها فإنها مؤمنة « فأجاز الإسلام بالإشارة وهو أصل الديانة التي تحقن الدم وتحفظ المال وتدخل الجنة ، فتكون الإشارة عامة في جميع الديانات ، وهو قول عامة الفقهاء.
{ واذكر ربك كثيراً } قيل : الذكر هنا هو بالقلب ، لأنه منع من الكلام.
وقيل : باللسان لأنه منع من الكلام مع الناس ولم يمنع من الذكر.
وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : واذكر عطاء ربك وإجابته لدعائك.
وقال محمد بن كعب القرظي : لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا ، وللرجل في الحرب.
وقد قال تعالى : { إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً } وأمر بكثرة الذكر ليكثر ذكر الله له بنعمه وألطافه ، كما قال تعالى : { فاذكروني أذكركم }
وانتصاب : كثيراً ، على أنه نعت لمصدر محذوف ، أو منصوب على الحال من ضمير المصدر المحذوف الدال عليه : اذكروا ، على مذهب سيبويه.
{ وسبح بالعشيّ والإبكار } أي : نزه الله عن سمات النقص بالنطق باللسان بقولك : سبحان الله.
وقيل : معنى وسبح وصلّ ، ومنه : كان يصلي سبحة الضحى أربعاً ، فلولا أنه كان من المسبحين على أحد الوجهين.
والظاهر أنه أمر بتسبيح الله في هذين الوقتين : أول الفجر ، ووقت ميل الشمس للغروب ، قاله مجاهد وقال غيره : يحتمل أن يكون أراد بالعشيّ الليل ، وبالإبكار النهار ، فعبر بجزء كل واحد منهما عن جملته ، وهو مجاز حسن.
ومفعول : وسبح ، محذوف للعلم به ، لأن قبله : { واذكر ربك كثيراً } أي : وسبح ربك.
و : الباء في : بالعشى ، ظرفية أي : في العشي.
وقرىء شاذاً والابكار ، بفتح الهمزة ، وهو جمع بكر بفتح الباء والكاف ، تقول : أتيتك بكراً ، وهو مما يلتزم فيه الظرفية إذا كان من يوم معين ونظيره : سحر وأسحار ، وجبل وأجبال.
وهذه القراءة مناسبة للعشي على قول من جعله جمع عشية إذ يكون فيها تقابل من حيث الجمعية ، وكذلك هي مناسبة إذا كان العشي مفرداً ، وكانت الألف واللام فيه للعموم ، كقوله : { إن الإنسان لفي خسر } وأهلك الناس الدينار الصفر.

وأما على قراءة الجمهور : والإبكار ، بكسر الهمزة ، فهو مصدر ، فيكون قد قابل العشي الذي هو وقت ، بالمصدر ، فيحتاج إلى حذف أي : بالعشي ووقت الإبكار.
والظاهر في : بالعشي والإبكار ، أن الألف واللام فيهما للعموم ، ولا يراد به عشى تلك الثلاثة الأيام ولا وقت الإبكار فيها.
وقال الراغب : لم يعن التسبيح طرفي النهار فقط ، بل إدامة العبادة في هذه الأيام.
وقال غيره : يدل على أن المراد بالتسبيح الصلاة ، ذكره العشي والإبكار فكأنه قال : اذكر ربك في جميع هذه الأيام والليالي ، وصل طرفي النهار. انتهى.
ويتعلق : بالعشي ، بقوله : وسبح ، ويكون على إعمال الثاني وهو الأولى ، إذ لو كان متعلقاً بقوله : واذكر ربك ، لأضمر في الثاني ، إذ لا يجوز حذفه إلا في ضرورة.
قيل : أو في قليل من الكلام ، ويحتمل أن لا يكون من باب الإعمال ، فيكون الأمر بالذكر غير مقيد بهذين الزمانين.
قيل : وتضمنت هذه الآية من فنون الفصاحة أنواعاً : الزيادة في البناء في قوله : هنالك ، وقد ذكرت فائدته و : التكرار ، في ربه : قال رب ، وفي أن الله يبشرك ، وبكلمة من الله.
وفي آية قال : آيتك ، وفي : يكون لي غلام وكانت وتأنيث المذكر حملاً على اللفظ.
وفي : ذرية طيبة ، و : الإسناد المجازي في : وقد بلغني الكبر ، والسؤال والجواب : قال رب أنى؟ قال كذلك قال رب ، اجعل لي آية.
قال : آيتك.
قال أرباب الصناعة : أحسن هذا النوع ما كثرت فيه القلقلة والحذف في مواضع.

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)

القلم : معروف وهو الذي يكتب به ، وجمعه أقلام ويقع على السهم الذي يقترع به ، وهو فعل بمعنى مفعولاً لأنه يقلم أي : يبرى ويسوى وقيل : هو مشتق من القلامة ، وهي نبت ضعيف لترقيقه ، والقلامة أيضاً ما سقط من الظفر إذا قلم ، وقلمت أظفاره أخذت منها وسويتها قال زهير :
لدى أسد شاكي السلاح مقذف . . .
له لبد أظفاره لم تقلم
وقال بعض المولدين :
يشبه بالهلال وذاك نقص . . .
قلامة ظفره شبه الهلال
الوحي : إلقاء المعنى في النفس في خفاء ، فقد يكون بالملك للرسل وبالإلهام كقوله : { وأوحى ربك إلى النحل } وبالإشارة كقوله.
لأوحت إلينا والأنامل رسلها . . .
{ فأوحى إليهم أن سبحوا } وبالكتابة : قال زهير :
أتى العجم والآفاق منه قصائد . . .
بَقِينَ بقاء الوَحْيِ في الحَجَرِ الأَصَمّ
والوحي : الكتاب قال :
فمدافع الرّيان عرّى رسمها . . .
خلقا كما ضمن الوحيّ سلامها
وقيل : الوحي جمع : وحي ، وأما الفعل فيقال أوحى ووحي.
المسيح : عبراني معرب ، وأصله بالعبراني مشيحا ، بالشين عرب بالسين كما غيرت في موشى ، فقيل : موسى ، قاله أبو عبيد وقال الزمخشري : ومعناه المبارك ، كقوله { وجعلني مباركاً أينما كنت } وهو من الألقاب المشرّفة ، كالصدّيق ، والفاروق ، انتهى.
وقيل : المسيح عربي ، واختلف : أهو مشتق من السياحة فيكون وزنه مفعلاً؟ أو من المسيح فيكون وزنه فعيلاً؟ وهل يكون بمعنى مفعول أو فاعل خلاف ، ويتبين في التفسير لم سمي بذلك.
الكهل : الذي بلغ سن الكهولة وآخرها ستون وقيل : خمسون وقيل : اثنان وخمسون ، ثم يدخل سن الشيخوخة.
واختلف في أوّلها فقيل : ثلاثون وقيل : اثنان وثلاثون وقيل : ثلاثة وثلاثون.
وقيل : خمسة وثلاثون وقيل : أربعون عاماً.
وهو من اكتهل النبات إذا قوي وعلا ، ومنه : الكاهل ، وقال ابن فارس : اكتهل الرجل وخطه الشيب ، من قولهم : اكتهلت الروضة إذا عمها النور ، ويقال للمرأة : كهلة. انتهى.
ونقل عن الأئمة في ترتيب سن المولود وتنقل أحواله : أنه في الرحم : جنين ، فإذا ولد : فوليد ، فإذا لم يستتم الأسبوع : فصديع ، وإذا دام يرضع : فرضيع ، وإذا فطم : ففطيم ، وإذا لم يرضع : فجحوش ، فإذا دب ونما : فدارج ، فإذا سقطت رواضعه : فمثغور ، فإذا نبتت بعد السقوط : فمثغر ، بالتاء والثاء.
فإذا كان يجاوز العشر : فمترعرع وناشىء ، فإذا كان يبلغ الحلم : فيافع ، ومراهق ، فإذا احتلم : فمحزور ، وهو في جميع هذه الأحوال : غلام.
فإذا اخضر شاربه وسال عذاره : فباقل ، فإذا صار ذاقناً : ففتى وشارخ ، فإذا كملت لحيته : فمجتمع ، ثم ما دام بين الثلاثين والأربعين : فهو شاب ، ثم هو كهل : إلى أن يستوفي الستين.
هذا هو المشهور عند أهل اللغة.
الطين : معروف ، ويقال طانه الله على كذا ، وطامه بابدال النون ميماً ، جبله وخلقه على كذا ، ومطين لقب لمحدث معروف.
الهيئة : الشكل والصورة ، وأصله مصدر يقال : هاء الشيء بهاء هيأ وهيئة إذا ترتب واستقر على حال مّا ، وتعديه بالتضعيف ، فتقول : هيأته ، قال

{ ويهيء لكم }
النفخ : معروف.
الإبراء : إزالة العلة والمرض ، يقال : برىء الرجل وبرأ من المرض ، وأما من الذنب ومن الدّين فبريء.
الكمه : العمى يولد به الإنسان وقد يعرض ، يقال : كمه يكمه كمهاً : فهو أكمه.
وكمهتها أنا أعميتها قال سويد :.
كمهت عيناه حتى ابيضتا . . .
وقال رؤبة.
فارتد عنها كارتداد الأكمه . . .
البرص : داء معروف وهو بياض يعتري الجلد ، يقال منه : برص فهو أبرص ، ويسمى القمر أبرص لبياضه ، والوزغ سام أبرص للبياض الذي يعلو جلده.
ذخر : الشيء يذخره خبأه ، والذخر المذخور قال :
لها أشارير من لخم تثمره . . .
من الثعالي وذخر من أرانبها
{ وإذ قالت الملائكة يا مريم ان الله اصطفاك } لما فرغ من قصة زكريا ، وكان قد استطرد من قصة مريم إليها ، رجع إلى قصة مريم ، وهكذا عادة أساليب العرب ، متى ذكروا شيئاً استطردوا منه إلى غيره ثم عادوا إلى الأول إن كان لهم غرض في العود إليه ، والمقصود تبرئة مريم عن ما رمتها به اليهود ، وإظهار استحالة أن يكون عيسى إلهاً ، فذكر ولادته.
وظاهر قوله الملائكة أنه جمع من الملائكة وقيل : المراد جبريل ومن معه من الملائكة ، لأنه نقل أنه : لا ينزل لأمر إلاَّ ومعه جماعة من الملائكة وقيل : جبريل وحده.
وقرأ ابن مسعود ، وعبد الله بن عمرو : وإذ قال الملائكة ، وفي نداء الملائكة لها باسمها تأنيس لها وتوطئة لما تلقيه إليها ومعمول القول الجملة المؤكدة : بإن.
والظاهر مشافهة الملائكة لها بالقول قال الزمخشري : روي أنهم كلموها شفاهاً معجزة لزكريا ، أو إرهاصاً لنبوّة عيسى. انتهى.
يعني : بالارهاص التقدّم ، والدلالة على نبوّة عيسى وهذا مذهب المعتزلة ، لأن الخارق للعادة عندهم لا يكون على يد غير نبي إلاَّ إن كان في وقته نبي ، أو انتظر بعث نبي ، فيكون ذلك الخارق مقدمة بين يدي بعثة ذلك النبي.
{ وطهرك } التطهير هنا من الحيض ، قاله ابن عباس قال السدي : وكانت مريم لا تحيض.
وقال قوم : من الحيض والنفاس وروي عن ابن عباس : من مس الرجال وعن مجاهد : عما يصم النساء في خلق وخلق ودين ، وعنه أيضاً : من الريب والشكوك.
{ واصطفاك على نساء العالمين } قيل : كرر على سبيل التوكيد والمبالغة وقيل : لا توكيد إذ المراد بالاصطفاء الأول اصطفاء الولاية ، وبالثاني اصطفاء ولادة عيسى ، لأنها بولادته حصل لها زيادة اصطفاء وعلو منزلة على الأكفاء وقيل : الاصطفاء الأول : اختيار وعموم يدخل فيه صوالح من النساء ، والثاني : اصطفاء على نساء العالمين.
وقيل : لما أطلق الاصطفاء الأول بيّن بالثاني أنها مصطفاة على النساء دون الرجال وقال الزمخشري : اصطفاك أوّلاً حين تقبلك من أمّك ورباك ، واختصك بالكرامة السنية ، وطهرك مما يستقذر من الأفعال ، ومما قذفك به اليهود ، واصطفاك آخراً على نساء العالمين بأن وهب لك عيسى من غير أب ، ولم يكن ذلك لأحد من النساء.

انتهى.
وهو كلام حسن ، ويكون : نساء العالمين ، على قوله عاماً ، ويكون الأمر الذي اصطفيت به من أجله هو اختصاصها بولادة عيسى وقيل : هو خدمة البيت وقيل : التحرير ولم تحرر أنثى غير مريم وقيل : سلامتها من نخس الشيطان وقيل : نبوتها ، فإنه قيل إنها نبئت ، وكانت الملائكة تظهر لها وتخاطبها برسالة الله لها ، وكان زكريا يسمع ذلك ، فيقول : إن لمريم لشأناً.
والجمهور على أنه لم ينبأ امرأه ، فالمعنى الذي اصطفيت لأجله مريم على نساء العالمين هو شيء يخصها ، فهو اصطفاء خاص إذ سببه خاص وقيل : نساء العالمين ، خاص بنساء عالم زمانها ، فيكون الاصطفاء إذ ذاك عاماً ، قاله ابن جريج.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « خير نساء الجنة مريم بنت عمران » وروي : « خير نسائها مريم بنت عمران » وروي : « خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد » وروي : « فضلت خديجة على نساء أمّتي كما فضلت مريم على نساء العالمين » وروي : أنها من الكاملات من النساء.
وقد روي في الأحاديث الصحاح تفضيل مريم على نساء العالمين ، فذهب جماعة من المفسرين إلى ظاهر هذا التفضيل قال بعض شيوخنا : والذي رأيت ممن اجتمعت عليه من العلماء ، أنهم ينقلون عن أشياخهم : أن فاطمة أفضل النساء المتقدمات والمتأخرات لأنها بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ يا مريم اقنتي لربك } لا خلاف بين المفسرين أن المنادي لها بذلك الملائكة الذين تقدّم ذكرهم على الخلاف المذكور ، والمراد بالقنوت هنا : العبادة ، قاله الحسن ، وقتادة.
أو : طول القيام في الصلاة ، قاله مجاهد ، وابن جريج ، والربيع ، أو : الطاعة ، أو : الإخلاص ، قاله ابن جبير.
وفي قوله : لربك ، إشارة إلى أن تفرّده بالعبادة وتخصصه بها ، والجمهور على ما قاله مجاهد ، وهو المناسب في المعنى لقوله : { واسجدي واركعي } وروى مجاهد أنها : لما خوطبت بهذا قامت حتى ورمت قدماها.
وقال الأوزاعي : قامت حتى سال الدم والقيح من قدميها.
وروي : أن الطير كانت تنزل على رأسها تظنها جماداً لسكونها في طول قيامها.
{ واسجدي واركعي مع الراكعين } أمرتها الملائكة بفعل ثلاثة أشياء من هيئات الصلاة ، فإن أريد ظاهر الهيئات فهي معطوفة بالواو ، والواو لا ترتب ، فلا يسأل لم قدم السجود على الركوع إلاَّ من جهة علم البيان.
والجواب : أن السجود لما كانت الهيئة التي هي أقرب ما يكون العبد فيها إلى الله قدم ، وإن كانت متأخراً في الفعل على الركوع ، فيكون إذ ذاك التقديم بالشرف.
وقيل : كان السجود مقدّماً على الركوع في شرع زكريا وغيره منهم ، ذكره أبو موسى الدمشقي.
وقيل : في كل الملل إلاَّ ملة الإسلام ، فجاء التقديم من حيث الوقوع في ذلك الشرع ، فيكون إذ ذاك التقديم زمانياً من حيث الوقوع ، وهذا التقديم أحد الأنواع الخمسة التي ذكرها البيانيون ، وكذلك التقديم الذي قبله ، وتوارد الزمخشري ، وابن عطية على أنه لا يراد ظاهر الهيئات.

فقال الزمخشري : أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئات الصلاة وأركانها ، ثم قيل لها { واركعي مع الراكعين } المعنى : ولتكن صلاتك مع المصلين أي في الجماعة ، أي وانظمي نفسك في جملة المصلين ، وكوني معهم وفي عدادهم ، ولا تكون في عداد غيرهم.
وقال ابن عطية : القول عندي في ذلك أن مريم أمرت بفعلين ومعلمين من معالم الصلاة ، وهما : طول القيام والسجود ، وخصا بالذكر لشرفهما في أركان الصلاة.
وهذان يختصان بصلاتها منفردة ، وإلاَّ فمن يصلي وراء إمام لا يقال له : أطل قيامك ، ثم أمرت بعدُ بالصلاة في الجماعة ، فقيل لها : { واركعي مع الراكعين } وقصد هنا معلم آخر من معالم الصلاة لئلا يتكرر لفظ.
ولم يرد بالآية السجود والركوع الذي هو منتظم في ركعة واحدة.
انتهى كلامه.
ولا ضرورة بنا تخرج اللفظ عن ظاهره.
وقد ذكرنا مناسبة لتقديم السجود على الركوع ، وقد استشكل ابن عطية هذا ، فقال : وهذه الآية أشد إشكالاً من قولنا : قام زيد وعمرو ، لأن قيام زيد وعمرو ليس له رتبة معلومة ، وقد علم أن السجود بعد الركوع ، فكيف جاءت الواو بعكس ذلك في هذه الآية؟ انتهى.
وهذا كلام من لم يمعن النظر في كتاب سيبويه ، فإن سيبويه ذكر أن الواو يكون معها في العطف المعية ، وتقديم السابق وتقديم اللاحق يحتمل ذلك احتمالات سواء ، فلا يترجح أحد الاحتمالات على الآخر ، ولا التفات لقول بعض أصحابنا المتأخرين في ترجيح المعية على تقديم السابق وعلى تقديم اللاحق ، ولا في ترجيح تقديم السابق على تقديم اللاحق.
وذكر الزمخشري توجيهاً آخر في تأخير الركوع عن السجود ، فقال : ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع ، وفيه من يركع ، فأمرت بأن تركع مع الراكعين ، ولا تكون مع من لا يركع. انتهى.
فكأنه قيل : لا تقتصري على القيام والسجود ، بل أضيفي إلى ذلك الركوع.
وقيل : المراد : باقنتي : أطيعي ، وباسجدي : صلي ، ومنه { وأدبار السجود } أي : الصلوات ، و : باركعي : أشكري مع الشاكرين ، ومنه : { وخرّ راكعاً وأناب } ويقوي هذا المعنى ، ويرد على من زعم أنه لم تشرع صلاة إلاَّ والركوع فيها مقدّم على السجود ، فإن المشاهد من صلاة اليهود والنصارى خلوّها من الركوع ، ويبعد أن يراد بالركوع الإنحناء الذي يتوصل منه إلى السجود ، ويحتمل أن يكون ترك الركوع مما غيرته اليهود والنصارى من معالم شريعتهم.
و : مع ، في قوله : مع الراكعين ، تقتضي الصحبة والإجتماع في إيقاع الركوع مع من يركع ، فتكون مأمورة بالصلاة في جماعة ، ويحتمل أن يتجوز في : مع ، فتكون للموافقة للفعل فقط دون اجتماع ، أي : إفعلي كفعلهم ، وإن لم توقعي الصلاة معهم ، فإنها كانت تصلي في محرابها.

وجاء : مع الراكعين ، دون الراكعات لأن هذا الجمع أعم إذ يشمل الرجال والنساء على سبيل التغليب ، ولمناسبة أواخر الآيات قبل وبعد ، ولأن الاقتداء بالرجال أفضل إن قلنا إنها مأمورة بصلاة الجماعة.
قال الماتريدي : ولم تكره لها الصلاة في الجماعة ، وإن كانت شابة ، لأنهم كانوا ذوي قرابة منها ورحم ، ولذلك اختصوا في ضمها وإمساكها. انتهى.
{ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك } الإشارة إلى ما تقدّم من قصص امرأة عمران ، وبنتها مريم ، وزكريا ، ويحيى ، والمعنى : أن هذه القصص وصولها إليك من جهة الوحي إذ لست ممن دارس الكتب ، ولا صحب من يعرف ذلك ، وهو من قوم أمّيين ، فمدرك ذلك إنما هو الوحي من عند الله كما قال في الآية الأخرى ، وقد ذكر قصة أبعد الناس زماناً من زمانه ، صلى الله عليه وسلم.
وهو نوح عليه السلام ، واستوفاها له في سورة هود أكثر مما استوفاها في غيرها { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا } وفي هذا دليل على نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أخبر بغيوب لم يطلع عليها إلاَّ من شاهدها ، أو : من قرأها في الكتب السابقة ، أو : من أوحي الله إليه بها.
وقد انتفى العيان والقراءة ، فتعين الثالث وهو الوحي من الله تعالى.
والكاف في : ذلك ، و : إليك ، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والأحسن في الإعراب أن يكون : ذلك ، مبتدأ و : من أنباء الغيب ، خبره.
وأن يكون : نوحيه ، جملة مستأنفة ، ويكون الضمير في : نوحيه ، عائداً على الغيب ، أي : شأننا أننا نوحي إليك الغيب ونعلمك به ، ولذلك أتى بالمضارع ، ويكون أكثر فائدة من عوده على : ذلك ، إذ يشتمل ما تقدّم من القصص وغيرها التي يوحيها إليه في المستقبل ، إذ يصير نظير : زيد يطعم المساكين ، فيكون إخباراً بالحالة الدائمة.
والمستعمل في هذا المعنى إنما هو المضارع ، وإذ يلزم من عوده على : ذلك ، أن يكون : نوحيه ، بمعنى : أوحيناه إليك ، لأن الوحي به قد وقع وانفصل ، فيكون أبعد في المجاز منه إذا كان شاملاً لهذه القصص وغيرها مما سيأتي ، وجوّزوا أن يكون : نوحيه ، خبراً : لذلك ، و : من أنباء ، حال من : الهاء ، في : نوحيه ، أو متعلقاً : بنوحيه.
{ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم } هذا تقرير وتثبيت أن ما علمه من ذلك إنما هو بوحي من الله تعالى ، والمعلم به قصتان : قصة مريم ، وقصة زكريا.
فنبه على قصة مريم إذ هي المقصودة بالإخبار أولاً ، وإنما جاءت قصة زكريا على سبيل الاستطراد ، ولاندراج بعض قصة زكريا في ذكر من يكفل ، فما خلت من تنبيه على قصة.
ومعنى : { وما كنت لديهم } أي : ما كنت معهم بحضرتهم إذ يلقون أقلامهم.

ونفي المشاهدة ، وإن كانت منتفية بالعلم ولم تنتف القراءة والتلقي ، من حفاظ الأنباء على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي ، وقد علموا أنه ليس ممن يقرأ ، ولا ممن ينقل عن الحفاظ للأخبار ، فتعين أن يكون علمه بذلك بوحي من الله تعالى إليه ، ونظيره في قصة موسى : { وما كنت بجانب الغربي } { وما كنت بجانب الطور } وفي قصة يوسف { وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم }
والضمير ، في : لديهم ، عائد على غير مذكور ، بل على ما دل عليه المعنى ، أي : وما كنت لدى المتنازعين ، كقوله : { فأثرن به نقعاً } أي : بالمكان.
والعامل في : إذ ، العامل في : لديهم.
وقال أبو علي الفارسي : العامل في : إذ ، كنت. انتهى.
ولا يناسب ذلك مذهبه في كان الناقصة.
لأنه يزعم أنها سلبت الدلالة على الحدث ، وتجردت للزمان وما سبيله هكذا ، فكيف يعمل في ظرف؟ لأن الظرف وعاء للحدث ولا حدث فلا يعمل فيه ، والمضارع بعد : إذ ، في معنى الماضي ، أي : إذ ألقوا أقلامهم للاستهام على مريم ، والظاهر أنها الأقلام التي للكتابة.
وقيل : كانوا يكتبون بها التوراة ، فاختاروها للقرعة تبركاً بها.
وقيل : الأقلام هنا الأزلام ، وهي : القداح ، ومعنى الإلقاء هنا الرمي والطرح ، ولم يذكر في الآية ما الذي ألقوها فيه ، ولا كيفية حال الإلقاء ، كيف خرج قلم زكريا.
وقد ذكرنا فيما سبق شيئاً من ذلك عن المفسرين ، والله أعلم بالصحيح منها.
وقال أبو مسلم : كانت الأمم يكتبون أسماءهم على سهام عند المنازعة ، فمن خرج له السهم سلم له الأمر ، وهو شبيه بأمر القداح التي يتقاسم بها الجزور.
وارتفع { أيهم يكفل مريم } على الابتداء والخبر ، وهو في موضع نصب إما على الحكاية بقول محذوف ، أي : يقولون أيهم يكفل مريم ، وإما بعلة محذوفة أي : ليعلموا أيّهم يكفل ، وإما بحال محذوفة أي : ينظرون أيّهم يكفل ، ودل على المحذوف : { يلقون أقلامهم } وقد استدل بهذه الآية على إثبات القرعة وهي مسألة فقهية تذكر في علم الفقه.
{ وما كنت لديهم إذ يختصمون } أي : بسبب مريم ، ويحتمل أن يكون هذا الاختصام هو الاقتراع ، وأن يكون اختصاماً آخر بعده ، والمقصود شدّة رغبتهم في التكفل بشأنها.
والعامل في : اذ ، العامل في : لديهم ، أو ، كنت ، على قول أبي علي في : إذ يلقون.
وتضمنت هذه الآية من ضروب الفصاحة : التكرار في : اصطفاك ، وفي : يا مريم ، وفي : ما كنت لديهم.
قيل : والتقديم والتأخير في : واسجدي واركعي ، على بعض الأقوال.
والاستعارة ، فيمن جعل القنوت والسجود والركوع ليس كناية عن الهيئات التي في الصلاة ، والإشارة بذلك من أنباء الغيب ، والعموم المراد به الخصوص في نساء العالمين على أحد التفسيرين ، والتشبيه في أقلامهم ، إذا قلنا إنه أراد القداح.
والحذف في عدة مواضع.
{ إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه } العامل في : إذ ، اذكر أو : يختصمون ، أو إذ ، بدل من إذ ، في قوله : إذ يختصمون ، أو من : وإذ قالت الملائكة ، أقوال يلزم في القولين المتوسطين اتحاد زمان الاختصام وزمان قول الملائكة ، وهو بعيد ، وهو قول الزجاج.

ويبعد الرابع لطول الفصل بين البدل والمبدل منه.
والرابع اختيار الزمخشري وبه بدأ.
والخلاف في الملائكة : أَهُمْ جمع من الملائكة أو جبريل وحده على ما سبق قبل في خطابهم لزكريا ولمريم؟ وتقدم تكليم الملائكة قبل هذا التبشير بذكر الاصطفاء والتطهير من الله ، وبالأمن بالعبادة له على سبيل التأنيس واللطف ، ليكون ذلك مقدمة لهذا التبشير بهذا الأمر العجيب الخارق الذي لم يجر لامرأة قبلها ، ولا يجري لأمرأة بعدها ، وهو أنها تحمل من غير مس ذكر لها ، وكان جرى ذلك الخارق من رزق الله لها أيضاً تأنيساً لهذا الخارق.
وقرأ ابن مسعود ، وابن عمر : وإذ قال الملائكة.
والكلمة من الله هو عيسى عليه السلام ، سمي كلمة لصدوره بكلمة : كن ، بلا أب.
قاله قتادة.
وقيل : لتسميته المسيح ، وهو كلمة من الله أي : من كلام الله.
وقيل : لوعد الله به في كتابه التوراة والكتب السابقة.
وفي التوراة : أتانا الله من سيناء ، وأشرق من ساعر ، واستعلن من جبال فاران.
وساعر هو الموضع الذي بعث منه المسيح.
وقيل : لأن الله يهدي بكلمته.
وقيل : لأنه جاء على وفق كلمة جبريل ، وهو : { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً } فجاء على الصفة التي وصف.
وقيل : سماه الله بذلك كما سمى من شاء من سائر خلقه بما شاء من الأسماء ، فيكون على هذا علماً موضوعاً له لم تلحظ فيه جهة مناسبة.
وقيل : الكلمة هنا لا يراد بها عيسى ، بل الكلمة بشارة الملائكة لمريم بعيسى.
وقيل : بشارة النبي لها.
{ اسمه المسيح عيسى بن مريم } الضمير في اسمه ، عائد على : الكلمة ، على معنى : نبشرك بمكون منه ، أو بموجود من الله.
وسمي : المسيح ، لأنه مسح بالبركة ، قاله الحسن ، وسعيد ، وشمر.
أو : بالدهن الذي يمسح به الأنبياء ، خرج من بطن أمّه ممسوحاً به ، وهو دهن طيب الرائحة إذا مسح به شخص علم أنه نبي.
أو : بالتطهير من الذنوب ، أو : بمسح جبريل له بجناحه أو : لمسح رجليه فليس فيهما خمص ، والأخمص ما تجافى عن الأرض من باطن الرجل ، وكان عيسى أمسح القدم لا أخمص له.
قال الشاعر :
بات يقاسيها غلام كالزلم . . .
خدلج الساقين ممسوح القدم
أو : لمسح الجمال إياه وهو ظهوره عليه ، كما قال الشاعر :
على وجه مي مسحة من ملاحة . . .
أو : لمسحة من الأقذار التي تنال المولودين ، لأن أمه كانت لا تحيض ولم تدنس بدم نفاس.
أقوال سبعة ، ويكون : فعيل ، فيها بمعنى مفعول ، والألف واللام في : المسيح ، للغلبة مثلها في : الدبران والعيوق.
وقال ابن عباس : سمي بذلك لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلاَّ بريء ، فعلى هذا يكون : فعيل ، مبنياً للمبالغة : كعليم ، ويكون من الأمثلة التي حولت من فاعل إلى فعيل للمبالغة.

وقيل : من المساحة ، وكان يجول في الأرض فكأنه كان يمسحها.
وقيل : هو مفعل من ساح يسيح من السياحة.
وقال مجاهد ، والنخعي : المسيح : الصديق.
وقال ابن عباس ، وابن جبير : المسيح : الملك ، سمي بذلك لأنه ملك إحياء الموتى وغير ذلك من الآيات.
وقال أبو عبيد : أصله بالعبرانية مشيحاً ، فغير ، فعلى هذا يكون أسماً مرتجلاً ليس هو مشتقاً من المسح ولا من السياحة { عيسى ابن مريم } الأبناء ينسبون إلى الآباء ، ونسب إليها.
وإن كان الخطاب لها إعلاماً أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إليها.
والظاهر أن اسمه : المسيح ، فيكون : اسمه المسيح ، مبتدأ وخبراً ، و : عيسى ، جوزوا فيه أن يكون خبراً بعد خبر ، وأن يكون بدلاً ، وأن يكون عطف بيان.
ومنع بعض النحويين أن يكون خبراً بعد خبر ، وقال : كان يلزم أن يكون أسماه على المعنى ، أو أسماها على لفظ الكلمة ، ويجوز أن يكون : عيسى ، خبراً لمبتدأ محذوف ، أي : هو عيسى ابن مريم.
قال ابن عطية : ويدعو إلى هذا كون قوله : ابن مريم ، صفة : لعيسى ، إذ قد أجمع الناس على كتبه دون الألف.
وأما على البدل ، أو عطف البيان ، فلا يجوز أن يكون : ابن مريم ، صفة : لعيسى ، لأن الأسم هنا لم يرد به الشخص.
هذه النزعة لأبي علي.
وفي صدر الكلام نظر.
انتهى كلامه.
وقال الزمخشري فإن قلت لِمَ قيل : { اسمه المسيح عيسى ابن مريم } وهذه ثلاثة أشياء الأسم منها : عيسى ، وأما : المسيح و : الابن ، فلقب وصفة؟.
قلت : الاسم للمسمى علامة يعرف بها ، ويتميز من غيره ، فكأنه قيل : الذي يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة.
انتهى كلامه.
ويظهر من كلامه أن اسمه مجموع هذه الثلاثة ، فتكون الثلاثة أخباراً عن قوله : اسمه ، ويكون من باب : هذا حلو حامض ، و : هذا أعسر يسر.
فلا يكون أحدها على هذا مستقلاً بالخبرية.
ونظيره في كون الشيئين أو الأشياء في حكم شيء واحد قول الشاعر :
كيف أصبحت كيف أمسيت مما . . .
يزرع الود في فؤاد الكريم؟
أي : مجموع هذا مما يزرع الود ، فلما جاز في المبتدأ أن يتعدد دون حرف عطف إذا كان المعنى على المجموع ، كذلك يجوز في الخبر.
وأجاز أبو البقاء أن يكون : ابن مريم ، خبر مبتدأ محذوف أي : هو ابن مريم ، ولا يجوز أن يكون بدلاً مما قبله ، ولا صفة لأن : ابن مريم ، ليس باسم.
ألا ترى أنك لا تقول : اسم هذا الرجل ابن عمرو إلاَّ إذا كان علماً عليه؟ انتهى.
قال بعضهم : ومن قال إن المسيح صفة لعيسى ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير تقديره : اسمه عيسى المسيح ، لأن الصفة تابعة لموصوفها. انتهى.
ولا يصح أن يكون المسيح في هذا التركيب صفة ، لأن المخبر به على هذا اللفظ ، والمسيح من صفة المدلول لا من صفة الدال ، إذ لفظ عيسى ليس المسيح.

ومن قال : إنهما اسمان تقدم المسيح على عيسى لشهرته.
قال ابن الأنباري : وإنما بدأ بلقبه لأن : المسيح ، أشهر من : عيسى ، لأنه قل أن يقع على سمي يشتبه ، وعيسى قد يقع على عدد كثير ، فقدمه لشهرته.
ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم؟ وهذا يدل على أن المسيح عند أبن الأنباري لقب لا اسم.
قال الزجاج : وعيسى معرب من : ايسوع ، وإن جعلته عربياً لم ينصرف في معرفة ولا نكرة لأن فيه ألف تأنيث ، ويكون مشتقاً من : عاسه يعوسه ، إذا ساسه وقام عليه.
وقال الزمخشري : مشتق من العيس كالرقم في الماء.
{ وجيهاً في الدنيا والآخرة } قال ابن قتيبة : الوجيه ذو الجاه ، يقال : وجه الرجل يوجه وجاهة.
وقال ابن دريد : الوجيه المحب المقبول.
وقال الأخفش : الشريف ذو القدر والجاه.
وقيل : الكريم على من يسأله ، لأنه لا يرده لكرم وجهه.
ومعناه في حق عيسى أن وجاهته في الدنيا بنبوته ، وفي الآخرة بعلو درجته.
وقيل : في بالدنيا بالطاعة ، وفي الآخرة بالشفاعة.
وقيل : في الدنيا بإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ، وفي الآخرة بالشفاعة.
وقيل : في الدنيا كريماً لا يرد وجهه ، وفي الآخرة في علية المرسلين.
وقال الزمشخري : الوجاهة في الدنيا النبوة والتقدم على الناس ، وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة.
وقال ابن عطية : وجاهة عيسى في الدنيا نبوته وذكره ورفعه ، وفي الآخرة مكانته ونعميه وشفاعته.
{ ومن المقربين } معناه من الله تعالى.
وقال الزمخشري : وكونه من المقرّبين رفع إلى السماء وصحبته الملائكة.
وقال قتادة : ومن المقربين عند الله يوم القيامة.
وقيل : من الناس بالقبول والإجابة ، قاله الماوردي.
وقيل : معناه : المبالغ في تقريبهم ، لأن فعل من صيغ المبالغة ، فقال : قرّبه يقرّبه إذا بالغ في تقريبه انتهى.
وليس فعل هنا من صيغ المبالغة ، لأن التضعيف هنا للتعدية ، إنما يكون للمبالغة في نحو : جرّحت زيداً و : موّت الناس.
{ ومن المقربين } معطوف على قوله : وجيهاً ، وتقديره : ومقرباً من جملة المقربين.
أعلم تعالى أن ثَمَّ مقربين ، وأن عيسى منهم.
ونظير هذا العطف قوله تعالى : { وانكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل } فقوله : وبالليل ، جار ومجرور في موضع الحال ، وهو معطوف على : مصبحين ، وجاءت هذه الحال هكذا لأنها من الفواصل ، فلو جاء : ومقرباً ، لم تكن فاصلة ، وأيضاً فأعلم تعالى أن عيسى مقرب من جملة المقربين ، والتقريب صفة جليلة عظيمة.
ألا ترى إلى قوله : { ولا الملائكة المقربون } ؟ وقوله : { فأما إن كان من المقربين فروح } وهو تقريب من الله تعالى بالمكانة والشرف وعلو المنزلة.
{ ويكلم الناس في المهد وكهلاً } وعطف : ويكلم ، وهو حال أيضاً على : وجيهاً ، ونظيره : { إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن } أي : وقابضات.
وكذلك : ويكلم ، أي : ومكلماً.
وأتى في الحال الأول بالاسم لأن الاسم هو للثبوت ، وجاءت الحال الثانية جاراً ومجروراً لأنه يقدر بالاسم.

ويؤكد هذا قوله بعد : { قَد تبين الرشد من الغي } يعني : ظهرت الدلائل ووضحت البينات ، ولم يبق بعدها إلاَّ طريق القسر والإلجاء وليس بجائز لأنه ينافي التكليف ، وهذا الذي قاله أبو مسلم والقفال لائق بأصول المعتزلة ، ولذلك قال الزمخشري : لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، ولكن على التمكين والإختيار ، ونحوه قوله : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } أي : لو شاء لقسرهم على الإيمان ، ولكنه لم يفعل ، وبنى الأمر على الأختيار.
والدين هنا ملة الإسلام واعتقاده ، والألف واللام للعهد ، وقيل : بدل من الإضافة أي : في دين الله.
{ قد تبين الرشد من الغيّ } أي : استبان الإيمان من الكفر ، وهذا يبين أن الدين هو معتقد الإسلام.
وقرأ الجمهور : الرشد ، على وزن القفل ، والحسن : الرشد ، على وزن العنق.
وأبو عبد الرحمن : الرشد ، على وزن الجبل ، ورويت هذه أيضاً عن الشعبي ، والحسن ومجاهد.
وحكى ابن عطية عن أبي عبد الرحمن : الرشاد ، بالألف.
والجمهور على إدغام دال ، قد ، في : تاء ، تبين.
وقرىء شاذاً بالإظهار ، وتبين الرشد ، بنصب الأدلة الواضحة وبعثة الرسول الداعي إلى الإيمان ، وهذه الجملة كأنها كالعلة لانتفاء الإكراه في الدين ، لأن وضوح الرشد واستبانته تحمل على الدخول في الدين طوعاً من غير إكراه ، ولا موضع لها من الإعراب.
{ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } الطاغوت : الشيطان.
قاله عمر ، ومجاهد ، والشعبي ، والضحاك ، وقتادة ، والسدّي.
أو : الساحر ، قاله ابن سيرين ، وأبو العالية.
أو : الكاهن ، قاله جابر ، وابن جبير ، ورفيع ، وابن جريح.
أو : ما عبد من دون الله ممن يرضى ذلك : كفرعون ، ونمروذ ، قاله الطبري.
أو : الأصنام ، قاله بعضهم.
وينبغي أن تجعل هذه الأقوال كلها تمثيلاً ، لأن الطاغوت محصور في كل واحد منها.
قال ابن عطية وقدّم ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت. انتهى.
وناسب ذلك أيضاً اتصاله بلفط الغي ، ولأن الكفر بالطاغوت متقدّم على الإيمان بالله ، لأن الكفر بها هو رفضها ، ورفض عبادتها ، ولم يكتف بالجملة الأولى لأنها لا تستلزم الجملة الثانية ، إذ قد يرفض عبادتها ولا يؤمن بالله ، لكن الإيمان يستلزم الكفر بالطاغوت ، ولكنه نبه بذكر الكفر بالطاغوت على الانسلاخ بالكلية ، مما كان مشتبهاً به ، سابقاً له قبل الإيمان ، لأن في النصية عليه مزيد تأكيد على تركه.
وجواب الشرط : فقد استمسك ، وأبرز في صورة الفعل الماضي المقرون بقد الدالة في الماضي على تحقيقه ، وإن كان مستقبلاً في المعنى لأنه جواب الشرط ، إشعاراً بأنه مما وقع استمساكه وثبت وذلك للمبالغة في ترتيب الجزاء على الشرط ، وأنه كائن لا محالة لا يمكن أن يتخلف عنه ، و : بالعروة ، متعلق باستمسك ، جعل ما تمسك به من الإيمان عروة ، وهي في الأجرام موضع الإمساك وشد الأيدي شبه الإيمان بذلك.

وقال الزمشخري : معناه : ويكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل ، وينبأ فيها الأنبياء. انتهى.
قيل : وتكلم في المهد سبعة : عيسى ، ويحيى ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج.
وصبي ماشطة امرأة فرعون ، وصاحب الجبار ، وصاحب الأخدود ، وقصص هؤلاء مروية ، ولا يعارض هذا ما جاء من حصر من تكلم رضيعاً في ثلاثة ، لأن ذلك كان إخباراً قبل أن يعلم بالباقين ، فأخبر على سبيل ما أعلم به أولاً ، ثم أعلم بالباقين.
{ ومن الصالحين } أي : وصالحاً من جملة الصالحين ، وتقدم تفسير الصلاح الموصوف به الأنبياء.
وانتصاب : وجيهاً ، وما عطف عليه على الحال من قوله : بكلمة منه ، وحسن ذلك ، وإن كان نكرة ، كونه وصف بقوله : منه ، وبقوله : منه ، وبقوله : اسمه المسيح.
{ قالت رب أنَّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر } لما أخبرتها الملائكة أن الله بشرها بالمسيح ، نادت ربها ، وهو الله ، مستفهمة على طريق التعجب من حدوث الولد من غير أب إذ ذاك من الأمور الموجبة للتعجب ، وهذه القضية أعجب من قضية زكريا ، لأن قضية زكريا حدث منها الولد بين رجل وامرأة ، وهنا حدث من امرأة بغير واسطة بشر ، ولذلك قالت : { ولم يمسسني بشر }.
وقيل : استفهمت عن الكيفية ، كما سأل زكريا عن الكيفية ، تقديره : هل يكون ذلك على جري العادة بتقدم وطء؟ أَمْ بأمر من قدرة الله؟.
وقال الانباري : لما خاطبها جبريل ظنته آدمياً يريد بها سوءاً ، ولهذا قالت : { إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً } فلما بشرها لم تتيقن صحة قوله لأنها لم تعلم أنه ملك ، فقال : { رب أنَّى يكون لي ولد } ؟
ومن ذهب إلى أن قولها : رب ، وقول زكريا : رب ، إنما هو نداء لجبريل لما بشرهما ، ومعناه : يا سيدي فقد أبعد وقال الزمخشري : هو من بدع التفاسير ، و : يكون ، يحتمل أن تكون الناقصة والتامة ، كما سبق في قصة زكريا.
و : لم يمسسني بشر ، جملة حالية ، والمسيس هنا كناية عن الوطء ، وهذا نفي عام أن يكون باشرها أحد بأي نوع كان من تزوّج أو غيره ، والبشر يطلق على الواحد والجمع ، والمراد هنا النفي العام ، وسمي بشراً لظهور بشرته وهو جلده ، وبشرت الأديم قشرت وجهه ، وأبشرت الأرض أخرجت نباتها ، وتباشير الصبح أول ما يبدو من نوره.
{ قال كذلك الله يخلق ما يشاء } تقدم الكلام في نظيرها في قصة زكريا ، إلاَّ أن في قصته { يفعل ما يشاء } من حيث إن أمر زكريا داخل في الإمكان العادي الذي يتعارف ، وإن قل ، وفي قصة مريم : يخلق ، لأنه لا يتعارف مثله ، وهو وجود ولد من غير والد ، فهو إيجاد واختراع من غير سبب عادي ، فلذلك جاء بلفظ : يخلق ، الدال على هذا المعنى.
وقد ألغز بعض العرب المستشهد بكلامها فقال :

ألا رب مولود وليس له أب . . .
وذي ولد لم يلده أبوان
يريد : عيسى وآدم.
{ إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } تقدم الكلام على هذه الجملة في البقرة : لغةً وتفسيراً وقراءةً وإعراباً ، فأغنى ذلك عن إعادته.
{ ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل } الكتاب : هنا مصدر ، أي : يعلمه الخط باليد ، قاله ابن عباس ، وابن جريج وجماعة وقيل : الكتاب هو كتاب غير معلوم ، علمه الله عيسى مع التوراة والإنجيل وقيل : كتب الله المنزلة.
والألف واللام للجنس وقيل : هو التوراة والإنجيل.
قالوا : وتكون الواو في : والتوراة ، مقحمة ، والكتاب عبارة عن المكتوب ، وتعليمه إياها قيل : بالإلهام ، وقيل : بالوحي ، وقيل : بالتوفيق والهداية للتعلم والحكمة.
تقدم تفسيرها ، وفسرت هنا : بسنن الأنبياء ، وبما شرعه من الدين ، وبالنبوة ، وبالصواب في القول والعمل وبالعقل ، وبأنواع العلم.
وبمجموع ما تقدم أقوال سبعة.
روي أن عيسى كان يستظهر التوراة ، ويقال لم يحفظها عن ظهر قلب غير : موسى ، ويوشع ، وعزير ، وعيسى.
وذكر الإنجيل لمريم وهو لم ينزل بعد لأنه كان كتاباً مذكوراً عند الأنبياء والعلماء ، وأنه سينزل.
وقرأ نافع ، وعاصم ، ويعقوب ، وسهل : ويعلمه ، بالياء وقرأ الباقون : بالنون ، وعلى كلتا القراءتين هو معطوف على الجملة المقولة ، وذلك إن قوله : قال كذلك ، الضمير في : قال ، عائد على الرب ، والجملة بعده هي المقولة ، وسواء كان لفظ الله مبتدأ ، وخبره فيما قبله ، لزم مبتدأ وخبره يخلق على ما مر إعرابه في : { قال كذلك الله يفعل ما يشاء } فيكون هذا من المقول لمريم ، أم على سبيل الاغتباط والتبشير بهذا الولد الذي يوجده الله منها ، ويجوز أن يكون معطوفاً على : يخلق ، سواء كانت خبراً عن الله أم تفسيراً لما قبلها ، إذا أعربت لفظ : الله مبتدأ وما قبله الخبر ، وهذا ظاهر كله على قراءة الياء.
وأما على قراءة النون ، فيكون من باب الإلتفات ، خرج من ضمير الغيبة إلى ضمير التكلم لما في ذلك من الفخامة.
وقال أبو علي : وجوزه الزمخشري ، وغيره عطف : ويعلمه ، على : يبشرك ، وهذا بعيد جداً لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه.
وأجاز ابن عطية وغيره أن يكون معطوفاً على : ويكلم ، وأجاز الزمخشري أن يكون معطوفاً على : وجيهاً ، فيكون على هذين القولين في موضع نصب على الحال.
وفيما أجازه أبو علي والزمخشري في موضع رفع لأنه معطوف على خبر إن ، وهذا القولان بعيدان أيضاً لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، ولا يقع مثله في لسان العرب.
وقال بعضهم : ونعلمه ، بالنون حمله على قوله { نوحيه إليك } فإن عنى بالحمل العطف فلا شيء أبعد من هذا التقدير ، وإن عنى بالحمل أنه من باب الالتفات فهو صحيح وقال الزمخشري : أو هو كلام مبتدأ يعنى أنه لا يكون معطوفاً على شيء من هذه التي ذكرت ، فإن عنى أنه استئناف إخبار عن الله ، أو من الله ، على اختلاف القراءتين ، فمن حيث ثبوت الواو لا بد أن يكون معطوفاً على شيء قبله ، فلا يكون ابتداء كلام إلاَّ أن يدعى زيادة الواو في : ويعلمه ، فحينئذ يصح أن يكون ابتداء كلام ، وإن عنى أنه ليس معطوفاً على ما ذكر ، فكان ينبغي أن يبين ما عطف عليه ، وأن يكون الذي عطف عليه ابتداء كلام حتى يكون المعطوف كذلك.

وقال الطبري : قراءة الياء عطف على قوله { يخلق ما يشاء } وقراءة النون عطف على قوله { نوحيه إليك } قال ابن عطية : وهذا القول الذي قاله في الوجهين مفسد للمعنى. انتهى.
ولم يبين ابن عطية جهة إفساد المعنى ، أما قراءة النون فظاهر فساد عطفه على : نوحيه ، من حيث اللفظ ، ومن حيث المعنى ، أما من حيث اللفظ فمثله لا يقع في لسان العرب لبعد الفصل المفرط ، وتعقيد التركيب ، وتنافر الكلام.
وأما من حيث المعنى فإن المعطوف بالواو شريك المعطوف عليه ، فيصير المعنى بقوله ذلك من أنباء الغيب أي : إخبارك يا محمد بقصة امرأة عمران ، وولادتها لمريم ، وكفالة زكريا ، وقصته في ولادة يحيى له ، وتبشير الملائكة لمريم بالاصطفاء والتطهير ، كل ذلك من أخبار الغيب ، نعلِّمه ، أي : نعلم عيسى الكتاب ، فهذا كلام لا ينتظم معناه مع معنى ما قبله.
وأما قراءة الياء وعطف : ويعلمه ، على : يخلق ، فليست مفسدة للمعنى ، بل هو أولى وأصح ما يحمل عليه عطف : ويعلمه ، لقرب لفظه وصحة معناه.
وقد ذكرنا جوازه قبل ، ويكون الله قد أخبر مريم بأنه تعالى يخلق الأشياء الغريبة التي لم تجرِ بها عادة ، مثل ما خلق لك ولداً من غير أب ، وأنه تعالى يعلم هذا الولد الذي يخلقه لك ما لم يعلمه قبله من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، فيكون في هذا الإخبار أعظم تبشير لها بهذا الولد ، وإظهار بركته ، وأنه ليس مشبهاً أولاد الناس من بني إسرائيل ، بل هو مخالف لهم في أصل النشأة ، وفيما يعلمه تعالى من العلم ، وهذا يظهر لي أنه أحسن ما يحمل عليه عطف : ويعلمه.
{ ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم } اختلفوا في : رسولاً ، هنا فقيل : هو وصف بمعنى المرسل على ظاهر ما يفهم منه وقيل : هو مصدر بمعنى رسالة ، إذ قد ثبت أن رسولاً يكون بمعنى رسالة ، وممن جوز ذلك فيه هنا الحوفي ، وأبو البقاء ، وقالا : هو معطوف على الكتاب ، أي : ويعلمه رسالة إلى بني إسرائيل ، فتكون : رسالة ، داخلاً في ما يعلمه الله عيسى.
وأجاز أبو البقاء في هذا الوجه أن يكون مصدراً في موضع الحال.
وأما الوجه الأول فقالوا في إعرابه ، وجوها.
أحدها : أن يكون منصوباً بإضمار فعل تقديره : ويجعله رسولاً إلى بني إسرائيل ، قالوا : فيكون مثل قوله :
يا ليت زوجك قد غدا . . .
متقلداً سيفاً ورمحاً

أي : ومعتقلاً رمحاً.
لما لم يمكن تشريكه مع المنصوبات قبله في العامل الذي هو : يعلمه ، أضمر له فعل ناصب يصح به المعنى ، قاله ابن عطية وغيره.
الثاني : أن يكون معطوفاً على : ويعلمه ، فيكون : حالاً ، إذ التقدير : ومعلماً الكتاب ، فهذا كله عطف بالمعنى على قوله : وجيهاً ، قاله الزمخشري ، وثنى به ابن عطية ، وبدأ به وهو مبني على إعراب : ويعلمه وقد بينا ضعف إعراب من يقول : إن : ويعلمه ، معطوف على : وجيهاً ، للفصل المفرط بين المتعاطفين.
الثالث : أن يكون منصوباً على الحال من الضمير المستكن في : ويكلم ، فيكون معطوفاً على قوله : وكهلاً ، أي : ويكلم الناس طفلاً وكهلاً ورسولاً إلى بني إسرائيل ، قاله ابن عطية ، وهو بعيد جداً لطول الفصل بين المتعاطفين.
الرابع : أن تكون الواو زائدة ، ويكون حالاً من ضمير : ويعلمه ، قاله الأخفش ، وهو ضعيف لزيادة الواو ، لا يوجد في كلامهم : جاء زيد وضاحكاً ، أي : ضاحكاً.
الخامس : أن يكون منصوباً على إضمار فعل من لفظ رسول ، ويكون ذلك الفعل معمولاً لقول من عيسى ، التقدير : وتقول أرسلت رسولاً إلى بني إسرائيل ، واحتاج إلى هذا التقدير كله ، لقوله : { أني قد جئتكم } وقوله : { ومصدقاً لما بين يدي } ، إذ لا يصح في الظاهر حمله على ما قبله من المنصوبات لاختلاف الضمائر ، لأن ما قبله ضمير غائب ، وهذان ضميرا متكلم ، فاحتاج إلى هذا الإضمار لتصحيح المعنى.
قاله الزمخشري ، وقال : هو من المضايق ، يعني من المواضع التي فيها إشكال.
وهذا الوجه ضعيف ، إذ فيه إضمار القول ومعموله الذي هو : أرسلت ، والاستغناء عنهما باسم منصوب على الحال المؤكدة ، إذ يفهم من قوله : وأرسلت ، أنه رسول ، فهي على هذا التقدير حال مؤكدة.
فهذه خمسة أوجه في إعراب : ورسولاً ، أولاها الأول ، إذ ليس فيه إلاَّ إضمار فعل يدل عليه المعنى ، أي : ويجعله رسولاً ، ويكون قوله { أني قد جئتكم } معمولاً لرسول ، أي ناطقاً بأني قد جئتكم ، على قراءة الجمهور ، ومعمولاً لقول محذوف على قراءة من كسر الهمزة ، وهي قراءة شاذة ، أي : قائلاً إني قد جئتكم ، ويحتمل أن يكون محكياً بقوله : ورسولاً ، لأنه في معنى القول ، وذلك على مذهب الكوفيين.
وقرأ اليزيدي : ورسولٍ ، بالجر ، وخرجه الزمخشري على أنه معطوف على : بكلمة منه ، وهي قراءة شاذة في القياس لطول البعد بين المعطوف عليه والمعطوف.
وأرسل عيسى إلى بني إسرائيل مبيناً حكم التوراة ، وداعياً إلى العمل بها ، ومحللاً أشياء مما حرم فيها : كالثروب ، ولحوم الإبل ، وأشياء من الحيتان.
والطير ، وكان عيسى قد هربت به أمّه من قومها إلى مصر حين عزلوا أولادهم ، ونهوهم عن مخالطته ، وحبسوهم في بيت ، فجاء عيسى يطلبهم فقالوا : ليسوا ها هنا ، فقال ما في هذا البيت؟ قالوا : خنازير ، قال : كذلك يكونون ، ففتحوا عنهم فإذا هم خنازير.
ففشا ذلك في بني إسرائيل ، فهموا به ، فهربت به أمّه إلى أرض مصر.

فلما بلغ اثنتي عشرة سنة أوحى الله إليها : أن انطلقي إلى الشام ، ففعلت حتى إذا بلغ ثلاثين سنة جاءه الوحي على رأس الثلاثين ، فكانت نبوّته ثلاث سنين ، ثم رفعه الله إليه.
وكأن أول أنبياء بني إسرائيل : يوسف ، وقيل : موسى ، وآخرهم عيسى.
والظاهر أن قوله : { أني قد جئتكم بآية } إلى قوله { مستقيم } متعلق بقوله { ورسولاً إلى بني إسرائيل } ومعمول له ، فيكون ذلك مندرجاً تحت القول السابق.
والخطاب لمريم بقوله : قال كذلك الله ، فتكون مريم قد بشرت بأشياء مما يفعلها الله لولدها عيسى : من تعليمه ما ذكر ، ومن جعله رسولاً ناطقاً بما يكون منه إذا أرسل : من مجيئه بالآيات ، وإظهار الخوارق على يديه ، وغير ذلك مما ذكر إلى قوله : مستقيم.
ويكون بعد قوله : مستقيم.
وقيل : قوله : فلما أحس ، محذوف يدل عليه وتضطر إلى تقديره ، المعنى ، تقديره : فجاء عيسى بني إسرائيل ورسولاً ، فقال لهم ما تقدّم ذكره ، وأتى بالخوارق التي قالها ، فكفروا به وتمالأوا على قتله وإذايته ، فلما أحس عيسى منهم الكفر.
وقيل : يحتمل أن يكون الكلام تم عند قوله { ورسولاً إلى بني إسرائيل } ولا يكون { اني قد جئتكم } متعلقاً بما قبله ، ولا داخلاً تحت القول والخطاب لمريم ، ويكون المحذوف هنا : لا بعد قوله : مستقيم ، والتقدير : فجاء عيسى كما بشر الله رسولاً إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم بآية من ربكم.
وقرأ الجمهور : بأنه ، على الإفراد ، وكذلك في { وجئتكم بآية من ربكم } وفي مصحف عبد الله : بآيات ، على الجمع في الموضعين.
ويجوز أن يكون : من ربكم ، في موضع الصفة ، لأنه يتعلق بمحذوف ، ويجوز أن يتعلق : بجئتكم ، أي : جئتكم من ربكم بآية.
{ أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله } قرأ الجمهور : أني أخلق ، بفتح الهمزة على أن يكون بدلاً من : آية ، فيكون في موضع جر ، أو بدلاً من قوله : أني قد جئتكم ، فيكون في موضع نصب أو جر على الخلاف ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي ، أي : الآية أني أخلق ، فيكون في موضع رفع.
وقرأ نافع بالكسر على الاستئناف ، أو على إضمار القول ، أو على التفسير للآية.
كما فسر المثل في قوله : { كمثل آدم } بقوله : { خلقه من تراب } ومعنى : أخلق : أقدّر وأهيء ، والخلق يكون بمعنى الإنشاء وإبراز العين من العدم الصرف إلى الوجود.
وهذا لا يكون إلاَّ لله تعالى.
ويكون بمعنى : التقدير والتصوير ، ولذلك يسمون صانع الأديم ونحوه : الخالق ، لأنه يقدّر ، وأصله في الإجرام ، وقد نقلوه إلى المعاني قال تعالى { وتخلقون إفكاً } ومما جاء الخلق فيه بمعنى التقدير قوله تعالى : { فتبارك الله أحسن الخالقين } أي المقدّرين.
وقال الشاعر :
ولأنت تَفْرِي ما خَلَقْتَ . . .
وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
واللام في : لكم ، معناها التعليل ، و : من الطين ، تقييد بأنه لا يوجد من العدم الصرف ، بل ذكر المادة التي يشكل منها صورة.

وقرأ الجمهور : كهيئة ، على وزن : حيئة ، وقرأ الزهري : كهية ، بكسر الهاء وياء مشددة مفتوحة بعدها تاء التأنيث ، و : الكاف ، من : كهيئة ، اسم على مذهب أبي الحسن ، فهي مفعولة : بأخلق ، وعلى قول الجمهور : يكون ، صفة لمفعول محذوف تقديره : هيئة مثل هيئة ، ويكون : هيئة ، مصدراً في معنى المفعول ، أي : مثالاً مهيأً مثل.
وقرأ الجمهور : الطير ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : كهيئة الطائر ، والمراد به الجنس : فأنفخ فيه الضمير في : فيه ، يعود على : الكاف ، أو على موصوفها على القولين المذكورين.
وقرأ بعض القراء : فأنفخها ، أعاد الضمير على الهيئة المحذوفة ، إذ يكون التقدير : هيئة كهيئة الطير ، أو : على الكاف على المعنى ، إذ هي بمعنى : مماثلة هيئة الطير ، فيكون التأنيث هنا كما هو في المائدة في قوله : { فتنفخ فيها } ويكون في هذه القراءة قد حذف حرف الجرّ.
كما قال :
ما شق جيب ولا قامتك نائحة . . .
ولا بكتك جياد عند إسلاب
يريد : ولا قامت عليك ، وهي قراءة شاذة نقلها الفراء.
وقال النابغة :
كالهبرقيّ تنحَّى ينفخ الفحما . . .
فعدى : نفخ ، لمنصوب ، فيمكن أن يكون على إسقاط حرف الجر ، ويمكن أن يكون على التضمين ، أي : يضرم بالنفخ الفحم ، فيكون هنا ناقصة على بابها ، أو بمعنى : تصير.
وقرأ نافع ويعقوب هنا وفي المائدة : طائراً ، وقرأ الباقون : طيراً ، وانتصابه على أنه خبر : يكون ، ومن جعل : يكون ، هنا تامّة ، و : طائراً ، حالاً فقد أبعد.
وتعلق بإذن الله ، قيل : بيكون.
وقيل : بطائر ، ومعنى : بإذن الله ، أي بتمكينه وعلمه بأني أفعل ، وتعاطي عيسى التصوير بيده والنفخ في تلك الصورة تبيين لتلبسه بالمعجزة ، وتوضيح أنها من قبله ، وأما خلق الحياة في تلك الصورة الطينية فمن الله وحده.
وظاهر الآية يدل على أن خلقه لذلك لم يكن باقتراح منهم ، بل هذه الخوارق جاءت تفسيراً لقوله : { أني قد جئتكم بآية من ربكم } وقيل : كان ذلك باقتراح منهم ، طلبوا منه أن يخلق لهم خفاشاً على سبيل التعنت جرياً على عاداتهم مع أنبيائهم ، وخصوا الخفاش لأنه عجيب الخلق ، وهو أكمل الطير خلقاً ، له : ثدي ، وأسنان ، وآذان ، وضرع ، يخرج منه اللبن ، ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل ، إنما يرى في ساعتين : بعد غروب الشمس ساعة ، وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جداً ، ويضحك كما يضحك الإنسان ، ويطير بغير ريش ، وتحيض أنثاه وتلد.
روي عن أبي سعيد الخدري : أنه قال لهم : ماذا تريدون؟ قالوا : الخفاش.
فسألوه أشد الطير خلقاً لأنه يطير بغير ريش ، ويقال : ما صنع غير الخفاش ، ويقال : فعل ذلك أولاً وهو مع معلمه في الكتاب ، وتواطأ النقل عن المفسرين أن الطائر الذي خلقه عيسى كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه ، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز فعل المخلوق من فعل الخالق ، وكان بنو إسرائيل مع معاينتهم لذلك الطائر يطير يقولون في عيسى : هذا ساحر.

{ وأبرئ الأكمه والأبرص } تقدّم تفسيرهما في المفردات.
وقال مجاهد : الأكمه هو الأعشى.
وقال عكرمة : هو الأعمش.
وقال الزمخشري : هو الذي ولد أعمى.
وقيل : هو الممسوح العين ، ولم يكن في هذه الأمة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير.
وقال ابن عباس ، والحسن ، والسدّي : هو الأعمى على الإطلاق.
وحكى النقاش : أن الأكمه هو الأبكم الذي لا يفهم ولا يُفهم ، الميت الفؤاد ، وقال ابن عباس أيضاً ، وقتادة : هو الذي يولد أعمى مضموم العينين.
قيل : وقد كان عيسى يبرىء بدعائه ، والمسح بيده ، كل علة.
ولكن لا يقوم الحجة على بني إسرائيل في معنى النبوة إلاَّ بالإبراء من العلل التي يعجز عن إبرائها الأطباء ، حتى يكون فعله ذلك خارقاً للعادات.
والإبراء من العشي والعمش ليس بخارق ، وأما العمى فالأبلغ الإبراء من عمى الممسوح العين.
روي أنه ربما اجتمع عليه خمسون ألفاً من المرضى ، من أطاق منهم أتاه ، ومن لم يطق أتاه عيسى ، وما كانت مداواته إلاَّ بالدعاء وحده ، وخص بالذكر الكمه والبرص لأنهما داآن معضلان لا يقدر على الإبراء منهما ، إلاَّ الله تعالى ، وكان الغالب على زمان عيسى الطب ، فأراهم الله المعجزة في جنس علمهم ، كما أرى قوم موسى ، إذ كان الغالب عليهم السحر ، المعجزة بالعصا واليد البيضاء ، وكما أرى العرب ، إذ كان الغالب عليهم البلاغة ، المعجزة بالقرآن.
روي أن جالينوس كان في زمان عيسى ، وأنه رحل إليه من رومية إلى الشام ليلقاه ، فمات في طريقه.
{ وأحيي الموتى بإذن الله } نقل أئمة التفسير أنه أحيا أربعة : عاذر ، وكان صديقاً له ، بعد ثلاثة أيام.
فقام من قبره يقطر ودكه ، وبقي إلى أن ولد له.
و : ابن العجوز ، وهو على سريره ، فنزل عن أعناق الرجال وحمل سريره وبقي إلى أن ولد له ، و : بنت العاشر ، متعت بولدها بعد ما حييت ، وسألوه أن يحيى سام بن نوح ليخبرهم عن حال السفينة ، فخرج من قبره فقال : أَقَدْ قامت الساعة؟ وقد شاب نصف رأسه ، وكان شاباً ابن خمسمائة ، فقال : شيبني هول يوم القيامة.
وروي أنه في إحيائه الموتى كان يضرب بعصاه الميت ، أو القبر ، أو الجمجمة ، فيحيي الإنسان ويكلمه ويعيش.
وقيل : تموت سريعاً.
وروي عن الزهري أنه قال : بلغني أن عيسى خرج هو ومن معه من حوارييه حتى بلغ الأندلس ، وذكر قصة فيها طول ، مضمونها : أنه أحيا بها ميتاً ، وسألوه فإذا هو من قوم عاد.
ووردت قصص في إحياء خلق كثير على يد عيسى ، وذكروا أشياء مما كان يدعو بها إذا أحيا ، الله أعلم بصحتها.
{ وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم } قال السدّي ، وابن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، وابن إسحاق : كان عيسى من لدن طفوليته ، وهو في الكتاب يخبر الصبيان بما يفعل آباؤهم ، وبما يؤكل من الطعام ، وما يدخر إلى أن نبىء ، ويقول لمن سأله : أكلت البارحة كذا ، وادّخرت.

وقيل : كان ذلك بعد النبوة لما أحيا لهم الموتى ، طلبوا منه آية أخرى ، وقالوا : أخبرنا بما نأكل وما ندّخر للغد ، فأخبرهم.
وقال قتادة : كان ذلك في نزول المائدة ، عهد إليهم أن يأكلوا منها ولا يخبأوا ولا يدخروا ، فخالفوا ، فكان عيسى يخبرهم بما أكلوه وما ادّخروا في بيوتهم ، وعوقبوا على ذلك.
وأتى بهذه الخوارق الأربع مصدرة بالمضارع الدال على التجدد ، والحالة الدائمة : وبدأ بالخلق إذ هو أعظم في الإعجاز ، وثنى بإبراء الأكمه والأبرص ، وأتى ثالثاً بإحياء الموتى ، وهو خارق شاركه فيه غيره بإذن الله تعالى ، وكرر : بإذن الله ، دفعاً لمن يتوهم فيه الالُوهية ، وكان ، بإذن الله ، عقب قوله : أني أخلق ، وعطف عليه : وأبرىء الأكمه والأبرص ، ولم يذكر : بإذن الله ، اكتفاء به في الخارق الأعظم ، وعقب قوله : وأحيي الموتى ، بقوله : بإذن الله ، وعطف عليه : وأنبئكم ، ولم يذكر فيه ، بإذن الله ، لأن إحياء الأموات أعظم من الإخبار بالمغيبات ، فاكتفى به في الخارق الأعظم أيضاً ، فكل واحد من الخارقين الأعظمين قيد بقوله : بإذن الله ، ولم يحتج إلى ذلك فيما عطف عليهما اكتفاء بالأول إذ كل هذه الخوارق لا تكون إلا بإذن الله.
و : ما ، في : ما تأكلون وما تدخرون ، موصولة اسمية ، وهو الظاهر.
وقيل : مصدرية.
وقرأ الجمهور : تدخرون ، بدال مشددة ، وأصله : إذتخر ، من الذخر ، أبدلت التاء دالاً ، فصار : إذدخر ، ثم أدغمت الذال في الدال ، فقيل : ادّخر ، كما قيل : ادكره.
وقرأ مجاهد ، والزهري ، وأيوب السختياني ، وأبو السمال : تذخرون ، بذال ساكنة وخاء مفتوحة.
وقرأ أبو شعيب السوسي ، في رواية عنه : وما تذدخرون ، بذال ساكنة ودال مفتوحة من غير إدغام ، وهذا الفك جائز.
وقراءة الجمهور بالإدغام أجود ، ويجوز جعل بالدال ذالاً ، والإدغام فتقول : اذخر ، بالذال المعجمة المشددة.
{ إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } ظاهر هذه الجملة أنها من كلام عيسى لاحتفافها بكلامه من قبلها ومن بعدها ، حكاه الله عنه.
وقيل : هو من كلام الله تعالى ، استئناف صيغته صيغة الخبر ، ومعناه التوبيخ والتقريع ، وأشير بذلك إلى ما تقدم من جعل الطين طائراً ، والإبراء والإحياء والإنباء.
وتقدم أن في مصحف ابن مسعود : آيات ، على الجمع ، فمن أفرد أراد الجنس وهو صالح للقليل والكثير ، ويعين المراد القرائن : اللفظية ، والمعنوية ، والحالية ، ومن جمع فعلى الأصل ، إذ هي : آيات ، وهي : آية في نفسها ، آمنوا أو كفروا ، فيحتمل أن يكون ثَمَّ صفة محذوفة حتى يتجه التعليق بهذا الشرط ، أي : لآية نافعة هادئة لكم إن آمنتم ، ويكون خطاباً لمن لم يؤمن بعد ، وإن كان خطاباً لم آمن فذلك على سبيل التثبيت وتطمين النفس وهزها.

كما تقول لإبنك : أطعني إن كنت إبني ، ومعلوم أنه ابنك ، ولكن تريد أن تهزه بذكر ما هو محقق.
ذكر ما جعل معلقاً به ما قبله على سبيل أن يحصل.
{ ومصدقاً لما بين يدي من التوراة } عطف و : مصدقاً ، على قوله : بآية إذ الباء فيه للحال ، ولا تكون للتعدية لفساد المعنى ، فالمعنى : وجئتكم مصحوباً بآية من ربكم ، ومصدقاً لما بين يدي.
ومنعوا أن يكون : ومصدقاً ، معطوفاً على : رسولاً إلى بني إسرائيل ، ولا على : وجيهاً ، لما يلزم من كون الضمير في قوله : لما بين يدي ، غائباً.
فكان يكون : لما بين يديه ، وقد ذكرنا أنه يجوز في قوله : ورسولاً ، أن يكون منصوباً بإضمار فعل ، أي : وأرسلت رسولاً ، فعلى هذا التقدير يكون : ومصدقاً ، معطوفاً على : ورسولاً.
ومعنى تصديقه للتوراة الإيمان بها وإن كانت شريعته تخالف في أشياء.
قال وهب بن منبه : كان يسبت ويستقبل بيت المقدس.
{ ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } قال ابن جريج : أحل لهم لحوم الابل والشحوم.
وقال الربيع : وأشياء من السمك وما لا ضئضئة له من الطير ، وكان ذلك في التوراة محرماً.
وقال بعض المفسرين : حرم عليكم ، إشارة إلى ما حرمه الأحبار بعد موسى وشرعوه ، فكأن عيسى ردّ أحكام التوراة إلى حقائقها التي نزلت من عند الله.
انتهى كلامه.
واختلفوا في إحلاله لهم السبت.
وقرأ عكرمة : ما حرم عليكم ، مبنياً للفاعل ، والفاعل ضمير يعود على : ما ، من قوله : لما بين يدي ، أو يعود على : الله ، منزل التوراة ، أو على : موسى ، صاحب التوراة.
والظاهر الأول لأنه مذكور.
وقرأ : حرم ، بوزن : كرم ، إبراهيم النخعي ، والمراد ببعض مدلولها المتعارف ، وزعم أبو عبيدة أن المراد به هنا معنى كل خطأ ، لأنه كان يلزم أن يحل لهم : القتل ، والزنا ، والسرقه ، لأن ذلك محرم عليهم ، واستدلاله على أن : بعضاً ، تأتي بمعنى : كل ، بقول لبيد :
ترَّاك أمكنة إذا لم أرضها . . .
أو ترتبط بعض النفوس حمامها
ليس بصحيح ، لأن بعضاً على مدلوله ، إذ يريد نفسه ، فهو تبعيض صحيح ، وكذلك استدلال من استدل بقوله :
إن الأمور إذا الأحداث دبرها . . .
دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
لصحة التبعيض ، إذ ليس كل ما دبره الأحداث يكون فيه الخلل.
وقال بعضهم : لا يقوم : بعض ، مقام : كل إلا إذا دلت قرينة على ذلك ، نحو قوله :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا . . .
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
يريد : بعض الشر أهون من كله. انتهى.
وفي ذلك نظر.
واللام في : ولأحل لكم ، لام كي ، ولم يتقدم ما يسوغ عطفه عليه من جهة اللفظ ، فقيل : هو معطوف على المعنى ، إذ المعنى في : ومصدقاً ، أي : لأصدق ما بين يدي من التوراة ، ولأحل لكم.
وهذا هو العطف على التوهم ، وليس هذا منه ، لأن معقولية الحال مخالفة لمعقولية التعليل ، والعطف على التوهم لا بد أن يكون المعنى متحداً في المعطوف والمعطوف عليه.

ألا ترى إلى قوله : فأصدق وأكن كيف اتحد المعنى من حيث الصلاحية لجواب التحضيض؟ وكذلك قوله :
تقي نقي لم يكثر غنيمة . . .
بنكهة ذي قربى ولا بحفلد
كيف اتحد معنى النفي في قوله : لم يكثر ، ولا في قوله : ولا بحفلد؟ أي : ليس بمكثر ولا بحفلد.
وكذلك ما جاء من هذا النوع.
وقيل : اللام تتعلق بفعل مضمر بعد الواو يفسره المعنى : أي وجئتكم لأحلّ لكم.
وقيل : تتعلق اللام بقوله : وأطيعون ، والمعنى : واتبعون لأحل لكم ، وهذا بعيد جداً.
وقال أبو البقاء : هو معطوف على محذوف تقديره : لأخفف عنكم ، أو نحو ذلك.
وقال الزمخشري : ولأحل ، ردّ على قوله : بآية من ربكم ، أي : جئتكم بآية من ربكم ، لأن : بآية ، في موضع حال ، و : لأحل ، تعليل ، ولا يصح عطف التعليل على الحال لأن العطف بالحرف المشترك في الحكم يوجب التشريك في جنس المعطوف عليه ، فإن عطفت على مصدر ، أو مفعول به ، أو ظرف ، أو حال ، أو تعليل ، أو غير ذلك شاركه في ذلك المعطوف.
{ وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه } ظاهر اللفظ أن يكون قوله : { وجئتكم بآية من ربكم } للتأسيس لا للتوكيد ، لقوله : قد جئتكم بآية من ربكم ، وتكون هذه الآية قوله : { إن الله ربي وربكم فاعبدوه } لأن هذا القول شاهد على صحة رسالته ، إذ جميع الرسل كانوا عليه لم يختلفوا فيه ، وجعل هذا القول آية وعلامة ، لأنه رسول كسائر الرسل ، حيث هداه للنظر في أدلة العقل والأستدلال.
وكسر : إن ، على هذا القول لأن : قولاً ، قبلها محذوف ، وذلك القول بدل من الآية ، فهو معمول للبدل.
ومن قرأ بفتح : أن ، فعلى جهة البدل من : آية ، ولا تكون الجملة من قوله : إن ، بالكسر مستأنفة على هذا التقدير من إضمار القول ، ويكون قوله : { فاتقوا الله وأطيعون } جملة اعتراضية بين البدل والمبدل منه.
وقيل : الآية الأولى في قوله : { قد جئتكم بآية } هي معجزة.
وفي قوله : { وجئتكم بآية } هي الآية من الإنجيل ، فاختلف متعلق المجيء ، ويجوز أن يكون { وجئتكم بآية من ربكم } كررت على سبيل التوكيد ، أي جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم من : خلق الطير والإبراء والإحياء والإنباء بالخفيات ، وبغيره من ولادتي من غير أب ، ومن كلامي في المهد ، وسائر الآيات.
فعلى هذا من كسر : إن ، فعلى الاستئناف ، ومن فتح فقيل التقدير ، لأن { الله ربي وربك فاعبدوه } ، فيكون متعلقاً بقوله : فاعبدوه ، كقوله : { لايلاف قريش } ثم قال : { فليعبدوا } فقدم : أن ، على عاملها.
ومن جوز : أن تتقدم : أن ، ويتأخر عنها العامل في نحو هذا غير مصيب ، لا يجوز : أن زيداً منطلق عرفت ، نص على ذلك سيبويه وغيره ، ويجوز أن يكون المعنى : وجئتكم بآية على أن الله ربي وربكم ، وما بينهما اعتراض.

وقال ابن عطية : التقدير : أطيعون لأن الله ربي وربكم. انتهى.
وليس قوله بظاهر.
والأمر بالتقوى والطاعة تحذير ودعاء ، والمعنى أنه : تظاهر بالحجج والخوارق في صدقه ، فاتقوا الله في خلافي ، وأطيعون في أمري ونهيي.
وقيل : اتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه في كتابه الذي أنزله على موسى ، وأطيعون فيما دعوتكم إليه من تصديقي فيما أرسلني به إليكم.
وتكرار : ربي وربكم ، أبلغ في التزام العبودية من قوله : ربنا ، وأدل على التبري من الربوبية.
{ هذا صراط مستقيم } أي : طريق واضح لمن يسلكه لا اعوجاج فيه ، والإشارة بهذا إلى قوله : { إن الله ربي وربكم فاعبدوه } أي إفراد الله وحده بالعبادة هو الطريق المستقيم ، ولفظ العبادة يجمع الإيمان والطاعات.
وفي هذه الآيات من ضروب الفصاحة والبديع : إسناد الفعل للآمر به لا لفاعله ، في قوله : إن الله يبشرك ، اذ هم المشافهون بالبشارة ، والله الآمر بها.
ومثله : نادى السلطان في البلد بكذا ، وإطلاق اسم السبب على المسبب في قوله : بكلمة منه ، على الخلاف الذي في تفسير : كلمة.
والاحتراس : في قوله : وكهلاً ، من ما جرت به العادة أن من تكلم في حال الطفولة لا يعيش.
والكناية : في قوله : ولم يمسسني بشر ، كنى بالمسّ عن الوطء ، كما كنى عنه : بالحرث ، واللباس ، والمباشرة.
والسؤال والجواب في : قالت الملائكة وفي أنى يكون؟ والتكرار : في : جئتكم بآية.
وفي : أنى أخلق لكم.
و ، في : الطير ، وفي : بإذن الله ، وفي : ربي وربكم ، وفي : ما ، في قوله : بما تأكلون وما.
والتعبير عن الجمع بالمفرد في : الآية ، وفي : الأكمة والأبرص ، وفي : إذا قضى أمراً.
والطباق في : وأحيي الموتى ، وفي : لاحل وحرم والالتفات في : ونعلمه فيمن قرأ بالنون والتفسير بعد الإبهام في : من قال : الكتاب مبهم غير معين ، والتوراة والإنجيل تفسير له والحذف في عدة مواضع.

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)

الإحساس : الإدراك ببعض الحواس الخمس وهي : السمع والبصر والشم والذوق واللمس.
يقال : أحسست الشيء ، وحسست به.
وتبدل سينه ياء فيقال : حسيت به ، أو تحذف أولى سينيه في أحسست فيقول : أحست.
قال :
سوى ان العتاق من المطايا . . .
أحسن به فهن إليه شوس
وقال سيبويه : وما شذ من المضاعف ، يعني في الحذف ، فشبيه بباب : أقمت ، وذلك قولهم : أحست وأحسن يريدون : أحسست ، وأحسسن ، وكذلك يفعل بكل بناء تبنى لام الفعل فيه على السكون ولا تصل إليه الحركة ، فإذا قلت لم أحس لم تحذف.
الحواري : صفوة الرجل وخاصته.
ومنه قيل : الحضريات الحواريات لخلوص ألوانهنّ ونظافتهنّ قال أبو جَلْدة اليشكري :
فقل للحواريات يبكين غيرنا . . .
ولا تبكنا إلا الكلابُ النوابح
ومثله في الوزن : الحوالي ، للكثير الحيل ، وليست الياء فيهما للنسب ، وهو مشتق من : الحور ، وهو البياض.
حورت الثوب بيضته.
المكر : الخداع والخبث وأصله الستر ، يقال : مكر الليل إذا أظلم واشتقاقه من المكر ، وهو شجر ملتف ، فكان الممكور به يلتف به المكر ، ويشتمل عليه ، ويقال : امرأة ممكورة إذا كانت ملتفة الخلق.
والمكر : ضرب من النبات.
تعالى : تفاعل من العلو ، وهو فعل ، لاتصال الضمائر المرفوعة به ، ومعناه : استدعاء المدعوّ من مكانه إلى مكان داعيه ، وهي كلمة قصد بها أولاً تحسين الأدب مع المدعو ، ثم اطردت حتى يقولها الإنسان لعدّوه ولبهيمته ونحو ذلك.
الابتهال : قوله بهلة الله على الكاذب ، والبهلة بالفتح والضم : اللعنة ، ويقال بهله الله : لعنه وأبعده ، من قولك أبهله إذا أهمله ، وناقة باهلة لا ضرار عليها ، وأصل الابتهال هذا ، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه ، وإن لم يكن التعاناً.
وقال لبيد :
من قروم سادة من قومهم . . .
نظر الدهر إليهم فابتهل
{ فلما أحسّ عيسى منهم الكفر } تقدّم ترتيب هذه الجملة على ما قبلها من الكلام ، وهل الحذف بعد قوله { صراط مستقيم } أو بعد قوله : { ورسولاً إلى بني إسرائيل } وذلك عند تفسير { ورسولاً إلى بني إسرائيل }
قال مقاتل : أحس ، هنا رأى من رؤية العين أو القلب وقال الفراء : أحسّ وجد وقال أبو عبيدة : عرف.
وقيل : علم وقيل : خاف.
والكفر : هنا جحود نبوّته وإنكار معجزاته ، و : منهم ، متعلق بأحس قيل : ويجوز أن يكون حالاً من الكفر.
{ قال مَن أنصاري إلى الله } لما أرادوا قتله استنصر عليهم ، قال مجاهد وقال غيره : إنه استنصر لما كفروا به وأخرجوه من قريتهم وقيل : استنصرهم لإقامة الحق.
قال المغربي : إنما قال عيسى : { من أنصاري إلى الله } بعد رفعه إلى السماء وعوده إلى الأرض ، وجمع الحواريين الأثني عشر ، وبثهم في الآفاق يدعون إلى الحق ، وما قاله من أن ذلك القول كان بعد ما ذكر بعيد جداً ، لم يذكره غيره ، بل المنقول.

والظاهر أنه قال ذلك قبل رفعه إلى السماء.
قال السدّي : من أعواني مع الله.
وقال الحسن : من أنصاري في السبيل إلى الله.
وقال أبو علي الفارسي معنى : إلى الله : لله ، كقوله : { يهدي إلى الحق } أي للحق وقيل : من ينصرني إلى نصر الله.
وقيل : من ينقطع معي إلى الله ، قاله ابن بحر وقيل : من ينصرني إلى أن أبين أمر الله وقال أبو عبيدة : من أعواني في ذات الله؟ وقال ابن عطية : من أنصاري إلى الله.
عبارة عن حال عيسى في طلبه من يقوم بالدين ، ويؤمن بالشرع ويحميه ، كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل ، ويتعرض للأحياء في المواسم.
انتهى وقال الزمخشري وإلى الله من صلة أنصاري؟ مضمناً معنى الإضافة ، كأنه قيل : من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله ينصرونني كما ينصرني؟ أو يتعلق بمحذوف حالاً من الياء ، أي : من أنصاري ذاهباً إلى الله ملتجئاً إليه؟ انتهى.
{ قال الحواريون } أي أصفياء عيسى.
قاله ابن عباس.
أو : خواصه ، قاله الفراء.
أو : البيض الثياب ، رواه ابن جبير عن ابن عباس.
أو : القصارون ، سموا بذلك لأنهم يجودون الثياب ، أي يبيضونها ، قاله الضحاك ، ومقاتل.
أو : المجاهدون ، أو : الصيادون ، قال لهم عيسى على نبينا وعليه السلام : ألا تمشون معي تصطادون الناس لله؟ فأجابوا.
قال مصعب : كانوا اثني عشر رجلاً يسيحون معه ، يخرج لهم ما احتاجوا إليه من الأرض ، فقالوا : من أفضل منا؟ نأكل من أين شئنا.
فقال عيسى : من يعمل بيده؟ ويأكل من كسبه؟ فصاروا قصَّارين وحكى ابن الأنباري : الحواريون : الملوك وقال الضحاك ، وأبو أرطاة : الغسالون وقال ابن المبارك : الحوار النور ، ونسبوا إليه لما كان في وجوههم من سيما العبادة ونورها وقال تاج القراء : الحواري : الصديق.
قيل : لما أراهم الآيات وضع لهم ألواناً شتى من حب واحد آمنوا به واتبعوه.
وقرأ الجمهور : الحواريون ، بتشديد الياء.
وقرأ إبراهيم النخعي ، وأبو بكر الثقفي ، بتخفيف الياء في جميع القرآن ، والعرب تستثقل ضمة الياء المكسور ما قبلها في مثل : القاضيون ، فتنقل الضمة إلى ما قبلها وتحذف الياء لالتقائها ساكنة مع الساكن بعدها ، فكان القياس على هذا أن يقال : الحوارون ، لكن أقرت الضمة ولم تنقل دلالة على أن التشديد مراد ، إذ التشديد يحتمل الضمة كما ذهب إليه الأخفش في : يستهزئون ، إذ أبدل الهمزة ياءً ، وحملت الضمة تذكراً لحال الهمزة المراد فيها.
{ نحن أنصار الله } أي : أنصار دينه وشرعه.
والداعي إليه.
{ آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون } لما ذكروا أنهم أنصار الله ذكروا مستنداً لإيمانهم ، لأن انقياد الجوارح تابعة لانقياد القلب وتصديقه ، والرسل تشهد يوم القيامة لقومهم ، وعليهم.
ودل ذلك على أن عيسى عليه السلام كان على دين الإسلام ، برأه الله من سائر الأديان كما برأ إبراهيم بقوله : { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً }

الآية ، ويحتمل أن يكون : واشهد ، خطاباً لله تعالى أي : واشهد يا ربنا ، وفي هذا توبيخ لنصارى نجران ، إذ حكى الله مقالة أسلافهم المؤمنين لعيسى ، فليس كمقالهم فيه ، ودعوى الإلهية له.
{ ربنا آمنا بما أنزلت } أي : من الآيات الدالة على صدق أنبيائك ، أو : بما أنزلت من كلامك على الرسل أو بالإنجيل.
{ واتبعنا الرسول } هو : عيسى على قول الجمهور.
{ فاكتبنا مع الشاهدين } هم : محمد صلى الله عليه وسلم وأمّته ، لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ ، ومحمد صلى الله عليه وسلم يشهد لهم بالصدق.
روى ذلك عكرمة عن ابن عباس ، أو : من آمن قبلهم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
أو : الأنبياء لأن كل نبي شاهد على أمّته.
أو : الصادقون ، قاله مقاتل.
أو : الشاهدون للأنبياء بالتصديق ، قاله الزجاج.
أو : الشاهدون لنصرة رسلك ، أو : الشاهدون بالحق عندك ، رغبوا في أن يكونوا عنده في عداد الشاهدين بالحق من مؤمني الأمم ، وعبروا عن فعل الله ذلك لهم بلفظ : فاكتبنا ، إذ كانت الكتابة تقيد وتضبط ما يحتاج إلى تحقيقه وعلمه في ثاني حال.
{ ومكروا ومكر الله } الضمير في : مكروا ، عائد على من عاد عليه الضمير في : { فلما أحسّ عيسى منهم الكفر } وهم : بنو إسرائيل ، ومكرهم هو احتيالهم في قتل عيسى بأن وكلوا به من يقتله غيلة ، وسيأتي ذكر كيفية حصره وحصر أصحابه في مكان ، ورومهم قتله وإلقاء الشبه على رجل ، وقتل ذلك الرجل وصلبه في مكانه ، إن شاء الله.
{ ومكر الله } مجازاتهم على مكرهم سمى ذلك مكراً ، لأن المجازاة لهم ناشئة عن المكر ، كقوله : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } وقوله { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه } وكثيراً ما تسمى العقوبة باسم الذنب ، وإن لم تكن في معناه.
وقيل : مكر الله بهم هو ردّهم عما أرادوا برفع عيسى إلى السماء ، وإلقاء شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل.
وقال الأصم : مكر الله بهم أن سلط عليهم أهل فارس فقتلوهم وسبوا ذراريهم وذكر ابن إسحاق : أن اليهود غزوا الحواريين بعد رفع عيسى ، فأخذوهم وعذبوهم ، فسمع بذلك ملك الروم ، وكان ملك اليهود من رعيته ، فأنقذهم ثم غزا بني إسرائيل وصار نصرانياً ، ولم يظهر ذلك.
ثمَ ولي ملك آخر بعدُ وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى بنحوٍ من أربعين سنة ، فلم يترك فيه حجراً على آخر ، وخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز.
وقال المفضل : ودبروا ودبر الله ، والمكر لطف التدبير.
وقال ابن عيسى : المكر قبيح ، وإنما جاز في صفة الله تعالى على مزاوجة الكلام وقيل : مكر الله بهم إعلاء دينه وقهرهم بالذل ، ومكرهم لزومهم إبطال دينه.
والمكر عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر في خفية ، وذلك غير ممتنع وقيل : المكر الأخذ بالغفلة لمن استحقه ، وسأل رجل الجنيد ، فقال : كيف رضي الله سبحانه لنفسه المكر وقد عاب به غيره؟ فقال : لا أدري ما تقول ، ولكن أنشدني فلان الظهراني :

ويقبح من سواك الفعل عندي . . .
فتفعله فيحسن منك ذاكا
ثم قال : قد أجبتك إن كنت تعقل.
{ والله خير الماكرين } معناه أي : المجازين أهل الخير بالفضل وأهل الجور بالعدل ، لأنه فاعل حق في ذلك ، والماكر من البشر فاعل باطل في الأغلب ، وقال تعالى : { والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً }
وقيل : خير ، هنا ليست للتفضيل ، بل هي : كهي في قوله : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً } وقال حسان.
فشركما لخيركما الفداء . . .
وفي هذه الآية من ضروب البلاغة : الاستعارة في : أحس ، إذ لا يحس إلا ما كان متجسداً ، والكفر ليس بمحسوس ، وإنما يعلم ويفطن به ، ولا يدرك بالحس إلاَّ إن كان أحس ، بمعنى رأى ، أو بمعنى : سمع منهم كلمة الكفر ، فيكون : أحس ، لا استعارة فيه ، إذ يكون أدرك ذلك منهم بحاسة البصر ، أو بحاسة الأذن ، وتسمية الشيء باسم ثمرته.
قال الجمهور : أحس منهم القتل ، وقتل نبي من أعظم ثمرات الكفر.
والسؤال والجواب في : { قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون } والتكرار في : من أنصاري إلى الله ، وأنصار الله ، وآمنا بالله ، وآمنا بما أنزلت ، ومكروا ومكر الله ، والماكرين ، وفي هذا التجنيس المماثل ، والمغاير ، والحذف ، في مواضع.
{ إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك } العامل في : إذ ، ومكر الله قاله الطبري ، أو : اذكر ، قاله بعض النحاة ، أو : خير الماكرين ، قاله الزمخشري.
وهذا القول هو بواسطة الملك ، لأن عيسى ليس بمكلم ، قاله ابن عطية.
و : متوفيك ، هي وفاة يوم رفعه الله في منامه ، قاله الربيع من قوله : { وهو الذي يتوفاكم بالليل } أي : ورافعك وأنت نائم ، حتى لا يلحقك خوف ، وتستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب.
أو : وفاة موت ، قاله ابن عباس.
وقال وهب : مات ثلاث ساعات ورفعه فيها ثم أحياه الله بعد ذلك في السماء ، وفي بعض الكتب : سبع ساعات.
وقال الفراء : هي وفاة موت ، ولكن المعنى : متوفيك في آخر أمرك عند نزولك وقتلك الدجال ، وفي الكلام تقديم وتأخير.
وقال الزمخشري : مستوفي أجلك ، ومعناه أي : عاصمك من أن يقتلك الكفار ، ومؤخرك إلى أجل كتبته لك ، ومميتك حتف أنفك لا قتلا بأيديهم.
وقيل : متوفيك : قابضك من الأرض من غير موت ، قاله الحسن ، والضحاك ، وابن زيد ، وابن جريج ، ومطر الوراق ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، من : توفيت مالي على فلان إذا استوفيته.
وقيل : أجعلك كالمتوفي ، لأنه بالرفع يشبهه وقيل : آخذك وافياً بروحك وبدنك وقيل : متوفيك : متقبل عملك ، ويضعف هذا من جهة اللفظ وقال أبو بكر الواسطي : متوفيك عن شهواتك.
قال ابن عطية : وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من : « أن عيسى في السماء حي ، وأنه ينزل في آخر الزمان ، فيقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويقتل الدجال ، ويفيض العدل ، وتظهر به الملة ، ملة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويحج البيت ، ويعتمر ، ويبقى في الأرض أربعاً وعشرين سنة »

وقيل : أربعين سنة. انتهى.
{ ورافعك إليّ } الرفع نقل من سفل إلى علو؛ و : إليّ ، إضافة تشريف.
والمعنى : إلى سمائي ومقر ملائكتي.
وقد علم أن الباري تعالى ليس بمتحيز في جهة ، وقد تعلق بهذا المشبهة في ثبوت المكان له تعالى وقيل : إلى مكان لا يملك الحكم فيه في الحقيقة ولا في الظاهر إلاَّ أنا ، بخلاف الأرض ، فإنه قد يتولى المخلوقون فيها الأحكام ظاهراً وقيل : إلى محل ثوابك.
قال ابن عباس : رفعه إلى السماء ، سماء الدنيا ، فهو فيها يسبح مع الملائكة ، ثم يهبطه الله عند ظهور الدجال على صخرة بيت المقدس قيل : كان عيسى على طور سيناء ، وهبت ريح فهرول عيسى فرفعه الله في هرولته ، وعليه مدرعة من شعر.
وقال الزجاج : كان عيسى في بيت له كوة ، فدخل رجل ليقتله ، فرفع عيسى من البيت وخرج الرجل في شبه عيسى يخبرهم أن عيسى ليس في البيت ، فقتلوه.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة ، عن ابن عباس قال : رفع الله عيسى من روزنة كانت في البيت.
{ ومطهرك من الذين كفروا } جعل الذين كفروا دنساً ونجساً فطهره منهم ، لأن صحبة الأشرار وخلطة الفجار تتنزل منزلة الدنس في الثوب ، والمعنى : أنه تعالى يخلصه منهم ، فكنى عن إخراجه منهم وتخليصه بالتطهير ، وأتى بلفظ الظاهر لا بالضمير ، وهو : الذين كفروا ، إشارة إلى علة الدنس والنجس وهو الكفر ، كما قال : { إنما المشركون نجس } وكما جاء في الحديث : « المؤمن لا ينجس » فجعله علة تطهيره الإيمان.
وقيل : مطهرك من أذى الكفرة.
وقيل : من الكفر والفواحش.
وقيل : مما قالوه فيك وفي أمك.
وقيل : ومطهرك أي مطهر بك وجه الناس من نجاسة الكفر والعصيان.
وقال الراغب : متوفيك : آخذك عن هواك ، ورافعك إلي عن شهواتك ، ولم يكن ذلك رفعاً مكانياً وإنما هو رفعة المحل ، وإن كان قدر رفع إلى السماء ، وتطهيره من الكافرين إخراجه من بينهم.
وقيل : تخليصه من قتلهم ، لأن ذلك نجس طهره الله منه.
قال أبو مسلم : التخليص والتطهير واحد ، إلاَّ أن لفظ التطهير فيه رفعة للمخاطب ، كما أن الشهود والحضور واحد ، وفي الشهود رفعة.
ولهذا ذكره الله في المؤمنين ، وذكر الحضور والإحضار في الكافرين.
{ وجاعل الذين اتبعوك } الكاف : ضمير عيسى كالكاف السابقة.
وقيل : هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو من تلوين الخطاب.
انتهى هذا القول ، ولا يظهر.
ومعنى اتبعوك : أي في الدين والشريعة ، وهم المسلمون.
لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع.
{ فوق الذين كفروا } يعلونهم بالحجة ، وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف ، والذين كفروا هم الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى ، قاله الزمخشري ، بتقديم وتأخير في كلامه.
فالفوقية هنا بالحجة والبرهان ، قاله الحسن.
أو : بالعز والمنعة ، قاله ابن زيد.

فهم فوق اليهود ، فلا تكون لهم مملكة كما للنصارى.
فالآية ، على قوله ، مخبرة عن إذلال اليهود وعقوبتهم بأن النصارى فوقهم في جميع أقطار الأرض إلى يوم القيامة ، فخصص ابن زيد المتبعين والكافرين ، وجعله حكماً دنيوياً لا فضلية فيه للمتبعين الكفار ، بل كونهم فوق اليهود عقوبة لليهود.
وقال الجمهور : بعموم المتبعين ، فتدخل في ذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، نص عليه قتادة ، وبعموم الكافرين.
والآية تقتضي إعلام عيسى أن أهل الإيمان به كما يحب هم فوق الذين كفروا بالحجة والبرهان والعزة والمنعة والغلبة ، ويظهر عن عبارة ابن جريج أن المتبعين له هم في وقت استنصاره ، وهم الحواريون ، جعلهم الله فوق الكافرين لأنه شرفهم ، وأبقى لهم في الصالحين ذكراً ، فهم فوقهم بالحجة والبرهان ، وما ظهر عليهم من رضوان الله.
وقيل : فوق الذين كفروا يوم القيامة في الجنة ، إذ هم في الغرفات ، والذين كفروا في أسفل سافلين في الدركات.
وتلخص من أقوال هؤلاء المفسرين أن متبعيه هم متبعوه في أصل الإسلام ، فيكون عاماً في المسلمين ، وعاماً في الكافرين ، أوهم متبعوه في الإنتماء إلى شريعته ، وإن لم يتبعوها حقيقة ، يكون الكافرون خاصاً باليهود ، أو متبعوه هم الحواريون ، والكافرون : من كفر به.
وأما الفوقية فإما حقيقة وذلك بالجنة والنار ، وإما مجازاً أي : بالحجة والبرهان ، فيكون ذلك دينياً ، و : إما بالعزة والغلبة فيكون ذلك دنيوياً ، وإما بهما.
{ إلى يوم القيامة } الظاهر أن : إلى ، تتعلق بمحذوف ، وهو العامل في : فوق ، وهو المفعول الثاني : لجاعل ، إذ معنى جاعل هنا مصيِّر ، فالمعنى كائنين فوقهم إلى يوم القيامة ، وهذا على أن الفوقية مجاز ، وأما إن كانت الفوقية حقيقة ، وهي الفوقية بالجنة ، فلا تتعلق : إلاَّ ، بذلك المحذوف ، بل بما تقدّم من : متوفيك ، أو من : رافعك ، أو من : مظهرك ، إذ يصح تعلقه بكل واحد منها ، أما برافعك أو مطهرك ، فظاهر.
وأما بمتوفيك فعلى بعض الأقوال.
وهذه الأخبار الأربعة ترتيبها في غاية الفصاحة ، بدأ أولاً : بإخباره تعالى لعيسى أنه متوفيه ، فليس للماكرين به تسلط عليه ولا توصل إليه ، ثم بشره ثانياً : برفعه إلى سمائه وسكناه مع ملائكته وعبادته فيها ، وطول عمره في عبادة ربه.
ثم ثالثاً : برفعه إلى سمائه بتطهيره من الكفار ، فعم بذلك جميع زمانه حين رفعه ، وحين ينزله في آخر الدنيا فهي بشارة عظيمة له أنه مطهر من الكفار أولاً وآخراً.
ولما كان التوفي والرفع كل منهما خاص بزمان ، بدىء بهما.
ولما كان التطهير عاماً يشمل سائر الأزمان أخر عنهما ، ولما بشره بهذه البشائر الثلاث ، وهي أوصاف له في نفسه ، بشره برفعة أتباعه فوق كل كافر ، لتقرّ بذلك عينه ، ويسر قلبه.
ولما كان هذا الوصف من إعتلاء تابعيه على الكفار من أوصاف تابعيه ، تأخر عن الأوصاف الثلاثة التي لنفسه ، إذ البداءة بالأوصاف التي للنفس أهم ، ثم أتبع بهذا الوصف الرابع على سبيل التبشير بحال تابعيه في الدنيا ، ليكمل بذلك سروره بما أوتيه ، وأوتي تابعوه من الخير.

{ ثم إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } هذا إخبار بالحشر والبعث ، والمعنى ثم إلى حكمي ، وهذا عندي من الالتفات ، لأنه سبق ذكر مكذبيه : وهم اليهود ، وذكر من آمن به؛ وهم الحواريون.
وأعقب ذلك قوله : { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا } فذكر متبعيه الكافرين ، فلو جاء على نمط هذا السابق لكان التركيب : ثم إليّ مرجعهم ، ولكنه التفت على سبيل الخطاب للجميع ، ليكون الإخبار أبلغ في التهديد ، وأشد زجراً لمن يزدجر.
ثم ذكر لفظة : إليّ ، ولفظة : فأحكم ، بضمير المتكلم ، ليعلم أن الحاكم هناك من لا تخفى عليه خافية ، وذكر أنه يحكم فيما اختلفوا فيه من أمر الأنبياء واتباع شرائعهم ، وأتى بالحكم مبهماً ، ثم فصل المحكوم بينهم إلى : كافر ومؤمن ، وذكر جزاء كل واحد منهم.
وقال ابن عطية : مرجعكم ، الخطاب لعيسى ، والمراد الإخبار بالقيامة والحشر ، فلذلك جاء اللفظ عاماً من حيث الأمر في نفسه لا يخص عيسى وحده ، فخاطبه كما يخاطب الجماعة ، إذ هو أحدها ، وإذ هي مرادة في المعنى.
انتهى كلامه.
والأولى عندي أن يكون من الالتفات كما ذكرته.
{ فأما الذين كفروا } قيل : يحتمل أن يكون خاصاً ، أي : كفروا بك وجحدوا نبوّتك ، والظاهر العموم ، ويجوز أن يكون الذين ، مبتدأ ويجوز أن يكون منصوباً بفعل محذوف يفسره ما بعده ، فيكون من باب الإشتغال.
{ فأعذبهم عذاباً شديداً } وصف العذاب بالشدّة لتضاعفه وازدياده.
وقيل : لاختلاف أجناسه.
{ في الدنيا } بالأسر والقتل والجزية والذل ، ومن لم ينله شيء من هذا فهو على وجل ، إذ يعلم أن الإسلام يطلبه.
{ والآخرة } بعذاب النار.
وهذا إخبار منه تعالى بما يفعل بالكافر من أول أمره في دنياه إلى آخر أمره في عقباه.
{ وما لهم من ناصرين } تقدّم تفسير هذه الجملة في هذه السورة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
{ وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم } بدأ أولاً بقسم الكفار ، لأن ما قبله من ذكر حكمه تعالى بينهم هو على سبيل التهديد والوعيد للكفار ، والإخبار بجزائهم ، فناسبت البداءة بهم ، ولأنهم أقرب في الذكر بقوله : { فوق الذين كفروا } وبكون الكلام مع اليهود الذين كفروا بعيسى وراموا قتله ، ثم أتى ثانياً بذكر المؤمنين ، وعلق هناك العذاب على مجرَّد الكفر ، وهنا علق توفية الأجر على الإيمان وعمل الصالحات تنبيهاً على درجة الكمال في الإيمان ، ودعاء إليها.
والتوفية : دفع الشيء وافياً من غير نقص ، والأجور : ثواب الأعمال ، شبهه بالعامل الذي يوفى أجره عند تمام عمله.
وتوفية الأجور هي : قسم المنازل في الجنة بحسب الأعمال على ما رتبها تعالى ، وفي الآية قبلها قال : { فأعذبهم } أسند الفعل إلى ضمير المتكلم وحده ، وذلك ليطابق قوله : { فأحكم بينكم } وفي هذه الآية قال : فيوفيهم ، بالياء على قراءة حفص ، ورويس ، وذلك على سبيل الالتفات والخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة للتنوع في الفصاحة.

وقرأ الجمهور : فنوفيهم ، بالنون الدالة على المتكلم المعظم شأنه ، ولم يأت بالهمزة كما في تلك الآية ليخالف في الإخبار بين النسبة الإسنادية فيما يفعله بالكافر وبالمؤمن ، كما خالف في الفعل ، ولأن المؤمن العامل للصالحات عظيم عند الله ، فناسبه الإخبار عن المجازي بنون العظمة.
ويجوز أن يكون : الذين آمنوا ، مبتدأ ، ويجوز انتصابه على إضمار فعل يفسر ما بعده ، ويكون ذلك من باب الإشتغال ، كقوله : { وأما ثمود فهديناهم } فيمن نصب الدال.
{ والله لا يحب الظالمين } تقدّم تفسير ما يشبه هذا ، وهو قوله : { فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين } واحتج المعتزلة بهذا على أنه تعالى لا يريد الكفر والمعاصي ، لأن مريد الشيء محب له إذا كان ذلك الشيء من الأفعال ، وإنما تخالف المحبة الإرادة إذا علقتا بالأشخاص ، فيقال : أحب زيداً ، ولا يقال : أريده ، وأمّا الأفعال فهما فيها واحد ، فقوله : لا يحب : لا يريد ظلم الظالمين ، هكذا قرره عبد الجبار ، وعند أصحابنا المحبة عبارة عن إرادة إيصال الخير له ، فهو تعالى ، وإن أراد كفر الكافر ، لا يريد إيصال الثواب إليه.
{ ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم } ذلك : إشارة إلى ما تقدم من خبر عيسى وزكريا وغيرهما ، و : نتلوه ، نسرده ونذكره شيئاً بعد شيء ، وأضاف التلاوة إلى نفسه وإن كان الملك هو التالي تشريفاً له ، جعل تلاوة المأمور تلاوة الآمر ، وفي : نتلوه ، التفات ، لأن قبله ضمير غائب في قوله : لا يحب ، ونتلوه : معناه تلوناه ، كقوله : { واتبعوا ما تتلو الشياطين } ويجوز أن يراد به ظاهره من الحال ، لأن قصة عيسى لم يفرغ منها ، ويكون : ذلك ، بمعنى : هذا.
والآيات هنا الظاهر أنه يراد بها آيات القرآن ، ويحتمل أن يراد بها المعجزات والمستغربات ، أي : نأتيهم بهذه الغيوب من قبلنا ، وبسبب تلاوتنا ، وأنت أمي لا تقرأ ولا تصحب أهل الكتاب ، فهي آيات لنبوتك.
قال ابن عباس ، والجمهور : والذكر : القرآن والحكيم أي : الحاكم ، أتى بصيغة المبالغة فيه ، ووصف بصفة من هو من سببه وهو الله تعالى ، أو : كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه.
قال الزجاج : لأنه ذو حكمة في تأليفه ونظمه ، ويجوز أن يكون بمعنى المحكم ، قاله الجمهور ، أحكم عن طرق الخلل ، ومنه قوله : { أحكمت آياته } ويكون : فعيل ، بمعنى : مفعل ، وهو قليل ، ومنه : أعقدت العسل فهو معقد وعقيد ، وأحبست فرساً في سبيل الله فهو محبس وحبيس.
وقيل : المراد بالذكر هنا اللوح المحفوظ الذي منه نقلت جميع كتب الله المنزلة على الأنبياء ، أخبر أنه أنزل هذه القصص مما كتب هناك.
و : ذلك ، مبتدأ ، و : نتلوه ، خبر و : من الآيات ، متعلق بمحذوف لأنه في موضع الحال ، أي : كائناً من الآيات.
و : من ، للتبعيض لأن هذا المتلو بعض الآيات والذكر ، وجوّزوا أن يكون : من الآيات ، خبراً بعد خبر ، وذلك على رأي من يجيز تعداد الأخبار بغير حرف عطف ، إذا كان لمبتدأ واحد ، ولم يكن في معنى خبر واحد ، وجوّزوا أن يكون : من ، لبيان الجنس ، وذلك على رأي من يجيز أن تكون : من ، لبيان الجنس.

ولا يتأتى ذلك هنا من جهة المعنى إلاَّ بمجاز ، لأن تقدير : من ، البيانية بالموصول.
ولو قلت : ذلك نتلوه عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم ، لاحتيج إلى تأويل ، لأن هذا المشار إليه من نبأ من تقدم ذكره ليس هو جميع الآيات ، والذكر الحكيم إنما هو بعض الآيات ، فيحتاج إلى تأويل أنه جعل بعض الآيات ، والذكر هو الآيات ، والذكر على سبيل المجاز.
وممن ذهب إلى أنها لبيان الجنس : أبو محمد بن عطية ، وبدأ به ، ثم قال : ويجوز أن تكون للتبعيض.
وجوّزوا أن يكون ذلك منصوباً بفعل محذوف يفسره ما بعده ، فيكون من باب الإشتغال ، أي : نتلو ذلك نتلوه عليك ، والرفع على الإبتداء أفصح لأنه عرى من مرجح النصب على الإشتغال؛ فزيدٌ ضربته ، أفصح من : زيداً ضربته ، وإن كان عربياً ، وعلى هذا الإعراب يكون : نتلوه ، لا موضع له من الإعراب ، لأنه مفسر لذلك الفعل المحذوف ، ويكون : من الآيات ، حالاً من ضمير النصب في : نتلوه.
وأجاز الزمخشري أن يكون : ذلك ، بمعنى : الذي ، و : نتلوه ، صلته.
و : من الآيات ، الخبر.
وقاله الزجاج قبله ، وهذه نزعة كوفية ، يجيزون في أسماء الإشارة أن تكون موصولة ، ولا يجوز ذلك عند البصريين ، إلاَّ في : ذا ، وحدها إذا سبقها : ما ، الإستفهامية باتفاق ، أو : من ، الإستفهامية باختلاف.
وتقرير هذا في علم النحو.
وجوّزوا أيضاً أن يكون : ذلك ، مبتدأ و : من الآيات ، خبر.
و : نتلوه ، حال.
وأن يكون : ذلك ، خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذلك.
و : نتلوه ، حال.
والظاهر في قوله : { والذكر الحكيم } أنه معطوف على الآيات ، ومن جعلها للقسم وجواب القسم : { إن مثل عيسى } فقد أبعد.
{ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } قال ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي وغيرهم : جادل وفد نجران النبي صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى ، وقالوا : بلغنا أنك تشتم صاحبنا ، وتقول : هو ، عبد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « وما يضرّ ذلك عيسى ، أجل هو عبد الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه » فقالوا : فهل رأيت بشراً قط جاء من غير فحل أو سمعت به؟ فخرجوا ، فنزلت.
وفي بعض الروايات أنهم قالوا : فإن كنت صدقاً فأرنا مثله! فنزلت.
وروى وكيع عن مبارك عن الحسن قال : جاء راهباً نجران فعرض عليهما الإسلام فقال أحدهما : قد أسلمنا قبلك ، فقال : « كذبتما ، يمنعكما من الإسلام ثلاث : عبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير ، وقولكما لله ولد » قالا : من أبو عيسى؟ وكان لا يعجل حتى يأمره ربه.

فأنزل { إن مَثَل عيسى } وتقدم الكلام في تفسير نحو هذا التركيب في قولهم : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً }
وقال الزمخشري : إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم ، فجعل المثل بمعنى الشأن والحال.
وهو راجع لقول من قال : المثل هنا الصفة : كقوله : { مثل الجنة } وفي هذا إقرار الكاف في قوله : { كمثل آدم } على معناها التشبيهي.
وقال ابن عطية : في قول من قال إن المثل هنا بمعنى الصفة ما نصه : وهذا عندي خطأ وضعف في فهم الكلام ، وإنما المعنى : أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول ، من عيسى فهو كالمتصور من آدم ، إذ الناس كلهم مجمعون على أن الله تعالى خلقه من تراب من غير فحل.
وكذلك { مثل الجنة } عبارة عن المتصوّر منها.
وفي هذه الآية صحة القياس أي إذا تصور أمر آدم قيس عليه جواز أمر عيسى.
والكاف في { كمثل آدم } اسم على ما ذكرناه من المعنى.
انتهى كلامه.
ولا يظهر لي فرق بين كلامه هذا ، وكلام من جعل المثل بمعنى الشأن والحال.
أو بمعنى الصفة ، وفي ( ري الظمآن ) قيل : المثل بمعنى الصفة ، وقولك صفة عيسى كصفة آدم كلام مطرد ، على هذا جل اللغويين والمفسرين ، وخالف أبو علي الفارسي الجميع ، وقال : المثل بمعنى الصفة لا يمكن تصحيحه في اللغة ، إنما المثل الشبه.
على هذا تدور تصاريف الكلمة ، ولا معنى للوصفية في التشابه.
والمثل كلمة يرسلها قائلها لحكمة يشبه بها الأمور ، ويقابل بها الأحوال. انتهى.
ومن جعل المثل هنا مرادفاً للمثل ، كالشبه : والشبه.
قال : جمع بين أداتي تشبيه على طريق التأكيد للشبه ، والتنبيه على عظم خطره وقدره.
وقال بعض هؤلاء : الكاف زائدة.
وقال بعضهم : مثل زائدة ، وجعل بعضهم المثل هنا من ضرب الأمثال.
وقال : العرب تضرب الأمثال لبيان ما خفي معناه ودق إيضاحه ، لما خفي سر ولادة عيسى من غير أب ، لأنه خالف المعروف ، ضرب الله المثل بآدم الذي استقرّ في الأذهان.
وعلم أنه أوجد من غير أب ولا أمّ ، كذلك خلق عيسى بلا أب ، ولا بد من مشاركة معنوية بين من ضرب به المثل ، وبين من ضرب له المثل ، من وجه واحد ، أو من وجوه لا يشترط الإشتراك في سائر الصفات.
والمعنى الذي وقعت فيه المشاركة بين آدم وعيسى كون كل واحد منهما خلق من غير أب.
وقال بعض أهل العلم : المشاركة بين آدم وعيسى في خمسة عشر وصفاً : في التكوين ، و : في الخلق من العناصر التي ركب الله منها الدنيا.
وفي العبودية ، وفي النبوّة.
وفي المحنة : عيسى باليهود ، وآدم بابليس ، وفي : أكلهما الطعام والشراب ، وفي الفقر إلى الله.
وفي الصورة ، وفي الرفع إلى السماء والإنزال منها إلى الأرض ، وفي الإلهام ، عطس آدم فألهم ، فقال الحمد لله.
وألهم عيسى ، حين أخرج من بطن أمّة فقال :

{ إني عبد الله } وفي العلم ، قال : { وعلم آدم الاسماء } وقال : { ويعلمه الكتاب والحكمة } وفي نفخ الروح فيهما { ونفخت فيه من روحي } { فنفخنا فيه من روحنا } وفي الموت ، وفي فقد الأب ، ومعنى : عند الله أي عند من يعرف حقيقة الأمر ، وكيف هو.
أي : هكذا هو الأمر فيما غاب عنكم ولم تطلعوا على كنهه.
والعامل في : عند ، العامل في : كاف التشبيه ، وهذا التشبيه هو من أحد الطرفين كما تقدّم ، وهو الوجود من غير أب وهما نظيران في أن كلاًّ منهما أوجده الله خارجاً عما استقر واستمرّ في العادة من خلق الإنسان متولداً من ذكر وأنثى ، كما قال تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } والوجود من غير أب وأمّ أغرب في العادة من وجود من غير أب ، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه ، وأسر بعض العلماء بالروم فقال لهم لم تعبدون عيسى؟ قالوا : لأنه لا أب له.
قال : فآدم أولى لأنه لا أبوين له.
قالوا : كان يحيي الموتى.
قال : فخرقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر ، وأحيا حزقيل ثمانية آلاف.
فقالوا : كان يبريء الأكمه والأبرص.
قال : فجرجيس أولى لأنه طحن وأحرق ، ثم قام سالماً. انتهى.
وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ عين قتادة بعد ما قلعت ، وردّ الله نورها ، وصح أن أعمى دعا له فردّ الله له بصره.
وفي حديث الشاب الذي أتي به ليتعلم من سحر الساحر ، فترك الساحر ودخل في دين عيسى وتعبد به ، فصار يبرىء الأكمه والأبرص ، وفيه انه دعا لجليس الملك وابن عمه ، وكان أعمى ، فردّ الله عليه بصره.
{ خلقه من تراب } هي من تسمية الشيء باسم أصله.
كقوله { الله الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة } كان تراباً ثم صار طيناً وخلق منه آدم.
كما قال : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } وقال تعالى : { إني خالق بشراً من طين } وقال : { قال أأسجد لمن خلقت طيناً }
والضمير المنصوب في : خلقه ، عائد على آدم ، وهذه الجملة تفسيرية لمثل آدم ، فلا موضع لها من الإعراب.
وقيل : هي في موضع الحال ، وقدر مع خلقه مقدرة ، والعامل فيها معنى التشبيه.
قال ابن عطية : ولا يجوز أن يكون خلقه صفة لآدم ولا حالاً منه.
قال الزجاج : إذ الماضي لا يكون حالاً أنت فيها ، بل هو كلام مقطوع منه مضمنه تفسير المثل.
انتهى كلامه.
وفيه نظر ، والمعنى : قدره جسداً من طين { ثم قال له كن } أي أنشأه بشراً ، قاله الزمخشري ، وسبقه إلى معناه أبو مسلم.
قلنا : ولو كان الخلق بمعنى الإنشاء.
لا بمعنى التقدير ، لم يأت بقوله : { ثم قال له كن } لأن ما خلق لا يقال له : كن ، ولا ينشأ إلاَّ إن كان معنى { ثم قال له كن } عبارة عن نفخ الروح فيه ، وقاله عبد الجبار.

فيمكن أن يكون خلقه بمعنى أنشأه لا بمعنى قدّره.
قيل : أو يكون : كن ، عبارة عن كونه لحماً ودماً ، وقوله : فيكون ، حكاية حال ماضية ولا قول هناك حقيقة ، وإنما ذلك على سبيل التمثيل ، وكناية عن سرعة الخلق والتمكن من ايجاد ما يريد تعالى إيجاده ، إذ المعدوم لا يمكن أن يؤمر.
و : ثم ، قيل لترتيب الخبر ، لأن قوله : كن ، لم يتأخر عن خلقه ، وإنما هو في المعنى تفسير للخلق ، ويجوز أن يكون للترتيب الزماني أي : أنشأه أولاً من طين ، ثم بعد زمان أوجد فيه الروح أي صيره لحماً ودماً على من قال ذلك.
وقال الراغب : ومعنى : كن.
بعد : خلقه من تراب : كن إنساناً حياً ناطقاً ، وهو لم يكن كذلك ، بل كان دهراً ملقىً لا روح فيه ، ثم جعل له الروح.
وقوله : كن عبارة عن إيجاد الصورة التي صار بها الإنسان إنساناً. انتهى.
والضمير في : له ، عائد على آدم وأبعد من زعم أنه عائد على عيسى ، وأبعد من هذا قول من زعم أنه يجوز أن يعود على كل مخلوق خلق بكن ، وهو قول الحوفي.
{ الحق من ربك } جملة من مبتدأ وخبر ، أخبر تعالى أن الحق ، وهو الشيء الثابت الذي لا شك فيه هو وارد إليك من ربك ، فجميع ما أنبأك به حق ، فيدخل فيه قصة عيسى وآدم وجميع أنبائه تعالى ، ويجوز أن يكون : الحق ، خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو.
أي : خبر عيسى في كونه خلق من أم فقط هو الحق ، و : من ربك ، حال أو : خبر ثان وأخبر عن قصة عيسى بأنها حق.
ومع كونها حقاً فهي إخبار صادر عن الله.
{ فلا تكن من الممترين } قيل : الخطاب بهذا لكل سامع قصة عيسى ، والأخبار الواردة من الله تعالى.
وقيل : المراد به أمّة من ظاهر الخطاب له.
قال الزمخشري : ونهيه عن الامتراء وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون ممترياً ، من باب التهييج لزيادة الثبات والطمأنينة ، وأن يكون لطفاً لغيره.
وقال الراغب : الامتراء استخراج الرأي للشك العارض ، ويجعل عبارة عن الشك ، وقال : فلا تكن من الممترين ولم يكن ممترياً ليكون فيه ذمّ من شك في عيسى.
{ فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم } أي : من نازعك وجادلك ، وهو من باب المفاعلة التي تكون بين اثنين ، وكان الأمر كذلك بينه صلى الله عليه وسلم وبين وفد نجران.
والضمير في : فيه ، عائد على عيسى ، لأن المنازعة كانت فيه ، ولأن تصدير الآية السابقة في قوله : { إن مثل عيسى } وما بعده جاء من تمام أمره ، وقيل : يعود على الحق ، وظاهر من العموم في كل من يحاجّ في أمر عيسى.
وقيل : المراد وفد نجران.
و : من ، يصح أن تكون موصولة ، ويصح أن تكون شرطية ، و : العلم هنا : الوحي الذي جاء به جبريل ، وقيل : الآيات المتقدّمة في أمر عيسى ، الموجبة للعمل.

و : ما ، في : ما جاءك ، موصولة بمعنى : الذي ، وفي : جاءك ، ضمير الفاعل يعود عليها.
و : من العلم ، متعلق بمحذوف في موضع الحال ، أي : كائناً من العلم.
وتكون : من ، تبعيضية.
ويجوز أن تكون لبيان الجنس على مذهب من يرى ذلك ، قال بعضهم ، ويخرج على قول الأخفشض : أن تكون : ما ، مصدرية ، و : من ، زائدة ، والتقدير : من بعد مجيء العلم إياك.
{ فقل تعالوا } قرأ الجمهور بفتح اللام وهو الأصل والقياس ، إذا التقدير تفاعل ، وألفة منقلبة عن ياء وأصلها واو ، فإذا أمرت الواحد قلت : تعال ، كما تقول : إخشَ واسعَ.
وقرأ الحسن ، وأبو واقد ، وأبو السمال : بضم اللام ، ووجههم أن أصله : تعاليوا ، كما تقول : تجادلوا ، نقل الضمة من الياء إلى اللام بعد حذف فتحتها ، فبقيت الياء ساكنة وواو الضمير ساكنة فحذفت الياء لإلتقاء الساكنين ، وهذا تعليل شذوذ.
{ ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } أي : يدعُ كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة.
وظاهر هذا أن الدعاء والمباهلة بين المخاطب : بقل : وبين من حاجه ، وفسر على هذا الوجه : الأبناء بالحسن والحسين ، و : بنسائه : فاطمة ، و : الأنفس بعليّ.
قال الشعبي : ويدل على أن ذلك مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم مع حاجه ما ثبت في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص ، قال : « لما نزلت هذه الآية : { تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم : فاطمة وحسناً وحسيناً ، فقال : » اللهم هؤلاء أهلي «
وقال قوم : المباهلة كانت عليه وعلى المسلمين ، بدليل ظاهر قوله ندع أبناءنا وأبناءكم على الجمع ، ولما دعاهم دعا بأهله الذين في حوزته ، ولو عزم نصارى نجران على المباهلة وجاؤا لها ، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يخرجوا بأهاليهم لمباهلته.
وقيل : المراد : بأنفسنا ، الإخوان ، قاله ابن قتيبة.
قال تعالى : { ولا تلمزوا أنفسكم } أي : إخوانكم.
وقيل : أهل دينه ، قاله أبو سليمان الدمشقي.
وقيل : الأزواج ، وقيل : أراد القرابة القريبة ، ذكرهما عليّ بن أحمد النيسابوري.
{ ثم نبتهل } أي : ندع بالالتعان.
وقيل : نتضرّع إلى الله ، قاله ابن عباس.
وقال مقاتل : نخلص في الدعاء.
وقال الكلبي : نجهد في الدعاء.
وقيل : نتداعى بالهلاك.
{ فنجعل لعنة الله على الكاذبين } أي : يقول كل منا : لعن الله الكاذب منا في أمر عيسى ، وفي هذا دليل على جواز اللعن لمن أقام على كفره ، وقد لعن صلى الله عليه وسلم اليهود.
قال أبو بكر الرازي : وفي الآية دليل على أن الحسن والحسين ابنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو أحمد بن علان : كانا إذ ذاك مكلفين ، لأن المباهلة عنده لا تصح إلاَّ من مكلف.
وقد طوّل المفسرون بما رووا في قصة المباهلة ، ومضمونها أنه دعاهم إلى المباهلة ، وخرج بالحسن والحسين وفاطمة وعليّ إلى الميعاد ، وأنهم كفوا عن ذلك ، ورضوا بالإقامة على دينهم وأن يؤدّوا الجزية ، وأخبرهم أحبارهم أنهم إن باهلوا عذبوا ، وأخبر هو صلى الله عليه وسلم أنهم إن باهلوا عذبوا ، وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوّته شاهد عظيم على صحة نبوّته.

قال الزمخشري : فإن قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلاَّ لتبيين الكاذب منه ومن خصمه ، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه ، فما معنى ضم الأبناء والنساء؟.
قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله ، واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة.
وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل ، وألصقهم بالقلوب.
وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ، ومن ثم كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ، ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق ، وقدّمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم ، وقرب منزلتهم ، وليؤذن بأنهم مقدّمون على الأنفس يفدون بها ، وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام ، وفيه برهان واضح على صحة نبوّة النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه لم ير واحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك.
انتهى كلامه.
وقال ابن عطية : وما رواه الرواة من أنهم تركوا الملاعنة لعلمهم بنبوّته أحج لنا على سائر الكفرة ، وأليق بحال محمد صلى الله عليه وسلم ، ودعاء النساء والأبناء للملاعنة أهز للنفوس وأدعى لرحمة الله أو لغضبه على المبطلين ، وظاهر الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم بما يخصه ، ولو عزموا استدعى المؤمنين بأبنائهم ونسائهم ، ويحتمل أنه كان يكتفي بنفسه وخاصته فقط. انتهى.
وفي الآية دليل على المظاهرة بطريق الإعجاز على من يدعي الباطل بعد وضوح البرهان بطريق القياس ، ومن أغرب الاستدلال ما استدلّ به من الآية محمد بن عليّ الحمصي.
وكان متكلماً على طريق الاثني عشرية.
على : أن علينا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صلى الله عليه وسلم.
قال : وذلك أن قوله تعالى : { وأنفسنا وأنفسكم } ليس المراد نفس محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن الإنسان لا يدعو نفسه ، بل المراد غيره.
وأجمعوا على أن الذي هو غيره : عليّ ، فدلت الآية على أن نفسه نفس الرسول ، ولا يمكن أن يكون عينها ، فالمراد مثلها ، وذلك يقتضي العموم إلاَّ أنه ترك في حق النبوّة الفضل لقيام الدليل ودل الإجماع على أنه كان صلى الله عليه وسلم أفضل من سائر الأنبياء ، فلزم أن يكون عليّ كذلك.
قال : ويؤكد ذلك الحديث المنقول عنه من الموافق والمخالف : « من أراد أن يرى آدم في علمه ، ونوحاً في طاعته ، وإبراهيم في حلمه ، وموسى في قومه ، وعيسى في صفوته فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب »

فيدل ذلك على أنه اجتمع فيه ما كان متفرقاً فيهم.
قال : وذلك يدل على أنه أفضل من جميع الأنبياء والصحابة.
وأجاب الرازي : بأن الإجماع منعقد على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ممن ليس بنبي ، وعليّ لم يكن نبياً ، فلزم القطع بأنه مخصوص في حق جميع الأنبياء.
وقال الرازي : استدلال الحمصي فاسد من وجوه.
منها قوله : إن الإنسان لا يدعو نفسه بل يجوز للإنسان أن يدعو نفسه ، تقول العرب : دعوت نفسي إلى كذا فلم تجبني ، وهذا يسميه أبو علي بالتجريد.
ومنها قوله : وأجمعوا على أن الذي هو غيره هو عليّ ، ليس بصحيح ، بدليل الأقوال التي سيقت في المعنى بقوله : وأنفسنا.
ومنها قوله : فيكون نفسه مثل نفسه ، ولا يلزم من المماثلة أن تكون في جميع الأشياء ، بل تكفي المماثلة في شيء مّا ، هذا الذي عليه أهل اللغة ، لا الذي يقوله المتكلمون : من أن المماثلة تكون في جميع صفات النفس ، هذا اصطلاح منهم لا لغة.
فعلى هذا تكفي المماثلة في صفة واحدة ، وهي كونه من بني هاشم ، والعرب تقول : هذا من أنفسنا ، أي : من قبيلتنا.
وأما الحديث الذي استدل به فموضوع لا أصل له.
وهذه النزغة التي ذهب إليها هذا الحمصي من كون علي أفضل من الأنبياء عليهم السلام سوى محمد صلى الله عليه وسلم ، وتلقفها بعض من ينتحل كلام الصوفية ، ووسع المجال فيها ، فزعم أن الولي أفضل من النبي ، ولم يقصر ذلك على وليّ واحد ، كما قصر ذلك الحمصي ، بل زعم : أن رتبة الولاية التي لا نبوة معها أفضل من رتبة النبوة.
قال : لأن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة ، والنبي يأخذ عن الله بواسطة ومن أخذ بلا واسطة أفضل ممن أخذ بواسطة.
وهذه المقالة مخالفة لمقالات أهل الإسلام.
نعوذ بالله من ذلك ، ولا أحد أكذب ممن يدعي أن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة ، لقد يقشعرّ المؤمن من سماع هذا الافتراء وحكى لي من لا أتهمه عن بعض المنتمين ، إلى أنه من أهل الصلاح ، أنه رؤي في يده كتاب ينظر فيه ، فسئل عنه.
فقال : فيه ما أخذته عن رسول الله ، وفيه ما أخذته عن الله شفاهاً ، أو شافهني به ، الشك من السامع.
فانظر إلى جراءة هذا الكاذب على الله حيث ادعى مقام من كلمة الله : كموسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وعلى سائر الأنبياء؟
قيل : وفي هذه الآية ضروب من البلاغة : منها إسناد الفعل إلى غير فاعله ، وهو : { إذ قال الله يا عيسى } والله لم يشافهه بذلك ، بل بإخبار جبريل أو غيره من الملائكة.
والاستعارة في : { متوفيك } وفي : { فوق الذين كفروا } والتفصيل لما أجمل في : { إليّ مرجعكم فأحكم } بقوله : فأما ، وأمّا ، والزيادة لزيادة المعنى في { من ناصرين } أو : المثل في قوله { إن مثل عيسى }.
والتجوز بوضع المضارع موضع الماضي في قوله { نتلوه } وفي { فيكون } وبالجمع بين أداتي تشبيه على قول في { كمثل آدم } وبالتجوز بتسمية الشيء باسم أصله في { خلقه من تراب }.
وخطاب العين ، والمراد به غيره ، في { فلا تكن من الممترين }.
والعام يراد به الخاص في { ندع أبناءنا } الآية والتجوز بإقامة ابن العم مقام النفس على أشهر الأقوال ، والحذف في مواضع كثيرة.

إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)

{ إن هذا لهو القصص الحق } هذا خبر من الله جزم مؤكد فصل به بين المختصمين ، والإشارة إلى القرآن على قول الجمهور ، والظاهر أنه إشارة إلى ما تقدم من أخبار عيسى ، وكونه مخلوقاً من غير أب ، قاله ابن عباس ، وابن جريج ، وابن زيد ، وغيرهم.
أي : هذا هو الحق لا ما يدعيه النصارى فيه من كونه إلهاً أو ابن الله ، ولا ما تدعيه اليهود فيه ، وقيل : هذا إشارة إلى ما بعده من قوله { وما من إله إلاَّ الله } ويضعف بأن هذه الجملة ليست بقصص وبوجود حرف العطف في قوله : وما قال بعضهم إلاَّ إن أراد بالقصص الخبر ، فيصح على هذا ، ويكون التقدير : إن الخبر الحق أنه ما من إله إلاَّ الله. انتهى.
لكن يمنع من هذا التقدير وجود واو العطف واللام في : لهو ، دخلت على الفصل.
والقصص خبر إن ، والحق صفة له ، والقصص مصدر ، أو فعل بمعنى مفعول ، أي : المقصوص كالقبض ، بمعنى المقبوض ، ويجوز أن يكون : هو ، مبتدأ و : القصص ، خبره ، والجملة ، في موضع خبر إن ووصف القصص بالحق إشارة إلى القصص المكذوب الذي أتى به نصارى نجران ، وغيرهم ، في أمر عيسى وإلاهيته.
{ وما من إله إلا الله } أي : المختص بالإلهية هو الله وحده ، وفيه ردّ على الثنوية والنصارى ، وكل من يدعي غير الله إلهاً.
و : من ، زائدة لاستغراق الجنس ، و : إله ، مبتدأ محذوف الخبر ، و : الله ، بدل منه على الموضع ، ولا يجوز البدل على اللفظ ، لأنه يلزم منه زيادة : من ، في الواجب ، ويجوز في العربية في نحو هذا التركيب نصب ما بعد : إلاَّ ، نحو ما من شجاع إلاَّ زيداً ، ولم يقرأ بالنصب في هذه الآية ، وإن كان جائزاً في العربية النصب على الاستثناء.
{ وإن الله لهو العزيز الحكيم } إشارة إلى وصفي الإلهية وهما : القدرة الناشئة عن الغلبة فلا يمتنع عليه شيء ، والعلم المعبر عنه بالحكمة فيما صنع والإتقان لما اخترع ، فلا يخفى عنه شيء.
وهاتان الصفتان منفيتان عن عيسى.
ويجوز في : لهو ، من الإعراب ما جاز في : لهو القصص ، وتقديم ذكر فائدة الفصل.
{ فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين } قال مقاتل : فإن تولوا عن الملاعنة.
وقال الزجاج : عن البيان الذي أبانه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو سليمان الدمشقي : عن الإقرار بالوحدانية والتنزيه عن الصاحبة والولد وقال المرسيّ : عن هذا الذكر وقيل : عن الإيمان.
و : تولوا ، ماضٍ أو مضارع حذفت تاؤه ، وجواب الشرط في الظاهر الجملة من قوله : { فان الله عليم بالمفسدين } ، والمعنى : ما يترتب على علمه بالمفسدين من معاقبته لهم ، فعبر عن العقاب بالعلم الذي ينشأ عنه عقابهم ، ونبه على العلة التي توجب العقاب ، وهي الإفساد ، ولذلك أتى بالاسم الظاهر دون الضمير ، وأتى به جمعاً ليدل على العموم الشامل لهؤلاء الذين تولوا ولغيرهم ، ولكونه رأس آية ، ودل على أن توليهم إفساد أي إفساد.

{ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } نزلت في وفد نجران ، قاله الحسن ، والسدي ، ومحمد بن جعفر بن الزبير.
قال ابن زيد : لما أبى أهل نجران ما دعوا إليه من الملاعنة ، دعوا إلى أيسر من ذلك ، وهي الكلمة السواء وقال ابن عباس : نزلت في القسيسين والرهبان ، بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى جعفر وأصحابه بالحبشة ، فقرأها جعفر ، والنجاشي جالس وأشراف الحبشة وقال قتادة ، والربيع ، وابن جريج : في يهود المدينة ، وهم الذين حاجوا في إبراهيم.
وقيل : نزلت في اليهود والنصارى ، قالوا : يا محمد! ما تريد إلاَّ أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير؟
ولفظ : يا أهل الكتاب ، يعم كل من أوتي كتاباً ، ولذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود بالآية ، والأقرب حمله على النصارى لأن الدلالة وردت عليهم ، والمباهلة معهم ، وخاطبهم : بيا أهل الكتاب ، هزاً لهم في استماع ما يلقى إليهم ، وتنبيهاً على أن من كان أهل كتاب من الله ينبغي أن يتبع كتاب الله ، ولما قطعهم بالدلائل الواضحة فلم يذعنوا ، ودعاهم إلى المباهلة فامتنعوا ، عدل إلى نوع من التلطف ، وهو : دعاؤهم إلى كلمة فيها إنصاف بينهم.
وقرأ أبو السمال : كلمة ، كضربة ، و : كلمة ، كسدرة ، وتقدّم هذا عند قوله : { مصدقاً بكلمة } والكلمة هي ما فسرت به بعد.
وقال أبو العالية : { لا إله إلا الله } ، وهذا تفسير المعنى.
وعبر بالكلمة عن الكلمات ، لأن الكلمة قد تطلقها العرب على الكلام ، وإلى هذا ذهب الزجاج ، إما لوضع المفرد موضع الجمع ، كما قال :
بها جيفُ الحسرى ، فأما عظامها . . .
فبيض ، وأما جلدها فصليب
وإما لكون الكلمات مرتبطة بعضها ببعض ، فصارت في قوة الكلمة الواحدة إذا اختلّ جزء منها اختلت الكلمة ، لأن كلمة التوحيد : لا إله إلا الله ، هي كلمات لا تتم النسبة المقصودة فيها من حصر الإلهية في الله إلا بمجموعها.
وقرأ الجمهور : سواء ، بالجر على الصفة.
وقرأ الحسن : سواء ، بالنصب ، وخرجه الحوفي والزمخشري على أنه مصدر.
قال الزمخشري : بمعنى استوت استواء ، فيكون : سواء ، بمعنى استواء ، ويجوز أن ينتصب على الحال من : كلمة ، وإن كان نكرة ذو الحال ، وقد أجاز ذلك سيبويه وقاسه ، والحال والصفة متلاقيان من حيث المعنى ، والمصدر يحتاج إلى إضمار عامل ، وإلى تأويل : سواء ، بمعنى : استواء ، والأشهر استعمال : سواء ، بمعنى اسم الفاعل ، أي : مستو ، وقد تقدّم الكلام على سواء في أول سورة البقرة ، وقال قتادة ، والربيع ، والزجاج : هنا يعني بالسواء العدل ، وهو من : استوى الشيء ، وقال زهير :
أروني خطة لا ضيم فيها . . .
يسوي بيننا فيها السواء

والمعنى : إلى كلمة عادلة بيننا وبينكم.
وقال أبو عبيدة : تقول العرب : قد دعاك فلان إلى سواء فاقبل منه.
وفي مصحف عبد الله : إلى كلمة عدل بيننا وبينكم.
وقال ابن عباس : أي كلمة مستوية ، أي مستقيمة.
وقيل : إلى كلمة قصد.
قال ابن عطية : والذي أقوله في لفظة : سواء ، أنها ينبغي أن تفسر بتفسير خاص بها في هذا الموضع ، وهو أنه دعاهم إلى معان جميع الناس فيها مستوون ، صغيرهم وكبيرهم ، وقد كانت سيرة المدعوين أن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً ، فلم يكونوا على استواء حال ، فدعاهم بهذه الآية إلى ما يألف النفوس من حقٍ لا يتفاضل الناس فيه ، فسواء على هذا التأويل بمنزلة قولك لآخر : هذا شريكي في مال سواء بيني وبينه ، والفرق بين هذا التفسير وبين تفسير لفظة : العدل ، أنك لو دعوت أسيراً عندك إلى أن يسلم أو تضرب عنقه ، لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو العدل ، على هذا الحد جاءت لفظة : سواء ، في قوله تعالى { فانبذ إليهم على سواء } على بعض التأويلات ، وإن دعوت أسيرك إلى أن يؤمن فيكون حرّاً مقاسماً لك.
في عيشك لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو استواء الحال على ما فسرته.
واللفظة على كل تأويل فيها معنى العدل ، ولكني لم أر لمتقدم أن يكون في اللفظة معنى قصد استواء الحال ، وهو عندي حسن ، لأن النفوس تألفه ، والله الموفق للصواب.
انتهى كلامه ، وهو تكثير لا طائل تحته ، والظاهر انتصاب الظرف بسواء.
{ أن لا نعبد إلاَّ الله } موضع : أن ، جر على البدل من : كلمة ، بدل شيء من شيء ، ويجوز أن يكون في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هي أن لا نعبد إلاَّ الله.
وجوّزوا أن يكون الكلام تم عند قوله : سواء ، وارتفاع : أن لا نعبد ، على الابتداء والخبر قوله : بيننا وبينكم.
قالوا : والجملة صفة للكلمة ، وهذا وهم لعرو الجملة من رابط يربطها بالموصوف ، وجوزوا أيضاً ارتفاع : أن لا نعبد ، بالظرف ، ولا يصح إلاَّ على مذهب الأخفش والكوفيين حيث أجازوا إعمال الظرف من غير اعتماد ، والبصريون يمنعون ذلك ، وجوز علي بن عيسى أن يكون التقدير : إلى كلمة مستو بيننا وبينكم فيها الامتناع من عبادة غير الله ، فعلى هذا يكون : أن لا نعبد ، في موضع رفع على الفاعل بسواء ، إلاَّ أن فيه إضمار الرابط ، وهو فيها ، وهو ضعيف.
والمعنى : أن نفرد الله وحده بالعبادة ولا نشرك به شيئاً ، أي : لا نجعل له شريكاً.
وشيئاً يحتمل أن يكون مفعولاً به ، ويحتمل أن يكون مصدراً أي شيئاً من الإشراك ، والفعل في سياق النفي ، فيعم متعلقاته من مفعول به ومصدر وزمان ومكان وهيئة.
{ ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله } أي لا نتخذهم أرباباً فنعتقد فيهم الإلهية ونعبدهم على ذلك : كعزير وعيسى ، قاله مقاتل ، والزجاج ، وعكرمة.

وقيل عنه : إنه سجود بعضهم لبعض أو لا نطيع الاساقفة والرؤساء فيما أمروا به من الكفر والمعاصي ونجعل طاعتهم شرعاً.
قاله ابن جريج ، كقوله تعالى { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم } وعن عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله.
قال : « أليس كانوا يحلون لكم ويحرّمون فتأخذون بقولهم »؟ قال : نعم.
قال : « هو ذاك »
وفي قوله : بعضنا بعضاً ، إشارة لطيفة ، وهي أن البعضية تنافي الإلهية إذ هي تماثل في البشرية ، وما كان مثلك استحال أن يكون إلهاً ، وإذا كانوا قد استبعدوا اتباع من شاركهم في البشرية للاختصاص بالنبوّة في قولهم : { إن أنتم إلا بشر مثلنا } { إن نحن إلا بشر مثلكم } { أنؤمن لبشرين مثلنا } فادعاء الإلهية فيهم ينبغي أن يكونوا فيه أشد استبعاداً : وهذه الأفعال الداخل عليها أداة النفي متقاربة في المعنى ، يؤكد بعضها بعضاً ، إذ اختصاص الله بالعبادة يتضمن نفي الاشتراك ونفي اتخاذ الأرباب من دون الله ، ولكن الموضع موضع تأكيد وإسهاب ونشر كلام ، لأنهم كانوا مبالغين في التمسك بعبادة غير الله ، فناسب ذلك التوكيد في انتفاء ذلك ، والنصارى جمعوا بين الأفعال الثلاثة : عبدوا عيسى ، وأشركوا بقولهم : ثالث ثلاثة واتخذوا أحبارهم أرباباً في الطاعة لهم في تحليلٍ وتحريمٍ وفي السجود لهم.
قال الطبري : في قوله : { أرباباً من دون الله } أنزلوهم منزلة ربهم في قبول التحريم والتحليل لما لم يحرمه الله ، ولم يحله.
وهذا يدل على بطلان القول بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي ، كتقديرات دون مستند ، والقول بوجوب قبول قول الإمام دون إبانة مستند شرعي ، كما ذهب إليه الرّوافض. انتهى.
وفيه بعض اختصار.
{ فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } أي : فإن تولوا عن الكلمة السواء فأشهدوهم أنكم منقادون إليها ، وهذا مبالغة في المباينة لهم ، أي : إذا كنتم متولين عن هذه الكلمة ، فإنا قابلون لها ومطيعون.
وعبر عن العلم بالشهادة على سبيل المبالغة ، إذ خرج ذلك من حيز المعقول إلى حيز المشهود ، وهو المحضر في الحسّ.
قال ابن عطية : هذا أمر بإعلام بمخالفتهم ومواجهتهم بذلك ، وإشهادهم على معنى التوبيخ والتهديد ، أي سترون أنتم أيها المتولون عاقبة توليكم كيف يكون. انتهى.
وقال الزمخشري : أي لزمتكم الحجة ، فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم ، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع ، أو غيرهما : اعترف بأني أنا الغالب ، وسلم لي الغلبة ، ويجوز أن يكون من باب التعريض ، ومعناه : اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره. انتهى.
وهذه الآية في الكتاب الذي وجه به رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية إلى عظيم بصرى ، فدفعه إلى هرقل.
{ قل يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلاَّ من بعده أفلا تعقلون } عن ابن عباس وغيره.

أن اليهود قالوا : كان إبراهيم يهودياً ، وأن النصارى قالوا : كان نصرانياً.
فأنزلها الله منكراً عليهم.
وقال ابن عباس ، والحسن : كان إبراهيم سأل الله أن يجعل له { لسان صدق في الآخرين } فاستجاب الله دعاءه حتى ادعته كل فرقة.
و : ما ، في قوله : لمَ ، استفهامية حذفت ألفها مع حرف الجر ، ولذلك علة ذكرت في النحو ، وتتعلق : اللام بتحاجون ، ومعنى هذا الاستفهام الإنكار ، ومعنى : في إبراهيم ، في شرعه ودينه وما كان عليه ، ومعنى : المحاجة ، ادعاء من الطائفتين أنه منها وجدالهم في ذلك ، فرد الله عليهم ذلك بأن شريعة اليهود والنصارى متأخرة عن إبراهيم ، وهو متقدم عليهما ، ومحال أن ينسب المتقدم إلى المتأخر ، ولظهور فساد هذه الدعوى قال : { أفلا تعقلون } أي : هذا كلام من لا يعقل ، إذ العقل يمنع من ذلك.
ولا يناسب أن يكون موافقاً لهم ، لا في العقائد ولا في الأحكام.
أمّا في العقائد فعبادتهم عيسى وادعاؤهم أنه الله ، أو ابن الله ، أو ثالث ثلاثة.
وادعاء اليهود أن عزيراً ابن الله ، ولم يكونا موجودين في زمان إبراهيم.
وأما الأحكام فإن التوراة والإنجيل فيهما أحكام مخالفة للأحكام التي كانت عليها شريعة إبراهيم ، ومن ذلك قوله { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } وقوله : { إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه } وغير ذلك فلا يمكن إبراهيم على دين حدث بعده بأزمنة متطاوله.
ذكر المؤرخون أن بين إبراهيم وموسى ألف سنة ، وبينه وبين عيسى ألفان.
وروى أبو صالح عن ابن عباس : أنه كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وسبعون سنة ، وبين موسى وعيسى ألف سنة وستمائة واثنتان وثلاثون سنة.
وقال ابن إسحاق : كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وستون سنة ، وبين موسى وعيسى ألف وتسعمائة سنة وخمس وعشرون.
والواو في : { وما أنزلت التوراة } لعطف جملة على جملة ، هكذا ذكروا.
والذي يظهر أنها للحال كهي في قوله تعالى : { لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون } وقوله { لم تلبسون } ثم قال { وأنتم تعلمون } وقوله : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم } أنكر عليهم ادّعاء أن إبراهيم كان على شريعة اليهود أو النصارى ، والحال أن شريعتيهما متأخرتان عنه في الوجود ، فكيف يكون عليها مع تقدمه عليها؟
وأمّا الحنيفية والإسلام فمن الأوصاف التي يختص بها كل ذي دين حق ، ولذلك قال تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } إذ الحنيف هو المائل للحق ، والمسلم هو المستسلم للحق ، وقد أخبر القرآن بأن إبراهيم { كان حنيفاً مسلماً }
وفي قوله : { أفلا تعقلون } توبيخ على استحالة مقالتهم ، وتنبيه على ما يظهر به غلطهم ومكابرتهم.
{ ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } الذي لهم به علم هو دينهم الذي وجدوه في كتبهم وثبت عندهم صحته ، والذي ليس لهم به علم هو أمر إبراهيم ودينه ، ليس موجوداً في كتبهم ، ولا أتتهم به أنبياؤهم ، ولا شاهدوه فيعلموه.

قاله قتادة ، والسدي ، والربيع ، وغيرهم.
وهو الظاهر لما حف به من قبله ، ومن بعده من الحديث في إبراهيم ، ونسب هذا القول إلى الطبري ابن عطية ، وقال : ذهب عنه أن ما كان هكذا فلا يحتاج معهم فيه إلى محاجة ، لأنهم يجدونه عند محمد صلى الله عليه وسلم كما كان هنالك على حقيقته.
وقيل : الذي لهم به علم هو أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنهم وجدوا نعته في كتبهم ، فجادلوا بالباطل.
والذي ليس لهم به علم هو أمر إبراهيم.
والظاهر في قوله : { فيما لكم به علم } إثبات العلم لهم.
وقال ابن عطية : فيما لكم به علم على زعمكم ، وإنما المعنى : فيما يشبه دعواكم ، ويكون الدليل العقلي يرد عليكم.
وقال قتادة أيضاً : حاججتم فيما شهدتم ورأيتم ، فلم تحاجون فيما لم تشاهدوا ولم تعلموا؟ وقال الرازي : { ها أنتم هؤلاء } الآية.
أي : زعمتم أن شريعة التوراة والإنجيل مخالفة لشريعة القرآن ، فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به؟ وهو ادّعاؤهم أن شريعة إبراهيم مخالفة لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ؟
ويحتمل أن يكون قوله { لكم به علم } أي : تدعون علمه لا أنه وصفهم بالعلم حقيقة ، فكيف يحاجون فيما لا علم لهم به ألبتة.
وقرأ الكوفيون ، وابن عامر ، والبزي : ها أنتم ، بألف بعد الهاء بعدها همزة : أنتم ، محققة.
وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، ويعقوب : بهاء بعدها ألف بعدها همزة مسهلة بين بين ، وأبدل أناس هذه الهمزة ألفاً محضة لورش : ها ، للتنبيه لأنه يكثر وجودها مع المضمرات المرفوعة مفصولاً بينها وبين اسم الإشارة حيث لا استفهام ، وأصلها أن تباشر إسم الإشارة ، لكن اعتنى بحرف التنبيه ، فقدم ، وذلك نحو قول العرب : ها أناذا قائماً ، و : ها أنت ذا تصنع كذا.
و : ها هوذا قائماً.
ولم ينبه المخاطب هنا على وجود ذاته ، بل نبه على حال غفل عنها لشغفه بما التبس به ، وتلك الحالة هي أنهم حاجوا فيما لا يعلمون ، ولم ترد به التوراة والإنجيل ، فتقول لهم : هب أنكم تحتجون فيما تدعون أن قد ورد به كتب الله المتقدمة ، فلم تحتجون فيما ليس كذلك؟ وتكون الجملة خبرية وهو الأصل ، لأنه قد صدرت منهم المحاجة فيما يعلمون ، ولذاك أنكر عليهم بعد المحاجة فيما ليس لهم به علم ، وعلى هذا يكون : ها ، قد أعيدت مع اسم الإشارة توكيداً ، وتكون في قراءة قنبل قد حذف ألف : ها ، كما حذفها من وقف على : { أيه الثقلان } يا أيه بالسكون وليس الحذف فيها يقوى في القياس.
وقال أبو عمرو ابن العلاء ، وأبو الحسن الأخفش : الأصل في : ها أنتم.
فأبدل من الهمزة الأولى التي للاستفهام هاء.
لأنها أختها.
واستحسنه النحاس.
وإبدال الهمزة هاء مسموع في كلمات ولا ينقاس ، ولم يسمع ذلك في همزة الاستفهام ، لا يحفظ من كلامهم : هتضرب زيداً ، بمعنى : أَتَضرب زيداً إلاَّ في بيت نادر جاءت فيه : ها ، بدل همزة الاستفهام ، وهو :

وأتت صواحبها وقلن هذا الذي . . .
منح المودّة غيرنا وجفانا
ثم فصل بين الهاء المبدلة من همزة الاستفهام ، وهمزة : أتت ، لا يناسب ، لأنه إنما يفصل لاستثقال اجتماع الهمزتين ، وهنا قد زال الاستثقال بإبدال الأولى : هاء ، ألا ترى أنهم حذفوا الهمزة في نحو : أريقه ، إذ أصله : أأريقه؟ فلما أبدلوها هاء لم يحذفوا ، بل قالوا : أهريقه.
وقد وجهوا قراءة قنبل على أن : الهاء ، بدل من همزة الاستفهام لكونها هاء لا ألف بعدها ، وعلى هذا من أثبت الألف ، فيكون عنده فاصلة بين الهاء المبدلة من همزة الاستفهام ، وبين همزة : أنتم ، أجرى البدل في الفصل مجرى المبدل منه ، والاستفهام على هذا معناه التعجب من حماقتهم ، وأمّا من سهل فلأنها همزة بعد ألف على حد تسهيلهم إياها في : هيأه.
وأمّا تحقيقها فهو الأصل ، وأمّا إبدالها ألفاً فقد تقدّم الكلام في ذلك في قوله { أأنذرتهم أم لم تنذرهم }
و : أنتم ، مبتدأ ، و : هؤلاء.
الخبر.
و : حاججتم ، جملة حالية.
كقول : ها أنت ذا قائماً.
وهي من الأحوال التي ليست يستغنى عنها ، كقوله : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون } على أحسن الوجوه في إعرابه.
وقال الزمخشري : أنتم ، مبتدأ ، و : هؤلاء ، خبره ، و : حاججتم ، جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى ، يعني : أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى ، وبيان حماقتكم ، وقلة عقولكم ، أنكم حاججتم فيما لكم به علم مما نطق به التوراة والإنجيل ، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ، ولا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم؟ انتهى.
وأجازوا أن يكون : هؤلاء ، بدلاً ، وعطف بيان ، والخبر : حاججتم ، وأجازوا أن يكون ، هؤلاء ، موصولاً بمعنى الذي ، وهو خبر المبتدأ ، أو : حاججتم ، صلته.
وهذا على رأي الكوفيين.
وأجازوا أيضاً أن يكون منادى أي : يا هؤلاء ، وحذف منه حرف النداء ، ولا يجوز حذف حرف النداء من المشار على مذهب البصريين ، ويجوز على مذهب الكوفيين ، وقد جاء في الشعر حذفه ، وهو قليل ، نحو قول رجل من طيء :
إن الأُلى وصفوا قومي لهم فهم . . .
هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولاً
وقال :
لا يغرّنكم أولاء من القو . . .
م جنوح للسلم فهو خداع
يريد : يا هذا اعتصم ، و : يا أولاء.
{ والله يعلم وأنتم لا تعلمون } أي : يعلم دين إبراهيم الذي حاججتم فيه ، وكيف حال الشرائع في الموافقة.
والمخالفة ، وأنتم لا تعلمون ذلك ، وهو تأكيد لما قبله من نفي العلم عنهم في شأن إبراهيم ، وفي قوله : والله يعلم ، استدعاء لهم أن يسمعوا ، كما تقول لمن تخبره بشيء لا يعلمه : إسمع فإني أعلم ما لا تعلم.
{ ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين } أعلم تعالى براءة إبراهيم من هذه الأديان ، وبدأ بانتفاء اليهودية ، لأن شريعة اليهود أقدم من شريعة النصارى ، وكرر ، لا ، لتأكيد النفي عن كل واحد من الدينين ، ثم استدرك ما كان عليه بقوله { ولكن كان حنيفاً مسلماً } ووقعت لكن هنا أحسن موقعها ، إذ هي واقعة بين النقيضين بالنسبة إلى اعتقاد الحق والباطل.

ولما كان الكلام مع اليهود والنصارى ، كان الاستدارك بعد ذكر الانتفاء عن شريعتهما ، ثم نفى على سبيل التكميل للتبري من سائر الأديان كونه من المشركين ، وهم : عبدة الأصنام ، كالعرب الذين كانوا يدعون أنهم على دين إبراهيم ، وكالمجوس عبدة النار ، وكالصابئة عبدة الكواكب ، ولم ينص على تفصيلهم ، لأن الإشراك يجمعهم.
وقيل : أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم به عزيراً والمسيح ، فتكون هذه الجملة توكيداً لما قبلها من قوله { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً } وجاء : من المشركين ، ولم يجىء : وما كان مشركاً ، فيناسب النفي قبله ، لأنها رأس آية.
وقال ابن عطية : نفى عنه اليهودية والنصرانية والإشراك الذي هو عبادة الأوثان؛ ودخل في ذلك الإشراك الذي تتضمنه اليهودية والنصرانية.
وجاء ترتيب النفي على غاية الفصاحة ، نفي نفس الملل ، وقرر الحال الحسنة ، ثم نفي نفياً بين به أن تلك الملل فيها هذا الفساد الذي هو الشرك ، وهذا كما تقول : ما أخذت لك مالاً ، بل حفظته.
وما كنت سارقاً ، فنفيت أقبح ما يكون في الأخذ.
انتهى كلامه.
وتلخص بما تقدم أن قوله.
{ وما كان من المشركين } ثلاثة أقوال : أحدها : أن المشركين عبدة الأصنام والنار والكواكب والثاني : أنهم اليهود والنصارى والثالث : عبدة الأوثان واليهود والنصارى.
وقال عبد الجبار : معنى { ما كان يهودياً ولا نصرانياً } لم يكن على الدين الذي يدين به هؤلاء المحاجون ، ولكن كان على جهة الدين الذي يدين به المسلمون.
وليس المراد أن شريعة موسى وعيسى لم تكن صحيحة.
وقال علي بن عيسى : لا يوصف إبراهيم بأنه كان يهودياً ولا نصرانياً لأنهما صفتا ذمّ لاختصاصهما بفرقتين ضالتين ، وهما طريقان محرّفان عن دين موسى وعيسى ، وكونه مسلماً لا يوجب أن يكون على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، بل كان على جهة الإسلام.
والحنيف : اسم لمن يستقبل في صلاته الكعبة ، ويحج إليها ، ويضحي ، ويختتن.
ثم سمي من كان على دين إبراهيم حنيفاً. انتهى.
وفي حديث زيد بن عمرو بن نفيل : أنه خرج إلى الشام يسأل عن الدين ، وأنه لقي عالماً من اليهود ، ثم عالماً من النصارى ، فقال له اليهودي : لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله.
وقال له النصراني : لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله.
فقال زيد : ما أفرّ إلاَّ من غضب الله ، ومن لعنته.
فهل تدلاني على دين ليس فيه هذا؟ قالا : ما نعلمه إلاَّ أن تكون حنيفاً.
قال : وما الحنيف؟ قال : دين إبراهيم ، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ، وكان لا يعبد إلاَّ الله وحده ، فلم يزل رافعاً يديه إلى السماء.

وقال : اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم.
وقال الرازي ما ملخصه : إن النفي إن كان في الأصول ، فتكون في الموافقة ليهود زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونصاراه.
لأنهم غيروا فقالوا : المسيح ابن الله ، وعزير ابن الله.
لا في الأصول التي كان عليها اليهود والنصارى الذين كانوا على ما جاء به موسى وعيسى ، وجميع الأنبياء متوافقون في الأصول ، وإن كان في الفروع فلأن الله نسخ شريعة إبراهيم بشريعة موسى وعيسى ، وأما موافقته لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم فإن كان في الأصول فظاهر ، وإن كان في الفروع فتكون الموافقة في الأكثر ، وإن خالف في الأقل فلم يقدح في الموافقة.
{ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبيّ والذين آمنوا والله وليّ المؤمنون } قال ابن عباس : قالت رؤساء اليهود : والله يا محمد ، لقد علمت أنا أولى الناس بدين إبراهيم منك ومن غيرك ، وإنه كان يهودياً ، وما بك إلاَّ الحسد.
فنزلت.
وروي حديث طويل في اجتماع جعفر وأصحابه ، وعمرو بن العاص ، وأصحابه.
بالنجاشي ، وفيه : أن النجاشي قال : لا دهورة اليوم على حزب إبراهيم.
أي : لا خوف ولا تبعة ، فقال عمرو : من حزب إبراهيم؟ فقال النجاشي : هؤلاء الرهط وصاحبهم ، يعني : جعفراً وأصحابه.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لكل نبي ولاة من النبيين ، وإن وليي منهم أبي ، وخليل ربي إبراهيم » ثم قرأ هذه الآية.
ومعنى : أولى الناس : أخصهم به وأقربهم منه من الولي ، وهو القرب.
والذين اتبعوه يشمل كل من اتبعه في زمانه وغير زمانه ، فيدخل فيه متبعوه في زمان الفترات.
وعنى بالأتباع أتباعه في شريعته.
وقال عليّ بن عيسى : أحقهم بنصرته أي : بالمعونة وبالحجة ، فمن تبعه في زمانه نصره بمعونته على مخالفته.
ومحمد والمؤمنون نصروه بالحجة له أنه كان محقاً سالماً من المطاعن ، وهذا النبي : يعني به محمداً صلى الله عليه وسلم ، وخص بالذكر من سائر من اتبعه لتخصيصه بالشرف والفضيلة ، كقوله { وجبريل وميكال }
{ والذين آمنوا } قيل : آمنوا من أمّة محمد ، وخصوا أيضاً بالذكر تشريفاً لهم ، إذ هم أفضل الأتباع للرسل ، كما أن رسولهم أفضل الرسل.
وقيل : المؤمنون في كل زمان وعطف { وهذا النبي } على خبر إن ، ومن أعرب { وهذا النبي والذين آمنوا معه } مبتدأ والخبر : هم المتبعون له ، فقد تكلف إضماراً لا ضرورة تدعو إليه.
وقرىء : وهذا النبيّ ، بالنصب عطفاً على : الهاء ، في اتبعوه ، فيكون متبعاً لا متبعاً : أي : أحق الناس بإبراهيم من اتبعه ، ومحمداً صلى الله عليهما وسلم ، ويكون : والذين آمنوا ، عطفاً على خبر : إن ، فهو في موضع رفع.
وقرىء : وهذا النبي ، بالجر ، ووجه على أنه عطف على : إبراهيم ، أي : إن أولى الناس بإبراهيم وبهذا النبي للذين اتبعوا إبراهيم.

و : النبي ، قالوا : بدل من هذا ، أو : نعت ، أو : عطف بيان.
ونبه على الوصف الذي يكون به الله ولياً لعباده ، وهو : الإيمان.
فقال : وليّ المؤمنين ، ولم يقل : وليهم.
وهذا وعد لهم بالنصر في الدنيا ، وبالفوز في الآخرة.
وهذا كما قال تعالى : { الله وليّ الذين آمنوا }.
قيل : وجمعت هذه الآيات من البلاغة : التنبيه والإشارة والجمع بين حرفي التأكيد ، وبالفصل في قوله : { إن هذا لهو القصص الحق } وفي : { وإنّ الله لهو العزيز } والإختصاص في : { عليم بالمفسدين } وفي : { وليّ المؤمنين } والتجوز بإطلاق اسم الواحد على الجمع في : { إلى كلمة سواء } وباطلاق اسم الجنس على نوعه في : { يا أهل الكتاب } إذا فسر باليهود.
والتكرار في : إلا الله ، و : إنّ الله ، وفي : يا أهل الكتاب تعالوا ، يا أهل الكتاب لم.
وفي : إبراهيم ، و : ما كان إبراهيم ، و : إن أولى الناس بإبراهيم.
والتشبيه في : أرباباً ، لما أطاعوهم في التحليل والتحريم ، وأذعنوا إليهم أطلق عليه : أرباباً تشبيهاً بالرب المستحق للعبادة والربوبية ، والإجمال في الخطاب في : يا أهل الكتاب ، تعالوا يا أهل الكتاب ، لم تحاجون ، كقول إبراهيم : يا أبت.
يا أبت وكقول الشاعر :
مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا . . .
لا تنبشوا بيننا ما كان مدفوناً
وقول الآخر :
بني عمنا لا تنبشوا الشر بيننا . . .
فكم من رماد صار منه لهيب
والتجنيس المماثل في : أولى وولي.

وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)

{ ودّت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم } أجمع المفسرون على أنها نزلت في : معاذ ، وحذيفة ، وعمار.
دعاهم يهود : بني النضير ، وقريظة ، وقينقاع ، إلى دينهم.
وقيل : دعاهم جماعة من أهل نجران ومن يهود وقال ابن عباس : هم اليهود ، قالوا لمعاذ وعمار تركتما دينكما واتبعتما دين محمد ، فنزلت.
وقيل : عيرتهم اليهود بوقعة أحد.
وقال أبو مسلم الأصبهاني : ودّ بمعنى : تمنى ، فتستعمل معها : لو ، و : أن ، وربما جمع بينهما ، فيقال : وددت أن لو فعل ، ومصدره : الودادة ، والأسم منه : وُدّ ، وقد يتداخلان في المصدر والاسم.
قال الراغب : إذا كان : ودّ ، بمعنى أحبّ لا يجوز إدخال : لو فيه أبداً.
وقال عليّ بن عيسى : إذا كان : ودّ ، بمعنى : تمنى ، صلح للماضي والحال والمستقبل ، وإذا كان بمعنى المحبة والإرادة لم يصلح للماضي لأن الإرادة كاستدعاء الفعل.
وإذا كان للحال والمستقبل جاز : أن ولو ، وإذا كان للماضي لم يجز : أن ، لأن : أن ، للمستقبل.
وما قال فيه نظر ، ألا ترى أن : أن ، توصل بالفعل الماضي نحو : سرّني أن قمت؟.
{ من أهل الكتاب } في موضع الصفة لطائفة ، والطائفة رؤساؤهم وأحبارهم.
وقال ابن عطية : ويحتمل : من ، أن تكون لبيان الجنس ، وتكون الطائفة جميع أهل الكتاب ، وما قاله يبعد من دلالة اللفظ ، ولو ، هنا قالوا بمعنى : أن فتكون مصدرية ، ولا يقول بذلك جمهور البصريين ، والأولى إقرارها على وضعها.
ومفعول : ودّ ، محذوف ، وجواب : لو ، محذوف ، حذف من كلٍّ من الجملتين ما يدل المعنى عليه ، التقدير : ودّوا إضلالكم لو يضلونكم لسرّوا بذلك ، وقد تقدم لنا الكلام في نظير هذا مشبعاً في قوله : { يود أحدهم لو يعمر ألف سنة } فيطالع هناك.
ومعنى : يضلونكم ، يردّونكم إلى كفركم ، قاله ابن عباس.
وقيل : يهلكونكم ، قاله ابن جرير ، والدمشقي.
قال ابن عطية : واستدل يعني ابن جرير الطبري ببيت جرير :
كنت القذى في موج أخضر مزبد . . .
قذف الأتيّ به فضلّ ضلالا
وبقول النابغة :
فآب مضلُّوه بعين جلية . . .
وغودر بالجولان حزم ونائل
وهو تفسير غير مخلص ولا خاص باللفظة ، وإنما اطرد له ، لأن هذا الضلال في الآية في البيتين اقترن به هلاك ، وأمّا أن يفسر لفظة الضلال بالهلاك فغير قويم. انتهى.
وقال غير أبن عطية أضلّ الضلال في اللغة الهلاك من قولهم : ضل اللبن في الماء ، إذا صار مستهلكاً فيه.
وقيل : معناه يوقعونكم في الضلال ، ويلقون إليكم ما يشككونكم به في دينكم ، قاله أبو علي.
{ وما يضلون إلاَّ أنفسهم } إن كان معناه الإهلاك فالمعنى أنهم يهلكون أنفسهم وأشياعهم ، لاستحقاقهم بإيثارهم إهلاك المؤمنين سخط الله وغضبه ، وإن كان المعنى الإخراج عن الدين فذلك حاصل لهم بجحد نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتغيير صفته صاروا بذلك كفاراً ، وخرجوا عن ملة موسى وعيسى.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46