كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

{ إن رحمة الله قريب من المحسنين } قال الزمخشري : كقوله : { وإني لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً } ، انتهى.
يعني أنّ الرحمة مختصة بالمحسن وهو من تاب وآمن وعمل صالحاً وهذا كله حمل القرآن وإنما على مذهبه من الاعتزال والرحمة مؤنثة فقياسها أن يخبر عنها إخبار المؤنّث فيقال قريبة ، فقيل : ذكر على المعنى لأنّ الرحمة بمعنى الرحم والترحّم ، وقيل : ذكر لأنّ الرحمة بمعنى الغفران والعفو قاله النضر بن شميل واختاره الزّجاج ، وقيل بمعنى المطر قاله الأخفش أو الثواب قاله ابن جبير فالرحمة في هذه الأقوال بدل عن مذكر.
وقيل : التذكير على طريق النسب أي ذات قرب ، وقيل : قريب نعت لمذكر محذوف أي شيء قريب ، وقيل : قريب مشبّه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول نحو خصيب وجريح كما شبه فعيل به فقيل شيئاً من أحكامه فقيل في جمعه فعلاء كأسير وأسراء وقتيل وقتلاء كما قالوا : رحيم ورحماء وعليم وعلماء ، وقيل : هو مصدر جاء على فعيل كالضغيث وهو صوت الأرنب والنقيق وإذا كان مصدر أصح أن يخبر به عن المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع بلفظ المصدر ، وقيل لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي قاله الجوهري ، وهذا ليس بجيد إلاّ مع تقديم الفعل أما إذا تأخر فلا يجوز إلا التأنيث تقول الشمس طالعة ولا يجوز طالع إلا في ضرورة الشعر بخلاف التقديم فيجوز أطالعة الشمس وأطالع الشمس كما يجوز طلعت الشمس وطلع الشمس ولا يجوز طلع إلا في الشّعر ، وقيل : فعيل هنا بمعنى المفعول أي مقربة فيصير من باب كفّ خضيب وعين كحيل قاله الكرماني ، وليس بجيد لأن ما ورد من ذلك إنما هو من الثلاثي غير المزيد وهذا بمعنى مقربة فهو من الثلاثي المزيد ومع ذلك فهو لا ينقاس ، وقال الفرّاء إذا استعمل في النسب والقرابة فهو مع المؤنث بتاء ولا بدّ تقول هذه قريبة فلان وإن استعملت في قرب المسافة أو الزمن فقد تجيء مع المؤنث بتاء وقد تجيء بغير تاء تقول دارك مني قريب وفلانة منا قريب ، ومنه هذا وقول الشاعر :

عشية لا عفراء منك قريبة . . .
فتدنو ولا عفراء منك بعيد
فجمع في هذا البيت بين الوجهين ، قال ابن عطية : هذا قول الفرّاء في كتابه وقد مرّ في كتب بعض المفسرين مغيراً انتهى ، وردّ الزّجاج وقال هذا على الفراء هذا خطأ لأنّ سبيل المذكر والمؤنث أن يجريا على أفعالهما وقال من احتج له هذا كلام العرب ، قال تعالى : { وما يدريك لعلّ الساعة تكون قريباً } وقال الشاعر :
له الويل إن أمسى ولا أمّ هاشم . . .
قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا
وقال أبو عبيدة { قَريب } في الآية ليس بصفة للرحمة وإنما هو ظرف لها وموضع فتجيء هكذا في المؤنث والاثنين والجمع وكذلك بعيد فإن جعلوها صفة بمعنى مقتربة قالوا قريبة وقريبتان وقريبات.
قال علي بن سليمان وهذا خطأ ولو كان كما قال لكان قريب منصوباً كما تقول إنّ زيداً قريباً منك انتهى وليس بخطأ لأنه يكون قد اتسع في الظرف فاستعمله غير ظرف كما تقول هند خلفك وفاطمة أمامك بالرّفع إذا اتسعت في الخلف والأمام وإنما يلزم النصب إذا بقيتا على الظّرفية ولم يتسع فيهما وقد أجازوا أنّ قريباً منك زيد على أن يكون قريباً اسم إنّ وزيد الخبر فاتسع في قريب واستعمل اسماً لا منصوباً على الظّرف والظاهر عدم تقييد قرب الرحمة من المحسن بزمان بل هي قريب منه مطلقاً وذكر الطبري أنه وقت مفارقة الأرواح للأجساد تنالهم الرحمة.

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)

أقلّ الشيء حمله ورفعه من غير مشقة ومنه إقلال البطن عن الفخذ في الركوع والسجود ومنه القلّة لأنّ البعير يحملها من غير مشقة وأصله من القلة فكان المقلّ يرى ما يرفعه قليلاً واستقل به أقله ، السّوق حمل الشيء بعنف.
النّكد العسر القليل.
قال الشاعر :
لا تنجز الوعد إن وعدت وإن . . .
أعطيت أعطيت قافها نكدا
ونكد الرجل سئل إلحافاً وأخجل.
قال الشاعر :
وأعطِ ما أعطيته طيباً . . .
لا خير في المنكود والناكد
الآلاء النعم واحدها إلى كمعى.
أنشد الزجاج :
أبيض لا يرهب الهزال ولا . . .
يقطع رحمي ولا يخون إلى
وإلى بمعنى الوقت أو إلى كقفا وإلى كحسى أو إلى كجرو ، وقع قال النضر بن شميل قرع وصدر كوقوع الميقعة وقال غيره : نزل والواقعة النازلة من الشدائد والوقائع الحروب والميقعة المطرقة.
قال بعض أدبائنا :
ذو الفضل كالتبر طوراً تحت ميقعة . . .
وتارة في ذرى تاج على ملك
ثمود اسم قبيلة سميت باسم أبيها ويأتي ذكره في التفسير إن شاء الله.
النّاقة الأنثى من الجمال وألفها منقلبة عن الواو وجمعها في القلة أنوق وأنيق وفيه القلب والإبدال وفي الكثرة نياق ونوق واستنوق الجمل إذا صار يشبه الناقة.
السّهل ما لان من الأرض وانخفض وهو ضدّ الحزن.
القصر الدار التي قصرت على بقعة من الأرض مخصوصة بخلاف بيوت العمود سمي بذلك لقصور الناس عن ارتقائه أو لقصور عامّتهم عن بنائه.
النّحت النجر والنّشر في الشيء الصلب كالحجر والخشب.
قال الشاعر :
أما النهار ففي قيد وسلسلة . . .
والليل في بطن منحوت من السّاج
عقرت الناقة قتلتها فهي معقورة وعقير ومنه من عقر جواده قاله ابن قتيبة.
وقال الأزهري العقر عند العرب كشف عرقوب البعير ، ولما كان سبباً للنحر أطلق العقر على النحر إطلاقاً لاسم السبب على المسبب وإن لم يكن هناك قطع للعرقوب.
قال امرؤ القيس :
ويوم عقرت للعذارى مطيّتي . . .
فيا عجباً من كورها المتحمّل
وقال غيره والعقر بمعنى الجرح.
قال :
تقول وقد مال الغبيط بنا معاً . . .
عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
عتا يعتو عتوّاً استكبر.
الرجفة الطامّة التي يرجف لها الإنسان أي يتزعزع ويضطرب ويرتعد ومنه ترجف بوادره وأصل الرّجف الاضطراب ، رجفت الأرض والبحر رجاف لاضطرابه ، وأرجف الناس بالشر خاضوا فيه واضطربوا ، ومنه الأراجيف ورجف بهم الجبل.
قال الشاعر :
ولما رأيت الحج قد حان وقته . . .
وظلت جمال القوم بالحي ترجف
الجثوم اللصوق بالأرض على الصدر مع قبض السّاقين كما يرقد الأرنب والطير.
غبر بقي.
قال أبو ذؤيب :
فغبرت بعدهم بعيش ناضب . . .
وإخال أني لاحق مستبقع
هذا المشهور في اللغة ومنه غبر الحيض.

قال أبو بكر الهذلي :
ومبرّأ من كل غبر حيضة . . .
وفساد مرضعة وداء معضل
وغبر اللبن في الضّرع بقيته وحكى أهل اللغة غبر بمعنى مضى ، قال الأعشى :
غض بما ألقى المواسي له . . .
من أمّه في الزمن الغابر
وبمعنى غاب ومنه عبر عنا زماناً أي غاب قاله الزجاج ، وقال أبو عبيدة غبر عمر دهراً طويلاً حتى هرم ، المطر معروف ، وقال أبو عبيد يقال في الرّحمة مطر وفي العذاب أمطر وهذا معارض بقوله { هذا عارض ممطرنا } فإنهم لم يريدوا إلا الرّحمة وكلاهما متعدّ يقال مطرتهم السماء وأمطرتهم ، شعيب اسم نبيّ وسيأتي ذكر نسبه في التفسير إن شاء الله.
{ وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته } لما ذكر تعالى الدلائل على كمال إلهيته وقدرته وعلمه من العالم العلوي أتبعهما بالدلائل من العالم السفلي وهي محصورة في آثار العالم العلوي ومنها الرّيح والسحاب والمطر وفي المعدن والنبات والحيوان ويترتب على نزول المطر أحوال النبات وذلك هو المذكور في الآية وانجرّ مع ذلك الدلالة على صحة الحشر والنشر البعث والقيامة وانتظمت هاتان الآيتان محصلتين المبدأ والمعاد وجعل الخبر موصولاً في أنّ ربكم الله الذي وفى { وهو الذي } دلالة على كون ذلك معهوداً عند السامع مفروغاً من تحقّق النسبة فيه والعلم به ولم يأتِ التركيب إنّ ربكم خلق ولا وهو يرسل الرياح ، وقرأ الرّياح نشراً جمعين وبضم الشين جمع ناشر على النسب أي ذات نشر من الطي كلابن وتامر وقالوا نازل ونزل وشارف وشرف وهو جمع نادر في فاعل أو نشور من الحياة أو جمع نشور كصبور وصبر وهو جمع مقيس لا جمع نشور بمعنى منشور خلافاً لمن أجاز ذلك لأنّ فعولاً كركوب بمعنى مركوب لا ينقاس ومع كونه لا ينقاس لا يجمع على فعل الحسن والسلمي وأبو رجاء واختلف عنهم والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى بن عمر وأبو يحيى وأبو نوفل الأعرابيان ونافع وأبو عمرو ، وقرأ كذلك جمعاً إلا أنهم سكّنوا الشين تخفيفاً من الضم كرسل عبد الله وابن عباس وزر وابن وثاب والنخعي وطلحة بن مصرف والأعمش ومسروق وابن عامر ، وقرأ نشراً بفتح النون والشين مسروق فيما حكى عنه أبو الفتح وهو اسم جمع كغيب ونشىء في غائبة وناشئة ، وقرأ ابن كثير الرّيح مفرداً نشراً بالنون وضمّها وضمّ الشين فاحتمل نشراً أن يكون جمعاً حالاً من المفرد لأنه أريد به الجنس كقولهم : العرب هم البيض واحتمل أن يكون مفرداً كناقة سرح ، وقرأ حمزة والكسائي نشراً بفتح النون وسكون الشين مصدراً كنشر خلاف طوى أو كنشر بمعنى حيي من قولهم أنشر الله الموتى فنشروا أي حيوا.
قال الشاعر :
حتى يقول الناس مما رأوا . . .
يا عجباً للميت الناشر
وقرأ { الرياح } جمعاً ابن عباس والسّلمي وابن أبي عبلة { بشراً } بضم الباء والشين ورويت عن عاصم وهو جمع بشيرةٍ كنذيرة ونذر ، وقرأ عاصم كذلك إلا أنه سكن الشين تخفيفاً من الضم ، وقرأ السلمي أيضاً { بشراً } بفتح الباء وسكون الشين وهو مصدر بشر المخفف ورويت عن عاصم ، وقرأ ابن السميقع وابن قطيب بشرى بألف مقصورة كرجعى وهو مصدر فهذه ثماني قراءات أربعة في النون وأربع في الباء فمن قرأ بالباء جمعاً أو مصدراً بألف التأنيث ففي موضع الحال من المفعول أو مصدراً بغير ألف التأنيث فيحتمل ذلك ويحتمل أن يكون حالاً من الفاعل ومن قرأ بالنون جمعاً أو اسم جمع فحال من المفعول أو مصدراً فيحتمل أن يكون حالاً من الفاعل وأن كون حالاً من المفعول أو مصدراً ليرسل من المعنى لأنّ إرسالها هو إطلاقها وهو بمعنى النّشر فكأنه قيل بنشر الرياح نشراً ووصف الريح بالنشر بأحد معنيين بخلاف الطي وبالحياة ، قال أبو عبيدة : في النشر أنها المتفرقة في الوجوه ، وقال الشاعر في وصف الرّيح بالإحياء والموت :

وهبّت له ريح الجنوب وأحييت . . .
له ريدة يحيي المياه نسيمها
والرّيدة والمريد أنه الرّيح.
وقال الآخر :
إني لأرجو أن تموت الرّيح . . .
فأقعد اليوم وأستريح
ومعنى { بين يدي رحمته } أمام نعمته وهو المطر الذي هو من أجلّ النعم وأحسنها أثراً والتعيين عن إمام الرحمة بقوله { بين يدى } من مجاز الاستعارة إذ الحقيقة هو ما بين يدي الإنسان من الإحرام وقال الكرماني : قال هنا { يرسل } لأنّ قبل ذلك { وادعوه خوفاً وطمعاًَ } فهماً في المستقبل فناسبه المستقبل وفي الفرقان وفاطر { أرسل } لأن قبله { ألم ترَ إلى ربك كيف مدّ الظل } وبعده { وهو الذي مرح } وكذا في الروم { ومن آياته أن يرسل } ليوافق ما قبله من المستقبل وفي فاطر قبله { الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة } وذلك ماضٍ فناسبه الماضي انتهى ملخصاً.
{ حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت }.
هذه غاية لإرسال الرّياح والمعنى أنه تعالى يرسل الرّياح مبشرات أو مبشرات إلى سوق السّحاب وقت إقلاله إلى بلد ميت والسحاب اسم جنس بينه وبين مفرده تاء التأنيث فيذكر كقوله { والسحاب المسخر } كقوله { يزجي سحاباً ثم يؤلّف بينه } ويؤنث ويوصف ويخبر عنه بالجمع كقوله { وينشئ السحاب الثقال } وكقوله { والنّخل باسقات } وثقله بالماء الذي فيه ونسب السّوق إليه تعالى بنون العظمة التفافاً لما فيه من عظيم المنة وذكر الضمير في { سقناه } رعياً للفظ كما قلنا إنه يذكر.
وقال السدّي يرسل تعالى الرياح فتأتي السحاب من بين الخافقين طرف السماء والأرض حيث يلتقيان فيخرجه من ثم ثم ينتشر ويبسطه في السماء وتفتح أبواب السماء ويسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك قال وهذا التفصيل لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.
ومذهب أهل الحق أن الله تعالى هو الذي يسخّر الرّياح ويصرفها حيث أراد بمشيئته وتقديره لا مشارك له في ذلك وللفلاسفة كيفية في حصول الرياح ذكرها أبو عبد الله الرازي وأبطلها من وجوه أربعة يوقف عليها في كلامه وللمنجمين أيضاً كلام في ذلك أبطله ، وقال في آخره فثبت بهذا البرهان أنّ محرّك الرّياح هو الله تعالى وثبت بالدليل العقلي صحّة قوله { وهو الذي يرسل الرياح }.

وعن ابن عمران الرّياح ثمان أربع منها عذاب هي : القاصف والعاصف والصّرصر والعقيم وأربع منها رحمة : الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات واللام في { لبلد } عندي لام التبليغ كقولك قلت لك ، وقال الزمخشري : لأجل بلد فجعل اللام لام العلة ولا يظهر فرق بين قولك سقت لك مالاً وسقت لأجلك مالاً فإنّ الأوّل معناه أوصلته لك وأبلغتكه والثاني لا يلزم منه وصوله إليه بل قد يكون الذي وصل له الماء غير الذي علّل به السوق ألا ترى إلى صحة قول القائل لأجل زيد سقت لك مالك.
ووصف البلد بالموت استعارة حسنة لجدبه وعدم نباته كأنه من حيث عد الانتفاع به كالجسد الذي لا روح فيه ولما كان ذلك موضع قرب رحمة الله وإظهار إحسانه ذكر أخص الأرض وهو البلد حيث مجتمع الناس ومكان استقرارهم ولما كان في سورة يس المقصد إظهار الآيات العظيمة الدالة على البعث جاء التركيب باللفظ العام وهو قوله { وآية لهم الأرض الميتة } وبعده { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار وآية لهم إنا حملنا ذريتهم } وسكن باء الميت عاصم وأبو عمرو والأعمش.
{ فأنزلنا به الماء } الظاهر أنّ الباء ظرفية والضمير عائد على بلد ميت أي فأنزلنا فيه الماء وهو أقرب مذكور ويحسن عوده إليه فلا يجعل لأبعد مذكور ، وقيل الباء سببيّة والضمير عائد على السحاب.
وقيل عائد على المصدر المفهوم من سقناه فالتقدير بالسّحاب أو بالسّوق والثالث ضعيف لأنه عائد على غير مذكور مع وجود المذكور وصلاحيته للعود عليه.
وقيل : عائد على السحاب والباء بمعنى من أي فأنزلنا منه الماء كقوله { يشرب بها عباد الله } أي منها وهذا ليس بجيد لأنه تضمين من الحروف.
{ فأخرجنا به من كل الثمرات } الخلاف في { به } كالخلاف السابق في به.
وقيل : الأول عائد على السحاب والثاني على البلد عدل عن كناية إلى كناية من غير فاصل كقوله : { الشيطان سوّل لهم وأملى لهم } وفاعل أملى لهم الله تعالى.
{ كذلك نخرج الموتى لعلّكم تذكرون } أي مثل هذا الإخراج { نخرج الموتى } من قبورهم أحياء إلى الحشر { لعلّكم تذكرون } بإخراج الثمرات وإنشائها خروجكم للبعث إذ الإخراجات سواء فهذا الإخراج المشاهد نظير الإخراج الموعود به خرج البيهقي وغيره عن رزين العقيلي قال قلت : يا رسول الله كيف يعيد الله الخلق وما آية ذلك في خلقه؟ قال « أما مررت بوادي قومك جدياً ثم مررت به خضراً »

قال : نعم قال : « فتلك آية الله في خلقه » انتهى ، وهل التشبيه في مطلق الإخراج ودلالة إخراج الثمرات على القدرة في إخراج الأموات أم في كيفيّة الإخراج وأنه ينزل مطر عليهم فيحيون كما ينزل المطر على البلد الميّت فيحيا نباته احتمالان ، وقد روي عن أبي هريرة أنه يمطر عليهم من ماء تحت العرش يقال له ماء الحيوان أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع فإذا كملت أجسامهم نفخ فيها الرّوح ثم يلقي عليهم نومة فينامون فإذا نفخ في الصّور الثانية قاموا وهم يجدون طعم النوم فيقولون يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا فيناديهم المنادي هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون.
{ والبلد الطّيب يخرج نباته بإذن ربّه والذي لا خبث لا يخرج إلا نكداً } { الطّيب } الجيّد الترب الكريم الأرض ، { والذي خبث } المكان السبخ الذي لا ينبت ما ينتفع به وهو الرديء من الأرض ، ولما قال { فأخرجنا به من كلّ الثمرات } تمم هذا المعنى بكيفية ما يخرج من النبات من الأرض الكريمة والأرض السّبخة وتلك عادة الله في إنبات الأرضين وفي الكلام حال محذوفة أي يخرج نباته وافياً حسناً وحذفت لفهم المعنى ولدلالة { والبلد الطيب } عليها ولمقابلتها بقوله { إلا نكداً } ولدلالة { بِإذنِ ربه } لأنّ ما أذن الله في إخراجه لا يكون إلا على أحسن حال و { بِإذن ربه } في موضع الحال وخصّ خروج نبات الطيّب بقوله { بِإذن ربه } على سبيل المدح له والتشريف ونسبة الإسناد الشريفة الطبية إليه تعالى وإن كان كلا النباتين يخرج بإذنه تعالى ومعنى { بإذن ربه } بتيسيره وحذف من الجملة الثانية الموصوف أيضاً والتقدير والبلد الذي خبث لدلالة { والبلد الطيب } عليه فكلّ من الجملتين فيه حذف وغاير بين الموصولين فصاحة وتفنّناً ففي الأولى قال : { الطيب } وفي الثانية قال : { الذي خبث } وكان إبراز الصّلة هنا فعلاً بخلاف الأوّل لتعادل اللفظ يكون ذلك كلمتين الكلمتين في قوله { والبلد الطيب } والطيب والخبيث متقابلان في القرآن كثيراً { قل لا يستوي الخبيث والطيب } و { يحل لهم الطّيبات ويحرم عليهم الخبائث } { أنفقوا من طيبات ما كسبتم ولا تيمموا الخبيث } إلى غير ذلك والفاعل في { لاَ يَخْرُجُ } عائد على { الذي خبث } وقد قلنا إنه صفة لموصوف محذوف والبلد لا يخرج فيكون على حذف مضاف إما من الأوّل أي ونبات الذي خبث أو من الثاني أي لا يخرج نباته فلما حذف استكنّ الضمير الذي كان مجروراً لأنه فاعل ، وقيل هاتان الجملتان قصد بهما التمثيل ، فقال ابن عباس وقتادة مثال لروح المؤمن يرجع إلى جسده سهلاً طيّباً كما خرج إذا مات ولروح الكافر لا يرجع إلاّ بالنّكد كما خرج إذ مات انتهى ، فيكون هذا راجعاً من حيث المعنى إلى قوله { كذلك نخرج الموتى } أي على هذين الوصفين.
وقال السدّي مثال للقلوب لما نزل القرآن كنزول المطر على الأرض فقلب المؤمن كالأرض الطيبة يقبل الماء وانتفع بما يخرج ، وقلب الكافر كالسّبخة لا ينتفع بما يقبل من الماء ، وقال النحاس : هو مثال للفهيم والبليد ، وقال الزمخشري : وهذا مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك وعن مجاهد ذرّية آدم خبيث وطيّب وهذا التمثيل واقع على أثر ذكر المطر وإنزله بالبلد الميت وإخراج الثمرات به على طريق الاستطراد انتهى ، والأظهر ما قدّمناه من أنّ المقصود التعريف بعبادة الله تعالى في إخراج النبات في الأرض الطيبة والأرض الخبيثة دون قصد إلى التمثيل بشيء مما ذكروا ، وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وعيسى بن عمر { يخرج نباته } مبنيّاً للمفعول ، وقرأ ابن القعقاع { نكداً } بفتح الكاف ، قال الزّجاج : وهي قراءة أهل المدينة ، وقرأ ابن مصرّف بسكونها وهما مصدران أي ذا نكد وكون نبات الذي خبث محصوراً خروجه على حالة النكد مبالغة شديدة في كونه لا يكون إلا هكذا ولا يمكن أن يوجد { إلا نكداً } وهي إشارة إلى من استقر فيه وصف الخبيث يبعد عنه النزوع إلى الخير.

{ كذلك نصرّف الآيات لقوم يشكرون } أي مثل هذا التصريف والترديد والتنويع ننوّع الآيات ونردّدها وهي الحجج الدالة على الوحدانية والقدرة الباهرة التامة والفعل بالاختيار ولما كان ما سبق ذكره من إرسال الرّياح منتشرات ومبشرات سبباً لإيجاد النّبات الذي هو سبب وجود الحياة وديمومتها كان ذلك أكبر نعمة الله على الخلق فقال { لقوم يشكرون } أي { بإذن ربه }.
{ لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } لما ذكر في هذه السورة مبدأ الخلق الإنساني وهو آدم عليه السلام وقصّ من أخباره ما قصّ واستطرد من ذلك إلى المعاد ومصير أهل السعادة إلى الجنة وأهل الشقاوة إلى النار وأمره تعالى بترك الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وكان من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً غير مستجيبين له ولا مصدّقين لما جاء به عن الله قصّ تعالى عليه أحوال الرّسل الذين كانوا قبله وأحوال من بعثوا إليه على سبيل التّسلية له صلى الله عليه وسلم والتأسي بهم ، فبدأ بنوح إذ هو آدم الأصغر وأول رسول بعث إلى من في الأرض وأمته أدوم تكذيباً له وأقلّ استجابة وتقدم رفع نسبه إلى آدم وكان نجّاراً بعثه الله إلى قومه وهو ابن أربعين سنة قاله ابن عباس ، وقيل : ابن خمسين ، وقال مقاتل ابن مائة ، وقيل : ابن مائتين وخمسين ، وقيل : ابن ثلاثمائة.
وقال عون بن شداد : ابن ثلاثمائة وخمسين ، وقال وهب : ابن أربعمائة وهذا اضطراب كثير من أربعين إلى أربعمائة فما بينهما وروي أنّ الطوفان كان سنة ألف وستمائة من عمره وهو أوّل الرّسل بعد آدم بتحريم البنات والأخوات والعمّات والخالات وجميع الخلق الآن من ذرية نوح عليه السلام وعن الزهري أنّ العرب وفارساً والروم وأهل الشام واليمن من ذرية سام بن نوح والهند والسّند والزنج والحبشة والزّط والنوبة وكلّ جلد أسود من ولد حام بن نوح والتّرك والبربر ووراء الصين وياجوج وماجوج والصقالبة من ولد يافث بن نوح ، لقد أرسلنا استئناف كلام دون واو وفي هود والمؤمنون ولقد بواو العطف ، قال الكرماني لما تقدّم ذكر الرسول مرات في هود وتقدّم ذكر نوح ضمنا في قوله وعلى الفلك لأنه أول من صنعها عطف في السورتين انتهى واللام جواب قسم محذوف أكّد تعالى هذا الإخبار بالقسم ، قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما لهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام إلاّ مع قد وقل عنهم قوله :

حلفت لها بالله حلفة فاجر . . .
لناموا ( قلت ) : إنما كان ذلك لأنّ الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيداً للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنّة لمعنى التوقّع الذي هو معنى قد عند استماع المخاطب كلمة القسم انتهى ، وبعض أصحابنا يقول إذا أقسم على جملة مصدرة بماضٍ مثبت متصرف وكان قريباً من زمان الحال أثبت مع اللام بقد الدالّة على التقريب من زمن الحال ولم تأتِ بقد بل باللام وحدها إن لم يرد التقريب ، قال ابن عباس : { أرسلنا } بعثنا وقال غيره حملناه رسالة يؤدّيها فعلى هذا تكون الرسالة متضمنة للبعث وهنا فقال بفاء العطف وكذا في المؤمنون في قصّة عاد وصالح وشعيب هنا قال بغير فاء والأصل الفاء وحذفت في القصتين توسّعاً.
واكتفاءً بالرّبط المعنوي وفي قصة نوح في هو { إني لكم } على إضمار القول أي فقال إني وفي ندائه قومه تنبيه لهم لما يلقيه إليهم واستعطاف وتذكير بأنهم قومه فالمناسب أن لا يخالفوه ومعمول القول جملة الأمر بعبادة الله وحده ورفض آلهتهم المسمّاة ودّاً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً وغيرها والجملة المنبهة على الوصف الدّاعي إلى عبادة الله وهو انفراده بالألوهية المرجو إحسانه المحذور انتقامه دون آلهتهم ولم تأتِ بحرف عطف لأنها بيان وتفسير لعلّة اختصاصه تعالى بأن يعبد ، وقرأ ابن وثاب الأعمش وأبو جعفر والكسائي غيره بالجرّ على لفظ { إله } بدلاً أو نعتاً ، وقرأ باقي السّبعة غيره بالرفع عطفاً على موضع { من إله } لأنّ من زائدة بدلاً أو نعتاً ، وقرأ عيسى بن عمر غيره بالنصب على الاستثناء والجرّ والرفع أفصح { ومن إله } مبتدأ و { لكم } في موضع الخبر ، وقيل : الخبر محذوف أي في الوجود و { لكم } تبيين وتخصيص ، و { أخاف } قيل : بمعنى أتيقن وأجزم لأنه عالم أن العذاب بنزل بهم إن لم يؤمنوا ، وقيل : الخوف على بابه بمعنى الحذر لأنه جوّز أن يؤمنوا وأن يستمروا على كفرهم و { يوم عظيم } هو يوم القيامة أو يوم حلول العذاب بهم في الدنيا وهو الطوفان وفي هذه الجملة إظهار الشّفقة والحنوّ عليهم.

{ قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين } قال ابن عطية قرأ ابن عامر الملو بالواو وكذلك هي في مصاحف أهل الشام انتهى وليس مشهوراً عن ابن عامر بل قراءته كقراءة باقي السبعة بهمزة ولم يجبه من قومه إلا أشرافهم وسادتهم وهم الذين يتعاصون على الرّسل لانغمار عقولهم بالدنيا وطلب الرئاسة والعلوّ فيهما.
ونراك الأظهر أنها من رؤية القلب ، وقيل : من رؤية العين ومعنى { في ظلال مبين } أي في ذهاب عن طريق الصواب وجهالة بما تسلك بينة واضحة وجاءت جملة الجواب مؤكدة بأن وباللام وفي للوعاء فكان الضلال جاء ظرفاً له وهو فيه ولم يأتِ ضالاً ولا ذا ضلال.
{ قال يا قوم ليس بي ظلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون } لم يرد النفي منه على لفظ ما قالوه فلم يأتِ التركيب لست في ضلال مبين بل جاء في غاية الحسن من نفي أن يلتبس به ويختلط ضلالة ما واحدة فأنى يكون في ضلال فهذا أبلغ من الانتفاء من الضلال إذ لم يعتلق به ولا ضلالة واحدة وفي ندائه لهم ثانياً والإعراض عن جفائهم ما يدلّ على سعة صدره والتلطّف بهم.
ولما نفى عنهم التباس ضلالة ما به دلّ على أنه على الصراط المستقيم فصحّ أن يستدرك كما تقول ما زيد بضالّ ولكنه مهتد فلكن واقعة بين نقيضين لأنّ الإنسان لا يخلو من أحد الشيئين : الضّلال والهدى ولا تجامع ضلالة الرسالة وفي قوله : { من رب العالمين } تنبيه على أنه ربهم لأنهم من جملة العالم أي من ربّكم المالك لأموركم الناظر لكم بالمصلحة حيث وجه إليكم رسولاً يدعوكم إلى إفراده بالعبادة و { أبلغكم } استئناف على سبيل البيان بكونه رسولاً أو جملة في موضع الصفة لرسول ملحوظاً فيه كونه خبراً لضمير متكلم كما تقول أنه رجل آمر معروف فتراعي لفظ أنا ويجوز يأمر بالمعروف فيراعى لفظ رجل والأكثر مراعاة ضمير المتكلم والمخاطب فيعود الضمير ضمير متكلم أو مخاطب قال تعالى : { بل أنتم قوم تفتنون } بالتاء ولو قرىء بالياء لكان عربيّاً مراعاة للفظ { قوم } لأنه غائب ، وقرأ أبو عمرو { أبلغكم } هنا في الموضعين وفي الأحقاف بالتخفيف وباقي السبعة بالتشديد والهمزة والتضعيف للتعدية فيه وجمع { رسالات } باعتبار ما أوحي إليه في الأزمان المتطاولة أو باعتبار المعاني المختلفة من الأمر والنهي والزّجر والوعظ والتبشير والإنذار أو باعتبار ما أوحي إليه وإلى من قبله ، قيل : في صحف إدريس وهي ثلاثون صحيفة وفي صحف شيث وهي خمسون صحيفة وتقدم الكلام في نصح وتعديتها ، وقال الزمخشري : وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة وأنها وقعت للمنصوح له مقصوداً به جانبه لا غير فربّ نصيحة ينتفع بها الناصح بقصد النفعين جميعاً ولا نصيحة أنفع من نصيحة الله تعالى ورسله ، وقال الفراء : لا تكاد العرب تقول نصحتك إنما نصحت لك ، وقال النابغة :

نصحت بني عوف فلم يتقبلوا . . .
وفي قوله { ما لا تعلمون } إبهام عليهم وهو عامّ ولكن ساق ذلك مساق المعلومات التي يخاف عليهم ولم يسمعوا قطّ بأمه عُذِّبت فتضمّن التهديد والوعيد فيحتمل أن { يرِيد ما لا تعلمون } من صفات الله وقدرته وشدة بطشه على من اتخذ إلهاً معه أو { يريد ما لا تعلمون } مما أوحي إلي ، قال ابن عطية : ولا بدّ أنّ نوحاً عليه السلام وكل نبيّ مبعوث إلى الخلق كانت له معجزة بخرق العادة فمنهم من عرفنا بمعجزته ومنهم من لم يعرف وما أحسن سياق هذه الأفعال قال أولاً { أبلغكم رسالات ربي } وهذا مبدأ أمره معهم وهو التبليغ ، كما قال : إنْ عليك إلا البلاغ ثم قال { وأنصح لكم } أي أخلص لكم في تبيين الرّشد والسلامة في العاقبة إذا عبدتم الله وحده ثم قال وأعلم من الله { ما لا تعلمون } من بطشه بكم وهو مآل أمركم إذا لم تفردوه بالعبادة فنبّه على مبدأ أمره ومنتهاه معهم.
{ أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربّكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلّكم ترحمون } يتضمّن قولهم { إنّا لنراك في ضلال مبين } استبعادهم واستمحالهم ما أخبرهم به من خوف العذاب عليهم وأنه بعثه الله إليهم بعبادته وحده ورفض آلهتهم وتعجبوا من ذلك ، وقال أبو عبد الله الرازي سبب استبعادهم إرسال نوح والهمزة للإنكار والتوبيخ أي هذا مما لا يعجب منه إذ له تعالى ، التصرّف التام بإرسال من يشاء لمن يشاء ، قال الزمخشري : الواو للعطف والمعطوف محذوف كأنه قيل أو كذبتم وعجبتم أن جاءكم انتهى ، وهو كلام مخالف لكلام سيبويه والنّحاة لأنّهم يقولون : إنّ الواو لعطف ما بعدها على ما قبلها من الكلام ولا حذف هناك وكأنّ الأصل وأعجبتم لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام فقدّمت على حروف العطف لأنّ الاستفهام له صدر الكلام وقد تقدّم الكلام معه في نظير هذه المسألة وقد رجع هو عن هذا إلى قول الجماعة والذكر الوعظ أو الوحي أو المعجز أو كتاب معجز أو البيان أقوال والأولى أن يكون قوله { على رجل } فيه إضمار أي على لسان رجل كما قال { ما وعدتنا على رسلك } ، وقيل : { على } بمعنى مع ، وقيل : لا حذف ولا تضمين في الحرف بل قوله { على رجل } هو على ظاهره لأن { جاءكم } بمعنى نزل إليكم كانوا يتعجبون من نبوّة نوح ويقولون ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين يعنون إرسال البشر { ولو شاء ربّنا لأنزل ملائكة } وذكر عليه المجيء وهو الإعلام بالمخوف والتحذير من سوء عاقبة الكفر ووجود التقوى منهم ورجاء الرّحمة وكأنها علة مترتبة فجاءكم الذكر للإنذار بالمخوف والإنذار بالمخوف لأجل وجود التقوى منهم ووجود التقوى لرجاء الرحمة وحصولها فعلل المجيء بجميع هذه العلل المترتبة لأنّ المترتب على السبب سبب.

{ فكذّبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عمين }.
أخبر تعالى أنهم كذبوه هذا مع حسن ملاطفته لهم ومراجعته لهم وشفقته عليهم فلم يكن نتيجة هذا إلاّ التكذيب له فيما جاء به عن الله { والذين معه في الفلك } هم من آمن به وصدّقه وكانوا أربعين رجلاً ، وقيل ثمانين رجلاً وأربعين امرأة قاله الكلبي وإليهم تنسب القرية التي ينسب إليها الثمانون وهي بالموصل ، وقيل : عشرة فيهم أولاده الثلاثة ، وقيل : تسعة منهم بنوه الثلاثة وفي قوله { وأغرقنا الذين كذّبوا } إعلام بعلّة الغرق وهو التكذيب و { بآياتنا } يقتضي أنّ نوحاً كانت له آيات ومعجزات تدل على إرساله ويتعلق { في الفلك } بما يتعلّق به الظّرف الواقع صلة أي والذين استقروا معه في الفلك ويحتمل أن يتعلق بأنجيناه أي أنجيناهم في السّفينة من الطّوفان وعلى هذا يحتمل أن تكون في { سببية } أي بالفلك كقوله «دخلت النار في هرة» أي بسبب هرة و { عمين } من عمي القلب أي غير مستبصرين ويدل على ثبوت هذا الوصف كونه جاء على وزن فعل ولو قصد الحذف لجاء على فاعل كما جاء ضائق في ضيق وثاقل في ثقيل إذا قصد به حدوث الضّيق والثقل ، قال ابن عباس عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد ، وقال معاذ النحوي : رجل عم في أمره لا يبصره وأعمى في البصر.
قال :
ما في غد عم ولكنني عن علم . . .
وقد يكون العمى والأعمى كالخضر والأخضر ، وقال الليث : رجل عم إذا كان أعمى القلب.
{ وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون } عاد اسم الحي ولذلك صرفه وبعضهم جعله اسماً للقبيلة فمنعه الصرف قال الشاعر :
لو شهدت عاد في زمان عاد . . .
لانتزها مبارك الجلاد
سميت القبيلة باسم أبيهم وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام وهود قال شيخنا أبو الحسن الآبدي النحوي : المعروف أنّ هوداً عربي والذي يظهر من كلام سيبويه لما عده مع نوح ولوط وهما عجميان أنه عجمي عنده انتهى ، وذكر الشريف النسّابة أبو البركات الجواني أنّ يَعرُب بن قحطان بن هود هو الذي زعمت يمن أنه أول من تكلم بالعربية ونزل أرض اليمن فهو أبو اليمن كلها وأنّ العرب إنما سميت عرباً به انتهى فعلى هذا لا يكون هود عربيّاً وهود هو ابن عابر بن شالح بن ارفخشد بن سام بن نوح و { أخاهم } معطوف على نوحاً ومعناه واحداً منهم وليس هود من بني عاد كما ذكرنا وهذا كما تقول أيا أخا العرب للواحد منهم ، وقيل : هو من عاد وهو هود بن عبد الله بن رياح بن الجلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح فعلى هذا يكون من عاد واسم أمه مرجانة وكان رجلاً تاجراً أشبه خلق الله بآدم عليهما السلام ، روي أنّ عاداً كانت له ثلاث عشرة قبيلة ينزلون رمال عالج وهي عاد الأولى وكانوا أصحاب بساتين وزروع وعمارة وبلادهم أخصب بلاد فسخط الله عليهم فجعلها مفاوز وكانت بنواحي عمان إلى حضرموت إلى اليمن وكانوا يعبدون الأصنام ولما هلكوا لحق هود ومن آمن معه بمكة فلم يزالوا بها حتى ماتوا ولم يأتِ فقال بالفاء لأنه جواب سؤال مقدّر أي فما قال لهم { يا قوم } وكذا { قال الملأ } وفي قوله { أفلا تتقون } استعطاف وتحضيض على تحصيل التقوى ولما كان ما حلّ بقوم نوح من أمر الطوفان واقعة لم يظهر في العالم مثلها قال { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } وواقعة هود كانت مسبوقة بواقعة نوح وعهد الناس قريب بها اكتفى هود بقوله { أفلا تتقون } والمعنى تعرفون أنّ قوم نوح لما لم يتقوا الله وعبدوا غيره حلّ بهم ذلك العذاب الذي اشتهر خبره في الدنيا فقوله { أفلا تتقون } إشارة إلى التخويف بتلك الواقعة المشهورة.

{ قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظّنك من الكاذبين } أتى بوصف { الملأ } بالذين كفروا ولم يأتِ بهذا الوصف في قوم نوح لأنّ قوم هود كان في أشرافهم من آمن به منهم مرثد بن سعد بن عفير ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن ألا ترى إلى قولهم { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } وقولهم { أنؤمن لك واتبعك الأرذلون } ويحتمل أن يكون وصفاً جاء للذم لم يقصد به الفرق ولنراك يحتمل أن يكون من رؤية العين ومن رؤية القلب كما تقدم القول في قصة نوح و { في سفاهة } أي في خفة حلم وسخافة عقل حيث تترك دين قومك إلى دين غيره وفي سفاهة يقتضي أنه فيها قد احتوت عليه كالظرف المحتوي على الشيء ولما كان كلام نوح لقومه أشد من كلام هود تقوية لقوله { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } كان جوابهم أغلظ وهو { إنا لنراك في ضلال مبين } وكان كلام هود ألطف لقوله { أفلا تتقون } فكان جوابهم له ألطف من جواب قوم نوح لنوح بقولهم { إنا لنراك في سفاهة } ثم أتبعوا ذلك بقولهم { وإنا لنظّنك من الكاذبين } فدل ذلك على أنه أخبرهم بما يحل بهم من العذاب إن لم يتقوا الله أو علّقوا الظن بقوله { ما لكم من إلهٍ غيره } أي إنّ لنا آلهة فحصرها في واحد كذب.

وقيل : الظن هنا بمعنى اليقين أو بمعنى ترجيح أحد الجائزين قولان للمفسرين والثاني للحسن والزّجاج ، وقال الكرماني : خوّف نوح الكفار بالطوفان العام واشتغل بعمل السفينة فقالوا { إنا لنراك في ضلالٍ مبينٍ } حيث تتعب نفسك في إصلاح سفينة كبيرة في مفازة ليس فيها ماء ولم يظهر ما يدل على ذلك وهو رديف عبادة الأوثان ونسب قومه في السفاهة فقابلوه بمثل ذلك.
{ قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين } تقدّمت كيفية هذا النفي في قوله { ليس بي ضلالة } وهناك جاء { وأنصح لكم } وهنا جاء { وأنا لكم ناصح أمين } لما كان آخر جوابهم جملة اسمية جاء قوله كذلك فقالوا هم { وإنا لنظنك من الكاذبين } قال هو { وأنا لكم ناصح أمين } وجاء بوصف الأمانة وهي الوصف العظيم الذي حمله الإنسان ولا أمانة أعظم من أمانة الرسالة وإيصال أعبائها إلى المكلفين والمعنى أني عُرفت فيكم بالنصح فلا يحق لكم أن تتهموني وبالأمانة فيما أقول فلا ينبغي أن أكذب ، قال ابن عطية : وقوله { أمين } يحتمل أن يريد على الوحي والذكر النازل من قبل الله ويحتمل أنه أمين عليهم وعلى غيبهم وعلى إرادة الخير بهم والعرب تقول فلان لفلان ناصح الجيب أمين الغيب ويحتمل أن يريد به من الأمن أي جهتي ذات أمن لكم من الكذب والغش ، قال القشيري : شتّان ما بين من دفع عنه ربه بقوله { ما ضلّ صاحبكم وما غوى } و { ما صاحبكم بمجنون } ومن دفع عن نفسه بقوله : { ليس بي ضلالة } { ليس بي سفاهة } ، قال الزمخشري : وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام من نسبهم إلى الضلالة والسفاهة بما أجابوهم من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة بما قالوا لهم مع علمهم بأنّ خصومهم أصل السفاهين وأسفلهم أدب حسن وخلق عظيم وحكاية الله عز وجل عنهم ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم.
{ أو عجبتم أن جاءكم ذلك من ربكم على رجل منكم لينذركم } أتى هنا بعلة واحدة وهي الإنذار وهو التخويف بالعذاب واختصر ما يترتب على الإنذار من التقوى ورجاء الرحمة.
{ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } أي سكان الأرض بعدهم قاله السدّي وابن إسحاق ، أو جعلكم ملوكاً في الأرض استخلفكم فيها قاله الزمخشري ، وتذكير هود بذلك يدلّ على قرب زمانهم من زمان نوح لقوله { من بعد قوم نوح } و { إذ } ظرف في قول الحوفي فيكون مفعول { اذكروا } محذوفاً أي واذكروا آلاء الله عليكم وقت كذا والعامل في { إذ } ما تضمنه النعم من الفعل وفي قول الزمخشري { إذ } مفعول به وهو منصوب باذكروا أي اذكروا وقت جعلكم.
{ وزادكم في الخلق بسطة } ظاهر التواريخ أنّ البسطة الامتداد والطول والجمال في الصور والأشكال فيحتمل إذ ذاك أن يكون الخلق بمعنى المخلوقين ويحتمل أن يكون مصدراً أي وزادكم في خلقكم بسطة أي مد وطول حسن خلقكم قيل : كان أقصرهم ستين ذراعاً وأطولهم مائة ذراع قاله الكلبي والسدّي ، وقال أبو حمزة اليماني : سبعون ذراعاً.

وقال ابن عباس ثمانون ذراعاً.
وقال مقاتل : اثنا عشر ذراعاً.
وقال وهب : كان رأس أحدهم مثل القبة العظيمة وعينه تفرخ فيها الضباع وكذلك منخره وإذا كان الخلق بمعنى المخلوقين فالخلق قوم نوح أو أهل زمانهم أو الناس كلهم أقوال ، وقيل : الزيادة في الإجرام وهي ما تصل إليه يد الإنسان إذا رفعها ، وقيل الزيادة هي في القوة والجلادة لا في الإجرام.
وقيل : زيادة البسطة كونهم من قبيلة واحدة مشاركين في القوة متناصرين يحبّ بعضهم بعضاً ويحتمل أن يكون المعنى { وزادكم بسطة } أي اقتداراً في المخلوقين واستيلاء.
{ فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون } ذكرهم أولاً بإنعامه عليهم حيث جعلهم خلفاء وزادهم بسطة وذكرهم ثانياً بنعمه عليهم مطلقاً لا بتقييد زمان الجعل واذكروا الظاهر أنه من الذكر وهو أن لا يتناسوا نعمه بل تكون نعمه على ذكر منكم رجاء أن تفلحوا وتعليق رجاء الفلاح على مجرّد الذّكر لا يظهر فيحتاج إلى تقدير محذوف بترتب عليه رجاء الفلاح وتقديره والله أعلم { فاذكروا آلاء الله } وإفراده بالعبادة ألا ترى إلى قوله { أجئتنا لنعبد الله وحده } وفي ذكرهم { آلاء الله } ذكر المنعم عليهم المستحقّ لإفراده بالعبادة ونبذه ما سواه ، وقيل : اذكروا هنا بمعنى اشكروا.
{ قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصّادقين } الظاهر أنهم أنكروا أن يتركوا أصنامهم ويفردوا الله بالعبادة مع اعترافهم بالله حبّاً لما نشؤوا عليه وتآلفاً لما وجدوا آباءهم عليه ويحتمل أن يكونوا منكرين لله ويكون قولهم { لنعبد الله وحده } أي على قولك يا هود ودعواك قاله ابن عطية ، وقال التأويل الأوّل أظهر فيهم وفي عباد الأوثان ولا يجحد ربوبية الله من الكفرة إلا من ادّعاها لنفسه كفرعون ونمرود انتهى ، وكان في قول هود لقومه { فاذكروا آلاء الله } دليل قاطع على أنه لا يعبد إلا المنعم وأصنامهم جمادات لا قدرة على شيء البتة والعبادة هي نهاية التعظيم فلا يليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام ولما نبّه على هذه الحجة ولم يكن لهم أن يجيبوا عنها عدلوا إلى التقليد البحت فقالوا { أجئتنا لنعبد الله وحده } والمجيء هنا يحتمل أن يكون حقيقة بكونه متغيباً عن قومه منفرداً بعبادة ربه ثم أرسله الله إليهم فجاءهم من مكان متغيبه ويحتمل أن يكون قولهم ذلك على سبيل الاستهزاء لأنهم كانوا يعتقدون أنّ الله لا يرسل إلا الملائكة فكأنهم قالوا : أجئتنا من السماء كما يجيء الملك ولا يريدون حقيقة المجيء ولكن التعرّض والقصد كما يقال ذهب يشتمني لا يريدون حقيقة الذهاب كأنهم قالوا أقصدتنا لنعبد الله وحده وتعرضت لنا بتكاليف ذلك وفي قولهم { فائتنا بما تعدنا } دليل على أنه كان يعدهم بعذاب الله إن داموا على الكفر وقولهم ذلك يدلّ على تصميمهم على تكذيبه واحتقارهم لأمر النبوّة واستعجال العقوبة إذ هي عندهم لا تقع أصلاً وقد تقدّم قوله { إنا لنراك في سفاهة } و { إنا لنظنّك من الكاذبين } فلما كانوا يعتقدون كونه كاذباً قالوا { فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين } أي في نبوّتك وإرسالك أو في العذاب نازل بنا.

{ قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب } أي حلّ بكم وتحتّم عليكم قال زيد بن أسلم والأكثرون : الرّجس هنا العذاب من الارتجاس وهو الاضطراب.
وقال ابن عباس : السخط.
وقال أبو عبد الله الرازي : لا يكون العذاب لأنه لم يكن حاصلاً في ذلك الوقت ، وقال القفال : يجوز أن يكون الازدياد في الكفر بالرين على القلوب أي لتماديهم على الكفر { وقع عليكم } من الله رين على قلوبكم كقوله { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } فإنّ الرجس السخط أو الرين فقوله { قد وقع } على حقيقته من المضي وإن كان العذاب فيكون من جعل الماضي موضع المستقبل لتحقّق وقوعه.
{ أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم } هذا إنكار منه لمخاصمتهم له فيما لا ينبغي فيه الخصام وهو ذكر ألفاظ ليس تحتها مدلول يستحقّ العبادة فصارت المنازعة باطلة بذلك ومعنى { سميتموها } سميتم بها أنتم وآباؤكم أي أحدثتموها قريباً أنتم وآباؤكم وهي صمود وصداء والهباء وقد ذكرها مرثد بن سعد في شعره فقال :
عصت عاد رسولهم فأضحوا . . .
عطاشاً ما تبلّهم السماء
لهم صنم يقال له صمود . . .
يقابله صداء والهباء
فبصرنا الرسول سبيل رشد . . .
فأبصرنا الهدى وجلى العماء
وإنّ إله هود هو إلهي . . .
على الله التوكّل والرجاء
فالجدال إذ ذاك يكون في الألفاظ لا مدلولاتها ويحتمل أن يكون الجدال وقع في المسمّيات وهي الأصنام فيكون أطلق الأسماء وأراد بها المسميات وكان ذلك على حذف مضاف أي { أتجادلونني } في ذوات أسماء ويكون المعنى { سميتموها } آلهة وعبدتموها من دون الله ، قيل : سموا كل صنم باسم على ما اشتهوا وزعموا أنّ بعضهم يسقيهم المطر وبعضهم يشفيهم من المرض وبعضهم يصحبهم في السّفر وبعضهم يأتيهم بالرزق.
{ ما نزل الله بها من سلطان } والجملة من قوله { ما نزل } في موضع الصفة والمعنى أنه ليس لكم بذلك حجة ولا برهان وجاء هنا { نزل } وفي المكان غيره أنزل وكلاهما فصيح والتعدية بالتضعيف والهمزة سواء.
{ فانتظروا إني معكم من المنتظرين } وهذا غاية في التهديد والوعيد أي { فانتظروا } عاقبة أمركم في عبادة غير الله وفي تكذيب رسوله وهذا غاية في الوثوق بما يحل بهم وإنه كائن لا محالة.

{ فأنجيناه والذين معه برحمة منا } يعني من آمن معه { برحمة } سابقة لهم من الله وفضل عليهم حيث جعلهم آمنوا فكان ذلك سبباً لنجاتهم مما أصاب قومهم من العذاب.
{ وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا } كناية عن استئصالهم بالهلاك بالعذاب وتقدّم الكلام في { دابر } في قوله { فقطع دابر القوم الذين ظلموا } وفي قوله { الذين كذبوا } تنبيه على علة قطع دابرهم وفي قوله { بآياتنا } دليل على أنه كانت لهود معجزات ولكن لم تذكر لنا بتعيينها.
{ وما كانوا مؤمنين } جملة مؤكدة لقوله { كذبوا بآياتنا } ويحتمل أن يكون إخباراً من الله تعالى أنهم ممن علم الله تعالى أنهم لو بقوا لم يؤمنوا أي ما كانوا ممن يقبل إيماناً البتة ولو علم الله تعالى أنهم يؤمنون لأبقاهم وذلك أنّ المكذّب بالآيات قد يؤمن بها بعد ذلك ويحسن حاله فأما من حتم الله عليه بالكفر فلا يؤمن أبداً وفي ذلك تعريض بمن آمن منهم كمرثد بن سعد ومن نجا مع هود عليه السلام كأنه قال { وقطعنا دابر القوم الذين كذّبوا } منهم ولم يكونوا مثل من آمن منهم ليؤذن أنّ الهلاك خصّ المكذبين ونجّى الله المؤمنين قاله الزمخشري : وذكر المفسرون هنا قصة هلاك عاد وذكروا فيها أشياء لا تعلق لها بلفظ القرآن ولا صحّت عن الرسول فضربت عن ذكرها صفحاً وأما ما له تعلق بلفظ القرآن فيأتي في مواضعه إن شاء الله تعالى.
{ وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } ثمود اسم القبيلة سميت باسم أبيهم الأكبر وهو ثمود أخو جديس وهما ابنا جاثر بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام وإلى وادي القرى.
وقيل سميت ثمود لقلة ما بها من الثمد وهو الماء القليل.
قال الشاعر :
أحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت . . .
إلى حمام شراع وارد الثمد
وكانت ثمود عرباً في سعة من العيش فخالفوا أمر الله وعبدوا غيره وأفسدوا فبعث الله لهم صالحاً نبياً من أوسطهم نسباً وأفضلهم حسباً فدعاهم إلى الله حتى شمط ولا يتبعه منهم إلا القليل ، قاله وهب : بعثه الله حين راهق الحلم فلما هلك قومه ارتحل بمن معه إلى مكة فأقاموا معه حتى ماتوا فقبورهم بين دار الندوة والحجر ، وصالح هو صالح بن آسف بن كاشح بن أروم بن ثمود بن جاثر بن إرم بن سام بن نوح هكذا نسبه الشريف النسّابة الجواني وهو المنتهى إليه في علم النسب.
ووقع في بعض التفاسير بين صالح وآسف زيادة أب وهو عبيد فقالوا صالح بن عبيد بن آسف ونقص في الأجداد وتصحيف جاثر بقولهم عابر ، قال الشريف الجواني في المقدمة الفاضلية والعقب من جاثر بن إرم بن سام بن نوح وجديس والعقب من ثمود بن جاثر فالخ وهيلع وتنوق وأروم من ولده صالح النبي صلى الله عليه وسلم بن آسف بن كاشح بن أروم بن ثمود.

وقرأ ابن وثاب والأعمش : { وإلى ثمود } بكسر الدال والتنوين مصروفاً في جميع القرآن جعله اسم الحي والجمهور منعوه الصرف جعلوه اسم القبيلة والأخوة هنا في القرابة ، لأنّ نسبه ونسبهم راجع إلى ثمود بن جاثر وكل واحد من هؤلاء الأنبياء نوح وهود وصالح تواردوا على الأمر بعبادة الله والتنبيه على أنه لا إله غيره إذ كان قومهم عابدي أصنام ومتخذي آلهة مع الله كما كانت قريش والعرب ففي هذه القصص توبيخهوم وتهديدهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك من الهلاك المستأصل من العذاب وكانت قصة نوح مشهورة طبقت الآفاق وقصة هود وصالح مشهورة عند العرب وغيرهم بحيث ذكرها قدماء الشعراء في الجاهلية وشبهوا مفسدي قومهم بمفسدي قوم هود وصالح قال بعض قدمائهم في الجاهلية :
فينا معاشر لن يبغوا لقومهم . . .
وإن بنى قومهم ما أفسدوا عادوا
أضحوا كقيل بن عنز في عشيرته . . .
إذا أهلكت بالذي سدّى لها عاد
أو بعده كقدار حين تابعه . . .
على الغواية أقوام فقد بادوا
وقيل ابن عنز هو من قوم هود وسيأتي ذكر خبره عند ذكر إرسال الريح على قوم هود إن شاء الله وقدار هو ابن سالف عاقر ناقة صالح ويأتي خبره إن شاء الله.
{ قد جاءتكم بيّنة من ربكم } أي آية ظاهرة جلية وشاهد على صحة نبوتي وكثر استعمال هذه الصفة استعمال الأسماء في القرآن فولّيت العوامل كقوله حتى جاءتهم البيّنة وقوله { بالبينات والزبر } والمعنى الآية البينة وبالآيات البينات فقارب أن تكون كالأبطح والأبرق إذ لا يكاد يصرح بالموصول معها وقوله { قد جاءتكم بينة من ربكم } كأنه جواب لقولهم { ائتنا ببينة } تدلّ على صدقك وأنك مرسل إلينا و { من ربكم } متعلق بجاءتكم أو في موضع الصفة لآية على تقدير محذوف أي من آيات ربكم.
{ هذه ناقة الله لكم آية } لما أبهم في قوله { قد جاءتكم بينة من ربكم } بيّن ما الآية فكأنه قيل له ما البينة قال { هذه ناقة الله } وأضافها إلى الله تشريفاً وتخصيصاً نحو بيت الله وروح الله ولكونه خلقها بغير واسطة ذكر وأنثى ولأنه لا مالك لها غيره ولأنها حجة على القوم ولما أودع فيها من الآيات ذكرها في قصة قوم صالح و { لكم } بيان لمن هي له آية موجبة عليه الإيمان وهم ثمود لأنهم عاينوها وسائر الناس أخبروا عنها كأنه قال { لكم } خصوصاً وانتصب { آية } على الحال والعامل فيها ها بما فيها من معنى التنبيه أو اسم الإشارة بما فيه من معنى الإشارة أو فعل مضمر تدلّ عليه الجملة كأنه قيل انظر إليها في حال كونها آية أقوال ثلاثة ذكرت في علم النحو ، وقال الحسن هي ناقة اعترضها من إبلهم ولم تكن تحلب ، وقال الزّجاج : قيل إنه أخذ ناقة من سائر النوق وجعل الله لها شرباً يوماً ولهم شرب يوم وكانت الآية في شربها وحلبها ، قيل : وجاء بها من تلقاء نفسه ، وقال الجمهور : هي آية مقترحة لما حذرهم وأنذرهم سألوه آية فقال أية آية تريدون قالوا تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السّنة فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا قل صالح نعم فخرج معهم فدعوا أوثانهم وسألوها الإجابة فلم تجبهم ثم قال سيدهم جندع بن عمرو بن جواس وأشار إلى صخرة منفردة من ناحية الجبل يقال لها الكاثبة أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء وعشراء ، والمخترجة ما شاكلت البحت من الإبل فأخذ صالح عليه السلام مواثيقهم لئن فعلت ذلك لتؤمنن ولتصدقن قالوا : نعم فصلى ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ثم تحرّكت فانصدعت عن ناقة كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله عظماً وهم ينظرون ثم نتجت سقباً مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحبا أوثانهم وريّان ابن كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود وهذه الناقة وسقبها مشهور قصتهما عند جاهلية العرب وقد ذكروا السّقب في أشعارهم.

قال بعضهم يصف ناساً قتلوا بمعركة حرب بأجمعهم :
كأنهم صابت عليهم سحابة . . .
صواعقها كالطير هن دبيب
رغى فوقهم سقب السماء فداحض . . .
بشكته لم يستلب وسليب
قال أبو موسى الأشعري : أتيت أرض ثمود فذرعت صدر الناقة فوجدته ستين ذراعاً.
{ فذروها تأكل في أرض الله } لما أضاف الناقة إلى الله أضاف محل رعيها إلى الله إذ الأرض وما أنبت فيها ملكه تعالى لا ملككم ولا إنباتكم وفي هذا الكلام إشارة إلى أن هذه الناقة نعمة من الله ينال خيرها من غير مشقّة تكلف علف ولا طعمة وهو شأن الإبل كما جاء في الحديث قال فضالة الإبل ، قال مالك : ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربّها و { تأكل } جزم على جواب الأمر ، وقرأ أبو جعفر في رواية { تأكل } بالرفع وموضعه حال كانت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء ترد غباً فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتى تشرب كل ما فيها ثم تفجج فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلىء أوانيهم فيشربون ويدّخرون.
{ ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم } نهاهم عن مسّها بشيء من الأذى وهذا تنبيه بالأدنى على الأعلى إذا كان قد نهاهم عن مسّها بسوء إكراماً لآية الله فنهيه عن نحرها وعقرها ومنعها عن الماء والكلأ أولى وأحرى والمسّ والأخذ هنا استعارة وهذا وعيد شديد لمن مسّها بسوء والعذاب الأليم هو ما حلّ بهم إذ عقروها وما أعد لهم في الآخرة.

{ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوّأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون الجبال بيوتاً فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين } ذكر صالح قومه بما ذكر به هود قومه فذكر أولاً نعماً خاصة وهي جعلهم خلفاء بعد الأمة التي سبقتهم وذكر هود لقومه ما اختصوا به من زيادة البسطة في الخلق وذكر صالح لقومه ما اختصوا به من اتخاذ القصور من السهول ونحت الجبال بيوتاً ثم ذكرا نعماً عامة بقولهما { فاذكروا آلاء الله } ومعنى { وبوّأكم في الأرض } أنزلكم بها وأسكنكم إياها والمباءة المنزل في الأرض وهو من باء أي رجع وتقدم ذكره و { الأرض } فلا موضع ما بين الحجاز والشام و { تتخذون } حال أو تفسير لقوله { وبوّأكم في الأرض } فلا موضع له من الإعراب والظاهر أن بعض السهول اتخذوه قصوراً أي بنوا فيه قصوراً وأنشؤوها فيه ولم يستوعبوا جميع سهولها بالقصور وقال الزمخشري : { من سهولها قصوراً } أي يبنونها من سهولة الأرض بما يعملون منها الرهض واللبن والآجر يعني أن القصور التي بنوها أجزاؤها متخذة من لين الأرض كالجيار والآجر والجصّ كقوله { واتخذ قوم موسى من بعده من حليّهم عجلاً } يعني أنّ الصورة كانت مادّتها من الحلي كما أن القصور مادتها من سهول الأرض والأجزاء التي صنعت منها وظاهر الاتخاذ هنا العمل فيتعدّى { تتخذون } إلى مفعول واحد ، وقيل : يتعدى إلى اثنين والمجرور هو الثاني ، وقرأ الحسن { وتنحَتون } بفتح الحاء ، وزاد الزمخشري : أنه قرأ وتنحاتون بإشباع الفتحة قال كقوله :
ينباع من دفري أسيل حرّه . . .
انتهى.
وقرأ ابن مصرف بالياء من أسفل وكسر الحاء وقرأ أبو مالك بالباء من أسفل وفتح الحاء ومن نقرأ بالياء فهو التفات وانتصب { بيوتاً } على أنها حال مقدّرة إذ لم تكن الجبال وقت النحت بيوتاً كقولك إبرِ لي هذه اليراعة قلماً وخَّط لي هذا قباء ، وقيل : مفعول ثانٍ على تضمين { وتنحتون } معنى و { تتخذون } ، وقيل : مفعول بتنحتون و { الجبال } نصب على إسقاط من أي من الجبال ، وقرأ الأعمش { تعثوا } بكسر التاء لقولهم أنت تعلم وهي لغة و { مفسدين } حال مؤكدة ، قال ابن عباس : القصور لمصيفهم والبيوت في الجبال لمشتاهم ، وقيل : نحتوا الجبال لطول أعمارهم كانت القصور تخرب قبل موتهم ، قال وهب : كان الرجل يبني البنيان فتمرّ عليه مائة سنة فيخرب ثم يجدده فتمر عليه مائة سنة فيخرب ثم يجدده فتمر عليه مائة سنة فيخرب فأضجرهم ذلك فاتخذوا الجبال بيوتاً.
{ قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أنّ صالحاً مرسل من ربّه } قرأ ابن عامر { وقال الملأ } بواو عطف والجمهور قال بغير واو و { الذين استكبروا } وصف للملأ إما للتخصيص الأنّ من أشرافهم من آمن مثل جندع بن عمرو وإما للذم و { استكبروا } وطلبوا الهيبة لأنفسهم وهو من الكبر فيكون استفعل للطلب وهو بابها أو تكون استفعل بمعنى فعل أي كبروا لكثرة المال والجاه فيكون مثل عجب واستعجب والذين { استضعفوا } أي استضعفهم رؤساء الكفار واستذلوهم وهم العامة وهم أتباع الرّسل و { لمن } بدل من الذين استضعفوا والضمير في { منهم } إن عاد على المستضعفين كان بدل بعض من كلّ ويكون الذين استضعفوا قسمين مؤمنين وكافرين وإن عاد على { قومه } كان بدل كل من كلّ وكان الاستضعاف مقصوراً على المؤمنين وكان الذين استضعفوا قسماً واحداً ومن آمن مفسراً للمستضعفين من قومه واللام في { للذين } للتبليغ والجملة المقولة استفهام على جهة الاستهزاء والاستخفاف وفي قولهم { من ربه } اختصاص بصالح ولم يقولوا من ربنا ولا من ربكم.

{ قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون } جواب للمستضعفين وعدولهم عن قولهم هو مرسل إلى قولهم { إنا بما أرسل به مؤمنون } في غاية الحسن إذ أمر رسالته معلوم واضح مسلم لا يدخله ريب لما أتى به من هذا المعجز الخارق العظيم فلا يحتاج أن يسأل عن رسالته ولا أن يستفهم عن العلم بإرساله فأخبروا بأنهم مؤمنون بما أرسل به لأنه لا يلزم بعد وضوح رسالته إلاّ التصديق بما جاء به وتضمن كلامهم العلم بأنه مرسل من الله تعالى.
{ قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون } فالذي آمنتم به هو من حيث المعنى بما أرسل به لكنه من حيث اللفظ أعمّ قصدوا الردّ لما جعله المؤمنون معلوماً وأخذوه مسلماً.
{ فعقروا النّاقة } نسب العقر إلى الجميع وإن كان صادراً عن بعضهم لما كان عقرها عن تمالىء واتفاق حتى روي أنّ قداراً لم يعقرها إلا عن مشاورة الرّجال والنساء والصبيان فأجمعوا على ذلك وسبب عقرها أنها كانت إذا وقع الحر نصبت بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطنه وإذا وقع البرد تلبث ببطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشقّ ذلك عليهم وكانت تستوفي ماءهم شرباً ويحلبونها ما شاء الله حتى ملوها وقالوا ما نصنع باللبن الماء أحبّ إلينا منه وقال لهم صالح يوماً إنّ هذا الشهر يولد فيه مولود يكون هلاككم على يديه فولد لعشرة نفر فذبح التّسعة أولادهم وبقي العاشر وهو سالف بن قدار وكان قدار أحمر أزرق قصيراً ولذلك قال بعض شعراء الجاهلية :
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم . . .
كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
قال الشّراح غلط وإنما هو أحمر ثمود وهو قدار وكان يشبّ في اليوم شباب غيره في السّنة وكان التسعة إذا رأوه قالوا : لو عاش بنونا كانوا مثل هذا فأحفظهم أن قتلوا أولادهم بكلام صالح فأجمعوا على قتله فكمنوا له في غار ليبيتوه ، ويأتي خبر التبييت وما جرى لهم في سورة النمل إن شاء الله ، وروي أنّ السبب في عقرها أن امرأتين من ثمود من أعداء صالح وهما عنيزة بنت غنم أم مجلز زوجة ذؤاب بن عمرو وتكنّى أم غنم عجوز ذات بنات حسان ومال من إبل وبقر وغنم وصدوف بنت المحيّا جميلة غنية ذات مواش كثيرة فدعت عنيزة على عقرها قداراً على أن تعطيه أيّ بناتها شاء وكان عزيزاً منيعاً في قومه ودعت صدوف رجلاً من ثمود يقال له الحباب إلى ذلك وعرضت نفسها عليه إن فعل فأبى فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج بن المحيا لذلك وجعلت له نفسها فأجاب قدار ومصدع واستغويا سبعة نفر فكانوا تسعة رهط فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وكمن قدار في أصل صخرة ومصدع في أصل أخرى فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت أم غنم عنيزة بابنتها وكانت من أحسن النساء فسفرت لقدار ثم مرت الناقة به فشدّ عليها بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة فطعن في لبّتها ونحرها وخرج أهل البلدة فاقتسموا لحمها وطبخوه وذكروا لسبقها حكاية الله أعلم بصحتها ، وقيل سبب عقرها أنّ قداراً شرب الخمر وطلبوا ماء لمزجها فلم يجدوه لشرب الناقة فعزموا على عقرها وكمن لها فرماها بالحرية ثم سقطت فعقرها ، وقال بعض شعراء العرب وقد ذكر قصة الناقة :

فأتاها أحيمر كأخي السه . . .
م بعضب فقال كوني عقيرا
{ وعتوا عن أمر ربهم } أي استكبروا عن امتثال أمر ربهم وهو ما أمر به تعالى على لسان صالح من قوله { فذروها تأكل فى أرض الله } ولا تمسّوها بسوء ومن اتباع أمر الله وهو دينه وشرعه ويجوز أن يكون المعنى صدر عتوهم عن أمر ربهم كأنّ أمر ربهم بتركها كان هو السبب في عتوّهم ونحو عن هذه ما في قوله { وما فعلته عن أمري }
{ وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين } أي من العذاب لأنه كان سبق منه ولا تمسّوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم فاستعجلوا ما وعدهم به من ذلك إذ كانوا مكذبين له في الإخبار بذلك الوعيد وبغيره ولذلك علقوه بما هم به كافرون وهو كونه من المرسلين ، وقرأ ورش والأعمش { يا صالح ائتنا } وأبو عمرو إذا أدرج بإبدال همزة فاء { ائتنا } واو الضمة جاء صالح ، وقرأ باقي السبعة بإسكانها وفي كتاب ابن عطية قال أبو حاتم : قرأ عيسى وعاصم أوتنا بهمز وإشباع ضمّ انتهى ، فلعله عاصم الجحدري لا عاصم بن أبي النجود أحد قراء السبعة.

{ فأخذتهم الرّجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين } روي أن السّقب لما عقروا الناقة رغا ثلاثاً فقال صالح لكلّ رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام فقالوا هازئين به متى ذلك وما آية ذلك فقال تصبحون غداة مؤنس مصفرة وجوهكم وغداة العروبة محمريها ويوم شيار مسوديها ثم يصبحكم العذاب يوم أول يوم وهو يوم الأحد فرام التسعة عاقرو الناقة قتله وبيتوه فدمغتهم الملائكة بالحجارة فقالوا له أنت قتلتهم وهمّوا بقتله فحمته عشيرته وقالوا : وعدكم أن العذاب نازل بكم بعد ثلاث فإن صدق لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضباً وإن كذّب فأنتم من وراء ما تريدون فأصبحوا يوم الخميس مصفرّي الوجوه كأنها طليت بالخلوق فطلبوه ليقتلوه فهرب إلى بطن من ثمود يقال له بنو غنم فنزل على سيدهم أبي هدب لقيل وهو مشرك فغيبه ولم يقدروا عليه فعذّبوا أصحاب صالح فقال : منهم مبدع بن هدم يا نبي الله عذّبونا لندلّهم عليك أفندلّهم قال : نعم فدلّهم عليه فأتوا أبا هدب فقال لهم : عندي صالح ولا سبيل لكم عليه فأعرضوا عنه وشغلهم ما نزل بهم فأصبحوا في الثاني محمّري الوجوه كأنها خضبت بالدّم وفي الثالث مسوديها كأنها طليت بالقار وليلة الأحد خرج صالح ومن أسلم معه إلى أن نزل رملة فلسطين من الشام فأصبحوا متكفنين متحنطين ملقين أنفسهم بالأرض يقلبون أبصارهم لا يدرون من أين يأتيهم العذاب فلما اشتد الضحى أخذتهم صيحة من السماء فيها صوت كلّ صاعقة وصوت كل شيء له صوت في الأرض فقطعت قلوبهم وهلكوا كلهم إلا امرأة مقعدة كافرة اسمها دريعة بنت سلف عندما عاينت العذاب خرجت أسرع ما يرى حتى أتت وادي القرى فأخبرت بما أصاب ثمود واستسقت فشربت وماتت ، وقيل : خرج صالح ومن معه من قومه وهم أربعة آلاف إلى حضرموت فلما دخلوها مات صالح فسمي المكان حضرموت ، وقيل مات بمكة ابن ثمان وخمسين سنة وأقام في قومه عشرين سنة.
قال مجاهد والسدّي : { الرّجفة } الصيحة ، وقال أبو مسلم : الزلزلة الشديدة ، قال الزمخشري : { جاثمين } هامدين لا يتحركون موتى يقال : الناس جثوم أي قعود لا حراك بهم ولا ينسبون بنسبة ومنه المجثمة التي جاء النهي عنها وهي البهيمة تربط وتجمع قوائمها لترمى انتهى ، وقيل : معناه حمماً محترقين كالرّماد الجاثم ذهب هذا القائل إلى أنّ الصيحة اقترن بها صواعق محرقة ، قال الكرماني : حيث ذكر الرّجفة وهي الزلزلة وحدّ الدار وحيث ذكر الصيحة جمع لأن الصيحة كانت من السماء فبلوغها أكثر وأبلغ من الزلزلة فاتصل كل واحد منهما بما هو لائق به ، وقيل في دارهم أي في بلدهم كنى بالدار عن البلد ، وقيل : وحدّ والمراد به الجنس والفاء في { فأخذتهم } للتعقيب فيمكن العطف بها على قولهم { فأتنا بما تعدنا } على تقدير قرب زمان الهلاك من زمان طلب الإتيان بالوعد ولقرب ذلك كان العطف بالفاء ويمكن أن يقدر ما يصحّ العطف بالفاء عليه أي فواعدهم العذاب بعد ثلاث فانقضت { فأخذتهم الرّجفة } ولا منافاة بين { فأخذتهم الرجفة } وبين { فأخذتهم الصيحة } وبين { فأهلكوا بالطّاغية } كما ظنّ قوم من الملاحدة لأنّ الرجفة ناشئة عن الصّيحة صيح بهم فرجفوا فناسب أن يسند الأخذ لكل واحد منهما وأما فأهلكوا بالطاغية فالباء فيه للسببية أي أهلكوا بالفعلة الطاغية وهي الكفر أو عقر الناقة والطاغية من طغى إذا تجاوز الحدّ وغلب ومنه تسمية الملك والعاتي بالطاغية وقوله

{ إنا لما طغى الماء } وقال تعالى : { كذبت ثمود بطغواها } أي بسبب طغيانها حصل تكذيبهم ويمكن أن يراد بالطاغية الرّجفة أو الصّيحة لتجاوز كل منهما الحدّ.
{ فتولى عنهم وقال يا قَوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين } ظاهر العطف بالفاء أنّ هذا التولي كان بعد هلاكهم ومشاهدة ما جرى عليهم فيكون الخطاب على سبيل التفجّع عليهم والتحسّر لكونهم لم يؤمنوا فهلكوا والاغتمام لهم وليسمع ذلك من كان معه من المسلمين فيزدادوا إيماناً وانتفاء عن معصية الله واقتضاء لما جاء به نبيه عن الله ويكون معنى قوله ولكن { لا تحبّون الناصحين } ولكن كنتم لا تحبون الناصحين فتكون حكاية حال ماضية وقد خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر وروي أنه خرج في مائة وعشرين من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفاً وخمسمائة دار ، وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم ، وقيل : كان توليه عنهم وقت عقر الناقة وقولهم { ائتنا بما تعدنا } وذلك قبل نزول العذاب وهو الذي يقتضيه ظاهر مخاطبته لهم وقوله { ولكن لا تحبّون النّاصحين } وهو الذي في قصصهم من أنه رحل عنهم ليلة أن أخذتهم الرّجفة صبحتها ، وبعد ظهور أمارات الهلاك التي وعد بها قال الطبري : وقيل لهم تهلك أمة ونبيها فيها ، وروي أنه اترحل بمن معه حتى جاء مكة فأقام بها حتى مات ولفظة التولي تقتضي اليأس من خيرهم واليقين في هلاكهم وخطابه هذا كخطابهم نوح وهود عليهما السلام في قولهما { أبلغكم رسالات ربي } وذكر النصح بعد ذلك لكنه لما كان قوله { أبلغتكم } ماضياً عطف عليه ماضياً فقال : { ونصحت } ، وقوله : { لا تحبون الناصحين } أي من نصح لك من رسول أو غيره أي ديدنكم ذلك لغلبة شهواتكم على عقولكم.
وجاء لفظ { الناصحين } عامّاً أي أيّ شخص نصح لكم لم تقبلوا في أي شيء نصح لكم وذلك مبالغة في ذمّهم.
وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من مائها ولا يستقوا منها فقالوا : يا رسول الله قد طبخنا وعجنّا ، فأمرهم أن يطرحوا ذلك الطبيخ والعجين ويهرقوا ذلك الماء وأمرهم أن يستقوا من الماء الذي كانت ترده ناقة صالح وإلى الأخذ بهذا الحديث ، أخذ أبو محمد بن حزم في ذهابه إلى أنه لا يجوز الوضوء بماء أرض ثمود إلا إن كان من العين التي كانت تردها الناقة ، وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مرّ بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه :

« لا يدخل أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم » وفي الحديث أنه مر بقبر فقال « أتعرفون ما هذا » ؟ قالوا لا قال « هذا قبر أبي رغال الذي هو أبو ثقيف كان من ثمود فأصاب قومه البلاء وهو بالحرم فسلّم فلما خرج من الحرم أصابه فدفن هنا وجعل معه غصن من ذهب » قال فابتدر القوم بأسيافهم فحفروا حتى أخرجوا الغصن.
{ ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين } هو لوط بن هارون أخي إبراهيم عليه السلام وناحور وهم بنو تارح بن ناحور وتقدّم رفع نسبه وقوله هم أهل سدوم وسائر القرى المؤتفكة بعثه الله تعالى إليهم ، وقال ابن عطية بعثه الله إلى أمّة تسمى سدوم وانتصب { لوطاً } بإضمار وأرسلنا عطفاً على الأنبياء قبله و { إذ } معمولة { لأرسلنا } وجوّز الزمخشري وابن عطية : نصبه بواذكر مضمرة زاد الزمخشري أنّ { إذ } بدل من لوط أي واذكر وقت قال لقومه ، وقد تقدم الكلام على كون إذ تكون مفعولاً بها صريحاً لأذكر وأنّ ذلك تصرف فيها والاستفهام هو على جهة الإنكار والتوبيخ والتشنيع والتوقيف على هذا الفعل القبيح و { الفاحشة } هنا إتيان ذكران الآدميين في الادبار ولما كان هذا بالفعل معهوداً قبحه ومركوزاً في العقول فحشه أتى معرّفاً بالألف واللام أن تكون أل فيه للجنس على سبيل المبالغة كأنه لشدة قبحه جعل جميع الفواحش ولبعد العرب عن ذلك البعد التام وذلك بخلاف الزنا فإنه قال فيه : { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة } فأتى به منكراً أي فاحشة من الفواحش وكان كثير من العرب يفعله ولا يستنكرون من فعله ولا ذكره في أشعارهم والجملة المنفية تدلّ على أنهم هم أول من فعل هذه الفعلة القبيحة وأنهم مبتكروها والمبالغة في { من أحد } حيث زيدت لتأكيد نفي الجنس وفي الإتيان بعموم العالمين جمعاً.
قال عمر بن دينار : ما رئي ذكر على ذكر قبل قوم لوط روي أنهم كان يأتي بعضهم بعضاً ، وقال الحسن : كانوا يأتون الغرباء كانت بلادهم الأردن تؤتى من كل جانب لخصبها فقال لهم إبليس هو في صورة غلام إن أردتم دفع الغرباء فافعلوا بهم هكذا فمكنهم من نفسه تعليماً ثم فشا واستحلوا ما استحلوا وأبعد من ذهب إلى أنّ المراد من عالمي زمانهم ومن ذهب إلى أن المعنى { ما سبقكم } إلى لزومها ويشهدها وفي تسمية هذا الفعل بالفاحشة دليل على أنه يجري مجرى الزنا يرجم من أحصن ويجلد من لم يحصن وفعله عبد الله بن الزبير أتى بسبعة منهم فرجم ربعة أحصنوا وجلد ثلاثة وعنده ابن عمر وابن عباس ولم ينكروا وبه قال الشافعي ، وقال مالك : يرجم أحصن أو لم يحصن وكذا المفعول به إن كان محتلماً وعنده يرجم المحصن ويؤدّب ويحبس غير المحصن وهو مذهب عطية وابن المسيب والنخعي وغيرهم وعن مالك أيضاً يعزر أو لم يحصن وهو مذهب أبي حنيفة وحرق خالد بن الوليد رجلاً يقال له الفجاء عمل ذلك العمل وذلك برأي أبي بكر وعليّ وأنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمع رأيهم عليه وفيهم عليّ بن أبي طالب ، وروي أنّ ابن الزبير أحرقهم في زمانه وخالد القشيري بالعراق وهشام.

{ وما سبقكم } جملة حالية من الفاعل أو من { الفاحشة } لأنّ في { سبقكم بها } ضميرهم وضميرها ، وقال الزمخشري : هي جملة مستأنفة أنكر عليهم أولاً بقوله { أتأتون الفاحشة } ثم وبّخهم عليها فقال : أنتم أول من عملها أو على أنه جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا لم لا نأتيها فقال : { ما سبقكم بها أحد } فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به ، وقال الزمخشري : والباء للتعدية من قولك سبقته بالكرة إذا ضربتها قبله ومنه قوله عليه السلام « سبقك بها عكاشة » انتهى ، ومعنى التعدية هنا قلق جداً لأنّ الباء المعدية في الفعل المتعدي إلى واحد هي بجعل المفعول الأول يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة وبيان ذلك أنك إذا قلت صككت الحجر بالحجر فمعناه أصككت الحجر الحجر أي جعلت الحجر يصك الحجر وكذلك دفعت زيداً بعمرو عن خالد معناه أدفعت زيداً عمراً عن خالد أي جعلت زيداً يدفع عمراً عن خالد فللمفعول الأوّل تأثير في الثاني ولا يتأتّى هذا المعنى هنا إذ لا يصحّ أن يقدّر أسبقت زيداً الكرة أي جعلت زيداً يسبق الكرة إلا بمجاز متكلّف وهو أن تجعل ضربك للكرة أول جعل ضربة قد سبقها أي تقدّمها في الزمان فلم يجتمعا.
{ إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون } هذا بيان لقوله { أتأتون الفاحشة } وأتى هنا من قوله أتى المرأة غشيها وهو استفهام على جهة التوبيخ والإنكار ، وقرأ نافع وحفص { إنكم } على الخبر المستأنف و { شهوة } مصدر في موضع الحال قاله الحوفي وابن عطية ، وجوّزه الزمخشري وأبو البقاء أي مشتهين تابعين للشهوة غير ملتفتين لقبحها أو مفعول من أجله قاله الزمخشري ، وبدأ به البقاء أي للاشتهاء لا حامل لكم على ذلك إلا مجرد الشهوة ولا ذم أعظم منه لأنه وصف لهم بالبهيمة وأنهم لا داعي لهم من جهة العقل كطلب النسل ونحوه و { من دون النساء } في موضع الحال أي منفردين عن النساء ، وقال الحوفي : { من دون النساء } متعلّق بشهوة و { بل } هنا للخروج من قصة إلى قصة تنبىء بأنهم متجاوزو الحد في الاعتداء ، وقيل إضراب عن تقريرهم وتوبيخهم والإنكار أو عن الإخبار عنهم بهذه المعصية الشنيعة إلى الحكم عليهم بالحال التي تنشأ عنها القبائح وتدعوا إلى اتّباع الشهوات وهي الإسراف وهو الزيادة المفسدة لما كانت عادتهم الإسراف أسرفوا حتى في باب قضاء الشهوة وتجاوزوا المعتاد إلى غيره ونحوه

{ بل أنتم قوم عادون } ، وقيل إضراب عن محذوف تقديره ما عدلتم بل أنتم ، وقال الكرماني بل ردّ لجواب زعموا أن يكون لهم عذر أي لا عذر لكم ولا حجّة { بل أنتم } وجاء هنا { مسرفون } باسم الفاعل ليدلّ على الثبوت ولموافقة ما سبق من رؤوس الآي في ختمها بالأسماء وجاء في النمل { تجهلون } بالمضارع لتجدد الجهل فيهم ولموافقة ما سبق من رؤوس الآي في ختمها بالأفعال.
{ وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم } الضمير في { أخرجوهم } عائد على لوط ومن آمن به ولما تأخر نزول هذه السورة عن سورة النمل أضمر ما فسره الظاهر في النمل من قوله { أخرجوا آل لوط من قريتكم } وآل لوط ابنتاه وهما رغواء وريفاء ومن تبعه من المؤمنين ، وقيل : لم يكن معه إلا ابنتاه كما قال تعالى : { فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } وقال ابن عطية : والضمير عائد على آل لوط وأهله وإن كان لم يجر لهم ذكر فإن المعنى يقتضيهم ، وقرأ الحسن { جواب } بالرفع انتهى وهنا جاء العطف بالواو والمراد بها أحد محاملها الثلاث من التعقيب المعني في النمل في قوله { تجهلون } فما وفي العنكبوت { وتأتون في ناديكم المنكر } فما وكان التعقيب مبالغة في الرد حيث لم يمهلوا في الجواب زماناً بل أعجلوه بالجواب سرعة وعدم البراءة بما يجاوبون به ولم يطابق الجواب قوله لأنه لما أنكر عليهم الفاحشة وعظم أمرها ونسبهم إلى الإسراف بادروا بشيء لا تعلّق له بكلامه وهو الأمر بالإخراج ونظيره جواب قوم إبراهيم بأن قالوا { حرّقوه وانصروا آلهتكم } حتى قبح عليهم بقوله { أفّ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون } فأتوا بجواب لا يطابق كلامه والقرية هي سدوم سميت باسم سدوم بن باقيم الذي يضرب المثل في الحكومات هاجر لوط مع عمه إبراهيم من أرض بابل فنزل إبراهيم أرض فلسطين وأنزل لوطاً الأردن.
{ إنهم أناس يتطهرون } قال ابن عباس ومجاهد يتقذّرون عن إتيان أدبار الرجال والنساء ، وقيل يأتون النساء في الأطهار ، وقال ابن بحر : يرتقبون أطهار النساء فيجامعونهنّ فيها ، وقيل : يتنزهون عن فعلنا وهو معنى قول ابن عباس ومجاهد ، وقيل : يغتسلون من الجنابة ويتطهرون بالماء عيروهم بذلك ويسمى هذا النوع في علم البيان التعريض بما يوهم الذمّ وهو مدح كقوله :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم . . .
بهنّ فلول من قراع الكتائب
ولذلك قال ابن عباس : عابوهم بما يمدح به ، والظاهر أن قوله { أنهم } تعليل للإخراج أي لأنهم لا يوافقوننا على ما نحن عليه ومن لا يوافقنا وجب أن نخرجه ، وقال الزمخشري : وقولهم { إنهم أناس يتطهرون } سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش وافتخار بما كانوا فيه من القذارة كما يقول الشيطان من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهّد.
{ فأنجيناه وأهله إلا امرأته من الغابرين } أي { فأنجيناه وأهله } من العذاب الذي حل بقومه { وأهله } هم المؤمنون معه أو ابنتاه على الخلاف الذي سبق واستثنى من أهله امرأته فلم تنجُ واسمها واهلة كانت منافقة تسرّ الكفر موالية لأهل سدوم ومعنى { من الغابرين } من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا وعلى هذا يكون قوله { كانت من الغابرين } تفسيراً وتوكيداً لما تضمنه الاستثناء من كونها لم ينجها الله تعالى.
وقال أبو عبيدة : { إلا امرأته } اكتفى به في أنها لم تنجُ ثم ابتدأ وصفها بعد ذلك بصفة لا تتعلق بها النجاة ولا الهلكة وهي أنها كانت ممن أسن وبقي من عصره إلى عصر غيره فكانت غابرة أي متقدّمة في السن كما قال : إلا عجوزاً في الغابرين إلى أن هلكت مع قومها انتهى ، وجاء { من الغابرين } تغليباً للذكور على الإناث ، وقال الزّجاج : من الغائبين عن النجاة فيكون توكيداً لما تضمنه الاستثناء انتهى ، و { كانت } بمعنى صارت أو كانت في علم الله أو باقية على ظاهرها من تقييد غبورها بالزمان الماضي أقوال.
{ وأمطرنا عليهم مطراً } ضمن { أمطرنا } معنى أرسلنا فلذلك عداه بعلى كقوله فأمطرنا عليهم حجارة من السماء والمطر هنا هي حجارة وقد ذكرت في غير آية خسف بهم وأمطرت عليهم الحجارة ، وقيل : كانت المؤتفكة خمس مدائن ، وقيل : ست ، وقيل : أربع اقتلعها جبريل بجناحه فرفعها حتى سمع أهل السماء نهيق الحمير وصياح الديكة ثم عكسها فرد أعلاها أسفلها وأرسلها إلى الأرض ، وتبعتهم الحجارة مع هذا فأهلكت من كان منهم في سفر أو خارجاً عن البقاع وقالت امرأة لوط حين سمعت الرجّة واقوماه والتفتت فأصابتها صخرة فقتلتها ، والظاهر أن الأمطار شملهم كلهم ، وقيل : خسف بأهل المدن وأمطرت الحجارة على المسافرين منهم ، وسئل مجاهد هل سلم منهم أحد قال لا إلا رجلاً كان بمكة تاجراً وقف الحجر له أربعين يوماً حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فأصابه فمات وكان عددهم مائة ألف.
{ فانظر كيف كان عاقبة المجرمين } خطاب للرسول أو للسامع قصتهم كيف كان مآل من أجرم وفيه إيقاظ وازدجار أن تسلك هذه الأمة هذا المسلك و { المجرمين } عام في قوم نوح وهود وصالح ولوط وغيرهم وهو من نظر التفكر أو من نظر البصر فيمن بقيت له آثار منازل ومساكن كثمود وقوم لوط كما قال تعالى

{ وعاداً وثموداً وقد تبين لكم من مساكنهم }
{ وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره }.
قال الفرّاء { مدين } اسم بلد وقطر وأنشد :
رهبان مدين لو زأوك تنزلوا . . .
فعلى هذا التقدير وإلى أهل مدين ، وقيل : اسم قبيلة سميت باسم أبيها مدين بن إبراهيم قاله مقاتل وأبو سليمان الدمشقي ، وشعيب قيل : هو ابن بنت لوط ، وقيل زوج بنته وهذه مناسبة بين قصته وقصة لوط وشعيب اسم عربي تصغير شعب أو شعب والجمهور على أنّ مدين أعجمي فإن كان عربياً احتمل أن يكون فعيلاً من مدين بالمكان أقام به وهو بناء نادر ، وقيل : مهمل أو مفعلاً من دان فتصحيحه شاذ كمريم ومكورة ومطيبة وهو ممنوع الصّرف على كل حال سواء كان اسم أرض أو اسم قبيلة أعجمياً أم عربياً واختلفوا في نسب شعيب ، فقال عطاء وابن إسحاق وغيرهما : هو شعيب بن ميكيل بن سجن بن مدين بن إبراهيم واسمه بالسّريانية بيروت ، وقال الشرقي بن القطامي : شعيب بن عنقاء بن ثويب بن مدين بن إبراهيم ، وقال أبو القاسم اسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي الطلحيّ الأصبهاني في كتاب الإيضاح في التفسير من تأليفه : هو شعيب بن ثويب بن مدين بن إبراهيم ، وقيل : شعيب بن جذي بن سجن بن اللام بن يعقوب ، وكذا قال ابن سمعان إلا أنه جعل مكان اللام لاوي ولا يعرف في أولاد يعقوب اللام فلعله تصحيف من لاوي ، وقيل : شعيب بن صفوان بن عنقاء بن ثويب بن مدين بن إبراهيم ، وقال الشريف النسابة الجوّاني : وهو المنتهى إليه في هذا العلم هو شعيب بن حبيش بن وائل بن مالك بن حرام بن جذام واسمه عامر أخو نجم وهما ولدا الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر هود عليه السلام فبينه وبين هود في هذا النسب الأخير ثمانية عشر أباً وبينهما في بعض النسب المذكور سبعة آباء لأنه ذكر فيه أنه شعيب بن ثويب بن مدين بن إبراهيم وإبراهيم هو ابن تارح بن ناحور بن ساروغ بن أزغو بن فالغ بن عابر وهو هود عليه السلام وكان يقال لشعيب : خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه ، قال قتادة : أرسل مرتين مرّة إلى مدين ومرة إلى أصحاب الأيكة وتعلّق إلى مدين وانتصب { أخاهم } بأرسلنا وهذا يقوي قول من نصب لوطاً بأرسلنا وجعله معطوفاً على الأنبياء قبله.
{ قد جاءتكم بينة من ربّكم } قرأ الحسن آية من ربكم وهذا دليل على أنه جاء بالمعجزة إذ كان نبيّ لا بدّ له من معجزة تدلّ على صدقه لكنه لم يعين هنا ما المعجزة ولا من أي نوع هي كما أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزات كثيرة جدّاً لم تعين في القرآن وقال قوم : كان شعيب نبيّاً ولم تكن له بينة والبينة هنا الموعظة وأنكر الزجاج هذا القول وقال : لا تقبل نبوة بغير معجزة ومن معجزاته أنه دفع إلى موسى عصاه وتلك العصا صارت تنيناً ، وقال الزمخشري : ومن معجزات شعيب ما روي من محاربة عصا موسى التنين حين دفع إليه غنمة وولادة الغنم الدّرع خاصة حين وعده أن يكون له الدّرع من أولادها ووقوع عصا آدم على يده في المرّات السبع وغير ذلك من الآيات لأنّ هذه كلها كانت قبل أن ينبأ موسى عليه السلام فكانت معجزات لشعيب ، وقال الزجاج : وأيضاً قال لموسى عليه السلام هذه الأغنام تلد أولاداً فيها سواد وبياض وقد وهبتها لك فكان الأمر كما أخبر عنه وهذه الأحوال كلها كانت معجزة لشعيب عليه السلام لأنّ موسى عليه السلام في ذلك الوقت ما ادّعى الرسالة انتهى ، وما قاله الزمخشري متّبعاً فيه الزجاج هو قول المعتزلة وذلك أن الإرهاص وهو ظهور المعجزة على يد من سيصير نبيّاً ورسولاً بعد ذلك مختلف في جوازه فالمعتزلة تقول : هو غير جائز فلذلك جعلوا هذه المعجزات لشعيب وأهل السنّة يقولون بجوازه فهي إرهاص لموسى بالنبوة قبل الوحي إليه والحجج للمذهبين مذكورة في أصول الدين.

{ فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم } أمرهم أولاً بشيء خاص وهو إيفاء الكيل والميزان ثم نهاهم عن شيء عام وهو قوله { أشياءهم } و { الكيل } مصدر كنى به عن الآلة التي يكال بها كقوله في هود { المكيال والميزان } فطابق قوله { والميزان } أو هو باق على المصدرية وأريد بالميزان المصدر كالميعاد لا الآلة فتطابقا أو أخذ الميزان على حذف مضاف أي ووزن الميزان والكيل على إرادة المكيال فتطابقا والبخس تقدّم شرحه في قوله { ولا يبخس منه شيئاً } و { أشياءهم } عام في كل شيء لهم ، وقيل : أموالهم ، وقال التبريزي : حقوقهم وفي إضافة الأشياء إلى الناس دليل على ملكهم إياها خلافاً للإباحيّة الزنادقة كانوا يبخسون الناس في مبايعاتهم وكانوا مكاسين لا يدعون شيئاً إلا مكسوه ومنه قيل للمكس البخس وروي أنهم كانوا إذا دخل الغريب بلدهم أخذوا دراهمه الجياد وقالوا هي زيوف فقطعوها قطعاً ثم أخذوها بنقصان ظاهر وأعطوه بدلها زيوفاً وكانت هذه المعصية قد فشت فيهم في ذلك الزمان مع كفرهم الذي نالتهم الرّجفة بسببه.
{ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } تقدّم تفسير هذه الجملة قريباً في هذه السورة.
{ ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين } الإشارة إلى إيفاء الكيل والميزان وترك البخس والإفساد وخير أفعل التفضيل أي من التطفيف والبخس والإفساد لأنّ خيرية هذه لكم عاجلة جداً منقضية عن قريب منكم إذ يقطع الناس معاملتكم ويحذرونكم فإذا أوفيتم وتركتم البخس والإفساد جملت سيرتكم وحسنت الأحدوثة عنكم وقصدكم الناس بالتجارات والمكاسب فيكون ذلك أخير مما كنتم تفعلون لديمومة التجارة والأرباح بالعدل في المعاملات والتحلي بالأمانات ، وقيل : { ذلكم } إشارة إلى الإيمان الذي تضمنه قوله { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وإلى ترك البخس في الكيل والميزان ، وقيل : { خير } هنا ليست على بابها من التفضيل ولذلك فسّره ابن عطية بقوله أي ذاك نافع عند الله مكسب فوزه ورضوانه وظاهر قوله { إن كنتم مؤمنين } أنهم كانوا كافرين وعلى ذلك يدل صدر الآية وآخر القصة فمعنى ذلك أنه لا يكون ذلك لكم خيراً ونافعاً عند الله إلا بشرط الإيمان والتوحيد وإلا فلا ينفع عمل دون إيمان ، وقال الزمخشري { إن كنتم مؤمنين } إن كنتم مصدقين لي في قولي { ذلكم خير لكم }.

وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)

{ ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجاً } الظاهر النهي عن القعود بكل طريق لهم عن ما كانوا يفعلونه من إيعاد الناس وصدّهم عن طريق الدّين ، قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدّي : كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون : إنه كذاب فلا تذهب إليه على نحو ما كانت تفعله قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال السدّي : هذا نهي العشارين والمتقبلين ونحوه من أخذ أموال الناس بالباطل ، وقال أبو هريرة : هو نهي عن السّلب وقطع الطريق وكان ذلك من فعلهم وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « رأيت ليلة أسري بي خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته فقلت ما هذا يا جبريل فقال هذا مثل لقوم من أمّتك يقعدون على الطريق فيقطعونه » ثم تلا { ولا تقعدوا بِكل صراط توعدون } وفي هذا القول والقول الذي قبله مناسبة لقوله { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } لكن لا تظهر مناسبة لهما بقوله { وتصدون عن سبيل الله من آمن به } بل ذلك يناسب القول الأول قال القرطبي : قال علماؤنا ومثلهم اليوم هؤلاء المكاسون الذين يأخذون من الناس ما لا يلزمهم شرعاً من الوظائف الماليّة بالقهر والجبر وضمنوا ما لا يجوز ضمان أصله من الزكاة والمواريث والملاهي والمترتّبون في الطرق إلى غير ذلك مما قد كثر في الوجود وعمل به في سائر البلاد وهو من أعظم الذنوب وأكبرها وأفحشها فإنه غضب وظلم وعسف على الناس وإذاعة للمنكر وعمل به ودوام عليه وإقرار له وأعظمه تضمين الشرع والحكم للقضاء فإنا لله وإنا إليه راجعون ، لم يبق من الإسلام إلا رسمه ولا من الدّين إلا اسمه انتهى كلامه.
وقد قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال والأعراض بالدماء في قوله في حجة الوداع : « ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حراماً » وما أكثر ما تساهل الناس في أخذ الأموال وفي الغيبة ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قتل دون ماله فهو شهيد » والعجب إطباق من يتظاهر بالصلاح والدين والعلم على عدم إنكار هذه المكوس والضمانات وادعاء بعضهم أنه له تصرف في الوجود ودلال على الله تعالى بحيث إنه يدعو فيستجاب له فيما أراد ويضمن لمن كان من أصحابه وأتباعه الجنة وهو مع ذلك يتردّد لأصحاب المكوس ويتذلل إليهم في نزع شيء حقير وأخذه من المكس الذي حصّلوه وهذه وقاحة لا تصدر ممن شمّ رائحة الإيمان ولا تعلق بشيء من الإسلام ، وقال بعض الشعراء :

تساوى الكلّ منا في المساوي . . .
فأفضلنا فتيلاً ما يساوي
وعلى الأقوال السابقة يكون القعود بكل صراط حقيقة وحمل القعود والصراط الزمخشري على المجاز ، فقال ولا تقتدوا بالشيطان في قوله { لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم } فتقعدوا بكل صراط أي بكل منهاج من مناهج الدّين والدليل على أن المراد بالصراط سبيل الحق قوله { وتصدون عن سبيل الله } ، فإن قلت : صراط الحقّ واحد { وإنّ هذا صراطي مستقيماً فأتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } فكيف قيل بكل صراط ، ( قلت ) : صراط الحقّ واحد ولكنه يتشعّب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة فكانوا إذا رأوا واحداً يشرع في شيء منه منعوه وصدّوه انتهى.
ولا تظهر الدلالة على أن المراد بالصراط سبيل الحق من قوله { وتصدون عن سبيل اللهِ } كما ذكر بل الظاهر التغاير لعموم كل صراط وخصوص سبيل الله فيكون { بكل صراط } حقيقة في الطرق ، و { سبيل الله } مجاز عن دين الله والباء في { بكل صراط } ظرفية نحو زيد بالبصرة أي في كل صراط وفي البصرة والجمل من قوله { توعدون } { وتصدون } { وتبغونها } أحوال أي موعدين وصادّين وباغين والإيعاد ذكر إنزال المضار بالموعد ولم يذكر الموعد به لتذهب النفس فيه كل مذهب من الشرّ لأن أوعد لا يكون إلا في الشر وإذا ذكر تعدى الفعل إليه بالباء.
قال أبو منصور الجواليقي : إذا أرادوا أن يذكروا ما يهددوا به مع أوعدت جاؤوا بالباء فقالوا : أوعدته بالضرب ولا يقولون أعدته الضرب والصدّ يمكن أن يكون حقيقة في عدم التمكين من الذهاب إلى الرسول ليسمع كلامه ويمكن أن يكون مجازاً عن الإيعاد من الصادّ بوجه ما أوعن وعد المصدود بالمنافع على تركه و { من آمن } مفعول بتصدون على إعمال الثاني ومفعول { توعدون } ضمير محذوف والضمير في { به } الظاهر أنه على { سبيل الله } وذكره لأن السبيل تذكر وتؤنث ، وقيل عائد على الله ، وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : إلام يرجع الضمير في آمن به ، ( قلت ) : إلى كلّ صراط تقديره توعدون من آمن به وتصدون عنه فوضع الظاهر الذي هو سبيل الله موضع الضمير زيادة في تقبيح أمرهم دلالة على عظم ما يصدّون عنه انتهى وهذا تعسّف في الإعراب لا يليق بأن يحمل القرآن عليه لما فيه من التقديم والتأخير ووضع الظاهر موضع المضمر من غير حاجة إلى ذلك وعود الضمير على أبعد مذكور مع إمكان عوده على أقرب مذكور الإمكان السائغ الحسن الراجح وجعل { من آمن } منصوباً بتوعدون فيصير من إعمال الأوّل وهو قليل.
وقد قال النحاة أنه لم يرد في القرآن لقلته ولو كان من إعمال الأول للزم ذكر الضمير في الفعل الثاني وكان يكون التركيب { وتصدونه } أو وتصدونهم إذ هذا الضمير لا يجوز حذفه على قول الأكثرين إلا ضرورة على قول بعض النحاة يحذف في قليل من الكلام ويدلّ على { من آمن } منصوب بتصدون الآية الأخرى وهي قوله :

{ قل يا أهل الكتاب لمَ تصدون عن سبيل الله من آمن } ولا يحذف مثل هذا الضمير إلا في شعر وأجاز بعضهم حذفه على قلة مع هذه التكليفات المضافة إلى ذلك فكان جديراً بالمنع لما في ذلك من التعقيد البعيد عن الفصاحة وأجاز ابن عطية أن يعود على شعيب في قول من رأى القعود على الطريق للرد عن شعيب وهذا بعيد لأن القائل { ولا تقعدوا } وهو شعيب فكان يكون التركيب من آمن بي ولا يسوغ هنا أن يكون التفافاً لو قلت : يا هند أنا أقول لك لا تهيني من أكرمه تريد من أكرمني لم يصحّ وتقدم تفسير مثل قوله { وتبغونها عوجاً } في آل عمران.
{ واذكروا إذا كنتم قليلاً فكثركم } قال الزمخشري { إذ } مفعول به غير ظرف أي { واذكروا } على جهة الشكر وقت كونكم { قليلاً } عددكم { فكثركم } الله ووفر عددكم انتهى؛ وذكر غيره أنه منصوب على الظرف فلا يمكن أن يعمل فيه { واذكروا } لاستقبال اذكروا وكون { إذ } ظرفاً لما مضى والقلّة والتكثير هنا بالنسبة إلى الأشخاص أو إلى الفقر والغنى أو إلى قصر الأعمار وطولها أقوال ثلاثة أظهرها الأول.
قيل : إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء فكثروا وفشوا ، وقال الزمخشري : إذ كنتم أقلة أذلّة فأعزّكم بكثرة العدد والعدد انتهى ولا ضرورة تدعو إلى حذف صفة وهي أذلّة ولا إلى تحميل قوله { فكثركم } معنى بالعدد ألا ترى أنّ القلة لا تستلزم الذلّة ولا الكثرة تستلزم العزّ ، وقال الشاعر :
تعيّرنا أنّا قليل عديدنا . . .
فقلت لها إنّ الكرام قليل
وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا . . .
عزيز وجار الأكثرين ذليل
وقيل : المراد مجموع الأقوال الأربعة فإنه تعالى كثّر عددهم وأرزاقهم وطوّل أعمارهم وأعزّهم بعد أن كانوا على مقابلاتها.
{ وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } هذا تهديد لهم وتذكير بعاقبة من أفسد قبلهم وتمثيل لهم بمن جلّ به العذاب من قوم نوح وهود وصالح ولوط وكانوا قريبي عهد بما أجاب المؤتفكة.
{ وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبِروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين } هذا الكلام من أحسن ما تلطف به في المحاورة إذ برز المتحقق في صورة المشكوك فيه وذلك أنه قد آمن به طائفة بدليل قول المستكبرين عن الإيمان { لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك } وهو أيضاً من بارع التقسيم إذ لا يخلو قومه من القسمين والذي أرسل به هنا ما أمرهم به من إفراد الله تعالى بالعبادة وإيفاء الكيل والميزان ونهاهم عنه من البخس والإفساد والقعود المذكور ومتعلق { لم يؤمنوا } محذوف دلّ عليه ما قبله وتقديره لم يؤمنوا به والخطاب بقوله { منكم } لقومه وينبغي أن يكون قوله { فاصبِروا } خطاباً لفريقي قومه من آمن ومن لم يؤمن { بيننا } أي بين الجميع فيكون ذلك وعداً للمؤمنين بالنصر الاذي هو نتيجة الصّبر فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا وعيداً للكافرين بالعقوبة والخسار ، وقال ابن عطية : المعنى وإن كنتم يا قوم قد اختلفتم علي وشعبتم بكفركم أمري فآمنت طائفة وكفرت طائفة فاصبروا أيها الكفرة حتى يأتي حكم الله بيني وبينكم ففي قوله فاصبروا قوة التهديد والوعيد هذا ظاهر الكلام وأنّ المخاطبة بجميع الآية للكفار ، قال النقاش وقال مقاتل بن سليمان : المعنى { فاصبِروا } يا معشر الكفار قال : وهذا قول الجماعة انتهى ، وهذا القول بدأ به الزمخشري ، فقال { فاصبروا } فتربصوا وانتظروا { حتى يحكم الله بيننا } أي بين الفريقين بأن ينصر المحقين على المبطلين ويظهرهم عليهم وهذا وعيد للكافرين بانتقام الله تعالى منهم لقوله تعالى

{ فتربصوا إنا معكم متربصون } انتهى.
قال ابن عطية : وحكى منذر بن سعيد عن أبي سعيد أنّ الخطاب بقوله { فاصبروا } للمؤمنين على معنى الوعد لهم وقاله مقاتل بن حيان انتهى وثنى به الزمخشري فقال أو هو موعظة للمؤمنين وحثّ على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله بينهم وينتقم لهم منهم انتهى ، والذي قدمناه أولاً من أنه خطاب للفريقين هو قول أبي علي وأتى به الزمخشري ثالثاً فقال : ويجوز أن يكون خطاباً للفريقين ليصبر المؤمنون على أذى الكفار وليصبر الكفار على ما يسوءهم من إيمان من آمن منهم حتى يحكم الله فيميز الخبيث من الطيّب انتهى ، وهو جار على عادته من ذكر تجويزات في الكلام توهّم أنها من قوله وهي أفعال للعلماء المتقدمين { وهو خير الحاكمين } لأنّ حكمه عدل لا يخشى أن يكون به حيف وجور.

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)

عاد رجع إلى ما كان عليه وتأتي بمعنى صار.
قال :
تعد فيكم جزر الجزور رماحنا . . .
ويرجعن بالأسياف منكسرات
ضحى ظرف متصرّف إن كان نكرة وغير متصرّف إذا كان من يوم بعينه وهو وقت ارتفاع الشمس إذا طلعت وهو مؤنث وشذّوا في تصغيره فقالوا : ضحى بغير تاء التأنيث وتقول أتيته ضحى وضحاء إذا فتحت الضّاد مددت ، الثعبان ذكر الحيّات العظيم أخذ من ثعبت بالمكان فجرته بالماء والمثعب موضع انفجار الماء لأن الثعبان يجري كالماء عند الانفجار.
الإرجاء التأخير ، المدينة معروفة مشتقة من مدن فهي فعيلة ومن ذهب إلى أنها مفعلة من دان فقوله ضعيف لإجماع العرب على الهمز في جمعها قالوا مدائن بالهمزة ولا يحفظ فيه مداين بالياء ولا ضرورة تدعو إلى أنها مفعلة ويقطع بأنها فعيلة جمعهم لها على فعل قالوا مدن كما قالوا صحف في صحيفة.
{ قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا } أي الكفار { الذين استكبروا } عن الإيمان أقسموا على أحد الأمرين إخراج شعيب وأتباعه أو عودتهم في ملته والقسم يكون على فعل المقسم وفعل غيره سوّوا بين نفيه ونفي أتباعه وبين العود في الملّة وهذا يدلّ على صعوبة مفارقة الوطن إذ قرنوا ذلك بالعود إلى الكفر وفي الإخراج والعود طباق معنوي وعاد كما تقدّم لها استعمالان أحدهما أن تكون بمعنى صار والثاني بمعنى رجع إلى ما كان عليه فعلى الأوّل لا إشكال في قوله أو لتعودن إذ صار فعلاً مسنداً إلى شعيب وأتباعه ولا يدلّ على أن شعيباً كان في ملتهم وعلى المعنى الثاني يشكل لأنّ شعيباً لم يكن في ملتهم قط لكن أتباعهم كانوا فيها ، وأجيب عن هذا بوجوه ، أحدها : أن يراد بعود شعيب في الملة حال سكوته عنهم قبل أن يبعث لإحالة الضلال فإنه كان يخفي دينه إلى أن أوحى الله إليه ، الثاني : أن يكون من باب تغليب حكم الجماعة على الواحد لما عطفوا أتباعه على ضميره في الإخراج سحبوا عليه حكمهم في العود وإن كان شعيب بريئاً مما كان عليه أتباعه قبل الإيمان ، الثالث : أن رؤساءهم قالوا ذلك على سبيل التلبيس على العامّة والإيهام أنه كان منهم { قال أولو كنا كارهين } أي أيقع منكم أحد هذين الأمرين على كل حال حتى في حال كراهيتنا لذلك والاستفهام للتوقيف على شنعة المعصية بما أقسموا عليه من الإخراج عن مواطنهم ظلماً أو الإقرار بالعود في ملتهم ، قال الزمخشري الهمزة للاستفهام والواو واو الحال تقديره أتعيدوننا في ملّتكم في حال كراهتنا أو مع كوننا كارهين انتهى ، فجعل الاستفهام خاصاً بالعود في ملتهم وليس كذلك بل الاستفهام هو عن أحد الأمرين الإخراج أو العود وجعل الواو واو الحال وقدره أتعيدوننا في حال كراهتنا وليست واو الحال التي يعبّر عنها النحويون بواو الحال بل هي واو العطف عطفت على حال محذوفة كقوله «ردّوا السائل ولو بظلف محرق» ليس المعنى ردّوه في حال الصدفة عليه بظلف محرق بل المعنى ردّوه مصحوباً بالصدقة ولو مصحوباً بظلف مخرق تقدم لنا إشباع القول في نحو هذا.

{ قَد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملّتكم بعد إذ نجانا الله منها } هذا إخباره مقيّد من حيث المعنى بالشرط وجواب الشرط محذوف من حيث الصناعة وتقديره { إن عدنا في ملتكم } فقد افترينا وليس قوله { قَد افترينا على الله كذباً } هو جواب الشرط إلا على مذهب من يجيز تقديم جواب الشرط على الشرط فيمكن أن يخرج هذا عليه وجوّزوا في هذه الجملة وجهين أحدهما أن يكون إخباراً مستأنفاً ، قال الزمخشري : فيه معنى التعجّب كأنهم قالوا ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام لأنّ المرتدّ أبلغ في الافتراء من الكافر يعني الأصلي لأن الكافر مفتر على الله الكذب حيث يزعم أن لله ندّاً ولا ندّ له والمرتد مثله في ذلك وزائد عليه حيث يزعم أنه قد بيّن له ما خفي عليه من التمييز ما بين الحق والباطل.
وقال ابن عطية : الظاهر أنه خبر أي قد كنا نواقع أمراً عظيماً في الرجوع إلى الكفر ، والوجه الثاني أن يكون قسماً على تقدير حذف اللام أي والله لقد افترينا ذكره الزمخشري وأورده ابن عطية احتمالاً قال : ويحتمل أن يكون على جهة القسم الذي هو في صيغة الدّعاء مثل قول الشاعر :
بقيت وفري وانحرفت عن العلا . . .
ولقيت أضيافي بوجه عبوس
وكما تقول افتريت على الله أن كلمت فلاناً ولم ينشد ابن عطية البيت الذي يقيّد قوله بقيت وما بعده بالشرط وهو قوله :
إن لم أشن على ابن هند غارة . . .
لم تخلُ يوماً من نهاب نفوس
ولما كان أمر الدّين هو الأعظم عند المؤمن والمؤثر على أمر الدنيا لم يلتفتوا إلى الإخراج وإن كان أحد الأمرين هو الأعظم عند المؤمن والمؤثر على الكذب أقسم على وقوعه الكفار فقالوا قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملّتكم وتقدّم تفسير العود بالصيرورة وتأويله إن كان في معنى الرجوع إلى ما كان الإنسان فيه بالنسبة إلى النبي المعصوم من الكبائر والصغائر.
{ وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا } أي وما ينبغي ولا يتهيّأ لنا { أن نعود } في ملّتكم { إلا أن يشاء الله ربّنا } فنعود فيها وهذا الاستثناء على سبيل عذق جميع الأمور بمشيئة الله وإرادته وتجويز العود من المؤمنين إلى ملتهم دون شعيب لعصمته بالنبوّة فجرى الاستثناء على سبيل تغليب حكم الجمع على الواحد وإن لم يكن ذلك الواحد داخلاً في حكم الجمع ، وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعبّد الله به المؤمنين مما تفعله الكفرة من القربات فلما قال لهم إنا لا نعود في ملّتكم ثم خشي أن يتعبّد الله بشيء من أفعال الكفرة فيعارض ملحد بذلك ويقول هذه عودة إلى ملتنا استثنى مشيئة الله فيما يمكن أن يتعبّد به انتهى ، وهذا الاحتمال لا يصحّ لأن قوله { بعد إذ نجانا الله منها } إنما يعني النجاة من الكفرة والمعاصي لا من أعمال البرّ ، وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بذلك معنى الاستبعاد كما تقول لا أفعل ذلك حتى يشيب الغراب وحتى يلج الجمل في سم الخياط وقد علم امتناع ذلك فهي إحالة على مستحيل وهذا تأويل حكاه المفسرون ولم يشعروا بما فيه انتهى ، وهذا تأويل إنما هو للمعتزلة مذهبهم أنّ الكفر والإيمان ليس بمشيئة من الله تعالى ، وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : وما معنى قوله { وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله } والله تعالى متعال أن يشاء ردة المؤمنين وعودهم في الكفر ، ( قلت ) : معناه إلا أن يشاء الله خذلاننا ومنعنا الإلطاف لعلمه تعالى أنها لا تنفع فينا ويكون عبثاً والعبث قبيح لا يفعله الحكيم والدليل عليه قوله { وسع ربنا كل شيء علماً } أي هو عالم بكل شيء مما كان ويكون وهو تعالى يعلم أحوال عباده كيف تتحوّل قلوبهم وكيف تنقلب وكيف تقسو بعد الرّقة وتمرض بعد الصحة وترجع إلى الكفر بعد الإيمان ويجوز أن يكون قوله { إلا أن يشاء الله } حسماً لطمعهم في العود لأن مشيئة الله تعالى بعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة انتهى وهذان التأويلان على مذهب المعتزلة ، وقيل : هذا الاستثناء إنما هو تسليم وتأدّب ، قال ابن عطية : وتعلق هذا التأويل من جهة استقبال الاستثناء ولو كان الكلام إن شاء قوى هذا التأويل انتهى وليس يقوي هذا التأويل لا فرق بين إلا أن يشاء وبين إلا أن شاء لأنّ إنّ تخلص الماضي للاستقبال كما تخلص أنْ المضارع للاستقبال وكلا الفعلين مستقبل وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في { فيها } يعود على القرية لا على الملح.

{ وسع ربنا كل شيء علماً } تقدم تفسير نظيرها في الأنعام في قصة إبراهيم عليه السلام.
{ على الله توكلنا } أي في دفع ما توعدتمونا به وفي حمايتنا من الضلال وفي ذلك استسلام الله وتمسّك بلطفه وذلك يؤيد التأويل الأوّل في إلا أن يشاء الله ، وقال الزمخشري : يثبتنا على الإيمان ويوفقنا لازدياد الإيقان.
{ ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين } أي احكم والفاتح والفتاح القاضي بلغة حمير وقيل بلغة مراد ، وقال بعضهم :

ألا أبلغ بني عصم رسولا . . .
فإني عن فتاحتكم غني
وقال ابن عباس : ما كنت أعرف معنى هذه اللفظة حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها تعال أفاتحْك أي أحاكمك ، وقال الفرّاء أهل عمان يسمون القاضي الفاتح ، وقال السدّي وابن بحر : احكم بيننا ، قال أبو إسحاق وجائز أن يكون المعنى أظهر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وبين قومنا وينكشف ذلك وذلك بأن ينزل بعدوّهم من العذاب ما يظهر به أنّ الحق معهم ، قال ابن عباس : كان كثير الصلاة ولما طال تمادى قومه في كفرهم ويئس من صلاحهم دعا عليهم فاستجاب دعاءه وأهلكهم بالرّجفة ، وقال الحسن : إنّ كل نبي أراد هلاك قومه أمره بالدعاء عليهم ثم استجاب له فأهلكهم.
{ وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون } أي قال بعضهم لبعض أي كبراؤهم لاتباعهم تثبيطاً عن الإيمان : { لئن اتبعتم شعيباً } فيما أمركم به ونهاكم عنه ، قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما جواب القسم الذي وطأته اللام في { لئن اتبعتم } وجواب الشرط؟ ( قلت ) : قوله { إنكم إذاً لخاسرون } سادّ مسدّ الجوابين انتهى ، والذي تقول النحويون إنّ جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ولذلك وجب مضي فعل الشرط فإن عنى الزمخشري بقوله سادّ مسدّ الجوابين إنه اجتزىء به عن ذكر جواب الشرط فهو قريب وإن عنى به أنه من حيث الصناعة النحوية فليس كما زعم لأن الجملة يمتنع أن تكون لا موضع لها من الإعراب وأن يكون لها موضع من الإعراب { وإذا } هنا معناها التوكيد وهي الحرف الذي هو جواب ويكون معه الجزاء وقد لا يكون وزعم بعض النحويين أنها في هذا الموضع ظرف العامل فيه { لخاسرون } والنون عوض من المحذوف والتقدير أنكم إذا اتبعتموه { لخاسرون } فلما حذف ما أضيف إليه عوض من ذلك النون فصادفت الألف فالتقى ساكنان فحذف الألف لالتقائهما والتعويض فيه مثل التعويض في يومئذ وحينئذ ونحوه وما ذهب إليه هذا الزاعم ليس بشيء لأنه لم يثبت التعويض والحذف في { إذا } التي للاستقبال في موضع فيحمل هذا عليه ، { لخاسرون } قال ابن عباس : مغبونون ، وقال عطاء : جاهلون ، وقال الضحاك : عجزة ، وقال الزمخشري : { لخاسرون } لاستبدالكم الضلالة بالهدى لقوله { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم } وقيل تخسرون باتباعه فوائد البخس والتطفيف لأنه ينهاكم عنه ويحملكم على الإيفاء والتسوية انتهى.
{ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين } تقدم تفسير مثل هذه الجملة ، قال ابن عباس وغيره : لما دعى عليهم فتح عليهم باب من جهنم بحرَ شديد أخذ بأنفاسهم فلم ينفعهم ظلّ ولا ماء فإذا دخلوا الأسراب ليتبرّدوا وجدوها أشدّ حرّاً من الظاهر فخرجوا هرباً إلى البرية فأظلتهم سحابة فيها ريح طيبة فتنادوا عليكم الظلة فاجتمعوا تحتها كلهم فانطبقت عليهم وألهبها الله ناراً ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلو فصاروا رماداً.

وروي أن الريح حبست عنهم سبعة أيام ثم سلّط عليهم الحر ، وقال يزيد الجريري : سلط عليهم الرّيح سبعة أيام ثم رفع لهم جبل من بعيد فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلك الجبل عليهم ، وقال قتادة : أرسل شعيب إلى أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلّة وإلى أصحاب مدين فصاح بهم جبريل صيحةً فهلكوا جميعاً وقال ابن عطية : ويحتمل أنّ فرقة من قوم شعيب هلكت بالرّجفة وفرقة هلكت بالظلّة ، وقال الطبري بلغني أنّ رجلاً منه يقال له عمرو بن جلّها لما رأى الظلة.
قال الشاعر :
يا قوم إن شعيباً مرسل فذروا . . .
عنكم سميراً وعمران بن شدّاد
إني أرى غيمة يا قوم قد طلعت . . .
تدعو بصوت على صمانة الواد
وإنه لن تروا فيها صحاء غد . . .
إلا الرّقيم تمشي بين أنجاد
سمير وعمران كاهناهم والرّقيم كلبهم ، وعن أبي عبد الله البجلي : أبو جاد وهوّز وحطى وكلمن وسعفص وقرشت أسماء كملوك مدين وكان كلمن ملكهم يوم نزول العذاب بهم زمان شعيب عليه السلام فلما هلك قالت ابنته تبكيه :
كلمن قد هدّ ركني . . .
هلكه وسط المحله
سيّد القوم أتاه . . .
حتف نار وسط ظله
جُعلت نار عليهم . . .
دارهم كالمضمحله
{ الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها } أي كأن لم يقيموا ناعمي البال رخيي العيش في دارهم وفيها قوة الإخبار عن هلاكهم وحلول المكروه بهم والتنبيه على الاعتبار بهم كقوله تعالى : { فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس } وكقول الشاعر :
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا . . .
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
وقال ابن عطية : وغنيت بالمكان إنما يقال في الإقامة التي هي مقترنة بتنعم وعيش رخي هذا الذي استقريت من الأشعار التي ذكرت العرب فيها هذه اللفظة وأنشد على ذلك عدّة أبيات ثم قال وأما قول الشاعر :
غنينا زماناً بالتصعلك والغنى . . .
فكلاًّ سقانا بكاسيهما الدهر
فمعناه استغنينا ورضينا مع أنّ هذه اللفظه ليست مقترنة بمكان انتهى ، وقال ابن عباس : كأن لم يعمروا ، وقال قتادة : كأن لم ينعموا ، وقال الأخفش : كأن لم يعيشوا ، وقال أيضاً قتادة وابن زيد ومقاتل : كأن لم يكونوا ، وقال الزجاج : كأن لم ينزلوا ، وقال ابن قتيبة : كأن لم يقيموا و { الذين } مبتدأ والجملة التشبيهية خبره ، قال الزمخشري : وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص كأنه قيل { الذين كذبوا } شعيباً المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا كأن لم يقيموا في دارهم لأنّ الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله تعالى انتهى ، وجوّز أبو البقاء أن يكون الخبر { الذين كذبوا شعيباً } كانوا هم الخاسرين و { كأن لم يغنوا } حال من الضمير في { كذبوا } وجوّز أيضاً أن يكون { الذين كذبوا } صفة لقول الذين كفروا من قومه وأن يكون بدلاً منه وعلى هذين الوجهين يكون { كان } حالاً انتهى ، وهذه أوجه متكلفة والظاهر أنها جمل مستقلة لا تعلق بما قبلها من جهة الإعراب.

{ الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين } هذا أيضاً مبتدأ وخبره ، وقال الزمخشري : وفيه معنى الاختصاص أي هم المخصوصون بالخسران العظيم دون اتباعه فإنهم هم الرابحون وفي هذا الاستئناف لهذا الابتداء وهذا التكرير مبالغة في ردّ مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم انتهى ، وهاتان الجملتان منبئتان عن ما فعل الله بهم في مقالتهم قالوا { لنخرجنك يا شعيب } فجاء الإخبار بإخراجهم بالهلاك وأي إخراج أعظم من إخراجهم وقالوا : { لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون } فحكم تعالى عليهم هم بالخسران وأجاز أبو البقاء في إعراب { الذين } هنا أن يكون بدلاً من الضمير في { يغنوا } أو منصوباً بإضمار أعني والابتداء الذي ذكرناه أقوى وأجزل.
{ فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم } تقدّم تفسير نظيره في قصة صالح عليه السلام.
{ فكيف آسى على قوم كافرين } أي فكيف أحزن على من لا يستحق أن يحزن عليه ونبّه على العلة التي لا تبعث على الحزن وهي الكفر إذ هو أعظم ما يعادى به المؤمن إذ هما نقضيان كما جاء لا تتراءى ناراً هما وكأنه وجد في نفسه رقّة عليهم حيث كان أمله فيهم أن يؤمنوا فلم يقدر فسرى ذلك عن نفسه باستحضار سبب التسلي عنهم والقسوة فذكر أشنع ما ارتكبوه معه من الوصف الذي هو الكفر بالله الباعث على تكذيب الرّسل وعلى المناوأة الشديدة حتى لا يساكنوه وتوعدوه بالإخراج وبأشد منه وهو عودهم إلى ملتهم ، قال مكي : وسار شعيب بمن تبعه إلى مكة فسكنوها وقرأ ابن وثاب وابن مصرّف والأعمش إيسي بكسر الهمزة وهي لغة تقدّم ذكرها في الفاتحة.
{ وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء لعلهم يضرّعون } لما ذكر تعالى ما حلّ بالأمم السالفة من بأسه وسطوته عليهم آخر أمرهم حين لا تجدي فيهم الموعظة ذكر تعالى أن تلك عادته في أتباع الأنبياء إذا أصرّوا على تكذيبهم وجاء بعد إلا فعل ماض وهو { أخذنا } ولا يليها فعل ماض إلا أن تقدم فعل أو أصحب بقد فمثال ما تقدّمه فعل هذه الآية ومثال ما أصحب قد قولك ما زيد إلا قد قام والجملة من قوله { أخذنا } حاليّة أي إلا آخذين أهلها وهو استثناء مفرّغ من الأحوال وتقدّم تفسير نظير قوله { إلا أخذنا } إلى آخره.
{ ثم بدّلنا مكان السيئة الحسنة } أي مكان الحال السيئة من البأساء والضراء الحال الحسنة من السّرّاء والنعمة ، قال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة مكان الشدّة الرخاء ، وقيل مكان الشرّ الخير ومكان و { الحسنة } مفعولاً بدل و { مكان } هو محل الباء أي بمكان السيئة وفي لفظ { مكان } إشعار بتمكن البأساء منهم كأنه صار للشدة عندهم مكان وأعرب بعضهم { مكان } ظرفاً أي في مكان.

{ حتى عفوا } أي كثروا وتناسلوا ، وقال مجاهد : كثرت أموالهم وأولادهم ، وقال ابن بحر حتى أعرضوا من عفا عن ذنبه أي أعرض عنه ، وقال الحسن : سمنوا ، وقال قتادة سرّوا بكثرتهم وذلك استدراج منه لهم لأنه أخذهم بالشدة ليتعظوا ويزدجروا فلم يفعلوا ثم أخذهم بالرخاء ليشكروا.
{ وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء } أبطرتهم النعمة وأشروا فقالوا هذه عادة الدّهر ضرّاء وسرّاء وقد أصاب آباءنا مثل ذلك لا بابتلاء وقصد بل ذلك بالاتفاق لا على ما تخبر الأنبياء جعلوا أسلافهم وما أصابهم مثلاً لهم ولما يصيبهم فلا ينبغي أن ننكر هذه العادة من أفعال الدهر.
{ فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون } تقدّم الكلام على مثل هذه الآية لما أفسدوا على التقديرين أخذوا هذا الأخذ.
{ ولو أنّ أهل القرى آمنوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } أي لو كانوا ممن سبق في علم الله أنهم يتلبسون بالإيمان بما جاءت به الأنبياء وبالطاعات التي هي ثمرة الإيمان ليتيسر لهم من بركات السماء ولكن كانوا ممن سبق في علمه أنهم يكذّبون الأنبياء فيؤخذون باجترامهم وكل من الإيمان والتكذيب والثواب والعقاب سبق به القدر وأضيف الإيمان والتكذيب إلى العبد كسباً والموجد لهما هو الله تعالى لا يسأل عما يفعل ، وقال الزمخشري : اللام في القرى إشارة إلى { القرى } التي دلّ عليها قوله تعالى { وما أرسلنا في قرية من نبي } كأنه قال ولو أنّ أهل تلك القرى الذين كذبوا وأهلكوا آمنوا بدل كفرهم واتقوا المعاصي مكان ارتكابها { لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } لآتيناهم بالخير من كل وجه ، وقيل : أراد المطر والنبات { ولكن كذّبوا فأخذناهم } بسوء كسبهم ويجوز أن تكون اللام في { القرى } للجنس انتهى ، وفي قوله واتقوا المعاصي نزغة الاعتزال رتب تعالى على الإيمان والتقوى فتح البركات ورتب على التكذيب وحده وهو المقابل للإيمان الهلاك ولم يذكر مقابل التقوى لأنّ التكذيب لم ينفع معه الخير بخلاف الإيمان فإنه ينفع وإن لم يكن معه فعل الطاعات والظاهر أن قوله { بركات من السماء والأرض } لا يراد بها معين ولذلك جاءت نكرة ، وقيل : بركات السماء المطر وبركات الأرض الثمار ، وقال السدّي : المعنى لفتحنا عليهم أبواب السماء والأرض بالرزق ، وقيل بركات السماء إجابة الدعاء ، وبركات الأرض تيسيرالحاجات ، وقيل : بركات السماء المطر وبركات الأرض المواشي والأنعام وحصول السلامة والأمن ، وقيل : البركات النمو والزيادات فمن السماء بجهة المطر والريح والشمس ومن الأرض بجهة النبات والحفظ لما نبت هذا الذي تدركه فطر البشر ولله خدام غير ذلك لا يحصى عددهم وما علم الله أكثر وذلك أنّ السماء تجري مجرى الأب والأرض مجرى الأم ومنهما تحصل جميع الخيرات يخلق الله وتدبيره والأخذ أخذ إهلاك بالذنوب ، وقرأ ابن عامر : وعيسى الثقفي وأبو عبد الرحمن { لفتحنا } بتشديد التاء ومعنى الفتح هنا التيسير عليهم كما تيسر على الأبواب المستغلقة بفتحها ومنه فتحت على القارىء إذا يسرت عليه بتلقينك إياه ما تعذّر عليه حفظه من القرآن إذا أراد القراءة.

{ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون } الهمزة دخلت على أمن للاستفهام على جهة التوقيف والتوبيخ والإنكار والوعيد للكافرين المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك والفاء لعطف هذه الجملة على ما قبلها ، وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما المعطوف عليه ولم عطفت الأولى بالفاء والثانية بالواو ، ( قلت ) : المعطوف عليه قوله { فأخذهم بغتة } وقوله { ولو أن أهل القرى - إلى - يكسبون } وقع اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه وإنما عطفت بالفاء لأنّ المعنى فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة أبعد ذلك أمن { أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً } وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى انتهى.
وهذا الذي ذكره الزمخشري من أن حرف العطف الذي بعد همزة الاستفهام وهو عاطف ما بعدها على ما قبل الهمزة من الجمل رجوع إلى مذهب الجماعة في ذلك وتخريج لهذه الآية على خلاف ما قرّر هو من مذهبه في غير آية أنه يقدر محذوف بين الهمزة وحرف العطف يصحّ بتقديره عطف ما بعد الحرف عليه وأنّ الهمزة وحرف العطف واقعان في موضعهما من غير اعتبار تقديم حرف العطف على الهمزة في التقدير وأنه قدّم الاستفهام اعتناء لأنه له صدر الكلام وقد تقدّم كلامنا معه على هذه المسألة وبأسنا عذابنا وبياتاً ليلاً وتقدم تفسيره أول السورة ، ونصبه على الظرف أي وقت مبيتهم أو الحال وذلك وقت الغفلة والنوم فمجيء العذاب في ذلك الوقت وهو وقت الراحة والاجتماع في غاية الصعوبة إذ أتى وقت المأمن.
{ أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون } أي في حال الغفلة والإعراض والاشتغال بما لا يجدي كأنهم يلعبون { وضحى } منصوب على الظرف أي صحوة ويقيد كل ظرف بما يناسبة من الحال فيقيد البيات بالنوم والضحى باللعب وجاء { وهم نائمون } باسم الفاعل لأنها حالة ثبوت واستقرار للبائنين وجاء { يلعبون } بالمضارع لأنهم مشتغلون بأفعال متجدّدة شيئاً فشيئاً في ذلك الوقت ، وقرأ نافع والابنان { أو أمن } بسكون الواو جعل أو عاطفة ومعناها التنويع لا أنّ معناها الإباحة أو التخيير خلافاً لمن ذهب إلى ذلك وحذف ورش همزة أمن ونقل حركتها إلى الواو الساكنة والباقون بهمزة الاستفهام بعدها واو العطف وتكرر لفظ { أهل القرى } لما في ذلك من التسميع والإبلاغ والتهديد والوعيد بالسامع ما لا يكون في الضمير لو جاء أو أمنوا فإنه متى قصد التفخيم والتعظيم والتهويل جيء بالاسم الظاهر.

{ أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } جاء العطف بالفاء وإسناد الفعل إلى الضمير لأن الجملة المعطوفة تكرير لقوله { أفأمن أهل القرى } { أو أمن } وتأكيد لمضمون ذلك فناسب إعادة الجملة مصحوبة بالفاء ومكر مصدر أضيف إلى الفاعل وهو استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر ، قال ابن عطية : { ومكر الله } هي إضافة مخلوق إلى الخالق كما تقول ناقة الله وبيت الله والمراد فعل معاقب به مكر الكفرة وأضيف إلى الله لما كان عقوبة الذنب فإن العرب تسمى العقوبة على أي جهة كانت باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة وهذا نص في قوله { ومكروا ومكر الله } انتهى ، وقال عطية العوفي : { مكر الله } عذابه وجزاؤه على مكرهم ، وقيل مكره استدراجه بالنعمة والصحة وأخذه على غرّة وكرّر المكر مضافاً إلى الله تحقيقاً لوقوع جزاء المكر بهم.
{ أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم } قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد { يهد } يبين وهذا كقوله { وأما ثمود فهديناهم } أي بيّنا لهم طريق الهدى والفاعل بيهد يحتمل وجوهاً ، أحدها أن يعود على الله ويؤيد قراءة من قرأ { يهد } بالنون ، والثاني أن يكون ضميراً عائداً على ما يفهم من سياق الكلام السابق أي { أو لم يهد } ما جرى للأمم السالفة أهل القرى وغيرهم وعلى هذين الوجهين يكون أن لو نشاء وما بعده في موضع المفعول بيهد أي أو لم يبيّن الله أو ما سبق من قصص القرى ومآل أمرهم للوارثين أصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك أي علمهم بإصابتنا أو قدرتنا على إصابتنا إياهم ، والمعنى أنكم مذنبون لهم وقد علمتم ما حلّ بهم أفما تحذرون أن يحلّ بكم ما حل بهم فذلك ليس بممتنع علينا لو شئنا ، والوجه الثالث أن يكون الفاعل بيهد قوله { أن لو نشاء } فينسبك المصدر من جواب لو والتقدير أو لم نبين ونوضح للوارثين مآلهم وعاقبتهم إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك أي علمهم بإصابتنا أو قدرتنا على إصابتنا إياهم والمعنى على التقديرين إذا كانت { أن } مفعولة و { أن } هنا هي المخففة من الثقيلة لأن الهداية فيها معنى العلم واسمها ضمير الشأن محذوف والخبر الجملة المصدرية بلو و { نشاء } في معنى شئنا لا أن لو التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره إذا جاء بعدها المضارع صرفت معناه إلى المضي ومفعول { نشاء } محذوف دلّ عليه جواب { لو } والجواب { أصبناهم } ولم يأتِ باللام وإن كان الفعل مثتباً إذ حذفها جائز فيصحّ كقوله { لو نشاء جعلناه أجاجاً } والأكثر الإتيان باللام كقوله

{ لو نشاء لجعلناه حطاماً } { ولو شئنا لرفعناه بها } والذين يرثون الأرض أي يحلفون فيها من بعد هلاك أهلها وظاهره التسميع لمن كان في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش وغيرهم ، وقال ابن عباس يريد أهل مكة ، { ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون } الظاهر أنها جملة مستأنفة أي ونحن { نطبع على قلوبهم } والمعنى أنّ من أوضح الله له سبل الهدى وذكر له أمثالاً ممن أهلكه الله تعالى بذنوبهم وهو مع ذلك دائم على غيّه لا يرعوي يطبع الله على قلبه فينبو سمعه عن سماع الحق ، وقال ابن الأنباري يجوز أن يكون معطوفاً على أصبنا إذا كان بمعنى نصيب فوضع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستعمال كما قال تعالى { تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك } أي إن يشأ يدل عليه قوله { ويجعل لك قصوراً } انتهى فجعل { لو } شرطية بمعنى أن ولم يجعلها التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره ولذلك جعل أصبنا بمعنى نصيب ومثال وقوع لو موقع أن قول الشاعر :
لا يلفك الراجيك إلاّ مظهرا . . .
خلق الكرام ولو تكون عديما
وهذا الذي قاله ابن الأنباري ردّه الزمخشري من جهة المعنى لكن بتقدير أن يكون { ونطبع } بمعنى طبعنا فيكون قد عطف المضارع على الماضي الذي هو جواب { لو نشاء } فجعله بمعنى نصيب فتأوّل المعطوف عليه وهو الجواب وردّه إلى المستقبل والزمخشري تأوّل المعطوف وردّه إلى المضي وأنتج ردّ الزمخشري أنّ كلا التقديرين لا يصحّ ، قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : هل يجوز أن يكون { ونطبع } بمعنى طبعنا كما كان لو نشاء بمعنى لو شئنا ويعطف على { أصبناهم } ، { قلت ) : لا يساعد هذا المعنى لأنّ القوم كان مطبوعاً على قلوبهم موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها وهذا التفسير يؤدي إلى خلوهم عن هذه الصفة وأن الله تعالى لو شاء لاتصفوا بها انتهى هذا الردّ ظاهره الصحة وملخصة أنّ المعطوف على الجواب جواب سواء تأوّلنا المعطوف عليه أم المعطوف وجواب لو لم يقع بعد سواء كانت حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره أم بمعنى إن الشرطية والإصابة لم تقع والطبع على القلوب واقع فلا تصحّ أن يعطف على الجواب فإن تأوّل { ونطبع } على معنى ونستمر على الطبع على قلوبهم أمكن التعاطف لأنّ الاستمرار لم يقع بعد وإن كان الطبع قد وقع.
وقال أبو عبد الله الرازي : تقرير صاحب الكشاف على أقوى الوجوه هو ضعيف لأنّ كونه مطبوعاً عليه في الكفر لم يكن منافياً لصحة العطف وكان قد قرّر أن المعنى أو لم يبين للذين نبقيهم في الأرض بعد إهلاكنا من كان قبلهم فيها أن تهلكهم بعدهم وهو معنى قوله { أن لو نشاء } أصبناهم أي بعقاب ذنوبهم { ونطبع على قلوبهم } أي لم نهلكهم بالعذاب { نطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون } أي لا يقبلون ولا يتّعظون ولا ينزجرون وإنما قلنا إن المراد إما الإهلاك وإما الطّبع على القلب لأن الإهلاك لا يجتمع مع الطبع على القلب فإنه إذا أهلكه يستحيل أن يطبع على قلبه انتهى.

والعطف في { ونطبع } بالواو يمنع ما ذكره لأن جعل المعنى على أنه إما الإهلاك وإما الطبع وظاهر العطف بالواو وينبو عن الدلالة على هذا المعنى فإن جعلت الواو بمعنى أو أمكن ذلك وكذلك ينبو عن قوله إن لم نهلكهم بالعذاب ونطبع على قلوبهم العطف بالواو وأورد أبو عبد الله الرازي من أقوال المفسّرين ما يدلّ على أنّ كونه مطبوعاً عليه في الكفر لا ينافي صحة العطف فقال أبو علي ويعني به والله أعلم الجبائي الطّبع سمة في القلب من نكتة سوداء إن صاحبها لا يفلح وقال الأصم : أي يلزمهم ما هم عليه فلا يتوبون إلا عند المعاينة فلا تقبل توبتهم ، وقال أبو مسلم : الطبع الخذلان إنه يخذل الكافر فيرى الآية فلا يؤمن بها ويختار ما اعتاد وألف وهذه الأقوال لا يمكن معها العطف إلا على تأويل أن تكون الواو بمعنى أو وأجاز الزمخشري في عطف { ونطبع } وجهين آخرين أحدهما ضعيف والآخر خطأ ، قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : بم يتعلق قوله تعالى { ونطبع على قلوبهم } ، ( قلت ) : فيه أوجه أو يكون معطوفاً على ما دلّ عليه معنى أو { لم يهدني لهم } كأنه قيل يغفلون عن الهداية { ونطبع على قلوبهم } أو على { يرثون الأرض } انتهى فقوله أنه معطوف على مقدر وهو يغفلون عن الهداية ضعيف لأنه إضمار لا يحتاج إليه إذ قد صحّ أن يكون على الاستئناف من باب العطف في الجمل فهو معطوف على مجموع الجملة المصدرة بأداة الاستفهام وقد قاله الزمخشري وغيره ، وقوله أنه معطوف علي { يرثون } خطأ لأنه إذا كان معطوفاً على يرثون كان صلة للذين لأنّ المعطوف على الصلة صلة ويكون قد فصل بين أبعاض الصلة بأجنبي من الصلة وهو قوله { أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم } سواء قدرنا { أن لو نشاء } في موضع الفاعل ليهدأ أو في موضع المفعول فهو معمول ليهد لا تعلق له بشيء من صلة { الذين } وهو لا يجوز ومعنى قوله { أصبناهم بذنوبهم } بعقاب ذنوبهم أو يضمن { أصبناهم } معنى أهلكناهم فهو من مجاز الإضمار أو التضمين ونفي السماع والمعنى نفي القبول والاتعاظ المترتب على وجود السماع جعل انتفاء فائدته انتفاء له.
{ تلك القرى نقصّ عليك من أنبائها } الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم و { القرى } هي بلاد قوم نوح وهود وصالح وشعيب بلا خلاف بين المفسرين وجاءت الإشارة بتلك إشارة إلى بعد هلاكها وتقادمه وحصل الرّبط بين هذه وبين قوله و { لو أن أهل القرى } { ونقص } يحتمل إبقاؤه على حاله من الاستقبال والمعنى قد قصصنا عليك { من أنبائها } ونحن نقصّ عليك أيضاً منها مفرقاً في السّور ويجوز أن يكون عبر بالمضارع عن الماضي أي { تلك القرى } قصصنا والأنباء هنا إخبارهم مع أنبيائهم ومآل عصيانهم ، و { تلك } مبتدأ { والقرى } خبر { ونقص } جملة حالية نحو قوله

{ فتلك بيوتهم خاوية } وفي الإخبار بالقرى معنى التعظيم لمهلكها ، كما قيل في قوله تعالى { ذلك الكتاب } وفي قوله عليه السلام « أولئك الملأ من قريش » وكقول أمية.
تلك المكارم لا قعبان من لبن . . .
ولما كان الخبر مقيّداً بالحال أفاد كالتقييد بالصفة في قولك هو الرجل الكريم وأجازوا أن يكون { نقص } خبراً بعد خبر وأن يكون خبراً { والقرى } صفة ومعنى { من } التبعيض فدلّ على أنّ لها أنباء أخر لم تقصّ عليه وإنما قصّ ما فيه عظة وازدجار وادكار بما جرى على من خالف الرّسل ليتّعظ بذلك السامع من هذه الأمة.
{ ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } قال أبي بن كعب ليؤمنوا اليوم بما كذبوا من قبل يوم الميثاق ، وقال ابن عباس ما كانوا ليخالفوا علم الله فيهم ، وقال يمان بن رئاب بما كذبوا أسلافهم من الأمم الخالية لقوله { ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا ساحر أو مجنون } فالفعل في { ليؤمنوا } لقوم وفي { بما كذبوا } لقوم آخرين.
وقيل { جاءتهم رسلهم } بالمعجزات التي اقترحوها { فما كانوا ليؤمنوا } بعد المعجزات { بما كذبوا } به قبلها كما قال { قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } ، وقال الكرماني : { من قبل } يعود على الرسل تقديره من قبل مجيء الرسل لم يسلب عنهم اسم الكفر والتكذيب بل بقوا كافرين مكذبين كما كانوا قبل الرسل ، قال الزمخشري : فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بالبينات بما كذبوه من آيات الله قبل مجيء الرسل أو مما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أولاً حتى جاءتهم الرسل أي استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم إلى أن باتوا مصرّين لا يرعوون ولا تلين شكيمتهم في كفرهم وعنادهم مع تكرار المواعظ عليهم وتتابع الآيات وقال ابن عطية : يحتمل أربعة وجوه من التأويل ، أحدها أن يريد أن الرسول جاء لكل فريق منهم فكذّبوه لأول أمره ثم استبانت حجته وظهرت الآيات الدالة على صدقه مع استمرار دعوته فلجّوا هم في كفرهم ولم يؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل وكأنه وصفهم على هذا التأويل باللجاج في الكفر والصّرامة عليه ويؤيد هذا التأويل قوله { كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين } ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى فما كانوا ليوفقهم الله إلى الإيمان بسبب أنهم كذبوا من قبل فكان تكذيبهم سبباً لأن يمنعوا الإيمان بعد.
والثاني من الوجوه أن يريد فما كان آخرهم في الزمن والعصر ليهتدي ويؤمن بما كذب به أولهم في الزمن والعصر بل كفر كلهم ومشى بعضهم على سنن بعض في الكفر أشار إلى هذا القول النقاش ، فكان الضمير في قوله { كانوا } يختص بالآخرين والضمير في قوله { كذبوا } يختص بالقدماء منهم ، والثالث من الوجوه يحتمل أن يريد فما كان هؤلاء المذكورون بأجمعهم لو ردّوا إلى الدنيا ومكنوا من العودة ليؤمنوا بما قد كذبوا به في حال حياتهم ودعا الرسول لهم قاله مجاهد وقرّبه بقوله تعالى

{ ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه } وهذه أيضاً صفة بليغة في اللحاج والثبوت على الكفر بل هي غاية في ذلك.
والرابع من الوجوه أنه يحتمل أن يريد وصفهم بأنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما قد سبق في علم الله تعالى بأنهم مكذبون به فحمل سابق القدر عليهم بمثابة تكذيبهم بأنفسهم لا سيما وقد خرج تكذيبهم إلى الوجود في وقت مجيء الرّسل وذكر هذا القول المفسرون وقربوه بأن الله تعالى حتم عليهم التكذيب وقت أخذ الميثاق وهو قول أبي بن كعب انتهى كلام ابن عطية.
والذي يظهر أنّ الضمير في { كانوا } وفي { ليؤمنوا } عائد على أهل القرى وأن الباء في { بما } ليست سببية فالمعنى أنهم انتفت عنهم قابلية الإيمان وقت مجيء الرسل بالمعجزات بما كذبوا به قبل مجيء الرسل بالمعجزات بل حالهم واحد قبل ظهور المعجزات وبعد ظهورها لم تجد عنهم شيئاً وفي الإتيان بلام الجحود في { ليؤمنوا } مبالغة في نفي القابلية والوقوع وهو أبلغ من تسلّط النفي على الفعل بغير لام وما في { بما كذبوا } موصولة والعائد منصوب محذوف أي بما كذبوه وجوّز أن تكون مصدرية ، قال الكرماني : وجاء هنا { بما كذبوا } فحذف متعلق التكذيب لما حذف المتعلق في { ولو أنّ أهل القرى آمنوا } وقوله { ولكن كذبوا } وفي يونس أبرزه فقال { بما كذبوا به من قبل } لما كان قد أبرز في { فكذبوه فنجيناه ثم كذّبوا بآياتنا } فوافق الختم في كل منهما بما يناسب ما قبله انتهى ، ملخصاً.
{ كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين } أي مثل ذلك الطبع على قلوب أهل القرى حين انتفت عنهم قابلية الإيمان وتساوي أمرهم في الكفر قبل المعجزات وبعدها { يطبع الله على قلوب الكافرين } ممن أتى بعدهم ، قال الكرماني تقدم ذكر الله بالصريح وبالكناية فجمع بينهما فقال { ونطبع على قلوبهم } وختم بالصريح فقال { كذلك يطبع الله } ، وفي يونس بني على ما قبله بنون العظمة في قوله { فنجيناه وجعلناهم ثم بعثنا } فناسب لطبع بالنون.
{ وما وجدنا لأكثرهم من عهد } أي لأكثر الناس أو أهل القرى أو الأمم الماضية احتمالات ثلاثة قاله التبريزي والعهد هنا هو الذي عوهدوا عليه في صلب آدم قاله أبيّ وابن عباس أو الإيمان قاله ابن مسعود ويدلّ عليه الأمن اتخذ عند الله عهداً وهو لا إله إلا الله فالمعنى من إيفاء أو التزام عهد ، وقيل العهد هو وضع الأدلة على صحة التوحيد والنبوة إذ ذلك عهد في رقاب العقلاء كالعقود فعبر عن صرف عقولهم إلى النظر في ذلك بانتفاء وجدان العهد و { من } في { من عهد } زائدة تدلّ على الاستغراق لجنس العهد.

{ وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين } إنْ هنا هي المخففة من الثقيلة ووجد بمعنى علم ومفعول { وجدنا } الأولى { لاكثرهم } ومفعول الثانية { لفاسقين } واللام للفرق بين إن المخففة من الثقيلة وإن النافية وتقدّم الكلام على ذلك في قوله { وإن كانت لكبيرة } ودعوى بعض الكوفيين أنّ إن في نحو هذا التركيب هي النافية واللام بمعنى إلا ، وقال الزمخشري : وإنّ الشأن والحديث وجدنا انتهى ، ولا يحتاج إلى هذا التقدير وكان الزمخشري يزعم أنّ إن إذا خففت كان محذوفاً منها الاسم وهو الشأن والحديث إبقاءً لها على الاختصاص بالدخول على الأسماء وقد تقدّم لنا تقدير نظير ذلك ورددنا عليه.
{ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } لما قصّ الله تعالى على نبيه أخبار نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وما آل إليه أمر قومهم وكان هؤلاء لم يبقَ منهم أحد أتبع بقصص موسى وفرعون وبني إسرائيل إذ كانت معجزاته من أعظم المعجزات وأمته من أكثر الأمم تكذيباً وتعنتاً واقتراحاً وجهلاً وكان قد بقي من اتباعه عالم وهم اليهود فقصّ الله علينا قصصهم لنعتبر ونتعظ وننزجر عن أن نتشبه بهم ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنّ بين موسى وشعيب عليهما السلام مصاهرة كما حكى الله في كتابه ونسب لكونهما من نسل إبراهيم ولما استفتح قصة نوح ب { أرسلنا } بنون العظمة اتبع ذلك قصة موسى فقال : { ثم بعثنا } والضمير في { من بعدهم } عائد على الرسل من قوله و { لقد جاءتهم رسلهم بالبينات } أو للأمم السابقة والآيات الحجج التي آتاه الله على قومه أو الآيات التسع أو التوراة أقوال وتعدية فظلموا بالباء إما على سبيل التضمين بمعنى كفروا بها ألا ترى إلى قوله { إن الشّرك لظلم عظيم } وإما أن تكون الباء سببية أي ظلموا أنفسهم بسببها أو الناس حيث صدوهم عن الإيمان أو الرسول فقالوا سحر وتمويه أقوال ، وقال الأصم : ظلموا تلك النعم التي آتاهم الله بأن استعانوا بها على معصية الله تعالى فانظر أيها السامع ما آل إليه أمر المفسدين الظالمين جعلهم مثالاً توعد به كفرة عصر الرسول عليه السلام.
{ وقال موسى يا فرعون من ربّ العالمين حقيق علي أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل } هذه محاورة من موسى عليه السلام لفرعون وخطاب له بأحسن ما يدعى به وأحبّها إليه إذ كان من ملك مصر يقال له فرعون كنمرود في يونان ، وقيصر في الروم ، وكسرى في فارس ، والنجاشي في الحبشة وعلى هذا لا يكون فرعون وأمثاله علماً شخصيّاً بل يكون علم جنس كأسامة وثعالة ولما كان فرعون قد ادعى الرّبوبية فاتحه موسى بقوله : { إني رسول من ربّ العالمين } لينبهه على الوصف الذي ادعاه وأنه فيه مبطل لا محق ولما كان قوله { حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق } أردفها بما يدلّ على صحتها وهو قوله { قد جئتكم } ولما قرر رسالته فرع عليها تبليغ الحكم وهو قوله { فأرسل } ولم ينازعه فرعون في هذه السورة في شيء مما ذكره موسى إلا أنه طلب المعجزة ودلّ ذلك على موافقته لموسى وأنّ الرسالة ممكنة لإمكان المعجزة إذ لم يدفع إمكانها بل قال : { إن كنت جئت بآية } ويأتي الكلام على هذا الطلب من فرعون للمعجزة ، وقرأ نافع { عليّ أن لا أقول } بتشديد الياء جعل { علي } داخلة على ياء المتكلم ومعنى { حقيق } جدير وخليق وارتفاعه على أنه صفة لرسول أو خبر بعد خبر و { أن لا أقول } الأحسن فيه إن يكون فاعلاً بحقيق كأنه قيل يحقّ على كذا ويجب ويجوز أن يكون { أن لا أقول } مبتدأ و { حقيق } خبره ، وقال قوم : تمّ الكلام عند قوله { حقيق } و { على أن لا أقول } مبتدأ وخبره ، وقرأ باقي السبعة على بجرها { أن لا أقول } أي { حقيق } على قول الحق ، فقال قوم : ضمن { حقيق } معنى حريص ، وقال أبو الحسن والفرّاء والفارسي : على بمعنى الباء كما أنّ الباء بمعنى على في قوله

{ ولا تقعدوا بكل صراط } أي على كل صراط فكأنه قيل : { حقيق } بأن لا أقول كما تقول فلان حقيق بهذا الأمر وخليق به ويشهد لهذا التوجيه قراة أبيّ بأن لا أقول وضع مكان على الباء ، قال الأخفش : وليس ذلك بالمطرد لو قلت ذهبت على زيد تريد بزيد لم يجز ، وقال الزمخشري : وفي المشهورة إشكال ولا يخلو من وجوه ، أحدها : أن يكون مما يقلب من الكلام لا من الإلباس كقوله :
وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر . . .
ومعناه وتشقى الضياطرة بالرماح انتهى ، هذا الوجه وأصحابنا يخصُّون القلب بالشعر ولا يجيزونه في فصيح الكلام فينبغي أن ينزه القراءة عنه ، وعلى هذا يصير معنى هذه القراءة معنى قراءة نافع ، قال الزمخشري : والثاني أن ما لزمك لزمته فلما كان قول الحق حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحقّ أي لازماً له ، قال الزمخشري : والثالث أن يضمن { حقيق } معنى حريص تضمين هيجني معنى ذكرني في بيت الكتاب انتهى يعني بالكتاب كتاب سيبويه والبيت :
إذا تغنى الحمام الورق هيجني . . .
ولو تسليت عنها أم عمار
قال الزمخشري : والرابع وهو الأوجه وإلا دخل في نكت القرآن أن يغرق موسى عليه السلام في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام لا سيما وقد روى أنّ عدوّ الله فرعون قال لما قال { إني رسول من رب العالمين } كذبت فيقول أنا حقيق على قول الحقّ أي واجب على قول الحق أنْ أكون أنا قائلة والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به انتهى ولا يتّضح هذا الوجه إلا إن عنى أنه يكون { على أن لا أقول } صفة كما تقول أنا على قول الحقّ أي طريقي وعادتي قول الحق ، وقال ابن مقسم { حقيق } من نعت الرسول أي رسول حقيق من ربّ العالمين أرسلت على أن لا أقول على الله إلا الحق وهذا معنى صحيح واضح وقد غفل أكثر المفسرين من أرباب اللغة عن تعليق { على } برسول ولم يخطر لهم تعليقه إلا بقوله { حقيق } انتهى.

وكلامه فيه تناقض في الظاهر لأنه قدّر أولاً العامل في { على } { أرسلت } ، وقال آخر : إنهم غفلوا عن تعليق { على } برسول فأما هذا الآخر فلا يجوز على مذهب البصريين لأنّ رسولاً قد وصف قبل أن يأخذ معموله وذلك لا يجوز وأما التقدير الأوّل وهو إضمار أرسلت ويفسره لفظ رسول فهو تقدير سائغ وتناول كلام ابن مقسم أخيراً في قوله عن تعليق على برسول أي بما دلّ عليه رسول ، وقرأ عبد الله والأعمش حقيق أن لا أقول بإسقاط على فاحتمل أن يكون على إضمار على كقراءة من قرأ بها واحتمل أن يكون على إضمار الباء كقراءة أبيّ وعلى الاحتمالين يكون التعلّق بحقيق.
ولما ذكر أنه رسول من عند الله وأنه لا يقول على الله إلا الحق أخذ يذكر المعجزة والخارق الذي يدلّ على صدق رسالته والخطاب في { جئتكم } لفرعون وملائه الحاضرين معه ومعنى { بينة } بآية بينة واضحة الدلالة على ما أذكره والبينة قيل : التسع الآيات المذكورة في قوله { في تسع آيات إلى فرعون وقومه } ، قال بعض العلماء وسياق الآية يقتضي أن البينة هي العصا واليد البيضاء بدليل ما بعده من قوله { فألقى عصاه } الآية ، وقال ابن عباس والأكثرون هي العصا وفي قوله { من ربّكم } تعريض أن فرعون ليس ربّاً لهم بل ربهم هو الذي جاء موسى بالبينة من عنده { فأرسل } أي فخل والإرسال ضد الإمساك { معي بني إسرائيل } أي حتى يذهبوا إلى أوطانهم ومولد آبائهم الأرض المقدسة وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفي وانقرض الأسباط غلب فرعون على نسلهم واستعبدهم في الأعمال الشاقة وكانوا يؤدّون إليه الجزاء فاستنقذهم الله بموسى عليه السلام وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر واليوم الذي دخل فيه موسى أربعمائة عام والظاهر أن موسى لم يطلب من فرعون في هذه الآية إلا إرسال بني إسرائيل معه وفي غير هذه الآية دعاؤه إياه إلى الإقرار بربوبية الله تعالى وتوحيده قال تعالى

{ فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى } وكل نبي داع إلى توحيد الله تعالى ، وقال تعالى حكاية عن فرعون { أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون } فهذا ونظائره دليل على أنه طلب منه الإيمان خلافاً لمن قال إنّ موسى لم يدعه إلى الإيمان ولا إلى التزام شرعه وليس بنو إسرائيل من قوم فرعون والقبط ألا ترى أن بقية القبط وهم الأكثر لم يرجع إليهم موسى.
{ قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين } لما عرض موسى عليه السلام رسالته على فرعون وذكر الدليل على صدقه وهو مجيئه بالبينة والخارق المعجز استدعى فرعون منه خرق العادة الدالّ على الصدق وهذا الاستدعاء يحتمل أن يكون على سبيل الاختبار وتحويزه ذلك ويحتمل أن يكون على سبيل التعجيز لما تقرّر في ذهن فرعون أن موسى لا يقدر على الإتيان ببينة والمعنى إن كنت جئت بآية من ربك فاحضرها عندي لتصحّ دعواك ويثبت صدقك.
{ فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين } بدأ بالعصا دون سائر المعجزات لأنها معجزة تحتوي على معجزات كثيرة قالوا منها أنه ضرب بها باب فرعون ففزع من قرعها فشاب رأسه فخضب بالسواد فهو أول من خضب بالسواد وانقلابها ثعباناً وانقلاب خشبة لحماً ودماً قائماً به الحياة من أعظم الإعجاز ويحصل من انقلابها ثعباناً من التهويل ما لا يحصل في غيره وضربه بها الحجر فينفجر عيوناً وضربه بها فتنبت قاله ابن عباس ومحاربته بها اللصوص والسباع القاصدة غنمه واشتعالها في الليل كاشتعال الشمعة وصيرورتها كالرشا لينزح بها الماء من البئر العميقة وتلقفها الحبال والعصيّ التي للسحرة وإبطالها لما صنعوه من كيدهم وسحرهم والإلقاء حقيقة هو في الاجرام ومجاز في المعاني نحو ألقى المسألة.
قال ابن عباس والسدّي : صارت العصا حية عظيمة شعراء فاغرة فاها ما بين لحييها ثمانون ذراعاً ، وقيل : أربعون ذكره مكي عن فرقد واضعة أحد لحييها بالأرض والآخر على سور القصر وذكروا من اضطراب فرعون وفزعه وهربه ووعده موسى بالإيمان إن عادت إلى حالها وكثرة من مات من قوم فرعون فزعاً أشياء لم تتعرّض إليها الآية ولا تثبت في حديث صحيح فالله أعلم بها ومعنى { مبين } ظاهر لا تخييل فيه بل هو ثعبان حقيقة ، قال ابن عطية { وإذا } ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرّد من حيث كانت خبراً عن جثة والصحيح الذي عليه شيوخنا أنها ظرف مكان كما قاله المبرد وهو المنسوب إلى سيبويه وقوله من حيث كانت خبراً عن جثة ليست في هذا المكان خبراً عن جثة بل خبر هي قوله { ثعبان } ولو قلت { فإذا هي } لم يكن كلاماً وينبغي أن يحمل كلامه من حيث كانت خبراً عن جثة على مثل خرجت فإذا السبع على تأويل من جعلها ظرف مكان وما ذكره من أن الصحيح الذي عليه الناس أنها ظرف زمان هو مذهب الرّياشي ونسب أيضاً إلى سيبويه ومذهب الكوفيين أن إذا الفجائية حرف لا اسم.

{ ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين } أي جذب { يده } قيل من جيبه وهو الظاهر لقوله { وأدخل يدك في جيبك تخرج } ، وقيل من كمّه و { للناظرين } أي للنظار وفي ذكر ذلك تنبيه على عظم بياضها لأنه لا يعرض لها للنظار إلا إذا كان بياضها عجيباً خارجاً عن العادة يجتمع الناس إليه كما يجتمع النظّار للعجائب ، قال مجاهد : { بيضاء } كاللبن أو أشدّ بياضاً ، وروي أنها كانت تظهر منيرة شفافة كالشمس ثم يردّها فترجع إلى لون موسى وكان آدم عليه السلام شديد الأدمة ، وقال ابن عباس صارت نوراً ساطعاً يضيء له ما بين السماء والأرض له لمعان مثل لمعان البرق فخرّوا على وجوههم ، وقال الكلبي : بلغنا أن موسى عليه السلام قال يا فرعون ما هذه بيدي قال : هي عصا فألقاها موسى فإذا هي ثعبان ، وروي أن فرعون رأى يد موسى فقال لفرعون ما هذه فقال : يدك ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعة صوف ونزعها فإذا هي بيضاء بياضاً نورانياً غلب شعاعها شعاع الشمس وما أعجب أمر هذين الخارقين أحدهما في نفسه وذلك اليد البيضاء ، والأخر في غير نفسه وهي العصا وجمع بذينك تبدّل الذرات وتبدل الاعراض فكانا دالين على جواز الأمرين وإنهما كلاهما ممكن الوقوع ، قال أبو محمد بن عطية : هاتان الآيتان عرضهما موسى عليه السلام للمعارضة ودعا إلى الله بهما وخرق العادة بهما وتحدّى الناس إلى الدين بهما فإذا جعلنا التحدّي الدّعاء إلى الدين مطلقاً فبهما تحدى وإذا جعلنا التحدّي الدعاء بعد العجز عن معارضة المعجزة وظهور ذلك فتنفرد حينئذ العصا بذلك لأنّ المعارضة والمعجز فيها وقعا ويقال : التحدّي هو الدعاء ألى الإتيان بمثل المعجزة فهذه نحو ثالث وعليه يكون تحدّي موسى بالآيتين جميعاً لأنّ الظاهر من أمره أنه عرضهما معاً وإن كان لم ينص على الدعاء إلى الإتيان بمثلهما انتهى ، وهو كلام فيه تثبيج.
{ قال الملأ من قوم فرعون إنّ هذا لساحر عليم }.
وفي الشعراء { قال للملإ حوله إنّ هذا لساحر عليم } والجمع بينهما أن فرعون وهم قالوا هذا الكلام فحكى هنا قولهم وهناك قوله أو قاله ابتداء فتلقفه منه الملأ فقالوه لأعقابهم أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ كما تفعل الملوك يرى الواحد منهم الرأي فيكلم به من يليه من الخاصّة ثم تبلغه الخاصة العامة والدليل عليه أنهم أجابوه في قوله { أرجه } وكان السحر إذ ذاك في أعلى المراتب فلما رأوا انقلاب العصا ثعباناً والأدماء بيضاء وأنكروا النبوة ودافعوه عنها قصدوا ذمه بوصفه بالسحر وحطّ قدره إذ لم يمكنهم في ظهور ما ظهر على يده نسبة شيء إليه غير السحر وبالغوا في وصفه بأن قالوا : { عليم } أي بالغ الغاية في علم السّحر وخدعه وخيالاته وفنونه وأكثر استعمال لفظ هذا إذا كان من كلام الكفار في التنقص والاستغراب كما قال

{ أهذا الذي يذكر آلهتكم } { أهذا الذي بعث الله رسولاً } { إن هذا إلا أساطير الأولين } { ما هذا إلا بشر مثلكم } { إنّ هذان لساحران } { إن كان هذا هو الحق من عندك } يعدلون عن لفظ اسم ذلك الشيء إلى لفظ الإشارة وأكدّوا نسبة السحر إليه بدخول إن واللام.
من بني إسرائيل فبعث بهم إلى قرية.
قال البغوي : هي الفرما يعلمونهم السحر كما يعلمون الصبيان في المكتب فعلموهم سحراً كثيراً وواعد فرعون موسى موعداً ثم دعاهم وسألهم فقال : ماذا صنعتم قالوا علمناهم من السحر ما لا يقاومهم به أهل الأرض إلا أن يكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لنا به ، وقرأ الأخوان بكل سحّار هنا وفي يونس والباقون { ساحر } وفي الشعراء أجمعوا على سحار وتناسب سحار { عليم } لكونهما من ألفاظ المبالغة ولما كان قد تقدّم { إن هذا لساحر عليم } ناسب هنا أن يقابل بقوله { بكل ساحر عليم }.
{ وجاء السحرة فرعون قالوا إنّ لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين } في الكلام حذف يقتضيه المعنى وتقديره فأرسل حاشرين وجمعوا السحرة وأمرهم بالمجيء واضطرب الناقلون للأخبار في عددهم اضطراباً متناقضاً يعجب العاقل من تسطيره في الكتب فمن قائل تسعمائة ألف ساحر وقائل سبعين ساحراً فما بينهما من الأعداد المعينة المتناقضة { وجاء } قالوا : بغير حرف عطف لأنه على تقدير جواب سائل سأل ما قالوه إذ جاء قالوا { إن لنا لأجراً } أي جعلاً ، وقال الحوفي { وقالوا } في موضع الحال من السحرة والعامل { جاء } ، وقرأ الحرميان وحفص { إن } على وجه الخبر واشتراط الأجر وإيجابه على تقدير الغلبة ولا يريدون مطلق الأجر بل المعنى لأجراً عظيماً ولهذا قال الزمخشري : والتنكير للتعظيم كقول العرب إن له لإبلاً وإن له لغنماً يقصدون الكثرة وجوّز أبو علي أن تكون { إن } استفهاماً حذفت منه الهمزة كقراءة الباقين الذين أثبتوها وهم الأخوان وابن عامر وأبو بكر وأبو عمرو فمنهم من حققهما ومنهم من سهل الثانية ومنهم من أدخل بينهما ألفاً والخلاف في كتب القراءات وفي خطاب السحرة بذلك لفرعون دليل على استطالتهم عليه باحتياجه إليهم وبما يحصل للعالم بالشيء من الترفع على من يحتاج إليه وعلى من لا يعلم مثل علمه و { نحن } إما تأكيد للضمير وإما فصل وجواب الشرط محذوف ، وقال الحوفي في جوابه ما تقدم.
{ قال نعم وإنكم لمن المقربين } أي نعم إن لكم لأجراً { وإنكم } فعطف هذه الجملة على الجملة المحذوفة بعد { نعم } التي هي نائبة عنها والمعنى لمن المقربين مني أي لا أقتصر لكم على الجعل والثواب على غلبة موسى بل أزيدكم أن تكونوا من المقربين فتحوزون إلى الأجر الكرامة والرّفعة والجاه والمنزلة والمثاب إنما يتهنى ويغتبط به إذا حاز إلى ذلك الإكرام ، وفي مبادرة فرعون لهم بالوعد والتقريب منه دليل على شدّة اضطراره لهم وإنهم كانوا عالمين بأنه عاجز ولذلك احتاج إلى السحرة في دفع موسى عليه السلام.

{ قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين }.
قال الزمخشري تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال والمتصارعين قبل أن يأخذوا في الصراع انتهى.
وقال القرطبي تأدّبوا مع موسى عليه السلام بقولهم { إما أن تلقى } فكان ذلك سبب إيمانهم والذي يظهر أنّ تخييرهم إياه ليس من باب الأدب بل ذلك من باب الإدلال لما يعلمونه من السحر وإيهام الغلبة والثقة بأنفسهم وعدم الاكتراث والابتهال بأمر موسى كما قال الفرّاء لسيبويه حين جمع الرشيد بين سيبويه والكسائي أتسأل فأجيب أم أبتدىء وتجيب فهذا جاء التخيير فيه على سبيل الإدلال بنفسه والملاءة بما عنده وعدم الاكتراث بمناظرته والوثوق بأنه هو الغالب ، قال الزمخشري : وقولهم { وإما أن نكون نحن الملقين } فيه ما يدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر وإقحام الفصل انتهى ، وأجازوا في { أن تلقي } وفي { أن نكون } النصب أي اختر وافعل إما إلقاءك وإما أمرك الإلقاء أي البداءة به أو إما أمرنا الإلقاء فيكون خبر مبتدأ محذوف ودخلت { أن } لأنه لا يكون الفعل وحده مفعولاً ولا مبتدأ بخلاف قوله { وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذّبهم وإما يتوب عليهم } فالفعل بعد { أما } هنا خبر ثان لقوله { وآخرون } أو صفة فليس من مواضع أن ومفعول { تلقي } محذوف أي إما أن تلقي عصاك وكذلك مفعول { الملقين } أي الملقين العصى والحبال.
{ قال ألقوا } أعطاهم موسى عليه السلام التقدّم وثوقاً بالحق وعلماً أنه تعالى يبطله كما حكى الله عنه { قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله } قال الزمخشري : وقد سوّغ لهم موسى عليه السلام ما تراغبوا فيه ازدراءً لشأنهم وثقة بما كان بصدده من التأييد السماوي وأن المعجزة لم يغلبها سحر أبداً انتهى والمعنى ألقوا حبالكم وعصيكم والظاهر أنه أمر بالإلقاء.
وقيل هو تهديد أي فسترون ما حل بكم من الافتضاح.
{ فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا } أي أروا العيون بالحيل والتخيلات ما لا حقيقة له كما قال تعالى { يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى }
{ يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون } استشعرت نفوسهم ما صار إليه أمرهم من إخراجهم من أرضهم وخلوّ مواطنهم منهم وخراب بيوتهم فبادروا إلى الإخبار بذلك وكان الأمر كما استشعروا إذ غرّق الله فرعون وآله وأخلى منازلهم منهم ونبّهوا على هذا الوصف الصعب الذي هو معادل لفتل الأنفس كما قال

{ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم } وأراد به إحراجهم إما بكونه يحكم فيكم بإرسال خدمكم وعمار أرضكم معه حيث يسير فيفضي ذلك إلى خراب دياركم وأما بكونهم خافوا منه أن يقاتلهم بمن يجتمع إليه من بني إسرائيل ويغلب على ملكهم قال النقاش كانوا يأخذون من بني إسرائيل خرجاً كالجزية فرأوا أنّ ملكهم يذهب بزوال ذلك وجاء في سورة الشعراء { بسحره } وهنا حذفت لأنّ الآية الأولى هنا بنيت على الاختصار فناسبت الحذف ولأن لفظ ساحر يدل على السحر و { فماذا تأمرون } من قول فرعون أو من قول الملأ إمّا لفرعون وأصحابه وإما له وحده كما يخاطب أفراد العظماء بلفظ الجمع وهو من الأمر ، وقال ابن عباس : معناه تشيرون به ، قال الزمخشري : من أمرته فأمرني بكذا أي شاورته فأشار عليك برأي ، وقرأ الجمهور { تأمرون } بفتح النون هنا وفي الشعراء وروى كردم عن نافع بكسر النون فيهما وماذا يحتمل أن تكون كلها استفهاماً وتكون مفعولاً ثانياً لتأمرون على سبيل التوسّع فيه بأن حذف منه حرف الجر كما قال أمرتك الخير ويكون المفعول الأول محذوفاً لفهم المعنى أي أيّ شيء تأمرونني وأصله بأي شيء ويجوز أن تكون ما استفهاماً مبتدأ وذا بمعنى الذي خبر عنه و { تأمرون } صلة ذا ويكون قد حذف منه مفعولي { تأمرون } الأوّل وهو ضمير المتكلم والثاني وهو الضمير العائد على الموصول والتقدير فأي شيء الذي تأمروننيه أي تأمرنني به وكلا الإعرابين في ماذا جائز في قراءة من كسر النون إلا أنه حذف ياء المتكلم وأبقى الكسرة دلالة عليها وقدر ابن عطية الضمير العائد على ذا إذا كانت موصولة مقرونة بحرف الجر فقال وفي { تأمرون } ضمير عائد على { الذي } تقديره تأمرون به انتهى ، وهذا ليس بجيّد لفوات شرط جواز حذف الضمير إذا كان مجروراً بحرف الجر وذلك الشرط هو أن لا يكون الضمير في موضع رفع وأن يجرّ ذلك الحرف الموصول أو الموصوف به أو المضاف إليه ويتحد المتعلق به الحرفان لفظاً ومعنى ويتّحد معنى الحرف أيضاً لابن عطية أنه قدره على الأصل ثم اتسع فيه فتعدى إليه الفعل بغير واسطة الحروف ثم حذف بعد الاتساع.
{ قالوا أرجه وأخاه } أي قال من حضر مناظرة موسى من عقلاء ملأ فرعون وأشرافه قيل : ولم يكن يجالس فرعون ولد غية وإنما كانوا أشرافاً ولذلك أشاروا عليه بالإرجاء ولم يشيروا بالقتل وقالوا : إنْ قتلته دخلت على الناس شبهة ولكن أغلبه بالحجة وقرىء بالهمز وبغير همز فقيل هما بمعنى واحد ، وقيل المعنى احبسه ، وقيل { أرجه } بغير همز أطمعه جعله من رجوت أدخل عليه همزة الفعل أي أطمعه { وأخاه } ولا تقتلهما حتى يظهر كذبهما فإنك إن قتلتهما ظنّ أنهما صدقا ولم يجر لهارون ذكر في صدر القصة وقد تبيَّن من غير آية أنهما ذهبا معاً وأرسلا إلى فرعون ولما كان موافقاً له في دعواه ومؤازراً أشاروا بإرجائهما ، وقرأ ابن كثير وهشام أرجئهو بالهمز وضم الهاء ووصلها بواو ، وأبو عمرو كذلك إلا أنه لم يصل ، وروي هذا عن هشام وعن يحيى عن أبي بكر ، وقرأ ورش والكسائي أرجهي بغير همز وبكسر الهاء ووصلها بياء ، وقرأ عاصم وحمزة بغير همز وسكنا الهاء وقرأ قالون بغير همز ومختلس كسرة الهاء ، وقرأ ابن ذكوان في رواية كقراءة ورش والكسائي وفي المشهور عنه أرجئه بالهمز وكسر الهاء من غير صلة ، وقد قيل عنه أنه يصلها بياء ، قال ابن عطية وقرأ ابن عامر أرجئه بكسر الهاء بهمزة قبلها ، قال الفارسي : وهذا غلط انتهى ، ونسبة ابن عطية هذه القراءة لابن عامر ليس بجيّد لأن الذي روى ذلك إنما هو ابن ذكوان لا هشام فكان ينبغي أن يقيد فيقول وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وقال بعضهم : قال أبو علي ضمّ الهاء مع الهمز لا يجوز غيره قال : ورواية ابن ذكوان عن ابن عامر غلط وقال ابن مجاهد بعده وهذا لا يجوز لأنّ الهاء لا تكسر إلا إذا وقع قبلها كسرة أو ياء ساكنة ، وقال الحوفي : ومن القراء من يكسر مع الهمز وليس بجيد ، وقال أبو البقاء : ويقرأ بكسر الهاء مع الهمز وهو ضعيف لأنّ الهمز حرف صحيح ساكن فليس قبل الهاء ما يقتضي الكسر ، ووجهه أنه أتبع الهاء كسرة الجيم والحاجز غير حصين ويخرج أيضاً على توهّم إبدال الهمز ياء أو على أن الهمز لما كان كثيراً ما يبدل بحرف العلة أجري مجرى حرف العلة في كسر ما بعده وما ذهب إليه الفارسي وغيره من غلط هذه القراءة ، وأنها لا تجوز قول فاسد لأنها قراءة ثابتة متواترة روتها الأكابر عن الأئمة وتلقتها الأمة بالقبول ولها توجيه في العربية وليست الهمزة كغيرها من الحروف الصحيحة لأنها قابلة للتغيير بالإبدال والحرف بالنقل وغيره فلا وجه لإنكار هذه القراءة.

{ وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم } { المدائن } مدائن مصر وقراها والحاشرون ، قال ابن عباس هم أصحاب الشرط ، وقال محمد بن إسحاق لما رأى فرعون من آيات الله عز وجل ما رأى قال : لن نغالب موسى إلا بمن هو منه فاتخذ غلماناً وفي قوله { سحروا أعين الناس } دلالة على أنّ السحر لا يقلب عيناً وإنما هو من باب التخيل { واسترهبوهم } أي أرهبوهم واستفعل هنا بمعنى افعل كأبل واستبل والرّهبة الخوف والفزع ، وقال الزمخشري : { واسترهبوهم } وأرهبوهم إرهاباً شديداً كأنهم استدعوا رهبتهم انتهى ، وقال ابن عطية { واسترهبوهم } بمعنى وأرهبوهم فكان فعلهم اقتضى واستدى الرّهبة من الناس انتهى ولا يظهر ما قالا لأن الاستدعاء والطلب لا يلزم منه وقوع المستدعى والمطلوب والظاهر هنا حصول الرّهبة فلذلك قلنا إن استفعل فيه موافق افعل وصرّح أبو البقاء بأنّ معنى { استرهبوهم } طلبوا منهم الرّهبة ووصف السحر بعظيم لقوة ما خيل أو لكثرة آلاته من الحبال والعصي روي أنهم جاؤوا بحبال من أدم وأخشاب مجوفة مملوءة زنبقاً وأوقدوا في الوادي ناراً فحميت بالنار من تحت وبالشمس من فوق فتحركت وركب بعضها بعضاً وهذا من باب الشعبذة والدك وروي غير هذا من حيلهم وفي الكلام حذف تقديره قال ألقوا فألقوا فلما ألقوا والفاء عاطفة على هذا المحذوف ، وقال الحوفي الفاء جواب الأمر انتهى ، وهو لا يعقل ما قال ونقول وصف بعظيم لما ظهر من تأثيره في الأعضاء الظاهرة التي هي الأعين بما لحقها من تخييل العصى والحبال حيات وفي الأعضاء الباطنة التي هي القلوب بما لحقها من الفزع والخوف ولما كانت الرّهبة ناشئة عن رؤية الأعين تأخرت الجملة الدالة عليها.

لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)

لقف الشيء لقفاً ولقفاناً أخذه بسرعة فأكله أو ابتلعه ورجل ثقف لقف سريع الأخذ ولقيف ثقيف بين الثقافة واللقافة ولقم ولهم ولقف بمعنى ومنه التقفته وتلقفته تلقيفاً.
مهما اسم خلافاً للسهيلي إذ زعم أنها قد تأتي حرفاً وهي أداة شرط وندر الاستفهام بها في قوله :
مهما لي الليلة مهماليه . . .
أودي بنعلي وسرباليه
وزعم بعضهم أنها إذا كانت اسم شرط قد تأتي ظرف زمان وفي بساطتها وتركيبها من ماما أو من مه ما خلاف ذكر في النحو وينبغي أن يحمل قول الشاعر :
أماويّ مه من يستمع في صديقه . . .
أقاويل هذا الناس ماويّ يندم
على أنه لا تركيب فيها بل مه بمعنى أكفف ومن هي اسم الشرط ، الجراد معروف واحده جرادة بالتاء للذكر والأنثى ويميز بينهما الوصف وذكر التصريفيون أنه مشتقّ من الجراد قالوا والاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جداً.
القمل قال أبو عبيدة : هو الحمنان واحده حمنانة وهو ضرب من القردان وستأتي أقوال المفسرين فيه.
الضفدع هو الحيوان المعروف وتكسر داله وتفتح وهو مؤنث وشذّ جمعهم له بالألف والتاء قالوا : ضفدعات.
النكث النقض.
اليم البحر.
قال ذو الرمة :
داوية ودجى ليل كأنهما . . .
يم تراطن في حافاته الروم
وتقدّمت هذه المادة في فتيمموا إلا أن ابن قتيبة قال : اليم البحر بالسّريانية.
وقيل بالعبرانية.
التدمير الإهلاك وإخراب البناء.
التتبير الإهلاك ومنه التبر لتهالك الناس عليه.
وقال ابن عطية والكرماني : التتبير الإهلاك وسوء العقبى وأصله الكسر ومنه تبر الذهب لأنه كساره.
{ وأوحينا إلى موسى أن ألق بعصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون }.
الظاهر أنه وحيُ إعلام كما روي أن جبريل عليه السلام أتاه وقال له أنّ الحق يأمرك أن تلقى عصاك وكونه وحي إعلام فيه تثبيت للجأش وتبشير بالنصر ، وقال قوم : هو وحي إلهام ألقى ذلك في روعه وأن يحتمل أن تكون المفسّرة وأن تكون الناصبة أي بأن ألق ، وفي الكلام حذف قبل الجملة الفجائية أي فألقاها { فإذا هي تلقف } وتكون الجملة الفجائية إخباراً بما ترتب على الإلقاء ولا يكون موحى بها في الذكر ومن يذهب إلى أنّ الفاء في نحو خرجت فإذا الأسد زائدة يحتمل على قوله أن تكون هذه الجملة موحى بها في الذكر إلا أنه يقدر المحذوف بعدها أي فألقاها فلقفته ، وقرأ حفص { تلقف } بسكون اللام من لقف ، وقرأ باقي السبعة { تلقف } مضارع لقف حذفت إحدى تاءيه إذ الأصل تتلقف ، وقرأ البزي بإدغام المضارعة في التاء في الأصل ، وقرأ ابن جبير تلقم بالميم أي تبلع كاللقمة { وما } موصولة أي ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزورونه قالوا أو مصدرية أي تلقف إفكهم تسمية للمفعول بالمصدر.

روي أن موسى عليه السلام لما كان يوم الجمع خرج متوكئاً على عصاه ويده في يد أخيه وقد صفّ له السحرة في عدد عظيم فلما ألقوا واسترهبوا أوحى الله إليه فألقى فإذا هي ثعبان عظيم حتى كان كالجبل ، وقيل : طال حتى جاز النيل ، وقيل : طال حتى جاز بذنبه بحر القلزم ، وقيل كان الجمع باسكندرية وطال حتى جاز مدينة البحيرة ، وروي أنهم جعلوا يرقون وحبالهم وعصيهم تعظم وعصا موسى تعظم حتى سدّت الأفق وابتلعت الكل ورجعت بعد عصا وأعدم الله العصيّ والحبال ومدّ موسى يده في الثعبان فعاد عصا كما كان فعلم السحرة حينئذ أن ذلك ليس من عند البشر فخروا سجّداً مؤمنين بالله ورسوله ، قال الزمخشري : أعدم الله بقدرته تلك الأجرام العظيمة أو فرقها أجزاء لطيفة وقالت السّحرة لو كان هذا سحراً لبقيت حبالنا وعصينا.
{ فوقع الحقّ وبطل ما كانوا يعملون } قال ابن عباس والحسن ظهر واستبان ، وقال أرباب المعاني الوقوع ظهور الشيء بوجوده نازلاً إلى مستقره ، قال القاضي : فوقع الحقّ يفيد قوة الظهور والثبوت بحيث لا يصحّ فيه البطلان كما لا يصح في الواقع أن يصير إلا واقعاً ومع ثبوت الحقّ بطلب وزالت تلك الأعيان التي أتوا بها وهي الحبال والعصي ، قال الزمخشري : ومن بدع التفاسير فوقع في قلوبهم أي فأثر فيها من قولهم فاس وقيع أي مجرد انتهى ، و { ما كانوا يعملون } يعم سحر السحرة وسعى فرعون وشيعته.
{ فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين } أي غلب جميعهم في مكان اجتماعهم أو ذلك الوقت { وانقلبوا } أذلاّء وذلك أنّ الانقلاب إن كان قبل إيمان السحرة فهم شركاؤهم في ضمير { انقلبوا } وإن كان بعد الإيمان فليسوا داخلين في الضمير ولا لحقّهم صغار يصفهم الله به لأنهم آمنوا واستشهدوا وهذا إذا كان الانقلاب حقيقة أما إذا لوحظ فيه معنى الصيرورة فالضمير في { وانقلبوا } شامل للسحرة وغيرهم ولذلك فسّره الزمخشري بقوله وصاروا أذلاّء بهوتين.
{ وألقى السحرة ساجدين } لما كان الضمير قبل مشتركاً جرد المؤمنون وأفردوا بالذكر والمعنى خرُّوا سجداً كأنما ألقاهم ملق لشدة خرورهم ، وقيل : لم يتمالكوا مما رأوا فكأنهم ألقوا وسجودهم كان لله تعالى لما رأوا من قدرة الله تعالى فتيقنوا نبوّة موسى عليه السلام واستعظموا هذا النوع من قدرة الله تعالى ، وقيل : ألقاهم الله سجداً سبب لهم من الهدى ما وقعوا به ساجدين ، وقيل سجدوا موافقة لموسى وهارون فإنهم سجدا لله شكراً على وقوع الحقّ فوافقوهما إذ عرفوا الحقّ فكأنما ألقياهم ، قال قتادة : كانوا أول النهار كفاراً سحرة وفي آخره شهداء بررة ، وقال الحسن : تراه ولد في الإسلام ونشأ بين المسلمين يبيع دينه بكذا وكذا وهؤلاء كفار نشؤوا في الكفر بذلوا أنفسهم لله تعالى.
{ قَالوا آمنّا برب العالمين رب موسى وهارون } أي ساجدين قائلين فقالوا في موضع الحال من الضمير في { ساجدين } أو من السحرة وعلى التقديرين فهم ملتبسون بالسجود لله شكراً على المعرفة والإيمان والقول المنبىء عن التصديق الذي محله القلوب ولما كان السجود أعظم القرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد بادروا به متلبسين بالقول الذي لا بد منه عند القادر عليه إذ الدخول في الإيمان إنما يدل عليه القول وقالوا رب العالمين وفاقاً لقول موسى إني رسول من ربّ العالمين ولما كان قد يوهم هذا اللفظ غير الله تعالى كقول فرعون أنا ربكم الأعلى نصّوا بالبدل على أنّ ربّ العالمين { ربّ موسى وهارون } وأنهم فارقوا فرعون وكفروا بربوبيته والظاهر أن قائل ذلك جميع السحرة ، وقيل : بل قاله رؤساؤهم وسمى ابن إسحاق منهم الرؤساء فقال هم سابور وعازور وخطخط ومصفى وحكاه ابن ماكولا أيضاً ، وقال مقاتل : أكبرهم شمعون وبدأوا بموسى قبل هارون وإن كان أكبر سناً من موسى قيل بثلاث سنين لأنّ موسى هو الذي ناظر فرعون وظهرت المعجزتان في يده وعصاه ولأن قوله { وهارون } فاصلة وجاء في طه

{ رب هارون وموسى } لأنّ موسى فيها فاصلة ويحتمل وقوع كل منهما مرتّباً من طائفة وطائفة فنسب فعل بعض إلى المجموع في سورة وبعض إلى المجموع في شورة أخرى ، قال المتكلمون : وفي الآية دلالة على فضيلة العلم لأنهم لما كانوا كاملين في علم السحر علموا أنّ ما جاء به موسى حقّ خارج عن جنس السحر ولولا العلم لتوهّموا أنه سحر وأنه أسحر منهم.
{ قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم } قرأ حفص { أمنتم } على الخبر في كل القرآن أي فعلتم هذا الفعل الشنيع وبّخهم بذلك وقرعهم ، وقرأ العربيان ونافع والبزي بهمزة استفهام ومدة بعدها مطولة في تقدير ألفين إلا ورشاً فإنه يسهل الثانية ولم يدخل أحد ألفاً بين المحققة والملينة وكذلك في طه والشعراء ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر فيهن بالاستفهام وحققا الهمزة وبعدها ألف وقرأ قنبل هنا بإبدال همزة الاستفهام واواً الضمة نون فرعون وتحقيق الهمزة بعدها أو تسهيلها أو إبدالها أو إسكانها أربعة أوجه وقرأ في طه مثل حفص وفي الشعراء مثل البزي هذا الاستفهام معناه الإنكار والاستبعاد والضمير في { به } عائد على الله تعالى لقولهم { قالوا آمنا برب العالمين } ، وقيل يحتمل أن يعود على موسى وفي طه والشعراء يعود في قوله له على موسى لقوله { إنه لكبيركم } ، وقيل آمنت به وآمنت له واحد في قوله { قبل أن آذن لكم } دليل على وهن أمره لأنه إنما جعل ذنبهم بمفارقة الإذن ولم يجعله نفس الإيمان إلا بشرط.
{ إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها } أي صنيعكم هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا منها إلى هذه الصحراء وتواطأتم على ذلك لغرض لكم وهو أن تخرجوا منها القبط وتسكنوا بني إسرائيل قال هذا تمويهاً على الناس لئلا يتبعوا السحرة في الإيمان روي عن ابن مسعود وابن عباس أن موسى عليه السلام اجتمع مع رئيس السحرة شمعون فقال له موسى أرأيت إن غلبتكم أتؤمنون بي فقال له نعم فعلم بذلك فرعون فقال ما قال انتهى ، ولما خاف فرعون أن يكون إيمان السحرة حجة قومه ألقى في الحال نوعين من الشبه أحدهما إنّ هذا تواطؤ منهم لا أنّ ما جاء به حق والثاني { إن ذلك طلب منهم للملك }.

{ فسوف تعلمون } تهديد ووعيد ومفعول { تعلمون } محذوف أي ما يحلّ بكم أبهم في متعلق { تعلمون } ثم عين ما يفعل بهم فقال مقسماً : { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين } لما ظهرت الحجة عاد إلى عادة ملوك السوء إذا غلبوا من تعذيب من ناوأهم وإن كان محقّاً ومعنى { من خلاف } أي يد يمنى ورجل يسرى والعكس ، قيل هو أول من فعل هذا ، وقيل المعنى من أجل الخلاف الذي ظهر منكم والصلب التعليق على الخشب وهذا التوعد الذي توعده فرعون السحرة ليس في القرآن نص على أنه أنفذه وأوقعه بهم ولكن روي في القصص أنه قطع بعضاً وصلب بعضاً وتقدم قول قتادة ، وروي عن ابن عباس أنهم أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء ، وقرأ مجاهد وحميد المكي وابن محيصن { لأقطعن } مضارع قطع الثلاثي و { لأصلبنكم } مضارع صلب الثلاثي بضم لام { لأصلبنكم } وروي بكسرها وجاء هنا { ثم } وفي السورتين { ولأصلبنكم } بالواو فدل على أن الواو أريد بها معنى ثم من كون الصلب بعد القطع والتعدية قد يكون معها مهلة وقد لا يكون.
{ قالوا إنا إلى ربّنا منقلبون } هذا تسليم واتّكال على الله تعالى وثقه بما عنده والمعنى أنا نرجع إلى ثواب ربنا يوم الجزاء على ما نلقاه من الشدائد أو أنا ننقلب إلى لقاء ربنا ورحمته وخلاصنا منك ومن لقائك أو أنا ميتون منقلبون إلى الله فلا نبالي بالموت إذ لا تقدر أن تفعل بنا إلا ما لا بدّ لنا منه فالانقلاب الأول يكون المراد به يوم الجزاء وهذان الانقلابان المراد بهما في الدنيا ويبعد أن يراد بقوله { وأنّا } ضمير أنفسهم وفرعون أي ننقلب إلى الله جميعاً فيحكم بيننا لقوله { وما تنقم منا } فإنّ هذا الضمير يخصُّ مؤمني السحرة والأولى اتحاد الضمائر والذي أجاز هذا الوجه هو الزمخشري : وفي قولهم { إلى ربنا } تبرؤ من فرعون ومن ربوبيته وفي الشعراء لا ضير لأن هذه السورة اختصرت فيها القصة واتسعت في الشعراء ذكر فيها أحوال فرعون من أوّلها إلى آخرها فبدأ بقوله { ألم نربّك فِينَا وليداً } وختم بقوله { ثم أغرقنا الآخرين } فوقع فيها زوائد لم تقع في هذه السورة ولا في طه قاله الكرماني.

{ وما تنقم منا إلا أن آمنا بِآيات ربنا لما جاءتنا } قال الضحاك : وما تطعن علينا ، وقال غيره : وما تكره منا ، وقال الزمخشري : وما تعيب منا ، وقال ابن عطية : وما تعد علينا ذنباً وتؤاخذنا به وعلى هذه التأويلات يكون قوله { إلا أن آمنا } في موضع المفعول ويكون من الاستثناء المفرّغ من المفعول وجاء هذا التركيب في القرآن كقوله { قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا } { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا } وهذا الفعل في لسان العرب يتعدّى بعلى تقول نقمت على الرجل أنقم إذا غلب عليه والذي يظهر من تعديته بمن أنّ المعنى وما تنقم منا أي ما تنال منا كقوله فينتقم الله منه أي يناله بمكروه ويكون فعل وافتعل فيه بمعنى واحد كقدر واقتدر وعلى هذا يكون قوله { إلا أن آمنا } مفعولاً من أجله واستثناء مفرّغاً أي ما تنال منا وتعذّبنا لشيء من الأشياء إلا لأن آمنا بآيات ربنا وعلى هذا المعنى يدل تفسير عطاء ، قال عطاء : أي ما لنا عندك ذنب تعذّبنا عليه إلا أنّا آمنا ، والآيات المعجزات التي أتى بها موسى عليه السلام ومن جعل لما ظرفاً جعل العامل فيها { أنّ آمنا } ومن جعلها حرفاً جعل جوابها محذوفاً لدلالة ما قبله عليه أي لما جاءتنا آمنا وفي كلامهم هذا تكذيب لفرعون في ادعائه الرّبوبية وانسلاخ منهم عن اعتقادهم ذلك فيه والإيمان بالله هو أصل المفاخر والمناقب وهذا الاستثناء شبيه بقوله :
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم . . .
بهنّ فلول من قراع الكتائب
وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو اليسر هاشم وابن أبي عبلة { وما تنقم } بفتح القاف مضارع نقم بكسرها وهما لغتان والأفصح قراءة الجمهور.
{ ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفّنا مسلمين } لما أوعدهم بالقطع والصلب سألوا الله تعالى أن يرزقهم الصبر على ما يحلّ بهم إن حل وليس في هذا السؤال ما يدل على وقوع هذا الموعد بهم خلافاً لمن قال يدلّ على ذلك ولا في قوله وتوفّنا مسلمين دليل على أنه لم يحلَّ بهم الموعود خلافاً لمن قال يدلّ على ذلك لأنهم سألوا الله أن يكون توفيهم من جهته لا بهذا القطع والقتل وتقدّم الكلام على جملة { ربّنا أفرغ علينا صبراً } سألوا الموت على الإسلام وهو الانقياد إلى دين الله وما أمر به.
{ وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقَومه ليفسدوا فى الأرض ويذرك وآلهتك }.
قال ابن عباس : لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل ، قال مقاتل : ومكث موسى بمصر بعد إيمان السحرة عاماً أو نحوه يريهم الآيات وتضمن قول { الملأ } إغراء فرعون بموسى وقومه وتحريضه على قتلهم وتعذيبهم حتى لا يكون لهم خروج عن دين فرعون ويعني بقومه من اتبعه من بني إسرائيل فيكون الاستفهام على هذا استفهام إنكار وتعجّب ، وقيل : هو استخبار والغرض به أن يعلموا ما في قلب فرعون من موسى ومن آمن به ، قال مقاتل : والإفساد هو خوف أن يقتلوا أبناء القبط ويستحيوا نساءهم على سبيل المقاصّة منهم كما فعلوا هي ببني إسرائيل ، وقيل الإفساد دعاؤهم الناس إلى مخالفة فرعون وترك عبادته.

وقرأ الجمهور { ويذرك } بالياء وفتح الراء عطفاً على { ليفسدوا } أي للإفساد ولتركك وترك آلهتك وكان التّرك هو لذلك وبدؤوا أوّلاً بالعلة العامة وهي الإفساد ثم اتبعوه بالخاصة ليدلّوا على أن ذلك الترك من فرعون لموسى وقومه هو أيضاً يؤول إلى شيء يختصّ بفرعون قدحوا بذلك زند تغيظه على موسى وقومه ليكون ذلك أبقى عليهم إذ هم الأشراف وبترك موسى وقومه بمصر يذهب ملكهم وشرفهم ، ويجوز أن يكون النصب على جواب الاستفهام والمعنى أنى يكون الجمع بين تركك موسى وقومه للإفساد وبين تركهم إياك وعبادة آلهتك أي إنّ هذا مما لا يمكن وقوعه ، وقرأ نعيم بن ميسرة والحسن بخلاف عنه { ويذرك } بالرفع عطفاً على { أتذر } بمعنى أتذره ويذرك أي أتطلق له ذلك أو على الاستئناف أو على الحال على تقدير وهو يذرك ، وقرأ الأشهب العقيلي والحسن بخلاف عنه { ويذرك } بالجزم عطفاً على التوهّم كأنه توهم النطق يفسدوا جزماً على جواب الاستفهام كما قال { فأصدّق وأكن من الصالحين } أو على التخفيف من { ويذرك } ، وقرأ أنس بن مالك ونذرك بالنون ورفع الراء توعدوه بتركه وترك آلهته أو على معنى الإخبار أي إنّ الأمر يؤول إلى هذا ، وقرأ أبيّ وعبد الله { ف الأرض } وقد تركوك أن يعبدوك { وآلهتك } ، وقرأ الأعمش وقد تركك وآلهتك.
وقرأ الجمهور { وآلهتك } على الجمع والظاهر أنّ فرعون كان له آلهة يعبدها ، وقال سليمان التيمي : بلغني أنه كان يعبد البقر ، وقيل : كان يعبد حجراً يعلقه في صدره كياقوتة أو نحوها ، وقيل : الإضافة هي على معنى أنه شرع لهم عبادة آلهة من بقر وأصنام وغير ذلك وجعل نفسه الإله الأعلى فقوله على هذا { أنا ربكم الأعلى } إنما هو بمناسبة بينه وبين سواه من المعبودات ، قيل : كانوا قبطاً يعبدون الكواكب ويزعمون أنها تستجيب دعاء من دعاها وفرعون كان يدعي أن الشمس استجابت له وملَّكته عليهم ، وقرأ ابن مسعود وعليّ وابن عباس وأنس وجماعة غيرهم وإلهتك وفسروا ذلك بأمرين أحدهما أنّ المعنى وعبادتك فيكون إذ ذاك مصدراً ، قال ابن عباس : كان فرعون يعبد ولا يعبد ، والثاني أن المعنى ومعبودك وهي الشمس التي كان يعبدها والشمس تمسى إلهة علماً عليها ممنوعة الصرف.
{ قال سنقتل أبناءهم ونستحيِي نساءهم وإنّا فوقهم قَاهرون } وإنما لم يعاجل موسى وقومه بالقتال لأنه كان مليء من موسى رعباً والمعنى أنه قال سعيد عليهم ما كنا فعلنا بهم قبل من قتل أبنائهم ليقل رهطه الذين يقع الإفساد بواسطتهم والفوقية هنا بالمنزلة والتمكّن في الدنيا و { قَاهرون } يقتضي تحقيرهم أي قاهرون لهم قهراً قلّ من أن نهتم به فنحن على ما كنا عليه من الغلبة أو أنّ غلبة موسى لا أثر لها في ملكنا واستيلائنا ولئلا يتوهم العامة أن المولود الذي تحدّث المنجمون عنه والكهنة بذهاب ملكنا على يده فيثبطهم ذلك عن طاعتنا ويدعوهم إلى اتباعه وإنه منتظر بعد وشدّد { سنقتل } ويقتلون الكوفيون والعربيان وخففهما نافع وخفف ابن كثير { سنقتل } وشدد ويقتلون.

{ قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا } لما توعّدهم فرعون جزعوا وتضجّروا فسكنهم موسى عليه السلام وأمرهم بالاستعانة بالله وبالصبر وسلاهم ووعدهم النصر وذكرهم ما وعد الله بني إسرائيل من إهلاك القبط وتوريثهم أرضهم وديارهم.
{ إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده }.
أي أرض مصر وأل فيه للعهد وهي { الأرض } التي كانوا فيها ، وقيل : { الأرض } أرض الدّنيا فهي على العموم ، وقيل : المراد أرض الجنة لقوله { وأورثنا الأرض نتبوّأ من الجنة حيث نشاء } وتعدّى { استعينوا } هنا بالباء وفي { وإياك نستعين } بنفسه وجاء اللهم إنا نستعينك.
{ والعاقبة للمتقين } قيل : النصر والظفر ، وقيل : الدار الآخرة ، وقيل : السعادة والشهادة ، وقيل : الجنة ، وقال الزمخشري : الخاتمة المحمودة { للمتقين } منهم ومن القبط وإنّ المشيئة متناولة لهم انتهى ، وقرأت فرقة { يورثها } بفتح الراء ، وقرأ الحسن { يورثها } بتشديد الراء على المبالغة ورويت عن حفص ، وقرأ ابن مسعود وأبيّ { والعاقبة } بالنصب عطفاً على { إن الأرض } وفي وعد موسى تبشير لقومه بالنصر وحسن الخاتمة ونتيجة طلب الإعانة توريث الأرض لهم ونتيجة الصبر العاقبة المحمودة والنصر على من عاداهم فلذلك كان الأمر بشيئين ينتج عنهما شيئان.
قال الزمخشري : فإن قلت : لم أخليت هذه الجملة عن الواو وأدخلت على الذي قبلها؟ قلت : هي جملة مبتدأة مستأنفة وأما { وقال الملأ } فمعطوفة على ما سبقها من قوله { قال الملأ من قوم فرعون } انتهى.
{ قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا } أي بابتلائنا بذبح أبنائنا مخافة ما كان يتوقع فرعون من هلاك ملكه على يد المولود الذي يولد منا { من قبل أن تأتينا } ، قال الزمخشري : من قبل مولد موسى إلى أن استنبأ { ومن بعد ما جئتنا } إعادة ذلك عليهم قاله ابن عباس وزاد الزمخشري : وما كانوا يستعبدون ويمتهنون فيه من أنواع الخدم والمهن ويمسّون به من العذاب انتهى ، وقال ابن عطية : والذي من بعد مجيئه يعنون به وعيد فرعون وسائر ما كان خلال تلك المدة من الإخافة لهم ، وقال الحسن : بأخذ الجزية منهم قبل بعث موسى إليهم وبعد بعثه ما زاد على ذلك ، وقال الكلبي : كانوا يضربون له اللبن ويعطيهم التّبن فلما جاء موسى غرمهم التبن وكان النساء يغزلن له الكتان وينسجنه ، وقال جرير : استسخرهم من قبل إتيان موسى في أوّل النهار إلى نصف النهار فما جاء موسى استسخرهم النهار كله بلا طعام ولا شراب ، وقال علي بن عيسى { من قبل } بالاستعباد وقتل الأولاد { ومن بعد } بالتهديد والإبعاد ، وروي مثله عن عكرمة ، وقيل من { قبل أن تأتينا } بعهد الله بالخلاص { ومن بعدما جئتنا } به قالوه في معرض الشكوى من فرعون واستعانة عليه بموسى ، وقال ابن عباس والسدّي : قالوا ذلك حين اتبعهم واضطرّهم إلى البحر فضاقت صدورهم ورأوا بحراً أمامهم وعدوّاً كثيفاً وراءهم لما أسرى بهم موسى حتى هجموا على البحر التفتوا فإذا هم برهج دواب فرعون فقالوا هذه المقالة وقالوا هذا البحر أمامنا وهذا فرعون وراءنا قد رهقنا بمن معه انتهى.

وهذا القول فيه بعد وسياق الآيات يدلّ على الترتيب وقد جاء بعد هذه { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين } ، قال ابن عطية : وهو كلام يجري على المعهود من بني إسرائيل من اضطرابهم على أنبيائهم وقلة يقينهم وصبرهم على الدّين انتهى ، قيل ولا يدلّ قولهم ذلك على كراهة مجيء موسى لأن ذلك يؤدي إلى الكفر وإنما قالوه لأنه كان وعدهم بزوال المضار فظنوا أنها نزول على الفور فقولهم ذلك استعطاف لا نفرة.
{ قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون } هذا رجاء من نبي الله موسى عليه السلام ومثله من الأنبياء يقوي قلوب أتباعهم فيصبرون إلى وقوع متعلق الرّجاء ولا تنافي بين هذا الرجاء وبين قوله { والعاقبة للمتقين } من حيث إن الرجاء غير مقطوع بحصول متعلّقة والأخبار بأنّ العاقبة للمتقين واقع لا محالة لأن العاقبة إن كانت في الآخرة فظاهر جدّاً عدم التنافي وإن كانت في الدنيا فليس فيها تصريح بعاقبة هؤلاء القوم المخصوصين فسلك موسى طريق الأدب مع الله وساق الكلام مساق الرجاء ، وقال التبريزي يحتمل أن يكون قد أوحى بذلك إلى موسى فعسى للتحقيق أو لم يوح فيكون على الترجي منه ، قال الزمخشري : تصريح بما رمز إليه من البشارة قبل وكشف عنه وهو إهلاك فرعون واستخلافهم بعده في أرض مصر ، وقال ابن عطية واستعطاف موسى لهم بقوله { عسى ربكم أن يهلك عدوكم } ووعده لهم بالاستخلاف في الأرض يدلّ على أنه يستدعي نفوساً نافرة ويقوي هذا الظن في جهة بني إسرائيل وسلوكهم هذا السبيل في غير قصة والأرض هنا أرض مصر قاله ابن عباس وقد حقّق الله هذا الرجاء بوقوع متعلقة فأغرق فرعون وملكهم مصر ومات داود وسليمان ، وقيل : أرض الشام فقد فتحوا بيت المقدس مع يوشع وملكوا الشام ومات داود وسليمان ومعنى { فينظر كيف تعملون } أي في استخلافكم من الإصلاح والإفساد وهي جملة تجري مجرى البعث والتحريض على طاعة الله تعالى وفي الحديث « أن الدنيا حلوة خضرة وأن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون »

، وقال الزمخشري : فيرى الكائن منكم من العمل حسنه وقبيحه وشكر النعمة وكفرانها ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم انتهى ، وفيه تلويح الاعتزال ودخل عمرو بن عبيد وهو أحد كبار المعتزلة وزهادهم على المنصور ثاني خلفاء بني العباس قبل الخلافة وعلى مائدته رغيف أو رغيفان وطلب زيادة لعمرو فلم توجد فقرأ عمرو هذه الآية ، ثم دخل عليه بعد ما استخلف فذكر له ذلك وقال قد بقي { فينظر كيف تعملون }.
{ ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون } الأخذ التناول باليد ومعناه هنا الابتلاء في المدّة التي كان أقام بينهم موسى يدعوهم إلى الله ومعنى بالسنين بالقحوط والجدوب والسنة تطلق على الحول وتطلق على الجدب ضد الخصب وبهذا المعنى تكون من الأسماء الغالبة كالنجم والدّبران وقد اشتقوا منها بهذا المعنى فقالوا أسنت القوم إذا أجدبوا ومنه قوله :
ورجال مكة مسنتوون عجاف . . .
وقال حاتم :
فإنا نهين المال من غير ضنّة . . .
ولا يستكينا في السنين ضريرها
وفي سنين لغتان أشهرهما إعرابها بالواو ورفعاً والياء جرّاً ونصباً وقد تكلف النحاة علة لكونها جمعت هذا الجمع والأخرى جعل الإعراب في النون والتزام الياء في الأحوال الثلاثة نقلها أبو زيد والفراء ، وقال الفراء : هي في هذه اللغة مصروفة عند بني عامر وغير مصروفة عند غيرهم والكلام على ذلك أمعن في كتب النحو وكان هذا الجدب سبع سنين ، قال ابن عباس وقتادة : أما السّنون فكانت لباديتهم ومواشيهم وأما نقص الثمرات فكان في أمصارهم وهذه سيرة الله في الأمم يبتليها بالنقم ليزدجروا ويتذكروا بذلك ما كانوا فيه من النعم فإنّ الشدة تجلب الإنابة والخشية ورقة القلب والرجوع إلى طلب لطف الله وإحسانه وكذا فعل بقريش حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف وروي أنه يبس لهم كل شيء حتى نيل مصر ونقصوا من الثمرات حتى كانت النخلة تحمل الثمرة الواحدة ومعنى { لعلهم يذكرون } رجاء لتذكرهم وتنبههم على أن ذلك الابتلاء إنما هو لإصرارهم على الكفر وتكذيبهم بآيات الله فيزدجروا.
{ فاذا جاءتهم الحسنة قَالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } ابتلوا بالجدب ونقص الثمرات رجاء التذكير فلم يقع المرجو وصاروا إذا أخصبوا وصحّوا قالوا : نحن أحقاء بذلك وإذا أصابهم ما يسوءهم تشاءموا بموسى وزعموا أن ذلك بسببه واللام في { لنا } قيل للاستحقاق كما تقول السّرج للفرس وتشاؤمهم بموسى ومن معه معناه أنه لولا كونهم فينا لم يصبنا كما قال الكفار للرسول عليه السلام هذه من عندك في قوله { وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } وأتى الشرط بإذا في مجيء الحسنة وهي لما تيقن وجوده لأنّ إحسان الله هو المعهود الواسع العام لخلقه بحيث أنّ إحسانه لخلقه عام حتى في حال الابتلاء وأتى الشرط بأن في إصابة السيئة وهي للممكن إبراز أن إصابة السيئة مما قد يقع وقد لا يقع وجهه رحمة الله أوسع ، قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف قيل { فإذا جاءتهم الحسنة } بإذا وتعريف الحسنة { وإن تصبهم سيئة } بأن وتنكير السيئة ( قلت ) : لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه وأما السيئة فلا تقع إلا في الندرة ولا يقع إلا يسير منها ومنه قول بعضهم وقد عددت أيام البلاء فهلا عددت أيام الرجاء انتهى ، وقرأ عيسى بن عمرو طلحة بن مصرّف تطيروا بالتاء وتخفيف الطاء فعلاً ماضياً وهو جواب { وإن تصبهم } وهذا عند سيبويه مخصوص بالشعر أعني أن يكون فعل الشرط مضارعاً وفعل الجزاء ماضي اللفظ نحو قول الشاعر :

من يكدني بسيىء كنت منه . . .
كالشجى بين حلقه والوريد
وبعض النحويين يجوزه في الكلام وما روي من أن مجاهداً قرأ تشاءموا مكان { تطيروا } فينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف.
{ ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون } قال ابن عباس { طائرهم } ما يصيبهم أي ما طار لهم في القدر مما هم لا قوة وهو مأخوذ من زجر الطير سمى ما عند الله من القدر للإنسان طائراً لما كان يعتقد أن كل ما يصيبه إنما هو بحسب ما يراه في الطائر فهي لفظة مستعارة قاله ابن عطية ، وقال الزمخشري : أي سبب خيرهم وشرّهم عند الله تعالى وهو حكمه ومشيئته والله تعالى هو الذي يشاء ما يصيبهم من الحسنة والسيئة وليس شؤم أحدهم ولا يمنه بسبب فيه كقوله تعالى { قل كل من عند الله } ويجوز أن يكون معناه ألا إنما سبب شؤمهم عند الله وهو عملهم المكتوب عنده يجري عليهم ما يسوءهم لأجله ويعاقبون له بعد موتهم بما وعدهم الله تعالى في قوله { النار يعرضون عليها } الآية ولا طائر أشأم من هذا ، وقرأ الحسن ألا إنما طيرهم وحكم بنفي العلم عن أكثرهم لأنّ القليل منهم علم كمؤمن آل فرعون وآسية امرأة فرعون ، وقال ابن عطية : ويحتمل أن كون الضمير في { طائرهم } لضمير العالم ويجيء تخصيص الأكثر على ظاهره ويحتمل أن يريد و { لكن أكثرهم } ليس قريباً أن يعلم لانغمارهم في الجهل وعلى هذا فيهم قليل معدّ لأن يعلم لو وفقه الله انتهى ، وهما احتمالان بعيدان وأبعد منه قوله وإمّا أن يراد الجمع وتجوّز في العبارة.
{ وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين } الضمير في { وقالوا } عائد على آل فرعون لم يزدهم الأخذ بالجذوب ونقص الثمرات إلا طغياناً وتشدّداً في كفرهم وتكذيبهم ولم يكتفوا بنسبة ما يصيبهم من السيئات إلا أن ذلك بسبب موسى ومن معه حتى واجهوه بهذا القول الدالّ على أنه لو أتى بما أتى من الآيات فإنهم لا يؤمنون بها وأتوا بمهما التي تقتضي العموم ثم فسّروا بآية على سبيل الاستهزاء في تسميتهم ذلك آية كما قالوا في قوله

{ إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } وتسميه لها بآية أي على زعمك ولذلك علّلوا الإتيان بقولهم { لتسحرنا بها } وبالغوا في انتفاء الإيمان بأن صدّروا الجملة بنحن وأدخلوا الباء في { بمؤمنين } أي أنّ إيماننا لك لا يكون أبداً { ومهما } مرتفع بالابتداء أو منتصب بإضمار فعل يفسره فعل الشرط فيكون من باب الاشتغال أي أيّ شيء يحضر تأتنا به والمضير في { تحرك به } عائد على { مهما } وفي { بها } عائد أيضاً على معنى مهما لأنّ المراد به أية آية كما عاد على ما في قوله { ما ننسخ من آية أو ننسها } ، وكما قال زهير :
ومهما تكن عند امرىء من خليقة . . .
وإن خالها تخفى على الناس تُعلم
فأنث على المعنى ، قال الزمخشري : وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرّفها من لا يد له في علم العربية فيضعها غير موضعها ويحسب مهما بمعنى متى ما ويقول مهما جئتني أعطيتك وهذا من وضعه وليس من كلام واضع العربية في شيء ثم يذهب فيفسر مهما تأتنا به من آية بمعنى الوقت فيلحد في آيات الله تعالى وهو لا يشعر وهذا وأمثاله مما يجوب الجثو بين يدي الناظر في كتاب سيبويه انتهى ، وهذا الذي أنكره الزمخشري من أن مهما لا تأتي ظرف زمان وقد ذهب إليه ابن مالك ذكره في التسهيل وغيره من تصانيفه إلا أنه لم يقصر مدلولها على أنها ظرف زمان بل قال وقد ترد ما ومهما ظرفي زمان وقال في أرجوزته الطويلة المسماة بالشافية الكافية :
وقد أتت مهما وما ظرفين في . . .
شواهد من يعتضد بها كفى
وقال في شرح هذا البيت جميع النحويين يجعلون ما ومهما مثل من في لزوم التجرّد عن الظرف مع أنّ استعمالها ظرفين ثابت في استعمال الفصحاء من العرب وأنشد أبياتاً عن العرب زعم منها أنّ ما ومهما ظرفا زمان وكفانا الرّد عليه فيها ابنه الشيخ بدر الدين محمد وقد تأوّلنا نحن بعضها وذكرنا ذلك في كتاب التكميل لشرح التسهيل من تأليفنا وكفاه ردّاً نقله عن جميع النحويين خلاف ما قاله لكن من يعاني علماً يحتاج إلى مثوله بين يدي الشيوخ وأما من فسّر مهما في الآية بأنها ظرف زمان فهو كما قال الزمخشري ملحد في آيات الله وأما قول الزمخشري وهذا وأمثاله إلى آخر كلامه فهو يدلّ على أنه جثا بين يدي الناظر في كتاب سيبويه وذلك صحيح رحل من خوارزم في شيبته إلى مكة شرفها الله تعالى لقراءة كتاب سيبويه على رجل من أصحابنا من أهل جزيرة الأندلس كان مجاوراً بمكة وهو الشيخ الإمام العلاّمة المشاور أبو بكر عبد الله بن طلحة بن محمد بن عبد الله الأندلسي من أهل بابرة من بلاد جزيرة الأندلس فقرأ عليه الزمخشري جميع كتاب سيبويه وأخبره به قراءة عن الإمام الحافظ أبي علي الحسين بن محمد بن أحمد الغساني الجياني قال قرأته على أبي مروان عبد الملك بن سراج بن عبد الله بن سراج القرطبي قال قرأته على أبي القاسم بن الإفليلي عن أبي عبد الله محمد بن عاصم العاصمي عن الرباحي بسنده ، وللزمخشري قصيد يمدح به سيبويه وكتابه وهذا يدلّ على أنه ناظر في كتاب سيبويه بخلاف ما كان يعتقد فيه بعض أصحابنا من أنه إنما نظر في نتف من كلام أبي علي الفارسي وابن جني وقد صنف أبو الحجاج يوسف بن معزوز كتاباً في الردّ على الزمخشري في كتاب المفصل والتنبيه على أغلاطه التي خالف فيها إمام الصناعة أبا بشر عمرو بن عثمان سيبويه رحم الله جميعهم.

{ فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين } قال الأخفش الطوفان جمع طوفانة عند البصريين وهو عند الكوفيين مصدر كالرجحان ، وحكى أبو زيد في مصدر طاف طوفاً وطوافاً ولم يحك طوفاناً وعلى تقدير كونه مصدراً فلا يراد به هنا المصدر ، قال ابن عباس هو الماء المغرق ، وقال قتادة والضحاك وابن جبير وأبو مالك ومقاتل هو المطر أرسل عليهم دائماً الليل والنهار ثمانية أيام واختاره الفراء وابن قتيبة ، وقيل ذلك مع ظلمة شديدة لا يرون شمساً ولا قمراً ولا يقدر أحد أن يخرج من داره.
وقيل أمطروا حتى كادوا يهلكون وبيوت القبط وبني إسرائيل مشتبكة فامتلأت بيوت القبط ماء حتى قاموا فيه إلى تراقيهم فمن جلس غرق ولم يدخل بيوت بني إسرائيل قطرة وفاض الماء على وجه أرضهم وركد فمنعهم من الحرث والبناء والتصرّف ودام عليهم سبعة أيام ، وقيل طم فيض النيل عليهم حتى ملأ الأرض سهلاً وجبلاً.
وقال ابن عطية : هو عام في كل شيء يطوف إلا أن استعمال العرب له أكثر في الماء والمطر الشديد.
ومنه قول الشاعر :
غير الجدّة من عرفانه . . .
خرق الرّيح وطوفان المطر
ومد طوفان مبيد مددا . . .
شهراً شآبيب وشهراً بردا
وقال مجاهد وعطاء ووهب وابن كثير هو هنا الموت الجارف وروته عائشة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولو صحّ وجب المصير إليه ونقل عن مجاهد ووهب أنه الطاعون بلغة اليمن ، وقال أبو قلابة هو الجدري وهو أول عذاب وقع فيهم فبقي في الأرض.
وقيل هو عذاب نزل من السماء فطاف بهم ، وروي عن ابن عباس أنه معمى عنى به شيء أطافه الله بهم فقالوا لموسى ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك فدعا فرفع عنهم فما آمنوا فنبت لهم في تلك السنة من الكلأ والزرع ما لم يعهد مثله فأقاموا شهراً فبعث الله تعالى عليهم الجراد فأكلت عامة زرعهم وثمارهم ثم أكلت كل شيء حتى الأبواب وسقوف البيوت والثياب ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء ففزعوا إلى موسى ووعدوه التوبة فكشف عنهم سبعة أيام وخرج موسى عليه السلام إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجع الجراد إلى النواحي التي جئن منها وقالوا ما نحن بتاركي ديننا فأقاموا شهراً وسلّط عليهم القمل ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعطاء : هو الدّبا وهو صغار الجراد قبل أن تنبت له أجنحة ولا يطير ، وقال ابن جبير عن ابن عباس : هو السّوس الذي يقع في الحنطة ، وقال الحسن وابن جبير : دواب سود صغار ، وقال حبيب بن أبي : ثابت هو الجعلان ، وقال أبو عبيدة : هو الحمنان وهو ضرب من القردان ، وقال عطاء الخراساني وزيد بن أسلم : هو القمل المعروف وهو لغة فيه ويؤيده قراءة الحسن بفتح القاف وسكون الميم ، وقيل هو البراغيث حكاه ابن زيد وروي أنّ موسى مشى إلى كثيب أهيل فضربه بعصاه فانتشر كله قملاً بمصر فأكل ما أبقاه الجراد ولحس الأرض وكان يدخل بين جلد القبطيّ وقميصه ويمتلىء الطعام ليلاً ويطحن أحدهم عشرة أجربة فلا يرد منها إلا يسيراً وسعى في أبشارهم وشعورهم وأهداب عيونهم ولزمت جلودهم فضجوا وفزعوا إلى موسى عليه السلام فرفع عنهم فقالوا قد تحققنا الآن أنك ساحر وعزّة فرعون لا نصدقك أبداً ، فأرسل الله عليهم بعد شهر الضفادع فملأت آنيتهم وأطعماتهم ومضاجعهم ورمت بأنفسها في القدور وهي تغلي وفي التنانير وهي تفور وإذا تكلم أحدهم وثبت إلى فيه ، قال ابن جبير : وكان أحدهم يجلس في الضفادع إلى ذقنه فقالوا لموسى ارحمنا هذه المرة ونحن نتوب التوبة النصوح ولا نعود فأخذ عليهم العهود فكشف عنهم فنقضوا العهد فأرسل الله عليهم الدم ، قال الجمهور : صار ماؤهم دماً حتى أنّ الإسرائيلي ليضع الماء في القبطي فيصير في فيه دماً وعطش فرعون حتى أشفى على الهلاك فكان يمصّ الأشجار الرطبة فإذا مضغها صار ماؤها الطيّب ملحاً أجاجاً ، وقال سعيد بن المسيب : سال عليهم النيل دماً ، وقال زيد بن أسلم : الدّم هو الرعاف سلطه الله عليهم.

ومعنى تفصيل الآيات تبيينها وإزالة أشكالها والتفصيل في الإجرام هو التفريق وفي المعاني يراد به أنه فرق بينها فاستبانت وامتاز بعضها من بعض فلا يشكل على العاقل أنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره وأنها عبرة لهم ونقمة على كفرهم ، وقال ابن قتيبة سماها { مفصلات } لأن بين الآية والآية فصلاً من الزمان ، قيل كانت الآية تمكث من السبت إلى السبت ثم يبقون عقيب رفعها شهراً في عافية ، وقيل ثمانية أيام ثم تأتي الآية الأخرى ، وقال وهب : كان بين كل آيتين أربعون يوماً ، وقال نوف البكالي مكث موسى عليه السلام في آل فرعون بعد إيمان السحرة عشرين سنة يريهم الآيات وحكمة التفصيل بالزمان أنه يمتحن فيه أحوالهم أيفون بما عاهدوا أم ينكثون فتقوم عليهم الحجة وانتصب { آيات مفصلات } على الحال والذي دلّت عليه الآية أنه أرسل عليهم ما ذكر فيها وأما كيفية الإرسال ومكث ما أرسل عليهم من الأزمان والهيئات فمرجعه إلى النّقل عن الأخبار الإسرائيليات إذ لم يثبت من ذلك في الحديث النبوي شيء ومع إرسال جنس الآيات استكبروا عن الإيمان وعن قبول أمر الله تعالى ، { وكانوا قوماً مجرمين } إخبار منه تعالى عنهم باجترامهم على الله وعلى عباده.

{ ولما وقع عليهم الرّجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلنّ معك بني إسرائيل } الظاهر أنّ الرجز هنا هو ما كان أرسل عليهم من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم فإن كان أريد الظاهر كان سؤالهم موسى بعد وقوع جميعها لا بعد وقوع نوع منها ويحتمل أن يكون المعنى { ولما وقع عليهم } نوع من { الرجز } فيكون سؤالهم قد تخلّل بين نوع ونوع ومعنى { وقع عليهم } نزل عليهم وثبت وقال قوم : { الرجز } الطاعون نزل بهم مات منهم في ليلة سبعون ألف قبطي وفي قولهم { ادع لنا ربك } وإضافة الرب إلى موسى عدم إقرار بأنه ربهم حيث لم يقولوا ادعُ لنا ربنا ومعنى { بما عهد عندك } بما اختصك به فنبأك أو بما وصّاك أن تدعو به ليجيبك كما أجابك في الآيات أو بما استودعك من العلم والظاهر تعلق { بما عاهد } بأدع لنا ربك ومتعلق الدعاء محذوف تقديره { ادع لنا ربك بما عهد عندك } في كشف هذا الرّجز { ولئن كشفت } جواب لقسم محذوف في موضع الحال من قالوا أي قالوا ذلك مقسمين { لئن كشفت } أو لقسم محذوف معطوف أي وأقسموا لئن كشفت وجوز الزمخشري وابن عطية وغيرهما أن تكون الباء في { بما عهد عندك } باء القسم أي قالوا { ادعُ لنا ربّك بما عهد عندك } في كشف الرجز مقسمين { بما عهد عندك لئن كشفت } أو وأقسموا { بما عهد عندك لئن كشفت } والمعنى { لئن كشفت } بدعائك وفي قولهم { لنؤمنن لك } دلالة على أنه طلب منهم الإيمان كما أنه طلب منهم إرسال بني إسرائيل وقدّموا الإيمان لأنه المقصود الأعظم الناشىء منه الطواعية وفي إسناد الكشف إلى موسى حيدة عن إسناده إلى الله تعالى لعدم إقرارهم بذلك.
{ فلما كشفنا عنهم الرّجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون } في الكلام حذف دل عليه المعنى وهو فدعا موسى فكشف عنهم الرجز وأسند تعالى الكشف إليه لأنه هو الكاشف حقيقة فلما كان من قولهم أسندوه إلى موسى وهو إسناد مجازي ولما كان إخباراً من الله أسنده تعالى إليه لأنه إسناد حقيقي ولما كان الرجز من جملة أخرى غير مقولة لهم حسن إظهاره دون ضميره وكان جائزاً أن يكون التركيب في غير القرآن { فلما كشفنا عنهم } ومعنى { إلى أجل هم بالغوه } إلى حد من الزمان هم بالغوه لا محالة فيعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدّم لهم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلوله قاله الزمخشري ، وقال ابن عطية : يريد به غاية كل واحد منهم بما يخصّه من الهلاك والموت هذا اللازم من اللفظ كما تقول أخرت كذا إلى وقت كذا وأنت لا تريد وقتاً بعينه ، وقال يحيى بن سلام : الأجل هاهنا الغرق قال وإنما قال هذا القول لأنه رأى جمهور هذه الطائفة قد اتفق أن هلكت غرقاً فاعتقد أنّ الإشارة هاهنا إنما هي في الغرق وهذا ليس بلازم لأنه لا بد أنه مات منهم قبل الغرق عالم ومنهم من أخر وكشف العذاب عنهم إلى أجل بلغه انتهى وفي التحرير إلى أجل إلى انقضاء مدة إمهالهم وهي المدة المضروبة لإيمانهم ، وقيل : الغرق ، وقيل : الموت وإذا فسر الأجل بالموت أو بالغرق فلا يصحّ كشف العذاب إلى ذلك الوقت أي وقت حصول الموت أو الغرق لأنه قد تخلل بين الكشف والغرق أو الموت زمان وهو زمان النكث فينبغي أن يكون التقدير على هذا إلى أقرب أجل هم بالغوه أما إذا كان الأجل هو المدة المضروبة لإيمانهم وإرسالهم بني إسرائيل فلا يحتاج إلى حذف مضاف و { إلى أجل } قالوا متعلق { بكشفنا } ولا يمكن حمله على التعلق به لأن ما دخلت عليه لما ترتب جوابه على ابتداء وقوعه والغاية تنافي التعليق على ابتداء الوقوع فلا بدّ من تعقل الابتداء والاستمرار حتى تتحقق الغاية ولذلك لا تصحّ الغاية في الفعل عن المتطاول لا تقول لما قتلت زيداً إلى يوم الخميس جرى كذا ولا لما وثبت إلى يوم الجمعة اتفق كذا وجعل بعضهم { إلى أجل } من تمام الرجز أي الرّجز كائناً إلى أجل والمعنى أنّ العذاب كان مؤجلاً ويقوي هذا التأويل كون جواب لما جاء بإذا الفجائية أي فلما كشفنا عنهم العذاب المقرر عليهم إلى أجل فاجأوا بالنكث وعلى معنى تعيينه الكشف بالأجل المبلوغ لا تتأتى المفاجأة إلى على تأويل الكشف بالاستمرار المغيا ، فتكون المفاجأة بالنكث إذ ذاك ممكنة ، وقال الزمخشري : { إذا هم ينكثون } جواب لما يغيا فلما كشفا عنهم فاجأوا النكث وبادروه ولم يؤخّروه ولكن لما كشف عنهم نكثوا انتهى ، ولا يمكن التغيية مع ظاهر هذا التقدير وهم بالغوه جملة في موضع الصفة لأجل وهي أفخم من الوصف بالمفرد لتكرر الضمير فليس في حسن التركيب كالمفرد لو قيل في غير القرآن إلى أجل بالغيه ومجيء إذا الفجائية جواباً للما مما يدل على أن لما حرف وجوب لوجوب كما يقول سيبويه لا ظرف كما زعم بعضهم لافتقاره إلى عامل فيه والكلام تام لا يحتمل إضماراً ولا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها ، وقرأ أبو هاشم وأبو حيوة { ينكثون } بكسر الكاف.

{ فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } أي أحللنا بهم النقمة وهي ضدّ النعمة فإن كان الانتقام هو الإغراق فتكون الفاء تفسيرية وذلك على رأي من أثبت هذا المعنى للفاء وإلا كان المعنى فأردنا الانتقام منهم والباء في { بِأنهم } سببية والآيات هي المعجزات التي ظهرت على يد موسى عليه السلام والظاهر عود الضمير في { عنها } إلى الآيات أي غفلوا عما تضمنته الآيات من الهدى والنجاة وما فكروا فيها وتلك الغفلة هي سبب التكذيب ، وقيل يعود الضمير على النقمة الدالّ عليها { فانتقمنا } أي كانوا عن النقمة وحلولها بهم غافلين والغفلة في القول الأول عنى به الإعراض عن الشيء لأنّ الغفلة عنه والتكذيب لا يجتمعان من حيث أن الغفلة تستدعي عدم الشعور بالشيء والتكذيب به يستدعي معرفته ولأنه لو أريد صفة الغفلة لكانوا معذورين لأنّ تلك ليست باختيار العبد.
{ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها } لما قال موسى عليه السلام { عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض } كان كما ترجى موسى فأغرق أعداءهم في اليم واستخلف بني إسرائيل في الأرض { والذين كانوا يستضعفون } هم بنو إسرائيل كان فرعون يستعبدهم ويستخدمهم والاستضعاف طلب الضعيف بالقهر كثر استعماله حتى قيل استضعفه أي وجده ضعيفاً { مشارق الأرض ومغاربها } قالت فرقة : هي الأرض كلها ، قال ابن عطية ذلك على سبيل المجاز لأنه تعالى ملكهم بلاداً كثيرة وأما على الحقيقة فإنه ملك ذريّتهم وهو سليمان بن داود ، وقال الحسن أيضاً : { مشارق الأرض } الشام { ومغاربها } ديار مصر ملكهم الله إياها بإهلاك الفراعنة والعمالقة وقاله الزمخشري قال : وتصرفوا فيها كيف شاؤوا في أطرافها ونواحيها الشرقية والغربية ، وقال الحسن أيضاً وقتادة وغيرهما : هي أرض الشام ، وفي كتاب النقاش عن الحسن : أرض مصر والبركة فيها بالماء والشجر قاله ابن عباس وذيله غيره فقال بالخصب والأنهار وكثرة الأشجار وطيب الثمار ، وقيل : البركة بإقدام الأنبياء وكثرة مقامهم بها ودفنهم فيها وهذا يتخرج على من قال أرض الشام ، وقيل : { باركنا } جعلنا الخير فيها دائماً ثابتاً وهذا يشير إلى أنها مصر.
وقال الليث هي مصر بارك الله فيها بما يحدث عن نيلها من الخيرات وكثرة الحبوب والثمرات وعن عمر رضي الله عنه أن نيل مصر سيّد الأنهار في حديث طويل وروي أنه كانت الجنات بحافتي هذا النيل من أوله إلى آخره في البرين جميعاً ما بين أسوان إلى رشيد وكانت الأشجار متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء ، وقال أبو بصرة الغفاري : مصر خزائن الأرض كلها ، ألا ترى إلى قول يوسف عليه السلام

{ اجعلنى على خزائن الأرض } ويروي أن عيسى عليه السلام أقام بها اثنتي عشرة سنة وذلك أن الله أوحى إلى مريم أن الحقي بمصر وأرضها وذكر أنها الرّبوة التي قال تعالى : { وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين } وقال ابن عمر : البركات عشر ففي مصر تسع وفي الأرض كلها واحدة ، وانتصاب مشارق على أنه مفعول ثان لأورثنا و { التي باركنا } نعت لمشارق الأرض ومغاربها وقول الفرّاء إنّ انتصاب { مشارق } والمعطوف عليها على الظرفية والعامل فيهما هو { يستضعفون } و { التى باركنا } هو المفعول الثاني أي الأرض التي باركنا فيها تكلف وخروج عن الظاهر بغير دليل ومن أجاز أن تكون { التي } نعتاً للأرض فقوله ضعيف للفصل بالعطف بين المنعوت ونعته.
{ وتمت كلمت ربك الحسنى على بنى إسرائيل بما صبروا }.
أي مضت واستمرت من قولهم تمّ على الأمر إذا مضى عليه ، قال مجاهد : المعنى ما سبق لهم في علمه وكلامه في الأزل من النجاة من عدوهم والظهور عليه ، وقال المهدوي وتبعه الزمخشري : الكلمة قوله تعالى { ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض } - إلى قوله - { ما كانوا يحذرون } وقيل : هي قوله { عسى ربكم أن يهلك عدوكم } الآية ، وقيل : الكلمة النعمة والحسنى تأنيث الأحسن وهي صفة للكلمة وكانت الحسنى لأنها وعد بمحبوب قاله الكرماني والمعنى على من بقي من مؤمني بني إسرائيل { بما صبروا } أي بصبرهم ، وقرأ الحسن كلمات على الجمع ورويت عن عاصم وأبي عمرو ، قال الزمخشري : ونظيره { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } انتهى ، يعني نظير وصف الجمع بالمفرد المؤنث ولا يتعيّن ما قاله من أن الكبرى نعت لآيات ربه إذ يحتمل أن يكون مفعولاً لقوله رأى أيّ الآية الكبرى فيكون في الأصل نعتاً لمفرد مؤنث لا يجمع وهو أبلغ في الوصف.
{ ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون } أي خربنا قصورهم وأبنيتهم بالهلاك والتدمير الإهلاك وإخراب الأبنية ، وقيل : ما كان يصنع من التدبير في أمر موسى عليه السلام وإخماد كلمته.
وقيل : المراد إهلاك أهل القصور والمواضع المنيعة وإذا هلك الساكن هلك المسكون { وما كانوا يعرشون } أي يرفعون من الأبنية المشيدة كصرح هامان وغيره ، وقال الحسن : المراد عرش الكروم ومنه { وجنات معروشات } ، وقرأ ابن عامر وأبو بكر بضم الراء وباقي السبعة والحسن ومجاهد وأبو رجاء بكسر الراء هنا وفي النحل وهي لغة الحجاز ، وقال اليزيدي : هي أفصح ، وقرأ ابن أبي عبلة يعرشون بضم الياء وفتح العين وتشديد الراء وانتزع الحسن من هذه الآية أنه ينبغي أنه لا يخرج على ملوك السماء وإنما ينبغي أن نصبر لهم وعليهم فإنّ الله يدمّرهم ، وروي عنه وعن غيره إذا قابل الناس البلاء بمثله وكلهم الله إليه وإذا قابلوه بالصبر وانتظار الفرج أتى الفرج ، قال الزمخشري : وبلغني أنه قرأ بعض الناس يغرسون من غرس الأشجار وما أحسبه إلا تصحيفاً وهذا آخر ما اقتصّ الله تعالى من نبأ فرعون والقبط وتكذيبهم بآيات الله وظلمهم ومعارضته ثم أتبعه اقتصاص نبأ بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من مملكة فرعون ، واستعباده ، ومعاينتهم الآيات العظام ومجاوزتهم البحر من عبادة البقر ، وطلب رؤية الله جهرة ، وغير ذلك من أنواع الكفر والمعاصي ليعلم حال الإنسان وأنه كما وصف ظلوم كفار جهول كفور إلاّ من عصمه الله تعالى

{ وقليل من عبادي الشكور } وليسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مما رأى من بني إسرائيل بالمدينة.
{ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } لما بين أنواع نعمه تعالى على بني إسرائيل بإهلاك عدوّهم اتبع بالنعمة العظمى من إراءتهم هذه الآية العظيمة وقطعهم البحر مع السلامة والبحر بحر القلزم ، وأخطأ من قال إنه نيل مصر ومعنى { جاوزنا } قطعنا بهم البحر يقال جاوز الوادي إذا قطعه والباء للتعدية يقال جاوز الوادي إذا قطعه ، وجاوز بغيره البحر عبر به فكأنه قال وجزنا ببني إسرائيل أي أجزناهم البحر وفاعل بمعنى فعل المجرد يقال جاوز وجاز بمعنى واحد ، وقرأ الحسن وابراهيم وأبو رجاء ويعقوب وجوزنا وهو مما جاء فيه فعل بمعنى فعل المجرد نحو قدّر وقدر وليس التضعيف للتعدية روي أنه عبر بهم موسى عليه السلام يوم عاشوراء بعدما أهلك الله فرعون وقومه فصاموا شكراً لله وأعطى موسى التوراة يوم النحر فبيّن الأمرين أحد عشر شهراً.
{ فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم } قال قتادة وأبو عمرو الجوني : هم من لخم وجذام كانوا يسكنون الرّيف ، وقيل : كانوا نزولاً بالرقة رقة مصر وهي قرية بريف مصر تعرف بساحل البحر يتوصل منها إلى الفيّوم ، وقيل : هم الكنعانيون الذين أمر موسى بقتالهم ومعنى { فأتوا } فمروا يقال أتت عليه سنون ، ومعنى { يعكفون } يقيمون ويواظبون على عبادة أصنام ، وقرأ الأخوان وأبو عمر وفي رواية عبد الوارث بكسر الكاف وباقي السبعة بضمها وهما فصيحتان والأصنام قيل : بقر حقيقة.
وقال ابن جريج كانت تماثيل بقر من حجارة وعيدان ونحوه وذلك كان أول فتنة العجل.
{ قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } الظاهر أن طلب مثل هذا كفر وارتداد وعناد جروا في ذلك على عادتهم في تعنتهم على أنبيائهم وطلبهم ما لا ينبغي وقد تقدّم من كلامهم { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } وغير ذلك مما هو كفر ، وقال ابن عطية : الظاهر أنهم استحسنوا ما رأوا من آلهة أولئك القوم فأرادوا أن يكون ذلك في شرع موسى وفي جملة ما يتقرّب به إلى الله تعالى وإلا فبعيد أن يقولوا لموسى { اجعل لنا إلهاً } نفرده بالعبادة انتهى وفي الحديث مروا في غزوة حنين على روح سدرة خضراء عظيمة فقيل يا رسول الله إجعل لنا ذات أنواط وكانت ذات أنواط سرحة لبعض المشركين يعلقون بها أسحلتهم ولها يوم يجتمعون إليها فأراد قائل ذلك أن يشرع الرسول ذلك في الإسلام ورأى الرسول عليه السلام ذلك ذريعة إلى عبادة تلك السرحة فأنكره وقال

« الله أكبر قلتم والله كما قال بنو إسرائيل » { اجعل لنا إلهاً } خالقاً مدبراً لأن الذي يجعله موسى لا يمكن أن يجعله خالقاً للعالم ومدبّراً فالأقرب أنهم طلبوا أن يعين لهم تماثيل وصوراً يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى وقد حكى عن عبادة الأوثان قولهم { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } وأجمع كلّ الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله كفر سواء اعتقد كونه إلهاً للعالم أو أن عبادته تقرب إلى الله انتهى ، ويظهر أن ذلك لم يصدر من جميعهم فإنه كان فيهم السبعون المختارون ومن لا يصدر منه هذا السؤال الباطل لكنه نسب ذلك إلى بني إسرائيل لما وقع من بعضهم على عادة العرب في ذلك وما في { كما } قال الزمخشري كافة للكاف ولذلك وقعت الجملة بعدها وقال غيره موصولة حرفية أي كما ثبت لهم آلهة فتكون قد حذف صلتها على حدّ ما قال ابن مالك في أنه إذا حذفت صلة ما فلا بد من إبقاء معمولها كقولهم لا أكلمك ما إن في السماء نجماً أي ما ثبت أن في السماء نجماً ويكون { آلهة } فاعلاً يثبت المحذوفة ، وقيل : موصولة اسمية ولهم صلتها والضمير عائد عليها مستكن في المجرور والتقدير كالذي لهم وآلهة بدل من ذلك الضمير المستكنّ.
{ قال إنكم قوم تجهلون } تعجب موسى عليه السلام من قولهم على أثر ما رأوا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة ووصفهم بالجهل المطلق وأكده بأن لأنه لا جهل أعظم من هذه المقالة ولا أشنع وأتى بلفظ { تجهلون } ولم يقل جهلتم إشعاراً بأن ذلك منهم كالطبع والغريزة لا ينتقلون عنه في ماض ولا مستقبل.
{ إن هؤلاء متبرّ ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون } الإشارة بهؤلاء إلى العاكفين على عبادة الأصنام ومعنى متبرّ مهلك مدمر مكسر وأصله الكسر ، وقال الكلبي : مبطل ، وقال أبو اليسع : مضلل ، وقال السدّي وابن زيد : مدمر رديء سيىء العاقبة وما هم فيه يعمّ جميع أحوالهم وبطل عملهم هو اضمحلاله بحيث لا ينتفع به وإن كان مقصوداً به التقرّب إلى الله تعالى { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } قال الزمخشري : وفي إيقاع { هؤلاء } إسماً لإن وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لها واسم لعباده بأنهم هم المعرضون للتبار وأنه لا يعدوهم البتة وأنه لهم ضربة لازم ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض لهم فيما أحبوا انتهى ولا يتعيّن ما قاله من أنه قد جزم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لأنّ لأن الأحسن في إعراب مثل هذا أن يكون خبر { إن } { متبر } وما بعده مرفوع على أنه مفعول لم يسمِّ فاعله وكذلك ما { كانوا } هو فاعل بقوله { وباطل } فيكون إذ ذاك قد أخبر عن اسم إنّ بمفرد لا جملة وهو نظير أن زيداً مضروب غلامه فالأحسن في الإعراب أن يكون غلامه مرفوعاً على أنه لم يسمّ فاعله ومضروب خبر أن والوجه الآخر وهو أن كون مبتدأ ومضروب خبره جائز مرجوح.

قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)

{ قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين } ما أحسن ما خاطبهم موسى عليه السلام بدأهم أولاً بنسبتهم إلى الجهل ثم ثانياً أخبرهم بأن عبّاد الأصنام ليسوا على شيء بل مآل أمرهم إلى الهلاك وبطلان العمل وثالثاً أنكر وتعجب أن يقع هو عليه السلام في أن يبغي لهم غير الله إلهاً أي { أغير } المستحق للعبادة والألوهية أطلب لكم معبوداً وهو الذي شرفكم واختصكم بالنعم التي لم يعطها من سلف من الأمم لا غيره فكيف أبغي لكم إلهاً غيره ومعنى { على العالمين } على عالمي زمانهم أو بكثرة الأنبياء فيهم ، قال ابن القشيري : بإهلاك عدوهم وبما خصّهم من الآيات وانتصب { غير } مفعولاً بأبغيكم أي أبغي لكم غير الله ، { وإلهاً } تمييز عن { غير } أو حال أو على الحال { وإلهاً } المفعول والتقدير أبغي لكم إلهاً غير الله فكان غير صفة فلما تقدم انتصب حالاً ، وقال ابن عطية : وغير منصوبة بفعل مضمر هذا هو الظاهر ويحتمل أن ينتصب على الحال انتهى ، ولا يظهر نصبه بفعل مضمر لأن أبغي مفرّغ له أو لقوله إلهاً فإن تخيّل أنه منصوب بأبغي مضمرة يفسرها هذا الظاهر فلا يصحّ لأنّ الجملة المفسرة لا رابط فيها لا من ضمير ولا من ملابس يربطها بغير فلو كان التركيب أغير الله أبغيكموه لصحّ ويحتمل وهو فضلكم أن يكون حالاً وأن كون مستأنفاً.
{ وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } وقرأ الجمهور { أنجيناكم } وفرقة نجّيناكم مشدداً وابن عامر أنجاكم فعلى أنجاكم يكون جارياً على قوله { وهو فضلكم } خاطب بها موسى قومه وفي قراءة النون خاطبهم الله تعالى بذلك ، وقال الطبري : الخطاب لمن كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تقريعاً لهم بما فعل أوائلهم وبما جاؤوا به وتقدّم تفسير نظير هذه الآية في أوائل البقرة ، وقرأ نافع { يقتلون } من قتل والجمهور من قتل مشدداً.
{ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتمّ ميقات ربه أربعين ليلة } روي أنّ موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعون سأل موسى ربه تعالى الكتاب فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذي القعدة فلما أتمّ الثلاثين أنكر خلوف فيه فتسوك ، فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك ، وقيل أوحى الله إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك فأمره أن يزيد عليه عشرة أيام من ذي الحجة لذلك ، وقيل أمره الله بأن يصوم ثلاثين يوماً وأن يعمل فيها بما يقربه من الله تعالى ثم أنزلت عليه التوراة في العشر وكلم فيها وأجمل ذكر الأربعين في البقرة وفصل هنا.

وقال الكلبي : لما قطع موسى البحر ببني إسرائيل وغرق فرعون قالت بنو إسرائيل لموسى : ائتنا بكتاب من ربنا كما وعدتنا وزعمت أنك تأتينا به إلى شهر فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً لينطلقوا معه فلما تجهّزوا قال الله تعالى لموسى أخبر قومك أنك لن تأتيهم أربعين ليلة وذلك حين أتمت بعشر فلما خرج موسى بالسبعين أمرهم أن ينتظروه أسفل الجبل وصعد موسى الجبل وكلمه الله أربعين يوماً وأربعين ليلة وكتب له الألواح ثم إنّ بني إسرائيل عدوا عشرين ليلة وعشرين يوماً وقالوا قد أخلفنا موسى الوعد وجعل لهم السّامري العجل فعبدوه ، وقيل زيدت العشر بعد الشهر للمناجاة ، وقيل : التفت في طريقه فزيدها ، وقيل : زيدت عقوبة لقومه على عبادة العجل ، وقيل : أعلم موسى بمغيبه ثلاثين ليلة فلما زاده العشر في مغيبه لم يعلموا بذلك ووجست نفوسهم للزيادة على ما أخبرهم فقال السامري هلك موسى وليس براجع وأضلّهم بالعجل فاتبعوه ، قاله ابن جريج وفائدة التفصيل قالوا : إنّ الثلاثين للتهيؤ للمناجاة والعشر لإنزال التوراة وتكليمه ، وقال أبو مسلم : بادر إلى ميقات ربه قبل قومه لقوله { وما أعجلك عن قومك يا موسى } الآية فجائز أن يكون أتى الطور عند تمام الثلاثية فلما أعلم بخبر قومه مع السامري رجع إلى قومه قبل تمام مدة الوعد ثم عاد إلى الميقات في عشر أخر ، قيل : لا يمتنع أن يكون وعدان أول حضره موسى وثان حضره المختارون ليسمعوا كلام الله فاختلف الوعد لاختلاف الحاضرين والثلاثون هي شهر ذي القعدة والعشر من ذي الحجة قاله ابن عباس ومسروق ومجاهد وتقدّم الخلاف في قراءة ووعدنا وقالوا انتصب { ثلاثين } على أنه مفعول ثان على حذف مضاف فقدره أبو البقاء إتيان ثلاثين أو تمام ثلاثين ، وقال ابن عطية { وثلاثين } نصب على تقدير جلناه أو مناجاة ثلاثين وليست منتصبة على الظرف والهاء في { وأتممناها } عائدة على المواعدة المفهومة من { واعدنا } ، وقال الحوفي الهاء والألف نصب باتممناها وهما راجعتان إلى { ثلاثين } ولا يظهر لأنّ الثلاثين لم تكن ناقصة فتممت بعشر وحذف مميز عشر أي عشر ليال لدلالة ما قبله عليه وفي مصحف أبي وتممناها مشدّداً والميقات ما وقت له من الوقت وضربه له وجاء بلفظ ربه ولم يأتِ على { واعدنا } فكان يكون للتركيب فتمّ ميقاتنا لأن لفظ { ربه } دالّ على أنه مصلحة وناظر في أمره ومالكه والمتصرف فيه ، قيل : والفرق بين الميقات والوقت أنّ الميقات ما قدر فيه عمل من الأعمال والوقت وقت الشيء وانتصب { أربعين } على الحال قاله الزمخشري ، الحال فيه فقال أتى بتم بالغاً هذا العدد فعلى هذا لا يكون الحال { أربعين } بل الحال هذا المحذوف فينا في قوله وأربعين ليلة نصب على الحال وقال ابن عطية أيضاً ويصح أن يكون { أربعين } ظرفاً من حيث هي عدد أزمنة ، وقيل { وبلغ أربعين } مفعول به بتمّ لأن معناه بلغ والذي يظهر أنه تمييز محول من الفاعل وأصله فتم أربعون ميقات ربه أي كملت ثم أسند التمام لميقات وانتصب أربعون على التمييز والذي يظهر أن هذه الجملة تأكيد وإيضاح ، وقيل : فائدتها إزالة توهم العشر من الثلاثين لأنه يحتمل إتمامها بعشر من الثلاثين ، وقيل : إزالة توهم أن تكون عشر ساعات أي أتممناها بعشر ساعات.

{ وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين } وقرء شاذاً { هارون } بالضم على النداء أي يا هارون أمره حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها أن يكون خليفته في قومه وأن يصلح في نفسه أو ما يجب أن يصلح من أمر قومه ونهاه أن يتبع سبيل من أفسد وفي النهي دليل على وجود المفسدين ولذلك نهاه عن اتباع سبيلهم وأمره إياه بالصلاح ونهيه عن اتباع سبيل المفسدين هو على سبيل التأكيد لا لتوهّم أنه يقع منه خلاف الإصلاح واتباع تلك السبيل لأن منصب النبوّة منزّه عن ذلك ومعنى { اخلفني } استبد بالأمر وذلك في حياته إذ راح إلى مناجاة ربه وليس المعنى أنك تكون خليفتي بعد موتي ألا ترى أن هارون عليه السلام مات قبل موسى عليهما السلام ، وليس في قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعليّ « أنت مني كهارون من موسى » دليل على أنه خليفته بعد موته إذ لم يكن هارون خليفة بعد موت موسى وإنما استخلف الرسول عليّاً على أهل بيته إذ سافر الرسول عليه السلام في بعض مغازيه كما استخلف ابن أم مكتوم على المدينة فلم يكن في ذلك دليل على أنه يكون خليفة بعد موت الرسول.
{ ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } أي للوقت الذي ضربه له أي لتمام الأربعين كما تقول أتيته لعشر خلون من الشهر ومعنى اللام الاختصاص والجمهور على أنه وحده خصّ بالتكليم إذ جاء للميقات ، وقال القاضي : سمع هو والسبعون كلام الله ، قال ابن عطية : خلق له إدراكاً سمع به الكلام القائم بالذات القديمة الذي هو صفة ذات ، وقال ابن عباس وابن جبير : أدنى الله تعالى موسى حتى سمع صريف الأقلام في اللوح المحفوظ وقال الزمخشري : { وكلمه ربه } من غير واسطة كما يكلم الملك وتكليمه أنْ يخلق الكلام منطوقاً به في بعض الأجرام كما خلقه محفوظاً في اللوح وروي أن موسى كان يسمع الكلام في كل جهة ، وعن ابن عباس كلمة أربعين يوماً وأربعين ليلة وكتب له الألواح ، وقيل : إنما كلمة في أول الأربعين انتهى ، وقال وهب كلمه في ألف مقام وعلى أثر كل مقام يرى نور على وجهه ثلاثة أيام ولم يقرب النساء مذ كلّمه الله وقد أوردوا هنا الخلاف الذي في كلام الله وهو مذكور ودلائل المختلفين مذكور في كتب أصول الدين وكلّمه معطوف على جاء ، وقيل حال وعدل عن قوله وكلمناه إلى قوله { وكلّمه } ربه للمعنى الذي عدل إلى قوله { فتم ميقات ربه } و { فلما تجلّى ربه }.

{ قال ربّ أرني أنظر إليك }.
قال السدّي وأبو بكر الهذلي : لما كلمه وخصّه بهذه المرتبة طمحت همته إلى رتبة الرؤية وتشوّف إلى ذلك فسأل ربه أن يريه نفسه.
قال الزجاج : شوّقه الكلام فعيل صبره فحمله على سؤال الرؤية ، وقال الرّبيع : لم يعهد إليه في الرؤية فظن أن السؤال في هذا الوقت جائز ، وقال السدي : غار الشيطان في الأرض فخرج بين يديه فقال إنما يكلمك شيطان فسأل الرؤية ولو لم تجز الرؤية ما سألها؟ قال ابن عطية : ورؤية الله عند الأشعرية وأهل السنة جائزة عقلاً لأنه من حيث هو موجود تصحّ رؤيته وقررت الشريعة رؤية الله في الآخرة ومنعت من ذلك في الدنيا بظواهر الشرع فموسى عليه السلام لم يسأل محالاً وإنما سأل جائزاً وقوله { لن تراني ولكن انظر إلى الجبل } الآية ليس بجواب من سأل محالاً وقد قال تعالى لنوح عليه السلام : { فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين } فلو سأل موسى محالاً لكان في الجواب زجر ما وتيئيس ، وقال الكرماني وغيره : في الكلام محذوف تقديره لن تراني في الدنيا ، وقيل لن تقدر أن تراني ، وقيل لن تراني بسؤالك ، وقيل لن تراني ولكن ستراني حين أتجلى للجبل.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف طلب موسى عليه السلام ذلك وهو من أعلم الناس بالله تعالى وصفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز وبتعاليه عن الصفة التي هي إدراك ببعض الحواس وذلك إنما يصحّ فيما كان في جهة وما ليس بجسم ولا عرض فمحال أن يكون في جهة ومنع المجبرة إحالته في العقول غير لازم لأنه ليس بأول مكابرتهم وارتكابهم وكيف يكون طالبه وقد قال حين أخذتهم الرّجفة الذين قَالُوا { أرنا الله جهرة } { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } إلى قوله { تضل بها من تشاء } فتبرأ من فعلهم ودعاهم سفهاء وضلالاً ، ( قلت ) : ما كان طلبه الرؤية إلا ليسكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلالاً وتبرأ من فعلهم وليلقمهم الحجة وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبّههم على الحق فلجّوا وتمادوا في لجاجهم وقالوا لا بدّ ولن نؤمن لك حتى نراه فأراد أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك وهو قوله لن تراني ليتيقنوا وينزاح عنهم ما كان داخلهم من الشبهة فلذلك قال { ربّ أرني أنظر إليك } ( فإن قلت ) : فهلا قال أرهم ينظرون إليك ( قلت ) : لأنّ الله سبحانه إنما كلم موسى وهم يسمعون فلما سمعوا كلام رب العزة أرادوا أن يرى موسى ذاته فيبصروه معه كما أسمعه كلامه فسمعوه معه إرادة مبنية على قياس فاسد فلذلك قال موسى { أرني أنظر إليك } ولأنه إذا زجر عما طلب وأنكر عليه مع نبوته واختصاصه وزلفته عند الله وقيل له لن يكون ذلك كان غيره أولى بالإنكار ولأن الرسول إمام أمته فكان ما يخاطب به أو يخاطب راجعاً إليهم وقوله أنظر إليك وما فيه من معنى المقابلة التي هي محض التشبيه والتجسيم دليل على أنه ترجمة على مقترحهم وحكاية لقولهم وجلّ صاحب الجمل أن يجعل الله منظوراً إليه مقابلاً بحاسة النظر فكيف بمن هو أعرق في معرفة الله من واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد والنظام وأبي الهذيل والشيخين وجميع المسلمين ، وثاني مفعول { أرني } محذوف أي أرني نفسك اجعلني متمكناً من رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك انتهى.

{ قال لن ترانى }.
قال ابن عطية نصّ على منعه الرؤية في الدنيا ولن تنفي المستقبل فلو بقينا على هذا النفي بمجرّده لتضمن أنّ موسى لا يراه أبداً ولا في الآخرة لكن ورد من جهة أخرى الحديث المتواتر أن أهل الإيمان يرون الله تعالى يوم القيامة فموسى عليه السلام أحرى برؤيته ، قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما معنى { لن } ، ( قلت ) : تأكيد النفي الذي تعطيه لا وذلك أن لا تنفي المستقبل تقول لا أفعل غداً فإذا أكدت نفيها قلت لن أفعل غداً والمعنى أن فعله ينافي حال كقوله { لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له } وقوله { لا تدركه الأبصار } نفي للرؤية فيما يستقبل ولن تراني تأكيد وبيان ( فإن قلت ) : كيف قال لن تراني ولم يقل لن تنظر إليّ لقوله { أنظر إليك } ، ( قلت ) : لما قال { أرنى } بمعنى اجعلني متمكناً من الرؤية التي هي الإدراك علم أنّ الطلبة هي الرؤية لا النظر الذي لا إدراك معه فقيل لن تراني ولم يقل لن تنظر إليّ.
{ ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني } قال مجاهد وغيره : ولكن سأتجلى للجبل الذي هو أقوى منك وأشدّ فإن استقرّ وأطاق الصبر لهيبتي فسيمكنك أنت رؤيتي ، قال ابن عطية : فعلى هذا إنما جعل الله له الجبل مثالاً ، وقالت فرقة : إنما المعنى سأبتدىء لك على الجبل فإن استقرّ لعظمتي فسوف تراني انتهى ، وتعليق الرؤية على تقدير الاستقرار مؤذن بعدمها إن لم يستقر ونبّه بذلك على أنّ الجبل مع شدته وصلابته إذا لم يستقر فالآدمي مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقرّ وهذا تسكين لقلب موسى وتخفيف عنه من ثقل أعباء المنع.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف اتصل الاستدراك في قوله تعالى { ولكن انظر إلى الجبل } بما قبله ، ( قلت ) : تصل به على معنى أنّ النظر إليّ محال فلا تطلبه ولكن عليك بنظر آخر وهو أن تنظر إلى الجبل الذي يرجف بك وبمن طلب الرؤية لأجلهم كيف أفعل به وكيف أجعله دكّاً بسبب طلبك للرؤية لتستعظم ما أقدمت عيه بما أريك من عظيم أثره كأنه عز وعلا حقّق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد إليه في قوله تعالى

{ وتخرّ الجبال هدّاً أن دعوا للرحمن ولداً } { فإن استقر مكانه } كما كان مستقراً ثابتاً ذاهباً في جهانه { فسوف تراني } تعريض لوجود الرؤية لوجود ما لا يكون من استقرار الجبل مكانه حتى يدكّه دكًّا ويسوّيه بالأرض وهذا كلام مدمج بعضه في بعض وأولاد على أسلوب عجيب ونظم بديع ألا ترى كيف تخلص من النظر إلى النظر بكلمة الاستدراك ثم كيف ثنّى بالوعيد بالرّجفة الكائنة بسبب طلب النظر على الشريطة في وجود الرؤية أعني قوله { فإن استقرّ مكانه فسوف ترانى } انتهى وهو على طريقة المعتزلة في نفي رؤية الله تعالى ، ولهم في ذلك أقاويل أربعة : أحدها : ما رووا عن الحسن وغيره أن موسى ما عرف أن الرؤية غير جائزة وهو عارف بعدله وبربه وبتوحيده فلم يبعد أن يكون العلم بامتناع الرؤية وجوازها موقوفاً على السماع ورد ذلك وبأنه يلزم أن تكون معرفته بالله أقل درجة من معرفة أرذال المعتزلة وذلك باطل بالإجماع ، الثاني : قال الجبائي وابنه أبو هاشم : سأل الرؤية على لسان قومه فقد كانوا مكثرين للمسألة عنها لا لنفسه فلما منع ظهر أن لا سبيل إليها وردّ بأنه لو كان كذلك لقال أرهم ينظروا إليك ولقيل لن تروني وأيضاً لو كان محالاً لمنعهم عنه كما منعهم عن جعل الآلهة لهم بقوله { إنكم قوم تجهلون } ، وقال الكعبي سأله الآيات الباهرة التي عندها تزول الخواطر والوساوس عن معرفته كما تقول في معرفة أهل الآخرة ، وردّ ذلك بأنه يقتضي حذف مضاف وسياق الكلام يأبى ذلك فقد أراه من الآيات ما لا غاية بعدها كالعصا وغيرها ، وقال الأصمّ المقصود أن يذكر من الدلائل السمعية ما يدل على امتناع الرؤية حتى يتأكد الدليل العقلي بالدليل السمعي وأل في { الجبل } للعهد وهو أعظم جبل بمدين يقال له ارريين قال ابن عباس تطاولت الجبال للتجلي وتواضع ارريين فتجلّى له.

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)

التجلي الظهور.
الدّك مصدر دككت الشيء فتته وسحقته مصدر في معنى المفعول والدّك والدقّ بمعنى واحد وقال ابن عزيز دكاً مستوياً مع الأرض.
الخرور السقوط.
أفاق ثاب إليه حسّه وعقله.
اللوح معروف وهو يعد للكتابة وغيرها وأصله اللمع تلمع وتلوح فيه الأشياء المكتوبة.
الحلى معروف وهو ما يتزين به النساء من فضة وذهب وجوهر وغير ذلك من الحجر النفيس.
الخوار صوت البقرة.
الأسف الحزن يقال أسف يأسف.
الجرّ الجذب.
الإشمات السرور بما ينال الشخص من المكروه.
السكوت والسكات الصمت.
{ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكّاً وخرّ موسى صعقاً } ترتب على التجلي أمران أحدهما تفتت الجبل وتفرّق أجزائه ، والثاني خرور موسى مغشياً عليه.
قاله ابن زيد وجماعة المفسرين ، وقال السدّي ميتاً ويبعده لفظه أفاق والتجلّي بمعنى الظّهور الجسماني مستحيل على الله تعالى ، قال ابن عباس وقوم لما وقع نوره عليه تدكدك ، وقال المبرد : المعنى ظهر للجبل من ملكوت الله ما يدكدك به ، وقيل ظهر جزء من العرش للجبل فتصرّع من هيبته ، وقيل : ظهر أمره تعالى ، وقيل : { تجلّى } لأهل الجبل يريد موسى والسبعين الذين معه ، وقال الضحاك : أظهر الله من نور الحجب مثل منخر الثور ، وقال عبد الله بن سلام : وكعب الأحبار ما تجلى من عظمة الله للجبل إلا مثل سم الخياط ، وقال الزمخشري : فلما ظهر له اقتداره وتصدّى له أمره وإرادته انتهى ، وقال المتأولون المتكلمون كالقاضي أبي بكر بن الطيب وغيره : إن الله خلق للجبل حياة وحسّاً وإدراكاً يرى به ثم تجلى له أي ظهر وبدا فاندك الجبل لشدة المطلع فلما رأى موسى ما بالجبل صعق وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، والظاهر نسبة التجلي إليه تعالى على ما يليق به من غير انتقال ولا وصف يدلّ على الجسمية ، قال ابن عباس صار تراباً.
وقال مقاتل قطعاً متفرقة ، وقيل صار ستة أجبل ثلاثة بالمدينة أحد وورقان ورضوى ، وثلاثة بمكة ثور وثبير وحراء ، رواه أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل ذهب أعلاه وبقي أسفله ، وقيل صار غباراً تذروه الرياح ، وقال سفيان : روى أنه انساح في الأرض وأفضى إلى البحر الذي تحت الأرضين ، قال ابن الكلبي : فهو يهوي فيه إلى يوم القيامة ، وقال الجمهور { دكّاً } أي مدكوكاً أو ذا دك وقرأ حمزة والكسائي دكاء على وزن حمراء والدكاء الناقة التي لا سنام لها والمعنى جعله أرضاً دكاء تشبيهاً بالناقة الدكاء ، وقال الربيع بن خيثم : ابسط يدك دكاء أي مدّها مستوية ، وقال الزمخشري والدكاء اسم للرابية الناشرة من الأرض كالدكة انتهى ، وهذا يناسب قول من قال إنه لم يذهب بجملته وإنما ذهب أعلاه وبقي أكثر ، وقرأ يحيى بن وثاب { دكّاً } أي قطعاً جمع دكاء نحو غز جمع غزاء ، وانتصب على أنه مفعول ثان لجعله ويضعف قول الأخفش إن نصبه من باب قعدت جلوساً { وصعقاً } حال مقارنة ، ويقال صعقة فصعق وهو من الأفعال التي تعذّب بالحركة نحو شتر الله عينه فشترت ، والظاهر أن موسى والجبل لم يطيقا رؤية الله تعالى حين تجلى فلذلك اندكّ الجبل وصعق موسى عليه السلام ، وحكى عياض بن موسى عن القاضي أبي بكر بن الطيّب : أن موسى عليه السلام رأى الله فلذلك خرّ صعقاً وأن الجبل رأى ربه فلذلك صار دكًّا بإدراك كلفة الله له وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن كعب قال إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى صلى الله عليه وسلم فكلم موسى مرتين ورآه محمد صلى الله عليه وسلم مرتين وذكر المفسرون من رؤيته ملائكة السموات السبع وحملة العرش وهيئاتهم وإعدادهم ما الله أعلم بصحته.

{ فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك }.
أي من مسألة الرؤية في الدنيا قاله مجاهد أو من سؤالها قبل الاستئدان أو عن صغائري حكاه الكرماني ، أو قال ذاك على سبيل الإنابة إلى الله تعالى والرجوع إليه عند ظهور الآيات على ما جرت به عادة المؤمن عند رؤية العظائم وليست توبة عن شيء معين أشار إليه ابن عطية ، وقال الزمخشري { قال سبحانك } أنزّهك عن ما لا يجوز عليك من الرؤية وغيرها { تبت إليك } من طلب الرؤية ، ( فإن قلت ) : فإن كان طلب الرؤية للغرض الذي ذكرته فمم تاب ، ( قلت ) : عن إجرائه تلك المقالة العظيمة وإن كان لغرض صحيح على لسانه من غير إذن فيه من الله تعالى فانظر إلى إعظام الله تعالى أمر الرؤية في هذه الآية وكيف أرجف الجبل بطالبيها وجعله دكّاً وكيف أصعقهم ولم يخل كليمه من نفيان ذلك مبالغة في إعظام الأمر وكيف سبّح ربه ملتجئاً إليه وتاب من إجراء تلك الكلمة على لسانه وقال { أنا أوّل المؤمنين } ، ثم تعجب من المتسمين بالإسلام بالمتسمين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهباً ولا يغرّنك تستّرهم بالبلكفة فإنه من منصوبات أشياخهم والقول ما قاله بعض العدلية فيهم :
لجماعة سموا هواهم سنة . . .
وجماعة حمر لعمري مؤكفه
قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا . . .
شنع الورى فتستّروا بالبلكفه
وهو تفسير على طريقة المعتزلة وسبّ لأهل السنة والجماعة على عادته وقد نظم بعض علماء السنة على وزن هذين البيتين وبحرهما أنشدنا الأستاذ العلامة أبو جعفر أحمد بن ابراهيم بن الزبير بغرناطة إجازة إن لم يكن سماعاً ونقلته من خطّه ، قال أنشدنا القاضي الأديب العالم أبو الخطاب محمد بن أحمد بن خليل السكوني بقراءتي عليه عن أخيه القاضي أبي بكر من نظمه :
شبهت جهلاً صدر أمة أحمد . . .
وذوي البصائر بالحمير المؤكفه
وزعمت أن قد شبّهوا معبودهم . . .
وتخوّفوا فتستروا بالبلكفه
ورميتهم عن نبعة سويتها . . .
رمْي الوليد غدا يمزق مصحفه
وجب الخسار عليك فانظر منصفا . . .
في آية الأعراف فهي المنصفه
أترى الكليم أتى بجهل ما أتى . . .
وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفه
وبآية الأعراف ويك خذلتم . . .
فوقفتم دون المراقي المزلفه
لو صحّ في الإسلام عقدك لم تقل . . .
بالمذهب المهجور من نفي الصفه
إن الوجوه إليه ناظرة بذا . . .
جاء الكتاب فقلتم هذا السّفه
فالنقي مختص بدار بعدها . . .
لك لا أبا لك موعداً لن تخلفه

وأنشدنا قاضي القضاة أبو القاسم عبد الرحمن بن قاضي القضاة أبي محمد بن عبد الوهاب بن خلف العلامي بالقاهرة لنفسه :
قالوا يريد ولا يكون مراده . . .
عدلوا ولكن عن طريق المعرفه
{ وأنا أول المؤمنين } قال ابن عباس ومجاهد : من مؤمني بني إسرائيل ، وقيل : من أهل زمانه إن كان الكفر قد طبق الآفاق ، وقال أبو العالية بأنك لا ترى في الدنيا ، وقال الزمخشري : بأنك لست بمرئيّ ولا مدرك بشيء من الحواس ، وقال أيضاً بعظمتك وجلالك وأن شيئاً لا يقوم لبطشك وبأسك انتهى ، وتفسيره الأول على طريقة المعتزلة وقد ذكر متكلمو أهل السنة دلائل على رؤية الله تعالى سمعية وعقلية يوقف عليها وعلى حجج الخصوم في كتب أصول الدين.
{ قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين } لما طلب موسى عليه السلام الرؤية ومنعها عدَّد عليه تعالى وجوه نعمه العظيمة عليه وأمره أن يشتغل بشكرها وهذه تسلية منه تعالى له والاصطفاء تقدّم شرحه وعلى الناس لفظ عام ومعناه الخصوص أي على أهل زمانك أو يبقى على عمومه ويعني في مجموع الدّرجتين الرسالة والكلام قاله ابن عطية وينبغي أن يحمل ذلك على وقوع الكلام في الأرض إذ ثبت أن آدم نبي مكلم وتؤوّل على أن ذلك في الجنة ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ويظهر من حديث الإسراء أنه كلمه الله تعالى ويدلّ قوله { وبكلامي } على أنه سمع الكلام من الله لا من غيره لأن الملائكة تنزل على الرسل بكلام الله وقدّم { برسالاتي } وعلي { وبكلامي } لأن الرسالة أسبق في الزمان أو لأنه انتقل من شريف إلى أشرف ، وقرأ الحرميان برسالتي على الإفراد وهو مراد به المصدر أي بإرسالي أو يكون على حذف مضاف أي بتبليغ رسالتي لأن مدلول الرسالة غير مدلول المصدر ، وقرأ باقي السبعة بالجمع لأنّ الذي أرسل به ضروب وأنواع ، وقرأ الجمهور { وبكلامي } فاحتمل أن يكون مصدراً أي وبتكليمي أو يكون على حذف مضاف أي وبسماع كلامي ، وقرأ أبو رجاء برسالتي وبكلمي جمع كلمة أي وبسماع كلمي ، وقرأ الأعمش برسالاتي وتكلمي ، وحكى عنه المهدوي وتكليمي على وزن تفعيلي وأمره تعالى أن يأخذ ما آتاه من النبوّة لأنّ في الأمر بالأخذ مزيد تأكيد وحصول أجر بالامتثال والمعني خذ ما آتيتك باجتهاد في تبليغه وجدّ في النفع به { وكن من الشاكرين } على ما آتيناك وفي ذلك إشارة إلى القنع والرضا بما أعطاه الله والشكر عليه.

{ وكتبنا له في الألواح من كل شيء } قيل : إنّ موسى عليه السلام صعق يوم الجمعة يوم عرفة وأفاق فيه وأعطى التوراة يوم النحر وظاهر قوله { وكتبنا } نسبة الكتابة إليه.
فقيل كتب بيده وأهل السماء يسمعون صرير القلم في اللوح ، وقيل : أظهرها وخلقها في الألواح ، وقيل : أمر القلم أن يخطَّ لموسى في الألواح ، وقيل : كتبها جبريل عليه السلام بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النّور ففي هذين القولين أسند ذلك إلى نفسه تشريف إذ ذاك صادر عن أمره ، وقيل : معنى { كتبنا } فرضنا كقوله تعالى { كتب عليكم الصيام } والضمير في { له } عائد على موسى { والألواح } جمع قلة وأل فيها لتعريف الماهيّة فإن كان هو الذي قطعها وشققها فتكون أل فيها للعهد ، وقال ابن عطية : عوض من الضمير الذي يقدر وصلة بين الألواح وموسى عليه السلام تقديره في ألواحه وهذا كقوله تعالى { فإن الجنة هي المأوى } أي مأواه انتهى وكون أل عوضاً من الضمير ليس مذهب البصريين ولا يتعين أن يكون عوضاً من الضمير وليس ذلك كقوله { فإن الجنة هي المأوى } لأنّ الجملة خبر عن من فاحتاجت الجملة إلى رابط ، فقال الكوفيون : أل عوض من الضمير كأنه قيل مأواه ، وقال البصريون : الرابط محذوف أي هي المأوى له وظاهر الألواح الجمع ، فقيل كانت سبعة وروى ذلك عن ابن عباس ، وقيل ثمانية ذكره الكرماني ، وقيل : تسعة قاله مقاتل : وقيل : عشرة قاله وهب بن منبه ، وقيل اثنان وروي عن ابن عباس أيضاً واختاره الفرّاء ، وهذا ضعيف لأنّ الدلالة بالجمع على اثنين قياساً له شرط مذكور في النحو هو مفقود هنا ، وقال الربيع بن أنس : نزلت التوراة وهي وقر سبعين بعيراً يقرأ الجزء منها في سنة ولم يقرأها سوى أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى ، وقد اختلفوا من أي شيء هي فعن ابن عباس وأبي العالية زبرجد ، وعن ابن جبير من ياقوت أحمر ، وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد من زمرد أخضر ، وعن أبي العالية أيضاً من برد ، وعن مقاتل من زمرد وياقوت ، وعن الحسن من خشب طولها عشرة أذرع ، وعن وهب من صخرة صماء أمر بقطعها ولانت له فقطعها بيده وشققها بأصابعه ، وقيل : من نور حكاه الكرماني ، والمعنى من كل شيء محتاج إليه في شريعتهم.
{ موعظة } للازدجار والاعتبار { وتفصيلاً لكل شيء } من التكاليف الحلال والحرام والأمر والنهي والقصص والعقائد والإخبار والمغيبات ، وقال ابن جبير ومجاهد : لكل شيء مما أمروا به ونهوا عنه ، وقال السدّي الحلال والحرام ، وقال مقاتل كان مكتوباً في الألواح إني أنا الله الرحمن الرحيم لا تشركوا بي شيئاً ولا تقطعوا السبل ولا تحلفوا باسمي كاذبين فإن من حلف باسمي كاذباً فلا أزكيه ولا تقتلوا ولا تزنوا ولا تعقوا الوالدين والظاهر أن مفعول { كتبنا } أي كتبنا فيها { موعظة } { من كل شيء } { وتفصيلاً لكل شيء } قاله الحوفي قال نصب { موعظة } بكتبنا { وتفصيلاً } عطف على { موعظة } { لكل شيء } متعلق بتفصيلاً انتهى ، وقال الزمخشري : { من كل شيء } في محل النصب مفعول { وكتبنا } { وموعظة } ، { وتفصيلاً } بدل منه والمعنى كتبنا له كل شيء كان بنو إسرائيل يحتاجون إليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام انتهى ، ويحتمل عندي وجه ثالث وهو أن يكون مفعول { كتبنا } موضع المجرور كما تقول أكلت من الرّغيف ، و { من } للتبعيض أي كتبنا له أشياء من كل شيء وانتصب { موعظة وتفصيلاً } على المفعول من أجله أي كتبنا له تلك الأشياء للاتعاظ والتفصيل لأحكامهم.

{ فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأوريكم دار الفاسقين } أي فقلنا خذها عطفاً على { كتبنا } ويجوز أن يكون { فخذها } بدلاً من قوله { فخذ ما آتيتك } ، والضمير في { فخذها } عائد على ما على معنى ما لا على لفظها وأما إذا كان على إضمار فقلنا فيكون عائداً على { الألواح } أي الألواح أو على { كل شيء } لأنه في معنى الأشياء أو على التوراة أو على الرسالات وهذه احتمالات مقوّلة أظهرها الأول ، ومعنى { بقوة } قال ابن عباس بجدّ واجتهاد فعل أولي العزم ، وقال أبو العالية والربيع بن أنس : بطاعة ، وقال جويبر : بشكر ، وقال ابن عيسى : بعزيمة وقوة قلب لأنه إذا أخذها بضعف النية أدّاه إلى الفتور ، وهذا القول راجع لقول ابن عباس : أمر موسى أن يأخذ بأشد مما أمر به قومه وقوله { بِأحسنها } ظاهره أنه أفعل التفضيل وفيها الحسن والأحسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر ، وقيل : أحسنها الفرائض والنوافل وحسنها المباح ، وقيل : أحسنها الناسخ وحسنها المنسوخ ولا يتصور أن يكون المنسوخ حسناً إلا باعتبار ما كان عليه قبل النسخ أما بعد النسخ فلا يوصف بأنه حسن لأنه ليس مشروعاً ، وقيل الأحسن المأمور به دون المنهي عنه ، قال الزمخشري : على قوله الصيف أحرّ من الشتاء انتهى ، وذلك على تخيّل أن في الشتاء حرّاً ويمكن الاشتراك فيهما في الحسن بالنسبة إلى الملاذ وشهوات النفس فيكون المأمور به أحسن من حيث الامتثال وترتب الثواب عليه ويكون المنهي عنه حسناً باعتبار الملاذ والشهوة فيكون بينهما قدر مشترك في الحسن وإن اختلف متعلقه ، وقيل أحسنها هو أشبه ما تحتمله الكلمة من المعاني إذا كان لها احتمالات فتحمل على أولاها بالحق وأقربها إليه ، وقيل أحسن هنا ليست أفعل التفضيل بل المعنى بحسنها كما قال :

بيتاً دعائمه أعز وأطول . . .
أي عزيزة طويلة قاله قطرب وابن الأنباري فعلى هذا أمروا بأن يأخذوا بحسنها وهو ما يترتب عليه الثواب دون المناهي التي يترتب على فعلها العقاب ، وقيل أحسن هنا صلة والمعنى يأخذوا بها وهذا ضعيف لأنّ الأسماء لا تزاد وانجزم { يأخذوا } على جواب الأمر وينبغي تأويل { وأمر قومك } لأنه لا يلزم من أمر قومه بأخذ أحسنها أن { يأخذوا بِأحسنها } فلا ينتظم منه شرط وجزاء { وبأحسنها } متعلّق بيأخذوا وذلك على إعمال الثاني لأن { يأخذوا بِأحسنها } مقتضى لقوله { وأمر } ولقوله { يأخذوا } مجزوماً على إضمار لام الأمر أي ليأخذوا لأنّ معنى { وأمر قومك } قل لقومك وذلك على مذهب الكسائي ومفعول { يأخذوا } محذوف لفهم المعنى أي { يأخذوا } أنفسهم { بِأحسنها } ويحتمل أن تكون الباء زائدة أي يأخذوا أحسنها كقوله لا يقرأن بالسور ، والوجه الأوّل أحسن وانظر إلى اختلاف متعلق الأمرين أمر موسى بأخذ جميعها ، فقيل : { فخذها بقوة } وأكّد الأخذ بقوله { بقوة } وأمروا هم أن { يأخذوا بِأحسنها } ولم يؤكد ليعلم أن رتبة النبوة أشقّ في التكليف من رتبة التابع ولذلك فرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل وغير ذلك من التكاليف المختصة به والإراءة هنا من رؤية العين ولذلك تعدَّت إلى اثنين و { دار الفاسقين } مصر قاله عليّ وقتادة ومقاتل وعطية العوفي والفاسقون فرعون وقومه.
قال الزمخشري كيف أقفرت منهم ودمّروا لفسقهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكّل بكم مثل نكالهم انتهى ، وقيل المعنى : سأريكم مصارع الكفار وذلك أنه لما أغرق فرعون وقومه أوحى إلى البحر أن اقذف أجسادهم إلى الساحل ففعل فنظر إليهم بنو إسرائيل فأراهم مصارع الفاسقين ، وقال الكلبي : ما مرّوا عليه إذا سافروا من مصارع عاد وثمود والقرون الذين أهلكوا ، وقال قتادة أيضاً الشام والمراد العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم ، وقال مجاهد والحسن : { دار الفاسقين } جهنم والمراد الكفرة بموسى وغيره ، وقال ابن زيد : { سأريكم } من رؤية القلب أي سأعلمكم سير الأولين وما حلّ بهم من النكال ، وقيل { دار الفاسقين } أي ما دار إليه أمرهم وهذا لا يدرك إلا بالأخبار التي يحدّث عنها العلم وهذا قريب من قول ابن زيد ، وقال ابن عطية : ولو كان من رؤية القلب لتعدّى بالهمزة إلى ثلاثة ولو قال قائل المفعول الثالث يتضمنه المعنى فهو مقدّر أي مدمرة أو خربة أو مسعرة على قول من قال إنها جهنم قيل له : لا يجوز حذف هذا المفعول ولا الاقتصاد دونه لأنها داخلة على الابتداء والخبر ولو جوز لكان على قبح في اللسان لا يليق بكتاب الله تعالى انتهى ، وحذف المفعول الثالث في باب أعلم لدلالة المعنى عليه جائز فيجوز في جواب هل أعلمت زيداً عمراً منطلقاً أعلمت زيداً عمراً ويحذف منطلقاً لدلالة الكلام السابق عليه وأما تعليله لأنها داخلة على الابتداء والخبر لا يدل على المنع لأن خبر المبتدأ يجوز حذفه اختصاراً والثاني والثالث في بام أعلم يجوز حذف كل واحد منهما اختصاراً وفي قوله لأنها أي { سأريكم } داخلة على المبتدأ والخبر فيه تجوز ويعني أنها قبل النقل بالهمزة فكانت داخلة على المبتدأ والخبر ، وقرأ الحسن : { سأوريكم } بواو ساكنة بعد الهمزة على ما يقتضيه رسم المصحف ووجّهت هذه القراءة بوجهين ، أحدهما : ما ذكره أبو الفتح وهو أنه أشبع الضمة ومطّلها فنشأ عنها الواو قال : ويحسن احتمال الواو في هذا الموضع أنه موضع وعيد وإغلاظ فمكن الصوت فيه انتهى ، فيكون كقوله أدنو فانظر رأى فانظر ، وهذا التوجيه ضعيف لأن الاشباع بابه ضرورة الشعر ، والثاني : ما ذكره الزمخشري قال وقرأ الحسن { سأوريكم } وهي لغة فاشية بالحجاز يقال : أورني كذا وأوريته فوجهه أن يكون من أوريت الزند كأن المعنى بينه لي وأثره لأستبينه انتهى ، وهي أيضاً في لغة أهل الأندلس كأنهم تلقفوها من لغة الحجاز وبقيت في لسانهم إلى الآن وينبغي أن ينظر في تحقق هذه اللغة أهي في لغة الحجاز أم لا ، وقرأ ابن عباس وقسامة بن زهير سأورثكم ، قال الزمخشري وهي قراءة حسنة يصححها قوله تعالى

{ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون }
{ سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } لما ذكر { سأوريكم دار الفاسقين } ذكر ما يفعل بهم تعالى من صرفه إياهم عن آياته لفسقهم وخروجهم عن طورهم إلى وصف ليس لهم ثم ذكر تعالى من أحوالهم ما استحقّوا به اسم الفسق ، قال ابن جبير سأصرفهم عن الاعتبار والاستدلال بالدلائل والآيات على هذه المعجزات وبدائع المخلوقات ، وقال قتادة : سأصدّهم عن الإعراض والطّعن والتحريف والتبديل والتغيير فالآيات القرآن فإنه مختص بصونه عن ذلك ، وقال سفيان بن عيينة سأمنعهم من تدبرها ونظرها النظر الصحيح المؤدّي إلى الحقّ ، وقال الزجاج : أجعل جزاءهم سأصرفهم عن دفع الانتقام أي إذا أصابتهم عقوبة لم يدفعها عنهم فالآيات على هذا ما حلّ بهم من المثلات التي صاروا بها مثلة وعبرة وعلى هذه الأقوال يكون { الذين يتكّبرون } عام أي كل من قام به هذا الوصف ، وقيل : هذا من تمام خطاب موسى ، والآيات هي التسع التي أعطيها والمتكبرون هم فرعون وقومه صرف الله قلوبهم عن الاعتبار بها بما انهمكوا فيه من لذّات الدنيا وأخذ الزمخشري بعض أقوال المفسرين فقال { سأصرف عن آياتي } بالطبع على قلوب المتكبّرين وخذلانهم فلا يفكرون فيها ولا يعتبرون بها غفلة وانهماكاً فيما يشغلهم عنها من شهواتهم وفيه إنذار المخاطبين من عاقبة والذين يصرفون عن الآيات لتكبّرهم وكفرهم بها لئلا يكونوا مثلهم فيسلك بهم سبيلهم انتهى ، و { الذين يتكبرون } عن الإيمان قال ابن عطيّة : هم الكفرة والمعنى في هذه الآية سأجعل الصّرف عن الآيات عقوبة المتكبّرين على تكبّرهم انتهى ، وقيل هم الذين يحتقرون الناس ويرون لهم الفضل عليهم ، وفي الحديث الصحيح إنما الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس ويتعلق بغير الحق بيتكبرون أي بما ليس بحق وما هم عليه من دينهم وقد يكون التكبّر بالحقّ كتكبّر المحقّ على المبطل لقوله تعالى :

{ أعزة على الكافرين } ويجوز أن يكون في موض الحال فيتعلق بمحذوف أي ملتبسين بغير الحقّ والمعنى غير مستحقّين لأنّ التكبر بالحق لله وحده لأنه هو الذي له القدرة والفضل الذي ليس لأحد.
{ وإن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها } وصفهم هذا الوصف الذّميم وهو التكبّر عن الإيمان حتى لو عرضت عليهم كل آية لم يروها آية فيؤمنوا بها وهذا ختم منه تعالى على الطائفة التي قدر أن لا يؤمنوا.
وقرأ مالك بن دينار : وإن { يروا } بضم الياء.
{ وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً }.
أُراهم الله السبيلين فرأوهما فآثروا الغيّ على الرشد كقوله { فاستحبوا العمى على الهدى } وقرأ الأخوان { الرشد } وباقي السبعة { الرّشد } ، وعن ابن عامر في رواية اتباع الشين ضمة الراء وأبو عبد الرحمن الرّشاد وهي مصادر كالسقم والسقم والسقام ، وقال أبو عمرو بن العلاء : { الرشد } الصّلاح في النظر وبفتحهما الدين ، وقرأ ابن أبي عبلة لا يتخذوها ويتخذوها على تأنيث السبيل والسبيل تذكر وتؤنث ، قال تعالى : { قل هذه سبيلي } ولما نفى عنهم الإيمان وهو من أفعال القلب استعار للرّشد والغي سبيلين فذكر أنهم تاركو سبيل الرشد سالكو سبيل الغي وناسب تقديم جملة الشرط المتضمنة سبيل الرشد على مقابلتها لأنها قبلها.
{ وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } فذكر موجب الإيمان وهو الآيات وترتّب نقيضه عليه وأتبع ذلك بموجب الرشد وترتب نقيضه عليه ثم جاءت الجملة بعدها مصرّحة بسلوكهم سبيل الغي ومؤكدة لمفهوم الجملة الشرطية قبلها لأنه يلزم من ترك سبيل الرّشد سلوك سبيل الغي لأنهما إما هدى أو ضلال فهما نقيضان إذا انتفى أحدهما ثبت الآخر.
{ ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا غافلين }.
أي ذلك الصرف عن الآيات هو سبب تكذيبهم بها وغفلتهم عن النظر فيها والتفكر في دلالتها والمعنى أنهم استمرّ كذبهم وصار لهم ذلك ديدناً حتى صارت تلك الآيات لا تخطر لهم ببال فحصلت الغفلة عنها والنسيان لها حتى كانوا لا يذكرونها ولا شيئاً منها والظاهر أنّ الصرف سببه التكذيب والغفلة ممن جميعهم ويُحتمل أن الصرف سببه التكذيب ويكون قوله : { وكانوا عنها غافلين } استئناف إخبار منه تعالى عنهم أي من شأنهم أنهم كانوا غافلين عن الأيات وتدبرها فأورثتهم الغفلة التكذيب بها والظاهر أن ذلك مبتدأ وخبره بأنهم أي ذلك الصرف كائن بأنهم كذبوا وجوّزوا أن يكون منصوباً فقدّره ابن عطية فعلنا ذلك ، وقدّره الزمخشري صرفهم الله ذلك الصّرف بعينه وفي قوله تعالى : { سأصرف عن آياتي الذين يتكّبرون في الأرض بغير الحقّ } إشعار بأنّ الصرف سببه هذا التكبّر وفي قوله { ذلك بأنهم كذبوا } إعلام بأن ذلك الصّرف سببه التكذيب والجمع بينهما أن التكبر سبب أول نشأ عنه التكذيب فنسبه الصّرف إلى السبب الأول وإلى ما تسبب عنه.

{ والذين كذّبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعلمون } ذكر تعالى ما يؤول إليه في الآخرة أمر المكذبين فذكر أنه يحبط أعمالهم أي لا يعبأ بها وأصل الحبْط أن يكون فيما تقدم صلاحه فاستعمل الحبوط هنا إذا كانت أعمالهم في معتقداتهم جارية على طريق صالح فكان الحبط فيها بحسب معتقداتهم إذ المكذّب بالآيات قد يكون له عمل فيه إحسان للناس وصفح وعفو عمن جنى عليه وكلّ ذلك لا يجازى عليه في الآخرة فشمل حبط الأعمال من له عمل برّ ومن عمله من أوّل مرة فاسد ونبّه بلقاء الآخرة على محلّ افتضاحهم وجزائهم وتهديداً لهم ووعيداً بها وأنها كائنة لا محالة وإضافة { لقاء } إلى { الآخرة } إضافة المصدر إلى المفعول أي ولقائهم الآخرة.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به أي ولقائهم الآخرة ومشاهدتهم أحوالها ومن إضافة المصدر إلى الظرف لأنّ الظرف هو على تقدير في والإضافة عندهم إنما هي على تقدير اللام أو تقدير من على ما بين في علم النحو فإنّ اتسع في العامل جاز أن ينصب الظرف نصب المفعول به وجاز إذ ذاك أن يُضاف مصدره إلى ذلك الظرف المتسع في عامله وأجاز بعض النحويين أن تكون الإضافة على تقدير في كما يفهمه ظاهر كلام الزمخشري ، وهو مذهب مردود في علم النحو.
و { هل يجزون } استفهام بمعنى التقدير أي يستوجبون بسوء فعلهم العقوبة ، قال ابن عطية : والظاهر أنه استفهام بمعنى النفي ولذلك دخلت { إلا } والاستفهام الذي هو بمعنى التقرير هو موجب من حيث المعنى فيبعد دخول إلا ولعله لا يجوز.
{ واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار }.
إن كان الاتخاذ بمعنى اتخاذه إلهاً معبوداً فصح نسبته إلى القوم وذكر أنهم كلهم عبدوه غير هارون ولذلك { قال : ربي اغفر لي ولأخي } ، وقيل إنما عبده قوم منهم لا جميعهم لقوله : { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق } وإن كان بمعنى العمل كقوله { كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً } أي عملت وصنعت فالمتخذ إنما هو السامري واسمه موسى بن ظفر من قرية تسمى سامرة ونسب ذلك إلى قوم موسى مجازاً كما قالوا بنو تميم قتلوا فلاناً وإنما قتله واحد منهم ولكونهم راضين بذلك ومعنى { من بعده } من بعد مضيه للمناجاة و { من حليّهم } متعلق باتخذ وبها يتعلق من بعده وإن كانا حر في جرّ بلفظ واحد وجاز ذلك لاختلاف مدلوليهما لأنّ من الأولى لابتداء الغاية والثانية للتبعيض وأجاز أبو البقاء أن يكون { من حليهم } في موضع الحال فيتعلق بمحذوف لأنه لو تأخر لكان صفة أي { عجلاً } كائناً { من حليهم }.

وقرأ الأخوان { من حليهم } بكسر الحاء اتباعاً لحركة اللام كما قالوا : عصى ، وهي قراءة أصحاب عبد الله ويحيى بن وثاب وطلحة والأعمش ، وقرأ باقي السبعة والحسن وأبو جعفر وشيبة بضم الحاء وهو جمع حلى نحو ثدي وثدى ووزنه فعول اجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبلها لتصحّ الياء ، وقرأ يعقوب { من حَلْيهم } بفتح الحاء وسكون اللام وهو مفرد يراد به الجنس أو اسم جنس مفرده حلية كتمر وتمره ، وإضافة الحلى إليهم إما لكونهم ملكوه من ما كان على قوم فرعون حين غرقوا ولفظهم البحر فكان كالغنيمة ولذلك أمر هارون بجمعه حتى ينظر موسى إذا رجع في أمره أو ملكوه إذ كان من أموالهم التي اغتصبها القبط بالجزية التي كانوا وضعوها عليهم فتحيل بنو إسرائيل عل استرجاعها إليهم بالعارية وإما لكونهم لم يملكوه لكن تصرفت أيديهم فيه بالعارية فصحت الإضافة إليهم لأنها تكون بأدنى ملابسة.
روى يحيى بن سلام عن الحسن : أنهم استعاروا الحلي من القبط لعرس ، وقيل : اليوم زينة ولما هلك فرعون وقومه بقي الحلي معهم وكان حراماً عليهم وأخذ بنو إسرائيل في بيعه وتمحيقه ، فقال السامريّ لهارون : إنه عارية وليس لنا فأمر هارون منادياً بردّ العارية ليرى فيها موسى رأيه إذا جاء فجمعه وأودعه هارون عند السامري وكان صائغاً فصاغ لهم صورة عجل من الحلي ، وقيل : منعهم من ردّ العارية خوفهم أن يطلع القبط على سُراهم إذ كان تعالى أمر موسى أن يسري بهم ، والعجل ولد البقرة القريب الولادة ومعنى { جسداً } جثة جماداً ، وقيل : بدناً بلا رأس ذهباً مصمتاً ، وقيل : صنعه مجوفاً ، قال الزمشخري : { جسداً } بدناً ذا لحم ودم كسائر الأجساد ، قال الحسن : إنّ السامريّ قبض قبضة من تراب من أثر فرس جبريل عليه السلام يوم قطع البحر فقذفه في في العجل فكان عجلاً له خوار انتهى.
وهذا ضعيف أعني كونه لحماً ودماً لأنّ الآثار وردت بأن موسى برده بالمبارد وألقاه في البحر ولا يبرد اللحم بل كان يقتل ويقطع ، وقال ابن الأنباري : ذكر الجسد دلالة على عدم الروح فيه انتهى ، وظاهر قوله { له خوار } يدلّ على أنه فيه روح لأنه لا يخور إلا ما فيه روح ، وقيل : لما صنعه أجوف تحيل لتصويته بأن جعل في جوفه أنابيب على شكل مخصوص وجعله في مهبّ الرياح فتدخل في تلك الأنابيب فيظهر صوت يشبه الخوار ، وقيل : جعل تحته من ينفخ فيه من حيث لا يشعر به فيسمع صوت من جوفه كالخوار ، وقال الكرماني : جعل في بطن العجل بيتاً يفتح ويغلق فإذا أراد أن يخور أدخله غلاماً يخور بعلامة بينهما إذا أراد ، وقيل : يحتمل أن يكون الله أخاره ليفتن بني إسرائيل وخواره ، قيل : مرة واحدة ولم يثنِ رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وقيل : مراراً فإذا خار سجدوا وإذا سكت رفعوا رؤوسهم ، وقاله ابن عباس وأكثر المفسرين ، وقرأ علي وأبو السّمأل وفرقة جؤار : بالجيم والهمز من جأر إذا صاح بشدّة صوت وانتصب { جسداً } ، قال الزمخشري على البدل ، وقال الحوفي على النعت وأجازهما أبو البقاء وأن يكون عطف بيان وإنما قال : { جسداً } لأنه يمكن أن يتخذ مخطوطاً أو مرقوماً في حائط أو حجر أو غير ذلك كالتماثيل المصوّرة بالرقم والخط والدّهان والنقش فبين تعالى أنه ذو جسد.

{ ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً } ، إن كان اتخذ معناه عمل وصنع فلا بدّ من تقدير محذوف يترتب عليه هذا الإنكار وهو فعبدوه وجعلوه إلهاً لهم وإن كان المحذوف إلهاً أي اتخذوا { عجلاً جسداً له خوار } إلهاً فلا يحتاج إلى حذف جملة ، وهذا استفهام إنكار حيث عبدوا جماداً أو حيواناً عاجزاً عليه آثار الصّنعة لا يمكن أن يتكلم ولا يهدي وقد ركز في العقول أن من كان بهذه المثابة استحال أن يكون إلهاً وهذا نوع من أنواع البلاغة يسمّى الاحتجاج النظري وبعضهم يسميه المذهب الكلامي والظاهر أن يروا بمعنى يعلموا وسلب تعالى عنه هذين الوصفين دون باقي أوصاف الإلهية لأنّ انتفاء القدرة وانتفاء هذين الوصفين وهما العلم والقدرة يستلزمان باقي الأوصاف فلذلك حضّ هذان الوصفان بانتفائهما.
{ اتخذوه وكانوا ظالمين } أي أقدموا على ما أقدموا عليه من هذا الأمر الشنيع وكانوا واضعين الشيء في غير موضعه أي من شأنهم الظلم فليسوا مبتكرين وضع الشيء في غيره موضعه وليس عبادة العجل بأول ما أحدثوه من المناكر ، قال ابن عطية ويحتمل أن تكون الواو واو الحال انتهى يعني في { وكانوا } والوجه الأول أبلغ في الذمّ وهو الإخبار عن وصفهم بالظلم وإنّ شأنهم ذلك فلا يتقيد ظلمهم بهذه الفعلة الفاضحة.
{ ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلّوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكوننّ من الخاسرين }.
ذكر بعض النحويين أن قول العرب سقط في يده فعل لا يتصرف فلا يستعمل منه مضارع ولا اسم فاعل ولا مفعول وكان أصله متصرّفاً تقول سقط الشيء إذا وقع من علو فهو في الأصل متصرّف لازم ، وقال الجرجاني : سقط في يده مما دثر استعماله مثل ما دثر استعمال قوله تعالى : { فضربنا على آذانهم } قال ابن عطية : وفي هذا الكلام ضعف والسّقاط في كلام العرب كثرة الخطأ والندم عليه ومنه قول ابن أبي كاهل :

كيف يرجون سقاطي بعدما . . .
بقع الرأس مشيب وصلع
وحكي عن أبي مروان بن سراج أحد أئمة اللغة بالأندلس أنه كان يقول : قول العرب سقط في يده مما أعياني معناه ، وقال أبو عبيدة : يقال لمن ندم على أمر وعجز عنه سقط في يده ، وقال الزجاج : معناه سقط الندم في أيديهم أي في قلوبهم وأنفسهم ، كما يقال حصل في أيديهم مكروه وإن كان محالاً أن يكون في اليد تشبيهاً لما يحصل في القلب والنفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين ، وقال ابن عطيّة : العرب تقول لمن كان ساعياً لوجه أو طالباً غاية فعرض له ما صده عن وجهه ووقفه موقف العجز وتيقن أنه عاجز سقط في يد فلان وقد يعرض له الندم وقد لا يعرض ، قال : والوجه الذي يصل بين هذه الألفاظ وبين المعنى الذي ذكرناه هو أن السعي أو الصّرف أو الدفاع سقط في يد المشار إليه فصار في يده لا يجاوزها ولا يكون له في الخارج أثر ، وقال الزمخشري لما اشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل لأنّ من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعضّ يده غمّاً فتصير يده مسقوطاً فيها لأن فاه قد وقع فيها وسقط مسند إلى { في أيديهم } وهو من باب الكناية انتهى ، والصواب وسقط مسند إلى ما { في أيديهم } وحكى الواحدي عن بعضهم أنه مأخوذ من السقيط وهو ما يغشى الأرض بالغذوات شبه الثلج يقال : منه سقطت الأرض كما يقال : من الثلج ثلجت الأرض وثلجنا أي أصابنا الثلج ومعنى سقط في يده والسّقيط والسقط يذوب بأدنى حرارة ولا يبقى ومن وقع في يده السّقيط لم يحصل منه على شيء فصار مثلاً لكل من خسر في عاقبته ولم يحصل من بغيته على طائل وكانت الندامة آخر أمره ، وقيل : من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضع ذقنه على يده معتمداً عليها ويصبر على هيئتة لو نزعت يده لسقط على وجهه كان اليد مسقوطاً فيها ومعنى { في } على أي سقط على يده ومعنى { في أيديهم } أي على أيديهم كقوله { ولأصلبنكم في جذوع النخل } انتهى.
وكان متعلق سقط قوله في أيديهم لأنّ اليد هي الآلة التي يؤخذ بها ويضبط { وسقط } مبني للمفعول والذي أوقع موضع الفاعل هو الجار والمجرور كما تقول : جلس في الدار وضحك من زيد ، وقيل : سقط تتضمن مفعولاً وهو هاهنا المصدر الذي هو الإسقاط كما يقال : ذهب بزيد انتهى ، وصوابه وهو هنا ضمير المصدر الذي هو السقوط لأنّ سقط ليس مصدره الإسقاط وليس نفس المصدر هو المفعول الذي لم يسمّ فاعله بل هو ضميره وقرأت فرقة منهم ابن السميقع { سقط في أيديهم } مبنياً للفاعل.
قال الزمخشري أي وقع الغضّ فيها ، وقال الزجاج : سقط الندم في أيديهم ، قال ابن عطية : ويحتمل أنّ الخسران والخيبة سقط في أيديهم ، وقرأ ابن أبي عبلة : أسقط في أيديهم رباعيّاً مبنياً للمفعول ورأوا أي علموا { أنهم قد ضلّوا }.

قال القاضي : يجب أن يكون المؤخر مقدّماً لأنّ الندم والتحسر إنما يقعان بعد المعرفة فكأنه تعالى قال : ولما رأوا أنهم قد ضلوا وسقط في أيديهم لما نالهم من عظيم الحسرة انتهى ، ولا يحتاج إلى هذا التقدير بل يمكن تقدّم النّدم على تبين الضلال لأنّ الإنسان إذا شكّ في العمل الذي أقدم عليه أهو صواب أو خطأ حصل له الندم ثم بعد يتكامل النظر والفكر فيعلم أن ذلك خطأ ، { قالوا : لئن لم يرحمنا ربنا } انقطاع إلى الله تعالى واعتراف بعظيم ما أقدموا عليه وهذا كما قال : آدم وحواء { وإن لم تغفر لنا وترحمنا } ولما كان هذا الذنب وهو اتخاذ غير الله إلهاً أعظم الذنوب بدأوا بالرحمة التي وسعت كل شيء ومن نتاجها غفران الذنب وأما في قصة آدم فإنه جرت محاورة بينه تعالى وبينهما وعتاب على ما صدر منهما من أكل ثمر الشجرة بعد نهيه إياهما عن قربانها فضلاً عن أكل ثمرها فبادرا إلى الغفران وأتباه بالرحمة إذ غفران ما وقع العتاب عليه أكد ما يطلب أولاً.
وقرأ الأخوان والشعبي وابن وثاب والجحدري وابن مصرف والأعمش وأيوب بالخطاب في ترحّمنا وتغفر ونداء ربنا ، وقرأ باقي السبعة ومجاهد والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة بن نصاح وغيرهم : { يرحمنا ربنا ويغفر لنا } بالياء فيهما ورفع { ربنا } وفي مصحف أبيّ قالوا : ربنا لئن ترحمنا وتغفر لنا ، بتقديم المنادى وهو ربّنا ويحتمل أن يكون القولان صدرا منهم جميعهم على التعاقب أو هذا من طائفة وهذا من طائفة فمن غلب عليه الخوف وقوي على المواجهة خاطب مستقيلاً من ذنبه العظيم ومن غلب عليه الحياء أخرج كلامه مخرج المستحيي من الخطاب فأسند الفعل إلى الغائب وفي قولهم : { ربنا } استعطاف حسن إذ الربّ هو المالك الناظر في أمر عبيده والمصلح منهم ما فسد.
{ ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم } ، { أي رجع } من المناجاة يروي أنه لما قرب من محلة بني إسرائيل سمع أصواتهم فقال هذه أصوات قوم لاهين فلما تحقق عكوفهم على عبادة العجل داخلة الغضب والأسف وألقى الألواح.
وقال الطبري أخبره تعالى قبل رجوعه أنهم قد فتنوا بالعجل فلذلك رجع وهو غاضب ويدلّ على هذا القول قوله { إنا قَد فتنا قومك من بعدك وأضلّهم السامري } الآية و { غضبان } من صفات المبالغة والغضب غليان القلب بسبب حصول ما يؤلم وذكروا أنه عليه السلام كان من أسرع الناس غضباً وكان سريع الفيئة ، قال ابن القاسم : سمعت مالكاً يقول كان إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته ورفع شعر بدنه جبته و { أسفاً } من أسف فهو أسف كما تقول فرق فهو فرْق يدلّ على ثبوت الوصف ولو ذهب به مذهب الزمان لكان على فاعل فيقال : آسف والآسف الحزين قاله ابن عباس والحسن والسدي أو الجزع قاله مجاهد أو المتلهف أو الشديد الغضب قاله الزمخشري وابن عطية قال : وأكثر ما يكون بمعنى الحزين أو المغضب قاله ابن قتيبة أو النادم قاله القتبي أيضاً ، أو متقاربان قاله الواحدي قال : فإذا أتاك ما تكره ممن دونك غضبت أو ممن فوقك حزنت فأغضبه عبادتهم العجل وأحزنه فتنة الله إياهم وكان قد أخبره بذلك بقوله { إنا قد فتنا قومك من بعدك } وتقدّم الكلام على { بئسما } في أوائل البقرة والخطاب إما للسامري وعباد العجل أي { بئسما } قمتم مقامي حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله تعالى وأما لوجوه بني إسرائيل هارون والمؤمنين حيث لم يكفوا من عبد غير الله و { خلفتموني } يدلّ على البعدية في الزمان والمعنى هنا من بعد ما رأيتم مني توحيد الله تعالى ونفي الشركاء عنه وإخلاص العبادة له أو من بعدما كنت أحمل بني إسرائيل على التوحيد وأكفهم عن ما طمحت إليه أبصارهم من عبادة البقر ومن حق الخلف أن يسير سيرة المستخلف ولا يخالفه ويقال خلفه بخير أو شرّ إذا فعله عن ترك من بعده.

{ أعجلتم } استفهام إنكار قال الزمخشري يقال : عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره ويضمن معنى سبق فيعدّى تعديته ، فيقال : عجلت الأمر والمعنى { أعجلتم } عن { أمر ربكم } وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ، ولم أرجع إليكم فحدّثتم أنفسكم بموتي فغيرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم ، وروي أن السامري قال لهم أحين أخرج إليهم العجل هذا إلهكم وإله موسى أن موسى لن يرجع وأنه قد مات انتهى.
وقال ابن عطية : معناه أسابقتم قضاء ربكم واستعجلتم إتياني من قبل الوقت الذي قدّرته انتهى ، وقال يعقوب : يقال عجلت الشيء سبقته وأعجلت الرجل استعجلته أي حملته على العجلة انتهى ، وقيل : معناه أعجلتم ميعاد ربكم أربعين ليلة ، وقيل : أعجلتم سخط ربكم ، وقيل : أعجلتم بعبادة العجل ، وقيل : العجلة التقدّم بالشيء في غير وقته ، قيل : وهي مذمومة ويضعفه قوله وعجلت إليك ربّ لترضى والسرعة المبادرة بالشيء في غير وقته وهي محمودة.
{ وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه } أي { الألواح } التوراة وكان حاملاً لها فوضعها بالأرض غضباً على ما فعله قومه من عبادة العجل وحمية لدين الله وكان كما تقدم شديد الغضب وقالوا كان هارون ألين منه خلقاً ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل منه.
وقيل : ألقاها دهشاً لما دهمه من أمرهم ، وعن ابن عباس : أن موسى عليه السلام لما ألقاها تكسرت فرفع أكثرها الذي فيه تفصيل كل شيء وبقي الذي في نسخته الهدى والرحمة وهو الذي أخذ بعد ذلك ، وروى أنه رفع ستة أسباعها وبقي سبع قاله جماعة من المفسرين ، وقال أبو الفرج بن الجوزيّ لا يصحّ أنه رماها رمي كاسر انتهى ، والظاهر أنه ألقاها من يديه لأنهما كانتا مشغولتين بها وأراد إمساك أخيه وجرّه ولا يتأتى ذلك إلا بفراغ يديه لجرّه وفي قوله { ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح } دليل على أنها لم تتكسر ودليل على أنه لم يرفع منها شيء والظاهر أنه أخذ برأسه أي أمسك رأسه جاره إليه ، وقيل : بشعر رأسه ، وقيل : بذوائبه ولحيته ، وقيل : بلحيته ، وقيل : بأذنه ، وقيل : لم يأخذ حقيقة وإنما كان ذلك إشارة فخشي هارون أن يتوّهم الناظر إليهما أنه لغضب فلذلك نهاه ورغب إليه والظاهر أن سبب هذا الأخذ هو غضبه على أخيه وكيف عبدوا العجل وهو قد استخلفه فيهم وأمره بالإصلاح وأن لا يتبع سبيل من أفسد وكيف لم يزجرهم ويكفهم عن ذلك ويدلّ على هذا الظاهر قوله : { ولما سكت عن موسى الغضب } وقوله :

{ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي } ، قال الزمخشري : أي بشعر رأسه يجره إليه بذوائبه وذلك لشدة ما ورده عليه من الأمر الذي استفزّه وذهب بفطنته وظنّاً بأخيه أن فرط في الكفّ ، وقيل : ذلك الأخذ والجر كان ليسر إليه أنه نزل عليه الألواح في مناجاته وأراد أن يخفيها عن بني إسرائيل فنهاه هارون لئلا يشتبه سراره على بني إسرائيل بإذلاله وقيل : ضمه ليعلم ما لديه فكره ذلك هارون لئلا يظنوا أهانته وبيّن له أخوه أنهم استضعفوه ، وقيل : كان ذلك على سبيل الإكرام لا على سبيل الإهانة كما تفعل العرب من قبض الرجل على لحية أخيه.
{ قال ابنَ أمّ إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمِت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين } ناداه نداء استضعاف وترفق وكان شقيقه وهي عادة العرب تتلطف وتتحنن بذكر الأمّ كما قال :
يا ابن أمي ويا شقيق نفسي . . .
وقال آخر :
يا ابن أمي فدتك نفسي ومالي . . .
وأيضاً فكانت أمهما مؤمنة قالوا : وكان أبوه مقطوعاً عن القرابة بالكفر كما قال تعالى لنوح عليه السلام : { إنه ليس من أهلك } وأيضاً لما كان حقها أعظم لمقاساتها الشدائد في حمله وتربيته والشفقة عليه ذكره بحقها ، وقرأ الحرميان وأبو عمرو وحفص : { ابن أمّ } بفتح الميم ، فقال الكوفيون : أصله يا ابن أماه فحذفت الألف تخفيفاً كما حذفت في يا غلام وأصله يا غلاماً وسقطت هاء السكت لأنه درج فعلى هذا الاسم معرب إذ الألف منقلبة عن ياء المتكلم فهو مضاف إليه ابن ، وقال سيبويه : هما اسمان بنيا على الفتح كاسم واحد كخمسة عشر ونحوه فعلى قوله ليس مضافاً إليه ابن والحركة حركة بناء ، وقرأ باقي السبعة بكسر الميم فقياس قول الكوفييّن أنه معرب وحذفت ياء المتكلم واجتزىء بالكسرة عنها كما اجتزؤوا بالفتحة عن الألف المنقلبة عن ياء المتكلم ، وقال سيبويه هو مبنيّ أضيف إلى ياء المتكلم كما قالوا يا أحد عشر أقبلوا وحذفت الياء واجتزؤوا بالكسرة عنها كما اجتزؤوا في

{ يا قَوم } ولو كانا باقيين على الإضافة لم يجز حذف الياء لأنّ الاسم ليس بمنادى ولكنه مضاف إليه المنادى فلا يجوز حذف الياء منه ، وقرىء بإثبات ياء الإضافة وأجود اللغات الاجتزاء بالكسرة عن ياء الإضافة ثم قلب الياء ألفاً والكسرة قبلها فتحة ثم حذف التاء وفتح الميم ثم إثبات التاء مفتوحة أو ساكنة وهذه اللغات جائزة في ابنة أمي وفي ابن عمي وابنة عمي ، وقرىء يا ابن أمي بإثبات الياء وابن إمّ بكسر الهمزة والميم ومعمول القول المنادى والجملة بعده المقصود بها تخفيف ما أدرك موسى من الغضب والاستعذار له بأنه لم يقصّر في كفهّم من الوعظ والإنذار وما بلغته طاقته ولكنهم استضعفوه فلم يلتفتوا إلى وعظه بل قاربوا أن يقتلوه ودلّ هذا على أنه بالغ في الإنكار عليهم حتى همّوا بقتله ومعنى { استضعفوني } وجدوني فهي بمعنى إلفاء الشيء بمعنى ما صيغ منه أي اعتقدوني ضعيفاً ، وتقدّم ذلك في قوله { للذين استضعفوا } ولما أبدى له ما كان منهم من الاستضعاف له ومقاربة قتلهم إياه سأله ترك ما يسرهم بفعله فقال { فلا تشمت بي الأعداء } أي لا تسرّهم بما تفعل بي فأكون ملوماً منهم ومنك ، وقال الشاعر :
والموت دون شماتة الأعداء . . .
وقرأ ابن محيصن { تشمت } بفتح التاء وكسر الميم ونصب { الأعداء } ومجاهد كذلك إلا أنه فتح الميم وشمت متعدّية كأشمت وخرّج أبو الفتح قراءة مجاهد على أن تكون لازمة والمعنى فلا تشمت أنت يا ربّ وجاز هذا ، كما قال الله يستهزىء بهم ونحو ذلك ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلاً نصب به الأعداء كقراءة الجماعة انتهى ، وهذا خروج عن الظاهر وتكلّف في الإعراب وقد روي تعدّى شمت لغة فلا يتكلّف أنها لازمة مع نصب الأعداء وأيضاً قوله : { الله يستهزئ بهم } إنما ذلك على سبيل المقابلة لقولهم { إنما نحن مستهزءون } فقال : { الله يستهزئ بهم } وكقوله { ويمكرون ويمكر الله } ولا يجوز ذلك ابتداءً من غير مقابلة وعن مجاهد { فلا تشمت } بفتح التاء والميم ورفع { الأعداء } ، وعن حميد بن قيس كذلك إلا أنه كسر الميم جعلاه فعلاً لازماً فارتفع به الأعداء فظاهره أنه نهى الأعداء عن الشماتة به وهو من باب لا أرينك هنا والمراد نهيه أخاه أي لا تحلّ بي مكروهاً فيشمتوا بي وبدأ أوّلاً بسؤال أخيه أن لا يشمت به الأعداء لأنّ ما يوجب الشماتة هو فعل مكروه ظاهر لهم فيشمتوا به فبدأ بالأوكد ثم سأله أن لا يجعله ولا يعتقده واحداً من الظالمين إذ جعله معهم واعتقاده من جملتهم هو فعل قلبي وليس ظاهراً لبني إسرائيل أو يكون المعنى { ولا تجعلني } في موجدتك عليّ قريناً لهم مصاحباً لهم.

.
{ قال ربّ اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين }.
لما اعتذر إليه أخوه استغفر لنفسه وله قالوا واستغفاره لنفسه بسبب فعلته مع أخيه وعجلته في إلقاء الألواح واستغفاره لأخيه من فعلته في الصبر لبني إسرائيل قالوا : ويمكن أن يكون الاستغفار مما لا يعلمه والله أعلم ، وقال الزمخشري لما اعتذر إليه أخوه وذكر شماته الأعداء ، { قال : رب اغفر لي ولأخي } ليرضي أخاه ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه فلا يتمّ لهم شماتتهم واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه ولأخيه أن عسى فرّط في حين الخلافة وطلب أن لا يتفرقا عن رحمته ولا تزال متضمنة لهما في الدنيا والآخرة انتهى ، وقوله ولأخيه أن عسى فرط إن كانت أن بفتح الهمزة فتكون المخففة من الثقيلة ويقرب معناه ، وإن كانت بكسر الهمزة فتكون للشرط ولا يصح إذ ذاك دخولها على عسى لأنّ أدوات الشرط لا تدخل على الفعل الجامد.
{ إنَ الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلّة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين }.
الظاهر أنه من كلام الله تعالى إخباراً عما ينال عباد العجل ومخاطبةً لموسى بما ينالهم.
وقيل : هو من بقية كلام موسى إلى قوله { وقال إنما اتخذتم } وأصدقه الله تعالى بقوله : { وكذلك نجزي المفترين } والأول الظاهر لقوله { وكذلك نجزي المفترين } في نسق واحد مع الكلام قبله والمعنى اتخذوه إلهاً لقوله { فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا : هذا إلهكم وإله موسى } ، قيل : والغضب في الأخرة والذلّة في الدنيا وهم فرقة من اليهود أُشربوا حبّ العجل فلم يتوبوا ، وقيل : هم من مات منهم قبل رجوع موسى من الميقات ، وقال أبو العالية وتبعه الزمخشري : هو ما أمروا به من قتل أنفسهم ، وقال الزمخشري والذلّة خروجهم من ديارهم لأن ذلّ الغربة مثلٌ مضروب انتهى ، وينبغي أن يقول استمرار انقطاعهم عن ديارهم لأنّ خروجهم كان سبق على عبادة العجل ، وقال عطية العوفيّ : هو في قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير لأنهم تولوا متخذي العجل ، وقيل : ما نال أولادهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبي والجلاء والجزية وغيرها ، وجمع هذين القولين الزمخشري فقال : هو ما نال أبناءهم وهم بنو قريضة والنضير من غضب الله تعالى بالقتل والجلاء ومن الذلة بضرب الجزية انتهى ، والغضب إن أخذ بمعنى الإرادة فهو صفة ذات أو بمعنى العقوبة فهو صفة فعل والظاهر أن قوله { في الحياة الدنيا } متعلق بقوله { سينالهم } ، وكذلك أي مثل ذلك النيل من الغضب والذلّة نجزي من افترى الكذب على الله وأي افتراء أعظم من قولهم { هذا إلهكم وإله موسى } و { المفترين } عامّ في كل مفتر ، وقال أبو قلابة ومالك وسفيان بن عيينة : كل صاحب بدعة أو فرية ذليل واستدلّوا على ذلك بالآية.

{ والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إنّ ربّك من بعدها لغفور رحيم } { السيئات } هي الكفر والمعاصي غيره { ثم تابوا } أي رجعوا إلى الله { من بعدها } أي من بعد عمل السيئات { وآمنوا } داموا على إيمانهم وأخلصوا فيه أو تكون الواو حالية أي وقد آمنوا أنّ ربك من بعدها أي من بعد عمل السيئات هذا هو الظاهر ، ويحتمل أن يكون الضمير في { من بعدها } عائداً على التوبة أي { إنّ ربك } من بعد توبتهم فيعود على المصدر المفهوم من قوله { ثم تابوا } وهذا عندي أولى لأنك إذا جعلت الضمير عائداً على { السيئات } ، احتجت إلى حذف مضاف وحذف معطوف إذ يصير التقدير من بعد عمل السيئات والتوبة منها وخبر { الذين } قوله { إن ربك } وما بعده والرابط محذوف أي { لغفور رحيم } لهم.
قال الزمخشري : { لغفور } لستور عليهم محاء لما كان منهم { رحيم } منعم عليهم بالجنة وهذا حكم عام يدخل تحته متخذو العجل ومن عداهم عظم جنايتهم أوّلاً ثم أردفها بعظم رحمته ليعلم أنّ الذنوب وإن جلت وإن عظمت فإن عفوه تعالى وكرمه أعظم وأجلّ ولكن لا بد من حفظ الشريطة وهي وجوب التوبة والإنابة وما وراءه طمع فارغ وأشعبية باردة لا يلتفت إليها حازم انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال.
{ ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون }.
سكوت غضبه كان والله أعلم بسبب اعتذار أخيه وكونه لم يقصر في نهي بني إسرائيل عن عبادة العجل ووعد الله إياه بالانتقام منهم وسكوت الغضب استعارة شبه خمود الغضب بانقطاع كلام المتكلم وهو سكوته.
قال يونس بن حبيب : تقول العرب سال الوادي ثم سكت ، وقال الزجاج : مصدر { سكت } الغضب سكت ومصدر سكت الرجل سكوت وهذا يقتضي أنه فعل على حدّه وليس من سكوت الناس ، وقيل هو من باب القلب أي ولمّا سكت موسى عن الغضب نحو أدخلت في فيّ الحجر ، وأدخلت القلنسوة في رأسي انتهى ، ولا ينبغي هذا لأنه من القلب وهو لم يقع إلاّ في قليل من الكلام والصحيح أنه لا ينقاس ، وقال الزمخشري وهذا مثل كأنّ الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له قل لقومك كذا وألق الألواح وخذ برأس أخيك إليك فترك النطق بذلك وترك الإغراء ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك ولأنه من قبيل شعب البلاغة ، وإلا فما لقراءة معاوية بن قرة ولما سكن عن موسى الغضب لا تجد النفس عندها شيئاً من تلك الهزة وطرفاً من تلك الروعة ، وقرىء أسكت رباعيّاً مبنيّاً للمفعول ، وكذا هو في مصحف حفصة والمنوي عند الله أو أخوه باعتذاره إليه أو تنصله أي أسكت الله أو هارون ، وفي مصحف عبد الله ولما صبر ، وفي مصحف أبي ولما انشق والمعنى ولما طفى غضبه أخذ ألواح التوراة التي كان ألقاها من يده ، روي عن ابن عباس أنه ألقاها فتكسرت فصام أربعين يوماً فردّت إليه في لوحين ولم يفقد منها شيئاً وفي نسختها أي فيما نسخ من الألواح المكسرة أو فيما نسخ فيها أو فيما بقي منها بعد المرفوع وهو سبعها والأظهر أنّ المعنى وفيما نقل وحوّل منها واللام في { لربهم } تقوية لوصول الفعل إلى مفعوله المتقدم ، وقال الكوفيّون : هي زائدة ، وقال الأخفش : هي لام المفعول له أي لأجل ربهم { يرهبون } لا رياء ولا سمعة ، وقال المبرد : هي متعلقة بمصدر المعنى الذين هم رهبتهم لربهم وهذا على طريقة البصريين لا يتمشّى لأنّ فيه حذف المصدر وإبقاء معموله وهو لا يجوز عندهم إلا في الشعر وأيضاً فهذا التقدير يخرج الكلام عن الفصاحة.

وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)

{ واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا }.
{ اختار } افتعل من الخير وهو التخير والانتقاء { واختار } من الأفعال التي تعدت إلى اثنين أحدهما بنفسه والآخر بوساطة حرف الجر وهي مقصورة على السماع وهي اختار واستغفر وأمر وكنّى ودعا وزوج وصدق ، ثم يحذف حرف الجر ويتعدّى إليه الفعل فيقول اخترت زيداً من الرجال واخترت زيداً الرجال.
قال الشاعر :
اخترتك الناس إذ رثت خلائقهم . . .
واعتل من كل يرجى عنده السّول
أي اخترتك من الناس و { سبعين } هو المفعول الأوّل ، و { قومه } هو المفعول الثاني وتقديره { من قومه } ومن أعرب { قومه } مفعولاً أوّل و { سبعين } بدلاً منه بدل بعض من كلّ وحذف الضمير أي { سبعين رجلاً } منهم احتاج إلى تقدير مفعول ثان وهو المختار منه فإعرابه فيه بعد وتكلف حذف في رابط البدل وفي المختار منه واختلفوا في هذا الميقات أهو ميقات المناجاة ونزول التوراة أو غيره ، فقال نوف البكالي ورواه أبو صالح عن ابن عباس : وهو الأوّل بيّن فيه بعض ما جرى من أحواله وأنه اختار من كل سبط ستة رجال فكانوا اثنين وسبعين ، فقال ليتخلف اثنان فإنما أمرت بسبعين فتشاحوا ، فقال : من قعد فله أجر من حضر فقعد كالب بن يوقنا ويوشع بن نون واستصحب السبعين بعد أن أمرهم أن يصوموا ويتطهّروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى طور سيناء لميقات ربه وكان أمره ربه أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى ودخل فيه وقال للقوم : ادنوا فدنوا حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجّداً فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل ، ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه فطلبوا الرؤية فوعظهم وزجرهم وأنكر عليهم فقالوا : { يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة }
قال الزمخشري : فقال { ربّ أرني أنظر إليك } يريد أن يسمعوا الردّ والإنكار من جهته ، فأجيب : بلن تراني ورجف الجبل بهم وصعقوا انتهى ، وقيل : هو ميقات آخر غير ميقات المناجاة ونزول التوراة ، فقال وهب بن منبه : قال بنو إسرائيل لموسى إن طائفةً تزعم أنّ الله لا يكلمك فخذ منا من يذهب معك ليسمعوا كلامه فيؤمنوا فأوحى الله تعالى إليه أن يختار من قومه سبعين من خيارهم ثم ارتقِ بهم الجبل أنت وهارون واستخلف يوشع ، ففعل فلما سمعوا كلامه سألوا موسى أن يريهم الله جهرة فأخذتهم الرجفة ، وقال السدّي : هو ميقات وقته الله تعالى لموسى يلقاه في ناس من بني إسرائيل ليعتذروا إليه من عبادة العجل ، وقال ابن عباس فيما روى عنه عليّ بن طلحة هو ميقات وقته الله لموسى وأمره أن يختار من قومه سبعين رجلاً ليدعوا ربهم فدعوا فقالوا يا الله أعطنا ما لم تعطِ أحداً قبلنا ولا أحداً بعدنا فكره الله ذلك فأخذتهم الرّجفة ، وعن علي رضي الله عنه فيما روى ابن أبي شيبة أن موسى وهارون وابناه شبّر وشبير انطلقوا حتى انتهوا إلى جبل فيه سرير فقام عليه هارون فقبض روحه فرجع موسى إلى قومه فقالوا : أنت قتلته وحسدتنا على خلقه ولينه ، فقال : كيف أقتله ومعي ابناه ، قال : فاختاروا من شئتم فاختير سبعون فانتهوا إليه فقالوا من قتلك يا هارون قال ما قتلني أحد ولكنّ الله توفاني ، قالوا : يا موسى ما نعصي بعد فأخذتهم الرّجفة فجعلوا يتردّون يميناً وشمالاً انتهى ، ولفظ { لميقاتنا } في هذا القول الذي روي عن عليّ لأنه يقتضي أنه كان عن توقيت من الله تعالى ، وقال ابن السائب : كان موسى لا يأتي ربه إلا بإذن منه والذي يظهر أن هذا الميقات غير ميقات موسى الذي قيل طفيه : { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } لظاهر تغاير القصتين وما جرى فيهما إذ في تلك أن موسى كلمه الله وسأله الرؤية وأحاله في الرؤية على تجليه للجبل وثبوته فلم يثبت وصار دكّاً وصعق موسى وفي هذه اختير السبعون لميقات الله وأخذتهم الرّجفة ولم تأخذ موسى ، وللفصل الكثير الذي بين أجزاء الكلام لو كانت قصة واحدة.

{ فلما أخذتهم الرّجفة قال ربِّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي }.
سبب الرجفة مختلف فيه وهو مرتب على تفسير الميقات فهل الرّجفة عقوبة على سكوتهم وإغضائهم على عبادة العجل أو عقوبة على سؤالهم الرؤية أو عقوبة لتشططهم في الدعاء المذكور أو سببه سماع كلام هارون وهو ميت أقوال.
وقال السدّي : عقوبة على عبادة هؤلاء السبعين باختيارهم العجل وخفي ذلك عن موسى في وقت الاختيار حتى أعلمه الله وأخذ الرّجفة يحتمل أن نشأ عنه الموت ويحتمل أن نشأ عنه الغشي وهما قولان ، وقال السدّي قال موسى : كيف أرجع إلى بني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم فماذا أقول وكيف يأمنونني على أحد فأحياهم الله ، وقيل أخذتهم الرّعدة حتى كادت تبين مفاصلهم وتنتقض ظهورهم وخاف موسى الموت فعند ذلك بكى ودعا فكشف عنهم ، قال الزمخشري : وهذا تمنّ منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى من تبعة طلب الرؤية كما يقال النادم على الأمر إذا رأى سوء المغبّة لو شاء الله لأهلكني قبل هذا انتهى.
فمعنى قوله { من قبل } سؤال الرّؤية وهذا بناء من الزمخشري على أنّ هذا الميقات هو ميقات المناجاة وطلب الرؤية وقد ذكرنا أنّ الأظهر خلافه ، وقال ابن عطية لما رأى موسى ذلك أسف عليهم وعلم أن أمر بني إسرائيل يتشعّب إن لم يأتِ بالقوم فجعل يستعطف ربه أن يا رب لو شئت أهلكتهم قبل هذه الحال وإياي لكان أخفّ عليّ وهذا وقت هلاكهم فيه مفسدة عليّ مؤذٍ لي انتهى ، ومفعول { شئت } محذوف تقديره لو شئت إهلاكنا وجواب { لو أهلكتهم } وأتى دون لام وهو فصيح لكنه باللام أكثر كما قال

{ لو شئت لاتخذت } { ولو شاء ربك لآمن } ، ولا يحفظ جاء بغير لام في القرآن ألا هذا وقوله { أن لو نشاء أصبناهم } و { لو نشاء جعلناه أجاجاً } والمحذوف في { من قبل } أي من قبل الاختيار وأخذ الرّجفة وذلك زمان إغضائهم على عبادة العجل أو عبادتهم هم أياه وقوله { وإياي } أي وقت قتلي القبطي فأنت قد سترت وغفرت حينئذ فكيف الآن إذ رجوعي دونهم فساد لبني إسرائيل قال أكثره ابن عطية وعطف وإياي على الضمير المنصوب في أهلكتهم وعطف الضمير مما يوجب فصله وبدأ بضميرهم لأنّهم الذين أخذتهم الرجفة فماتوا أو أغمي عليهم ولم يمت هو ولا أغمي عليه ولم يكتفِ بقوله أهلكتهم من قبل حتى أشرك نفسه فيهم وإن كان لم يشركهم في مقتضى الإهلاك تسليماً منه لمشيئة الله تعالى وقدرته وأنه لو شاء إهلاك العاصي والطائع لم يمنعه من ذلك مانع.
{ أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } قيل : هذا استفهام على سبيل الإدلاء بالحجة في صيغة استعطاف وتذلّل والضمير المنصوب في { أتهلكنا } له وللسبعين و { بما فعل السفهاء } فيه الخلاف مرتّباً على سبب أخذ الرّجفة من طلب الرؤية أو عبادة العجل أو قولهم قتلت هارون أو تشططهم في الدعاء أو عبادتهم بأنفسهم العجل ، وقيل : الضمير في { أتهلكنا } له ولبني إسرائيل وبما فعل السفهاء أي بالتفرّق والكفر والعصيان يكون هلاكهم ، وقال الزمخشري يعني نفسه وإياهم لأنه إنما طلب الرؤية زجراً للسفهاء وهم طلبوها سفهاً وجهلاً والذي يظهر لي أنه استفهام استعلام اتبع إهلاك المختارين وهم خير بني إسرائيل بما فعل غيرهم إذ من الجائز في العقل ذلك ألا ترى إلى قوله تعالى : { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } وقوله عليه السلام ، وقد قيل له : أنهلك وفينا الصالحون قال : « نعم إذا كثر الخبث » وكما ورد أن قوماً يخسف بهم قيل : وفيهم الصالحون فقيل : يبعثون على نيّاتهم أو كلاماً هذا معناه وروي عن عليّ أنهم أحيوا وجعلوا أنبياء كلهم.
{ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء } أي إن فتنتهم { إلا فتنتك } والضمير في { هي } يفسره سياق الكلام أي أنت هو الذي فتنتهم قالت فرقة لما أعلمه الله أنّ السبعين عبدوا العجل تعجب وقال { إن هي إلا فتنتك } ، وقيل لما أعلم موسى بعبادة بني إسرائيل العجل وبصفته قال : يا ربّ ومن أخاره قال : أنا قال : موسى فأنت أضللتهم { إن هي إلا فتنتك } ، قال ابن عطية : ويحتمل أن يشير به إلى قولهم { أرنا الله جهرة } إذ كانت فتنة من الله أوجبت الرّجفة وفي هذه الآية ردّ على المعتزلة ، وقال الزمخشري أي محنتك وبلاؤك حين كلمتني وسمعت كلامك فاستدلوا بالكلام على الرؤية استدلالاً فاسداً حتى افتتنوا وضلوا تضلّ بها الجاهلين غير الثابتين في معرفتك وتهدي العالمين الثابتين بالقول الثابت ، وجعل ذلك إضلالاً من الله تعالى وهدى منه لأنّ محنته إنما كانت سبباً لأن ضلّوا واهتدوا فكأنه أضلّهم بها وهداهم على الاتساع في الكلام انتهى وهو على طريقة المعتزلة في نفيهم الإضلال عن الله تعالى.

{ أنت ولينا } القائم بأمرنا { فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين }.
سأل الغفران له ولهم والرحمة لما كان قد اندرج قومه في قوله أنت وليّنا وفي سؤال المغفرة والرحمة له ولهم وكان قومه أصحاب ذنوب أكد استعطاف ربه تعالى في غفران تلك الذنوب فأكد ذلك ونبه بقوله وأنت خير الغافرين ولما كان هو وأخوه هارون عليه السلام من المعصومين من الذنوب فحين سأل المغفرة له ولأخيه وسأل الرحمة لم يؤكد الرحمة بل قال : { وأنت أرحم الراحمين } فنبه على أنه تعالى أرحم الراحمين ، ألا ترى إلى قوله : { ورحمتي وسعت كل شيء } وكان تعالى خير الغافرين لأنّ غيره يتجاوز عن الذنب طلباً للثناء أو الثواب أو دفعاً للصفة الخسيسة عن القلب وهي صفة الحقد والباري سبحانه وتعالى منزّه عن أن يكون غفرانه لشيء من ذلك.
{ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك }.
أي وأثبت لنا عاقبةً وحياة طيبة أو عملاً صالحاً يستعقب ثناء حسناً في الدنيا وفي الآخرة الجنة والرؤية والثواب على حسنة الدنيا والأجود حمل الحسنة على ما يحسن من نعمة وطاعة وغير ذلك وحسنة الآخرة الجنة لا حسنة دونها { وإنا هدنا } تعليل لطلب الغفران والحسنة وكتب الحسنة أي تبنا إليك قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وأبو العالية وقتادة والضحاك والسدّي : من هاد يهود ، وقال ابن بحر : تقرّ بالتوبة ، وقيل : ملنا.
ومنه قول الشاعر :
قد علمت سلمى وجاراتها . . .
أني من الله لها هائد
أي مائل ، وقرأ زيد بن علي وأبو وجزة هدنا بكسر الهاء من هاد يهيد إذا حرك أي حرّكنا أنفسنا وجذبناها لطاعتك فيكون الضمير فاعلاً ويحتمل أن يكون مفعولاً لم يسمَّ فاعله أي حركنا إليك وأملنا والضم في { هدنا } يحتملهما وتضمنت هذه الجمل كونه تعالى هو ربهم ووليهم وأنهم تائبون عبيد له خاضعون فناسب عزّ الرّبوبية أن يستعطف للعبيد التائبين الخاضعين بسؤال المغفرة والرّحمة والكتب.
{ قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء }.
الظاهر أنه استئناف إخبار عن عذابه ورحمته ويندرج في قوله : { أصيب به من أشاء } أصحاب الرّجفة ، وقيل العذاب هنا هو الرّجفة و { من أشاء } أصحابها والمعنى أنه لا اعتراض عليه أي من أشاء عذابه ، وقيل : من أشاء أن لا أعفو عنه ، وقيل : من أشاء من خلقي كما أصبت به قومك ، وقيل : من أشاء من الكفار ، وقيل المشيئة راجعة إلى التعجيل والإمهال لا إلى الترك والإهمال ، وقال الزمخشري : ممن أشاء من وجب عليّ في الحكمة تعذيبه ولم يكن في العفو عنه مساغ لكونه مفسدة انتهى ، وهو على طريقة المعتزلة ، وقال ابن عباس أصيب من أشاء على الذنب اليسير ، وقال أيضاً وسعت كل شيء من ذنوب المؤمنين ، وقال أبو روق هي التعاطف بين الخلائق ، وقال ابن زيد : هي التوبة على العموم ، وقال الحسن : هي في الدنيا بالرزق عامة وفي الآخرة بالمؤمنين خاصة ، وقال الزمخشري : وأما رحمتي فمن حالها وصفتها أنها واسعة كل شيء ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في نعمتي انتهى ، وهو بسط قول الحسن : هي في الدنيا بالرزق عامة ، وقرأ زيد بن علي والحسن وطاووس وعمرو بن فائد من أساء من الإساءة ، وقال أبو عمرو والدّاني : لا تصحّ هذه القراءة عن الحسن وطاووس وعمرو بن فائد رجل سوء ، وقرأ بها سفيان بن عيينة مرّة واستحسنها فقام إليه عبد الرحمن المقري وصاح به وأسمعه فقال سفيان : لم أدرِ ولم أفطن لما يقول أهل البدع وللمعتزلة تعلّق بهذه القراءة من جهة إنفاذ الوعيد ومن جهة خلق المرء أفعاله وإن أساء لا فعل فيه الله تعالى والانفصال عن هذا كالانفصال عن سائر الظواهر.

{ فسأكتبها للذين يتّقون ويؤتون الزكاة }.
أي أقضيها وأقدّرها والضمير عائد على الرحمة لأنها أقرب مذكور ويحتمل عندي أن يعود على حسنة في قوله { واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة } أي فسأكتب الحسنة وقاله ابن عباس ونوف البكالي وقتادة وابن جريج والمعنى متقارب لما سمع إبليس { ورحمتي وسعت كل شيء } تطاول لها إبليس فلما سمع فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة يئس ، وبقيت اليهود والنصارى فلما تمادت الصفة تبين أنّ المراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويئس النصارى واليهود من الآية ، وقال أهل التفسير : عرض الله هذه الخِلال على قوم موسى فلم يتحملوها ولما انطلق وفد بني إسرائيل إلى الميقات قيل : لهم خطت لكم الأرض مسجداً وطهوراً إلا عند مرحاض أو قبر أو حمام وجعلت السّكينة في قلوبهم فقالوا : لا نستطيع فاجعل السكينة في التابوت والصلاة في الكنيسة ولا نقرأ التوراة إلا عن نظر ولا نصلي إلا في الكنيسة فقال الله تعالى : { فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة } من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال نوف البكالي : إن موسى عليه السلام قال : يا رب جعلت وفادتي لأمة محمد ، قال نوف فاحمدوا الله الذي جعل وفادة بني إسرائيل لكم ومعنى { يتّقون } قال ابن عباس : وفرقة الشّرك ، وقالت فرقة المعاصي فمن قال الشرك لا غير خرج إلى قول المرجئة ويردّ عليه من الآية شرط الإعمال بقوله { ويؤتون الزكاة } ، ومن قال : المعاصي ولا بدّ خرج إلى قول المعتزلة ، قال ابن عطية : والصواب أن تكون اللفظة عامة ولكن لا نقول لا بدّ من اتقاء المعاصي بل نقول مواقع المعاصي في المشيئة ومعنى { يتّقون } يجعلون بينهم وبين المتقي حجاباً ووقاية ، فذكر تعالى الرتبة العالية ليتسابق السامعون إليها انتهى.

{ ويؤتون الزكاة } الظاهر أنها زكاة المال وبه قال ابن عباس وروي عنه : ويؤتون الأعمال التي يزكون بها أنفسهم ، وقال الحسن : تزكية الأعمال بالإخلاص انتهى ، ولما كانت التكاليف ترجع إلى قسمين تروك وأفعال والأفعال قسمان راجعة إلى المال وراجعة إلى نفس الإنسان وهذان قسمان علم وعمل فالعلم المعرفة والعمل إقرار باللسان ، وعمل بالأركان فأشار بالاتقاء إلى التروك وبالفعل الراجح إلى المال بالزكاة وأشار إلى ما بقي بقوله : { والذين هم بآياتنا يؤمنون } وهذه شبيهة بقوله { هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب } الآية وفهم المفسرون من قوله الذين يتقون إلى آخر الأوصاف إنّ المتصفين بذلك هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن يكون من باب التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه فيكون قوله للذين يتّقون ويؤتون الزكاة لمن فعل ذلك قبل الرسول ويكون قوله والذين هم بآياتنا يؤمنون من فعل ذلك بعد البعثة وفسّر الآيات هنا بأنها القرآن وهو الكتاب المعجز.

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)

التعزير قال يونس بن حبيب التعزير هو الثناء والمدح.
الانبجاس العرق.
قال أبو عمرو بن العلاء : انبجست عرقت وانفجرت سالت ، وقال الواحدي الانبجاس الانفجار يقال : نجس وانبجس ، الحوت معروف يجمع في القلة على أخوات وفي الكثرة على حيتان وهو قياس مطّرد في فعل واوي العين نحو عود وأعواد وعيدان.
{ الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ الذين يجدونه مكتوباً عندهم في التوارة والإنجيل يأمرهم بالمعروف ويناهم عن المنكر }.
هذا من بقية خطابه تعالى لموسى عليه السلام وفيه تبشير له ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وذكر لصفاته وإعلام له أيضاً أنه ينزل كتاباً يسمى الإنجيل ومعنى الاتباع الاقتداء فيما جاء به اعتقاداً وقولاً وفعلاً وجمع هنا بين الرسالة والنبوة لأن الرسالة في بني آدم أعظم شرفاً من النبوة أو لأنها بالنسبة إلى الآدمي والملك أعم فبُدىء به والأميّ الذي هو على صفة أمة العرب إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب فأكثر العرب لا يكتب ولا يقرأ قاله الزجاج ، وكونه أمّياً من جملة المعجز ، وقيل : نسبة إلى أم القرى وهي مكة ، وروي عن يعقوب وغيره أنه قرأ { الأميّ } بفتح الهمزة وخرج على أنه من تغيير النسب والأصل الضّم كما قيل في النسب إلى أميّة أموي بالفتح أو على أنه نسب إلى المصدر من أم ومعناه المقصود أي لأنّ هذا النبي مقصد للناس وموضع أم ، وقال أبو الفضل الرازي : وذلك مكة فهو منسوب إليه لكنها ذكرت إرادة للحرم أو الموضع ومعنى { يجدونه } أي يجدون وصفه ونعته ، قال التبريزي : { في التوراة } أي سأقيم له نبيّاً من إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فيه ويقول لهم كلما أوصيته وفيها وأما النبي فقد باركت عليه جدًّا جدًّا وسأدخره لأمة عظيمة وفي { الإنجيل } يعطيكم الفارقليط آخر يعطيكم معلم الدهر كله ، وقال المسيح : أنا أذهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه ويمدحني ويشهد لي ويحتمل أن يكون { يأمرهم بالمعروف } إلى آخره متعلقاً بيجدونه فيكون في موضع الحال على سبيل التجوّز فيكون حالاً مقدرة ويحتمل أن يكون من وصف النبي كأنه قيل : الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر وكذا وكذا ، وقال أبو عليّ { يأمرهم } : تفسير لما كتب من ذكره كقوله : { خلقه من تراب } ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في يجدونه لأن الضمير للذكر والاسم والاسم والذكر لا يأمران ، قال ابن عباس وعطاء : { يأمرهم بالمعروف } أي بخلع الأنداد ومكارم الأخلاق وصلة الأرحام ، وقال مقاتل : الإيمان ، وقيل : الحق ، وقال الزجاج : كل ما عرف بالشّرع والمنكر ، قال ابن عباس : عبادة الأوثان وقطع الأرحام ، وقال مقاتل : الشّرك ، وقيل : الباطل ، وقيل : الفساد ومبادىء الأخلاق ، وقيل : القول في صفات الله بغير علم والكفر بما أنزل وقطع الرحم والعقوق.

{ ويحلّ لكم الطيبات } تقدّم ذكر الخلاف في { الطيّبات } في قوله { كلوا من طيبات } أهي الحلال أو المستلذّ وكلاهما قيل هنا ، وقال الزمخشريّ : ما حرّم عليهم من الأشياء الطيبة كالشحوم وغيرها أو ما طاب في الشريعة واللحم مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح وما خلا كسبه من السحت انتهى ، وقيل : ما كانت العرب تحرمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام واستبعد أبو عبد الله الرازي قول من قال : إنها المحلّلات لتقديره ويحلّ لهم المحللات قال وهذا محض التكذيب ، ولخروج الكلام عن الفائدة لأنا لا ندري ما أحلّ لنا وكم هو قال : بل الواجب أن يراد المستطابة بحسب الطبع لأن تناولها يفيد اللذة والأصل في المنافع الحلّ فدلت الآية على أن كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع حلال إلا ما خرج بدليل منفصل.
{ ويحرّم عليهم الخبائث } قيل : المحرمات ، وقيل : ما تستخبثه العرب كالعقرب والحية والحشرات ، وقيل : الدم والميتة ولحم الخنزير ، وعن ابن عباس ما في سورة المائدة إلى قوله { ذلكم فسق }
{ ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم }.
قرأ طلحة ويذهب عنهم { إصرهم } وتقدم تفسير الإصر في آخر سورة البقرة ، وفسره هنا قتادة وابن جبير ومجاهد والضحاك والحسن وغيرهم بالثقل ، وقرأ ابن عامر : آصارهم جمع إصر ، وقرىء أصرهم بفتح الهمزة وبضمها فمن جمع فباعتبار متعلّقات الإصر إذ هي كثيرة ومن وحد فلأنه اسم جنس ، { والأغلال } مثل لما كلفوا من الأمور الصعبة كقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وإحراق الغنائم والقصاص حتماً من القاتل عمداً كان أو خطأ وترك الاشتغال يوم السبت وتحريم العروق في اللحم وعن عطاء : أنّ بني إسرائيل كانوا إذا قاموا إلى الصلاة لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة ، وروي أن موسى عليه السلام رأى يوم السبت رجلاً يحمل قصباً فضرب عنقه وهذا المثل كما قالوا جعلت هذا طوقاً في عنقك وقالوا طوقها طوق الحمامة ، وقال الهذلي :
وليس كهذا الدار يا أمّ مالك . . .
ولكن أحاطب بالرّقاب السلاسل
فصار الفتى كالكهل ليس بقابل . . .
سوى العدل شيئاً واستراح العواذل
وليس ثمّ سلاسل وإنما أراد أنّ الإسلام ألزمه أموراً لم يكن ملتزماً لها قبل ذلك كما قال الإيمان قيد الفتك ، وقال ابن زيداً الأغلال يريد في قوله { غلت أيديهم } فمن آمن زالت عنه الدعوة وتغليلها.
{ فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون }.
{ وعزّروه } أثنوا عليه ومدحوه.
قال الزمخشري : منعوه حتى لا يقوى عليه عدوّ ، وقرأ الجحدري وقتادة وسليمان التيمي وعيسى بالتخفيف ، وقرأ جعفر بن محمد وعزّزوه بزايين و { النور } القرآن قاله قتادة ، وقال ابن عطية : هو كناية عن جملة الشريعة.

وقيل مع بمعنى عليه أي الذي أنزل عليه.
وقيل هو على حذف مضاف أي أنزل مع نبوته لأن استنباءه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاً به وعلى هذين القولين يكون العامل في الظرف { أنزل } ويجوز عندي أن كون معه ظرفاً في موضع الحال فالعامل فيه محذوف تقديره أنزل كائناً معه وهي حال مقدّرة كقوله مررت برجل معه صقر صائداً به غدا فحالة الإنزال لم يكن معه لكنه صار معه بعد كما إنّ الصيد لم يكن وقت المرور ، وقال الزمخشر : ويجوز أن يعلّق باتبعوا أي { واتبعوا } القرآن المنزل مع اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته وبما أمر به أي واتبعوا القرآن كما اتبعه مصاحبين له في اتباعه وفي قوله؟ { فالذين آمنوا به } إلى آخره إشارة إلى من آمن من أعيان بني إسرائيل بالرسول كعبد الله بن سلام وغيره من أهل الكتابين.
{ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت }.
لما ذكر تعالى لموسى عليه السلام صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأخبر أن من أدركه وآمن به أفلح أمر تعالى نبيه بإشهار دعوته ورسالته إلى الناس كافة والدعاء إلى الإيمان بالله ورسوله وكلماته واتباعه ودعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عامّة للإنس والجنّ قاله الحسن ، وتقتضيه الأحاديث و { الذي } في موضع نصب على المدح أو رفع وأجاز الزمخشري أن يكون مجروراً صفة لله قال وإنْ حيل بين الصفة والموصوف بقوله { إليكم } ، وقال أبو البقاء : ويبعد أن يكون صفةً لله أو بدلاً منه لما فيه من الفصل بينهما بإليكم وبالحال وإليكم متعلّق برسول وجميعاً حال من ضمير { إليكم } وهذا الوصف يقتضي الإذعان والانقياد لمن أرسله إذ له الملك فهو المتصرف بما يريد وفي حصر الإلهية له نفي الشركة لأن من كان له ملك هذا العالم لا يمكن أن يشركه أحد فهو المختص بالإلهية وذكر الإحياء والإماتة إذ هما وصفان لا يقدر عليهما إلا الله وهما إشارة إلى الإيجاد لكلّ شيء يريده الإعدام والأحسن أن تكون هذه جملاً مستقلة من حيث الإعراب وإن كانت متعلقاً بعضها ببعض من حيث المعنى.
وقال الزمخشري : { لا إله إلا هو } بدل من الصلة التي هي { له ملك السموات والأرض } وكذلك { يحيي ويميت } وفي { لا إله إلا هو } بيان للجملة قبلها لأن من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقة وفي { يحيي ويميت } بيان لاختصاصه بالإلهية لأنه لا يقدر على الإحياء والإماتة غيره انتهى ، وإبدال الجمل من الجمل غير المشتركة في عامل لا نعرفه ، وقال الحوفي : { يحيي ويميت } في موضع الخبر لأن { لا إله } في موضع رفع بالابتداء { وإلا هو } بدل على الموضع قال : والجملة أيضاً في موضع الحال من اسم الله تعالى انتهى ، يعني من ضمير اسم الله وهذا إعراب متكلف.

{ فآمنوا بالله ورسوله النبي الأميّ الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون }.
لما ذكر أنه رسول الله أمرهم بالإيمان بالله وبه عدل عن ضمير المتكلم إلى الظاهر وهو الالتفات لما في ذلك من البلاغة بأنه هو النبي السابق ذكره في قوله { الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ } وأنه هو المأمور باتباعه الموجود بالأوصاف السابقة والظاهر أن كلماته هي الكتب الإلهية التي أنزلت على من تقدمه وعليه ولما كان الإيمان بالله هو الأصل يتفرع عنه الإيمان بالرسول والنبي بدأ به ثم أتبعه بالإيمان بالرسول ثم أتبع ذلك بالإشارة إلى المعجز الدّال على نبوّته وهو كونه أمّيّاً وظهر عنه من المعجزات في ذاته ما ظهر من القرآن الجامع لعلوم الأوّلين والآخرين مع نشأته في بلد عار من أهل العلم لم يقرأ كتاباً ولم يخطّ ولم يصحب عالماً ولا غاب عن مكة غيبة تقتضي تعلماً.
وقيل : و { كلماته } المعجزات التي ظهرت من خارج ذاته مثل انشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه وهي تسمى بكلمات الله لما كانت أموراً خارقة غريبة كما سمّي عيسى عليه السلام لما كان حدوثه أمراً غريباً خارقاً كلمة ، وقرأ مجاهد وعيسى : وكلمة وحد وأراد به الجمع نحو أصدق كلمة قالتها العرب قول لبيد وقد يقولون للقصيدة كلمة وكلمة فلان ، وقال مجاهد والسدّي : المراد بكلماته وكلمته أي بعيسى لقوله : { وكلمته ألقاها إلى مريم } ، وقيل : كلمة كن التي تكون بها عيسى وسائر الموجودات ، وقرأ الأعمش : الذي يؤمن بالله وآياته بدل كلماته ولما أمروا بالإيمان بالله ورسوله وذلك هو الاعتقاد أمروا بالاتباع له فيما جاء به وهو لفظ يدخل تحته جميع التزامات الشريعة وعلق رجاء الهداية باتباعه.
{ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } لما أمر بالإيمان بالله ورسوله وأمر باتباعه ذكر أنّ { من قوم موسى } من وفق للهداية وعدل ولم يجر ولم تكن له هداية إلا باتباع شريعة موسى قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وباتباع شريعة رسول الله بعد مبعثه فهذا إخبار عن من كان من قوم موسى بهذه الأوصاف فكان المعنى أنهم كلهم لم يكونوا ضلالاً بل كان منهم مهتدون ، قال السائب : هو قوم من أهل الكتاب آمنوا بنبينا صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه وقال قوم : هم أمة من بني إسرائيل تمسكوا بشرع موسى قبل نسخه ولم يبدّلوا ولم يقتلوا الأنبياء ، وقال الزمخشري هم المؤمنون التائبون من بني إسرائيل لما ذكر الذين نزلوا منهم ذكر أمة مؤمنين تائبين يهدون الناس بكلمة الحق ويدلونهم على الاستقامة ويرشدونهم وبالحق يعدلون بينهم في الحكم ولا يجورون أو أراد الذين وصفهم ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به من أعقابهم انتهى ، وقال ابن عطية : يحتمل أن يريد به الجماعة التي آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم على جهة الاستجلاب لإيمان جميعهم ويحتمل أن يريد به وصف المؤمنين التائبين من بني إسرائيل ومن اهتدى واتقى وعدل انتهى ، وما روي عن ابن عباس والسدي وابن جريج أنهم قوم اغتربوا من بني إسرائيل ودخلوا سرباً مشوا فيه سنة ونصفاً تحت الأرض حتى خرجوا وراء الصين فهم هناك يقيمون الشرع في حكايات طويلة ذكرها الزمخشري وصاحب التحرير والتحبير يوقف عليها هناك لعله لا يصح وفي قوله : ومن قوم موسى إشارة إلى التقليل وأنّ معظمعم لا يهدي بالحق ولا يعدل به وهم إلى الآن ، كذلك دخل في الإسلام من النصارى عالم لا يعلم عددهم إلا الله تعالى وأما اليهود فقليل من آمن منهم.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46