كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي

وظاهر قوله : كلمات ، أنها جملة مشتملة على كلم ، أو جمل من الكلام قالها آدم ، فلذلك قدروا بعد قوله : كلمات ، جملة محذوفة وهي فقالها فتاب عليه.
واختلفوا في تعيين تلك الكلمات على أقوال ، وقد طولوا بذكرها ، ولم يخبرنا الله بها إلا مبهمة ، ونحن نذكرها كما ذكرها المفسرون ، قال ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد وابن كعب وعطاء الخراساني والضحاك وعبيد بن عمير وابن زيد : هي { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا } الآية.
وروي عن ابن ابن مسعود ، أن أحب الكلام إلى الله ما قاله أبو ناحين : «اقترف الخطيئة سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ، لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».
وسئل بعض السلف عما ينبغي أن يقوله المذنب فقال : يقول ما قاله أبواه : «ربنا ظلمنا أنفسنا رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي» وما قاله يونس : «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين».
وروي عن ابن عباس ووهب أنها : «سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي ، فاغفر لي إنك خير الغافرين».
وقال محمد بن كعب هي : «لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التوّاب الرحيم».
وحكى السدّي عن ابن عباس أنه قال : «رب ألم تخلقني بيدك؟» قال : بلى ، قال : ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال : بلى ، قال : ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال : بلى ، قال : ألم تسكني جنتك؟ قال : بلى ، قال : رب إن تبت وأصلحت أراجعي إلى الجنة؟ قال : «نعم».
وزاد قتادة في هذا : «وسبقت رحمتك إليّ قبل غضبك؟ قيل له بلى ، قال : رب هل كتبت هذا عليّ قبل أن تخلقني؟ قيل له : نعم ، فقال : رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قيل له : «نعم».
وقال قتادة هي : «أستغفرك وأتوب إليك إنك أنت التوّاب الرحيم».
وقال عبيد بن عمير ، قال : «يا رب خطيئتي التي أخطأتها أشيء كتبته عليّ قبل أن تخلقني؟ أو شيء ابتدعته من قبل نفسي؟ قال : بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك ، قال : «فكما كتبت عليّ فاغفر لي».
وقيل إنها : «سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور».
وقيل : رأى مكتوباً على ساق العرش محمد رسول الله ، فتشفع بذلك فهي الكلمات.
وقيل : قوله حين عطس : «الحمد لله».
وقيل : هي الدعاء والحياء والبكاء.
وقيل : الاستغفار والندم والحزن.
قال ابن عطية : وسماها كلمات ، مجازاً لما هي في خلقها صادرة عن كلمات ، وهي : «كن في كل واحدة منهن» ، وهذا قول يقتضي أن آدم لم يقل شيئاً إلا الاستغفار المعهود.
انتهى كلامه.
{ فتاب عليه } : أي تفضل عليه بقبول توبته وأفرده بالإخبار عنه بالتوبة عليه ، وإن كانت زوجته مشاركة له في الأمر بالسكنى والنهي عن قربان الشجرة وتلقي الكلمات والتوبة ، لأنه هو المواجه بالأمر والنهي ، وهي تابعة له في ذلك.

فكملت القصة بذكره وحده ، كما جاء في قصة موسى والخضر ، إذ جاء { حتى إذا ركبا في السفينة } فحملاها بغير نول ، وكان مع موسى يوشع ، لكنه كان تابعاً لموسى فلم يذكره ولم يجمع معهما في الضمير ، أو اكتفى بذكر أحدهما ، إذ كان فعلهما واحداً ، نحو قوله تعالى : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } { فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى } أو طوى ذكرها كما طواه عند ذكر المعصية في قوله : { وعصى آدم ربه فغوى }
وقد جاء طي ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة ، وقد ذكرها في قوله : { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } وإنما لم يراع هذا الستر في امرأتي نوح ولوط لأنهما كانت كافرتين ، وقد ضرب بهما المثل للكفار ، لأن ذنوبهما كانت غاية في القبح والفحش.
والكافر لا يناسب الستر عليه ولا الإغضاء عن ذنبه ، بل ينادي عليه ليكون ذلك أخزى له وأحط لدرجته.
وحوّاء ليست كذلك ، ولأن معصيتهما تكرّرت واستمرّ منهما الكفر والإصرار على ذلك ، والتوبة متعذرة لما سبق في علم الله أنهما لا يتوبان ، وليست حوّاء كذلك لخفة ما وقع منها ، أو لرجوعها إلى ربها ، ولأن التبكيت للمذنب شرع رجاء الإقلاع ، وهذا المعنى معقود فيهما ، وذكرهما بالإضافة إلى زوجيهما فيه من الشهرة ما لا يكون في ذكر اسميهما غير مضافين إليهما.
وتوبة العبد : رجوعه عن المعصية ، وتوبة الله على العبد : رجوعه عليه بالقبول والرحمة.
واختلف في التوبة المطلوبة من العبد ، فقال قوم : هي الندم ، أخذاً بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم : « الندم توبة » وقال قوم : شروطها ثلاثة : الندم على ما فات ، والإقلاع عنه ، والعزم على أن لا يعود.
وتأولوا : الندم توبة على معظم التوبة نحو : الحج عرفة ، وزاد بعضهم في الشروط ، يرد المظالم إذا قدر على ردها ، وزاد بعضهم : المطعم الحلال ، وقال القفال : لا بد مع تلك الشروط الثلاثة من الإشفاق فيما بين ذلك ، وذلك أنه مأمور بالتوبة ، ولا سبيل له إلى القطع بأنه أتى بها كما لزمه ، فيكون خائفاً.
ولهذا جاء يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه.
روي عن ابن عباس أن آدم وحوّاء بكيا على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة.
وقد ذكروا في كثرة دموع آدم وداود شيئاً يفوت الحصر كثرة.
وقال شهر بن حوشب : بلغني أن آدم لما أهبط إلى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياء من الله تعالى.
وروي أن الله تعالى تاب على آدم في يوم عاشوراء.
وقرأ الجمهور { إنه } : بكسر الهمزة ، وقرأ نوفل بن أبي عقرب : أنه بفتح الهمزة ، ووجهه أنه فتح على التعليل ، التقدير : لأنه ، فالمفتوحة مع ما بعدها فضلة ، إذ هي في تقدير مفرد ثابت واقع مفروغ من ثبوته لا يمكن فيه نزاع منازع ، وأما الكسر فهي جملة ثابتة تامة أخرجت مخرج الإخبار المستقل الثابت ، ومع ذلك فلها ربط معنوي بما قبلها ، كما جاءت في :

{ وما أبرئ نفسي إن النفس لأمَّارة } { اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } { وصلّ عليهم إن صلاتك } ، حتى لو وضعت الفاء التي تعطي الربط مكانها أغنت عنها ، وقالوا : إن إن إنما تجيء لتثبيت ما يتردد المخاطب في ثبوته ونفيه ، فإن قطع بأحد الأمرين ، فليس من مظانها ، فإن وجدت داخلة على ما قطع فيه بأحد الأمرين ظاهراً ، فيكون ذلك لتنزيله منزلة المتردد فيه لأمر ما ، وسيأتي الكلام على ذلك في نحو : { ثم إنكم بعد ذلك لميتون } إن شاء الله.
ولما دخلت للتأكيد في قوله : { إنه هو التواب الرحيم } ، قوي التأكيد بتأكيد آخر ، وهو لفظه : { هو }.
وقد ذكرنا فائدته في قوله : { وأولئك هم المفلحون } وبولغ أيضاً في الصفتين بعده ، فجاء التواب : على وزن فعال ، والرحيم : على وزن فعيل ، وهما من الأمثلة التي صيغت للمبالغة.
وهذا كله ترغيب من الله تعالى للعبد في التوبة والرّجوع إلى الطاعة ، واطماع في عفوه تعالى وإحسانه لمن تاب إليه.
والتواب من أسمائه تعالى ، وهو الكثير القبول لتوبة العبد ، أو الكثير الإعانة عليها.
وقد ورد هذا الاسم في كتاب الله معرفاً ومنكراً ، ووصف به تعالى نفسه ، فدل ذلك على أنه مما استأثر به تعالى.
وذهب بعضهم إلى أنه تعالى لا يوصف به إلا تجوزاً ، وأجمعوا أنه لا يوصف تعالى بتائب ولا آيب ولا رجاع ولا منيب ، وفرق بين إطلاقه على الله تعالى وعلى العبد ، وذلك لاختلاف صلتيهما.
ألا ترى : فتاب عليه ، وتوبوا إلى الله؟ فالتوبة من الله على العبد هي العطف والتفضل عليه ، ومن العبد هي الرّجوع إلى طاعته تعالى ، لطلب ثواب ، أو خشية عقاب ، أو رفع درجات.
وأعقب الصفة الأولى بصفة الرحمة ، لأن قبول التوبة سببه رحمة الله لعبده ، وتقدم التواب لمناسبة فتاب عليه ، ولحسن ختم الفاصلة بقوله : { الرّحيم }.
وقد تقدم الكلام في البسملة على لفظة الرحيم وما يتعلق بها ، فأغنى ذلك عن إعادته.
{ قلنا هبطوا } ، كرّر القول ، إما على سبيل التأكيد المحض ، لأن سبب الهبوط كان أول مخالفة ، فكرّر تنبيهاً على ذلك ، أو لاختلاف متعلقيهما ، لأن الأول علق به العداوة ، والثاني علق بإتيان الهدى.
وأما لا على سبيل التأكيد ، بل هما هبوطان حقيقة ، الأول من الجنة إلى السماء ، والثاني من السماء إلى الأرض.
وضعف هذا الوجه بقوله في الهبوط الأول : { ولكم في الأرض مستقر } ، ولم يحصل الاستقرار على هذا التخريج إلا بالهبوط الثاني ، فكان ينبغي الاستقرار أن يذكر فيه وبقوله في الهبوط الثاني منها ، وظاهر الضمير أنه يعود إلى الجنة ، فاقتضى ذلك أن يكون الهبوط الثاني منهما.

{ جميعاً } : حال من الضمير في اهبطوا ، وقد تقدم الكلام في لفظة جميعاً وأنها تقتضي التعميم في الحكم ، لا المقارنة في الزمان عند الكلام على قوله تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } فهنا يدل على أنهم كلهم خوطبوا بالهبوط ، فقد دلا على اتحاد زمان الهبوط.
وأبعد ابن عطية في قوله : كأنه قال هبوطاً جميعاً ، أو هابطين جميعاً ، فجعله نعتاً لمصدر محذوف ، أو لاسم فاعل محذوف ، كل منهما يدل عليه الفعل.
قال : لأن جميعاً ليس بمصدر ولا اسم فاعل ، مع منافاة ما قدره للحكم الذي صدره ، لأنه قال : أولاً وجميعاً حال من الضمير في اهبطوا.
فإذا كان حالاً من الضمير في اهبطوا على ما قرر أولاً ، فكيف يقدر ثانياً؟ كأنه قال : هبوطاً جميعاً ، أو هابطين جميعاً.
فكلامه أخيراً يعارض حكمه أولاً ، ولا ينافي كونه ليس بمصدر ولا اسم فاعل وقوعه حالاً حتى يضطر إلى هذا التقدير الذي قدره.
وأبعد غيره أيضاً في زعمه أن التقدير : وقلنا اهبطوا مجتمعين ، فهبطوا جميعاً ، فجعل ثم حالاً محذوفة لدلالة جميعاً عليها ، وعاملاً محذوفاً لدلالة اهبطوا عليه.
ولا يلتئم هذا التقدير مع ما بعده إلا على إضمار قول : أي فقلنا : إما يأتينكم.
وقد تقدم الكلام في المأمورين بالهبوط ، وعلى تقدير أن يكون هبوطاً ثانياً ، فقيل يخص آدم وحواء ، لأن إبليس لا يأتيه هدى ، وخصا بخطاب الجمع تشريفاً لهما.
وقيل : يندرج في الخطاب لأن إبليس مخاطب بالإيمان بالإجماع ، وإن شرطية وما زائدة بعدها للتوكيد ، والنون في يأتينكم نون التوكيد ، وكثر مجيء هذا النحو في القرآن : { فإما ترين } { وإما ينزغنك } { فإما تذهبن } قال أبو العباس المهدوي : إن : هي ، التي للشرط زيدت عليها ما للتأكيد ليصح دخول النون للتوكيد في الفعل ، ولو سقطت ، يعني ما لم تدخل النون ، فما تؤكد أول الكلام ، والنون تؤكد آخره.
وتبعه ابن عطية في هذا فقال : فإن هي للشرط ، دخلت ما عليها مؤكدة ليصح دخول النون المشددة ، فهي بمثابة لام القسم التي تجيء لمجيء النون ، انتهى كلامه.
وهذا الذي ذهبا إليه من أن النون لازمة لفعل الشرط إذا وصلت إن بما ، هو مذهب المبرد والزجاج ، زعما أنها تلزم تشبيهاً بما زيدت للتأكيد في لام اليمين نحو : والله لأخرجن.
وزعموا أن حذف النون إذا زيدت ما بعد إن ضرورة.
وذهب سيبويه والفارسي وجماعة من المتقدمين إلى أن ذلك لا يختص بالضرورة ، وأنه يجوز في الكلام إثباتها وحذفها ، وإن كان الإثبات أحسن.
وكذلك يجوز حذف ما وإثبات النون ، قال سيبويه : في هذه المسألة وإن شئت لم تقحم النون ، كما أنك إن شئت لم تجيء بما ، انتهى كلامه.
وقد كثر السماع بعدم النون بعد إما ، قال الشنفري :

فإما تريني كابنة الرمل ضاحياً . . .
على رقة أحفى ولا أتنعل
وقال آخر :
يا صاح إما تجدني غير ذي جدة . . .
فما التخلي عن الإخوان من شيمي
وقال آخر :
زعمت تماضر أنني إما أمت . . .
تسدد أبينوها الأصاغر خلتي
والقياس يقبله ، لأن ما زيدت حيث لا يمكن دخول النون ، نحو قول الشاعر :
إمّا أقمت وإمّا كنت مرتحلا . . .
فالله يحفظ ما تبقى وما تذر
فكما جاءت هنا زائدة بعد أن ، فكذلك في نحو : إما تقم يأتينكم ، مبني مفتوح الآخر.
واختلف في هذه الفتحة أهي للبناء ، أم بني على السكون وحرك بالفتحة لالتقاء الساكنين : وقد أوضحنا ذلك في كتابنا المسمى ( بالتكميل لشرح التسهيل ).
{ مني } : متعلق بيأتينكم ، وهذا شبيه بالالتفات ، لأنه انتقل من الضمير الموضوع للجمع ، أو المعظم نفسه ، إلى الضمير الخاص بالمتكلم المفرد.
وقد ذكرنا حكمة ذاك الضمير في : قلنا ، عند شرح قوله : { وقلنا يا آدم اسكن } وحكمة هذا الانتقال هنا أن الهدى لا يكون إلا منه وحده تعالى ، فناسب الضمير الخاص كونه لا هادي إلا هو تعالى ، فأعطى الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره الضمير الخاص الذي لا يحتمل غيره تعالى.
وفي قوله : مني ، إشارة إلى أن الخير كله منه ، ولذلك جاء : { قد جاءكم برهان من ربكم } { وقد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء } فأتى بكلمة : من ، الدالة على الابتداء في الأشياء ، لينبه على أن ذلك صادر منه ومبتدأ من جهته تعالى ، وأتى بأداة الشرط في قوله : { فإما يأتينكم مني هدى } ، وهي تدخل على ما يتردد في وقوعه ، والذي أنبهم زمان وقوعه ، وإتيان الهدى واقع لا محالة ، لأنه أنبهم وقت الإتيان ، أو لأنه آذن ذلك بأن توحيد الله تعالى ليس شرطاً فيه إتيان رسل منه ، ولا إنزال كتب بذلك ، بل لو لم يبعث رسلاً ، ولا أنزل كتباً ، لكان الإيمان به واجباً ، وذلك لما ركب فيهم من العقل ، ونصب لهم من الأدلة ، ومكن لهم من الاستدلال ، كما قال :
وفي كل شيء له آية . . .
تدل على أنه واحد
قال معناه الزمخشري غير إنشاد الشعر.
{ هدى } : تقدم الكلام على الهدى في قوله : { هدى للمتقين } ونكره لأن المقصود هو المطلق ، ولم يسبق عهد فيه فيعرّف.
والهدى المذكور هنا : الكتب المنزلة ، أو الرسل ، أوالبيان ، أو القدرة على الطاعة ، أو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أقوال.
فمن تبع : الفاء مع ما دخلت عليه جواب لقوله : { فإما يأتينكم }.
وقال السجاوندي : الجواب محذوف تقديره فاتبعوه ، انتهى.
فكأنه على رأيه حذف لدلالة قوله بعده : { فمن تبع هداي }.
وتظافرت نصوص المفسرين والمعربين على أن : من ، في قوله : فمن تبع ، شرطية ، وأن جواب هذا الشرط هو قوله : { فلا خوف } ، فتكون الآية فيها شرطان.
وحكى عن الكسائي أن قوله : { فلا خوف } جواب للشرطين جميعاً ، وقد أتقنا مسألة اجتماع الشرطين في ( كتاب التكميل ) ، ولا يتعين عندي أن تكون من شرطية ، بل يجوز أن تكون موصولة ، بل يترجح ذلك لقوله في قسيمه : { والذين كفروا وكذبوا } ، فأتى به موصولاً ، ويكون قوله : { فلا خوف } جملة في موضع الخبر.

وأما دخول الفاء في الجملة الواقعة خبراً ، فإن الشروط المسوّغة لذلك موجودة هنا.
وفي قوله : { فمن تبع هداي } ، تنزيل الهدى منزلة الإمام المتبع المقتدى به ، فتكون حركات التابع وسكناته موافقة لمتبوعه ، وهو الهدى ، فحينئذ يذهب عنه الخوف والحزن.
وفي إضافة الهدى إليه من تعظيم الهدى ما لا يكون فيه لو كان معزّفاً بالألف واللام ، وإن كان سبيل مثل هذا أن يعود بالألف واللام نحو قوله : { إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول } والإضافة تؤدي معنى الألف واللام من التعريف ، ويزيد على ذلك بمزية التعظيم والتشريف.
وقرأ الأعرج : هداي بسكون الياء ، وفيه الجمع بين ساكنين ، كقراءة من قرأ : ومحياي ، وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف.
وقرأ عاصم الجحدري وعبد الله بن أبي إسحاق وعيسى بن أبي عمر : هديّ ، بقلب الألف ياء وإدغمها في ياء المتكلم ، إذ لم يمكن كسر ما قبل الياء ، لأنه حرف لا يقبل الحركة ، وهي لغة هذيل ، يقلبون ألف المقصور ياء ويدغمونها في ياء المتكلم ، وقال شاعرهم :
سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم . . .
فتخرموا ولكل قوم مصرع
{ فلا خوف عليهم } : قرأ الجمهور بالرفع والتنوين ، وقرأ الزهري وعيسى الثقفي ويعقوب بالفتح في جميع القرآن ، وقرأ ابن محيصن باختلاف عنه بالرفع من غير تنوين وجه قراءة الجمهور مراعاة الرفع في { ولا هم يحزنون } ، فرفعوا للتعادل.
قال ابن عطية : والرفع على إعمالها إعمال ليس ، ولا يتعين ما قاله ، بل الأولى أن يكون مرفوعاً بالابتداء لوجهين : أحدهما : أن إعمال لا عمل ليس قليل جداً ، ويمكن النزاع في صحته ، وإن صح فيمكن النزاع في اقتياسه.
والثاني : حصول التعادل بينهما ، إذ تكون لا قد دخلت في كلتا الجملتين على مبتدأ ولم تعمل فيهما.
ووجه قراءة الزهري ومن وافقه أن ذلك نص في العموم ، فينفي كل فرد من مدلول الخوف ، وأما الرفع فيجوزه وليس نصاً ، فراعوا ما دل على العموم بالنص دون ما يدل عليه بالظاهر.
وأما قراءة ابن محيصن فخرجها ابن عطية على أنه من إعمال لا عمل ليس ، وأنه حذف التنوين تخفيفاً لكثرة الاستعمال.
وقد ذكرنا ما في إعمال لا عمل ليس ، فالأولى أن يكون مبتدأ ، كما ذكرناه ، إذا كان مرفوعاً منوناً ، وحذف تنوينه كما قال لكثرة الاستعمال ، ويجوز أن يكون عري من التنوين لأنه على نية الألف واللام ، فيكون التقدير : فلا الخوف عليهم ، ويكون مثل ما حكى الأخفش عن العرب : سلام عليكم ، بغير تنوين.
قالوا : يريدون السلام عليكم ، ويكون هذا التخريج أولى ، إذ يحصل التعادل في كون لا دخلت على المعرفة في كلتا الجملتين ، وإذا دخلت على المعارف لم تجر مجرى ليس ، وقد سمع من ذلك بيت للنابغة الجعدي ، وتأوله النحاة وهو :

وحلت سواء القلب لا أنا باغياً . . .
سواها ولا في حبها متراخيا
وقد لحنوا أبا الطيب في قوله :
فلا الحمد مكسوباً ولا المال باقياً . . .
وكنى بقوله : { عليهم } عن الاستيلاء والإحاطة ، ونزل المعنى منزلة الجرم ، ونفى كونه معتلياً مستولياً عليهم.
وفي ذلك إشارة لطيفة إلى أن الخوف لا ينتفي بالكلية ، ألا ترى إلى انصباب النفي على كينونة الخوف عليهم؟ ولا يلزم من كينونة استعلاء الخوف انتفاء الخوف في كل حال ، ولذلك قال بعض المفسرين : ليس في قوله : { فلا خوف عليهم } دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها عن المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة ، إلا أنها مخففة عن المطيعين.
فإذا صاروا إلى رحمته ، فكأنهم لم يخافوا ، وقدم عدم الخوف على عدم الحزن ، لأن انتفاء الخوف فيما هو آت آكد من انتفاء الحزن على ما فات ، ولذلك أبرزت جملته مصدرة بالنكرة التي هي أوغل في باب النفي ، وأبرزت الثانية مصدرة بالمعرفة في قوله : { ولا هم يحزنون }.
وفي قوله : { ولا هم يحزنون } إشارة إلى اختصاصهم بانتفاء الحزن ، وأن غيرهم يحزن ، ولو لم يشر إلى هذا المعنى لكان : ولا يحزنون ، كافياً.
ولذلك أورد نفي الحزن عنهم وإذهابه في قوله : { إن الذين سبقت لهم } إلى قوله : { لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة } ومعلوم أن هذين الخبرين وما قبلهما من الخبر مختص بالذين سبقت لهم من الله الحسنى ، وفي قوله : { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } فدل هذا كله على أن غيرهم يحزنه الفزع ، ولا يذهب عنهم الحزن.
وحكى عن المفسرين في تفسير هذه الجملة أقوال : أحدها : لا خوف عليهم فيما يستقبلون من العذاب ولا يحزنون عند الموت.
الثاني : لا يتوقعون مكروهاً في المستقبل ، ولا هم يحزنون لفوات المرغوب في الماضي والحال.
الثالث : لا خوف عليهم فيما يستقبلهم ، ولا هم يحزنون فيما خلفه.
الرابع : لا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة ، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا.
الخامس : لا خوف عليهم من عقاب ، ولا هم يحزنون على فوات ثواب.
السادس : إن الخوف استشعار غم لفقد مطلوب ، والحزن استشعار غم لفوات محبوب.
السابع : لا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الدنيا ، ولا هم يحزنون على ما فاتهم منها.
الثامن : لا خوف عليهم يوم القيامة ، ولا هم يحزنون فيها.
التاسع : أنه أشار إلى أنه يدخلهم الجنة التي هي دار السرور والأمن ، لا خوف عليهم فيها ولا حزن.
العاشر : ما قاله ابن زيد : لا خوف عليهم أمامهم ، فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت ، فأمنهم الله منه ، ثم سلاهم عن الدنيا ، ولا هم يحزنون على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا.

الحادي عشر : لا خوف حين أطبقت النار ، ولا حزن حين ذبح الموت في صورة كبش على الصراط ، فقيل لأهل الجنة والنار : خلود لا موت.
الثاني عشر : لا خوف ولا حزن على الدوام.
وهذه الأقوال كلها متقاربة ، وظاهر الآية عموم نفي الخوف والحزن عنهم ، لكن يخص بما بعد الدنيا ، لأنه في دار الدنيا قد يلحق المؤمن الخوف والحزن ، فلا يمكن حمل الآية على ظاهرها من العموم لذلك.
.
{ والذين كفروا } : قسيم لقوله : { فمن تبع هداي } ، وهو أبلغ من قوله : { ومن لم يتبع هداي } وإن كان التقسيم اللفظي يقتضيه ، لأن نفي الشيء يكون بوجوه ، منها : عدم القابلية بخلقة أو غفلة ، ومنها تعمد ترك الشيء ، فأبرز القسيم بقوله : { والذين كفروا } في صورة ثبوتية ليكون مزيلاً للاحتمال الذي يقتضيه النفي ، ولما كان الكفر قد يعني كفر النعمة وكفر المعصية بين : أن المراد هنا الشرك بقوله : { وكذبوا بآياتنا } ، وبآياتنا متعلق بقوله : { وكذبوا } ، وهو من إعمال الثاني ، إن قلنا : إن كفروا ، يطلبه من حيث المعنى ، وإن قلنا : لا يطلبه ، فلا يكون من الإعمال ، ويحتمل الوجهين.
والآيات هنا : الكتب المنزلة على جميع الأمم ، أو معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وأو القرآن ، أو دلائل الله في مصنوعاته ، أقوال.
و { أولئك } : مبتدأ ، { وأصحاب } : خبر عنه ، والجملة خبر عن قوله : { والذين كفروا } ، وجوزوا أن يكون أولئك بدلاً وعطف بيان ، فيكون أصحاب النار ، إذ ذاك ، خبراً عن الذين كفروا.
وفي قوله : { أولئك أصحاب النار } دلالة على اختصاص من كفر وكذب بالنار.
فيفهم أن من اتبع الهدى هم أصحاب الجنة.
وكان التقسيم يقتضي أن من اتبع الهدى لا خوف ولا حزن يلحقه ، وهو صاحب الجنة ، ومن كذب يلحقه الخوف والحزن ، وهو صاحب النار.
فكأنه حذف من الجملة الأولى شيء أثبت نظيره في الجملة الثانية ، ومن الثانية شيء أثبت نظيره في الجملة الأولى ، فصار نظير قوله الشاعر :
وإني لتعروني لذكرك فترة . . .
كما انتفض العصفور بلله القطر
وفي قوله : أولئك ، إشارة إلى الذوات المتصفة بالكفر والتكذيب ، وكأن فيها تكريراً وتوكيداً لذكر المبتدأ السابق.
والصحبة معناها : الاقتران بالشيء ، والغالب في العرف أن ينطلق على الملازمة ، وإن كان أصلها في اللغة : أن تنطلق على مطلق الاقتران.
والمراد بها هنا : الملازمة الدائمة ، ولذلك أكده بقوله : { هم فيها خالدون }.
ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالية ، كما جاء في مكان آخر : { أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها } فيكون ، إذ ذاك ، لها موضع من الإعراب نصب.
ويحتمل أن تكون جملة مفسرة لما أنبهم في قوله : { أولئك أصحاب النار } ، ففسر وبين أن هذه الصحبة لا يراد بها مطلق الاقتران ، بل الخلود ، فلا يكون لها إذ ذاك موضع من الإعراب.
ويحتمل أن يكون خبراً ثانياً للمبتدأ الذي هو : أولئك ، فيكون قد أخبر عنه بخبرين : أحدهما مفرد ، والآخر جملة ، وذلك على مذهب من يرى ذلك ، فيكون في موضع رفع.
وقد تقدم الكلام على الخلود ، وهل هو المكث زماناً لا نهاية له ، أو زماناً له نهاية؟

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

ابن : محذوف اللام ، وقيل : الياء خلاف ، وفي وزنه على كلا التقديرين خلاف ، فقيل : فعل ، وقيل : فعل.
فمن زعم أن أصله ياء جعله مشتقاً من البناء ، وهو وضع الشيء على الشيء.
والابن فرع عن الأب ، فهو موضوع عليه ، وجعل قولهم : البنوّة شاذ كالفتوّة ، ومن زعم أن أصله واو ، وإليه ذهب الأخفش ، جعل البنوّة دليلاً على ذلك ، ولكون اللام المحذوفة واواً أكثر منها ياء.
وجمع ابن جمع تكسير ، فقالوا : أبناء ، وجمع سلامة ، فقالوا : بنون ، وهو جمع شاذ ، إذ لم يسلم فيه بناء الواحد ، فلم يقولوا : ابنون ، ولذلك عاملت العرب هذا الجمع في بعض كلامها معاملة جمع التكسير ، فألحقت التاء في فعله ، كما ألحقت في فعل جمع التكسير ، قال النابغة :
قالت بنو عامر خالو بني أسد . . .
يا بؤس للجهل ضرّاراً لأقوام
وقد سمع الجمع بالواو والنون فيه مصغراً ، قال يسدد :
أبينوها الأصاغر خلتي . . .
وهو شاذ أيضاً.
إسرائيل : اسم عجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة ، وقد ذكروا أنه مركب من إسرا : وهو العبد ، وإيل : اسم من أسماء الله تعالى ، فكأنه عبد الله ، وذلك باللسان العبراني ، فيكون مثل : جبرائيل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل ، قاله ابن عباس.
وقيل : معنى إسرا : صفوة ، وايل : الله تعالى ، فمعناه : صفوة الله.
روي ذلك عن ابن عباس وغيره ، وقال بعضهم : إسرا مشتق من الأسر ، وهو الشد ، فكأن إسرائيل معناه : الذي شدّه الله وأتقن خلقه.
وقيل : أسري بالليل مهاجراً إلى الله تعالى فسمي بذلك.
وقيل : أسر جنياً كان يطفىء سرج بيت المقدس ، وكان اسم الجني : إيل ، فسمي إسرائيل ، وكان يخدم بيت المقدس ، وكان أول من يدخل ، وآخر من يخرج ، قاله كعب.
وقيل : أسرى بالليل هارباً من أخيه عيصو إلى خاله ، في حكاية طويلة ذكروها ، فأطلق ذلك عليه.
وهذه أقاويل ضعاف ، وفيه تصرفات للعرب بقوله : إسرائيل بهمزة بعد الألف وياء بعدها ، وهي قراءة الجمهور.
وإسراييل بياءين بعد الألف ، وهي قراءة أبي جعفر والأعشى وعيسى بن عمر.
وإسرائل بهمزة بعد الألف ثم لام ، وهو مروي عن ورش.
وإسراءل بهمزة مفتوحة بعد الراء ولام ، وإسرئل بهمزة مكسورة بعد الراء ، وإسرال بألف ممالة بعدها لام خفيفة ، واسرال بألف غير ممالة ، قال أمية :
لا أرى من يعيشني في حياتي . . .
غير نفسي إلا بني إسرالا
وهي رواية خارجة عن نافع ، وقرأ الحسن والزهري وابن أبي إسحاق وغيرهم : وإسرائن بنون بدل اللام ، قال الشاعر :
يقول أهل السوء لما جينا . . .
هذا ورب البيت إسرائينا
كما قالوا : سجيل ، وسجين ، ورفلّ ، ورفنّ ، وجبريل ، وجبرين ، أبدلت بالنون كما أبدلت النون بها في أصيلان قالوا : أصيلال ، وإذا جمعته جمع تكسير قلت : أساريل ، وحكي : أسارلة وأسارل.

الذكر : بكسر الذال وضمها لغتان بمعنى واحد ، وقال الكسائي : يكون باللسان ، والذكر بالقلب فبالكسر ضده : الصمت ، وبالضم ضده : النسيان ، وهو بمعنى التيقظ والتنبه ، ويقال : اجعله منك على ذكر.
النعمة : اسم للشيء المنعم به ، وكثيراً ما يجيء فعل بمعنى المفعول : كالذبح ، والنقص ، والرعي ، والطحن ، ومع ذلك لا ينقاس.
أوفى ، ووفى ، ووفى : لغى ثلاث في معنى واحد ، وتأتي أوفى بمعنى : ارتفع ، قال :
ربما أوفيت في علم . . .
ترفعن ثوبي شمالات
والميفات : مكان مرتفع ، وقال الفراء : أهل الحجاز يقولون : أوفيت ، وأهل نجد يقولون : وفيت بغير ألف ، وقال الزجاج : وفي بالعهد ، وأوفى به ، قال الشاعر :
أما ابن طوق فقد أوفى بذمته . . .
كما وفى بقلاص النجم حاديها
وقال ابن قتيبة : يقال وفيت بالعهد ، وأوفيت به ، وأوفيت الكيل لا غير.
وقال أبو الهيثم : وفي الشيء : تم ، ووفى الكيل وأوفيته : أتممته ، ووفى ريش الطائر : بلغ التمام ، ودرهم واف : أي تام كامل.
الرهب ، والرهب ، والرهب ، والرهبة : الخوف ، مأخوذ من الرهابة ، وهو عظم الصدر يؤثر فيه الخوف.
والرهب : النصل ، لأنه يرهب منه ، والرهبة والخشية والمخافة نظائر.
التصديق : اعتقاد حقيقة الشيء ومطابقته للمخبر به ، والتكذيب يقابله.
أول : عند سيبويه : أفعل ، وفاؤه وعينه واوان ، ولم يستعمل منه فعل لاستثقال اجتماع الواوين ، فهو مما فاؤه وعينه من جنس واحد ، لم يحفظ منه إلا : ددن ، وققس ، وببن ، وبابوس.
وقيل : إن بابوساً أعجمي ، وعند الكوفيين أفعل من وأل إذا لجأ ، فأصله أوأل ، ثم خفف بإبدال الهمزة واواً ، ثم بالإدغام ، وهذا تخفيف غير قياسي ، إذ تخفيف مثل هذا إنما هو بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها.
وقال بعض الناس : هو أفعل من آل يؤل ، فأصله أأول ، ثم قلب فصار أوأل أعفل ، ثم خفف بإبدال الهمزة واواً ، ثم بالإدغام.
وهذان القولان ضعيفان ، ويستعمل أول استعمالين : أحدهما : أن يجري مجرى الأسماء ، فيكون مصروفاً ، وتليه العوامل نحو : أفكل ، وإن كان معناه معنى قديم ، وعلى هذا قول العرب : مما تركت له أولاً ولا آخراً ، أي ما تركت له قديماً ولا حديثاً.
والاستعمال الثاني : أن يجري مجرى أفعل التفضيل ، فيستعمل على ثلاثة أنحائه من كونه بمن ملفوظاً بها ، أو مقدرة ، وبالألف واللام ، وبالإضافة.
وقالت العرب : ابدأ بهذا أول ، فهذا مبني على الضم باتفاق ، والخلاف في علة بنائه ذلك لقطعه عن الإضافة ، والتقدير : أول الأشياء ، أم لشبه القطع عن الإضافة ، والتقدير : أول من كذا.
والأولى أن تكون العلة القطع عن الإضافة ، والخلاف إذا بني ، أهو ظرف أو اسم غير ظرف؟ وهو خلاف مبني على أن الذي يبنى للقطع شرطه أن يكون ظرفاً ، أو لا يشترط ذلك فيه ، وكل هذا مستوفى في علم النحو.
الثمن : العوض المبذول في مقابلة العين المبيعة ، وقال :
إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها . . .
فما أصبت بترك الحج من ثمن

أي من عوض.
القليل : يقابله الكثير ، واتفقا في زنة اسم الفاعل ، واختلفا في زنة الفعل ، فماضي القليل فعل ، وماضي الكثير فعل ، وكان القياس أن يكون اسم الفاعل من قل على فاعل نحو : شذ يشذ ، فهو شاذ ، لكن حمل على مقابله.
ومثل قلّ فهو قليل ، صح فهو صحيح.
اللبس : الخلط ، تقول العرب : لبست الشيء بالشيء : خلطته ، والتبس به : اختلط ، وقال العجاج :
لما لبسن الحق بالتجني . . .
وجاء ألبس بمعنى لبس.
وقال آخر :
وكتيبة ألبستها بكتيبة . . .
حتى إذا التبست نفضت لها يدي
الكتم ، والكتمان : الإخفاء ، وضده : الإظهار ، ومنه الكتم : ورق يصبغ به الشيب.
الركوع : له معنيان في اللغة : أحدهما : التطامن والانحناء ، وهذا قول الخليل وأبي زيد ، ومنه قول لبيد :
أخبر أخبار القرون التي مضت . . .
أدبّ كأني كلما قمت راكع
والثاني : الذلة والخضوع ، وهو قول المفضل والأصمعي ، قال الأضبط السعدي :
لا تهين الضعيف علك أن . . .
تركع يوماً والدهر قد رفعه
{ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } هذا افتتاح الكلام مع اليهود والنصارى ، ومناسبة الكلام معهم هنا ظاهرة ، وذلك أن هذه السورة افتتحت بذكر الكتاب ، وأن فيه هدى للمؤمنين ، ثم أعقب ذلك بذكر الكفار المختوم عليهم بالشقاوة ، ثم بذكر المنافقين ، وذكر جمل من أحوالهم ، ثم أمر الناس قاطبة بعبادة الله تعالى ، ثم ذكر إعجاز القرآن ، إلى غير ذلك مما ذكره ، ثم نبههم بذكر أصلهم آدم ، وما جرى له من أكله من الشجرة بعد النهي عنه ، وأن الحامل له على ذلك إبليس.
وكانت هاتان الطائفتان : أعني اليهود والنصارى ، أهل كتاب ، مظهرين اتباع الرسل والاقتداء بما جاء عن الله تعالى.
وقد اندرج ذكرهم عموماً في قوله : { يا أيها الناس اعبدوا } فجرد ذكرهم هنا خصوصاً ، إذ قد سبق الكلام مع المشركين والمنافقين ، وبقي الكلام مع اليهود والنصارى ، فتكلم معهم هنا ، وذكروا ما يقتضي لهم الإيمان بهذا الكتاب ، كما آمنوا بكتبهم السابقة ، إلى آخر الكلام معهم على ما سيأتي جملة مفصلة.
وناسب الكلام معهم قصة آدم ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، لأنهم بعدما أوتوا من البيان الواضح والدليل اللائح ، المذكور ذلك في التوراة والإنجيل ، من الإيفاء بالعهد والإيمان بالقرآن ، ظهر منهم ضد ذلك بكفرهم بالقرآن ومن جاء به ، وأقبل عليهم بالنداء ليحركهم لسماع ما يرد عليهم من الأوامر والنواهي ، نحو قوله : { يا أيها الناس اعبدوا } { ويا آدم اسكن }
وقد تقدم الإشارة إلى ذلك ، وأضافهم إلى لفظ إسرائيل ، وهو يعقوب ، ولم يقل : يا بني يعقوب ، لما في لفظ إسرائيل من أن معناه عبد الله أو صفوة الله ، وذلك على أحسن تفاسيره ، فهزهم بالإضافة إليه ، فكأنه قيل : يا بني عبد الله ، أو يا بني صفوة الله ، فكان في ذلك تنبيه على أن يكونوا مثل أبيهم في الخير ، كما تقول : يا ابن الرجل الصالح أطع الله ، فتضيفه إلى ما يحركه لطاعة الله ، لأن الإنسان يحب أن يقتفى أثر آبائه ، وإن لم يكن بذلك محموداً ، فكيف إذا كان محموداً؟ ألا ترى :

{ إنا وجدنا آباءنا على أمة } { بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } وفي قوله : { يا بني إسرائيل } دليل على أن من انتمى إلى شخص ، ولو بوسائط كثيرة ، يطلق عليه أنه ابنه ، وعليه { يا بني آدم } ويسمى ذلك أباً.
قال تعالى : { ملة أبيكم إبراهيم } وفي إضافتهم إلى إسرائيل تشريف لهم بذكر نسبتهم لهذا الأصل الطيب ، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن.
ونقل عن أبي الفرج بن الجوزي : أنه ليس لأحد من الأنبياء غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إسمان إلا يعقوب ، فإنه يعقوب ، وهو إسرائيل.
ونقل الجوهري في صحاحه : أن المسيح اسم علم لعيسى ، لا اشتقاق له.
وذكر البيهقي عن الخليل بن أحمد خمسة من الأنبياء ذوو اسمين : محمد وأحمد نبينا صلى الله عليه وسلم ، وعيسى والمسيح ، وإسرائيل ويعقوب ، ويونس وذو النون ، وإلياس وذو الكفل.
والمراد بقوله : { يا بني إسرائيل اذكروا } من كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وما والاها من بني إسرائيل ، أو من أسلم من اليهود وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ، أو أسلاف بني إسرائيل وقدماؤهم ، أقوال ثلاثة : والأقرب الأول ، لأن من مات من أسلافهم لا يقال له : { وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم } ، إلا على ضرب بعيد من التأويل ، ولأن من آمن منهم لا يقال له : { وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به } ، إلا بمجاز بعيد.
ويحتمل قوله : اذكروا الذكر باللسان والذكر بالقلب : فعلى الأول يكون المعنى : أمرّوا النعم على ألسنتكم ولا تغفلوا عنها ، فإن إمرارها على اللسان ومدارستها سبب في أن لا تنسى.
وعلى الثاني يكون المعنى : تنبهوا للنعم ولا تغفلوا عن شكرها.
وفي النعمة المأمور بشكرها أو بحفظها أقوال : ما استودعوا من التوراة التي فيها صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو ما أنعم به على أسلافهم من إنجائهم من آل فرعون وإهلاك عدوهم وإيتائهم التوراة ونحو ذلك ، قاله الحسن والزجاج ، أو إدراكهم مدة النبي صلى الله عليه وسلم ، أو علم التوراة ، أو جميع النعم على جميع خلقه وعلى سلفهم وخلفهم في جميع الأوقات على تصاريف الأحوال.
وأظهر هذه الأقوال ما اختص به بنو إسرائيل من النعم لظاهر قوله : { التي أنعمت عليكم } ، ونعم الله على بني إسرائيل كثيرة ، استنقذهم من بلاء فرعون وقومه ، وجعلهم أنبياء وملوكاً ، وأنزل عليهم الكتب المعظمة ، وظلل عليهم في التيه الغمام ، وأنزل عليهم المن والسلوى.
قال ابن عباس : أعطاهم عموداً من النور ليضء لهم بالليل ، وكانت رؤوسهم لا تتشعث ، وثيابهم لا تبلى.

وإنما ذكروا بهذه النعم لأن في جملتها ما شهد بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو : التوراة والإنجيل والزبور ، ولئن يحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان برسول الله والقرآن ، ولأن تذكير النعم السالفة يطمع في النعم الخالقة ، وذلك الطمع يمنع من إظهار المخالفة.
وهذه النعم ، وإن كانت على آبائهم ، فهي أيضاً نعم عليهم ، لأن هذه النعم حصل بها النسل ، ولأن الانتساب إلى آباء شرفوا بنعم تعظيم في حق الأولاد.
قال بعض العارفين : عبيد النعم كثيرون ، وعبيد المنعم قليلون ، فالله تعالى ذكر بني إسرائيل نعمه عليهم ، ولما آل الأمر إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ذكر المنعم فقال : { اذكروني أذكركم } فدل ذلك على فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم ، وفي قوله : { نعمتي } ، نوع التفات ، لأنه خروج من ضمير المتكلم المعظم نفسه في قوله : { آياتنا } إلى ضمير المتكلم الذي لا يشعر بذلك.
وفي إضافة النعمة إليه إشارة إلى عظم قدرها وسعة برها وحسن موقعها ، ويجوز في الياء من نعمتي الإسكان والفتح ، والقراء السبعة متفقون على الفتح.
وأنعمت : صلة التي ، والعائد محذوف ، التقدير : أنعمتها عليكم.
{ وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم }.
العهد : تقدم تفسيره لغة في قوله : { الذين ينقضون عهد الله } ويحتمل العهد أن يكون مضافاً إلى المعاهد وإلى المعاهد.
وفي تفسير هذين العهدين أقوال : أحدها : الميثاق الذي أخذه عليهم من الإيمان به والتصديق برسله ، وعهدهم ما وعدهم به من الجنة.
الثاني : ما أمرهم به وعهدهم ما وعدهم به ، قاله ابن عباس.
الثالث : ما ذكر لهم في التوراة من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعهدهم ما وعدهم به من الجنة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
الرابع : أداء الفرائض وعهدهم قبولها والمجازاة عليها.
الخامس : ترك الكبائر وعهدهم غفران الصغائر.
السادس : إصلاح الدين وعهدهم إصلاح آخرتهم.
السابع : مجاهدة النفوس وعهدهم المعونة على ذلك.
الثامن : إصلاح السرائر وعهدهم إصلاح الظواهر.
التاسع : { خذوا ما آتيناكم بقوة } ، قاله الحسن.
العاشر : { وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينه للناس ولا يكتمونه } الحادي عشر : الإخلاص في العبادات وعهدهم إيصالهم إلى منازل الرعايات.
الثاني عشر : الإيمان به وطاعته ، وعهدهم ما وعدهم عليه من حسن الثواب على الحسنات.
الثالث عشر : حفظ آداب الظواهر وعهدهم في السرائر.
الرابع عشر : عهد الله على لسان موسى عليه السلام لبني إسرائيل : إني باعث من بني إسرائيل نبياً فمن اتبعه وصدّق بالنور الذي يأتي به غفرت له وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين اثنين ، قاله الكلبي.
الخامس عشر : شرط العبودية وعهدهم شرط الربوبية.
السادس عشر : أوفوا في دار محنتي على بساط خدمتي بحفظ حرمتي ، أوف بعهدكم في دار نعمتي على بساط كرامتي بقربى ورؤيتي ، قاله الثوري.
السابع عشر : لا تفروا من الزحف أدخلكم الجنة ، قاله إسماعيل بن زياد.

الثامن عشر : { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا } الآية ، قاله ابن جريج ، وعهدهم إدخالهم الجنة.
التاسع عشر : أوامره ونواهيه ووصاياه ، فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى الله عليه وسلم الذي في التوراة ، قاله الجمهور.
العشرون : أوفوا بعهدي في التوكل أوف بعهدكم في كفاية المهمات ، قاله أبو عثمان.
الحادي والعشرون : أوفوا بعهدي في حفظ حدودي ظاهراً وباطناً أوف بعهدكم بحفظ أسراركم عن مشاهدة غيري.
الثاني والعشرون : عهده حفظ المعرفة وعهدنا إيصال المعرفة ، قاله القشيري.
الثالث والعشرون : أوفوا بعهدي الذي قبلتم يوم أخذ الميثاق أوف بعهدكم الذي ضمنت لكم يوم التلاق.
الرابع والعشرون : أوفوا بعهدي اكتفوا مني بي أوف بعهدكم أرض عنكم بكم.
فهذه أقوال السلف في تفسير هذين العهدين.
والذي يظهر ، والله أعلم ، أن المعنى طلب الإيفاء بما التزموه لله تعالى ، وترتيب إنجاز ما وعدهم به عهداً على سبيل المقابلة ، أو إبرازاً لما تفضل به تعالى في صورة المشروط الملتزم به فتتوفر الدواعي على الإيفاء بعهد الله ، كما قال تعالى : { ومن أوفى بعهده من الله } { إلا من اتخذ عند الرحمن عهداًً } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فإن له عهداً عند الله أن يدخله الجنة » وقرأ الزهري : أوف بعهدكم مشدّداً.
ويحتمل أن يراد به التكثير ، وأن يكون موافقاً للمجرّد.
فإن أريد به التكثير فيكون في ذلك مبالغة على لفظ أوف ، وكأنه قيل : أبالغ في إيفائكم ، فضمن تعالى إعطاء الكثير على القليل ، كما قال تعالى : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } وانجزام المضارع بعد الأمر نحو : اضرب زيداً يغضب ، يدل على معنى شرط سابق ، وإلا فنفس الأمر وهو طلب إيجاد الفعل لا يقتضي شيئاً آخر ، ولذلك يجوز الاقتصار عليه فتقول : أضرب زيداً ، فلا يترتب على الطلب بما هو طلب شيء أصلاً ، لكن إذا لوحظ معنى شرط سابق ترتب عليه مقتضاه.
وقد اختلف النحويون في ذلك ، فذهب بعضهم إلى أن جملة الأمر ضمنت معنى الشرط ، فإذا قلت : اضرب زيداً يغضب ، ضمن اضرب معنى : أن تضرب ، وإلى هذا ذهب الأستاذ أبو الحسن بن خروف.
وذهب بعضهم إلى أن جملة الأمر نابت مناب الشرط ، ومعنى النيابة أنه كان التقدير : اضرب زيداً ، إن تضرب زيداً يغضب ، ثم حذفت جملة الشرط وأنيبت جملة الأمر منابها.
وعلى القول الأول ليس ثم جملة محذوفة ، بل عملت الجملة الأولى الجزم لتضمن الشرط ، كما عملت من الشرطية الجزم لتضمنها معنى إن.
وعلى القول الثاني عملت الجزم لنيابتها مناب الجملة الشرطية ، وفي الحقيقة ، العمل إنما هو للشرط المقدر ، وهو اختيار الفارسي والسيرافي ، وهو الذي نص عليه سيبويه عن الخليل.
والترجيح بين القولين يذكر في علم النحو.
{ وإياي فارهبون }.
إياي : منصوب بفعل محذوف مقدراً بعده لانفصال الضمير ، وإياي ارهبوا ، وحذف لدلالة ما بعده عليه وتقديره قبله ، وهم من السجاوندي ، إذ قدره وارهبوا إياي ، وفي مجيئه ضمير نصب مناسبة لما قبله ، لأن قبله أمر ، ولأن فيه تأكيداً ، إذ الكلام مفروغ في قالب جملتين.

ولو كان ضمير رفع لجاز ، لكن يفوت هذان المعنيان.
وحذفت الياء ضمير النصب من فارهبون لأنها فاصلة ، وقرأ ابن أبي إسحاق بالياء على الأصل ، قال الزمخشري : وهو أوكد في إفادة الاختصاص من إياك نعبد.
ومعنى ذلك أن الكلام جملتان في التقدير ، وإياك نعبد ، جملة واحدة ، والاختصاص مستفاد عنده من تقديم المعمول على العامل.
وقد تقدم الكلام معه في ذلك ، وأنا لا نذهب إلى ما ذهب إليه من ذلك.
والفاء في قوله : فارهبون ، دخلت في جواب أمر مقدّر ، والتقدير : تنبهوا فارهبون.
وقد ذكر سيبويه في كتابه ما نصه : تقول : كل رجل يأتيك فاضرب ، لأن يأتيك صفة ههنا ، كأنك قلت : كل رجل صالح فاضرب ، انتهى.
قال ابن خروف : قوله كل رجل يأتيك فاضرب ، بمنزلة زيداً فاضرب ، إلا أن هنا معنى الشرط لأجل النكرة الموصوفة بالفعل ، فانتصب كل وهو أحسن من : زيداً فاضرب ، انتهى.
ولا يظهر لي وجه إلا حسنية التي أشار إليها ابن خروف ، والذي يدل على أن هذا التركيب ، أعني : زيداً فاضرب ، تركيب عربي صحيح ، قوله تعالى : { بل الله فاعبد } وقال الشاعر :
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا . . .
قال بعض أصحابنا : الذي ظهر فيها بعد البحث أن الأصل في : زيداً فاضرب ، تنبه : فاضرب زيداً ، ثم حذف تنبه فصار : فاضرب زيداً.
فلما وقعت الفاء صدراً قدّموا الاسم إصلاحاً للفظ ، وإنما دخلت الفاء هنا لتربط هاتين الجملتين ، انتهى ما لخص من كلامه.
وإذا تقرر هذا فتحتمل الآية وجهين : أحدهما : أن يكون التقدير وإياي ارهبوا ، تنبهوا فارهبون ، فتكون الفاء دخلت في جواب الأمر ، وليست مؤخرة من تقديم.
والوجه الثاني : أن يكون التقدير وتنبهوا فارهبون ، ثم قدّم المفعول فانفصل ، وأخرت الفاء حين قدم المفعول وفعل الأمر الذي هو تنبهوا محذوف ، فالتقى بعد حذفه حرفان : الواو العاطفة والفاء ، التي هي جواب أمر ، فتصدّرت الفاء ، فقدم المفعول وأخرت الفاء إصلاحاً للفظ ، ثم أعيد المفعول على سبيل التأكيد ولتكميل الفاصلة ، وعلى هذا التقدير الأخير لا يكون إياي معمولاً لفعل محذوف ، بل معمولاً لهذا الفعل الملفوظ به ، ولا يبعد تأكيد الضمير المنفصل بالضمير المتصل ، كما أكد المتصل بالمنفصل في نحو : ضربتك إياك ، والمعنى : ارهبون أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره ، وهذا قول ابن عباس.
وقيل معنى فارهبون : أن لا تنقضوا عهدي ، وفي الأمر بالرهبة وعيد بالغ ، وليس قول من زعم أن هذا الأمر معناه التهديد والتخويف والتهويل ، مثل قوله تعالى :

{ اعملوا ما شئتم } تشديد لأن هذا في الحقيقة مطلوب ، واعملوا ما شئتم غير مطلوب فافترقا.
وقيل : الخوف خوفان ، خوف العقاب ، وهو نصيب أهل الظاهر ، ويزول ، وخوف جلال ، وهو نصيب أهل القلب ، ولا يزول.
وقال السلمي : الرهبة : خشية القلب من رديء خواطره.
وقال سهل : { وإياي فارهبون } ، موضع اليقين بمعرفته ، { وإياي فاتقون } ، موضع العلم السابق وموضع المكر والاستدراج.
وقال القشيري : أفردوني بالخشية لانفرادي بالقدرة على الإيجاد.
{ وآمنوا بما أنزلت } : ظاهره أنه أمر لبني إسرائيل ، لأن المأمورين قبل هم ، وهذا معطوف على ما قبله ، فظاهره اتحاد المأمور.
وقيل : أنزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه ، علماء اليهود ورؤسائهم ، والظاهر الأول ، ويندرج فيه كعب ومن معه.
وما في قوله : { بما أنزلت } موصولة ، أي بالذي أنزلت ، والعائد محذوف تقديره : أنزلته ، وشروط جواز الحذف فيه موجودة ، والذي أنزل تعالى هو القرآن ، والذي معهم هو التوراة والإنجيل.
وقال قتادة : المراد { بما أنزلت } : من كتاب ورسول تجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ، وأبعد من جعل ما مصدرية ، وأن التقدير : وآمنوا بإنزالي لما معكم من التوراة ، فتكون اللام في لما من تمام المصدر لا من تمام.
{ مصدّقاً }.
وعلى القول الأول يكون { لما معكم } من تمام { مصدقاً } ، واللام على كلا التقديرين في لما مقوية للتعدية ، كهي في قوله تعالى : { فعال لما يريد } وإعراب مصدقاً على قول من جعل ما مصدرية حال من ما في قوله : { لما معكم }.
ولا نقول : يبعد ذلك لدخول حرف الجر على ذي الحال ، لأن حرف الجر كما ذكرناه هو مقوّ للتعدية ، فهو كالحرف الزائد ، وصار نظير : زيد ضارب ، مجردة لهند ، التقدير : ضارب هنداً مجردة ، ثم تقدمت هذه الحال ، وهذا جائز عندنا ، ويبعد أن يكون حالاً من المصدر المقدر لوجهين : أحدهما : الفصل بين المصدر ومعموله الحال المصدر.
والوجه الثاني : أنه يبعد وصف الإنزال بالتصديق إلا أن يتجوّز به ، ويراد به المنزل ، وعلى هذا التقدير لا يكون لما معكم من تمامه ، لأنه إذا أريد به المنزل لا يكون متعدياً للمفعول.
والظاهر أن مصدقاً حال من الضمير العائد على الموصول المحذوف ، وهي حال مؤكدة ، والعامل فيها أنزلت.
وقيل : حال من ما في قوله : بما أنزلت ، وهي حال مؤكدة أيضاً.
{ ولا تكونوا أوّل كافر به } : أفعل التفضيل إذا أضيف إلى نكرة غير صفة ، فإنه يبقى مفرداً مذكراً ، والنكرة تطابق ما قبلها ، فإن كان مفرداً كان مفرداً ، وإن كان تثنية كان تثنية ، وإن كان جمعاً كان جمعاً ، فتقول : زيد أفضل رجل ، وهند أفضل امرأة ، والزيدان أفضل رجلين ، والزيدون أفضل رجال.
ولا تخلو تلك النكرة المضاف إليها أفعل التفضيل من أن تكون صفة أو غير صفة ، فإن كانت غير صفة فالمطابقة كما ذكرنا.
وأجاز أبو العباس : إخوتك أفضل رجل ، بالإفراد ، ومنع ذلك الجمهور.

وإن كانت صفة ، وقد تقدم أفعل التفضيل جمع جازت المطابقة وجاز الإفراد ، قال الشاعر : أنشده الفراء :
وإذا هم طعموا فألأم طاعم . . .
وإذا هم جاعوا فشرّ جياع
فأفرد بقوله : طاعم ، وجمع بقوله : جياع.
وإذا أفردت النكرة الصفة ، وقبل أفعل التفضيل جمع ، فهو عند النحويين متأوّل ، قال الفراء : تقديره من طعم ، وقال غيره : يقدر وصفاً لمفرد يؤدي معنى جمع ، كأنه قال : فألأم طاعم ، وحذف الموصوف ، وقامت الصفة مقامه ، فيكون ما أضيف إليه في التقدير وفق ما تقدمه.
وقال بعض الناس : يكون التجوز في الجمع ، فإذا قيل مثلاً الزيدون أفضل عالم ، فالمعنى : كل واحد من الزيدين أفضل عالم.
وهذه النكرة أصلها عند سيبويه التعريف والجمع ، فاختصروا الألف واللام وبناء الجمع.
وعند الكوفيين أن أفعل التفضيل هو النكرة في المعنى ، فإذا قلت : أبوك أفضل عالم ، فتقديره : عندهم أبوك الأفضل العالم ، وأضيف أفضل إلى ما هو هو في المعنى.
وجميع أحكام أفعل التفضيل مستوفاة في كتب النحو.
وعلى ما قررناه تأولوا أول كافر بمن كفر ، أو أول حزب كفر ، أو لا يكن كل واحد منكم أول كافر.
والنهي عن أن تكونوا أول كافر به لا يدل ذلك على إباحة الكفر لهم ثانياً أو آخراً ، فمفهوم الصفة هنا غير مراد.
ولما أشكلت الأولية هنا زعم بعضهم أن أول صلة يعني زائدة ، والتقدير : ولا تكونوا كافرين به ، وهذا ضعيف جداً.
وزعم بعضهم أن ثم محذوفاً معطوفاً تقديره : ولا تكونوا أوّل كافر به ولا آخر كافر ، وجعل ذلك مما حذف فيه المعطوف لدلالة المعنى عليه ، وخص الأولية بالذكر لأنها أفحش ، لما فيها من الابتداء بها ، وهذا شبيه بقول الشاعر :
من أناس ليس في أخلاقهم . . .
عاجل الفحش ولا سوء جزع
لا يريد أن فيهم فحشاً آجلاً ، بل أراد لافحش عندهم ، لا عاجلاً ، ولا آجلاً ، وتأوله بعضهم على حذف مضاف ، أي : ولا تكونوا مثل أول كافر به ، أي ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكوراً في التوراة موصوفاً مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له ، وبعضهم على صفة محذوفة ، أي أول كافر به من أهل الكتاب ، إذ هم منظور إليهم في هذا مظنون بهم علم ، وبعضهم على حذف صلة يصح بها المعنى ، التقدير : ولا تكونوا أول كافر به مع المعرفة ، لأن كفر قريش كان مع الجهل ، وهذا القول شبيه بالذي قبله.
وبعضهم قدر صلة غير هذه ، أي ولا تكونوا أول كافر به عند سماعكم لذكره ، بل تثبتوا فيه وراجعوا عقولكم فيه.
وقيل : ذكر الأولية تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول مؤمن به ، لمعرفتهم به وبصفته ، ولأنهم كانوا هم المبشرين بزمانه والمستفتحين على الذين كفروا به ، فلما بعث كان أمرهم على العكس ، قال تعالى : { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به }

وقال القشيري : لا تسنوا الكفر سنة ، فإن وزر المبتدئين فيما يسنون أعظم من وزر المقتدين فيما يتبعون.
والضمير في به عائد على الموصول في بما أنزلت ، وهو القرآن ، قاله ابن جريج ، أو على محمد صلى الله عليه وسلم ، ودل عليه المعنى ، لأن ذكر المنزل يدل على ذكر المنزل عليه ، قاله أبو العالية ، أو على النعمة على معنى الإحسان ، ولذلك ذكر الضمير ، قاله الزجاج ، أو على الموصول في لما معكم ، لأنهم إذا كفروا بما يصدقه ، فقد كفروا به ، والأرجح الأول ، لأنه أقرب ، وهو منطوق به مقصود للحديث عنه ، بخلاف الأقوال الثلاثة.
{ ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً }.
الاشتراء هنا مجاز يراد به الاستبدال ، كما قال :
كما اشترى المسلم إذ تنصرا . . .
وقال آخر :
فإني شريت الحلم بعدك بالجهل . . .
ولما كان المعنى على الاستبدال ، جاز أن تدخل الباء على الآيات ، وإن كان القياس أن تدخل على ما كان ثمناً ، لأن الثمن في البيع حقيقته أن يشترى به ، لكن لما دخل الكلام على معنى الاستبدال جاز ذلك ، لأن معنى الاستبدال يكون المنصوب فيه هو الحاصل ، وما دخلت عليه الباء هو الزائل ، بخلاف ما يظن بعض الناس أن قولك : بدلت أو أبدلت درهماً بدينار معناه : أخذت الدينار بدلاً عن الدرهم ، والمعنى ، والله أعلم : ولا تستبدلوا بآياتي العظيمة أشياء حقيرة خسيسة.
ولو أدخل الباء على الثمن دون الآيات لانعكس هذا المعنى ، إذ كان يصير المعنى : أنهم هم بذلوا ثمناً قليلاً وأخذوا الآيات.
قال المهدوي : ودخول الباء على الآيات كدخولها على الثمن ، وكذلك كلّ ما لا عين فيه ، وإذا كان في الكلام دنانير أو دراهم دخلت الباء على الثمن ، قاله الفراء.
انتهى كلام المهدوي ومعناه : أنه إذا لم يكن دنانير ولا دراهم في البيع صح أن يكون كل واحد من المبذول ثمناً ومثمناً ، لكن يختلف دخول الباء بالنسبة لمن نسب الشراء إلى نفسه من المتعاقدين جعل ما حصل هو المثمن ، فلا تدخل عليه الباء ، وجعل ما بذل هو الثمن فأدخل عليه الباء ، ونفس الآيات لا يشترى بها ، فاحتيج إلى حذف مضاف ، فقيل تقديره : بتعليم آياتي ، قاله أبو العالية ، وقيل : بتغيير آياتي ، قاله الحسن.
وقيل : بكتمان آياتي ، قاله السدي.
وقيل : لا يحتاج إلى حذف مضاف ، بل كنى بالآيات عن الأوامر والنواهي.
وعلى الأقوال الثلاثة التي قبل هذا القول تكون الآيات ، ما أنزل من الكتب ، أو القرآن ، أو ما أوضح من الحجج والبراهين ، أو الآيات المنزلة عليهم في التوراة والإنجيل المتضمنة الأمر بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى الأقاويل في ذلك المضاف المقدر ، والقول بعدها اختلفوا في المعنى بقوله : ثمناً قليلاً.
فمن قال : إن المضاف هو التعليم ، قال : الثمن القليل هو الأجرة على التعليم ، وكان ذلك ممنوعاً منه في شريعتم ، أو الراتب المرصد لهم على التعليم ، فنهوا عنه ، ومن قال : هو التغيير ، قال الثمن القليل هو الرّياسة التي كانت في قومهم خافوا فواتها لو صاروا أتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن جعل الآيات كناية عن الأوامر والنواهي ، جعل الثمن القليل هو ما يحصل لهم من شهوات الدنيا التي اشتغلوا بها عن إيقاع ما أمرالله به واجتناب ما نهى عنه ، ووصف الثمن بالقليل ، لأن ما حصل عوضاً عن آيات الله كائناً ما كان لا يكون إلا قليلاً ، وإن بلغ ما بلغ ، كما قال تعالى : { قل متاع الدنيا قليل } فليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف التي تخصص النكرات ، بل من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل بالآيات ، إذ لا يكون إلا قليلاً.
ويحتمل أن يكون ثم معطوف تقديره : ثمناً قليلاً ولا كثيراً ، فحذف لدلالة المعنى عليه.
وقد استدل بعض أهل العلم بقوله : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } على منع جواز أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله والعلم.
وقد روي في ذلك أحاديث لا تصح ، وقد صح أنهم قالوا : يا رسول الله ، إنا نأخذ على كتاب الله أجراً ، فقال : «إن خير ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله».
وقد تظافرت أقوال العلماء على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم ، وإنما نقل عن الزهري وأبي حنيفة الكراهة ، لكون ذلك عبادة بدنية ، ولا دليل لذلك الذاهب في الآية ، وقد مرّ تفسيرها.
{ وإيّاي فاتقون } : الكلام عليه إعراباً ، كالكلام على قوله : { وإيّاي فارهبون } ، ويقرب معنى التقوى من معنى الرهبة.
قال صاحب المنتخب : والفرق أن الرهبة عبارة عن الخوف ، وأمّا الاتقاء فإنه يحتاج إليه عند الجرم بحصول ما يتقي منه ، فكأنه تعالى أمرهم بالرهبة لأجل أن جواز العقاب قائم ، ثم أمرهم بالتقوى لأن تعين العقاب قائم ، انتهى كلامه.
ومعنى جواز العقاب هناك وتعيينه هنا : أن ترك ذكر النعمة والإيفاء بالعهد ظاهره أنه من المعاصي التي تجوز العقاب ، إذ يجوز أن يقع العفو عن ذلك ، وترك الإيمان بما أنزل الله تعالى ، وشراء الثمن اليسير بآيات الله من المعاصي التي تحتم العقاب وتعينه ، إذ لا يجوز أن يقع العفو عن ذلك ، فقيل في ذلك : { فارهبون } ، وقيل في هذا : { فاتقون } ، أي اتخذوا وقاية من عذاب الله إن لم تمتثلوا ما أمرتكم به.
والأحسن أن لا يقيد ارهبون واتَّقون بشيء ، بل ذلك أمر بخوف الله واتقائه ، ولكن يدخل فيه ما سيق الأمر عقيبه دخولاً واضحاً ، فكان المعنى : ارهبون ، إن لم تذكروا نعمتي ولم توفوا بعهدي ، واتقون ، إن لم تؤمنوا بما أنزلت وإن اشترتيتم بآياتي ثمناً قليلاً.
{ ولا تلبسوا الحق بالباطل } : أي الصدق بالكذب ، قاله ابن عباس ، أو اليهودية والنصرانية بالإسلام ، قاله مجاهد ، أو التوراة بما كتبوه بأيديهم فيها من غيرها ، أو بما بدلوا فيها من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن زيد ، أو الأمانة بالخيانة لأنهم ائتمنوا على إبداء ما في التوراة ، فخانوا في ذلك بكتمانه وتبديله ، أو الإقرار بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم إلى غيرهم وجحدهم أنه ما بعث إليهم ، قاله أبو العالية ، أو إيمان منافقي اليهود بإبطان كفرهم ، أو صفة النبي صلى الله عليه وسلم بصفة الدجال.

وظاهر هذا التركيب أن الباء في قوله بالباطل للإلصاق ، كقولك : خلطت الماء باللبن ، فكأنهم نهوا عن أن يخلطوا الحق بالباطل ، فلا يتيمز الحق من الباطل ، وجوز الزمخشري أن تكون الباء للاستعانة ، كهي في كتبت بالقلم ، قال : كان المعنى : ولا تجعلوا الحق ملتبساً مشتبهاً بباطلكم ، وهذا فيه بعد عن هذا التركيب ، وصرف عن الظاهر بغير ضرورة تدعو إلى ذلك.
{ وتكتموا الحق } : مجزوم عطفاً على تلبسوا ، والمعنى : النهي عن كل واحد من الفعلين ، كما قالوا : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، بالجزم نهياً عن كل واحد من الفعلين ، وجوزوا أن يكون منصوباً على إضمار أن ، وهو عند البصريين عطف على مصدر متوهم ، ويسمى عند الكوفيين النصب على الصرف.
والجرمي يرى أن النصب بنفس الواو ، وهذا مذكور في علم النحو.
وما جوزوه ليس بظاهر ، لأنه إذ ذاك يكون النهي منسحباً على الجمع بين الفعلين ، كما إذا قلت : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، معناه : النهي عن الجمع بينهما ، ويكون بالمفهوم يدل على جواز الالتباس بواحد منهما ، وذلك منهي عنه ، فلذلك رجح الجزم.
وقرأ عبد الله : { وتكتمون الحق } ، وخرج على أنها جملة في موضع الحال ، وقدره الزمخشري : كاتمين ، وهو تقدير معنى لا تقدير إعراب ، لأن الجملة المثبتة المصدّرة بمضارع ، إذا وقعت حالاً لا تدخل عليها الواو ، والتقدير الإعرابي هو أن تضمر قبل المضارع هنا مبتدأ تقديره : وأنتم تكتمون الحق ، ولا يظهر تخريج هذه القراءة على الحال ، لأن الحال قيد في الجملة السابقة ، وهم قد نهوا عن لبس الحق بالباطل ، على كل حال فلا يناسب ذلك التقييد بالحال إلا أن تكون الحال لازمة ، وذلك أن يقال : لا يقع لبس الحق بالباطل إلا ويكون الحق مكتوماً ، ويمكن تخريج هذه القراءة على وجه آخر ، وهو أن يكون الله قد نعى عليهم كتمهم الحق مع علمهم أنه حق ، فتكون الجملة الخبرية عطفت على جملة النهي ، على من يرى جواز ذلك ، وهو سيبويه وجماعة ، ولا يشترط التناسب في عطف الجمل ، وكلا التخريجين تخريج شذوذ.
والحق الذي كتموه هو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبو العالية ، والسدّي ، ومقاتل ، أو الإسلام ، قاله الحسن ، أو يكون الحق عامًّا فيندرج فيه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ، وما جاء به صلى الله عليه وسلم وكتمانه أنهم كانوا يعلمون ذلك ويظهرون خلافه.

{ وأنتم تعلمون } جملة حالية ، ومفعول تعلمون محذوف اقتصاراً ، إذ المقصود : وأنتم من ذوي العلم ، فلا يناسب من كان عالماً أن يكتم الحق ويلبسه بالباطل ، وقد قدروا حذفه حذف اختصار ، وفيه أقاويل ستة : أحدها : وأنتم تعلمون أنه مذكور هو وصفته في التوراة صلى الله عليه وسلم.
الثاني : وأنتم تعلمون البعث والجزاء.
الثالث : وأنتم تعلمون أنه نبي مرسل للناس قاطبة.
الرابع : وأنتم تعلمون الحق من الباطل.
وقال الزمخشري : وأنتم تعلمون في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون ، فجعل مفعول العلم اللبس والكتم المفهومين من الفعلين السابقين ، قال : وهو أقبح ، لأن الجهل بالقبيح ربما عذر راكبه ، انتهى.
فكان ما قدّره هو على حذف مضاف ، أي وأنتم تعلمون قبح أو تحريم اللبس والكتم ، وقال ابن عطية : وأنتم تعلمون ، جملة في موضع الحال ولم يشهد تعالى لهم بعلم ، وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا ، انتهى.
ومفهوم كلامه أن مفعول تعلمون هو الحق ، كأنه قال : ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمونه ، لأن المكتوم قد يكون حقاً وغير حق ، فإذا كان حقاً وعلم أنه حق ، كان كتمانه له أشد معصية وأعظم ذنباً ، لأن العاصي على علم أعصى من الجاهل العاصي.
قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يشهد لهم بعلم على الإطلاق ، قال : ولا تكون الجملة على هذا في موضع الحال ، انتهى.
يعني أن الجملة تكون معطوفة ، وإن كانت ثبوتية على ما قبلها من جملة النهي ، وإن لم تكن مناسبة في الإخبار على ما قررناه من الكلام في تخريجنا لقراءة عبد الله : وتكتمون.
والأظهر من هذه الأقاويل ما قدّمناه أوّلاً من كون العلم حذف مفعوله حذف اقتصار ، إذ المقصود أن من كان من أهل العلم والاطلاع على ما جاءت به الرسل ، لا يصلح له لبس الحق بالباطل ولا كتمانه.
وهذه الحال ، وإن كان ظاهرها أنها قيد في النهي عن اللبس والكتم ، فلا تدل بمفهومها على جواز اللبس والكتم حالة الجهل ، لأن الجاهل بحال الشيء لا يدري كونه حقاً أو باطلاً ، وإنما فائدتها : أن الإقدام على الأشياء القبيحة مع العلم بها أفحش من الإقدام عليها مع الجهل بها.
وقال القشيري : لا تتوهموا ، إن يلتئم لكم جمع الضدّين والكون في حالة واحدة في محلين ، فإما مبسوطة بحق ، وإما مربوطة بحط ، { ولا تلبسوا الحق بالباطل } ، تدليس ، { وتكتمو الحق } تلبيس ، { وأنتم تعلمون } أن حق الحق تقديس ، انتهى.
وفي هذه الآية دليل أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ، ويحرم عليه كتمانه.
{ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } : تقدّم الكلام على مثل هذا في أوّل السورة في قوله : { ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة } ، ويعني بذلك صلاة المسلمين وزكاتهم ، فقيل : هي الصلاة المفروضة ، وقيل : جنس الصلاة والزكاة.

قيل : أراد المفروضة ، وقيل : صدقة الفطر ، وهو خطاب لليهود ، فدل ذلك على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.
قال القشيري : وأقيموا الصلاة : احفظوا أدب الحضرة ، فحفظ الأدب للخدمة من الخدمة ، وآتوا الزكاة ، زكاة الهمم ، كما تؤدى زكاة النعم ، قال قائلهم :
كلّ شيء له زكاة تؤدّى . . .
وزكاة الجمال رحمة مثلي
{ واركعوا مع الراكعين } : خطاب لليهود ، ويحتمل أن يراد بالركوع : الانقياد والخضوع ، ويحتمل أن يراد به : الركوع المعروف في الصلاة ، وأمروا بذلك وإن كان الركوع مندرجاً في الصلاة التي أمروا بإقامتها ، لأنه ركوع في صلاتهم ، فنبه بالأمر به ، على أن ذلك مطلوب في صلاة المسليمن.
وقيل : كنى بالركوع عن الصلاة : أي وصلوا مع المصلين ، كما يكنى عنها بالسجدة تسمية للكلّ بالجزء ، ويكون في قوله مع دلالة على إيقاعها في جماعة ، لأن الأمر بإقامة الصلاة أوّلاً لم يكن فيها إيقاعها في جماعة.
والراكعون : قيل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقيل : أراد الجنس من الراكعين.
وفي هذه الجمل ، وإن كانت معطوفات بالواو التي لا تقتضي في الوضع ترتيباً ترتيب عجيب ، من حيث الفصاحة وبناء الكلام بعضه على بعض ، وذلك أنه تعالى أمرهم أوّلاً بذكر النعمة التي أنعمها عليهم ، إذ في ذلك ما يدعو إلى محبة المنعم ووجوب إطاعته ، ثم أمرهم بإيفاء العهد الذي التزموه للمنعم ، ثم رغبهم بترتيب إيفائه هو تعالى بعهدهم في الإيفاء بالعهد ، ثم أمرهم بالخوف من نقماته إن لم يوفوا ، فاكتنف الأمر بالإيفاء أمر بذكر النعمة والإحسان ، وأمر بالخوف من العصيان ، ثم أعقب ذلك بالأمر بإيمان خاص ، وهو ما أنزل من القرآن ، ورغب في ذلك بأنه مصدّق لما معهم ، فليس أمراً مخالفاً لما في أيديهم ، لأن الانتقال إلى الموافق أقرب من الانتقال إلى المخالف.
ثم نهاهم عن استبدال الخسيس بالنفيس ، ثم أمرهم تعالى باتقائه ، ثم أعقب ذلك بالنهي عن لبس الحق بالباطل ، وعن كتمان الحق ، فكان الأمر بالإيمان أمراً بترك الضلال ، والنهي عن لبس الحق بالباطل ، وكتمان الحق تركاً للإضلال.
ولما كان الضلال ناشئاً عن أمرين : إما تمويه الباطل حقاً إن كانت الدلائل قد بلغت المستتبع ، وإما عن كتمان الدلائل إن كانت لم تبلغه ، أشار إلى الأمرين بلا تلبسوا وتكتموا ، ثم قبح عليهم هذين الوصفين مع وجود العلم ، ثم أمرهم بعد تحصيل الإيمان وإظهار الحق بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، إذ الصلاة آكد العبادات البدنية ، والزكاة آكد العبادات المالية.
ثم ختم ذلك بالأمر بالانقياد والخضوع له تعالى مع جملة الخاضعين الطائعين.
فكان افتتاح هذه الآيات بذكر النعم واختتامها بالانقياد للمنعم ، وما بينهما تكاليف اعتقادية وأفعال بدنية ومالية.
وبنحو ما تضمنته هذه الآيات من الافتتاح والإرداف والاختتام يظهر فضل كلام الله على سائر الكلام ، وهذه الأوامر والنواهي ، وإن كانت خاصة في الصورة ببني إسرائيل ، فإنهم هم المخاطبون بها هي عامة في المعنى ، فيجب على كل مكلف ذكر نعمة الله ، والإيفاء بالعهد وسائر التكاليف المذكورة بعد هذا.

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)

الأمر : طلب إيجاد الفعل ، ويطلق على الشأن ، والفعل منه : أمر يأمر ، على : فعل يفعل ، وتحذف فاؤه في الأمر منه بغير لام ، فتقول : مر زيداً وإتمامه قليل ، أومر زيداً ، فإن تقدم الأمر واو أو فاء ، فإثبات الهمزة أجود ، وهو مما يتعدّى إلى مفعولين : أحدهما بنفسه ، والآخر بحرف جر.
ويجوز حذف ذلك الحرف ، وهو من أفعال محصورة تحذف من ثاني مفعوليها حرف الجر جوازاً تحفظ ولا يقاس عليها.
البر : الصلة ، وأيضاً : الطاعة.
قال الراجز :
لا همّ ربّ إن بكراً دونكا . . .
يبرك الناس ويفخر ونكا
والبر : الفؤاد ، وولد الثعلب والهرّ ، وبرّ والده : أجله وأعظمه.
يبره : على وزن فعل يفعل ، ورجل بارّ ، وبرّ ، وبرت يمينه ، وبرّ حجه : أجلها وجمع أنواعاً من الخير ، والبر سعة المعروف والخير ، ومنه : البر والبريّة للسعة.
ويتناول كل خير ، والإبرار : الغلبة ، قال الشاعر :
ويبرّون على الآبي المبر . . .
النسيان : ضد الذكر ، وهو السهو الحادث بعد حصول العلم ، ويطلق أيضاً على الترك ، وضده الفعل ، والفعل : نسي ينسى على فعل يفعل ، ويتعدّى لواحد ، وقد يعلق نسي حملاً على علم ، قال الشاعر :
ومن أنتم إنا نسينا من أنتم . . .
وريحكم من أي ريح الأعاصر
وفي البيت احتمال : التلاوة : القراءة ، وسميت بها لأن الآيات أو الكلمات أو الحروف يتلو بعضها بعضاً في الذكر.
والتلو : التبع ، وناقة مثل : يتبعها ولدها.
العقل : الإدراك المانع من الخطأ ، ومنه عقال البعير ، يمنعه من التصرف ، والمعقل : مكان يمتنع فيه ، والعقل : الدّية لأن جنسها إبل تعقل في فناء الولي ، أو لأنها تمنع من قتل الجاني ، والعقل : ثوب موشى ، قال الشاعر :
عقلاً ورقماً تظل الطير تتبعه . . .
كأنه من دم الأجواف مدموم
والعقال : زكاة العام ، قال الشاعر :
سعى عقالاً فلم يترك لنا سبداً . . .
فكيف لو قد سعى عمرو عقالين
ورمل عقنقل : متماسك عن الانهيار.
الصبر : حبس النفس على المكروه ، والفعل : صبر يصبر على فعل يفعل ، وأصله أن يتعدى لواحد.
قال الشاعر :
فصبرت عارفة لذلك حرّة . . .
ترسو إذا نفس الجبان تطلع
وقد كثر حذف مفعوله حتى صار كأنه غير متعدّ.
الكبيرة : من كبر يكبر ، ويكون ذلك في الجرم وفي القدر ، ويقال : كبر عليّ كذا ، أي شق ، وكبر يكبر ، فهو كبير من السنّ.
قال الشاعر :
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا . . .
إلى اليوم لم نكبر ولم يكبر البهم
الخشوع : قريب من الخضوع ، وأصله : اللين والسهولة ، وقيل : الاستكانة والتذلل.
وقال الليث : الخضوع في البدن ، والخشوع في البدن والبصر والصوت ، والخشعة : الرّملة المتطامنة.
وفي الحديث : « كانت الكعبة خشعة على الماء » الظنّ : ترجيح أحد الجانبين ، وهو الذي يعبر عنه النحويون بالشك ، وقد يطلق على التيقن.

وفي كلا الاستعمالين يدخل على ما أصله المبتدأ والخبر بالشروط التي ذكرت في النحو ، خلافاً لأبي زيد السهيلي ، إذ زعم أنها ليست من نواسخ الابتداء.
والظنّ أيضاً يستعمل بمعنى : التهمة ، فيتعدى إذ ذاك لواحد ، قال الفراء : الظنّ يقع بمعنى الكذب ، والبصريون لا يعرفون ذلك.
{ أتأمرون الناس بالبرّ } الهمزة : للاستفهام وضعاً ، وشابها هنا التوبيخ والتقريع لأن المعنى : الإنكار ، وعليهم توبيخهم على أن يأمر الشخص بخير ، ويترك نفسه ونظيره في النهي ، قول أبي الأسود :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله . . .
عار عليك إذا فعلت عظيم
وقول الآخر :
وابدأ بنفسك فانهها عن غيها . . .
فإن انتهت عنه فأنت حكيم
فيقبح في العقول أن يأمر الإنسان بخير وهو لا يأتيه ، وأن ينهى عن سوء وهو يفعله.
وفي تفسير البر هنا أقوال : الثبات على دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لا يتبعونه ، أو اتباع التوراة وهم يخالفونها في جحدهم صفته.
وروي عن قتادة وابن جريج والسّدي : أو على الصدقة ويبخلون ، أو على الصدق وهم لا يصدّقون ، أو خص أصحابهم على الصلاة والزكاة ولا يأتونهما.
وقال السلمي : أتطالبون الناس بحقائق المعاني وأنتم قلوبكم خالية عن ظواهر رسومها؟ وقال القشيري : أتحرّضون الناس على البدار وترضون بالتخلف؟ وقال : أتدعون الخلق إلينا وتقعدون عنا؟ وألفاظاً من هذا المعنى.
وأتى بالمضارع في : أتأمرون ، وإن كان قد وقع ذلك منهم لأنه يفهم منه في الاستعمال في كثير من المواضع : الديمومة وكثرة التلبس بالفعل ، نحو قولهم : زيد يعطي ويمنع ، وعبر عن ترك فعلهم بالنسيان مبالغة في الترك ، فكأنه لا يجري لهم على بال ، وعلق النسيان بالأنفس توكيداً للمبالغة في الغفلة المفرطة.
{ وتنسون } : معطوف على تأمرون ، والمنعي عليهم جمعهم بين هاتين الحالتين من أمر الناس بالبر الذي في فعله النجاة الأبدية ، وترك فعله حتى صار نسياً منسياً بالنسبة إليهم.
{ أنفسكم } ، والأنفس هنا : ذواتهم ، وقيل : جماعتهم وأهل ملتهم ، ثم قيد وقوع ذلك منهم بقوله : { وأنتم تتلون الكتاب } : أي أنكم مباشروا الكتاب وقارئوه ، وعالمون بما انطوى عليه ، فكيف امتثلتموه بالنسبة إلى غيركم؟ وخالفتموه بالنسبة إلى أنفسكم؟ كقوله تعالى : { وتكتموا الحق وأنتم تعلمون } والجملة حالية ولا يخفى ما في تصديرها بقوله : { وأنتم } ، من التبكيت لهم والتقريع والتوبيخ لأجل المخاطبة بخلافها لو كانت اسماً مفرداً.
والكتاب هنا : التوراة والإنجيل ، وفيهما النهي عن هذا الوصف الذميم ، وهذا قول الجمهور.
وقيل : الكتاب هنا القرآن ، قالوا : ويكون قد انصرف من خطاب أهل الكتاب إلى خطاب المؤمنين ، ويكون ذلك من تلوين الخطاب ، مثل قوله تعالى : { يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك } وفي هذا القول بعد ، إذ الظاهر أن هذا كله خطاب مع أهل الكتاب.
{ أفلا تعقلون } : مذهب سيبويه والنحويين : أن أصل الكلام كان تقديم حرف العطف على الهمزة في مثل هذا ومثل { أو لم يسيروا } أثم إذا ما وقع ، لكن لما كانت الهمزة لها صدر الكلام ، قدمت على حرف العطف ، وذلك بخلاف هل.

وزعم الزمخشري أن الواو والفاء وثم بعد الهمزة واقعة موقعها ، ولا تقديم ولا تأخير ، ويجعل بين الهمزة وحرف العطف جملة مقدرة يصح العطف عليها ، وكأنه رأى أن الحذف أولى من التقديم والتأخير.
وقد رجع عن هذا القول في بعض تصانيفه إلى قول الجماعة ، وقد تكلمنا على هذه المسألة في شرحنا لكتاب التسهيل.
فعلى قول الجماعة يكون التقدير : فألا تعقلون ، وعلى قول الزمخشري يكون التقدير : أتعقلون فلا تعقلون ، أمكثوا فلم يسيروا في الأرض ، أو ما كان شبه هذا الفعل مما يصح أن يعطف عليه الجملة التي بعد حرف العطف ، ونبههم بقوله : { أفلا تعقلون } ، على ن فيهم إدراكاً شريفاً يمنعهم من قبيح ما ارتكبوه من أمر غيرهم بالخير ونسيان أنفسهم عنه ، وإن هذه حالة من سلب العقل ، إذ العاقل ساع في تحصيل ما فيه نجاته وخلاصه أولاً ، ثم يسعى بعد ذلك في خلاص غيره ، إبدأ بنفسك ثم بمن تعول.
ومركوز في العقل أن الإنسان إذا لم يحصل لنفسه مصلحة ، فكيف يحصلها لغيره؟ ألا ترى إلى قول الشاعر :
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه . . .
فليس على شيء سواه بخزان
فإذا صدر من الإنسان تحصيل المصلحة لغيره ، ومنع ذلك لنفسه ، كان ذلك خارجاً عن أفعال العقلاء ، خصوصاً في الأمور التي يرجى بسلوكها النجاة من عذاب الله ، والفوز بالنعيم السرمدي.
وقد فسروا قوله : { أفلا تعقلون } بأقوال : أفلا تعقلون : أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية بكم ، أو أفلا تفهمون قبح ما تأتون من معصية ربكم في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به ، أو أفلا تنتهون ، لأن العقل ينهى عن القبيح ، أو أفلا ترجعون ، لأن العقل يراد إلى الأحسن ، أو أفلا تعقلون أنه حق فتتبعونه ، أو إن وبال ذلك عليكم راجع ، أو أفلا تمتنعون من المعاصي ، أو أفلا تعقلون ، إذ ليس في قضية العقل أن تأمر بالمعروف ولا تأتيه ، أو أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه ، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقل ، لأن العقول تأباه وتدفعه.
وشبيه بهذه الآية { لم تقولون ما لا تفعلون } الآية.
والمقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : الإرشاد إلى المنفعة والتحذير عن المفسدة ، وذلك معلوم بشواهد العقل ، فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل ، ويصير ذلك الوعظ سبباً للرغبة في المعصية ، لأنه يقال : لولا اطلاع الواعظ على أن لا أصل لهذه التخويفات لما أقدم على المعصية ، فتكون النفس نافرة عن قبول وعظ من لم يتعظ ، وأنشدوا :
مواعظ الواعظ لن تقبلا . . .
حتى يعيها قلبه أولاً

وقال عليّ كرم الله وجهه : قصم ظهري رجلان : عالم متهتك ، وجاهل متنسك.
ولا دليل في الآية لمن استدل بها على أنه ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ولا في قوله تعالى : { لم تقولون ما لا تفعلون } ، ولا للمعتزلة في أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى ، قالوا : التوبيخ لا يحسن إلا إذا كانوا فاعلي أفعالهم ، وهذه مسألة مشكلة يبحث فيها في علم الكلام.
وهذا الإنكار والتوبيخ والتقريع ، وإن كان خطاباً لبني إسرائيل ، فهو عام من حيث المعنى.
وعن محمد بن واسع : بلغني أن ناساً من أهل الجنة أطلعوا على ناس من أهل النار فقالوا لهم : قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة ، قالوا : كنا نأمركم بها ونخالف إلى غيرها.
{ واستعينوا بالصبر والصلاة } : تقدم ذكر معاني استفعل عند ذكر المادة في قوله تعالى : { وإياك نستعين } وأن من تلك المعاني الطلب ، وأن استعان معناه طلب المعونة ، وظاهر الصبر أنه يراد به ما يقع عليه في اللغة.
وقال مجاهد : الصبر : الصوم ، والصوم : صبر ، لأنه إمساك عن الطعام ، وسمي رمضان : شهر الصبر.
والصلاة : هي المفروضة مع ما يتبعها من السنن والنوافل ، قاله مجاهد.
وقيل : الصلاة الدعاء وقد أضمر ، والصبر صلة تقيده ، فقيل : بالصبر على ما تكرهه نفوسكم من الطاعة والعمل ، أو على أداء الفرائض ، روي ذلك عن ابن عباس ، أو عن المعاصي ، أو على ترك الرياسة ، أو على الطاعات وعن الشهوات ، أو على حوائجكم إلى الله ، أو على الصلاة.
ولما قدر هذا التقدير ، أعني بالصبر على الصلاة ، توهم بعض من تكلم على القرآن ، أن الواو التي في الصلاة هنا بمعنى على ، وإنما يريد قائل هذا : أنهم أمروا بالاستعانة بالصبر على الصلاة وبالصلاة ، لأن الواو بمعنى على ، ويكون ينظر إلى قوله : { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها } وأمروا بالاستعانة بالصلاة ، لأنه يتلى فيها ما يرغب في الآخرة ويزهد في الدنيا ، أو لما فيها من تمحيص الذنوب وترقيق القلوب ، أو لما فيها من إزالة الهموم ، ومنه الحديث : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة » وقد روي أن ابن عباس نعى إليه قثم أخوه ، فقام يصلي ، وتلا : { واستعينوا بالصبر والصلاة } ، أو لما فيها من النهي عن الفحشاء والمنكر ، وكل هذه الوجوه ذكروها.
وقدم الصبر على الصلاة ، قيل : لأن تأثير الصبر في إزالة ما لا ينبغي ، وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي ، والنفي مقدم على الإثبات ، ويظهر أنه قدم الاستعانة به على الاستعانة بالصلاة ، لأنه سبق ذكر تكاليف عظيمة شاق فراقها على من ألفها واعتادها من ذكر ما نسوه والإيفاء بما أخلفوه والإيمان بكتاب متجدد وترك أخذهم الرشا على آيات الله وتركهم إلباس الحق بالباطل وكتم الحق الذي لهم بذلك الرياسة في الدنيا والاستتباع لعوامهم وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وهذه أمور عظيمة ، فكانت البداءة بالصبر لذلك.

ولما كان عمود الإسلام هو الصلاة ، وبها يتميز المسلم من الشرك ، أتبع الصبر بها ، إذ يحصل بها الاشتغال عن الدنيا ، وبالتلاوة فيها الوقوف على ما تضمنه كتاب الله من الوعد والوعيد ، والمواعظ والآداب ، ومصير الخلق إلى دار الجزاء ، فيرغب المشتغل بها في الآخرة ، ويرغب عن الدنيا.
وناهيك من عبادة تتكرر على الإنسان في اليوم والليل خمس مرات ، يناجي فيها ربه ويستغفر ذنبه.
وبهذا الذي ذكرناه تظهر الحكمة في أن أمروا بالاستعانة بالصبر والصلاة.
ويبعد دعوى من قال : إنه خطاب للمؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : لأن من ينكره لا يكاد يقال له استعن بالصبر والصلاة.
قال : ولا يبعد أن يكون الخطاب أولاً لبني إسرائيل ، ثم يقع بعد الخطاب للمؤمنين ، والذي يظهر أن ذلك كله خطاب لبني إسرائيل ، لأن صرف الخطاب إلى غيرهم لغير موجب ، ثم يخرج عن نظم الفصاحة.
{ وإنها لكبيرة } : الضمير عائد على الصلاة.
هذا ظاهر الكلام ، وهو القاعدة في علم العربية : أن ضمير الغائب لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل ، وقيل : يعود على الاستعانة ، وهو المصدر المفهوم من قوله : { واستعينوا } ، فيكون مثل { اعدلوا هو أقرب للتقوى } أي العدل أقرب ، قاله البجلي.
وقيل : يعود على إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه ، قاله الأخفش.
وقيل : على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة.
وقيل : يعود على الكعبة ، لأن الأمر بالصلاة إليها.
وقيل : يعود على جميع الأمور التي أمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها ، من قوله : { اذكروا نعمتي } إلى { واستيعنوا }.
وقيل : المعنى على التثنية ، واكتفى بعوده على أحدهما ، فكأنه قال : وإنهما كقوله : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها } في بعض التأويلات ، وكقوله : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } ، وقول الشاعر :
إن شرخ الشباب والشعر الأسود ما لم يعاص كان جنونا . . .
فهذه سبعة أقوال فيما يعود الضمير عليه ، وأظهرها ما بدأنا به أولاً ، قال مؤرج في عود الضمير : لأن الصلاة أهم وأغلب ، كقوله تعالى : { انفضّوا إليها } ، انتهى.
يعني أن ميل أولئك الذين انصرفوا في الجمعة إلى التجارة أهم وأغلب من ميلهم إلى اللهو ، فلذلك كان عود الضمير عليها ، وليس يعني أن الضميرين سواء في العود ، لأن العطف بالواو يخالف العطف بأو ، فالأصل في العطف بالواو مطابقة الضمير لما قبله في تثنية وجمع ، وأما العطف بأو فلا يعود الضمير فيه إلا على أحد ما سبق.
ومعنى كبر الصلاة : ثقلها وصعوبتها على من يفعلها مثل قوله تعالى : { كبر على المشركين ما تدعون إليه } أي شق ذلك وثقل.
{ إلا على الخاشعين } : استثناء مفرغ ، لأن المعنى : وإنها لكبيرة على كل أحد إلا على الخاشعين ، وهم المتواضعون المستكينون ، وإنما لم تشق على الخاشعين ، لأنها منطوية على أوصاف هم متحلون بها لخشوعهم من القيام لله والركوع له والسجود له والرجاء لما عنده من الثواب.

فلما كان مآل أعمالهم إلى السعادة الأبدية ، سهل عليهم ما صعب على غيرهم من المنافقين والمرائين بأعمالهم الذين لا يرجون لها نفعاً.
ويجوز في { الذين } الاتباع والقطع إلى الرفع أو النصب ، وذلك صفة مدح ، فالقطع أولى بها.
و { يظنون } معناه : يوقنون ، قاله الجمهور ، لأن من وصف بالخشوع لا يشك أنه ملاق ربه ويؤيده أن في مصحف عبد الله الذين يعلمون.
وقيل معناه : الحسبان ، فيحتاج إلى مصحح لهذا المعنى ، وهو ما قدّروه من الحذف ، وهو بذنوبهم فكأنهم يتوقعون لقاء ربهم مذنبين ، والصحيح هو الأول ، ومثله { إني ظننت أني ملاق حسابيه } فظنوا أنهم مواقعوها.
وقال دريد :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج . . .
سراتهم في السائريّ المسرّد
قال ابن عطية : قد يوقع الظن موقع اليقين في الأمور المتحققة ، لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحس.
لا تقول العرب في رجل مرئيّ حاضر : أظن هذا إنساناً ، وإنما نجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحس ، انتهى.
والظن في كلا استعماليه من اليقين ، أو الشك يتعدّى إلى اثنين ، وتأتي بعد الظن أن الناصبة للفعل وأنّ الناصبة للاسم الرافعة للخبر فتقول : ظننت أن تقوم ، وظننت أنك تقوم.
وفي توجيه ذلك خلاف.
مذهب سيبويه : أن أن وإن كل واحدة منهما مع ما دخلت عليه تسد مسد المفعولين ، وذلك بجريان المسند والمسند إليه في هذا التركيب.
ومذهب أبي الحسن وأبي العباس : أن أن وما عملت فيه في موضع مفعول واحد أول ، والثاني مقدّر ، فإذا قلت : ظننت أن زيداً قائم ، فتقديره : ظننت قيام زيد كائناً أو واقعاً ، والترجيح بين المذهبين يذكر في علم النحو.
{ أنهم ملاقوا ربهم } ، الملاقاة : مفاعلة تكون من اثنين ، لأن من لاقاك فقد لاقيته.
وقال المهدوي والماوردي وغيرهما : الملاقاة هنا ، وإن كانت صيغتها تقتضي التشريك ، فهي من الواحد كقولهم : طارقت النعل ، وعاقبت اللص ، وعافاك الله ، قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، لأن لقي يتضمن معنى لاقي ، وليست كذلك الأفعال كلها ، بل فعل خلاف في المعنى لفاعل ، انتهى كلامه.
ويحتاج إلى شرح ، وذلك أنه ضعفه من حيث إن مادة لقي تتضمن معنى الملاقاة ، بمعنى أن وضع هذا الفعل ، سواء كان مجرداً أو على فاعل ، معناه واحد من حيث إن من لقيك فقد لقيته ، فهو لخصوص مادة يقتضي المشاركة ، ويستحيل فيه أن يكون لواحد.
وهذا يدل على أن فاعل يكون لموافقة الفعل المجرد ، وهذا أحد معاني فاعل ، وهو أن يوافق الفعل المجرد.
وقول ابن عطية : وليست كذلك الأفعال كلها كلام صحيح ، أي ليست الأفعال مجردها بمعنى فاعل ، بل فاعل فيها يدل على الاشتراك.

وقوله : بل فعل خلاف فاعل يعني بل المجرد فيها يدل على الانفراد ، وهو خلاف فاعل ، لأنه يدل على الاشتراك ، فضعف بأن يكون فاعل من اللقاء من باب : عاقبت اللص ، حيث إن مادة اللقاء تقتضي الاشتراك ، سواء كان بصيغة المجرد أو بصيغة فاعل.
وهذه الإضافة غير محضة ، لأنها إضافة اسم الفاعل بمعنى الاستقبال.
وقد تقدم لنا الكلام على اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال ، أو الاستقبال بالنسبة إلى أعماله في المفعول ، وإضافته إليه ، وإضافته إلى الرب ، وإضافة الرب إليهم في غاية من الفصاحة ، وذلك أن الرب على أي محامله حملته فيه دلالة على الإحسان لمن يربه ، وتعطف بين لا يدل عليه غير لفظ الرب.
وقد اختلف المفسرون في معنى ملاقاة ربهم ، فحمله بعضهم على ظاهره من غير حذف ولا كناية بأن اللقاء هو رؤية الباري تعالى ، ولا لقاء أعظم ولا أشرف منها ، وقد جاءت بها السنة المتواترة ، وإلى اعتقادها ذهب أكثر المسلمين ، وقيل ذلك على حذف مضاف ، أي جزاء ربهم ، لأن الملاقاة بالذوات مستحيلة في غير الرؤية ، وقيل ذلك كناية عن انقضاء أجلهم كما يقال لمن مات قد لقي الله ، ومنه قول الشاعر :
غداً نلقى الأحبة . . .
محمداً وصحبه
وكنى بالملاقاة عن الموت ، لأن ملاقاة الله متسبب عن الموت ، فهو من إطلاق المسبب ، والمراد منه السبب ، وذلك أن من كان يظن الموت في كل لحظة لا يفارق قلبه الخشوع ، وقيل ذلك على حذف مضاف أخص من الجزاء ، وهو الثواب ، أي ثواب ربهم.
فعلى هذا القول ، والقول الأول ، يكون الظن على بابه من كونه يراد به الترجيح ، وعلى تقدير الجزاء ، أو كون الملاقاة يراد بها انقضاء الأجل ، يكون الظن يراد به التيقن.
وقد نازعت المعتزلة في كون لفظ اللقاء لا يراد به الرؤية ولا يفيدها.
ألا ترى إلى قوله تعالى : { فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه } والمنافق لا يرى ربه { واعلموا أنكم ملاقوه } ويتناول الكافر والمؤمن؟ وفي الحديث : « لقي الله وهو عليه غضبان » إلى غير ذلك مما ذكروه.
وقد تكلم على ذلك أصحابنا.
ومسألة الرؤية يتكلم عليها في أصول الدين.
{ وأنهم إليه راجعون } : اختلف في الضمير في إليه على من يعود ، فظاهر الكلام والتركيب الفصيح أنه يعود إلى الرب ، وأن المعنى : وأنهم إلى ربهم راجعون ، وهو أقرب ملفوظ به.
وقيل : يعود على اللقاء الذي يتضمنه ملاقو ربهم.
وقيل : يعود على الموت.
وقيل : على الإعادة ، وكلاهما يدل عليه ملاقوا.
وقد تقدم شرح الرجوع ، فأغنى عن إعادته هنا.
وقيل : بالقول الأول ، وهو أن الضمير يعود على الرب ، فلا يتحقق الرجوع ، فيحتاج في تحققه إلى حذف مضاف ، التقدير : إلى أمر ربهم راجعون.
وقيل : المعنى بالرجوع : الموت.
وقيل : راجعون بالإعادة في الآخرة ، وهو قول أبي العالية.
وقيل : راجعون إلى أن لا يملك أحدهم ضراً ولا نفعاً لغيره ، كما كانوا في بدء الخلق.
وقيل : راجعون ، فيجزيهم بأعمالهم ، وليس في قوله : وأنهم إليه راجعون دلالة للمجسمة والتناسخية على كون الأرواح قديمة ، وإنما كانت موجودة في عالم الروحانيات.
قالوا : لأن الرجوع إلى الشيء المسبوق بالكون عنده.

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)

الفضل : الزيادة ، واستعماله في الخير ، وفعله فعل يفعل ، وأصله أن يتعدى بحرف الجر ، وهو على ثم بحذف على ، على حد قول الشاعر ، وقد جمع بين الوجهين :
وجدنا نهشلاً فضلت فقيما . . .
كفضل ابن المخاض على الفصيل
وأما في الفضلة من الشيء ، وهي البقية ، فيقال : فضل يفضل ، كالذي قدمناه ، وفضل يفضل ، نحو : سمع يسمع ، وفضل يفضل ، بكسرها من الماضي ، وضمها من المضارع ، وقد أولع قوم من النحويين بإجازة فتح ضاد فضلت في البيت وكسرها ، والصواب الفتح.
الجزاء : القضاء عن المفضل والمكافأة ، قال الراجز :
يجزيه رب العرش عني إذ جزى . . .
جنات عدن في العلاليّ العلا
والإجزاء : الإغناء.
قبول الشيء : التوجه إليه ، والفعل قبل يقبل ، والقبل : ما واجهك ، قال القطامي :
فقلت للركب لما أن علا بهم . . .
من عن يمين الحبيا نظرة قبل
الشفاعة : ضم غيره إلى وسيلته ، والشفعة : ضم الملك ، الشفع : الزوج ، والشفاعة منه ، لأن الشفاعة والمشفوع له : شفع ، وقال الأحوص :
كان من لامني لأصرمها . . .
كانوا لليلى بلومهم شفعوا
وناقة شفوع : خلفها ولد.
وقيل : خلفها ولد ، وفي بطنها ولد.
الأخذ : ضد الترك ، والأخذ : القبض والإمساك ، ومنه قيل للأسير : أخيذ ، وتحذف فاؤه في الأمر منه بغير لام ، وقلّ الإتمام.
العدل : الفداء ، والعدل : ما يساويه قيمة وقدراً ، وإن لم يكن من جنسه ، وبكسر العين : المساوي في الجنس والجرم.
ومن العرب من يكسر العين من معنى الفدية ، وواحد الأعدال بالكسر لا غير ، والعدل : المقبول القول من الناس ، وحكي فيه أيضاً كسر العين.
وقال ثعلب : العدل : الكفيل والرشوة ، قال الشاعر :
لا يقبل الصرف فيها نهاب العدلا . . .
النصر : العون ، أرض منصورة : ممدودة بالمطر ، قال الشاعر :
أبوك الذي أجدى علي بنصره . . .
وأمسك عني بعده كل قاتل
وقال الآخر :
إذا ودّع الشهر الحرام فودعي . . .
بلاد تميم وانصري أرض عامر
والنصر : العطاء ، والانتصار : الانتقام.
النجاة : التنجية من الهلكة بعد الوقوع فيها ، والأصل : الإلقاء بنجوة ، قال الشاعر :
ألم تر للنعمان كان بنجوة . . .
من الشر لو أن امرأ كان ناجيا
الآل : قيل بمعنى الأهل ، وزعم أن ألفه بدل عن هاء ، وأن تصغيره أهيل ، وبعضهم ذهب إلى أن ألفه بدل من همزة ساكنة ، وتلك الهمزة بدل من هاء ، وقيل : ليس بمعنى الأهل لأن الأهل القرابة ، والآل من يؤول من قرابة أو ولي أو مذهب ، فألفه بدل من واو.
ولذلك قال يونس : في تصغيره أويل ، ونقله الكسائي نصاً عن العرب ، وهذا اختيار أبي الحسن بن الباذش ، ولم يذكر سيبويه في باب البدل أن الهاء تبدل همزة ، كما ذكر أن الهمزة تبدل هاء في : هرقت ، وهيا ، وهرحت ، وهياك.
وقد خصوا آلاً بالإضافة إلى العلم ذي الخطر ممن يعلم غالباً ، فلا يقال : آل الإسكاف والحجام ، قال الشاعر :

نحن آل اللَّه في بلدتنا . . .
لم نزل آلا على عهد ارم
قال الأخفش : لا يضاف آل إلا إلى الرئيس الأعظم ، نحو : آل محمد صلى الله عليه وسلم ، وآل فرعون لأنه رئيسهم في الضلالة ، قيل : وفيه نظر ، لأنه قد سمع عن أهل اللغة في البلدان فقالوا : آل المدينة ، وآل البصرة.
وقال الكسائي : لا يجوز أن يقال : فلان من آل البصرة ، ولا من آل الكوفة ، بل يقال : من أهل البصرة ، ومن أهل الكوفة ، انتهى قوله.
وقد سمع إضافته إلى اسم الجنس وإلى الضمير ، قال الشاعر :
وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك . . .
وقال هدبة :
أنا الفارس الحامي حقيقة والدي . . .
وآلي كما تحمي حقيقة آلكا
وقد اختلف في اقتباس جواز إضافته إلى المضمر ، فمنع من ذلك الكسائي ، وأبو جعفر النحاس ، وأبو بكر الزبيدي ، وأجاز ذلك غيرهم.
وجمع بالواو والنون رفعاً وبالياء والنون جراً ونصباً ، كما جمع أهل فقالوا : آلون.
والآل : السراب ، يجمع على أفعال ، قالوا : أأوال ، والآل : عمود الخيمة ، والآل : الشخص ، والآلة : الحالة الشديدة.
فرعون : لا ينصرف للعلمية والعجمة ، وسيأتي الكلام عليه.
سامه : كلفه العمل الشاق ، قال الشاعر :
إذا ما الملك سام الناس خسفا . . .
أبينا أن نقر الخسف فينا
وقيل معناه : يعلمونكم من السيماء ، وهي العلامة ، ومنه : تسويم الخيل.
وقيل : يطالبونكم من مساومة البيع.
وقيل : يرسلون عليكم من إرسال الإبل للرّعي ، وقال أبو عبيدة : يولونكم ، يقال سامه خطة خسف : أي أولاه إياها.
السوء : مصدر أساء ، يقال : ساء يسوء ، وهو متعد ، وأساء الرجل : أي صار ذا سوء ، قال الشاعر :
لئن ساءني أن نلتني بمساءة . . .
لقد سرّني أني خطرت ببالك
ومعنى ساءه : أحزنه ، هذا أصله ، ثم يستعمل في كل ما يستقبح ، ويقال : أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفعل : يراد قبحهما.
الذبح : أصله الشق ، قال الشاعر :
كأن بين فكها والفك . . .
فأرة مسك ذبحت في سك
وقال :
كأنما الصاب في عينيك مذبوح . . .
والذبحة : داء في الحلق ، يقال منه : ذبحه يذبحه ذبحاً ، والذبح : المذبوح.
الاستحياء : هنا الإبقاء حياً ، واستفعل فيه بمعنى أفعل : استحياه وأحياه بمعنى واحد ، نحو قولهم : أبل واستبل ، أو طلب الحياء ، وهو الفرج ، فيكون استفعل هنا للطلب ، نحو : استغفر ، أي تطلب الغفران.
وقد تقدم الكلام على استحيا من الحياء في قوله : { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً } النساء : اسم يقع للصغار والكبار ، وهو جمع تكسير لنسوة ، ونسوة على وزن فعلة ، وهو جمع قلة ، خلافاً لابن السرّاج ، إذ زعم أن فعلة اسم جمع لا جمع تكسير ، وعلى القولين لم يلفظ له بواحد من لفظه.
والواحدة : امرأة.
البلاء : الاختبار ، بلاه يبلوه بلاء : اختبره ، ثم صار يطلق على المكروه والشدة ، يقال : أصاب فلاناً بلاء : أي شدة ، وهو راجع لمعنى البلى ، كأن المبتلى يؤول حاله إلى البلى ، وهو الهلاك والفناء.

ويقال : أبلاه بالنعمة ، وبلاه بالشدة.
وقد يدخل أحدهما على الآخر فيقال : بلاه بالخير ، وأبلاه بالشر ، قال الشاعر :
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم . . .
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
فاستعملهما بمعنى واحد ، ويبنى منه افتعل فيقال : ابتلى.
{ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } : تقدم الكلام في شرح هذا ، وأعيد نداؤهم ثانياً على طريق التوكيد ، ولينبهوا لسماع ما يرد عليهم من تعداد النعم التي أنعم الله بها عليهم ، وتفصيلها نعمة نعمة ، فالنداء الأول للتنبيه على طاعة المنعم ، والنداء الثاني للتنبيه على شكر النعم.
{ وأني فضلتكم } : ثم عطف التفضيل على النعمة ، وهو من عطف الخاص على العام لأن النعمة اندرج تحتها التفضيل المذكور ، وهو ما انفردت به الواو دون سائر حروف العطف ، وكان أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي يذكر لنا هذا النحو من العطف ، وأنه يسمى بالتجريد ، كأنه جرد من الجملة وأفرد بالذكر على سبيل التفضيل ، وقال الشاعر :
أكر عليهم دعلجاً ولبانه . . .
إذا ما اشتكى وقع القناة تحمحما
دعلج : هنا اسم فرس ، ولبانه : صدره ، ولأبي الفتح بن جني كلام في ذلك يكشف من سر الصناعة له.
{ على العالمين } : أي عالمي زمانهم ، قاله الحسن ومجاهد وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم ، أو على كل العالمين ، بما جعل فيهم من الأنبياء ، وجعلهم ملوكاً وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين ، وذلك خاصة لهم دون غيرهم.
فيكون عاماً والنعمة مخصوصة.
قالوا : ويدفع هذا القول : { كنتم خير أمة } أو على الجم الغفير من الناس ، يقال : رأيت عالماً من الناس ، يراد به الكثرة.
وعلى كل قول من هذه الأقوال الثلاثة لا يلزم منه التفضيل على هذه الأمة ، لأن من قال بالعموم خص النعمة ، ولا يلزم التفضيل على كل عالم بشيء خاص التفضيل من جميع الوجوه ، ومن قال بالخصوص فوجه عدم التفضيل مطلقاً ظاهر.
وقال القشيري : أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال : { وأني فضلتكم على العالمين } ، وأشهد المسلمين فضل نفسه فقال : { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } فشتان بين من مشهوده فضل ربه ، ومن مشهوده فضل نفسه.
فالأول يقتضي الثناء ، والثاني يقتضي الإعجاب ، انتهى.
وآخره ملخص من كلامه.
.
{ واتقوا يوماً } أمر بالاتقاء ، وكأنهم لما أمروا بذكر النعم وتفضيلهم ناسب أن من أنعم عليه وفضل يكون محصلاً للتقوى.
فأمروا بالإدامة على التقوى ، أو بتحصيل التقوى ، إن عرض لهم خلل وانتصاب يوماً ، أما على الظرف والمتقى محذوف تقديره : اتقوا العذاب يوماً ، وإما على المفعول به اتساعاً أو على حذف مضاف ، أي عذاب يوم ، أو هول يوم.
وقيل معناه : جيئوا متقين ، وكأنه على هذا التقدير لم يلحظ متعلق الاتقاء ، فإذ ذاك ينتصب يوماً على الظرف.

قال القشيري : العوام خوفهم بعذابه ، فقال : { واتقوا يوماً } ، { واتقوا النار } والخواص خوفهم بصفاته ، فقال : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله } وما تكون في شأن الآية.
وخواص الخواص خوفهم بنفسه ، فقال : { ويحذركم الله نفسه } وقرأ ابن السماك العدوي لا تجزي من أجزأ ، أي أغني ، وقيل جزا ، واجزا ، بمعنى واحد ، وهذه الجملة صفة لليوم ، والرابط محذوف ، فيجوز أن يكون التقدير : لا تجزي فيه ، فحذف حرف الجر ، فاتصل الضمير بالفعل ، ثم حذف الضمير ، فيكون الحذف بتدريج أو عداه إلى الضمير أولاً اتساعاً.
وهذا اختيار أبي عليّ ، وإياه نختار.
قال المهدوي : والوجهان ، يعني تقديره : لا تجزي فيه ولا تجزيه جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج.
وقال الكسائي : لا يكون المحذوف إلا لهاء ، قال : لا يجوز أن تقول : هذا رجل قصدت ، ولا رأيت رجلاً أرغب ، وأنت تريد قصدت إليه وأرغب فيه ، انتهى.
وحذف الضمير من الجملة الواقعة صفة جائز ، ومنه قوله :
فما أدري أغيرهم تناء . . .
وطول العهد أم مال أصابوا
يريد : أصابوه ، وما ذهبوا إليه من تعيين الربط أنه فيه ، أو الضمير هو الظاهر ، وقد يجوز على رأي الكوفيين أن يكون ثم رابط ، ولا تكون الجملة صفة ، بل مضاف إليها يوم محذوف لدلالة ما قبله عليه ، التقدير : واتقوا يوماً يوم لا تجزي ، فحذف يوم لدلالة يوماً عليه ، فيصير المحذوف في الإضافة نظير الملفوظ به في نحو قوله تعالى : { هذا يوم لا ينطقون } ونظير يوم لا تملك ، لا تحتاج الجملة إلى ضمير ، ويكون إعراب ذلك المحذوف بدلاً ، وهو بدل كل من كل ، ومنه قول الشاعر :
رحم الله أعظما دفنوها . . .
بسجستان طلحة الطلحات
في رواية من خفض التقدير أعظم طلحة.
وقد قالت العرب : يعجبني الإكرام عندك سعد ، بنية : يعجبني الإكرام إكرام سعد.
وحكى الكسائي عن العرب : أطعمونا لحماً سميناً شاة ذبحوها ، أي لحم شاة.
وحكى الفراء عن العرب : أما والله لو تعلمون العلم الكبيرة سنه ، الدقيق عظمه ، على تقديره : لو تعلمون علم الكبيرة سنه ، فحذف الثاني اعتماداً على الأول ، ولم يجز البصريون ما أجازه الكوفيون من حذف المضاف وترك المضاف إليه على خفضه في : يعجبني القيام زيد ، ولا يبعد ترجيح حذف يوم لدلالة ما قبله عليه بهذا المسموع الذي حكاه الكسائي والفراء عن العرب.
ويحسن هذا التخريج كون المضاف إليه جملة ، فلا يظهر فيها إعراب ، فيتنافر مع إعراب ما قبله ، فإذا جاز ذلك في نثرهم مع التنافر ، فلأن يجوز مع عدم التنافر أولى.
ولم أر أحداً من المعربين والمفسرين خرجوا هذه الجملة هذا التخريج ، بل هم مجمعون على أن الجملة صفة ليوم ، ويلزم من ذلك حذف الرابط أيضاً من الجمل المعطوفة على { لا تجزي } ، أي ولا يقبل منها شفاعة فيه ، ولا يؤخذ منها عدل فيه ، ولا هم ينصرون فيه ، وعلى ذلك التخريج لا يحتاج إلى إضمار هذه الرّوابط.

{ نفس عن نفس شيئاً } كلاهما نكرة في سياق النفي فتعم.
ومعنى التنكير : أن نفساً من الأنفس لا تجزي عن نفس من الأنفس شيئاً من الأشياء ، قال الزمخشري : وفيه إقناط كلي قاطع من المطامع ، وهذا على مذهبه في أن لا شفاعة.
وقال بعضهم : التقدير عن نفس كافرة ، فقيدها بالكفر ، وفيه دلالة على أن النفس تجزي عن نفس مؤمنة ، وذلك بمفهوم الصفة.
ويأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى عند الكلام على قوله : { ولا يقبل منها شفاعة }.
وقرأ أبو السرار الغنوي : لا تجزي نسمة عن نسمة ، وانتصاب شيئاً على أنه مفعول به ، أي لا يقضي شيئاً ، أي حقاً من الحقوق ، ويجوز أن يكون انتصابه على المصدر ، أي : ولا تجزي شيئاً من الجزاء ، قاله الأخفش ، وفيه إشارة إلى القلة ، كقولك : ضربت شيئاً من الضرب.
.
{ ولا يقبل منها شفاعة } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو : ولا تقبل بالتاء ، وهو القياس والأكثر ، ومن قرأ بالياء فهو أيضاً جاز فصيح لمجاز التأنيث ، وحسنة أيضاً الفصل بين الفعل ومرفوعه.
وقرأ سفيان : ولا يقبل بفتح الياء ونصب شفاعة على البناء للفاعل ، وفي ذلك التفات وخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب ، لأن قبله : { اذكروا نعمتي } و { إني فضلتكم } ، وبناؤه للمفعول أبلغ لأنه في اللفظ أعم ، وإن كان يعلم أن الذي لا يقبل هو الله تعالى.
والضمير في منها عائد على نفس المتأخرة لأنها أقرب مذكور ، أي لا يقبل من النفس المستشفعة شفاعة شافع ، ويجوز أن يعود الضمير على نفس الأولى ، أي ولا يقبل من النفس التي لا تجزي عن نفس شيئاً شفاعة ، هي بصدد أن لو شفعت لم يقبل منها ، وقد يظهر ترجيح عودها إلى النفس الأولى ، لأنها هي المحدث عنها في قوله : { لا تجزي نفس عن نفس } ، والنفس الثانية هي مذكورة على سبيل الفضلة لا العمدة.
وظاهر قوله : { ولا يقبل منها شفاعة } نفي القبول ووجود الشفاعة ، ويجوز أن يكون من باب :
على لا حب لا يهتدى بمناره . . .
نفي القبول ، والمقصود نفي الشفاعة ، كأنه قيل : لا شفاعة ، فتقبل.
وقد اختلف المفسرون في فهم هذا على ستة أقوال : الأول : أنه لفظ عام لمعنى خاص ، والمراد : الذين قالوا من بني إسرائيل نحن أبناء الله ، وأبناء أنبيائه ، وأنهم يشفعون لنا عند الله ، فرد عليهم ذلك ، وأويسوا منه لكفرهم ، وعلى هذا تكون النفس الأولى مؤمنة ، والثانية كافرة ، والكافر لا تنفعه شفاعة لقوله تعالى : { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } الثاني : معناه لا يجدون شفيعاً تقبل شفاعته ، لعجز المشفوع فيه عنه ، وهو قول الحسن.
الثالث : معناه لا يجيب الشافع المشفوع فيه إلى الشفاعة ، وإن كان لو شفع لشفع.
الرابع : معناه حيث لم يأذن الله في الشفاعة للكفار ، ولا بد من إذن من الله بتقدم الشافع بالشفاعة لقوله :

{ ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } الخامس : معناه ليس لها شفاعة ، فيكون لها قبول ، وقد تقدم هذا القول.
السادس : أنه نفي عام ، أي لا يقبل في غيرها ، لا مؤمنة ولا كافرة ، في مؤمنة ولا كافرة ، قاله الزمخشري.
وأجمع أهل السنة أن شفاعة الأنبياء والصالحين تقبل في العصاة من المؤمنين ، خلافاً للمعتزلة ، قالوا : الكبيرة تخلد صاحبها في النار ، وأنكروا الشفاعة ، وهم على ضربين : طائفة أنكرت الشفاعة إنكاراً كلياً وقالوا : لا تقبل شفاعة أحد في أحد ، واستدلوا بظواهر آيات ، وخص تلك الظواهر أصحابنا بالكفار لثبوت الأحاديث الصحيحة في الشفاعة.
وطائفة أنكرت الشفاعة في أهل الكبائر ، قالوا : وإنما تقبل في الصغائر.
وقال في المنتخب : أجمعت الأمة على أن لمحمد صلى الله عليه وسلم شفاعة في الآخرة ، واختلفوا لمن تكون.
فذهبت المعتزلة إلى أنها للمستحقين الثواب ، وتأثيرها في أن تحصل زيادة من المنافع على قدر ما استحقوه.
وقال أصحابنا : تأثيرها في إسقاط العذاب عن المستحقين ، إما بأن لا يدخلوا النار ، وإما في أن يخرجوا منها بعد دخولها ويدخلون الجنة ، واتفقوا على أنها ليست للكفار ، ثم ذكر نحواً من ست أوراق في الاستدلال للطائفتين ، ورد بعضهم على بعض ، يوقف عليها في ذلك الكتاب.
{ ولا يؤخذ منها عدل } العدل : الفدية ، قاله ابن عباس وأبو العالية ، وسميت عدلاً لأن المفدى يعدل بها : أي يساويها ، أو البدل : أي رجل مكان رجل.
وروي عن ابن عباس : أو حسنة مع الشرك ثلاثة أقوال.
{ ولا هم ينصرون } : أتى بالضمير مجموعاً على معنى نفس ، لأنها نكرة في سياق النفي فتعم ، كقوله تعالى : { فما منكم من أحد عنه حاجزين } وأتى به مذكراً لأنه أريد بالنفوس الأشخاص كقولهم : ثلاثة أنفس ، وجعل حرف النفي منسحباً على جملة اسمية ليكون الضمير مذكوراً مرتين ، فيتأكد ذكر المنفي عنه النصر بذكره مرتين ، وحسن الحمل على المعنى كون ذلك في آخر فاصلة ، فيحصل بذلك التناسب في الفواصل ، بخلاف أن لو جاء ولا تنصر ، إذ كان يفوت التناسب.
ويحتمل رفع هذا الضمير وجهين من الإعراب.
أحدهما : وهو المتبادر إلى أذهان المعربين أنه مبتدأ ، والجملة بعده في موضع رفع على الخبر.
والوجه الثاني : وهو أغمض الوجهين وأغربهما أنه مفعول لم يسم فاعله ، يفسر فعله الفعل الذي بعده ، وتكون المسألة من باب الاشتغال ، وذلك أن لا هي من الأدوات التي هي أولى بالفعل ، كهمزة الاستفهام.
فكما يجوز في : أزيد قائم ، وأزيد يضرب ، الرفع على الاشتغال ، فكذلك هذا ، ويقوي هذا الوجه أنه تقدم جملة فعلية.
والحكم في باب الاشتغال أنه إذا تقدمت جملة فعلية وعطف عليها بشرط العطف المذكور في ذلك الباب ، فالأفصح الحمل على الفعل ، ويجوز الابتداء كما ذكرنا أولاً ، ويقوي عود الضمير إلى نفس الثانية بناء الفعل للمفعول ، إذا لو كان عائداً على نفس الأولى لكان مبنياً للفاعل ، كقوله : لا تجزي.

ومن المفسرين من جعل الضمير في ولا هم عائداً على النفسين معاً ، قال : لأن التثنية جمع قالوا ، وفي معنى النصر للمفسرين هنا ثلاثة أقوال : أحدها : أن معناه لا يمنعون من عذاب الله.
الثاني : لا يجدون ناصراً ينصرهم ولا شافعاً يشفع لهم.
الثالث : لا يعاونون على خلاصهم وفكاكهم من موبقات أعمالهم.
وثلاثة الأقوال هذه متقاربة المعنى ، وجاء النفي لهذه الجمل هنا بلا المستعملة لنفي المستقبل في الأكثر ، وكذلك هذه الأشياء الأربعة هي مستقبلة ، لأن هذا اليوم لم يقع بعد.
وترتيب هذه الجمل في غاية الفصاحة ، وهي على حسب الواقع في الدنيا ، لأن المأخوذ بحق ، إما أن يؤدى عنه الحق فيخلص ، أو لا يقضى عنه فيشفع فيه ، أو لا يشفع فيه فيفدى ، أو لا يفدى فيتعاون بالإخوان على تخليصه.
فهذه مراتب يتلو بعضها بعضاً.
فلهذا ، والله أعلم ، جاءت مترتبة في الذكر هكذا.
ولما كان الأمر مختلفاً عند الناس في الشفاعة والفدية ، فمن يغلب عليه حب الرياسة قدم الشفاعة على الفدية ، ومن يغلب عليه حب المال قدم الفدية على الشفاعة ، جاءت هذه الجمل هنا مقدماً فيها الشفاعة ، وجاءت الفدية مقدمة على الشفاعة في جملة أخرى ، ليدل ذلك على اختلاف الأمرين.
وبدىء هنا بالشفاعة ، لأن ذلك أليق بعلوّ النفس ، وجاء هنا بلفظ القبول ، وهناك بلفظ النفع ، إشارة إلى انتفاء أصل الشيء ، وانتفاء ما يترتب عليه.
وبدىء هنا بالقبول ، لأنه أصل للشيء المترتب عليه ، فأعطى المتقدم ذكر المتقدم وجوداً ، وأخر هناك النفع إعطاء للمتأخر ذكر المتأخر وجوداً.
{ وإذ نجيناكم من آل فرعون } : تقدم الكلام على إذ في قوله : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل } ومن أجاز نصب إذ هناك مفعولاً به بإضمار اذكر أو ادّعى زيادتها ، فقياس قوله هناك إجازته هنا ، إذ لم يتقدم شيء تعطفه عليه إلا إن ادّعى مدّع أن إذ معطوفة على معمول اذكروا ، كأنه قال : اذكروا نعمتي وتفضيلي إياكم ، ووقت تنجيتكم.
ويكون قد فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة الاعتراض التي هي : { واتقوا يوماً }.
وقد قدمنا أنا لا نختار أن يكون مفعولاً به بأذكر ، لا ظاهرة ولا مقدرة ، لأن ذلك تصرف فيها ، وهي عندنا من الظروف التي لا يتصرف فيها إلا بإضافة اسم زمان إليها على ما قرر في النحو.
وإذا كان كذلك ، فالذي نختاره أن ينتصب على الظرف ، ويكون العامل فيه فعلاً محذوفاً يدل عليه ما قبله ، تقديره : وأنعمنا عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون ، وتقدير هذا الفعل أولى من كل ما قدمناه.
وخرج بقوله : أنجيناكم إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه من ضمير المتكلم الذي لا يدل على تعظيم في قوله : { نعمتي التي أنعمت } ، لأن هذا الفعل الذي هو الإنجاء من عدوّهم ، هو من أعظم ، أو أعظم النعم ، فناسب الأعظم نسبته للمعظم نفسه.

وقرىء : أنجيناكم ، والهمزة للتعدية إلى المفعول ، كالتضعيف في نجيناكم.
ونسبة هذه القراءة للنخعي.
وذكر بعضهم أنه قرأ : أنجيتكم ، فيكون الضمير موافقاً للضمير في نعمتي ، والمعنى : خلصتكم من آل فرعون ، وجعل التخليص منهم لأنهم هم الذين كانوا يباشرونهم بهذه الأفعال السيئة ، وإن كان أمرهم بذلك فرعون ، وآل فرعون هنا أهل مصر ، قاله مقاتل ، أو أهل بيته خاصة ، قاله أبو عبيد ، أو أتباعه على ذنبه ، قاله الزجاج ، ومنه : { وأغرقنا آل فرعون } وهم أتباعه على ذنبه ، إذ لم يكن له أب ، ولا بنت ، ولا ابن ، ولا عم ، ولا أخ ، ولا عصبة ، وأدخلوا آل فرعون أشد العذاب.
" وروي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : من آلك؟ فقال : «كل تقي» ".
ويؤيد القول الثاني : لا تحل الصدقة لمحمد وآل محمد.
والمراد بالآل هنا : آل عقيل ، وآل عباس ، وآل الحارث بن عبد المطلب ومواليهم.
وورد أيضاً أن آله : أزواجه وذريته ، فدل على أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم آل عام وآل خاص.
وفرعون : علم لمن ملك العمالقة ، كما قيل : قيصر لمن ملك الروم ، وكسرى لمن ملك الفرس ، والنجاشي لمن ملك الحبشة ، وتبع لمن ملك اليمن.
وقال السهيلي : هو اسم لكل من ملك القبط ومصر ، وقد اشتق منه : تفرعن الرجل ، إذا تجبر وعتا ، واسمه الوليد بن مصعب ، قاله ابن إسحاق ، وأكثر المفسرين ، أو فنطوس ، قاله مقاتل ، أو مصعب بن الريان ، حكاه ابن جرير ، أو مغيث ، ذكره بعض المفسرين ، أو قابوس ، وكنيته أبو مرة ، وهو من بني عمليق بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح.
وروي أنه من أهل اصطخر ، ورد إلى مصر فصار بها ملكاً ، لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية ، قاله المسعودي.
وقال ابن وهب : فرعون موسى هو فرعون يوسف ، قالوا : وهذا غير صحيح ، لأن بين دخول يوسف مصر ودخول موسى أكثر من أربعمائة سنة.
والصحيح أنه غيره.
وقيل : كان اسم فرعون يوسف الريان بن الوليد.
.
{ يسومونكم } : يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، وهي حكاية حال ماضية ، ويحتمل أن تكون في موضع الحال : أي سائميكم ، وهي حال من آل فرعون.
{ وسوء العذاب } : أشقه وأصعبه وانتصابه ، مبني على المراد بيسومونكم ، وفيه للمفسرين أقوال : السوم : بمعنى التكليف أو الإبلاء ، فيكون سوء العذاب على هذا القول مفعولاً ثانياً لسام ، أي يكلفونكم ، أو يولونكم سوء العذاب ، أو بمعنى : الإرسال ، أو الإدامة ، أو التصريف ، أي : يرسلونكم ، أو يديمونكم ، أو يصرفونكم في الأعمال الشاقة ، أو بمعن الرفع ، أي يرفعونكم إلى سوء العذاب ، أو الوسم ، أي : يعلمونكم من العلامة ، ومعناه : أن الأعمال الشاقة لكثرة مزاولتها تصير عليهم علامة بتأثيرها في جلودهم وملابسهم ، كالحدادة والنجارة ، وغير ذلك يكون وسماً لهم ، والتقدير : يعلمونكم بسوء العذاب.

وضعف هذا القول من جهة الاشتقاق ، لأنه لو كان كذلك لكان يسمونكم ، وهذا التضعيف ضعيف لأنه لم يقل إنه مأخوذ من الوسم ، وإنما معناه معنى الوسم ، وهو من السيمياء ، والسيماء مسوّمين في أحد تفاسيره بمعنى العلامة ، وأصول هذا سين وواو وميم ، وهي أصول يسومونكم ، ويكون فعل المجرد بمعنى فعل ، وهو مع الوسم مما اتفق معناه واختلفت أصوله : كدمث ، ودمثر ، وسبط ، وسبطر ، أو بمعنى الطلب بالزيادة من السوم في البيع ، أي : يطلبونكم بازدياد الأعمال الشاقة.
وعلى هذه الأقوال غير القولين الأولين يكون { سوء العذاب } مفعولاً على إسقاط حرف الجر.
وقال بعض الناس : ينتصب سوء العذاب نصب المصدر ، ثم قدره سوماً شديداً.
وسوء العذاب : الأعمال القذرة ، قاله السدي ، أو الحرث والزراعة والبناء وغير ذلك ، قاله بعضهم.
قال : وكان قومه جنداً ملوكاً ، أو الذبح ، أو الاستحياء المشار إليهما ، قاله الزجاج.
ورد ذلك بثبوت الواو في إبراهيم فقال : ويذبحون ، فدل على أنه عذبهم بالذبح وبغير الذبح.
وحكي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدماً في الأعمال من البناء والتخريب والزراعة والخدمة ، ومن لا يعمل فالجزية ، فذوو القوّة ينحتون السواري من الجبال حتى قرحت أعناقهم وأيديهم ودبرت ظهورهم من قطعها ونقلها ، وطائفة ينقلون له الحجارة والطين ويبنون له القصور ، وطائفة يضربون اللبن ويطبخون الآجر ، وطائفة نجارون وحدادون ، والضعفة جعل عليهم الخراج ضريبة يؤدونها كل يوم.
فمن غربت عليه الشمس قبل أن تؤديها غلت يده إلى عنقه شهراً.
والنساء يغزلن الكتان وينسجن.
وأصل نشأة بني إسرائيل بمصر نزول إسرائيل بها زمان ابنه يوسف بها على نبينا وعليهما السلام.
{ يذبحون أبناءهم } : قراءة الجمهور بالتشديد ، وهو أولى لظهور تكرار الفعل باعتبار متعلقاته.
وقرأ الزهري وابن محيصن : يذبحون خفيفاً من ذبح المجرد اكتفاء بمطلق الفعل ، وللعلم بتكريره من متعلقاته.
وقرأ عبد الله : يقتلون بالتشديد مكان يذبحون ، والذبح قتل ، ويذبحون بدل من يسومونكم ، بدل الفعل من الفعل ، نحو : قوله تعالى : { يلق أثاماً يضاعف له العذاب } وقول الشاعر :
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا . . .
تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا
ويحتمل أن تكون مما حذف منه حرف العطف لثبوته في إبراهيم.
وقول من ذهب إلى أن الواو زائدة لحذفها هنا ضعيف.
وقال الفراء : الموضع الذي حذفت فيه الواو تفسير لصفات العذاب ، والموضع الذي فيه الواو يبين أنه قد مسهم العذاب ، غير الذبح ، ويجوز أن يكون يذبحون : في موضع الحال ، من ضمير الرفع في : يسومونكم ، ويجوز أن يكون مستأنفاً.
وفي سبب الذبح والاستحياء أقوال وحكايات مختلفة ، الله أعلم بصحتها ، ومعظمها يدل على خوف فرعون من ذهاب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل.

والأبناء : الأطفال الذكور ، يقال : إنه قتل أربعين ألف صبي.
وقيل : أراد بالأبناء : الرّجال ، وسموا أبناء باعتبار ما كانوا قبل ، والأول أشهر.
والنساء هنا : البنات ، وسموا نساء باعتبار ما يؤلن إليه ، أو بالاسم الذي في وقته يستخدمن ويمتهن ، وقيل : أراد : النساء الكبار ، والأول أشهر.
{ ويستحيون نساءكم } : وفسر الاستحياء بالوجهين اللذين ذكرناهما عند كلامنا على المفردات ، وهو أن يكون المعنى : يتركون بناتكم أحياء للخدمة ، أو يفتشون أرحام نسائكم.
فعلى هذا القول ظاهره أن آل فرعون هم المباشرون لذلك ، ذكر أنه وكل بكل عشر نساء رجلاً يحفظ من تحمل منهن.
وقيل : وكل بذلك القوابل.
وقد قيل : إن الاستحياء هنا من الحياء الذي هو ضد القحة ، ومعناه أنهم يأتون النساء من الأعمال بما يلحقهم منه الحياء ، وقدم الذبح على الاستحياء لأنه أصعب الأمور وأشقها ، وهو أن يذبح ولد الرجل والمرأة اللذين كانا يرجوان النسل منه ، والذبح أشق الآلام.
واستحياء النساء على القول الأول ليس بعذاب ، لكنه يقع العذاب بسببه من جهة إبقائهن خدماً وإذاقتهن حسرة ذبح الأبناء ، إن أريد بالنساء الكبار ، أو ذبح الإخوة ، إن أريد الأطفال ، وتعلق العار بهن ، إذ يبقين نساء بلا رجال فيصرن مفترشات لأعدائهن.
وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الآمر بالقتل بغير حق والمباشر له شريكان في القصاص ، فإن الله تعالى أغرق فرعون ، وهو الآمر ، وآله وهم المباشرون.
وهذه مسألة يبحث فيها في علم الفقه ، وفيها خلاف بين أهل العلم.
{ وفي ذلك بلاء } : هو إشارة إلى ذبح الأبناء واستحياء النساء ، وهو المصدر الدال عليه الفعل نحو قوله تعالى : { ولمن صبر وغفر إن ذلك } وهو أقرب مذكور ، فيكون المراد بالبلاء : الشدة والمكروه.
وقيل : يعود إلى معنى الجملة من قوله يسومونكم مع ما بعده ، فيكون معنى البلاء كما تقدم.
وقيل : يعود على التنيجة ، وهو المصدر المفهوم من قوله : نجيناكم ، فيكون البلاء هنا : النعمة ويكون ذلكم قد أشير به إلى أبعد مذكور ، وهو أضعف من القول الذي قبله ، والمتبادر إلى الذهن والأقرب في الذكر القول الأول.
وفي قوله : { من ربكم عظيم } دليل على أن الخير والشرّ من الله تعالى ، بمعنى أنه خالقهما.
وفيه رد على النصارى ومن قال بقولهم : إن الخير من الله والشرّ من الشيطان ووصفه بعظيم ظاهر ، لأنه إن كان ذلكم إشارة إلى التنجية من آل فرعون ، فلا يخفى ما في ذلك من عظم النعمة وكثرة المنة ، وإن كان إشارة إلى ما بعد التنجي من السوم ، أو الذبح ، والاستحياء ، فذلك ابتلاء عظيم شاق على النفوس ، يقال إنه سخرهم فبنوا سبعة حوائط جائعة أكبادهم عارية أجسادهم ، وذبح منهم أربعين ألف صبي.
فأي ابتلاء أعظم من هذا وكونه عظيماً هو بالنسبة للمخاطب والسامع ، لا بالنسبة إلى الله تعالى ، لأنه يستحيل عليه اتصافه بالاستعظام.

قال القشيري : من صبر في الله على بلاء الله عوضه الله صحبة أوليائه.
هؤلاء بنو إسرائيل صبروا على مقاساة الضرّ من فرعون وقومه ، فجعل منهم أنبياء ، وجعل منهم ملوكاً ، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين ، انتهى.
ولم تزل النعم تمحو آثار النقم ، قال الشاعر :
نأسوا بأموالنا آثار رائدينا . . .
ولما تقدم الأمر بذكر النعم مجملة فيما سبق ، أمرهم بذكرها ثانية مفصلة ، فبدأ منها بالتفضيل ، ثم أمرهم باتقاء يوم لا خلاص فيه ، لا بقاض حق ، ولا شفيع ، ولا فدية ، ولا نصر ، لمن لم يذكر نعمه ، ولم يمتثل أمره ، ولم يجتنب نهيه ، وكان الأمر بالاتقاء مهماً هنا ، لأن من أخبر بأنه فضل على العالمين ربما استنام إلى هذا التفضيل ، فأعلم أنه لا بد مع ذلك من تحصيل التقوى وعدم الاتكال على مجرد التفضيل ، لأن من ابتدأك بسوابق نعمه ، يجب عليك أن تتقي لواحق نقمة.
ثم ثنى بذكر الإنجاء الذي به كان سبب البقاء بعد شدة اللأواء.
ثم بعد ذلك ذكر تفاصيل النعماء مما نص عليه إلى قوله : { اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم } فكان تعداد الآلاء مما يوجب جميل الذكر وجليل الثناء.
وسيأتي الكلام في ترتيب هذه النعم ، نعمة نعمة ، إن شاء الله تعالى.

وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)

الفرق : الفصل ، فرق بين كذا وكذا : فصل ، وفرق كذا : فصل بعضه من بعض ، ومنه : الفرق في شعر الرأس ، والفريق ، والفرقان ، والتفرق ، والفرق ، المفروق ، كالطحن.
والفرق ضده : الجمع ، ونظائره : الفصل ، وضده : الوصل ، والشق والصدع : وضدهما اللأم ، والتمييز : وضده الاختلاط.
وقيل : يقال فرق في المعانى ، وفرق في الأجسام ، وليس بصحيح.
البحر : مكان مطمئن من الأرض يجمع المياه ، ويجمع في القلة على أبحر ، وفي الكثرة على بحور وبحار ، وأصله قيل : الشق ، وقيل : السعة.
فمن الأول : البحيرة ، وهي التي شقت أذنها ، ومن الثاني : البحيرة ، المدينة المتسعة ، وفرس بحر : واسع العدو ، وتبحر في العلم : أي اتسع ، وقال :
انعق بضأنك في بقل تبحره . . .
من الأباطح وأحبسها بخلدان
وجاء استعماله في الماء الحلو والماء الملح ، قال تعالى : { وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج } وجاء استعماله للملح ، ويقال : هو الأصل ، فيه أنشد أحمد بن يحيى :
وقد عاد عذب الماء بحراً فزادني . . .
على مرض أن أبحر المشرب العذب
أي صار ملحاً.
الغرق : معروف ، والفعل منه فعل بكسر العين يفعل بالفتح ، قال :
وتارات يجمّ فيغرق . . .
والتغريق ، والتعويص ، والترسيب ، والتغييب ، بمعنى واحد.
النظر : تصويب المقلة إلى المرئيّ ، ويطلق على الرؤية ، وتعديته بإلى ، ويعلق ، وإن لم يكن من أفعال القلوب ، فلينظر أيها أزكى طعاماً ، ونظره وانتظره وانظره : أخره ، والنظرة : التأخير.
وعد في الخير والشر ، والوعد في الخير ، وأوعد في الشر ، والإيعاد والوعيد في الشر.
موسى : اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والعلمية.
يقال : هو مركب من مو : وهو الماء ، وشاو : هو الشجر.
فلما عرّب أبدلوا شينه سيناً ، وإذا كان أعجمياً فلا يدخله اشتقاق عربي.
وقد اختلفوا في اشتقاقه ، فقال مكيّ : موسى مفعل من أوسيت ، وقال غيره : هو مشتق من ماس يميس ، ووزنه : فعلى ، فأبدلت الياء واواً الضمة ما قبلها ، كما قالوا : طوبى ، وهي من ذوات الياء ، لأنها من طاب يطيب.
وكون وزنه فعلى هو مذهب المعربين.
وقد نص سيبويه على أن وزن موسى مفعل ، وذلك فيما لا ينصرف.
واحتج سيبويه في الأبنية على ذلك بأن زيادة الميم أولاً أكثر من زيادة الألف آخراً ، واحتج الفارسي على كونه مفعلاً لا فعلى ، بالإجماع على صرفه نكرة ، ولو كان فعلى لم ينصرف نكرة لأن الألف كانت تكون للتأنيث ، وألف التأنيث وحدها تمنع الصرف في المعرفة والنكرة.
الأربعون : ليس بجمع سلامة ، بل هو من قبيل المفرد الذي هو اسم جمع ، ومدلوله معروف ، وقد أعرب إعراب الجمع المذكر السالم.
الليلة : مدلولها معروف ، وتكسر شاذاً على فعالى ، فيقال : الليالي ، ونظيره : الكيكة والكياكي ، كأنه جمع ليلاه وكيكاه ، وأهل والأهالي.
وقد شذوا في التصغير كما شذوا في التكسير ، قالوا : لييله.

الاتخاذ : افتعال من الأخذ ، وكان القياس أن لا تبدل الهمزة إلا ياء ، فتقول : إيتخذ كهمزة إيمان إذ أصله : إإمان ، وكقولهم : ائتزر : افتعل من الإزار ، فمتى كانت فاء الكلمة واواً أو ياء ، وبنيت افتعل منها ، فاللغة الفصحى إبدالها تاء وإدغامها في تاء الافتعال ، فتقول : اتصل واتسر من الوصل واليسر ، فإن كانت فاء الكلمة همزة ، وبنيت افتعل ، أبدلت تلك الهمزة ياء وأقررتها.
هذا هو القياس ، وقد تبدل هذه الياء تاء فتدغم ، قالوا : إتمن ، وأصله : إئتمن.
وعلى هذا جاء : اتخذ.
ومما علق بذهني من فوائد الشيخ الإمام بهاء الدين أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن أبي نصر الحلبي ، عرف بابن النحاس ، رحمه الله ، وهو كان المشتهر بعلم النحو في ديار مصر : أن اتخذ مما أبدل فيه الواو تاء على اللغة الفصحى ، لأن فيه لغة أنه يقال : وخذ بالواو ، فجاء هذا على الأصل في البدل ، وإن كان مبنياً على اللغة القليلة ، وهذا أحسن ، لأنهم نصوا على أن اتمن لغة رديئة ، وكان رحمه الله يغرب بنقل هذه اللغة.
وقد خرج الفارسي مسألة اتخذ على أن التاء الأولى أصلية ، إذ قلت : قالت العرب تخذ بكسر الخاء ، بمعنى : أخذ ، قال : تعالى : { لاتخذت عليه أجراً } في قراءة من قرأ كذلك ، وأنشد الفارسي ، رحمه الله :
وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها . . .
نسيفاً كأفحوص القطاة المطوّق
فعلى قوله : التاء أصل ، وبنيت منه افتعل ، فقلت : اتخذ ، كما تقول : اتبع ، مبنياً من تبع ، وقد نازع أبو القاسم الزجاجي في تخذ ، فزعم أن أصله : اتخذ ، وحذف كما حذف اتقى ، فقالوا : تقى ، واستدل على ذلك بقولهم : تخذ بفتح التاء مخففة ، كما قالوا : يتقي ويتسع بحذف التاء التي هي بدل من فاء الكلمة.
ورد السيرافي هذا القول وقال : لو كان محذوفاً منه ما كسرت الخاء ، بل كانت تكون مفتوحة ، كقاف تفي ، وأما يتخذ فمحذوف مثل : يتسع ، حذف من المضارع دون الماضي ، وتخذ بناء أصلي ، انتهى.
وما ذهب إليه الفارسي والسيرافي من أنه بناء أصلي على حده هو الصحيح ، بدليل ما حكاه أبو زيد وهو : تخذ يتخذ تخذاً ، قال الشاعر :
ولا تكثرن تخذ العشار فإنها . . .
تريد مباءات فسيحاً بناؤها
وذكر المهدوي في شرح الهداية : أن الأصل واو مبدلة من همزة ، ثم قلبت الواو تاء وأدغمت في التاء ، فصار في اتخذ أقوال : أحدها : التاء الأولى أصل.
الثاني : أنها بدل من واو أصلية.
الثالث : أنها بدل من تاء أبدلت من همزة.
الرابع : أنها بدل من واو أبدلت من همزة ، واتخذ تارة يتعدى لواحد ، وذلك نحو قوله تعالى : { اتخذت بيتاً } وتارة لاثنين نحو قوله تعالى : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } بمعنى صير.
العجل : معروف ، وهو ولد البقرة الصغير الذكر.
بعد : ظرف زمان ، وأصله الوصف ، كقبل ، وحكمه حكمه في كونه يبنى على الضم إذا قطع عن الإضافة إلى معرفة ، ويعرب بحركتين ، فإذا قلت : جئت بعد زيد ، فالتقدير : جئت زماناً بعد زمان مجيء زيد ، ولا يحفظ جرّه إلا بمن وحدها.

عفا : بمعنى كثر ، فلا يتعدى حتى عفوا ، وقالوا : وبمعنى درس ، فيكون لازماً متعدياً نحو : عفت الديار ، ونحو : عفاها الريح ، وعفا عن زيد : لم يؤاخذه بجريمته ، واعفوا عن اللحى ، أي اتركوها ولا تأخذوا منها شيئاً ، ورجل عفوّ ، والجمع عفو على فعل بإسكان العين ، وهو جميع شاذ ، والعفاء : الشعر الكثير ، قال الشاعر :
عليه من عقيقته عفاء . . .
ويقال في الدعاء على الشخص : عليه العفاء ، قال :
على آثار من ذهب العفاء . . .
يريد الدروس ، وتأتي عفا : بمعنى سهل من قولهم : خذ ما عفا وصفا ، وأخذت عفوه : أي ما سهل عليه ، { ماذا ينفقون قل العفو } أي الفضل الذي يسهل إعطاؤه ، ومنه : خذ العفو ، أي السهل على أحد الأقوال ، والعافية : الحالة السهلة السمحة.
الشكر : الثناء على إسداء النعم ، وفعلة : شكر يشكرشكراً وشكوراً ، ويتعدى لواحد تارة بنفسه وتارة بحرف جر ، وهو من ألفاظ مسموعة تحفظ ولا يقاس عليها ، وهو قسم برأسه ، تارة يتعدى بنفسه وتارة بحرف جر على حد سواء ، خلافاً لمن زعم استحالة ذلك.
وكان شيخنا أبو الحسين بن أبي الربيع يذهب إلى أن شكر أصله أن يتعدى بحرف جر ، ثم أسقط اتساعاً.
وقيل : الشكر : إظهار النعمة من قولهم : شكرت الرمكة مهرها إذا أظهرته ، والشكير : صغار الورق يظهر من أثر الماء ، قال الشاعر :
وبينا الفتى يهتز للعيش ناضراً . . .
كعسلوجة يهتز منها شكيرها
وأوّل الشيب ، قال الراجز :
ألان ادلاج بك العتير . . .
والرأس إذ صار له شكير
وناقة شكور تذر أكثر مما رعت . . .
الفرقان : مصدر فرق ، وتقدّم الكلام في فرق.
{ وإذا فرّقنا بكم البحر } : معطوف على : وإذ نجيناكم فالعامل فيه ما ذكر أنه العامل في إذ تلك بواسطة الحرف.
وقرأ الزهري : فرّقنا بالتشديد ، ويفيد التكثير لأن المسالك كانت اثني عشر مسلكاً على عدد أسباط بني إسرائيل.
ومن قرأ : فرقنا مجرداً ، اكتفى بالمطلق ، وفهم التكثير من تعداد الأسباط.
بكم : متعلق بفرّقنا ، والباء معناها : السبب ، أي بسبب دخولكم ، أو المصاحبة : أي ملتبساً ، كما قال :
تدوس بنا الجماجم والتريبا . . .
أي ملتبسة بنا ، أو : أي جعلناه فرقاً بكم كما يفرق بين الشيئين بما توسط بينهما ، وهو قريب من معنى الاستعانة ، أو معناها اللام ، أي فرّقنا لكم البحر ، أي لأجلكم ، ومعناها راجع للسبب.
ويحتمل الفرق أن يكون عرضاً من ضفة إلى ضفة ، ويحتمل أن يكون طولاً ، ونقل كل : وعلى هذا الثاني قالوا : كان ذلك بقرب من موضع النجاة ، ولا يلحق في البر إلا في أيام كثيرة بسبب جبال وأوعار حائلة.
وذكر العامري : أن موضع خروجهم من البحر كان قريباً من برية فلسطين ، وهي كانت طريقهم.

البحر : قيل هو بحر القلزم من بحار فارس ، وكان بين طرفيه أربعة فراسخ ، وقيل : بحر من بحار مصر يقال له أساف ، ويعرف الآن ببحر القلزم ، قيل : وهو الصحيح ، ولم يختلفوا في أن فرق البحر كان بعدد الأسباط ، اثنى عشر مسلكاً.
واختلفوا في عدد المفروق بهم ، وعدد آل فرعون ، على أقوال يضاد بعضها بعضاً ، وحكوا في كيفية خروج بني إسرائيل ، وتعنتهم وهم في البحر مقتحمون ، وفي كيفية خروج فرعون بجنوده ، حكايات مطوّلة جداً لم يدل القرآن ولا الحديث الصحيح عليها ، فالله أعلم بالصحيح منها.
{ فأنجيناكم } : يعني من الغرق ، ومن إدراك فرعون لكم واليوم الذي وقع فيه الفرق والنجاة والغرق كان يوم عاشوراء؟ واستطردوا إلى الكلام في يوم عاشوراء ، وفي صومه ، وهي مسألة تذكر في الفقه.
وبين قوله : { فرّقنا بكم البحر } ، وبين قوله : { فأنجيناكم } محذوف يدلّ عليه المعنى تقديره : وإذ فرقنا بكم البحر وتبعكم فرعون وجنوده في تقحمه فأنجيناكم.
{ وأغرقنا آل فرعون } والهمزة في أغرقنا للتعدية ، ويعدى أيضاً بالتضعيف.
ولم يذكر فرعون فيمن غرق ، لأن وجوده معهم مستقرّ ، فاكتفى بذكر الآل هنا ، لأنهم هم الذين ذكروا في الآية قبل هذه ، ونسب تلك الصفة القبيحة إليهم من سومهم بني إسرائيل العذاب ، وذبحهم أبناءهم ، واستحيائهم نساءهم ، فناسب هذا إفرادهم بالغرق.
وقد ذكر تعالى غرق فرعون في آيات أخر ، منها : { فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ } { حتى إذا أدركه الغرق } { فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليمّ ما غشيهم } وناسب نجاتهم من فرعون بإلقائهم في البحر وخروجهم منه سالمين ، نجاة نبيهم موسى على نبينا وعليه السلام من الذبح ، بإلقائه وهو طفل في البحر ، وخروجه منه سالماً.
ولكل أمّة نصيب من نبيها.
وناسب هلاك فرعون وقومه بالغرق ، هلاك بني إسرائيل على أيديهم بالذبح ، لأن الذبح فيه تعجيل الموت بأنهار الدم ، والغرق فيه إبطاء الموت ، ولا دم خارج ، وكان ما به الحياة { وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ } سبباً لإعدامهم من الوجود.
ولما كان الغرق من أعسر الموتات وأعظمها شدّة ، جعله الله تعالى نكالاً لمن ادّعى الربوبية ، فقال : { أنا ربكم الأعلى } إذ على قدر الذنب يكون العقاب ، ويناسب دعوى الربوبية والاعتلاء انحطاط المدّعى وتغييبه في قعر الماء.
{ وأنتم تنظرون } : جملة حالية ، وهو من النظر : بمعنى الإبصار.
والمعنى ، والله أعلم : أن هذه الخوارق العظيمية من فرق البحر بكم ، وإنجائكم من الغرق ، ومن أعدائكم ، وإهلاك أعدائكم بالغرق ، وقع وأنتم تعاينون ذلك وتشاهدونه ، لم يصل ذلك إليكم بنقل ، بل بالمشاهدة التي توجب العلم الضروري بأن ذلك خارق من عند الله تعالى على يد النبي الذي جاءكم.
وقيل : وأنتم تنظرون إليهم لقرب بعض من بعض ، وقيل : إلى طفوهم على وجه الماء غرقى.
وقيل : إليهم وقد لفظهم البحر وهم العدد الذي لا يكاد ينحصر ، لم يترك البحر في جوفه منهم واحداً.

وقيل : تنظرون أي بعضكم إلى بعض وأنتم سائرون في البحر ، وذلك أنه نقل أن بعض قوم موسى قالوا له : أين أصحابنا؟ فقال : سيروا ، فإنهم على طريق مثل طريقكم ، قالوا : لا نرضى حتى نراهم ، فأوحى الله إليه أن قل بعصاك هكذا ، فقال بها على الحيطان ، فصار بها كوى ، فتراءوا وتسامعوا كلام بعضهم بعضاً.
وهذه الأقوال الخمسة النظر فيها بمعنى الرؤية ، وقيل : النظر تجوز به عن القرب ، أي وأنتم بالقرب منهم ، أي بحال لو نظرتم إليهم لرأيتموهم كقولهم : أنت مني بمرأى ومسمع ، أي قريب بحيث أراك وأسمعك ، قاله ابن الأنباري.
وقيل : هو من نظر البصيرة والعقل ، ومعناه : وأنتم تعتبرون بمصرعهم وتتعظون بمواقع النقمة التي أرسلت إليهم.
وقيل : النظر هنا بمعنى العلم ، لأن العلم يحصل عن النظر ، فكنى به عنه ، قاله الفراء ، وهو معنى قول ابن عباس.
{ وإذا واعدنا موسى أربعين ليلة } قرأ الجمهور : واعدنا ، وقرأ أبو عمرو : وعدنا بغير ألف هنا ، وفي الأعراف وطه ، ويحتمل واعدنا : أن يكون بمعنى وعدنا ، ويكون صدر من واحد ، ويحتمل أن يكون من اثنين على أصل المفاعلة ، فيكون الله قد وعد موسى الوحي ، ويكون موسى وعد الله المجيء للميقات ، أو يكون الوعد من الله وقبوله كان من موسى ، وقبول الوعد يشبه الوعد.
قال القفال : ولا يبعد أن يكون الآدمي يعد الله بمعنى يعاهده.
وقيل : وعد إذا كان عن غير طلب ، وواعد إذا كان عن طلب.
وقد رجح أبو عبيد قراءة من قرأ : وعدنا بغير ألف ، وأنكر قراءة من قرأ : واعدنا بالألف ، وافقه على معنى ما قال أبو حاتم ومكي.
وقال أبو عبيد : المواعدة لا تكون إلا من البشر ، وقال أبو حاتم : أكثر ما تكون المواعدة من المخلوقين المتكافئين ، كل واحد منهما يعد صاحبه ، وقد مر تخريج واعد على تلك الوجوه السابقة ، ولا وجه لترجيح إحدى القراءتين على الأخرى ، لأن كلاً منهما متواتر ، فهما في الصحة على حدّ سواء.
وأكثر القراء على القراءة بألف ، وهي قراءة مجاهد ، والأعرج ، وابن كثير ، ونافع ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي.
موسى : هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن.
وذكر الشريف أبو البركات محمد بن أسعد بن علي الحوّاني النسابة : أن موسى على نبينا وعليه السلام هو : موسى بن عمران بن قاهث ، وتقدّم الكلام في لفظ موسى العلم.
وأما موسى الحديدة ، التي يحلق بها الشعر ، فهي مؤنثة عربية مشتقة من : أسوت الشيء ، إذا أصلحته ، ووزنها مفعل ، وأصلها الهمز ، وقيل : اشتقاقها من : أوسيت إذا حلقت ، وهذا الاشتقاق أشبه بها ، ولا أصل للواو في الهمز على هذا.
{ أربعين ليلة } : ذو الحجة وعشر من المحرّم ، أو ذو القعدة وعشر من ذي الحجة ، قاله أبو العالية وأكثر المفسرين ، وقرأ علي وعيسى بن عمر : بكسر باء أربعين شاذاً اتباعاً ، ونصب أربعين على المفعول الثاني لواعدنا ، على أنها هي الموعودة ، أو على حذف مضاف التقديم تمام ، أو انقضاء أربعين حذف وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب إعرابه ، قاله الأخفش ، فيكون مثل قوله :

فواعديه سر حتى مالك . . .
أو النقا بينهما أسهلا
أي إتيان سر حتى مالك ، ولا يجوز نصب أربعين على الظرف لأنه ظرف معدود ، فيلزم وقوع العامل في كل فرد من أجزائه ، والمواعدة لم تقع كذلك.
وليلة : منصوب على التمييز الجائي بعد تمام الاسم ، والعامل في هذا النوع من التمييز اسم العدد قبله شبه أربعين بضاربين ، ولا يجوز تقديم هذا النوع من التمييز على اسم العدد بإجماع ، ولا الفصل بينهما بالمجرور إلا ضرورة ، نحو :
على أنني بعدما قد مضى . . .
ثلاثون للهجر حولاً كميلا
وعشرين منها أصبعاً من ورائنا . . .
ولا تعريف للتمييز ، خلافاً لبعض الكوفيين وأبي الحسين بن الطراوة.
وأول أصحابنا ما حكاه أبو زيد الأنصاري من قول العرب : ما فعلت العشرون الدرهم ، وما جاء نحو : هذا مما يدل على التعريف ، وذلك مذكور في علم النحو.
وكان تفسير الأربعين بليلة دون يوم ، لأن أوّل الشهر ليلة الهلال ، ولهذا أرّخ بالليالي ، واعتماد العرب على الأهلة ، فصارت الأيام تبعاً لليالي ، أو لأن الظلمة أقدم من الضوء بدليل { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } أو دلالة على مواصلته الصوم ليلاً ونهاراً ، لأنه لو كان التفسير باليوم أمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل ، فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه واصل أربعين ليلة بأيامها.
وهذه المواعدة للتكلم ، أو لإنزال التوراة.
قال المهدوي : وكان ذلك بعد أن جاوز البحر ، وسأله قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله ، فخرج إلى الطور في سبعين رجلاً من خيار بني إسرائيل ، وصعد الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة ، فقعدوا فيما ذكره المفسرون عشرين يوماً وعشرة ليال ، فقالوا : قد أخلفنا موعده ، انتهى كلامه.
وقال الزمخشري : لما دخل بنو إسرائيل مصر ، بعد هلاك فرعون ، ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه ، وعد الله أن ينزل عليهم التوراة ، وضرب له ميقاتاً ، انتهى.
{ ثم اتخذتم العجل } : الجمهور على إدغام الذال في التاء.
وقرأ ابن كثير وحفص من السبعة : بالإظهار ، ويحتمل اتخذ هنا أن تكون متعدية لواحد ، أي صنعتم عجلاً ، كما قال : { واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار } على أحد التأويلين ، وعلى هذا التقدير : يكون ثم جملة محذوفة يدل عليها المعنى ، وتقديرها : وعبدتموه إلهاً ، ويحتمل أن تكون مما تعدّت إلى اثنين فيكون المفعول الثاني محذوفاً لدلالة المعنى ، التقدير : ثم اتخذتم العجل إلهاً ، والأرجح القول الأوّل ، إذ لو كان مما يتعدّى في هذه القصة لاثنين لصرح بالثاني ، ولو في موضع واحد ، ألا ترى أنه لم يعد إلى اثنين بل إلى واحد في هذا الموضع ، وفي : { واتخذ قوم موسى } ، وفي :

{ اتخذوه وكانوا ظالمين } ، وفي : { إن الذين اتخذوا العجل } وفي قوله في هذه السورة أيضاً : { إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل } لكنه يرجح القول الثاني لاستلزام القول الأوّل حذف جملة من هذه الآيات ، ولا يلزم في الثاني إلا حذف المفعول ، وحذف المفرد أسهل من حذف الجملة.
فعلى القول الأوّل فيه ذمّ الجماعة بفعل الواحد ، لأن الذي عمل العجل هو السامري ، وسيأتي ، إن شاء الله ، الكلام فيه وفي اسمه وحكاية إضلاله عند قوله تعالى : { وأضَلهم السامري } وذلك عادة العرب في كلامها تذم وتمدح القبيلة بما صدر عن بعضها.
وعلى القول الثاني فيه ذمهم بما صدر منهم ، والألف واللام في العجل على القول الأول لتعريف الماهية ، إذ لم يتقدّم عهد فيه ، وعلى القول الثاني للعهد السابق ، إذ كانوا قد صنعوا عجلاً ثم اتخذوا ذلك العجل إلهاً ، وكونه عجلاً ظاهر في أنه صار لحماً ودماً ، فيكون عجلاً حقيقة ويكون نسبة الخوار إليه حقيقة ، قاله الحسن.
وقيل : هو مجاز ، أي عجلاً في الصورة والشكل ، لأن السامري صاغه على شكل العجل ، وكان فيما ذكروا صائغاً ، ويكون نسبة الخوار إليه مجازاً ، قاله الجمهور ، وسيأتي الكلام على ذلك في الأعراف ، إن شاء الله.
ومن أغرب ما ذهب إليه في هذا العجل أنه سمي عجلاً لأنهم عجلوا به قبل قدوم موسى ، فاتخذوه إلهاً ، قاله أبو العالية ، أو سمى هذا عجلاً ، لقصر مدّته.
{ من بعده } ، من : تفيد ابتداء الغاية ، ويتعارض مدلولها مع مدلول ثم ، لأن ثم تقتضي وقوع الاتخاذ بعد مهلة من المواعدة ، ومن تقتضي ابتداء الغاية في التعدية التي تلي المواعدة ، إذا الظاهر عود الضمير على موسى ، ولا تتصوّر التعدية في الذات ، فلا بد من حذف ، وأقرب ما يحذف مصدر يدل عليه لفظ واعدنا ، أي من بعد مواعدته ، فلا بد من ارتكاب المجاز في أحد الحرفين ، إلا أن قدر محذوف غير المواعدة ، وهو أن يكون التقدير من بعد ذهابه إلى الطور ، فيزول التعارض ، إذ المهلة تكون بين المواعدة والاتخاذ.
ويبين المهلة قصة الأعراف ، إذ بين المواعدة والاتخاذ هناك جمل كثيرة ، وابتداء الغاية يكون عقيب الذهاب إلى الطور ، فلم تتوارد المهلة والابتداء على شيء واحد ، فزال التعارض.
وقيل : الضمير في بعده يعود على الذهاب ، أي من بعد الذهاب ، ودل على ذلك أن المواعدة تقتضي الذهاب ، فيكون عائداً على غير مذكور ، بل على ما يفهم من سياق الكلام ، نحو قوله تعالى : { حتى توارت بالحجاب } { فأثرن به نقعاً } أي توارت الشمس ، إذ يدل عليها قوله : بالعشي ، وأي فأثرن بالمكان ، إذ يدل عليه { والعاديات } { فالموريات } { فالمغيرات } إذ هذه الأفعال لا تكون إلا في مكان فاقتضته ودلت عليه.

وقيل : الضمير يعود على الانجاء ، أي من بعد الانجاء ، وقيل : على الهدى ، أي من بعد الهدى ، وكلا هذين القولين ضعيف.
{ وأنتم ظالمون } : جملة حالية ، ومتعلق الظلم.
قيل : ظالمون بوضع العبادة في غير موضعها ، وقيل : بتعاطي أسباب هلاكها ، وقيل : برضاكم فعل السامري في اتخاذه العجل ، ولم تنكروا عليه.
ويحتمل أن تكون الجملة غير حال ، بل إخبار من الله إنهم ظالمون : أي سجيتهم الظلم ، وهو وضع الأشياء في غير محلها.
وكان المعنى : ثم اتخذتم العجل من بعده وكنتم ظالمين ، كقوله تعالى : { اتخذوه وكانوا ظالمين }.
وأبرز هذه الجملة في صورة ابتداء وخبر ، لأنها أبلغ وآكد من الجملة الفعلية ولموافقة الفواصل.
وظاهر قوله : ثم اتخذتم العموم ، وأنهم كلهم عبدوا العجل إلا هارون ، وقيل : الذين عكفوا على عبادته من قوم موسى ثمانية آلاف رجل ، وقيل : كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألفاً ، قيل : وهذا هو الصحيح ، وقيل : إلا هارون والسبعين رجلاً الذين كانوا مع موسى.
واتخاذ السامري العجل دون سائر الحيوانات ، قيل : لأنهم مرّوا على قوم يعكفون على أصنام لهم وكانت على صور البقر ، فقالوا : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ، فهجس في نفس السامري أن يفتنهم من هذه الجهة ، فاتخذ لهم العجل ، وقيل : إنه كان من قوم يعبدون البقر ، وكان منافقاً يظهر الإيمان بموسى ، فاتخذ عجلاً من جنس ما كان يعبده ، وفي اتخاذهم العجل إلهاً دليل على أنهم كانوا مجسمة أو حلولية ، إذ من اعتقد تنزيه الله عن ذلك واستحالة ذلك عليه بالضرورة ، تبين له بأوّل وهلة فساد دعوى أن العجل إله.
وقد نقل المفسرون عن ابن عباس والسدّي وغيرهما قصصاً كثيراً مختلفاً في سبب اتخاذ العجل ، وكيفية اتخاذه ، وانجر مع ذلك أخبار كثيرة ، الله أعلم بصحتها ، إذ لم يشهد بصحتها كتاب ولا حديث صحيح ، فتركنا نقل ذلك على عادتنا في هذا الكتاب.
{ ثم عفونا عنكم } : تقدّمت معاني عفا ، ويحتمل أن يكون عفا عنه من باب المحو والإذهاب ، أو من باب الترك ، أو من باب السهولة ، والعفو والصفح متقاربان في المعنى.
وقال قوم : لا يستعمل العفو بمعنى الصفح إلا في الذنب ، فإن كان العفو هنا بمعنى الترك أو التسهيل ، فيكون عنكم عام اللفظ خاص المعنى ، لأن العفو إنما كان عمن بقي منهم ، وإن كان بمعنى المحو ، كان عاماً لفظاً ومعنى ، فإنه تعالى تاب على من قتل ، وعلى من بقي ، قال تعالى : { فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم } وروي أن الله أوحى إلى موسى بعد قتلهم أنفسهم أني قبلت توبتهم فمن قتل فهو شهيد ، ومن لم يقتل فقد تبت عليه وغفرت له.
وقالت المعتزلة : عفونا عنكم ، أي بسبب إتيانكم بالتوبة ، وهي قتل بعضهم بعضاً : { من بعد ذلك } إشارة إلى اتخاذ العجل ، وقيل : إلى قتلهم أنفسهم ، والأوّل أظهر.

{ لعلكم } : تقدّم الكلام في لعل في قوله : { لعلكم تتقون } ، لغة ودلالة معنى بالنسبة إلى الله تعالى ، فأغنى عن إعادته.
{ تشكرون } : أي تثنون عليه تعالى بإسدائه نعمه إليكم ، وتظهرن النعمة بالثناء ، وقالوا : الشكر باللسان ، وهو الحديث بنعمة المنعم ، والثناء عليه بذلك وبالقلب ، وهو اعتقاد حق المنعم على المنعَم عليه ، وبالعمل { اعملوا آل داود شكراً } وبالله أي شكراً لله بالله لأنه لا يشكره حق شكره إلا هو ، وقال بعضهم :
وشكر ذوي الإحسان بالقول تارة . . .
وبالقلب أخرى ثم بالعمل الأسنى
وشكري لربي لا بقلبي وطاعتي . . .
ولا بلساني بل به شكره عنا
ومعنى لعلكم تشكرون : أي عفو الله عنكم ، لأن العفو يقتضي الشكر ، قاله الجمهور ، أو تظهرون نعمة الله عليكم في العفو ، أو تعترفون بنعمتي ، أو تديمون طاعتي ، أو تقرون بعجزكم عن شكري أربعة أقوال : وقال ابن عباس : الشكر طاعة الجوارح.
وقال الجنيد : الشكر هو العجز عن الشكر.
وقال الشبلي : التواضع تحت رؤية المنة.
وقال الفضيل : أن لا تعصي الله.
وقال أبو بكر الورّاق أن تعرف النعمة من الله.
وقال ذو النون : الشكر لمن فوقك بالطاعة ، ولنظيرك بالمكافأة ، ولمن دونك بالإحسان.
قال القشيري : سرعة العفو عن عظيم الجرم دالة على حقارة المعفو عنه ، يشهد لذلك { من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين } ، وهؤلاء بنو إسرائيل عبدوا العجل فقال تعالى : { ثم عفونا عنكم من بعد ذلك } ، وقال لهذه الأمة : { ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يره } انتهى كلامه.
وناسب ترجي الشكر إثر ذكر العفو ، لأن العفو عن مثل هذه الزلة العظيمة التي هي اتخاذ العجل إلهاً هو من أعظم ، أو أعظم إسداء النعم ، فلذلك قال : { لعلكم تشكرون }.
{ وإذ آتينا موسى الكتاب } : هو التوراة بإجماع المفسرين.
{ والفرقان } : هو التوراة ، ومعناه أنه آتاه جامعاً بين كونه كتاباً وفرقاناً بين الحق والباطل ، ويكون من عطف الصفات ، لأن الكتاب في الحقيقة معناه : المكتوب ، قاله الزجاج ، واختاره الزمخشري ، وبدأ بذكره ابن عطية قال : كرر المعنى لاختلاف اللفظ ، ولأنه زاد معنى التفرقة بين الحق والباطل ، ولفظة كتاب لا تعطي ذلك ، أو الواو مقحمة ، أي زائدة ، وهو نعت للكتاب ، قال الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام . . .
وليث الكتيبة في المزدحم
قاله الكسائي ، وهو ضعيف ، وإنما قوله ، وابن الهمام ، وليث : من باب عطف الصفات بعضها على بعض.
ولذلك شرط ، وهو أن تكون الصفات مختلفة المعاني ، أو النصر ، لأنه فرق بين العدوّ والولي في الغرق والنجاة ، ومنه قيل ليوم بدر : يوم الفرقان ، قاله ابن عباس ، أو سائر الآيات التي أوتي موسى على نبينا وعليه السلام من العصا واليد وغير ذلك ، لأنها فرقت بين الحق والباطل ، أو الفرق بين الحق والباطل ، قاله أبو العالية ومجاهد ، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام ، أو البرهان الفارق بين الكفر والإيمان ، قاله ابن بحر وابن زيد ، أو الفرج من الكرب لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط ، ومنه قوله تعالى :

{ يجعل لكم فرقاً } أي فرجاً ومخرجاً.
وهذا القول راجع لمعنى النصر أو القرآن.
والمعنى أن الله آتى موسى ذكر نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم حتى آمن به ، حكاه ابن الأنباري ، أو القرآن على حذف مفعول ، التقدير : ومحمداً الفرقان ، وحكي هذا عن الفراء وقطرب وثعلب ، وقالوا : هو كقول الشاعر :
وزججن الحواجب والعيونا . . .
التقدير : وكحلن العيون.
ورد هذا القول مكي والنحاس وجماعة ، لأنه لا دليل على هذا المحذوف ، ويصير نظير : أطعمت زيداً خبزاً ولحماً ، ويكون : اللحم أطعمته غير زيد ، ولأن الأصل في العطف أنه يشارك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم السابق ، إذا كان العطف بالحروف المشتركة في ذلك ، وليس مثل ما مثلوا به من : وزججن الحواجب والعيون ، لما هو مذكور في النحو.
وقد جاء : { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء } وذكروا جميع الآيات التي آتاها الله تعالى موسى لأنها فرقت بين الحق والباطل ، أو انفراق البحر ، قاله يمان وقطرب ، وضعف هذا القول بسبق ذكر فرق البحر في قوله : { إذ فرقنا } ، وبذكر ترجية الهداية عقيب الفرقان ، ولا يليق إلا بالكتاب.
وأجيب بأنه ، وإن سبق ذكر الانفلاق ، فأعيد هنا ونص عليه بأنه آية لموسى مختصة به ، وناسب ذكر الهداية بعد فرق البحر لأنه من الدلائل التي يستدل بها على وجود الصانع وصدق موسى على نبينا وعليه السلام ، وذلك هو الهداية ، أو لأن المراد بالهداية النجاة والفوز ، وبفرق البحر حصل لهم ذلك فيكون قد ذكر لهم نعمة الكتاب الذي هو أصل الديانات لهم ، ونعمة النجاة من أعدائهم.
فهذه اثنتا عشرة مقالة للمفسرين في المراد بالفرقان هنا.
.
{ لعلكم تهتدون } : ترجية لهدايتهم ، وقد تقدم الكلام في لعل.
وفي لفظ ابن عطية في لعل هنا ، وفي قوله قيل : { لعلكم تشكرون } ، أنه توقع ، والذي تقرر في النحو أنه إن كان متعلق لعل محبوباً ، كانت للترجي ، فإن كان محذوراً ، كانت للتوقع ، كقولك : لعل العدو يقدم.
والشكر والهداية من المحبوبات ، فينبغي أن لا يعبر عن معنى لعل هنا إلا بالترجي.
قال القشيري : فرقان هذه الأمة الذي اختصوا به نور في قلوبهم ، يفرقون به بين الحق والباطل : استفت قلبك ، اتقوا فراسة المؤمن.
المؤمن ينظر بنور الله { إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاً } ، وذلك الفرقان ما قدموه من الإحسان ، انتهى كلامه.
وناسب ترجي الهداية إثر ذكر إتيان موسى الكتاب والفرقان ، لأن الكتاب به تحصل الهداية { إنا أنزلنا التوارة فيها هدى ونور } { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى } { وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور } وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من ذكر الامتنان على بني إسرائيل فصولاً منها : فرق البحر بهم على الوجه الذي ذكر من كونه صار اثني عشر مسلكاً على عدد الأسباط وبين كل سبط حاجز يمنعهم من الازدحام دون أن يلحقهم في ذلك استيحاش ، لأنه صار في كل حاجز كوى بحيث ينظر بعضهم إلى بعض على ما نقل ، وهو من أعظم الآيات الدالة على صدق موسى على نبينا وعليه السلام ، وهذا الفرق هو النعمة الثالثة ، لأن الأولى هي التفضيل ، والثانية هي الإنجاء من آل فرعون ، والثالثة هي هذا الفرق وما ترتب عليه من إنجائهم من الغرق وإغراق أعدائهم وهم ينظرون بحيث لا يشكون في هلاكهم.

ثم استطرد بعد ذلك إلى ذكر النعمة الرابعة ، وهي العفو عن الذنب العظيم الذي ارتكبوه من عبادة العجل ، فذكر سبب ذلك ، وأنه اتفق ذلك لغيبة موسى عنهم لمناجاة ربه ، وأنهم على قصر مدة غيبته انخدعوا بما فعله السامري هذا ، ولم يطل عليهم الأمد ، وخليفة موسى فيهم أخوه هارون ينهاهم فلا ينتهون ، ومع هذه الزلة العظيمة عفا عنهم وتاب عليهم ، فأي نعمة أعظم من هذه؟ ثم ذكر النعمة الخامسة ، وهي ثمرة الوعد ، وهو إتيان موسى التوراة التي بها هدايتهم ، وفيها مصالح دنياهم وآخرتهم.
وجاء ترتيب هذه النعم متناسقاً يأخذ بعضه بعنق بعض ، وهو ترتيب زماني ، وهو أحد الترتيبات الخمس التي مر ذكرها في هذا الكتاب ، لأن التفضيل أمر حكمي ، فهو أول ثم وقعت النعم بعده ، وهي أفعال يتلو بعضها بعضاً.
فأولها الإنجاء من سوء العذاب ، ذبح الأبناء واستحياء النساء بإخراج موسى إياهم من مصر ، بحيث لم يكن لفرعون ولا لقومه عليهم تسليط بعد هذا الخروج ، والإنجاء ، ثم فرق البحر بهم وإرائهم عياناً هذا الخارق العظيم ، ثم وعد الله لموسى بمناجاته وذهابه إلى ذلك ، ثم اتخاذهم العجل ، ثم العفو عنهم ، ثم إيتاء موسى التوراة.
فانظر إلى حسن هذه الفصول التي انتظمت انتظام الدرّ في أسلاكها ، والزهر في أفلاكها ، كل فصل منها قد ختم بمناسبة ، وارتقى في ذروة الفصاحة إلى أعلى مناصبه ، وارداً من الله على لسان محمد أمينه لسان من لم يتل من قبل كتاباً ولا خطه بيمينه.

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)

القوم : اسم جمع لا واحد له من لفظه ، وإنما واحده امرؤ ، وقياسه أن لا يجمع ، وشذ جمعه ، قالوا : أقوام ، وجمع جمعه قالوا : أقاويم فقيل يختص بالرجال.
قال تعالى : { لا يسخر قوم من قوم } ، ولذلك قابله بقوله : { ولا نساء من نساء } وقال زهير :
أقوم آل حصن أم نساء . . .
وقال آخر :
قومي هم قتلوا أميم أخي . . .
فإذا رميت يصيبني سهمي
وقال آخر :
لا يبعدن قومي الذين هم . . .
سم العداة وآفة الجزر
وقيل : لا يختص بالرجال بل ينطلق على الرجال والنساء : { إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه } { ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة } كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة ، قال هذا القائل : أما إذا قامت قرينة على التخصيص فيبطل العموم ويكون المراد ذلك الشيء المخصص.
والقول الأول أصوب ، ويكون اندراج النساء في القوم على سبيل الاستتباع وتغليب الرجال ، والمجاز خير من الاشتراك.
وسمي الرجال قوماً لأنهم يقومون بالأمور.
البارىء : الخالق ، برأ يبرأ : خلق ، وفي الجمع بين الخالق والبارىء في قوله : { هو الله خالق البارئ المصور } ما يدل على التباين ، إلا أن حمل على التوكيد.
وقد فرق بعض الناس بينهما ، فقال : البارىء هو المبدع المحدث ، والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال.
وقال بعض العلماء : برأ وأنشأ وأبدع نظائر.
قال المهدوي وغيره : واللفظ له ، وأصله من تبرى الشيء من الشيء ، وهو انفصاله منه ، فالخلق قد فصلوا من العدم إلى الوجود ، انتهى.
وقال أميّة الخالق البارىء المصور في الأرحام ماء حتى يصير دماً.
القتل : إزهاق الروح بفعل أحد ، من طعن أو ضرب أو ذبح أو خنق أو ما شابه ذلك ، وأما إذا كان من غير فعل فهو موت هلاك ، والمقتل : المذلل ، وقال امرؤ القيس :
بسهميك في أعشار قلب مقتل . . .
شرحوه : بالمذلل.
خير : هي أفعل التفضيل ، حذفت همزتها شذوذاً في الكلام فنقص بناؤها فانصرفت ، كما حذفوها شذوذاً في الشعر من أحب للتي للتفضيل ، وقال الأحوص :
وزادني كلفاً بالحب أن منعت . . .
وحب شيء إلى الإنسان ما منعا
وقد نطقوا بالهمزة في الشعر ، قال الشاعر :
بلال خير الناس وابن الأخير . . .
وتأتي خير أيضاً لا ، بمعنى التفضيل ، تقول : في زيد خير ، تريد بذلك خصلة جميلة ، ومخففاً من خير : رجل خير ، أي فيه خير ، ويمكن أن يكون من ذلك : { فيهنّ خيرات حسان }.
حتى : حرف معناه الكثير ، فيه الغاية ، وتكون للتعليل ، وإبدال حائها عيناً لغة هذيل ، وسمع فيها الإمالة قليلاً ، وأحكامها مستوفاة في النحو.
الرؤية الإبصار ، والماضي رأى ، عينه همزة تحذف في مضارعه ، والأمر منه وبناء أفعل ، والأمر منه ، واسم الفاعل ، واسم المفعول ، تقول : يرى وترى ونرى وأرى زيداً ، وأريت زيداً ، ورزيداً ، ومر زيداً ، ومرى.
وتثبت في الرؤية والرأي والرؤيا والمرأى والمرئي والمرأة واسترأى وأرأى من كذا ، وفي ما أرأه وأرئه في التعجب.

وهذا الحذف الذي ذكرناه هو إذا كان مدلول رأي ما ذكرناه من الإبصار في يقظة أو نوم أو الاعتقاد ، فإن كانت رأى بمعنى أصاب رئته ، فلا تحذف الهمزة ، بل تقول : رآه يرآه : أي أصاب رئته ، نقله صاحب كتاب الأمر.
ولغة تميم إثبات الهمزة فيما حذف منه غيرهم ، فيقولون : يرأى وأرئي؟ وقال بعض العرب : فجمع بين حذف الهمزة والإثبات :
ألم تر ما لاقيت والدهر أعصر . . .
ومن يتمل العيش يرأى ويسمع
الجهرة : العلانية ، ومنه الجهر : ضد السر ، وفتح عين هذا النحو مسموع عند البصريين ، مقيس عند الكوفيين ، وقد تقدم شيء من ذلك.
ويقال : جهر الرجل الأمر : كشفه ، وجهرت الركية : أخرجت ما فيها من الحمأة وأظهرت الماء ، قال :
إذا وردنا آجناً جهرنا . . .
أو حالياً من أهله عمرنا
والجهوري : العالي الصوت ، وصوت جهير : عال ، ووجه جهير : ظاهر الوضاءة ، والأجهر : الأعمى ، سمي على الضد.
البعث : الإحياء ، وأصله الإثارة ، قال الشاعر :
أنيخها ما بدا لي ثم أبعثها . . .
كأنها كاسر في الجو فتخاء
وقال آخر :
وفتيان صدق قد بعثت بسحرة . . .
فقاموا جميعاً بين عان ونشوان
وقيل : أصله الإرسال ، ومنه : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا } وتأتي بمعنى الإفاقة من الغشي أو النوم ، { وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم } والقدر المشترك بين هذه المعاني هو إزالة ما يمنع عن التصرف.
ظلل : فعل ، وهو مشتق من الظل ، والظل أصله المنفعة ، والسحابة ظلة لما يحصل تحتها من الظل ، ومنه قيل : السلطان ظلّ الله في الأرض ، قال الشاعر :
فلو كنت مولى الظل أو في ظلاله . . .
ظلمت ولكن لا يدي لك بالظلم
الغمام : اسم جنس بينه وبين مفرده هاء التأنيث ، تقول : غمامة وغمام ، نحو حمامة وحمام ، وهو السحاب.
وقيل : ما ابيض من السحاب ، وقال مجاهد : هو أبرد من السحاب وأرق ، وسمي غماماً لأنه يغم وجه السماء : أي يستره ، ومنه : الغم والغمم والأغم والغمة والغمى والغماء ، وغمّ الهلال : ستر ، والنبت الغميم : هو الذي يستر ما يسامته من وجه الأرض.
المنّ : مصدر مننت ، أي قطعت ، والمن : الإحسان ، والمن : صمغة تنزل على الشجر حلوة ، وفي المراد به في الآية أقوال ستأتي ، إن شاء الله تعالى.
السلوى : اسم جنس ، واحدها سلواة ، قاله الخليل ، والألف فيها للإلحاق لا للتأنيث نحو : علقى وعلقاة ، إذ لو كانت للتأنيث لما أنث بالهاء ، قال الشاعر :
وإني لتعروني لذكراك سلوة . . .
كما انتفض السلواة من بلل القطر
وقال الكسائي : السلوى واحدة ، وجمعها سلاوي.
وقال الأخفش : جمعه وواحده بلفظ واحد.
وقيل : جمع لا واحد له من لفظه.
وقال مؤرخ السدوسي : السلوى هو العسل بلغة كنانة ، قال الشاعر :
وقاسمها بالله جهداً لأنتم . . .
ألذ من السلوى إذا ما نشورها

وقال غيره : هو طائر.
قال ابن عطية : وقد غلط الهذلي في قوله :
ألذ من السلوى إذا ما نشورها . . .
فظن السلوى العسل.
وعن هذا جوابان يبينان أن هذا ليس غلطاً : أحدهما : ما نقلناه عن مؤرج من كونه العسل بلغة كنانة ، والثاني : أنه تجوز في قوله : نشورها لأجل القافية ، فعبر عن الأكل بالشور ، على سبيل المجاز ، قالوا : واشتقاق السلوى من السلوة ، لأنه لطيبه يسلي عن غيره.
الطيب : فيعل من طاب يطيب ، وهو اللذيذ ، وتقدم الكلام في اختصاص هذا الوزن بالمعتل ، إلا ما شذ ، وفي تخفيف هذا النوع وبالمخفف منه سميت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبة.
{ وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم } : عدّ صاحب المنتخب هذا إنعاماً خامساً ، وقيل : هذه الآية وما بعدها منقطعة مما تقدم من التذكير بالنعم ، وذلك لأنه أمر بالقتل ، والقتل لا يكون نعمة ، وضعف بأن من أعظم النعم التنبيه على ما به يتخلصون من عقاب الذنب العظيم ، وذلك هو التوبة.
وإذا كان قد عدّد عليهم النعم الدنيوية ، فلأن يعدد عليهم النعم الدينية أولى.
ولما لم يكمل وصف هذه النعمة إلا بمقدمة ما تسببت عنه ، قدم ذكر ذلك ، وهذا الخطاب هو محاورة موسى لقومه حين رجع من الميقات ووجدهم قد عبدوا العجل.
واللام في قوله : لقومه ، للتبليغ ، وإقبال موسى عليه بالنداء ، ونداؤه بلفظ يا قوم ، مشعر بالتحنن عليهم ، وأنه منهم ، وهم منه ، ولذلك أضافهم إلى نفسه ، كما يقول الرجل : يا أخي ، ويا صديقي ، فيكون ذلك سبباً لقبول ما يلقى إليه ، بخلاف أن لو ناداه باسمه ، أو بالوصف القبيح الصادر منه.
وفي ذلك أيضاً هزلهم لقبولهم الأمر بالتوبة ، بعد تقريعهم بأنهم ظلموا أنفسهم ، وأي ظلم أعظم من اتخاذ إله غيره { إن الشرك لظلم عظيم } ونص على أنهم ظلموا أنفسهم بذلك لأنه أفحش الظلم ، لأن نفس الإنسان أحب شيء إليه ، فإذا ظلمها ، كان ذلك أفحش من أن يظلم غيره.
ويا قوم : منادى مضاف إلى ياء المتكلم ، وقد حذفت واجتزى بالكسرة عنها ، وهذه اللغة أكثر ما في القرآن.
وقد جاء إثباتها كقراءة من قرأ : يا عبادي فاتقون ، بإثبات الياء ساكنة ، ويجوز فتحها ، فتقول : يا غلامي ، وفتح ما قبلها وقلب الياء ألفاً ، فتقول : يا غلاماً.
وأجاز الأخفش حذف الألف والاجتزاء بالفتحة عنها ، فتقول : يا غلام ، وأجازوا ضمه وهو على نية الإضافة فتقول : يا غلام ، تريد : يا غلامي.
وعلى ذلك قراءة من قرأ : قل { ربّ احكم بالحق } { قال ربّ السجن أحب إليّ } هكذا أطلقوا ، وفصل بعضهم بين أن يكون فعلاً أو اسماً ، إن كان فعلاً فلا يجوز بناؤه على الضم ، ومثل الفعل بمثل : يا ضاربي ، فلا يجيز في هذا يا ضارب ، وظاهر الخطاب اختصاصه بمتخذي العجل.
وقيل : يجوز أن يراد به : من عبد ومن لم يعبد جعلوا ظالمين ، لكونهم لم يمنعوهم ولم يقاتلوهم.

والباء في { باتخاذكم العجل } سببية ، واحتمال الوجهين السابقين في قوله : { ثم اتخذتم العجل } جاء هنا ، أي بعملكم العجل وعبادته ، أو { باتخاذكم العجل إلهاً }.
قال السلمي : عجل كل واحد نفسه ، فمن أسقط مراده وخالف هواه فقد برىء من ظلمه.
{ فتوبوا إلى بارئكم } الفاء في فتوبوا معها التسبيب ، لأن الظلم سبب للتوبة ، ولما كان السامريّ قد عمل لهم من حليهم عجلاً ، قيل لهم : توبوا إلى بارئكم ، أي منشئكم وموجدكم من العدم ، إذ موجد الأعيان هو الموجد حقيقة.
وأما عمل العجل واتخاذه فليس فيه إبراز الذواب من العدم ، إنما ذلك تأليف تركيبي لا خلق أعيان ، فنبهوا بلفظ الباري على الصانع ، أي الذي أوجدكم هو المستحق للعبادة ، لا الذي صنعه ، مصنوع مثله ، فلذلك ، والله أعلم ، كان ذكر الباري هنا.
وقرأ الجمهور : بظهور حركة الإعراب في بارئكم ، وروي عن أبي عمرو : الاختلاس ، روي ذلك عنه سيبويه ، وروى عنه : الإسكان ، وذلك إجراء للمنفصل من كلمتين مجرى المتصل من كلمة ، فإنه يجوز تسكين مثل إبل ، فأجرى المكسوران في بارئكم مجرى إبل ، ومنع المبرد التسكين في حركة الإعراب ، وزعم أن قراءة أبي عمرو لحن ، وما ذهب إليه ليس بشيء ، لأن أبا عمرو لم يقرأ إلا بأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولغة العرب توافقه على ذلك ، فإنكار المبرد لذلك منكر ، وقال الشاعر :
فاليوم أشرب غير مستحقب . . .
إثماً من الله ولا واغل
وقال آخر :
رحت وفي رجليك ما فيهما . . .
وقد بداهنك من المئزر
وقال آخر :
أو نهر تيرى فما تعرفكم العرب . . .
وقد خلط المفسرون هنا في الردّ على أبي العباس ، فأنشدوا ما يدل على التسكين مما ليست حركته حركة إعراب.
قال الفارسي : أما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها ، ومما يدل على صحة قراءة أبي عمر وما حكاه أبو زيد من قوله تعالى : { ورسلنا لديهم يكتبون } وقراءة مسلمة ابن محارب : { وبعولتهنّ أحقّ بردّهن في ذلك } وذكر أبو عمرو : أن لغة تميم تسكين المرفوع من يعلمه ونحوه ، ومثل تسكين بارئكم ، قراءة حمزة ، { ومكر السيئ } وقرأ الزهريّ : باريكم ، بكسر الياء من غير همز ، وروي ذلك عن نافع.
ولهذه القراءة تخريجان أحدهما : أن الأصل الهمزة ، وأنه من برأ ، فخففت الهمزة بالإبدال المحض على غير قياس ، إذ قياس هذا التخفيف جعلها بين بين.
والثاني : أن يكون الأصل باريكم ، بالياء من غير همز ، ويكون مأخوذاً من قولهم : بريت القلم ، إذا أصلحته ، أو من البري : وهو التراب ، ثم حرك حرف العلة ، وإن كان قياسه تقديراً لحركة في مثل هذا رفعاً وجراً ، وقال الشاعر :
ويوماً توافينا الهوى غير ماضي . . .
وقال آخر :
ولم تختضب سمر العوالي بالدم . . .
وقال آخر :
خبيث الثرى كأبي الأزيد . . .
وهذا كله تعليل شذوذ.

وقد ذكر الزمخشري في اختصاص ذكر البارىء هنا كلاماً حسناً هذا نصه.
فإن قلت : من أين اختص هذا الموضع بذكر البارىء؟ قلت : البارىء هو الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت ، { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } ومتميزاً بعضه من بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة ، فكان فيه تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطيف حكمته على الأشكال المختلفة ، أبرياء من التفاوت والتنافر إلى عبادة البقر التي هي مثل في الغباوة والبلادة.
في أمثال العرب : أبلد من ثور ، حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغبطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها ، انتهى كلامه.
{ فاقتلوا أنفسكم } : ظاهر هذا أنه القتل المعروف من إزهاق الروح.
فظاهره أنهم يباشرون قتل أنفسهم.
والأمر بالقتل من موسى على نبينا وعليه السلام لا يكون إلا بوحي من الله تعالى ، إما بكونه كانت التوراة في شريعته متقررة بقتل النفس ، وإما بكونه أمر ذلك بأمر متجدد عقوبة لهؤلاء الذين عبدوا العجل ، والمأمور بقتل أنفسهم عبّاد العجل ، أو من عبد ومن لم يعبد.
والمعنى : اقتلوا الذين عبدوا العجل من أهلكم ، كقوله : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } أي من أهلكم وجلدتكم ، أو الجميع مأمورون بقتل أنفسهم ، ثلاثة أقوال.
وقال ابن إسحاق : أمروا بأن يستسلموا للقتل ، وسمي الاستسلام للتقل قتلاً على سبيل المجاز.
وقيل : معنى فاقتلوا أنفسكم : ذللوا أهواءكم.
وقد قدمنا أن التقتيل بمعنى التذليل ، ومنه أيضاً قول حسان :
إن التي عاطيتني فرددتها . . .
قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
فتلخص في قوله : { فاقتلوا } ، ثلاثة أقوال : الأول : الأمر بقتل أنفسهم.
الثاني : الاستسلام للقتل.
والثالث : التذليل للأهواء.
والأول هو الظاهر ، وهو الذي نقله أكثر الناس.
وظاهر الكلام أنهم هم المأمورون بقتل أنفسهم ، فقيل : وقع القتل هكذا قتلوا أنفسهم بأيديهم.
وقيل : قتل بعضهم بعضاً من غير تعيين قاتل ولا مقتول.
وقيل : القاتلون هم الذين اعتزلوا مع هارون ، والمقتولون عباد العجل.
وقيل : القاتلون هم الذين كانوا مع موسى في المناجاة بطور سيناء ، والمقتولون من عداهم.
وإذا قلنا : إن بعضهم قتل بعضاً ، فاختلفوا في كيفية القتل ، فقيل : اصطفوا صفين ، فاجتلدوا بالسيوف والخناجر ، فقتل بعضهم بعضاً حتى قيل لهم : كفوا ، فكان ذلك شهادة للمقتول ، وتوبة للقاتل ، وقيل : أرسل الله عليهم ظلاماً ففعلوا ذلك.
وقيل : وقف عباد العجل صفاً ، ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم.
وقيل : احتبى عباد العجل في أفنية دورهم ، أو في موضع غيره ، وخرج عليهم يوشع بن نون وهم محتبون فقال : ملعون من حل حبوته ، أو مد طرفه إلى قاتله ، أو اتقاه بيد أو رجل ، فيقولون : آمين.
فما حل أحد منهم حبوته حتى قتل منهم سبعون ألفاً.

وفي رواية ، قال لهم : من حل حبوته لم تقبل توبته ، ولم يذكر اللعنة.
وقيل : إن الرجل كان يبصر ولده ووالده وجاره وقريبه ، فلم يمكنهم المضي لأمر الله ، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها ، وأمروا أن يحتبوا بأفنية بيوتهم ، ويأخذ الذين لم يعبدوا العجل سيوفهم ، وقيل لهم : أصبروا ، فلعن الله من مد طرفه ، أو حل حبوته ، أو اتقى بيد أو رجل ، فيقولون : آمين ، فقتلوهم إلى المساء ، حتى دعا موسى وهارون ، قالا : يا رب! هلكت بنو إسرائيل البقية البقية ، فكشفت السحابة ونزلت التوبة ، فسقطت الشفار من أيديهم ، وكانت القتلى سبعين ألفاً.
انتهى ما نقلناه من بعض ما أورده المفسرون في كيفية القتل وفي القاتلين والمقتولين.
وفي ذلك من الاتعاظ والاعتبار ما يوجب مبادرة الازدجار عن مخالفة الملك القهار.
وانظر إلى لطف الله بهذه الملة المحمدية ، إذ جعل توبتها في الإقلاع عن الذنب ، والندم عليه ، والعزم على عدم المعاودة إليه.
والفاء في قوله : { فاقتلوا أنفسكم } ، إن قلنا : إن التوبة هي نفس القتل ، وأن الله تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم ، فتكون هذه الجملة بدلاً من قوله ، فتوبوا ، والفاء كهي في فتوبوا معها السببية.
وإن قلنا : إن القتل هو تمام توبتهم ، فتكون الفاء للتعقيب ، والمعنى فأتبعوا التوبة القتل ، تتمة لتوبتكم.
وقد أنكر في المنتخب كون القتل يكون توبة وجعل القتل شرطاً في التوبة ، فأطلق عليه مجازاً ، كما يقال للغاصب إذا قصد التوبة : توبتك رد ما غصبت ، يعني أنه لا تتم توبتك إلا به ، فكذلك هنا.
وتعدية التوبة بإلى معناه الانتهاء بها إلى الله ، فتكون بريئة من الرياء في التوبة ، لأنهم إن راءوا بها لم تكن إلى الله.
ولا يلتفت إلى ما وقع في المنتخب من أن المفسرين أجمعوا على أنهم ما قتلوا أنفسهم بأيديهم ، إذ قد نقلنا أن منهم من قال ذلك ، فليس بإجماع.
وأما منع عبد الجبار ذلك من جهة العقل ، بأن القتل هو نقض البنية التي عنده ، يجب أن يخرج من أن يكون حياً ، وما عدا ذلك إنما يسمى قتيلاً على سبيل المجاز ، قال : وهذا لا يجوز أن يأمر الله به ، لأن العبادات الشرعية إنما تحسن لكونها مصالح لذلك المكلف ، ولا يكون مصلحة إلا في الأمور المستقبلة ، وليس بعد القتل حال تكليف حتى يكون القتل مصلحة فيه ، وهذا بخلاف ما يفعله الله من الإماتة ، لأن ذلك من فعل الله تعالى ، فيحسن أن يفعله إذا كان صلاحاً لمكلف آخر ، وبخلاف أن يأمر الله بأن يجرح نفسه أو يقطع عضواً من أعضائه ، ولا يحصل الموت عقيبه ، لأنه لما بقي بعد ذلك الفعل حياً لم يمتنع أن يكون ذلك الفعل صلاحاً في الأفعال المستقبلة.
انتهى كلامه ، وهو مبني على قاعدتهم في الاعتزال من مراعاة المصلحة.

والكلام معهم في ذلك مذكور في أصول الدين ، مع أنه يمكن أن يقال هنا بالمصلحة ، لأن الأمر بالقتل ليس إلا من باب الزواجر والروادع ، وليس من شرط ذلك اعتبار حال المكلف ، بل يصنع الزواجر لازدجار غيره.
وإذا فعل مثل هذا الفعل العظيم الذي هو القتل بمن عبد العجل ، اتعظ به غيره وانكف عن الوقوع فيما لا يكون التوبة منه إلا بالقتل.
وقرأ قتادة فيما نقل المهدوي وابن عطية والتبريزي وغيرهم : فأقيلوا أنفسكم وقال الثعلبي : قرأ قتادة : فاقتلوا أنفسكم.
فأما فأقيلوا ، فهو أمر من الإقالة ، وكأنّ المعنى : أن أنفسكم قد تورطت في عذاب الله بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه من عبادة العجل ، وقد هلكت فأقيلوها بالتوبة والتزام الطاعة ، وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات.
وأما فاقتالوا أنفسكم ، فقالوا : هو افتعل بمعنى استفعل ، أي فاستقيلوها ، والمشهور استقال لا اقتال.
قال ابن جني : يضعف أن يكون عينها واواً كاقتادوا ، ويحتمل طأن تكون ياء كأقياس ، والتصريف يضعف أن يكون من الاستقالة ، كما قال ابن جني ، فهذه اللفظة لا شك مسموعة بدليل نقل قتادة لها ويكون مما جاءت فيه افتعل بمعنى استفعل ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل ، وذلك نحو : اعتصم واستعصم.
قال السلميّ : فتوبوا إلى بارئكم.
ارجعوا إليه بأسراركم وقلوبكم ، فاقتلوا أنفسكم بالتبري منها ، فإنها لا تصلح لبساط الإنس.
وقال الواسطي : كانت توبة بني إسرائيل قتل أنفسهم ، ولهذه إلامة أشد ، وهو إفناء نفوسهم عن مرادها مع بقاء رسوم الهياكل.
وقال فارس : التوبة محو البشرية بمباينات الإلهية.
وقيل : توبوا إليه من أفعالكم وأقوالكم وطاعاتكم ، واقتلوا أنفسكم في طاعاته ، وقتل النفس عما دون الله وعن الله بالفراغ من طلب الجزاء حتى ترجع إلى أصل العدم ، ويبقى الحق كما لم يزل.
وقال بعض أهل اللطائف : التوبة بقتل النفس غير منسوخة ، لأن بني إسرائيل كان لهم قتل أنفسهم جهراً ، وهذه إلامة قتل أنفسهم في أنفسهم ، وأول قدم في القصد إلى الله الخروج عن النفس توهم الناس أن توبة بني إسرائيل كانت أشق ، ولا كما توهموا ، فإن ذلك كان مقاساة القتل مرة ، وأما أهل الخصوص ففي كل لحظة قتل ، قال الشاعر :
ليس من مات فاستراح بميت . . .
إنما الميت ميت الأحياء
{ ذلكم } : إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله : فاقتلوا ، لأنه أقرب مذكور ، أي القتل : { خير لكم } وقال بعضهم : هو إشارة إلى المصدرين المفهومين من قوله : فتوبوا واقتلوا ، فأوقع المفرد موقع التثنية ، أي فالتوبة والقتل خير لكم ، فيكون مثل قولهم في قوله تعالى : { عوان بين ذلك } أي بين ذينك أي الفارض والبكر ، وكذلك قوله :
إن للخير وللشر مدى . . .
وكلا ذلك وجه وقبل
أي : وكلا ذينك ، وهذا ينبني على ما قدمناه من أن قوله : فاقتلوا ، هل هو تفسير للتوبة؟ فتكون التوبة هي القتل.

فينبغي أن يكون ذلكم مفرداً أشير به إلى مفرد ، وهو القتل ، أو يكون القتل مغايراً للتوبة ، فيتحتمل هذا الذي قاله هذه القائل ، ولكن الأرجح خير ، إن كانت للتفضيل فقيل : المعنى خير من العصيان والأصرار على الذنب.
وقيل : خير من ثمرة العصيان ، وهو الهلاك الذي لهم ، إذ الهلاك المتناهي خبر من الهلاك غير المتناهي ، إذ الموت لا بد منه ، فليس فيه إلا التقديم والتأخير.
وكلا هذين التوجيهين ليس التفضيل على بابه ، إذ العصيان والهلاك غير المتناهي لا خير فيه ، فيوصف غيره بأنه أزيد في الخيرية عليه ، ولكن يكون على حد قولهم : العسل أحلى من الخل.
ويحتمل أن لا يكون للتفضيل بل أريد به خير من الخيور.
لكم : متعلق بخير إن كان للتفضيل ، وإن كانت على أنها خير من الخيور فيتعلق بمحذوف ، أي خير كائن لكم.
والتخريجان يجريان في نصب قوله : { عند بارئكم }.
والعندية هنا مجاز ، إذ هي ظرف مكان وتجوّز به عن معنى حصول ثوابهم من الله تعالى.
وكرر البارىء باللفظ الظاهر توكيداً ، ولأنها جملة مستقلة فناسب الإظهار ، وللتنبيه على أن هذا الفعل هو راجح عند الذي أنشأكم ، فكما رأى أن إنشاءكم راجح ، رأى أن إعدامكم بهذا الطريق من القتل راجح ، فينبغي التسليم له في كل حال ، وتلقي ما يرد من قبله بالقبول والامتثال.
{ فتاب عليكم } : ظاهره أنه إخبار من الله تعالى بالتوبة عليهم ، ولا بد من تقدير محذوف عطفت عليه هذه الجملة ، أي فامتثلتم ذلك فتاب عليكم.
وتكون هاتان الجملتان مندرجتين تحت الإضافة إلى الظرف الذي هو : إذ في قوله : { وإذ قال موسى لقومه }.
وأجاز الزمخشري أن يكون مندرجاً تحت قول موسى على تقدير شرط محذوف ، كأنه قال : فإن فعلتم فقد تاب عليكم ، فتكون الفاء إذ ذاك رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط المحذوفة ، هي وحرف الشرط ، وما ذهب إليه الزمخشري لا يجوز ، وذلك أن الجواب يجوز حذفه كثيراً للدليل عليه.
وأما فعل الشرط وحده دون الأداة فيجوز حذفه إذا كان منفياً بلا في الكلام الفصيح ، نحو قوله :
فطلقها فلست لها بكفؤ . . .
وإن لا يعل مفرقك الحسام
التقدير : وأن لا تطلقها يعل ، فإن كان غير منفي بلا ، فلا يجوز ذلك إلا في ضرورة ، نحو قوله :
سقته الرواعد من صيف وإن . . .
من خريف فلن يعدما
التقدير : وإن سقته من خريف فلن يعدم الري ، وذلك على أحد التخريجين في البيت ، وكذلك حذف فعل الشرط وفعل الجواب دون أن يجوز في الضرورة ، نحو قوله :
قالت بنات العمّ يا سلمى وإن . . .
كان عيياً معدماً قالت وإن
التقدير : وإن كان عيياً معدماً أتزوجه.
وأما حذف فعل الشرط وأداة الشرط معاً ، وإبقاء الجواب ، فلا يجوز إذا لم يثبت ذلك من كلام العرب.

وأما جزم الفعل بعد الأمر والنهي وأخواتهما فله.
ولتعليل ما ذكرنا من الأحكام مكان آخر يذكر في علم النحو.
وظاهر قوله : { فتاب عليكم } أنه كما قلنا : إخبار عن المأمورين بالقتل الممتثلين ذلك.
وقال ابن عطية : معناه على الباقين ، وجعل الله القتل لمن قتل شهادة ، وتاب على الباقين وعفا عنهم ، انتهى كلامه.
{ إنه هو التواب الرحيم } : تقدم الكلام على هذه الجملة عند قوله تعالى في قصة آدم : { فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم } فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
{ وإذ قلتم يا موسى } : هذه محاورة بني إسرائيل لموسى ، وذلك بعد محاورته لهم في الآية قبل هذا.
والضمير في قلتم قيل للسبعين المختارين ، قاله ابن مسعود وقتادة ، وذكر في اختيار السبعين كيفية ستأتي ، إن شاء الله تعالى ، في مكانها في الأعراف.
وقيل : الضمير لسائر بني إسرائيل إلا من عصمه الله ، قاله ابن زيد.
وقيل : الذين انفردوا مع هارون ولم يعبدوا العجل.
وقال بعض من جمع في التفسير : تظافرت أقوال أئمة التفسير على أن الذين أصابتهم الصاعقة هم السبعون رجلاً الذين اختارهم موسى ومضى بهم لميقات ربه ومناجاته ، وما ذكر لا يمكن مع ذكر الاختلاف في قوله : { وإذ قلتم } ، لأن الظاهر أن القائل ذلك هم الذين أخذتهم الصاعقة ، إلا إن كان ذلك من تلوين الخطاب ، وهو هنا بعيد.
وفي نداء بني إسرائيل لنبيهم باسمه سوء أدب منهم معه ، إذ لم يقولوا : يا نبي الله ، أو يا رسول الله ، أو يا كليم الله ، أو غير ذلك من الألفاظ التي تشعر بصفات التعظيم ، وهي كانت عادتهم معه : يا موسى لن نصبر على طعام واحد ، يا موسى اجعل لنا إلهاً ، يا موسى ادع لنا ربك.
وقد قال الله لهذه الأمّة لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً.
.
{ لن نؤمن لك } : قيل معناه : لن نصدّقك فيما جئت به من التوراة ، ولم يريدوا نفي الإيمان به بدليل قولهم لك ، ولم يقولوا بك نحو : { وما أنت بمؤمن لنا } ، أي بمصدّق.
وقيل معنا : لن نقرّ لك ، فعبر عن الإقرار بالإيمان وعدّاه باللام ، وقد جاء { لتؤمنن به ولتنصرنه } قَال { أأقرتم وأخذتم على ذلكم إصري } قالوا : أقررنا ، فيكون المعنى : لن نقرّ لك بأن التوراة من عند الله.
وقيل : يجوز أن تكون اللام للعلة ، أي لن نؤمن لأجل قولك بالتوراة.
وقيل : يجوز أن يراد نفي الكمال ، أي لا يكمل إيماننا لك ، كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يؤمن عبد حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وأهله والناس أجمعين »
{ حتى نرى الله جهرة } حتى : هنا حرف غاية ، أخبروا بنفي إيمانهم مستصحباً إلى هذه الغاية ومفهومها أنهم إذا رأوا الله جهرة آمنوا ، والرؤية هنا : هي البصرية ، وهي التي لا حجاب دونها ولا ساتر ، وانتصاب جهرة على أنه مصدر مؤكد مزيل لاحتمال الرّؤية أن تكون مناماً أو علماً بالقلب.

والمعنى حتى نرى الله عياناً ، وهو مصدر من قولك : جهر بالقراءة وبالدعاء ، أي أعلن بها فأريد بها نوع من الرّؤية ، فانتصابها على حدّ قولهم : قعد القرفصاء ، وفي : نصب هذا النوع خلاف مذكور في النحو.
والأصح أن يكون منصوباً بالفعل السابق يعدي إلى النوع ، كما تعدّى إلى لفظ المصدر الملاقي مع الفعل في الاشتقاق ، وقيل انتصابه على أنه مصدر في موضع الحال على تقدير الحذف ، أي ذوي جهرة ، أو على معنى جاهرين بالرؤية لا على طريق المبالغة نحو : رجل صوم ، لأن المبالغة لا تراد هنا.
فعلى القول الأوّل تكون الجهرة من صفات الرّؤية ، وعلى هذا القول تكون من صفات الرائين ، وثم قول ثالث ، وهو أن يكون راجعاً لمعنى القول ، أو القائلين ، فيكون المعنى : وإذ قلتم كذا قولاً جهرة أو جاهرين بذلك القول ، لم يسروه ولم يتكاتموا به ، بل صرحوا به وجهروا بأنهم أخبروا بانتفاء الإيمان مغياباً لرؤية.
والقول بأن الجهرة راجع لمعنى القول مروي عن ابن عباس وأبي عبيدة ، والظاهر تعلقه بالرؤية لا بالقول ، وهو الذي يقتضيه التركيب الفصيح.
وقرأ ابن عباس وسهل بن شعيب وحميد بن قيس : جهرة ، بفتح الهاء ، وتحتمل هذه القراءة وجهين : أحدهما : أن يكون جهرة مصدراً كالغلبة ، فتكون معناها ومعنى جهرة المسكنّة الهاء سواء ، ويجري فيها من الإعراب الوجوه التي سبقت في جهرة.
والثاني : أن يكون جمعاً لجاهر ، كما تقول : فاسق وفسقة ، فيكون انتصابه على الحال ، أي جاهرين بالرؤية.
قال الزمخشري : وفي هذا الكلام دليل على أن موسى عليه السلام رادّهم ، وعرّفهم أن رؤية ما لا يجوز عليه أن يكون في جهة محال ، وأن من استجاز على الله الرؤية ، فقد جعله من جملة الإقسام أو الإعراض ، فرادوه بعد بيان الحجة ووضوح البرهان ، ولجوا فكانوا في الكفر كعبدة العجل ، فسلط الله عليهم الصاعقة ، كما سلط على أولئك القتل ، تسوية بين الكفرين ، ودلالة على عظمها بعظم المحنة.
اه.
كلامه.
وهو مصرّح باستحالة رؤية الله تعال بالأبصار.
وهذه المسألة فيها خلاف بين المسلمين.
ذهبت القدرية والمعتزلة والنجارية والجهمية ومن شاركهم من الخوارج إلى استحالة ذلك في حق الباري سبحانه وتعالى ، وذهب أكثر المسلمين إلى إثبات الرؤية.
فقال الكرامية : يرى في جهة فوق وله تحت ، ويرى جسماً ، وقالت المشبهة : يرى على صورة ، وقال أهل السنة : لا مقابلاً ، ولا محاذياً ، ولا متمكناً ، ولا متحيزاً ، ولا متلوناً ، ولا على صورة ولا هيئة ، ولا على اجتماع وجسمية ، بل يراه المؤمنون ، يعلمون أنه بخلاف المخلوقات كما علموه كذلك قبل.
وقد استفاضت الأحاديث الصحيحة الثابتة في رؤية الله تعالى ، فوجب المصير إليها.
وهذه المسألة من أصعب مسائل أصول الدين ، وقد رأيت لأبي جعفر الطوسي من فضلاء الإمامية فيها مجلدة كبيرة ، وليس في الآية ما يدل على ما ذهب إليه الزمخشري من استحالة الرؤية ، لكن عادته تحميل الألفاظ ما لا تدل عليه ، خصوصاً ما يجر إلى مذهبه الإعتزالي ، نعوذ بالله من العصبية فيما لا ينبغي.

وكذلك اختلفوا في رؤية الحق نفسه ، فذهب أكثر المعتزلة إلى أنه لا يرى نفسه ، وذهبت طائفة منهم إلى أنه يرى نفسه ، وذهب الكعبي إلى أنه لا يرى نفسه ولا غيره ، وهذا مذهب النجار ، وكل ذلك مذكور في علم أصول الدين.
{ فأخذتكم الصاعقة } : أي استولت عليكم وأحاطت بكم.
وأصل الأخذ : القبض باليد.
والصاعقة هنا : هل هي نار من السماء أحرقتهم ، أو الموت ، أو جند سماوي سمعوا حسهم فماتوا ، أو الفزع فدام حتى ماتوا ، أو غشي عليهم ، أو العذاب الذي يموتون منه ، جو صيحة سماوية؟ أقوال ، أصحها : أنها سبب الموت ، لا الموت ، وإن كانوا قد اختلفوا في السبب ، قاله المحققون لقوله تعالى : { فلما أخذتهم الرّجفة } وأجمع المفسرون على أن المدّة من الموت أو الصعق كانت يوماً وليلة.
وقيل : أصاب موسى ما أصابها ، وقيل صعق ولم يمت ، قالوا : وهو الصحيح ، لأنه جاء ، فلما أفاق في حق موسى وجاء ، ثم بعثناكم في حقهم ، وأكثر استعماله البعث في القرآن بعث الأموات.
وقيل : غشي عليهم كهو ولم يموتوا ، والصعق يطلق على غير الموت ، وقال جرير :
وهل كان الفرزدق غير قرد . . .
أصابته الصواعق فاستدارا
والظاهر أن سبب أخذ الصاعقة إياهم قولهم : { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } ، إذ لم يقولوا ذلك ويسألوا الرؤية إلا على سبيل التعنت ، وقيل : سبب أخذ الصعقة إياهم هو غير هذا القول من كفرهم بموسى ، أو تكذيبهم إياه لما جاءهم بالتوراة أو عبادة العجل.
وقرأ عمرو على الصعقة ، واستعظم سؤال الرؤية حيث وقع ، لأن رؤيته لا تحصل إلا في الآخرة ، فطلبها في الدنيا هو مستنكر ، أو لأن حكم الله أن يزيل التكليف عن العبد حال ما يراه ، فكان طلبها طلباً لإزالة التكليف ، أو لأنه لما دلت الدلائل على صدق المدّعي كان طلب الدلائل الزائدة تعنتاً ولأن في منع الرؤية في الدنيا ضرباً من المصلحة المهمة للخلق ، فلذلك استنكر.
.
{ وأنتم تنظرون } : جملة حالية ، ومتعلق النظر : أخذ الصعقة إياكم ، أي وأنتم تنظرون إلى ما حل بكم منها أو بعضكم إلى بعض كيف يخرّ ميتاً ، أو إلى الأحياء ، أو تعلمون أنها تأخذكم.
فعبر بالنظر عن العلم ، أو إلى آثار الصاعقة في أجسامكم بعد أن بعثتم ، أو ينظر كل منكم إلى إحياء نفسه ، كما وقع في قصة العُزير ، قالوا : حي عضواً بعد عضو ، أو إلى أوائل ما كان ينزل من الصاعقة قبل الموت ، أو أنتم يقابل بعضكم بعضاً من قول العرب دور آل فلان تتراءى ، أي يقابل بعضها بعضاً ، ولو ذهب ذاهب إلى أن المعنى { وأنتم تنظرون } إجابة السؤال في حصول الرؤية لهم ، لكان وجهاً من قولهم : نظرت الرجل ، أي انتظرته ، كما قال الشاعر :

فإنكما إن تنظراني ساعة . . .
من الدهر تنفعني لدى أم جندب
لكن هذا الوجه ليس بمنقول ، فلا أجسر على القول به ، وإن كان اللفظ يحتمله.
وقد عدّ صاحب المنتخب هذا إنعاماً سادساً ، وذكر في كونه إنعاماً وجوهاً : منها ما يتعلق بغير بني إسرائيل ، ومنها ما يتعلق بهم ، والمقصود ذكر ما يتعلق بكون ذلك إنعاماً ، وهو أن إحياءهم لأن يتوبوا عن التعنت ، ولأن يتخلصوا من أليم العقاب ويفوزوا بجزيل الثواب من أعظم النعم ، ولا تدل هذه الآية على أن قولهم هذا بعد أن كلف عبدة العجل بالقتل ولا قبله.
وقد قيل بكل من القولين ، لأن هذه الجمل معطوفة بالواو ، والواو لا تدل بوضعها على الترتيب الزماني.
قال بعضهم : لما أحلهم الله محل مناجاته ، وأسمعهم لذيذ خطابه ، اشرأبّت نفوسهم للفخر وعلوّ المنزلة ، فعاملهم الله بنقيض ما حصل في أنفسهم بالصعقة التي هي خضوع وتذلل تأديباً لهم وعبرة لغيرهم ، { إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار }
{ ثم بعثناكم من بعد موتكم } : معطوف على قوله : { أخذتكم الصاعقة } ، ودل العطف بثم على أن بين أخذ الصاعقة والبعث زماناً تتصوّر فيه المهلة والتأخير ، هو زمان ما نشأ عن الصاعقة من الموت ، أو الغشي على الخلاف الذي مرّ.
والبعث هنا : الإحياء ، ذكر أنهم لما ماتوا لم يزل موسى يناشد ربه في إحيائهم ويقول : يا رب إن بني إسرائيل يقولون قتلت خيارنا حتى أحياهم الله جميعاً رجلاً بعد رجل ، ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون.
وقيل : معنى البعث الإرسال ، أي أرسلناكم.
روي أنه لما أحياهم الله سألوا أن يبعثهم أنبياء فبعثهم أنبياء.
وقيل : معنى البعث : الإفاقة من الغشية ، ويتخرّج على قول من قال إنهم صعقوا ولم يموتوا.
وقيل : البعث هنا : القيام بسرعة من مصارعهم ، ومنه قالوا : { يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا } ؟ وقيل معنى البعث هنا ، التعليم ، أي ثم علمناكم من بعد جهلكم ، والموت هنا ظاهرة مفارقة الروح الجسد ، وهذا هو الحقيقة ، وكان إحياؤهم لأجل استيفاء أعمارهم.
ومن قال : كان ذلك غشياً وهموداً كان الموت مجازاً ، قال تعالى : { ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت } والذي أتاه مقدّماته سميت موتاً على سبيل المجاز ، قال الشاعر :
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا . . .
قولاً يبرئكم إني أنا الموت
جعل نفسه الموت لما كان سبباً للموت ، وكذلك إذا حمل الموت على الجهل كان مجازاً ، وقد كنى عن العلم بالحياة ، وعن الجهل بالموت.
قال تعالى : { أو من كان ميتاً فأحييناه } وقال الشافعي ، رحمه الله :
إنما النفس كالزجاجة . . .
والعلم سراج وحكمة الله زيت
فإذا أبصرت فإنك حيّ . . .
وإذا أظلمت فإنك ميت

وقال ابن السيد :
أخو العلم حي خالد بعد موته . . .
وأوصاله تحت التراب رميم
وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى . . .
يظنّ من الأحياء وهو عديم
ولا يدخل موسى على نبينا وعليه السلام في خطاب ثم { بعثناكم } ، لأنه خطاب مشافهة للذين قالوا : { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } ، ولقوله : { فلما أفاق } ، ولا يستعمل هذا في الموت.
وأخطأ ابن قتيبة في زعمه أن موسى قد مات { لعلكم تشكرون } : وفي متعلق الشكر أقوال ينبني أكثرها على المراد بالبعث والموت.
فمن زعم أنهما حقيقة قال : المعنى لعلكم تشكرون نعمته بالإحياء بعد الموت ، أو على هذه النعمة وسائر نعمه التي أسداها إليهم ، ومن جعل ذلك مجازاً عن إرسالهم أنبياء ، أو إثارتهم من الغشي ، أو تعليمهم بعد الجهل ، جعل متعلق الشكر أحد هذه المجازات.
وقد أبعد من جعل متعلق الشكر إنزال التوراة التي فيها ذكر توبته عليهم وتفصيل شرائعه ، بعد أن لم يكن شرائع.
وقيل : المعنى لعلكم تشكرون نعمة الله بعدما كفرتموها إذا رأيتم بأس الله في رميكم بالصاعقة وإذاقتكم الموت.
وقال في المنتخب : إنما بعثهم بعد الموت في دار الدنيا ليكلفهم وليتمكنوا من الإيمان ومن تلافي ما صدر عنهم من الجرائم.
أمّا أنه كلفهم ، فلقوله : { لعلكم تشكرون }.
ولفظ الشكر يتناول جميع الطاعات لقوله : { اعملوا آل داود شكراً } انتهى كلامه.
وقال الماوردي : اختلف في بقاء تكليف من أعيد بعد موته ، ومعاينة الأهوال التي تضطره وتلجئه إلى الاعتراف بعد الاقتراف.
فقال قوم : سقط عنهم التكليف ليكون تكليفهم معتبراً بالاستدلال دون الاضطرار.
وقال قوم : يبقى تكليفهم لئلا يخلو بالغ عاقل من تعبد ، ولا يمنع حكم التكليف بدليل قوله تعالى : { وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة } وذلك حين أبوا أو يقبلوا التوراة ، فلما نتق الجبل فوقهم آمنوا وقبلوها ، فكان إيمانهم بها إيمان اضطرار ، ولم يسقط عنهم التكليف ، ومثلهم قوم يونس في إيمانهم.
اه كلامه.
{ وظللنا عليكم الغمام } الغمام : مفعول على إسقاط حرف الجرّ ، أي بالغمام ، كما تقول : ظللت على فلان بالرداء ، أو مفعول به لا على إسقاط الحرف ، ويكون المعنى جعلناه عليكم ظللاً.
فعلى هذا الوجه الثاني يكون فعل فيه ، يجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه كقولهم : عدّلت زيداً ، أي جعلته عدلاً ، فكذلك هذا معناه : جعلنا الغمام عليكم ظلة ، وعلى الوجه الأول تكون فعل فيه بمعنى أفعل ، فيكون التضعيف أصله للتعدية ، ثم ضمن معنى فعل يعدى بعلى ، فكان الأصل : وظللناكم ، أي أظللناكم بالغمام ، نحو ما ورد في الحديث : « سبعة يظلهم الله في ظله » ، ثم ضمن ظلل معنى كلل أو شبهة مما يمكن تعديته بعلى ، فعداه بعلى.
وقد تقدم ذكر معاني فعل ، وليس المعنى على ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، إذ ظاهره يقتضي أن الغمام ظلل علينا ، فيكون قد جعل على الغمام شيء يكون ظلة للغمام ، وليس كذلك ، بل المعنى ، والله أعلم ، ما ذكره المفسرون.

وقد تقدّم تفسير الغمام ، وقيل : إنه الغمام الذي أتت فيه الملائكة يوم بدر ، وهو الذي تأتي فيه ملائكة الرحمن ، وهو المشار إليه بقوله : { في ظلل من الغمام والملائكة } وليس بغمام حقيقة ، وإنما سمي غماماً لكونه يشبه الغمام.
وقيل : الذين ظلّل عليهم الغمام بعض بني إسرائيل ، وكان الله قد أجرى العادة في بني إسرائيل أن من عبد الله ثلاثين سنة لا يحدث فيها ذنباً أظلّته غمامة.
وحكي أن شخصاً عبد ثلاثين سنة فلم تظله غمامة ، فجاء إلى أصحاب الغمائم فذكر لهم ذلك فقالوا : لعلك أحدثت ذنباً ، فقال : لا أعلم شيئاً إلا أني رفعت طرفي إلى السماء وأعدته بغير فكر ، فقالوا له : ذلك ذنبك ، وكانت فيهم جماعة يسمون أصحاب الغمائم ، فامتنّ الله عليهم بكونهم فيهم من له هذه الكرامة الظاهرة الباهرة.
والمكان الذي أظلتهم فيه الغمامة كان في التيه بين الشام ومصر لما شكوا حر الشمس ، وسيأتي بيان ذلك في قصتهم.
وقيل : أرض بيضاء عفراء ليس فيها ماء ولا ظل ، وقعوا فيها حين خرجوا من البحر ، فأظلهم الله بالغمام ، ووقاهم حرّ الشمس.
{ وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى } المنّ : اسم جنس لا واحد له من لفظه.
وفي المن الذي أنزله الله على بني إسرائيل أقوال : ما يسقط على الشجر أحلى من الشهد وأبيض من الثلج ، وهو قول ابن عباس والشعبي ، أو صمغة طيبة حلوة ، وهو قول مجاهد؛ أو شراب كان ينزل عليهم يشربونه بعد مزجه بالماء ، وهو قول الرّبيع أبن أنس وأبي العالية؛ أو عسل كان ينزل عليهم ، وهو قول ابن زيد؛ أو الرقاق المتخذ من الذرة أو من النقي ، وهو قول وهب؛ أو الزنجبيل ، وهو قول السدّي ، أو الترنجبين ، وعليه أكثر المفسرين؛ أو عسل حامض ، قاله عمرو بن عيسى؛ أو جميع ما منّ الله به عليهم في التيه وجاءهم عفواً من غير تعب ، قاله الزّجاج ، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم : « الكمأة من المنّ الذي منّ الله به على بني إسرائيل » وفي رواية : على موسى.
وفي السلوى الذي أنزله الله على بني إسرائيل أقوال : طائر يشبه السماني ، أو هو السماني نفسه ، أو طيور حمر بعث الله بها سحابة فمطرت في عرض ميل وطول رمح في السماء بعضه على بعض ، قاله أبو العالية ومقاتل؛ أو طير يكون بالهند أكبر من العصفور ، قاله عكرمة؛ أو طير سمين مثل الحمام؛ أو العسل بلغة كنانة ، وكانت تأتيهم السلوى من جهة السماء ، فيختارون منها السمين ويتركون الهزيل؛ وقيل : كانت ريح الجنوب تسوقها إليهم فيختارون منها حاجتهم ويذهب الباقي.

وقيل : كانت تنزل على الشجر فينطبخ نصفها وينشوي نصفها.
وكان المنّ ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، والسلوى بكرة وعشياً ، وقيل : دائماً ، وقيل : كلما أحبوا.
وقد ذكر المفسرون حكايات في التظليل ونزول المنّ والسلوى ، وتظافرت أقاويلهم أن ذلك كان في فحص التيه ، وستأتي قصته في سورة المائدة ، إن شاء الله تعالى ، وأنهم قالوا : من لنا من حراك الشمس؟ فظلل عليهم الغمام ، وقالوا : من لنا بالطعام؟ فأنزل الله عليهم المن والسلوى ، وقالوا : من لنا بالماء؟ فأمر الله موسى بضرب الحجر ، وهذه دل عليها القرآن.
وزيد في تلك الحكايات أنهم قالوا : بم نستصبح؟ فضرب لهم عمود من نور في وسط محلتهم ، وقيل : من نار ، وقالوا : من لنا باللباس؟ فأعطوا أن لا يبلى لهم ثوب ، ولا يخلق ، ولا يدرن ، وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان.
{ كلوا } : أمر إباحة وإذن كقوله : { فاصطادوا } { فانتشروا في الأرض } وذلك على قول من قال : إن الأصل في الأشياء الحظر ، أو دوموا على الأكل على قول من قال الأصل فيها الإباحة ، وههنا قول محذوف ، أي وقلنا : كلوا ، والقول يحذف كثيراً ويبقى المقول ، وذلك لفهم المعنى ، ومنه : أكفرتم؟ أي فيقال : أكفرتم؟ وحذف المقول وإبقاء القول قليل ، وذلك أيضاً لفهم المعنى ، قال الشاعر :
لنحن الألى قلتم فأنى ملئتم . . .
برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا
التقدير : قلتم نقاتلهم.
{ من طيبات } : من : للتبعيض لأن المن والسلوى بعض الطيبات ، وأبعد من ذهب إلى أنها زائدة ، ولا يتخرج ذلك إلا على قول الأخفش ، وأبعد من هذا قول من زعم أنها للجنس ، لأن التي للجنس في إثباتها خلاف ، ولا بد أن يكون قبلها ما يصلح أن يقدر بعده موصول يكون صفة له.
وقول من زعم أنها للبدل ، إذ هو معنى مختلف في إثباته ، ولم يدع إليه هنا ما يرجح ذلك.
والطيبات هنا قيل : الحلال ، وقيل : اللذيذ المشتهى.
ومن زعم أن هذا على حذف مضاف ، وهو كلوا من عوض طيبات ما رزقناكم ، فقوله ضعيف ، عوضهم عن جميع مآكلهم المستلذة بالمن والسلوى ، فكانا بدلاً من الطيبات.
وقد استنبط بعضهم من قوله : { كلوا من طيبات ما رزقناكم } أنه لا يكفي وضع المالك الطعام بين يدي الإنسان في إباحة الأكل ، بل لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن المالك ، وهو قول.
وقيل : يملك بالوضع فقط ، وقيل : بالأخذ والتناول ، وقيل : لا يملك بحال ، بل ينتفع به وهو على ملك المالك.
وما في قوله : { ما رزقناكم } موصولة ، والعائد محذوف ، أي ما رزقناكموه ، وشروط الحذف فيه موجودة ، ولا يبعد أن يجوز مجوّز فيها أن تكون مصدرية ، فلا يحتاج إلى تقدير ضمير ، ويكون يطلق المصدر على المفعول ، والأول أسبق إلى الذهن.
{ وما ظلمونا } نفي أنهم لم يقع منهم ظلم لله تعالى ، وفي هذا دليل على أنه ليس من شرط نفي الشيء إمكان وقوعه ، لأن ظلم الإنسان لله تعالى لا يمكن وقوعه ألبتة.

قيل : المعنى وما ظلمونا بقولهم : { أرنا الله جهرة } ، بل ظلموا أنفسهم بما قابلناهم به من الصاعقة.
وقيل : وما ظلمونا بادخارهم المن والسلوى ، بل ظلموا أنفسهم بفساد طعامهم وتقليص أرزاقهم.
وقيل : وما ظلموانا بإبائهم على موسى أن يدخلوا قرية الجبارين.
وقيل : وما ظلمونا باستحبابهم العذاب وقطعهم مادّة الرزق عنهم ، بل ظلموا أنفسهم بذلك.
وقيل : وما ظلمونا بكفر النعم ، بل ظلموا أنفسهم بحلول النقم.
وقيل : وما ظلمونا بعبادة العجل ، بل ظلموا أنفسهم بقتل بعضهم بعضاً.
واتفق ابن عطية والزمخشري على أنه يقدر محذوف قبل هذه الجملة ، فقدره ابن عطية ، فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر ، قال : والمعنى وما وضعوا فعلهم في موضع مضرّة لنا ، ولكن وضعوه في موضع مضرّة لهم حيث لا يجب.
وقدره الزمخشري : فظلموا بأن كفروا هذه النعم ، وما ظلمونا ، قال : فاختصر الكلام بحذفه لدلالة وما ظلمونا عليه ، انتهى.
ولا يتعين تقدير محذوف ، كما زعما ، لأنه قد صدر منهم ارتكاب قبائح من اتخاذ العجل إلهاً ، ومن سؤال رؤية الله على سبيل التعنت ، وغير ذلك مما لم يقص هنا.
فجاء قوله تعالى : { وما ظلمونا } جملة منفية تدل على أن ما وقع منهم من تلك القبائح لم يصل إلينا بذلك نقص ولا ضرر ، بل وبال ذلك راجع إلى أنفسهم ومختص بهم ، لا يصل إلينا منه شيء.
{ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } : لكن هنا وقعت أحسن موقع ، لأنه تقدم قبلها نفي وجاء بعدها إيجاب ، نحو قوله تعالى : { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم } ، وكذلك العكس ، نحو قوله تعالى : { ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } ، أعني أن يتقدم إيجاب ثم يجيء بعدها نفي ، لأن الاستدراك الحاصل بها إنما يكون عليه ما قبلها بوجه مّا ، وذلك أنه لما تقرر أنه قد وقع منهم ظلم ، فلما نفى ذلك الظلم أن يصل إلى الله تعالى بقيت النفس متشوّفة ومتطلعة إلى ذكر من وقع به الظلم ، فاستدرك بأن ذلك الظلم الحاصل منهم إنما كان واقعاً بهم ، وأحسن مواقعها أن تكون بين المتضادين ، ويليه أن تقع بين النقيضين ، ويليه أن تقع بين الخلافين ، وفي هذا الأخير خلاف بين النحويين.
أذلك تركيب عربي أم لا؟ وذلك نحو قولك : ما زيد قائم ، ولكن هو ضاحك ، وقد تكلم على ذلك في علم النحو.
واتفقوا على أنها لا تقع بين المتماثلين نحو : ما خرج زيد ولكن لم يخرج عمرو.
وطباق الكلام أن يثبت ما بعد لكن على سبيل ما نفي قبلها ، نحو قوله : { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم } ، لكن دخلت كانوا هنا مشعرة بأن ذلك من شأنهم ومن طريقتهم ، ولأنها أيضاً تكون في كثير من المواضع تستعمل حيث يكون المسند لا ينقطع عن المسند إليه ، نحو قوله :

{ وكان الله بكل شيء عليماً } فكان المعنى : ولكن لم يزالوا ظالمي أنفسهم بكثرة ما يصدر منهم من المخالفات.
ويظلمون : صورته صورة المضارع ، وهو ماض من حيث المعنى ، وهذا من المواضع التي يكون فيها المضارع بمعنى الماضي.
ولم يذكره ابن مالك في التسهيل ولا فيما وقفنا عليه من كتبه ، وذكر ذلك غيره وقدم معمول الخبر عليه هنا وهو قوله : { أنفسهم } ، ليحصل بذلك توافق رؤوس الآي والفواصل ، وليدل على الاعتناء بالإخبار عمن حل به الفعل ، ولأنه من حيث المعنى صار العامل في المفعول توكيداً لما يدل عليه ما قبله.
فليس ذكره ضروريًّا ، وبأن التوكيد أن يتأخر عن المؤكد ، وذلك أنك تقول : ما ضربت زيداً ولكن ضربت عمراً ، فذكر ضربت الثانية أفادت التأكيد ، لأن لكن موضوعها أن يكون ما بعدها منافياً لما قبلها ، ولذلك يجوز أن تقول : ما ضربت زيداً ولكن عمراً ، فلست مضطراً لذكر العامل.
فلما كان معنى قوله : { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } في معنى : { ولكن ظلموا أنفسهم } ، كان ذكر العامل في المفعول ليس مضطراً إليه ، إذ لو قيل : وما ظلمونا ولكن أنفسهم ، لكان كلاماً عربياً ، ويكتفي بدلالة لكن أن ما بعدها مناف لما قبلها ، فلما اجتمعت هذه المحسنات لتقديم المفعول كان تقديمه هنا الأفصح.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من ذكر قصص بني إسرائيل فصولاً منها : أمر موسى ، على نبينا وعليه السلام ، إياهم بالتوبة إلى الله من مقارفة هذا الذنب العظيم الذي هو عبادة العجل من دون الله ، وأن مثل هذا الذنب العظيم تقبل التوبة منه ، والتلطف بهم في ندائهم بيا قوم ، وتنبيههم على علة الظلم الذي كان وباله راجعاً عليهم ، والإعلام بأن توبتهم بقتل أنفسهم ، ثم الإخبار بحصول توبة الله عليهم وأن ذلك كان بسابق رحمته ، ثم التوبيخ لهم بسؤالهم ما كان لا ينبغي لهم أن يسألوه ، وهو رؤية الله عياناً ، لأنه كان سؤال تعنت.
ثم ذكر ما ترتب على هذا السؤال من أخذ الصاعقة إياهم.
ثم الإنعام عليهم بالبعث ، وهو من الخوارق العظيمة أن يحيى الإنسان في الدنيا بعد أن مات.
ثم إسعافهم بما سألوه ، إذ وقعوا في التيه ، واحتاجوا إلى ما يزيل ضررهم وحاجتهم من لفح الشمس ، وتغذية أجسادهم بما يصلح لها ، فظلل عليهم الغمام ، وهذا من أعظم الأشياء وأكبر المعجزات حيث يسخر العالم العلوي للعالم السفلي على حسب اقتراحه ، فكان على ما قيل : تظلهم بالنهار وتذهب بالليل حتى ينوّر عليهم القمر.
وأنزل عليهم المن والسلوى ، وهذا من أشرف المأكول ، إذ جمع بين الغذاء والدواء ، بما في ذلك من الحلاوة التي في المن والدسم الذي في السلوى ، وهما مقمعاً الحرارة ومثيراً القوّة للبدن.
ثم الأمر لهم بتناول ذلك غير مقيد بزمان ولا مكان ، بل ذلك أمر مطلق.

ثم التنصيص أن ذلك من الطيبات وبحق ما يكون ذلك من الطيبات.
ثم ذكر أنه رزق منه لهم لم يتعبوا في تحصيله ولا استخراجه ولا تنميته ، بل جاء رزقاً مهنأ لا تعب فيه.
ثم أرداف هذه الجمل بالجملة الأخيرة ، إذ هي مؤكدة لافتتاح هذه الجمل السابقة ، لأنه افتتحها بالإخبار بأنهم ظلموا أنفسهم ، وختمها بذلك وهو قوله : { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون }.
فجاءت هذه الجمل في غاية الفصاحة لفظاً والبلاغة معنى ، إذ جمعت الألفاظ المختارة والمعاني الكثيرة متعلقاً أوائل أواخرها بأواخر أوائلها ، مع لطف الإخبار عن نفسه.
فحيث ذكر النعم صرح بأن ذلك من عنده ، فقال : ثم بعثناكم ، وقال : وظللنا وأنزلنا ، وحيث ذكر النقم لم ينسبها إليه تعالى فقال : فأخذتكم الصاعقة.
وسر ذلك أنه موضع تعداد للنعم ، فناسب نسبة ذلك إليه ليذكرهم آلاءه ، ولم ينسب النقم إليه ، وإن كانت منه حقيقة ، لأن في نسبتها إليه تخويفاً عظيماً ربما عادل ذلك الفرح بالنعم.
والمقصود : انبساط نفوسهم بذكر ما أنعم الله به عليهم ، وإن كان الكلام قد انطوى على ترهيب وترغيب ، فالترغيب أغلب عليه.

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)

الدخول : معروف ، وفعلة : دخل يدخل ، وهو مما جاء على يفعل بضم العين.
وكان القياس فيه أن يفتح ، لأن وسطه حرف حلق ، كما جاء الكسر في ينزع وقياسه أيضاً الفتح.
القرية : المدينة ، من قريت : أي جمعت.
سميت بذلك لأنها مجتمع الناس على طريق المساكنة.
وقيل : إن قلواقيل لها قرية ، وإن كثروا قيل لها مدينة.
وقيل : أقل العدد الذي تسمى به قرية ثلاثة فما فوقها ، ومنه ، قريت الماء في الحوض ، والمقراة : الحوض ، ومنه القرى : وهو الضيافة ، والقرى : المجرى ، والقرى : الظهر.
ولغة أهل اليمن : القرية ، بكسر القاف ، ويجمعونها على قِرى بكسر القاف نحو : رشوة ورشا.
وأما قرية بالفتح فجمت على قرى بضم القاف ، وهو جمع على غير قياس.
قيل : ولم يسمع من فعله المعتل اللام إلا قرية وقرى ، وتروة وترى ، وشهوة وشهى.
الباب : معروف ، وهو المكان الذي يدخل منه ، وجمعه أبواب ، وهو قياس مطرد ، وجاء جمعه على أبوبة في قوله :
هتاك أخبية ولاج أبوبة . . .
لتشاكل أخبية ، كما قالوا : لا دريت ولا تليت ، وأصله تلوت ، فقلبت الواو ياء لتشاكل دريت.
سجداً : جمع ساجد ، وهو قياس مطرد في فاعل وفاعلة الوصفين الصحيحي اللام.
وقولوا : كل أمر من ثلاثي اعتلت عينه فانقلبت ألفاً في الماضي ، تسقط تلك العين منه إذا أسند لمفرد مذكر نحو : قل وبع ، أو لضمير مؤنث نحو : قلن وبعن ، فإن اتصل به ضمير الواحدة نحو : قولي ، أو ضمير الاثنين نحو : قولا ، أو ضمير الذكور نحو : قولوا ، ثبتت تلك العين ، وعلة الحذف والإثبات مذكورة في النحو.
وقد جاء حذفها في الشعر ، فجاء قوله : قلى وعشا.
حطة : على وزن فعلة من الحط ، وهو مصدر كالحط ، وقيل : هو هيئة وحال : كالجلسة والقعدة ، والحط : الإزالة ، حططت عنه الخراج : أزلته عنه.
والنزول : حططت.
وحكى : بفناء زيد نزلت به ، والنقل من علو إلى أسفل ، ومنه انحطاط القدر.
وقال أحمد بن يحيى ، وأبان بن تغلب ، الحطة : التوبة.
وأنشدوا :
فاز بالحطة التي جعل الله . . .
بها ذنب عبده مغفوراً
أي فاز بالتوبة ، وتفسيرهما الحطة بالتوبة إنما هو تفسير باللازم لا بالمرادف ، لأن من حط عنه الذنب فقد تيب عليه.
الغفر والغفران : الستر ، وفعله غفر يغفر ، بفتح الغين في الماضي وكسرها في المضارع.
والغفيرة : المغفرة ، والغفارة : السحاب وما يلبس به سية القوس ، وخرقة تلبس تحت الخمار ، ومثله المغفر والجماء ، الغفير : أي جماعة يستر بعضهم بعضاً من الكثرة.
وقوله عمر لمن قال له : لم حصبت المسجد؟ هو أغفر للنخامة ، كل هذا راجع لمعنى الستر والتغطية.
الخطيئة : فعيلة من الخطا ، والخطأ : العدول عن القصد ، يقال خطىء الشيء : أصابه بغير قصد ، وأخطأ : إذا تعمد ، وأما خطايا : فجمع خطية مشددة عند الفراء ، كهدية وهدايا ، وجمع خطيئة المهموز عند سيبويه والخليل.

فعند سيبويه : أصله خطائيّ ، مثل : صحائف ، وزنة ، فعائل ، ثم أعلت الهمزة الثانية بقلبها ياء ، ثم فتحت الأولى التي كان أصلها ياء المد في خطيئة فصار : خطأي ، فتحركت الياء وانفتح ما قبلها ، فصار : خطآء ، فوقعت همزة بين ألفين ، والهمزة شبيهة بالألف فصار : كأنه اجتمع ثلاثة أمثال ، فأبدلوا منها ياء فصار خطايا ، كهدايا ومطايا.
وعند الخليل أصله : خطايئ ، ثم قلب فصار خطائي على وزن فعالي ، المقلوب من فعائل ، ثم عمل فيه العمل السابق في قوله سيبويه.
وملخص ذلك : أن الياء في خطايا منقلبة عن الهمزة المبدلة من الياء بعد ألف الجمع التي كانت مدة زائدة في خطيئة ، على رأي سيبويه ، والألف بعدها منقلبة عن الياء المبدلة من الهمزة التي هي لام الكلمة ، ومنقلبة عن الهمزة التي هي لام الكلمة في الجمع والمفرد ، والألف بعدها هي الياء التي كانت ياء بعد ألف الجمع التي كانت مدة في المفرد ، على رأي الخليل.
وقد أمعنا الكلام في هذه المسألة في ( كتاب التكميل لشرح التسهيل ) من تأليفنا.
الإحسان والإنعام والإفضال : نظائر ، أحسن الرجل : أتى بالحسن ، وأحسن الشيء : أتى به حسناً : وأحسن إلى عمر وأسدي إليه خيراً.
التبديل : تغيير الشيء بآخر.
تقول : هذا بدل هذا : أي عوضه ، ويتعدّى لاثنين ، الثاني أصله حرف جر : بدلت ديناراً بدرهم : أي جعلت ديناراً عوض الدرهم ، وقد يتعدّى لثلاثة فتقول : بدلت زيداً ديناراً بدرهم : أي حصلت له ديناراً عوضاً من درهم ، وقد يجوز حذف حرف الجر لفهم المعنى ، قال تعالى : { فأولئك يبدّل الله سيئاتهم } أي يجعل لهم حسنات عوض السيئات ، وقد وهم كثير من الناس فجعلوا ما دخلت عليه الباء هو الحاصل ، والمنصوب هو الذاهب ، حتى قالوا : ولو أبدل ضاداً بظاء لم تصح صلاته ، وصوابه : لو أبدل ظاء بضاد.
الرجز : العذاب ، وتكسر راؤه وتضم ، والضم لغة بني الصعدات ، وقد قرىء بهما في بعض المواضع ، قال رؤبة :
كم رامنا من ذي عديد مبزي . . .
حتى وقينا كيده بالرجز
والرجز ، بالضم : اسم صنم مشهور ، والرجزاء : ناقة أصاب عجزها داء ، فإذا نهضت ارتعشت أفخاذها ، قال الشاعر :
هممت بخير ثم قصرت دونه . . .
كما ناءت الرجزاء شدّ عقالها
قيل : الرجز مشتق من الرجازة ، وهي صوف تزين به الهوادج ، كأنه وسمهم ، قال الشاعر :
ولو ثقفاها ضرجت بدمائها . . .
كما ضرجت نضو القرام الرجائز
الاستسقاء : طلب السقي ، والطلب أحد المعاني التي سبق ذكرها في الاستفعال في قوله : { وإياك نستعين } العصا : مؤنث ، والألف منقلبة عن واو ، قالوا : عصوان ، وعصوته : أي ضربته بالعصا ، ويجمع على أفعل شذوذاً ، قالوا : أعص ، أصله أعصوو على فعول قياساً ، قالوا : عصى ، أصله عصوو ، ويتبع حركة العين حركة الصاد ، قال الشاعر :
ألا إن لا تكن إبل فمعزى . . .
كائن قرون جلتها العصى

الحجر : هو هذا الجسم الصلب المعروف عند الناس ، وجمع على أحجار وحجار ، وهما جمعان مقيسان فيه ، وقالوا : حجارة بالتاء ، واشتقوا منه ، قالوا : استحجر الطين ، والاشتقاق من الأعيان قليل جداً.
الانفجار : انصداع شيء من شيء ، ومنه انفجر ، والفجور : وهو الانبعاث في المعصية كالماء ، وهو مطاوع فعل فجره فانفجر ، والمطاوعة أحد المعاني التي جاء لها انفعل ، وقد تقدّم ذكرها.
اثنتا : تأنيث اثنين ، وكلاهما له إعراب المثنى ، وليس بمثنى حقيقة لأنه لا يفرد ، فيقال : اثن ، ولا اثنة ، ولامهما محذوفة ، وهي ياء ، لأنه من ثنيت.
العشرة ، بإسكان الشين ، لغة الحجاز ، وبكسرها لغة تميم ، والفتح فيها شاذ غير معروف ، وهو أوّل العقود ، واشتقوا منه فقالوا : عشرهم يعشرهم ، ومنه العشر والعشر ، والعشر : شجر لين ، والإعشار : القطع لا واحد لها ، ووصل بها المفرد ، قالوا : برمة أعشار.
العين : لفظ مشترك بين منبع الماء والعضو الباصر ، والسحابة تقبل من ناحية القبلة ، والمطر يمطر خمساً أو ستاً ، لا يقلع ، ومن له شرف في الناس ، والثقب في المزادة والذهب وغير ذلك ، وجمع على أعين شاذ ، أو عيون قياساً ، وقالوا : في الأشراف من الناس : أعيان ، وجاء ذلك قليلاً في العضو الباصر ، قال الشاعر :
أسمل أعياناً لها ومآقيا . . .
أناس : اسم جمع لا واحد له من لفظه ، وإذا سمي به مذكر صرف ، وقول الشاعر :
وإلى ابن أمّ أناس أرحل ناقتي . . .
منع صرفه ، إما لأنه علم على مؤنث ، وإما ضرورة على مذهب الكوفيين.
مشرب : مفعل من الشراب يكون للمصدر والزمان والمكان ، ويطرد من كل ثلاثي متصرف مجرّد ، لم تكسر عين مضارعه سواء صحت لامه : كسرت ودخل ، أو أعلت : كرمى وغزا.
وشذ من ذلك ألفاظ ذكرها النحويون.
العثو ، والعثى : أشدّ الفساد ، يقال : عثا يعثو عثواً ، وعثى يعثى عثياً ، وعثا يعثى عثياً : لغة شاذة ، قال الشاعر :
لولا الحياء وأن رأسي قد عثا . . .
فيه المشيب لزرت أمّ القاسم
وثبوت العثى دليل على أن عثى ليس أصلها عثو ، كرضي الذي أصله رضو ، خلافاً لزاعمه.
وعاث يعيث عيثاً ومعاثاً ، وعث يعث كذلك ، ومنه عثة الصوف : وهي السوسة التي تلحسه.
الطعام : اسم لما يطعم ، كالعطاء ، اسم لما يعطي ، وهو جنس.
الواحد : هو الذي لا يتبعض ، والذي لا يضم إليه ثان.
يقال : وحد يحد وحداً وحدة إذا انفرد.
الدعاء : التصويت باسم المدعوّ على سبيل النداء ، والفعل منه دعا يدعو دعاء.
الإنبات : الهمزة فيه للنقل ، وهو : الإخراج لما شأنه النمو.
البقل : جنس يندرج فيه النبات الرطب مما يأكله الناس والبهائم ، يقال منه بقلت الأرض وأبقلت : أي صارت ذات بقل ، ومنه : الباقلاء ، قاله ابن دريد.
القثاء : اسم جنس واحدة قثاءة ، بضم القاف وكسرها ، وهو هذا المعروف.
وقال الخليل : هو الخيار ، ويقال : أرض مقثأة : أي كثيرة القثاء.
الفوم ، قال الكسائي والفراء والنضر بن شميل أمية بن وغيرهم : هو الثوم ، أبدلت الثاء فاء ، كما قالوا ، في مغفور : مغثور ، وفي جدث : جدف ، وفي عاثور : عافور.

قال الصلت :
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة . . .
فيها القراديس والفومان والبصل
وأنشد مؤرج لحسان :
وأنتم أناس لئام الأصول . . .
طعامكم الفوم والحوقل
يعني : الفوم والبصل ، وهذا كما أبدلوا بالفاء الثاء ، قالوا في الأثافي : الأثاثي ، وكلا البدلين لا ينقاس ، أعني إبدال الثاء فاء والفاء ثاء.
وقال أبو مالك وجماعة : الفوم : الحنطة ، ومنه قول أحيحة بن الجلاح :
قد كنت أحسبني كأغنى واحد . . .
قدم المدينة عن زراعة فوم
قيل : وهي لغة مصر ، وهو اختيار المبرد.
وقال الفراء : وهي لغة قديمة.
وقال ابن قتيبة والزجاج : هي الحبوب التي تؤكل.
وقال أبو عبيدة وابن دريد : هي السنبلة ، زاد أبو عبيدة بلغة أسد.
وقيل : الحبوب التي تخبز.
وقيل : الخبز ، تقول العرب : فوموا لنا ، أي اخبزوا ، واختاره ابن قتيبة قال :
تلتقم الفالح لم يفوّم . . .
تقمماً زاد على التقمم
وقال قطرب : الفوم : كل عقدة في البصل ، وكل قطعة عظيمة في اللحم ، وكل لقمة كبيرة.
وقيل : إنه الحمص ، وهي لغة شامية ، ويقال لبائعه : فامي ، مغير عن فومي للنسب ، كما قالوا : شهلي ودهري.
العدس : معروف ، وعدس وعدس من الأسماء الأعلام ، وعدس : زجر للبغل.
البصل : معروف.
أدنى : أفعل التفضيل من الدنوّ ، وهو القرب ، يقال : منه دنا يدنو دنواً.
وقال علي بن سليمان الأخفش : هو أفعل من الدناءة ، وهي : الخسة والرداءة ، خففت الهمزة بإبدالها ألفاً.
وقال أبو زيد في المهموز : دنؤ الرجل ، يدنأ دناءة ودناء ، ودنأ يدنأ.
وقال غيره : هو أفعل من الدون ، أي أحط في المنزلة ، وأصله أدون ، فاصر وزنه : أفلع ، نحو : أولى لك ، هو أفعل من الويل ، أصله أويل فقلب.
المصر : البلد ، مشتق من مصرت الشاة ، أمصرها مصراً : حلبت كل شيء في ضرعها ، وقيل المصر : الحد بين الأرضين ، وهجر يكتبون : اشترى الدار بمصورها : أي بحدودها.
وقال عديّ بن زيد :
وجاعل الشمس مصراً لا خفاء به . . .
بين النهار وبين الليل قد فصلا
السؤال : الطلب ، ويقال : سأل يسأل سؤالاً ، والسؤل : المطلوب ، وسال يسال : على وزن خاف يخاف ، ويجوز تعليق فعله وإن لم يكن من أفعال القلوب.
{ سلهم أيّهم بذلك زعيم } ، قالوا : لأن السؤال سبب إلى العلم فأجرى مجرى العلم.
الذلة : مصدر ذلّ يذلّ ذلة وذلاً ، وقيل : الذلة كأنها هيئة من الذل ، كالجلسة ، والذل : الخضوع وذهاب الصعوبة.
المسكنة : مفعلة من السكون ، ومنه سمى المسكين لقلة حركاته وفتور نشاطه ، وقد بنى من لفظه فعل ، قالوا : تمسكن ، كما قالوا : تمدرع من المدرعة ، وقد طعن على هذا النقل وقيل : لا يصح وإنما الذي صح تسكن وتدرّع.
باء بكذا : أي رجع ، قاله الكسائي : أو اعترف ، قاله أبو عبيدة ، واستحق ، قاله أبو روق؛ أو نزل وتمكن ، قاله المبرد؛ أو تساوى ، قاله الزجاج ، وأنشدوا لكل قول ما يستدل به أمن كلام العرب ، وحذفنا نحن ذلك.

النبيء : مهموز من أنبأ ، فعيل : بمعنى مفعل ، كسميع من أسمع ، وجمع على النبآء ، ومصدره النبوءة ، وتنبأ مسيلمة ، كل ذلك دليل على أن اللام همزة.
وحكى الزهراوي أنه يقال : نبؤ ، إذا ظهر فهو نبىء ، وبذلك سمي الطريق الظاهر : نبيئاً.
فعلى هذا هو فعيل اسم فاعل من فعل ، كشريف من شرف ، ومن لم يهمز فقيل أصله الهمز ، ثم سهل.
وقيل : مشتق من نبا ينبو ، إذا ظهر وارتفع ، قالوا : والنبي : الطريق الظاهر ، قال الشاعر :
لما وردن نبياً واستتب بنا . . .
مسحنفر لخطوط المسح منسحل
قال الكسائي : النبي : الطريق ، سمي به لأنه يهتدي به ، قالوا : وبه سمي الرسول لأنه طريق إلى الله تعالى.
العصيان : عدم الانقياد للأمر والنهي والفعل ، منه : عصى يعصي ، وقد جاء العصى في معنى العصيان.
أنشد بن حماد في تعليقه عن أبي الحسن بن الباذش مما أنشده الفراء :
في طاعة الرب وعصى الشيطان . . .
الاعتداء : افتعال من العدو ، وقد مرّ شرحه عند قوله : { بعضكم لبعض عدوّ }
{ وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية }.
القائل : هو الله تعالى ، وهل ذلك على لسان موسى أو يوشع عليهما السلام ، قولان : وانتصاب هذه على ظرف المكان ، لأنه إشارة إلى ظرف المكان ، كما تنتصب أسماء الإشارة على المصدر ، وعلى ظرف الزمان إذا كنّ إشارة إليهما تقول : ضربت هذا الضرب ، وصمت هذا اليوم.
هذا مذهب سيبويه في دخل ، إنها تتعدّى إلى المختص من ظرف المكان بغير وساطة في ، فإن كان الظرف مجازياً تعدّت بفي ، نحو : دخلت في غمار الناس ، ودخلت في الأمر المشكل.
ومذهب الأخفش والجرمي أن مثل : دخلت البيت ، مفعول به لا ظرف مكان ، وهي مسألة تذكر في علم النحو.
والألف واللام في القرية للحضور ، وانتصاب القرية على النعت ، أو على عطف البيان ، كما مرّ في إعراب الشجرة من قوله : { ولا تقربا هذه الشجرة } وإن اختلفت جهتا الإعراب في هذه ، فهي في : { ولا تقربا هذه } مفعول به ، وهي هنا على الخلاف الذي ذكرناه.
والقرية هنا بيت المقدس ، في قول الجمهور ، قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدّي والربيع وغيرهم.
وقيل : أريحا ، قاله ابن عباس أيضاً ، وهي بأرض المقدس.
قال أبو زيد عمر بن شبة النمري : كانت قاعدة ومسكن ملوك ، وفيها مسجد هو بيت المقدس ، وفي المسجد بيت يسمى إيليا.
وقال الكواشي : أريحا قرية الجبارين ، كانوا من بقايا عاد ، يقال لهم : العمالية ورأسهم : عوج بن عنق ، وقيل : الرملة ، قاله الضحاك؛ وقيل : أيلة ، وقيل : الأردن؛ وقيل : فلسطين؛ وقيل : البلقاء؛ وقيل : تدمر ، وقيل : مصر؛ وقيل : قرية بقرب بيت المقدس غير معينة أمروا بدخولها؛ وقيل : الشام.
روي ذلك عن ابن كيسان ، وقد رجح القول الأوّل لقوله في المائدة :

{ ادخلوا الأرض المقدّسة } قيل : ولا خلاف ، أن المراد في الآيتين واحد.
وردّ هذا القول بقوله : فبدّل لأن ذلك يقتضي التعقيب في حياة موسى ، لكنه مات في أرض التيه ولم يدخل بيت المقدس.
وأجاب من قال إنها بيت المقدس بأن الآية ليس فيها ما يدل على أن القول كان على لسان موسى ، وهذا الجواب وهم ، لأنه قد تقدّم أن المراد في هذه الآية وفي التي في المائدة من قوله : ادخلوا الأرض المقدّسة واحد ، والقائل ذلك في آية المائدة قطعاً.
ألا ترى إلى قوله : { يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة } ، وقولهم : { قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين } قال وهب : كانوا قد ارتكبوا ذنوباً ، فقيل لهم : { ادخلوا } الآية.
وقال غيره : ملوا المنّ والسلوى ، فقيل لهم : اهبطوا مصراً ، وكان أوّل ما لقوا أريحا.
وفي قوله : { هذه القرية } دليل على أنهم قاربوها وعاينوها ، لأن هذه إشارة لحاضر قريب.
قيل : والذي قال لهم ذلك هو يوشع بن نون ، فإنه نقل عنهم أنهم لم يدخلوا البيت المقدّس إلا بعد رجوعهم من قتال الجبارين ، ولم يكن موسى { معهم حين } دخلوها ، فإنه مات هو وأخوه في التيه.
وقيل : لم يدخلا التيه لأنه عذاب ، والله لا يعذب أنبياءه.
{ فكلوا منها حيث شئتم رغداً } : تقدّم الكلام على نظير هذه الجملة في قصة آدم في قوله : { وكلا منها رغداً حيث شئتما } ، إلا أن هناك العطف بالواو وهنا بالفاء ، وهناك تقديم الرغد على الظرف ، وهنا تقديم الظرف على الرغد ، والمعنى فيهما واحد ، إلا أن الواو هناك جاءت بمعنى الفاء ، قيل : وهو المعنى الكثير فيها ، أعني أنه يكون المتقدّم في الزمان والمعطوف بها هو المتأخر في الزمان ، وإن كانت قد ترد بالعكس ، وهو قليل.
وللمعية والزمان ، وهو دون الأول ، ويدل أنها بمعنى الفاء ما جاء في الأعراف من قوله : { فكلا } بالفاء ، والقضية واحدة.
وأما تقديم الرغد هناك فظاهر ، فإنه من صفات الأكل أو الآكل ، فناسب أن يكون قريباً من العامل فيه ولا يؤخر عنه ، ويفصل بينهما بظرف وإن لم يكن فاصلاً مؤثراً المنع لاجتماعهما في المعمولية لعامل واحد ، وأما هنا فإنه أخر لمناسبة الفاضلة بعده ، ألا ترى أن قوله : { فكلوا منها حيث شئتم رغداً } وقوله : { وادخلوا الباب سجداً } ، فهما سجعتان متناسبتان؟ فلهذا ، والله أعلم ، كان هذان التركيبان على هذين الوضعين.
{ وادخلوا الباب } : الخلاف في نصب الباب كالخلاف في نصب القرية ، والباب أحد أبواب بيت المقدس ، ويدعى الآن : باب حطة ، قاله ابن عباس؛ أو الثامن ، من أبواب بيت المقدس ، ويدعى باب التوبة ، قاله مجاهد والسدي؛ أو باب القرية التي أمروا بدخولها ، أو باب القبة التي كان فيها موسى وهارون يتعبدان ، أو باب في الجبل الذي كلم الله عليه موسى.
{ سجداً } نصب على الحال من الضمير في ادخلوا ، قال ابن عباس : معناه ركعاً ، وعبر عن الركوع بالسجود ، كما يعبر عن السجود بالركوع ، قيل : لأن الباب كان صغيراً ضيقاً يحتاج الداخل فيه إلى الانحناء ، وبعد هذا القول لأنه لو كان ضيفاً لكانوا مضطرين إلى دخوله ركعاً ، فلا يحتاج فيه إلى الأمر ، وهذا لا يلزم ، لأنه كان يمكن أن تكون الحال لازمة بمعنى أنه لا يمكن أن يقع الدخول إلا على هذه الحال ، والحال اللازمة موجودة في كلام العرب.

وقيل : معناه خضعاً متواضعين ، واختاره أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل في المنتخب ، ونذكر وجه اختياره لذلك.
وقيل : معناه السجود المعروف من وضع الجبهة على الأرض ، والمعنى : ادخلوا ساجدين شكراً لله تعالى ، إذ ردهم إليها.
وهذا هو ظاهر اللفظ.
قال أبو عبد الله بن أبي الفضل : وهذا بعيد ، لأن الظاهر يقتضي وجوب الدخول حال السجود ، فلو حملناه على ظاهره لامتنع ذلك ، فلما تعذر على حقيقة السجود وجب حمله على التواضع ، لأنهم إذا أخذوا في التوبة ، فالتائب عن الذنب لا بد أن يكون خاشعاً مستكيناً ، وما ذهب إليه لا يلزم ، لأن أخذ الحال مقارنة ، فتعذر ذلك عنده ، وليس بمتعذر لأنه لا يبعد أن أمروا بالدخول وهم ساجدون ، فيضعون جباههم على الأرض وهم داخلون.
وتصدق الحال المقارنة بوضع الجبهة على الأرض إذا دخلوا.
وأما إذا جعلنا الحال مقدرة فيصح ذلك ، لأن السجود إذ ذاك يكون متراخياً عن الدخول ، والحال المقدرة موجودة في لسان العرب.
من ذلك ما في كتاب سيبويه مررت برجل معه صقر صائداً به غداً.
وإذا أمكن حمل السجود على المتعارف فيه كثيراً ، وهو وضع الجبهة بالأرض يكون الحال مقارنة أو مقدرة ، كان أولى.
وقال الزمخشري : أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب ، شكراً لله وتواضعاً ، وما ذكره ليس مدلول الآية لأنهم لم يؤمروا بالسجود في الآية عند الانتهاء إلى الباب ، بل أمروا بالدخول في حال السجود.
فالسجود ليس مأموراً به ، بل هو قيد في وقوع المأمور به ، وهو الدخول ، والأحوال نسب تقييدية ، والأوامر نسب إسنادية ، فتناقضتا ، إذ يستحيل أن يكون الشيء تقييدياً إسنادياً ، لأنه من حيث التقييد لا يكتفي كلاماً ومن حيث الإسناد يكتفي ، فظهر التناقض.
وفي كيفية دخولهم الباب أقوال : قال ابن عباس وعكرمة : دخلوا من قبل أستاههم ، وقال ابن مسعود : دخلوا مقنعي رؤوسهم ، وقال مجاهد : دخلوا على حروف أعينهم ، وقال مقاتل : دخلوا مستلقين ، وقيل : دخلوا منزحفين على ركبهم عناداً وكبراً ، والذي ثبت في البخاري ومسلم أنهم دخلوا الباب يزحفون على أستاههم.
فاضمحلت هذه التفاسير ، ووجب المصير إلى تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله : { وقولوا حطة } ، حطة : مفر ، ومحكي القول لا بد أن يكون جملة ، فاحتيج إلى تقدير مصحح للجملة ، فقدر مسألتنا حطة هذا تقديراً لحسن بن أبي الحسن.

وقال الطبري : التقدير دخولنا الباب كما أمرنا حطة ، وقال غيرهما : التقدير أمرك حطة.
وقيل : التقدير أمرنا حطة ، أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها.
قال الزمخشري : والأصل النصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة ، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله :
صبر جميل فكلانا مبتلى . . .
والأصل صبراً.
انتهى كلامه ، وهو حسن.
ويؤكد هذا التخريج قراءة إبراهيم بن أبي عبلة : حطة بالنصب ، كما روي :
صبراً جميلاً فكلانا مبتلي . . .
بالنصب.
والأظهر من التقادير السابقة في إضمار المبتدأ القول الأول ، لأن المناسب في تعليق الغفران عليه هو سؤال حط الذنوب لا شيء من تلك التقادير الأخر ، ونظير هذا الإضمار قول الشاعر :
إذا ذقت فاهاً قلت طعم مدامة . . .
معتقة مما تجيء به التجر
روي برفع طعم على تقدير : هذا طعم مدامة ، وبالنصب على تقدير : ذقت طعم مدامة.
قال الزمخشري : فإن قلت : هل يجوز أن ينصب حطة في قراءة من نصبها يقولوا على معنى قولوا هذه الكلمة؟ قلت : لا يبعد ، انتهى.
وما جوزه ليس بجائز لأن القول لا يعمل في المفردات ، إنما يدخل على الجمل للحكاية ، فيكون في موضع المفعول به ، إلا إن كان المفرد مصدراً نحو : قلت قولاً ، أو صفة لمصدر نحو : قلت حقاً ، أو معبراً به عن جملة نحو : قلت شعراً وقلت خطبة ، على أن هذا القسم يحتمل أن يعود إلى المصدر ، لأن الشعر والخطبة نوعان من القول ، فصار كالقهقري من الرجوع ، وحطة ليس واحداً من هذه.
ولأنك إذا جعلت حطة منصوبة بلفظ قولوا ، كان ذلك من الإسناد اللفظي وعري من الإسناد المعنوي ، والأصل هو الإسناد المعنوي.
وإذا كان من الإسناد اللفظي لم يترتب على النطق به فائدة أصلاً إلا مجرد الامتثال للأمر بالنطق بلفظ ، فلا فرق بينه وبين الألفاظ الغفل التي لم توضع لدلالة على معنى.
ويبعد أن يرتب الغفران للخطايا على النطق بمجرد لفظ مفرد لم يدل به على معنى كلام.
أما ما ذهب إليه أبو عبيدة من أن قوله حطة مفرد ، وأنه مرفوع على الحكاية وليس مقتطعاً من جملة ، بل أمروا بقولها هكذا مرفوعة ، فبعيد عن الصواب لأنه يبقى حطة مرفوعاً بغير رافع ، ولأن القول إنما وضع في باب الحكاية ليحكى به الجمل لا المفردات ، ولذلك احتاج النحويون في قوله تعالى : { يقال له إبراهيم } إلى تأويل ، وأما تشبيهه إياه بقوله :
سمعت الناس ينتجعون غيثا . . .
وجدنا في كتاب بني تميم . . .
أحق الخيل بالركض المعار
فليس بسديد ، لأن سمع ووجد كل منهما يتعلق بالمفردات والجمل ، لأن المسموع والموجود في الكتاب قد يكون مفرداً وقد يكون جملة.
وأما القول فلا يقع إلا على الجمل ، ولا يقع على المفردات إلا فيما تقدم ذكره ، وليس حطة منها.
واختلفت أقوال المفسرين في حطة ، فقال الحسن : معناه حط عنا ذنوبنا ، وقال ابن عباس وابن جبير ووهب : أمروا أن يستغفروا ، وقال عكرمة : معناها لا إله إلا الله ، وقال الضحاك : معناه وقولوا هذا الأمر الحق ، وقيل : معناه نحن لا نزال تحت حكمك ممتثلون لأمرك ، كما يقال قد حططت في فنائك رحلي.

وقد تقدمت التقادير في إضمار ذلك المبتدأ قبل حطة وهي أقاويل لأهل التفسير.
وقد روي عن ابن عباس أنهم أمروا بهذه اللفظة بعينها ، قيل : والأقرب خلافه ، لأن هذه اللفظة عربية وهم ما كانوا يتكلمون بها ، ولأن الأقرب أنهم أمروا بأن يقولوا قولاً دالاً على التوبة والندم والخضوع ، حتى لو قالوا : اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك ، لكان الخضوع حاصلاً ، لأن المقصود من التوبة أما بالقلب فبالندم وأما باللسان فبذكر لفظ يدل على حصول الندم في القلب ، وذلك لا يتوقف على ذكر لفظة بعينها.
{ يغفر } ، نافع : بالياء مضمومة ، ابن عامر : بالتاء ، أبو بكر من طريق الجعفي : يغفر ، الباقون : نغفر.
فمن قرأ بالياء مضمومة فلأن الخطايا مؤنث ، ومن قرأ بالياء مفتوحة فالضمير عائد على الله تعالى ويكون من باب الالتفات ، لأن صدر الآية { وإذ قلنا } ثم قال : { يغفر } ، فانتقل من ضمير متكلم معظم نفسه إلى ضمير الغائب المفرد ، ويحتمل أن يكون الضمير عائداً على القول الدال عليه وقولوا ، أي نغفر القول ونسب الغفران إليه مجازاً لما كان سبباً للغفران ، ومن قرأ بالنون ، وهي قراءة باقي السبعة ، فهو الجاري على نظام ما قبله من قوله : { وإذ قلنا } ، وما بعده من قوله : { وسنزيد } ، فالكلام به في أسلوب واحد ، ولم يقرأ أحد من السبعة إلا بلفظ { خطاياكم } ، وأمالها الكسائي.
وقرأت طائفة : تغفر بفتح التاء ، قيل : كأن الحطة تكون سبب الغفران ، يعني قائل هذا وهو ابن عطية ، فيكون الضمير للحطة وهذا ليس بجيد ، لأن نفس اللفظة بمجردها لا تكون سبباً للغفران.
وقد بينا ذلك قبل ، فالضمير عائد على المقالة المفهومة من : { وقولوا } ، ونسب الغفران إليها على طريق المجاز ، إذ كانت سبباً للغفران.
وقرأ الجحدري وقتادة : تغفر بضم التاء وإفراد الخطيئة.
وروي عن قتادة : يغفر بالياء مضمومة.
وقرأ الأعمش : يغفر بالياء مفتوحة وإفراد الخطيئة.
وقرأ الحسن : يغفر بالياء مفتوحة والجمع المسلم.
وقرأ أبو حياة : تغفر بالتاء مضمومة وبالجمع المسلم.
وحكى الأهوازي أنه قرأ : خطاياكم بهمز الألف وسكون الألف الأخيرة.
وحكى عنه أيضاً العكس.
وتوجيه هذا الهمز أنه استثقل النطق بألفين مع أن الحاجز حرف مفتوج والفتحة تنشأ عنها الألف ، فكأنه اجتمع ثلاث ألفات ، فهمز إحدى الألفين ليزول هذا الاستثقال ، وإذ كانوا قد همزوا الألف المفردة بعد فتحه في قوله :
وخندف هامة هذا العألم . . .
فلأن يهمزوا هذا أولى ، وهذا توجيه شذوذ.
ومن قرأ بضم الياء أو التاء كان : خطاياكم ، أو خطياتكم ، أو خطيتكم مفعولاً لم يسم فاعله ، ومن قرأ بفتح التاء أو الياء أو بالنون ، كان ذلك مفعولاً ، وجزم هذا الفعل لأنه جواب الأمر.

وقد تقدم الكلام في نظيره في قوله تعالى : { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } ، وذكرنا الخلاف في ذلك.
وهنا تقدمت أوامر أربعة : { ادخلوا } ، { فكلوا } ، { وادخلوا الباب } ، { وقولوا حطة } ، والظاهر أنه لا يكون جواباً إلا للآخرين ، وعليه المعنى ، لأن ترتب الغفران لا يكون على دخول القرية ولا على الأكل منها ، وإنما يترتب على دخول الباب لتقييده بالحال التي هي عبادة وهي السجود ، وبقوله : { وقولوا حطة } لأن فيه السؤال بحط الذنوب ، وذلك لقوة المناسبة وللمجاورة.
ويدل على ترتب ذلك عليها ما في الأعراف من قوله تعالى : { وقولوا حطة } ، { وادخلوا الباب سجداً } ، { نغفر } ، والقصة واحدة.
فرتب الغفران هناك على قولهم حطة ، وعلى دخول الباب سجداً ، لما تضمنه الدخول من السجود.
وفي تخالف هاتين الجملتين في التقديم والتأخير دليل على أن الواو لا ترتب وإنها لمطلق الجمع.
وقرأ من الجمهور : بإظهار الراء من نغفر عند اللام ، وأدغمها قوم قالوا وهو ضعيف.
{ وسنزيد } : هنا بالواو ، وفي الأعراف { سنزيد } ، والتي في الأعراف مختصرة.
ألا ترى إلى سقوط رغداً؟ والواو من : { وسنزيد } ، وقوله : { فأرسلنا عليهم } بدل ، { فأنزلنا على الذين ظلموا } ، وإثبات ذلك هنا ، وناسب الإسهاب هنا والاختصار هناك.
والزيادة ارتفاع عن القدر المعلوم ، وضده النقص.
{ المحسنين } ، قيل : الذين لم يكونوا من أهل تلك الخطيئة ، وقيل : المحسنين منهم ، فقيل : معناه من أحسن منهم بعد ذلك زدناه ثواباً ودرجات ، وقيل : معناه من كان محسناً منهم زدنا في إحسانه ، ومن كان مسيئاً بعد ذلك زدناه ثواباً ودرجات ، وقيل : معناه من كان محسناً منهم زدنا في إحسانه ، ومن كان مسيئاً مخطئاً نغفر له خطيئته ، وكانوا على هذين الصنفين ، فأعلمهم الله أنهم إذا فعلوا ما أمروا به من دخولهم الباب سجداً وقولهم حطة يغفر ويضاعف ثواب محسنهم.
وقيل : المحسنون من دخل ، كما أمر وقال : لا إله إلا الله ، فتلخص أن المحسنين إما من غيرهم أو منهم.
فمنهم إما من اتصف بالإحسان في الماضي ، أي كان محسناً ، أو في المستقبل ، أي من أحسن منهم بعد ، أو في الحال ، أي وسنزيدكم بإحسانكم في امتثالكم ما أمرتم به من دخول الباب سجداً والقول حطة.
وهذه الجملة معطوفة على : { وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم } ، وليست معطوفة على نغفر فتكون جواباً ، ألا تراها جاءت منقطعة عن العطف في الإعراف في قوله سنزيد؟ وإن كانت من حيث المعنى لا من حيث الصناعة الإعرابية ترتيب على دخول الباب سجداً.
والقول حطة ، لكنها أجريت مجرى الإخبار المحض الذي لم يرتب على شيء قبله.
{ فبدّل الذين ظلموا } : ظاهره انقسامهم إلى ظالمين وغير ظالمين ، وأن الظالمين هم الذين بدلوا ، فإن كان كلهم بدلوا ، كان ذلك من وضع الظاهر موضع المضمر إشعاراً بالعلة ، وكأنه قيل : فبدّلوا ، لكنه أظهره تنبيهاً على علة التبديل ، وهو الظلم ، أي لولا ظلمهم ما بدلوا ، والمبدّل به محذوف تقديره : فبدّل الذين ظلموا بقولهم حطة.

{ قولاً غير الذي قيل لهم } : ولما كان محذوفاً ناسب إضافة غير إلى الاسم الظاهر بعدها.
والذي قيل لهم هو أن يقولوا حطة ، فلو لم يحذف لكان وجه الكلام فبدّل الذين ظلموا بقولهم حطة قولاً غيره ، لكنه لما حذف أظهر مضافاً إليه غير ليدل ، على أن المحذوف هو هذا المظهر ، وهو الذي قيل لهم.
وهذا التقدير الذي قدرناه هو على وضع بدل إذ المجرور هو الزائل ، والمنصوب هو الحاصل.
واختلف المفسرون في القول الذي قالوه بدل أن يقولوا : حطة ، فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد ووهب وابن زيد : حنطة ، وقال السدّي عن أشياخه : حنطة حمراء ، وقيل : حنطة بيضاء مثقوبة فيها شعرة سوداء ، وقال أبو صالح : سنبلة ، وقال السدّي ومجاهد أيضاً : هطا شمهاثاً ، وقيل : حطى شمعاثاً ، ومعناها في هذين القولين : حنطة حمراء ، وقيل : حنطة بيضاء مثقوبة فيها شعرة.
وقيل : حبة في شعيرة ، وقال ابن مسعود : حنطة حمراء فيها شعير ، وقيل : حنطة في شعير ، رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل : حبة حنطة مقلوة في شعرة ، وقيل : تكلموا بكلام النبطية على جهة الاستهزاء والاستخفاف.
وقيل : إنهم غيروا ما شرع لهم ولم يعملوا بما أنزل الله عليهم.
والذي ثبت في صحيح البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر ذلك بأنهم قالوا : حبة في شعرة ، فوجب المصير إلى هذا القول واطراح تلك الأقوال ، ولو صح شيء من الأقوال السابقة لحمل اختلاف الألفاظ على اختلاف القائلين ، فيكون بعضهم قال : كذا ، وبعضهم قال : كذا ، فلا يكون فيها تضاد.
ومعنى الآية : أنهم وضعوا مكان ما أمروا به من التوبة والاستغفار قولاً مغايراً له مشعراً باستهزائهم بما أمروا به ، والإعراض عما يكون عنه غفران خطيآتهم.
كل ذلك عدم مبالاة بأوامر الله ، فاستحقوا بذلك النكال.
{ فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً } : كرر الظاهر السابق زيادة في تقبيح حالهم وإشعاراً بعلية نزول الرجز.
وقد أضمر ذلك في الأعراف فقال : { فأرسلنا عليهم } ، لأن المضمر هو المظهر.
وقرأ ابن محيصن : رجزاً بضم الراء ، وقد تقدّم أنها بالغة في الرجز.
واختلفوا في الرجز هنا ، فقال أبو العالية : هو غضب الله تعالى ، وقال ابن زيد : طاعون أهلك منهم في ساعة سبعين ألفاً ، وقال وهب : طاعون عذبوا به أربعين ليلة ثم ماتوا بعد ذلك ، وقال ابن جبير : ثلج هلك به منهم سبعون ألفاً ، وقال ابن عباس : ظلمة وموت مات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفاً وهلك سبعون ألفاً عقوبة.
والذي يدل عليه القرآن أنه أنزل عليهم عذاب ولم يبين نوعه ، إذ لا كبير فائدة في تعليق النوع.

{ من السماء } : إن فسر الرجز بالثلج كان كونه من السماء ظاهراً ، وإن فسر بغيره فهو إشارة إلى الجهة التي يكون منها القضاء عليهم ، أو مبالغة في علوه بالقهر والاستيلاء.
{ بما كانوا } ، ما : مصدرية التقدير بكونهم.
{ يفسقون }.
وأجاز بعضهم أن تكون بمعنى الذي ، وهو بعيد.
وقرأ النخعي وابن وثاب وغيرهما بكسر السين ، وهي لغة.
قال أبو مسلم : هذا الفسق هو الظلم المذكور في قوله : { على الذين ظلموا }.
وفائدة التكرار التأكيد ، لأن الوصف دال على العلية ، فالظاهر أن التبديل سببه الظلم ، وأن إنزال الرجز سببه الظلم أيضاً.
وقال غير أبي مسلم : ليس مكرر الوجهين : أحدهما : أن الظلم قد يكون من الصغائر ، { ربنا ظلمنا } ، ومن الكبائر : { إن الشرك لظلم عظيم } والفسق لا يكون إلا من الكبائر.
فلما وصفهم بالظلم أوّلاً وصفهم بالفسق الذي هو لا بد أن يكون من الكبائر.
والثاني : أنه يحتمل أنهم استحقوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل ونزول الرجز عليهم من السماء ، لا بسبب ذلك التبديل بل بالفسق الذي فعلوه قبل ذلك التبديل ، وعلى هذا يزول التكرار. انتهى.
.
وقد احتج بعض الناس بقوله تعالى : { فبدّل الذين ظلموا } ، وترتيب العذاب على هذا التبديل على أن ما ورد به التوقيف من الأقوال لا يجوز تغييره ولا تبديله بلفظ آخر.
وقال قوم : يجوز ذلك إذا كانت الكلمة تسدّ سدّها ، وعلى هذا جرى الخلاف في قراءة القرآن بالمعنى ، وفي تكبيرة الإحرام ، وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة والبيع والتمليك ، وفي نقل الحديث بالمعنى.
وذكروا أن في الآية سؤالات : الأول : قوله هنا ، { وإذ قلنا } ، وفي الأعراف : { وإذ قيل } وأجيب بأنه صرح بالفاعل في البقرة لإزالة الإبهام ، وحذف في الأعراف للعلم به في سورة البقرة.
الثاني : قال هنا : ادخلوا ، وهناك اسكنوا.
وأجيب بأن الدخول مقدّم على السكنى ، فذكر الدخول في السورة المتقدّمة.
والسكنى في المتأخرة.
الثالث : هنا خطاياكم ، وهناك : خطيئتكم.
وأجيب بأن الخطايا جمع كثرة ، فناسب حيث قرن به ما يليق بجوده ، وهو غفران الكثير.
والخطيئات جمع قلة لما لم يضف ذلك إلى نفسه.
الرابع : ذكر هنا : رغداً وهناك : حذف.
وأجيب بالجواب قبل.
الخامس : هنا قدم دخول الباب على القول ، وهناك عكس.
وأجيب بأن الواو للجمع والمخاطبون بهذا مذنبون.
فاشتغاله بحط الذنب مقدّم على اشتغاله بالعبادة ، فكلفوا بقول حطة أولاً ، ثم بالدخول وغير مذنبين.
فاشتغاله أولاً بالعبادة ثم بذكر التوبة ثانياً على سبيل هضم النفس وإزالة العجب ، فلما احتمل الانقسام ذكر حكم كل واحد منهما في سورة بأيهما بدأ.
السادس : إثبات الواو في وسنزيد هنا ، وحذفها هناك.
وأجيب بأنه لما تقدم أمران كإن المجيء بالواو مؤذناً بأن مجموع الغفران والزيادة جزاء واحد لمجموع الأمرين ، وحيث تركت أفاد توزع كل واحد على كل واحد من الأمرين ، فالغفران في مقابلة القول ، والزيادة في مقابلة ادخلوا.

السابع : لم يذكر ههنا منهم وذكر هناك.
وأجيب بأن أول القصة في الأعراف مبني على التخصيص بلفظ من قال : { ومن قوم موسى أمة } فذكر لفظ من آخراً الياطبق آخره أوله ، وهنا لم تبن القصة على التخصيص.
الثامن : هنا فأنزلنا ، وهناك : فأرسلنا.
وأجيب بأن الإنزال مفيد حدوثه في أول الأمر ، والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصالهم بالكلية ، وهذا إنما يحدث بالآخر.
التاسع : هنا : يفسقون ، وهناك : يظلمون.
وأجيب بأنه لما بين هنا كون ذلك الظلم فسقاً اكتفى بذكر الظلم في سورة الأعراف لأجل ما تقدم من البيان هنا.
قال بعض الناس : بنو إسرائيل خالفوا الله في قول وفعل ، وأخبر تعالى بالمجازاة على المخالفة بالقول دون الفعل ، وهو امتناعهم عن الدخول بصفة السجود.
وأجاب بأن الفعل لا يجب إلا بأمر ، والأمر قول فحصل بالمجازاة عن القول المجازاة بالأمرين جميعاً ، والجزاء هنا إن كان قد وقع على هذه المخالفة الخاصة ، فيفسقون يحتمل الحال ، وإن كان قد وقع على ما مضى من المخالفات التي فسقوا بها ، فهو مضارع وقع موضع الماضي ، وهو كثير في القرآن وفصيح الكلام.
{ وإذ استسقى موسى لقومه } : هذا هو الإنعام التاسع ، وهو جامع لنعم الدنيا والدين.
أما في الدنيا فلأنه أزال عنهم الحاجة الشديدة إلى الماء ، ولولا هو لهلكوا في التيه ، وهذا أبلغ من الماء المعتاد في الأنعام لأنهم في مفازة منقطعة.
وأما في الدين فلأنه من أظهر الدلائل على وجود الصانع وقدرته وعلمه ، وعلى صدق موسى عليه السلام ، والاستسقاء طلب الماء عند عدمه وقلته.
وقيل : مفعول استسقى محذوف ، أي استسقى موسى ربه ، فيكون المستسقى منه هو المحذوف ، وقد تعدى إليه الفعل كما تعدى إليه في قوله : { إذ استسقاه قومه } أي طلبوا منه السقيا.
وقال بعض الناس : وحذف المفعول تقديره استسقى ماء ، فعلى هذا القول يكون المحذوف هو المستسقى ، ويكون الفعل قد تعدى إليه كما تعدى إليه في قوله :
«وأبيض يستسقى الغمام بوجهه» . . .
.
ويحتاج إثبات تعديه إلى اثنين إلى شاهد من كلام العرب ، كان يسمع من كلامهم : استسقى زيد وبه الماء ، وقد ثبت تعديه مرة إلى المستسقي منه ومرة إلى المستسقى ، فيحتاج تعديه إليهما إلى ثبت من لسان العرب.
وذكر الله هذه النعمة من الاستسقاء غير مقيدة بمكان.
وقد اختلف في ذلك ، فقال أبو مسلم : كان ذلك على عادة الناس إذا قحطوا ، وما فعله الله تعالى من تفجير الماء من الحجر فوق الإجابة بالسقياء وإنزال الغيث.
وقال أكثر المفسرين : كان هذا الاستسقاء في التيه حين قالوا : من لنا بكذا ، إلى أن قالوا : من لنا بالماء ، فأمرالله موسى بضرب الحجر.
وقيل ذلك عند خروجهم من البحر الذي انفلق ، وقعوا في أرض بيضاء ليس فيها ظل ولا ماء ، فسألوا أن يستسقى لهم ، واللام قي لقومه لام السبب ، أي لأجل قومه وثم محذوف يتم به معنى الكلام ، أي لقومه إذ عطشوا ، أو ما كان بهذا المعنى ومحذوف آخر : أي فأجبناه.

{ فقلنا اضرب بعصاك } قالوا : وهذه العصا هي المسؤول عنها في قوله : { وما تلك بيمينك يا موسى } وكانت فيها خصائص تذكر في موضعها.
قيل : كانت نبعة ، وقيل : عليقي ، وهو شجر له شوك ، وقيل : من آس الجنة طولها عشرة أذرع ، طول موسى عليه السلام ، لها شعبتان يتقدان في الظلمة ، وكان آدم حملها معه من الجنة إلى الأرض ، فتوارثها أصاغر عن أكابر حتى وصلت إلى شعيب ، فأعطاها موسى على نبينا وعليهما الصلاة والسلام ، وذلك أنه لما استرعاه قال له : اذهب فخذ عصاً ، فذهب إلى البيت ، فطارت هذه إلى يده ، فأمره بردها ، فأخذ غيرها ، فطارت إلى يده ، فتركها له.
وقيل : دفعها إليه ملك من الملائكة في طريق مدين.
{ الحجر } : قال الحسن : لم يكن حجراً معيناً بل أي حجر ضرب انفجر منه الماء ، وهذا أبلغ في الإعجاز ، حيث ينفجر الماء من أي حجر ضرب.
وروي أنهم قالوا : لو فقد موسى عصاه متنا عطشاً ، فأوحى الله إليه : لا تقرع الحجارة ، وكلمها تطعك لعلهم يعتبرون ، فكانت تطيعه فلم يعتبروا.
وقال وهب : كان يقرع لهم أقرب حجر فينفجر ، فعلى هذا تكون الألف واللام في الحجر للجنس.
وقيل : إن الألف واللام للعهد ، وهو حجر معين حمله معه من الطور مربع له أربعة أوجه ، ينبع من كل وجه ثلاثة أعين ، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمرت أن تسقيهم ، وكانوا ستمائة ألف خارجاً عن دوابهم ، وسعة العسكر اثنا عشر ميلاً.
وقيل : حجر أهبطه معه آدم من الجنة ، فتوارثوه حتى وقع لشعيب ، فدفعه إلى موسى مع العصا.
وقيل : هو الحجر الذي وضع موسى عليه ثوبه حين اغتسل ، إذ رموه بالأدرة ، ففز ، قال له جبريل عليه السلام : بأمر الله أرفع هذا الحجر ، فإن لي فيه قدرة ولك فيه معجزة ، فحمله في مخلاة ، قاله ابن عباس.
وقيل : حجر أخذه من قعر البحر خفيف مربع مثل رأس الرجل ، له أربعة أوجه ، ينبع من كل وجه ثلاث أعين ، لكل سبط عين تسيل في جدول إليه ، وكان يضعه في مخلاته ، فإذا احتاجوا إلى الماء وضعه وضربه بعصاه.
وقيل : كان رخاماً فيه اثنتا عشرة حفرة ، تتبع من كل حفرة عين ماء عذب يأخذونه ، فإذا فرغوا ضربه موسى بعصاه فذهب الماء.
وقيل : حجر أخذه من جبل زبيد ، طوله أربعة أذرع ، قاله الضحاك.
وقيل : حجر مثل رأس الشاة ، يلقونه في جانب الجوالق إذا ارتحلوا ، فيه من كل ناحية ثلاث عيون بعد أن يستمسك ماؤها بعد رحلتهم ، فإذا نزلوا قرعه موسى بعصاه فعادت العيون بحسبها ، قاله ابن زيد.

وقيل حجر يحمله في مخلاته ، أخذه ، إذ قالوا : كيف بنا إذا أفضنا إلى أرض ليست فيها حجارة؟ فحيثما نزلوا ألقاه فينفجر ماء.
وقيل : حجر من الكذان فيه اثنتا عشرة عيناً ، يسقي كل يوم ستمائة ألف ، قاله أبو روق ، وقيل : حجر ذراع في ذراع ، قاله السدّي.
وقيل : حجر مثل رأس الثور.
وقيل : حجر كان ينفجر لهم منه الماء ، لم يكونوا يحملونه ، بل كانوا أي مكان نزلوا وجدوه فيه ، وذلك أعظم في الإعجاز وأبلغ في الخارق ، وقال مقاتل والكلبي : كانوا إذا قضوا حاجتهم من الماء اندرست تلك العيون ، فإذا احتاجوا إلى الماء انفجرت.
فهذه أقوال المفسرين في الحجر ، وظاهرها أو ظاهر أكثرها التعارض.
قال بعض من جمع في تفسير القرآن : الأليق أنِهِ الحجر الذي فرّ بثوب موسى عليه السلام ، فإن الله أودع فيه حركة التنقل والسعي ، أووكل به ملكاً يحمله ولا يستنكر ذلك.
فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إني لأعرف حجراً كان يسلم عليّ » وقد رام هذا الرجل الجمع بين هذه الأقوال بأن يكون الحجر غير معين ، بل أيّ حجر وجده ضربه ، فوجد مرّة مربعاً ، ومرّة كذاناً ، ومرة رخاماً ، وكذا باقيها.
قال : فروى الراوي صفة ذلك الحجر الذي ضربه في تلك المنزلة قال : فيزول التغاير في الكيفيات ، ويحصل التوفيق بين الروايات.
وهذا الكلام كما ترى.
وظاهر القرآن : أن الحجر ليس بمعين ، إذ لم يتقدم ذكر حجر فيكون هذا معهوداً ، وأن الاستسقاء لم يتكرّر ، لا هو ولا الضرب ولا الانفجار ، وأن هذه الكيفيات التي ذكروها لم يتعرّض لها لفظ القرآن ، فيحتمل أن يكون ذلك متكرراً ، ويحتمل أن يكون ذلك مرة واحدة ، والواحدة هي المتحققة.
{ فانفجرت } : الفاء للعطف على جملة محذوفة ، التقدير : فضرب فانفجرت ، كقوله تعالى : { أن اضرب بعصاك البحر فانفلق } أي فضرب فانفلق.
ويدل على هذا المحذوف وجود الانفجار مرتباً على ضربه ، إذ لو كان يتفجر دون ضرب ، لما كان للأمر فائدة ، ولكان تركه عصياناً ، وهو لا يجوز على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وما ذهب إليه بعض الناس من أن الفاء في مثل : فانفلق ، هي الفاء التي في ضرب ، وأن المحذوف هو المعطوف عليه ، وحرف العطف من المعطوف حتى يكون المحذوف قد بقي عليه دليل ، إذ قد أبقيت فاؤه وحذفت فاء فانفلق ، واتصلت بانفلق فاء فضرب تكلف وتخرص على العرب بغير دليل.
وقد ثبت في لسان العرب حذف المعطوف عليه ، وفيه الفاء حيث لا معطوف بالفاء موجود ، قال تعالى : { فأرسلون يوسف أيّها الصّدّيق } التقدير : فأرسلوه فقال : فحذف المعطوف عليه والمعطوف ، وإذا جاز حذفهما معاً ، فلأن يجوز حذف كل منهما وحده أولى.
وزعم الزمخشري أن الفاء ليست للعطف ، بل هي جواب شرط محذوف ، قال : فإن ضربت فقد انفجرت ، كما ذكرنا في قوله :

{ فتاب عليكم } وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ ، اه كلامه.
وقد تقدّم لنا الردّ على الزمخشري في هذا التقدير في قوله : { فتاب عليكم } بأن إضمار مثل هذا الشرط لا يجوز ، وبينا ذلك هناك ، وفي قوله أيضاً إضمار قد إذ يقدر ، فقد تاب عليكم ، وقد انفجرت ، ولا يكاد يحفظ من لسانهم ذلك ، إنما تكون بغير فاء ، أو إن دخلت الفاء فلا بد من إظهار قد ، وما دخلت عليه قد يلزم أن يكون ماضياً لفظاً ومعنى ، نحو قوله : { وإن يكذبونك فقد كذبت رسل من قبلك } وإذا كان ماضياً لفظاً ومعنى ، استحال أن يكون بنفسه جواب الشرط ، فاحتيج إلى تأويل وإضمار جواب شرط.
ومعلوم أن الانفجار على ما قدّر يكون مترتباً على أن يضرب ، وإذا كان مترتباً على مستقبل ، وجب أن يكون مستقبلاً ، وإذا كان مستقبلاً امتنع أن تدخل عليه قد التي من شأنها أن لا تدخل في شبه جواب الشرط على الماضي إلا ويكون معناه ماضياً نحو الآية ، ونحو قولهم : إن تحسن إليّ فقد أحسنت إليك ، ويحتاج إلى تأويل ، كما ذكرنا.
وليس هذا الفعل بدعاء فتدخله الفاء فقط ويكون معناه الاستقبال ، وإن كان بلفظ الماضي نحو : إن زرتني فغفر الله لك.
وأيضاً فالذي يفهم من الآية أن الانفجار قد وقع وتحقق ، ولذلك قال : { قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا } وجعله جواب شرط محذوف على ما ذهب إليه هذا الرجل يجعله غير واقع ، إذ يصير مستقبلاً لأنه معلق على تقدير وجود مستقبل ، والمعلق على تقدير وجود مستقبل لا يقتضي إمكانه فضلاً عن وجوده ، فما ذهب إليه فاسد في التركيب العربي ، وفاسد من حيث المعنى ، فوجب طرحه ، وأين هذا من قوله : وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ؟ وجاء هنا : انفجرت وفي الاعراف : { انبجست } فقيل : هما سواء ، انفجر وانبجس وانشق مترادفات.
وقيل : بينهما فرق ، وهو أن الانبجاس هو أوّل خروج الماء ، والانفجار اتساعه وكثرته.
وقيل : الانبجاس خروجه من الصلب ، والانفجار خروجه من اللين.
وقيل : الانبجاس هو الرشح ، والانفجار هو السيلان ، وظاهر القرآن استعمالهما بمعنى واحد ، لأن الآيتين قصة واحدة.
{ منه } متعلق بقوله : فانفجرت ، ومن هنا لابتداء.
الغاية والضمير عائد على الحجر المضروب ، فانفجار الماء كان من الحجر لا من المكان ، كما قال تعالى : { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } ولو كان هذا التركيب في غير كلام الله تعالى لأمكن أن يعود الضمير على الضرب ، وهو المصدر المفهوم من الكلام قبله ، وأن تكون من للسبب ، أي فانفجرت بسبب الضرب ، ولكن لا يجوز أن يرتكب مثل هذا في كلام الله تعالى ، لأنه لا ينبغي أن يحمل إلا على أحسن الوجوه في التركيب وفي المعنى ، إذ هو أفصح الكلام.

وفي هذا الانفجار من الإعجاز ظهور نفس الماء من حجر لا اتصال له بالأرض ، فتكون مادّته منها ، وخروجه كثيراً من حجر صغير ، وخروجه بقدر حاجتهم ، وخروجه عند الضرب بالعصا ، وانقطاعه عند الاستغناء عنه.
{ اثنتا عشرة } : التاء في اثنتا للتأنيث ، وفي ثنتا للالحاق ، وهذه نظير ابنة وبنت.
وقرأ الجمهور : عشرة بسكون الشين.
وقرأ مجاهد ، وطلحة ، وعيسى ، ويحيى بن وثاب ، وابن أبي ليلى ، ويزيد : بكسر الشين.
وروى ذلك نعيم السعيدي عن أبي عمرو ، والمشهور عنه الإسكان ، وتقدّم أنها لغة تميم ، وكسرهم لها نادر في قياسهم لأنهم يخففون فعلاً ، يقولون في نمر : نمر.
وقرأ ابن الفضل الأنصاري ، والأعمش : بفتح الشين.
وروي عن الأعمش : الإسكان ، والكسر أيضاً.
قال الزمخشري : الفتح لغة.
وقال ابن عطية : هي لغة ضعيفة.
وقال المهدوي : فتح الشين غير معروف ، ويحتمل أن تكون لغة ، وقد نص بعض النحويين على أن فتح الشين شاذ ، وعشرة في موضع خفض بالإضافة ، وهو مبني لوقوعه موقع النون ، فهو مما أعرب فيه الصدر وبني العجز.
ألا ترى أن اثنتي معرب إعراب المثنى لثبوت ألفه رفعاً وانقلابها نصباً وجراً ، وأن عشرة مبني؟ ولما تنزلت منزلة نون اثنتين لم يصح إضافتها ، فلا يقال : اثنتا عشرتك.
وفي محفوظي أن ابن درستويه ذهب إلى أن اثنا واثنتا وثنتا مع عشر مبني ، ولم يجعل الإنقلاب دليل الإعراب.
{ عيناً } : منصوب على التمييز ، وإفراد التمييز المنصوب في باب العدد لازم عند الجمهور ، وأجاز الفراء أن يكون جمعاً ، وكان هذا العدد دون غيره لكونهم كانوا اثني عشر سبطاً ، وكان بينهم تضاغن وتنافس ، فأجرى الله لكل سبط منهم عيناً يرده ، لا يشركه فيه أحد من السبط الآخر ، وذكر هذا العدد دون غيره يسمى التخصيص عند أهل علم البيان ، وهو أن يذكر نوع من أنواع كثيرة لمعنى فيه لم يشركه فيه غيره ، ومنه قوله تعالى : { وأنه هو رب الشعرى } ، وسيأتي بيان ذلك التخصيص فيها ، إن شاء الله تعالى ، في موضعها ، وقول الخنساء :
يذكرني طلوع الشمس صخراً . . .
وأندبه بكل مغيب شمس
اختصتهما من دون سائر الأوقات للغارة والقرى.
قال بعض أهل اللطائف : خلق الله الحجارة وأودعها صلابة يفرق بها أجزاء كثيرة مما صلب من الجوامد ، وخلق الأشجار رطبة الغصون ، ليست لها قوّة الأحجار ، فتؤثر فيها تفريقاً بأجزائها ولا تفجير العيون مائها ، بل الأحجار تؤثر فيها.
فلما أيدت بقوة النبوّة ، انفلقت بها البحار ، وتفرقت بها أجزاء الأحجار ، وسالت بها الأنهار ، { إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار }
{ قد علم كل أناس مشربهم } : جملة استئناف تدل على أن كل سبط منهم قد صار له مشرب يعرفه فلا يتعدّاه لمشرب غيره ، وكأنه تفسير لحكمة الانقسام إلى اثنتي عشرة عيناً ، وتنبيه عليها.
وعلم هنا متعدّية لواحد أجريت مجرى عرف ، واستعمالها كذلك كثير في القرآن ولسان العرب.

وكل أناس مخصوص بصفة محذوفة ، أي من قومه الذين استسقى لهم.
والمشرب هنا مكان الشرب وجهته التي يجري منها الماء.
وحمله بعضهم على المشروب وهو الماء ، والأول أولى ، لأن دلالته على المكان بالوضع ، ودلالته على الماء بالمجاز ، وهو تسمية الشيء باسم مكانه وإضافة المشرب إليهم ، لأنه لما تخصص كل مشرب بمن تخصص به صار كأنه ملك لهم ، وأعاد الضمير في مشربهم على معنى كل لا على لفظها ، ولا يجوز أن يعود على لفظها ، فيقال : مشربه ، لأن مراعاة المعنى هنا لازمة ، لأن كل قد أضيفت إلى نكرة ، ومتى أضيفت إلى نكرة وجب مراعاة المعنى ، فتطابق ما أضيفت إليه في عود ضمير وغيره ، قال تعالى : { يوم ندعوا كلّ أناس بإمامهم } ، وقال الشاعر :
وكلّ أناس قاربوا قيد فحلهم . . .
ونحن حللنا قيده فهو سارب
وقال :
وكل أناس سوف تدخل بينهم . . .
دويهية تصفرّ منها الأنامل
وقال تعالى : { كل نفس ذائقة الموت } وتقول : كل رجلين يقولان ذلك ، ولا يجوز في شيء من هذا مراعاة لفظ كل ، وثم محذوف تقديره : مشربهم منها : أي من الاثنتي عشرة عيناً.
ونص على المشرب تنبيهاً على المنفعة العظيمة التي هي سبب الحياة ، وإن كان سرد الكلام قد علم كل أناس عينهم ، لكن في ذكر المشرب ما ذكرناه من تسويغ الشرب لهم منها أنشىء لهم الأمر بالأكل من المن والسلوى ، والشرب من هذه العيون ، أو أمروا بالدوام على ذلك ، لأن الإباحة كانت معلومة من غير هذا الأمر ، والأمر بالواقع أمر بدوامه ، كقولك للقائم : قم.
{ كلوا واشربوا } : هو على إضمار قول ، أي وقلنا لهم ، وهذا الأمر أمر إباحة.
قال السلمي : مشرب كل أحد حيث أنزله رائده ، فمن رائده نفسه مشربه الدنيا ، أو قلبه فمشربه الآخرة ، أو سره فمشربه الجنة ، أو روحه فمشربه السلسبييل ، أو ربه فمشربه الحضرة على المشاهدة حيث يقول : { وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } طهرهم به عن كل ما سواه ، وبدىء بالأكل لأنه المقصود أولاً ، وثنى بالشرب لأن الاحتياج إليه حاصل عن الأكل ، ولأن ذكر المن والسلوى متقدم على انفجار الماء.
{ من رزق الله } ، من : لابتداء الغاية ، ويحتمل أن تكون للتعبيض.
ولما كان مأكولهم ومشروبهم حاصلين لهم من غير تعب منهم ولا تكلف ، أضيفا إلى الله تعالى ، وهذا التفات ، إذ تقدم فقلنا : اضرب ، ولو جرى على نظم واحد لقال : من رزقنا ، إلا إن جعلت الإضمار قبل كلوا مسنداً إلى موسى ، أي وقال موسى : { كلوا واشربوا } فلا يكون فيه التفات ، ومن رزق الله متعلق بقوله : واشربوا ، وهو من إعمال الثاني على طريقة اختيار أهل البصرة ، إذ لو كان من أعمال الأول لأضمر في الثاني ما يحتاجه ، فكان يكون : كلوا واشربوا منه ، من رزق الله ، ولا يجوز حذف منه إلا في ضرورة على ما نص بعضهم ، والضرورة والقليل لا يحمل كلام الله عليهما.

والرزق هنا هو المرزوق ، وهو الطعام من المن والسلوى ، والمشروب من ماء العيون.
وقيل : هو الماء ينبت منه الزروع والثمار ، فهو رزق يؤكل منه ويشرب ، وهذا القول يكون فيه من رزق الله ، يجمع فيه بين الحقيقة والمجاز ، لأن الشرب من الماء حقيقة ، والأكل لا يكون إلا مما نشأ من الماء ، لا أن الأكل من الماء حقيقة ، فحمل الرزق على القدر المشترك بين الطعام والماء أولى من هذا القول.
ولما كان مطعومهم ومشروبهم لا كلفة عليهم ولا تعب في تحصيله حسنت إضافته إلى الله تعالى ، وإن كانت جميع الأرزاق منسوبة إلى الله تعالى ، سواء كانت مما تسبب العبد في كسبها أم لا ، واختص بالإضافة للفظ الله ، إذ هو الاسم العلم الذي لا يشركه فيه أحد ، الجامع لسائر الأسماء { ألله الذي خلقكم ثم رزقكم } { قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله } { أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده } و { من يرزقكم من السماء والأرض } { أإله مع الله } واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال ، لأن أقل درجات هذا الأمر أن يكون للإباحة ، واقتضى أن يكون الرّزق مباحاً ، فلو وجد رزق حرام لكان الرزق مباحاً وحراماً ، وأنه غير جائز.
والجواب : إن الرزق هنا ليس بعام إذا أريد به المن والسلوى والماء المنفجر من الحجر ، ولا يلزم من حلية معين مّا من أنواع الرّزق حلية جميع الرّزق ، وفي هذه الآية دليل على جواز أكل الطيبات من الطعام ، وشرب المستلذ من الشراب ، والجمع بين اللونين والمطعومين ، وكل ذلك بشرط الحل.
وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلواء والعسل ، وأنه كان يشرب الماء البارد العذب ، وكانت تنبذ له فيه الثمرات ، وجمع بين القثاء والرطب ، وسقى بعض نسائه الماء.
وقد نقل عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يتركون اللذيذ من الطعام والشهي من الشراب رغبة فيما عند الله تعالى.
{ ولا تعثوا في الأرض مفسدين } : لما أمروا بالأكل والشرب من رزق الله ، ولم يقيد ذلك عليهم بزمان ولا مكان ولا مقدار من مأكول أو مشروب ، كان ذلك إنعاماً وإحساناً جزيلاً إليهم ، واستدعى ذلك التبسط في المآكل والمشارب ، وأنه ينشأ عن ذلك القوة الغضبية ، والقوّة الاستعلائية.
نهاهم عما يمكن أن ينشأ عن ذلك ، وهو الفساد ، حتى لا يقابلوا تلك النعم بما يكفرها ، وهو الفساد في الأرض.
قال ابن عباس وأبو العالية : معناه ولا تسعوا.
وقال قتادة : ولا تسيروا.
وقيل : لا تتظالموا الشرب فيما بينكم ، لأن كلّ سبط منكم قد جعل له شرب معلوم.
وقيل : معناه : لا تؤخروا الغذاء ، فكانوا إذا أخروه فسد.
وقيل : معناه لا تخالطوا المفسدين.
وقيل : معناه لا تتمادوا في فسادكم.

وقيل : لا تطغوا ، قاله ابن زيد.
وهذه الأقوال كلها قريب بعضها من بعض.
{ في الأرض } : الجمهور على أنها أرض التيه ، ويجوز أن يريدها وغيرها مما قدر أن يوصلوا إليها فينالها فسادهم ، ويجوز أن يريد الأرضين كلها.
وأل : لاستغراق الجنس.
ويكون فسادهم فيها من جهة أن كثرة العصيان والإصرار على المخالفات والبطر يؤذن بانقطاع الغيث وقحط البلاد ونزع البركات ، وذلك انتقام يعم الأرض بالفساد.
مفسدين : حال مؤكدة.
قال القشيري ، في قوله تعالى : { وإذ استسقى } الآية أن الذي قدر على إخراج الماء من الصخرة الصمّاء كان قادراً على إروائهم بغير ماء ، ولكن لإظهار أثر المعجزة فيه ، واتصال محل الاستعانة إليه ، وليكون لموسى عليه السلام في فضل الحجر مع نفسه شغل ، ولتكليفه أن يضرب بالعصا ، نوع من المعالجة ، ثم أراد أن يكون كل سبط جارياً على سننه ، غير مزاحم لصاحبه ، وحين كفاهم ما طلبوه أمرهم بالشكروحفظ الأمر وترك احتقاب الوزر ، فقال : { ولا تعثوا }.
والمناهل مختلفة ، وكل يرد مشربه : فمشرب فرات ، ومشرب أجاج ، ومشرب صاف ، ومشرب رنق ، وسياق كل قوم يقودهم ، فالنفوس ترد مناهل المنى ، والقلوب ترد مشارب التقى ، والأرواح ترد مناهل الكشف ، والمشاهدات والأسرار ترد مناهل الحقائق بالاختطاف من حقيقة الوحدة والذات.
انتهى كلامه ملخصاً.
{ وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد } : لما سئموا من الإقامة في التيه ، والمواظبة على مأكول واحد ، لبعدهم عن الأرض التي ألفوها ، وعن العوائد التي عهدوها ، أخبروا عما وجدوه من عدم الصبر على ذلك وتشوفهم إلى ما كانوا يألفون ، وسألوا موسى أن يسأل الله لهم.
وأكثر أهل الظاهر من المفسرين على أن هذا السؤال كان معصية ، قالوا : لأنهم كرهوا إنزال المن والسلوى ، وتلك الكراهة معصية ، ولأن موسى وصف ما سألوه بأنه أدنى وما كانوا عليه بأنه خير ، وبأن قوله : { أتستبدلون } هو على سبيل الإنكار.
والجواب ، أن قولهم : { لن نصبر على طعام واحد } لا يدل على عدم الرضا به فقط ، بل اشتهوا أشياء أخر.
وأما الإنكار فلأنه قد يكون لما فيه من تفويت الأنفع في الدنيا ، أو الأنفع في الآخرة.
وأما الخيرية فسيأتي الكلام فيها ، وإنما كان سؤالاً مباحاً ، والدليل عليه أن قوله : { كلوا واشربوا } من قبل هذه الآية ، عند إنزال المن وتفجير العين ليس بإيجاب بل هو إباحة ، وإذا كان كذلك لم يكن قولهم : { لن نصبر على طعام واحد } معصية لأن من أبيح له صنوف من الطعام يحسن منه أن يسأل غيرها ، إما بنفسه أو على لسان الرسول.
ولما كان سؤال النبي أقرب للإجابة ، سألوه عن ذلك ، ولأن النوع الواحد أربعين سنة يمل ويشتهي إذ ذاك غيره ، ولأنهم ما تعودوا ذلك النوع.
ورغبة الإنسان فيما اعتاده ، وإن كان خسيساً ، فوق رغبة ما لم يعتده ، وإن كان شريفاً ، ولأن ذلك يكون سبباً لانتقالهم عن التيه الذي ملوه ، لأن تلك الأطعمة لا توجد فيه ، فأرادوا الحلول بغيره ، ولأن المواظبة على طعام واحد سبب لنقص الشهوة وضعف الهضم وقلة الرغبة ، والاستكثار من الأنواع بعكس ذلك.

فثبت بهذا أن تبديل نوع بنوع يصلح أن يكون مقصوداً للعقلاء ، وثبت أنه ليس في القرآن ما يدل على أنهم كانوا ممنوعين عنه ، فثبت أنه لا يجوز أن يكون معصية.
ومما يؤكد ذلك قوله : { اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم } هو كالإجابة لماطلبوا.
ولو كانوا عاصين في ذلك السؤال لكانت الإجابة إليه معصية ، وهي غير جائزة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ووصف الطعام بواحد ، وإن كان طعامين ، لأنه المنّ والسلوى اللذان رزقوهما في التيه ، لأنهم أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدل ، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عديدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها قيل : لا يأكل فلان إلا طعاماً واحداً ، يراد بالوحدة نفي التبدل والاختلاف.
ويجوز أن يريدوا أنهما ضرب واحد لأنهما معاً من طعام أهل التلذذ والسرف ، ونحن قوم فلاحة أهل زراعات ، فما نريد إلا ما ألفناه وضرينا به من الأشياء المتفاوتة ، كالحبوب والبقول ونحوهما.
ذكر هذين الوجهين في معنى الواحد الزمخشري.
وقيل : أعاد على لفظ الطعام من حيث أنه مفرد لا على معناه.
وقيل : كانوا يأكلون المن والسلوى مختلطين ، فيصير بمنزلة اللون الذي يجمع أشياء ويسمى لوناً واحداً ، قاله ابن زيد.
وقيل : كان طعامهم يأتيهم بصفة الوحدة ، نزل عليهم المن فأكلوا منه مدة حتى سئموه وملوه ، ثم انقطع عنهم ، فأنزل عليهم السلوى فأكلوها مدة وحدها.
وقيل : أرادوا بالطعام الواحد السلوى ، لأن المن كان شراباً ، أو شيئاً يتحلون به ، وما كانوا يعدون طعاماً إلا السلوى.
وقيل : عبرعنهما بالواحد ، كما عبر بالإثنين عن الواحد نحو : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب.
وقيل : قالوا ذلك عند نزول أحدهما.
وقيل : معناه لن نصبر على أننا كلنا أغنياء ، فلا يستعين بعضنا ببعض ، ويكون قد كنى بالطعام الواحد عن كونهم نوعاً واحداً ، وهو كونهم ذوي غنى ، فلا يخدم بعضهم بعضاً ، وكذلك كانوا في التيه ، فلما خرجوا منه عادوا لما كانوا عليه من فقر بعض وغنى بعض.
فهذه تسعة أقوال في معنى قوله : { على طعام واحد }.
{ فادع لنا ربك } : معناه : اسأله لنا ، ومتعلق الدعاء محذوف ، أي ادع لنا ربك بأن يخرج كذا وكذا.
ولغة بني عامر : فادع بكسر العين ، جعلوا دعا من ذوات الياء ، كرمى يرمي ، وإنما سألوا من موسى أن يدعو لهم بما اقترحوه ولم يدعوا هم ، لأن إجابة الأنبياء أقرب من إجابة غيرهم ، ولذلك قالوا : ربك ، ولم يقولوا : ربنا ، لأن في ذلك من الاختصاص به ما ليس فيهم من مناجاته وتكليمه وإتيانه التوراة ، فكأنهم قالوا : ادع لنا الذي هو محسن لك ، فكما أحسن إليك في أشياء ، كذلك نرجو أن يحسن إلينا في إجابة دعائك.

{ يخرج لنا } : جزمه على جواب الأمر الذي هو ادع ، وقد مر نظيره في { أوفوا بعهدي أوف بعهدكم } وقيل : ثم محذوف تقديره : وقل له اخرج فيخرج ، مجزوم على جواب هذا الأمر الذي هو اخرج.
وقيل : جزم يخرج بلام مضمرة ، وهي لام الطلب ، أي ليخرج ، وهذا عند البصريين لا يجوز.
{ مما تنبت الأرض } : مفعول يخرج محذوف ومن تبعيضة : أي مأكولاً مما تنبت ، هذا على مذهب سيبويه.
وقال الأخفش : من زائدة ، التقدير : ما تنبت ، وما موصولة ، والعائد محذوف تقديره ، تنبته ، وفيه شروط جواز الحذف ، وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية تقديره : من إنبات الأرض.
قال أبو البقاء : لا يجوز ذلك لأن المفعول المقدر لا يوصف بالإنبات ، لأن الإنبات مصدر ، والمحذوف جوهر ، وإضافة الإنبات إلى الأرض مجاز ، إذ المنبت هو الله تعالى ، لكنه لما جعل فيها قابلية الإنبات نسب الإنبات إليها.
{ من بقلها } : هذا بدل من قوله : { مما تنبت الأرض } ، على إعادة حرف الجرّ ، وهو فصيح في الكلام ، أعني أن يعاد حرف الجرّ في البدل.
فمن على هذا التقدير تبعيضية ، كهي في مما تنبت ، ويتعلق بيخرج ، إمّا الأولى ، وإمّا أخرى مقدّرة على الخلاف الذي في العامل في البدل ، هل هو العامل الأول ، أو ذلك على تكرار العامل؟ والمشهور هذا الثاني ، وأجاز المهدويّ أيضاً ، وابن عطية ، وأبو البقاء أن تكون من في قوله : { من بقلها } لبيان الجنس ، وعبر عنها المهدويّ بأنها للتخصيص ، ثم اختلفوا ، فقال أبو البقاء : موضعها نصب على الحال من الضمير المحذوف تقديره : مما تنبته الأرض كائناً من بقلها ، وقدّم ذكر هذا الوجه قال : ويجوز أن تكون بدلاً من ما الأولى بإعادة حرف الجر.
وأما المهدوي ، وابن عطية فزعما مع قولهما : إن من في { من بقلها } بدل من قوله : { مما تنبت } ، وذلك لأن من في قوله { مما تنبت } للتبعيض ، ومن في قوله { من بقلها } على زعمهما لبيان الجنس.
فقد اختلف مدلول الحرفين ، واختلاف ذلك كاختلاف الحرفين ، فلا يجوز البدل إلا أن ذهب ذاهب إلى أن من في قوله : { مما تنبت الأرض } لبيان الجنس ، فيمكن أن يفرّع القول بالبدل على كونها لبيان الجنس.
والمختار ما قدّمناه من كون من في الموضعين للتبعيض ، وأمّا أن تكون لبيان الجنس ، فقد أباه أصحابنا وتأوّلوا ما استدلّ به مثبت ذلك ، والمراد بالبقل هنا : أطايب البقول التي يأكلها الناس ، كالنعناع ، والكرفس ، والكرّاث ، وأشباهها ، قاله الزمخشري.
وقرأ يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف وغيرهما : وقثائها بضم القاف ، وقد تقدّم أنها لغة.
{ وفومها } : تقدّم الكلام فيه ، وللمفسرين فيه أقاويل ستة : أحدها : أنه الثوم ، وبينته قراءة ابن مسعود : وثومها بالثاء ، وهو المناسب للبقل والعدس والبصل.

الثاني : قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدّي : أنه الحنطة.
الثالث : أنه الحبوب كلها.
الرابع : أنه الخبز ، قاله مجاهد وابن عطاء وابن زيد.
الخامس : أنه الحمص.
السادس : أنه السنبلة.
{ وعدسها وبصلها } : وأحوال هذه الخمسة التي ذكروها مختلفة ، فذكروا ، أولاً : ما هو جامع للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، إذ البقل منه ما هو بارد رطب كالهندبا ، ومنه ما هو حار يابس كالكرفس والسداب ، ومنه ما هو حار وفيه رطوبة عرضية كالنعناع.
وثانياً القثاء ، وهو بارد رطب.
وثالثاً : الثوم ، وهو حار يابس.
ورابعاً : العدس ، وهو بارد يابس.
وخامساً : البصل ، وهو حار رطب ، وإذا طبخ صار بارداً رطباً ، فعلى هذا جاء ترتيب ذكر هذه الخمسة.
{ قال أتستبدلون } : الضمير في قال ظاهر عوده على موسى ، ويحتمل عوده على الرب تعالى ، ويؤيده { اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم } ، والهمزة في { أتستبدلون } للإنكار ، والاستبدال : الاعتياض.
وقرأ أبيّ : أتبدّلون ، وهو مجاز لأن التبديل ليس لهم إنما ذلك إلى الله تعالى ، لكنهم لما كانوا يحصل التبديل بسؤالهم جعلوا مبدّلين ، وكان المعنى : أتسألون تبديل.
{ الذي هو أدنى بالذي هو خير } ، والذي : مفعول أتستبدلون ، وهو الحاصل ، والذي دخلت عليه الباء هو الزائل ، كما قررناه في غير مكان.
هو أدنى : صلة للذي ، وهو هنا واجب الإثبات على مذهب البصريين ، إذ لا طول في الصلة ، وأدنى : خبر عن هو ، وهو : أفعل التفضيل ، ومن وما دخلت عليه حذفاً للعلم ، وحسن حذفهما كون أفعل التفضيل خبراً ، فإن وقع غير خبر مثل كونه حالاً أو صفة قل الحذف وتقديره : أدنى من ذلك الطعام الواحد ، وحسن حذفهما أيضاً كون المفضل عليه مذكوراً بعد ذلك ، وهو قوله : { بالذي هو خير } ، وأفرد : { الذي هو أدنى } لأنه أحال به على المأكول الذي هو { مما تنبت الأرض } ، وعلى ما من قوله : { مما تنبت } ، فيكون قد راعى المبدل منه ، إذ لو راعى البدل لقال : أتستبدلون اللاتي هي أدنى ، وقد تقدّم القول في أدنى عند الكلام على المفردات ، وذكرنا الأقاويل الثلاثة فيها.
وقرأ زهير الفرقبي ، ويقال له زهير الكسائي : أدنأ بالهمز ، ووقع البعض من جمع في التفسير ، وهم في نسبة هذه القراءة للكسائي ، فقال : وقرأ زهير والكسائي شاذاً : أدنأ ، فظن أن هذه قراءة الكسائي ، وجعل زهيراً والكسائي شخصين ، وإنما هو زهير الكسائي يعرف بذلك ، وبالفرقبي ، فهو رجل واحد.
فأما تفسير : الأدنى والخير هنا ففيه أقاويل : أحدها : قال الزجاج : تفاضل الأشياء بالقيم ، وهذه البقول لا خطر فيها ولا علو قيمة ، والمنّ والسلوى هما أعلا قيمة وأعظم خطراً ، واختار هذا الزمخشري ، قال : أقرب منزلة وأهون مقداراً ، والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار فيقال : هو أدنى المحل وقريب المنزلة ، كما يعبر بالعبد عن عكس ذلك فيقال : بعيد المحل بعيد المنزلة ، يريدون الرفعة والعلو.

انتهى كلامه ، وهو من كلام الزجاج.
والثاني : أن المنّ والسلوى هو الذي منّ الله به وأمرهم بأكله ، وفي استدامة ما أمر الله به وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة ، والذي طلبوه عار من هذه الخصال فكان أدنى من هذا الوجه.
الثالث : أن التفضيل يقع من جهة الطيب واللذة ، والمن والسلوى لا شك أنهما أطيب من البقول التي طلبوها.
الرابع : أن المنّ والسلوى لا كلفة في تحصيله ولا تعب ولا مشقة ، والبقول لا تحصل إلا بعد مشقة الحرث والزرع والخدمة والسقي ، وما حصل بلا مشقة خير مما حصل بمشقة.
الخامس : أن المنّ والسلوى لا شك في حله وخلوصه لنزوله من عند الله ، والحبوب والأرض يتخللها العيوب والغصوب ويدخلها الحرام والشبهة ، وما كان حلاً خالصاً أفضل مما يدخله الحرام والشبهة.
السادس : أن المنّ والسلوى يفضلان ما سألوه من جنس الغذاء ونفعه.
وملخص هذه الأقوال : هل الأدنوية والخيرية بالنسبة إلى القيمة ، أو امتثال الأمر وما يترتب عليه ، أو اللذة ، أو الكلفة ، أو الحل ، أو الجنس؟ أقوال ستة.
وأما قراءة زهير فهي من الدناءة.
وقد تقدم أن أدنى غير المهموز قيل إن أصلها الهمزة فسهل كهذه القراءة ، ومن قال بالقلب وإن أصله أدون ، فالدناءة والدون راجعان إلى معنى واحد ، وهو الخِسة ، وهو من جهة المعنى أحسن مقابلة لقوله : { بالذي هو خير }.
ومن جعل أدنى بمعنى أقرب ، لأن الأدون والأدنأ يقابلهما الخير ، والأدنى بمعنى الأقرب يقابله الأبعد ، وحذف من ومعمولها بعد قوله : هو خير ، لما ذكرناه في قوله : هو أدنى ، من وقوع أفعل التفضيل خبراً وتقديره : منه ، أي من : { الذي هو أدنى }.
وكانت هاتان الصلتان جملتين إسميتين لثبوت الجملة الإسمية ، وكان الخير أفعل التفضيل ، لأنه لا دلالة فيها على تعيين زمان ، بل في ذلك إثبات الأدنوية والخيرية من غير تقييد بزمان ، بخلاف الجملة الفعلية ، فإنه كان يتعين الزمان ، أو يتجوز في ذلك ، إن لم يقصد التعيين ، فكان الوصل بما هو حقيقة في عدم الدلالة على التعيين أفصح ، وكانت صلة ما في قوله : مما تنبت ، جملة فعلية ، لأن الفعل عندهم يشعر بالتجدد والحدوث ، والإنبات متجدد دائماً ، فناسب كل مكان ما يليق به من الصلة.
{ اهبطوا مصراً } : في الكلام حذف على تقدير أن القائل : { أتستبدلون } هو موسى ، وتقدير المحذوف ، فدعا موسى ربه فأجابه ، { قال اهبطوا } وتقدّم معنى الهبوط ، ويقال : هبط الوادي : حل به ، وهبط منه : خرج ، وكان القادم على بلد ينصبّ عليه.
وقرىء اهبطوا ، بضم الباء ، وهما لغتان ، والأفصح الكسر ، والجمهور على صرف مصراً هنا.
وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وأبان بن تغلب : بغير تنوين ، وبين كذلك في مصحف أبي بن كعب ، ومصحف عبد الله ، وبعض مصاحف عثمان.
فأما من صرف فإنه يعني مصراً من الأمصار غير معين ، واستدلوا بالأمر بدخول القرية ، وبأنهم سكنوا الشام بعد التيه ، وبأن ما سألوه من البقل وغيره لا يكون إلا في الأمصار ، وهذا قول قتادة والسدي ومجاهد وابن زيد.

وقيل : هو مصر غير معين لكنه من أمصار الأرض المقدسة ، بدليل : ادخلوا الأرض المقدسة.
وقيل : أراد بقوله : مصراً وإن كان غير معين مصر فرعون ، وهو من إطلاق النكرة ، ويراد بها المعين ، كما تقول : ائتني برجل ، وأنت تعني به زيداً.
قال أشهب ، قال لي مالك : هي مصر قريتك مسكن فرعون.
وأجاز من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين أن تكون مصر هذه المنوّنة هي الاسم العلم.
والمراد بقوله : { أن تبوّآ لقومكما بمصر بيوتاً } قالوا : وصرف ، وإن كان فيه العلمية والتأنيث ، كما صرف هند ودعد لمعادلة أحد السببين ، لخفة الاسم لسكون وسطه ، قاله الأخفش ، أو صرف لأنه ذهب باللفظ مذهب المكان ، فذكره فبقي فيه سبب واحد فانصرف.
وشبهه الزمخشري في منع الصرف ، وهو علم بنوح ولوط حيث صرفا ، وإن كان فيهما العلمية والعجمة لخفة الاسم بكونه ثلاثياً ساكن الوسط ، وهذا ليس كما ذهبوا إليه من أنه مشبه لهند ، أو مشبه لنوح ، لأن مصر اجتمع فيه ثلاثة أسباب وهي : التأنيث والعلمية والعجمة.
فهو يتحتم منع صرفه بخلاف هند ، فإنه ليس فيه سوى العلمية والتأنيث ، على أن من النحويين من خالف في هند ، وزعم أنه لا يجوز فيه إلا منع الصرف ، وزعم أنه لا دليل على ما ادعى النحويون من الصرف في قوله :
لم تتلفع بفضل مئزرها دعد . . .
ولم تسق دعد في العلب
وبخلاف نوح ، فإن العجمة لم تعتبر إلا في غير الثلاثي الساكن الوسط ، وأما إذا كان ثلاثياً ساكن الوسط فالصرف.
وقد أجاز عيسى بن عمر منع صرفه قياساً على هند ، ولم يسمع ذلك من العرب إلا مصروفاً ، فهو قياس على مختلف فيه مخالف لنطق العرب ، فوجب اطراحه.
وقال الحسن بن بحر : المراد بقوله مصراً ، البيت المقدس ، يعني أن اللفظ ، وإن كان نكرة ، فالمراد به معين ، كما قلنا في قول من قال : إنه أراد به وإن كان نكرة مصر المعينة.
وأمّا من قرأ مصر بغير تنوين ، فالمراد مصر العلم ، وهي دار فرعون.
واستبعد بعض الناس قول من قال : إنها مصر فرعون ، قال : لأنهم من مصر خرجوا ، وأمروا بالهبوط إلى الأرض المقدسة لقتال الجبارين فأبوا ، فعذبوا بالتيه أربعين سنة لتخلفهم عن قتال الجبارين ، ولقولهم : { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون } فماتوا جميعاً في التيه ، وبقي أبناؤهم ، فامتثلوا أمرالله ، وهبطوا إلى الشام ، وقاتلوا الجبارين ، ثم عادوا إلى البيت المقدّس.
ولم يصرّح أحد من المفسرين والمؤرخين أنهم هبطوا من التيه إلى مصر.
انتهى كلامه.
فتلخص من قراءة التنوين : أن يكون المراد مصراً غير معين لا من الشام ولا من غيره ، أو مصراً غير معين من أمصار الشام ، أو معيناً ، وهو بيت المقدس ، أو مصر فرعون ، فهذه أربعة أقوال.

{ فإن لكم ما سألتم } : هذه الجملة جواب للأمر ، كما يجاب بالفعل المجزوم ، ويجري فيه الخلاف الجاري فيه : هل ضمن اهبطوا مصراً معنى أن تهبطوا أو أضمر الشرط؟ وفعله بعد فعل الأمر كأنه قال : أن تهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم ، وفي ذلك محذوفان : أحدهما : ما يربط هذه الجملة بما قبلها ، وتقديره : فإن لكم فيها ما سألتم.
والثاني : الضمير العائد على ما ، تقديره : ما سألتموه ، وشروط جواز الحذف فيه موجودة.
وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب : سألتم : بكسر السين ، وهذا من تداخل اللغات ، وذلك أن في سأل لغتين : إحداهما : أن تكون العين همزة فوزنه فعل.
والثانية : أن تكون العين واواً تقول : سأل يسأل ، فتكون الألف منقلبة عن واو ، ويدل على أنه من الواو ، وقولهم : هما يتساولان ، كما تقول : يتجاوبان ، وحين كسر السين توهم أنه فتحها ، فأتى بالعين همزة ، قال الشاعر :
إذا جئتهم وسأيلتهم . . .
وجدت بهم علة حاضره
الأصل ساءلتهم ، والمعروف إبدال الهمزة ياء ، فتقول : سايلتهم ، فجمع بين العوض وهو الياء ، وبين المعوض منه وهو الهمزة لكنه لما اضطر قدم الهمزة قبل ألف فاعل.
وقال ابن جني : يحتمل أن يكون إبدال الهمزة في سألتم ياء ، كما أبدلت ألفاً في قوله :
سألت هذيل رسول الله فاحشة . . .
فانكسر السين قبل الياء ، ثم تنبه للهمز فهمز.
والمعنى : ما سألتم من البقول والحبوب التي اخترتموها على المن والسلوى.
وقيل : ما سألتم من اتكالكم على تدبير أنفسكم في مصالح معاشكم وأحوال أقواتكم.
{ وضربت عليهم الذلة والمسكنة } : معنى الضرب هنا : الإلزام والقضاء عليهم ، من ضرب الأمير البعث على الجيش ، وكقول العرب : ضربة لازم ، ويقال : ضرب الحاكم على اليد ، وضرب الدهر ضرباته ، أي ألزم إلزاماته ، وقيل : معناه الإحاطة بهم والاشتمال عليهم مأخوذ من ضرب القباب.
ومنه قول الفرزدق :
ضربت عليك العنكبوت بنسجها . . .
وقضى عليك بها الكتاب المنزل
وقيل : معناه التصقت بهم ، من ضربت الحائط بالطين : ألصقته به.
وقيل : معناه جعلت من ضربت الطين خزفاً ، أي جعلت عليهم الذلة والمسكنة.
أما الذلة فقيل : هي هوانهم بما ضرب عليهم من الجزية التي يؤدّونها عن يد وهم صاغرون ، وقيل : هي ما ألزموا به من إظهار الزيّ ليعلم أنهم يهود ، ولا يلتبسوا بالمسلمين ، وقيل : فقر النفس وشحها ، فلا ترى ملة من الملل أذل وأحرص من اليهود.
وأما المسكنة : فالخشوع ، فلا يرى يهودي إلا وهو بادي الخشوع ، أو الخراج ، وهو الجزية ، قاله الحسن وقتادة ، أو الفاقة والحاجة ، قاله أبو العالية ، أو ما يظهرونه من سوء حالهم مخافة أن تضاعف عليهم الجزية ، أو الضعف ، فتراه ساكن الحركات قليل النهوض.
واستبعد صاحب المنتخب قول من فسر الذلة بالجزية ، لأن الجزية لم تكن مضروبة عليهم من أول أمرهم.

وقيل : هو من المعجزات ، لأنه أخبر عنه صلى الله عليه وسلم.
فكان كما أخبر ، والمضروب عليهم الذلة والمسكنة اليهود المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله الجمهور ، أو الذين كفروا بآيات الله وقتلوا الأنبياء بغير حق.
والقائلون : { أدع لنا ربك } ومن تابعهم من أبنائهم أقوال ثلاثة.
{ وباؤا بغضب من الله } : تقدم تفسيره باء ، فعلى من قال : باء : رجع ، تكون الباء للحال ، أي مصحوبين بغضب ، ومن قال : استحق ، فالباء صلة نحو : لا يقرأن بالسور : أي استحقوا غضباً ، ومن قال : نزل وتمكن أو تساووا ، والباء ظرفية ، فعلى القول الأول تتعلق بمحذوف ، وعلى الثاني لا تتعلق ، وعلى الثالث بنفس باء.
وزعم الأخفش أن الباء في قوله بغضب للسبب ، فعلى هذا تتعلق بباء ، ويكون مفعول باء محذوفاً ، أي استحقوا العذاب بسبب غضب الله عليهم.
وباء يستعمل في الخير : { لنبوئنهم من الجنة غُرَفاً } { ولقد بوّأنا بني إسرائيل مبوّأ صدق } { نتبوأ من الجنة حيث نشاء } وفي الشر : { وباؤا بغضب من الله } { أن تبوأ بإثمي وإثمك } { فباؤا بغضب على غضب } وقد جاء استعمال المعنيين في الحديث : « أبوء بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي » وقال بعض الناس : باء لا تجيء إلا في الشر.
والغضب هنا ما حل بهم من البلاء والنقم في الدنيا ، أو ما يحل بهم من العذاب في الآخرة.
ويكون باؤوا في معنى يبوؤون ، نحو { أزفت الآزفة } { اقتربت الساعة } { من الله } يحتمل أن يكون متعلقاً بباؤوا إذا كان باء بمعنى رجع ، وكأنهم كانوا مقبلين على الله تعالى ، فبعصيانهم رجعوا منه ، أي من عنده بغضب.
ويحتمل أن يكون متعلقاً بمحذوف ويكون في موضع الصفة ، أي بغضب كائن من الله ، وهذا الوجه ظاهر إذا كان باء بمعنى استحق ، أو بمعنى نزل وتمكن ، ويبعد الوجه الأول ، وفي وصف الغضب بكونه من الله تعظيم للغضب ، وتفخيم لشأنه.
{ ذلك بأنهم } الإشارة إلى المباءة بالغضب ، أو المباءة.
والضرب وهو مبتدأ ، والجار والمجرور بعده خبر ، والباء للسبب ، أي ذلك كائن بكفرهم وقتلهم.
{ كانوا يكفرون بآيات الله } : الآيات المعجزات التسع وغيرها التي أتى بها موسى ، أو التوراة ، أو آيات منها ، كالآيات التي فيها صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو فيها الرّجم ، أو القرآن ، أو جميع آيات الله المنزلة على الرسل ، أقوال خمسة ، وإضافة الآيات إلى الله لأنها من عنده تعالى.
{ ويقتلون النبيين } : قتلوا يحيى وشعيا وزكريا.
وروي عن ابن مسعود قتل بنو إسرائيل سبعين نبياً ، وفي رواية ثلاثمائة نبي في أول النهار ، وقامت سوق قتلهم في آخره.
وعلى هذا يتوجه قراءة من قرأ : يقتلون بالتشديد لظهور المبالغة في القتل ، وهي قراءة علي.
وقرأ الحسن : وتقتلون بالتاء ، فيكون ذلك من الالتفات.

وروي عنه بالياء كالجماعة ، ولا فرق في الدلالة بين النبيين والأنبياء ، لأن الجمعين إذا دخلت عليهما أل تساويا بخلاف حالهما إذا كانا نكرتين ، لأن جمع السلامة إذ ذاك ظاهر في القلة ، وجمع التكسير على أفعلاء ظاهر في الكثرة.
وقرأ نافع : بهمز النبيين والنبىء والأنبياء والنبوءة ، إلا أن قالون أبدل وأدغم في الأحزاب في : { إن وهبت نفسها للنبي } إن أراد وفي { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن } في الوصل.
وقرأ الجمهور بغير همز ، وقد تقدّم الكلام عليه في المفردات.
{ بغير الحق } : متعلق بقوله : وتقتلون ، وهو في موضع نصب على الحال من الضمير في تقتلون ، أي تقتلونهم مبالغة.
قيل : ويجوز أن تكون منعة لمصدر محذوف ، أي قتلا بغير حق.
وعلى كلا الوجهين هو توكيد ، ولم يرد هذا على أن قتل النبيين ينقسم إلى قتل بحق وقتل بغير حق ، بل ما وقع من قتلهم إنما وقع بغير حق ، لأن النبي معصوم من أن يأتي أمراً يستحق عليه فيه القتل ، وإنما جاء هذا القيد على سبيل التشنيع لقتلهم ، والتقبيح لفعلهم مع أنبيائهم ، أي بغير الحق عندهم ، أي لم يدّعوا في قتلهم وجهاً يستحقون به القتل عندهم.
وقيل : جاء ذلك على سبيل التأكيد كقوله : { ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } إذ لا يقع قتل نبي إلا بغير الحق ، ولم يأت نبي قط بما يوجب قتله ، وإنما قتل منهم من قتل كراهة له وزيادة في منزلته.
قال ابن عباس وغيره : لم يقتل نبي قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال ، وكل من أمر بقتال نصر.
قيل : وعرّف الحق هنا لأنه أشير به إلى المعهود في قوله عليه السلام : « لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث » وأما المنكر فالمراد به تأكيد العموم ، أي لم يكن هناك حق لا ما يعرفه المسلمون ولا غيره.
{ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } ، ذلك : رد على الأول وتكرير له ، فأشير به لما أشير بذلك الأول ، ويجوز أن تكون إشارة إلى الكفر والقتل المذكورين ، فلا يكون تكريراً ولا توكيداً ، ومعناه : أن الذي حملهم على جحود آيات الله وقتلهم الأنبياء إنما هو تقدم عصيانهم واعتدائهم ، فجسرهم هذا على ذلك ، إذا المعاصي يريد الكفر.
{ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } { وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم } وقولهم { قلوبنا غلف بل طبع الله عليهم بكفرهم } وقد تقدّم تفسير العصيان والاعتداء لغة ، وقد فسر الاعتداء هنا أنه تجاوزهم ما حدّ الله لهم من الحق إلى الباطل.
وقيل : التمادي على المخالفة وقتل الأنبياء.
وقيل : العصيان بنقض العهد والاعتداء بكثرة قتل الأنبياء.
وقيل : الاعتداء بسبب المخالفة والإقامة على ذلك الزمن الطويل أثر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « اختلفت بنو إسرائيل بعد موسى بخمسائة سنة حين كثر فيهم أولاد السبايا ، واختلفوا بعد عيسى بمائة سنة ».

وقيل : هو الاعتداء في السبت ، قال تعالى : { وقلنا لهم لا تعدوا في السبت } وما : في قوله { بما عصوا } مصدرية ، أي ذلك بعصيانهم ، ولم يعطف الاعتداء على العصيان لئلا يفوت تناسب مقاطع الآي ، وليدل على أن الاعتداء صار كالشيء الصادر منهم دائماً.
ولما ذكر تعالى حلول العقوبة بهم من ضرب الذلة والمسكنة والمباءة بالغضب ، وبين علة ذلك ، فبدأ بأعظم الأسباب في ذلك ، وهو كفرهم بآيات الله.
.
ثم ثنى بما يتلو ذلك في العظم وهو قتل الأنبياء ، ثم أعقب ذلك بما يكون من المعاصي ، وما يتعدى من الظلم.
قال معنى هذا صاحب المنتخب ، ويظهر أن قوله ذلك بأنهم كانوا يكفرون ويقتلون ، تعليل لضرب الذلة والمسكنة والمباءة بالغضب ، وأن الإشارة بقوله { ذلك بما عصوا } إشارة إلى الكفر والقتل ، وبما تعليل لهما فيعود العصيان إلى الكفر ، ويعود الاعتداء إلى القتل ، فيكون قد ذكر شيئين وقابلهما بشيئين.
كما ذكر أولاً شيئين وهما : الضرب والمباءة ، وقابلهما بشيئين وهما : الكفر والقتل ، فجاء هذا لفاً ونشراً في المؤمنين ، وذلك من محاسن الكلام وجودة تركيبه ، ويخرج بذلك عن التأكيد الذي لا يصار إليه إلا عند الحاجة ، وذلك بأن يكون الكلام يبعد أن يحمل على التأسيس.
وقد تضمنت هذه الآيات من لطائف الامتنان وغرائب الإحسان لبني إسرائيل فصولاً ، منها : أنهم أمروا بدخول القرية التي بها يتحصنون ، والأكل من ثمراتها ما يشتهون ، ثم كلفوا النزر من العمل والقول ، وهو دخول بابها ساجدين ، ونطقهم بلفظة واحدة تائبين ، ورتب على هذا النزر غفران جرائمهم العظيمة وخطاياهم الجسيمة ، فخالفوا في الأمرين فعلاً وقولاً ، جرياً على عادتهم في عدم الامتثال ، فعاقبهم على ذلك بأشد النكال.
ثم ذكر تعالى ما كان عليه موسى عليه السلام من العطف عليهم وسؤال الخير لهم ، وذلك بأن دعا الله لهم بالسقيا ، فأحاله على فعل نفسه بأن أنشأ لهم ، من قرع الصفا بالعصا ، عيوناً يجري بها ما يكفيهم من الماء ، معيناً على الوصف الذي ذكره تعالى من كون تلك العيون على عدد الأسباط ، حتى لا يقع منهم مشاحة ولا مغالبة ، وأعلمهم بأن ذلك منه رزق ، وأمروا بالأكل منه والشرب ، ثم نهوا عن الفساد ، إذ هو سبب لقطع الرزق.
ثم ذكر تعالى تبرمهم من الرزق الذي امتن به عليهم ، فلجوا في طلب ما كان مألوفهم إلى نبيهم فقالوا : { ادع لنا ربك } ، وذلك جري على عادته معهم ، إذ كان يناجي ربه فيما كان عائداً عليهم بصلاح دينهم ودنياهم ، وذكر توبيخه لهم على ما سألوه من استبدال الخسيس بالنفيس ، وبما لا نصب في اكتسابه ما فيه العناء الشاق ، إذ ما طلبوه يحتاج إلى استفراغ أوقاتهم المعدة لعبادة ربهم في تحصيله ، ومع ذلك فصارت أغذية مضرة مؤذية جالبة أخلاطاً رديئة ، ينشأ عنها طمس أنوار الأبصار والبصائر ، بخلاف ما رزقهم الله ، إذ هو شيء واحد جيد ، ينشأ عنه صحة البدن وجودة الإدراك.

كان الخليل بن أحمد ، رحمه الله ، يستف دقيق الشعير ، ويشرب عليه الماء العذب ، وكان ذهنه أشرق أذهان أهل زمانه ، وكان قوي البدن يغزو سنة ويحج أخرى.
ثم أمروا بالحلول فيما فيه مطلبهم والهبوط إلى معدن ما سألوه ، ثم أخبر تعالى بما عاقبهم به من جعلهم أذلاء مساكين ومبائتهم بغضبه ، وإن ذلك متسبب عن كفرهم بالآيات التي هي سبب الإيمان ، لما احتوت عليه من الخوارق التي أعجزت الإنس والجان ، وعن قتلهم من كان سبباً لهدايتهم ، وهم الأنبياء ، إذ باتباعهم يحصل العز في الدنيا والفوز في الأخرى ، وأن الذي جرّ الكفر والقتل إليهم هو العصيان والاعتداء اللذان كانا سبقاً منهم قبل تعاطي الكفر والقتل.
إن الأمور صغيرها . . .
مما يهيج له العظيم
وقال :
والشر تحقره وقد ينمى . . .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)

هاد : ألفه منقلبة عن واو ، والمضارع يهود ، ومعناه : تاب ، أو عن ياء والمضارع يهيد ، إذا تحرك.
والأولى الأول لقوله تعالى : { إنا هدنا إليك } وسيأتي الكلام على لفظه اليهود حيث انتهينا إليها في القرآن ، إن شاء الله تعالى.
والنصارى : جمع نصران ونصرانه ، مثل ندمان وندمانة.
قال سيبويه وأنشد :
وكلتاهما خرت وأسجد رأسها . . .
كما سجدت نصرانة لم تحنف
وأنشد الطبري :
يظل إذا دار العشي محنفا . . .
ويضحى لديه وهو نصران شامس
منع نصرانا الصرف ضرورة ، وهو مصروف لأن مؤنثه على نصرانه.
قال سيبويه : إلا أنه لا يستعمل في الكلام إلا بياء النسب ، فيكون : كلحيان ولحياني وكأحمري.
وقال الخليل : واحد النصارى نصرى ، كمهرى ومهاري.
قيل : وهو منسوب إلى نصرة ، قرية نزل بها عيسى.
وقال قتادة : نسبوا إلى ناصرة ، وهي قرية نزلوها.
فعلى هذا يكون من تغييرات النسب.
والصابئين : الصائبون ، قيل : الخارجون من دين مشهور إلى غيره ، من صبوء السن والنجم ، يقال : صبأت النجوم : طلعت ، وصبأت ثنية الغلام : خرجت ، وصبأت على القوم بمعنى : طرأت ، قال :
إذا صبأت هوادي الخيل عنا . . .
حسبت بنحرها شرق البعير
ومن قرأ بغير همز فسنتكلم على قراءته.
قال الحسن والسدي : هم بين اليهود والمجوس.
وقال قتادة : والكلبي : هم بين اليهود والنصارى ، يحلقون أوساط رؤوسهم ويجبون مذاكيرهم.
وقال الخليل : هم أشباه النصارى ، قبلتهم مهب الجنوب ، يقرون بنوح ، ويقرؤون الزبور ، ويعبدون الملائكة.
وقال عبد العزيز بن يحيى : لا عين منهم ولا أثر.
وقال المغربي ، عن الصابي صاحب الرسائل : هم قريب من المعتزلة ، يقولون بتدبير الكواكب.
وقال مجاهد : هم قوم لا دين لهم ، ليسوا بيهود ولا نصارى.
قال ابن أبي نجيح : قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية ، لا تؤكل ذبائحهم.
وقال ابن زيد : قوم يقولون لا إله إلا الله ، وليس لهم عمل ولا كتاب ، كانوا بالجزيرة والموصل.
وروي عن الحسن وقتادة أيضاً أنهم قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون الخمس للقبلة ، ويقرؤون الزبور ، رآهم زياد بن أبي سفيان ، فأراد وضع الجزية عنهم حتى عرف أنهم يعبدون الملائكة.
وقال ابن عباس : هم قوم من اليهود والنصارى ، لا تحل مناكحتهم ولا تؤكل ذبائحهم.
وقال أبو العالية : قوم من أهل الكتاب ، ذبائحهم كذبائح أهل الكتاب ، يقرؤون الزبر ، ويخالفونهم في بقية أفعالهم.
وقال الحسن والحكم : قوم كالمجوس.
وقيل : قوم موحدون يعتقدون تأثير النجوم ، وأنها فعالة.
وأفتى أبو سعيد الأصطخري القادر بالله حين سأله عنهم بكفرهم.
وقيل : قوم يعبدون الكواكب ، ثم لهم قولان : أحدهما : أن خالق العالم هو الله ، إلا أنه أمر بتعظيم الكواكب واتخاذها قبلة للصلاة والتعظيم والدعاء.
الثاني : أنه تعالى خلق الأفلاك والكواكب ، ثم إن الكواكب هي المدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر والصحة والمرض ، فيجب على البشر تعظيمها لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم ، ثم إنها تعبد الله ، وهذا المذهب هو المنسوب للذين جاءهم إبراهيم عليه السلام راداً عليهم.

الأجر : مصدر أجر بأجر ، ويطلق على المأجور به ، وهو الثواب.
والأجور : جبر كسر معوج ، والأجار : السطح ، قال الشاعر :
تبدو هواديها من الغبار . . .
كالجيش الصف على الأجار
الرفع : معروف ، وهو أعلى الشيء ، والفعل منه رفع يرفع ، الطور : اسم لكل جبل ، قال مجاهد وعكرمة وقتادة.
أو الجبل المنبت دون غير المنبت ، قاله ابن عباس والضحاك ، أو الجبل الذي ناجى الله عليه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
وقال العجاج :
دانى جناحيه من الطور فر . . .
تقضي البازي إذا البازي كسر
وقال آخر :
وإن تر سلمى الجن يستأنسوا بها . . .
وإن ير سلمى صاحب الطور ينزل
وأصله الناحية ، ومنه طوار الدار.
وقال مجاهد : هو جنس الجبل بالسريانية.
القوة : الشدّة ، وهي مصدر قوي يقوى ، وطيء تقول : قوي ، يفتحون العين والتاء مفتوحة فتنقلب ألفاً ، يقولون في بقي : بقى ، وفي زهي : زها ، وقد يوجد ذلك في لغة غيرهم.
قال علقمة بن عبدة التميمي :
زها الشوق حتى ظل إنسان عينه . . .
يفيض بمغمور من الدمع متأف
وهذه المادة قليلة ، وهي أن تكون العين واللام واوين.
التولي : الإعراض بعد الإقبال.
لولا : للتحضيض بمنزلة هلا ، فيليها الفعل ظاهراً أو مضمراً ، وحرف امتناع لوجود فيكون لها جواب ، ويجيء بعدها اسم مرفوع بها عند الفراء ، وبفعل محذوف عند الكسائي ، وبالابتداء عند البصريين ، والخبر محذوف عند جمهورهم ، وعند بعضهم فيه تفصيل ذكرناه في ( منهج السالك ) من تأليفنا ، وليست جملة الجواب الخبر ، خلافاً لأبي الحسين بن الطراوة ، وإن وقع بعدها مضمر فيكون ضمير رفع مبتدأ عند البصريين ، ويجوز أن يقع بعدها ضمير الجرّ فتقول : لولاني ولولاك ولولاه ، إلى آخرها ، وهو في موضع جر بلولا عند سيبويه ، وفي موضع رفع عند الأخفش ، استعير ضمير الجر للرفع ، كما استعاروا ضمير الرفع للجر في قولهم : ما أنا كانت ، ولا أنت كانا.
والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو.
ومن ذهب إلى أن لولا نافية ، وجعل من ذلك { فلولا كانت قرية آمنت } ، فبعيد قوله عن الصواب.
السبت : اسم ليوم معلوم ، وهو مأخوذ من السبت الذي هو القطع ، أو من السبات ، وهو الدعة والراحة ، وقال أبو الفرج بن الجوزي : هذا خطأ لا يعرف في كلام العرب سبت بمعنى استراح ، والسبت : الحلق والسير ، قال الشاعر :
بمقوّرة الألياط أمّا نهارها . . .
فسبت وأمّا ليلها فذميل
والسبت : النعل ، لأنه يقطع كالطحن والرعي.
قال ابن جريج : سمي يوم السبت لأنه قطعة زمان ، قال لبيد :
وغنيت سبتاً قبل مجرى داحس . . .
لو كان للنفس اللحوح خلود
القرد : معروف ، ويجمع فعل الاسم قياساً على فعول نحو : قرد وقرود ، وجسم وجسوم ، وقليلاً على فعلة نحو : قرد وقردة ، وحسل وحسلة.

الخسء : الصغار والطرد ، والفعل : خسأ ، ويكون لازماً ومتعدّياً ، يقال : خسأ الكلب خسوا : ذل وبعد ، وخسأته : طردته وأبعدته ، خسأ : كرجع رجوعاً ، ورجعته رجعاً.
النكال : العبرة ، وأصله المنع ، والنكل : القيد.
وقال مقاتل : النكال : العقوبة اليد : عضو معروف أصله يدي ، وقد صرّح بهذا الأصل ، وقد أبدلوا ياءه همزة قالوا : قطع الله أديه : يريدون يديه ، وجمعت على أفعل ، قالوا : أيد ، أصله : أيدي ، وقد استعملت للنعمة والإحسان.
وأما الأيادي فهو في الحقيقة جمع جمع ، واستعماله في النعمة أكثر من استعماله للجارحة ، كما أن استعمال الأيدي في الجارحة أكثر منه في النعمة.
خلف : ظرف مكان مبهم ، وهو متوسط التصرف ، ويكون أيضاً وصفاً ، يقال رجل خلف : بمعنى رديء ، وسكت ألفاً ونطق خلفاً : أي نطقاً رديئاً.
موعظة : مفعلة ، من الوعظ ، والوعظ : الإذكار بالخير بما يرق له القلب ، وكسر عين الكلمة فيما كان على هذا الوزن وعلى مفعل هو القياس ، وقد شذ : موءلة وكلم ، ذكرها النحويون جاءت مفتوحة العين.
قوله تعالى : { إنّ الذين آمنوا والذين هادوا } الآية.
نزلت في أصحاب سلمان ، وذلك أنه صحب عباداً من النصارى ، فقال له أحدهم : إن زمان نبي قد أظل ، فإن لحقته فآمن به.
ورأى منهم عبادة عظيمة ، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ، ذكر له خبرهم وسأله عنهم ، فنزلت هذه الآية ، حكى هذه القصة مطوّلة ابن إسحاق والطبري والبيهقي.
وروي عن ابن عباس أنها نزلت في أوّل الإسلام ، وقدر الله بها أن من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ومن بقي على يهوديته ونصرانيته وصابئيته ، وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ، فله أجره ، ثم نسخ ما قدر من ذلك بقوله : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } وردّت الشرائع كلها إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال غير ابن عباس : ليست بمنسوخة ، وهي فيمن ثبت على إيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وروى الواحدي ، بإسناد متصل إلى مجاهد ، قال : لما قص سلمان على النبي صلى الله عليه وسلم قصة أصحابه ، وقال له هم في النار ، قال سلمان : فأظلمت عليّ الأرض ، فنزلت إلى { يحزنون } ، قال : فكأنما كشف عني جبل.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما ذكر الكفرة من أهل الكتاب ، وما حل بهم من العقوبة ، أخبر بما للمؤمنين من الأجر العظيم ، دالاً على أنه يجزي كلاً بفعله ، والذين آمنوا منافقوا هذه الأمّة ، أي آمنوا ظاهراً ، ولهذا قرنهم بمن ذكر بعدهم ، ثم بين حكم من آمن ظاهراً وباطناً ، قاله سفيان الثوري أو المؤمنون بالرسول.
ومن آمن : معناه من داوم على إيمانه ، وفي سائر الفرق : من دخل فيه ، أو الحنيفيون ممن لم يلحق الرسول : كزيد بن عمرو بن نفيل ، وقيس بن ساعدة ، وورقة بن نوفل ، ومن لحقه : كأبي ذر ، وسلمان ، وبحيرا.

ووفد النجاشي الذين كانوا ينتظرون المبعث ، فمنهم من أدرك وتابع ، ومنهم من لم يدركه ، والذين هادوا كذلك ، ممن لم يلحق إلا من كفر بعيسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، والنصارى كذلك ، والصابئين كذلك ، قاله السدّي أو أصحاب سلمان ، وقد سبق حديثهم ، أو المؤمنون بعيسى قبل أن يبعث الرسول ، قاله ابن عباس ، أو المؤمنون بموسى ، وعملوا بشريعته إلى أن جاء عيسى فآمنوا به وعملوا بشريعته ، إلى أن جاء محمد ، قاله السدي عن أشياخه ، أو مؤمنوا الأمم الخالية ، أو المؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله من سائر الأمم.
فهذه ثمانية أقوال في المعنى بالذين آمنوا والذين هادوا وهم اليهود.
وقرأ الجمهور : هادوا بضم الدال.
وقرأ أبو السماك العدوي : بفتحها من المهاداة ، قيل : أي مال بعضهم إلى بعض ، فالقراءة الأولى مادتها هاء وواو ودال ، أو هاء وياء ودال ، والقراءة الثانية مادتها هاء ودال وياء ، ويكون فاعل من الهداية ، وجاء فيه فاعل موافقة فعل ، كأنه قيل : والذين هدوا ، أي هدوا أنفسهم نحو : جاوزت الشيء بمعنى جزته.
{ والنصارى } : الألف للتأنيث ، ولذلك منع الصرف في قوله : { الذين قالوا إنا نصارى } وهذا البناء ، أعني فعالى ، جاء مقصوراً جمعاً ، وجاء ممدوداً مفرداً ، وألفه للتأنيث أيضاً نحو : براكاء.
وقرأ الجمهور : والصابئين مهموزاً ، وكذا والصابئون ، وتقدم معنى صبأ المهموز.
وقرأ نافع : بغير همز ، فيحتمل وجهين أظهرهما أن يكون من صبأ : بمعنى مال ، ومنه قول الشاعر :
إلى هند صبا قلبي . . .
وهند مثلها يصبي
والوجه الآخر يكون أصله الهمز ، فسهل بقلب الهمز ألفاً في الفعل وياء في الاسم ، كما قال الشاعر :
إن السباع لتهدي في مرابضها . . .
والناس ليس بهاد شرهم أبداً
وقال الآخر :
وكنت أذل من وتد بقاع . . .
يشجج رأسه بالفهرواج
وقال آخر :
فارعى فزارة لا هناك المرتع . . .
إلا أن قلب الهمزة ألفاً يحفظ ولا يقاس عليه.
وأما قلب الهمزة ياء فبابه الشعر ، فلذلك كان الوجه الأول أظهر.
وذكر بعض المفسرين مسائل من أحكام اليهود والنصارى.
{ والصابئين } : لا يدل عليها لفظ القرآن هنا ، فلم يذكرها ، وموضعها كتب الفقه.
.
{ من آمن بالله واليوم الآخر } ، من : مبتدأة ، ويحتمل أن تكون شرطية ، فالخبر الفعل بعدها ، وإذا كانت موصولة ، فالخبر قوله : { فلهم أجرهم } ، ودخلت الفاء في الخبر ، لأن المبتدأ الموصول قد استوفى شروط جواز دخول الفاء في الخبر ، وقد تقدم ذكرها.
واتفق المعربون والمفسرون على أن الجملة من قوله : { من آمن } في موضع خبر إن إذا كان من مبتدأ ، وإن الرابط محذوف تقديره : من آمن منهم ، ولا يتم ما قالوه إلا على تغاير الإيمانين ، أعني : الذي هو صلة الذين ، والذي هو صلة من ، إما في التعليق ، أو في الزمان ، أو في الإنشاء والاستدامة.

وأما إذا لم يتغايرا ، فلا يتم ذلك ، لأنه يصير المعنى : إن الذين آمنوا : من آمن منهم ، ومن كانوا مؤمنين ، لايقال : من آمن منهم إلا على التغاير بين الإيمانين.
وذهب بعض الناس إلى أن ذلك على الحذف ، وأن التقدير : { إن الذين آمنوا لهم أجرهم عند ربهم } ، { والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن منهم } ، أي من الأصناف الثلاثة ، فلهم أجرهم ، وذلك لما لم يصلح أن يكون عنده من آمن خبراً عن الذين آمنوا ، ومن بعدهم.
ومن أعرب من مبتدأ ، فإنما جعلها شرطية.
وقد ذكرنا جواز كونها موصولة ، وأعربوا أيضاً من بدلاً ، فتكون منصوبة موصولة.
قالوا : وهي بدل من اسم إن وما بعده ، ولا يتم ذلك أيضاً إلا على تقدير تغاير الإيمانين ، كما ذكرنا ، إذا كانت مبتدأة.
والذي نختاره أنها بدل من المعاطيف التي بعد اسم إن ، فيصح إذ ذاك المعنى ، وكأنه قيل : إن الذين آمنوا من غير الأصناف الثلاثة ، ومن آمن من الأصناف الثلاثة ، فلهم أجرهم.
ودخلت الفاء في الخبر ، لأن الموصول ضمن معنى الشرط ، ولم يعتد بدخول إن على الموصول ، وذلك جائز في كلام العرب ، ولا مبالاة بمن خالف في ذلك.
ومن زعم أن من آمن معطوف على ما قبله ، وحذف منه حرف العطف ، التقدير : ومن آمن بالله فقوله بعيد عن الصواب ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك ، وقد اندرج في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالرسل ، إذ البعث لا يعرف إلا من جهة الرسل.
{ وعمل صالحاً } : هو عام في جميع أفعال الصلاح وأقوالها وأداء الفرائض ، أو التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم أقوال.
الثاني يروى عن ابن عباس ، وقد حمل الصلة أو فعل الشرط والمعطوف على لفظ من ، فأفرد الضمير في آمن وعمل ثم قال : { فلهم أجرهم } إلى آخر الآية ، فجمع حملاً على المعنى.
وهذان الحملان لا يتمان إلا بإعراب من مبتدأ ، وأما على إعراب من بدلاً ، فليس فيه إلا حمل على اللفظ فقط.
وللحمل على اللفظ والمعنى قيود ذكرت في النحو.
قال أبو محمد بن عطية : وإذا جرى ما بعد على اللفظ فجائز أن يخالف به بعد على المعنى ، وإذا جرى ما بعدها على المعنى ، لم يجز أن يخالف به بعد على اللفظ ، لأن الإلباس يدخل في الكلام.
انتهى كلامه.
وليس كما ذكر ، بل يجوز إذا راعيت المعنى أن تراعي اللفظ بعد ذلك.
لكنّ الكوفيين يشترطون الفصل في الجمع بين هذه الحملين فيقولون : من يقومون في غير شيء ، وينظر في أمورنا قومك والبصريون لا يشترطون ذلك ، وهذا على ما قرر في علم العربية :
تروى الأحاديث عن كل مسامحة . . .
وإنما لمعانيها معانيها
وأجرهم : مرفوع بالابتداء ، ولهم في موضع الخبر.
وعند الأخفش والكوفيين : إن أجرهم مرفوع بالجار والمجرور.
{ عند ربهم } : ظرف يعمل فيه الاستقرار الذي هو عامل في لهم ، ويحتمل أن ينتصب على الحال ، والعامل فيه محذوف تقديره : كائناً عند ربهم.

وقرأ الجمهور : { ولا خوف } ، بالرفع والتنوين.
وقرأ الحسن : ولا خوف ، من غير تنوين.
وقد تقدم الكلام على قوله : { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } في آخر قصة آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، فأغنى عن إعادته هنا.
ومناسبة ختم هذه الآية بها ظاهره ، لأن من استقر أجره عند ربه لا يلحقه حزن على ما مضى ، ولا خوف على ما يستقبل.
قال القشيري : اختلاف الطرق مع اتحاذ الأصل لا يمنع من حسن القبول ، فمن صدق الله تعالى في إيمانه ، وآمن بما أخبر به من حقه وصفاته ، فاختلاف وقوع الاسم غير قادح في استحقاق الرضوان.
{ وإذ أخذنا ميثاقكم } : هذا هو الإنعام العاشر ، لأنه إنما أخذ ميثاقهم لمصلحتهم ، وتقدّم الكلام في لفظة الميثاق في قوله تعالى : { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } والميثاق : ما أودعه الله تعالى العقول من الدلائل على وجوده وقدرته وحكمته وصدق أنبيائه ورسله ، أو المأخوذ على ذرية آدم في قوله : { ألست بربكم قالوا بلى } ، أو إلزام الناس متابعة الأنبياء ، أو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، أو العهد منهم ليعملنّ بما في التوراة ، فلما جاء موسى قرأوا ما فيها من التثقيل فامتنعوا من أخذها ، أو قوله : { لا تعبدون إلا الله } أقوال ستة.
قال القفال : قال ميثاقكم ولم يقل مواثيقكم ، لأنه أراد ميثاق كل واحد منكم ، كقوله : { ثم يخرجكم طفلاً } أو لأن ما أخذه على واحد منهم ، أخذه على غيره ، فكان ميثاقاً واحداً ، ولو جمع لاحتمل التغاير.
انتهى كلامه ملخصاً.
{ ورفعنا فوقكم الطور } : سبب رفعه امتناعهم من دخول الأرض المقدّسة ، أو من السجود ، أو من أخذ التوراة والتزمها.
أقوال ثلاثة.
روي أن موسى لما جاء إلى بني إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة قال لهم : خذوها والتزموها ، فقالوا : لا ، إلا أن يكلمنا الله بها ، كما كلمك ، فصعقوا ثم أحيوا.
فقال لهم : خذوها ، فقالوا : لا.
فأمر الله تعالى الملائكة فاقتلعت جبلاً من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله ، وكذلك كان عسكرهم ، فجعل عليهم مثل الظلة ، وأخرج الله تعالى البحر من ورائهم ، وأضرم ناراً بين أيديهم ، فاحتاط بهم غضبه ، فقيل لهم : خذوها وعليكم الميثاق أن لا تضيعوها ، وإلا سقط عليكم الجبل ، وغرقكم البحر ، وأحرقتكم النار ، فسجدوا توبة لله ، وأخذوا التوراة بالميثاق ، وسجدوا على شق لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفاً.
فلما رحمهم الله قالوا : لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها ، فأمروا سجودهم على شق واحد.
وذكر الثعلبي أن ارتفاع الجبل فوق رؤوسهم كان مقدار قامة الرجل ، ولم تدل الآية على هذا السجود الذي ذكر في هذه القصة.
والواو في قوله : ورفعنا ، واو العطف : على تفسير ابن عباس ، لأن أخذ الميثاق كان متقدّماً ، فلما نقضوه بالامتناع من قبول الكتاب رفع عليهم الطور.

وأما على تفسير أبي مسلم : فإنها واو الحال ، أي إن أخذ الميثاق كان في حال رفع الطور فوقهم ، نحو قوله تعالى : { ونادى نوح ابنه وكان في معزل } أي وقد كان في معزل.
{ خذوا ما آتيناكم } : هو على إضمار القول ، أي : وقلنا لكم خذوا ما آتيناكم.
وقال بعض الكوفيين : لا يحتاج إلى إضمار قول ، لأن أخذ الميثاق هو قول ، والمعنى : وإذا أخذنا ميثاقكم بأن خذوا ما آتيناكم ، وما موصول ، والعائد عليه محذوف ، أي : ما آتيناكموه ، ويعني به الكتاب.
يدل على ذلك قوله : { واذكروا ما فيه } ، وقرىء : ما آتيتكم ، وهو شبه التفات ، لأنه خرج من ضمير المعظم نفسه إلى غيره.
ومعنى قوله : { بقوة } بجدّ واجتهاد ، قاله ابن عباس وقتادة والسدّي ، أو بعمل ، قاله مجاهد؛ أو بصدق وحق ، قاله ابن زيد؛ أو بقبول ، قاله ابن بحر؛ أو بطاعة ، قاله أبو العالية والربيع؛ أو بنية وإخلاص ، أو بكثرة درس ودراية؛ أو بجدّ وعزيمة ورغبة وعمل؛ أو بقدرة.
والقوة : القدرة والاستطاعة.
وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى ، والباء للحال أو الاستعانة.
{ واذكروا ما فيه }.
قرأ الجمهور : به أمراً من ذكر ، وقرأ أبيّ : واذكروا ما فيه : أمراً من اذكر ، وأصله : وإذتكروا ، ثم أبدل من التاء دال ، ثم أدغم الذال في الدال ، إذ أكثر الإدغام يستحيل فيه الأول إلى الثاني ، ويجوز في هذا أن يستحيل الثاني إلى الأول ، ويدغم فيه الأول فيقال : اذكر ، ويجوز الإظهار فتقول : إذ ذكر.
وقرأ ابن مسعود : تذكروا ، على أنه مضارع انجزم على جواب الأمر الذي هو خذوا.
فعلى القراءتين قيل : هذا يكون أمراً بالادكار ، وعلى هذه القراءة يكون الذكر مترتباً على حصول الأخذ بقوة ، أي أن تأخذوا بقوّة تذكروا ما فيه.
وذكر الزمخشري أنه قرىء : وتذكروا أمراً من التذكر ، ولا يبعد عندي أن تكون هذه القراءة هي قراءة ابن مسعود ، ووهم الذي نقلناه من كتابه تذكروا في إسقاط الواو ، والذي فيه هو ما تضمنه من الثواب ، قاله ابن عباس؛ أو احفظوا ما فيه ولا تنسوه وادرسوه ، قاله الزجاج؛ أو ما فيه من أمر الله ونهيه وصفة محمد صلى الله عليه وسلم ، أو اتعظوا به لتنجوا من الهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى.
والذكر : قد يكون اللسان ، وقد يكون بالقلب على ما سبق ، وقد يكون بهما.
فباللسان معناه : ادرسوا ، وبالقلب معناه : تدبروا ، وبهما معناه : ادرسوا ألفاظه وتدبروا معانيه.
أو أريد بالذكر : ثمرته ، وهو العمل ، فمعناه : اعملوا بما فيه من الأحكام والشرائع.
والضمير في فيه يعود على ما.
وقال في المنتخب : لا يحمل على نفس الذكر ، لأن الذكر الذي هو ضدّ النسيان من فعل الله تعالى ، فكيف يجوز الأمر به؟ انتهى.

{ لعلكم تتقون } : أي رجاء أن يحصل لكم التقوى بذكر ما فيه.
وقيل : معناه لعلكم تنزعون عما أنتم فيه.
والذي يفهم من سياق الكلام أنهم امتثلوا الأمر وفعلوا مقتضاه ، يدل على ذلك : { ثم توليتم من بعد ذلك }.
فهذا يدل على القبول والالتزام لما أمروا به.
وفي بعض القصص أنهم قالوا ، لما زال الجبل : يا موسى ، سمعنا وأطعنا ، ولولا الجبل ما أطعناك.
وفي بعض القصص : فآمنوا كرهاً ، وظاهر هذا الإلجاء.
والمختار عند أهل العلم أن الله تعالى خلق لهم الإيمان والطاعة في قلوبهم وقت السجود ، حتى كان إيمانهم طوعاً لا كرهاً.
{ ثم توليتم من بعد ذلك } : أي أعرضتم عن الميثاق والعمل بما فيه ، وأصل التولي : أن يكون بالجسم ، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات ، اتساعاً ومجازاً.
ودخول ثم مشعر بالمهلة ، ومن تشعر بابتداء الغاية.
لكن بين الجملتين كلام محذوف ، التقدير ، والله أعلم : فأخذتم ما آتيناكم ، وذكرتم ما فيه ، وعملتم بمقتضاه.
فلا بدّ من ارتكاب مجاز في مدلول من ، وأنه لسرعة التولي منهم واجتماعهم عليه ، كأنه ما تخلل بين ما أمروا به وبين التولي شيء.
وقد علم أنهم بعدما قبلوا التوراة ، تولوا عنها بأمور ، فحرّفوها ، وتركوا العمل بها ، وقتلوا الأنبياء ، وكفروا بالله ، وعصوا أمره.
ومن ذلك ما اختص به بعضهم ، وما عمله أوائلهم ، وما عمله أواخرهم.
ولم يزالوا في التيه ، مع مشاهدتهم الأعاجيب ، يخالفون موسى ، ويظاهرون بالمعاصي في عسكرهم ، حتى خسف ببعضهم ، وأحرقت النار بعضهم ، وعوقبوا بالطاعون ، وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرأون بها ، ثم فعل ساحروهمم ما لا خفاء به ، حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس ، وكفروا بالمسيح وهموا بقتله ، والقرآن ، وإن لم يكن فيه بيان ما تولوا به عن التوراة.
فالجملة معروفة ، وذلك إخبار من الله عن أسلافهم.
فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وحالهم في كتابه ما ذكر.
والإشارة بذلك في قوله : { من بعد ذلك } إلى قبول ما أوتوه ، أو إلى أخذ الميثاق والوفاء به ، ورفع الجبل ، أو خروج موسى من بينهم ، أو الإيمان ، أقوال.
{ فلولا فضل الله عليكم ورحمته } ، الفضل : الإسلام ، والرحمة : القرآن ، قاله أبو العالية.
أو الفضل : قبول التوبة ، والرحمة : العفو عن الزلة ، أو الفضل : التوفيق للتوبة ، والرحمة : القبول.
أو الفضل والرحمة ، فأخبر الله عنهم.
أو الفضل والرحمة : بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإدراكهم لمدته.
وعلى هذا القول يكون من تلوين الخطاب ، إذ صار هذا عائداً على الحاضرين.
والأقوال قبله تدل على أن المخاطب به من سلف ، لأنه جاء في سياق قصتهم.
وفضل الله على مذهب البصريين مرفوع على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : موجود ، وما يشبهه مما يليق بالموضع.
وعليكم : متعلق بفضل ، أو معمول له ، فلا يكون في موضع الخبر.

والتقدير : { فولا فضل الله عليكم ورحمته } موجودان ، { لكنتم } : جواب لولا.
والأكثر أنه إذا كان مثبتاً تدخله اللام ، ولم يجىء في القرآن مثبتاً إلا باللام ، إلا فيما زعم بعضهم أن قوله تعالى : { وهم بها } جواب : لولا قدم فإنه لا لام معه.
وقد جاء في كلام العرب بغير لام ، وبعض النحويين يخص ذلك بالشعر ، قال الشاعر :
لولا الحياء ولولا الدين عبتكما . . .
ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري
وقد جاء في كلامهم بعد اللام ، قد ، قال الشاعر :
لولا الأمير ولولا حق طاعته . . .
لقد شربت دماً أحلى من العسل
وقد جاء في كلامهم أيضاً حذف اللام وإبقاء قد نحو : لولا زيد قد أكرمتك.
{ من الخاسرين } : تقدّم أن الخسران : هو النقصان ، ومعناه من الهالكين في الدنيا والأخرى.
ويحتمل أن يكون كان هنا بمعنى : صار.
قال القشيري : أخذ سبحانه ميثاق المكلفين ، ولكنّ قوماً أجابوه طوعاً ، لأنه تعرّف إليهم ، فوحدوه ، وقوماً أجابوه كرهاً ، لأنه ستر عليهم ، فجحدوه.
ولا حجة أقوى من عيان ما رفع فوقهم من الطور ، ولكن عدموا نور البصيرة ، فلم ينفعهم عيان البصر.
قال تعالى : { ثم توليتم } ، أي رجعتم إلى العصيان ، بعد مشاهدتكم الإيمان بالعيان ، ولولا حكمه بإمهاله ، وحكمه بإفضاله ، لعاجلكم بالعقوبة ، ولحلّ بكم عظيم المصيبة.
وقال بعض أهل اللطائف : كانت نفوس بني إسرائيل ، من ظلمات عصيانها ، تخبط في عشواء حالكة الجلباب ، وتخطر ، من غلوائها وعلوّها ، في حلتي كبر وإعجاب.
فلما أمروا بأخذ التوراة ، ورأوا ما فيها من أثقال التكاليف ، ثارت نفوسهم الآبية ، فرفع الله عليهم الجبل ، فوجدوه أثقل مما كلفوه ، فهان عليهم حمل التوراة مع ما فيها من التكليف والنصب ، إذ ذاك أهون من الهلاك ، قال الشاعر :
إلى الله يدعى بالبراهين من أبى . . .
فإن لم يجب نادته بيض الصوارم
{ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } اللام في لقد : هي لام توكيد ، وتسمى : لام الابتداء في نحو : لزيد قائم.
ومن أحكامها : أن ما كان في حيزها لا يتقدّم عليها ، إلا إذا دخلت على خبر إن على ما قرر في النحو.
وقد صنف بعض النحويين كتاباً في اللامات ذكرها فيه وأحكامها.
ويحتمل أن تكون جواباً لقسم محذوف ، ولكنه جيء على سبيل التوكيد ، لأن مثل هذه القصة يمكن أن يبهتوا في إنكارها ، وذلك لما نال في عقبى أولئك المعتدين من مسخهم قردة ، فاحتيج في ذلك إلى توكيد ، وأنهم علموا ذلك حقيقة.
وعلم هنا كعرف ، فلذلك تعدّت إلى واحد.
وظاهر هذا أنهم علموا أعيان المعتدين ، وقدّره بعضهم : علمتم أحكام الذين ، وقدّره بعضهم : اعتداء الذين.
والاعتداء كان على ما نقل من أن موسى أمره الله بصوم يوم الجمعة ، وعرّفه فضله ، كما أمر به سائر الأنبياء ، فذكر ذلك لبني إسرائيل ، وأمرهم بالتشرّع فيه ، فأبوه وتعدّوه إلى يوم السبت ، فأوحى الله إلى موسى : أن دعهم وما اختاروه.

وامتحنهم فيه ، بأن أمرهم بترك العمل ، وحرّم عليهم فيه صيد الحيتان.
فكانت تأتي يوم السبت حتى تخرج إلى الأفنية ، قاله الحسن بن أبي الحسن ، وقيل : حتى تخرج خراطيمها من الماء ، وكان أمر بني إسرائيل بأيلة على البحر ، فإذا ذهب السبت ذهبت الحيتان ، فلم يظهروا للسبت الآخر.
فبقوا على ذلك زماناً حتى اشتهوا الحوت ، فعمد رجل يوم السبت ، فربط حوتاً بخزمة ، وضرب له وتداً بالساحل.
فلما ذهب السبت ، جاء فأخذه فسمع قوم بفعله ، فصنعوا مثل ما صنع ، وقيل : بل حفر رجل في غير السبت حفيراً يخرج إليه البحر ، فإذا كان يوم السبت ، خرج الحوت وحصل في الحفيرة ، فإذا جزر البحر ، ذهب الماء من طريق الحفيرة وبقي الحوت ، فجاء بعد السبت فأخذه.
ففعل قوم مثل فعله.
وكثر ذلك ، حتى صادوه يوم السبت علانية وباعوه في الأسواق.
فكان هذا من أعظم الاعتداء.
وقد رويت زيادات في كيفية الاعتداء ، الله أعلم بصحة ذلك.
والذي يصح في ذلك هو ما ذكره الله في كتابه ، وما صح عن نبيه.
منكم : في موضع الحال ، فيتعلق بمحذوف تقديره : كائنين منكم ، ومن : للتبعيض.
في السبت : متعلق باعتدوا ، إما على إضمار يوم ، أو حكم.
والحامل على الاعتداء قيل : الشيطان وسوس لهم وقال : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت ، ولم تنهوا عن حبسها ، فأطاعوه ، ففعلوا ذلك.
وقيل : لما فعل ذلك بعضهم ، ولم يعجل له عقوبة ، وتشبه به أناس منهم ، وفعلوا لفعله ، ظنوا أن السبت قد أبيح لهم ، فتمالأ على ذلك جمع كبير ، فأصابهم ما أصابهم.
وقيل : أقدموا على ذلك متأولين ، لأنه أمرهم بترك العمل يوم السبت ، وقالوا : إنما نهانا الله عن أسباب الاكتساب التي تشغلنا عن العبادة ، ولم ينهنا عن العمل اليسير.
وقيل : فعل ذلك أوباشهم تحرياً وعصياناً ، فعم الله الجميع بالعذاب.
{ فقلنا لهم كونوا } : أمر من الكون وليس بأمر حقيقة ، لأن صيرورتهم إلى ما ذكر ليس فيه تكسب لهم ، لأنهم ليسوا قادرين على قلب أعيانهم قردة ، بل المراد منه سرعة الكون على هذا الوصف ، كقوله تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ومجازه : أنه لما أراد منهم ذلك صاروا كذلك.
وظاهر القرآن مسخهم قردة.
وقيل : لم يمسخوا قردة ، وإنما هو مثل ضربه الله لهم ، كما قال تعالى : { كمثل الحمار يحمل أسفاراً } قاله مجاهد.
وقيل : مسخت قلوبهم حتى صارت كقلوب القردة ، لا تقبل وعظاً ولا تعي زجراً ، وهو محكي عن مجاهد أيضاً.
والقول الأول هو قول الجمهور ، ويجوز أن يبقي الله لهم فهم الإنسانية بعد صيرورتهم قردة : وروي في بعض قصصهم : أن الواحد منهم كان يأتيه الشخص من أقاربه الذين نهوهم فيقول له : ألم أنهك؟ فيقول له برأسه : بلى ، وتسيل دموعه على خده ، ولم يتعرض في هذا المسخ شيء منهم خنازير.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46